الإعجاز اللغوي والبياني في القرآن الكريم
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آهل وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن الله تعالى قد ختم الرسالات السماوية برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، ألا وهي القرآن الكريم .
وقد أنزله بلغة العرب كما قال تعالى : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) سورة يوسف .
ولما كان العرب قد بزُّوا غيرهم بالفصاحة والبيان ، فكان القرآن الكريم معجزا بلفظه ومعناه ، فتحداهم بما هم متميزون به ، فعجزوا عن مجاراته ، وسلَّموا له في نهاية المطاف ، قال تعالى : {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (88) سورة الإسراء
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المشركين الذين قالوا - كما حكى الله عنهم - { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا } قل لهم على سبيل التحدى والتعجيز : والله لئن اجتمعت الإِنس والجن ، واتفقوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، الذى أنزله الله - تعالى - من عنده على قلبى . . لا يستطيعون ذلك . ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا ومعينًا ومناصرًا ، فى تحقيق ما يتمنونه من الإِتيان بمثله .
وخص - سبحانه - { الإِنس والجن } بالذكرن لأن المنكر كون القرآن من عند الله ، من جنسهما لا من جنس غيرهما كالملائكة - مثلاً - ، فإنهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ولأن التحدى إنما هو للإِنس والجن الذين أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم ، لهدايتهم إلى الصراط المستقيم .
وقال - سبحانه - : { لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } فأظهر فى مقام الإِضمار ، ولم يكتف بأن يقول : لا يأتون به ، لدفع توهم أن يتبادر إلى الذهن أن له مثلاً معينًا ، وللإِشعار بأن المقصود نفى المثل على أى صفة كانت هذه المثلية ، سواء أكانت فى بلاغته ، أم فى حسن نظمه ، أم فى إخباره عن المغيبات ، أم فى غير ذلك من وجوه إعجازه .
وقوله : { وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } معطوف على مقدر ، أى : لا يستطيعون الإِتيان بمثله لو لم يكن بعضهم ظهيرا ونصيرا لبعض ، ولو كان بعضهم ظهيرا ونصيرا لبعض لما استطاعوا أيضًا .
والمقصود أنهم لا يستطيعون الإِتيان بمثله على أية حال من الأحوال؛ وبأية صورة من الصور ، لأنه متى انتفى إتيانهم بمثله مع المظاهرة والمعاونة ، انتفى من باب الأولى الإِتيان بمثله مع عدمهما . وقوله : { لبعض } متعلق بقوله { ظهيرا } .
ولقد بين - سبحانه - فى آيات أخرى أنهم لن يستطيعوا الإِتيان بعشر سور من مثله ، بل بسورة واحدة من مثله .
قال - تعالى - : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وقال - سبحانه - : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }( التفسير الوسيط )
فهذا القرآن ليس ألفاظا وعبارات يحاول الإنس والجن أن يحاكوها . إنما هو كسائر ما يبدعه الله يعجز المخلوقون أن يصنعوه . هو كالروح من أمر الله لا يدرك الخلق سره الشامل الكامل , وإن أدركوا بعض أوصافه وخصائصه وآثاره .
والقرآن بعد ذلك منهج حياة كامل . منهج ملحوظ فيه نواميس الفطرة التي تصرف النفس البشرية في كل أطوارها وأحوالها , والتي تصرف الجماعات الإنسانية في كل ظروفها وأطوارها . ومن ثم فهو يعالج النفس المفردة , ويعالج الجماعة المتشابكة , بالقوانين الملائمة للفطرة المتغلغلة في وشائجها ودروبها ومنحنياتها الكثيرة . يعالجها علاجا متكاملا متناسق الخطوات في كل جانب , في الوقت الواحد , فلا يغيب عن حسابه احتمال من الاحتمالات الكثيرة ولا ملابسة من الملابسات المتعارضة في حياة الفرد وحياة الجماعة . لأن مشرع هذه القوانين هو العليم بالفطرة في كل أحوالها وملابساتها المتشابكة .
أما النظم البشرية فهي متأثرة بقصور الإنسان وملابسات حياته . ومن ثم فهي تقصر عن الإحاطة بجميع الاحتمالات في الوقت الواحد ; وقد تعالج ظاهرة فردية أو اجتماعية بدواء يؤدي بدوره إلى بروز ظاهرة أخرى تحتاج إلى علاج جديد !
إن إعجاز القرآن أبعد مدى من إعجاز نظمه ومعانيه , وعجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله هو عجز كذلك عن إبداع منهج كمنهجه يحيط بما يحيط به .
(ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا . وقالوا:لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ; أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ; أو تسقط السماء - كما زعمت - علينا كسفا ; أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ; أو يكون لك بيت من زخرف ; أو ترقى في السماء . ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه . . .) .
وهكذا قصر إدراكهم عن التطلع إلى آفاق الإعجاز القرآنية , فراحوا يطلبون تلك الخوارق المادية , ويتعنتون في اقتراحاتهم الدالة على الطفولة العقلية , أو يتبجحون في حق الذات الإلهية بلا أدب ولا تحرج . . لم ينفعهم تصريف القرآن للأمثال والتنويع فيها لعرض حقائقه في أساليب شتى تناسب شتى العقول والمشاعر , وشتى الأجيال والأطوار . (فأبى أكثر الناس إلا كفورا) وعلقوا إيمانهم بالرسول صلى الله عليه وسلم بأن يفجر لهم من الأرض ينبوعا ! أو بأن تكون له جنة من نخيل وعنب يفجر الأنهار خلالها تفجيرا ! أو أن يأخذهم بعذاب من السماء , فيسقطها عليهم قطعا كما أنذرهم أن يكون ذلك يوم القيامة ! أو أن يأتي بالله والملائكة قبيلا يناصره ويدفع عنه كما يفعلون هم في قبائلهم ! أو أن يكون له بيت من المعادن الثمينة . أو أن يرقى في السماء . ولا يكفي أن يعرج إليها وهم ينظرونه , بل لا بد أن يعود إليهم ومعه كتاب محبر يقرأونه !
وتبدو طفولة الإدراك والتصور , كما يبدو التعنت في هذه المقترحات الساذجة . وهم يسوون بين البيت المزخرف والعروج إلى السماء ! أو بين تفجير الينبوع من الأرض ومجيء الله - سبحانه - والملائكة قبيلا ! والذي يجمع في تصورهم بين هذه المقترحات كلها هو أنها خوارق . فإذا جاءهم بها نظروا في الإيمان له والتصديق به !
وغفلوا عن الخارقة الباقية في القرآن , وهم يعجزون عن الإتيان بمثله في نظمه ومعناه ومنهجه , ولكنهم لا يلمسون هذا الإعجاز بحواسهم فيطلبون ما تدركه الحواس !
والخارقة ليست من صنع الرسول , ولا هي من شأنه , إنما هي من أمر الله سبحانه وفق تقديره وحكمته . وليس من شأن الرسول أن يطلبها إذا لم يعطه الله إياها . فأدب الرسالة وإدراك حكمة الله في تدبيره يمنعان الرسول أن يقترح على ربه ما لم يصرح له به . . (قل:سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) يقف عند حدود بشريته , ويعمل وفق تكاليف رسالته , لا يقترح على الله ولا يتزيد فيما كلفه إياه .( الظلال)
===================
وكان الذي نزل عليه القرآن - صلى الله عليه وسلم - أميًّا لا يقرأ ولا يكتب كما قال تعالى : {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (2) سورة الجمعة
أى : هو - سحبانه - وحده ، الذى { بَعَثَ } بفضله وكرمه ، { فِي } العرب { الأميين رَسُولاً } كريما عظيما ، كائنا { مِّنْهُمْ } أى : من جنسهم يعرفون حسبه ونسبه وخلقه . . . هذا الرسول الكريم أرسلناه إليهم ، ليقرأ عليهم آيات الله - تعالى - التى أنزلها عليه لهدايتهم وسعادتهم ، متى آمنوا بها ، وعملوا بما اشتملت عليه من توجيهات سامية .
وأرسلناه إليهم - أيضا - ليزكيهم ، أى : وليطهرهم من الكفر والقبائح والمنكرات وليعلمهم الكتاب ، بأن يحفظهم إياه ، ويشرح لهم أحكامه ، ويفسر لهم ما خفى عليهم من ألفاظه ومعانيه .
وليعلمهم - أيضا - الحكمة . أى : العلم النافع المصحوب بالعمل الطيب وصدر - سبحانه - الآية الكريمة بضمير اسم الجلالة ، لتربية المهابة فى النفوس ، ولتقوية ما اشتملت عليه من نعم وأحكام ، إذ هو - سبحانه - وحده الذى فعل ذلك لا غيره .
وعبر - سبحانه - بفى المفيدة للظرفية فى قوله - تعالى - : { فِي الأميين } . للإشعار بأن هذا الرسول الكريم الذى أرسله إليهم ، كان مقيما فيهم ، وملازما لهم ، وحريصا على أن يبلغهم رسالة الله - تعالى - فى كل الأوقات والأزمان .
والتعبير بقوله : { مِّنْهُمْ } فيه ما فيه من دعوتهم إلى الإيمان به ، لأن هذا الرسول الكريم ، ليس غريبا عنهم ، بل هو واحد منهم شرفهم من شرفه ، وفضلهم من فضله . . .
وهذه الآية الكريمة صريحة فى أن الله - تعالى - قد استجاب دعوة نبيه إبراهيم - عليه السلام - عندما دعاه بقوله : { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم . . } وقد جاء ترتيب هذه الآية الكريمة وأمثالها فى أسمى درجات البلاغة والحكمة ، لأن أول مراحل تبليغ الرسالة ، يكون بتلاوة القرآن ، ثم ثنى - سبحانه - بتزكيه النفوس من الأرجاس ، ثم ثلث بتعليم الكتاب والحكمة لأنهما يكونان بعد التبليغ والتزكية للنفوس .
ولذا قالوا : إن تعليم الكتاب غير تلاوته ، لأن تلاوته معناها ، قراءته قراءة مرتلة ، أما تعليمه فمعناه : بيان أحكامه ، وشرح ما خفى من ألفاظه وأحكامه . . .
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة ، قد اشتملت على جملة من الصفات الجليلة التى منحها - سبحانه - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك حال الناس قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - فقال : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } .
وهذه الجملة الكريمة فى موضع الحال من قوله : { هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين . . } و " إن " فى قوله { وَإِن كَانُواْ . . } مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف .
أى : هو - سبحانه - بفضله وكرمه ، الذى بعث فى الأميين رسولا منهم ، وحالهم أنهم كانوا قبل إرسال هذا الرسول الكريم فيهم ، فى ضلال واضح لا يخفى أمره على عاقل ، ولا يلتبس قبحه على ذى ذوق سليم وحقا لقد كان الناس قبل أن يبزغ نور الإسلام ، الذى جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه ، فى ضلال واضح ، وظلام دامس ، من حيث العقائد والعبادات ، والأخلاق والمعاملات .
فكان من رحمة الله - تعالى - بهم ، أن أرسل فيهم رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - لكى يخرجهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان ، إلى نور الهداية والاستقامة والإيمان .
ثم بين - سبحانه - أن رسالة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - لن يكون نفعها مقصورا على المعاصرين له والذين شاهدوه . . . بل سيعم نفعها من سيجيئون من بعدهم ، فقال - تعالى - : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ العزيز الحكيم . . } .
وقوله : { وَآخَرِينَ } جمع آخر بمعنى الغير ، والجملة معطوفة على قوله قبل ذلك { فِي الأميين . . } فيكون المعنى :
هو - سبحانه - الذى بعث فى الأميين رسولا منهم ، كما بعثه فى آخرين منهم .
{ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } أى : لم يجيئوا بعد ، وهم كل من يأتى بعد الصحابة من أهل الإسلام إلى يوم القيامة ، بدليل قوله - تعالى - : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ . . . } أى : وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به يا أهل مكة ، ولأنذر به جميع من بلغه هذا الكتاب ، ووصلت إليه دعوته من العرب وغيرهم إلى يوم القيامة . . .
وفى الحديث الشريف : " بلغوا عن الله - تعالى - فمن بلغته آية من كتاب الله ، فقد بلغه أمر الله " .
وعن محمد بن كعب قال : من بلغه القرآن فكأنما رأى النبى - صلى الله عليه وسلم - .
ويصح أن يكون قوله : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ . . } معطوف على الضمير المنصوب فى قوله : { وَيُعَلِّمُهُمُ . . } فيكون المعنى :
هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويعلم آخرين منهم { لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } أى : لم يجيئوا بعد وسيجيئون . . . وهم كل من آمن بالرسول من بعد الصحابة إلى يوم القيامة .
قال صاحب الكشاف : وقوله : { وَآخَرِينَ } مجرور عطف على الأميين يعنى : أنه بعثه فى الأميين الذين على عهده ، وفى آخرين من الأميين الذين لم يلحقوا بهم بعد ، وسيلحقون بهم ، وهم الذين بعد الصحابة . .
وقيل : لما نزلت قيل : " من هم يا رسول الله ، فوضع يده على سلمان ثم قال : " لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من هؤلاء " " .
وقيل : هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم القيامة .
ويجوز أن ينتصب عطفا عل المنصوب فى { وَيُعَلِّمُهُمُ } أى يعلمهم ويعلم آخرين ، لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستندا إلى أوله ، فكأنه هو الذى تولى كل ما وجد منه .. .
والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها تشير 'لى أن دعوة النبى - صلى الله عليه وسلم - ستبلغ غير المعاصرين له - صلى الله عليه وسلم - وأنهم سيتبعونها ، ويؤمنون بها ، ويدافعون عنها . .
وهذا ما أيده الواقع ، فقد دخل الناس فى دين الله أفواجا من العرب ومن غير العرب ، ومن أهل المشارق والمغارب .
فالآية الكريمة تخبر عن معجزة من معجزات القرآن الكريم ، ألا وهى الإخبار عن أمور مستقبلة أيدها الواقع المشاهد .
وقوله - تعالى - : { وَهُوَ العزيز الحكيم } تذييل المقصود به بيان أن قدرته - تعالى - لا يعجزها شىء ، وأن حكمته هى أسمى الحكم وأسدها .
أى : وهو - سبحانه - العزيز الذى لا يغلب قدرته شىء ، الحكيم فيما يريده ويقدره ويوجده .
واسم الإشارة فى قوله : { ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ . . . } يعود إلى ما تقدم ذكره من كرمه - تعالى - على عباده ، حيث اختص رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بهذه الرسالة الجامعة لكل خير وبركة ، وحيث موفق من وفق من الأميين وغيرهم ، إلى اتباع هذا الرسول الكريم . .
أى : ذلك البعث منا لرسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - لكى يهدى الناس بإذننا إلى الصراط المستقيم ، هو فضلنا الذى نؤتيه ونخصه لمن نشاء اختصاصه به من عبادنا .
{ والله } - تعالى - : هو { ذُو الفضل العظيم } الذى لا يقاربه فضل ، ولا يدانيه كرم .
كما قال - سبحانه - : { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } ( التفسير الوسيط )
قيل إن العرب سموا الأميين لأنهم كانوا لا يقرأون ولا يكتبون - في الأعم الأغلب - وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بأصابعه وقال:" إنا نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب " . . وقيل:إنما سمي من لا يكتب أميا لأنه نسب إلى حال ولادته من الأم , لأن الكتابة إنما تكون بالاستفادة والتعلم .
وربما سموا كذلك كما كان اليهود يقولون عن غيرهم من الأمم:إنهم "جوييم" باللغة العبرية أي أمميون . نسبة إلى الأمم - بوصفهم هم شعب الله المختار وغيرهم هم الأمم ! - والنسبة في العربية إلى المفرد . . أمة . . أميون . وربما كان هذا أقرب بالنسبة إلى موضوع السورة . ولقد كان اليهود ينتظرون مبعث الرسول الأخير منهم , فيجمعهم بعد فرقة , وينصرهم بعد هزيمة , ويعزهم بعد ذل . وكانوا يستفتحون بهذا على العرب , أي يطلبون الفتح بذلك النبي الأخير .
ولكن حكمة الله اقتضت أن يكون هذا النبي من العرب , من الأميين غير اليهود ; فقد علم الله أن يهود قد فرغ عنصرها من مؤهلات القيادة الجديدة الكاملة للبشرية - كما سيجيء في المقطع التالي في السورة - وأنها زاغت وضلت كما جاء في سورة الصف . وأنها لا تصلح لحمل الأمانة بعدما كان منها في تاريخها الطويل !
وكانت هناك دعوة إبراهيم خليل الرحمن - عليه الصلاة والسلام - تلك الدعوة التي أطلقها في ظل البيت هو وإسماعيل عليه السلام:(وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل . . ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم , ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم . ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك , ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم . إنك أنت العزيز الحكيم) . .
كانت هناك هذه الدعوة من وراء الغيب , ومن وراء القرون , محفوظة عند الله لا تضيع , حتى يجيء موعدها المقدور في علم الله , وفق حكمته ; وحتى تتحقق في وقتها المناسب في قدر الله وتنسيقه , وحتى تؤدي دورها في الكون حسب التدبير الإلهي الذي لا يستقدم معه شيء , ولا يستأخر عن موعده المرسوم .
وتحققت هذه الدعوة - وفق قدر الله وتدبيره - بنصها الذي تعيده السورة هنا لتذكر بحكاية ألفاظ إبراهيم . . (رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) . . كما قال إبراهيم ! حتى صفة الله في دعاء إبراهيم: (إنك أنت العزيز الحكيم) هي ذاتها التي تعقب على التذكير بمنة الله وفضله هنا: (وهو العزيز الحكيم) .
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه فقال:" دعوة أبي إبراهيم . وبشرى عيسى . ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام " .
(هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) . .
والمنة ظاهرة في اختيار الله للأميين ليجعلهم أهل الكتاب المبين ; وليرسل فيهم رسولا منهم , يرتفعون باختياره منهم إلى مقام كريم ; ويخرجهم من أميتهم أو من أمميتهم بتلاوة آيات الله عليهم , وتغيير ما بهم , وتمييزهم على العالمين . .
(ويزكيهم) . . وإنها لتزكية وإنه لتطهير ذلك الذي كان يأخذهم به الرسول صلى الله عليه وسلم تطهير للضمير والشعور , وتطهير للعمل والسلوك , وتطهير للحياة الزوجية , وتطهير للحياة الاجتماعية . تطهير ترتفع به النفوس من عقائد الشرك إلى عقيدة التوحيد ; ومن التصورات الباطلة إلى الاعتقاد الصحيح , ومن الأساطير الغامضة إلى اليقين الواضح . وترتفع به من رجس الفوضى الأخلاقية إلى نظافة الخلق الإيماني . ومن دنس الربا والسحت إلى طهارة الكسب الحلال . . إنها تزكية شاملة للفرد والجماعة ولحياة السريرة وحياة الواقع . تزكية ترتفع بالإنسان وتصوراته عن الحياة كلها وعن نفسه ونشأته إلى آفاق النور التي يتصل فيها بربه , ويتعامل مع الملأ الأعلى ; ويحسب في شعوره وعمله حساب ذلك الملأ العلوي الكريم .
(ويعلمهم الكتاب والحكمة) . . يعلمهم الكتاب فيصبحون أهل كتاب . ويعلمهم الحكمة فيدركون حقائق الأمور , ويحسنون التقدير , وتلهم أرواحهم صواب الحكم وصواب العمل وهو خير كثير .
(وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) . . ضلال الجاهلية التي وصفها جعفر بن أبي طالب لنجاشي الحبشة حين بعثت قريش إليه عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة ليكرهاه في المهاجرين من المسلمين , ويشوها موقفهم عنده , فيخرجهم من ضيافته وجيرته . . فقال جعفر:
"أيها الملك . كنا قوما أهل جاهلية . نعبد الأصنام , ونأكل الميتة , ونأتي الفواحش , ونقطع الأرحام , ونسيء الجوار , ويأكل القوي منا الضعيف . . فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا , نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه . فدعانا إلى الله لنوحده ولنعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ; وأمرنا بصدق الحديث , وأداء الأمانة , وصلة الرحم , وحسن الجوار , والكف عن المحارم والدماء . ونهانا عن الفواحش وقول الزور , وأكل مال اليتيم , وقذف المحصنات . وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا , وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام" . .
ومع كل ما كانوا عليه في الجاهلية من ضلال فقد علم الله أنهم هم حملة هذه العقيدة الأمناء عليها , بما علم في نفوسهم من استعداد للخير والصلاح ; ومن رصيد مذخور للدعوة الجديدة ; وقد فرغت منه نفوس اليهود التي أفسدها الذل الطويل في مصر , فامتلأت بالعقد والالتواءات والانحرافات , ومن ثم لم تستقيم أبدا بعد ذلك , لا في حياة موسى عليه السلام , ولا من بعده . حتى كتب الله عليهم لعنته وغضبه , وانتزع من أيديهم أمانة القيام على دينه في الأرض إلى يوم القيامة .
وعلم الله أن الجزيرة في ذلك الأوان هي خير مهد للدعوة التي جاءت لتحرير العالم كله من ضلال الجاهلية , ومن انحلال الحضارة في الامبراطوريات الكبيرة , التي كان سوس الانحلال قد نخر فيها حتى اللباب ! هذه الحالة التي يصفها كاتب أوربي حديث فيقول:
"ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدين على شفا جرف هار من الفوضى . لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت , ولم يك ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها . وكان يبدو إذ ذاك أن المدنية الكبرى التي تكلف بناؤها أربعة آلاف سنة , مشرفة على التفكك والانحلال ; وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية , إذ القبائل تتحارب وتتناحر , لا قانون ولا نظام . أما النظم التي خلقتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلا من الاتحاد والنظام . وكانت المدنية , كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله , واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب . . . وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه " . .
وهذه الصورة مأخوذة من زاوية النظر لكاتب أوربي . وهي من زاوية النظر الإسلامية أشد عتاما وظلاما !
وقد اختار الله - سبحانه - تلك الأمة البدوية في شبه الجزيرة الصحراوية لتحمل هذا الدين , بما علم في نفوسها وفي ظروفها من قابلية للاستصلاح وذخيرة مرصودة للبذل والعطاء . فأرسل فيهم الرسول يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة . وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين .
(وآخرين منهم لما يلحقوا بهم , وهو العزيز الحكيم) . .
وهؤلاء الآخرون وردت فيهم روايات متعددة . .
قال الإمام البخاري - رحمه الله تعالى -:حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله , حدثنا سليمان بن بلال , عن ثور , عن أبي الغيث , عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:"كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة (وآخرين لما يلحقوا بهم) قالوا:من هم يا رسول الله ? فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثا , وفينا سلمان الفارسي , فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان الفارسي ثم قال:" لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال أو رجل من هؤلاء " . فهذا يشير إلى أن هذا النص يشمل أهل فارس . ولهذا قال مجاهد في هذه الآية:هم الأعاجم وكل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم من غير العرب .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي , حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي , حدثنا الوليد بن مسلم , حدثنا أبو محمد عيسى بن موسى عن أبي حازم , عن سهل بن سعد الساعدي . قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب " ثم قرأ: (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) . . يعني بقية من بقي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
وكلا القولين يدخل في مدلول الآية . فهي تدل على آخرين غير العرب . وعلى آخرين غير الجيل الذي نزل فيه القرآن . وتشير إلى أن هذه الأمة موصولة الحلقات ممتدة في شعاب الأرض وفي شعاب الزمان , تحمل هذه الأمانة الكبرى , وتقوم على دين الله الأخير .
(وهو العزيز الحكيم) . . القوي القادر على الاختيار . الحكيم العليم بمواضع الاختيار . .
واختياره للمتقدمين والمتأخرين فضل وتكريم:
(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء , والله ذو الفضل العظيم) . .
وإن اختيار الله لأمة أو جماعة أو فرد ليحمل هذه الأمانة الكبرى , وليكون مستودع نور الله وموضع تلقي فيضه , والمركز الذي تتصل فيه السماء بالأرض . . إن اختيار الله هذا لفضل لا يعدله فضل . فضل عظيم يربى على كل ما يبذله المؤمن من نفسه وماله وحياته ; ويربى على متاعب الطريق وآلام الكفاح وشدائد الجهاد .
والله يذكر الجماعة المسلمة في المدينة , والذين يأتون بعدها الموصولين بها والذين لم يلحقوا بها . يذكرهم هذا الفضل في اختيارهم لهذه الأمانة , ولبعث الرسول فيهم يتلو عليهم الكتاب ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة . ويترك للآتين في أطواء الزمان ذلك الرصيد الضخم من الزاد الإلهي , ومن الأمثلة الواقعية في حياة الجماعة الأولى . يذكرهم هذا الفضل العظيم الذي تصغر إلى جانبه جميع القيم , وجميع النعم ; كما تصغر إلى جانبه جميع التضحيات والآلام . .(الظلال)
===============(1/1)
وقال تعالى : {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)ْ[الشورى/51-52]
فهذه الآية الكريمة قد دلت على أن تكليم الله - تعالى - للبشر وقع على ثلاثة أوجه :
الأول : عن طريق الوحى ، وهو الإِعلام فى خفاء وسرعة عن طريق الإِلقاء فى القلب يقظة أو مناما ، ويشمل الإِلهام والرؤيا المنامية .
والوحى مصدر أوحى ، وقد غلب استعماله فيما يلقى للمصطفين الأخيار من الكلمات الإِلهية .
والثانى : عن طريق الإِسماع من وراء حجاب ، أى حاجز ، بأن يسمع النبى كلاما دون أن يرى من يكلمه ، كما حدث لموسى . عليه السلام - عندما كلمه ربه - عز وجل - ، وهذا الطريق هو المقصود بقوله - تعالى - : { أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } .
والثالث : عن طريق إرسال ملك ، وظيفته أن يبلغ الرسول ما أمره الله بتبليغه له ، وهو المقصود بقوله - تعالى - { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ } .
وهذا الطريق الثالث قد وضحه الحديث الذى رواه الإِمام البخارى " عن عائشة - رضى الله عنها - أن الحارث بن هشام ، سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، كيف يأتيك الوحى؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس - " وهو أشد على - أى : أحيانا يأتينى مشابها صوته وقوع الحديد بعضه على بعض - فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكملنى فأعى ما يقول .
قالت عائشة : ولقد رأيته - صلى الله عليه وسلم - ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد ، فيصم عنه ، وإن جبينه ليتفصد عرقا .
والمعنى : وما صح وما استقام لبشر أن يكلمه الله - تعالى - فى من حال الأحوال إلا موحيا إليه ، أو مسمعا أياه ما يريد إسماعه له من وراء حجاب أو يرسل إليه ملكا ليبلغه ما يريده - سبحانه - منه .
وقوله - تعالى - { إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } تعليل لما قبله ، أى : إنه - سبحانه - متعال عن صفات النقص ، حكيم فى كل أقواله وأفعاله .
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان .. } .
والكاف فى قوله " كذلك " بمعنى مثل واسم الإِشارة يعود إلى ما أوحاه إلى الرسل السابقين .
والمراد بالروح : القرآن - وسماه - سبحانه - روحا ، لأن الأرواح تحيا به ، كما تحيا الأبدان بالغذاء المادى .
أى : ومثل إيحائنا إلى غيرك من الرسل ، أوحينا إليك - أيها الرسول الكريم ، هذا القرآن ، الذى هو بمنزلة الأرواح للأجساد ، وقد أوحيناه إليك بأمرنا وإرادتنا ومشيئتنا ، وأنت - أيها الرسول الكريم - ما كنت تعرف أو تدرك حقيقة هذا الكتاب حتى عرفناك إياه ، وما كنت تعرف أو تدرك تفاصيل ، وشرائع وأحكام هذا الذين الذى أحينا إليك بعد النبوة .
فالمقصود بهذه الآية الكريمة نفى علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا القرآن قبل النبوة ، ونفى أن يكون - أيضا - عالما بتفاصيل وأحكام هذا الدين لا نفى أصل الإِيمان .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً } وقوله - سبحانه - : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين } والضمير فى قوله - تعالى - : { ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } يعود إلى القرآن الكريم ، الذى عبر عنه بالروح .
أى : ولكن جعلنا هذا القرآن العظيم نورا ساطعا ، نهدى به من نشاء هدايته من عبادنا { وَإِنَّكَ } أيها الرسول الكريم { لتهدي } من أرسلناك إليهم { إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أى طريق واضح قويم اعوجاج فيه ولا التواء .
وقوله : { صِرَاطِ الله } بدل مما قبله ، وإضافته إلى الله - تعالى - للتفخيم والتشريف .
أى : وإنك لترشد الناس إلى صراط الله { الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } ملكا وخلقا وتصرفا . .
{ أَلاَ إِلَى الله } - تعالى - وحده { تَصِيرُ الأمور } أى : تنتهى إليه الأمور وتصعد إليه وحده ، فيقضى فيها بقضائه العادل ، وبحكمه النهائى الذى لا معقب له .(التفسير الوسيط
(وكذلك) . بمثل هذه الطريقة , وبمثل هذا الاتصال . (أوحينا إليك) . . فالوحي تم بالطريقة المعهودة , ولم يكن أمرك بدعا . أوحينا إليك (روحاً من أمرنا) . . فيه حياة , يبث الحياة ويدفعها ويحركها وينميها في القلوب وفي الواقع العملي المشهود . (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) . . هكذا يصور نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلم بها , قبل أن تتلقى هذا الوحي . وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتاب وسمع عن الإيمان , وكان معروفاً في الجزيرة العربية أن هناك أهل كتاب فيمن معهم , وأن لهم عقيدة , فليس هذا هو المقصود . إنما المقصود هو اشتمال القلب على هذه الحقيقة والشعور بها والتأثر بوجودها في الضمير . وهذا ما لم يكن قبل هذا الروح من أمر الله الذي لابس قلب محمد - عليه صلوات الله .
(ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء) . . وهذه طبيعته الخالصة . طبيعة هذا الوحي . هذا الروح . هذا الكتاب . إنه نور . نور تخالط بشاشته القلوب التي يشاء لها الله أن تهتدي به , بما يعلمه من حقيقتها , ومن مخالطة هذا النور لها .
(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) . . وهناك توكيد على تخصيص هذه المسألة , مسألة الهدى , بمشيئة الله سبحانه , وتجريدها من كل ملابسة , وتعليقها بالله وحده يقدرها لمن يشاء بعلمه الخاص , الذي لا يعرفه سواه ; والرسول صلى الله عليه وسلم واسطة لتحقيق مشيئة الله , فهو لا ينشى ء الهدى في القلوب ; ولكن يبلغ الرسالة , فتقع مشيئة الله .
(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) . . فهي الهداية إلى طريق الله , الذي تلتقي عنده المسالك . لأنه الطريق إلى المالك , الذي له ما في السماوات وما في الأرض ; فالذي يهتدي إلى طريقه يهتدي إلى ناموس السماوات والأرض , وقوى السماوات والأرض , ورزق السماوات والأرض , واتجاه السماوات والأرض إلى مالكها العظيم . الذي إليه تتجه , والذي إليه تصير:
(ألا إلى الله تصير الأمور) . .
فكلها تنتهي إليه , وتلتقي عنده , وهو يقضي فيها بأمره .
وهذا النور يهدي إلى طريقه الذي اختار للعباد أن يسيروا فيه , ليصيروا إليه في النهاية مهتدين طائعين .
وهكذا تنتهي السورة التي بدأت بالحديث عن الوحي . وكان الوحي محورها الرئيسي . وقد عالجت قصة الوحي منذ النبوات الأولى . لتقرر وحدة الدين , ووحدة المنهج , ووحدة الطريق . ولتعلن القيادة الجديدة للبشرية ممثلة في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وفي العصبة المؤمنة بهذه الرسالة . ولتكل إلى هذه العصبة أمانة القيادة إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض . ولتبين خصائص هذه العصبة وطابعها المميز , الذي تصلح به للقيادة , وتحمل به هذه الأمانة . الأمانة التي تنزلت من السماء إلى الأرض عن ذلك الطريق العجيب العظيم . .(الظلال)
==============
بل تحداهم على أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا كذلك ،قال تعالى : {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (23) سورة البقرة
ومن ثمَّ فقد أيقنوا أنه من عند الله تعالى ، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر وقال سيدهم الوليد : والله، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوةً، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر.
==============
وقد ألف في إعجاز القرآن الكريم كتب كثيرة قديما وحديثا أهمها :
إعجاز القرآن للباقلاني
وإعجاز القرآن للرافعي
وغيرهما
وهذا الكتاب قد جمعت فيه ما تناثر من إعجاز اللغوي والبياني مما كتب على النت وقد بلغت حوالي مائة وأربعين بحثا لعلماء أجلاء معاصرين فجزاهم الله عنه خير الجزاء .
بحيث تكون هذه الأبحاث إسهاما منهم في توضيح فكرة الإعجاز اللغوي والبياتي في وقت أصبح فيه كثير من العرب - قبل العجم - لا يدركون معناها بسبب بعدهم عن حوهر دينهم وجوهر لغتهم .
وسيبقى هذا القرآن معجزا بلفظه ومعناه إلى إن يرث الله الأرض من وعليها
قال تعالى : {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (82) سورة النساء
إن هؤلاء المنافقين والذين فى قلوبهم مرض قد خيب الله سعيهم ، وكشف خباياهم ، ورأوا بأعينهم سوء عاقبة الكافرين وحسن عاقبة المؤمنين ، فهلا دفعهم ذلك إلى الإِيمان وإلى تدبر القرآن وما اشتمل عليه من هدايات وإرشادات وأخبار صادقة ، وأحكام حكيمة . . تشهد بأنه من عند الله - تعالى - ، ولو كان هذا القرآن من عند غير الله أى من إنشاء البشر لوجدوا فى أخباره وفى نظمه وفى أسلوبه وفى معانيه اختلافا كثيرا فضلا عن الاختلاف القليل ، ولكن القرآن لأنه من عند الله وحده قد تنزه عن كل ذلك وخلا من كل اختلاف سواء أكان كثيراً أم قليلا .
فالمراد بالاختلاف : تباين النظم ، وتناقض الحقائق ، وتعارض الأخبار وتضارب المعانى ، وغير ذلك مما خلا منه القرآن الكريم لأنه يتنافى مع بلاغته وصدقه .
وفى ذلك يقول صاحب الكشاف : قوله { لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } أى : لكان الكثير منه مختلفا متناقضا قد تفاوت نظمه وبلاغته ومعانيه فكان بعضه بالغا حد الإِعجاز . وبعضه قاصرا عنه تمكن معارضته ، وبعضه إخبارا يغيب قد وافق المخبر عنه ، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه ، وبعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعانى ، وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم .
فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائقة لقوى البلغاء ، وتناصر معان ، وصدق أخبار دل على أنه ليس إلا من عند قادر على ما لم يقدر عليه غيره ، عالم بما لا يعلمه أحد سواه .
فالآية الكريمة تدعو الناس فى كل زمان ومكان إلى تدبر القرآن الكريم وتأمل أحكامه ، والانقياد لما اشتمل عليه من توجيهات وإرشادات وأوامر ونواه ، ليسعدوا فى دنياهم وآخرتهم .( التفسير الوسيط )
فالتناسق المطلق الشامل الكامل هو الظاهرة التي لا يخطئها من يتدبر هذا القرآن أبدا . . ومستوياتها ومجالاتها , مما تختلف العقول والأجيال في إدراك مداها . ولكن كل عقل وكل جيل يجد منها - بحسب قدرته وثقافته وتجربته وتقواه - ما يملك إدراكه , في محيط يتكيف بمدى القدرة والثقافة والتجربة والتقوى .
ومن ثم فإن كل أحد , وكل جيل , مخاطب بهذه الآية . ومستطيع - عند التدبر وفق منهج مستقيم - أن يدرك من هذه الظاهرة - ظاهرة عدم الاختلاف , أو ظاهرة التناسق - ما تهيئه له قدرته وثقافته وتجربته وتقواه . .
وتلك الطائفة في ذلك الجيل كانت تخاطب بشيء تدركه , وتملك التحقق منه بإدراكها في حدودها الخاصة .
تتجلى هذه الظاهرة . ظاهرة عدم الاختلاف . . أو ظاهرة التناسق . . ابتداء في التعبير القرآني من ناحية الأداء وطرائقه الفنية . . ففي كلام البشر تبدو القمم والسفوح ; التوفيق والتعثر . القوة والضعف . التحليق والهبوط . الرفرفة والثقلة . الإشراق والانطفاء . . إلى آخر الظواهر التي تتجلى معها سمات البشر . وأخصها سمة "التغير" والاختلاف المستمر الدائم من حال إلى حال . يبدو ذلك في كلام البشر , واضحا عندما تستعرض أعمال الأديب الواحد , أو المفكر الواحد , أو الفنان الواحد , أو السياسي الواحد , أو القائد العسكري الواحد . . أو أي كان في صناعته ; التي يبدو فيها الوسم البشري واضحا . . وهو:التغير , والاختلاف
هذه الظاهرة واضح كل الوضوح أن عكسها وهو:الثبات , والتناسق , هو الظاهرة الملحوظة في القرآن - ونحن نتحدث فقط عن ناحية التعبير اللفظي والأداء الأسلوبي - فهناك مستوى واحد في هذا الكتاب المعجز - تختلف ألوانه باختلاف الموضوعات التي يتناولها - ولكن يتحد مستواه وأفقه , والكمال في الأداء بلا تغير ولا اختلاف من مستوى إلى مستوى . . كما هو الحال في كل ما يصنع الإنسان . . إنه يحمل طابع الصنعة الإلهية ; ويدل على الصانع . يدل على الموجود الذي لا يتغير من حال إلى حال , ولا تتوالى عليه الأحوال ! .
وتتجلى ظاهرة عدم الاختلاف . . والتناسق المطلق الشامل الكامل . . بعد ذلك في ذات المنهج الذي تحملهالعبارات . ويؤديه الأداء . . منهج التربية للنفس البشرية والمجتمعات البشرية - ومحتويات هذا المنهج وجوانبه الكثيرة - ومنهج التنظيم للنشاط الإنساني للأفراد وللمجتمع الذي يضم الأفراد - وشتى الجوانب والملابسات التي تطرأ في حياة المجتمعات البشرية على توالي الأجيال - ومنهج التقويم للإدراك البشري ذاته وتناول شتى قواه وطاقاته وإعمالها معا في عملية الإدراك ! - ومنهج التنسيق بين الكائن الإنساني بجملته - في جميع مجتمعاته وأجياله ومستوياته - وبين هذا الكون الذي يعيش فيه ; ثم بين دنياه وآخرته ; وما يشتجر في العلاقة بينهما من ملابسات لا تحصى في عالم كل فرد ; وفي عالم "الإنسان" وهو يعيش في هذا الكون بشكل عام . .
وإذا كان الفارق بين صنعة الله وصنعة الإنسان واضحا كل الوضوح في جانب التعبير اللفظي والأداء الفني , فإنه أوضح من ذلك في جانب التفكير والتنظيم والتشريع . فما من نظرية بشرية , وما من مذهب بشري , إلا وهو يحمل الطابع البشري . . جزئية النظر والرؤية . . والتأثر الوقتي بالمشكلات الوقتية . . وعدم رؤية المتناقضات في النظرية أو المذهب أو الخطة ; التي تؤدي إلى الاصطدام بين مكوناتها - إن عاجلا وإن آجلا - كما تؤدي إلى إيذاء بعض الخصائص في الشخصية البشرية الواحدة التي لم يحسب حساب بعضها ; أو في مجموعة الشخصيات الذين لم يحسب حساب كل واحدة منها . . إلى عشرات ومئات من النقائص والاختلاف , الناشئة من طبيعة الإدراك البشري المحدود , ومن الجهل البشري بما وراء اللحظة الحاضرة , فوق جهله بكل مكونات اللحظة الحاضرة - في أية لحظة حاضرة ! - وعكس ذلك كله هو ما يتسم به المنهج القرآني الشامل المتكامل , الثابت الأصول ; ثبات النواميس الكونية ; الذي يسمح بالحركة الدائمة - مع ثباته - كما تسمح بها النواميس الكونية !
وتدبر هذه الظاهرة , في آفاقها هذه , قد لا يتسنى لكل إدراك , ولا يتسنى لكل جيل . بل المؤكد أن كل إدراك سيتفاوت مع الآخر في إدراكها ; وكل جيل سيأخذ بنصيبه في إدراكها ويدع آفاقا منها للأجيال المترقية , في جانب من جوانب المعرفة أو التجربة . . إلا أنه يتبقى من وراء كل الاختلاف البشري الكثير في إدراك هذه الظاهره - كاختلافه الكثير في كل شيء آخر ! - بقية يلتقي عليها كل إدراك , ويلتقي عليها كل جيل . . وهي أن هذه الصنعة شيء وصنعة البشر شيء آخر . وأنه لا اختلاف في هذه الصنعة ولا تفاوت , وإنما وحدة وتناسق . . ثم يختلف الناس بعد ذلك ما يختلفون في إدراك آماد وآفاق وأبعاد وأنواع ذلك التناسق ! .
وإلى هذا القدر الذي لا يخطئه متدبر - حين يتدبر - يكل الله تلك الطائفة , كما يكل كل أحد , وكل جماعة , وكل جيل . وإلى هذا القدر من الإدراك المشترك يكل إليهم الحكم على هذا القرآن ; وبناء اعتقادهم في أنه من عند الله . ولا يمكن أن يكون من عند غير الله .
ويحسن أن نقف هنا وقفة قصيرة , لتحديد مجال الإدراك البشري في هذا الأمر وفي أمر الدين كله . فلا يكون هذا التكريم الذي كرمه الله للإنسان بهذا التحكيم , سبيلا إلى الغرور , وتجاوز الحد المأمون ; والانطلاق من السياج الحافظ من المضي في التيه بلا دليل !
إن مثل هذه التوجيهات في القرآن الكريم يساء إدراكها , وإدراك مداها . فيذهب بها جماعة من المفكرين الإسلاميين - قديما وحديثا - إلى إعطاء الإدراك البشري سلطة الحكم النهائية في أمر الدين كله . ويجعلون منهندا لشرع الله . بل يجعلونه هو المسيطر على شرع الله !
الأمر ليس كذلك . . الأمر أن هذه الأداة العظيمة - أداة الإدراك البشري - هي بلا شك موضع التكريم من الله - ومن ثم يكل إليها إدراك الحقيقة الأولى:حقيقة أن هذا الدين من عند الله . لأن هناك ظواهر يسهل إدراكها ; وهي كافية بذاتها للدلالة - دلالة هذا الإدراك البشري ذاته - على أن هذا الدين من عند الله . . ومتى أصبحت هذه القاعدة الكبيرة مسلما بها , أصبح من منطق هذا الإدراك ذاته أن يسلم - بعد ذلك - تلقائيا بكل ما ورد في هذا الدين - لا يهم عندئذ أن يدرك حكمته الخفية أو لا يدركها . فالحكمة متحققه حتما ما دام من عند الله . ولا يهم عندئذ أن يرى "المصلحة " متحققة فيه في اللحظة الحاضرة . فالمصلحة متحققة حتما ما دام من عندالله . . والعقل البشري ليس ندا لشريعة الله - فضلا على أن يكون الحاكم عليها - لأنه لا يدرك إلا إدراكا ناقصا في المدى المحدود ; ويستحيل أن ينظر من جميع الزوايا وإلى جميع المصالح - لا في اللحظة الواحدة ولا في التاريخ كله - بينما شريعة الله تنظر هذه النظرة ; فلا ينبغي أن يكون الحكم فيها , أو في حكم ثابت قطعي من أحكامها موكولا إلى الإدراك البشري . . وأقصى ما يتطلب من الإدراك البشري أن يتحرى إدراك دلالة النص وانطباقه ; لا أن يتحرى المصلحة أو عدم المصلحة فيه !
فالمصلحة متحققة أصلا بوجود النص من قبل الله تعالى . .
إنما يكون هذا فيما لا نص فيه , مما يجد من الأقضية ; وهذا سبق بيان المنهج فيه , وهو رده إلى الله والرسول . . وهذا هو مجال الاجتهاد الحقيقي . إلى جانب الاجتهاد في فهم النص , والوقوف عنده , لا تحكيم العقل البشري في أن مدلوله يحمل المصلحة أو لا يحملها !!! إن مجال العقل البشري الأكبر في معرفة نواميس الكون والإبداع في عالم المادة . . وهو ملك عريض !!!
يجب أن نحترم الإدراك البشري بالقدر الذى أراده الله له من التكريم في مجاله الذي يحسنه - ثم لا نتجاوز به هذا المجال . كي لا نمضى في التيه بلا دليل . إلا دليلا يهجم على ما لا يعرف من مجاهل الطريق . . وهو عندئذ أخطر من المضي بلا دليل !!! (الظلال)
===============
أسأل الله تعالى أن ينفع به جامعه وقارئه وناقله والدال عليه في الدارين آمين.
قال تعالى : {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} (37) سورة يونس
جمعه وأعده
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 14 رمضان 1428 هـ -الموافق 26/9/207 م
!!!!!!!!!!!!!!!!!(1/1)
من بديع الإيجاز والإطناب في القرآن الكريم
أولاً- يعرف علماء البلاغة الإيجاز بأنه التعبير عن المراد بلفظ غير زائد، ويقابله الإطناب؛ وهو التعبير عن المراد بلفظ أزيد من الأول. ويكاد يجمع الجمهور على أن الإيجاز، والاختصار بمعنى واحد؛ ولكنهم يفرقون بين الإطناب، والإسهاب بأن الأول تطويل لفائدة، وأن الثاني تطويل لفائدة، أو غير فائدة.
ويعدُّ الإيجاز والإطناب من أعظم أنواع البلاغة عند علمائها، حتى نقل صاحب سر الفصاحة عن بعضهم أنه قال: اللغة هي الإيجاز والإطناب. وقال الزمخشري صاحب الكشاف: كما أنه يجب على البليغ في مظانِّ الإجمال أن يجمل ويوجز، فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل أن يفصل ويشبع .
ثانيًا- ومن بديع الإيجاز قوله تعالى في وصف خمر الجنة:" لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ "(الواقعة: 19)، فقد جمع عيوب خمر الدنيا من الصداع، وعدم العقل، وذهاب المال، ونفاد الشراب.
وحقيقة قوله تعالى:" لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا ". أي: لا يصدر صداعهم عنها. والمراد: لا يلحق رؤوسهم الصداع، الذي يلحق من خمر الدنيا. وقيل: لا يفرقون عنها، بمعنى: لا تقطَع عنهم لذتهُم بسبب من الأسباب، كما تفرق أهل خمر الدنيا بأنواع من التفريق.
وقرأ مجاهد:" لَا يَصَدَّعُونَ "، بفتح الياء وتشديد الصاد، على أن أصله: يتصدعون، فأدغم التاء في الصاد. أي: لا يتفرقون؛ كقوله تعالى:" يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ "(الروم: 43). وقُرِىءَ:" لَا يَصَدَعُونَ "، بفتح الياء والتخفيف. أي: لا يصدع بعضهم بعضًا، ولا يفرقونهم. أي: لا يجلس داخل منهم بين اثنين، فيفرق بين المتقاربين؛ فإنه سوء أدب، وليس من حسن العشرة.
وقوله تعالى:" وَلَا يُنْزِفُونَ "، قال مجاهد، وقتادة، والضحاك: لا تذهب عقولهم بسكرها، من نزف الشارب، إذا ذهب عقله. ويقال للسكران: نزيف ومنزوف. قيل: وهو من نزف الماء: نزحه من البئر شيئًا فشيئًا.
ثالثًا- ومن بديع الإطناب قوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام:" وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى "(يوسف: 53).
ففي قوله:" وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي " تحيير للمخاطب وتردد، في أنه كيف لا يبرىء نفسه من السوء، وهي بريئة، قد ثبت عصمتها ! ثم جاء الجواب عن ذلك بقوله:" إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى ".
والمراد بالنَّفْسَ النفس البشرية عامة. وأمَّارَةٌ صيغة مبالغة على وزن: فعَّالة. أي: كثيرة الأمر بِالسُّوءِ. أي: بجنسه. والمراد: أنها كثيرة الميل إلى الشهوات. والمعنى: إن كل نفس أمارة بالسوء، إلا نفسًا رحمها الله تعالى بالعصمة.
وهذا التفسير محمول على أن القائل يوسف عليه السلام. والظاهر أنه من قول امرأة العزيز، وأنه اعتذار منها عما وقعت فيه مما يقع فيه البشر من الشهوات. والمعنى: وما أبريء نفسي، مع ذلك من الخيانة، فإني قد خنته حين قذفته، وقلت:" مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ "(يوسف: 25)، وأودعته السجن. تريد بذلك الاعتذار مما كان منها. ثم استغفرت ربها، واسترحمته مما ارتكبت.
رابعًا- ومن الآيات البديعة، التي جمعت بين الإيجاز والإطناب، في أسلوب رفيع من النظم بديع، قول الله تعالى:
" حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"(النمل: 18)
أما الإطناب فنلحظه في قول هذه النملة:" يَا أَيُّهَا "، وقولها:" وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ". أما قولها:" يَا أَيُّهَا " فقال سيبويه:" الألف والهاء لحقت { أيًّا } توكيدًا؛ فكأنك كررت { يا } مرتين، وصار الاسم تنبيهًا ".
وقال الزمخشري:" كرر النداء في القرآن بـ" يَا أَيُّهَا "، دون غيره؛ لأن فيه أوجهًا من التأكيد، وأسبابًا من المبالغة؛ منها: ما في { يا } من التأكيد، والتنبيه، وما في { ها } من التنبيه، وما في التدرُّج من الإبهام في { أيّ } إلى التوضيح. والمقام يناسبه المبالغة، والتأكيد ".
وأما قولها:" وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ" فهو تكميل لما قبله، جيء به، لرفع توهُّم غيره، ويسمَّى ذلك عند علماء البلاغة والبيان: احتراسًا؛ وذلك من نسبة الظلم إلى سليمان- عليه السلام- وكأن هذه النملة عرفت أن الأنبياء معصومون، فلا يقع منهم خطأ إلا على سبيل السهو. قال الرازي:" وهذا تنبيه عظيم على وجوب الجزم بعصمة الأنبياء، عليهم السلام ".
ومثل ذلك قوله تعالى:" وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ "(الفتح:25). أي: تصيبكم جناية كجناية العَرِّ؛ وهو الجرب.(1/1)
وأما الإيجاز فنلحظه فيما جمعت هذه النملة في قولها من أجناس الكلام؛ فقد جمعت أحد عشر جنسًا: النداء، والكناية، والتنبيه، والتسمية، والأمر، والقصص، والتحذير، والتخصيص، والتعميم، والإشارة، والعذر.
فالنداء:{ يا }. والكناية:{ أيُّ }. والتنبيه:{ ها }. والتسمية:{ النمل }. والأمر:{ ادخلوا }. والقصص:{ مساكنكم }. والتحذير:{ لا يحطمنكم }. والتخصيص:{ سليمان }. والتعميم:{ جنوده }. والإشارة:{ هم }. والعذر:{ لا يشعرون }.
فأدَّت هذه النملة بذلك خمسة حقوق: حق الله تعالى، وحق رسوله، وحقها، وحق رعيتها، وحق الجنود.
فأما حق الله تعالى فإنها استُرعيت على النمل، فقامت بحقهم. وأما حق سليمان- عليه السلام- فقد نبَّهته على النمل. وأما حقها فهو إسقاطها حق الله تعالى عن الجنود في نصحهم. وأما حق الرعية فهو نصحها لهم؛ ليدخلوا مساكنهم. وأما حق الجنود فهو إعلامها إياهم. وجميع الخلق، أن من استرعاه الله تعالى رعيَّة، وجب عليه حفظها، والذبِّ عنها، وهو داخل في الخبر المشهور:" كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته ". هذا من جهة المعنى.
وأما من جهة المبنى ( اللفظ ) فإن كلمة { نملة } من الكلمات، التي يجوز فيها أن تكون مؤنثة، وأن تكون مذكرة؛ وإنما أنث لفظها للفرق بين الواحد، والجمع من هذا الجنس. ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام:" لا تضحِّي بعوراءَ، ولا عجفاءَ، ولا عمياءَ " كيف أخرج هذه الصفات على اللفظ مؤنثة، ولا يعني الإناث من الأنعام خاصة !
وأما تنكير { نملة } ففيه دلالة على البعضيَّة، والعموم. أي: قالت نملة من هذا النمل. وهذا يعني أن كل نملة مسؤولة عن جماعة النمل.
وأما قولها:" ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ " ففيه إيجاز بالحذف بليغ؛ لأن أصله: ادخلوا في مساكنكم، فحذف منه { في }، تنبيهًا على السرعة في الدخول.
ولفعل { دخل } استعمالات دقيقة في اللغة والقرآن، تخفى حتى على الكثير من علماء اللغة والتفسير، لخصها الأستاذ محمد إسماعيل عتوك في مقالته النقدية ( من أسرار تعدية الفعل في القرآن الكريم ).
وأما قولها:" لَا يَحْطِمَنَّكُمْ "، بنون مشددة أو خفيفة، فظاهره النفيُ؛ ولكن معناه على النهي. والنهيُ إذا جاء على صورة النفي، كان أبلغ من النهي الصريح. وفيه تنبيه على أن من يسير في الطريق، لا يلزمه التحرُّز؛ وإنما يلزم من كان في الطريق.
خامسًا- وفي التعبير بـ" لَا يَحْطِمَنَّكُمْ "، دون غيره من الألفاظ، دلالة دقيقة على المعنى المراد، لا يمكن لأيِّ لفظ أن يعبِّر عنه. ويبيِّن ذلك أن الحَطْمَ في اللغة هو الهَشْمُ، مع اختصاصه بما هو يابس، أو صلب. والحطمة من أسماء النار؛ لأنها تحطم ما يلقى فيها. وعن بعض العرب: قد تحطمت الأرض يبسًا، فأنشبوا فيها المخالب، وهي المناجل. أي: تكسرت زروع الأرض، وتفتتت لفرط يبسها، فجزوها. ومن هنا نجد القرآن الكريم يستعمل لفظ الحطم للزرع اليابس المتكسر. قال تعالى:
" أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ "(الزمر: 21)
وقد ثبت للعلماء أن الزرع يحتوي في ساقه وورقه على نسب كبيرة من الزجاج؛ ولهذا نراه يتكسر حين يصفر، كما يتكسر الزجاج. وكذلك النمل، فقد ثبت أن جسم النملة يحتوي على نسبة كبيرة من الزجاج، وأنه مغلف بغلاف صلب جداً قابل للتحطم؛ كالزرع اليابس، والزجاج الصلب. وذلك يشكل إعجازًا علميًّا من إعجاز القرآن إلى جانب إعجازه البياني، الذي يسمو فوق كل بيان!
وبعد.. فقد أدركت هذه النملة الضعيفة فخامة ملك سليمان، وأحسَّت بصوت جنوده قبل وصولهم إلى وادي النمل، فنادت قومها، وأمرتهم بالدخول في مساكنهم أمر من يعقل، وصدر من النمل الامتثال لأمرها، فأتت بأحسن ما يمكن أن يؤتى به في قولها من الحكم، وأغربه، وأفصحه، وأجمعه للمعاني؛ ولهذا تبسم سليمان عليه السلام حين سمع قولها، وروي عنه- عليه السلام- أنه قال لها: لم قلت للنمل:" ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ "؟ أخفت عليهم من ظلمنا ؟! فقالت: لا، ولكن خفت أن يفتتنوا بما يرَوْا من ملكك، فيشغلهم ذلك عن طاعة الله !
وفي حديث سليمان- عليه السلام- مع النملة، وحديثها مع قومها إعجاز آخر من إعجاز القرآن. فقد أثبت العلماء أن للنمل لغته الخاصة، التي يتفاهم بها، كما أثبت أن النملة المؤنثة هي التي ترعى قومها، وتتولى الدفاع عنهم، وتنبههم لأي خطر قادم، أو مفاجىء، وليس للذكر أي دور في ذلك؛ لأن مهمته مقتصرة على تلقيح الأنثى العذراء مرة واحدة في حياته، ثم يختفي.(1/2)
وأسرار النمل وعجائبه كثيرة، ليس هذا المقال موضع بسطها، ويكفي أن أشير إلى أن النمل- على ضعفه- مخلوق قويُّ الحسِّ، شمَّامٌ جدًّا، نشيط جدًّا، يتميز بذكاء خارق، وقبل تخزين الحب يقوم يشق الحبة من القمح قطعتين؛ لئلا تنبت، ويشق الحبة من الكزبرة أربع قطع؛ لأنها إذا قطعت قطعتين أنبتت، والحب الذي لا يستطيع شقه، يقوم بنشره تحت أشعة الشمس بصفة دورية ومنظمة، حتى لا يصيبه البلل، أو الرطوبة فينبت، ويأكل في عامه بعض ما يجمع، ويدَّخر الباقي عدة أعوام، وحياته مثل حياة النحل دقيقة التنظيم، تتنوع فيها الوظائف، وتؤدى جميعها بإتقان رائع، يعجز البشر غالبًا عن إتباع مثله، على الرغم مما أوتوا من عقل راق، وإدراك عال.
بقي أن تعلم أن النمل يضرب المثل به في الضعف والقوة والكثرة، فمن أمثال العرب قولهم:" أضعف وأكثر وأقوى من النمل ". وحكي أن رجلاً قال لبعض الملوك: جعل الله قوَّتك مثل قوة النمل، فأنكر عليه ذلك، فقال: ليس من الحيوان ما يحمل ما هو أكبر منه إلا النملة، وقد أهلك الله تعالى بالنمل أمة من الأمم، وهي جرهم. ومن أمثالهم أيضًا قولهم:" أحرص من نملة، وأروى من نملة " لأنها تكون في الفلوات، فلا تشرب ماء.
فتأمل حكمة الله تعالى في أضعف خلقه، وردِّدْ مع سليمان- عليه السلام- قوله:" رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ".. والحمد لله رب العالمين !
الأستاذة: رفاه محمد علي زيتوني
=============
الرسم القرآني وأسراره
إعداد المهندس محمد شملول
مهندس مدني وكاتب إسلامي مصري
إن القرآن الكريم الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نقرأه أناء الليل وأطراف النهار ونتدبر كلماته ومعانيها هو نفسه الكتاب الذي أنزل من اللوح المحفوظ في شهر رمضان دون زيادة أو نقصان, حيث أنزله الله سبحانه وتعالى من اللوح المحفوظ جملة واحدة في ليلة القدر المباركة, قال الله عزّ وجل: "إنا أنزلناه في ليلة القدر{1}"[سورة القدر]. وقال سبحانه وتعالى: "حم{1} والكتاب المبين{2} إنا أنزلناه في ليلة مباركة{3}"[الدخان].
فَوضِعَ في بيت العزة في السماء الدنيا، ثم كان جبريل عليه السلام يَنزل به منجماً بالأوامر والنواهي والأسباب، وذلك في حياة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم. [1].
وأقسم الله سبحانه وتعالى بالكتاب المبين الذي أنزله بلسان عربي متحدياً البلغاء والشعراء أن يأتوا بسورة من مثله ولو كان بعضهم لبعض عوناً وظهيراً,
قال الله تبارك وتعالى: "حم{1} والكتاب المبين{2} إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون{3}".[الزخرف].
و(جعلناه) أي سميناه ووصفناه, ولذلك تعدى الفعل جعل إلى مفعولين.
و(قرآناً عربياً) أي أنزلناه بلسان العرب لأن كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه, وقال مقاتل: لأن لسان أهل السماء عربي.[2].
والقرآن الكريم ليس أمر ونهي وكلمات ومعاني فقط بل ورسم أيضاً
والمقصود بالرسم القرآني هو رسم الكلمات القرآنية من حيث نوعية حروف كل كلمة وردت في القرآن الكريم وعدد حروفها.
وليس المقصود منه نوعية خط الكتابة سواء نسخ أو كوفي أو غيره, فقد أجمع معظم العلماء أن رسم المصحف هو توقيفي لا يجوز مخالفته واستدلوا على ذلك من قول الله سبحانه وتعالى:
"وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى {1} مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى {2} وَمَا يَنطِقُعَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {4} عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى {5}"[سورة النجم].
وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان له كتّاب يكتبون الوحيكلما نزل شيء من القرآن أمرهم بكتابته, مبالغة في تسجيله وتقييده, وزيادة في التوثيق والضبط والاحتياط في كتاب الله تعالى, حتى تظاهر الكتابة الحفظ ويعاضد النقش اللفظ.
وقد كتبوا القرآن فعلا بهذا الرسم وأقرهم الرسول على كتابتهم, وكان هؤلاء الكتاب من خيرة الصحابة, فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية وأبان بن سعيد وخالد بن الوليد وأُبي بن كعب وزيد بن ثابت وثابت بن قيس.
ثم جاء الصديق أبو بكر رضي الله عنه فكتب القرآن بهذا الرسم في صحف, ثم حذا حذوه عثمان بن عفان رضي الله في خلافته فاستنسخ تلك الصحف في مصاحف وأقرَّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمل أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين. وانتهى الأمر إلى التابعين وتابعي التابعين فلم يخالف أحد منهم في هذا الرسم.{3}.
وبالرسم القرآني حروف كثيرة جاء رسمها مخالفا لأداء النطق, وكلمات تأتي في آيات قرآنية برسم مختلف, وكلمات أخرى تأتي برسم يختلف عن الرسم المعتاد. وكلمات تنقص أو تزيد حروفها. وكلّ ذلك لأغراض شريفة وهي من الأسرار التي خصّ الله بها كتابه العزيز.(1/3)
وذكر العلامة ابن المبارك نقلا عن العارف بالله شيخه عبد العزيز الدباغ, إذ يقول في كتابه(( الإبريز)) ما نصه: ( رسم القرآن سرٌّ من أسرار الله المشاهدة وكمال الرفعة وهو صادرٌ من النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي أمر الكُّتاب من الصحابة أن يكتبوه على هذه الهيئة فما نقصوا ولا زادوا على ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة وإنما هو توقيف من النبي صلوات الله وسلامه عليه وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على هذه الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها لأسرار لا تهتدي إليها العقول, وهو سر من الأسرار خصَّ الله تعالى به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية, وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه معجز, وكل ذلك لأسرار إلهية وأغراض نبوية, وإنما خفيت على الناس, لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني فهي بمنزلة الألفاظ والحروف المقطعة التي في أوائل السور فإن لها أسراراً عظيمة ومعاني كثيرة, وأكثر الناس لا يهتدون إلى أسرارها, ولا يدركون شيئاً من المعاني الإلهية التي أُشيرَ إليها, فكذلك أمرُ الرسم الذي في القرءان حرفاً بحرف.
وقال الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله): تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف, أو غير ذلك.
وإنه لممّا يطمئن له القلب ويرتاح له الفكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أملى كتابة الرسم القرآني على كتّاب الوحي حسب الرسم المنزل عليه والذي نزل به الروح الأمين جبريل عليه السلام, ومما يؤيد ذلك أن أول كلمة قرآنية نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم كانت (اقرأ) وهي تعني اقرأ القرآن من الكتاب, حتى إنَّ الرسول الأكرم ردّ على جبريل عليه السلام قائلا: ما أنا بقارئ.
ولو كان قرءانا فقط لكانت أول كلمة هي: قل.
وقد ورد في السيرة النبوية لابن هشام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال: اقرأ. قلت: ما أقرأ..... الخ. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين{2}".[سورة البقرة].
إنها إشارة على الكتاب الذي جاء به جبريل حين قال له: اقرأ. كذلك فإن ما يؤيّد ذلك أيضاً قول الله تعالى: "رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة, فيها كتب قيمة{2}"[البينة]. وقوله تعالى: "بل هو قرآن مجيد{21} في لوح محفوظ{22}"[سورةالبروج].
وفي هذه الدراسة نتعرض لبعض هذه الكلمات القرآنية التي جاء رسمها مخالفاً للقواعد الإملائية ونحاول أن نتلمس الحكمة في ذلك لأننا نعتقد كما قال الإمام الرازي إن كل حرف وكل كلمة وكل حركة في القرآن الكريم لها فائدة, ونحاول في هذه الدراسة أن نلتمس الحكمة وبالطبع لن نصل إليها كاملة فهناك متسع لمزيد من الاجتهادات والتدبر في معاني هذه الكلمات القرآنية وأسرارها.
ونضرب هنا أمثلة لبعض الكلمات القرآنية التي جاءت على رسم مختلف.
- لماذا جاءت (بسم) بدون ألف حينما نسبت إلى لفظ الجلالة(الله) وجاءت برسمها المعتاد(باسم) حين نسبت إلى ربك.
- لماذا جاءت (رءى) في القرآن الكريم كلّه ما عدا موضعين اثنين فقط جاءت برسم (رأى).
- لماذا جاءت (تشاء) برسمها المعتاد في جميع القرآن الكريم ما عدا مرة واحدة فقط جاءت برسم مختلف( نشؤا).
- لماذا جاءت كلمة (تسطع) مرة واحدة ناقصة حرف تاء بهذا الرسم وكلمات أخرى كثيرة جاءت بشكل مختلف نتعرض لها في هذا القسم ذلك بعد دراسة الآيات الكريمة التي أحاطت بهذه الكلمات وتدبر المعاني التي احتوتها والغاية من ذلك. ومن خلال الدراسة لهذه الكلمات فقد تبين على وجه العموم الآتي:
- إن وجود كلمة قرآنية برسم مختلف في آية يلفت النظر إلى أن هناك أمراً عظيماً يجب تدبره.
- في حالة زيادة أحرف الكلمة عن الكلمة المعتادة فإن هذا يعني زيادة في المبنى يتبعه زيادة في المعنى.
- كذلك فإن زيادة المبنى يمكن أن يؤدي إلى معنى التراخي أو التمهل أو التأمل والتفكر أو انفصال أجزاءه.
- في حالة نقص حروف الكلمة فإن هذا يعني إما سرعة الحدث أو انكماش المعنى وضغطه أو تلاحم أجزائه.{5}.
هذا هو كتاب الله سبحانه وتعالى أنزله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا, وأنزله الروح الأمين على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم منجماً, وتكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه من التحريف بالزيادة أو النقصان.
قال الله سبحانه: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {9}".[سورة الحجر].
الإعجاز في حذف بعض الأحرف من بعض الكلمات
أ- حذف الألف
بسم - باسم
وردت كلمة (بسم) ثلاث مرات في القرآن (بخلاف فواصل السور):
{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [الفاتحة: 1].
{ بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [هود: 41].
{ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [النمل: 30].
كما وردت كلمة (باسم) أربع مرات في القرآن:
قال الله تعالى: { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الواقعة: 73-74].(1/4)
{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الواقعة: 95-96].
{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [العلق: 1].
{ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الحاقة: 51-52].
لماذا وردت كلمة (بسم) في الحالات الأولى مقصورة بدون ألف ووردت في الحالات الأخرى كلمة (باسم) كاملة بدون قصر.
إن حذف الألف من كلمة (بسم) والتي جاء بعدها لفظ الجلالة (الله) يدل ويوحي بأنه يجب علينا الوصول إلى الله سبحانه وتعالى وعمل الصلاة معه بأقصر الطرق وأسرع الوسائل وهو ما يدل عليه { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6]، وهو الذي يوصل بأسرع وأقصر الطرق... والحرف الوحيد الذي يمكن حذفه من كلمة (باسم) دون تغيير نطق الكلمة هو حرف الألف.. لذا فقد تم حذفه للتوجه إلى الله وأخذ البركة منه في أي عمل نعمله بأسرع ما يمكن وبأقصر طريق... ولفظ الجلالة (الله) هو العلم على الذات الإلهية ولا يشاركه فيه أحد.. أما في الحالات الأخرى والتي ورد فيها (باسم) فإن كلمة (ربك) تأتي مشتركة بين الله سبحانه وتعالى وخلقه فقد جاء في الآية 42 من سورة يوسف قوله للساقي: { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } [يوسف: 42]...
إن حذف حرف من الكلمة يضغط مبناها ويسرع من واقعها فتؤدي المعنى المطلوب وهو السرعة على خير وجه وهذا إعجاز القرآن الكريم والرسم القرآني...
سموات – سموات
وردت كلمة (سموات) بهذا الرسم بدون ألف صريحة 189 مرة في القرآن الكريم كله... ووردت مرة واحدة فقط بألف صريحة بعد حرف (و) بالرسم القرآني (سموات) وذلك في الآية الكريمة رقم 12 من سورة فصلت والتي يقول سبحانه فيها: { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ }...
وحين نتدبر هذه الآية الكريمة وما قبلها من آيات نجد أن القرآن الكريم يتعرض لقضية كبرى هي قضية خلق السماوات والأرض وترتيب هذا الخلق ومدته وتقدير الأقوات في الأرض لذا فإن القضية مهمة جداً وتحتاج إلى تدبر وتفكر وعليه فقد جاءت كلمة (سموات) بالرسم الغير عادي هذه المرة لتفت النظر إلى ضرورة الوقوف وتدبر المعاني الجليلة لهذه الآيات والتي صعب فهمها على بعض الناس خاصة في حساب أيام الخلق الستة حيث لم يقدّر لهم فهم جملة (أربعة أيام سواء) بأن هذه الأيام تشمل يومي خلق الأرض والتي قول فيها سبحانه: { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [فصلت: 9-12].
الميعاد – الميعد
وردت كلمة (الميعاد) وذلك بألف صريحة في وسط الكلمة 5 مرات في القرآن الكريم كله... وكلها تتكلم عن الميعاد الذي وعده الله.. لذلك جاء هذا الميعاد واضحاً وصريحاً ولا ريب فيه..
ونذكر فيما يلي الآيات الكريمة التي وردت فيها كلمة (الميعاد):
قال تعالى:
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [آل عمران: 9].
{ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [آل عمران: 194].
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [الرعد: 31].
{ { قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ } [سبأ: 30].
{ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ } [الزمر: 20].
غير أن هذه الكلمة وردت مرة واحدة فقط وذلك برسم يختلف بدون ألف صريحة على شكل (الميعد) وذلك حين نسب هذا الميعاد إلى البشر حيث قال تعالى: { وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَدِ } [الأنفال: 42].
سعوا – سعو
وردت (سعوا) بشكلها العادي مرة واحدة، ووردت (سعو) بشكلها الغير عادي بدون ألف في آخرها مرة واحدة أيضاً في القرآن الكريم كله، وتوحي كلمة (سعو) بنقص الألف في آخرها أن هذا السعي سريع جداً وكله نشاط وهو حسب الآية الكريمة سعي في إنكار آيات الله وهو ما جلب على الكافرين عذاب من رجز أليم في الدنيا... بالإضافة إلى عذاب جهنم في الآخرة..
- { وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [الحج: 51].
- { وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ } [سبأ: 5]. أي في الدنيا بالإضافة إلى عذاب الآخرة.
صحب – صاحب
في الآية 34 من سورة الكهف يقول القرآن الكريم على لسان مالك الجنين: { فَقَالَ لِصَحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ }. حيث جاءت كلمة (صحبه) بألف متروكة لتبين ما كان يظنه مالك الجنتين من أن صاحبه ملتصق به التصاقاً كاملاً سواء في الرفقة أو الإيمان...(1/5)
غير أن الرد يأتيه من صاحبه المؤمن في الآية 37 من نفس السورة: { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } حيث جاءت كلمة (صاحبه) بألف صريحة فارقة لتوضح لقارئ القرآن أن هذه الصحبة في الرفقة فقط وأما في الإيمان فهناك افتراق ومسافة بينهما.. وقد جاء هذا المعنى أيضاً واضحاً في حق الرسول صلى الله عليه وسلم حينما نُسب إلى قومه فجاءت كلمة (صاحبكم) بالألف الصريحة مفرقة بينه وبين قومه في الإيمان بالرغم من مصاحبته لهم في المكان والزمان.. وذلك في الآيات الكريمة الآتية:
{ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } [سبأ: 46].
{ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } [النجم: 2].
{ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } [التكوير: 22].
{ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ } [الأعراف: 184].
غير أنه حين يتكلم القرآن الكريم عن سيدنا أبي بكر صاحب رسول الله تأتي (صحبه) بألف متروكة لتبين مدى الالتصاق بينهما وتوضح الصحبة الحقيقية في الرفقة والإيمان:
{ إِذْ يَقُولُ لِصَحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [التوبة: 40]، وهذا يبين جزءاً من الحكمة في كتابة الكلمة القرآنية باستخدام الألف الصريحة والمد بالألف المتروكة كما سبق أن أوضحنا...
حذف حرف الواو
من بعض الأفعال
ورد في كتاب (مناهل العرفان) للزرقاني: أنه تم كتابة هذه الأفعال الأربعة بحذف الواو وهي:
(ويدعو الإنسان - ويمحو الله الباطل - يوم يدعو الداع - سندع الزبانية) ولكن من غير نقط ولا شكل في الجميع.
قالوا: والسر في حذفها من (ويدع الإنسان) هو الدلالة على أن هذا الدعاء سهل على الإنسان يسارع فيه كما يسارع إلى الخير....
والسر في حذفها من (ويمح الله الباطل) الإشارة إلى سرعة ذهابه واضمحلاله...
والسر في حذفها من (يوم يدع الإنسان) الإشارة إلى سرعة الدعاء وسرعة إجابة الداعين...
والسر في حذفها من (سندع الزبانية) الإشارة إلى سرعة الفعل وإجابة الزبانية وقوة البطش.. ويجمع هذه الأسرار قول المراكشي: (والسر في حذفها سرعة وقوع الفعل وسهولته على الفاعل، وشدة قبول المنفعل المتأثر به في الوجود).
وسئل - فسئل
ورد في القرآن الكريم كله فعل الأمر من (سأل) ناقصاً حرف (ا) في البداية... ونذكر فيما يلي نماذجاً من الآيات الكريمة التي ورد فيها هذا الفعل:
قال تعالى: { فَسْئلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ } [يونس: 94].
- وقال تعالى: { وَسْئلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا } [يوسف: 82].
- وقال تعالى: { وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } [النساء: 32].
- وقال تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ } [النحل: 43].
ويدل حذف حرف (ا) من مبنى الكلمة الأصلية وهو (اسئل) أو (اسأل) على أن الكلمة القرآنية في رسمها تعبر عن المعنى أصدق تعبير إذ أن السؤال دائماً يأتي في عجلة وسرعة فقلما ينتظر الإنسان فهو دائماً يريد سرعة الإجابة.. لذلك جاءت كلمة (سئل) في فعل الأمر ناقصة حرفاً لتحض على سرعة السؤال انتظاراً لسرعة الإجابة.
وكما ذكرنا فإن نقص مبنى الكلمة يدل على العجلة والسرعة وعدم الصبر....
أيد - أييد
وردت كلمة (أيد) وهي جمع (يد) مرتين في القرآن الكريم كله بهذا الرسم العادي وذلك في الآيتين التاليتين:
قال تعالى: { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا } [الأعراف: 195].
وقال تعالى: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ص: 17].
غير أنها وردت مرة واحدة برسم مختلف يزيد حرف (ي) في منتصفها وذلك في الآية الكريمة الآتية:
قال تعالى: { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات: 47].
وكما سبق أن ذكرنا فإن زيادة المبنى يدل على زيادة المعنى فهل هناك أشد من خلق السماء...؟
{ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا } [النازعات: 27]، إن زيادة حرف (ي) في كلمة (أيد) يوضح قوة وشدة السماء ومتانة سمكها وبنائها...
إن شاء الله تعالى سوف نعرض المزيد من الدراسات في مقالات أخرى
المراجع:
القرآن الكريم
1 - الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي ج2 في تفسير الآية 185 من سورة البقرة.
2 - الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي في تفسير الآيات الثلاث الأولى من سورة الزخرف.
3 - كتاب مناهل العرفان للزرقاني.
4- ((كتاب تأملات في إعجاز الرسم القرآني وإعجاز التلاوة والبيان )) للمهندس: محمد شملول.
================
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
قال الله جل وعلا:" فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ "(الحاقة: 38- 43)(1/6)
أولاً- في هذه الآيات الكريمة يقرر الله جل وعلا تقريرًا حاسمًا جازمًا حقيقة هذا القول، الذي جاء به الرسول الكريم، هذا القول، الذي تلقَّاه الكفرة والمشركون بالرَّيب، والسخرية، والتكذيب. ويؤكِّد سبحانه وتعالى على أنه حق ثابت؛ لأنه صادر عن الحق، وينفي على سبيل القطع والجزم أن يكون شعر شاعر، أو كهانة كاهن، أو افتراء مفتر؛ ولهذا فهو أوضح من أن يحتاج إلى قسم لتوكيده بشيء مما نبصر، وبأشياء مما لا نبصر من مشاهد هذا الكون العجيب.
وقد كان مما تقوَّل به المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم: إنه شاعر، وإنه كاهن، متأثرين في هذا بشبهة سطحية، منشؤها أن هذا القول فائق في طبيعته على كلام البشر، وأن الشاعر في وهمهم له من الجن من يأتيه بالقول الفائق، وأن الكاهن كذلك متصل بالجن، فهم الذين يمدونه بعلم ما وراء الواقع.. وهي شبهة تسقط عند أقل تدبر لطبيعة القرآن والرسالة، وطبيعة الشعر والكهانة، وهي شبهة واهية سطحية، حتى حين كان القرآن الكريم لم يكتمل، ولم تتنزل منه إلا سور وآيات، عليها ذلك الطابع الإلهي الخاص، وفيها ذلك القبس الموحي بمصدرها الفريد ، وهو الله جل في علاه !
وكبراء قريش وصناديدها كانوا يراجعون أنفسهم، ويردُّون على هذه الشبهة بين الحين والحين؛ ولكن الغرض يعمي البصائر عن رؤية الحق، ويصمُّ الآذان عن سماعه..
" وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ "(الأحقاف: 11)
وقد حكت كتب السيرة مواقف متعددة لزعماء قريش، وهم يراجعون هذه الشبهة، وينفونها فيما بينهم، ومن ذلك ما رواه ابن اسحق عن الوليد بن المغيرة، وعن النضر بن الحارث، وعن عتبة بن ربيعة..
فما كان قولهم: ساحر، أو كاهن، أو غير ذلك إلا حيلة ماكرة أحيانًا، وشبهة مفضوحة أحيانًا.. والأمر أوضح من أن يلتبس عند أول تدبُّر، وأول تفكُّر، وهو من ثمَّ لا يحتاج إلى قسم بما يبصرون، وما لا يبصرون:
" إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ "
" وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ " إنما هو:
" تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ "
وكانت مواقفهم تلك من القرآن الكريم من أهم الأسباب الداعية إلى التحدي. ولقد عجبت من أحد المساكين، الذي عرَّف بنفسه أنه باحث عقلاني في القرآن الكريم، حين سمعته يكفِّر كل من يقول بالتحدي في القرآن، ويسفِّه رأيه؛ لأن الله سبحانه- على حدِّ زعمه- لا يليق به أن يتحدَّى البشر؛ بل يليق به أن يستهزئ بهم.
وسأنقل هنا شيئًا مما قاله هذا الباحث العقلاني في هذا الصدد، وأترك للقارئ الكريم التعليق عليه. ومن يدري فلعله يكون محقًّا فيما قاله! ومن ذلك قوله:
" الله نسب الاستهزاء بالكفرة إلى نفسه، فذلك يجوز في حقه، ولم ينسب التحدي؛ لأنه لا يجوز. ومن ظن أن الآيات فيها شبهة تحدًّ، فهو واهم، والله لا يستحي أن يقول للكفرة: إني أتحداكم نصًّا صريحًا في القرآن، أو على لسان رسوله الكريم؛ ولكن ليس هناك من أثر واحد فيه دعوة الله تعالى بالتحدي؛ وإنما هي نصوص أولها الناس على التحدي، وهذا ما لا يجوز بحقه سبحانه وتعالى ".
وأضاف هذا المسكين قائلاً:
" هل خرج سيدنا محمد على كفار قريش، وقال لهم إني جئتكم بقرآن من ربكم، أتحداكم أن تؤتوا بمثله ؟ أين الجهابذة عندكم ، فليعارضوا القرآن، وهو معجزة؛ لأنكم لا تستطيعون أن تأتوا بمثله ؟ هل جاء بالأثر مثل هذا ؟؟؟ لا، والله ، ما جاء؛ ولكنه وهم، وتحريف للكلم عن مواضعه.. شهادة بالغة لله في عنقي، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل ".
" رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا "، ونوِّر بصائرنا، " فََإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ "
ثانيًا- ذكرت في مقالي السابق " فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ " أن الله تعالى بعد أن قرَّر في مكة المكرمة عجز الإنس والجن مجتمعين عن الإتيان بمثل القرآن العظيم ، تحدَّى الخلق عامة، والمكذبين خاصة أن يأتوا:
" بِسُورَةٍ مِثْلِهِ "(يونس: 37)
و" بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ "(هود: 13)
و" بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ "(الطور: 34)
ثم أعاد سبحانه وتعالى هذا التحدي في المدينة المنورة بعد الهجرة، فأمر الناس جميعهم عامة، والمرتابين في القرآن الكريم من كفار العرب، ومشركيهم خاصة أن يأتوا بسورة واحدة من هذا المِثل للقرآن، وأسجل عليهم إسجالاً عامًا إلى يوم القيامة، أنهم لم يفعلوا، ولن يفعلوا ذلك أبدًا، فليتقوا النار، التي وقودها الناس والحجارة، أعدت للكافرين، من أمثالهم.
وذكرت في مقالي الآخر " لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ " أن قول الله عز وجل:
" قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ "(الإسراء: 88)(1/7)
كان بمثابة الإعلان في مكة على لسان النبي عليه الصلاة والسلام بعجز العرب قاطبة، والأمم عامة، إنسهم وجنهم، عن الإتيان بمثل هذا القرآن العظيم عجزًا مطلقًا، ولو تظاهروا على ذلك. وهذا ما دل عليه فعل الإتيان المنفي بـ" لَا " نفيًا شاملاً على سبيل القطع والجزم في قوله تعالى:
" لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ "
فأفاد النفيُ بها أن الإتيان بمثل هذا القرآن، لا يمكن أبدًا، وأنه فوق طاقة الخلق من الإنس والجن مجتمعين.
ثم ذكرت أن هذا المثل للقرآن ليس مثلاً مفترضًا- كما هو الشائع- وإنما هو مثل موجود، وبينت بالأدلة والبراهين على وجود هذا المثل بما لا يدع مجالاً لأحد أن يشك في وجوده، ويكفي في بيان ذلك وإثباته أن الله تعالى أقسم على أنه مثل موجود:
" قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ "
وذكرت أيضًا أنه ليس في هذه الآية الكريمة ما يشير لا من قريب، ولا من بعيد إلى أن الله تعالى طلب من المكذبين خاصة، والناس عامة أن يأتوا بمثل هذا القرآن، خلافًا للمشهور؛ إذ كيف يعلن الله تعالى عجز الإنس والجن على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم عن الإتيان بهذا المثل للقرآن، ثم يطلب من الناس أن يأتوا بهذا المثل ؟
نعم لقد تحداهم في المدينة أن يأتوا:" بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ "، حين كانوا في ريب منه، وأن الجن- على حدِّ زعمهم- كانت تتنزل به على محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال تعالى:
" وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ "(البقرة: 23)
ثم أسجل عليهم إسجالاً عامًا إلى يوم القيامة، أنهم لم يفعلوا، ولن يفعلوا ذلك أبدًا؛ ولهذا انتقل سبحانه وتعالى إلى إرشادهم، فقال:
" فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ "(البقرة: 24)
وقد سبق ذلك كله قول الله تعالى:
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ "(البقرة:21-22)
والخطاب هنا عام للناس كل الناس، في كل زمان وكل مكان، إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. وليس فيه ما يشير إلى أن الله تعالى تحدَّى العرب أن يأتوا بسورة من مثل سور القرآن في بلاغته وفصاحته ونظمه، وإن كانوا أصحاب بلاغة وفصاحة، ففي ذلك تحميل للفظ ما لا يحتمله.
وما في اللفظ يدل على خلاف ذلك..
ففي اللفظ قوله تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ "، وهو خطاب يراد به العموم، والعرب بعض من هذا العموم.
وفي اللفظ قوله تعالى:" وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا "، والريب هو الشك بتهمة، وهو معلق بإن الشرطية، التي تدل على إمكان حدوث ما بعدها، وعدم إمكان حدوثه. وحدوثه، إن كان مع قلته، أخطر تهمة توجه إلى القرآن الكريم، فهو أخطر من الافتراء، ومن التقوُّل، ومن غيرهما.
ولهذا نجد آيات القرآن الكريم تتكرر في أكثر من موضع نافية على سبيل الاستغراق والشمول لكل جنس من أجناس الريب في القرآن، وتؤكد على أنه تنزيل من الله جل وعلا؛ لأنه المعجزة الكبرى، التي أيَّد الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الآيات قوله تعالى:
" ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ "(البقرة: 2)
" تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ "(السجدة: 2)
" لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ "(فصلت: 42)
وفي اللفظ قوله تعالى:" فَأْتُوا بِسُورَةٍ "، والإتيان بالشيء يكون بالمجيء به، أو جلبه من مكان بعيد إلى مكان قريب بسهولة ويسر، دون جهد يبذل. ويكون ذلك إما بالاسترفاد من الغير كما في قوله تعالى هنا:
" فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ "
أو يكون ذلك بالاختراع من الجالب كما في قوله تعالى:
" فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ "(البقرة: 258)
وفي اللفظ قوله تعالى:" مِنْ "، وهي لابتداء الغاية، مثلها في قوله تعالى:
" فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعُهُ "(القصص: 49)(1/8)
وفي اللفظ قوله تعالى:" مِثْلِهِ "، ومِثْلُ الشيء، بكسر فسكون، هو المساوي للمثل الآخر المتفق معه في الجنس في تمام ذاته، أو حقيقته وماهيته، أو جوهره، لا في صفاته؛ فإن المثل لا يكون مثلاً لغيره، إلا وذلك الغير مثلاً له. والمثلان- بإجماع علماء التوحيد- هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته، بحيث يسد مسدَّه. والشيء- كما قال أبو هلال العسكري- لا يكون مثل الشيء في الحقيقة، إلا إذا أشبهه من جميع الوجوه لذاته، وأن التشبيه بالكاف يفيد تشبيه الصفات بعضها ببعض، وبالمثل يفيد تشبيه الذوات بعضها ببعض. وقد بينت ذلك ووضحته في مقالي المذكور:
" لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ "
فليس من الصواب في شيء بعد هذا كله أن يقال: إن الله تحدى العرب بأن يقولوا مثل هذا القرآن، أو سورة واحدة مثل سور هذا القرآن في بلاغته وفصاحته وحسن نظمه، وما أشبه ذلك؛ لأنها صفات خارجة عن ذات الشيء وجوهره، أو حقيقته وماهيَّته، لا يعبَّر عنها بلفظ المِثْل. ومن قال خلاف ذلك، فإنه لا يعرف جوهر الكلام، ولا يدرك شيئًا من أسرار البيان. وما أظن أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم كانوا يفهمون معنى المثلية في هاتين الآيتين كما فهمها جمهور المفسرين، وأعني: المثلية في قوله تعالى:
" لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ "(الإسراء: 88) ، وقوله تعالى:
" فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ "(البقرة: 23)
ثالثًا- وحدث- بين الإعلان عن عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل هذا القرآن " لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ "، وبين تحدِّي الناس كلهم أن يأتوا بسورة من هذا المثل للقرآن " فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ "- أن اعترض الكفار في مكة على صحة دعوى نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وأن ما جاء به من القرآن ليس بكلام الله، وأنه إنما أتى به من عند نفسه على سبيل الافتراء تارة، وعلى سبيل التقوُّل تارة أخرى، فبيَّن الله تعالى في هذين المقامين أن إتيان محمد عليه الصلاة والسلام بهذا القرآن ليس على سبيل الافتراء على الله تعالى، وليس على سبيل التقوُّل على الله جل وعلا؛ ولكنه وحي نازل عليه من عند الله تعالى، فقال سبحانه في الرد على القائلين بالافتراء:
" وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ "(يونس: 37)
فنفى سبحانه أن يكون هذا القرآن مفترى من دون الله. أي: ما ينبغي لبشر أن يفتري هذا القرآن، وينسبه إلى الله جل وعلا. فنفى تعالى فعل ذلك، ونفى احتمال فعله، وأخبر بأن مثل هذا لا يقع؛ بل يمتنع وقوعه، فيكون المعنى: ما يمكن، ولا يحتمل، ولا يجوز أن يفترى هذا القرآن من دون الله، فإن الذي يفتريه من دون الله مخلوق، والمخلوق لا يقدر على ذلك.
ثم قال سبحانه في الرد على القائلين بالتقوُّل:
" أََمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُون "(الطور: 30- 33)
وهو حكاية لإِنكارهم أن يكون القرآن وحيًا من الله سبحانه، فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم تقوّله على الله سبحانه. فالاستفهام إنكار لقولهم، واستبعاد له. وهم قد أكثروا من الطعن، وتمالؤوا عليه؛ ولذلك جيء في حكايته عنهم بصيغة الحاضر:" يَقُولُونَ "، المفيدة للتجدد، ثم أتبع بقوله تعالى:" تَقَوَّلَهُ "، بدلاً من قوله، فيما تقدم:" افْتَرَاهُ "؛ وذلك لاختلاف المقامين.
والتقوُّل معناه: قال عن الغير: إنه قاله. فهو عبارة عن كذب مخصوص؛ كقوله تعالى:
" وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ "(الحاقة: 38)
أي: قال عنا ما لم نقله. وليس كذلك الافتراء؛ إذ كل تقوُّل افتراء، وليس كل افتراء بتقوُّل.
ولهذا شدَّد الله جل وعلا في وعيد من يتقوَّل عليه ما لم يقله، فقال في جواب الآية السابقة:
" لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ "(الحاقة: 39- 40)
ثم قال تعالى:" بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ " جوابًا لقوله:" أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ "، فابتدأ الرد عليهم؛ لتعجيل تكذيبهم قبل الإِدلاء بالحجة عليهم؛ وليكون ورود الاستدلال مفرَّعًا على قوله:" لَا يُؤْمِنُونَ "، بمنزلة دليل ثان.
والمعنى: لا يؤمنون بسبب كفرهم وعنادهم، مع أن دلائل تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن تقوّل القرآن الكريم بيِّنةٌ لديهم؛ ولكنهم أبوا أن يؤمنوا، وبادروا إلى الطعن في القرآن الكريم دون نظر، وشرعوا يلقون المعاذير سترًا لمكابرتهم، وجهلهم، وغرورهم؛ من نحو ما كانوا يقولونه من وجوه اعتراضهم على القرآن ممَّا حُكِيَ عنهم؛ كقوله تعالى:
" وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ "(الأنفال: 31) ، وقوله تعالى:(1/9)
" وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ "(يونس: 15) ، وقوله تعالى:
" وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ "(الزخرف: 30- 31 )
فأخبر تعالى عنهم: أنهم ادعوا مرة القدرة على أن يقولوا مثل القرآن، ووصفوه بأكاذيب الأولين، وحكاياتهم المسطرة في كتبهم؛ كالأضاحيك والأعاجيب. وأنهم طلبوا منه مرة الإتيان بغير القرآن مرة، أو تبديله. وأنهم قالوا مرة، لما جاءهم: هذا سحر، وكفروا به، ثم قالوا: لولا نزِّل هذا القرآن على رجل غيره عظيم؛ كالوليد بن المغيرة بمكة، أو عروة بن مسعود الثقفي بالطائف.. إلى آيات كثيرة في نحو هذا، تدل على أنهم كانوا متحيرين في أمرهم، متعجبين من عجزهم، يفزعون إلى نحو هذه الأمور، من تعليل وتعذير ومدافعة بما وقع التحدي إليه، ووجد الحثُّ عليه.
رابعًا- وقد احتج الله تعالى على صحة هذا القرآن، وأنه ليس بمفترى، بأن أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يجيب الكافرين عن دعوى الافتراء بتعجيزهم، وأن يقطع الاستدلال عليهم، ويبطل بذلك دعواهم بافترائه، فقال سبحانه:
" أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ "(يونس: 38)
ثم قال سبحانه:
" أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ "(هود: 13)
فتحداهم أن يأتوا " بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ". ثم تحداهم أن يأتوا" بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ "
وطلب منهم في الموضعين أن يستعينوا بمن أمكنهم الاستعانة به من المخلوقين من دون الله، إن كانوا صادقين، فقال سبحانه:
" وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ "
ومن المحال أن يأتيَ واحد منهم بكلام، يفتعله ويختلقه من تلقاء نفسه، ثم يطالبهم أن يأتوا بسورة مثله، أو بعشر سور مثله مفتريات، ثم يعجزون جميعهم عن ذلك.
ومن الواضح أن الآيتين السابقتين قد وردتا على نمط واحد من الأسلوب. والفرق الوحيد بينهما هو أن التحدي في الأولى أتى" بِسُورَةٍ مِثْلِهِ "، وفي الآية الثانية أتى" بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ". وما عدا ذلك فكل ما فيهما مماثل للآخر.
وأول ما يلفت النظر- هنا- هو تصدُّر الآيتين الكريمتين بـ" أَمْ "، وهي للإضراب الانتقالي من النفي إلى الاستفهام الإنكاري التعجبي. والغرض منه إبطال دعواهم أن يكون هذا القرآن مفترًى من دون الله جل وعلا.
و" أَمْ " هذه هي التي تتقدر عند النحاة بـ( همزة الإنكار ) و( بل ). وعليه يكون تقدير الكلام: بل، أيقولون افتراه بعدما تبين لهم من الدلائل على صدقه وبراءته من الافتراء ؟ وقيل: إنكار لقولهم واستبعاد.
والافتراء معناه: الكذب. وأكثر استعماله في اللغة في الإفساد؛ وكذلك استعمل في القرآن في الشرك، والظلم، والكذب عن عمد؛ نحو قوله تعالى:
" وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً "(النساء: 48)
وقوله تعالى:
" انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً "(النساء: 50)
وواضح أن المراد بقوله تعالى في آية هود:
" فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ "(هود: 13)
أن يأتوا بعشر سور مثل القرآن مفتريات. ويدل عليه أن ضمير الغائب في قوله تعالى:" افْتَرَاهُ " يعود على قوله:" بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ " من الآية السابقة، وهي قوله تعالى:
" فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ "(هود: 12)
أما قوله تعالى في آية يونس:
" فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ "(يونس: 38)
فالمراد به: أن يأتوا بكلام، أو بقرآن مثل القرآن على وجه الافتراء، لا سورة واحدة مثله. والدليل على ذلك:
1- أن الضمير في:" مِثْلِهِ " يعود على:" هَذَا الْقُرْآَن " في الآية السابقة، لهذه الآية على أرجح الأقوال، وهي قوله تعالى:
" وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ "(يونس: 37)
2- أن من معاني السُّورة في اللغة: المنزلة الرفيعة؛ ومنه قول النابغة في مدح النعمان بن المنذر:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ** ترى كل ملك دونها يتذبذب
3- أن السُّورة- على ما قيل- هي كلٌّ متكامل، وتشتمل على ألوان من العلوم والمعارف والتشريعات والآداب، وغير ذلك، وتطلق في الأكثر على السورة الواحدة من القرآن. وقد تطلق، ويراد بها القرآن كله- كما في هذه الآية الكريمة- ومثله في ذلك لفظ ( قرآن )، فإنه يطلق، ويراد به القرآن كله، وقد يراد به بعضه.(1/10)
4- أنَّ آية يونس، التي تتحدى البشر أن يأتوا " بِسُورَةٍ مِثْلِهِ " يأتي بعدها مباشرة قول الله تعالى:
" بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ "(يونس: 39)
أي: كذبوا بالقرآن؛ لأنهم لم يحيطوا بعلمه، الذي أحاط بكل شيء.
ولفظ ( سورة ) يتضمن معنى: السُّمو والرفعة، ومعنى: الإحاطة. ومعنى الإحاطة يتضمن: الاشتمال، والتمييز، وتحديد المعالم.
5- قرأ عمرو بن قائد:" بسورةِ مثلِهِ " على الإضافة. أي: بكلام مثله. أي: مثل القرآن.
6- جاء في كتاب معاني القرآن:” وقيل: المعنى: فأتوا بقرآن مثل هذا القرآن. والسورة قرآن، فكنَّى عنها بالتذكير على المعنى. ولو كان على اللفظ ، لقيل مثلها.
7- أنَّ لفظ ( سورة ) لم يذكر في أول خمسين سورة ، نُزِّلت على الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد جاء التحدي " بِسُورَةٍ مِثْلِهِ " في سورة يونس، والتي هي السورة الواحدة والخمسين في ترتيب النزول.
ثم جاء التحدي " بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ " في سورة هود، والتي هي السّورة الثانية والخمسين في ترتيب النزول. وهذا يعني أنّ العرب، في زمن الوحي، قد أَلِفَت معنى لفظ القرآن قبل أن تألف معنى لفظ السورة. وهناك الكثير من السُّور القصار، التي نزلت قبل أن يُسَمِّيَ القرآنُ الكريم كلَّ قطعة متكاملة باسم: سورة.
خامسًا- ثم احتج سبحانه على صحة القرآن، وأنه ليس بمتقوَّل، فقال:
" فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ "(الطور: 34)
والفاء هنا للتعقيب. أي: إذا كان القرآن متقوَّلاً كما يدعون، فيجب عليهم أن يأتوا بحديث مثله، إن كانوا صادقين.
وقال تعالى هنا:" فَلْيَأْتُوا "، بصيغة المضارع المسبوق بلام الأمر، وبدون وساطة:" قُلْ "، خلافًا للآيتين السابقتين؛ إذ قال فيهما:" قُلْ فَأْتُوا ". والسِّرُّ في ذلك:
أولاً: أن التحدي بقوله تعالى:" فَلْيَأْتُوا " تحدٍّ غير مباشر يعمُّ كلَّ من نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تقوَّل القرآن تارة، وافتراءه على ربه جل وعلا تارة أخرى. أما التحدي بقوله تعالى:" قُلْ فَأْتُوا " فهو تحد مباشر، ويخصُّ كل من نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم افتراء القرآن.
وثانيًا: أن التعبير بصيغة المضارع المسبوق بلام الأمر" فَلْيَأْتُوا " يفيد تجدد التحدي واستمراره دون انقطاع، بخلاف صيغة الأمر" فَأْتُوا "؛ فإن التعبير بها يفيد احتمال وقوع الفعل مرة واحدة، ووقوعه أكثر من ذلك.
ونحو ذلك قوله تعالى:
" قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَا "(إبراهيم: 31)
أي: يداوموا، ويواظبوا على ذلك دون انقطاع. والتقدير على أحد الأقوال: قل لعبادي الذين آمنوا، ليقيموا الصلاة، ولينفقوا مما رزقناهم.
سادسًا- وواضح مما تقدم أن المثلية المنصوص عليها في قوله تعالى:
" لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ "(الإسراء: 88) ، وقوله تعالى:
" فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ "(البقرة: 23)
هي غيرها في قوله تعالى:
" بِسُورَةٍ مِثْلِهِ "(يونس: 37) ، وقوله تعالى:
" بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ "(هود: 13) ، وقوله تعالى:
" بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ "(الطور: 34)
فتلك يراد بها المثل الموجود للقرآن في اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون، لا المثل المفترض، وأما هذه فالمراد بها أن يأتوا: بكلام أو قرآن مثل القرآن، وبعشر سور مفتريات مثل القرآن، وبحديث متقوَّل مثل القرآن. وهذا المثل لا وجود له في واقع الناس، لا على سبيل الافتراض، ولا على سبيل غيره؛ لأن الكلام هو كلام الله جل وعلا، وكلام الله لا يماثله كلام البشر، لاختلافه معه في الحقيقة والماهيَّة والجنس؛ كما أن ذات الله تعالى لا تماثلها ذات من ذوات البشر، للسبب ذاته..
ولكن الذين تحدثوا عن المثلية في آيات التحدي، لم يفرقوا بين مثلية، وأخرى، فهي مثلية واحدة عندهم، ومن ثمَّ زعموا أنها مثلية في البلاغة، أو الفصاحة، أو النظم، أو غير ذلك..
ونعود إلى هذه الآيات الثلاثة، فنجد أن المفسرين قد اتفقوا على أن المراد بالمثلية في آية هود:
" بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ "
مثلية في البلاغة والفصاحة وحسن النظم.
أما المراد بالمثلية في آية يونس:" بِسُورَةٍ مِثْلِهِ "
فاختلفوا فيها- كما اختلفوا في غيرها- على أقوال:
أحدها: أنها مثلية في كثرة العلوم، والأحكام، والوعد والوعيد والإخبار عن الغيب.
والثاني: أنها مثلية في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم.
والثالث: أنها مثلية تامة في غيوب القرآن، وعلومه، ونظمه، ووعده ووعيده.
قال الثعالبي عند تفسير آية يونس" بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ":” والتحدي في هذه الآية- عند الجمهور- وقع بجهتي الإعجاز، اللتين في القرآن: إحداهما: النظم والرصف والإيجاز والجزالة. والأخرى: المعاني من الغيب لما مضى، ولما يستقبل. وحين تحداهم بعشر مفتريات؛ إنما تحداهم بالنظم وحده “.
أما ابن عاشور فقال:” وقد وقع التحدي بإتيانهم بسورة تماثل سور القرآن. أي: تشابهه في البلاغة وحسن النظم “.(1/11)
ثم قال:” فالمماثلة في قوله:" مِثْلِهِ " هي المماثلة في بلاغة الكلام وفصاحته، لا في سداد معانيه. قال علماؤنا: وفي هذا دليل على أن إعجازه في فصاحته بقطع النظر عن علوِّ معانيه، وتصديق بعضه بعضًا “.
وكذلك اختلفوا في المراد بالمثلية في قوله تعالى في الطور:" فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ "
فقال أبو حيان:” أي: مماثل للقرآن في نظمه ووصفه من البلاغة، وصحة المعاني والأخبار بقصص الأمم السالفة والمغيبات، والحكم “.
وقال ابن عاشور:” ومعنى المثلية في قوله:" مِثْلِهِ ": المثلية في فصاحته وبلاغته “.
وذهب الفخر الرازي إلى أنه استدل بهذه الآية على أن إعجاز القرآن بفصاحته، لا باشتماله على المغيبات، وكثرة العلوم؛ إذ لو كان كذلك، لم يكن لقوله سبحانه:" مُفْتَرَيَاتٍ " معنى. أما إذا كان وجه الإعجاز الفصاحة، صح ذلك؛ لأن فصاحة الكلام تظهر، إن صدقًا، وإن كذبًا.
قال الألوسي:” واعترض عليه الفاضل الجلبي بما هو مبني على الغفلة عن معنى الافتراء والاختلاق
ولهذا فسر الألوسي المثلية هنا بقوله:” مماثل للقرآن في النعوت، التي استقل بها من حيث النظم، ومن حيث المعنى “.
إلى غير ذلك من الأقوال، التي لا طائل من الجري وراءها وتتبعها؛ لأنها لا تفسر أسلوبًا، ولا توضح معنى. وإذا اختلفت الأقوال، لم يكن بعضها أولى من بعض، وبخاصة إذا كانت تقوم على أساس هشٍّ، وفهم غير صحيح.
وهنا أذكر بما نقلته في مقالي " لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ " عن صاحب كتاب( أكذوبة الإعجاز العلمي في القرآن ) من قوله:
” لقد تحدى القرآن جميع البشر، فلم يستطع أحد أن يقاوم ذلك التحدي. والسؤال هو: ما شروط هذا التحدي ؟ لا يعقل أن تتحدى شخصًا مَّا بأن يأتي " بِمِثْلِهِ " دون أن تحدد الشروط، ودون أن تحدد " بِمِثْلِهِ " في ماذا ؟ اللغة، الشرائع... إلخ “.
وأضاف قائلاً:
” هل الإعجاز في المعنى، أم في بناء الجملة، أم في النحو، أم البلاغة، أم إنه في جميعها ؟ وهل هو خاص بالعربية وأهلها فقط، أم إنه أيضًا قائم في حال الترجمة ؟ “.
وقلت تعقيبًا على ذلك:” هذه الأسئلة، التي يثيرها هذا الملحد- وهو محقٌّ في إثارتها وإن كان غرضه خبيثًا- هي مبنية في حقيقتها على ما دار، وما زال يدور، من خلاف بين المفسرين في تحديد المراد من هذه المثلية “.
وأقول هنا: هذه المثلية، التي تحدَّى الله تعالى بها الناس جميعهم، ولم يستطع أحد منهم أن يقاوم ذلك التحدي إما أن يكون المراد منها معلومًا. أو يكون مجهولاً. والثاني باطل حكمًا؛ لأن الله تعالى لا يمكن أن يتحدى خلقه بشيء لا يعلمون عنه شيئًا، فلم يبق إلا أن يكون المراد من هذه المثلية معلومًا.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إذا كان المراد من هذه المثلية معلومًا، فلمَ اختلف المفسرون، وما زالوا يختلفون في تحديد المراد منها ؟
هذا ما ينبغي الإجابة عنه.. وسأكتفي هنا بأن أذكر قول الخطابي، الذي ردَّ به على الجمهور، الذين يرون أن الله تحدى الناس بأن يأتوا بسورة من مثل القرآن تماثله في البلاغة، فقال في مقدمة كتابه ( إعجاز القرآن ) تعقيبًا على القول السابق بعد أن ردَّ غيره من الأقوال:” وهذا لا يقنِع في مثل هذا العلم، ولا يشفي من داء الجهل به، وإنما هو إشكال أُحيل به على إبهام “.
وأعود بعد هذا إلى الآيات الثلاثة السابقة، فأقول: من تدبَّر هذه الآيات حق التدبُّر، وجد أن المراد بقوله تعالى:" قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ "
كما سبق أن ذكرنا: أن يأتوا بكلام، أو بقرآن، من غير تحديد الجهة التي يأتون به منها، يكون مماثلاً للقرآن في حقيقة وماهيَّته، لا في صفاته، وإن كان مفترى على حد زعمهم. فإن كانت لديهم القدرة على ذلك، استطاعوا أن يثبتوا أن هذا القرآن مفترى، وإلا فهو كما وصفه الله تعالى بقوله في الآية، التي سبقت هذه الآية، وهي قوله تعالى:
" وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ "(يونس: 37)
ولما ظهر عجزهم عن ذلك طالبهم الله تعالى أن يأتوا:" بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ "
أي: مختلقات، إن صح عندهم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم اختلقه من عنده، وكذب به على ربه. و" مُفْتَرَيَاتٍ " لـ" عَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ "، وكان حقها أن تتقدم على " مِثْلِهِ "، فيقال: بعشر سور مفتريات مثله. ولكنها أخرِّرت عن " مِثْلِهِ "؛ لأن المثل هو المقصود بالتكليف، وأنه لو قدِّمت عليه، لتوهم أن القرآن مفترى، تنزه عن ذلك.
ولما ادعوا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم تقوَّل القرآن على ربه جل وعلا، قال تعالى:" فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ "، ولم يقل:" فَلْيَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ "
لأن لفظ ( الحديث ) يطلق على الكلام تارة، وعلى القصة والخبر تارة أخرى. وقد يكون ذلك صحيحًا، وقد يكون متقوَّلاً، فناسب المجيء به- هنا- ما تقدم من قوله تعالى:" تَقَوَّلَهُ "؛ لأن التقول- على ما تقدم- هو الكذب المخصوص.(1/12)
بقي أن نشير إلى وجه الإعجاز في قوله تعالى:" فَأْتُوا "، وقوله:" فَلْيَأْتُواْ "، وكان يمكن أن يقال:{ فقولوا }،{ فليقولوا }. أو:{ فجيئوا }،{ فليجيئوا }، أو نحو ذلك من صيغ الطلب؛ ولكن جاء التعبير عن ذلك بالإتيان؛ لأن الإتيان- كما سبق أن ذكرت- يعني المجيء بالشيء، وجلبه بسهولة، إما بالاسترفاد من الغير، أو بالاختراع من الجالب، وليس كذلك القول.
ولهذا طلب الله تعالى منهم في آيتي ( يونس وهود ) أن يستعينوا بمن استطاعوا من خلق الله، لنصرتهم وإعانتهم على الإتيان بما تحداهم به، فقال سبحانه:" وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ
والدعاء هنا هو طلب الغوث. إي: استغيثوا بمن استطعتم.
أما قوله تعالى:" إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " ، " إِن كَانُواْ صَادِقِينَ "
فالمراد به: إن كانوا صادقين في قولهم:" افْتَرَاهُ " و" تَقَوَّلَهُ "؛ وذلك راجع إلى ما سبق من قولهم: إنه كاهن، وإنه مجنون، وإنه شاعر، وإنه مفترى، ومتقوِّل. ولو كانوا صادقين في شيء من ذلك، لهان عليهم الإتيان بكلام مثله، أو بعشر سور مثله مفتريات، أو بحديث مثله متقوَّل.
وأكرر، فأقول: مثله في حقيقته وماهيَّته، لا في صفاته. وحقيقته وماهيته، لا يعلم كنهها أحد؛ لأنه كلام الله جل وعلا، وكلام الله جل وعلا مغاير لكلام البشر في الحقيقة والماهية والجنس، كما أن ذاته الشريفة مغايرة لذوات البشر في الحقيقة والماهية والجنس. ومن هنا يأتي عجزهم عن الإتيان بشيء مما طلب منهم، قليلاً كان، أو كثيرًا. ولما ظهر عجزهم، علم أنهم كاذبون، وأن هذا القرآن الكريم:" تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ "
" وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ "
والحمد لله رب العالمين !
بقلم الأستاذ الباحث
محمد إسماعيل عتوك
=================
الإعجاز البلاغي في استخدام الفعل المبني للمجهول
َتَأْلِيفُ د/ مُحَمَّد السَّيِّد مُوسَى
أستاذ البلاغة والأدب كلية الآداب- جامعة المنصورة
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف الأنبياء وسيد المرسلين سيدنا محمد وعلي آله وأصحابه والتابعين لهم بالإحسان إلي يوم الدين.
وبعد، فاٍن من أسرار البلاغة العربية وذوقها أن تساير الأساليب المختلفة وتتماشى مع المواقف والسياقات حسبما يتطلب المقام اللغوي والنفسي, " والبلاغة الحق - إضافة إلي كونها الكلام المكتوب أو المسموع, هي التي تقدر الظروف والمواقف, وتعطي كل ذي حق حقه, سواء أكانت شعرًا أم نثرًا, مقالا أم قصة, مسرحية أم حكاية, مديحا أم هجاء, غزلا أم استعطافا" [1]
والقرآن الكريم له نظمه العجيب وتركيبه الفريد الذي يأخذ بالألباب ويسوق إليه أعناق البيان " فكان من إعجاز القرآن أنه أقام أبنية من النظم الكلامي غير مستندة إلا علي ما بينها من تناسق هندسي, وتجاذب روحي، احكمه الحكيم العليم, وقدره اللطيف الخبير، في القرآن الكريم صور كثيرة من هذا النظم الذي يعتمد علي تجاذب الكلمات وتعانق الآيات, فيكون ذلك رباطها الذي يمسك بها ويشد بعضها إلي بعض في وثاقة وإحكام [2].
ومن المعلوم أن سياقات الكلام تختلف باختلاف المقام, فتختلف الألفاظ والجمل تبعا لذلك, وما يصلح من لفظ في سياق لا يصلح في غيره، ولا يؤدي نفس المعنى والدلالة.
وكذا الشأن في استدعاء النص للجملة الاسمية أوالفعلية التي تدل علي الحدث وتشتمل علي دلالتها وفاعلها الذي قد يحذف من الجملة لدواع يقتضيها المقام: " بعضها لفظي, كالرغبة في الاختصار في مثل: لما فاز السّباق كوفئ, أي كافأت الحكومة السّباق, مثلا، وكالمماثلة بين حركات الحروف الأخيرة في السجع, نحو: من حَسُن عملُه عُرف فضلُه، وكالضرورة الشعرية، وبعضها معنوي, كالجهل بالفاعل, وكالخوف منه, أوعليه وما يصلح لكل واحد من الثلاثة قولنا: قُتِلَ فلان, من غير ذكر اسم الفاعل وكإبهامه, أوتعظيمه بعدم ذكر اسمه علي الألسنة صيانة له, أوتحقيره بإهماله, وكعدم تعلق الغرض بذكره, حين يكون الغرض المهم هوالفعل، وكشيوعه ومعرفته في مثل: جُبلت النفوس علي حب من أحسن إليها، أي: جبلها الله وخلقها ".[3]
ومقامات الكلام وسياقاته هي التي تحمل دلالة تلك الأغراض السابقة التي تختلف من موضع لآخر, فليس الغرض متعلقا أو دالا من حيث لفظته المفردة, ولكنه يأتي من النظر في التركيب وتعلق الألفاظ ببعضها, وتفسير هذا كما يذكر عبد القاهر الجرجاني " أنه ليس إذا راقك التنكير في سؤدد " [4] من قوله: تنقل في خلقي سؤدد وفي دهر من قوله: فلو إذ بنا دهر [5] فانه يجب أن يروقك أبدا وفي كل شئ, ولا إذا استحسنت لفظ ما لم يسم فاعله في قوله وأنكر صاحب, {لم يقل: أنكرت صاحبا}, فإنه ينبغي أن لا تراه في مكان إلا أعطيته من استحسانك ههنا؛ بل ليس من فضل ومزية إلا بحسب الموضع, أو بحسب المعنى الذي تريد, والغرض الذي تؤم " [6] .(1/13)
وقد تحدث البلاغيون القدامى عن الفعل الذي لم يسم فاعله ونظروا في دلالته ومواقعه المتباينة, وهي وإن كانت نظرات إشارية تعد بمثابة اللمحة الخاطفة لا التحليلية العميقة, إلا أنها تدل علي ذوقهم البلاغي وحسهم المرهف بمواقع الكلام وأدوات التعبير, وإذا " كانت التيارات الجديدة قد شغلت نفسها بتحليل أدوات اللغة بكل طاقاتها التأثيرية والاٍقناعية, وبكل مهامها الانفعالية, فاٍن المهمة نفسها قد شغلت البلاغة القديمة, وقد أفاد منها - بلا شك - الخطاب الأدبي التراثي, وسوف يفيد - بلا شك أيضا - الخطاب الأدبي الحديث"[7].
وإذا كانت نظرة النحاة والبلاغيين قد اشتركت في تعيين أغراض عدم تسمية الفاعل, من العلم به أوتعظيمه أوصيانته عن الابتذال والامتهان أو مناسبة الفواصل أو مناسبة ما تقدم, أوكما ذكر السيوطي من أغراض للاختصار أو التنبيه علي أن الزمان يتقاصر علي الإتيان بالمحذوف أوأن الاشتغال بذكره يفضي إلي تفويت المهم. [8]
فاٍنه ينبغي النظر إلي الروح السارية أوالحياة النابضة الآخذة بلب السياق؛ لأن السياق قد يحمل أكثر من غرض لعدم تسمية الفاعل, أويبرز غرضًا أساسيًا أو جوهريًّا حاملاً معه من الأغراض ما يتطلبه المعنى ويقتضيه المقام.
وقد نظر الزركشي إلي بناء الفعل طبع للمجهول في سياقه نظرة التناسب مع ما تقدم, وذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}[التوبة86 - 87]
فصدر الآية الكريمة جاء بالبناء للمفعول أُنْزِلَتْ سُورَةٌ, فتناسق الختام مع البدء وجاء الفعل طبع مبنيا -أيضًا - للمجهول, وهذا بخلاف قوله تعالى ما بعدها: وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ, فاٍنه لم يقع قبلها ما يقتضي البناء, فجاءت على الأصل. [9]
فهذا الغرض وإن كان كذلك, إلا أنه ينبغي النظر إليه من ناحية أخرى, حيث استخدم هذا الفعل في مقام الذم وقدح الكافرين فقط, ولم يأت هذا الفعل مبنيا للمجهول إلا في موضعين فقط, وقد تمت الإشارة إلي ذلك في موضعها من البحث.
وقد وقف ابن الأثير مع هذه الروح السارية في النص, عندما وقف مع الالتفات في بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله أوتكلمه في قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ, بعد أَنْعَمْتَ, ولم يقل غير الذين غضبت عليهم؛ لأن اسم المفعول مشتق من الفعل المبني للمجهول،.فاعتبر ذلك عطفًا علي الأول؛ لأن الأول موضع التقرب من الله بذكر نعمه, فلما صار إلي ذكر الغضب جاء باللفظ منحرفا عن ذكر الغاضب, فأسند النعمة إليه لفظا, وزَوَي عنه لفظ الغضب تحننا ولطفا ".[10]
هذا وإن الفاعل عندما يحذف من الجملة فإنما ينوب عنه " في رَفْعِه وعُمْديته ووجوب التأخير عن فعله, واستحقاقه للاتصال به, وتأنيث الفعل؛ لتأنيثه واحدٌ من أربعة: الأول: المفعول به نحو: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود44].
والثاني المجرور نحو: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف149], والثالث: مصدر مختص, نحو: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة13], والرابع: ظرف متصرف مختص, نحو: صيم رمضان, وجُلس أمام الأمير.[11]
البِنَاءُ لِلْمَجْهُولِ وَالتَّصْوِيرِ
يقصد بالتصوير هنا ما يقوم به الفعل المبنى للمجهول من تصوير لأحداث المشهد الغيبي الذى غابت دقائقه عن المتلقى أو خفى عن ذهنه وخياله.
أَوَّلاً: المشَاهِدُ الغَيْبِيَّةُ
تعمل الأساليب القرآنية في المشاهد الغيبية عملا حيا يساعد نفس الملتقي علي تلقي كينونة المشهد بمعناه العميق؛ ليتدارك خياله ما قصرت عنه حواسه المادية, فتتغاير الأفعال والجمل بتغاير الأحداث والوقائع والأشخاص، فنجد فعلا بعينه يدور في المواضع الكثيرة مبينا للمعلوم ليقرر الحقيقة دامغة واقعة شاخصة للعيان, لا جدال فيها ولا مراء, وذلك كالفعل رزق مثلا الذي جاء معلوما في كل المواضع القرآنية إلا أربعة مواضع, كقوله تعالى: {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل 64].
وكقوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة 16].(1/14)
وقد تغاير هذا الفعل من المعلوم إلي البناء للمفعول؛ لحكمة يقتضيها السياق كما في قوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ} [البقرة25]
رُزِقُو هنا بمعنى: أطعموا, قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ أي: أطعمنا من قبل.1
وهذه اللوحة من مشاهد الجنة الغيبية, فلا تعلم حقيقة الرزق فيها، ولا حقيقة الإتيان وَأُتُو, فيضم المشهد حدث الفعل من الرزق مع المتمتع به, وكذا الإتيان مع المنتفعين به، وفي بناء الفعل للمفعول رُزِقُوا - رِزْقاً - وَأُتُوا دلائل أخرى وهي أن هذا الرزق يأتيهم دون جهد أوعناء أوبحث أوشقاء, وقد شاع في جو الآية جرس موسيقي أحدث إيقاعا متناغما من تكرار الرزق: رُزِقُوا - رِزْقاً - رُزِقْنَا، الوارد في سياق النكرة المفيدة للعموم من ثمرة رزق.
ومثله ما جاء في سياق مشهد الآخرة الغيبي وهو من مشاهد الجنة في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر40].
وقد جاء فعل الرزق مبنيا لمفعوله في موضع ثالث من قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون َ} [آل عمران169].
فهي حياة خاصة مغايرة للحياة المعهودة, ولذلك خصصها بقوله عِنْدَ رَبِّهِمْ وبني الفعل يُرْزَقُون للمفعول؛ إشارة لاختلاف هذه الحياة، وأنها من نوع خاص يجري الرزق عليهم ويأتي إليهم, كما يجري الرزق لأهل الدنيا، فهي إذا قد وردت قي سياق المشهد الغيبي من حياة الدار الآخرة.
وقد جاء فعل الرزق مبينا لمفعوله في موضع رابع من قوله تعالى: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}[يوسف37].
طعام ما على العموم والشمول كما دلت النكرة في سياق النفي, وقد زاد ذلك في إبراز إعجاز الموقف الغيبي الذي تطلب بناء الفعل تُرْزَقَانِهِ للمفعول, وذلك أن يوسف عليه السلام " وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء, وهوالإخبار بالغيب, وانه ينبئهما – وهما الفتيان اللذان دخلا معه السجن – بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما, ويقول: اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت, فيجدانه كما أخبرهما".[12] وفي سياق الحديث عن الجنة والنار وهي من مشاهد القيامة الغيبية الخفية، مجهولة العالم أوالواقع الملموس؛ جاء التعبير عنها بالفعل المبني لمفعوله, وذلك معرض ذكر الجنة مقابل ذكر النار, وذلك في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين َ} [البقرة24].
وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[آل عمران 131].
وقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران133].
وقوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُوالْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد21].
فلفظ الإعداد هنا بمعناه اللغوي الموحي بالمتانة والإتقان, وبما لحق اللفظ من تضعيف وبناء للمفعول, يعمل علي إحضار المشهد " ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أوالحركة المتجددة, فإذا المعني الذهني هيئة أوحركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي, وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية ".[13]
وقد جاء الفعل نفسه مبينا للمعلوم عند الحديث عن اسم أوصفة أومعنى من معاني الجنة والنار أو كالأجر والعذاب والسعير وجهنم, كقوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ُ} [التوبة89], فهي جنان ودرجات داخل الجنة التي أعلاها الفردوس الأعلى.
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيمًا} [الأحزاب35].
{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} [الأحزاب64].
فالسعير اسم من أسماء النار ومن دركاتها(1/15)
{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [الفتح6] وجهنم –عياذا بالله – من دركات النار, ومنها الدرك الأسفل, كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} [النساء145].
فيتضح مما سبق أن لفظ أَعَدَّ بصيغة البناء للمفعول لم ترد إلا في معرض الحديث عن الجنة والنار باسمها العام الذي يمثل الإطار العام للجنة والنار.
وفي سياق الحديث عن الجنة جاء الفعل يُطَافُ مبنيا للمجهول مرة، ومبنيا للمعلوم مرة أخرى, يقول تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا} [الإنسان15], ويقول جل شأنه: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُورًا} [الإنسان19].
فهذه المغايرة من المجهول إلي المعلوم لحكمة اقتضاها السياق, وتدخلت الصيغة اللغوية لتصوير المشهد, فالطواف في كلا المشهدين خاص بأهل النعيم من الجنة عَلَيْهِمْ ولكن " ذكر الأول بلفظ مجهول لأن المقصود ما يطاف به لا الطائفون, ولهذا قال: {بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} ثم ذكر الطائفين فقال: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ}. [14]
وفي مجال العلم جاء الفعل علم في القرآن الكريم معلوما؛ ليظهر حقيقة الفاعل في وضوح وجلاء, ويتسلط الضوء عليه ويبرز الاهتمام به, كقوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد17], فالبشر واوالجماعة في اعْلَمُو هم المعنيون بالعلم؛ ليصل بهم إلي الإيمان والتوحيد.
وقوله جل شأنه: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَونَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف21]، فيظهر فاعل العلم – سبحانه وتعالى – ليتحقق جانب النبوة عند يوسف عليه السلام وبعثته لقومه.
وقد جاء الفعل علم مبينا لمفعوله في أربعة مواضع لحكمة اقتضاها السياق في تقريب المعني الخفي وحقيقته التي توارت خلف الستار، يقول تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}[الأنعام91] فالأفعال الواردة في هذه الآية كلها جاءت مبنية للمعلوم وَمَا قَدَرُوا - مَا أَنْزَل َ- أَنْزَلَ - تَجْعَلُونَهُ – تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ، وجاء هذا الفعل عُلِّمْتُمْ وحيدًا فريدًا مبينًا لمفعوله في وسط هذا المشهد المعلوم, ولعل ذلك يشير إلي حكمة بليغة وهي لفت الذهن إلي مصدر هذا العلم, وهومصدر غيبي خفي عن الأبصار وماديات الحياة الدنيا المتعارف عليها, فهومن عند الله تعالى, " والخطاب لليهود, أي علمتم علي لسان محمد "صلى الله عليه وسلم" مما أوحي إليه ما لم تعلموا أنتم, وأنتم حملة التوراة, ولم تعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم, {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}النمل:76, وقبل الخطاب لمن آمن من قريش ".[15]
وفي مجال هذا العلم الخفي, غير المتاح لكل أحد, وإنما هوعلم غيبي يصدر عن المولي عز وجل, جاء فعل العلم مبينا لمفعوله في موضع ثان من قوله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف66], وهنا يطلب بني موسي عليه السلام من هذا العبد الصالح أن يتبعه ليتعلم من علمه الذي علمه إياه, وهذا توجيه من الله – تعالى- لموسى أن يفعل ذلك ويتبع هذا العبد الصالح, بعد أن سئل موسي عليه السلام, كما أوردت كتب التفاسير, هل في الأرض من هو أعلم منك؟ فقال: لا.
واستعملت عَلَى في قوله تعالى: {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} استعمال أدوات الشرط, فكان معني الكلام معها: هل أتبعك بشرط أن تعلمني؛ فإن لم تعلمني لا أتبعك, ووجه دلالة على هنا على الشرط بعض الأئمة بأن معناها العام هوالإلزام، ومعني الشرط الإلزام فبين المعنيين تناسب من هذه الجهة، وهي دلالة عَلَى على الشرط حقيقة أومجاز؟ خلاف غير متكافئ والأصح أنه مجاز " [16] .(1/16)
والموضع الثالث في قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوالْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل16].
لم يقل علمن أوأتانا كل شئ , وإنما جاءت الصيغتان بالبناء للمفعول, وحذف لفظ الفاعل للعلم به, كما هو متبادر في مثل هذه السياقات، فالذي علمه هذا العلم الغيبي الخفي, وآتاه من كل شئ هو الله تعالى – فهذا من " التمكين العظيم, حتى اٍنه سخر له الإنس والجن والطير, وكان يعرف لغة الطير والحيوان – أيضا -, وهذا شئ لم يعطه أحد من البشر – فيما علمناه – مما أخبر الله به ورسوله " [17] .
وهذه المواقف التعجيزية التي تظهر فيها الخصوصية للموقف والمشهد وصاحبه, تستلزم سياقا خاصا ونسيجا لغويا له دلالته, ولذلك جاءت تتمة المشهد بفعلين مبنيين للمفعول: يقول تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل17], فهذا التسخير في حُشِرَ - يُوزَعُونَ لا ينبغي لأحد من البشر سوى نبِيّ الله سليمان عليه السلام وهو تسخير يأتيه من قبل الله عز وجل لا طاقة له به, فهوقوة غيبية مصدرها المباشر من الله تعالى.
ويمثل الموضع الرابع للفعل المبني للمفعول مشهدا غيبيا من نوع آخر، اٍنه يمثل القيمة الأخلاقية التي تمثل الصفات والطهر في النفس والمجتمع المحيط.
يقول تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوآبَائِهِنَّ أَوآبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوأَبْنَائِهِنَّ أَوأَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوإِخْوَانِهِنَّ أَوبَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوبَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَونِسَائِهِنَّ أَومَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوالتَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوالطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور31].
فهذه الآية الكريمة حملت العديد من الأفعال, وهي كلها مبنية للمعلوم إلا هذا الموضع لِيُعْلَمَ والشئ الخفي أو الواجب هو إخفاؤه هو زينة المرأة التي يجب عليها أن تخفيها إلا ما جاء به الاستثناء في الآية الكريمة لاثني عشر شخصًا.
ولعل السر في كون هذا الوضع الوحيد في الآية كلها فعلا مبنيا للمجهول, هوتعلقه بالسماع ومخاطبة حاسة الأذن, فيهتز القلب تطلعا لهذه الزينة الصادرة عن ضرب المرأة للأرض برجلها وما تلبسه من خلخال أوما يقوم بمهمته ودوره بتطوير الأزمان والأحوال، يؤيد ذلك ما قاله الزجاج: " سماع هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها ".[18]
وقد جاء الفعل مبينا لمفعوله لتصوير المشهد بوقائعه غير المرئية وإبراز عنصر الخفاء وأثره الانفعالي على من واجهه, يقول تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ َياُ موسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل8 -10]
وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص:30-31].
وباستقراء هذه الأفعال التي تأتي مبنية للمجهول نجدها تأتي – أيضا – في مشاهد القيامة, وهما من مشاهد الغيب البعيدة عن الملموس المادي, فهويمثل المشهد بخفاياه ودقائقه, ويعمل علي إبراز فخامته أورهبته، يقول تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل111]
فيتحضر الذهن مشهد الوفاء توفي ولم تأت تسمية الفاعل للعلم به, ولينصَبَّ الاهتمام علي مشهد وفاء الأعمال بهيبته ورهبته, وقد زاد من رهبة المشهد مجئ صدر الآية الكريمة بكلمة يَوْمَ نكرة؛ لتؤدي دورها الحيوي في إبراز الموقف الخفي عن الأبصار, لتظهر الأشخاص في مشهد جلي, لا يهتم كل شخص إلا بنفسه، " فكل نفس لا يشغلها إلا نفسها, وقد جاءت منفردة, وهي في وسط هذا الخضم من المحشورين لا تحس بشيء إلا بذاتها, فهي تجادل عن نفسها, تدافع أو تحاول الدفاع, وتروم الخلاص, ولا مجال هناك للخلاص ".[19](1/17)
وفي مشهد آخر يتم تصوير دهس المعرضين المنكرين, ويظهر مدي ندمهم, كما لو كان دهسوا وسووا الأرض لكان أهون عليهم من هذا الإعراض, يقول تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوتُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء41 – 42].
فتصدير المشهد بالاستفهام عن الحال كَيْفَ فيه إبراز لجو الفزع والرعب, وإيحاء بنوعية العذاب الهائل الذي لا يوصف, ولذلك جاء التعبير بالفعل يَوَدُّ ليكشف عن مكنون القلب واعتمال الحالة النفسية فيما لو كانت الأرض قد سويت لهم، وصاروا جزءًا منها, فيبدو المشهد بحركة المجئ جِئْنَا مِنْ كُلِّ، جِئْنَا بِكَ وإبراز المعاناة النفسية التي تصير فيها تسوية الأرض بهم إلي حد الأمنية الغالية والمودة الغائبة, فيتمنون الدهس والتسوية تُسَوَّى بالبناء للمجهول لدلالة رغبتهم في دهسهم وتسويتهم بالأرض من أية جهة وبأية طريقة " منطقة الخاص وطريقته المميزة في التعبير عن موضوعاته, فقد التفت القرآن عن مخاطبة الذهن البشري إلي مخاطبة الحس والوجدان, وذلك بمنطق التصوير لا التقرير, ولمنطق التصوير وسيلته التي ميزت أسلوب تناول القرآن لمختلف الموضوعات الإلهية التشريعية والعقائدية والتعبير عنها ".[20]
وفي موضع آخر من القران الكريم يأتي الفعل الذي لم يسم فاعله؛ ليؤدي دورا بليغا في سياق المشهد الغيبي من ساحة العرض والحساب.. يقول تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً} [طه102- 103].
فالغرض يتعلق بعلاقة الحدث يُنْفَخُ ووقعه وأثره في الصور لتقع الأهوال, ولا مجال لظهور الفاعل في المشهد حتى لا يشغل حيزا أو مساحة يحتاجها المشهد بجزئياته وخطوطه، ويَوْمَ نكرة للتهويل، وهو" منصوب بإضمار اذكر، ويجوز أن يكون ظرف المضمر حذف للإيذان بضيق العبارة عن حصره وبيانه أو بدلا من يوم القيامة أو بيانا له أو ظرفا ليتخافتون وقرأ أبوعمرو وابن محيصن ننفخ بنون العظمة على إسناد الفعل إلى الأمر به وهوالله – سبحانه وتعالى – تعظيما للنفخ, لأن ما يصدر من العظيم عظيم "[21]
ويقول تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون101].
وقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر68]
وقوله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} [النبأ18].
فهذه أربعة مواضع من مجموع اثني عشر موضعا للفعل نُفِخَ - يُنْفَخُ هي كل ما جاء في القرآن الكريم في مشاهد القيامة الغيبية, وقد غاب لفظ الفاعل لعدم تعلق الغرض به مثل إبراز الفاعل؛ ليتسلط الضوء على الناس وهم يأتون أفواجا, ولكن في نُفِخَ انْصَبَّ الاهتمام على إبراز الحدث بهوله وشدة صوته التي تكاد تسمعها الآذان, ومن الثابت علميا أن الصوت إذا علا وارتفع كان سببا في إصابة الإنسان بالتوتر العصبي وسرعة الغضب والانفعال, فإذا زاد على حده إلى درجة لم يعد يتحملها الإنسان, أصيب بالصمم, فإذا ظل في الارتفاع خرَّ ميتًا! فالسمع له حدود " فلا تدرك الأذن من الأصوات إلا ما كانت ذبذباته في المدى المسمى بالموجات الصوتية, بينما لا تشعر بموجات اللاسلكي ولا الموجات فوق الصوتية, وحساسية الأذن أيضا محدودة لشدة الصوت, فلا تميز الأصوات لوقلت شدتها عن 10120 وات/م2 بداية مقياس الديسيبل, ولا تتحمل الأصوات التي تزيد شدتها عن 200 ديسيبل, ولو زادت لصعق الإنسان ومات على الفور " [22]
ومن إعجاز القرآن الكريم إثبات تلك الحقيقة قرآنا يتلى منذ أكثر من أربعة عشر قرنا, بل تنقلب تلك الصاعقة المميتة إلى ضدها, فتتحول تلك النفخة التي أفنت الخلائق, إلي نفخة بعث وحياة!.
قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر68], ثُمَّ أدت إلى معنى التراخي الزمني بين النفختين, وقوله تعالى: أُخْرَى دل على أن النفخ في الصور نفختان، ويحدث التحول السريع المفاجئ عقب إرسال النفخ إلى الموتى؛ إلى القيام والنظر كما دلت إِذَ الفجائية.
أما مشاهد المادة أو الواقع الملموس أو المحسوس, فاٍن الفعل نُفِخَ لم يأت إلا مبنيا للمعلوم, مثل قوله تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة9].
وقوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم12].(1/18)
وقوله تعالى: { َرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران49].
وقوله تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} [الكهف96].
فالنفخ من روح الله لخلق آدم أو عيسي عليه السلام واقع بشري ملموس, تلمسه البشرية منذ آدم عليه السلام إلي يوم القيامة؛ ليعيش الإنسان بروح الله دون أن يدري لها سرًّا غير أن فاعلها – جل شأنه – متعين بالقدرة والوحدانية, ولذلك جاءت الجملة اللغوية ناصعة التحديد في إبراز الفاعل، وفي آية آل عمران والكهف نجد مشهد عيسي بن مريم – عليه السلام – وذي القرنين يفتقران إلى وجود الفاعل وإبرازه محددا؛ لتجنب اللبس والغموض الذي يؤدي إلى فساد المعنى واختلاط شخوص المشهد.
وقوله تعالى في مشهد القيامة: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة 1-6].
فالزلزلة مشهد خفي غيبي, وقد جاءت في سياق بث الفزع والرجفة النفسية والتصدع القبلي، ولم يأت في هذه السورة الكريمة فعل مبني للمجهول إلا زُلْزِلَتِ - لِيُرَوْ فهذا الانقلاب الكوني يمثل الوجه الآخر للمشهد وهو مجسد في رؤية الأعمال التي من أجلها انقلاب هذا الكون واختل نظامه، وإذا كانت إذ للوقت, ومع ذلك قد صدرت بها السورة, فهي بمثابة الإجابة عن سؤال: " متي الساعة فقال: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} كأنه تعالى قال: لا سبيل إلى تعيينه بحسب وقته ولكن أعينه بحسب علاماته، إن الله تعالى أراد أن يخبر المكلف أن الأرض تحدث وتشهد يوم القيامة مع أنها في هذه الساعة جماد, فكأنه قيل: متي يكون ذلك؟ فقال: إذا زلزلت الأرض. [23]
وفي مشهد من مشاهد القيامة في سورة التكوير" الذي قال فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلي يوم قيامة كأنه رأي عين فليقرأ: " إذا الشمس كورت " و" إذا السماء انفطرت " و" إذا السماء انشقت " " [24] . قال تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَت وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَت وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْوَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَت عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ}[التكوير1 – 14].
فالمشهد هنا زاخر بالحركة العنيفة المنفلتة من سياقها ونظامها التي كانت تسير في فلكه منذ أمد بعيد, اٍنه " مشهد انقلاب تام لكل معهود, وثورة شاملة لكل موجود تشترك في الانقلاب والثورة الأجرام السماوية والأرضية, والوحوش النافرة, والدواجن الأليفة, أو نفوس البشر, وأوضاع الأمور، ويبدأ المشهد بحركة جائحة, وثورة ثائرة, وكأنما انطلقت من عقالها المردة المدمرة, فراحت تقلب كل شئ، وتنثر كل شئ، تهييج الساكن, وترويع الآمن، والموسيقى المصاحبة للمشهد سريعة الحركة, لاهثة الإيقاع, تشترك بإيقاعها السريع في تصوير المشهد وتمثيله في الإحساس " [25] .
وقد مثل الفعل الذي لم يسم فاعله دورا بارزا في تصوير الحركة المجهولة في طي الزمان, فالمشهد بدأ بفك الكون وتدميره من أعلى إلى أسفل، بالكائنات غير العاقلة: الشمس, النجوم, الجبال, العشار, الوحوش, البحار, ثم الكائنات العاقلة من النفوس والمؤودة, ثم رجوعها مره أخرى إلى الصحف التي تنشر والسماء التي تكشط, وذلك من الكائنات غير العاقلة؛ ليعود المشهد إلى مظاهره أو كائناته العليا كما بدأ, وكأنه مشهد يكور في دائرة انقلاب وانفلات للنظام في سرعة فجائية صارمة مثلها البدء ب: إِذَ للزمان المفاجئ, ثم تكرارها مع كل حدث مدمر، ومن الملاحظ أن كلمة البحار بالجمع لم تستخدم في القرآن الكريم إلا للحديث عن يوم القيامة، يقول تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير6]. {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار3].
ونلاحظ تسلسل الآيتين في القرآن يتناسب مع المفهوم العلمي:
فأولا: يكون الاشتعال ثم الانفجار وليس العكس, فجاء تسلسل الآيتين أولا سُجِّرَتْ وثانيا فُجِّرَتْ, وهذا مطابق للحقائق العلمية الحديثة. [26](1/19)
وإذا نظرنا إلي هذا المشهد بكائناته وجزئياته, نجد أن التعبير بالفعل الذي لم يسم فاعله هو الأسلوب السائر في كل المشهد عدا جزئية واحدة فقط هي صورة انصباب النجوم وتنافرها وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَت وقد جاء التعبير عن هذا المشهد بالفعل المبني للمعلوم! ولعل السر في ذلك أن النجوم في مراحل انكدارها تمر بمراحل من الميلاد والشباب والشيخوخة قبل أن تنفجر أو تتكدس على ذاتها فتطمس طمسا كاملا: النجوم الابتدائية ثم العادية ثم العماليق الحمر ثم السدم الكوكبية ثم الأقزام البيض ثم فوق مستعر من الطراز الأول ثم الثاني ثم النجوم النيترونية النابضة وغير النابضة والثقوب السوداء والنجوم المفردة والمزدوجة والمتعددة، والنجوم أفران كونية يتم في داخلها سلاسل من التفاعلات النووية التي تعرف باسم عملية الاندماج النووي. [27]
فيتضح مما سبق أن النجوم تنفرد بخاصية هائلة من طبيعة التكوين والتكون والانتشار والانشطار والانفجار, فلها طبيعتها الكونية التي لا تماثلها طبيعة كونية أخرى فيما عرف من الوجود, وقد أثبت العلم حديثا أن النجوم علي انتشارها الهائل في السماء تشتمل علي درجة حرارة عالية بدرجة مذهلة, وتنقسم تبعا لذلك إلى " نجوم حمراء أقلها حرارة 3200 درجة مطلقة – نجوم برتقالية – نجوم صفراء – نجوم بيضاء مائلة إلي الزرقة – نجوم زرقاء أشدها حرارة 300 ألف درجة مطلقة – الشمس من النجوم الصفراء متوسطة الحرارة, إذ تبلغ درجة حرارة سطحها حوالي ستة آلاف درجة مطلقة ."[28]
ثَانِيًا: المشَاهِدُ الخَفِيَّةُ
يجسد الفعل الذي لم يسم فاعله أجزاء المشهد الذي نري فيه موسي عليه السلام يفاجأ بالنداء الذي يأتيه من حيث لا يدري ولا يحتسب فنراه وقد اعترته الدهشة وهول المفاجأة وأخذ يتلفت هنا وهناك؛ ليقف على حقيقة الصوت يقول تعالى:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} [طه11]
{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل8]
{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص30]
وقد تغاير الفعل من أَتَاهَ إلي جَاءَهَ, لأن"أتي" و"جاء" بمعني واحد, لكن لكثرة دور أن لفظ الإتيان في طه نحو: " فأتياه", " فلنأتينك", " ثم أتي"," ثم أتُوا صَفًّا "، " حيث أتي ", كان لفظ أتاه به أليق, ولفظ " جاء " في النمل أكثر نحو: " فلما جاءتهم ", " وجئتك من سبإ ", "فلما جاء سليمان ", كان لفظ جاءه به أليق, وألحق القصص ب: " طه " لقرب ما بينهما – أي القرب اللفظي في هذا الموضع [29]
البِنَاءُ لِلْمَجْهُولِ وَإِفَادَةِ العُمُومِ
يتسم الأسلوب القرآني الكريم – فيما يتسم – بالمرونة والاتساق مع المشاهد واللوحات النابضة بحياة الموقف, حتى إننا لنجد الكلمة بذاتها تأتي في عدة سياقات ولها دلالة مختلفة في كل سياق بحسب ما يقتضيه المعني ويتطلبه المقام, وكلما ازداد الزمان عمرا, وبلغ الدهر شأوا وغاية انبثقت أساليب القرآن وكلماته؛ لتشع بضوئها ونورها؛ لتنطلق كائنات الوجود من جديد بمراميه و دلالته, " وما أشبه القرآن الكريم في تركيب إعجازه, وإعجاز تركيبه بصورة كلامية من نظام هذا الكون الذي اكتنفه العلماء من كل جهة, وتعاوروه من كل ناحية, وأخلقوا جوانبه بحثا وتفتيشا, ثم هو بعد لا يزال عندهم على كل ذلك خلقا جديدا, ومراما بعيدا, وصعبا شديدا "[30].(1/20)
والفعل الذي لم يسم فاعله قد جاء في مواضع كثيرة من القرآن ليدل علي دلالة معينة في كل سياق حسب اقتضاء المعنى الذي ما كان ليبرز في جلاء أو رسم واضح إذا جاء الفعل مبنيا للمعلوم، ومن تلك السياقات المفيدة للعموم ما قام فيه ذلك الفعل الذي لم يسم فاعله بدور بارز في إفادة ذلك المعنى، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوضَعِيفاً أَولا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوفَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوكَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة282]
نهي عن التقاعس عن الدعوة وتلبيها للإدلاء بالشهادة أيا كان الداعي إليها والحق المطلوب إثباته سواء كان الداعي من القريب أوالصديق أو غيرهما ممن لا تربطه بالشهيد رابطة ما, ويقول تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور51], فالدعوة إلي الله ورسوله عامة, لا تختص بشخص دون شخص, ولا زمان أو مكان دون غيرهما, وإنما يجب الإذعان لله ورسوله وسرعة التلبية، وتصدير الآية بأسلوب القصر إنم والفعل الماضي كان فيه مدح للمؤمنين وإثارة لحمية الإيمان وبعث حفيظته في نفوسهم.
ويقول تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُويُدْعَى إِلَى الْأِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الصف7], أي: لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب علي الله, ويجعل له أندادا وشركاء, وهو يدعى التوحيد والإخلاص[31] أيا كان الداعي, وأينما كان؛ ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة9] فهنا خصوصية المنادي عليهم, وهم المؤمنون، وعمومية المنادي أيا كان المنادي, وخصوصية النداء المقيدة ب: الصلاة, فهو نداء محصور فيها، والفعل نودي مقيدة بالشرط إذ, وهي أداة نقلت الفعل من الماضي إلي المستقبل المطلق المقطوع بحدوثه كما دلت إذ، ولهذا جاء التعبير بها دون أن الشرطية التي لا تفيد القطع بوقوع الحدث.
هذا ولوُرُودِ الدعاء والنداء خاصية في القرآن الكريم, فالدعاء في الآيات السابقة بمعنى الدعوة إلي خير كالإدلاء بشهادة أو الدعوة إلى الله عز وجل والنداء يشتمل على البهجة والسرور, كما " أن للنداء في لغة القران خاصية؛ رشحته لأن يكون الله فاعلا له – بلا حرج – كما رشحته ليكون عنوان على طلب الإقبال على الصلاة الآذان, وأن يكون عنوان على طلب الإقبال على الإيمان.
في كل من الدعاء والنداء خير, بيد أن الخير في النداء أخلص وأصغى, وأظهر تفاؤلا, وأنقى معنى " [32] .
وفي مادة ظلم جاء الفعل المبني لمفعوله بصيغه الماضي والمضارع؛ لإفادة العموم –أيضا– يقول تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً}[النساء148].
فإطلاق الظلم دون تحديد يعني عمومه لأنواع الظلم، وهذا الاستثناء في الآية لكريمة له دلالة خاصة على إظهار بغض الله – تعالى – للظلم وصاحبه, لدرجة أنه أباح الجهر بالسوء للقضاء على الظلم، وقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء47].
فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئ فجو الآية كلها يوحي بالعموم والشمول, عموم النفي للظلم, أوعموم الظلم المنفي الشامل لكل نفس من النفوس, في شيء ما من الأشياء، والتعبير بالجمع الْمَوَازِينَ والمصدر الْقِسْطَ للدلالة على تناهي العدل المطلق.(1/21)
وقوله تعالى: { َأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر69] فهذا المشهد يزخر بالحركة المهيبة أو يبعث في النفس جوًّا من الجلال والإشراق، إشراق الحق والعدل.
فالأرض كلها تشرق فتظهر مضيئة بنور ربها وخالقها أي: بعدل ربها, أوبحكم ربها, والمعنى: أن الأرض أضاءت وأنارت بما أقامه الله من العدل بين أهلها، وقيل: أن الله يخلق نورا يوم القيامة يلبسه وجه الأرض فتشرق به غير نور الشمس والقمر، ولا مانع من الحمل على المعنى الحقيقي[33], ولإبراز صورة الأرض رأي عين, جاء لفظ الإشراق في وعاء الفعل المبني للمعلوم، ثم تغايرت الأفعال وجاءت غير مسماة الفاعل ووضع – وجئ – وقضي – لا يظلمون فينصرف الذهن وتشخص الأبصار إلي أجزاء المشهد, فيتسلط الضوء علي وضع الكتاب وهو كتاب الأعمال – وتمثل صورة النبيين والشهداء من الملائكة الحفظة على أعمال العباد من خير وشر[34]، أو الذين يشهدون على الأمم من أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم [35]، نهاية المطاف وخاتمة مشهد أهل الجزاء والإحسان لهذه الفئة؛ ليتسلط الضوء علي ذلك القضاء أو الوفاء, ولذلك بني الفعل لما لم يسم فاعله وقضى لينفي عنهم الظلم علي إطلاقه أو في جنس من أجناسه وأشكاله.
وفي مادة عف ورد هذا الفعل كثيرا في القرآن الكريم بصيغة الماضي والمضارع المجرد والمسند للضمير, ولكنه لم يرد بصيغة المبني للمجهول إلا في موضع واحد فقط، وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة178] فليس المقصود أو الغرض ذكر فاعل العفو, بل هو على إطلاقه, أيا كان، والعفو: القصد لتناول الشئ, يقال عفاه واعتفاه, أي: قصده متناولا ما عنده، وعفوت عنه قصدت إزالة ذنبه صارفا عنه, فالمفعول في الحقيقة متروك, وعن متعلق بمضمر, فالعفو هو التجافي عن الذنب[36] .
ومن ذلك العموم قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [لأنفال2] فليس الغرض متعلقا بمن ذكر الله اوالشخص الذي تلا آيات الله بل هوعلي إطلاقه أيا كان ذلك الشخص وإنما يتسلط الضوء علي الذكر نفسه وعلي التلاوة نفسها وما تحدثه من خشية وإيمان.
البِنَاءُ لِلْمَجْهُولِ فِي مَقَامَي الإِنْكَارِ وَالإِيمَانِ
تختلف الكلمات المختارة وتتغير حسب مقامات الكلام وسياقاته، وما بالنا إذا كانت تلك السياقات هي سياقات القرآن الكريم التي تحمل المشاهد والدلالات، فيلقي القارئ أوالسامع آيات الله – تعالى – تتلى عليه بمعنى تألفه نفسه, وكلمات يعرفها ويرددها في قوله, ولكن تبقى الروح التي تسري في الجسد من أجل أن تهبه الحياة والحركة الباعثة.
وعندما حدثنا الله عز وجل عن هؤلاء المعرضين والمنكرين خاطبنا بكلمات لها جرسها وإيقاعها ونغمها اللائق في النفس, فجاء الفعل المبني للمجهول يمثل حالة الإنكار وعدم الاعتراف التي يعيشها هؤلاء الكافرون وينغمسون بها في عالم الطي والكتمان، يقول تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[التوبة16]
{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ}[الشعراء146]
{أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً}[القيامة36]
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت2]
ورد الفعل ترك في القرآن الكريم كثيرا, ولكنه جاء مبينا للمعلوم في الماضي والمضارع, مسندا للضمير أو مجردا, أو باسم الفاعل للمفرد أو الجمع، ولكنه ما جاء بصيغة الفعل الذي لم يسم فاعله إلا في هذه الآيات السابقة, وكلها بصيغه المضارع, التي جاءت كلها في سياق الاستفهام المفيد للإنكار والتوبيخ، فهو إنكار وعتاب للمؤمنين – كما في آية التوبة – الذين توهموا أن يتركهم الله – تعالى – دون اختبار؛ حتى يتبين الخلص منهم،" وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله, ولم يتخذوا وليجة – أي بطانة – يضادون الرسول والمؤمنين رضوان الله عليهم, ولم معناها التوقع, وقد دلت على أن تبين ذلك, وإيضاحه متوقع كائن "[37](1/22)
وفي آية الشعراء إنكار من نبي الله صالح عليه السلام لثمود وقومه الذين أعرضوا عن دعوته وقد غرتهم الدنيا وفتنتهم بملذاتها ومادياتها, وفي قوله تعالى: في ما ها هن " كناية عن قرية صالح عليه السلام، والسر في إيثار اسم الإشارة ها هن لفت أنظارهم لفتا قويا لمظاهر النعم التي كانوا غارقين فيها، آمنين حال من نائب الفاعل – واو الجماعة وهو قسيم الترك في الإنكار, إذ ليس ما سلط عليه الإنكار هو الترك وحده, بل الترك المقرون بالأمن من كل المخاوف ".[38]
وفي آية العنكبوت إنكار علي من توهم من المؤمنين أنه يترك دون امتحان واختبار لمجرد أنه نطق بالشهادة، وفي قوله تعالى: أحسب الناس إيثار الماضي " لأن حسبان الذي سلط عليه الإنكار واقع متحقق, وإيثار حسب على ظن في هذه المواضع هو المناسب بلاغة في مقام الإنكار؛ لأن الحسبان أقوى من الظن, فالنفس مع الحسبان في اطمئنان, ومع الظن في قلق، وفي الناس مجاز مرسل؛ حيث أطلق العام المنتظم لجميع أفراد الناس, ثم أريد الخاص، وهم الذين حسبوا هذا الحسبان من المؤمنين ".[39]
وفي آية الإنسان يأتي الإنكار على من توهم أن يترك سدي, أي: لا يبعث[40]، والمقصود هنا إثبات المعاد, والرد على من أنكره من أهل الزيغ والجهل والعناد. [41]
تبين مما سبق أن الفعل يترك جاء بصيغة المبني للمجهول؛ لأنه في موضع التوبيخ والإنكار, فيتطلب الذوق البلاغي ألا يذكر لفظ الفاعل تشريفا وتعظيما وتنزيها عن الذكر في مثل هذه المواقف, ومن شأن ذلك – أيضا – أن يتسلط الضوء ويلتفت الذهن إلى الحدث – وهو الترك – وأثره على أهله.
وإذا نظرنا إلي الفعل يتلى, تتلى الذي جاء في القرآن الكريم غير مسمى الفاعل, وجدناه قد جاء في موضع الإنكار والحديث عن المعرضين والمنكرين, وقد جاء – أيضا – في معرض الحديث عن المؤمنين الذين أذعنوا للحق, وأنه قد أتى في حق المنكرين والمعرضين أكثر، يقول تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَونَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}[لأنفال31] فالفعل المبني للمجهول يصور إنكارهم وإعراضهم, وكأننا نسمع أصواتهم عالية تقول: نحن نجهل هذا الكلام ومصدره, وقد جاءت كلمة آياتن مضافة إلي الضمير ن لتقريعهم وتبكيتهم، وقد نزلت هذه الآية الكريمة في النضر بن الحارث, " وكان خرج إلي الحيرة في التجارة، فاشترى أحاديث كليلة ودمنة, وكسرى وقيصر, فلما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبار من مضى, قال النضر: لو شئت لقلت مثل هذا، وكان هذا وقاحة وكذبا, وقيل: أنهم توهموا أنهم يأتون بمثله " [42] وقوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون105]
هؤلاء القوم المخاطبون هم أهل النار, وفيه ترهيب من مصيرهم وتحذير من الوقع في مثل ما وقعوا فيه من جراء إعراضهم وإنكار تلاوة آيات الله عليهم, ولذلك جاء التعبير بصيغة المبني للمجهول تتلى لتصور طبيعة الموقف وما كانوا عليه في دنياهم.
وقد جاءت تلك الصيغة تتلى في سياق الآية المصدرة بالاستفهام المفيد للتقرير والإنذار, وقوله: آياتي كناية عن القرآن, والسر البلاغي في إيثارها على الاسم الصريح, ما فيها من خصوصية الدلالة على المعجزات الباهرة، وأوثر حرف الجر على على حرف اللام فقال: عليكم دون إليكم للرمز بعلو شأن الآية, وما فيها من الإيحاء بمعنى الإلزام والعطف بالفاء في فكنتم بها تكذبون للتشنيع عليهم في سرعة التكذيب. [43] وقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} [مريم73]
وصدرت الآية الكريمة ب: إذ لأن التلاوة مقطوع بوقوعها, وهي وإن كانت محذوفة الفاعل لعدم تعلق الغرض به, إلا أن ذلك الحذف يوحى بمقام التوبيخ والذم والتبكيت, " وتأويل الكلام؛ وإذا تتلي عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين منا ومنكم أوسع عيشا وأنعم بالا وأفضل مسكنا وأحسن مجلسا وأجمع عددا وغاشيته في المجلس نحن أم أنتم "[44].
وقوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية7- 8] فهوأفاك كذاب, لا يكتفي بالإعراض والتولي, ولكنه يصر على الكبر والاستكبار، هذا ومن الملاحظ أن تلك الآيات ومثيلتها التي جاءت في معرض الحديث عن المعرضين جاء الفعل الذي لم يسم فاعله تتلى – يتلى مقرونا بالكناية عن القرآن الكريم بكلمة الآيات المتصلة بالضمير التفخيمي الدال على عظمة الله – سبحانه – فنزل الآيات, نحو آياتنا – آياتي.(1/23)
بينما لم يطرد ذلك الاتصال في معرض الحديث عن المؤمنين الموقنين مثل قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوخَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}[الحج30] فسياق الآية الكريمة وما قبلها يتحدث عن المؤمنين وأدائهم مناسك الحج, وهم أصحاب عقيدة راسخة وإيمان بالغيب, فلم تكن هناك حاجة لذكر لفظ الفاعل, فلم يعد الغرض متعلقا به بقدر ما يتعلق بحدث التلاوة وما اشتملت عليه من تنبيهات وتعالى خاصة بالمؤمنين, ومنه – أيضا – قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} [الأحزاب34]
وربما جاء فاعل التلاوة ظاهر العيان مثبت الوجود سواء كان في معرض الحديث عن المعرضين أو المؤمنين, وذلك حسب ما يقتضيه السياق ويتطلبه المقام, فقد جاء – مثلا – ظاهرا في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوكَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة102].
فتعين هنا بناء الفعل للمعلوم لاقتضاء المقام إظهار ذلك الفاعل الشياطين الذين يحدثون ويتسلون على ملك سليمان, فتظهر تلك التلاوة جلية واضحة متقررة الأثر في الأذهان.
وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة252] بناء الفعل للمعلوم لتحقيق أمر العقيدة وإثبات الوحي من الله تعالى, وتحقيق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا ينطق عن الهوى, فيظهر ذلك جليا في مثل هذه المقامات خصوصًا، وقوله تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران58]
وربما يكون من الصواب أن ما لاحظناها في صيغه المبني للمجهول مع الفعل يتلى نجده يطرد في حق المؤمنين والمنكرين في أفعال أخرى كالفعل نزل والفعل أرسل، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة4]
جاء الفعل أنزل بصيغة الماضي دون المضارع ينزل مثلا على الرغم من عدم اكتمال الشريعة وقتها؛ لأن " المراد المنزل كله, وإنما عبر عنه بلفظ المضي وإن كان بعضه مترقبا, تغليبا للموجود على ما لم يوجد, كما يغلب المتكلم علي المخاطب, والمخاطب على الغائب, فيقال أنا وأنت فعلنا، كأن كله قد نزل وانتهى بنزوله, ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} ولم يسمعوا جميع الكتاب ولا كان كله نزولا "[45] .
فهذا مدح للمؤمنين, وإثبات الإيمان لهم أغنى عن ذكر لفظ الفاعل تعظيما ليقينهم يوقنون, " وفي تقديم الآخرة وبناء يؤمنون على هم تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته وأن قولهم ليس بصادر عن إيقان." [46].
ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة67] فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم بلفظ الرسالة أغنى عن ذكر لفظ الفاعل للعلم والتسليم به، ويقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوالْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة91].
قيل بالبناء للمجهول ولفظ الماضي, لأنه قد ذلك مرارا وتكرارا وليس الغرض متعلقا بالشخص الذي قام بدعوتهم, وإنما تعلق الغرض بالمنزل عند الله – تعالى – وأوثر لفظ الجلالة الله على لفظ الربوبية لأنه مقام عقيدة وتوحيد وإثبات الوحي من السماء، ويقول تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوجَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود12](1/24)
ويقول تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد27]
ويقول تعالى: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [صّ8]
فبناء هذه الصيغ للمجهول ينبئ عن مكنون نفوسهم من نفي الوحي وإنكاره وفي آية هود جاء أنزل بالبناء للمجهول للدلالة على ذلك, ثبت فاعل جاء, جاء معه ملك لإرادتهم رؤيته ومعاينته رأي عين. والله تعالى أعلم.
الماء دليل دامغ علي قدرة الله – تعالى – وسر الوجود: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ}[الأنبياء30]، به أحيا الله الكائنات وبعث فيهم الروح والحياة والحركة الدءوب: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم24] وانزل أنزل الماء من السماء فجعله مصدر الحياة علي الأرض التي ترتوي به فتنبت الزرع والنخل والثمار والجنات: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [قّ9]
لذلك ما جاء في كتاب الله – تعالى – بخصوص إنزال الماء من السماء, جاء بالفعل المبني للمعلوم, سواء في سياق الأسلوب الخبري أو الإنشائي, لتتقرر حقيقة قدرة الله ظاهرة معلومة لكل ذي قلب, آخذة بعنان لبه, واضعة يده على دلالة وجود الله وقدرته.
إذا وقفنا أمام مادة خلف نجد أنها جاءت بصيغة الفعل المبني للمجهول في أربعة مواضع هي قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوالتَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[التوبة118]
وقوله تعالى:{ َقالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} [طه97]
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [هود110]
وقوله تعالى:{ َقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [فصلت45]
الاختلاف والمخالفة أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو قوله, والخلاف أعم من الضد, لأن كل ضدين مختلفان وليس كل مختلفين ضدان ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يقتضي التنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة قال: فاختلف الأحزاب – ولا يزالون مختلفين – واختلاف ألسنتكم وألوانكم، [47] وهذه الصيغة المبنية للمجهول التي وردت في تلك المواضع السابقة, نجدها قد جاءت في سياق العتاب أو الذم للمنكرين والمعرضين، أما آية التوبة فجاءت في حق الثلاثة الذين خلفوا: كعب بن مالك, ومرارة بن ربيعة العامري, وهلال بن أمية الواقفي، وهم جميعا من الأنصار المؤمنين, وقد جاءت الصيغة في حقهم خلفو دون تخلفو مثلا إشارة إلي قبح ذلك الفعل وفداحة التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن هذا العمل ما كان ليصدر من مؤمن موقن مثلهم, وإنما يصدر من منافق أو منكر جاحد، وبناء الفعل خلفو للمفعول فيه دليل آخر على أن هذا التخليف – هو تأخير قبول التوبة – واقع عليهم دون إرادتهم أو رغبتهم، فيه يعيش هؤلاء الصحابة – رضي الله عنهم – مجاهدة نفسية وآلامًا معنوية؛ انتظارا لتوبة الله عليهم.
وقيل: معني خلفو فسدوا, مأخوذ من خلوف الفم[48] وإذا كان الفعل خلفو قد جاء مبنيا لمفعوله, فقد جاء في سياق الآية نفسها الفعل: ضاقت مبينا للمعلوم ومكررا, في سياق الطباق اللفظي بين ضاقت – رحبت وذلك ليظهر مدى المعاناة والعنت النفسي الذي يعانونه, حتى صارت الأرض الرحبة الواسعة أمام الأعين ضائقة بهم, وهم ضائقون بها, ولذلك جاءت شبه الجملة عليهم مقدما على الفاعل الأرض, وهي نفس الصيغة التركيبية في: وضاقت عليهم أنفسهم.
وفي آية طه جاء الفعل – أيضا – مبنيا لمفعوله, وهذه الآية خطاب من موسي عليه السلام للسامري الذي فتن الناس بالعجل, فكان وعيده بالعذاب يوم القامة جزاء وفاقا لما فعل وضل وأضل.(1/25)
أما آية هود وآية فصلت فقد جاء الفعل فيهما فاختلف غير مسمي الفاعل, للدلالة – والله أعلم – علي أن هذا الاختلاف ناشئ من خارج ذلك الكتاب – وهو التوراة- الذي آتاه الله موسي عليه السلام, وليس خلافا ناشئا من داخله، وقد وقع الاختلاف " في شأنه وتفاصيل أحكامه, فآمن به قوم، وكفر به آخرون, وعمل بأحكامه قوم, ترك العمل ببعضها آخرون, فلا يضيق صدرك يا محمد صلى الله عليه وسلم بما وقع من هؤلاء في القرآن"[49].
ويصور الفعل المبني للمجهول – أيضا – ذلك الشيء الناشئ أوالطارئ على الحجة أوالبينة التي أتاها الله نوحا عليه السلام يقول تعالى:{ َقالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود28]
فالبينة واضحة بذاتها, ناصعة البيان والبرهان, وإنما قام الفعل المبني للمجهول بتصوير ذلك التطور الطارئ عليها من خارجها, وليس كما ذهب الزمخشري إلى جواز إطلاق العمى على الحجة ذاتها, فيقال: حجة عمياء قياسا على: حجة ظاهرة أو بصيرة، فالفعل المبني للمجهول دل على " أن التعمية واقعة عليها لا منها, وفي عميت حينئذ استعارة تبعية حيث شبه الإخفاء بالتعمية, بجامع عدم الرؤية في كل، هذا هو اللائق بمعجزات الله أو رسالته إذا كان المراد من البينة هي النبوة أو الوحي أو المعجزة, ولوسلمنا بأن المعجزة تكون عمياء إذا لم تهد إلى الحق, لما سلم كتاب سماوي ولا نبوة ولا معجزة من هذه الوصمة "[50]، ويقال عميت عن كذا, وعمي على كذا: إذا لم أفهمه، قيل وهو من باب القلب, لأن البينة أو الرحمة لا تعمي, وإنما يعمي عنها, فهو كقولهم: أدخلت القلنسوة رأسي[51]وهذا الفعل عميت بهذه الصيغة, قد جاء منفردا وحيدا في القرآن الكريم كله.
ويصور الفعل المبني للمجهول – أيضا – في مقام الحديث عن المنكرين والمعرضين الذين يزعمون إنهم مسحورون، يقول تعالى: {وَلَوفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُون َلَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر14-15]
لوحدث هذا لما آمنوا, وإنما يزعمون أنهم سحروا فخرجت أبصارهم عن إرادتهم فأغلقت رغما عنهم، وهذا الفعل سكرت بهذه الصيغة, جاء منفردا وحيدا في القران الكريم كله.
ومما جاء من صيغ بناء للمجهول الفعل قطع وذلك في معرض الحديث عن المنكرين والمعرضين ذما لهم وتقبيحا, قوله تعالى: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الأنعام:45
دابرهم يعني: غابرهم وآخرهم, أصلهم وآخرهم. [52] فينصرف الذهن إلى حدث القطع وظهوره في شكل حسي يتراءى أمام العين مع من يقع عليهم ذلك القطع.
ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَويُصَلَّبُوا أَوتُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَويُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة33]
وقوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج19- 20]
بدأت الآية الكريمة بالإجمال هَذَانِ خَصْمَانِ هما الكافرون والمؤمنون, وقال اخْتَصَمُو على معنى الجمع ثم التفصيل الذي بدأ بذكر الذين كفروا, وجاءت الأفعال في حقهم مبنية للمجهول قُطِّعَتْ- يُصَبُّ- يُصْهَرُ- أعيدو للدلالة على الذم والتقبيح وهم في مقام التجهيل والإهمال, فينصرف الذهن لمتابعة الحدث ومعموله, فيتراءى أمام العين مشهد التقطيع بصوته المدوي ولم يقل قطعت بالتخفيف.
ومشهد الثياب المقطعة, ثم يبرز من بعده مشهد صب الحميم وهو الماء المغلي – عافانا الله – فوق الرءوس، وقد تقدم ذكر الرءوس علي الحميم في قوله: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ لأن الغرض متعلق بأثر الصب علي الرءوس، ثم يأتي مشهد الصهر ومشهد الإعادة في عنف بعد محاولتهم الهروب وظنهم استطاعة الخروج، فهذا المشهد بأجزائه " مشهد عنيف صاخب, حافل بالحركة المتكررة, مطول بالتخييل الذي يبعثه النسق, فلا يكاد ينتهي الخيال من تتبعه في تجدده" [53] .
وقد يقتضي المقام ذكر الفاعل اسما ظاهرا أو ضميرا يعود على اسم ظاهر؛ لتتمثل الصورة حاضرة في أتم وضوح فتؤدي الغرض الذي من أجله جاء, كقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة166].(1/26)
وقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوخَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد15] وقد ظهر ذلك جليا كما في الآيتين السابقتين في الحديث عن مشاهد العذاب وما تخلفه من تهويل وترهيب تقشعر منه الجلود والأبدان.
البِنَاءُ لِلْمَجْهُولِ فِي مَقَامِ التَّنْزِيهِ عَنِ الذِّكْرِ
قد يأتي المقام مقتضيا عدم ذكر لفظ الفاعل تنزيها له وصيانة وحفظا, ولا سيما أنه معلوم من السياق واضح في الأذهان، وقد جاء ذلك في عدة سياقات من آيات القرآن الكريم, يقول تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان3]
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء28]
{خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء37]
{إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} [المعارج19]
وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق5- 6]
وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [لنجم45]
وقوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة37]
فهذه مقامات توجه نظر الإنسان وتدفعه إلي التدبر والتأمل, ليري حقيقة كونه وبداية خلقه وتكوينه من ضعف وهلع وشيء مهين مستقذر!
هذا بخلاف التصريح والبناء للمعلوم للفعل خلق في موضع آخر كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِين ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون 12- 14] وقوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات11]
وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة58]
وقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان2]
فتعين في هذه الآيات بناء الفعل للمعلوم وإظهار الفاعل, لأن هذه الآيات بسياقاتها تمثل مقام إثبات قدرة الله عز وجل وإفراده بالوحدانية خالقا بارئا.
الخَاتِمَةُ
نستطيع -بفضل الله- أن نلخص إلي بعض النتائج المستقاة من تفاعل الكلم القرآني وتعاطفه مع سياق الموقف وسياج المشهد الذي خاطب العقل والقلب وهز الوجدان في تضرع وخشوع؛ ليلقي في الروع ببعض نفحات الإعجاز وهمسات البيان, ومن ذلك:
إن الفعل المبنى للمجهول يتطلب سياقا ذا دلالة خاصة تنبئ عن مكنون المشهد وخفاياه المطوية, فقد يأتي؛ ليصور مجهول النفس وما طوي أو أضمر فيها, كتصويره خبايا النفس وخفي النيات في دروب الباطن, كما في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة27], فَتُقُبِّلَ بعدم تسمية الفاعل إشارة لتعليق قبول العمل علي ما انطوي عليه القلب من إخلاص وتقوى وإيمان، فتقبل الله من أحدهما هابيل لإيمانه وتقواه, ولم يتقبل من الآخر قابيل لكفره وحسده, وهذا وذاك محله القلب.
قد يأتي الفعل المبني للمجهول ليمثل عنصر المفاجأة وليصعد بجو المشهد إلى ذروة الحركة وعنفها, كما في قوله تعالى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب61] فاللعنة تلاحقهم في كل مكان وجدوا فيه, ثم يأخذون عنوة ويقتلون تقتيلا، ثقفوا، أخذوا، وقتلوا تقتيلا.
إذا جاء الفعل المبني للمجهول في سياق الاستفهام أو النفي أو الشرط أفاد العموم, وقد تبين ذلك من خلال الوقوف على الأفعال: دعي, نودي, ظلم, عفي الواردة في مثل هذه السياقات.(1/27)
يأتي المبني للمجهول ليسلط الضوء ويلفت الانتباه إلي حقيقته الحدث وطبيعته ومدي علاقته وتعلقه بالمفعول الأصلي, فيحقق الغرض الأساسي من إبراز عناصر المشهد ويتيح لها المجال الأكبر لتأدية دورها في قوة ووضوح, دون مزاحمة لفظية أو حضور لغوي لا يتعلق الغرض به، قد يأتي الفعل المبني للمجهول جاريًا مع سياق الآيات متوافقا على انتظام السياقات وتوافقها اللفظي والمعنوي، كقوله تعالى: {وَلَوأَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوقُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوكُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً}[الرعد 31] فجاءت هذه الأفعال سُيِّرَتْ - قُطِّعَتْ - كُلِّمَ مبنية للمجهول اتساقا مع قوله تعالى حكاية عن قول الكافرين قبل هذه الآية: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد27].
---------
المرَاجِعُ
ابن الأثير – المثل السائر – تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد – المكتبة العصرية – بيروت – 1995.
ابن كثير – تفسير القرآن العظيم – اختصار وتحقيق: أحمد شاكر وأنور الباز – الطبعة الأولي – دار الوفاء – المنصورة – 2003.
ابن هشام الأنصاري – أوضح المسالك الي ألفية إبن مالك – دار الطلائع – القاهرة – 2004.
الألوسي – روح المعاني – في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني – دار التراث – القاهرة.
د. بكري شيخ أمين – البلاغة العربية في ثوبها الجديد – الطبعة الرابعة – دار العلم للملايين – بيروت – 1995.
د. عبد العظيم المطعني – دراسات جديدة في إعجاز القرآن- الطبعة الأولي – مكتبة وهبة – القاهرة – 1996.
د. محمد عبد المطلب – البلاغة العربية – قراءة أخري – الطبعة الأولي – الشركة المصرية العلمية للنشر – القاهرة – 1997.
د.أحمد مصطفي متولي – الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية – الطبعة الأولي – دار إبن الجوزي – القاهرة – 2005.
د.عبد العظيم المطعني – التفسير البلاغى للإستفهام في القرآن الكريم – الطبعة الأولي – مكتبة وهبة – القاهرة – 1999.
د.عيد يونس – التصوير الجمالي في القرآن الكريم – الطبعة الأولي – عالم الكتب - القاهرة – 2006.
الدامغاني – الوجوه والنظائرلألفاظ كتاب الله العزيز – الطبعة الأولي – دار الكتب العلمية – بيروت - 2003.
الراغب الأصفهاني – المفردات في غريب القرآن.تحقيق: وائل عبد الرحمن – المكتبة التوفيقية – القاهرة – 2003.
الزركشي – البرهان في علوم القرآن – تحقيق: محمد أبوالفضل إبراهيم – الطبعة الثانية – دار التراث – القاهرة.
الزمخشري – الكشاف – تحقيق: مصطفى حسين – الطبعة الثالثة – دار الريان – القاهرة – 1987.
السدي – تفسير السدي الكبير – تحقيق: محمد عطا – الطبعة الأولي – دار الوفاء – المنصورة – 1993.
سيد قطب – التصوير الفني في القرآن - ط14 – دار الشروق – القاهرة – 1993.
سيد قطب – مشاهد القيامة في القرآن – ط12 – دار الشروق – القاهرة – 1993.
السيوطي – الإتقان في علوم القرآن – تحقيق: محمد ابوالفضل إبراهيم – دار التراث – القاهرة – 1997.
الشوكاني – فتح القدير – تحقيق: دكتور/ عبد الرحمن عميرة – الطبعة الثانية – دار الوفاء – المنصورة – 1997.
الطبري – جامع البيان في تفسير القرآن – الطبعة الثانية – دار المعرفة – بيروت – 1972.
عباس حسن – النحوالوافي – الطبعة الثانية عشر – دار المعارف – القاهرة – 1995.
عبد الدائم الكحيل – التناسق البياني لكلمات القرآن الكريم – موسوعة الإعجاز في القرآن والسنة – www.55a.net
عبد القاهر الجرحاني – دلائل الإعجاز – تحقيق: عبد المنعم خفاجي – مكتبة القاهرة – مصر – 1980.
عبد الكريم الخطيب – إعجاز القرآن – الطبعة الأولي – دار الفكر العربى – مصر – 1964.
الفخر الرازي – التفسير الكبير – الطبعة الثانية – دار إحياء التراث العربى – بيروت – 1997.
القرطبي – الجامع لأحكام القرآن – الطبعة الأولي – دار الفكر – بيروت – 1999.
الكرماني – البرهان في متشابه القرآن – تحقيق: أحمد خاف الله – الطبعة الثانية – دار الوفاء – المنصورة – 1998.
مصطفي صادق الرافعي – إعجاز القرآن والبلاغة النبوية – الطبعة الرابعة – مطبعة الإستقامة – القاهرة – 1945.
الهوامش:
[1] د. بكري شيخ أمين – البلاغة العربية في ثوبها الجديد - الطبعة الرابعة – دار العلم للملايين – بيروت – 1995 – 1/15.
[2] عبد الكريم الخطيب – إعجاز القرآن – الطبعة الأولي – دار الفكر العربي – مصر – 1964 – 2/269.
[3] عباس حسن – النحوالوافي – الطبعة الثانية عشرة – دار المعارف – القاهرة – 1995 – 2/97..
[4] سؤدد يقصد الشيخ البيت الذي استشهد به من قول البحتري: تنقل في خُلقي سؤدد سماحا مرجًّي وبأسا مهيبا.
[5] هو من البيت الذي استشهد به الشيخ عبد القاهر من قول إبراهيم بن العباس الصولي يمدح محمد بن عبد الملك الزيات:
فلو إذ نبا دهر وأنكرَ صاحب وسلط أعداء وغاب نصير(1/28)
تكون عن الأهواز داري بنجوة ولكن مقادير جرت وأمور
وقد علق الشيخ عبد القاهر علي طلاوة هذا الأسلوب من أجل تقديم الظرف إذا نب علي عامله تكون دون كان وتنكير دهر الذي ساقه في جميع ما أتي به من بعد, وبناء الفعل أنكر للمجهول.انظر دلائل الإعجاز ص126,ص127.
[6] عبد القاهر الجرحاني - دلائل الإعجاز - تحقيق عبد المنعم خفاجي - مكتبة القاهرة - مصر - 1980 - ص 128.
[7] د/ محمد عبد المطلب - البلاغة العربية.قراءة أخري - الطبعة الأولي - الشركة المصرية العالمية للنشر - القاهرة - 1997 ص 7.
[8] السيوطي - الإتقان في علوم القرآن - تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم - دار التراث - القاهرة - 1997 - 3/170.
[9] الزركشي - البرهان في علوم القرآن - تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم - الطبعة الثانية - دار التراث - القاهرة - 3/145.
[10] ابن الأثير - المثل السائر - تحقيق مجمد محي الدين عبد الحميد - المكتبة العصرية - بيروت - 1995 - 2/5.وأنظر البرهان في علوم القرآن - 3/325.
[11] ابن هشام الانصاري - أوضح المسالك إلي ألفية ابن مالك - دار الطلائع - القاهرة - 2004 - 2/120.
[12] الدامغاني - الوجوه والنظائر لألفاظ كتاب الله العزيز - ط- دار الكتب العلمية - بيروت - 2003 - ص 26.
[13] الزمخشري - الكشاف - ط3 - دار الريان للتراث - القاهرة - 1987 - 2/470.
[14] سيد قطب - التصوير الفني في القرآن- ط 14 - دار الشروق - القاهرة - 1993 - ص 36.
[15] الكرماني - البرهان في متشابه القرآن - تحقيق: احمد خلف الله - ط2 - دار الوفاء - المنصورة - 1998 - ص 319.
[16] الزمخشري - الكشاف - 1987 - 2/44.
[17] د/ عبد العظيم المطعني - التفسير البلاغي للاستفهام في القرآن الكريم - الطبعة الأولي - مكتبة وهبة - القاهرة - 1999 - 2256.
[18] ابن كثير - تفسير القرآن العظيم - اختصار وتحقيق احمد شاكر وأنور الباز - الطبعة الأولي - دار الوفاء - المنصورة - 2003 - 2/653.
[19] القرطبي - الجامع لأحكام القرآن - الطبعة الأولي - دار الفكر - بيروت - 1999 - المجلد السادس - 12/181.
[20] سيد قطب - مشاهد القيامة في القرآن - ط 12 - دار الشروق - القاهرة - 1993 - ص 192.
[21] د/عيد يونس - التصوير الجمالي في القرآن الكريم - الطبعة الأولي - عالم الكتب - القاهرة - 2006 - ص129-130.
[22] الألوسي - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني - دار التراث - القاهرة - 16/260..
[23] د/ احمد مصطفي متولي - الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية - الطبعة الأولي - دار ابن الجوزي - القاهرة - 2005 - ص 293.
[24] الفخر الرازي - التفسير الكبير - الطبعة الثانية - دار إحياء التراث العربي - بيروت - 1997 - 11/235
[25] سيد قطب - مشاهد القيامة في القرآن - ص 67.
[26] عبد الدائم الكحيل - التناسق البياني لكلمات القرآن الكريم - موسوعة الإعجاز في القرآن والسنة www.55a.net.
[27] الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية ص 106.
[28] الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية ص 106.
[29] الكرماني - البرهان في متشابه القرآن - ص 236.
[30] مصطفي صادق الرافعي - إعجاز القران والبلاغة النبوية - ط4- مطبعة الاستقامة بالقاهرة 1945 - ص 157.
[31] ابن كثير - تفسير القران العظيم - 3/451.
[32] دكتور عبد العظيم المطعني - دراسات جديدة في إعجاز القران - الطبعة الأولي- مكتبه وهبة - القاهرة - 1996- ص 268.
[33] الشوكاني - فتح القدير - تحقيق دكتور عبد الرحمن عميرة - ط 2 - دار الوفاء - المنصورة - 1997- 4/625.
[34] ابن كثير - تفسير القران العظيم - 3/177.
[35] فتح القدير 4/625.
[36] الراغب الاصفهاني - مفردات في غريب القران - تحقيق وائل عبد الرحمن - المكتبة التوفيقيه- القاهرة -2003- ص 342.
[37] الكشاف - 2/253.
[38] د/عبد العظيم المطعني - التفسير البلاغي للاستفهام في القرآن الكريم - 3/112.
[39] د/عبد العظيم المطعني - التفسير البلاغي للاستفهام في القرآن الكريم - 2/112.
[40] السدي - تفسير السدي الكبير - تحقيق د. محمد عطار - الطبعة الأولي - دار الوفاء - المنصورة - 1993 - 486.
[41] ابن كثير - 3/541.
[42] القرطبي - 4/285.
[43] التفسير البلاغي للاستفهام في القرآن الكريم 3/ 28- 29.
[44] الطبري - جامع البنيان في تفسير القرآن - الطبعة الثانية - دار المعرفة - بيروت - 1972 - 8/87.
[45] الكشاف 1/42.
[46] الكشاف - 1/42.
[47] الأصفهاني - المفردات في غريب القرآن - ص162.
[48] الشوكاني - فتح القدير 2/ 584.
[49] فتح القدير 2/734.
[50] د/عبد العظيم المطعني - التفسير البلاغي للاستفهام في القرآن الكريم - 2/102.
[51] الشوكاني - فتح القدير - 2/689.
[52]الدامغاني - الوجوه والنظائر لألفاظ كتاب الله العزيز - ص 211.
[53] سيد قطب - مشاهد القيامة في القرآن - ص257.
===============
سر دخول الكاف على لفظ المثل
صورة لصخرة على شاطئ بيروت على شكل رجل ساجد لله تعالى(1/29)
قال الله تعالى:" فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ "(الشورى:11)
أولاً- هذه الآية الكريمة جاءت تعقيبًا على قوله تعالى:" وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ "( الشورى: 10 )
وفيه يبين الله سبحانه للناس الجهة، التي يرجعون إليها عند كل اختلاف يقع بينهم، وهي هذا الوحي، الذي جاء من عند الله، والذي يتضمن حكم الله تعالى. فما من شيء اختلفوا فيه إلا وحكم الله تعالى فيه حاضر، في هذا الوحي، الذي أوحاه سبحانه وتعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لتقوم الحياة على أساسه. وعقب تقرير هذه الحقيقة يحكي تعالى قول رسوله صلى الله عليه وسلم، مسلمًا أمره كله إلى ربه، ومنيبًا إليه بكليته. ثم يأتي قول الله تعالى:
" فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ "( الشورى: 11 )
بما يزيد تلك الحقيقة تقريرًا، وتمكينًا في النفس. فالله الذي أنزل القرآن؛ ليكون حكم الله تعالى فيه هو الفصل، فيما يختلفون فيه، هو فاطر السموات والأرض، وفاطرهم، وهو الذي سوَّى نفوسهم وركَّبها، فنظم لهم حياتهم من أساسها، فهو سبحانه أعلم بما يصلح لها، وما تصلح به وتستقيم، وهو سبحانه الذي أجرى حياتهم وفق قاعدة الخلق، التي اختارها للأحياء جميعًا: جعل لهم من أنفسهم أزواجًا، ومن الأنعام أزواجًا، يذرؤهم فيه.. فهنالك وحدة في التكوين تشهد بوحدانية الأسلوب والمشيئة وتقديرها المقصود.. إنه هو الذي جعلهم- هم والأنعام- يتكاثرون، وفق هذا المنهج، وهذا الأسلوب؛ وذلك من أعظم النعم، التي أنعم الله تعالى بها على عباده، وامتنَّ بها عليهم. وهو آية من آياته الدالة على إلهيته ووحدانيته، وأنه المستحق لأن يعبد وحده.
ثم أكَّد سبحانه تفرَّده دون خلقه جميعًا بالإلهيَّة والوحدانيَّة، والاستحقاق للعبادة، فأخبر على سبيل النفي أنه ليس هنالك ذات من ذوات الأشياء، تشبهه في ذاته، فضلاً عن أن تماثله فيها، سبحانه وتعالى.. والفطرة تؤمن بهذا بداهة؛ لأن خالق الأشياء لا يمكن أن تشبهه، أو تماثله تلك الأشياء، التي هي من خلقه. ومن ثَمَّ فإنها ترجع كلها إلى حكمه، عندما تختلف فيما بينها على أمر, ولا ترجع معه إلى أحد غيره; لأنه ليس هنالك شبه له، أو مثل, حتى يكون هناك أكثر من مرجع واحد عند الاختلاف.
ومع أنه سبحانه ليس كمثله شيء في ذاته؛ لأنها مغايرة لذوات الأشياء كلها تمام المغايرة، فإن الصلة بينه عز وجل، وبين ما خلق ليست منقطعة بسبب تلك المغايرة، فهو سبحانه يسمع كل شيء ويبصر كل شيء، ثم يحكم حكم السميع البصير. " وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ "( المائدة: 50 )
ثانيًا- وقوله تعالى:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " تقرير للتوحيد، وإبطال لما عليه أهل الشرك من تشبيه آلهتهم وأوليائهم بالله جل وعلا، وجعلهم مثلاً له سبحانه، حتى عبدوهم معه. وهذا التشبيه والتمثيل، الذي أبطله الله سبحانه بهذا النفي هو أصل شرك العالم، وعبادة الأصنام والأقزام.
ولعلماء النحو والتفسير في تأويل هذه الآية الكريمة أقوال متضاربة، وآراء متباينة. والسبب في ذلك يرجع إلى إجماعهم على تفسير الكاف بمعنى المِثل؛ ولهذا تأولوا الآية على معنى: ليس مِثل مِثله شيء. ولما كان هذا التأويل يفضي إلى المحال؛ لأنه يثبت لله جل جلاله مِثلاً، اختلوا في تفسيره على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الكاف زائدة، لتأكيد المِثل. وعليه يكون المعنى: ليس مِثل الله شيء. وهذا قول الجمهور، جاء في لسان العرب:" وقوله تعالى:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "، أراد: ليس مثله. لا يكون إلا ذلك؛ لأنه، إن لم يقل هذا، أثبت له مِثلاً، تعالى الله عن ذلك ".
والقول الثاني: أن الزائد هو لفظ المِثل، لا الكاف. وعليه يكون المعنى: ليس كهو شيء. أي: ليس كالله شيء. وهذا يفضي إلى القول الأول؛ لأن الكاف- عندهم كما ذكرنا- بمعنى مِثل. ومنهم من قال: إن العرب تستعمل المِثل كناية عن الذات للمبالغة، فتقول: مِثلك لا يبخل، ينفون عن مِثله البخل، وهم يريدون نفيه عن ذاته.
والقول الثالث: أنه لا زائد في الآية، ثم اختلفوا: فذهب بعضهم إلى أن لفظ المِثل بمعنى: الذات، وأن المعنى: ليس كذاته شيء. وذهب بعضهم الآخر إلى أنه بمعنى: الصفة، وأن المعنى: ليس كصفته شيء. وجمع بعضهم بين المعنيين، فذهب إلى أن المعنى: ليس كذاته، وصفته شيء.(1/30)
واختار المرحوم الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني في كتابه:( أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع ) القول بأن المِثْل بمعنى: الوصف، فقال بعد أن قرَّر أن المَثَل، بفتحتين، والمِثْل، بفتح فسكون، يستعملان بمعنى الوصف، إذا اقترنا بكاف التشبيه:” فيمكن أن نقول في " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ": لا يشبه أوصافه شيء من الأشياء؛ وذلك لأن المِثل، والمَثل يستعملان بمعنى الوصف.. وبهذا ينحل الإشكال الذي ألجأ العلماء إلى تأويل اجتماع كلمتي تشبيه، هما: الكاف، ومثل.. وهل الكاف زائدة، أو للتأكيد ؟ أو أن المراد: نفي مثل المثل، فنفي المثل من باب أولى.. إلى غير ذلك من كلام طويل حول هذا التعبير“.
وانتهى من ذلك إلى القول:”وعلى هذا الأساس نستطيع أن نفهم نصوصًا قرآنية كثيرة. وبتفسير كلمة مَثَل، أو مِثْل بمعنى الوَصْفِ تنحلُّ إشكالاتٌ لفظيةٌ كثيرةٌ، يتعَبُ كثيرُ من المفسرين في تخريجها وتوجيهها “.
وهكذا، بهذه البساطة، توصَّل الشيخ حَبَنَّكَةالمَيْداني- رحمه الله- إلى حلِّإشكالات لفظية كثيرة، يتعَبُ كثيرٌ من المفسرين في تخريجها وتوجيهها- على حدِّ قوله- فكان كمَنْ أوقع نفسه في إشكالات أكبر من كل تلك الإشكالات، التي ذكرها؛ وذلك لمَا في قوله من إخُلالٍ ظاهر بمعنى الآية الكريمة، وصَرْفٍ لها عن الوَجْهِ، الذي قيلت من أجله.
وأورد الشيخ عبد المجيد البيانوني في كتابه ( ضرب الأمثال في القرآن ) قولاً في هذه الآية ذكره الراغب الأصفهاني في مفرداته عن بعضهم، وهو القول الذي اعتمد عليه المرحوم الشيخ حسن حبنكة الميداني في تقرير ما قرَّر، ثم عقب عليه بقوله:”انظر إلى المبحَث النفيس، الذي حققه الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراذ، في معنى هذه الآية في كتابه ( النبأ العظيم )، فارجع إليه؛ فإنه مَبحَث نفيس، ويكشف لك عن سر الإعجاز الإلهي في هذا الحرف“.. ولما رجعت إليه، وجدته يردِّد في ذلك كلامًا، نقله الفخر الرازي في تفسيره عن بعضهم ، وهو- كما يقول أبو حيان- كلام يحتاج إلى تأويل.
والحقيقة أن سرَّ الإعجاز الإلهي في هذه الآية الكريمة لا يتجلَّى لنا، إلا إذا فرَّقنا في المعنى أولاً بين المِثْل، بكسر فسكون، والمَثَل، بفتحتين، من جهة، وبينهما، وبين الكاف من جهة أخرى. ثم أدركنا ثانيًا سر الجمع بين المِثْل، والكاف فيها. وهذا ما سأبينه- هنا إن شاء الله- فأقول بعون الله تعالى وتعليمه:
أما المٍثْل، والمَثَل فهما من الأسماء، التي يقتضي وجود أحدهما وجود الآخر؛ كالنصف، والزوج، والضعف. ويجمع كل منهما على أمثال، ويفرق بينهما بالقرائن. واشتقاقهما من( الميم والثاء واللام )، وهو أصل موجود في اللغات السامية كلها، ويتضمَّن فيها جميعًا معنى: المُماثلَة.
وحقيقة المماثلة أنها مساواة بين شيئين متماثلين؛ إما في تمام الحقيقة والماهيَّة. وإما في تمامالأحوال والصفات الخارجة عن الحقيقة والماهية؛ بحيث يقوم أحد الشيئين مقام الآخر، فيما تكون فيه المماثلة، ويَسُدُّ فيها مَسَدَّه.والأولى هي المعبَّر عنها بلفظ المِثْل، بكسر فسكون، والثانية هي المعبَّر عنها بلفظ المَثَل، بفتحتين.
فعلى هذا إذا قيل: زيد مِثْلُ عمرو، فمعناه: أنه مساوٍٍ له في تمام حقيقتِه وماهيَّتِه. وإذا قيل: هو مَثَلُه، فمعناه: أنه مساوٍٍ له في تمام أحواله وصفاته، الخارجة عن حقيقته وماهيَّته.
وبهذا يعلَم أن المماثلَة بين الشيئين نوعان: مماثلة في الحقيقة والماهيَّة، وهي المعبَّر عنها بلفظ المِثْل. ومماثلة في الأحوال والصفات الخارجة عن الحقيقة والماهيَّة، وهي المعبَّر عنها بلفظ المَثَل.
ويتضح من ذلك أن المِثْل، والمَثَل يتفقان في دلالة كل منهما على المساواة، ثم يفترقان في دلالة الأول على المساواة في الحقيقة والماهيَّة، ودلالة الثاني على المساواة في الأحوال والصفات الخارجة عن الحقيقة والماهيَّة.
بقي أن تعلم أن الفرق بين المماثلة، والمساواة هو: أن المساواة تكون بين المختلفين في الجنس، والمتفقين؛ لأن التساوي يكون في المقدارين، اللذين لا يزيد أحدهما على الآخر، ولا ينقُص عنه.أما المماثلَة فلا تكون إلا بين المتفقين في الجنس. ولهذا يقال في المساواة: هذا الشيء يساوي درهمًا. ولا يقال: هذا الشيء يماثل درهمًا، لاختلافهما في الجنس.
ومن هنا لا يجوز أن يقال: إن المِثْل، والمَثَل سيَّان، وإن كان اشتقاقهما يرجع إلى مادة واحدة. كما لا يجوز أن يفسَّر كل منهما بمعنى الوصف.
أما الكاف فهي أداة موضوعة للتشبيه بين شيئين قد يتفقان في الجنس، وقد يختلفان فيه. والتشبيه بينهما يكون في صفة، أو أكثر من الصفات الخارجة عن الذات. فإذا قلت: زيد كعمرو، فمعناه: أن زيدًا يشبه عمروًا في صفة، أو أكثر من الصفات؛ ولهذا لا يجوز أن تفسَّر الكاف بمعنى المِثْل، فالأولى أداة موضوعة للتشبيه في الصفات، والثاني اسم موضوع للمماثلة في الذوات.(1/31)
وفي الفرق بينهما ذكر أبو هلال العسكري:” أن الشيءَ يُشبَّه بالشيء من وجه واحد، لا يكون مِثْلَهُ في الحقيقة، إلا إذا أشبهه من جميع الوجوه لذاته؛ فكأن الله تعالى، لمَّا قال:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "، أفاد أنه لا شِبْهَ له، ولا مِثْلَ.. ولو كان قوله تعالى:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " نفيًا أن يكون لمثله مثل، لكان قولنا: ليس كمثل زيد رجل، مناقضة؛ لأن زيدًا مثل من هو مثله.
والتشْبيه بالكاف يفيد تشبيه الصفات بعضها ببعض، وبالمِثْل يفيد تشبيه الذوات بعضها ببعض. تقول: ليس كزيد رجل. أي: في بعض صفاته؛ لأن كل أحد مِثْله في الذات. وفلان كالأسد. أي: في الشجاعة دون الهيئة، وغيرها من صفاته. وتقول السواد عرض كالبياض ولا تقول مثل البياض “.
وواضح من ذلك أن الفرق بين التشبيه، والمماثلة يكون من وجهين: أحدهما: أنك إذا قلت: زيد كالأسد فمعناه: أن زيدًا يشبه الأسد في صفة، أو أكثر من صفاته. هذا هو الأصل في التشبيه.
والوجه الثاني: أن التشبيه يكون بين المتفقين في الجنس، وبين المختلفين فيه. أما المماثلة فلا تكون إلا بين المتفقين في الجنس. وعلى هذا يجوز أن تقول: زيد كالجبل، فتشبِّه زيدًا بالجبل في صفة، أو أكثر من صفاته؛ كما شبه الله تعالى السفن بالجبال في العظم والارتفاع في قوله تعالى:
" وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ "( الرحمن: 24 )
ولا يجوز أن تقول: زيد مثل الجبل، لاختلافهما في الجنس. والوجه في ذلك أن تقول: زيد مثل عمرو، فتماثل بين متفقين في الجنس؛ كما ماثل الكفار بينهم، وبين الرسل في حقيقة الذات البشرية، فقالوا في معرض اعتراضهم عليهم:
" إن أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا "( إبراهيم: 10 )
فاعتبروا المساواة في البشرية، ومماثلة المجانسة فيها، واستدلوا بذلك على أن حُكْمَ أحد المِثْلَيْن حُكْمُ الآخر. فقالوا: كما لا نكون نحن رُسُلاً، فكذلك أنتم، فإذا تساوينا في حقيقة الذات البشرية، فأنتم مِثْلُنا، لا مَزِيَّةَ لكم علينا.
ومن ذلك ما حكي عن المشركين من قولهم:
" إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا "( البقرة: 275 )
أرادوا: أن البيع مساو للربا في تمام الحقيقة والحكم، فقد بلغ من اعتقادهم في حِلِّ الرِّبا، أنهم جعلوه أصلاً وقانونًا في الحِلَّ، وقاسوا عليه البيع. ولو قالوا: إنما البيع كالرِّبا، لكان مرادهم أن البيع يشبه الربا من حيث الصورة، لا من حيث الحقيقة. وهذا خلاف المراد.
ويبين لك ذلك أن الفرق بين الحلال، والحرام لا بدَّ أن يكون فرقًا في الحقيقة، ولو كان فرقًا في الصورة، أو الصفة، لاستوى البيع مع الرِّبا في الحل. وإلى ذلك أشار ابن قيِّم الجوزية بقوله:” ومعلوم أن الفرق في الصورة دون الحقيقة مُلغَى عند اللَّه تعالى ورسوله في فطر عباده، فإن الاعتبار بالمقاصد والمعاني في الأقوال والأفعال؛ فإن الألفاظ، إذا اختلفت ومعناها واحد، كان حكمها واحدًا. فإذا اتفقت الألفاظ واختلفت المعاني، كان حكمها مختلفًا. وكذلك الأعمال، إذا اختلفت صورها، واتفقت مقاصدها. وعلى هذه القاعدة يُبنَى الأمر والنهي، والثواب والعقاب “.
واختلفوا في المراد بالمماثلة في قوله تعالى:" وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ "( يس: 42 ):
أهي مماثلة بين المتفقين في الجنس، أم بين المختلفين فيهما ؟ على قولين: أحدهما: أن المراد بها: السُّفُن. والثاني: أن المراد بها: الإبل، وكانوا يسمُّونها: سُفُنَ البَرِّ.
وعقَّب على ذلك ابن قيِّم الجَوْزيَّة بقوله:”والأصحُّ أن المِثْل المخلوق- هنا- هو السُّفُن، وقد أخبر أنها مخلوقة؛ وهي إنما صارت سُفُنًا بأعمال العباد. وأبْعَدَ من قال: إن المِثْل- ههنا- هو سُفُنُ البَرِّ، وهي الإبل، لوجهين:
أحدهما: أنها لا تسمَّى مِثْلاً للسُّفُن، لا لغةً، ولا حقيقةً؛ فإن المِثْليْن ما سَدَّ أحدهما مَسَدَّ الآخر. وحَقيقة المماثلة أن تكون بين فُلْكٍ وفُلْكٍ، لا بين جَملٍ وفُلْكٍ.
والثاني: أن قوله:" وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ "( يس: 43 )عَقِبَ ذلك دليل على أن المراد الفُلْك، التي إذا ركبوها، قدرْنا على إغراقهم. فذكَّرهم بنعمه عليهم من وجهين: أحدهما: ركوبهم إياها. والثاني: أن يسلمهم عند ركوبها من الغرق“.
فثبت بما تقدم أن المِثْل غير المَثَل، وأن المِثْل غير الكاف؛ ولهذا لا يجوز أن يُفسَّر أحد هذه الألفاظ الثلاثة بالآخر.
وأما سر الجمع بين كاف التشبيه، والمِثْل، فهو أن الكاف تدخل على المِثْل، إذا كان المراد أن أحد المثلين، المتفقين في الجنس، أو المختلفين فيه، يشبه المِثْل الآخر في جهة، أو أكثر من جهات الحقيقة والماهيَّة. تأمل ذلك في قول عنترة بن شداد:
وما شَاقَ قلبي في الدُّجى غيرُ طائر **ينوح على غصنٍ رطيبٍ من الرَّنْد
به مثل ما بي فهو يخفي من الجوى **كمثل الذي أخفي ويبدي كالذي أبدي(1/32)
كيف سوَّى في هذه المماثلة بين ما بالطائر، وما به هو من الجوى ( وهو حرقة الشوق )، في حقيقة الجوى وماهيَّته! ثم شبَّه ما يخفيه ذلك الطائر من الجوى بما يخفيه هو، وشبه الذي يظهره الطائر من ذلك بالذي يظهره هو، ففرَّق بذلك التشبيه بين ما يخفيانه، وما يظهرانه من الجوى. فما يخفيانه منه يرجع إلى حقيقته وماهيَّته، وما يظهرانه منه يرجع إلى صورته؛ ولهذا استعمل لفظ المثل مع الأول دون الثاني.
ثم تأمل قول أحدهم:
وقتلى، كمِثْل جُذوعِ النَّخيل ** تَغَشَّاهُمُ مُسْبِلٌ، مُنْهَمِر
كيف شبه القتلى في هذا التمثيل، وهم في ساحة المعركة، بمثل جذوع النخيل، التي اقتلعها السيل من جذورها؛ لأنه أراد أن جثث القتلى تشبه جثث جذوع النخيل في جهة، أو أكثر من جهات حقيقتها وماهيتها. ولو أراد أنها تشبهها في صفة أو أكثر، لوجب أن يقول: وقتلى كجذوع النخيل، بإسقاط لفظ المثل. ولو أراد المماثلة بينهما في تمام الحقيقة والماهيَّة، لكان ينبغي أن يقول: وقتلى مثل جذوع النخيل. وهذا غير جائز، لاختلافهما في الجنس.
ومما ورد من ذلك في النفي قول عمرو ابن كلثوم:
فما شرب الشراب كمثل عمرو **وما نال المكارم فأَصْبَحينا
وقول ابن الدُّمَيْنَة:
وليس كمثل اليأس يدفع صبوة ** ولا كفؤاد الصَّبِّ صادف مطمعًا
وعلى هذا ورد قوله تعالى:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "، فهو نفي لقول المشركين: مِثْلُه شيءٌ. أي: شيءٌ مِثْلُ الله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا ! ألا ترى كيف مَثَّلوه سبحانه بخلقه، فجعلوا له أمثالاً وأندادًا، وهي أشياء، مع اعترافهم بأنه تعالى خالق الأشياء كلها ؟
روى عطاء عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال:”قدم وفد نجران، فقالوا: صف لنا ربك: أَمِنْ زُبُرْجُدٍ، أو ياقوتٍ، أو ذهبٍ، أو فضةٍ ؟ فقال: إن ربي ليس من شيء؛ لأنه خالق الأشياء، فنزل:" قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ "( الإخلاص: 1 ). قالوا: هو واحد، وأنت واحد. فقال:"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "( الشورى: 11 ) “.
ولذلك، لما قال فرعون لموسى:" وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ "( الشعراء:23 )كالطالب لماهيته تعالى، لم يجب موسى- عليه السلام- إلا بتعريفه بأفعاله، فقال:" رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا "( الشعراء:24 )؛ لأن السؤال في حق الباري سبحانه وتعالى عن ماهيَّته وجنسه خطأ كبير؛ لأنه سبحانه لا جنس له فيذكر، ولا تدرك ذاته.
" لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ "(الأنعام: 103)
ولهذا عدل موسى- عليه السلام- إلى الجواب بالصواب، ببيان الوصف المرشد إلى معرفته جل وعلا.
فإذا ثبت أن الله تعالى لا تدرك ذاته، ولا تعرف ماهيَّته، وأنه ليس بشيء مما يتصورون؛ لأنه خالق الأشياء كلها، فكيف يجوز أن تمثَّل ذاته المقدسة بذوات الأشياء، وهي مغايرة لها تمام المغايرة في حقيقتها وماهيتها ؟
ومن شروط المماثلة- كما ذكرنا- أن تكون بين شيئين متفقين في الجنس، وإن اختلفت صفاتهما؛ ولذلك لا يجوز أن يقال في حقه عز وجل: شيءٌ مِثلُ الله. ولا أن يقال: ليس شيءٌ مِثْلَ الله؛ كما جاز أن يقال: زيد مِِثْلُ عمرو، وليس زيد مِثْلَ عمرو؛ لأن لزيد مِثْلاً في الواقع من جنسه يماثله في ذاته، وليس لله تعالى مِِثْلٌ في الواقع يماثله في ذاته، لا من جنسه، ولا من غير جنسه؛ ولهذا نهى الله عز وجل عن ضَرْب الأمثال له، فقال:
"فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ "( النحل: 74 )
ولكن المشركين لم يتورَّعوا عن ضَرْبِ الأمثال لله جل وعلا؛ لاعتقادهم أنه سبحانه شيءٌ كباقي الأشياء، وأن ذاته الشريفة كذواتها، فجاء الرد عليهم بقوله تعالى:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "
ولو قيل في الرَّدِّ عليهم: ليس مِِثْلَه شيءٌ. أو ليس كالله شيءٌ- كما قال المفسرون في تأويل الآية الكريمة- لكان ذلك اعترافًا منه سبحانه بأن له مِثْلاً في الواقع، يتفق معه في الجنس.
ولهذا لما أراد الله عز وجل أن ينفي عن ذاته المقدسة الشِّبْه والمِثْل، أتى بلفظ المِثْل، وأدخل عليه كاف التشبيه، ثم نفاهما معًا بـ" لَيْسَ "، فأصبح معنى الآية الكريمة: لا توجد ذات من ذوات الأشياء، تشبه ذات الله تعالى في جهة أو أكثر من جهاتها، فضلاً عن أن تماثلها؛ لأن نفيَ الشِّبْه يستلزم نفيَ المِثْل. وبهذا يظهر لك سر دخول الكاف على لفظ المِثْل في هذه الآية الكريمة.. فتأمله، وقِسْ عليه نظائره.
وللفخر الرازي كلام جيد في تأويل هذه الآية الكريمة، التي تاهت العقول في تأويلها؛ كما تاهت في ذاته سبحانه لاحتجابها بأنوار العظمة، وأستار الجبروت، أنقل منه قوله:” احتجَّ علماء التوحيد- قديمًا وحديثًا- بهذه الآية في نَفْيِ كونه تعالى جسمًا مركبًا من الأعضاء والأجزاء، وحاصلاً في المكان والجهة، وقالوا: لو كان جسمًا، لكان مِثْلاً لسائر الأجسام، فيلزم حصول الأمثال، والأشباه له؛ وذلك باطل بصريح قوله تعالى:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ".. “.(1/33)
وأضاف قائلاً:" ويمكن إيراد هذه الحجة على وجه آخر، فيقال: إما أن يكون المراد:"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " في ماهيات الذات. أو أن يكون المراد:"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "في الصفات. والثاني باطل؛ لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين؛ كما أن الله تعالى يوصف بذلك. وكذلك يوصفون بكونهم معلومين مذكورين، مع أن الله تعالى يوصف بذلك. فثبت أن المراد بالمماثلة: المساواة في حقيقة الذات؛ فيكون المعنى: أن شيئًا من الذوات لا يساوي الله تعالى في الذاتية. فلو كان الله تعالى جسمًا، لكان كونه جسمًا ذاتًا، لا صفة. فإذا كان سائر الأجسام مساوية له في الجسمية- أعني: في كونها متحيزة طويلة عريضة عميقة- فحينئذ تكون سائر الأجسام مماثلة لذات الله تعالى في كونه ذاتًا. والنصُّ ينفي ذلك، فوجب أن لا يكون جسمًا ".
ثالثًا- ولو كان المِثْل، بكسر فسكون، والمَثَل، بفتحتين، سيَّان، وأن معناهما الوصف، للزم التنافي بين قوله تعالى:"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "، وقوله:" وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ "( النحل: 60 )؛ لأن الأول نفيٌ للمِثْل، والثاني إثباتٌ للمَثَل؛ ولهذا ختم الله تعالى آية الشورىبقوله:" وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ "
فأثبت سبحانه لنفسه صفة السميع، والبصير، على وجه التمام والكمال، والعظمة والجلال؛ وذلك لا يكون إلا لله جل جلاله؛ كما أفاده أسلوب الحصر في الموضعين. وكأنه عز وجل ذكر من صفاته هاتين الصفتين هنا؛ لئلا يتوهم أنه سبحانه لا صفة له، كما أنه لا شِبْهَ له، ولا مِثْلَ.
قال الشيخ ابن تيمية:" ففي قوله:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " رد للتشبيه والتمثيل، وقوله:"وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ " رد للإلحاد والتعطيل. والله سبحانه بعث رسله بإثبات مفصَّل، ونفيٍ مجمَل، فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل، ونَفَوْا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل ".
فإذا كان قوله تعالى:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " قد أفاد نفي التشبيه والتمثيل عن الله سبحانه على وجه الإجمال، وأن قوله سبحانه:" وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ "قد أفاد إثبات الصفات له سبحانه على وجه التفصيل، فإن قوله تعالى:" وَلِلّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى " قد أفاد إثبات المَثَل الأعلى له في الصفات، وأفاد نفيَ أن يكون له مَثَل من خلقه يشبهه، أو يماثله في حقيقة ذلك المَثل، لاستحالة أن يشترك في المثل الأعلى مِثلان اثنان؛ لأن المِثل لا يكون أعلى من المِثل الآخر فيما تكون فيه المماثلة. وإذا فُرِضَ أنهما متماثلان، أو متكافئان متساويان، لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يكونا متكافئين متساويين، فالموصوف بالمثل الأعلى واحد.وبذلك يكون قوله تعالى:" وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ "، قد تضمَّن إثباتًا، ونفيًا في آن واحد.
فتأمل هذه الأسرار البديعة، التي لا تجدها إلا في البيان الأعلى ! فسبحان الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، له الفضل وله المنَّة، لا يقاس بالقياس، ولا يشبه بالناس.. سبحانه وتعالى !
بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك
================
الفرق بين النصيب والكفل
قال الله تعالى:" مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً "( النساء: 85 )
فاستعمل سبحانه لفظ ( النصيب ) مع الشفاعة الحسنة، واستعمل لفظ ( الكفل ) مع الشفاعة السيئة، فدل على أن بينهما فرقًا في المعنى.
وأكثر المفسرين على القول بأن النصيب، والكفل بمعنى واحد، وهو الحظ، أو المِثْل، إلا أن الثاني أكثر ما يستعمل في الشر؛ كاستعماله- هنا- في الشفاعة السيئة.
وفرَّق بعضهم بينهما بأن النصيب يزيد على المثل، والكفل هو المِثْلُ المساوي، فاختار تعالى النصيب مع الشفاعة الحسنة؛ لأن جزاء الحسنة يضاعف بعشرة أمثالها، واختار الكِفْلَ مع الشفاعة السيئة؛ لأن من جاء بالسيئة لا يجزى إلا مثلها.
وهذا القول مبنيٌّ على اعتبار أن ( من ) في قوله تعالى:" مِنْهَا "، في الموضعين، للسبب، وعلى اعتبار أن جزاء الشفاعة الحسنة كجزاء فعل الحسنة، وجزاء الشفاعة السيئة كجزاء فعل السيئة، قياسًا على قوله تعالى:
" مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ "( الأنعام: 160 ).
وعليه يكون المعنى: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب بسببها، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل بسببها. أي: يكن لكل منهما ذلك بسبب شفاعته.. وهذا خلاف ما نصَّت عليه الآية الكريمة من المعنى تمامًا؛ لأن ( من ) في قوله تعالى:" مِنْهَا "، في الموضعين، ليست للسبب؛ وإنما هي للتبعيض. والمراد من الآية الكريمة: أن للشفيع، الذي يشفع في الحسنة، نصيبًا من جزاء المشَفَّع على شفاعته، وأن للشفيع، الذي يشفع في السيِّئة كِفْلاً من جزاء المشَفَّع على شفاعته.(1/34)
فههنا شَفيعٌ، ومُشَفَّعٌ، ومُشَفَّعٌ له، وشَفاعَةٌ. والشفاعةُ نوعان: حسنة، وسيئة. فالشفاعة الحسنة هي التي يُراعَى بها حق المسلم، فيُدفَع بها عنه شر، أو يُجلَب بها إليه خير، ابتغاء مرضاة اللهتعالى. وأما الشفاعة السيئة فهي التي تكون في معصية الله ابتغاء لجاه أو غيره، وأعظمُها جُرْمًا ما كان في حَدٍّ من حدود الله تعالى.
وورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:" من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى، فقد ضادَّ الله تعالى في ملكه، ومن أعان على خصومة بغير علم، كان في سخط الله تعالى حتى ينزع ". قال الألوسي تعقيبًا على الخبر:" واستثني من ذلك الحدود في القصاص، فالشفاعة في إسقاطه إلى الديَّة غير محرمة ".
وروى أبو داود عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" مَنْ شَفَعَ لأحَدٍ شَفَاعَةً ، فأهدى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا ، فَقَبِلَهَا ، فَقَدْ أتى بَاباً عَظِيماً مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا ".
وروت عائشة- رضي الله عنها- في الحديث الصحيح:" أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ إلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ وَأََيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ".
فإذا كانت الشفاعة في حق، كان لصاحبها من أجرها، الذي يستحقه المُشفَّع أجرٌ حسنٌ. وهذا ما عَبَّر عنه تعالى بلفظ ( النصيب )، ومعناه في اللغة: الحظ الجيد المعيَّن من الشيء. تقول: هذا نصيبي. أي: حظي. قال تعالى:
" لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً "( النساء: 7 ).
ثم قال:" لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ "( النساء: 11 )، فدل على أن النصيب هو الحظ المعين، وأن هذا النصيب تابع للتركة في الزيادة، والنقصان. ونحو ذلك قول إبليس اللعين:" لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً "( النساء: 118 )
واشتقاقه من النَّصْب، بإسكان الصاد، وهو إقامة الشيء في استواء، وإهْداف، ووضعُه موضعًا ناتئًا؛ كنصْب الرمح، والحجر في الأرض.والنصْبُ، والنصيبُ حجر كان ينصَبفي الأرض، فيعبَده العرب في الجاهلية.
وإذا كانت الشفاعة في باطل، كان لصاحبها من أجرها، الذي يستحقه المُشفَّع أجرٌ رديء. وهذا ما عَبَّر عنه تعالى بلفظ ( الكفل )، وهو من الأجر والإثْم: الضِّعْفُ، في أصح الأقوال. وأصله مركَب يُهَيَّأ على ظهر البعير، أو كساء يدار حول سنامه، وأكثر ما يستعمل في الشرِّ. ومنه ما جاء في الصحيحين من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ ".. وقد يستعمل في الخير، ومنه قول الله تعالى:
" يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ "( الحديد: 28 )
ولهذا كانت عقوبة الشفاعة السيئة في الإثم، والمؤدية إلى إسقاط الحق عظيمة عند الله تعالى تتناسب مع المعنى، الذي يؤديه لفظ الكفل، وليس كذلك السيئة، التي تجزى بمثلها. وكذلك كان ثواب الشفاعة الحسنة المؤدية إلى إحقاق الحق يتناسب مع المعنى، الذي يؤديه لفظ النصيب. فإذا عرفت ذلك، تبين لك السِّرُّ في اختيار ( النصيب ) للشفاعة الحسنة، و( الكفل ) للشفاعة السيئة ترغيبًا في الأولى، وتنفيرًا من الثانية.
ومما ينبغي أن يعلَم أيضًا أن الحديث عن الشفاعة بنوعيها يخص قومًا بعينهم، وأن أصحاب الشفاعة السيئة أكثر من أصحاب الشفاعة الحسنة، وأن وجودهم في المجتمع من أخطر الآفات، التي تهدد سلامته؛ ولهذا كانت عقوبتهم مضاعفة. أما الحديث عن فعل الحسنة، وفعل السيئة فهو حديث عام يعم أفراد المجتمع كلهم. ومن لطف الله تعالى بعباده أن جعل جزاء السيئة سيئة مثلها، ومن منِّه وكرمه سبحانه أن جعل جزاء الحسنة بعشرة أمثالها، ويزيد من فضله لمن يشاء. ومن هنا لا يجوز قياس الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة على فعل الحسنة وفعل السيئة.
وشيء آخر ينبغي أن يعلم ، وهو أنه لما كان الجزاء بالنصيب، والكفل من الأمور، التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى ، ختم سبحانه الآية الكريمة بقوله:" وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً "
فبين سبحانه أنه كان وما زال ولا يزال شاهدًا وحفيظًا وحسيبًا على هذه الأعمال، ومجازيًا على كل عمل بما يناسبه ، وقادرًا على إيصال النصيب والكفل من الجزاء إلى الشافع مثل ما يوصله إلى المشفوع فيه كاملاً، لا ينتقص بسبب ما يصل إلى الشافع شيء من جزاء المشفوع.(1/35)
والمُقيت من أسماء الله تعالى، وفسّره الغزالي بموصل الأقوات، فيؤول إلى معنى الرازق، إلا أنه أخص، وبمعنى المستولي على الشيء، القادر عليه، فيكون راجعًا إلى القدرة والعلم. والظاهر أنه جامع للمعاني السابقة كلها.. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم إنه خير مسؤول .
محمد إسماعيل عتوك
=============
أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تَحْرُثُونَ
قال الله تبارك وتعالى:" أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تَحْرُثُونَ*أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ* لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ "(الواقعة: 63- 65)
ثم قال:" أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ*أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ "(الواقعة: 68- 70)
فأدخل اللام على جواب " لَوْ " في قوله:" لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا "، ونزعها منه في قوله:" جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ".. ولسائل أن يسأل: لمَ أدخِلت اللام على الجواب الأول، ونزعت منه في الثاني ؟
وللنحاة والمفسرين في الإجابة عن ذلك أقوالٌ، ليس بعضها بأولى من بعض، وتتلخص في أن هذه اللام تدخل في جواب" لَوْ "زائدة، والغرض من زيادتها التوكيد، وأما خروجها منه فالغرض منه الإيجاز والاختصار. وأنه لما كان الوعيد بتحويل الزرع إلى حطام أشد وأصعب من الوعيد بتحويل الماء العذب إلى ماء ملح، احتاج الأول إلى تأكيده باللام، دون الثاني.
ويحتجون لذلك بأن الموجود من الماء الملح أكثر من الماء العذب، وأنه كثيرًا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة، أو السبخة أحالتها إلى الملوحة؛ فلذلك لم يحتج في جعل الماء العذب ملحًا إلى زيادة تأكيد. وأما الزرع فإن جعله حطامًا من الأشياء الخارجة عن المعتاد، وإذا وقع فلا يكون إلا عن سخط من الله شديد؛ فلذلك قرن بلام التأكيد زيادة في تحقيق أمره، وتقريره إيجاده.. إلى غير ذلك من الأقوال، التي لا تفسِّر أسلوبًا، ولا توضح معنى.
ومما يدلك على ضعف هذه الأقوال، وتكلفها في التأويل والتعليل ما ذكره الزركشي من تشبيه التوعُّد بجعل الماء أجاجًا بتوعُّد الإنسان عبده بالضرب بالعصا ونحوه، وتشبيه التوعُّد بجعل الزرع حطامًا بتوعُّده بالقتل. ولما كان الأول أسهل وأيسر، لم يحتج إلى تأكيد، كاحتياج الثاني إليه.
ومما ذكره الدكتور فاضل السامرائي في لمسات بيانية محتجًّا به على أن العقوبة بجعل الزرع حطامًا أشد من عقوبة جعل الماء أجاجًا، أن الماء الأجاج يمكن أن يحول إلى ماء عذب. وذكر أن التهديد لم يأت في الآية بغور الماء كليًّا كما في تهديد جعل الزرع حطامًا، فجاء باللام لتأكيد التهديد في آية الزرع، وحذفها من آية التهديد بالماء.
ولست أدري ما وجه الشبَه بين توعُّد الله تعالى الكفار بجعل ماء السحاب أجاجًا، وتوعُّد الإنسان عبده بضربه بالعصا، وبين توعُّدهم بجعل الزرع حطامًا بتوعُّد العبد بالقتل، حتى يقاس أحدهما بالآخر ؟ ثم إذا كان لدى الناس القدرة على تحويل الماء الأجاج إلى ماء عذب، فما قيمة أن يتوعَّدهم الله تعالى بذلك ؟ ثم كيف يمكن أن نفهَم من جعل الماء أجاجًا أن التهديد في الآية لم يأت بغَوْر الماء كليًّا ؟ وهل جاء التهديد فيها بغور الماء أصلاً، حتى يقال مثل هذا القول ؟
وليت شعري ماذا يقول أولئك الذين لا همَّ لهم سوى الطعن في بلاغة القرآن، وفصاحته، عندما يقرؤون مثل هذه الأقوال في تفسير كلام الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، فضلاً عن أنه أنزل بلسان عربي مبين؛ ليبين للناس أمور دينهم، ويهديهم سنن الذين من قبلهم، ويرشدهم إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة ؟
ونعود بعد هذا إلى الإجابة عن السؤال، فنقول بعون الله وتعليمه: إن في نزع اللام من جواب " لَوْ " في قوله تعالى:
" لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا "
إشارة إلى التعجيل بوقوع العقوبة عقب المشيئة فورًا دون تأخير. وفي إدخالها عليه في قوله تعالى:
" لَوْ نَشَاءُلَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا "
إشارة إلى تأجيل العقوبة لعقوبة أشدَّ منها؛ كقوله تعالى:
" حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ "(يونس:24)
وقد جعل الله تعالى هلاك المهلَكين من الأمم الطاغية حصيدًا عقوبة لهم، فقال سبحانه:
" ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ "(هود:100)(1/36)
أي: منها هلك أهله دونه فهو باقٍ، ومنها هلك بأهله، فلا أثر له؛ كالزرع المحصود بالمناجل، بعضه قائمٌ على ساقه، وبعضه حصيدٌ. وحصيدُ هو فَعيلٌ من الحصْد، بمعنى: مفعول، وهو قطع الزرع في إبَّانه، واستئصاله من جذوره. وقد أفاد في الآية السابقة قطع الزرع واستئصاله في غير إبَّانه على سبيل الإفساد، ومنه استعير قولهم: حصدَهم السيفُ. ومنه- كما في مسند أحمد- قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ:"وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم".
وعليه يكون المعنى المراد من الآية: لو يشاء الله تعالى، لجعل الزرع، الذي ينبته من الحب حطامًا، عقوبة لهم على شركهم به، وتكذيبهم بآياته؛ ولكن اقتضت مشيئته سبحانه أن يؤجل هذه العقوبة لأشدَّ منها، كان ذلك " وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ "(الروم:6)، " وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ "(الحج: 47).
والمراد من جعل الزرع حطامًا جعله متكسِّرًا قبل الانتفاع به. وأما ما يؤول إليه الزرع من الحطام بعد الانتفاع به فذلك معلوم لكل أحد، ولا يكون التعبير عنه مشروطًا بـ( لو ) الشرطية؛ كما في قوله تعالى:
"أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ "(الزمر:21)
فلإفادة هذا المعنى- أعني: تأجيل العقوبة لأشدَّ منها- أدخلت اللام على جواب"لَوْ ". هذه اللام، التي أجمعوا على القول بزيادتها للتوكيد، وهم معذورون في ذلك، فأسرار القرآن الكريم أجلُّ، وأعظم من أن تحيط بها عقول البشر !
وأما قوله تعالى عن الماء:" لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا " فالمعنى المراد منه: لو يشاء الله تعالى، جعل الماء المنزَّل من المزن أجاجًا لوقته دون تأخير، فلا ينتفع به في شرب، ولا زرع، ولا غيرهما؛ ولكنه تعالى لم يشأ ذلك رحمة بعباده، وفضلاً منه تعالى عليهم.
أما ما يؤول إليه الماء من الملوحة بعد نزوله من المزن، وجريه على الأراضي المتغيرة التربة، أو السبخة- كما قالوا- فذلك ما لم يُرَدْ من الآية الكريمة، وليس في الإخبار عنه أية فائدة تذكر. ويبيِّن لك ذلك أن الله تعالى قال:
" جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا "، ولم يقل:" جَعَلْنَاهُ ملحًا "؛ لأن مياه الأرض كلها تحتوي على نسب من الأملاح متباينة. ومن هنا قلَّ الاقتصار على وصف الماء، الذي لا ينتفع به، بالملح في لغة العرب، وكثيرًا ما كانوا يقرنون هذا الوصف بوصف الأجاج؛ كما كانوا يقرنون وصف الماء العذب بوصف الفرات. وفي ذلك قال الله تعالى:
" وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا "(فاطر: 12)
فقابل سبحانه بين العذب والملح، وبين الفرات والأجاج. والماء العذب هو الطيب البارد.والماء الملح هو الذي تغير طعمه، وإذا كان لا ينتفع به في شرب، فإنه ينتفع به في غيره. والماء الفرات ما كان مذاقه مستساغًا، يضرب طعمه إلى الحلاوة، بسبب انحلال بعض المعادن والغازات فيه. والماء الأجاج هو الماء الزُّعَاقُ، وهو المرُّ، الذي لا يطاق، ولا ينتفع به في شرب، ولا غيره، لشدَّة مرارته وحرارته، وهو من قولهم: أجيج النار.
فإذا عرفت ذلك، تبيَّن لك سر الجمع بين الملح، والأجاج في وصف ماء البحر؛ إذ لو اقتصر في وصفه على كونه ملحًا، كان مثل أي ماء يجري على التربة المتغيرة، ويستقر في أعماق الأرض. ولو اقتصر في وصفه على كونه أجاجًا، كان ماؤه فاسدًا، لا ينتفع به في شيء مطلقًا.
وكذلك جعل ماء المزن أجاجًا. والمزن هو السحاب الأبيض المثقل بماء المطر، وهو أنقى ماءوأعذب. ولئن اجتمع الإنس والجن بما أوتوا من قوة على أن يعيدوا هذا الماء بعد جعله أجاجًا إلى حالته الأولى، لعجزوا عن ذلك، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.
ومن هنا كان جعل هذا الماء أجاجًا- أي: شديد المرارة والحرارة لوقته دون تأخير- أدلَّ على قدرة الله تعالى، من جعل الزرع حطامًا، وإن كان الكل أمام قدرة الله سواء. ويدلك على ذلك أن قوله تعالى:
" لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا "
قيل على طريقة الإخبار؛ لأن جعل الماء المنزل من المزن أجاجًا لوقته عقب المشيئة، لم يشاهد في الواقع؛ لأنه لم يقع، بخلاف جعل الزرع حطامًا؛ فإنه كثيرًا ما وقع كونه حطامًا بعد أن كان أخضرَ يانعًا، خلافًا لمن زعم خلاف ذلك. فلو قيل: جعلناه حطامًا، بإسقاط اللام؛ كما قيل: جعلناه أجاجًا، لتُوُهِّم منه الإخبار.
ويدلك على ذلك أيضًا أن دخول هذه اللام على جواب " لَوْ "، لا يكون إلا في الأفعال، التي لا يُتخيَّل وقوعها؛ كما في قوله تعالى:
" قَالُوا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا "(الأنفال: 31). أي: مثل القرآن.
" قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً "(فصلت: 14)(1/37)
" وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ "(يس: 66)
" وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ "(يس: 67)
" وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ "(الزخرف: 60)
ونحو ذلك قوله تعالى:
" لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا "
فجعل الزرع حطامًا ممّا لا يتخيل وقوعه، وإن كان يقع؛ ولهذا قال تعالى عقِبه:
" فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ "
فأتى بفعل التفكُّه؛ لأن ذكر الحطام يلائم التفكُّه. ومعنى الاعتداد بالزرع، يقتضي الاعتداد بصلاحه وعدم فساده، فحصل التفكُّه.
والمعنى: فظلتم تعجبون من هلاك زرعكم، وتندمون على ما أنفقتم فيه. وقيل: تلاومون، وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله، التي أوجبت عقوبتكم، حتى نالتكم في زرعكم. والقولان مرادان يكمل أحدهما الآخر، والدليل على ذلك قوله تعالى:
" وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا "(الكهف:35)
إلى قوله تعالى:
" وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً "(الكهف: 42)
ألا ترى إلى قوله لفرط غفلته، وطول أمله، واغتراره بجنته:"مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ". إنه لم يتخيل هلاكها أبدًا، فلما ظهر له أنها مما يعتريه الهلاك، ندم على ما صنع.
أما جعل الماء العذب أجاجًا فهو مما يتخيل وقوعه، وإن لم يقع. ومثله في تخيل الوقوع، والتعجيل به عقب المشيئة قوله تعالى:
" أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ "(الأعراف: 100)
ولهذا عقَّب تعالى على جعل الماء أجاجًا بقوله:
" فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ "
وهو تحضيض لهم على الشكر بإخلاص العبادة لله تعالى وحده على هذه النعمة، التي هي أعظم النعم.
ومثل تهديد الكفار بجعل الماء المنزل من المزن أجاجًا تهديدهم بجعل ماء الأرض غورًا. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:
" قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ "(الملك: 30)
فكيف يمكن القول بعد هذا: إن جعل الماء أجاجًا أسهل وأكثر من جعل الزرع حطامًا، وإنالوعيد بفقد الزرع أشد وأصعب من الوعيد بفقد الماء، فاحتاج الأول إلى تأكيده باللام، دون الثاني ؟ ألا ترى أنه لولا الماء، لما كان هناك زرع، ولا شجر، ولا حيوان، ولا بشر ؟ ألم يسمعوا قول الله تعالى:
" وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ "(الأنبياء: 30)؟
ومما يدلك أيضًا على فساد ما ذهبوا إليه أن من يتأمل الآيات، التي أدخلت اللام فيها على جواب "لَوْ "، يجد أن هذه اللام تقوم مقام السين، وسوف في الدلالة على التسويف في إيقاع الفعل تارة، والمماطلة تارة أخرى. وأوضح ما يكون ذلك في قوله تعالى في صفة الكافرين:
" وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ "(الأنفال:31)
أي: لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن. وهم لم يقولوا، ولن يقولوا، ولا يمكنهم أن يقولوا؛ ولهذا أتوا بهذه اللام، التي دلت على تسويفهم، ومماطلتهم، وهذا بخلاف قولهم:
" لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا "(الأنعام : 148 )
لاحظ كيف قرنوا شركهم بالله تعالى، وتحريمهم ما أحل بمشيئته سبحانه مباشرة دون تأخير. ولو قالوا: لما أشركنا.. لدل قولهم على أن شركهم جاء متأخرًا عن المشيئة، فيحتمل حينئذٍ أن يكونوا آمنوا، ثم أشركوا.
ثم تأمل ذلك في بقية الآيات، التي جاء فيها جواب الشرط مجردًا من اللام، والآيات، التي اقترن فيها جواب الشرط باللام، تجدها كلها على ما ذكرت، إن شاء الله ! وإن كنت ممن يتأملون الكلام، ويتلذذون بإدراك أسرار البيان، فتأمل قول كُثيِّر عَزَّةَ:
رهبانُ مَدينَ، والذين عهدتهم ***يبكون من أثر السجود قعودا
لو يسمعون كما سمعت كلامها ***خرُّوا لعَزَّةَ رُكَّعًا، وسجودا
ثم لاحظ قوله:( خرُّوا لعَزَّةَ رُكَّعًا، وسجودا )، تجده قد وقع عقِب سماعهم كلامها، دون تأخير. ثم تأمل قول توْبةَ بن الحُمَيِّر:
ولو أَنَّ لَيْلَى الأَخْيَلِيَّةَ سَلَّمَتْ ***علىَّ، ودُونِى جَنْدَلٌ وصَفائحُ
لَسَلَمْتُ تَسْليمَ البَشَاشَةِ، أَو زَقَا ***إِليْها صَدًى من جانب القَبْرِ صائحُ
ولاحظ قوله:( لَسَلَمْتُ تَسْليمَ البَشَاشَةِ )، كيف أدخل فيه اللام، التي تدل على المماطلة والتسويف في إيقاع الفعل، الذي لا يتخيل وقوعه. ولو أردت أن تتبيَّن الفرق بين الموضعين، فقارن بين قول أحدهم:
لو جاءني زيد أكرمته... وبين قوله:(1/38)
لو جاءني زيد لأكرمته.. تجد أن الأول صادق في قوله، والثاني مماطل مسوِّف، ثم تذكر أن القول بزيادة اللام في الثاني للتوكيد من أخطر الأقوال، التي يفسَّر بها كلام الله جل وعلا.. ولهذا أقول: ينبغي أن تسمَّى هذه اللام: لام التسويف؛ لأنها تفيد ما يفيده كلٌّ من السين وسوف، من دلالة على التأخير والتسويف والمماطلة في إيقاع الفعل.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، فلا علم لنا إلا ما علمتنا، لك الشكر على ما أنعمت، ولك الحمد على ما تفضلت به علينا من نعمة العلم والفهم والدين، وسلام على المرسلين !
بقلم محمد إسماعيل عتوك
===============
مثل الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ
بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك
باحث لغوي في الإعجاز البياني
للقرآن الكريم ومدرس للغة العربية
قال الله تعالى:" مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ" (إبراهيم 18)
ضرب الله تعالى هذه الآية الكريمة مثلاً، شبَّه فيه الأعمال التي تكون لغير الله تعالى برماد، اشتدت به الريح في يوم عاصف، فطيرته، وفرقت أجزاءه في جهات هبوبها، ولم تبق له على أثر، ولا خبر. كذلك تعصف رياح الكفر، والأهواء الفاسدة بالأعمال، التي تبنى على أساس غير صحيح، فتفسدها، وتجعلها مع أصحابها طعمة للنار.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن الله تعالى، لمَّا ذكر أنواع عذاب الكافرين في الآية المتقدمة، بين في هذه الآية أن الأعمال، التي لا يقصد بها وجه لله تعالى هي أعمال باطلة، لا ينتفع أصحابها بشيء منها في الآخرة. وعند هذا يظهر كمال خسرانهم؛ لأنهم لا يجدون إلا العقاب الشديد، وكل ما عملوه في الدنيا يجدونه ضائعًا باطلاً، وذلك هو الخسران المبين.
ولفظ " مَثَلٍ " عند الزمخشري وغيره مستعار للصفة، التي فيها غرابة. وارتفاعه في مذهب الجمهور على الابتداء، خبره محذوف، تقديره عند سيبويه والأخفش: فيما يتلى عليكم، أو يقصُّ عليكم. وجملة " أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ "مستأنفة على تقدير سؤال؛ كأنه قيل: كيف مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد. وعليه يكون تقدير الكلام: صفة الذين كفروا بربهم، أعمالهم كرماد. كقولك: صفة زيد، عِرْضُه مَصُونٌ، ومالُه مَبذولٌ.
ومذهب الفراء: أن" مَثَل "مبتدأ، خبره" كَرَمَادٍ ". والتقدير عنده: مثل أعمال الذين كفروا كرماد. وفي تفسير ذلك والتعليل له قال الفرَّاء:" وقوله:" مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ" أضاف المَثَل إليهم، ثم قال:" أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ ". والمَثَل للأعمال ".
وحكى ابن عطية عن الكسائي والفراء أن المعنى على إلغاء لفظ " مَثَل "، وأن أصل الكلام: " الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ "، بإسقاط لفظ " مَثَل "، فيكون كقوله تعالى:" وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ "(النور:39).
ولكن ظاهر قوله تعالى:" مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ " يقتضي أن يكون للَّذِينَ كَفَرُوا بربهم مَثلٌ. ومَثَلُهم هو المماثلُ لهم في تمام أحواهم وصفاتهم. أي: المطابق، أو المساوي. وهو كقولنا: مَثَلُ زيد، عملُه قبيحٌ. فالعمل القبيح- هنا- لا يعود على زيد؛ وإنما يعود على مَثلِ زيد. وهذا يعني أن لزيد مثلاً يماثله في تمام أحواله وصفاته. وهذا المَثَلُ قد يكون عمروًا، أو بكرًا، أو غيرهما. وكذلك قوله تعالى:" مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ " يقتضي أن يكون للَّذِينَ كَفَرُوا بربهم مَثلٌ، يماثلهم في تمام أحواهم وصفاتهم. وعليه تكون الأعمال المشبهة بالرماد في قوله تعالى:" أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ "هي أعمال مَثَلِ الذين كفروا بربهم، لا أعمالهم هم، خلافًا للأعمال، التي في قوله تعالى:" أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ "من آية النور. ويمكن ملاحظة الفرق بين الآيتين من خلال المقارنة بينهما:
" وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ "(النور:39)
" مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ "(إبراهيم 18)
فالأعمال المشبهة بالسراب في آية النور هي أعمال الذين كفروا. والأعمال المشبهة بالرماد في آية إبراهيم هي أعمال مَثَل الذين كفروا بربهم. وهذا واضح جلي، وهو أحد أوجه الفرق بين الآيتين الكريمتين. ولو كانتا سيَّان، لمَا كان لذكر لفظ " مَثَل "في مطلع آية إبراهيم أيَّ معنى، ولكان زائدًا، دخوله في الكلام، وخروجه منه سواء- كما حكِيَ ذلك عن الكسائي والفراء- وهذا ما يأباه نظم القرآن الكريم وأسلوبه المعجز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه!
وعليه يكون قوله تعالى:" مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ "مبتدأ، خبره جملة:" أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ "من المشبه، والمشبه به. وهذا من أحسن ما قيل في إعراب هذه الآية الكريمة.(1/39)
وأما الفرق الثاني بين الآيتين فإن المراد بقوله تعالى:" وَالَّذِينَ كَفَرُواْ "- في آية النور- العموم، ويندرج في عمومه كل من كفر من الأمم السابقة، والأمم اللاحقة إلى يوم يبعثون. أما قوله تعالى:" الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ "- في آية إبراهيم- فالمراد بهم الكفار من الأمم السابقة؛ ولهذا جاء ذكرهم مقيدًا بقوله تعالى:" بِرَبِّهِمْ "، تمييزًا لهم من غيرهم. فأولئك مثل لهؤلاء، وقد ورد ذكر بعضهم في سورة إبراهبم قبل هذه الآية على لسان موسى- عليه السلام- وذلك في معرض خطابه لقومه، يخوفهم بمثل هلاك من تقدمهم من الأمم المكذبة:
" أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ "(إبراهيم:8- 9)
وبعد أن حكى الله تعالى عن الرسل- عليهم السلام- اكتفاءهم في دفع شرور هؤلاء الكفار بالتوكل على ربهم، والاعتماد على حفظه ورعايته، حكى سبحانه وتعالى عن بعض المتمردين في الكفر أنهم بالغوا في السفاهة، فكان مصيرهم الهلاك في الدنيا، ونار جهنم في الآخرة؛ وذلك قوله تعالى:
" وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ "(إبراهيم:13-17)
وفي ظل هذا المصير، الذي انتهى إليه هؤلاء الكفار من الأمم الغابرة جاء التعقيب مثلاً، يصوِّر الله تعالى فيه أعمالهم على طريقة القرآن المبدعة بصورة رماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، فقال سبحانه:
" مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ "(إبراهيم:18)
فجمع بين أعمالهم، وأعمال من جاء من بعدهم من الذين كفروا بربهم في هذا التمثيل العجيب؛ إذ بأولئك الكفار الغابرين تضرَب الأمثال لكل من ماثلهم ممَّنْ جاء بعدهم من الكفار اللاحقين، في كفرهم بالله سبحانه وبآياته، وإنكارهم للبعث، ومحاربتهم لرسله- عليهم السلام- وصدهم عن سبيله، ولكل مَنْ كانت أعماله مماثلة لأعمالهم من غير الكافرين بربهم.
ومن المعلوم أن الكفار المتأخرين قد سلكوا في الكفر والتكذيب مَسْلك من كان قبلهم، ومنهم كفار مكة، الذين أخبر الله تعالى في قوله مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم:
" وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ "(فاطر:25)
وكما حكى الله تعالى عن الفئة الضالة من الأمم السابقة قولهم لرسلهم:
" لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ "(إبراهيم:13)
كذلك أخبر سبحانه عن كفار مكة، فقال تعالى مخاطبًا نبيه عليه الصلاة والسلام:
" وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً " (الإسراء:76)
ثم بين سبحانه وتعالى أن ذلك سنته في رسله وعباده، فقال:
" سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا "(الإسراء:76)
وتقتضي سنة الله تعالى في عباده أن يحكم على الفرع بحكم الأصل، فيما تكون فيه المماثلة. فإذا كان الأصل محكومًا عليه بالهلاك، وعلى أعماله بالفساد، فكذلك الفرع.
وهذا ما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم:
" قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ "(الأنفال:38)
فقوله تعالى:" فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ "عبارة تجمع الوعيد والتهديد، والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله. والمعنى المراد: مضت سنة الله تعالى فيمن سلف من الكافرين بالهلاك، فيصيب الآخرين مثل ما أصاب الأولين.
وكما يطلق لفظ { المَثَل }على الفرع، كذلك يطلق على الأصل، ومن ذلك قوله تعالى في حق كفار مكة:
" فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ "(الزخرف:8)(1/40)
أي: مضى حالهم، الذي كانوا عليه من الكفر والتكذيب والإهلاك، وخلفه حال مماثل له؛ هو حال كفار مكة، وغيرهم. والأول أصل، والثاني فرع، والعلة الجامعة بينهما: الكفر والتكذيب، والحكم: الهلاك. والمعنى: أن كفار مكة سلكوا في الكفر، والتكذيب مَسْلك من كان قبلهم، فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثل ما نزل بهم.
ونظير ذلك قوله تعالى في حق فرعون وجنوده:
" فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ " (الزخرف:55-56)
أي: فلما أغضبوا الله سبحانه بأعمالهم القبيحة، انتقم منهم، بأن أغرقهم أجمعين. وهذا الانتقام قد جعله سلفًا يتعظ به الغابرون، ومثلاً يعتبر به المتأخرون، ويقيسون عليه أحوالهم. وقد قال الله تعالى محذِّرًا:
" أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ "(المرسلات:16- 18)
وإذا كان الأولون محكومًا عليهم بالهلاك، فمن باب أولى أن تكون أعمالهم محكومًا عليها بالفساد وعدم النفع. تأمل ذلك في قوله تعالى:
" وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ*إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (الأعراف:138-139)
أي: هم وما يعبدون هالك لا محالة، وأعمالهم ذاهبة مضمحلة. وهؤلاء القوم- على ما قيل- كانوا من العمالقة، الذين أمر موسى- عليه السلام- بقتالهم. وقال قتادة: كانوا من لَخْمٍ، وكانوا نزولاً بالرَّقَّة. وقيل: كانت أصنامهم تماثيل بقر؛ ولهذا قالوا:
" يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ "
فأخرج لهم السَّامِرِيُّ عجلاًُ.
ونظير قولهم هذا قول جهال الأعراب لرسول الله صلى الله عليه وسلم- وقد رأوا شجرة خضراء للكفار تسمَّى: ذات أنواط، يعظمونها في كل سنة يومًا- فقالوا:”يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط؛ كما لهم ذات أنواط. فقال عليه الصلاة والسلام: الله أكبر! قتلتم- والذي نفسي بيده- كما قال قوم موسى:
" اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ "
لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى إنهم لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه “. وكان هذا في مخرجه صلى الله عليه وسلم إلى حنين.
ونظير هؤلاء المنافقون، الذين قال الله تعالى فيهم:
" قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ "(التوبة:53- 54)
وغير هؤلاء كثير.
وقوله تعالى:" أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ "الأعمال فيه جمع: عمل. والعمل يطلق على كل فعل، يكون من الإنسان بقصد، فهو أخصُّ من الفعل؛ لأن الفعل قد ينسب إلى الإنسان، الذي يقع منه فعل بغير قصد. وقد ينسب إلى الجماد. والعمل قلما ينسب إلى ذلك؛ ولهذا قال تعالى:" أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ "، ولم يقل سبحانه:"أَفْعَالُهُمْ كَرَمَادٍ ".
أما الرماد فهو ما بقي بعد احتراق الشيء. وفي لسان العرب:” الرمادُ: دُقاقُ الفحم من حُراقة النار، وما هَبَا من الجمر فطار دُقاقًا. وفي حديث أم زرع: زوجي عظيم الرماد. أي: كثير الأضياف؛ لأن الرماد يكثر بالطبخ“. ولهذا كان تنكيره في الآية منبِئًا عن ضآلته وخفته، بخلاف ما لو كان معرَّفًا.
وتشبيه الأعمال بهذا الرماد الضئيل الخفيف ينطوي على سرٍّ بديع من أسرار البيان القرآني؛ وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم، وبين الرماد في إحراق النار، وإذهابها لأصل هذا وهذا؛ فكانت الأعمال التي لغير الله، وعلى غير مراده طعمة للنار، وبها تسعر النار على أصحابها، وينشىء الله سبحانه لهم من أعمالهم الباطلة نارًا وعذابًا؛ كما ينشىء لأهل الأعمال الموافقة لأمره ونهيه، التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيمًا وروحًا. فأثرت النار في أعمال أولئك، حتى جعلتها رمادًا، فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون الله وقود النار.
ولو شبهت هذه الأعمال بلفظ آخر غير الرماد، كالتراب مثلاً، فقيل:" أَعْمَالُهُمْ كَتُرَابٍ "، لما أفاد ذلك ما أفاده لفظ الرماد من معنى الخفة، والاحتراق، وعدم الانتفاع، والعجز عن الاستدراك.
وتأمل هذه الكاف في قوله تعالى:"كَرَمَادٍ "، كيف جعلت هذه الأعمال في مرتبة أدنى من مرتبة ذلك الرماد الضئيل في حقيقته وصفاته، ووراء ذلك ما وراءه من إزراء لها، واستخفاف بأصحابها. ولو قيل:" أَعْمَالُهُمْ مِثْلُ رَمَادٍ "، لما أفاد التشبيه هذا المعنى، الذي ذكرناه؛ لأن لفظ المِثْل يجعل الممثَّل، والممثَّل به في مرتبة واحدة؛ لأنه لفظ تَسْوِيَة، فيقتضي المساواة بينهما في تمام الصفات.(1/41)
أما قوله تعالى:" اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ " فهو كناية عن سرعة هذه الريح وقوتها. يقال: اشتدَّت الريح. أي: أسرعت بقوة. وتعدية الفعل بالباء، دون تعديته بعلى يفيد أن هذه الريح حملت الرماد، وأسرعت الذهاب به، وبددته في جهات هبوبها؛ بحيث لا يقدر أحد على الإمساك بشيء منه، بخلاف قولنا: اشتدت عليه؛ فقد تشتد الريح عليه، وهو ثابت في مكانه، لا يتبدد.
ومشهد الرماد تشتد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود, يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى, لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها, ولا الانتفاع به أصلاً.. يجسمه في هذا المشهد العاصف المتحرك, فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغه التعبير الذهني المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بددًا.فكما تعصف الريح الشديدة بالرماد، وتذهب به في جهات هبوبها؛ كذلك تعصف رياح الكفر والنفاق بالأعمال، التي تكون لغير الله جل وعلا، وعلى غير طاعة الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ ولهذا قال الله تعالى في آية أخرى:
"وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً "(الفرقان:23)
و"الرِّيحُ "- على ما قيل- هي الهواء المتحرك، وتجمع على: أرواح ورياح. وعامة المواضع، التي ذكر فيها لفظ "الرِّيحِ "بصيغة المفرد في القرآن، فعبارة عن العذاب. وكل موضع ذكر فيه بصيغة الجمع فعبارة عن الرحمة؛ إلا في قوله تعالى:
" حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ "(يونس:22)
ورويَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول، إذا هبَّت الريح:” اللهم اجعلها رياحًا، ولا تجعلها ريحًا “. وذلك لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء؛ كأنها جسم واحد. وريح الرحمة متقطعة؛ فلذلك هي رياح.. وأفردت مع الفلك في آية يونس؛ لأن ريح إجراء السفن إنما هي ريح واحدة متصلة، ثم وصفت بالطِّيب، فزال الاشتراك بينها، وبين ريح العذاب.
أما العَصْفُ في قوله تعالى:" فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ " فهو اشتداد الريح، ووَصْفُ اليومِ به- وهو زمانُ هبوبها- من إضافة الموصوف إلى صفته. والعصْف، وإن كان للريح، فإن اليوم قد يوصف به؛ لأن الريح تكون فيه، فجاز أن يقال: يوم عاصف؛ كما يقال: يوم بارد، ويوم حار، والبرد والحر فيهما.
وقرأ ابن أبي اسحق وإبراهيم بن أبي بكر عن الحسن:" فِي يَوْمٍ عَاصِفِ الرِّيْحِ"، على الإضافة. وذلك- عند أبي حيان- من حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه، والتقدير: في يوم ريح عاصف.
وقيل: إن عَاصِفًا صفة للريح، إلا أنه جُرَّ على الجِوار. وفيه أنه لا يصِحُّ وصفُ الريح به، لاختلافهما تعريفًا وتنكيرًا. وقرأ نافع وأبو جعفر:" فِي يَوْمٍ عَاصِفِ الرِّيَاحِ"، على الجمع، وبه يشتد فساد الوصفية.
والعَصْفُ يقال لحطام النبت المتكسر. وقيل: هو ساق الزرع. وقيل: هو ورق الزرع. وبهما فسر قوله تعالى:"وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ "(الرحمن:12). وقال تعالى:" فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ "(الفيل:5)، تشبيهًا بذلك.
وقيل: العَصْفُ: السرعةُ. وعصفت الريح تعصِف عَصْفًا. أي: اشتدَّ هبوبُها. وهي ريحٌ عاصِفٌ وعاصِفةٌ. أي: شديدة الهبوب. وعصفت بهم الريح، تشبيهًا بذلك. أي: ذهبت بهم، وأهلكتهم. ومثل ذلك قولهم: الحرب تعصف بالقوم.
وقوله تعالى:" فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً "(المرسلات:2) يعني الرياح الشديدة القاصفة للشجر وغيره.
فتأمل هذه الألفاظ الثلاثة:( الرماد، والريح المشتدَّة، واليوم العاصف ) التي تتكوَّن منها عناصر الصورة في المشبه به، تجد كل لفظ منها يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى, لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها, ولا الانتفاع به. يضاف إلى ذلك ما ينطوي عليه لفظ الرماد من معنى الاحتراق.
وقوله تعالى:" لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ " تبيينٌ لوجه الشبه، واستحضار للكافرين جميعًا؛ ليشهدوا هذا الموقف، الذي يتعرَّون فيه من كل شيء. فإذا ما قدموا على ربهم يوم القيامة، لا يقدرون على الانتفاع بشيء مما كسبوا في الدنيا من أعمالهم عند حاجتهم إليه. أي: لا يجدون له أثرًا من ثواب، أو تخفيف عذاب؛ كما لا يقدر أحد على الانتفاع بشيء من ذلك الرماد، الذي اشتدت به الريح في اليوم العاصف، وكان جزاؤهم النار؛ كما أخبر تعالى عن ذلك بقوله:
" أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ "(هود:16)
وقيل: المراد بقوله تعالى" لاَّ يَقْدِرُونَ ": التعميم. أي: لا يقدرون في الدنيا والآخرة على شيء مما كسبوا. ويؤيده ما ورد في الصحيح عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: يا رسول الله إن ابن جدعان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، هل ذلك نافعة؟ قال:” لا ينفعه؛ لأنه لم يقل: ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين“.
وقال تعالى في البقرة:" لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا "(البقرة:264)، وقال هنا:
" لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ "(1/42)
فقدَّم" عَلَى شَيْءٍ " في الأول، وأخرَّه في الثاني، لأهمية كل منهما في آيته؛ وذلك ظاهر لمن له أدنى بصيرة.
وقال تعالى:" مِمَّا كَسَبُوا "، فعبَّر عن العمل بالكسب؛ لأن كسب الرجل هو عمله، وعمله هو كسبه. روي أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم:" أي الكسب أطيب؟ فقال: عمل الرجل بيده "، فعبر عن كسب الرجل بعمله.
والكسب- كما قال الراغب في مفردات القرآن- هو ما يتحرَّاه الإنسان، ممَّا فيه اجتلاب نفع، وتحصيل حظٍّ؛ كاكتساب المال. وقد يستعمل فيما يظنُّ الإنسان أنه يجلب منفعة، ثم استُجلِب به مضرَّة.
أما قوله تعالى:" ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ "فهو إشارة إلى ضلالهم. أي: ما دل عليه التمثيل دلالة واضحة، من ضلالهم، مع حسبانهم أنهم على شيء، هو الضلال البعيد عن طريق الحق والصواب. وهو تعقيب يتفق ظله مع ظل الرماد المتطاير في يوم عاصف إلى بعيد؛ حيث يستحيل العثور على شيء منه !!
وفي وصف الضلال بالبعيد إشارة إلى كفرهم؛ وهو كقوله تعالى في الآية الثانية والثالثة من سورة إبراهيم:
" وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ "(إبراهيم:2-3)
والضلال هوالعدول عن الطريق المستقيم، والمنهج القويم؛ عمدًا كان، أوسهوًا. قليلاً كان، أو كثيرًا، ويضادُّه الهدى. فإذا كان عن عمد وقصد- وإن كان قليلاً- فهو كفر، وحينئذ يوصف بالبعيد.. تأمل ذلك في القرآن، تجده على ما ذكرنا، إن شاء الله!
محمد إسماعيل عتوك
=============
معجزة الترتيل في بيان المعاني والأحكام
إعداد المهندس محمد شملول
مهندس مدني وكاتب إسلامي مصري
القرآن الكريم كتاب الله المعجز يجب أن يقرأ بالوجه المخصوص الذي أنزله الله به.
قال تعالى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة: 18]
وقال تعالى: أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزّمِّل: 4]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يحب أن يقرأ القرآن كما أنزل).
لذا فإنه يجب علينا أن نقرأ القرآن كما أنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وكما قرأه الرسول عليه الصلاة والسلام على أصحابه بتؤدة واطمئنان وتأن وترسل مع إعطاء الحروف حقها من المخارج والصفات. ومستحقها من المد والغنّة والإظهار والإدغام والإخفاء والتفخيم والترقيق وتجويد الحروف ومعرفة الوقف والابتداء ..الخ.
وفي هذه الدراسة الموجزة يتبين لنا أن قراءة القرآن الكريم وتلاوته طبقاً لما أنزل وحسب أحكام التلاوة تظهر لنا المعاني الحقيقية للنص القرآني بآفاقها الواسعة.. بل إننا يمكن لنا أن نستنتج منها أحكاماً في قضايا معينة.
إن هذا الموضوع يجب أن يهتم به أهل الفكر الإسلامي في كل بقاع الدنيا لأنه يحتاج إلى دراسات وأبحاث مستفيضة..
إنه وجه عظيم من أوجه معجزات القرآن الكريم الذي لا تنقضي عجائبه.. لا يمكن لفرد أو لأفراد أن يحيطوا بعلمه...
ولكن يجب عليهم المحاولة والتدبر والتفقه.
إن هذه الدراسة الموجزة تعتبر مقدمة أو مدخلاً لهذا الموضوع المذهل وهو بيان معاني وأحكام القرآن الكريم من خلال أحكام التلاوة.
1- أمثلة في بيان المعنى من خلال مد بعض الحروف
إن المد في القراءة لبعض أحرف الكلمة القرآنية يعتبر ظاهرة من ظواهر زيادة أحرفها، وكما سبق أن ذكرنا في هذه الدراسة أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى .. لذا فإن ظاهرة المد لبعض حروف كلمات القرآن مدّاً زائداً على المد الأصلي الطبيعي حين التلاوة يدل على تفخيم هذه الكلمة وزيادة معناها ..
ونستعرض فيما يلي أمثلة من الكلمات القرآنية التي يجب مدّ بعض حروفها مداً زائداً لنعرف أن هذا المدّ لم يأت عبثاً، وإنما جاء لبيان أهمية هذه الكلمة وأنها تدل على شيء مخصوص وغير عادي .
ومثل هذه الكلمات كثيرة جداً في القرآن الكريم إنما سنذكر بعضها حسب الآتي إنما سنذكر بعضها حسب الآتي:
الطامة: { فَإِذَا جَاءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى } [النازعات: 34].
السماء: { وَالسَّمَآءَ بِنَاءً } [البقرة: 22].
جان: { فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ } [الرحمن: 39].
الطائفين: { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ } [البقرة: 125].
حينما تنظر إلى هذه الكلمات نجد أن كل منها يدل على لشيء عظيم غير عادي . لذا جاء المد ليزيد المعنى .. وحينما نقارن المدّ في كلمة (الطآمة) بعدم وجوده في كلمة قرآنية أخرى قريبة في المعنى وهي (القارعة) نجد أن عدم وجود المد في القارعة مطلوب بشدة لتحقيق معناها وهو أنها (تقرع) آذان الناس وهو شيء لا يسلتزم زمناً فهو لحظي ليدل على الفجاءة .. ولا يحتاج مدّاً أو مدة ..
كذلك فإننا حينما نتدبر سورة (الكافرون)..(1/43)
نجد أنه حينما يذكر القرآن (ما تعبدون) و(ما عبدتم) فإنه لا يوجد مدّ على كلمة (ما) للدلالة على تحقير ما يعبدون غير أنه حين يذكر (ما أعبد) وقد جاءت مرتين نجد أنه يوجد مدّ على كلمة (ما) لتدل على عظمة ورفعة ما يعبده الرسول صلى الله عليه وسلم ...
حينما نرجع إلى أحكام التلاوة في المد نجد أن المد قد جاء لأن الحرف الذي تلا المد هو (الهمزة) ..
وهذا الحكم يوضح إعجاز القرآن في اختيار الحروف التي تبدأ بها الكلمات القرآنية لتبين المعنى على أكمل وجه .. كذلك فإننا حينما نتكلم عن المد الجائز المنفصل (مد الصلة الطويلة) وهو المد المتولد من هاء الضمير المكسورة أو المضمومة الواقعة بين متحركين ثانيهما همز نذكر المثالين الآتيين:
- { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ } [البقرة: 131].
وجاء مد الصلاة الطويلة ليدل على عظمة الرب سبحانه .
- { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الأنعام: 91].
جاء مد الصلة الطويلة ليدل على عظمة قدر الله سبحانه .
وبالنسبة للمد اللازم المثقل (لوجود التشديد بعد حرف المد) نذكر المثال الآتي:
- { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [الفاتحة: 7].
نجد أن كلمة (الضالين) ممدودة مداً لازماً مثقلاً مقداره ست حركات .. على عكس كلمة (المغضوب عليهم) بدون مد ..
ويدل مدّ كلمة (الضالين) على كثيرة هؤلاء الضالين ووفرتهم وهم (النصارى) وذلك بالمقارنة (بالمغضوب عليهم) وهم اليهود حيث جاءت بدون مد لتدل قلة عددهم..
الاستثناء في مد صلة (الهاء) لضمير المفرد الغائب
ورد في مصحف المدينة النبوية في اصطلاحات الضبط ما يلي: (والقاعدة أن حفصاً عن عاصم يصل كل هاء ضمير للمفرد الغائب بواو لفظية إذا كانت مضمومة .. وياء لفظية إذا كانت مكسورة بشرط أن يتحرك ما قبل هذه الهاء وما بعدها). وقد استثنى من ذلك ما يأتي:
(1) الهاء من لفظ (يرضه) في سورة الزمر فإن حفصاً ضمها بدون صلة .
(2) الهاء من لفظ (أرجه) في سورتي الأعراف والشعراء فإنه سكّنها .
(3) الهاء من لفظ (فألقه) في سورة النمل فإنه سكنها أيضاً .
وحينما نتدبر سبب هذا الاستثناء يتجلى ذلك حين نرجع إلى الآيات الكريمة التي وردت فيها هذه الألفاظ حسب الآتي:
- كلمة (يرضه) وردت في الآية 7 من سورة الزمر: { وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } [الزمر: 7] ولم ترد هنا الصلة حتى توحي بفورية رضا الله عن شكر عباده .
- كلمة (أرجه) وردت في الآية 11 من سورة الأعراف والآية رقم 36 من سورة الشعراء عن موسى وهارون عليهما السلام { قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } ولم ترد هنا الصلة حتى توحي بتقليل شأنهما عليهما السلام في نظر ملأ فرعون حيث كانوا يعتبرونهما ساحرين .
- كلمة (فألقه) وردت في الآية 28 من سورة النمل { اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ } [النمل: 28] ولم ترد هنا الصلة لتوحي بتقليل شأن قوم سبأ في نظر سليمان عليه السلام وكذلك بطلب سرعة إلقاء الكتاب .
ومن خلال ما سبق تتبين لنا الحكمة في الاستثناء في مد صلة (الهاء) لضمير المفرد الغائب في بعض الآيات القرآنية لتوضح المعنى المراد أجمل وأدق توضيح وبيان .. وأن ترتيل القرآن كما أنزل له فائدة كبرى في توضيح المعاني وإبرازها بجلاء .
2- أمثلة في بيان المعنى من خلال صفات الحروف:
من المعروف في أحكام التلاوة أن لكل حرف مخرجاً يخرج منه وكيفية تميزه في المخرج وهذه الكيفية في صفة الحرف ...
وسنعرض في هذا الموضوع لأمثلة من إعجاز القرآن في مسألة التلاوة والتي تساعد في توضيح المعاني المقصودة ...
حروف الاستعلاء:
حرف (س) ليس من حروف الاستعلاء ..
وحرف (ص) من حروف الاستعلاء في الارتفاع ..
وحينما نتلو الآيتين الكريمتين التاليتين:
- {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [صـ : 9].
- { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ } [الغاشية: 22].
إن كلمة (مصيطر) وكذلك كلمة (المصيطرون) في الأصل تكتب بحروف (س) أي (مسيطر)، (المسيطرون) ولكن حيث أن حرف (س) ليس من حروف الاستعلاء .. فإنه لن يؤدي المعنى المراد وهو التحكم والسيطرة والقوة والاستعلاء.. لذا جاءت تلاوة القرآن لهذه الكلمة باستخدام حرف (ص) وهو حرف من حروف الاستعلاء .. وذلك ليؤكد المعنى وتكون التلاوة موضحة أعظم توضيح للمعنى المراد ...
- حروف القلقة وحرف الامتداد:
القلقة تعني التحريك أي: إبراز صوت زائد للحرف بعد ضغطه .. ما يجعل اللسان يتقلقل بها عند النطق .. وحروف القلقة خمسة هي (ق، ط، ب، ج، د) .
أما حرف الامتداد فهو حرف واحد هو (ض) ويعني الامتداد هو امتداد الصوت من أول اللسان إلى آخره.. ويعني الامتداد أيضاً (القبض) على الحرف حتى لا يتحرك أو يتقلقل .. في حالة السكون .(1/44)
وحينما نقرأ الآيات التي وردت بها حروف قلقلة خاصة القلقلة الكبرى وهي حالة إذا ما سكنت حروف القلقلة آخر الكلمة نجد أن هذه القلقلة تعطي معنى واسعاً للكلمة تعتبر كأنها زادت حروفها حرفاً وزيادة مبنى الكلمة وحي بزيادة معناها .. ونضرب فيما يلي أمثلة في هذا المجال:
- قال تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } [العلق: 1-2] .
وقلقلة (ق) في كلمة (خلق) تعطي معنى واسعاً لخلق الله حيث أنه لا يوجد حدود للخلق .. كذلك كلمة (علق) فهي توحي بالأعداد الكبيرة العالقة من مَنْيِ الذكر ..
كذلك حينما ترد الكلمات القرآنية (أولو الألباب – العذاب – الحق – الأسباط – الأحزاب – أزواج – الميعاد .... الخ) فإن هذا يزيد في معنى هذه الكلمات ويحفزنا على إعطاء الآيات الواردة بها مزيداً من العناية والتدبر ..
أما بخصوص حرف (ض) في حالة سكونه فإنه يجب الإمساك به بقوة حتى لا يتقلقل أثناء التلاوة .. ومثال ذلك:
- قال تعالى: { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا } [الفرقان: 46].
ويدل سكون حرف (ض) وعدم قلقلته على تأكيد معنى كلمة (القبض) التي ورد بها هذا الحرف .. وعدم إمكانية تحريك هذا القبض أو زحزحته ...
حروف التفخيم والترقيق:
تفخيم بعض الحروف أثناء التلاوة يزيد في توضيح معاني الكلمات القرآنية والآيات الواردة بها ..
كذلك فإن ترقيق الحروف الأخرى يساعد أيضاً في بيان المعاني المقصودة .. ويأتي ذلك حسب الحالة .. وحروف التفخيم هي نفسها حروف الاستعلاء (خ، ص، ض، غ، ط، ق، ظ).
وكذلك حرف (ر) في بعض الأحوال حسب التفاصيل الواردة في أحكام التلاوة ..
كذلك فإن (لام) لفظ الجلالة (الله) تفخم إذا سبقتها حروف بفتح أو ضم .. (مثل قل هو الله أحد) .. يفعل الله ما يشاء ..
وترقق اللام في لفظ الجلالة إذا سبقتها حروف بكسر مثل (بسم الله بالحمد لله) أما باقي الحروف فتأتي في حالة ترقيق ..
وأعتقد أن هذا الموضوع يحتاج إلى دراسات واسعة في أصول الحروف والكلمات المتكونة منها .. وأرجو أن يكون هناك متسع لاستكمال هذه الدراسة ..
أمثلة في بيان المعنى من خلال إدغام المتماثلين والمتجانسين والمتقاربين:
إدغام المتماثلين: هو أن يتحد الحرفان مخرجاً وصفة .
إدغام المتجانسين: هو أن يتفق الحرفان مخرجاً ويختلفان صفة .
إدغام المتقاربين: هو أن يتقارب الحرفان مخرجاً ويختلفان صفة .
كما سبق أن ذكرنا فإن الإدغام الكامل بدون غنّة يدل على التصاق الكلمتين التصاقاً كاملاً مما يوحي بقطعية الأمر وعدم وجود أي فاصل أو مسافة زمنية وكذلك يدل على العجلة الفائقة .
ونضرب فيما يلي أمثلة لكل نوع من أنواع هذا الإدغام لنتبين المعنى الذي أضافه وبينه:
أ- إدغام المتماثلين:
- قال تعالى: { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } [النساء: 78].
حين تلاوة كلمة (يدرككم) نجد أن الكاف الساكنة الأولى قد أدغمت في الكاف الثانية فأصبحت حرفاً واحداً مشدداً وأصبحت تقرأ (يدركَم) والإدغام يوحي بنقص أحرف الكلمة مما يدل على سرعة الموت في إدراك من قضى عليه الموت...
- قال تعالى: { اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ } [النمل: 28].
إدغام حرفي (الباء) يدل على السرعة التي طلب بها سليمان عليه السلام من الهدهد أن يطير بها إلى ملكة سبأ والذي يؤكد ذلك أن الآية رقم 29 التي تلت هذه الآية: { قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } [النمل: 29]. أي: أنه لم يظهر هناك أي زمن بين أمر سليمان للهدهد واستلام الملكة للكتاب ..
ب- إدغام المتجانسين:
وذلك للحروف (ت، د، ط) وللحروف (ت، ذ، ظ) وللحروف (ب، م) .
- قال تعالى: { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } [البقرة: 256].
إدغام (الدال) في (التاء) يدل على قطعية بيان الرشد .
- قال تعالى: { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا } [يونس: 89].
إدغام (التاء) في (الدال) يدل على سرعة استجابة الله لدعوة موسى وهارون على فرعون وملئه بالا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ..
ج- إدغام المتقاربين:
وذلك للحروف (ل، ر) وللحروف (ق، ك)
- قال تعالى: { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } [طه: 114].
إدغام اللام الساكنة في الراء المتحركة وينطق بهما راء مشددة .. ويأتي هذا الإدغام ليبين ضرورة التعجيل في دعاء الله بزيادة العلم وإبراز قيمة العلم ..
قال تعالى: { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [النساء: 158].
إدغام اللام الساكنة في الراء المتحركة .. ويدل هذا الإدغام على سرعة رفع الله لعيسى عليه السلام وإنقاذه من اليهود والحاكم الروماني ..
د- الإشمام
الإشمام في التلاوة هو ضم الشفتين كمن يريد النطق (بضمة) ولكنه في الحقيقة ينطقها (فتحة) .(1/45)
وقد جاء هذا الحكم في تلاوة قوله تعالى: { قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } [يوسف: 11]. وقراءة الميم قبيل النون المشددة في كلمة (تأمنا) هي ما يسمى بالإشمام ..
وحين نقرأ الميم في هذه الكلمة بالفتحة وشفتانا مضمومتان فينتج عن ذلك نطق يدل على التردد وعدم الثقة في إجابة الطلب .. وهو بالفعل ما كان عليه إخوة يوسف حينما طلبوا من أبيهم أن يرسله معهم لأنهم كانوا يكيدون لأخيهم وكانوا في ريبهم يترددون .. لذا كان هذا الحكم في التلاوة ليوضح المعنى أصدق توضيح ..
باقي الأحكام التلاوة:
إن هذا الموضوع يحتاج مزيداً من البحث والتدبر وفي هذا متسع لجميع الباحثين والذين أرجو الله أن يوفقهم للتفقه في علوم القرآن الكريم الذي لا ينضب معينه.
أرجو أن يوفقني الله لمزيد من الدراسة إنه على كل شيء قدير.
==============
مثل الحياة الدنيا ج2
ج" وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا"(الكهف:45).
هذا مثل آخر للحياة الدنيا ضربه الله تعالى لعباده، شبه فيه مثلها، في نضارته وبهائه، وجماله وحلاوته، بنبات الأرض، يكون أخضر وارفًا زاهيًا نضرًا، ثم بعد ذلك، يصبح هشيمًا جافًا، تحمله الرياح، لخفته ولطافته، وتفرقه في كل جهة من جهات هبوبها.. كذلك الحياة الدنيا، كنبات هذه الأرض.. وهكذا الأمور بعد زوالها؛ كأنها لم تكن!
ومناسبة هذا المثل لما قبله أن الله تعالى، لما ضرب في الآيات السابقة لهذه الآية الكريمة مثل الكافر والمؤمن، وبين فيه حالهما، وما آل إليه ما افتخر به الكافر من الهلاك، أتبعه سبحانه وتعالى بضرب هذا المثل.
فقوله تعالى:" مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " مشبه، وهو معنى معقول موجود في الذهن، وقوله تعالى:" مَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ " مُشبَّه به، وهو معنى محسوس موجود خارج الذهن، وقد اجتمع المعنيان في الزينة والبهجة، ثم الهلاك والزوال.
هذه هي الحياة الدنيا، التي اغترَّ بها المغترون، وتهالك عليها المتهالكون. وهذا هو مَثَلها. ومثلها- على ما تقدم في المثل السابق- هو متاعها المماثل لها في تمام أحوالها وصفاتها. ولإفادة هذا المعنى جيء- هنا- بلفظ المثل في طرف المشبه، دون المشبه به. وقيل: إن هذا المثل مختصر من المثل السابق؛ وهو قوله تعالى:
" إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ "( يونس: 24 ) (1)
والغرض منهما: تنبيهُ العباد إلى أن كل ما في الحياة الدنيا من نعيم- كثُرَ، أو قلَّ- فمصيره إلى فَناء وزوال؛ كما أن نبات الأرض مآله إلى هلاك وبوار. وفي ضمن ذلك التحذيرُ من الاغترار بنعيم الدنيا، وزينتها؛ لأنه متاع ٌ فانٍ، وكلُّ فانٍ حقير، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى محذرًا:
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ "(فاطر:5).
وقد بينت في المثل السابق سر الإعجاز في تقديم الماء على النبات في قوله تعالى:
" كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ "
إذ من حق كاف التشبيه أن تدخل على المشبه به، وهو النبات، لا الماء، كما بينت سر الإعجاز في مجيء هذه العبارة الموجزة، على هذا النظم البديع، الذي جعل نبات الأرض هو الذي يختلط بالماء، فينمو ويحسُن، ويعلوه الزهر والنور والنضرة.. وذكرت أن المراد بنبات الأرض هو حَبُّها، الذي بُذِر فيها قبل أن يكون نباتًا، وأن معنى الباء في قوله تعالى:" فَاخْتَلَطَ بِهِ " الإلصاق والاختلاط.
وعلى الرَّغم من هذا التطابق، الذي نشاهده بين المَثلين فإن ثمَّةَ فروق ظاهرة بينهما، لا بدَّ من الإشارة إليها، والكشف عن أسرار الإعجاز فيها:
1- وأول هذه الفروق: أن ما ذكِر في المثل الأول من مراحل حياة النبات، قد طُويَ أكثره في هذا المثل، ولم يذكَر من ذلك سوى: اختلاط النبات بالماء المنزل من السماء، ثم انتهاؤه إلى أن أصبح هشيمًا، تذروه الرياح.
وسبب ذلك أن الله تعالى، لما أراد أن يزهِّد عباده في متاع الحياة الدنيا ونعيمها، ويرغبَّهم في الآخرة، أخبرهم أن بغيهم على أنفسهم باطل، لا بقاء له، وأن مرجعهم في النهاية إليه سبحانه، فينبئهم بما كانوا يعملون في هذه الحياة الدنيا الفانية؛ وذلك قوله تعالى:(1/46)
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ "(يونس:23)
وفي ذلك من التحذير، والوعيد بالعذاب ما فيه! ثم أتبع سبحانه وتعالى ذلك التحذير والوعيد بضرب المثل لهم، فقال جلَّ شأنه:
" إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ "(يونس:24)
فالمقام- في هذا المثل - مقام تبيين وتفصيل؛ ولهذا اهتمَّ سبحانه وتعالى فيه بشرح الخطوات، التي تخطوها الحياة الدنيا في طريق النهاية، فتابع مراحل نزول الماء من السماء، ولم يدع حالة من حالاته إلا نصَّ عليها.. فالماء ينزل من السماء، فيختلط به نبات الأرض، ويظهر أثر هذا الاختلاط فيما يكتسبه من حسن واخضرار وازدهار، حتى إذا استكملت به الأرض حسنها، ولبست بألوانه المتنوعة، وأشكاله المختلفة أبهى حُلَلِها، وأجمل حِليِّها، واطمأنَّ إليه أهلها؛ لسلامته من الآفات، وبلوغه مرحلة القطاف والحصاد، أتاه أمر الله تعالى بغتة، فجعله حصيدًا؛ كأن لم يَغنَ بالأمس.
ولما أراد الله تعالى أن يصور سرعة انقلاب الحياة الدنيا على أصحابها، وإدبارها عنهم بعد إقبالها عليهم، ضرب لهم المثل، الذي يصور فناء الدنيا، وسرعة تقضيها، بما يشاهدونه في حياتهم من سرعة ذبول النبات وجفافه، ثم هلاكه بعد زهائه واخضراره، فقال سبحانه:
" وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا "
(الكهف:45).
فكان المقام- هنا- مقام تصوير لحال الدنيا في سرعة إقبالها، وإدبارها اقتضاه سياق الآيات، وهو أشبه بحال الصاحب الكافر، الذي أخبر الله تعالى عنه بقوله:
" وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا "(الكهف:35-36)
فهذا الكافر المعجَب بما أوتي من نعيم الدنيا، المفتخِر به، يقسِم لصاحبه، إن رُدَّ إلى ربه- على سبيل الفرض والتقدير- ليَجدَنًّ في الآخرة خيرًا من جنته.. وهكذا أصابه الغرور في مقتله، فأصبح، لمَّا أحيط بثمره..
" يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا "(الكهف:42).
هذا الانقلاب السريع، من حال إلى حال بهذه السرعة، لا يناسبه إلا بناءُ التشبيه- في هذا المثل، الذي أعقبه- على طيِّ مراحل نمو النبات وزهائه واخضراره؛ ولهذا قال سبحانه:
" فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ "
فأتى بالفاء العاطفة، التي تشعِر بهلاك النبات وانتهائه إلى تلك الصفة؛ وهي كونه هشيمًا، تذروه الرياح.
2- وثاني الفروق بين المثلين: أن الله تعالى قال في هذا المثل:
" فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ "
فقيَّد الخبر بـ" أَصْبَحَ "؛ ليدلَّ به على سرعة هلاك النبات، وتحوله من حالة جيدة، كان عليها في المساء إلى حالة سيئة، أصبح عليها القوم في الصباح،" فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ "(الصافات: 177).
وقال تعالى هنا:" فَأَصْبَحَ هَشِيمًا "، فعبَّر عن هلاك النبات بالهشيم؛ لأنه من الهَشْم. والهَشْمُ هو كسْرُ الشيء الرَّخْوِ وتفتيته، ويختصُّ بما هو رَطبٌ، ثم يصير يابسًا؛ كالنبات، والخبز، وغيرهما. والعرب تسمِّي كل شيء كان رطبًا، فيبس: هشيمًا. والهشيم أيضًا هو الرجل الضعيف.
وأصل الهشيم: النبت إذا جفًّ ويبس، فأذرته الريح؛ وذلك للطفه وخفته، وتلك هي حال الذرِّ؛ ولهذا قال سبحانه:" تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ "، فعبَّر عن هذا المعنى بـ" تَذْرُوهُ "، لما في ذرا، يذرو من معنى الارتفاع، والسرعة. يقال: ذرا فلان يذرو: ارتفع، ومرَّ مرًّا سريعًا، ومنه سُمِّيت الرياح بالذاريات. قال تعالى:
" وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا "(الذاريات : 1)
وإنما سميت بذلك؛ لأنها تحمل التراب، أو الهشيم عاليًا، وتفرقه بسرعة في كل جهة؛ بحيث يستحيل إعادته كما كان.
وفي حديث علي كرَّم الله وجهه:" يذرو الرواية ذَرْوَ الريحِ الهشيمَ ". أي: يسرد الرواية؛ كما تنسف الريح هشيم النبت.. وقال الخليل معلِّلاً لتسمية بني آدم ذرية:" إنما سُمُّوا: ذريَّة؛ لأن الله تعالى ذراها على الأرض؛ كما ذرأ الزارع البَذْرَ ".
أما في المثل السابق فقال تعالى:
" فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا "(1/47)
فقيَّد الخبر بقوله:" جَعَلْنَاهَا "؛ لأن جعل لفظ عام في الأفعال كلها؛ فهو أعمُّ من فعل، و صنع، وسائر أخواتها. ومن تصرُّفه في الاستعمال اللغوي أنه يجري مَجرى:( أوجد )، في تصيير الشيء على حالة، دون حالة، كما هنا، وكما في قوله تعالى:
" وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ "(النحل:81)
وعبَّر سبحانه وتعالى عن هلاك النبات وزواله بالحصيد؛ لأنه من الحصد. والحصد هو قطع الزرع . والحصيد: فعيل من الحصاد؛ وهو قطع الزرع في إبَّانه، وقد أفاد- هنا- قطع النبات واستئصاله في غير إبَّانه على سبيل الإفساد. ومنه استعير: حصدَهم السيفُ. وقد جعل الله تعالى هلاك المهلكين من الأمم الطاغية حصادًا لهم، فقال:" مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ "(هود:100).
3- وثالث الفروق بين المثلين أن هذا المثل ختم بقوله تعالى:
" وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا "
فعبَّر سبحانه عن مطلق قدرته، وكمالها بأنه مقتدرٌ على كل شيء من الأشياء، التي من جملتها الإنشاء، والإفناء، وإفقار الغنيِّ المتعالِي، وإغناء الفقير المتعالَى عليه، وغير ذلك. وفي هذا ما فيه من إحلال للأمل محل الألم في نفوس الفقراء المؤمنين، فضلاً عمَّا فيه من تهديد لأولئك المتعالين المتكبرين!
أما المثل السابق فقد ختم بقوله تعالى:" كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ "
لأن السِّيَاق سياق تفصيل، ورسم لخطوات الحياة الدنيا، التي تخطوها في طريق النهاية؛ بحيث لا يدع مجالا للتشكُّك في صحة ما فُصِّل وصوابه، فلا يعدم من كانت له القدرة على التفكُّر والتدبُّر من الانتفاع بهذا التفصيل، فضلاً عمَّا في هذا الختام من تقريع لأولئك الذين لا يتفكرون بآيات الله تعالى، ولا يتدبرون، فينتفعون!
الأستاذ: محمد إسماعيل عتوك
الباحث
في الإعجاز اللغوي والبياني للقرآن
(1)- المثل الأول:
http://www.55a.net/firas/arabic/"page=show_det&id=1174
================
كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة
بقلم أ. د. مصطفى مُسلم
ويطلق الأسلوب في اللغة على الطريق الممتد، ويقال للسطر من النخيل أسلوب، والأسلوب الطريق والوجه والمذهب، والأسلوب الفن، يقال: أخذ فلان في أساليب من القول، أي أفانين منه.
وفي اصطلاح البلاغيين:هو طريقة اختيار الألفاظ وتأليفها للتعبير بها عن المعاني قصد الإيضاح والتأثير، أو هو العبارات اللفظية المنسّقة لأداء المعاني.
فالأسلوب القرآني:هو طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه واختيار ألفاظه[1]، ولقد تواضع العلماء قديماً وحديثاً على أن للقرآن أسلوباً خاصاً به مغايراً لأساليب العرب في الكتابة والخطابة والتأليف.
وكان العرب الفصحاء يدركون هذا التمايز في الأسلوب القرآني عن غيره من الأساليب، روى مسلم في صحيحه [2] (أن أُنَيساً أخا أبي ذر قال لأبي ذر: لقيتُ رجلاً بمكة على دينك، يزعُمُ أن الله أرسله، قلتُ: فما يقول الناس، قال : يقولون شاعر، كاهن، ساحر ـ وكان أنيس أحد الشعراء ـ قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون).
ولقد أبرز العلماء ميزات للأسلوب القرآني اختص بها من بين سائر الكلام، فمن هذه الميزات:
أولاً: المرونة والمطاوعة في التأويل:
نجد في الأسلوب القرآني مرونة في التأويل ومطاوعة على التقليب بحيث لا يدانيه أسلوب من الأساليب، وهذه المرونة في التأويل لا تحتمل الآراء المتصادمة أو المتناقضة وإنما مرونة تجعله واسع الدلالة سعة المورد الذي تزدحم عليه الوفود ثم تصدر عنه وهي ريّانة راضية.
فالأسلوب القرآني يشفي قلوب العامة ويكفي الخاصة، فظاهره القريب يهدي الجماهير وسواد الناس ويملأ فراغ نفوسهم بالترغيب والترهيب والجمال الأخاذ في تعابيره ومشاهده، وباطنه العميق يشبع نهم الفلاسفة إلى مزيد من الحكمة والفكرة، يحل العقد الكبرى عندهم من مبدأ الكون ومنتهاه ونظامه ودقة صنعه وإبداعه.
وهذه المرونة من أسباب خلود القرآن فإن الأساليب العربية طوال أربعة عشر قرناً قد عراها كثير من التغير والتلوين اللفظي والذهني، ومع ذلك فإن القرآن بقي خالداً بأسلوبه المتميّز وبخصائصه الفريدة يتجدّد مع العصور وظل رائع الأثر على ترامي الأجيال إلى هذه الأيام وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إن الأسلوب القرآني لم يستغلق فهمه على العرب الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم ولم يكن لهم إلا الفطرة السليمة الذوّاقة للجمال، وفهمه وتفاعل معه من جاء بعد ذلك من أهل العلوم والأفكار، وفهمه زعماء الفرق المختلفة على ضروب من التأويل، وقد أثبتت العلوم الحديثة المتطورة كثيراً من حقائقه التي كانت مخفيّة عن السابقين، وفي علم الله ما يكون من بعد.(1/48)
والمعهود من كلام الناس لا يحتمل كل ذلك ولا بعضه بل كلما كان نصاً في معناه كان أدنى إلى البلاغة، وكيفما قلبته رأيته وجهاً واحداً وصفةً واحدة لأن الفصاحة لا تكون في الكلام إلا إبانة، وهذه لا تفصح إلا بالمعنى المتعين، وهذا المعنى محصور في غرضه الباعث عليه.
لقد فهم علماء السلف رضوان الله عليهم الآيات الكريمة : (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ {3} بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ)[سورة القيامة:3]،(والأرض بعد ذلك دحاها)[النازعات:30]، غير ما فهمه العلماء المتأخرين بعد تطور العلوم الطبية والفلكية ولم يبعد عن الصواب من قال: (الزمن خير مفسر للقرآن). وما ذاك إلا لأن القرآن كتاب الإنسانية الخالدة الذي لا يستطيع جيل من الأجيال استفراغ ما فيه من كنوز العلوم والحكم والحقائق.
ثانياً: اعتماد الأسلوب القرآني الطريقة التصويرية في التعبير:
من السمات البارزة للأسلوب القرآني هو اعتماده الطريقة التصويرية للتعبير عن المعاني والأفكار التي يريد إيضاحها، وساء كانت معاني ذهنية مجردة، أو قصصاً غابرة، أو مشاهد ليوم القيامة وغيرها من المجالات.
إن الأسلوب القرآني يحمل تاليه إلى أجواء الصور وكأنه ينظر في تفصيلات الصورة المجسّمة أمامه، وكأن المشهد يجري أمامه حيّاً متحرّكاً، ولا شكل أن الفكرة أو المعنى الذي يراد إيضاحه يكون أقرب إلى الفهم وأوضح في الذهن مما لو نقل المعنى مجرّداً من تلك الصور الحية، ويكفي لبيان هذه الميزة أن نتصور هذه المعاني كلها في صورها التجريدية ثم نقارنها بالصورة التي وضعها فيها القرآن الكريم، فمثلاً:
أ معنى النفور الشديد من دعوة الإيمان: إذا أردنا أن نتصور هذا المعنى مجرّداً في الذهن يمكن أن نقول: إنهم ينفردن أشد النفرة من دعوة الإيمان فيتملّى الذهن وحده معنى النفور في برودة وسكون، ولنمعن النظر في الأسلوب القرآني وهو يصوّر لنا هذا المعنى في هذه الصور الغريبة (فما لهم عن التذكرة معرضون* كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة )[المدثر:49ـ 51].
فتشترك مع الذهن حاسة النظر وملكة الخيال وانفعال السخرية وشعور الجمال: السخرية من هؤلاء الذين يفرون كما تفر حمر الوحش من الأسد لا لشيء إلا لأنهم يدعون إلى الإيمان، والجمال الذي يرتسم في حركة الصورة حينما يتملاّها الخيال في إطار من الطبيعة تشرد فيه الحمر تيبعها قسورة، فالتعبير هنا يحرك مشاعر القارئ وتنفعل نفسه مع الصورة التي نُقلت إليه وفي ثناياها الاستهزاء بالمعرضين.
لقد شبه الله تعالى فرار الكفار عن تذكرة النبي صلى الله عليه وسلم كفرار حمر الوحش من الأسد لا لشيء إلا لأنهم يدُعون إلى الإيمان، أنظر أخي إلى جمالية هذا التشبيه الرائع الذي لا يصدر إلا عن إله عالم بخبايا النفس الإنسانية طبعاً هذا التشبيه له عدة مدلولات منها شدة فرارهم من النبي، وسخرية من سلوكم الغير مبرر
ب ومعنى عجز الآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله ! يمكن أن يؤدي في عدة تعبيرات ذهنية مجردّة، كأن، يقول إن ما تعبدون من دون الله لأعجز عن خلق أحقر الأشياء فيصل المعنى إلى الذهن مجرَّداً باهتاً.
ولكن التعبير التصويري يؤديه في هذه الصورة: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)[الحج: 73].
فيشخص هذا المعنى ويبرز في تلك الصور المتحركة المتعاقبة:
(لن يخلقوا ذُباباً)درجة (ولو اجتمعوا له) وهذه أخرى، (وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه) وهذه ثالثة، والاقتران بين الطالب والمطلوب(ضعف الطالب والمطلوب)وهي الرابعة.
إن الضعف المزري الذي يثير في النفس السخرية اللاذعة والاحتقار المهين، ولكن أهذه مبالغة؟ وهل البلاغة فيها هي الغلو؟
كلا فهذه حقيقة واقعة بسيطة. إن هؤلاء الآلهة (لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له).
والذباب صغير حقير ولكن الإعجاز في خلقه هو الإعجاز في خلق الجمل والفيل، إنها معجزة الحياة يستوي فيها الجسيم والهزيل.
فليست المعجزات هي خلق الهائل من الأحياء إنما هي خلق الخلية الحية كالهباء. والصورة الفنية هنا هي الربط بين قدسية الآلهة المزعومة حيث وُضعت في أذهان معتنقيها في أقدس صورة والربط بينها وبين مخلوق حقير. ولم يكتف بهذا الربط بل حشد لهذا المخلوق جموعأً ضخمة فعجزوا عن خلقه، ثم في الصورة التي تنطبع في الذهن من طيرانهم خلف الذباب لاستنقاذ ما يسلبه، وفشلهم مع اتباعهم عن هذا الاستنقاذ.
ت ومعنى انتهاء الكون ثم محاسبة الناس على أعمالهم ودخول المحسنين الجنة والمسيئين النار، ولذة أهل النعيم والترحيب بهم وشقاء أهل العذاب وتبكيتهم: كل ذلك يمكن أن يفهمها الإنسان مجردة وهي حقائق لم تقع بعد. فالتعبير عنها بكلمات مجردة تنقل الفكرة إلى الذهن باهتة.(1/49)
ولكن التعبير القرآني وضع لنا هذه الحقائق في إطار زاهٍ حافل بالحركة وكأن المرء ـ حين يقرؤها ـ يعيش أجوائها، وتنقبض النفس لمشاهدة الأهوال وتخضع لقوة الجبار وتتشوّق لمرافقة السعداء.
فهذا مشهد يوم القيامة قال تعالى : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {67} وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ {68} وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ {69} وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ {70} وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ {71} قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ {72} وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ {73} وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ {74} وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {75} [سورة الزمر:66ـ75].
إنه مشهد رائع حافل، يبدأ متحركاً ثم يسير وئيداً حتى تهدأ كل حركة ويسكن كل شيء ويخيّم على الساحة جلال الصمت ورهبة الخشوع.
ويبدأ المشهد بالأرض جميعاً في قبضة ذي الجلال، وها هي السماوات جميعاً مطوّيات بيمينه.
إنها صورة يرتجف لها الحسّ ويعجز عن تصويرها الخيال، ثم ها هي ذي الصيحة الأولى تنبعث، فيصعق من يكون باقياً على ظهرها من الأحياء. ولا نعلم كم مضى من الوقت حتى انبعثت الصيحة الثانية (فإذا هم قيام ينظرون). و يغير ضجيج وعجيج، تجتمع الخلائق. فعرض ربك هنا تحف به الملائكة فما يليق الصخب في مثل هذا المقام.
(أشرقت الأرض بنور ربها) أرض الساحة التي يتم فيها الاستعراض، أشرقت بالنور الهادئ (بنور ربها) فإذا هي تكاد تشفّ من الإشراق، (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء)، وطوي كل خصام وجدال في هذا المشهد خاصة (وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون * ووفيت كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون * ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون ).
فلا حاجة إلى كلمة واحدة تقال ولا إلى صوت واحد يرتفع.
وهكذا تجمل هنا عملية الحساب والجزاء، لأن المقام مقام روعة وجلال.
وإذا تم الحساب وعرف المصير وجّه كل فريق إلى مأواه(وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً) حتى إذا وصلوا إليها بعيداً هناك استقبلتهم حزنتها بتسجيل استحقاقهم لها وتذكيرهم بما جاء بهم إليها (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ
هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) فالموقف موقف إذعان واعتراف وتسليم (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى).
وكذلك وجه الذين اتقوا ربهم إلى الجنة حتى إذا وصلوا هناك استقبلهم خزنتها بالسلام والثناء (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) وارتفعت أصوات أهل الجنة بالحمد والدعاء: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ).
ثم يختم الشريط المصور بما يلقي في النفس روعة ورهبة وجلالاً تتسق مع المشهد كله وتختمه خير ختام(وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
ثالثاً: طريقة الأسلوب القرآني المتميزة في المُحاجة والاستدلال:
لقد أورد القرآن الكريم من أفانين القول في سياق محاجّة الكفار وتصحيح زيغ المحرّفين والوعد لأوليائه والوعيد لأعدائه ما يخرج عن طوق البشر الإحاطة بمثل هذه الأساليب في أوقات متقاربة أو متباعدة، فالنفس الإنسانية لا تستطيع التحول في لحظات عابرة في جميع الاتجاهات بل تتأثر بحالة معينة.(1/50)
ولا تستطيع التحول عنها إلى اتجاه معاكس إلا ضمن بيئة ملائمة.
أما الأسلوب القرآني فيلاحظ فيه الانتقال في شتى الاتجاهات في لحظات متقاربة متتالية، وأحياناً تكون مترادفة. فمن مشرّع حكيم يقر الدساتير والأنظمة في تؤدة وأناة ورويّة، إلى وعيد وتهديد لمن يرغب عن التشريعات ويريه سوء المصير، إلى غافر يقبل توبة العبد إذا تاب وأناب، إلى معلم يعلم كيفية الالتجاء إلى الخالق سبحانه وتعالى بأدعية لا تخطر على البال، إلى مقر لحقائق الكون الكبرى، ومن مرئيات الناس ومألوفاتهم والتدرج بهم إلى أسرار سنن الله في الكون
لنتأمل قوله تعالى : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {67} لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {68} فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[الأنفال:67 ـ 69].
هاتان الآيتان نزلتا بعد إطلاق أسرى بدر وقبول الفداء منهم . وقد بدأتا بالتخطئة والاستنكار لهذه الفعلة، ثم لم تلبث أن ختمتا بإقرارها وتطييب النفوس بها بل صارت هذه السابقة التي وقع التأنيب عليها هي القاعدة لما جاء بعدها.
فهل الحال النفسية التي يصدر عنها أول هذا الكلام ـ لو كان عن النفس مصدره ـ يمكن أن يصدر عنها آخره ولمّا تمض بينهما فترة تفصل بين زمجرة الغضب وبين ابتسامة الرضى والاستحسان ؟ إن هذين الخاطرين لو فرض صدورهما عن النفس متعاقبين لكان الثاني منهما إضراباً عن الأول ماحياً له ولرجع آخر الفكر وفقاً لما جرى به العمل.
فأي داعٍ دعا إلى تصوير ذلك الخاطر المحمود وتسجيله على ما فيه من تقريع علني وتغيص لهذه الطعمة التي يراد جعلها حلالاً طيبة ؟
إن الذي يفهمه علماء النفس من قراءة هذا النص أن ها هنا شخصيتين منفصلتين وان هذا صوت سيد يقول لعبده: لقد أخطأت ولكني عفوت عنك وأذنت لك[3].
ومن الأمور المميزة للأسلوب القرآني طريقة استدلاله بأشياء وأحداث مثيرة صغيرة في ظاهرها وهي ذات حقيقة ضخمة تتناسب والموضوع الضخم الذي يستدل بها عليه . تامل في قوله تعالى : (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ {57} أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ {58} أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ {59} نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ {60} عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ {61} وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ {62} أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ {63} أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ {64} لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ {65} إِنَّا لَمُغْرَمُونَ {66} بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ {67} أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ {68} أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ {69} لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ {70} أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ {71} أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ {72} نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ{73} فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)[الواقعة: 57ـ74].
ومثل هذه الإشارات ترد كثيراً في القرآن الكريم لتجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة قضايا كونية كبرى يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود، يقرر بها عقيدة ضخمة شاملة وتصوراً كاملاً لهذا الوجود كما يجعل منها منهجاً للنظر والتفكير وحياة للأرواح والقلوب ويقظة في المشاعر والحواس.
إن هذه الظواهر هي حقائق ضخمة ولكن الإلف والعادة بلّدت حواس الناس فلا تشعر بدلالاتها.
إن الأنفس من صنع الله، وما حول الناس من ظواهر الكون من إبداع قدرته، والمعجزة كامنة في كل ما تبدعه يده، وهذا القرآن قرآنه. ومن ثمّ يأخذهم إلى هذه المعجزات الكامنة فيهم والمبثوثة في الكون من حولهم، يأخذهم إلى هذه الخوارق المألوفة لديهم التي يرونها ولا يحسون حقيقة الإعجاز فيها لأنهم غافلون عن مواضيع الإعجاز فيها.
يمسهم الأسلوب القرآني بهذه اللفتات الاستفهامية المتتالية ليفتح عيونهم على السر الهائل المكنون، سرّ القدرة العظيمة وسرّ الوحدانية المفردة ليثير في فطرتهم الإقرار الأول في عالم الذر .. (ألست بربكم )[الأعراف: 172].
إن طريقة القرآن الكريم في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره إنها المصدر الذي صدر منه الكون، فطريقة بنائه هي طريق بناء الكون من أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال وأضخم الخلائق.
والقرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصور كوني، المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان : النسل، الزرع، الماء، النار، الموت.(1/51)
وأي إنسان علي ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه؟ أي إنسان مهما كان بدائياً لم يشهد نشأة جنينية ونشأ حياة نباتية ومسقط ماء وموقد نار ولحظة وفاة؟
إن انفراد الأسلوب القرآني بهذه الميزات لهو دليل مصدره الإلهي فما الأسلوب إلا صورة فكرية عن صاحبه.
فالحذّاق من الكتّاب عندما يقرأون قطعة نثرية أو قصيدة شعرية لكاتب ما يدركون بملكتهم الأدبيّة وحسّهم المرهف الحالة النفسية التي كان عليها الكاتب عند الكتابة بل يذهبون إلى أكثر من هذا، إلى ما وراء السطور فيستنبطون كثيراً من أوصافه النفسية والخلقية فيحكمون عليه أنه عاطفي المزاج أو قوي النفس أو صاحب عقل ودراية أو حقود أو منافق أو غير ذلك من الأمور الخاصة.
ولا شكل أن هذا إدراك شيء أعظم وأرقى من العلوم الظاهرة والتي تقف بأصحابها عند جودة الأسلوب ومتانته وقوة السبك ورصانته، فإذا كان الأدباء وأهل البلاغة يدركون هذه الحقائق بعد العلوم الاكتسابية التي تعلّموها ومارسوها فإن العربي الذوّاقة مواطن الجمال في الكلام، لا شك أنه كان من أعرف الناس بما وراء الألفاظ والكلمات وكان يدرك بنظرته السليمة وسليقته الصافية حقيقة الذات التي وراء الأسلوب.
إن العربي الذواقة لجمال القول أدرك أسلوب القرآن المتميز وعرف أن سبب هذا التميز هو أن القرآن من مصدر غير مصادر كلام البشر ومن ذات غير مخلوقة لذا تميز الأسلوب عن أساليب المخلوق، فما دامت قوة الخلق والإبداع من العدم ليس في مقدور البشر بل وكل المخلوقات فلن يستطيع أحد منهم إيجاد أسلوب يشبه أو يقارب الأسلوب القرآني.
ولعل هذا الإدراك هو الذي منع العقلاء وأهل الفصاحة واللسن من سائر العرب من محاكاة القرآن. ومن تعرّض لمحاكاته صار أضحوكة بين الناس لأنه حاول أن يخرج عن طبيعته وذاته ونفسيته إلى محاكاة الذات الإلهية. أورد الإمام ابن كثير في تفسيره قال : (.. سألت الصدّيق بعض أصحاب مسيلمة الكذاب بعد أن رجعوا إلى دين الله أن يقرأوا عليه شيئاً من قرآن مسيلمة.
فسألوه أن يعفيهم من ذلك فأبى عليهم إلا أن يقرأوا عليهم شيئاً منه ليسمعه من لم يسمعه من الناس فيعرفوا فضل ما هم عليه من الهدى والعلم، فقرأوا عليه قوله : (والطاحنات طحناً والعاجنات عجناً والخابزات خبزاً واللاقمات لقماً إهالة وسمناً، إن قريشاً قوم يعتدون)، وقوله : (يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين) إلى غير ذلك من هذياناته، فقال أبو بكر رضي الله عنه : ويحكم أين كان يذهب بعقولكم ؟ والله إن هذا لم يخرج من إل ـ أي إله)[4]
لقد أدرك الصدّيق رضي الله عنه بحسه المرهف وذوقه السليم النفسية التي خرجت منها العبارات والتراكيب وطريقة صياغتها والصبغة الخاصة بنفسية قائلها، إنها طبيعة بشرية وليست صادرة عن الخالق سبحانه وتعالى.
فإن الفرق بين القرآن العظيم وكلام البشر كالفرق بين الخالق سبحانه وتعالى وبين المخلوق.
المصدر :كتاب مباحث في إعجاز القرآن بقلم أ.د . مصطفى مسلم 143 ـ154
[1] " مناهل العرفان " للزرقاني 2/199
[2] صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة 7/153
[3] انظر هذا وغيره من الأمثلة في كتاب " النبأ العظيم " للدكتور محمد عبد الله دراز ص 19
[4] انظر تفسير ابن كثير 2/411.
==============(1/52)
من أسرار الإعجاز اللغوي والبياني في سورة القيامة
" لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ "1" وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ "2" أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ "3" بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ "4" بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ "5" يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ "6" فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ "7" وَخَسَفَ الْقَمَرُ "8" وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ "9" يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ "10" كَلَّا لَا وَزَرَ "11" إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ "12" يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ "13" بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ "14" وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ "15" لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ "16" إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ "17" فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ "18" ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ "19" كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ "20" وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ "21" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ "22" إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ "23" وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ "24" تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ "25" كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ "26" وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ "27" وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ "28" وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ "29" إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ "30" فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى "31" وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى "32" ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى "33" أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى "34" ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى "35" أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى "36" أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى "37" ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى "38" فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى "39" أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ
عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى "40"
أولاً- سورة القيامة مكية بلا خلاف، وآياتها أربعون، وهي تعالج موضوع البعث والجزاء، الذي هو أحد أركان الإيمان، وتركِّز بوجه خاص على القيامة وأهوالها، والساعة وشدائدها، وعلى حالة الإنسان عند الاحتضار، وما يلقاه الكافر في الآخرة من المصاعب والمتاعب؛ ولذلك سمِّيت:{ سورة القيامة }.
تبدأ السورة الكريمة بالتلويح بالقسم بيوم القيامة، وبالنفس اللوَّامة على أن البعث حقٌّ، لا ريب فيه. ثم تذكر طرفًا من ذلك اليوم المهول، الذي يتحيَّر فيه البصر، ويُخْسَف فيه القمر، ويُجمَع الخلائق والبشر للحساب والجزاء.
وتتحدَّث السورة الكريمة عن اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بضبط القرآن الكريم، عند تلاوة جبريل- عليه السلام- فقد كان عليه الصلاة والسلام يجهد نفسه في متابعة جبريل عليه السلام، ويحرِّك لسانه معه؛ ليسرع في حفظ ما يتلوه، فأمره الله تعالى أن يستمع للتلاوة، ولا يحرِّك لسانه به.
وتذكر السورة الكريمة انقسام الناس إلى فريقين: سعداء، وأشقياء. فالسعداء وجوههم مضيئة، تتلألأ بالأنوار، ينظرون إلى الرب جل وعلا.. والأشقياء وجوههم مظلمة قاتمة، يعلوها ذلٌّ وقَتَرَة.
ثم تتحدَّث السورة عن حال المرء عند الاحتضار، حيث تكون الأهوال والشدائد، ويلقى الإنسان من الكرب والضِّيق ما لم يكن في الحسبان. وتختتم بإثبات الحشر والمعاد بالأدلة والبراهين العقلية.
ثانيًا- هذه السورة الكريمة- كغيرها من سور القرآن الكريم- حافلة بأسرار البيان المعجز، الذي أعجز أرباب الفصاحة والبيان. وأول ما يطالعنا من هذه الأسرار البديعة المعجزة:
1-سر دخول " لَا "النافية على الفعل " أُقْسِمُ " في الآية الأولى والثانية:
" لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ* وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ "(القيامة: 1- 2)
ويكاد يجمع العلماء- قديمًا وحديثًا- على القول بأن " لَا "هذه زائدة لتوكيد القسم، في حين ذهب بعضهم إلى أنها نافية للقسم، وذهب آخرون إلى أنها نافية لكلام تقدم ذكره، ثم ابتدىء بالقسم، إلى غير ذلك من الأقوال. ومن العلماء المعاصرين، الذين تحدثوا عن الخلاف في " لَا " هذه الدكتور فاضل السامرَّائي، وهو أشهر من أن يعرَّف به، ففي كتابه الغنيِّ عن التعريف { لمسات بيانية في نصوص من التنزيل } تحدث الدكتور فاضل عن لمسات بيانية في سورة { البلد }، وقد سأل السؤال الآتي: ما دلالة ( لا ) في القسم ؟ ثم أجاب بقوله:" أولاً- لم يرد في القرآن كلّه ( أقسم بـ ) أبدًا. كل القسم في القرآن ورد باستخدام ( لا )؛ كقوله تعالى:( لا أقسم بمواقع النجوم ) ، ( ولا أقسم بالخنّس )، ( فلا وربّك لا يؤمنون ).. وهكذا في القرآن كله..(1/53)
فما هي ( لا ) ؟ اختلف النحاة في دلالة ( لا ): كلام عام من ( لا أقسم ) عمومًا، يقولون:( لا ) زائدة لتوكيد القسم بمعنى:( أقسم )، مثال قولنا: والله لا أفعل، معناها: لا أفعل. ولو قلنا: لا والله لا أفعل، معناها: لا أفعل. لا يختلف المعنى، والقسم دلالة واحدة.. وقسم يقولون: هي للنفي. أي: نفي القسم. والغرض منه أن الأمر لا يحتاج للقسم لوضوحه، فلا داعي للقسم.. وقسم قال: إنها تنفي لغرض الاهتمام؛ كأن تقول: لا أوصيك بفلان، بمعنى: لا أحتاج لأن أوصيك.
وفي السورة { لا أقسم بهذا البلد } تدور ( لا ) في كل هذه الأمور، على أنها توكيد للقسم، بمعنى:{ أقسم بهذا البلد }. إذن الغرض للتوكيد؛ لأن الأمر فيه عناية واهتمام ".
هذا ما قاله فضيلته بنصِّه، وهو مدوَّن في كتاب، وليس جوابًا ارتجاليًّا مباشرًا على الهواء، وهو كلام يحتاج من القارىء إلى كثير من التدبر والتأمل، حتى يستطيع فهمه؛ لأنه أشبه بالألغاز؛ وإلا فكيف يمكن أن يفهم قولهم:( والله لا أفعل، معناها: لا أفعل. ولو قلنا: لا والله لا أفعل، معناها: لا أفعل. لا يختلف المعنى والقسم دلالة واحدة ).
أو كيف يمكن أن يفهم قوله:( وفي السورة { لا أقسم بهذا البلد } تدور ( لا ) في كل هذه الأمور، على أنها توكيد للقسم، بمعنى:{ أقسم بهذا البلد }. إذن الغرض للتوكيد؛ لأن الأمر فيه عناية واهتمام ).
هذا إلى ما فيه من خلط واضح بين نفي القسم، ونفي الحاجة إلى القسم. وبين قوله تعالى:{ لا أقسم }، وقوله تعالى:{ فلا وربك لا يؤمنون }..
وكأن الدكتور فاضل أحس بما في كلامه من اضطراب وخلط، فرجع عنه في حديثه عن { لمسات بيانية في سورة القيامة } إلى القول:" وباختصار كبير نرجح أن هذا التعبير إنما هو لون من ألوان الأساليب في العربية، تخبر صاحبك عن أمر يجهله أو ينكره، وقد يحتاج إلى قسم لتوكيده، لكنك تقول له: لا داعي أن أحلف لك على هذا. أو لا أريد أن أحلف؛ لأن الأمر على هذه الحال، ونحوه مستعمل في الدارجة عندنا نقول: ما أحلف لك أن الأمر كيت وكيت. أو ما أحلف لك بالله- لأن الحلف بالله عظيم- إن الأمر على غير ما تظن، فأنت تخبره بالأمر، وتقول له: لا داعي للحلف بالمعظمات على هذا الأمر.. أو كما ذهبت إليه الدكتورة بنت الشاطئ، وهو أن القصد من ذلك هو التأكيد... "
ومثل هذا الخلط نجده عند الطاهر ابن عاشور، يدل على ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى:" فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ "(الواقعة: 75):" و{ لا أقسم } بمعنى: أقسم، و( لا ) مزيدة للتوكيد. وأصلها: نافية، تدل على أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به خشية سوء عاقبة الكذب في القسم. وبمعنى أنه غير محتاج إلى القسم؛ لأن الأمر واضح الثبوت. ثم كثر هذا الاستعمال، فصار مرادًا تأكيد الخبر، فساوى القسم، بدليل قوله عقبه:{ وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } ".
ثم قوله في سورة البلد:"و{ لا أقسم } صيغة تحقيققِ قَسَم، وأصلها: أنها امتناع من القسَم امتناع تحرُّج من أن يحلف بالمُقْسممِ به خشية الحنث، فشاع استعمال ذلك في كل قسم يراد تحقيقه، واعتبر حرف( لا ) كالمزيد كما تقدم عند قوله تعالى:{ فلا أقسم بمواقع النجوم }(الواقعة: 75) ".
لاحظوا قوله:" و{ لا أقسم } بمعنى: أقسم، و( لا ) مزيدة للتوكيد ".
ثم تأملوا قوله:" وأصلها: نافية، تدل على أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به خشية سوء عاقبة الكذب في القسم "، وقوله:" وأصلها: أنها امتناع من القسَم امتناع تحرُّج من أن يحلف بالمُقْسمِ به خشية الحنث "،وتذكروا أن المقسم- هنا- هو الله عز وجل !
والله جل شأنه عندما يقول:" لَا أُقْسِمُ بِكَذَا " فهذا لا يعني إلا شيئًا واحدًا فقط، وهو أنه تعالى ليس بحاجة إلى أن يقسم بشيء من مخلوقاته- مهما عظم ذلك الشيء- على أن المقسَم عليه حقٌّ، لا ريب فيه ! لأن كونه حقًّا لا يحتاج إلى يمين يؤكد حقِّيَّتَه وثبوته؛ كالبعث والنشور في هذه السورة الكريمة. والفرق واضح كل الوضوح بين أن نقول:{ أقسمُ بيوم القيامة على أن البعث حق }، وبين أن نقول:{ لا أقسمُ بيوم القيامة على أن البعث حق }. فالأول يجعل من البعث أمرًا مشكوكًا في حقِّيَّته وثبوته عند المخاطب، بخلاف الثاني.
وإذا علمنا الفرق بين الجملتين أدركنا سرَّ دخول " لَا "النافية على فعل القسم في هذه السورة، وفي غيرها من السور، التي يكون فيها ضمير الفعل عائدًا على الله جل وعلا، ويكون المقسَم عليه من الأمور اليقينيَّة الثابتة.
ومن هنا يمكننا القول بأن " لَا أُقْسِمُ "في القرآن، ليس بقسم مباشر، ولا هو نفي للقسم أو نفي لغيره؛ بل هو تلويح بالقسم، وعدول عنه لعدم الحاجة إليه. وهذا التلويح بالقسم مع العدول عنه- كما قال سيد قطب رحمه الله- أوقع في الحس والنفس من القسم المباشر، وهو أسلوب، ذو تأثير في تقرير الحقيقة، التي لا تحتاج إلى القسم؛ لأنها ثابتة واضحة.. وهذا هو سر البيان في هذا التركيب القرآني، الذي ما زال الناس في تفسيره يتخبطون !(1/54)
وأما الفرق بين " لَا "في قوله تعالى:" لَا أُقْسِمُ بِكَذَا "، وبينها في قوله تعالى:" فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ "(النساء: 65) فيبينه أن الأولى موصولة بالقسم، وأن الثانية منفصلة عنه، والدليل على ذلك دخول الواو بينهما.
وأما الفرق بين نفي القسم، ونفي الحاجة إلى القسم، فقد أجابت عنه الدكتورة بنت الشاطىء بقولها:”وفرق بعيد أقصى البعد بين أن تكون"لَا "لنفي القسم- كما قال بعضهم- وبين أن تكون لنفي الحاجة إلى القسم؛ كما يهدي إليه البيان القرآني.. ومن نفي الحاجة إلى القسم يأتي التأكيد، والتقرير؛ لأنه يجعل المقام في غنًى بالثقة واليقين عن الإقسام. والسر البياني لهذا الأسلوب يعتمد في قوة اللفت- على ما يبدو- بين النفي، والقسم من مفارقة مثيرة لأقصى الانتباه، وما زلنا بسليقتنا اللغوية نؤكد الثقة بنفي الحاجة معها إلى القسم، فنقول لمن نثق فيه: لا تقسم. أو: من غير يمين، مقررين بذلك أنه موضع ثقتنا، فليس بحاجة إلى أن يقسم لنا “.
وأما القول بأن{ لا أقسم } بمعنى:{ أقسم }، بدليل قوله تعالى:" وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ "(الواقعة: 76 )فقد أجاب عنه الأستاذ محمد إسماعيل عتوك في مقاله{ دخول{ لا } النافية على فعل القسم}، والموجود على هذا الرابط:
http://www.55a.net/firas/arabic/"page=show_det&id=1294&select_page=9
وفيه من البيان والتوضيح في تفسير هذا التركيب القرآني ما يكفي.
2- والسر الثاني من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ نفي الفعل" نَجْمَع " بـ" لََنْ "، وتخيصه بـ{ العظام }، في قوله تعالى:
" أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ "(القيامة: 3)
ولمَّا عُدِلَ عن القسم المباشر بيوم القيامة والنفس اللوَّامة اكتفاء بالتلويح به، عُدِلَ عن ذكر المقسَم عليه، وكان ظاهر الكلام يقتضي أن يقال:
" لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ* وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ "، " لَتُبْعَثُنَّ "
ولكن عُدِلَ عن هذا للعلة السابقة، وجيء به في صورة أخرى؛ كأنها ابتداء لحديث، بعد التنبيه إليه، بهذا المطلع، الذي يوقظ الحس والمشاعر:
" أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ "(القيامة: 3)
وقد كانت المشكلة الشعورية عند المشركين هي صعوبة تصورهم لجمع العظام البالية، الذاهبة في التراب، المتفرقة في الثرى، لإعادة بعث الإنسان حيًّا! وهي مشكلة لا تزال كذلك عالقة في بعض النفوس الضعيفة والمريضة إلى يومنا هذا ! وقد تردد ذكرها في القرآن كثيرًا على ألسنة المشركين، ومن ذلك قوله تعالى حكاية عنهم:
" وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ " *" أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ "(الواقعة: 47- 48)
والقرآن الكريم يردُّ عليهم، فيقول سبحانه:
" قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ " * " لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ "(الواقعة: 49- 50)
ونحو ذلك قوله تعالى:
" وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ "(يس:78)
ويأتي الرد من الله تعالى:
" قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ "(يس: 79)
ومثل ذلك قوله تعالى هنا:
" أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ "(القيامة: 3)
فجاءت الآية على جهة التوبيخ لهم، في اعتقادهم أن الله تعالى لا يجمع عظامهم، فردَّ عليهم تعالى بقوله مؤكدًّا وقوعه:
" بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ "(القيامة: 4)
والمعنى: أيحسب الإنسان بعد أن خلقناه من عدم أن لن نجمع ما بلى وتفرق من عظامه ؟ بلى ! إننا لقادرون على أن نسوِّيَ أطراف أصابعه الصغيرة، ونجعلها كما كانت قبل الموت، فكيف بالعظام الكبار.
وقد أعاد الله تعالى هذا الاعتراض مع الجواب عليه بصورة أخرى، في آخر السورة، فقال سبحانه:
" أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى *أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى *ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى *فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى *أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى "(القيامة: 36- 40)
والاستفهام في قوله تعالى:" أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ " لإنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ عليه. والتعريف في" الْإِنْسَانُ " تعريف الجنس، والمراد به هنا جنس الكافر، المنكر للبعث.(1/55)
وأما سرُّ تخصيص فعل الجمع بالعظام فلأن العظام هي قالب النفس، لا يستوي الخَلْقُ إلا باستوائها، وأنها أبعد شيء عن الحياة بعد البلى. وجمعها بعد البلى لا قدرة لأحد عليه سوى الله، الذي خلقها أول مرة، سبحانه وتعالى! قال ابن قيِّم الجوزيَّة:”الذي أحصاه المشرحون من العظام في البدن مائتان وثماني وأربعون عظمًا، سوى الصغار السَّمسَميَّات، التي أحكمت بها مفاصل الأصابع، والتي في الحنجرة.. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان خلق من ثلاثمائة وستين مفصلاً. فإن كانت المفاصل هي العظام، فقد اعترف جالينوس وغيره بأن في البدن عظامًا صغارًا، لم تدخل تحت ضبطهم وإحصائهم. وإن كان المراد بالمفاصل المواضع، التي تنفصل بها الأعضاء بعضها عن بعض- كما قال الجوهري وغيره- فتلك أعم من العظام.. فتأمله !“.
3- والسر الثالث من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ اختيار لفظ البنان وتخصيصه بالتسوية في قوله تعالى:" بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ "(القيامة: 4)
و" بَلَى "حرف جواب، ولها موضعان:الموضع الأول:أن تكون ردًّا لنفي يقع قبلها؛ كقوله تعالى:" مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ "(النحل: 28)
أي: بلى ! قد عملتم السوء.
والموضع الثاني:أن تقع جوابًا لاستفهام، دخل عليه نفي حقيقة، فيصير معناها التصديق لما قبلها؛ كقولك: ألم أكن صديقك ؟ ألم أحسن إليك ؟ فتقول: بلى ! أي: كنت صديقي. ومنه قوله تعالى:" أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ " ؟ " قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا "(الملك: 8- 9)
فهي في هذا الموضع تصديق لما قبلها، وفي الأول ردُّ لما قبلها، وتكذيب.
ويجوز أن يقرن النفي بالاستفهام مطلقًا؛ حقيقيًّا كان، أو مجازيًّا.
فالمجازي كقوله تعالى:" أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ " ؟" قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا "(الأعراف: 172)
أي: بلى! أنت ربنا ! فان الاستفهام هنا ليس على حقيقته؛ بل هو للتقرير. لكنهم اجروا النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في رده بـ" بَلَى ". وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما:” لو قالوا: نعم، لكفروا “. ووجهه أن لفظة { نعم }تصديق لما بعد الهمزة؛ نفيًا كان، أو إثباتًا.
والحقيقي كقوله تعالى:" أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم " ؟" بَلَى "(الزخرف: 80)
" أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ " ؟ " بَلَى قَادِرِينَ "(القيامة: 3- 4)
ومن ثمَّ قال الجمهور: التقدير: بلى! نجمعها قادرين؛ لأن الحسبان؛ إنما يقع من الإنسان على نفي جمع العظام، و" بَلَى "إثبات فعل النفي، فينبغي أن يكون فعل الجمع بعدها مذكورًا على سبيل الإيجاب.
وقوله تعالى:" قَادِرِينَ "حال مقيِّد لفعل الجمع المقدَّر، وفيه بعد الدلالة على التقييد، تأكيد لمعنى الجمع؛ لأن الجمع من الأفعال، التي لا بدَّ فيها من القدرة، فإذا قُيِّد بالقدرة البالغة، فقد أُكِّدَ .
والبنان في قوله تعالى:" عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ "يطلق في اللغة، ويراد به: الأصابع، وأطرافها. وقيل: سمِّيت الأصابع بذلك؛ لأن بها صلاح الأحوال، التى يمكن للإنسان أن يَبْني بها. وقال تعالى:" وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ "(الأنفال: 12)
أي: الأصابع، أو أطرافها؛ لأجل أنهم بها يقاتلون؛ فإنه لا ظهور على العدوِّ إلا بضرب بنانه. والمراد بها في قوله تعالى:" بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ "(القيامة: 4)
أطراف الأصابع. وهذه الآية الكريمة من أقوى الأدلة على جمع أجزاء الإنسان المتفرقة، وأبلغ دليل في تصوير القدرة الإلهية على ذلك؛ إذ تؤكد عملية جمع العظام، بما هو أرقى من مجرد جمعها، وهو تسوية البنان، وتركيبه في موضعه كما كان، وهي كناية عن إعادة التكوين الإنساني بأدق ما فيه، وإكماله بحيث لا تضيع منه بنان، ولا تختل عن مكانها؛ بل تُسوَّى تسويةً كاملة، مهما صغُرت ودقَّت! وبهذا يُعلَم سرُّ تخصيص لفظ { البنان} بالذكر- هنا- دون غيره.
وقد كشفت العلوم الحديثة عن هذا السر؛ إذ تبين أن البشرية بأسرها، قد ميَّز الله العليم القادر بين جميع أفرادها بميزة، لا يمكن أن يشترك فيها اثنان منهم، حتى الأب مع ابنه، تلك الميزة هي اختلاف البنان، تلك الخطوط الدقيقة في أنامل كل إنسان. فثبت بذلك أن أصابع الإنسان هي التي تحدد شخصيته، وأن بصمات الأصابع هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذه الشخصية، ونشأ عن ذلك علم، سمِّي:{ علم تحقيق الشخصيَّة }.
فإذا كان الأمر كذلك، وقد أخبر تعالى أنه قادر على جمع عظام الإنسان وإعادة بنان كل فرد بهيئته وشكله وصورته، فكيف يستبعد الجاحد على من هذه قدرته، إعادته إلى الحياة مرة أخرى ؟
وبالتالي فالآية نصٌّ صريحٌ في جمع الأجزاء المتفرقة، حتى أصغر وأدق جزء منها، ودليلٌ على أن بدن الإنسان يتفرق، ولا ينعدم.(1/56)
وهكذا نرى أن قوله تعالى:" أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ "يدل على معنى، لم يكشف العلم سره، إلا بعد نزول القرآن بأكثر من ألف وأربعمائة سنة، حينما عرف أن لكل بنان بصمة خاصة، تختلف فيها اتجاهات خطوطها اختلافًا واضحًا بين فرد وآخر. وصدق رب العزة حين قال:
" سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ "(فصلت: 53)
4- والسر الرابع من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ التكرار:
ومن ذلك ما جاء فيها من تكرار في الآيتين: الأولى والثانية. وفي الآيتين: الثامنة والتاسعة. وفي الآيتين: الرابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين.
أ-أما التكرار في الآيتين: الأولى والثانية:
" لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ "*" وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ "(القيامة: 1- 2)
ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الله تعالى أقسم بيوم القيامة، وبالنفس اللوَّامة.
والثاني: أنه أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوَّامة.
والثالث: أنه لم يقسم بهما.
وقد سبق أن ذكرت أن قوله تعالى:" لَا أُقْسِمُ " ليس بقسم مباشر؛ بل هو تلويح بالقسم وعدول عنه، لعدم الحاجة إليه. وأن " لَا " جيء بها قبل الفعل " أُقْسِمُ "، لنفي الحاجة إلى القسم، ولم يؤتَ بها لغرض آخر. وهذا هو سرُّ البيان فيها. وأما تكرارها مع الفعل" أُقْسِمُ "ففيه سرٌّ آخرُ من أسرار البيان، وبيان ذلك أنه لو قيل:
" لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَبِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ "، احتمل ذلك معنيين:
أحدهما: نفي الحاجة إلى القسم بهما مجتمعين.
والثاني: نفي الحاجة إلى القسم بأحدهما، دون الآخر.
وأما قوله تعالى:
" لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ "
فيدل على نفي الحاجة إلى القسم بهما مجتمعين ومنفردين. وهذا يعني أن التكرار هنا مقصود، ويدلك على ذلك أن السورة الكريمة تقوم من مطلعها إلى ختامها على المزاوجة بين إيقاع يوم القيامة، وإيقاع النفس اللوَّامة؛ وكأن هذا المطلع إشارة إلى موضوع السورة. أو كأنه اللازمة الإيقاعية، التي ترتد إليها كل إيقاعات السورة بطريقة دقيقة جميلة.
أما يوم القيامة فقد ورد وصفه في هذه السورة وفي غيرها بما لم يوصف به غيره، وسيمر بنا شيء من هذا الوصف.. وأما النفس اللوَّامة فقد روي في تفسيرها أقوال متنوعة، كلها متقاربة المعنى، ولعل أقربها إلى المراد ما روي عن الحسن البصري من قوله: إن المؤمن، والله ! ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي ؟ ما أردت بأكلتي ؟ ما أردت بحديث نفسي ؟ وإن الفاجر يمضي قدمًا، ما يعاتب نفسه. وعنه أيضًا: ليس أحد من أهل السماوات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم القيامة.
يقول سيد قطب رحمه الله:” فهذه النفس اللوَّامة، المتيقظة التقية، الخائفة المتوجِّسة، التي تحاسب نفسها، وتتلفت حولها، وتتبين حقيقة هواها، وتحذر خداع ذاتها، هي النفس الكريمة على الله؛ حتى ليذكرها مع يوم القيامة. ثم هي الصورة المقابلة للنفس الفاجرة، نفس الإنسان، الذي يريد أن يفجر أمام خالقه، فيسأل سؤال المتهكم عن يوم القيامة، مستبعًدا وقوعه، ويمضي قدمًا في فجوره وغيِّه دون حساب لنفسه، ودون تلوُّم، ولا تحرُّج، ولا مبالاة ! “.
" بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ *يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ "(القيامة: 5- 6)
والسؤال بـ" أَيَّانَ "هذا اللفظ المديد الجرس، يوحي باستبعاد ذلك السائل لهذا اليوم الواقع لا محالة؛ وذلك تمشيًا مع رغبته في أن يفجر، ويمضي في فجوره، لا يصدُّه شبح البعث، وشبح الآخرة. والآخرة لجام للنفس الراغبة في الشر، ومَصَدٌّ للقلب المحب للفجور؛ فهو يحاول إزالة هذا المَصَدِّ، وإزاحة هذا اللجام؛ لينطلق في الشر والفجور، بلا حساب ليوم الحساب.
ومن ثمَّ كان الجواب على تهكمه بيوم القيامة، واستبعاده لموعده سريعًا خاطفًا حاسمًا، ليس فيه تريث، ولا إبطاء، حتى في إيقاع النظم، وجرس الألفاظ..
" فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ *وَخَسَفَ الْقَمَرُ *وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ *يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ *كَلَّا لَا وَزَرَ *إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ *يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ *بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ *وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ "(القيامة: 7- 15)
ب- وأما التكرار في الآيتين: الثامنة والتاسعة:
" وَخَسَفَ الْقَمَرُ " *" وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ "(القيامة: 8- 9)
فالمراد به تكرار لفظ { القمر }. والسر في هذا التكرار أن الله تعالى أخبر عنه في الآية الثانية بغير الخبر في الأولى. فخسْف القمر غير جمعه مع الشمس. وخسفه معناه: ذهاب ضوئه وإظلامه. قال أبو حاتم محمد بن إدريس:” إذا ذهب بعضه فهو كسوف، وإذا ذهب كله فهو الخسوف “.(1/57)
وغلِّب المذكر على المؤنث في الآية الثانية، لاجتماع الشمس والقمر. ولو قيل: طلع الشمس والقمر، بدلاً من جمع الشمس والقمر، لقبح؛ كما يقبح أن يقال: قام هند وزيد، إلا أن يراد بالواو: الواو الجامعة، لا العاطفة. وأما في الآية الكريمة فلا بد أن تكون الواو جامعة، وهي التي تسمَّى واو المعيَّة، ولفظ الجمع قبلها يقتضي ذلك، وهي في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه:
" وَجُمِعَ بين الشَّمْس وَالْقَمَر ".
وقيل في المراد من جمعهما: أن الله تعالى يجمع بينهما يوم القيامة، ويلقيهما في النار؛ ليكونا عذابًا على الكفار. وفي تنوير المقباس من تفسير ابن عباس رضي الله عنهما:” يجمع بينهما كالثورين المقرونين العقيرين الأسودين فيرمَي بهما في حجاب النور “.
وجمعُ الشمس والقمر هو عبارة عن فناء الكون. أي: يحدث وقت التحام الشمس والقمر. في ذلك الوقت يحدث اضطراب بين النجوم والكواكب، وتوابعها، فتصطدم ببعضها، وتتحطم، ثم تتناثر.
ويؤكِّد العلماء أن جمع الشمس والقمر سوف يكون بفعل فقدان تعادل القوى الجاذبة والطاردة، وسينجذب القمر الى مركزه الأصلي، وهو الشمس.
ذكر الأستاذ عبد الدايم كحيل في مقال له، نشر في هذه الموسوعة تحت عنوان{ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ }، أن علماء الفلك يخبرون بنتيجة حساباتهم أن الشمس ستتحول إلى عملاق أحمر بعد خمسة آلاف مليون عام، وفي تلك اللحظة سيكبر حجم الشمس، حتى يصل غلافها إلى حدود القمر، وسيتم اجتماع الشمس والقمر!“.
ثم قال:”منذ عام/ 1695 لاحظ العالم هالي Edmund Halley أن دوران الأرض يتباطأ مع الزمن، وبعد ذلك وعندما تطورت القياسات الفلكية تمكن العلماء من اكتشاف أن القمر يبتعد عن الأرض تدريجياً وبمعدل/ 4 سم كل عام.
وفي ذلك الوقت سيكون القمر أبعد عن الأرض بمعدل/ 40 بالمائة أكبر من بعده الحالي. أي: أنه سيكون أقرب إلى الشمس، عند هذه المرحلة سوف يتحطم القمر، وينخسف كما تنخسف الأرض أثناء الزلزال.. وبالتالي سيكون القمر أول من يجتمع مع الشمس، ويتأثر بحرارتها.. في ذلك الوقت سيكون طول اليوم على الأرض/ 47 ضعف اليوم الحالي، وسيصبح طول الشهر/ 47 يومًا.
ويؤكد العلماء أن القمر ما هو إلا جزء من الأرض نتج عن اصطدامات، تعرضت لها الأرض قبل{ 4.5 } بليون سنة، فتناثرت أجزاء من الأرض، وبدأت تدور حولها، ثم تجمعت وشكلت القمر. والقمر يبعد عن الأرض{ 385 } ألف كيلو متر وسطياً، هذه المسافة قطعها القمر بعد رحلة شاقة، استمرت آلاف الملايين من السنوات، ولا يزال القمر يبتعد عن الأرض حتى يدخل في نطاق جاذبية الشمس، ويكون الاجتماع بينهما.. ويؤكد العلماء أن اقتراب الشمس من القمر واقتراب القمر من الشمس واجتماعهما حقيقة مؤكدة بناء على القوانين التي تحكم الكون “.
فالله القادر على جمع الشمس والقمر في هذا اليوم هو على جمع عظام الإنسان بعدما فرَّقها البلى ومزَّقها أقدر وأقدر، وإن كان الكل أمام القدرة الإلهية سواء !
ج- وأما التكرار في الآيتين: الرابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين:
" أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى "*" ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى "(القيامة: 34- 35)
فقد جاء فيهما لفظ"أَوْلَى "مكررًا أربع مرات. والغرض من هذا التكرار المبالغة في التهديد والوعيد. والخطاب لأبي جهل، عمرو بن هشام، الذي تقدم وصفه في الآيات، التي سبقت هاتين الآيتين، وهي قوله تعالى:
" فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى " *" وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى " * " ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى "(القيامة: 31- 33)
وكان يجيء أحيانًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسمع منه القرآن، ثم يذهب عنه، فلا يؤمن ولا يطيع، ولا يتأدب ولا يخشى، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول، ويصد عن سبيل الله، ثم يذهب مختالاً بما فعل، فخورًا بما ارتكب من الشر؛ كأنما فعل شيئًا يذكر.
والتعبير القرآني يتهكم به، ويسخر منه، ويثير السخرية كذلك، وهو يصور حركة اختياله بأنه" يَتَمَطَّى "، وهو ذاهب إلى أهله. أي: يمطُّ في ظهره، ويتعاجب تعاجبًا ثقيلاً كريهًا !
والله تعالى يواجه هذه الخيلاء الشريرة بالتهديد والوعيد، فيقول سبحانه:
" أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى *ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى "
وهو تعبير اصطلاحي، يتضمن التهديد والوعيد. ومعناها: قاربك ما تكره، فاحذره. وهو مأخوذٌ من الوَلِيِّ، وهو القرب.
وفي ( زاد المسير ) لابن الجوزيِّ:”قال ابن قتيبة: هو تهديد ووعيد. وقال الزجاج: العرب تقول: أولى لفلان، إذا دعت عليه بالمكروه، ومعناه: وَلِيَكَ المكروه، يا أبا جهل ! “.
وقال الكرماني في ( أسرار التكرار ):”فإن قوله:" أَوْلَى "تامٌّ في الذمِّ، بدليل قوله:" فَأَوْلَى لَهُمْ "(محمد: 20)، فإن جمهور المفسرين ذهبوا إلى أنه للتهديد؛ وإنما كرَّرها؛ لأن المعنى: أولى لك الموت، فأولى لك العذاب في القبر، ثم أولى لك أهوال يوم القيامة، وأولى لك عذاب النار، نعوذ بالله من شرها “.(1/58)
وفي المستدرك على الصحيحين: عن سعيد بن جبير، قال:”قلت لابن عباس رضي الله عنهما:" أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى "، أشيءٌ قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو شيءٌ أنزله الله ؟ قال: قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنزله الله “.
وفي لباب النقول في أسباب النزول لجلال الدين السيوطي:” أخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة، قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل، فقال: إن الله أمرني أن أقول لك:
" أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى "
قال: فنزع ثوبه من يده، فقال: ما تستطيع لي أنت، ولا صاحبك من شئ، لقد علمت أني أمنع أهل بطحاءَ، وأنا العزيز الكريم. فقتله الله يوم بدر وأذله، وعيَّره بكلمته، ونزل فيه:
" ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ "(الدخان: 49) “.
5- والسر الخامس من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ التقديم والتأخير:
ومن ذلك سر تقديم الخبر على المبتدأ، أو على ما أصله المبتدأ. وتقديم شبه الجملة على ما يسمَّى: عاملها.
أ- أما تقديم الخبر على المبتدأ، أو على ما أصله المبتدأ فنلاحظه في الآيات الآتية:
"إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ "(القيامة: 12)
"إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ "(القيامة: 30)
" إِِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ "(القيامة: 17)
" ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ "(القيامة: 19)
ففي الآية الأولى قُدِّم الخبر"إِلَى رَبِّكَ "على المبتدأ" الْمُسْتَقَرُّ "، والسر في هذا التقديم هو إفادة معنى التخصيص، مع تحسين اللفظ. والمعنى: أن مستقر العباد يوم القيامة إلى ربهم خاصة، لا إلى غيره، فلا مفرَّ لهم منه سبحانه إلا إليه.
قال الزمخشري:”أي: استقرارهم. يعني: أنهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره، وينصِبوا إليه. أو: إلى حكمه ترجع أمور العباد، لا يحكم فيها غيره؛ كقوله:
" لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ "(غافر: 16).
أو: إلى ربك مستقرُّهم. أي: موضع قرارهم، من جنة، أو نار “.
وما قيل في تقديم الخبر على المبتدأ يقال مثله في تقديمه على ما أصله المبتدأ في قوله تعالى:
" إِِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ " " ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ "(القيامة: 17- 19)
أي: إن على الله تعالى وحده جمع القرآن في صدر محمد صلى الله عليه وسلم، وإثبات قراءته في لسانه، ثم إن عليه وحده سبحانه بيانه. فالله سبحانه تكفل بجمعه، وقرآنه، وبيانه. وبيانه يكون على ألسنة العلماء المتدبرين على مر الدهور والعصور، الغائصين في مكنوناته، المتحيرين في أسرار إعجازه. وهذا يعني: أن بيان القرآن الكريم لم ينفرد به شخص دون آخر، ولم يقتصر على زمن دون زمن.
أما لفظ { قرآن }هنا فهو مصدر:{ قرأ }، جيء به بدلاً من { قراءة }؛ ليدل على المبالغة في القراءة. هذا أصله، ثم أطلق على الكتاب المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم، فصار علمًا عليه. ومثله في دلالته على المبالغة:{ فرقان }، و{ غفران }، و{ شكران }، و{ كفران }.
ب- وأما تقديم شبه الجملة على ما يسمَّى: عاملها، فنلاحظه في الآيات الآتية:
"إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ "(القيامة: 12)
" بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ "(القيامة: 14)
" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ "(القيامة: 22)
" إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ "(القيامة: 23)
" وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ "(القيامة: 24)
"إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ "(القيامة: 30)
ففي هذه الآيات تقدم الظرف، والجارُّ والمجرور على ما يطلق عليه في النحو العربي مصطلح{ العامل }. والغرض من هذا التقديم هو الاختصاص، وهو الغرض نفسه من تقديم الخبر على المبتدأ في الآيات، التي تقدَّم ذكرها قبل هذه الآيات. وفي قوله تعالى:
" إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ "(القيامة: 23)
قال الزمخشري:”تنظر إلى ربها خاصَّة، لا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم المفعول “.
واستطرد الزمخشري قائلاً:”ألا ترى إلى قوله:
"إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ "(القيامة: 12)
"إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ "(القيامة: 30)
" إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ "(الشورى: 53)
َ" إِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ "(آل عمران: 28)
"َ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " (البقرة: 28)
" عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ "(هود: 88)
كيف دلَّ فيها التقديم على الاختصاص ! “.
ومصطلح{ المفعول }يطلق- عند النحاة- ويراد به: شبه الجملة؛ كما يراد به: المفعول به.
وذكر الهاشمي في{ جواهر البلاغة } من فوائد التقديم: ما يفيد زيادة في المعنى، مع تحسين في اللفظ، ثم قال:”وذلك هو الغاية القصوى، وإليه المرجع في فنون البلاغة، والكتاب الكريم هو العمدة في هذا.. انظر إلى قوله تعالى:
" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ "(القيامة: 22- 23)
تجد أن تقديم الجارِّ في هذا قد أفاد التخصيص، وأن النظر لا يكون إلا لله، مع جَوْدَة الصياغة، وتناسق السجَع “.
6- والسر السادس من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ دخول{ الواو }على { لو } الشرطية، في قوله تعالى:(1/59)
" بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ "(القيامة: 14- 15)
و" بَلِ" للإضراب الانتقالي، وهو للترقي من مضمون الجملة السابقة:
" يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ "(القيامة: 13)
إلى الإخبار بأن الإنسان يعلم ما فعله. فالمعنى: بل الإنسان حجَّة بيِّنة على نفسه يوم القيامة، وشاهد عليها وحده بما جنت، وارتكبت من الموبقات، ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عنها؛ وذلك لأن جوارحه تنطق يومئذ بذلك..
" يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ "(النور: 24)
ولهذا لا يحتاج إلى غيره؛ لينبئه بأعماله. ألا ترى إلى قوله:
" يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ " *" وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ "(الحاقة: 25)
وهو كقوله تعالى:
" اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً "(الإسراء: 14)
فالبصيرة على هذا هي الحجة البينة الظاهرة؛ مثلها في قوله تعالى:
" قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ "(يوسف: 108)
والتاء فيها للمبالغة؛ كما في{ راوية }، و{ علاَّمة }، و{ ونسَّابة }.
وقيل: البصيرة اسم للإدراك التام الحاصل في القلب؛ كما أن البصر اسم للإدراك التام الكامل الحاصل بالعين. وقيل: البصيرة: العقل، الذي تظهر به المعاني والحقائق؛ كما أنّ البصر إدراك العين، الذي تتجلى به الأجسام. وتجمع على بصائر. قال تعالى:
" قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ "(104)
والمعنى المراد من الآية أن الإنسان بصير على نفسه، رغم المعاذير، التي يأتي بها. وهذا ما أفادته { الواو }الداخلة على "لَوْ "في العبارة الشرطية، التي جاءت قيدًا على الجملة قبلها. ولولا هذه الواو، لكان إلقاء المعاذير شرطًا في كون الإنسان بصير على نفسه، فجاءت الواو لتحصن المعنى..
" بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ "
ومثل ذلك قوله تعالى:" وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ "(البقرة: 221)
" وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ "(يوسف: 17)
7- والسر السابع من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ دخول { الباء }على خبر المنفي بـ{ ليس }، في قوله تعالى:
" أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى "(القيامة: 40)
لما ذكر الله تعالى في أول السورة الكريمة إمكان البعث والنشور في صورة تقريرية حاسمة ردًّا على منكريه، ذكر سبحانه في آخرها الأدلة على النشأة الآخرة بالنشأة الأولى، ثم ختم سبحانه السورة الكريمة بقوله:" أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى "(القيامة: 40)
وهذه الحقيقة، حقيقة النشأة الأولى، ودلالتها على صدق الخبر بالنشأة الأخرى، وعلى أن هناك تدبيرًا في خلق هذا الإنسان وتقديرًا، هي إحدى الحقائق الكبيرة، التي عرضتها السورة الكريمة، إلى جانب مشهد يوم القيامة، وما يجري فيه من انقلابات كونية، ومن اضطرابات نفسية، ومن حيرة وقلق في مواجهة الأحداث الغالبة، حيث يتجلى الهول في صميم الكون، وفي أغوار النفس، وهي تروغ من هنا ومن هناك؛ كالفأر في المصيدة ! وذلك ردًّا على تساؤل الإنسان الكافر عن يوم القيامة، في شك واستبعاد ليومها المغيَّب، واستهانة بها، ولجاج في الفجور.
وهي- كما قال سيد قطب رحمه الله- حقيقة يكشف الله للناس عن دقة أدوارها، وتتابعها في صنعة مبدعة، لا يقدر عليها إلا الله، ولا يدعها أحد ممن يكذبون بالآخرة، ويتمارون فيها. فهي قاطعة في أن هناك إلهًا واحدًا، يدبر هذا الأمر ويقدره؛ كما أنها بيِّنة، لا ترد على يسر النشأة الآخرة، وإيحاء قوي بضرورة النشأة الآخرة، تمشيًّا مع التقدير والتدبير، الذي لا يترك هذا الإنسان سدى، ولا يدع حياته وعمله بلا وزن ولا حساب.. وهذا هو الإيقاع، الذي تمسُّ السورة به القلوب، وهي تقول في أولها:" أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ "(القيامة: 3)
ثم تقول في آخرها:" أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى *أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى *ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى *فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى "(القيامة:36- 40)
وهذا المقطع الأخير العميق الإيقاع، يشتمل على لفتات عميقة إلى حقائق كبيرة، ما كان المخاطبون بهذا القرآن يخطرونها على بالهم في ذلك الزمان. وأولى هذه اللفتات تلك اللفتة إلى التقدير والتدبير في حياة الإنسان:" أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى "
فلقد كانت الحياة في نظر القوم حركة، لا علة لها، ولا هدف، ولا غاية.. أرحام تدفع، وقبور تبلع.. وبين هاتين لهو ولعب، وزينة وتفاخر، ومتاع قريب زائل من متاع الحيوان.(1/60)
فأما أن يكون هناك ناموس، وراءه هدف، ووراء الهدف حكمة، وأن يكون قدوم الإنسان إلى هذه الحياة وفق قدر يجري إلى غاية مقدرة، وأن ينتهي إلى حساب وجزاء، وأن تكون رحلته على هذه الأرض ابتلاء، ينتهي إلى الحساب والجزاء.. أما هذا التصور الدقيق المتناسق، والشعور بما وراءه من ألوهية قادرة مدبرة حكيمة، تفعل كل شيء بقدر، وتنهي كل شيء إلى نهاية.. أما هذا فكان أبعد شيء عن تصور الناس ومداركهم، في ذلك الزمان.
وهذه اللمسة: " أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى " هي إحدى لمسات القرآن التوجيهية للقلب البشري؛ كي يتلفت ويستحضر الروابط والصلات، والأهداف والغايات، والعلل والأسباب، التي تربط وجوده بالوجود كله، وبالإرادة المدبرة للوجود كله.
وفي غير تعقيد ولا غموض، يأتي سبحانه وتعالى بالدلائل الواقعة البسيطة، التي تشهد بأن الإنسان لن يترك سدى.. إنها دلائل نشأته الأولى، التي يدركها الإنسان بفطرته السليمة:
" أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى *أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى *ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى *فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى "(القيامة:36- 39)
وأمام هذه الحقيقة، التي تفرض نفسها فرضًا على الحس البشري، يجيء الإيقاع الشامل لجملة من الحقائق، التي تعالجها السورة:" أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى " ؟
وجمهور العلماء على القول بأن همزة الاستفهام، إذا دخلت على النفي؛ كما في هذه الآية:" أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ "، أفادت معنى التحقيق والتقرير، وأن الباءالداخلة على الخبر " بِقَادِرٍ " زائدة للتوكيد، وعليه يكون قوله تعالى:" أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ "، وقولهم في تقديره:
{ أليس ذلك قادرًا} ، سواء في المعنى.
وفي الحقيقة أن الهمزة الداخلة على النفي لا تفيد معنى التقرير في الجمل المنفية، إلا بدخول { الباء }على خبر المنفي، أو ما يقوم مقامه. وبعبارة أخرى: التقرير لا يستفاد من دخول الهمزة على النفي؛ وإنما يستفاد من دخول الباء على الخبر الواقع في سياق هذا المنفي. ونحو ذلك قوله تعالى:
" أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ "(الأنعام: 53)
" أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ "(الزمر: 36)
" أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ "(الزمر: 37)
" أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ "(التين: 8)
فالنفي في هذه الآيات جميعًا، ونحوها قد انتقض، وخرج إلى إثبات حاسم، مرادًا به التقرير. أما الإثبات فمستفاد من دخول { الهمزة }على " لَيْسَ ". وأما التقرير فمستفاد من دخول الباء على الخبر. وهذا هو سرُّ الإعجاز البياني في هذه الباء، التي حكموا عليها ظلمًا وعدوانًا بالزيادة !
ثالثًا- وبعدُ.. فإنه ينفد القول، وما تنفد كلمات ربي، وما تنطوي عليه من أسرار البيان. وإن كنت قد اكتفيت بهذا القدر مما ذكرت من هذه الأسرار المبهرة في هذه السورة الكريمة، فأرجو ألا يظن أحد أنني قد أتيت على كل ما فيها من أسرار؛ فإنه لا يزال فيها الكثير مما أجهله، إذا ما قيس بالقليل، الذي أزعم أنني أعلمه، فما يعلم أسرار كلمات ربك إلا هو، سبحانه وتعالى أن يحيط بهذه الأسرار مخلوق من مخلوقاته. فتبارك من أودع كلامه هذه الأسرار، التي هي أجل وأعظم من أن تدركها العقول، فإن ما ظهر لنا منها بالنسبة إلى ما خفي يسيرٌ يسير.. والحمد لله رب العالمين !
الأستاذة: رفاه محمد علي زيتوني
مدرسة لغة عربية- حلب
===============
من أسرار الإعجاز البياني في القرآن
إعداد المهندس محمد شملول
مهندس مدني وكاتب إسلامي مصري
هناك من العلماء من يرى أن القرآن لا يحتاج إلى تفسير إلا في بعض الألفاظ الغريبة على القارئ وهذا يستدعي توضيحاً له أو تقريباً. وإلا في بعض آيات الأحكام والمجملات المبينة بالسنة وما عدا ذلك لا يحتاج إلى تفسير ولا إلى بيان أو توضيح.
ويستدل أصحاب هذا الرأي بآيات القرآن الكريم التي تدل على أنه كتاب مبين وأن آياته بينات. وأنه أنزل ليبين للناس ما اختلفوا فيه.
فكيف يحتاج هو إلى بيان وهو في حد ذاته بيان؟(1) قال تعالى:
(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين)[المائدة: 15].
وقال تعالى : (طس تلك آيات الكتاب وقرآن مبين)[الحجر: 1].
وقال تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر)[القمر: 17].
ويقول ابن كثير في تفسيره: فإن قال قائل فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر.
فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له. وإذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة.
إن القرآن يشرح ذلك بوضوح (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)[النساء: 82].(1/61)
إننا نجد في هذه الآيات المقياس الواضح الذي يبين أنه لا شيء في القرآن يتعارض مع شيء آخر فيه. فإذا وجدنا أن تفسيراً ما للقرآن يتعارض مع جزء آخر فيه. فذلك دليل في حد ذاته على أن ذلك التفسير ليس من عند الله بل من عند غير الله بكل تأكيد.
فالمقياس القرآني القطعي لاختيار أي تفسير هو أن يكون مطابقاً للدين كله كمجموعة. أما إثبات نظرية أو رأي ما باستخدام نوع معين من الآيات دون النظر إلى الآيات الأخرى أو إذا وجدت أن تفسيراً ما للدين لا يوافق القرآن كله فتأكد أنه ليس تفسيراً للقرآن. وإنما هو تفسير لأفكار ذاتية(2).
قال تعالى (فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكَّر إلا أولوا الألباب)[آل عمران: 7].
إن أية قضية أو نظرية أو تفسير يجب عرضه على القرآن كله وليس على مجموعة آيات منه وتدبر مدى توافق هذا التفسير مع القرآن ككل مع الإستناد إلى السنة وأقوال الصحابة: " إن وجدت".
ونورد فيما يلي محاولة لفهم معاني بعض الألفاظ والجمل والآيات القرآنية بعد عرضها على القرآن الكريم ككل باستخدام جهاز الكمبيوتر.
وهي محاولة لفهم القرآن بالقرآن. ولقد روعي في هذه الدراسة البحث عن تكرار اللفظ أو الجملة القرآنية في القرآن كله بالإضافة إلى معرفة جو ومعاني الآيات التي ورد فيها هذا اللفظ أو الجملة وكذلك الآيات التي قبلها والتي بعدها حتى يمكن الإلمام بالمعنى من جميع جوانبه.
1- الإسراء (بعبده)... والمعراج (بصاحبكم)
وردت معجزة الإسراء في آية واحدة في القرآن، وجاءت كلمة (أسرى) مرة واحدة في القرآن وكلمة (بعبده) مرة واحدة في القرآن الكريم كله.
{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الإسراء: 1].
وقد وصف الله سبحانه وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم في الإسراء بالعبودة الكاملة لله (بعبده).
ووردت معجزة المعراج في سورة واحدة هي سورة النجم:
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } [النجم: 1-18].
وقد وصف الله سبحانه وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم في المعراج، بـ(صاحبكم).
حينما نتدبر كلمة (بعبده) فإنها تعني أنه (بشر) مثلكم تعرفونه وتصاحبكم.
في حالة الإسراء ذكر الله { لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا } وفي حالة المعراج ذكر الله { لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى }.
إن الله سبحانه وتعالى يبين لنا أنه رغم (بشرية) الرسول فقد عرج به إلى السماوات العلى ووصل إلى سدرة المنتهى وبلغ الأفق الأعلى ثم دنا وتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى من الحضرة الإلهية، (كما سيأتي بيانه لاحقاً) ورأى من آيات ربه الكبرى.
إن بشرية الإنسان لا تنفي أنه بسلطان من الله فإنه يصل إلى أعلى عليين.
{ { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } [الرحمن: 33].
ولقد نفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهو من الإنس) من أقطار السماوات والأرض بسلطان من الله.
أما بالنسبة للإسراء فإن الله سبحانه وتعالى ذكر في القرآن: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } ولم يقل بنبيه أو برسوله وإنما كان كذلك لأنه أراد أن يفتح باب السريان (الإسراء) للتابعين، فأعلمنا بأن الإسراء من بساط العبودية، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان له كمال العبودية، فكان له كمال الإسراء، أُسري بروحه وجسمه وظاهره وباطنه، والأولياء لهم قسط من العبودية فلهم قسط من الإسراء يسري بأرواحهم لا بأجسادهم (من كتاب لطائف المنن لابن عطاء السكندري).
كذلك فإن الله لم يختم آية الإسراء بالقدرة أو بالعزة أو القوة وإنما ختمها بأنه (هو السميع البصير) وهي تعني أن الله سبحانه وتعالى قد سمع دعاء محمد صلى الله عليه وسلم وبَصُر بحالته حينما آذاه الناس وهان عليهم فأكرهم اله بمعجزة الإسراء فإن كان الناس قد بعدوا عنه فقد اقترب هو من الله.(1/62)
وتعني الآية أيضاً فتوحات الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين كلما صبروا على البلاء واستقاموا على الطريقة، فإنه هو السميع البصير يقربهم إليه نجيّاً ويريهم من آياته إنه هو السميع البصير.
2- غلام حليم و غلام عليم
بشرت الملائكة إبراهيم عليه السلام بغلام حليم هو إسماعيل عليه السلام ثم بشرته بغلام عليم هو إسحاق ومن ورائه يعقوب (إسرائيل).
يقول الله سبحانه وتعالى في شأن البشرى بولادة إسماعيل عليه السلام: { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ } [الصافات: 101].
أي: أن صفة إسماعيل عليه السلام المميزة أنه (حليم) وهي صفة والده إبراهيم عليه السلام حيث يقول الله سبحانه وتعالى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ } [هود: 75].
ويقول الله سبحانه وتعالى في شأن البشرى بولادة إسحاق عليه السلام: { وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ } [الذاريات: 28].
أي: أن صفة إسحاق عليه السلام المميزة هو أنه (عليم).
إسماعيل عليه السلام هو جد محمد صلى الله عليه وسلم.
وإسحاق عليه السلام هو جد بني إسرائيل.
حلم إسماعيل:والحلم الذي هو الصفة المميزة لإسماعيل عليه السلام يعني: الصبر والإرادة والسكون والعقل السليم، وهو ضد الطيش ولو جمعنا كل مناحي الحلم فإنه يكون (التقوى) بكل معناها من حب الله وخشيته والصفح الجميل.
يصف الله إسماعيل عليه السلام في سورة مريم آية: 54، 55:
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا }.
إسماعيل عليه السلام كان صادق الوعد، حينما أسلم وجهه له ساعة الذبح راضياً بقضاء الله{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } [الصافات: 102].
إن ذلك كان منتهى الإيمان بالله من الأب المحسن إبراهيم عليه السلام ومن الابن الصابر إسماعيل عليه السلام.
علم إسحاق ومن ورائه يعقوب (إسرائيل)
وصف الله سبحانه وتعالى إسحاق بالعلم والذي ورثه بنو إسرائيل (بنو يعقوب بن إسحاق)، وكان من المفترض أن يستخدم بنو إسرائيل هذا العلم الوراثي في حسن عبادتهم لله والتفكر في آياته.. غير أن أكثرهم استغل هذا العلم في ماديات صرفة ولم يتوجهوا إلى الله سبحانه وتعالى، بل أغرقوا أنفسهم في الماديات وظلموا أنفسهم وقد قال الله في شأن إبراهيم عليه السلام، وشأن ذريته: سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ } [الصافات: 109-113].
كذلك قال الله سبحانه وتعالى في شأن ذرية إبراهيم عليه السلام:
{ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [البقرة: 124].
إن الله سبحانه وتعالى بين لإبراهيم عليه السلام أن ذريته لن تكون كلها من الصالحين وأن ذلك يعتم على استجابتهم لما يحييهم بما أنزله على رسله إليهم من البينات والزبر والكتاب المبين، امتحن الله بني إسرائيل (فضلهم على العالمين) واختارهم على علم على العالمين، فكيف كانت استجابتهم لله ؟... ظلم بنو إسرائيل أنفسهم على مدى التاريخ.
وكانوا يقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويعصون الله فيما أمرهم وينقضون ميثاقهم مع الله... إنهم يحاربون كل من يقول لهم توجهوا بقلوبكم إلى الله واتركوا الحب الشديد لماديات وآمنوا بالله الذي ليس كمثله شيء...(1/63)
كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه... يتحايلون على أوامر الله حينما قال لهم لا تعتدوا في السبت، ويتشددون في أي أمر حينما قال لهم موسى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } [البقرة: 67] فاشتطوا في الأمر... استكبروا بالعلم الذي أورثوه.. ولم يؤمنوا إلا بالأشياء المادية أما الناحية الروحية... أما الحلم فقد بعدوا عنه لدرجة أنه من فرط ماديتهم قالوا لموسى عليه السلام: { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ } [الأعراف: 138] كذلك فإنهم طلبوا إلهاً مادياً يلمسونه بأيديهم وصنعوا عجلاً جسدياً مادياً.. لم يقبلوا بأن ينزل لهم المن والسلوى من السماء.. ولكنهم فضلوا طعام الأرض... كل توجههم كان للأرض ولم يرفعوا رؤوسهم إلى السماء... { { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } [البقرة: 61] لقد استبدلوا الأرض بالسماء استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.. وكان هو ذلك مبدأهم وحتى الآن.
إن العلم الوراثي الذي وهبه الله لبني إسرائيل واختارهم على العلامين به { { وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } [الدخان: 32].
وامتحنهم الله به ليعلم هل يشكرون أم يكفرون فلم يرعوا هذا العلم واتجهوا به فقط إلى الماديات وبالرغم من أنهم أصبحوا بهذا العلم الوراثي أساطين في الاقتصاد إلا أنهم استغلوه في إفساد الأرض وإفساد الذمم والربا والمكر والألاعيب وإشعال الحروب. فغضب اله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذاباً شديداً.
وبعد اختبار الله لبني إسرائيل بهذا العلم... وإظهارهم للعالمين بأنهم قوم سوء... شاء الله أن يكون خاتم النبيين محمداً صلى الله عليه وسلم من ذرية إسماعيل عليه السلام ذرية الحلم والتقوى ووهب الله له العلم المباشر من الله سبحانه وتعالى... قرآناً كريماً غير ذي عوج.. فكان المسلمون خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتؤمن بالله.. { { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران: 110].
الأجر مرتين والعذاب ضعفين... للقمم
يقول الله سبحانه وتعالى في الآية رقم 165 من سورة الأنعام: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }.
وضع الله للناس درجات في الحياة الدنيا لتستقيم عمارة الأرض لأنه لا يمكن أن يكون الناس كلهم في درجة واحدة.. لا يمكن أن تستقيم عمارة الأرض بجعل الناس كلهم قادة.. أو كلهم علماء.. أو كلهم في وظيفة واحدة.. لا بد من وظائف متعددة ودرجات متفاوتة.. وقد أوضح الله سبحانه وتعالى هذه المسألة في قوله في الآية 32 من سورة الزخرف:
{ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } [الزخرف: 32].
غير أن هذا التمييز لدرجات ادنيا ليس هو تكريم وإنما هو ابتلاء واختبار { لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ } [المائدة: 48]. وتكون النتيجة كما يذكرها الله سبحانه وتعالى في الآيات من 37 حتى 41 من سورة النازعات: { فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى }.
إلا أن وضع الناس على درجات مختلفة في الحياة الدنيا يجعل من ذوي السلطة منهم وذي الشأن والملأ والشهرة تأثيراً كبيراً في حياة عامة الناس... فهم أولو القوة والسلطة والبطش.. كما أن أصحاب الشهرة منهم يمثلون لعامة الشعب قدوة وأنموذجاً يتطلعون إليه. فيتحدثون عنهم في مجالسهم.. ويروون القصص والحكايات.. ويتتبعون أخبارهم وكل ما يدور حولهم... ويكونون على رأس كل موضوعاتهم واهتماماتهم...
إن تأثير أي واحد من أولي الشهرة وأصحاب القمم في أي مجال يساوي تأثير آلاف أو ملايين الناس العاديين... لذلك فإن الله سبحانه وتعالى لا يعاملهم معاملة الناس العاديين.. إن الحسنة من الواحد منهم لا تعادل الحسنة من المرء العادي وكذلك السيئة منه لا تعادل السيئة من المرء العادي..
إن خطأ الكبير كبير... وحسنة الكبير كبيرة..
لقد وضع الله سبحانه وتعالى ميزاناً دقيقاً في آيات القرآن الكريم، إنه ميزان العدل المطلق { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } [الرحمن: 7-9].
وكان الوزن هو مقياس الأجر.. والوزن هو قيمة العمل وتأثيره.(1/64)
وتأتي آيات كثيرة في القرآن الكريم توضح مسؤولية ووزن أصحاب القمم والسلطة والشهرة والقيادة والأجر المقابل.. ونورد هذه الأمثلة:
نساء النبي:
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب الآية 30، 31:{ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا }.
إن نساء النبي هن أمهات المؤمنين.. هن القمم.. وأحد مراجع السنة.. تأثيرهن ليس كتأثير النساء العاديات: { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ } [الأحزاب: 32].
لذلك فقد كان الأجر مرتين.. والعذاب ضعفين.
المنافقون:يقول الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة الآية 101:
{ { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } [التوبة: 101].
إن المنافقين تأثيرهم ووزنهم ليس تأثيراً عادياً.. إنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.. إنهم يشوّهون العقيدة ويخدعون المؤمنين.. ويضربون الأمثال السيئة للذين لم يؤمنوا بعد.. إنهم وبال على الإيمان لذلك كان لا ب من عذابهم مرتين مرة بسبب الكفر ومرة بسبب إظهار إيمان غير حقيقي.....
اليهود والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم:
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة القصص الآيات 52-54:
{ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }.
إن اليهود بوجه عام متعنتون في الدين.. يعلمون الحق ولا يتبعونه.. يقولون سمعنا وعصينا لذلك جاء الأمر مرتين لهؤلاء الذين جاهدوا هذه الطبيعة السيئة وانتصروا على أنفسهم.. وخرجوا من أمر اليهودية المتعنتة وصبروا على أذى بقية قومهم... واصبحوا قمماً إيمانية تبين كذاب بني إسرائيل وإصرارهم على الباطل... وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الكريم.
القمم والكبراء في الضلال:
يقول الله سبحانه وتعالى في شأن هؤلاء القسم في الضلال والإضلال:
{ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ } [هود: 20].
{ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } [الأحزاب: 67-68].
{ قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 38].
إن هؤلاء القمم في الضلال والإضلال يستحقون العذاب ضعفين بما لهم من تأثير في باقي الناس المعاديين وبما لهم من سطوة وقوة وقهر وبريق وإعلام وإعلان وشهرة...
قمم الضلال والإضلال... وجزاء التوبة
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الفرقان الآيات 68-70:
{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }.
هؤلاء القمم الذين ضلوا وأضلوا وأفسدوا في الأرض.. أشركوا بالله.. وقتلوا النفس التي حرم الله بغير الحق، وزنوا.. ثم أفاقوا واهتدوا إلى الحق وجاهدوا أنفسهم وشهرتهم وسطوتهم وانتصروا على كل الهالات والبريق الذي يحوطهم وعلى كل الشلل والأصحاب والأخدان وحاشية السوء.. وتابوا إلى الله وأنابوا إليه وعملوا الصالحات وانتقلوا بزاوية مقدارها 180 درجة من الشمال إلى اليمين.. غفر الله لهم ذنوبهم وإسرافهم في أمرهم.. ونقل أعمالهم وسيئاتهم من الشمال إلى اليمين.. فتبدلت السيئات إلى حسنات وتضاعف أجرهم جزاء بما صبروا على شهوات النفس.... وجزاء على ما يحدثه هذا التبدل كما أفاق هؤلاء القمم.. ويرجع الناس وينيبوا إلى الله ويسلموا له... كما أسلم الكبراء...
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.. فقد كان في أول الدعوة يرجو إسلام عمر بن الخطاب وعمرو بن هشام (أبو جهل) بما لهم من أثر في الناس العاديين..(1/65)
الملوك والقياصرة والأكاسرة وقمم السلطة:
في رسائل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القياصرة والأكاسرة والتي دعاهم فيها إلى الإسلام كان صلب الرسالة هو الآتي: ( أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ).
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أثر الإسلام هؤلاء القمم في شعوبهم... وأنهم حينما يسلمون فإنهم يساعدون في إزالة الغشاوة عن أعين الناس العاديين.. ويلفتونهم إلى الحق لهم من قوة جذب وبريق.. هذا بالإضافة إلى انتصار هؤلاء القمم على أنفسهم وكبريائهم وسلطاتهم وعروشهم ومساواتهم بعامة الناس حب مبادئ الإسلام.. لذلك كان الأجر مرتين..
الأجر مرتين.. للصابرين عندما صبر سيدنا إبراهيم عليه السلام على البلاء المبين بذبح ابنه الوحيد إسماعيل عليه السلام، بشره الله بإسحاق نبياً من الصالحين.
{ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } [الصافات: 112].
وبذلك أعطاه اله أجراً مرتين بما صبر على البلاء العظيم بفقد ابنه الوحيد.. فأعطاه ابناً آخر نبياً من الصالحين..
كذلك فإنه عندما صبر أيوب عليه السلام على النصب والعذاب وعلى فقد أهله وهبه الله أهله ومثلهم معهم رحمة منه وذكرى لأولي الألباب.. لقد منحه الله الأجر مرتين..
{ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } [ص: 43].
القمم بوجه عام في المجتمع:
إن القرآن الكريم يزخر بالأمثلة والنماذج التي توضح لنا عدالة الله سبحانه وتعالى في الجزاء.. إنها تحث هؤلاء القمم في السلطة وفي الإعلام وفي الإعلان وفي كافة نواحي المسؤولية.. على الانتصار على نوازع النفس البشرية والتحول إلى أصحاب اليمين ويؤجرهم مرتين لما لهم من تأثير على عامة الناس... وهذا الأجر مرتين يعني ضعف أقصى أجر يمنحه الله للناس المؤمنين العاديين.. وقد ذكر القرآن الكريم أن الله يضاعف هذا الأجر العادي أضعافاً مضاعفة. كما أن هناك رضوان من الله أكبر وبذلك يكون الأجر مرتين هو ضعف هذه المضاعفات جميعاً.. هناك أمر آخر.. إن القمم مستويات.. وأي مسؤول له تأثير في موظفيه يعتبر قمة في هذا النوع من المسؤولية كما أن أي شخص في أي مكان له أي تأثير على شخص أو أشخاص آخرين هو قمة في الموقف.. وكذلك الحال بالنسبة للأب أو الأم في الأسرة.. والمدرس في الفصل.. والمدير في الإدارة.. والرئيس في المرؤوسين.. والكاتب الذي ينشر فكره.. والممثل الذي يؤدي دوراً.. والإعلامي.. والصحفي.. والفنان.. والفنانة. والعالم والفقيه والواعظ.. الخ.
إن هؤلاء جميعاً يؤتون أجرهم مرتين حسب نصر القرآن إذا صبروا وآمنوا ورعوا الله في مسؤولياتهم.. ويضاعف لهم العذاب إذا ضلوا وأضلوا.. كما أن هؤلاء الذين أفسدوا في الأرض.. ثم عرفوا الحق وتابوا إلى الله ورجعوا عن غوايتهم وإغوائهم للناس.. فإن الله يبدل سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً..
أما هؤلاء الناس لا يملكون مصيرهم.. وليس لهم من الأمر شيء مثل (ما ملكت أيمانكم) فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب: { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } [النساء: 25].
أنزل – نزّل
أنزل: تعني الإنزال مرة واحدة أو جملة واحدة.
نزل: تعني الإنزال على مراحل أو أجزاء متفرقة.
والقرآن الكريم أنزله الله سبحانه وتعالى جملة واحدة في ليلة القدر من شهر رمضان إلى السماء الدنيا حسب الروايات المتعددة في هذا المجال وحسب ما توحي به نصوص الآيات الكريمة التي وردت في نزول القرآن الكريم.. ثم نزله سبحانه وتعالى تنزيلاً على محمد صلى الله عليه وسلم متفرقاً خلال ثلاث وعشرين سنة هي مدة الرسالة وذلك لتثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك للرد على أسئلة وأمثلة المشركين وأهل الكتاب، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى في الآية 32 والآية 33 من سورة الفرقان: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا }.
وإنزال القرآن الكريم جملة واحدة في ليلة واحدة ورد في الآيتين الكريمتين:
- { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [القدر: 1].
- { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } [الدخان: 3].
وفي تحديد الشهر الذي أنزل فيه القرآن جملة واحدة ورد ذلك في الآية الكريمة:
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ } [البقرة: 185].
كذلك فإن ما يؤكد إنزال القرآن الكريم جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم تنزله على مراحل من السماء الدنيا إلى محمد صلى الله عليه وسلم هو ما ذكرته الجن في سورة الجن عن نزول القرآن الكريم:
{ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا } [الجن: 8-9].(1/66)
وهذا الوصف يوضح العناية والحفظ الذي هيأه الله سبحانه وتعالى للقرآن الكريم أثناء تنزله من السماء الدنيا إلى الأرض.
كذلك فإن الله سبحانه وتعالى يذكر في الآية 210 من سورة الشعراء: { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ }. والكلام هنا عن التنزيل بين السماء الدنيا والأرض حيث توجد الشياطين.
كما يقول سبحانه وتعالى في الآية 9 من سورة الحجر:
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9].
وقد استخدم القرآن كلمة (نزلنا) بدلاً من أنزلنا) ليبين لنا أن هذا الذكر قد حفظه الله من الشياطين أثناء فترة تنزله من السماء الدنيا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم طوال ثلاث وعشرين سنة. كما أنه سيحفظه من شياطين الإنس والجن إلى قيام الساعة..
أما في إنزال القرآن الكريم جملة واحدة من عند الله إلى السماء الدنيا فهناك الملأ الأعلى والملائكة المطهرون ولا يحتاج الأمر إلى ذكر الحفظ لأنه لا توجد شياطين في منطقة الملأ الأعلى...
السنة والعام والحول
القرآن الكريم كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.. وإحكام الآيات يعني إحكام الألفاظ والكلمات.. إن كل كلمة قرآنية تؤدي معناها (تماماً على الذي أحسن) في الجملة القرآنية والجملة القرآنية تؤدي معناها (تماماً على الذي أحسن) في الآية القرآنية وهكذا... ليكون القرآن الكريم كتاب محكم الآيات لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..
وكثير من الناس لا يجدون فرقاً في استخدام كلمات السنة والعام والحول ويعتقدون أنها كلمات مترادفة.. لو استبدلت مواقعها لما تغير معناها..
غير أن القرآن الحكيم يحدد المعنى للكلمة القرآنية بكل دقة ويوحي إلينا هذا المعنى من خلال سياق الجملة القرآنية، الآية والسورة.. وكذلك من خلال ربط الآيات القرآنية ببعضها.. فما أوجز من معنى في مكان.. يفسره الله سبحانه وتعالى لنا في مكان آخر..
وكما سبق لي أن أوضحت في هذه الدراسة أن هناك آيات قرآنية أو جملاً قرآنية يرد فيها لؤلؤة أو مفتاحاً لبيان معنى معين قد يكون معلقاً على الفهم العام وبتدبر هذه الآية القرآنية وبربطها مع الآيات القرآنية الأخرى ذات العلاقة يظهر المعنى واضحاً جلياً..
ولنتدبر بعض الآيات التي تعتبر مفاتيح لمعنى السنة والعام والتي تربط بين السنة والعام:
قال الله سبحانه وتعالى في الآية رقم 14 من سورة العنكبوت:
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } [العنكبوت: 14].
وقال سبحانه وتعالى في الآيات 47-49 من سورة يوسف:
{ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ }.
في الآيات السابقة نجد أنه حيثما ترد السنة أو السنين فذلك يعني الشدة والتعب والدأب والظلم والطول.. وعلى العكس حيثما يرد العام فذلك يعني السهولة واليسر والرخاء وقصر المدة.
ففي المثال الأول والخاص بمدة الرسالة التي قضاها نوح عليه السلام في قومه بما فيها من شدة ونصب وتكذيب واستهزاء.. ثم ما كان من يسر ورجاء لنوح عليه السلام بعد الطوفان الذي أغرق الكافرين وبعد أن عاش مع المؤمنين.. فقد ذكر القرآن الكريم أن نوحاً عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً..
أي أنه لبث في الشدة 950 سنة وفي الرخاء بعد إهلاك الكافرين الطوفان خمسين عاماً.
وفي المثال الثاني من سورة يوسف فقد جاءت{ سبع سنين } مع العمل الدءوب والجهد والتعب ثم جاءت (سبع شداد) وهي صفة للسنين مع الضنك والجدب..
أما لفظ (العام) فقد جاء مع (الغيث) و(المطر) وكثرة العلة واليسر والرخاء..
{ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ }.
السنة:
حينما نرجع إلى جميع آيات القرآن الكريم التي وردت فيها (سنة) و(سنين) لوجدنا صفة الشدة والطول هي الغالبة على المعنى وقد وردت في القرآن الكريم 20 مرة نذكر بعض الأمثلة منها:
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ } [الأعراف: 130].
{ فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا } [الكهف: 11].
{ { أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ } [الشعراء: 205].
{ { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [الشعراء: 18].
{ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } [طه: 40].(1/67)
وهذه الآية فيها لفتة عظيمة حيث تدل على الأجل الذي قضاه موسى عليه السلام في مدين وأن هذا الأجل هو عشر حجج حينما خيّره والد الفتاة { { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ } [القصص: 27].
وقد جاءت الآية بأن موسى عليه السلام قد لبث سنين في أهل مدين وبالمعنى الخاص بالسنين وهو طول المدة فإن ذلك يعني أن موسى عليه السلام قد قضى أطول الأجلين أي عشرة سنوات.. وبالطبع فإن هذه خصوصية النبوة وهي إتمام الخير.. لاحظ معي أيها القارئ الكريم هذه الدقة في القرآن وأن أي كلمة لا تأتي عفواً.. وإنما هي الحكمة..
العام:
وردت كلمة عام وعامين في القرآن الكريم 10 مرات وهي تعني اليسر والرخاء وقلة المدة أو قصرها حسب الحالة النفسية للشخص أو الأشخاص.. ونذكر فيما يلي أمثلة من ذلك:
{ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } [التوبة: 126].
وتعني: قصر المدة التي تتم خلالها الفتنة.
{ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } [يوسف: 49].
وهي تعني اليسر والرجاء.
{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [لقمان: 14].
وهي تعني الحب والفرح بالوليد خلال فترة الرضاعة.
الحول:
الحول يعني العام الذي يتم فيه فعل الشيء بلا انقطاع فمعناه يختف عن معنى السنة ويختلف كذلك عن معنى العام لأن السنة والعام هي فترات زمنية يأتي خلال أي جزء منها الحدث أو الفعل وليس شرطاً أن يكون الحدث أو الفعل مستمراً خلالها، أما الحول فيكون الحدث أو الفعل فيه مستمراً بدون انقطاع.. ونذكر الآيتين اللتين ورد فيهما الحول:
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } [البقرة: 240].
وهي تعني أن يكون المتاع طوال العام مستمراً بدون انقطاع.
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [البقرة: 233].
وهي تعني أن الرضاعة مستمرة بلا انقطاع طوال العامين.. { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [لقمان: 14].
من الدراسة السابقة يتبين لنا الفروق الجوهرية بين معنى السنة ومعنى العام ومعنى الحول وأنها يجب أن يتم فهمهما على النحو الصحيح حتى نتدبر آيات القرآن ونفهمها على أحسن وجه.
(1) من تقديم الدكتور سعد عبد المقصود ظلام لتفسير ابن كثير.
(2) حكمة الدين ـ وحيد الدين خان.
==============
من أسرار تعدية الفعل في القرآن الكريم
أولا-( من أسرار تعدية الفعل في القرآن الكريم ) عنوان كتاب لمؤلفه: الدكتور يوسف بن عبد الله الأنصاري، الأستاذ المشارك بقسم: البلاغة والنقد- كلية اللغة العربية- جامعة أم القرى. والكتاب يحتوي على مقدمة، وتمهيد، وفصلين، وخاتمة.
تحدث المؤلف في المقدمة عن ( أهمية هذا الموضوع )، وذكر أنها تعود إلى أمرين:
أولهما: ارتباطه بفقه الدلالة.. وثانيهما:دقة مسلكه، وغموضه، وخفائه على بعض العلماء .
وتحدث في التمهيد عن ( مفهوم التعدية واللزوم عند النحاة )، فذكر أن الفعل اللازم هو الفعل، الذي يكتفي برفع الفاعل، ولا ينصب مفعولاً به أو أكثر؛ وإنما ينصبه بمعونة حرف جر، أو غيره مما يؤدي إلى التعدية. وأن الفعل المتعدي هو الفعل، الذي ينصب بنفسه مفعولاً به، أو اثنين، أو ثلاثة من غير أن يحتاج إلى مساعدة حرف جر، أو غيره مما يؤدي إلى تعدية الفعل اللازم.
وفي الفصل الأول تحدث المؤلف عن(جهود العلماء في دراسة تعدية الفعل)، وذكر أن من أوائل الإشارات، التي تكشف عن أسرار تعدية الفعل بحروف الجر ما ذكره الإمام الخطابي في قوله:"وأما( من ) و( عن ) فإنهما يفترقان في مواضع؛ كقولك: أخذت منه مالاً، وأخذت عنه علمًا. فإذا قلت: سمعت منه كلامًا، أردت سماعه من فيه. وإذا فلت: سمعت عنه حديثًا، كان ذلك عن بلاغ ".
ومن ذلك ما نقله عن الراغب من قوله في الفرق بين تعدية الفعل( راغ ) بـ( إلى ) و( على )؛ كما في قوله تعالى:
" فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ" (الذاريات: 26)
" فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ "(الصافات: 91)
" فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ" (الصافات: 93)
واتكأ الدكتور يوسف في هذه الدراسة- كما قال- على الزمخشري؛ لأن كثيرًا من أئمة التفسير كانوا عالة عليه؛ ولأن كتابه ( الكشاف ) يضم بين دفتيه كثيرًا من الأسرار البلاغية لحروف الجر، التي تتعدى بها الأفعال..
ومن ذلك قوله في تعدية الفعل ( جرى ) بـ( إلى )، التي تدل على انتهاء الغاية، وباللام التي تدل على معنى الاختصاص؛ كقوله تعالى:
" وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى " (لقمان: 29)
" وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى "(الرعد: 2)(1/68)
ومما نقله عن الرازي قوله في الفرق بين تعدية الفعل( تاب ) بـ( على ) وبـ( إلى )؛ كما في قوله تعالى:
" فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ " (البقرة: 37)
" سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ "(الأعراف: 143)
ومما نقله عن أبي حيان قوله في الفرق بين تعدية الفعل( أنزل ) بـ( على ) وبـ( إلى )؛ كما في قوله تعالى:" أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ "(العنكبوت: 51)
" إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ "(النساء: 105)
ومما نقله عن الألوسي قوله في الفرق بين تعدية الفعل( سارع ) بـ( في )
وبـ( إلى )؛ كما في قوله تعالى:" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ " (المائدة: 41)
" وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ " (آل عمران: 133)
وفي الفصل الثانيمن الكتاب تحدث الدكتور الأنصاري عن ( أسرار تعدية الفعل في القرآن الكريم )، وذكر من الأفعال:( دخل ) و( خرج ) و( جاء ) و( أتى ) و( وذهب ). وفي الحقيقة أن هذا الفصل ما هو إلا تكرار للفصل الأول من حيث المضمون، ولا يكاد يختلف عنه إلا في التسمية. وفي تخلف ما جاء به من أقوال عن الأقوال، التي نقلها عن العلماء في الفصل الأول.
ثانيًا- وتعليقًا على بعض ما جاء في هذا الكتاب أقول، وبالله المستعان:
1- ما ذكره فضيلته في التمهيد عن مفهوم التعدية، واللزوم عند النحاةهو المشهور في كتب النحو، وهو الذي يردده علماء النحو وطلابه إلى اليوم. وممَّا ينبغي معرفته، والتنبيه إليه هنا، هو أن مصطلح:( الفعل اللازم )يطلق على نوعين من الأفعال، خلافًا للقول السابق:
النوع الأول:أن يكون من الأفعال، التي لا تطلب مفعولاً به ألبتة. وذكر ابن هشام له علامات:
العلامة الأولى:أن يدل على حدوث ذات؛ كقولك: حدث أمر، وعرض سفر.. قال ابن هشام:"فإن قلت: فإنك تقول: حدث لي أمر، وعرض لي سفر. فعندي أن هذا الظرف- يعني: الجارُّ والمجرور- صفة المرفوع المتأخر تقدم عليه، فصار حالاً، فتعلقه أولاً وآخرًا بمحذوف، وهو الكون المطلق. أو متعلق بالفعل المذكور على أنه مفعول لأجله، والكلام في المفعول به ".
والعلامة الثانية:أن يدل على حدوث صفة حسية؛ نحو قولك: طال الليل، وقصر النهار، وخلق الثوب، ونظف، وطهر، ونجس.
والعلامة الثالثة:أن يكون على وزن: فعُل، بضم العين؛ كظُرف المرء، وشرُف، وكرُم، ولؤُم.
والعلامة الرابعة:أن يكون على وزن: انْفَعَلَ؛ نحو قولك: انكسر الزجاج، وانصرف القوم.
والعلامة الخامسة:أن يدل على عَرَضٍ؛ كمرض زيد، وفرح، وأشر، وبطر.
والعلامة السادسة والسابعة: أن يكون على وزن: فعَل، بفتح العين. أو: فعِل. بكسر العين، اللذين وصفُهما على: فعيل؛ كذلَّ فلان فهو ذليل، وسمن فهو سمين.
قال ابن هشام:"ويدل على أن ذلَّ فعَل، بالفتح، قولهم: يذِلُّ، بالكسر. وقلت في نحو: ذلَّ، احترازًا من نحو: بخل؛ فإنه يتعدى بالجار، تقول: بخل بكذا.
وقال أيضًا:"فإن قلت: وكذلك تقول: ذل بالضرب، وسمن بكذا. قلت: المجروران مفعول لأجله، لا مفعول به ".
النوع الثاني:أن يكون من الأفعال، التي استغني عن مفعولها، لقصد العموم. وهذا النوع من الأفعال هو الذي يعبر عنه علماء النحو بـ( أنه نُزِّل منزلة الفعل اللازم )كالفعل:( أبصر، يبصر ) في قوله تعالى:" ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ "(البقرة:17).
والفعل:( شاء ) في نحو قوله تعالى:" وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ "(البقرة: 20(
فقوله تعالى:" لَا يُبْصِرُونَ "هو فعل متعد في الأصل؛ ولكن حذف مفعوله لقصد عموم نفي المبصرات، فتنزل الفعل منزلة اللازم، ولا يقدَّر له مفعول؛ كأنه قيل: لا إحساس بصر لهم.
وإلى هذا أشار الزمخشري بقوله:"والمفعول الساقط من" لاَّ يُبْصِرُونَ "من قبيل المتروك المُطرَح، الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال، لا من قبيل المقدر المنوي، كأنَّ الفعل غير متعدٍّ أصلاً؛ نحو:" يَعْمَهُونَ "في قوله تعالى:" وَيَذَرُهُمْ فِيْ طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ "(الأنعام: 110) ".
وكذلك فعل المشيئة في نحو قوله تعالى:" لو شَاءَ اللهُ، لذَهَبَ بسَمْعِهِمْ "(البقرة: 20)
فهذا فعل مُنزَّل منزلة اللازم، ولا يجوز أن يُصَرَّح بمفعوله، إلا في الشيء المستغرب؛ كما في قول الخُرَيْمي:
فلو شئت أن أبكي دمًا لبكيته **غليك ولكن ساحة الصبر أوسع
فهنا لا يجوز حذف المفعول؛ لأنه لو حذف، وقيل:
فلو شئت أن أبكي لبكيت دمًا
فإنه يحتمل تعليق المشيئة ببكاء الدمع، على مجرى العادة، وأن ما ذكره من بكاء الدم واقع بدله من غير قصد إليه؛ وكأنه قال:
لو شئت أن أبكي دمعًا، لبكيت دمًا
فهذا المعنى محتمل، وإن كان تقييد البكاء في الجواب بالدم، يدل دلالة ظاهرة على أنه المراد، فإذا ذكر المفعول، زال هذا الاحتمال، وصار الكلام نصًّا في المعنى الأول.(1/69)
وأما مصطلح:( الفعل المتعدي )فيطلق على كل فعل، ذكر مفعوله في الجملة؛ سواء وقع عليه الفعل مباشرة، أو وقع عليه بوساطة أداة الجر، وهو أنواع ، سأكتفي بذكر ثلاثة منها:
النوع الأول:هو الذي يتعدى إلى واحد بنفسه تارة، وبالجار تارة أخرى؛ كشكر، ونصح، وقصد. تقول: شكرته وشكرت له، ونصحته ونصحت له، وقصدته وقصدت له، وقصدت إليه. قال تعالى:
" وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ "(النحل: 114)
" وََاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ " (البقرة: 172)
النوع الثاني:هو الذي يتعدى إلى مفعول واحد دائمًا بالجار؛ كقولك:
غضبت من زيد، ومررت به، أو عليه.
النوع الثالث:هو الذي يتعدى إلى مفعولين: الأول بنفسه، والثاني بأداة الجر؛ كقوله تعالى:
" قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ "(البقرة: 33)
" نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ "(الأنعام: 143)
" وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ "(الحجر: 51)
وقد يحذف الحرف، ويبقى المفعول الثاني. وقد يحذف كليهما لتقدم ذكرهما؛ كما في قوله تعالى :
" فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ "(التحريم: 3(
2-وواضح مما تقدم أنه لا يصح أن يطلق مصطلح:( المتعدي بالحرف )على الفعل، إلا إذا كان المتعدَّى إليه بهذا الحرف مفعولاًً به في الأصل؛ كقولك: سهوت عن الصلاة، وفي الصلاة. وقولك: رغبت في الشيء، وعن الشيء. وقولك : دخلت في البيت، وإلى البيت.. وهذا ظاهر في كل الأمثلة السابقة، والأمثلة، التي نقلها الدكتور الأنصاري عن العلماء في الفصل الأول من كتابه.
وإلى هذا نبَّه ابن هشام في قوله الذي تقدم ذكره:”فإن قلت: فإنك تقول: حدث لي أمر، وعرض لي سفر.. فعندي أن هذا الظرف صفة المرفوع المتأخر تقدم عليه، فصار حالاً؛ فتعلقه أولاً وآخرًا بمحذوف، وهو الكون المطلق. أو متعلق بالفعل المذكور على أنه مفعول لأجله، والكلام في المفعول به “.
وقوله أيضًا:”فإن قلت: وكذلك تقول: ذلَّ بالضرب، وسمِن بكذا. قلت: المجروران مفعول لأجله، لا مفعول به “.
والملاحظ أن الدكتور الأنصاري في حديثه عن الفعل المتعدي بالحرف أنه خلط بين المفعول به، والمفعول فيه، والمفعول لأجله، دون تمييز، فجعل كل فعل ذكر بعده أحد هذه المفعولات، أو غيرها مجرورًا بالحرف، متعديًا بحرف الجر. ولم يكتف بذلك؛ بل جعل الظرف ( مع ) بمنزلة حرف الجر. وقد كان الكوفيون يخلطون بين الظروف، وحروف الجر، فهي كلها عندهم حروف جر .
3-وسأكتفي في بيان ذلك بالحديث عن فعلين ذكرهما الدكتور الأنصاري في الفصل الثاني من كتابه؛ وهما: الفعل:( دخل ). والفعل:( خرج ).
الفعل الأول:( دخل )
قال الدكتور الأنصاري:” الفعل ( دخل ) تنوعّت دلالاته، تبعًا لتعدد تعديته بحروف الجر، التي يكتسب معها الفعل من معانيها الأصلية من الدلالات الموحية، التي يعين على إبرازها السياق والمقام. وقد جاء في القرآن الكريم متعديًا بنفسه؛ كما في قوله تعالى:
" وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ "(لكهف: 35)
" قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا "(النمل: 34(
وورد متعديا بـ( على ) و( في ) و( من ) و( الباء ) و( مع )، فدل على معان متباينة، طبقًا للحرف المتعدى به.
والدخول نقيض الخروج، ويستعمل ذلك في المكان والزمان، وحقيقته كما يقول الطاهر بن عاشور: نفوذ الجسم في جسم. أو مكان مَحوط كالبيت والمسجد..
وحين تعدى فعل الدخول بـ( على )، دلّ حرف الاستعلاء على ارتفاع المكان وإشرافه وعلوه، وأن الداخل، أو المأمور بالدخول فيه، مطالب بمزيد من التحمل والصبر على ما يلاقيه من الضرر والمشقة، وإن بقي لكل سياق مزيد خصوصية بما تشيعه تراكيبه من الدلالات والأغراض، التي لا تجدها في السياق الآخر...
وبتأمل مواطن تعدية الدخول بـ( على ) في القرآن الكريم، نجد له الدلالة، التي ذكرناها آنفا، في قوله تعالى:
" كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً "(آل عمران: 37)
فـ( على ) بدلالته على الاستعلاء، يشير إلى ارتفاع المكان، الذي فيه مريم- عليها السلام- وعلوه، وقد نصّ المفسرون على أن زكريا- عليه السلام- بنى لها محرابا في المسجد. أي: غرفة يصعد إليها بسلم.
أو أن ( على ) توحي بمشقة زكريا عليه السلام، وهو شيخ كبير في الوصول إليها، ومعاناته في كفالته لها، والقيام على رايتها حقّ الرعاية على أكمل وجه.
ولنفس الغرض جاءت ( على ) حين تعدى بها فعل الدخول في قصة يوسف عليه السلام في أربعة مواطن؛ منها قوله تعالى:
" وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ "(يوسف: 58) " وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ "(يوسف: 69)
فهي تدل على ارتفاع مكان يوسف وعلوه، وأنهم قد وجدوا من المشقة والصعاب ما وجدوه في سبيل الوصول إليه، والدخول عليه “.
ومن الأمثلة التي ذكرها على تعدي( دخل ) بـ( مع ) قوله تعالى:(1/70)
" وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ "(يوسف: 36)
قال :” فدلت كلمة المصاحبة ( مع ) على أن دخول هذين الفتيين السجن كان بمعية يوسف، مصاحبين له، ملحقين به. ولو رمت حذف ( مع ) من هذه الآية الكريمة، فلن تجد هذه المعاني، التي أومأت إليها كلمة المصاحبة من أن دخول الثلاثة السجن في آن واحد.
ونشرت الباء بدلالتها على الإلصاق والملابسة على فعل الدخول، حين تعدَّى بها معنى الجماع في قوله تعالى:
" وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ")النساء: 23)
يقال: دخل بعروسه: جامعها. ومعنى دخلتم بهن: جامعتوهن، وهو كناية عن الجماع.. وقد أعانت الباء على تحقيق الكناية في قوله:
" دَخَلْتُم بِهِنَّ "
بما لا يمكن أن تنهض به الحقيقة؛ كما قدرها الزمخشري بقوله: يعني: أدخلتموهن الستر.. مما يدل على قدرة هذه اللغة على الوفاء بآداب الإسلام، وما يوجبه من الترفع عن التصريح بما يستحسن الكناية عنه، إلى جانب ما جسدته الباء بما فيها من اللصوق والملابسة من الدلالة على شدة الارتباط، والقرب الروحي، والمخالطة النفسية بين الزوجين، بما يحقق الغاية من قوله تعالى:
" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْها "(الروم: 21)..“
هذا ما ذكره الدكتور الأنصاري عن تعدي الفعل ( دخل ).
والمعروف في اللغة والنحو: أن الفعل( دخل ) يستعمل لازمًا تارة . ومتعديًا تارة أخرى . ومتعديًا ولازمًاتارة ثالثة .
أما كونه لازمًافلأن مصدره على: فعول ، وهو غالب في الأفعال اللازمة؛ ولأن نظيره ونقيضه كذلك:( عبر ) و( خرج )، وكلاهما لازم.
ويتعين كونه لازمًا، إذا كان المدخول فيه مكانًا غير مختص؛ كقوله تعالى:
" ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم "(الأعراف: 38)
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السَّّلْمِ كَآفَّةً " (البقرة: 208)
فإذا كان المدخول فيه مكانًا مختصًّا، فإما أن يكون ذلك المكان متسعًا جدًّا، بحيث يكون كالبلد العظيم. أو يكون ضيِّقًا جدًّا، بحيث يكون الدخول فيه ولوجًا وتقحمًا. أو يكون وسطًا بينهما.
فإذا كان الأول، وهو ( أن يكون المكان متسعًا جدًّا)، لم يكن من نصبه بدٌّ؛ كقول العرب: دخلت الكوفة والحجاز والعراق. ويقبُح أن يقال: دخلت في الكوفة، وفي الحجاز، وفي العراق، ومنه قوله تعالى:
" يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ "(المائدة: 21)
" ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " (النحل: 32)
وإذا كان الثاني، وهو( أن يكون المكان ضيِّقًا جدًّا)، لم يكن من جره بدٌّ؛ كقولهم:( دخلت في البئر ).
وإذا كان الثالث، وهو ( أن يكون المكان وسطًا بينهما)، جاز فيه النصب، والجر؛ كقولهم: دخلت المسجد، وفي المسجد. ونصبه أبلغ من جره.
(( ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، الذي رواه عنه أبو سعيد الخدري:” لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ..“.
هذا في صحيح البخاري. وفي صحيح مسلم:
” لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ..“.
وفي سنن ابن ماجة:
”لَتَتَّبِعُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بَاعًا بِبَاعٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ وَشِبْرًا بِشِبْرٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ فِيهِ.. )).
فجاء ( دخل ) متعديًا إلى ( الجحر ) تارة بنفسه، وتارة أخرى بـ( في )؛ لأنه من الأماكن المختصَّة، التي تكون وسطًا بين المتسعة جدًّا، والضيقة جدًّا. وقد وهم بعضهم حين ظن أن الجحر من الأماكن الضيقة، وهو ليس منها؛ لأن الدخول فيه لا يكون ولوجًا وتقحُّمًا؛ كالدخول في البئر.
أما انتصابه فعلى المفعول به، لا على نزع الخافض؛ لأن الأصل في الفعل ( دخل ) المتعدي إلى المكان المختص أن يتعدى بنفسه، ومنه قوله تعالى :
" يَا أيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ "(النمل: 18)
وأما ما ذهب إليه الدكتور الأنصاري من القول بأن ( دخل ) يتعدي بالحرف ( على )، وأنه يدل على ارتفاع المكان، وعلوه، فليس كذلك؛ لأن ( دخل ) لا يتعدَّى بـ( على ) أصلاً.
وقد يكون ما ذكره فضيلته من تعليل مقبولاً، لو أن ( دخل ) من الأفعال، التي تتعدى إلى مفعولها بحرفين، أو أكثر. أو كان من الأفعال، التي تتعدى إلى مفعولين أحدهما بأنفسها، والثاني بوساطة حرف الجر. فحينذ فقط يمكن أن نختار من هذه الأحرف أنسبها للسياق، ونعدِّي الفعل به؛ كما كان الشأن في غيره من الأفعال، التي تقدم ذكرها، من نحو قولهم: مررت به، ومررت عليه.(1/71)
ولو افترضنا جدلاً أن ( دخل ) يتعدى بـ( على ) ، وأنه يدل على علو المكان وارتفاعه، فماذا يمكن أن نقول، إذا كان المدخول عليه في كهف تحت الأرض، وطلب منا الدخول عليه ؟ أنقول: دخلت فيه، أو: دخلت معه، أو دخلت به، أو دخلت عليه...؟ من البدهي أننا سنقول: دخلت عليه. فهل يشير( على ) هنا مع فعل الدخول إلى ارتفاع المكان، وعلوه ؟
ولهذا أقول: ينبغي أن نفرق بين قولنا: أشرفت على القوم، ومررت على القوم، وبين قولنا: دخلت على القوم، وألا نخلط بينها. فالقوم في الأول والثاني مفعول في المعنى، تعدى إليه الفعل بوساطة ( على )، خلافًا للقوم في القول الثالث؛ فإنه اسم مجرور، والمفعول به محذوف تقديره: دخلت المجلس على القوم ، ومثله قوله تعالى:
" وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ "( يوسف: 58)
" وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ "(يوسف: 69)
أي: دخلوا القصر عليه. وليس هذا؛ لأن يوسف عليه السلام في مكان عال شريف. أو لأن الداخل عليه يلقى من المشقة ما يلقاه؛ لأنك تقول: دخلت على المجرم في سجنه.. ودخلت على أخي في مكتبه.. ودخلت على والدي في حجرته.. ونحو ذلك مما ليس فيه علو، أو مشقة.
وأما قوله تعالى:
" وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ "( يوسف: 36)
فالمفعول به هنا هو ( السجن ). و( معه ) حال من الفاعل. والأصل: ودخل السجن معه فتيان. أي: مصاحبين له. وهذا ما أشار إليه الزمخشري بقوله:”مع: يدل على معنى الصحبة واستحداثها. تقول: خرجت مع الأمير. تريد: مصاحبًا له. فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له “.
فتعلق( مع ) هنا بالفعل هو من تعلق المفعول فيه، لا من تعلق المفعول به؛ ولهذا يخطىء من يقول: إن ( دخل ) يتعدَّى بـ( مع )؛ كما يخطىء من يقول: إنه يتعدَّى بـ( على ).
وأما قوله تعالى:
" فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ "(النساء: 23)
فالمفعول في الأصل محذوف تقديره: فإن لم تكونوا دخلتم الستر بهن. ولكن حذف المفعول، وعدِّيَ بالباء؛ لأنه كنِّيَّ بالدخول عن الجماع. وهذا ما أشار إليه أبو حيان بقوله:”الدخول هنا كناية عن الجماع؛ لقولهم: بنى عليها. وضرب عليها الحجاب. والباء للتعدية، والمعنى: اللائي أدخلتموهن الستر.
قاله ابن عباس، وطاوس، وابن دينار “.
فقوله تعالى:" دَخَلْتُم بِهِنَّ "، عدِّي الفعل فيه بالباء؛ لأنه كُنِّيَ به عن الجماع، لا لأن الفعل ( دخل ) يتعدى بالباء، وهذا واضح.
ولو كان الضمير المجرور بـ( على )، و( الباء )، و( مع ) يعود على مفعول ( دخل ) الظاهر ، أو المضمر في الآيات السابقة، لجاز لنا أن نقول: إنه تعدى إلى مفعولين: الأول بنفسه، والثاني بحرف الجر. وهذا بعيد جدًّا.
أما قوله تعالى:" فَادْخُلِي فِي عِبَادِي *وَادْخُلِي جَنَّتِي "(الفجر: 29- 30 )
فقال فيه أبو حيان:”تعدى( فادخلي ) أولاً بـ( في ). وثانيًا بغير( في )؛ وذلك أنه إذا كان المدخول فيه غير ظرف حقيقي، تعدت إليه بـ( في ): دخلت في الأمر، ودخلت في غمار الناس، ومنه:" فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ". وإذا كان المدخول فيه ظرفًا حقيقيًّا، تعدت إليه في الغالب بغير وساطة: في“ الفعل الثاني:( خرج )
ذكر الدكتور الأنصاري أن ( خرج ) يتعدى بـ( من ) و( إلى ) و( على ) و( اللام ) و( مع ) و( في ).
وذكر من تعديته بـ( من ) قوله تعالى:
" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ "(البقرة: 243)
ومن تعديته بـ( إلى ) ذكر قوله تعالى:
" وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ "(الحجرات: 5)
ومن تعديته بـ( على ) ذكر قوله تعالى:
" فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهٍِ "(القصص: 79)
ومن تعديته بـ( اللام ) ذكر قوله تعالى:
" قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ "(الأعراف: 32(
ومن تعديته بـ( مع ) ذكر قوله تعالى:
" لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً "(الحشر: 11)
ومن تعديته بـ( في ) ذكر قوله تعالى:
" لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً " (التوبة: 47)
أما قوله بتعديته بـ( من ) و( إلى ) و( على ) فهو قول صحيح، لا غبار عليه.. وأما قوله بتعديته بـ( اللام ) في قوله تعالى:
" قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ "
ففيه خلط واضح بين الفعل:( خرج ) والفعل:( أخرج ). والأول لازم يتعدى بـ( إلى )، أو بـ( من ).. والثاني يتعدى بنفسه؛ إذ الهمزة فيه للتعدية، وحذف مفعوله؛ لأنه يعود على ( زينة الله ) و( الطيبات من الرزق ).
ولو كان عائدًا على الزينة فقط، لوجب أن يقال:( أخرجها لعباده ). أي: لأجلهم. ولو كان العباد مفعولاً، لقلنا إنه تعدى إليه باللام؛ ولكنه ليس بمفعول، ويسمِّي النحاة هذه الهمزة: همزة النقل، وهي التي تنقل غير المتعدي إلى المتعدي؛ كقولك: قام وأقمته، وذهب وأذهبته. وعلى هذا يكون قوله تعالى:( لِعِبَادِهِ ) متعلقًا بالفعل:( أخرج )؛ لأنه مفعول لأجله. والمعنى: أخرج لأجل عباده.(1/72)
أي: أحرج الزينة والطيبات من الرزق لأجلهم.
وأما قوله بتعديته بـ( مع ) في قوله تعالى:
" لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً "
فليس كذلك؛ لأن التقدير: لئن أخرجتم لنخرجن معكم، إلى حيث تخرجون. فالفعل متعد إلى مفعوله المحذوف للعلم به بـ( إلى ). و( معكم ) مثلها في قوله تعالى:
" وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ "
ومثل ذك يقال في قوله تعالى:
" لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً "
لأن التقدير: لو خرجوا إليهم فيكم. أو إلى حيث يريدون. و( في ) للظرفية المكانية، وتعلقها بالفعل من تعلق الظرف به.
وأخيرًا أذكِّر القارىء الكريم بما بدأ به الدكتور الأنصاري في مقدمة كتابه، فقال:" إن أهمية هذا الموضوع تعود إلى أمرين:
أولهما: لارتباطه بفقه الدلالة.. وثانيهما: لدقة مسلكه وغموضه وخفائه على بعض العلماء ".
وأود أن أشير هنا إلى أن الباعث على كتابة هذه المقالة النقدية ما دار من حوار على الرابط الآتي:
http://tafsir.org/vb/showthread.php"t=4991&highlight=%E5%D0%C7+%C7%E1%CA%E6%CC%ED%E5+%D5%CD%ED%CD
حول معنى قوله تعالى:" فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ"(النحل: 29 )
وقوله تعالى:" لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ " (يوسف: 67 )
وفي الختام أسأل الله تعالى أن يمنَّ على عباده بنعمة الفهم لمعاني كلامه، وبنعمة الإدراك للكشف عن أسرار بيانه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
الأستاذ: محمد إسماعيل عتوك
الباحث
في الإعجاز اللغوي والبياني للقرآن
================
من أسرار الرسم القرآني ـ إبدال بعض الحروف والزيادة
إعداد المهندس محمد شملول
مهندس مدني وكاتب إسلامي مصري
نواصل حديثنا عن إعجاز الرسم القرآني ونتكلم عن الإعجاز في إبدال بعض الحروف والزيادة
أ- إبدال التاء المربوطة تاء مبسوطة
نعمة - نعمت
* وردت (نعمة) بالتاء المربوطة 25 مرة في القرآن الكريم.
* ووردت (نعمت) بالتاء المفتوحة 11 مرة في القرآن الكريم.
نعمة:
ونلاحظ حين تدبرنا للآيات الكريمة التي وردت فيها نعمت بالتاء المربوطة أنها تتحدث إما عن نعم الله الظاهرة للعيان وهي النعم العامة للبشر جميعاً... أو تتحدث عن أقل شيء يطلق عليه (نعمة) مثل:{ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } [النحل: 53]، أي أن ما بكم من أقل شيء يطلق عليه (نعمة) فهو من الله وليس أي مخلوق بقادر على أن ينعم عليكم بأقل نعمة... وطبيعي أن تأتي كلمة (نعمة) في هذا المجال بالتاء المربوطة لأنها محدودة ومربوطة..
نعمت:
أما حينما تأتي (نعمت) بالتاء المفتوحة فإنها تدل على النعمة الخاصة التي وهبها الله سبحانه وتعالى للمؤمنين من عباده... كما أنها تدل على النعم المفتوحة التي لا يمكن إحصاء عددها...
وجدير بالذكر أنه حينما تذكر (نعمت) في أي آية من القرآن الكريم فيكون ذلك من أجل لفت انتباه قارئ القرآن لتدبر هذه الآية وما حولها من آيات واستخلاص الحكمة والعبرة.
ونذكر فيما يلي بعض الآيات الواردة فيها (نعمة) و(نعمت) كاملة:
(نعمة)
- { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ } [آل عمران: 171].
- { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ } [المائدة: 7].
- { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ } [آل عمران: 174].
(نعمت)
- { وَاذْكُرُوا نِعْمتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } [آل عمران: 103].
- { وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } [إبراهيم: 34].
- { فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ } [الطور: 29].
وقد وردت (نعمت) كذلك في الآيات الآتية:
231 من سورة البقرة، 11 من سورة المائدة، 28 من سورة إبراهيم، 73 من سورة النحل، 83 من سورة النحل، 114 من سورة النحل، 21 من سورة لقمان، 3 من سورة فاطر.
ب- الزيادة الربوا
وردت كلمة (الربوا) على هذا الشكل في القرآن الكريم 7 مرات...
ووردت كلمة (ربا) مرة واحدة فقط في القرآن الكريم كله...
وقد جاءت كلمة (الربوا) بهذا الشكل لتلفت النظر إلى خطورة استخدام الربا في معاملات الناس، وأن الله قد حرم الربا، وأن الله يمحق الربا ويربي الصدقات.
أما كلمة (ربا) فقد جاءت مرة واحدة وهي خاصة بأقل شيء يطلق عليه ربا فهو لا يربوا عند الله:{ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } [الروم: 39].
ونلاحظ أيها القارئ الكريم أن كلمة (يربوا) تزيد حرف (الألف) في آخرها لتوحي بمعنى الربا وهي الزيادة.
اسطاعوا - استطاعوا(1/73)
قال تعالى في الآية 97 من سورة الكهف عن السد الذي أقامه ذو القرنين ليحجز عن القوم إفساد يأجوج ومأجوج:
{ { فَمَا اسْطَعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا } [الكهف: 97].
وقد استخدم القرآن الكريم كلمة (اسطاعوا) ناقصة حرف (التاء) في الظهور على السد ليوحي بعجلتهم في صعود السد والقفز من فوقه خاصة وأن مبنى السد من الحديد والنحاس أي: أنهم عرضة للانزلاق الأمر الذي يتطلب سرعة في التسلق...
أما في حالة نقب السد فإن الأمر يستلزم زمناً وتراخياً في الوقت لذا فقد تم استخدام كلمة (استطاعوا) العادية بدون أن نقص في أحفرها.
وذلك ليكون مبنى الكلمة موحياً ومبنياً للمعنى المطلوب.
العلمؤا
وردت كلمة (العلمؤ) مرتين في القرآن الكريم كله.. ولم ترد إلا بهذه الصورة الخاصة لتدل على المكانة العظيمة والمنزلة الكبيرة للعلماء وأنهم ليسوا سواء مثل باقي الناس: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [الزمر: 9]. وهي في محل (رفع):
- { أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَؤُا بَنِي إِسْرَائِيلَ } [الشعراء: 197].
- { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤُا } [فاطر: 28] وفي هذا الآية يتبين لنا من هذه الصورة الخاصة (العلمؤا) وهي التي لا تأتي إلا في محل رفع دقة وعظمة القرآن للرد على هؤلاء الذين يقولون إن العلماء مفعول به أي في محل نصب.
3- الإعجاز في الوصل والفصل
فأن - أفإين
وردت كلمة (فإن) بشكلها العادة مرات عديدة موزعة على آيات القرآن الكريم...
غير أنه حينما تعرض القرآن الكريم لذكر موت الرسول صلى الله عليه وسلم فقد خصه بكلمة (أفإين) بشكلها غير العادي حيث أنها زادت حرف (الياء).
وذلك ليلفت النظر إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيموت مثل البشر جميعاً... وعلى المسلمين ألا ينقلبوا على أعقابهم بعد موته... وألا يصيبهم ذلك الحدث بالذهول وعدم الاتزان... وإنما يتماسكوا ويعلموا أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل لأحد من قبله الخلد.. وقد كان موقف سيدنا أبي بكر الصديق عظيماً حيث ذكر هذه الآية الكريمة التي أعادت للناس رشدهم والتي احتوت كلمة (أفإين) بشكلها غير العادي، كذلك احتوت آية كريمة أخرى هذه الكلمة بشكلها غير العادي وكانت خاصة أيضاً بموت الرسول صلى الله عليه وسلم.
علماً بأنه لم يرد في القرآن كله هذا الشكل غير العادي لهذه الكلمة إلا في هذين الموضعين:
{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } [آل عمران: 144].
وفيما يلي أمثلة لكلمة (إن) وملحقاتها والتي وردت في القرآن كلمة بدون (الياء):
- { وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ } [آل عمران: 158].
- { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } [البقرة: 240].
- { فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ } [البقرة: 137].
ألم يروا - أولم يروا
في سورة يس.. وردت ألم يروا في الآية 31:
- {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ }.
وهي تعني (ألم تعلموا بالدليل والحجة) وهي تقع موقع الرؤية، والشهادة.. فالدليل والحجة يكون في أحيان كثيرة أقوى من الرؤية البصرية.. وتبين هذه الآية الكريمة قدرة الله على إهلاك القرون الأولى.. كما تبين أن الحدث كان في الماضي فقط.
أما حينما يذكر الله سبحانه وتعالى قدرته على الخلق والإنشاء فإن الأمر يختلف في استخدام التعبير لأنه في مقياسنا البناء أصعب من الدم، كذلك فإن الخلق متجدد، والحدث يقع في الماضي والحاضر والمستقبل، أي أن زمن الحدث متسع.. لذا فقد استخدم القرآن الكريم كلمة (أولم يروا) بزيادة حرف (و) ليدل على زيادة المعنى وعظمته وذلك في الآية الكريمة رقم 71 من سورة نفس السورة:
- {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ }.
كذلك فإن زيادة حرف (و) توحي بضرورة الانتظار والتهدئة للفكر في خلق الله وعدم العجلة في القراءة...
فانظر يا أخي القارئ الكريم إن كل حرف في القرآن يأتي زائداً أو ناقصاً فإن له فائدة....
ونعزز هذا القول بما ورد في الآية الكريمة رقم 77 من نفس السورة والتي تتكلم عن خلق الإنسان فقد استخدم القرآن الكريم كلمة (أولم ير) وكذلك في الآية الكريمة رقم (81) والتي تتكلم عن خلق السماوات والأرض فقد استخدم (و) زائدة..
- { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ }.
أما في الأحداث الماضية فقد ورد:
- { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ } [الفيل: 1].
- و{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ } [الفجر: 6].
أيها - أيه
وردت كلمة (أيها) بشكلها المعتاد في القرآن الكريم كل 150 مرة غير أنها وردت بشكل مختلف (أيه) بنقص الألف التي في آخرها في ثلاث مواضع فقط وهي:(1/74)
- { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّه الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [النور: 31].
وقد جاءت بهذا الشكل بنقص أحرف الكلمة لتوحي بالإسراع في التوبة... وأنه يجب على أي مؤمن أن يتوب عن أي خطأ يرتكبه بأقصى سرعة وألا يتوانى في ذلك.
- { وَقَالُوا يأَيُّه السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ } [الزخرف: 49].
وقد جاءت بهذا الشكل لتوحي بالعجلة التي تطلبها فرعون وملئه من موسى عليه السلام لرفع العذاب عنهم...
كما أنه من الممكن بأن توحي أيضاً بأن فرعون وملئه يحاولون التقليل من شأن موسى عليه السلام.
- { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّه الثَّقَلَانِ } [الرحمن: 31].
جاءت (أيه) بهذا الشكل ناقصة الألف لتوحي بالتهوين من أمر (الثقلين) وهما الإنس والجن لدى الله سبحانه وتعالى...
فمال هؤلاء القوم
حينما يريد الله سبحانه وتعالى للناس أن يتفكروا ويتفقهوا يأتي بسياق الآية الكريمة التي تمهل وفصل للكلمات والحروف وبتأن شديد يساعد على التدبر.... ونضرب لذلك مثالاً هذه الآية الكريمة:
قال تعالى: { فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } [النساء: 78].
جاء هناك فصل بين حرف (ل) وكلمة هؤلاء كما جاءت كلمة (لا يكادون) لتزيد من التمهل والتدبر والتفقه...
المراجع:
القرآن الكريم
1 - الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي ج2 في تفسير الآية 185 من سورة البقرة.
2 - الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي في تفسير الآيات الثلاث الأولى من سورة الزخرف.
3 - كتاب مناهل العرفان للزرقاني.
4- ((كتاب تأملات في إعجاز الرسم القرآني وإعجاز التلاوة والبيان )) للمهندس: محمد شملول.
=============
دخول { لا } النافية على فعل القسم
قال الله جل وعلا:" فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ*وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ *إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ *فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ *لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ *تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ "(الواقعة: 75 - 80)
فأدخل " لَا "على الفعل " أُقْسِمُ "، والسؤال الذي يتردد دائمًا، وبكثرة ملحة: ما دلالة " لَا " هذه، وما سر دخولها على فعل القسم ؟
ولعلماء النحو والتفسير أقوال في الإجابة عن ذلك، والتعليل له أقوال؛ أشهرها: أن"لَا " أدخلت الفعل " أُقْسِمُ "زائدة لتأكيد القسم. أو صلة، فيكون دخولها في الكلام، وخروجها منه سواء.
والقول الأول هو قول جمهور البصريين، والثاني هو قول جمهور الكوفيين، وعلى القولين يكون معنى الكلام على إسقاط "لَا "، وتقديره:
فأقسم بمواقع النجوم- وإنه لقسم لو تعلمون عظيم- إنه لقرآن كريم
وقد احتج بعضهم على ذلك بأن الله تعالى قد سمَّاه قسمًا، فقال سبحانه معترضًا بين القسم وجوابه:
" وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ".
والمستقرىء للآيات القرآنية، التي جاء فيها فعل القسم مسبوقًا بـ"لَا " هذه، يجد أن هذا الفعل فيها مسند إلى الله تعالى، لا إلى غيره؛ كما هو ظاهر في قوله تعالى:
" فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ"(الواقعة: 75)
ومثل ذلك قوله تعالى:
" فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ "(التكوير: 15)، وقوله تعالى:
" لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ "(القيامة: 1)، وقوله تعالى:
" لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ "(البلد: 1)
فالمتكلم في ذلك كله هو الله جل وعلا، وكلامه سبحانه منزَّهٌ من العبث والزيادة، التي ينسبها إليه جمهور المفسرين، والنحويين بحجة التوكيد. أو بحجة أن العرب تدخل "لَا " صلة في كلامها، والمعنى على إسقاطها.
وفي كون المتكلم هو الله جل وعلا إشارة إلى أن الله سبحانه، إن شاء أن يقسم على شيء، أقسم عليه بما يشاء من مخلوقاته، وإن لم يشأ، لم يقسم بشيء من ذلك؛ لأنه ليس بحاجة إلى القسم احتياج العبد إليه.. هذا أولاً.
وأما ثانيًا: فإن تدبر معاني هذه الآيات، التي جاء فيها القسم مسبوقًا بالنفي، ثم تدبر معاني غيرها من الآيات، التي جاء فيها القسم مثبتًا، يهدينا إلى أن المُقْسَمَ عليه في الآيات الأولى هو من الأمور الثابتة، التي لا يتطرق إليها الشك أو الظن أبدًا، خلافًا للمُقْسَمِ عليه في الآيات الثانية؛ إذ هو من الأمور، التي تكون موضع شك، أو ظن من قبل المخاطب.
وهذا النوع الثاني من المُقْسَم عليه هو الذي يكون بحاجة إلى أن يُقسَم عليه، دفعًا لمظنة اتهام، أو إزاحة للشك؛ ومثاله قول الله عز وجل:
" فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ "(مريم: 68)
" وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى "*" مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى "(النجم: 1- 2)
والغرض من هذا القسم تأكيد المُقسَم عليه، وتثبيته في النفوس؛ لأن المخاطب في شك منه.. ونحو ذلك ما وقع من القسم في قوله تعالى:
" قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ "( يونس: 53)
والخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم، يحكي استنباء الكافرين له، إن كان الوعيد بالعذاب، الذي توعدهم الله تعالى به في الآخرة حقًّا..(1/75)
"وَيَسْتَنْبِئُونَكَ : أَحَقٌّ هُوَ " ؟ " قُلْ: إِي، وَرَبِّي " !" إِنَّهُ لَحَقٌّ ، وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ " !
فهم مزلزلون من الداخل تجاه هذا اليوم- أعني: يوم القيامة وما يصحبه من العذاب- يريدون أن يستوثقوا، وليس بهم ذرَّة من يقين، فيأتي الجواب بالإيجاب، حاسمًا، مؤكَّدًا بهذا القسم:
" قُلْ : إِي ، وَرَبِّي "!
أيْ: نعم ! وربي، الذي أعرف قيمة ربوبيته، فلا أقسم به حانثًا، ولا أقسم به إلا في جد وفي يقين:
" إِنَّهُ لَحَقٌّ ، وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ "!
أما النوع الأول- وهو موضوع حديثنا- فهو من الأمور اليقينية الثابتة، التي لا تحتاج إلى أن تؤكد بقسم؛ كما في قوله تعالى:
" إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ "*" فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ "*" لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ "*" تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ "
فكون القرآن كريمًا، في كتاب مَصون، لا تمسُّه إلا الملائكة المطهَّرون، وأنه تنزيل من رب العالمين، حقيقةٌ ثابتةٌ، لا تحتاج إلى قسم يؤكِّدها؛ لأنها أوضح من أن تؤكَّد بقسم.
وقد كان المشركون يزعمون أن القرآن، الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم هو قول كاهن، وقول مجنون، وأنه مفترى على الله سبحانه، من أساطير الأولين، وأنه متقوَّل على الله جل وعلا، تنزَّلت به الشياطين عليه، إلى آخر ذلك من هذه الأقاويل الباطلة ، فجاء الجواب من الله تعالى حاسمًا بأنه ليس كما يزعمون ويدَّعون.
وقد مهَّد سبحانه لهذا الجواب ملوِّحًا بالقسم بمواقع النجوم، التي أخبر عن عظمة القسم بها، فقال:
" فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ"*" وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ "
وكأنه سبحانه يقول: لست بحاجة إلى القسم بمواقع النجوم- على عظمتها- أن هذا القرآن كريمٌ؛ لأن كونه كريمًا في ذاته، وفي مصدره، من الحقائق الثابتة، التي لا يتطرق إليها الشك أبدًا، وبالتالي فهو لا يحتاج إلى قسم يؤكده؛ لأنه أوضح وأجلى من أن يحتاج إلى ذلك.
وكذا القول في قوله تعالى:
"فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ *وَمَا لَا تُبْصِرُونَ *إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ *وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ *تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ "(الحاقة: 38- 43)
وتعقيبًا على هذه الآيات قال سيد قطب رحمه الله:"إن الأمر لا يحتاج إلى قسم، وهو واضح هذا الوضوح، ثابت هذا الثبوت، واقع هذا الوقوع.. لا يحتاج إلى قسم أنه حق، صادر عن الحق.. وليس شعر شاعر، ولا كهانة كاهن، ولا افتراه مفتر ! لا، فما هو بحاجة إلى توكيد بيمين ".
فالمقام- إذًا- لا يحتاج إلى قسم، وتوكيد بيمين، فضلاً عن أن المتكلم هو الله جل وعلا؛ ولهذا لمَّا سمع أعرابيٌ قول الله تعالى:
" وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ *فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ "(الذاريات: 22- 23)
صاح قائلاً:"يا سبحان الله ! من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف ؟ لم يصدقوه بقوله، حتى ألجئوه إلى اليمين ".
فتأمل قول هذا الأعرابي، الذي أدرك بفطرته السليمة أن الأمر لا يحتاج إلى القسم على صحة وقوعه؛ لأنه أظهر وأوضح من أن يُقسَم عليه، مع أنه من الأمور، التي هي موضع شك من المخاطبين !
وبهذا يظهر لنا الفرق بين القسم المثبت، والقسم المسبوق بـ"لَا "النافية. كما يظهر لنا أن القول بزيادة " لَا "هو قول بعيد جدًّا؛ بل هو في بعده عن الصواب أبعد من النجوم في مواقعها من الأرض؛ إذ يستحيل أن يؤكَّد الشيء بنفيه، ولا يمكن لأعجمي، فضلاً عن عربي، أن يتصور أن " لَا أُقْسِمُ "معناه:" أُقْسِمُ "! وكيف ينسب ذلك إلى القرآن الكريم، وهو كتاب بيان، وهدى للناس !
وأما ما احتج به بعضهم على أن " لَا أُقْسِمُ "معناه:" أُقْسِمُ " بقوله تعالى:
" وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ "
فيجاب عنه بأن قوله تعالى:" فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ "
لما كان يحتمل أن يفهم منه المخاطب أن الله سبحانه لم يقسم بمواقع النجوم لتفاهتها وحقارتها، أو غير ذلك؛ لأن المتعارف عليه أن يكون المقسَم به شيئًا عظيمًا، جاء قوله تعالى:
" وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ "
معترضًا بين التلويح بالقسم والمقسم عليه، صَوْنًا للمعنى من هذا الاحتمال.
ومن الواضح أن المخاطبين بهذه الآيات حينئذ، لم يكونوا يعلمون عن مواقع النجوم إلا القليل القليل، الذي يدركونه بعيونهم المجردة. فأما نحن اليوم فنعلم من عظمة هذا القسم المتعلقة بالمقسم به، نصيبًا أكبر بكثير مما كانوا يعلمون، وإن كنا نحن أيضًا لا نعلم إلا القليل عن عظمة مواقع النجوم، وغيرها من الأمور، التي نفى الله تعالى حاجته إلى القسم بها. ومن ثمَّ قال تعالى لهم ولنا وللناس جميعًا:
" وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ- لَّوْ تَعْلَمُونَ- عَظِيمٌ "، ولم يقل:" وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ- كَمَا تَعْلَمُونَ- عَظِيمٌ "
لأنه لو قيل ذلك، لأفاد علمهم بعظمة هذا القسم. وكذلك لو قال:(1/76)
" وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ- إِنْ تَعْلَمُونَ- عَظِيمٌ "
لأفاد إمكان علمهم بذلك، وعدم إمكانه، ومن ثمَّ جاء التعبير بقوله تعالى:
" لَّوْ تَعْلَمُونَ "
فأفاد نفْيَ علمهم بعظمة هذا القسم، مع تمني حصوله. ويبيِّن لك ذلك أن الأصل في" لَوْ "أنها أداة تمن، ثم استعملت كأداة للشرط؛ وذلك من باب تعدُّد المعنى الوظيفي للمبنى الواحد. ومن خواصِّها فرض ما ليس بواقع واقعًا، وتستعمل فيما لا يُتَوقَّع حدوثُه، وفيما يمتنع حدوثه، أو فيما هو محال، أو من قبيل المحال.
وكذا القول في المقسَم به في بقية الآيات، التي جاء فعل القسم فيها مسبوقًا بـ"لَا " النافية. وهذا من الأسرار الدقيقة في البيان القرآني، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.
وأما القول بأن "لَا "نافية للقسم فهو أبعد من القول بزيادتها؛ وذلك لما بين نفي الحاجة إلى القسم، وبين نفي القسم من فرق كبير. وفي بيان هذا الفرق قالت الدكتورة عائشة عبد الرحمن:"وفرق بعيد أقصى البعد بين أن تكون " لَا "لنفي القسم- كما قال بعضهم- وبين أن تكون لنفي الحاجة إلى القسم، كما يهدي إليه البيان القرآني ".
وأضافت قائلة:"ومن نفي الحاجة إلى القسم يأتي التأكيد، والتقرير؛ لأنه يجعل المقام في غنًى بالثقة واليقين عن الإقسام.. والسر البياني لهذا الأسلوب يعتمد في قوة اللفت- على ما يبدو- بين النفي، والقسم من مفارقة مثيرة لأقصى الانتباه. وما زلنا بسليقتنا اللغوية نؤكد الثقة بنفي الحاجة معها إلى القسم، فنقول لمن نثق فيه: لا تقسم. أو: من غير يمين، مقررين بذلك أنه موضع ثقتنا، فليس بحاجة إلى أن يقسم لنا ".
نخلص من ذلك كله إلى أن قولنا: أقسم بكذا، قسم مباشر. وأما قولنا: لا أقسم بكذا، فهو تلويح بالقسم وعدول عنه، لعدم الحاجة إليه، خلافًا للأول. وهذا التلويح بالقسم مع العدول عنه أوقع في الحسِّ والنفس من القسم المباشر. وهذا ما أشار إليه سيد قطب- رحمه الله- ثم قال:"وهذا التلويح بالقسم، والعدول عنه أسلوب ذو تأثير في تقرير الحقيقة، التي لا تحتاج إلى القسم؛ لأنها ثابتة واضحة ".
فإذا كان كذلك، فهو في قوة القسم من حيث إفادته معنى التوكيد والتأثير.
وأما ما ذهب إليه بعضهم من أن"لَا "هذه نفيٌ لكلام تقدم ذكره فمدفوع بإجماع القرَّاء على أن " لَا "موصولة بالفعل " أُقْسِمُ ". وجعلها ردًّا لكلام سبق، يقتضي القراءة على وجوب الفصل بينها، وبين الفعل، فضلاً عما يبدو فيه من غرابة. ولو كان ما قالوه صوابًا، لوجب الفصل بينهما بواو القسم، كما وجب أن يكون جواب القسم منفيًّا، يدلك على ذلك قوله تعالى:
" فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً "(النساء: 65).
ونحو ذلك قول عائشة رضي الله عنها:" لا، والله ما مسَّت يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَ امرأة قطُّ ".
وأما ما ذهب إليه بعضهم من أن "لَا "هذه أداة تنبيه، وأن أصلها:" أَلَا "فهو قول غريب عجيب، وأغرب منه، وأعجب قول من قال: إنها لام الابتداء أُشبِعت حركتها، فتولَّدت عنها ألفٌ. والأعجب من ذلك كله أن يتبنَّى هذا القول عالم جليل كأبي حيان الأندلسي، على أنه أولى الأقوال بالصواب، فقد قال في ذلك ما نصُّه:"والأولى عندي أنها لام أشبعت حركتها، فتولدت منها ألف؛ كقوله: أعوذ بالله من العقرَاب ".
ولا يخفى ما في ذلك كله من تكلُّف على ذوي البصائر بكلام الله تعالى، ومعرفة أسراره.. نسأله تعالى أن يجعلنا من الذين يفقهون كلامه، ويدركون أسرار بيانه، له الحمد وله المنَّة.
الأستاذ: محمد إسماعيل عتوك
الباحث
في الإعجاز اللغوي والبياني للقرآن
==============
من أسرار الإعجاز اللغوي والبياني في سورة ألم نشرح
قال الله تبارك وتعالى:" أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ " (الشرح: 1- 8)
أولاً- نزلت هذه السورة الكريمة بعد سورة الضحى؛ وكأنها تكملة لها، فيها ظل العطف الندي، وفيها روح المناجاة للحبيب، وفيها استحضار مظاهر العناية، واستعراض مواقع الرعاية، وفيها البشرى باليسر والفرج، وفيها التوجيه إلى سرِّ اليُسْر وحبل الاتصال الوثيق.
وهي توحي بأن هناك ضائقة كانت في روح الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر من أمور هذه الدعوة التي كلفها، ومن العقبات الوعرة في طريقها، ومن الكيد والمكر المضروب حولها.. توحي بأن صدره صلى الله عليه وسلم كان مثقلا بهموم هذه الدعوة الثقيلة, وأنه كان يحس العبء فادحًا على كاهله، وأنه كان في حاجة إلى عون ومدد، وزاد ورصيد.. ثم كانت هذه المناجاة الحلوة, وهذا الحديث الودود من المحِبِّ لحبيبه !
ثانيًا-قوله تعالى:" أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ "(1)(1/77)
خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقراءة العامة:" أَلَمْ نَشْرَحْ "، بالسكون. وقرأ أبو جعفر المنصور:" أَلَمْ نَشْرَحَ "، بفتح الحاء، وخرَّجه ابن عطيَّة وجماعة على أن الأصل: ألم نشرحَنْ، بنون التوكيد الخفيفة، فأبدل من النون ألفا، ثم حذفها تخفيفًا. وقال غير واحد: لعل أبا جعفر بيَّن الحاء، وأشبعها في مخرجها، فظن السامع أنه فتحها.
وفي( البحر المحيط ) لأبي حيان:" أن لهذه القراءة تخريجًا أحسن مما ذكِر، وهو أن الفتح على لغة بعض العرب من النصب بـ" لَمْ "، فقد حكَى اللَّحْيانيُّ في نوادره: أن منهم من ينصب بها، ويجزم بـ" لَنْ "، عكس المعروف عند الناس. وعلى ذلك قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد:
في كل ما هَمَّ أمضَى رأيَه قدما **ولم يشاورَ في الأمر الذي فعلا
وخرَّجها بعضهم على أن الفتح لمجاورة ما بعدها؛ كالكسر في قراءة:
" الْحَمْدِ للّهِ "(الفاتحة: 2)
بالجر، وهو لا يتأتى في بيت عائشة السابق".
ثالثًا- وفي المراد بهذا الشرح- على ما ذكر- أقوال:
أحدهما:أن المراد به شقُّ صدره الشريف عليه الصلاة والسلام، روي أن جبريل عليه السلام أتاه، وشق صدره، وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي، ثم ملأه علمًا وإيمانًا، ووضعه في صدره. وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه فسَّره به، وهو ظاهر صنيع التِّرْمِذِيِّ؛ إذ أخرج حديث شقِّ الصدر الشريف في تفسير هذه السورة.. وهذا القول ضعيف عند المحققين.
وثانيها:أن المراد به شرح صدره صلى الله عليه وسلم للإسلام، وهو المرويُّ عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وثالثها:أنه كناية عن الإِنعام عليه بكل ما تطمح إليه نفسه الزكية من الكمالات، وإعلامه برضى الله عنه، وبشارته بما سيحصل للدّين، الذّي جاء به من النصر.
ورابعها:أن المراد به تنوير صدره صلى الله عليه وسلم بالحكمة، وتوسيعه بالمعرفة، لتلقي ما يوحى إليه. قال الله تعالى:
" أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ "(الزمر: 22)
وروي أنهم قالوا: يا رسول الله أينشرح الصدر ؟ قال:"نعم! "قالوا: وما علامة ذلك ؟ قال:" التجافي عن الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإعداد للموت قبل نزوله ".
وتحقيق القول فيه أن صدق الإيمان بالله ووعده ووعيده يوجب للإنسان الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والاستعداد للموت.
وخامسها:منهم من فسر الشرح بانفتاح صدره عليه الصلاة والسلام؛ حتى إنه كان يتسع لجميع المهمات، لا يقلق، ولا يضجر، ولا يتغير؛ بل هو في حالتيْ البؤس والفرح منشرح الصدر، مشتغل بأداء ما كلف به.
والشرح في اللغة التوسعة، ومعناه: الإراحة من الهموم والغموم. والعرب تسمِّي الغمَّ والهمَّ: ضيقَ صدرٍ؛ كقوله تعالى:
" وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ "(الحجر: 97)
والأصل في الشرح: فصل أجزاء اللحم بعضِها عن بعض، ومنه: الشريحة من اللحم، ثم شاع استعماله في الكشف والبسط، وإيضاح الغامض والخافي من المعاني. ومنه قولهم: شرَح المُشْكِلَ، أو الغامِضَ من الأمر. أي: فسَّره، وبسطَه , وأظهر ما خفِي من معانيه. . وكذلك شاع استعماله في رضى النفس وسرورها بعد ضيق ألمَّ بها، فقيل: شرح الله صدره بكذا. أي: سرَّه به. ومنه: شرح الله صدره للإسلام، فانشرح. أي: انبسط في رضًا وارتياح للنور الإلهي، والسكينة الروحية. قال تعالى:
"فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء "(الأنعام: 125)
رابعًا- والاستفهام في قوله تعالى:" أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ " ؟ معناه: إثبات الشرح وإيجابه؛ لأن همزة الاستفهام إذا دخلت على النفي، ردته إلى الإيجاب. وإلى هذا أشار مكي في إعرابه للآية الكريمة بقوله في(مشكل إعراب القرآن ):" الألف نقلت الكلام من النفي، فردته إيجابًا ".
والغرض من هذا الاستفهام: التذكير والتنبيه، والمعنى: شرحنا لك صدرك. وإلى هذا أشارالزمخشري بقوله عند تفسير الآية:" استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه؛ فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك، فنبَّه على ذلك، وذكَّر به ".
وجمهور النحاة والمفسرين على القول بأن هذا الاستفهام هو استفهام تقرير، مثله في قوله تعالى:
" أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ "(الأعراف: 172)، وقوله تعالى:
" أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ "(الزمر: 36)
فيخلطون بين استفهام التذكير والتنبيه، وغيره، وبين استفهام التقرير. ولتوضيح الفرق بينهما أقول: إذا قيل: أليس زيد مسافرًا ؟ احتمل ذلك معنيين:
أحدهما: أن السائل لم يعلم شيئًا عن سفر زيد، فيجاب حينئذ بـ( لا ) في النفي. وبـ( نعم) في الإيجاب.
والثاني: أن السائل يعلم بسفر زيد؛ ولكنه يسأل عنه لغرض آخر؛ كالتذكير، أو التنبيه، أو التعجب، أو الإنكار، أو نحو ذلك من المعاني، التي يخرج إليها الاستفهام، فيجاب حينئذ بـ( بلى ). وعلى التنبيه والتذكير يحمل قوله تعالى:(1/78)
"أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ " ؟وقول جرير يمدح عبد الملك بن مروان:
ألستم خير من ركب المطايا **وأندى العالمين بطون راح
فإذا قيل: ألم تعلم بأن زيدًا مسافر ؟ أليس زيد بمسافر ؟ لم يحتمل ذلك إلا معنى واحدًا، وهو أن السائل يعلم بسفر زيد؛ ولكن غرضه من السؤال تقرير المخاطب؛ لأنه جاحد به بعد أن علمه، ولا يجاب إلا بـ( بلى ). وعلى هذا يحمل قول الله تعالى:
" أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا "(الأحقاف: 34)، وقوله تعالى:
" أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى "(الأعراف: 172)
وهذا هو سر دخول هذه الباء على خبر المنفي، وهو من الأسرار الدقيقة، التي لا يكاد يُفْطَنُ إليها في البيان القرآني المعجز لدقَّتها !
ومما يحمل على الأول، فيحتمل فيه الاستفهام أن يكون على حقيقته من طلب الفهم، وأن يكون مرادًا به معنى آخر من المعاني، التي يخرج إليها الاستفهام قول فرعون لعنه الله:
" أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ "(الزخرف: 51)
فهذا يحتمل أن يكون استفهامًا حقيقيًّا بأن يكون لا يعلم أن له ملك مصر، ويحتمل أن يكون عالمًا بذلك؛ ولكنه أورده على سبيل الافتخار.
وقوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام:" أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ "(هود: 78)
أي: رجل واحد يرشدكم إلى ترك هذا العمل القبيح، ويمنعكم منه. فهذا يحتمل أن يكون استفهامًا حقيقيًّا، ويحتمل أن يكون الغرض منه الإنكار.
وعلى هذا يجري قوله تعالى:" أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ "؟
فهذا استفهام يراد به التذكير والتنبيه، لا التقرير. ولو كان المستفهِم- هنا- غير الله جل وعلا، لجاز حمله على أصله من طلب الفهم.
أما حمله على استفهام التقرير فلا يحوز بحال من الأحوال؛ لأن حمله على ذلك يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلمكان جاحدًا لشرح الله تعالى له صدره، ورفعه له ذكره، ووضعه عنه وزره، بعد أن استقر علم ذلك عنده، وحاشا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون كذلك .. وإنما ذلك تنبيه له وتذكير.. فتأمل !
وإذا كانوا لا يفرقون بين قوله تعالى:"أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ "(الشرح: 1)، وبين قوله تعالى:
"أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى "(الأعراف: 172)
فلأن معنى التقرير- عندهم- هو الإثبات، ولا دليل لهم على ذلك سوى أن كلاًّ منهما يجاب بـ( بلى ) في الإيجاب.والفرق بينهما: أن كل تقرير إثبات، وليس كل إثبات بتقرير. وأن التقرير هو غرض من الأغراض، التي يخرج إليها الاستفهام عندما يكون معناه الإثبات، مثله في ذلك: التذكير، أو التنبيه، أو التوبيخ، أو الافتخار..
وقد كان عدم تفريقهم بين الإثبات، والتقرير سببًا في اختلافهم في المراد من الاستفهام الداخل على النفي، في كثير من آي القرآن الكريم؛ ومن الآيات التي اختلفوا فيها قوله تعالى:
" أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ "(العنكبوت: 68، والزمر: 32)
قال الزمخشري:”أليس: تقرير لثوائهم في جهنم، وحقيقته: أن الهمزة همزة إنكار، دخلت على النفي، فرجع إلى معنى التقرير“.
وقال أبو السعود، وتبعه الألوسي:”تقرير لثوائهم فيها؛ كقول من قال:
ألستم خير من ركب المطايا
أي: ألا يستوجبون الثواء فيها، وقد فعلوا ما فعلوا من الافتراء على الله تعالى، والتكذيب بالحق الصريح.. أو: إنكار، واستبعاد لاجترائهم على ما ذكر من الافتراء والتكذيب، مع علمهم بحال الكفرة. أي: ألم يعلموا أن في جهنم مثوى للكافرين، حتى اجترءوا هذه الجراءة “.
وكون الاستفهام- هنا- للتقرير يتناقض مع كونه للإنكار. والجمهور على أنه للتقرير. والتقرير- باتفاقهم جميعًا- هو حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر علمه عنده، ثم جحد به. فهل كان الكافرون مقرين ومعترفين بأن مستقرَّهم النار؟ فإذا كان الأمر كذلك، فالمراد من هذا الاستفهام التقرير؛ وإلا فهو متضمِّن لمعنى الوعيد والتحقير، وقد سمَّاه السيوطي في ( الإتقان ) بالاكتفاء، ومثَّل له بقوله تعالى:" أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ"(الزمر: 60)
أي: أليست جهنم كافية لهم سجنًا وموئلا لهم، فيها الخزي والهوان، بسبب تكبرهم وتجبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق ؟
ومن ذلك قوله تعالى:" أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "(البقرة: 106)
فقد ذهب الزمخشري إلى أن الاستفهام فيه للتقرير. وقال الزركشي:”الكلام مع التقرير موجب، وجعل الزمخشري منه:" أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "(البقرة: 106)
وقيل: أراد التقرير بما بعد النفي، لا التقرير بالنفي.. والأوْلى أن يجعل على الإنكار. أي: ألم تعلم أيها المنكر للنسخ “.
وذهب الفخر الرازي إلى أن المراد بهذا الاستفهام: التنبيه.. وذهب ابن عطية إلى أن ظاهره الاستفهام المحض.. ورده أبو حيان قائلاً:”بل هذا استفهام معناه: التقرير “.
وأقرب هذه الأقوال إلى الصواب هو قول الرازي، ونصَّه الآتي:” أما قوله:
"أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "(1/79)
فتنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره على قدرته تعالى، على تصريف المكلف تحت مشيئته وحكمه وحكمته، وأنه لا دافع لما أراد، ولا مانع لما اختار “.
ومما يبعد أن يكون الاستفهام في هذه الآيات، ونحوها للتقرير أنه يجوز حمله في كل منها على حقيقته من طلب الفهم، وذلك لا يجوز في استفهام التقرير.
خامسًا-وقال تعالى:" أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ "، بصيغة الجمع، ولم يقل:{ ألم أشرح لك صدرك }، بصيغة المفرد. والجواب- كما قال الرازي-:”إما أن يحمل على نون التعظيم، فيكون المعنى: أن عظمة المنعم تدل على عظمة النعمة، فدل ذلك على أن ذلك الشرح نعمة، لا تصل العقول إلى كنه جلالتها.
وإما أن يحمل على نون الجميع، فيكون المعنى: كأنه تعالى يقول: لم أشرحه وحدي؛ بل أعملت فيه ملائكتي، فكنت ترى الملائكة حواليك، وبين يديك حتى يقوى قلبك، فأديت الرسالة، وأنت قوي القلب، ولحقتهم هيبة، فلم يجيبوا لك جوابًا. فلو كنت ضيق القلب، لضحكوا منك.. فسبحان من جعل قوة قلبك جبنًا فيهم، وانشراح صدرك ضيقًا فيهم “.
وقال تعالى:" أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ "، وكان يمكن أن يقال:{ ألم نشرح صدرك }، بدون" لَكَ "؛ ولكن جيء به زيادة بين فعل الشرح، ومفعوله لفائدتين:
الفائدة الأولى:هي سلوك طريقة الإبهام، ثم الإيضاح للتشويق؛ فإنه سبحانه، لما ذكر فعل:" نَشْرَحْ "، عَلم السامع أن ثَمَّ مشروحًا. فلما قال:" لَكَ "، قويَ الإِبهام، فازداد التشويق. فلما قال:" صَدْرَكَ "، أوضح ما كان قد عُلِم في ذهن السامع مبهمًا، فتمكن في ذهنه كمال تمكن.. وكذلك قوله تعالى:" وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ "،" وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ "
وهذا من الإطناب البليغ. قال علماء البيان:”إذا أردت أن تبهم، ثم توضح، فإنك تطنب، وفائدته: إما رؤية المعنى في صورتين مختلفتين: الإبهام والإيضاح. أو لتمكن المعنى في النفس تمكنًا زائدًا، لوقوعه بعد الطلب؛ فإنه أعز من المنساق بلا تعب. أو لتكمل لذة العلم به؛ فإن الشيء إذا علم من وجهٍ مَّا، تشوَّقت النفس للعلم به من باقي وجوهه وتألمت، فإذا حصل العلم من بقية الوجوه، كانت لذته أشد من علمه من جميع وجوهه دفعة واحدة “.
ومن الأمثلة على ذلك قول موسى عليه السلام:" رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي "(طه: 25)
فإن" اشْرَحْ "يفيد طلب شرح شيء مَّا، و" صَدْرِي "يفيد تفسيره وبيانه. وكذلك قوله:
" وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي " (طه: 26)
والمقام يقتضي التأكيد للإرسال المؤذن بتلقى الشدائد. وكذلك قوله تعالى:
" أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ "
فإن المقام يقتضي التأكيد؛ لأنه مقام امتنان وتفخيم.
والفائدة الثانية:أن في زيادة " لَكَ "تنبيه على أن منافع الرسالة عائدة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ كأنه قيل: إنما شرحنا صدرك لأجلك، لا لأجلنا. وفي ذلك تكريم للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى قد فعل ذلك لأجله.
ومثله في ذلك قول موسى عليه السلام:" رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي "(طه: 25)
فكأن في ذلك اعتراف من موسى- عليه السلام- بأن منفعة الشرح عائدة إليه؛ لأن الله تعالى لا ينتفع بإرسال الرسل، ولا يستعين بشرح صدورهم، على خلاف ملوك الدنيا.
وقال تعالى:" أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ "، ولم يقل:{ ألم نشرح لك قلبك }، مع أنه المراد هنا، ومثل ذلك قوله تعالى:" يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ "(الناس: 5)
وكان الظاهر يقتضي أن يقال:{ يوسوس في قلوب الناس }؛ ولكن عدل عنه إلى الصدر؛ لأن الصدر- كما قال ابن قيِّم الجوزية- هو ساحة القلب وبيته، فمنه تدخل الواردات إليه، فتجتمع في الصدر، ثم تلج في القلب، فهو بمنزلة الدهليز له. ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود. ومن فهم هذا، فهم قوله تعالى:" وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ "(آل عمران: 154)
فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته، فيلقي ما يريد إلقاءه في القلب، فهو موسوس في الصدر.
ومذهب الجمهور أن الصدر هو محل القرآن والعلم. ودليلهم على ذلك قوله تعالى:" بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ "(العنكبوت: 49)
وقال محمد بن علي الترمذي:”القلب محل العقل والمعرفة، وهو الذي يقصده الشيطان. فالشيطان يجيء إلى الصدر، الذي هو حصن القلب، فإذا وجد مسلكًا نزل فيه هو وجنده، وبث فيه الهموم والغموم، فيضيق القلب حينئذ، ولا يجد للطاعة لذة، ولا للإسلام حلاوة “.
سادسًا-وقوله تعالى:" وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ "(2- 3)قراءة العامة، وقرأ أنس:{ حططنا }و{ حللنا }بدلاً من قوله:" وَضَعْنَا ". وقرأ ابن مسعود:{ عنك وقرك }، بدلاً من قوله:" وِزْرَكَ ".(1/80)
والوضع- في اللغة- هو إلقاء الحمل على الأرض، وهو أعمُّ من الحطِّ. والوزر يقال للحمل، ويقال لثقل الذنب، وفي وضعه عنه عليه الصلاة والسلام كناية عن عصمته من الذنوب، وتطهيره من الأدناس، وعبَّر عن ذلك بالوضع على سبيل المبالغة في انتفاء ذلك.
وقيل: وضع الله تعالى عنه عبئه، الذي أثقل ظهره، حتى كاد يحطمه من ثقله. وضعَه عنه بشرح صدره له، فخف وهان. ووضعه بتوفيقه وتيسيره للدعوة ومداخل القلوب، وبالوحي، الذي يكشف له عن الحقيقة، ويعينه على التسلل بها إلى النفوس في يسر وهوادة ولين.
وقوله تعالى:" وَضَعْنَا "معطوف بالواو على قوله:" أَلَمْ نَشْرَحْ "، وجاز ذلك؛ لأن الأول في معنى الإثبات، فحمل الثاني على معنى الأول. ولو كان محمولاً على لفظه، لوجب أن يقال: ونضع عنك وزرك. ومثله في ذلك قوله تعالى:" وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ".
وقوله تعالى:" الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ "صفة للوزر. قال علماء اللغة: الأصل فيه: أن الظهر إذا أثقله الحمل، سُمِع له نقيض. أي: صوت خفيٌّ. والمراد بهذا النقْض: صوت الأضلاع. وهو مثل لما كان يثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من أوزاره.
قال النحاس:”فإن قال قائل: كيف وصف هذا الوزر بالثقل، وهو مغفور له، غير مطالب به ؟ فالجواب: أن سبيل الأنبياء- صلوات الله عليهم- والصالحين، إذا ما ذكروا ذنوبهم، أن يشتدَّ غمُّهم وبكاؤهم؛ فلهذا وصف ذنوبهم بالثقل “.
سابعًا-وقوله تعالى:" وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ "(4)
معناه: أن الله جل وعلا رفع له ذكره في الملأ الأعلى, قبل أن يرفعه له في الأرض، حين جعل اسمه عليه الصلاة والسلام مقرونًا باسمه جل وعلا. ورفع له ذكره في اللوح المحفوظ, حين قدر الله سبحانه أن تمر القرون, وتكر الأجيال, وملايين الشفاه في كل مكان، تهتف بهذا الاسم الكريم, مع الصلاة والتسليم. ورفع له ذكره، حين ربطه بهذا المنهج الإلهي الرفيع. وكان مجردُ الاختيار لهذا الأمر رفعةَ ذكر، لم ينلها أحد من قبل، ولا من بعد في هذا الوجود. وليس بعد هذا الرفع رفعٌ، وليس وراء هذه المنزلة منزلة.. إنه المقام، الذي تفرد به صلى الله عليه وسلم دون سائر العالمين.
وروي عن مجاهد وقتادة ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وغيرهم أنهم قالوا في ذلك:” لا أُذكَرُ إلا ذُكِرتَ معي “. وفيه حديث مرفوع، أخرجه أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن أبي حبان وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال:” أتاني جبريل عليه السلام، فقال: إن ربك يقول: أتدري كيف رفعت ذكرك ؟ قلت: الله تعالى أعلم ! قال: إذا ذكرتُ، ذكرتَ معي “.
ولا يخفى ما في هذا الرفع لذكره عليه الصلاة والسلام من لطف، بعد ذلك الوضع لأعبائه عنه. هذا الرفع، الذي تهون معه كل مشقة وتعب وعناء، وليس بعد هذا التكريم تكريم، وليس بعد هذا العطاء عطاء !
ثامنًا-ومع هذا كله، فإن الله تعالى يتلطف مع حبيبه المختار, ويسرِّي عنه, ويؤنسه, ويطمئنه، ويطلعه على اليسر، الذي لا يفارقه، فيقول:
" فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا "(5-6)
والعسر: المشقة في تحصيل المرغوب، والعمل المقصود. وتعريفه للعهد. واليسر ضد العسر؛ وهو: سهولة تحصيل المرغوب، وعدم التعب فيه، وتنكيره في الموضعين للتفخيم والتعظيم؛ كأنه قيل: إن مع العسر يسرًا عظيمًا ! والكلام وَعْدٌ له صلى الله تعالى عليه وسلم، مَسوقٌ للتسلية، والتنفيس.
وقوله تعالى في الحملة الثانية:" إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا "يحتمل وجهين من التأويل:
الوجه الأول: أنه تكرير للجملة السابقة، لتأكيد معناها، وتقريره في النفوس، وتمكينه في القلوب، وهو نظير قولك: إن مع الفارس رمحًا، إن مع الفارس رمحًا، وهو ظاهر في وحدة الفارس والرمح؛ وذلك للإطناب والمبالغة. فعليه يكون اليسر فيها عين اليسر في الأولى، والمراد به ما تيسر من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو يسر الدنيا مطلقًا.
والوجه الثاني: أنه ليس بتكرير للأول؛ وإنما هو تأسيس، ويكون الحاصل من الجملتين: أن مع كل عسر يسرين عظيمين. والظاهر أن المراد بذينك اليسرين: يسر دنيوي، ويسر أخروي. وفي حديث ابن مسعودأنه لما قرأ:
" فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا "
قال:” لن يغلب عسر يسرين “. قيل: معناه: أن العسر بين يسرين؛ إما فرج عاجل في الدنيا، وإما ثواب آجل في الآخرة.
وقال الكرماني في( أسرار التكرار في القرآن ):” قوله تعالى:" فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا " ليس بتكرار؛ لأن المعنى: إن مع العسر، الذي أنت فيه من مقاساة الكفار يسرًا في العاجل، وإن مع العسر، الذي أنت فيه من الكفار يسرًا في الآجل. فالعسر واحد واليسر اثنان “.(1/81)
وعلى هذا يكون قوله تعالى:" إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا "وعدًا آخر مستأنفًا، غير الوعد الأول. قال الألوسي:”واحتمال الاستئناف هو الراجح، لما علم من فضل التأسيس على التأكيد. كيف، وكلام الله تعالى محمول على أبلغ الاحتمالين، وأوفاهما ! والمقام- كما تقدم- مقام التسلية والتنفيس.
وكان الظاهر على ما سمعت من المراد باليسر تعريفه؛ إلا أنه أوثر التنكير للتفخيم. وقد يقال: إن فائدته أظهر في التأسيس؛ لأن النكرة المعادة، ظاهرها التغاير، والإشعار بالفرق بين العسر واليسر“.
والفرق بين التأسيس، والتكرير: أن التكرير يكون بإيراد المعنى مُرَدَّدًا بلفظ واحد. ومنه ما يأتي لفائدة، ومنه ما يأتي لغير فائدة. فأما الذي يأتي لفائدة فإنه جزء من الإطناب، والغرض منه التأكيد. والتأكيد هو تقرير إرادة معنى الأول، وعدم التجوُّز..أما التأسيس فيفيد معنى آخر، لم يكن حاصلاً قبل، وهو خير من التأكيد؛ لأن حمل الكلام على الإفادة خير من حمله على الإعادة.
وظاهر المعية في قوله تعالى:" مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا "يقتضي أن يكون اليسر مصاحبًا للعسر ومقارنًا له؛ لأن" مَعَ " ظرف يدل على المصاحبة. ولما كان اليسر لا يجتمع مع العسر؛ لأنهما ضدان، أجيب عن ذلك بأن " مَعَ "- هنا- مستعملة في غير معناها الحقيقي، وأنها مستعارة لقرب حصول اليسر عقب حلول العسر، أو ظهور بوادره. وبذلك يندفع التعارض بين هذه الآية، وبين قوله تعالى:
" سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً "(الطلاق: 7)
ثم إنه يبعد إرادة المعية الحقيقية ما أخرجه البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالسًا، وحياله حجر، فقال عليه الصلاة والسلام:” لو جاء العسر فدخل هذا الحجر، لجاء اليسر حتى يدخل عليه، فيخرجه“، فأنزل الله تعالى:" فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.. إلخ ". ولفظ الطبراني: وتلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:" فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.. ".
تاسعًا- ثم يجيء التوجيه الكريم من الله جل وعلا لمواقع التيسير, وأسباب الانشراح, ومستودع الري والزاد في الطريق الشاق الطويل، فيقول سبحانه وتعالى:
"فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ *وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ "(الشرح: 7- 8)
أي: إذا فرغت من عبادة- كتبليغ الوحي- فاتعب في عبادة أخرى، شكرًا لما عددنا عليك من النعم السالفة، ووعدناك من الآلاء الآنفة؛ وكأنه عز وجل، لمَّا عدَّد على نبيه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم ما عدَّد، ووعده بما وعد، وحقق له ما وعد، بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة، وأن لا يخلي وقتًا من أوقاته منها؛ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام، إذا ما فرغ من عبادة، أتبعها بأخرى.
والفراغ- في اللغة- خلاف الشُّغل. يقال: فرغ من عمله فراغًا، فهو فارغ. قال تعالى:
" سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ "(الرحمن: 31)
وفسِّر بقولهم: سنقصد لكم أيها الثقلان. وقوله تعالى:
"وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً "(القصص: 10)
قيل في تفسيره: خاليًا؛ وكأنما فرغ من لبِّها، لِمَا تداخلها من الخوف. وقيل: فارغًا من ذكره. أي: أنسيناها ذكره، حتى سكنت، واحتملت أن تلقيه في اليم. وقيل: خاليًا إلا من ذكره؛ لأنه قال:
" إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا "(القصص: 10)
وظاهر قوله تعالى:" فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ "يفيد أنه عليه الصلاة والسلام كان في أعمال، لم ينته منها؛ ولكن السياق لم يذكر لنا شيئًا عن تلك الأعمال، يكون متعلَّقًا للفعل" فَرَغْتَ ". وعدم ذكره يقتضي أنه لازم أعمال، يعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما أن مساق السورة في تيسير مصاعب الدعوة، وتذليل ما يحف بها من مكاره.
وعليه يكون المعنى: إذا أتممت عملاً من مهام الأعمال، فأقبل على عمل آخر؛ بحيث يعمر أوقاته كلها بالأعمال العظيمة. ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وجوعه من إحدى غزواته:” رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر “.
وبهذا يتبين أن المقصود بالأمر هو قوله تعالى:" فَانْصَبْ ". أما قوله:" فَإِذَا فَرَغْتَ " فتمهيد وإفادة لإِيلاءِ العمل بعمل آخر في تقرير الدين ونفع الأمة. وهذا من صيغ الدلالة على تعاقب الأعمال، ومثله قول القائل: ما تأتيني من فلان صلة إلا أعقبَتْها أخرى؛ ولهذا قدِّم قوله:" فَرَغْتَ " على قوله:" فَانْصَبْ ".
وجيء بالفاء الرابطة؛ لتدل على أن ما بعدها واجب الوقوع، عقب وقوع الشرط مباشرة. وعليه يكون قوله تعالى:" فَانْصَبْ " أمرًا بإحداث الفعل فورًا، بعد حدوث الشرط من دون أي تأخير.
ثم أمره تعالى بأن يرغب إلى ربه وحده، فقال سبحانه:
"وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ "
أي: اصرف وجوه الرغبات إلى ربك وحده، لا إلى سواه، ولا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه.
وقوله تعالى:" فَارْغَبْ" هو من الرَّغْبَة. والرَّغبة هي السَّعة في الإرادة. قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام:
"وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً "(الأنبياء: 90)(1/82)
أي: رغبًا في رحمتنا، ورهبًا من عذابنا.
فإذا قيل: رغب فيه، وإليه، اقتضي الحرص عليه. قال تعالى:
" إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ "(التوبة: 59)
وعلى هذا يحمل قوله تعالى هنا:"وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ "، تشبيهًا بسير السائر إلى من عنده حاجته؛ كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام:
" إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ "(الصافات: 99)
وإذا قيل: رغب عنه، اقتضى صرْف الرّغبة عنه، والزهد فيه؛ نحو قوله تعالى:
" أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ "(مريم:46)، وقوله تعالى:
"وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ "(النساء: 127)
فالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:" وترغبون عن أن تنكحوهن".
وقدم قوله تعالى:" إِلَى رَبِّكَ " على قوله:" فَارْغَبْ "، لإفادة معنى الاختصاص. أي: لتكن رغبتك إلى ربك، لا إلى غيره ؛ فإن صفة الرسالة أعظم صفات الخلق، فلا يليق بصاحبها أن يرغب إلى غير الرب جل وعلا، الذي وعده في سورة الضحى أن يعطيه، حتى يرضى:
"وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى "(الضحى: 5)
وقد حقق له سبحانه هذا الوعد في هذه السورة، فشرح له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وأعطاه من خير الدنيا والآخرة ما لم يعطه لأحد من قبله، ولا بعده.
ولم تمنع الفاء في قوله تعالى:"فَارْغَبْ "، من تقديم المعمول:" إِلَى رَبِّكَ "، خلافًا للمشهور من أقوال النحاة؛ ولهذا نجدهم يتكلفون، فيقدرون عاملاّ محذوفًا لقوله:" فَارْغَبْ "، فيقولون: تقدير الكلام: وارغب إلى ربك، فارغب إليه. أو: وارغب إلى ربك، فارغبه.
والذي ألجأهم إلى هذا التكلف في التأويل والتقدير ما اصطلحوا عليه من أن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، والذي عليه أهل التحقيق خلاف ذلك.. والله تعالى أعلم !
وهنا تنتهي السورة الكريمة، وقد تركت في النفس شعورين ممتزجين: شعور بعظمة الودِّ الحبيب الجليل، الذي ينسم على روح الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه الودود الرحيم. وشعور بالعطف على شخصه صلى الله عليه وسلم، ونحن نكاد نلمس ما كان يساور قلبه الكريم في هذه الآونة، التي اقتضت ذلك الود الجميل، وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:" مَنْ قرأَ ألمْ نشرحْ، فكأنَّما جاءَنِي، وأنَا مُغْتمٌّ، ففرَّجَ عَنِّي ".
الأستاذة: رفاه محمد علي زيتوني
مدرسة لغة عربية- حلب
===============
مثل نوره جل جلاله
قال الله جل جلاله:" اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " (النور:35)
أولاً- هذه الآية الكريمة تتحدث عن سلطان الله جل جلاله في هذا الوجود، وامتلاكه لناصية كل موجود فيه. ففيها يخبر سبحانه وتعالى عن نفسه بأنه نور السموات والأرض، ثم يضرب لنوره مثلاً بنور مصباح، قد اجتمعت فيه أسباب الإضاءة كلها على أحسن وجه وأكمله، فبدا نوره صافيًا قويًّا متلألأً، ينير كل ما حوله. ثم أخبر سبحانه أنه يهدي لنوره من يشاء من عباده، وأن مشيئته سبحانه تابعة لحكمته وعلمه بالأشياء كلها دقيقها وعظيمها، صغيرها وكبيرها، لا يغيب من ذلك شيء عن علمه سبحانه.
وقد سبق ذلك قوله تعالى: " وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ "(النور: 34)
وهو تعقيب لما سبقه في هذه السورة الكريمة، التي سمَّاها الله تعالى: سورة النور، ووصفها بقوله:" سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ "(النور: 1)
فدل ذلك على أنها جملة من الحدود والأحكام والحكم والآداب، والأخلاق، والمواعظ، قد فرضت فرضًا على سبيل القطع والإلزام، لما في ذلك من تطهير للمجتمع من الفساد والفوضى، واختلاط الأنساب، والانحلال الخلقي، ومن حفظ للأمة من عوامل التردي في بؤرة الإِباحية والفساد، التي تُسبب ضياع الأنساب، وذهاب الشرف والأعراض، وبناء مجتمع فاضل، يقوم على العدل والحق والخير.
والإخبار عن هذه السورة بلفظ النكرة هكذا:" سُورَةٌ "، ثم وصفها بما تلاه من صفات:" أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ "، فيه من الفخامة من حيث الذات، ومن حيث الصفات ما لا يخفى، فكان من المناسب جدًّا أن يأتي الله سبحانه بعد ذلك بهذا التعقيب، الذي ضمَّنه هذا الوصف الجليل للقرآن الكريم، الذي تضمن هذا التقسيم الثلاثي لما جاء فيه، فبيَّن سبحانه وتعالى:(1/83)
1- أنه آيات مُبيِّنات:" وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ ". أي: مُوضِّحات لأحكام الدين وحدوده، لا تدع مجالاً للشك، أو الغموض، والتأويل, والانحراف عن منهج الله القويم. ويدخل في عموم هذه الآيات المبيِّنات الآيات البيِّنات، التي أخبر الله تعالى عن إنزالها في هذه السورة:
" وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ "
فهذه بيِّنات في أنفسها، وتلك مع كونها بيِّنات في أنفسها مُبيِّنات لغيرها.
2- أنه مثل من الذين خَلَوْا من قبلنا:" وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ "، وهو المراد بما ذكره الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الغابرة وقصصهم، التي يعتبر بها، ويقاس عليها أحوال الأمم المستقبلة؛ كما قال تعالى:
" لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ "(يوسف: 111)
ومن هذه القصص- التي فيها العبرة لمن أراد أن يعتبر- ما أخبر الله تعالى عنه في هذه السورة المباركة من قصة مريم، التي رماها قومها بالفاحشة، فبرَّأها الله تعالى. فهذه القصة فد جعلها الله تعالى مَثَلاً لكل قصة تماثلها؛ كقصة عائشة- رضي الله عنها- التي رماها أهل الإفك من قومها بما لا يليق بها، فأظهر الله تعالى براءتها في هذه السورة المباركة.
3- أنه " وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ "، الذين تستشعر قلوبهم رقابة الله، فتخشى وتستقيم، وكذلك هو موعظة للكفرة الضالين. وإنما خَصَّ المتقين بالذكر؛ ليبين أنهم هم الذين اتعظوا، وانتفعوا بتلك المواعظ. ونظير ذلك قوله تعالى:
" إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ "(يس: 11)
وقد كان عليه الصلاة والسلام منذرًا لكل الناس؛ ولكنه خصَّ الذين اتبعوا الذكر، وخشوا الرحمن بالغيب؛ لأنهم هم الذين انتفعوا بالإنذار. ثم تلا ذلك قول الله جل وعلا:
" اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ " إلى قوله: " وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ "(النور: 35)
فبين سبحانه وتعالى أن كل ما أنزله من آيات بيِّنات، ومُبيِّنات، وما فرضه من أحكام، وما حَدَّه من حدود، وما ذكره من أحوال الأولين والآخرين وقصصهم، وما ذكره من أوامرَ، ونواهٍ، ومواعظَ، في هذه السورة المباركة خاصة، وفي القرآن الكريم عامة؛ إنما هو نور مستمد من نوره سبحانه؛ ولهذا سمَّى هذه السورة:{ سورة النور }. وهكذا تتناسق الآيات مع بعضها البعض في سلك رفيع من النظم بديع !
ثانيًا- قوله تعالى:" اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ "
يقتضي ظاهره أنه سبحانه وتعالى في نفسه نور. ولما كان النور- في لغة العرب- يعني الضوء المدرَك بالبصر، حمل جمهور المفسرين إسناده إلى الله عز وجل على المجاز. وإسناده- عندهم- على اعتبارين:
إما على اعتبار أنه بمعنى: اسم الفاعل. وعليه يكون التقدير:" اللَّهُ مُنَوِّرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ "
أو على اعتبار حذف مضاف، تقديره:" اللَّهُ ذُو نُورِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ "
أما كونه بمعنى اسم الفاعل فهو مروي عن الحسن وأبي العالية والضحاك. وعليه جماعة من المفسرين، ويؤيده قراءة بعضهم:" مُنَوِّرُ "، وكذا قراءة علي- رضي الله عنه- وأبي جعفر، وغيرهما:" نَوَّرَ الأرضَ " فعلاً ماضيًا، ومفعولاً به.
وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه فسَّر نور السماوات بهادي أهل السماوات والأرض. وبمدبِّر الأمر فيهما، وروي ذلك عن مجاهد أيضًا.
وجعل ذلك بعضهم من التشبيه البليغ، ووَجْهُ الشَّبَه كونُ كل من التدبير والنور سبب الاهتداء إلى المصالح، ويؤيده ما أخرجه الطبري عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- من قوله:" إن إلهي يقول: نوري هُدَايَ ". فشبَّه سبحانه وتعالى نوره بهداه.
وهذا- كما قال ابن قيِّم الجوزية- إنما يرجع إلى فعله سبحانه، وإلا فالنور، الذي هو وَصْفٌ من أوصافه جل وعلا قائمُ به، ومنه اشْتُقَّ له اسم النور، الذي هو أحد أسمائه الحسنى. فهذا اسمه، وذاك فعله، ولا تَنافِيَ بين الاسم والفعل، وقد عُلِمَ أن كل ما هو نورٌ فهو مُنَوِّرٌ لغيره، فهما متلازمان.
وكان بعض العارفين يرى أن النور هو اسم الله الأعظم. وفي( لسان العرب ) لابن منظور:" في أسماء الله تعالى النُّورُ. قال ابن الأثير: هو الذي يبصِر بنوره ذو العَمايَة، ويرشُد بهداه ذو الغِوايَة. وقيل: هو الظاهر، الذي به كلُّ ظهور. والظاهرُ في نفسه، المُظْهِرُ لغيره يسمَّى: نورًا.. قال أبو منصور: والنور من صفات الله عز وجل ".(1/84)
وقال ابن قيِّم الجوزية:” إن النور جاء في أسمائه تعالى، وهذا الاسم مما تلقته الأمة بالقبول، وأثبتوه في أسمائه الحسنى، ولم ينكره أحد من السلف، ولا أحد من أئمة أهل السنة. ومحالٌ أن يسمِّي نفسه نورًا، وليس له نور، ولا صفة النور ثابتة له؛ كما أن من المستحيل أن يكون عليمًا قديرًا سميعًا بصيرًا، ولا علم له ولا قدرة؛ بل صحةُ هذه الأسماء عليه مستلزمةٌ لثبوت معانيها له، وانتفاءُ حقائقها عنه مستلزمةٌ لنفيها عنه، والثاني باطل قطعًا فتعين الأول “.
فكونُ النور اسمًا من أسمائه تعالى، أو وَصْفًا من أوْصَافه، لا يمنع أن يكون منوِّرًا لغيره، ومُدَبِّرًا لأمره، وهاديًا له؛ لأن من معاني كونه- سبحانه- نورًا أن يكون مُنَوِّرَ السمواتِ والأرضِ، ومُدَبِّرَ الأمر فيهما، وهاديَ أهلهما بنوره، الذي منه قِوامُهُمَا، ومنه نِظامُهُمَا؛ فهو الذي يهَبُهُما جوهرَ وجودهما، ويودِعُهُما ناموسَهُما، ويقيم كل موجود في هذا الوجود في مكانه الصحيح، ويوجِّهه الوِجْهةَ، التي يأتلف فيها مع الوجود، ويتناغم مع الموجودات؛ فكأن كل ذرة من ذرات هذا الوجود تعمل في نور، فلا تضلُّ طريقَها أبدًا.
وقد كان من عادة الصحابة- رضوان الله عليهم- أن يذكروا في تفسيرهم بعض صفات المفسَّر من الأسماء، أو بعض أنواعه، ولا ينافي ذلك ثبوت بقية صفات المسمَّى. وإلى هذا أشار الشيخ ابن تيمية بقوله:” ثم قول من قال من السلف: هادي أهل السماوات والأرض، لا يمنع أن يكون في نفسه نورًا؛ فإن من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض صفات المفَسَّر من الأسماء، أو بعض أنواعه. ولا ينافي ذلك ثبوت بقية صفات المسمَّى؛ بل قد يكونان متلازمين “.
ويدل على ذلك ما أخرجه الطبراني عن سعيد بن جبير- رضي الله عنه- من قوله:” كان ابن عباس يقول: اللهم! إني أسألك بنور وجهك، الذي أشرقت له السموات والأرض، أن تجعلني في حِرْزِك وحفظك وجوارك وتحت كنفك “.
وأخرج الطبراني أيضًا عن عبد الله بن مسعود قوله في تفسير الآية:” إن ربكم ليس عنده ليل، ولا نهار، نورُ السماوات والأرض من نور وجهه “.
وقد أخبر الله جل جلاله أن الأرض تشرق بنور ربها يوم القيامة، إذا جاء لفصل القضاء بين عباده، فقال سبحانه:" وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ "(الزمر: 69)
وفي الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عائد من الطائف نافض كفيه من الناس:” أعوذ بنور وجهك، الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك“
وأخرج البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي في ( الأسماء والصفات ) عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا تهجد في الليل يدعو:” اللهم لك الحمد، أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيُّوم السموات والأرض ومن فيهن “.
قال ابن قيِّم الجوزية:” إن الحديث تضمن ثلاثة أمور، شاملة عامة للسموات والأرض؛ وهي: ربوبيتهما، وقيوميتهما، ونورهما. فكونه سبحانه ربًا لهما، وقيومًا لهما، ونورًا لهما أوصاف له، فآثار ربوبيته، وقيوميته، ونوره، قائمة بهما.
وصفة الربوبية مقتضاها هو المخلوق المنفصل. وهذا كما أن صفة الرحمة والقدرة والإرادة والرضى والغضب قائمة به سبحانه، والرحمة الموجودة في العالم، والإحسان، والخير، والنعمة، والعقوبة، آثار تلك الصفات، وهي منفصلة عنه. وهكذا علمه القائم به هو صفته. وأما علوم عباده فمن آثار علمه، وقدرتهم من آثار قدرته “.
فإذا ثبت بهذه النصوص كلها أن الله سبحانه هو نور السموات والأرض ومن فيهن، وأن كل شيء في هذا الوجود إنما يشرق بنور وجه ربه جل وعلا، ولنوره، وأن كل نور إنما هو من نوره سبحانه، فكيف لا يكون هو سبحانه في نفسه نورًا؛ كما كان سبحانه وتعالى ربًّا، وقيُّومًا، وهاديًا ؟!
وأما من قال: إن الله سبحانه، لو كان نورًا في نفسه، لما جازت إضافته إليه في قوله:" مَثَلُ نُورِهِ "، وكذا في قوله:" يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ "؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه، بمعنى: أن المضاف لا يكون عَيْنَ المضاف إليه، فلا يقال: نورُ النورِ، ولا حقُّ الحقِّ؛ وإنما يقال: نورُ اللهِ، وحقُّ اليقين، فالجواب عنه: أن النور يضاف، أو يسند إلى الله سبحانه على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يسند إسناد الخبر إلى المبتدأ؛ كما في قولنا: اللهُ نورٌ. وبهذا وصفه النبي عليه الصلاة والسلام. ففي الحديث الثابت عن أبي ذرٍّ- رضي الله عنه- أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال:” نورٌ! أنَّى أراه ؟ “.. وفي الرواية الأخرى:” هل رأيت ربك ؟ فقال: رأيت نورًا “.(1/85)
فأخبر صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه نورٌ، وهو لفظ يفيد التعظيم. ثم نفى رؤيته لربه سبحانه بقوله:” أنَّى أراه ؟ “ أي: كيف أراه، ومن أين لي أن أراه، وهو نور؟ أما النور الذي رآه عليه الصلاة والسلام- كما جاء في الرواية الثانية- فهو حجابه الذي احتجب به عن خلقه سبحانه وتعالى. ويدل على ذلك ما جاء في حديث الإسراء، من أنه- عليه الصلاة والسلام- لما قرُب من سدرة المنتهى، غَشِيَ السدرة من النور ما حجب بصره عن النظر إليها، أو إليه سبحانه.
ففي صحيح مسلم (1/161) عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات، فقال:” إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور“.
وفي رواية أخرى:” حجابه النار، أو النور، لو كشفه، لأحرقت سُبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه “.
وسُبُحاتُ وجهه سبحانه: هي جلاله وبهاؤه، ونوره، الذي حجبه عن خلقه بحجاب من نور، أو نار. وقد نقل الإمام النووي اتفاق شُرَّاح الحديث على أن معنى” سُبُحاتُ وجهه: نوره وجلاله وبهاؤه.
وعقَّب الشيخ ابن تيمية على الحديث بقوله:” فهذا الحديث فيه ذكر حجابه، فإن تردَّد الراوي في لفظ النار والنور، لا يمنع ذلك؛ فإن مثل هذه النار الصافية، التي كلم بها موسى، يقال لها: نارٌ، ونورٌ؛ كما سمَّى الله نارَ المصباح نورًا، بخلاف النار المظلمة؛ كنار جهنم، فتلك لا تسمَّى نورًا “.
ودلالة الحديث- كما هو ظاهر- قاطعة في ثبوت صفة النور لله عز وجل لمن تأمله، وسلم من مرض التعطيل والتأويل. وهي كغيرها من الصفات، التي تثبت لله تعالى مع التنزيه، على حدِّ قوله سبحانه:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ "(الشورى: 11)
فليس النور الثابت له سبحانه كنور الشمس والقمر، أو غيرهما من الأنوار المخلوقة؛ بل هو نور يليق به سبحانه، لا يماثل نور المخلوق، فلكل ذات ما يناسبها من الصفات..
" وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "(النحل:60)
والوجه الثاني: أن يسند النور إليه سبحانه إسناد الصفة إلى موصوفها، أو إسناد الاسم إلى مسمَّاه، ومنه ما أخبر الله تعالى عنه بقوله:" وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا "
فهذا إشراق الأرض يوم القيامة بنور ربها سبحانه وتعالى، إذا جاء لفصل القضاء بين عباده. والمعنى المراد: وأشرقت الأرض بنور ربها الموصوف بهذه الصفة، على اعتبار أن النور وصف قائم به سبحانه. أو بنور ربها المسمَّى بهذا الاسم، على اعتبار أن النور اسم من أسمائه الحسنى.
ومن المعلوم أن الصفة غير الموصوف، والاسم غير المسمَّى. وقد نصَّ سيبويْه على أن الاسم غير المسمَّى، فقال:” تقول: سمَّيت زيدًا بهذا الاسم؛ كما تقول: علَّمته بهذه العلامة “.
وإلى هذا ذهب الشيخ السهيلي- رحمه الله- فقال بعد أن بسط القول في هذه المسألة:” فقد تبين لك- في أصل الوضع- أن الاسم ليس هو المسمَّى؛ وذلك أنك تقول: سمَّيت زيدًا بهذا الاسم؛ كما تقول: حلَّيته بهذه الحلية. والحلية- لا محالة- غير المحلَّى؛ فكذلك الاسم غير المسمَّى “.
وعقَّب ابن قيِّم الجوزيَّة- رحمه الله- على كلام الشيخ السهيلي بقوله:” فهنا ثلاث حقائق: اسم ومسمَّى وتسمية؛ كحلية ومحلَّى وتحْلية؛ وعلامة ومعلَّم وتعليم. ولا سبيل إلى جعل لفظين منها مترادفين على معنى واحد، لتباين حقائقها. وإذا جعلت الاسم هو المسمَّى، بطل واحد من هذه الحقائق الثلاث، لا بد “.
فثبت بذلك أن النور المضاف إلى الله عز وجل في قوله:" مَثَلُ نُورِهِ " ليس هو عين المضاف إليه؛ لأن الأول هو الوَصْفُ، الذي اشتُق منه اسم النور. والثاني- وهو ضمير الكناية- هو المسمَّى ذاته؛ وهو الله جل جلاله. والأول غير الثاني. ومن تتبع هذا النوع من الإضافة في القرآن الكريم، وجده كثيرًا.. وإذ علم ذلك، فلا داعي لتكلف تقدير: الله ذو نور السموات والأرض.
والوجه الثالث: أن يسند إسناد المفعول إلى فاعله؛ ومنه قوله تعالى:" يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم "(الحديد: 12)
فهذا النور المضاف إلى المؤمنين؛ إنما هو في الحقيقة نور من نور الله جل وعلا، وخلق من خلقه. وليس من نور في هذا الوجود إلا هو خلق من خلق الله، ومن ذلك قولنا: نور المصباح، ونور الشمس، ونور القمر؛ ونحو ذلك مما هو صفة لأعيان قائمة.
وهذا النور المسند إلى الله عز وجل إسناد المفعول إلى فاعله، والذي هو صفة لأعيان قائمة هو ضد الظلمة؛ وكلاهما مجعول لله تعالى؛ كما أفاد ذلك قوله تعالى:" الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ "(الأنعام: 1)
وهو- كما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته- ضربان: دنيوي، وأخروي: أما الأخروي فهو ضرب واحد؛ ومنه قوله سبحانه:" يسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم "(الحديد: 12)(1/86)
وأما الدنيوي فهو ضربان: أحدهما: معقول بعين البصيرة؛ وهو ما انتشر من الأمور الإلهية كنور العقل، ونور الإيمان، ونور القرآن، ومنه قوله تعالى:" قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ "(المائدة: 15)
والثاني: محسوس بعين البصر؛ وهو ما انتشر من الأجسام النيرة كالشمس والقمر والنجوم، ومنه قوله جل وعلا:" هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً "(يونس: 5)
فثبت مما تقدم أن الأنوار ثلاثة:
أولها: النور الذي هو وصف من أوصاف الله جلا وعلا، ومنه اشتق له اسم النور، الذي هو أحد أسمائه الحسنى.
وثانيها: النور الذي هو حجابه جل جلاله، لو كشفه، لأحرقت سُبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.. تأمل ذلك في قوله تعالى:
" فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً "(الأعراف: 143)
وثالثها: النور الذي هو خلق من خلق الله سبحانه، وهو نور الوجود كله، وهو المراد بقوله جل وعلا:" اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ".
وإلى هذه الأنوار الثلاثة أشار الشيخ ابن تيمية بقوله:” النصُّ في كتاب الله، وسنةُ رسوله قد سمَّى الله نورَ السماوات والأرض، وقد أخبر النصُّ أن الله نورٌ، وأخبر أيضًا أنه يحتجب بالنور.. فهذه ثلاثة أنوار في النص “.
وقد علم مما تقدم أن كون الله سبحانه نور السموات والأرض يعني: أنه سبحانه في نفسه نور؛ لأنه سبحانه، لو لم يكن في نفسه نورًا، فكيف يكون منوِّرًا لغيره ؟ وليس غريبًا بعد هذا أن نجد كثيرًا من الناس يعترضون على تسمية الله تعالى نفسه نورًا، وتسمية رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام له بالنور؛ وذلك لأنهم لم يميزوا بين نور ، ونور .
قال عبد الكريم الخطيب في كتابه تفسير القرآن للقرآن:” ونحن إذا نظرنا اليوم بعين العلم، رأينا الوجود كله نورًا. فالأجسام جميعُها مكونة من ذرَّاتٍ. والذرَّاتُ هي- كما عرف العلم- نورٌ من نورٍ. فكل ذرة مجموعة من الشموس، تدور في فلك النواة، التي للذرة. فهذه الأجسام المعتمة، وغير المعتمة في هذا الكون الفسيح هي نورٌ مُجَسَّد مُتكاثِفٌ، إذا انْحَلَّ إلى ذرَّاتٍ، كان كُتلاً من النور الوهَّاج.
فالعالم الماديُّ- كما يبدو في مرآة العلم الحديث- هو شُموسٌ، تستمد نورها من نور الله، الذي أضاء الوجود كله. ومع ذلك فهو بالإضافة إلى نور الله جل جلاله ظلام، لا تتجلَّى حقيقته إلا على ضوء نور الله سبحانه؛ كما تتجلَّى حقائق الأشياء، التي تقع في محيط المشكاة، وما يشعُّ المصباح الذي فيها من أضواء “.
وأضاف قائلاً:” ولا بد من الإشارة إلى أن التعبير عن قيوميَّة الله سبحانه وتعالى وسلطانه القائم في الوجود بالنور؛ إنما هو لما في النور من لطف، بحيث لا يتجسَّد أبدًا؛ بل إنه في هذا على عكس الأشياء كلها. فالأشياء اللطيفة- كالزجاج الرقيق مثلاً- كلما علت طبقة منه طبقة أخرى زادت كثافته، ثم لا تزال شفافيته تقل، كلما تكاثرت طبقاته، حتى يصبح جسمًا معتمًا.. أما النور فإنه كلما، تضاعفت أشعته، ازداد شفافية وقدرة على كشف المرئيات، التي يقع عليها، من دون أن يشكل حيِّزًا في المكان، الذي ينيره، أو يحدث خلخلة في الهواء.
ومن جهة أخرى فإن النور- مع شفافيته ومع زيادة هذه الشفافية كلما كثر وقوي- هو من أكثر ظواهر الطبيعة سرعة؛ بحيث لا يكاد يقيَّد بزمن، فالشعاعة من الضوء تنتقل من طرف الأرض إلى طرفها الآخر في لمَحة بصر، لا تتجاوز جزءًا من الثانية.
فالنور- كما ترى- لا يتحيَّز في مكان، ولا يكاد يتقيد بزمن، والله سبحانه وتعالى لا يحويه مكان ، ولا يحده زمان.. فإذا كان الله نور السموات والأرض، كان معنى هذا أنه- سبحانه وهو القيوم على الوجود- ليس حالاً في الموجودات، ولا متحيِّزًا فيها، ولا محجوزًا في مكان منها دون مكان “.
نخلص من ذلك كله إلى أن نور الله سبحانه هو الذي يمسك هذا الوجود على نظامه، الذي أقامه الله تعالى عليه؛ إذ على هذا النور يدور كل موجود في فلكه متناغمًا متجاوبًا مع دورة الموجودات كلها في فلك الوجود. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
" وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ "(النور: 40). وقوله تعالى:
" قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ "(المائدة: 15)
وفي المسند الجامع لأبي الفضل النوري عن عبد الله بن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:” إن الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل “.
وعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى:" اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " كل ما أودعه الله جل جلاله في الموجودات من سنن، وما ركَّبَه في المخلوقات من قوى، وما بعث في الناس من رسل، وما أنزل إليهم من كتب ودلائل، ففي كل هذا نور من نور الله جل وعلا!(1/87)
ثالثًا- وبعد أن جلا الله سبحانه هذا الأفق المترامي لنوره، الذي يضيء الوجود كله، شرع في ضرب مثل لهذا النور العظيم، يقربه إلى العقول، ويدنيه من المدارك والتصورات، ويخرجه من عالم ما وراء الحس إلى عالم المحسوس؛ وإلا فإن نور الله تعالى في ذاته لا يمكن لبشر أن يتصوره حقيقة، أو خيالاً؛ لأنه- كما قدمنا- صفة من صفاته سبحانه. وكما لا تدرك ذات الله جل وعلا، فكذلك لا تدرك صفاته. وأقرب مثل لهذا النور، الذي لا يعرف كنهه أحد، ولا يدرك سره أحد في تصورنا، هو النور المنبعث من مصباح في زجاجة درِّيَّة، داخل مشكاة، هي أشبه بالوجود، الذي يستضيء بنور الله؛ وذلك قوله تعالى:
" مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ "
وظاهر قوله:" مَثَلُ نُورِهِ " أن يعود ضمير الكناية على الله سبحانه، وليس في الكلام ما يدل على أنه يعود على المؤمن، أو على القرآن الكريم، أو على محمد صلى الله عليه وسلم.
فالذي تدل عليه الآية صراحة أن المراد بـ" نُورِهِ ": نورُ الله جل وعلا، المضافُ إليه إضافةُ الصفة إلى الموصوف. أو إضافةُ الاسم إلى المسمَّى، وأن التمثيل هو تمثيل لهذا النور، الذي يضيء الوجود كله، وليس تمثيلاً لنوره، الذي ألقاه سبحانه في قلب المؤمن، أو في قلب محمد صلى الله عليه وسلم، أو لنوره، الذي هو وحيُه المنزل في كتابه الكريم.
روي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قوله في مناسبة نزول الآية:” إن اليهود قالوا: يا محمد ! كيف يخلص نور الله تعالى من دون السماء ؟ فضرب الله تعالى ذلك مَثَلاً لنوره “.
وأما على ما روي عن أُبَيّ أنه قرأ:" مَثَلُ نُورِ المُؤْمِنِ ". أو:" مَثَلُ نُورِ مَنْ آمَنَ بِهِ "، فيكون الضمير عائدًا على المؤمن، ويكون التمثيل تمثيلاً لنور المؤمن. وهذا التأويل لا يجوز على القراءة المشهورة.
ومن أغرب ما قرأت في تفسير قوله تعالى:" مَثَلُ نُورِهِ " تفسيرًا للمرحوم الشيخ عبد الرحمن حسن حبنَّكة الميداني في كتابه( أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع )، قال فيه:” مَثَلُ بعض نوره، الذي تستهدون به من خلال تدبر آياته، وما تشعُّه في قلوب المؤمنين، الصادقين في الطلب والبحث والتدبر. أو: نَموذجُ نورِه ممَّا يدرك الناس منه. وهذا النموذجُ هو بعضُ نور الله العظيم “.
الله تعالى يقول:" مَثَلُ نُورِهِ "، والشيخ- رحمه الله- يقول:” مَثَل بعض نوره “. أو:” نموذج نوره ممَّا يدرك الناس منه. وهذا النموذج هو بعض نور الله العظيم “.
رحم الله هذا الشيخ الجليل، وجعل مثواه الجنة ! فلست أدري من أين أتى بلفظ ( بعض )، وحشره بين لفظ ( مَثَلٍ )، ولفظ ( نُورِهِ ) ؟ وهل في الكلام ما يدل على هذا البعض ؟
ثم من أين أتى بلفظ ( نموذج ) ؟ وكيف يكون تفسير قوله تعالى:" مَثَلُ نُورِهِ " بـ( نموذح نوره ) مقبولاً، أو مستساغًا عند من يتحدث عن صور من أدب القرآن الرفيع ؟
وليت شعري ماذا يقولون في قول الله تعالى:
" يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ "(التوبة: 32) ؟
أيقولون: يريدون أن يطفئوا بعض نور الله ؟ أو نموذج نور الله ؟ أو يقولون: يريدون أن يطفئوا نور الله الذي ألقاه في صدر المؤمن أو قلبه ؟ أم ماذا يقولون، وإضافة النور إلى الله جل وعلا ظاهرة ظهور هذا النور ؟
ورحم الله النجاشي، الذي فهم ببصيرته النافذة ما لم نفهمه نحن المسلمون. لقد فهم أن الإنجيل والقرآن الكريم يخرجان من مشكاة واحدة، وهما نور من نور الله جل وعلا، فقال مشيرًا إلى ما سمع من كلام الله:” إن هذا، والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة “.
" وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ".
واختلفوا في هذا التشبيه: أهو تشبيه جملة بجملة، لا يقصَد فيها إلى تشبيه جزء بجزء، ومقابلة شيء بشيء، أو هو ممَّا قصِد به ذلك ؟ والأول هو الأحسن، وعليه يكون المعنى: مَثَلُ نورِ الله تعالى كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر.
فالمشبَّه هو مثل نور الله جل وعلا. والمشبّه به هو المصباح في زجاجة داخل المشكاة. وبين المشبَّه، والمشبَّه به وجْهُ شَبَهٍ، دلَّت عليه كاف التشبيه.
والقاعدة في التشبيه أن يشبه الأدنى بالأعلى في مقام المدح، وأن يشبه الأعلى بالأدنى في مقام الذم. وكذا في مقام السلب؛ ومنه قوله تعالى:" أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ "(ص: 28)
أي: في سوء الحال. أي: لا نجعلهم كذلك.
وقد اعترض على ذلك بقوله تعالى:" مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ "؛ فإنه شُبِّهَ فيه الأعلى بالأدنى، لا في مقام السلب.
والله قد ضرب الأقلَّ لنوره ** مثلاً من المشكاة والمصباح(1/88)
وأجيب عنه بأنه للتقريب إلى أذهان المخاطبين؛ إذ لا أعلى من نوره سبحانه وتعالى، فيشبه به. وقد قيل: يمكن أن يكون المشبه به- هنا- أقوى من المشبه؛ وذلك لكونه في الذهن أوضح؛ إذ الإحاطة به أتم.. فتأمل ذلك !
وقد دل وجود لفظ " مَثَل " في طرف المشبه، دون وجوده في طرف المشبه به على أن المشبه ليس هو ذات نور الله سبحانه؛ وإنما هو مَثَلُهُ المطابقُ له في تمام أوصافه، المشارِ إليها بقوله تعالى:" اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ "، وهو منتزع من مجموع هذه الصفات، وأن المشبه به هو نور المصباح داخل المشكاة. والأول موجود معلوم في الذهن، والثاني موجود معلوم خارج الذهن.
ولهذا لا حاجة بنا إلى تقدير لفظ " مَثَل " عقب كاف التشبيه؛ كما ذهب إليه المفسرون، فقالوا: التقدير:" كَمَثَلِ مِشْكَاةٍ ". وكذلك لا حاجة إلى تقدير مضاف محذوف عقب الكاف؛ كأن يقال:" كَنُوْرِ مِشْكَاةٍ "؛ لأن المشبه به ليس هو نور المشكاة وحدها؛ وإنما هو ما اجتمع من نور المشكاة، ونور المصباح، ونور الزجاجة، ونور الزيت؛ ولهذا وصفه الله تعالى بقوله:
" نُوْرٌ عَلَى نُوْرٍ ".
ومن اللطائف البديعة أن النور، حيثما وقع في القرآن، وقع مفردًا، خلافًا للظلمة فإنها، حيثما وقعت، وقعت مجموعة. ولعل السبب- على ما قيل- هو أن النور واحد؛ كما أن الله تعالى واحد، وأن الظلمة متعددة؛ كما أن الآلهة الباطلة متعددة. تأمل ذلك في نحو قوله تعالى:
" اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ "(البقرة: 257)
وقيل: المِشْكَاةُ هي الكُوَّةُ غير النافذة بلغة الحبشة، يوضع فيها المصباح، فتحصر نوره وتجمعه، فيبدو قويًا متألقًا، وهذا هو وجه تخصيصها بالذكر دون غيرها. ومنهم من فرق بين الكُوَّةُ والمِشْكَاةِ؛ كقول أحدهم يمدح آخر:
نورُ حَقٍّ بنفسه قامَ، مَا احْتا ** جَ إلى كُوَّةٍ، ولا مِشْكاةِ
فدلَّ ذلك على أن الكُوَّةَ أعمُّ من المِشْكَاةِ، وكلُّ مِشْكَاةٍ كُوَّةٌ، وليس كلُّ كُوَّةٍ مِشْكَاةً. وأصلُ المِشْكَاة: الوِعَاءُ يجعل فيه الشيء؛ ومنه قول الشاعر:
كأن عينيه مشكاتان في جحر
وقيل: المشكاة: صندوق زجاجي، يوضع فيه المصباح.
وقال الإمام فخر الدين الرازي وأتباعه:” ما وقع في القرآن من نحو المِشْكاة، والقِسْطاس، والإستبرق، والسجِّيل، لا نُسَلِّم أنها غيرُ عربية؛ بل غايتُه أنَّ وَضْعَ العرب فيها وافق لغةً أخرى كالصابون، والتنّور؛ فإن اللغات فيها متفقة “.
وزعم بعض أهل المعاني: أن التشبيه في هذا التمثيل هو من التشبيه المقلوب، وأن المعنى: مَثَلُ نوره كمصباح في مشكاة؛ لأن المشبه به هو الذي يكون مَعْدِنًا للنور ومَنْبَعًا له؛ وذلك هو المصباحُ، لا المِشْكَاةُ. وما تقدم من تفسير لمعنى المِشْكَاةِ يدل على أنها هي الوِعَاءُ، الذي يجمع النور، ويجعله قويًا، وبدونها يبدو ضعيفًا عاجزًا عن كشف المرئيات؛ ولهذا كانت أحقَّ بالتقديم من المصباح. وهذا هو أحد أوجه الإعجاز البياني في هذه الآية الكريمة.
ويتضح لنا ذلك، إذا علمنا أن المرادَ بالمِشْكَاِة الذاتُ الإلهية المقدَّسة مَعْدِنُ الأنوار كلِّها، ومَنْبَعُها، الذي لا ينفد. تأمَّل ذلك في قول النجاشي، الذي تقدَّم ذكره:” إن هذا، والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة “.. ثم تذكَّر أن ضارب المثل هو الله جل وعلا، وفي القرآن أمثلة كثيرة ضربها الله تعالى لصفاته، التي لا تشبهها صفة، فضلاً عن أن تماثلها..
" وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "(الروم: 27) ، " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ "(الشورى: 11)
أما المصباح فهو السراج، وأصله من الضوء، ومنه الصبح. وما انعكس من شعاعه وسطوعه على الأجسام الصقيلة المعتمة هو نوره. وقد شُبِّهَ به مَثَلُ نورِ الله جل وعلا، في الوضوح، والظهور، والإنارة، والتنوير، والهداية.
وكلا النورين: مَثَلُ نور الله جل وعلا، ونورُ المصباح يوصف بأنه نار ونور. حكى الراغب الأصفهاني في ( المفردات في غريب القرآن ) عن بعضهم قوله:” النار والنور من أصل واحد، وكثيرًا ما يتلازمان؛ لكن النار مَتاع للمقوين في الدنيا، والنور مَتاع لهم في الآخرة. ولأجل ذلك استعمل في النور الاقتباس؛ كقوله تعالى:" انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ "(الحديد: 13) “.(1/89)
والمراد بالنار- هنا كما ذكرنا سابقًا- النار الصافية، التي كلَّم الله تعالى بها موسى عليه السلام. فمِثْلُ هذه النار يقال لها: نارٌ ونورٌ، بخلاف النار المظلمة؛ كنار جهنم. فتلك لا تسمى نورًا. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:" إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "(النمل: 7- 9)
جاء في التفسير عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن المراد بقول الله تعالى" مَنْ فِي النَّارِ ": الله جل جلاله. وأن المراد بالنار: نوره سبحانه. وأن المراد بقوله تعالى:" وَمَنْ حَوْلَهَا ": الملائكة.
هذا قول ابن عباس، وليس قول زيد، أو عبيد حتى يعترض عليه المعترضون ! ويدل عليه تنزيه الله تعالى نفسه عقب ذلك بقوله:" وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "
ثم إخباره جل وعلا عن نفسه بقوله:" يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "
ويتضح لنا ذلك، إذا علمنا أن النور المضاف إلى الله سبحانه يقع على ذاته المقدسة، ويقع على صفاته القدسية القديمة. ومثله في ذلك نور المصباح.
وكما أن إضافة النور إلى الله سبحانه هي من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ فكذلك إضافة النور إلى المصباح هي من إضافة الصفة إلى الموصوف. وبيان ذلك: أن الأصل في قولنا: نور الله، ونور المصباح: اللهُ تعالى النورُ، والمصباحُ النورُ. فالاسم الأول منهما موصوفٌ، والثاني صفةٌ ملازمةٌ له، قد أُخْبِِرَ بها عنه. وقد أضيف الثاني منهما إلى الأول بعد أن جرِّد من الألف واللام، لإرادة معنى التخصيص. أي: تخصيص الصفة بموصوفها؛ ونحو ذلك قوله تعالى:" إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ "(الواقعة: 95)
وأصل الكلام: إن هذا لهو الحقُّ اليقينُ. ثم قيل: حقَُ اليقين، بإضافة الأول إلى الثاني.
والعرب إنما تفعل ذلك في الصفة المعرفة اللازمة لموصوفها لزوم اللقب للأعلام؛ كقولهم:{ زيدُ بطَّةٍ }. وأصل الكلام:{ زيدٌ بطَّةٌ }. أما الصفة، التي لا تثبت ولا تلزم موصوفها، فلا تضاف إلى الموصوف، لعدم الفائدة المخصِّصة، التي لأجلها كانت هذه الإضافة. وهذا يؤكِّد ما ذكرناه أولاً من أن النور وَصْفٌ من أوصاف الله تعالى، قائمٌ به، وملازمٌ له، لا يفارقه أبدًا كنور المصباح.. وبهذا يظهر لك سِرُّ تشبيه مثل نوره جل وعلا بنور المصباح دون غيره من الأنوار.
ثم وصف سبحانه هذا المصباح، فقال:" الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ "
والزجاجة هي القنديل من البِلَّوْر الشَّفَّاف الصافي، جعل فيها المصباح؛ لأن الضوء في الزجاج أظهر وأبين منه في كل شيء. ووجه ذلك أن الزجاج جسم شفَّاف يظهر فيه النور أكمل ظهور.
ثم وصف الزجاجة، فقال:" الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٍّ "
هذه الزجاجة لصفاء جوهرها، وحسن منظرها، كأنها كوكب دريٌّ. أي: كوكب مضيء متلألىء، يشبَه الدرَّ في صفائه، ولونَ نوره.
وأهدأُ النور، وأجملُه هو ذو اللون الدرِّيِّ. وذهب الجمهور إلى أن المراد بالكوكب الدري- هنا- كوكب من الكواكب المضيئة؛ كالزهرة والمشتري، والثوابت، التي في العظم الأول. ودَرَارِيُّ الكواكب- على ما قيل- عِظامُها.
وفي ذكر المصباح، والزجاجة منكَّرين، ثم إعادتهما معرَّفين، والإخبار عنهما بما بعدهما، مع انتظام الكلام بأن يقال: كمشكاة فيها مصباح في زجاجة كأنها كوكب دري، من تفخيم شأنهما، ورفع مكانتهما بالتفسير إثر الإبهام، والتفصيل بعد الإجمال، ما لا يخفى حُسْنُه وبَهاؤُه.
ويسمِّي بعض علماء البديع هذا اللون من الأسلوب: طباق التَّرْديد. وعدَّه السيوطي من محاسن الفصاحة، وجعله أبلغَ من التأكيد بتكرير اللفظ، خلافًا لبعض من غلط. وكان قد ذكر من فوائد التكرير: التقرير، والتعظيم، والتهويل. ثم قال:” ومنه ما كان لتعدد المتعلَّق بأن يكون المكرَّرُ ثانيًا متعلقًا بغير ما تعلق به الأول. وهذا القسم يسمَّى بالترديد؛ كقوله:
" اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ".
وقع فيه الترديد أربع مرات “.
وفرَّق زكيُّ الدين بْنُ أبي الأصبع بين الترديد، والتكرير بأن اللفظة، التي تكرَّر في الكلام، ولا تفيد معنى زائدًا، تكون تَكْريرًا للأولى. أما اللفظة التي تُرَدَّدُ في الكلام، وتفيد معنى غير معنى الأولى تكون تَرْديدًا لها.
وبعد أن شبَّه الله تعالى الزجاجة، وفيها المصباح، بالكوكب الدريِّ المتلألىء، عاد سبحانه ثانية إلى المصباح، فأخبر أنه:" يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ "
أحسنُ ما يمكن أن يقال في وصفها أنها شجرة:" مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ ".(1/90)
و" زَيْتُونَةٍ " بدل من" شَجَرَةٍ ". والمعروف أن شجر الزيتون من أفضل الأشجار؛ لأن كل ما فيه هو ممَّا ينفع الناس: زيته، وخشبه، وورقه، وثمره. أما نور زيته فهو أصفى نور يعرفه المخاطبون بهذا المثل؛ ولكن ليس لهذا وحده كان اختيار هذه الشجرة من بين الشجر؛ وإنما لكونها شجرة
" مُبَارَكَةٍ "
ولهذا قدِّم لفظ " مُبَارَكَةٍ " على لفظ " زَيْتُونَةٍ ".
وقيل: إنما وصفت بهذه الصفة؛ لأنها تنبت في الأرض، التي بارك الله تعالى فيها للعالمين؛ وهي أقرب منابت الزيتون لجزيرة العرب. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:
" وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ "(المؤمنون:20)
وفي إبهام الشجرة، ووصفها بأنها مباركة، ثم الإبدال منها، تفخيم لشأنها. وقد جاء في الحديث مدح الزيت؛ لأنه منها. ومن ذلك ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه من أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال:” ائتدموا بالزيت، وادهنوا به؛ فإنه من شجرة مباركة “. وهو في حدِّ ذاته ممدوح، ففي الحديث:” أنه مصحة من الباسور“. وقد ذكر له الأطباء منافع كثيرة، ليس هذا موضع ذكرها.
وقد دل تنكير لفظ " شَجَرَةٍ "- أيضًا- على أنها ليست شجرة مخصوصة بعينها. وكذلك دل وصفها بأنها:" لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ " على أنها ليست متحيزة إلى جهة، دون جهة؛ وإنما هي بين شرقية، وغربية. هذا ما يدل عليه اللفظ، ونظير ذلك قوله تعالى في وصف البقرة:
" إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ "(البقرة:68)
ثم قال:" عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ "(البقرة:68)
وعن ابن زيد قال:” ليست من شجر الشرق، ولا من شجر الغرب؛ لأن ما اختص بإحدى الجهتين كان أقلَّ زيتًا، وأضعفَ ضوْءًا؛ لكنها من شجر الشام، وهي ما بين المشرق والمغرب، وزيتونُها أجودُ ما يكون “.
أما زيتها فإنه ليس زيتًا من هذا الزيت المشهود المحدود؛ وإنما هو زيت آخر عجيب، يكاد من شدة صفائه وإشراقه يضئ بغير احتراق..
" يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ "
فهو في الصفاء والإشراق بحيث يضيء بنفسه، على الرَّغم من عدم مساس النار له أصلاً.
و" يَكَادُ " يدل على قرب وقوع الخبر، وأنه لم يقع. والشائع في خبره أن يكون فعلاً مضارعًا، غير مقترن بـ( أن ) المصدرية الاستقبالية.
أما كونه مضارعًا فلدلالته على الحال المناسب للقرب؛ حتى كأنه لشدة قربه وقع. وأما كونه غير مقترن بـ( أن ) فلمنافاتها لما قصدوا من دلالته على الحال. فلو قيل: يكاد زيتها أن يضيء، لدلَّ ذلك على بعد وقوع الخبر؛ لأنه إن وقع، فسيكون وقوعه في المستقبل، وهذا خلاف المراد.
وأما" لَوْ " فهي أداة شرطية، جعلت مع ما بعدها" لَمْ تَمْسَسْهُ نار " شرطًا للجملة قبلها، وقيدًا لها. ويطلق على مجموعهما مصطلح: عبارة شرطية. وهذه العبارة الشرطية؛ إما أن تكون مجردة من الواو؛ كما في قولنا: يعطَى السائلُ، لو كان فقيرًا. أو تكون مقرونة بالواو؛ كما في قولنا: يعطَى السائل، ولو كان غنيًا.
فالإعطاء الأول في الجملة الأولى مشروط بكون السائل فقيرًا، وليس كذلك الإعطاء الثاني في الجملة الثانية. والفرق بينهما: أن الأول يجري بوجود الشرط؛ لأن كون السائل فقيرًا يناسب أن يعطَى. ولهذا يُسمَّى هذا النوع من الشرط: إيجابيًّا. وأما الإعطاء الثاني فيجري رَغْمَ وجود الشرط؛ لأن كون السائل غنيًَّا لا يناسب أن يعطَى، بخلاف الأول؛ ولهذا يُسمَّى هذا النوع من الشرط: سلبيًّا.
وعلى هذا الأسلوب ورد قوله تعالى:" يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ "
أي: يكاد يضيء رَغْمَ عدم مساس النار له.
وفي قوله تعالى:" يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ " إشارة إلى أن الضوء ما يكون للشيء لذاته؛ كما للشمس، والنار، والسراج، والزيت، بخلاف النور، الذي لا يكون إلا من غيره؛ كما للقمر، ومصداق ذلك قوله تعالى:" وَهُوَ الَّذِيْ جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوْرًا "(يونس: 5)
والجمهور من علماء اللغة والتفسير لا يفرقون بين الضوء، والنور؛ بل يعتبرونهما لفظين مترادفين على معنى واحد، فيعرِّفون الضوء بأنه النور، الذي تدرك به حاسة البصر الأجسام المعتمة. والله سبحانه وتعالى قد فرق بينهما تفريقًا دقيقًا، ففي الآية السابقة وصف أشعة الشمس بالضياء، ووصف أشعة القمر بالنور، وأصل كل منهما الضوء المنبعث من السراج. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى بقوله:" وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً "(الفرقان: 61) ، وقوله تعالى:
" وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا "(النبأ: 13)
فشبه الشمس بالسراج، والسراج هو المصباح، الذي يضيء بالزيت، أو بالكهرباء، أو بأي نوع آخر من أنواع الوقود، وشعاع ضوئه، وسطوعه على الأجسام المعتمة هو الذي يسمَّى نورًا. ولهذا وصف سبحانه وتعالى القمر بأنه منير، ولم يصفه في أيٍّ من الآيات بأنه مضيء. والسر في ذلك أن القمر يستمد نوره من ضوء الشمس، ثم يعكسه، فيبدو لمن يراه مضيئًا.(1/91)
هذا وقد اشتهر- في العرف- أن الضوء ينتشر من المضيء إلى مقابلاته، فيجعلها مستضيئة. والمعروف عادة أن مصادر الضوء تقسم إلى نوعين: مصادر مباشرة كالشمس والنجوم والمصباح والشمعة وغيرها. ومصادر غير مباشرة كالقمر والكواكب. والأخيرة هي الأجسام، التي تستمد نورها من مصدر آخر، مثل الشمس، ثم تعكسه علينا.
فإذا عرفنا بعد ذلك أن الشمس والمصباح يشتركان في خاصية واحدة، وهي أنهما يعتبران مصدرًا مباشرًا للضوء، أدركنا سر تشبيه الله سبحانه الشمس بالمصباح، دون القمر.
ومما تجدر الإشارة إليه- هنا- أن شركة أمريكية كانت قد أعدت فيلمًا سينمائيًّا عن الجهود الأمريكية لغزو القمر، عنوان هذا الفيلم:( خطوة عملاقة لاكتشاف جيولوجيا القمر ). والفلم من أوله إلى آخره يعرض كيف تمكن العلماء الأمريكان بوسائلهم العلمية من أن يكتشفوا أن القمر كان من قبل كتلة مشتعلة، ثم بردت، أو انطفأ ضوؤها. وهذا ما أشار إليه تعالى بقوله:
" وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً "(الإسراء: 12)
وآية الليل هي القمر، وآية النهار هي الشمس، وقد محا الله تعالى الآية الأولى، وأبقى الثانية مبصرة. ولولا ذلك المحو، لم يعرف ليل من نهار، ولا نهار من ليل. وفيه دليل على أن القمر، الذي هو آية الليل، كان كتلة مشتعلة ثم بردت، وكان مضيئًا ثم انطفأ ضوؤه. وكونه منيرًا بعد المحو يعني أنه يستمد نوره من انتشار ضوء الشمس، وسطوعه عليه.
ويؤكد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن سلام، حين سأله عن السواد، الذي في القمر:” كانا شمسين، فقال الله:" وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْل "(الإسراء: 12)
فالسواد الذي رأيت من المحو “.
وبذلك فسره ابن عباس- رضي الله عنهما- بعد أن قال:” كان القمر يضيء كما تضيء الشمس، والقمر آية الليل، والشمس آية النهار “.
وإذا كان الله سبحانه قد شبَّه الشمس بالسراج الوهَّاج، فإنه سبحانه قد شبَّه نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالسراج المنير الهادىء الوديع، الذي يجلو الظلمات، ويكشف الشبهات، وينير العقول، ويهدي القلوب؛ وذلك في قوله جل وعلا:" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً "(الأحزاب: 45- 46)
أما نوره الذي ينير الوجود كله، ويقوم عليه نظام الكون كله فقد شبهه سبحانه بنور سراج- أي: مصباح- في مشكاة، اجتمعت له أسباب الإضاءة كلها؛ ولهذا أخبر الله تعالى عنه بقوله:
" نُورٌ عَلَى نُورٍ "
أي: نور متضاعف، تعاون عليه المشكاة البلورية، والزجاجة الصافية صفاء الكوكب الدري، والزيت، الذي يكاد من شدة إشراقه يضيء، فلم يبقَ ممَّا يقوِّي النورَ، ويزيده إشراقًا شيءٌ؛ لأن المصباح، إذا كان في مشكاة، كان أجمع لنوره، وإذا كان في زجاجة درية، كان أعون على زيادة نوره، وكذلك إذا كان وقوده الزيت النقي الصافي.
وهذا النور هو أقصى ما كان يمكن أن تحصل عليه الإنسانية، أو تتشهى الحصول عليه عند نزول القرآن الكريم. أما ما جدَّ بعد ذلك من نور الكهرباء فلا يَنقُضُ هذا النور، ويُنقِصُ من جلاله وروعته؛ لأنه نور وديع هادىء لطيف، على حين نور الكهرباء زاعق صارخ. ولعل هذا هو السر، أو بعض السر في ضَرْبِ المَثَل بهذا النور، دون نور الشمس، وهو أبهى بهاء، وأقوى قوة من كل نور تعرفه البشرية. وهنا تم المثل.
وبعد أن بلغ هذا النور، الذي ضربه الله تعالى لنوره مثلاً، إلى هذا الحد في الظهور والوضوح والكمال، الذي لا يمكن الزيادة عليه، قال تعالى:" يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ "
فأشار بذلك إلى أن النور، الذي يملأ الوجود؛ إنما هو نفحة من النور العلوي، وأن هذه النفحة موجودة في كل موجود. ومع ذلك، فإن لله سبحانه ألطافًا بعباده، فيصِلُ نورهم بنوره، ويفتح لهم بهذا النور طريقًا إلى عالم الحق والخير.
فالوجود كله، وإن كان نورًا من نور الله- بالإفاضة والخلق- فإن هناك نور الهداية، الذي يضيء البصائر، ويشرح الصدور، ويجلي العقول. والله سبحانه يهدي لهذا النور من يشاء من خلقه، ممن يفتحون قلوبهم لهذا النور، الذي لا ينقطع، ولا يحتبس، ولا يخبو. فحيثما توجه إليه القلب رآه، وحيثما تطلع إليه الحائر هداه، وحيثما اتصل به وجد الله عز وجل.
أما قوله تعالى:" وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ "(1/92)
فهو إشارة إلى أن هذا النور، الذي صوَّره سبحانه بصورة المشكاة والمصباح والزجاجة الدرية؛ إنما هو مَثَلٌ، يقرب للإدراك المحدود طبيعة هذا النور حين يعجز عن تتبع مداه وآفاقه المترامية وراء الإدراك البشري الحسير. ويرسم له هذه الصورة المصغرة، التي يتأملها الحس، حين يقصر عن تملي الأصل؛ وإلا فإن نور الله سبحانه وتعالى لا يمكن إدراكه، ولا يمكن وصفه. وهو سبحانه العليم بطاقة البشر، وأن علمه محيط بالأشياء كلها صغيرها، وكبيرها، لا يغيب عن علمه شيء من ذلك.
نسأله سبحانه وتعالى أن يهدينا لنوره، ويسهل لنا السبيل للوصول إلى مرضاته، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، إنه قريب سميع الدعاء مجيب، والحمد لله رب العالمين.
الأستاذ محمد إسماعيل عتوك
أستاذ لغة عربية في مدارس حلب
==============
بعض جوانب الإعجاز العلمي في سورة يوسف
أ . د / صلاح أحمد حسن
أستاذ العيون بكلية الطب جامعة أسيوط
ملاحظات عامة حول سورة يوسف عليه السلام
/1/ السورة ذكرت في كتاب الله كاملة بنفس اسم بطل أحداثها - يوسف عليه السلام - لأن :
1- خط القصة الدرامي الأساسي متصل ...
2- القصة مكتملة البناء الدرامي، من حيث التمهيد، ثم الثروة، ثم الانفراج ...
3- وقائع القصة وأماكن حدوثها محددة ...
4- أحداثها لا تمثل صراعاً عقائدياً ( مثل فرعون / موسى) , ولكن صراعاً سلوكياً داخل أفراد الأسرة الواحدة ..
5- ولأن شخصيتها المحورية والثانوية معدودة ( يعقوب / يوسف / الإخوة / عزيز مصر وامرأته، صاحبا السجن / الملك) .
/2/ الإشارة القرآنية المعجزة إلى ذكر القصة في كتاب الله بالعربية ( لكون أبطالها لا يتكلمون العربية)، لتكون وقائعها، والعبر المستخلصة منها، في غاية الوضوح : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [يوسف : 2] .
/3/ ولأن الهدف الأساسي من سورة يوسف هو العظة والعبرة، فقد حوت العديد من قواعد العلوم : طب، علم نفس، زراعة، إدارة، اجتماع، قانون، تشريع، عقيدة، وغيرها ..
/4/ السورة بلغت الإعجاز في النهاية الدرامية : فبعض الشخصيات ذكرت في نهاية مطافها ( كيعقوب وإخوة يوسف)، وبعض النهايات تركت مفتوحة (كيوسف وامرأة العزيز) .
/5/ يجب ملاحظة أن إخوة يوسف - برغم كل ما ارتكبوه من جرائم - كانوا مسلمين، لقوله تعالى : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة : 133] .
• لماذا هو أحسن القصص ؟
يقول الله تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ... } [يوسف : 3]، فلماذا هو أحسن القصص ؟
/1/ - لأنه من عند الله تعالى رب العالمين : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ } .
/2/ - ولأنه عبرة لأصحاب العقول : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي } [يوسف : 111]
/3/ - ولأن فيه صدق الحديث، والحدث، والأحداث : { مَا كَانَ حَدِيثاً ... } [يوسف : 111] .
/4/ - ولأن فيه التفصيل والإحاطة بجوانب كثيرة ( اجتماع - علم نفس - طب - قانون - اقتصاد - سياسة - غدارة - دين - أخلاق) : { مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى } [يوسف : 111] .
/5/ - ثم الهدى والرحمة للمؤمنين : { ... وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [يوسف : 111] .
أولاً : يعقوب عليه السلام :
* تحذير يوسف عليه السلام من قصّ رؤياه على إخوته : { قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ } [يوسف : 5]، لأسباب عديدة :
أ- لأن الإخوة ليسوا أشقاء : { إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ } .
ب- لتدلل يوسف على أبيه الشيخ الكبير ( عمر يوسف كان وقتها ما بين : 8-10 سنوات) : { أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا } [يوسف : 8] .
ج- لتواجد يوسف الدائم مع أبيه وعدم قيامه بالرعي مع إخوته : { قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ } [يوسف : 13] .
* الأدب النبوي في رد المكائد إلى الشيطان : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ } [يوسف : 5] .
* النبوءة :
أ- ببشارة النبوة : { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } [يوسف : 6] .
ب- وكذا علم تفسير الأحلام : { وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } [يوسف : 6] .
ج- وإتمام نعمة النبوة على آل يعقوب وختماً بيوسف : { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ } [يوسف : 6] .
* الإيحاء لأبنائه بالذئب : { قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } [يوسف : 13] .
* موقف يعقوب من محنة يوسف عليهما السلام :
أ- فراسة المؤمن : { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً } .(1/93)
ب- الاسترجاع والتسليم بقضاء الله والاستعانة بالله عند الابتلاء : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ } [يوسف : 18]
ج- تم تفويض الأمر لله : { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [يوسف : 64]، أي فالله خير حافظاً ليوسف من كل مكروه .
* محنة المجاعة :
أ- تقرير حقيقة الحسد وأخذ الحيطة للوقاية منه : { وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } [يوسف : 67] .
ب- ثم ترك النتائج لله : { وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } [يوسف : 67]
ج- إحاطة يعقوب عليه السلام مسبقاً بالأحداث : { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ } [يوسف : 68] .
د- صدق إحساس يعقوب بعودة يوسف وأخيه : { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً } [يوسف : 83] .
* محنة العمى : { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [يوسف : 84] .
ملاحظات :
/1/ - العلاقة بين الانفعالات النفسية والأمراض العضوية (كالمياه البيضاء والمياه الزرقاء) : { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ }، وكظم غيظ شديد { وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [يوسف : 84] .
/2/ - الركون إلى حصن الله المتين عند الشدائد : { قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [يوسف : 86] .
/3/ - سلوكيات الكفيف :
1. الاعتماد على حاسة اللمس : { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ } .
2. الظلام الحسي (العمى) والظلام المعنوي (عدم معرفة أي شيء عن يوسف) .
3. تأهيل الكفيف .
4. اقتران الإحباط واليأس بالكفر : { وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [يوسف : 87] .
5. رهافةحواس أخرى عند الكفيف، كاللمس والشم : { وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } [يوسف : 94] .
* معجزة استرجاع الإبصار : { فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً } [يوسف : 96] .
* تأكيد يعقوب عليه السلام على سبق علمه بالأحداث : { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [يوسف : 96] .
* نقاء وسماحة النبوة في كل الأحوال : { قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي } [يوسف : 98] .
ثانياً : يوسف عليه السلام :
تفرد الرؤيا عند الطفل يوسف عليه السلام : { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [يوسف : 4] .
1- عدم تناسب الرؤيا من المرحلة السنية للطفل .
2- جدية تلقي الرؤيا من الأب .
المحنة الأولى :
الجب : { فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ .. } [يوسف : 15] .
المحنة الثانية :
الاسترقاق : { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } [يوسف : 19]، { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } [يوسف : 20] . على اعتقاد أنه عبد آبق أو لخوفهم من سماسرة العزيز .
ملاحظات :
1- كيف وصل يوسف إلى عزيز مصر ؟ هل عن طريق البصاصين أم سماسرة تجار الرقيق الذين أحاطهم بطلبه ؟
2- فراسة عزيز ( وزير) مصر في يوسف : { وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } .
3- الإشارة ضمناً إلى قضية الإنجاب : { عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً }. نفس قول امرأة فرعون في موسى : { وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } [القصص : 9] .
4- التمكين ليوسف في الأرض : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ } [يوسف : 21] .
5- تعليم تفسير الأحلام، إما وحياً وإما عن طريق معلمين في القصر : { وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } [يوسف : 21] .
6- هبة الحكم والعلم : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [يوسف : 22] .
7- قانون رد الإحسان بالإحسان : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [يوسف : 22] .
المحنة الثالثة :
الغواية : { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [يوسف : 23] .
ملاحظات :(1/94)
1- هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟ (الأصل الطيب : { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } [يوسف : 23] .
2- دلالة ثانية للطب الشرعي في التاريخ : فحص ملابس المجني عليه : { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ } [يوسف : 25] .
المحنة الرابعة :
التحرش الجنسي الجماعي : { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } [يوسف : 33] .
المحنة الخامسة :
السجن ظلماً (الاحتياطي) : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } [يوسف : 35] .
ملاحظات :
1) واجب الدعوة إلى الله حتى في السجن : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [يوسف : 39] .
2) إذاً فاسأل الله : { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } [يوسف : 42] .
3) علاقة الشيطان بالنسيان عند الإنسان :
أ- { وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [الأنعام : 68].
ب-{ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } [يوسف : 42].
ج- { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ... } [الكهف : 63] .
د- { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ } [المجادلة : 19].
4) الإشارة إلى عدم أحقية العالِم (بكسر اللام الثانية) في حجب العلم أو الامتناع عن الفتوى لمن يطلبها .
5) اللين والأدب والحياء في التظلم إلى ولي الأمر : { فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } [يوسف : 50] .
6) واجب استجلاء الأمور من ولي الأمر : { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ } .
7) إعلان براءة يوسف : { قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ } .
8) اعتراف امرأة العزيز : { قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } [يوسف : 51] .
9) تقريب الملك ليوسف : { فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } [يوسف : 54] .
10) مؤهلات تولي الإمارة : { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف : 55] .
نعم الله على يوسف عليه السلام :
1) الخروج من السجن: { إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ... } [يوسف : 100] .
2) التمكين في الأرض: { فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } [يوسف : 54] . { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف : 55] .
3) لقاء الأشتات:
وقد يجمع الله شتيتين بعدما يظنان كل الظن أنهما لا يتلاقيا :
{ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } [يوسف : 58] .
4) الترغيب والترهيب لإخوانه :
أ- الترغيب : { وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } [يوسف : 59] .
ب-الترهيب : { فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ } [يوسف : 60] .
5) اعتراف إخوته ضمناً بنفس أسلوبهم الإجرامي الذي اتبعوه مع يوسف : { قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } [يوسف : 61] .
6) الجزاء من جنس العمل : { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ } [يوسف : 70] .
أ- العقاب النفسي جزاء جرائمهم السابقة .
ب- لتطبيق قوانين مصر على أخيه (الاسترقاق) .
ج- المكر الخير : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [الأنفال : 30] . وقوله تعالى : { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [آل عمران : 54] .
7) انتقال أبويه وإخوته من البدو إلى الحضر : { وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ } .
8) الصلح مع إخوته : { مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي } [يوسف : 100] .
9) الشكر له على النعم :
أ- الملك : { رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ } .
ب- علم تفسير الأحلام : { وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } .(1/95)
ج- نعمة الموت على الإسلام : { فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [يوسف : 101] .
ثالثاً : إخوة يوسف عليه السلام :
/1/ الجريمة الأولى في حق يوسف عليه السلام :
الشروع في قتل يوسف : وهي جريمة مكتملة الأركان، من حيث سبق الإصرار والترصد، قام فيها الجناة ( إخوة يوسف) بعقد النية والاتفاق الجنائي بينهم، ورسم الجريمة وتنفيذها في أخيهم يوسف ( عليه السلام) .
أولاً : الدافع للجريمة : { إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } [يوسف : 8] . لما ظنوه من قرب أبيهم من يوسف، وتدليله، وعدم جعله يشاركهم الرعي .
ثانياً : ارتباط السلوك الإجرامي بسوء الخلق : { إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [يوسف : 8] .
ثالثاً : الاتفاق الجنائي واستعراض الخيارات : { اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً } [يوسف : 9] .
رابعاً : نية التوبة بعد الجريمة : { وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } [يوسف : 9]، وبزوغ القاعدة الفقهية : ( الإصلاح بعد جريمة)، يقول تعالى : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [النساء : 17] .
خامساً : اختلاف درجات الإجرام والمسؤولية الجنائية بين المجرمين في الجريمة الواحدة : { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } [يوسف : 10] .
سادساً : خطوات تنفيذ الجريمة :
1) التمسكن للأب وإظهار الحب ليوسف : { قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } [يوسف : 11] .
2) الإغراء بالأكل واللعب ( احتياجات الطفل الأساسية) : { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } [يوسف : 12] .
3) والتعهد بالمحافظة عليه : { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [يوسف : 12] .
ملاحظات :
توصل إخوة يوسف بالغريزة إلى أحداث أبحاث التربية في تربية الطفل وهي :
1) أمانة المعلم على الطفل .
2) الرفق بالطفل عند النصح له .
3) توفير المأكل والملعب أهم من تلقي العلم في هذه السن الصغيرة ( ارجع إلى حديث الرسول : ( لاعبوهم على سبع، واضربهم على سبع، وصاحبهم على سبع )، والمثل الشعبي : ( اديه رمحه وما تدهش قمحة!) .
4) توفير السلام والحماية للطفل .
ملاحظات :
إخلال إخوة يوسف عليه السلام بجميع شروط العقد :
أ- تعهدوا بسلامة يوسف عليه السلام، وهم به متربصون .
ب- تعهدوا بالنصح له، وهم له كارهون .
ج- تعهدوا بالمحافظة عليه، وهم له مضيعون .
د- أخلوا بعهدهم في جعله يأكل ويلعب .
أكاذيب إخوة يوسف بعد الجريمة ( الحبكة الدرامية) :
1) الحضور عند العشاء يبكون ( الرعاة لا يتأخرون – عادة – بعد المغرب إلا لأمر جلل) : { وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ } [يوسف : 16] .
2) اختلاف الرواية : { قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ } [يوسف : 17] .
3) شكهم في أقوالهم : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } [يوسف : 17] .
4) أول دلالة للطب الشرعي في التاريخ : الدم الكذب : { وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } [يوسف : 18] .
/2/ الجريمة الثانية في حق يوسف عليه السلام :
1- القذف : { قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ } [يوسف : 77] .
2- معرفة يوسف بسلوك إخوته : { قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً } [يوسف : 77] .
3- اعتراف إخوة يوسف بفضله عليهم وسوء فعلهم : { قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ } [يوسف : 91] .
4- توبة إخوة يوسف واللجوء إلى أبيهم ليستغفر لهم : { قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } [يوسف : 97] .
رابعاً : بعض المظاهر السلوكية والاجتماعية للطبقة الراقية في سورة يوسف عليه السلام :
/1/ امرأة عزيز مصر ( أسوأ النساء حظاً في التاريخ) :
أ- صاحبة أول جريمة اغتصاب فاشلة تقوم بها امرأة لرجل في التاريخ .
ب- لم ترزق الذرية، وأوقعها حظها العاثر في غواية نبي معصوم .
ج- وصاحبة أخلد فضيحة، إذ صارت قرآناً يتلى حتى يوم الدين .
/2/ إن المرأة تأخذ المبادأة : { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ } [يوسف : 23] .
/3/ وإنها قد تكون الطرف الموجب : { وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } [يوسف : 23] .(1/96)
/4/ وقد تكون مغتصبة : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [يوسف : 24] . لكل فعل إنساني ثلاث مراحل : إدراك ووجدان ونزوع، ولقد أتمت امرأة العزيز الفعل بأكمله، ولكن الفعل وقف عند يوسف عند مرحلتي الإدراك والوجدان ( مراحل نفسية داخلية)، وتوقف عند النزوع (حيث لا حساب)، لأمر أظهره له الله تعالى : { لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [يوسف : 24] .
/5/ وقد تلجأ إلى المطاردة : { وَاسْتَبَقَا الْبَابَ } [يوسف : 25] .
/6/ وقد تلجأ إلى العنف لتحقيق مرادها : { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ } [يوسف : 25] .
/7/ وقد تستخدم الكذب وقول الزور عند افتضاح أمرها : { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [يوسف : 25] .
/8/ ولها من النفوذ ما يجعلها تقترح العقوبة : { إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [يوسف : 25] .
/9/ ضعف شخصية الزوج : (إما لضعف شخصيته أو لعجزه الجنسي أو الخوف من تأثير الفضيحة على مستقبله السياسي) وعدم المقدرة على توجيه الاتهام مباشرة إلى زوجته فعد تكشف إدانتها واللجوء إلى تعميم الاتهام إلى عموم جنس المرأة : { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [يوسف : 28] .
/10/ المساواة بين الجاني والمجني عليه، والهزل في توقيع العقاب : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ } [يوسف : 29] .
/11/ الفراغ وشيوع النميمة بين نساء هذه الطبقة وكثرة القيل والقال : { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً } [يوسف : 30] .
/12/ نقل الوشايات : { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } .
/13/ البذخ والتعود على إقامة الحفلات واتباع أصول الإتيكيت، من إرسال للدعوات وإعداد تدابير الحفل : { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً } .
/14/ تقدم فن الإتيكيت، وتقديم السرفيس لكل فرد في الأكل : { وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً } .
/15/ الجبروت في التعامل مع الرفيق والخدم : { وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } .
/16/ الدراية بالرجال وشدة الانبهار بهم والتمييز بين كريم المحتد وغيره : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } [يوسف : 31] .
/17/ المكاشفة بالفحش وعدم الخجل منه، ولكن داخل نفس الطبقة : { قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } [يوسف : 32] .
/19/ الإصرار على ممارسة الفاحشة والتهديد باستخدام النفوذ لتحقيقها : { وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ } [يوسف : 32] .
/20/ تلفيق التهم لأبرياء، حتى وإن ثبتت براءتهم : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } [يوسف : 35] .
/21/ الفساد السياسي ( التعتيم على الجرائم وعدم رفعها إلى الملك) : { قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } [يوسف : 50] . { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ } .
/22/ الاعتراف بالحق حينما تتأزم الأمور : { قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } [يوسف : 51] .
/23/ الاعتراف فيه راحة لجميع الأطراف : { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } [يوسف : 52] . فإن كان القول لامرأة العزيز، ففي ذلك راحة لزوجها من شك الخيانة ورفع لرأسه أمام الملأ، وإن كان القول ليوسف عليه السلام، ففه رد لجميل عزيز مصر الذي آواه وأكرم مثواه .
/24/ أغفل القرآن الكريم حكم الملك في هذه القضية : لأسباب لا يعلمها إلا الله، وتجاوزه إلى أمره ليوسف أن يكون من أفراد الحكم { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } [يوسف : 54] .
خامساً : العلاج الواقي من الوقوع في الفواحش داخل البيوت من خلال سورة يوسف عليه السلام :
/1/ - الحذر من الإقامة الدائمة للخدم داخل البيوت، حتى ولو كانوا قد تربوا فيها صغاراً .
/2/ - عدم مشروعية التبني .
/3/ - عدم مشروعية الخلوة بالخدم .
/4/ - الحذر من الفراغ والنميمة وكثرة القيل والقال .
/5/ - غض البصر للرجل والمرأة، على حد سواء .
/6/ - الحذر من المجالس السيئة .
سادساً : القوانين الإلهية الأزلية في سورة يوسف :
/1/ - { إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ } [يوسف : 5].(1/97)
/2/ - { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [يوسف : 21].
/3/ - { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [يوسف : 22].
/4/ - { إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [يوسف : 23].
/5/ - { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [يوسف : 24] .
/6/ - { وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } [يوسف : 52].
/7/ - { إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } [يوسف : 53].
/8/ - { وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف : 56].
/9/ - { وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [يوسف : 57].
/10/ -{ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [يوسف : 64].
/11/ -{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ... } [يوسف : 67].
/12/ -{ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف : 76] .
/13/ -{ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [يوسف : 87] .
/14/ -{ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف : 90] .
/15/ -{ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [يوسف : 110] .
أ . د / صلاح أحمد حسن
أستاذ العيون بكلية الطب جامعة أسيوط
• ملاحظات عامة حول سورة يوسف عليه السلام :
/1/ السورة ذكرت في كتاب الله كاملة بنفس اسم بطل أحداثها – يوسف عليه السلام – لأن :
1- خط القصة الدرامي الأساسي متصل ...
2- القصة مكتملة البناء الدرامي، من حيث التمهيد، ثم الثروة، ثم الانفراج ...
3- وقائع القصة وأماكن حدوثها محددة ...
4- أحداثها لا تمثل صراعاً عقائدياً ( مثل فرعون / موسى) , ولكن صراعاً سلوكياً داخل أفراد الأسرة الواحدة ..
5- ولأن شخصيتها المحورية والثانوية معدودة ( يعقوب / يوسف / الإخوة / عزيز مصر وامرأته، صاحبا السجن / الملك) .
/2/ الإشارة القرآنية المعجزة إلى ذكر القصة في كتاب الله بالعربية ( لكون أبطالها لا يتكلمون العربية)، لتكون وقائعها، والعبر المستخلصة منها، في غاية الوضوح : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [يوسف : 2] .
/3/ ولأن الهدف الأساسي من سورة يوسف هو العظة والعبرة، فقد حوت العديد من قواعد العلوم : طب، علم نفس، زراعة، إدارة، اجتماع، قانون، تشريع، عقيدة، وغيرها ..
/4/ السورة بلغت الإعجاز في النهاية الدرامية : فبعض الشخصيات ذكرت في نهاية مطافها ( كيعقوب وإخوة يوسف)، وبعض النهايات تركت مفتوحة (كيوسف وامرأة العزيز) .
/5/ يجب ملاحظة أن إخوة يوسف – برغم كل ما ارتكبوه من جرائم – كانوا مسلمين، لقوله تعالى : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة : 133] .
• لماذا هو أحسن القصص ؟
يقول الله تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ... } [يوسف : 3]، فلماذا هو أحسن القصص ؟
/1/ - لأنه من عند الله تعالى رب العالمين : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ } .
/2/ - ولأنه عبرة لأصحاب العقول : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي } [يوسف : 111] .
/3/ - ولأن فيه صدق الحديث، والحدث، والأحداث : { مَا كَانَ حَدِيثاً ... } [يوسف : 111] .
/4/ - ولأن فيه التفصيل والإحاطة بجوانب كثيرة ( اجتماع – علم نفس – طب – قانون – اقتصاد – سياسة – غدارة – دين – أخلاق) : { مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى } [يوسف : 111] .
/5/ - ثم الهدى والرحمة للمؤمنين : { ... وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [يوسف : 111] .
أولاً : يعقوب عليه السلام :
* تحذير يوسف عليه السلام من قصّ رؤياه على إخوته : { قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ } [يوسف : 5]، لأسباب عديدة :
أ- لأن الإخوة ليسوا أشقاء : { إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ } .
ب- لتدلل يوسف على أبيه الشيخ الكبير ( عمر يوسف كان وقتها ما بين : 8-10 سنوات) : { أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا } [يوسف : 8] .
ج- لتواجد يوسف الدائم مع أبيه وعدم قيامه بالرعي مع إخوته : { قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ } [يوسف : 13] .
* الأدب النبوي في رد المكائد إلى الشيطان : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ } [يوسف : 5] .
* النبوءة :
أ- ببشارة النبوة : { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } [يوسف : 6] .(1/98)
ب- وكذا علم تفسير الأحلام : { وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } [يوسف : 6] .
ج- وإتمام نعمة النبوة على آل يعقوب وختماً بيوسف : { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ } [يوسف : 6] .
* الإيحاء لأبنائه بالذئب : { قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } [يوسف : 13] .
* موقف يعقوب من محنة يوسف عليهما السلام :
أ- فراسة المؤمن : { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً } .
ب- الاسترجاع والتسليم بقضاء الله والاستعانة بالله عند الابتلاء : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ } [يوسف : 18]
ج- تم تفويض الأمر لله : { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [يوسف : 64]، أي فالله خير حافظاً ليوسف من كل مكروه .
* محنة المجاعة :
أ- تقرير حقيقة الحسد وأخذ الحيطة للوقاية منه : { وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } [يوسف : 67] .
ب- ثم ترك النتائج لله : { وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } [يوسف : 67] .
ج- إحاطة يعقوب عليه السلام مسبقاً بالأحداث : { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ } [يوسف : 68] .
د- صدق إحساس يعقوب بعودة يوسف وأخيه : { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً } [يوسف : 83] .
* محنة العمى : { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [يوسف : 84] .
ملاحظات :
/1/ - العلاقة بين الانفعالات النفسية والأمراض العضوية (كالمياه البيضاء والمياه الزرقاء) : { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ }، وكظم غيظ شديد { وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [يوسف : 84] .
/2/ - الركون إلى حصن الله المتين عند الشدائد : { قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [يوسف : 86] .
/3/ - سلوكيات الكفيف :
1. الاعتماد على حاسة اللمس : { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ } .
2. الظلام الحسي (العمى) والظلام المعنوي (عدم معرفة أي شيء عن يوسف) .
3. تأهيل الكفيف .
4. اقتران الإحباط واليأس بالكفر : { وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [يوسف : 87] .
5. رهافةحواس أخرى عند الكفيف، كاللمس والشم : { وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } [يوسف : 94] .
* معجزة استرجاع الإبصار : { فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً } [يوسف : 96] .
* تأكيد يعقوب عليه السلام على سبق علمه بالأحداث : { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [يوسف : 96] .
* نقاء وسماحة النبوة في كل الأحوال : { قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي } [يوسف : 98] .
ثانياً : يوسف عليه السلام :
تفرد الرؤيا عند الطفل يوسف عليه السلام : { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [يوسف : 4] .
1- عدم تناسب الرؤيا من المرحلة السنية للطفل .
2- جدية تلقي الرؤيا من الأب .
المحنة الأولى :
الجب : { فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ .. } [يوسف : 15] .
المحنة الثانية :
الاسترقاق : { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } [يوسف : 19]، { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } [يوسف : 20] . على اعتقاد أنه عبد آبق أو لخوفهم من سماسرة العزيز .
ملاحظات :
1- كيف وصل يوسف إلى عزيز مصر ؟ هل عن طريق البصاصين أم سماسرة تجار الرقيق الذين أحاطهم بطلبه ؟
2- فراسة عزيز ( وزير) مصر في يوسف : { وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } .
3- الإشارة ضمناً إلى قضية الإنجاب : { عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً }. نفس قول امرأة فرعون في موسى : { وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } [القصص : 9] .
4- التمكين ليوسف في الأرض : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ } [يوسف : 21] .(1/99)
5- تعليم تفسير الأحلام، إما وحياً وإما عن طريق معلمين في القصر : { وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } [يوسف : 21] .
6- هبة الحكم والعلم : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [يوسف : 22] .
7- قانون رد الإحسان بالإحسان : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [يوسف : 22] .
المحنة الثالثة :
الغواية : { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [يوسف : 23] .
ملاحظات :
1- هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟ (الأصل الطيب : { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } [يوسف : 23] .
2- دلالة ثانية للطب الشرعي في التاريخ : فحص ملابس المجني عليه : { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ } [يوسف : 25] .
المحنة الرابعة :
التحرش الجنسي الجماعي : { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } [يوسف : 33] .
المحنة الخامسة :
السجن ظلماً (الاحتياطي) : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } [يوسف : 35] .
ملاحظات :
1) واجب الدعوة إلى الله حتى في السجن : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [يوسف : 39] .
2) إذاً فاسأل الله : { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } [يوسف : 42] .
3) علاقة الشيطان بالنسيان عند الإنسان :
أ- { وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [الأنعام : 68].
ب-{ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } [يوسف : 42].
ج- { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ... } [الكهف : 63] .
د- { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ } [المجادلة : 19].
4) الإشارة إلى عدم أحقية العالِم (بكسر اللام الثانية) في حجب العلم أو الامتناع عن الفتوى لمن يطلبها .
5) اللين والأدب والحياء في التظلم إلى ولي الأمر : { فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } [يوسف : 50] .
6) واجب استجلاء الأمور من ولي الأمر : { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ } .
7) إعلان براءة يوسف : { قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ } .
8) اعتراف امرأة العزيز : { قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } [يوسف : 51] .
9) تقريب الملك ليوسف : { فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } [يوسف : 54] .
10) مؤهلات تولي الإمارة : { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف : 55] .
نعم الله على يوسف عليه السلام :
1) الخروج من السجن: { إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ... } [يوسف : 100] .
2) التمكين في الأرض: { فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } [يوسف : 54] . { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف : 55] .
3) لقاء الأشتات:
وقد يجمع الله شتيتين بعدما يظنان كل الظن أنهما لا يتلاقيا :
{ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } [يوسف : 58] .
4) الترغيب والترهيب لإخوانه :
أ- الترغيب : { وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } [يوسف : 59] .
ب-الترهيب : { فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ } [يوسف : 60] .
5) اعتراف إخوته ضمناً بنفس أسلوبهم الإجرامي الذي اتبعوه مع يوسف : { قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } [يوسف : 61] .
6) الجزاء من جنس العمل : { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ } [يوسف : 70] .
أ- العقاب النفسي جزاء جرائمهم السابقة .
ب- لتطبيق قوانين مصر على أخيه (الاسترقاق) .(1/100)
ج- المكر الخير : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [الأنفال : 30] . وقوله تعالى : { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [آل عمران : 54] .
7) انتقال أبويه وإخوته من البدو إلى الحضر : { وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ } .
8) الصلح مع إخوته : { مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي } [يوسف : 100] .
9) الشكر له على النعم :
أ- الملك : { رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ } .
ب- علم تفسير الأحلام : { وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } .
ج- نعمة الموت على الإسلام : { فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [يوسف : 101] .
ثالثاً : إخوة يوسف عليه السلام :
/1/ الجريمة الأولى في حق يوسف عليه السلام :
الشروع في قتل يوسف : وهي جريمة مكتملة الأركان، من حيث سبق الإصرار والترصد، قام فيها الجناة ( إخوة يوسف) بعقد النية والاتفاق الجنائي بينهم، ورسم الجريمة وتنفيذها في أخيهم يوسف ( عليه السلام) .
أولاً : الدافع للجريمة : { إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } [يوسف : 8] . لما ظنوه من قرب أبيهم من يوسف، وتدليله، وعدم جعله يشاركهم الرعي .
ثانياً : ارتباط السلوك الإجرامي بسوء الخلق : { إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [يوسف : 8] .
ثالثاً : الاتفاق الجنائي واستعراض الخيارات : { اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً } [يوسف : 9] .
رابعاً : نية التوبة بعد الجريمة : { وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } [يوسف : 9]، وبزوغ القاعدة الفقهية : ( الإصلاح بعد جريمة)، يقول تعالى : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [النساء : 17] .
خامساً : اختلاف درجات الإجرام والمسؤولية الجنائية بين المجرمين في الجريمة الواحدة : { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } [يوسف : 10] .
سادساً : خطوات تنفيذ الجريمة :
1) التمسكن للأب وإظهار الحب ليوسف : { قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } [يوسف : 11] .
2) الإغراء بالأكل واللعب ( احتياجات الطفل الأساسية) : { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } [يوسف : 12] .
3) والتعهد بالمحافظة عليه : { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [يوسف : 12] .
ملاحظات :
توصل إخوة يوسف بالغريزة إلى أحداث أبحاث التربية في تربية الطفل وهي :
1) أمانة المعلم على الطفل .
2) الرفق بالطفل عند النصح له .
3) توفير المأكل والملعب أهم من تلقي العلم في هذه السن الصغيرة ( ارجع إلى حديث الرسول : ( لاعبوهم على سبع، واضربهم على سبع، وصاحبهم على سبع )، والمثل الشعبي : ( اديه رمحه وما تدهش قمحة!) .
4) توفير السلام والحماية للطفل .
ملاحظات :
إخلال إخوة يوسف عليه السلام بجميع شروط العقد :
أ- تعهدوا بسلامة يوسف عليه السلام، وهم به متربصون .
ب- تعهدوا بالنصح له، وهم له كارهون .
ج- تعهدوا بالمحافظة عليه، وهم له مضيعون .
د- أخلوا بعهدهم في جعله يأكل ويلعب .
أكاذيب إخوة يوسف بعد الجريمة ( الحبكة الدرامية) :
1) الحضور عند العشاء يبكون ( الرعاة لا يتأخرون – عادة – بعد المغرب إلا لأمر جلل) : { وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ } [يوسف : 16] .
2) اختلاف الرواية : { قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ } [يوسف : 17] .
3) شكهم في أقوالهم : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } [يوسف : 17] .
4) أول دلالة للطب الشرعي في التاريخ : الدم الكذب : { وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } [يوسف : 18] .
/2/ الجريمة الثانية في حق يوسف عليه السلام :
1- القذف : { قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ } [يوسف : 77] .
2- معرفة يوسف بسلوك إخوته : { قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً } [يوسف : 77] .
3- اعتراف إخوة يوسف بفضله عليهم وسوء فعلهم : { قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ } [يوسف : 91] .
4- توبة إخوة يوسف واللجوء إلى أبيهم ليستغفر لهم : { قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } [يوسف : 97] .
رابعاً : بعض المظاهر السلوكية والاجتماعية للطبقة الراقية في سورة يوسف عليه السلام :(1/101)
/1/ امرأة عزيز مصر ( أسوأ النساء حظاً في التاريخ) :
أ- صاحبة أول جريمة اغتصاب فاشلة تقوم بها امرأة لرجل في التاريخ .
ب- لم ترزق الذرية، وأوقعها حظها العاثر في غواية نبي معصوم .
ج- وصاحبة أخلد فضيحة، إذ صارت قرآناً يتلى حتى يوم الدين .
/2/ إن المرأة تأخذ المبادأة : { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ } [يوسف : 23] .
/3/ وإنها قد تكون الطرف الموجب : { وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } [يوسف : 23]
/4/ وقد تكون مغتصبة : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [يوسف : 24] . لكل فعل إنساني ثلاث مراحل : إدراك ووجدان ونزوع، ولقد أتمت امرأة العزيز الفعل بأكمله، ولكن الفعل وقف عند يوسف عند مرحلتي الإدراك والوجدان ( مراحل نفسية داخلية)، وتوقف عند النزوع (حيث لا حساب)، لأمر أظهره له الله تعالى : { لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [يوسف : 24] .
/5/ وقد تلجأ إلى المطاردة : { وَاسْتَبَقَا الْبَابَ } [يوسف : 25] .
/6/ وقد تلجأ إلى العنف لتحقيق مرادها : { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ } [يوسف : 25] .
/7/ وقد تستخدم الكذب وقول الزور عند افتضاح أمرها : { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [يوسف : 25] .
/8/ ولها من النفوذ ما يجعلها تقترح العقوبة : { إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [يوسف : 25]
/9/ ضعف شخصية الزوج : (إما لضعف شخصيته أو لعجزه الجنسي أو الخوف من تأثير الفضيحة على مستقبله السياسي) وعدم المقدرة على توجيه الاتهام مباشرة إلى زوجته فعد تكشف إدانتها واللجوء إلى تعميم الاتهام إلى عموم جنس المرأة : { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [يوسف : 28] .
/10/ المساواة بين الجاني والمجني عليه، والهزل في توقيع العقاب : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ } [يوسف : 29] .
/11/ الفراغ وشيوع النميمة بين نساء هذه الطبقة وكثرة القيل والقال : { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً } [يوسف : 30] .
/12/ نقل الوشايات : { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } .
/13/ البذخ والتعود على إقامة الحفلات واتباع أصول الإتيكيت، من إرسال للدعوات وإعداد تدابير الحفل : { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً } .
/14/ تقدم فن الإتيكيت، وتقديم السرفيس لكل فرد في الأكل : { وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً } .
/15/ الجبروت في التعامل مع الرفيق والخدم : { وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } .
/16/ الدراية بالرجال وشدة الانبهار بهم والتمييز بين كريم المحتد وغيره : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } [يوسف : 31] .
/17/ المكاشفة بالفحش وعدم الخجل منه، ولكن داخل نفس الطبقة : { قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } [يوسف : 32] .
/19/ الإصرار على ممارسة الفاحشة والتهديد باستخدام النفوذ لتحقيقها : { وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ } [يوسف : 32] .
/20/ تلفيق التهم لأبرياء، حتى وإن ثبتت براءتهم : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } [يوسف : 35] .
/21/ الفساد السياسي ( التعتيم على الجرائم وعدم رفعها إلى الملك) : { قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } [يوسف : 50] . { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ } .
/22/ الاعتراف بالحق حينما تتأزم الأمور : { قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } [يوسف : 51] .
/23/ الاعتراف فيه راحة لجميع الأطراف : { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } [يوسف : 52] . فإن كان القول لامرأة العزيز، ففي ذلك راحة لزوجها من شك الخيانة ورفع لرأسه أمام الملأ، وإن كان القول ليوسف عليه السلام، ففه رد لجميل عزيز مصر الذي آواه وأكرم مثواه .
/24/ أغفل القرآن الكريم حكم الملك في هذه القضية : لأسباب لا يعلمها إلا الله، وتجاوزه إلى أمره ليوسف أن يكون من أفراد الحكم { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } [يوسف : 54]
خامساً : العلاج الواقي من الوقوع في الفواحش داخل البيوت من خلال سورة يوسف عليه السلام :(1/102)
/1/ - الحذر من الإقامة الدائمة للخدم داخل البيوت، حتى ولو كانوا قد تربوا فيها صغاراً .
/2/ - عدم مشروعية التبني .
/3/ - عدم مشروعية الخلوة بالخدم .
/4/ - الحذر من الفراغ والنميمة وكثرة القيل والقال .
/5/ - غض البصر للرجل والمرأة، على حد سواء .
/6/ - الحذر من المجالس السيئة .
سادساً : القوانين الإلهية الأزلية في سورة يوسف :
/1/ - { إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ } [يوسف : 5].
/2/ - { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [يوسف : 21].
/3/ - { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [يوسف : 22].
/4/ - { إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [يوسف : 23].
/5/ - { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [يوسف : 24] .
/6/ - { وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } [يوسف : 52].
/7/ - { إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } [يوسف : 53].
/8/ - { وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف : 56].
/9/ - { وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [يوسف : 57].
/10/ -{ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [يوسف : 64].
/11/ -{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ... } [يوسف : 67].
/12/ -{ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف : 76] .
/13/ -{ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [يوسف : 87] .
/14/ -{ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف : 90] .
/15/ -{ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [يوسف : 110] .
أ . د / صلاح أحمد حسن
أستاذ العيون بكلية الطب جامعة أسيوط
• ملاحظات عامة حول سورة يوسف عليه السلام :
/1/ السورة ذكرت في كتاب الله كاملة بنفس اسم بطل أحداثها – يوسف عليه السلام – لأن :
1- خط القصة الدرامي الأساسي متصل ...
2- القصة مكتملة البناء الدرامي، من حيث التمهيد، ثم الثروة، ثم الانفراج ...
3- وقائع القصة وأماكن حدوثها محددة ...
4- أحداثها لا تمثل صراعاً عقائدياً ( مثل فرعون / موسى) , ولكن صراعاً سلوكياً داخل أفراد الأسرة الواحدة ..
5- ولأن شخصيتها المحورية والثانوية معدودة ( يعقوب / يوسف / الإخوة / عزيز مصر وامرأته، صاحبا السجن / الملك) .
/2/ الإشارة القرآنية المعجزة إلى ذكر القصة في كتاب الله بالعربية ( لكون أبطالها لا يتكلمون العربية)، لتكون وقائعها، والعبر المستخلصة منها، في غاية الوضوح : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [يوسف : 2] .
/3/ ولأن الهدف الأساسي من سورة يوسف هو العظة والعبرة، فقد حوت العديد من قواعد العلوم : طب، علم نفس، زراعة، إدارة، اجتماع، قانون، تشريع، عقيدة، وغيرها ..
/4/ السورة بلغت الإعجاز في النهاية الدرامية : فبعض الشخصيات ذكرت في نهاية مطافها ( كيعقوب وإخوة يوسف)، وبعض النهايات تركت مفتوحة (كيوسف وامرأة العزيز) .
/5/ يجب ملاحظة أن إخوة يوسف – برغم كل ما ارتكبوه من جرائم – كانوا مسلمين، لقوله تعالى : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة : 133] .
• لماذا هو أحسن القصص ؟
يقول الله تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ... } [يوسف : 3]، فلماذا هو أحسن القصص ؟
/1/ - لأنه من عند الله تعالى رب العالمين : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ } .
/2/ - ولأنه عبرة لأصحاب العقول : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي } [يوسف : 111]
/3/ - ولأن فيه صدق الحديث، والحدث، والأحداث : { مَا كَانَ حَدِيثاً ... } [يوسف : 111] .
/4/ - ولأن فيه التفصيل والإحاطة بجوانب كثيرة ( اجتماع – علم نفس – طب – قانون – اقتصاد – سياسة – غدارة – دين – أخلاق) : { مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى } [يوسف : 111] .
/5/ - ثم الهدى والرحمة للمؤمنين : { ... وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [يوسف : 111] .
أولاً : يعقوب عليه السلام :
* تحذير يوسف عليه السلام من قصّ رؤياه على إخوته : { قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ } [يوسف : 5]، لأسباب عديدة :
أ- لأن الإخوة ليسوا أشقاء : { إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ } .
ب- لتدلل يوسف على أبيه الشيخ الكبير ( عمر يوسف كان وقتها ما بين : 8-10 سنوات) : { أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا } [يوسف : 8] .(1/103)
ج- لتواجد يوسف الدائم مع أبيه وعدم قيامه بالرعي مع إخوته : { قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ } [يوسف : 13] .
* الأدب النبوي في رد المكائد إلى الشيطان : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ } [يوسف : 5] .
* النبوءة :
أ- ببشارة النبوة : { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } [يوسف : 6] .
ب- وكذا علم تفسير الأحلام : { وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } [يوسف : 6] .
ج- وإتمام نعمة النبوة على آل يعقوب وختماً بيوسف : { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ } [يوسف : 6] .
* الإيحاء لأبنائه بالذئب : { قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } [يوسف : 13] .
* موقف يعقوب من محنة يوسف عليهما السلام :
أ- فراسة المؤمن : { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً } .
ب- الاسترجاع والتسليم بقضاء الله والاستعانة بالله عند الابتلاء : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ } [يوسف : 18]
ج- تم تفويض الأمر لله : { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [يوسف : 64]، أي فالله خير حافظاً ليوسف من كل مكروه .
* محنة المجاعة :
أ- تقرير حقيقة الحسد وأخذ الحيطة للوقاية منه : { وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } [يوسف : 67] .
ب- ثم ترك النتائج لله : { وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } [يوسف : 67]
ج- إحاطة يعقوب عليه السلام مسبقاً بالأحداث : { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ } [يوسف : 68] .
د- صدق إحساس يعقوب بعودة يوسف وأخيه : { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً } [يوسف : 83] .
* محنة العمى : { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [يوسف : 84] .
ملاحظات :
/1/ - العلاقة بين الانفعالات النفسية والأمراض العضوية (كالمياه البيضاء والمياه الزرقاء) : { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ }، وكظم غيظ شديد { وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [يوسف : 84] .
/2/ - الركون إلى حصن الله المتين عند الشدائد : { قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [يوسف : 86] .
/3/ - سلوكيات الكفيف :
1. الاعتماد على حاسة اللمس : { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ } .
2. الظلام الحسي (العمى) والظلام المعنوي (عدم معرفة أي شيء عن يوسف) .
3. تأهيل الكفيف .
4. اقتران الإحباط واليأس بالكفر : { وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [يوسف : 87] .
5. رهافةحواس أخرى عند الكفيف، كاللمس والشم : { وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } [يوسف : 94] .
* معجزة استرجاع الإبصار : { فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً } [يوسف : 96] .
* تأكيد يعقوب عليه السلام على سبق علمه بالأحداث : { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [يوسف : 96] .
* نقاء وسماحة النبوة في كل الأحوال : { قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي } [يوسف : 98] .
ثانياً : يوسف عليه السلام :
تفرد الرؤيا عند الطفل يوسف عليه السلام : { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [يوسف : 4] .
1- عدم تناسب الرؤيا من المرحلة السنية للطفل .
2- جدية تلقي الرؤيا من الأب .
المحنة الأولى :
الجب : { فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ .. } [يوسف : 15] .
المحنة الثانية :
الاسترقاق : { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } [يوسف : 19]، { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } [يوسف : 20] . على اعتقاد أنه عبد آبق أو لخوفهم من سماسرة العزيز .
ملاحظات :
1- كيف وصل يوسف إلى عزيز مصر ؟ هل عن طريق البصاصين أم سماسرة تجار الرقيق الذين أحاطهم بطلبه ؟
2- فراسة عزيز ( وزير) مصر في يوسف : { وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ }(1/104)
3- الإشارة ضمناً إلى قضية الإنجاب : { عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً }. نفس قول امرأة فرعون في موسى : { وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } [القصص : 9] .
4- التمكين ليوسف في الأرض : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ } [يوسف : 21] .
5- تعليم تفسير الأحلام، إما وحياً وإما عن طريق معلمين في القصر : { وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } [يوسف : 21] .
6- هبة الحكم والعلم : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [يوسف : 22] .
7- قانون رد الإحسان بالإحسان : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [يوسف : 22] .
المحنة الثالثة :
الغواية : { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [يوسف : 23] .
ملاحظات :
1- هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟ (الأصل الطيب : { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } [يوسف : 23] .
2- دلالة ثانية للطب الشرعي في التاريخ : فحص ملابس المجني عليه : { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ } [يوسف : 25] .
المحنة الرابعة :
التحرش الجنسي الجماعي : { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } [يوسف : 33]
المحنة الخامسة :
السجن ظلماً (الاحتياطي) : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } [يوسف : 35] .
ملاحظات :
1) واجب الدعوة إلى الله حتى في السجن : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [يوسف : 39] .
2) إذاً فاسأل الله : { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } [يوسف : 42] .
3) علاقة الشيطان بالنسيان عند الإنسان :
أ- { وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [الأنعام : 68].
ب-{ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } [يوسف : 42].
ج- { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ... } [الكهف : 63] .
د- { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ } [المجادلة : 19].
4) الإشارة إلى عدم أحقية العالِم (بكسر اللام الثانية) في حجب العلم أو الامتناع عن الفتوى لمن يطلبها .
5) اللين والأدب والحياء في التظلم إلى ولي الأمر : { فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } [يوسف : 50] .
6) واجب استجلاء الأمور من ولي الأمر : { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ } .
7) إعلان براءة يوسف : { قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ } .
8) اعتراف امرأة العزيز : { قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } [يوسف : 51] .
9) تقريب الملك ليوسف : { فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } [يوسف : 54] .
10) مؤهلات تولي الإمارة : { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف : 55] .
نعم الله على يوسف عليه السلام :
1) الخروج من السجن: { إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ... } [يوسف : 100] .
2) التمكين في الأرض: { فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } [يوسف : 54] . { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف : 55] .
3) لقاء الأشتات:
وقد يجمع الله شتيتين بعدما يظنان كل الظن أنهما لا يتلاقيا :
{ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } [يوسف : 58] .
4) الترغيب والترهيب لإخوانه :
أ- الترغيب : { وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } [يوسف : 59] .
ب-الترهيب : { فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ } [يوسف : 60] .(1/105)
5) اعتراف إخوته ضمناً بنفس أسلوبهم الإجرامي الذي اتبعوه مع يوسف : { قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } [يوسف : 61] .
6) الجزاء من جنس العمل : { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ } [يوسف : 70] .
أ- العقاب النفسي جزاء جرائمهم السابقة .
ب- لتطبيق قوانين مصر على أخيه (الاسترقاق) .
ج- المكر الخير : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [الأنفال : 30] . وقوله تعالى : { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [آل عمران : 54] .
7) انتقال أبويه وإخوته من البدو إلى الحضر : { وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ } .
8) الصلح مع إخوته : { مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي } [يوسف : 100] .
9) الشكر له على النعم :
أ- الملك : { رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ } .
ب- علم تفسير الأحلام : { وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } .
ج- نعمة الموت على الإسلام : { فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [يوسف : 101] .
ثالثاً : إخوة يوسف عليه السلام :
/1/ الجريمة الأولى في حق يوسف عليه السلام :
الشروع في قتل يوسف : وهي جريمة مكتملة الأركان، من حيث سبق الإصرار والترصد، قام فيها الجناة ( إخوة يوسف) بعقد النية والاتفاق الجنائي بينهم، ورسم الجريمة وتنفيذها في أخيهم يوسف ( عليه السلام) .
أولاً : الدافع للجريمة : { إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } [يوسف : 8] . لما ظنوه من قرب أبيهم من يوسف، وتدليله، وعدم جعله يشاركهم الرعي .
ثانياً : ارتباط السلوك الإجرامي بسوء الخلق : { إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [يوسف : 8] .
ثالثاً : الاتفاق الجنائي واستعراض الخيارات : { اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً } [يوسف : 9] .
رابعاً : نية التوبة بعد الجريمة : { وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } [يوسف : 9]، وبزوغ القاعدة الفقهية : ( الإصلاح بعد جريمة)، يقول تعالى : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [النساء : 17] .
خامساً : اختلاف درجات الإجرام والمسؤولية الجنائية بين المجرمين في الجريمة الواحدة : { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } [يوسف : 10] .
سادساً : خطوات تنفيذ الجريمة :
1) التمسكن للأب وإظهار الحب ليوسف : { قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } [يوسف : 11] .
2) الإغراء بالأكل واللعب ( احتياجات الطفل الأساسية) : { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } [يوسف : 12] .
3) والتعهد بالمحافظة عليه : { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [يوسف : 12] .
ملاحظات :
توصل إخوة يوسف بالغريزة إلى أحداث أبحاث التربية في تربية الطفل وهي :
1) أمانة المعلم على الطفل .
2) الرفق بالطفل عند النصح له .
3) توفير المأكل والملعب أهم من تلقي العلم في هذه السن الصغيرة ( ارجع إلى حديث الرسول : ( لاعبوهم على سبع، واضربهم على سبع، وصاحبهم على سبع )، والمثل الشعبي : ( اديه رمحه وما تدهش قمحة!) .
4) توفير السلام والحماية للطفل .
ملاحظات :
إخلال إخوة يوسف عليه السلام بجميع شروط العقد :
أ- تعهدوا بسلامة يوسف عليه السلام، وهم به متربصون .
ب- تعهدوا بالنصح له، وهم له كارهون .
ج- تعهدوا بالمحافظة عليه، وهم له مضيعون .
د- أخلوا بعهدهم في جعله يأكل ويلعب .
أكاذيب إخوة يوسف بعد الجريمة ( الحبكة الدرامية) :
1) الحضور عند العشاء يبكون ( الرعاة لا يتأخرون – عادة – بعد المغرب إلا لأمر جلل) : { وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ } [يوسف : 16] .
2) اختلاف الرواية : { قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ } [يوسف : 17] .
3) شكهم في أقوالهم : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } [يوسف : 17] .
4) أول دلالة للطب الشرعي في التاريخ : الدم الكذب : { وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } [يوسف : 18] .
/2/ الجريمة الثانية في حق يوسف عليه السلام :
1- القذف : { قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ } [يوسف : 77] .
2- معرفة يوسف بسلوك إخوته : { قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً } [يوسف : 77] .(1/106)
3- اعتراف إخوة يوسف بفضله عليهم وسوء فعلهم : { قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ } [يوسف : 91] .
4- توبة إخوة يوسف واللجوء إلى أبيهم ليستغفر لهم : { قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } [يوسف : 97] .
رابعاً : بعض المظاهر السلوكية والاجتماعية للطبقة الراقية في سورة يوسف عليه السلام :
/1/ امرأة عزيز مصر ( أسوأ النساء حظاً في التاريخ) :
أ- صاحبة أول جريمة اغتصاب فاشلة تقوم بها امرأة لرجل في التاريخ .
ب- لم ترزق الذرية، وأوقعها حظها العاثر في غواية نبي معصوم .
ج- وصاحبة أخلد فضيحة، إذ صارت قرآناً يتلى حتى يوم الدين .
/2/ إن المرأة تأخذ المبادأة : { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ } [يوسف : 23] .
/3/ وإنها قد تكون الطرف الموجب : { وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } [يوسف : 23]
/4/ وقد تكون مغتصبة : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [يوسف : 24] . لكل فعل إنساني ثلاث مراحل : إدراك ووجدان ونزوع، ولقد أتمت امرأة العزيز الفعل بأكمله، ولكن الفعل وقف عند يوسف عند مرحلتي الإدراك والوجدان ( مراحل نفسية داخلية)، وتوقف عند النزوع (حيث لا حساب)، لأمر أظهره له الله تعالى : { لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [يوسف : 24] .
/5/ وقد تلجأ إلى المطاردة : { وَاسْتَبَقَا الْبَابَ } [يوسف : 25] .
/6/ وقد تلجأ إلى العنف لتحقيق مرادها : { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ } [يوسف : 25] .
/7/ وقد تستخدم الكذب وقول الزور عند افتضاح أمرها : { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [يوسف : 25] .
/8/ ولها من النفوذ ما يجعلها تقترح العقوبة : { إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [يوسف : 25]
/9/ ضعف شخصية الزوج : (إما لضعف شخصيته أو لعجزه الجنسي أو الخوف من تأثير الفضيحة على مستقبله السياسي) وعدم المقدرة على توجيه الاتهام مباشرة إلى زوجته فعد تكشف إدانتها واللجوء إلى تعميم الاتهام إلى عموم جنس المرأة : { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [يوسف : 28] .
/10/ المساواة بين الجاني والمجني عليه، والهزل في توقيع العقاب : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ } [يوسف : 29] .
/11/ الفراغ وشيوع النميمة بين نساء هذه الطبقة وكثرة القيل والقال : { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً } [يوسف : 30] .
/12/ نقل الوشايات : { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } .
/13/ البذخ والتعود على إقامة الحفلات واتباع أصول الإتيكيت، من إرسال للدعوات وإعداد تدابير الحفل : { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً } .
/14/ تقدم فن الإتيكيت، وتقديم السرفيس لكل فرد في الأكل : { وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً } .
/15/ الجبروت في التعامل مع الرفيق والخدم : { وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } .
/16/ الدراية بالرجال وشدة الانبهار بهم والتمييز بين كريم المحتد وغيره : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } [يوسف : 31] .
/17/ المكاشفة بالفحش وعدم الخجل منه، ولكن داخل نفس الطبقة : { قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } [يوسف : 32] .
/19/ الإصرار على ممارسة الفاحشة والتهديد باستخدام النفوذ لتحقيقها : { وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ } [يوسف : 32] .
/20/ تلفيق التهم لأبرياء، حتى وإن ثبتت براءتهم : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } [يوسف : 35] .
/21/ الفساد السياسي ( التعتيم على الجرائم وعدم رفعها إلى الملك) : { قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } [يوسف : 50] . { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ } .
/22/ الاعتراف بالحق حينما تتأزم الأمور : { قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } [يوسف : 51] .(1/107)
/23/ الاعتراف فيه راحة لجميع الأطراف : { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } [يوسف : 52] . فإن كان القول لامرأة العزيز، ففي ذلك راحة لزوجها من شك الخيانة ورفع لرأسه أمام الملأ، وإن كان القول ليوسف عليه السلام، ففه رد لجميل عزيز مصر الذي آواه وأكرم مثواه .
/24/ أغفل القرآن الكريم حكم الملك في هذه القضية : لأسباب لا يعلمها إلا الله، وتجاوزه إلى أمره ليوسف أن يكون من أفراد الحكم { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } [يوسف : 54]
خامساً : العلاج الواقي من الوقوع في الفواحش داخل البيوت من خلال سورة يوسف عليه السلام :
/1/ - الحذر من الإقامة الدائمة للخدم داخل البيوت، حتى ولو كانوا قد تربوا فيها صغاراً .
/2/ - عدم مشروعية التبني .
/3/ - عدم مشروعية الخلوة بالخدم .
/4/ - الحذر من الفراغ والنميمة وكثرة القيل والقال .
/5/ - غض البصر للرجل والمرأة، على حد سواء .
/6/ - الحذر من المجالس السيئة .
سادساً : القوانين الإلهية الأزلية في سورة يوسف :
/1/ - { إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ } [يوسف : 5].
/2/ - { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [يوسف : 21].
/3/ - { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [يوسف : 22].
/4/ - { إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [يوسف : 23].
/5/ - { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [يوسف : 24] .
/6/ - { وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } [يوسف : 52].
/7/ - { إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } [يوسف : 53].
/8/ - { وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف : 56].
/9/ - { وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [يوسف : 57].
/10/ -{ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [يوسف : 64].
/11/ -{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ... } [يوسف : 67].
/12/ -{ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف : 76] .
/13/ -{ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [يوسف : 87] .
/14/ -{ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف : 90] .
/15/ -{ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [يوسف : 110] .
=============
من أسرار الإعجاز اللغوي والبياني في سورة المدثِّر
صورة لغار حراء الذي كان يتعبد به النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة
قال الله عز وجل:" سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ* عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ "(المدثر:26-31).
هذه الآيات الكريمة من سورة المدثِّر، وهي مكية بالإجماع، وقد اختلفت الروايات في سبب ومناسبة نزولها. فهناك روايات تقول: إنها أول ما نزل في الرسالة بعد سورة العلق. ورواية أخرى تقول: إنها نزلت بعد الجهر بالدعوة، وإيذاء المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم. وعن الزهري: أول ما نزل من القرآن قوله تعالى:
" اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ "(العلق: 1)إلى قوله تعالى:" عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ "(العلق: 5)
فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يعلو شواهق الجبال، فأتاه جبريل- عليه السلام- فقال: إنك نبي الله، فرجع إلى خديجة، وقال: دثِّروني، وصبُّوا عليَّ ماء باردًا، فنزل قوله تعالى:" يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ "(المدثِّر: 1)
وأيًا ما كان السبب والمناسبة، فقد تضمنت السورة الكريمة في مطلعها ذلك النداء العلوي بانتداب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر الجلَل، أمر الدعوة إلى الله تعالى، والجهاد في سبيله، وإنذار البشر من عذابه وعقابه، وتوجيهه إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان، مع توجيهه عليه الصلاة والسلام إلى التهيؤ لهذا الأمر العظيم، والاستعانة عليه بهذا الذي وجهه الله تعالى إليه.
" يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ "(المدثِّر: 1- 7)(1/108)
وقوله تعالى:" يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ " خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، لا يعم الأمة عند جمهور العلماء، خلافًا لأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وأصحابهما في قولهم: إنه يكون خطابًا للأمة، إلا ما دل الدليل فيه على الفرق.
وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال:"يا: نداء النفس. وأيُّ: نداء القلب. وها: نداء الروح ". وعلماء النحو يقولون:"يا: نداءُ الغائب البعيد. وأيُّ: نداءُ الحاضر القريب. وها: للتنبيه ".. وشتَّان ما بين القولين !
و" الْمُدَّثِّرُ ": المتدرِّع دِثاره. وأصله: المتدثر فأدغم. يقال: دثرته، فتدثر. والدِّثار: ما يتدثر به من ثوب وغيره.
وقوله تعالى:" قُمْ فَأَنْذِرْ ". أي: قم نذيرًا للبشر. أي: تهيَّأ لذلك.. والإنذار هو أظهر ما في الرسالة، فهو تنبيه للخطر القريب، الذي يترصد الغافلين السادرين في الضلال، وهم لا يشعرون. وواضح من ذلك أن المراد بهذا الإنذار العموم، دون تقييده بمفعول محدد، ويدل عليه قوله تعالى:
" وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا "(سبأ: 28)
والفاء في قوله تعالى:" فَأَنْذِرْ "، مع كونها عاطفة للترتيب، فإنها تدل على وجوب إيقاع الإنذار بتبليغ الرسالة، عَقِبَ التهيؤ له مباشرة، دون مهلة. وفي ذلك دليل على أن الإنذار فرض واجب على الرسول صلى الله عليه وسلم، لا بدَّ منه، وهو فرض على الكفاية، فواجب على الأمة أن يبلغوا ما أنزل إلى الرسول، وأن ينذروا كما أنذر. قال تعالى:
" فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ "(التوبة: 122)
ثم إن في قوله تعالى:" فَأَنْذِرْ "إشارة إلى قوله تعالى:" وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً "(الإسراء: 15)
والتهيؤ للإنذار المعبَّر عنه بصيغة الأمر" قُمْ "لا يكون إلا بفعل ما تلا هذه الآية من توجيهات للرسول صلى الله عليه وسلم. فبعد أن كلفه سبحانه وتعالى بإنذار الغير، شرع سبحانه بتوجيهه في خاصَّة نفسه، فوجهه أولاً إلى توحيد ربه، وتنزيهه عمَّا لا يليق بجلاله وكماله. ووجهه ثانيًا إلى تطهير قلبه ونفسه وخلقه وعمله. ووجهه ثالثًا إلى هجران الشرك وموجبات العذاب. ووجهه رابعًا إلى إنكار ذاته بعدم المَنِّ بما يقدمه من الجهد في سبيل الدعوة، ووجهه خامسًا وأخيرًا إلى الصبر لربه.
أولاً-أما توجيهه- عليه الصلاة والسلام- إلى توحيد ربه، وتنزيهه عما لا يليق بجلاله وكماله فهو المراد بقوله تعالى:" وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ "(المدثر: 3)
وذلك لأن الرب وحده هو المستحق للتكبير؛ لأنه الأكبر من كل كبير. وهو توجيه يقرِّر الله جل وعلا فيه معنى الربوبية والألوهية، ومعنى التوحيد، والتنزيه من الشريك. وبيان ذلك: أن تكبير الرب جل وعلا يكون بقولنا: الله أكبر. فقولنا: اللههو إثبات لوجوده عز وجل. وقولنا: أكبرهو نفيٌ لأن يكون له شريك؛ لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر، فيما يكون فيه الاشتراك.
وبهذا يظهر لنا أهميَّة هذا التوجيه الإلهي للرسول الكريم، الذي انتدبه ربه لأن يكون نذيرًا للبشر؛ فإن أول ما يجب على المرء معرفته هو معرفة الله تعالى، ثم تنزيهه عما لا يليق بجلاله وكماله، وإثبات ما يليق به جل وعلا.
وقد روي أنه لما نزلت هذه الآية، قال عليه الصلاة والسلام:" الله أكبر". فكبرت معه خديجة، وفرحت، وأيقنا معًا أنه الوحي من الله عز وجل، لا غيره. وفي التعبير عن لفظ الجلالة بعنوان الربوبية، وإضافته إلى ضميره صلى الله عليه وسلم، من اللطف ما لا يخفى !
وقيل: الفاء في قوله تعالى:" فكبِّر "، وفيما بعده، لإفادة معنى الشرط؛ وكأنه قال: ومهما يكن من أمر، فكبر ربك، وطهِّر ثيابك، واهجر الرجز، واصبر لربك. فالفاء على هذا جزائية. ويسميها بعضهم: الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدَّر.
والحقيقة أن هذا تجنٍّ منهم على هذه الفاء؛ لأن ما نسبوه إليها من الدلالة على ذلك الإفصاح المزعوم؛ إنما هو من فعلهم هم، لا من فعل هذه الفاء؛ لأنهم لمَّا رأوها متوسطة بين ما يسمونه عاملاً، ومعموله المقدم عليه- وكان جمهورهم قد أجمع على أن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها- لجئوا في تأويل الآية الكريمة إلى هذا التأويل، الذي لا يتناسب مع بلاغة القرآن، وأسلوبه المعجز في التعبير. فأين قول الله جل وعلا:" وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ "من قولهم في تأويله:
مهما يكن من شيء، فكبر ربك ؟
ولهذا قال بعضهم: إن هذه الفاء دخلت في كلامهم على توهم شرط، فلما لم تكن في جواب شرط محقق، كانت في الحقيقة زائدة، فلم يمتنع تقديم معمول ما بعدها عليها لذلك.
وكلا القولين فاسد، لما فيه من إخلال بنظم الكلام ومعناه. أما إخلاله بالنظم فظاهر. وأما إخلاله بالمعنى فإن الغرض من تقديم قوله تعالى:" وَرَبَّكَ "هو التخصيص، وربطه بما بعده، وهو قوله تعالى:" كَبِّرْ ". ولجعل هذا الأمر واجبَ الحدوث دون تأخير، جيء بهذه الفاء الرابطة، فقال سبحانه:
" وَرَبَّكَ فكَبِّرْ "(1/109)
هذا المعنى لا نجده في قولهم: مهما يكن من شيء، فكبر ربك؛ لأن الشرط مَبناه على الإبهام. والمبهم يحتمل الحدوث، وعدم الحدوث. فإذا قلت: إن جاءك زيد فأعطه درهمًا، فإن الأمر بإعطاء الدرهم- وإن كان مستحقًا بدخول الفاء- فإنه مرتبط بمجيء زيد، ومجيء زيد ممكن الحدوث، وغير ممكن.
ولهذا لما أراد الله تعالى أن يجعل الأمر بالتسبيح، والاستغفار الواقعين جوابًا للشرط أمرًا واجب الحدوث، استعمل من أدوات الشرط "إِذَا "، التي تدل على أن ما بعدها محقق الحدوث لا محالة، ثم أدخل الفاء الرابطة على الجواب؛ وذلك قوله تعالى:
" إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا "(النصر: 1- 3)
ثانيًا-وأما توجيهه- عليه الصلاة والسلام- إلى تطهير قلبه ونفسه وخلقه وعمله فهو المراد بقوله تعالى:" وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ "(المدثر: 4)
وطهارة الثياب- في استعمال العرب- كناية عن طهارة القلب والنفس والخلق والعمل.. إنها طهارة الذات، التي تحتويها الثياب، وكل ما يلمُّ بها، أو يمسُّها. يقال: فلان طاهر الذيل والأردان، إذا كان موصوفًا بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق. ويقال: فلان دنس الثياب للغادر، ولمن قبح فعله. وكان العرب، إذا نكث الرجل ولم يفِ بعهد، قالوا: إن فلانًا لدنس الثياب. وإذا وفى وأصلح، قالوا: إن فلانًا لطاهر الثياب. وطهارة ذلك كله يستلزم طهارة البدن والثياب؛ لأن من كان طاهر القلب والنفس والعمل، فمن باب أولى أن يكون طاهر الجسم والثياب !
وبعد.. فالطهارة بمفهومها العام هي الحالة المناسبة لتلقي الوحي من الملأ الأعلى؛ كما أنها ألصق شيء بطبيعة هذه الرسالة. وهي بعد هذا، وذلك ضرورية لملابسة الإنذار والتبليغ، ومزاولة الدعوة في وسط التيارات المختلفة، والأهواء المتنازعة، وما يصاحب ذلك ويلابسه من أدران الشرك وشوائبه. وذلك يحتاج من الداعية إلى الطهارة الكاملة كي يملك استنقاذ الملوثين دون أن يتلوث، وملابسة المدنسين من غير أن يتدنس.
ثالثًا-وأما توجيهه- عليه الصلاة والسلام- إلى هجران الشرك وموجبات العذاب فهو المراد بقوله تعالى:" وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ "(المدثر: 5)
أي: فاهجر العذاب بالثبات على هجر ما يؤدي إليه من الشرك، وغيره من القبائح. والرُّجزُ- في الأصل- هو العذاب، ثم أصبح يطلق على موجبات العذاب. وأصله الاضطراب، وقد أقيم مقام سببه المؤدي إليه من المآثم والقبائح؛ فكأنه قيل: اهجر المآثم والمعاصي وكل ما يؤدي إلى العذاب.
وقرأ الأكثرون: الرِّجز، بكسر الراء، وهي لغة قريش. ومعنى المكسور والمضموم واحد عند الجمهور. وعن مجاهد: أن المضموم بمعنى: الصَّنم، والمكسور بمعنى: العذاب. وفي معجم العين للخليل: الرُجْزُ، بضم الراء: عبادة الأوثان، وبكسرها: العذاب.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان هاجرًا للشرك ولموجبات العذاب قبل النبوة. فقد عافت فطرته السليمة ذلك الانحراف، وهذا الركام من المعتقدات السخيفة، وذلك الرجس من الأخلاق والعادات. فلم يعرف عنه أنه شارك في شيء من خَوْض الجاهلية. ولكن هذا التوجيه يعني المفاصلة وإعلان التميُّز، الذي لا صلح فيه، ولا هوادة؛ فهما طريقان مفترقان لا يلتقيان. كما يعني هذا التوجيه التحرُّز من دنس ذلك الرجز. وقيل: الكلام هنا، وفيما قبله من باب: إياك أعني، واسمعي يا جارة ! والصواب هو الأول، والله تعالى أعلم !
رابعًا-وأما توجيهه- عليه الصلاة والسلام- إلى إنكار ذاته بعدم المَنِّ بما يقدمه من الجهد في سبيل الدعوة استكثارًا له، واستعظامًا فهو المراد بقوله تعالى:" وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ "(المدثر: 6)
وهو نَهْيٌ عن المنِّ بما سيبذله من الجهد والتضحية في سبيل الدعوة إلى ربه. وفيه إشارة إلى أنه سيقدم الكثير، وسيبذل الكثير، وسيلقى الكثير من الجهد والتضحية والعناء؛ ولكن ربه تبارك وتعالى يريد منه ألاَّ يمتنَّ بما يقدمه، وألاَّ يستكثره.
فهذه الدعوة لا تستقيم في نفسٍ تُحِسُّ بما يُبذَل فيها من تضحيات. فالبذل فيها من الضخامة، بحيث لا تحتمله النفس إلا حين تنساه؛ بل حين لا تستشعره من الأصل؛ لأنها مستغرقة في الشعور بالله، شاعرة بأن كل ما تقدمه هو من فضل الله تعالى، ومن عطاياه. فهو فضل يمنحها إياه، وعطاء يختارها له، ويوفقها لنيله، وهو اختيار واصطفاء وتكريم، يستحق الشكر لله، لا المنَّ والاستكثارَ. وهذا معنى قول الحسن والربيع:” لا تمنن بحسناتك على الله تعالى، مستكثرًا لها “. أي رائيًا إياها كثيرة، فتنقص عند الله عز وجل.(1/110)
وقرأ الحسن، والأعمش:" تَسْتَكْثِرَ "، بالنصب، على إضمار: أن. وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه:" أَنْ تَسْتَكْثِرَ "، بإظهار: أن. فالمنُّ بمعنى الإعطاء، والكلام على إرادة التعليل. أي: ولا تعطِ لأجل أن تستكثر. أي: تطلب الكثير ممن تعطيه. وعلى هذا المعنى قول ابن عباس رضي الله عنهما:”لا تعطِ مستكثرًا “. أي: طالبًا للكثير ممن تعطيه. فهو نهي عن الاستغزار؛ وهو أن يهب شيئًا، وهو يطمع أن يتعوَّض من الموهوب له أكثر مما وهب له.
قال الفرَّاء في معاني القرآن معقبًا على قراءة ابن مسعود:”فهذا شاهد على الرفع في" تَسْتَكْثِرُ ". ولو جزم جازم على هذا المعنى، كان صوابًا“.
والجزم قراءة الحسن- أيضًا- وابن أبي عبلة. وخرِّجت قراءتهما؛ إما للوقف. أو الإبدال من" تَمْنُنْ "؛ كأنه قيل: ولا تمنُنْ، لا تستكثرْ، على أنه من المنِّ، الذي في قوله تعالى:
" ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى "(البقرة: 262)
لأن من يمُنُّ بما يعطي، يستكثره، ويعتد به.
خامسًا-وأما توجيهه- عليه الصلاة والسلام- إلى الصبر لربه فهو المراد بقوله تعالى:" وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ "(المدثر: 7)
أي: اصبر لربك على أذى المشركين. والأحسن حمله على العموم، فيفيد الصبر على كل مصبور عليه، ومصبور عنه. ويدخل فيه الصبر على أذى المشركين؛ لأنه فرد من أفراد العام، لا لأنه وحده هو المراد.
والصبر بمفهومه العام هو الوصية، التي تتكرر عند كل تكليف بهذه الدعوة، أو تثبيت، وهو الزاد الأصيل في هذه المعركة الشاقة، معركة الدعوة إلى الله تعالى، وهي معركة طويلة عنيفة، لا زاد لها إلا الصبر، الذي يُقصَدُ فيه وجه الله جل وعلا، ويُتَّجَهُ به إليه احتسابًا عنده وحده.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه: صبر على أداء الفرائض وله ثلاثمائة درجة، وصبر عن محارم الله تعالى وله ستمائة درجة، وصبر على المصائب عند الصدمة الأولى وله تسعمائة درجة.
وذلك لشدته على النفس، وعدم التمكن منه، إلا بمزيد اليقين؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:” أسألك من اليقين ما تهون به عليَّ مصائب الدنيا“.
وللصبر المحمود فضائل، لا تحصى، ويكفي في ذلك قوله تعالى:
" إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ "(الزمر: 10)
وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم:” قال الله تعالى: إذا وجهت إلى العبد من عبيدي مصيبة في بدنه، أو ماله، أو ولده، ثم استقبل ذلك بصبر جميل، استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانًا، أو أنشر له ديوانًا“.
فإذا ما انتهى هذا التوجيه الإلهي للرسول صلى الله عليه وسلم، اتجه سياق الآيات إلى بيان ما ينذر به الكافرين، في لمسة توقظ الحس لليوم العسير، الذي ينذر بمقدمه النذير، فقال سبحانه:
" فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ* فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِير"( المدثر: 8-10 )
إنه التهديد، والوعيد للمكذبين بالآخرة بحرب الله المباشرة. والنقر في الناقور هو ما يعبر عنه بالنفخ في الصور؛ ولكن التعبير هنا أشد إيحاء بشدة الصوت ورنينه؛ كأنه نَقْرٌ يُصَوِّت، ويُدَوِّي. وأصله القَرْعُ، الذي هو سببه. ومنه منقار الطائر؛ لأنه يقرع به. والصوت الذي، ينقر الآذان- أي: يقرعها قرعًا- أشد وقعًا من الصوت، الذي تسمعه الآذان؛ ولذلك وصف الله تعالى ذلك اليوم، الذي ينقر فيه بالناقور بأنه:
" يَوْمٌ عَسِيرٌ "،
ثم أكَّده سبحانه بنفي كل ظِلًّ لليسر فيه:
" عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِير "
فهو عسرٌ كله، لا يتخلله يسرٌ أبدًا.
والفاء في قوله تعالى:" فَذَلِكَ "رابطة لجواب الشرط. و" ذَلِكَ "إشارة إلى وقت النقر المفهوم من قوله تعالى:" فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ "
أي: فذلك اليوم، الذي ينقر فيه بالناقور يوم عسير على الكافرين، غير يسير.
وفي الإشارة بـ" ذَلِكَ "الدالة على معنى البعد، مع قرب العهد لفظًا بالمشار إليه، إيذان ببعد منزلته في الهول والفظاعة. ثم ترك هذا اليوم مع وصفه هكذا مجملاً منكرًا " يَوْمٌ عَسِيرٌ "، يوحي بالاختناق والكرب والضيق والهول العظيم. فما أجدر الكافرين، وغيرهم من المؤمنين الغافلين أن يستمعوا للنذير، قبل أن ينقر في الناقور، فيواجههم ذلك اليوم العسير!
وقوله تعالى:" غَيْرُ يَسِير ". أي: غير سهل، ويفيد تأكيد عسره على الكافرين، فهو يمنع أن يكون عسيرًا عليهم من وجه دون وجه، ويشعر بتيسُّره على المؤمنين؛ كأنه قيل: عسير على الكافرين، غير يسير عليهم، كما هو يسير على أضدادهم المؤمنين. ففيه جمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم، وبشارة المؤمنين وتسليتهم.(1/111)
ومع هذه البشارة للمؤمنين وتسليتهم، فإن قلب المؤمن لا يخلو من الخوف من هذا اليوم العسير. روي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال: لما نزلت:" فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ "، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:”كيف أنعَم، وصاحب الصور قد التقم القرن، وحَنَى جبهته، يستمع متى يؤمر؟قالوا: كيف نقول يا رسول الله ؟ قال: قولوا: حسبنا الله، ونعم الوكيل، وعلى الله توكلنا “.
واختلف في أن المراد به يوم النفخة الأولى، أو الثانية. والحق أنها النفخة الثانية؛ إذ هي التي يختص عسرها بالكافرين، وأما النفخة الأولى فحكمها، الذي هو الاصعاق يعمُّ الجميع، على أنها مختصة بمن كان حيًّا عند وقوعها.
وينتقل السياق بنا من هذا التهديد العام إلى مواجهة فرد بذاته من الكافرين المكذبين، يبدو أنه كان له دور كبير في التكذيب والتبييت للدعوة. قيل: إنه الوليد بن المغيرة المخزومي. فيرسم الله تعالى مشهدًا من مشاهد كيده؛ وذلك قوله تعالى:
" ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ "(المدثر: 11- 15)
أي: ذرني مع من خلقته وحيدًا فريدًا، لا مال له، ولا ولد، ثم جعلت له مالاً كثيرًا مبسوطًا- ما بين مكة والطائف- يعتزُّ به، وبنين حضورًا، يتمتع بمشاهدتهم، لا يفارقونه للتصرف في عمل، أو تجارة لكونهم مكفيين لوفور نعمهم وكثرة خدمهم. أو حضورًا في الأندية والمحافل لوجاهتهم واعتبارهم- قيل: كان له عشرة بنين. وقيل: ثلاثة عشر. وقيل: سبعة، كلهم رجال- وهيَّأت له الرياسة والجاه العريض تهيئة، يتبطَّر بهما ويختال، حتى لقِّب بريحانة قريش. ثم هو بعد ذلك كله يطمع في المزيد. فذرني معه، أكفيك أمره، ولا تشغل بالك بمكره وكيده.
وقوله تعالى:" وَحِيدًا "- على ما تقدم- حال من العائد المحذوف في قوله تعالى:" خَلَقْتُ ". وقيل هو حال من الياء في" ذَرْنِي ". أي: ذرني وحدي معه، فإني أكفيكه في الانتقام منه. وقيل هو حال من التاء في" خَلَقْتُ ". أي: خلفته وحدي، لم يشركني في خلقه أحد. والقول الأول أجمع الأقوال الثلاثة.
أما قوله تعالى:" ذَرْنِي "فهو من: وَذََرَ يَذَرُ؛ كوَدَعَ يَدَعُ، إلا أن وَذَرَ ، لم يستعمل في كلامهم، بخلاف: وَدَعَ. قال سيبويه: ولا يقال: وَذََرَ ، ولا وَدَعَ، استغنوا عنهما بـ{ تَرَكَ }. وهذا إنما يخرَّج على الأكثر في: وَدَعَ.
ففي القرآن ورد قوله تعالى:" مَا وَدَعَكَ رَبُّكَ "، بالتخفيف، وهي لغة كلغة التشديد، وليست مخففة منها كما يقال. ثم هي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وقراءة عروة بن الزبير.
وفي صحيح مسلم: أن عبد الله بن عمر وأبا هريرة سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:” لينتهيَّن أقوام عن ودَعهم الجُمُعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين “.
وفي كشف الخفاء للعجلوني عن أبي داود عن رجل من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم:” دعوا الحَبَشَة ما ودَعوكم واتركوا التُّرْكَ ما تركوكم“.
ويقال: يَذَرُ الشيءَ ؛ كما يقال: يَدَعُ الشيء. ومعناهما متقارب، إلا أن الأول يستعمل في مقام التهديد والوعيد، لما فيه من معنى الدفع والقذف، أما الثاني فيستعمل في مقام الكره والبغض، لما فيه من معنى التوديع.
تأمل معنى الأول في قوله تعالى:
" وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ "(الأعراف: 127)، وقوله تعالى:
" فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ "(الطور: 45)
وتأمل معنى الثاني في قوله تعالى:
" مَا وَدَعَكَ رَبُّكَ ومَا قَلَى "(الضحى: 3)
والتشديد فيه للمبالغة؛ لأن من ودَّعك مفارقًا، فقد بالغ في تركك.
أما قوله تعالى:" ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ "فهو استبعاد لطمعه وحرصه على الزيادة، واستنكار لذلك. هذا ما دلت عليه" ثُمَّ ". وإنما استبعد ذلك منه، واستنكر؛ لأنه أعطي المال والبنين، وبسط له الجاه العريض، والرياسة في قومه، واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا، فلا مزيد على ما أعطي وأوتي. أو لأن طمعه في الزيادة لا يناسب ما هو عليه من كفران النعم ومعاندة المنعم؛ ولذلك ردعه الله تعالى ردعًا عنيفًا عن ذلك الطمع، الذي لم يقدم طاعة ولا شكرًا لله، يرجو بسببه المزيد؛ بل عاند دلائل الحق، ووقف في وجه الدعوة، وحارب رسولها، وصد عنها نفسه وغيره، وأطلق حواليها الأضاليل فقال سبحانه وتعالى:
" كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا "(المدثر: 16)
فقوله تعالى:" كَلاَّ " ردعٌ وزجرٌ له، وردٌّ لطمعه الفارغ، وقطعٌ لرجائه الخائب.
وقوله تعالى:" إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا " تعليل لذلك الطمع على سبيل الاستئناف؛ فإن معاندة آيات المنعم مع وضوحها، وكفران نعمه مع سبوغها، مما يوجب إزالة النعمة المانعة عن الزيادة والحرمان منها بالكلية؛ وإنما أوتي هذا المعاند ما أوتي، استدراجًا له. قيل: ما زال بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده، حتى هلكوا.(1/112)
ثم يعقِّب الله تعالى على هذا الردع والزجر بالوعيد، الذي يبدل اليسر، الذي جعِل فيه عسرًا، والتمهيد الذي مهِّد له مشقة، فيقول سبحانه وتعالى:
" سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا "(المدثر: 17)
وهو مثل لما يلقى منالعذاب الصعب، الذي لا يطاق، يصور حركة المشقة. فالتصعيد في الطريق هو أشق السير وأشده إرهاقًا. فإذا كان دفعًا من غير إرادة من المصعد، كان أكثر مشقة وأعظم إرهاقًا. وهو في الوقت ذاته تعبير عن حقيقة. فالذي ينحرف عن طريق الإيمان السهل الميسر، يندبُّ في طريق وعر شاق مبتوت، ويقطع الحياة في قلق وشدة وكربة وضيق؛ كأنما يصعد في السماء، أو يصعد في وعر صلد، لا ريَّ فيه ولا زاد، ولا راحة ولا أمل في نهاية الطريق !
وفي الترغيب والترهيب للمنذري عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال في قوله تعالى" سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ":” جبل من نار يكلَّف أن يصعده، فإذا وضع يده عليه ذابت، فإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله عليه ذابت، فإذا رفعها عادت، يصعد سبعين خريفًا، ثم يهوي كذلك“. رواه( أحمد والحاكم والترمذي ).
ثم يرسم الله تعالى لهذا الرجل المكذب المعاند صورة منكرة، تثير الهزء والسخرية من حاله وملامح وجهه ونفسه، التي تبرز من خلال الكلمات؛ كأنها حية شاخصة متحركة الملامح والسمات، فيقول سبحانه:
" إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ "(المدثر: 18- 25)
فالرجل يكد ذهنه، ويعصر أعصابه، ويقبض جبينه، وتكلح ملامحه وقسماته. كل ذلك ليجد عيبًا يعيب به هذا القرآن العظيم، وليجد قولاً يقوله فيه. وبعد هذا المخاض كله يلد الجبل فأرًا، وبعد هذا الحَزق كله، لا يُفتح عليه بشيء، فيولي عن النور مدبرًا، ويصد عن الحق مستكبرًا، ويقول:
" إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ "!
وقوله تعالى:" إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ " تعليلٌ للوعيد، واستحقاقه له. أو هو بيان لعناده لآيات الله تعالى.
وقوله تعالى:" فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ " تعجيبٌ من تقديره ورميه الغرض، الذي كانت تنتحيه قريش. أو ثناء عليه على طريقة الاستهزاء به. أو هو حكاية لما كرروه من قولهم: قتل كيف قدَّر، تهكمًا بهم، وبإعجابهم بتقديره، واستعظامهم لقوله.
أما قوله تعالى:" ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ " فهو تكرير للمبالغة. و" ثُمَّ " للدلالة على أن ما بعدها أبلغ مما قبلها.
أما في قوله تعالى:" ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ " فهي باقية على أصلها من الدلالة على التراخي الزماني. أي: ثم نظر في القرآن مرة بعد مرة، ثم قطَّب وجهه، لمَّا لم يجد فيه مطعنًا، ولم يدر ماذا يقول. وقيل: نظر في وجوه الناس، ثم لمَّا عسُر عليه الرد، قطَّب وجهه وبسَر. أي: كلح، ثم أدبر عن الحق، واستكبر عن اتباعه،" فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ". أي: يروَى ويتعلَّم.
وإنما عطف هذا بالفاء بعد أن عطف ما قبله بـ" ثُمَّ "، للدلالة على أن هذه الكلمة، لما خطرت بباله، لم يتملك أن نطق بها من غير تلعثم وتلبث. ثم أكَّدَ ذلك بقوله:" إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ "؛ ولذلك لم يوسِّط بين الجملتين بأداة العاطف.
وقد روي عنه- أي: عن الوليد بن المغيرة- أنه قال لبني مخزوم:” والله لقد سمعت من محمد آنفًا كلامًا ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو، وما يعلى. فقالت قريش: صَبَأ، والله الوليد. والله لتصبأن قريش كلهم. فقال ابن أخيه أبو جهل: أنا أكفيكموه، فقعد عنده حزينًا، وكلمه بما أحماه، فقام، فأتاهم، فقال: تزعمون أن محمدًا مجنون، فهل رأيتموه يخنق ؟ وتقولون: إنه كاهن، فهل رأيتموه يتكهن ؟ وتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه يتعاطى شعرًا قط ؟ وتزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئًا من الكذب ؟ فقالوا في كل ذلك: اللهم لا. ثم قالوا: فما هو ؟ ففكر، فقال: ما هو إلا ساحر. أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله، وولده ومواليه، وما الذي يقوله إلا سحر يرويه عن أهل بابل، ويتعلمه منهم. فارتجَّ النادي فرحًا، وتفرقوا معجبين بقوله، متعجبين منه “.
ولهذا يصور له التعبير القرآني المعجز هذه اللمحات الحيَّة، التي يثبتها في المخيلة أقوى مما تثبتها الريشة في اللوحة، وأجمل مما يعرضها الفيلم المتحرك على الأنظار، فتدع صاحبها سخريةَ الساخرين أبد الدهر، وتثبت صورته الزَّرِيَّة في صلب الوجود، تتملاها الأجيال بعد الأجيال !
فإذا ما انتهى الله تعالى من عرض هذه اللمحات الحيَّة الشاخصة لهذا المخلوق المضحك، عقَّب عليها بالوعيد المفزع، والتهديد الساحق، فقال سبحانه:
" سَأُصْلِيهِ سَقَرَ "(المدثر: 26)
وهو بدل من قوله تعالى:" سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا "(1/113)
و" سَقَرَ " هي- على ما قيل- الدرك السادس من النار، ومنِع لفظها من التنوين للتأنيث. وقيل: إنه اسم أعجمي. والأول هو الصواب؛ لأن الأعجمي إذا كان على ثلاثة أحرف، انصرف، وإن كان متحرك الأوسط. وأيضًا فإنه اسم عربي مشتق، يقال: سَقَرَته الشمس، إذا أحرقته. والسَّاقُورُ: حديدة تُحْمَى، ويُكْوَى بها الحمار.
وزاد هذا التهديد، وذلك الوعيد تهويلاً تنكير" سَقَرَ "، ثم تكرارها في جملة استفهامية، يزيد من تهويل أمرها؛ وهي قوله تعالى:
" وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ "(المدثر: 27)
يريد: أيُّ شيء أدراك ما سقر؟ أي: لم تبلغ درايتك غاية أمرها وعظم هولها؛ لأنها شيء أعظم وأهول من الإدراك!
وقيل: كل ما في القرآن من قوله تعالى:" وَمَا أَدْرَاكَ "، فقد أدراه، وما فيه من قوله:" وَمَا يُدْريكَ "، فلم يدره؛ كقوله تعالى:" وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا "(الأحزاب: 63)
والدليل على الأول قوله تعالى:" لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ "
فقد أدراه ما سقر؟ ومثله قوله تعالى: " وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ "(القارعة: 3)
ثم أدراه ما القارعة، فقال سبحانه:
" يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ "(القارعة: 4)
" وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ "(القارعة: 5)
ولما كان قوله تعالى:
" مَا سَقَرُ "؟ و" مَا الْقَارِعَةُ " ؟
سؤالاً عن الماهيَّة، لم يجز فيه الجمع بين الاسم، وضميره، كما يفعل ذلك كثير من علماء وكتَّاب اليوم. فلا يقال:
ما هي سقر ؟ وما هي القارعة ؟ وإنما يقال كما قال الله تعالى:
" مَا سَقَرُ " ؟ و" مَا الْقَارِعَةُ " ؟
أو يقال: ما هي ؟ إذا تقدم ذكر لها في الكلام، فيقال:
سقرٌ ما هي ؟ والقارعة ما هي ؟ كما قال تعالى:
" فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ "(القارعة: 9- 10)
فتأمل ذلك في القرآن، تجده على ما ذكرت، إن شاء الله !
ثم عقَّب الله تعالى على هذا تجهيل سقر، وتهويل أمرها بذكر شيء من صفتها أشد هولاً وأعظم، جوابًا عن السؤال السابق:
" وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ "(المدثر: 27)، فقال سبحانه:
" لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ "(المدثر: 28)
أي: لا تبقي شيئًا فيها إلا أهلكته، وإذا هلك، لم تذره هالكًا حتى يعاد. أو لا تبقي على شيء، ولا تدعه من الهلاك، حتى تهلكه. فكل شيء يطرح فيها هالك لا محالة، وكأنها تبلعه بلعًا، وتمحوه محوًا.
وللدلالة على هذا المعنى جيء بـ" لَا " مكررة بعد الواو العاطفة؛ لأنه لو قيل: لا تبقي وتذر، احتمل وقوع النفي على أحد الفعلين، دون الآخر.
ثم هي بعد ذلك:" لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ "(المدثر: 29)
أي: مغيِّرة لهم، أو محرقة، بلغة قريش. يقال: لاحته الشمس، ولوَّحته،إذا غيرته. ويقال: لوحَّت الشيءَ بالنار: أحميته بها. وقال ابن عباس- رضي الله عنهما- وجمهور العلماء: معناه: مغيِّرة للبشرات، ومحرقة للجلود، مسودة لها. فالبشر- على هذا- جمع بشرة.
وقال الحسن وابن كيسان:" لَوَّاحَةٌ " بناء مبالغة من لاح يلوح، إذا ظهر. فالمعنى: أنها تظهر للناس- وهم البشر- من مسيرة خمسمائة عام؛ وذلك لعظمها وهولها وزفيرها. وقرىء:" لَوَّاحَةً "، بالنصب على الاختصاص، للتهويل.
ثم إن:" عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ "(المدثر: 30)ملكًا هم خزنة جهنم، المحيطون بها، المدبرون لأمرها، القائمون على تعذيب أهلها، الذين إليهم جماع أمر زبانيتها، باتفاق العلماء جميعهم.
وهكذا تتلاحق الآيات سريعة الجريان، منوعة الفواصل والقوافي، يتئد إيقاعها أحيانًا، ويجري لاهثًا أحيانًا، وبخاصة عند تصوير المشهدين الأخيرين: مشهد هذا المكذب، وهو يفكر، ويقدر، ويعبس، ويبسر.. ومشهد سقر، التي لا تبقي ولا تذر، ملوحة للبشر!
وواضح من ذلك كله أن الغرض من نزول هذه السورة الكريمة هو تكليف محمد صلى الله عليه وسلم بأن يكون نذيرًا للبشر من عذاب الله تعالى. والإنذار يحتاج إلى دليل تقام به الحجة. والدليل- هنا- هو المعجزة. والمعجزة في قوله تعالى:
" عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ "(المدثر: 30)
وروي أنه لما نزلت هذه الآية، قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم! أسمع ابنَ أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدهر! أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم ؟ فقال أبو الأشدِّ بن أسيد بن كلدة الجُمَحِيِّ، وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر، فاكفوني أنتم اثنين. فأنزل الله تعالى قوله:
" وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً "(المدثر: 31)
وأصحاب النار هم التسعة عشر ملكًا. والجمهور على أن المراد بهم النقباء، الذين إليهم جماع زبانيتها- كما تقدم- وإلا فقد جاء:” يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها“.(1/114)
وكان ظاهر الكلام يقتضي أن يقال:" وَمَا جَعَلْنَاهم "؛ ولكنه وضع الاسم الظاهر موضع الضمير؛ وكأن ذلك لما في هذا الاسم الظاهر من الإشارة إلى أنهم المدبرون لأمرها، القائمون بتعذيب أهلها ما ليس في الضمير. وفي ذلك إيذان بأن المراد بسقر: النار مطلقًا، لا طبقة خاصة منها، وعليه يكون المعنى: وما جعلناهم إلا ملائكة، لا يطاقون، فهم من ذلك الخلق المغيَّب، الذي لا يعلم طبيعته، وقوته إلا الله تعالى، وقد وصفهم الله سبحانه بقوله:
" غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ "(التحريم: 6)
فقرر سبحانه وتعالى: أنهم غلاظ شداد، يطيعون ما يأمرهم به الله، وأن بهم القدرة على فعل ما يأمرهم؛ فهم- إذًا- مزودون بالقوة، التي يقدرون بها على كل ما يكلفهم الله تعالى به. فإذا كان قد كلفهم القيام على سقر، فهم مزودون من قبله سبحانه بالقوة المطلوبة لهذه المهمة، كما يعلمها الله، فلا مجال لقهرهم، أو مغالبتهم من هؤلاء البشر! وما كان قول الكافرين عن مغالبتهم إلا وليد الجهل الغليظ بحقيقة خلق الله، وتدبيره للأمور.
وقيل: لم يجعلهم الله تعالى بشرًا؛ بل جعلهم " مَلَائِكَةً "؛ ليخالفوا جنس المعذبين من الجن والإنس، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة، ولا يستروحون إليهم؛ ولأنهم أقوم من البشر بحق الله عز وجل، وبالغضب له تعالى، ولأنهم أشد الخلق بأسًا وأقواهم بطشًا.
وعن عمرو بن دينار:” واحد منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر “. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في وصفهم:” كأن أعينهم البرق، وكأن أفواهم الصياصي، يجرون أشعارهم، لأحدهم مثل قوة الثقلين، يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل، فيرمي بهم في النار، ويرمي بالجبل عليهم“.
ثم أخبر تعالى عن الحكمة التي جعل من أجلها عدتهم تسعة عشر، فقال سبحانه:
" وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا "(31).
أي: ما جعلنا عددهم تسعة عشر إلا فتنة للذين كفروا، ووسيلة إلى استيقان الذين أوتوا الكتاب، وزيادة في إيمان الذين آمنوا، وحفظًا من ارتياب أهل الكتاب والمؤمنين، وداعيًا إلى تقوُّل أهل الكفر والنفاق:
" مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا "
فهذه خمس حكم من جعل عددهم: تسعة عشر.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يكون هذا العدد المخصص بـ" تِسْعَةَ عَشَرَ "فتنة للذين كفروا، ووسيلة إلى استيقان الذين أوتوا الكتاب، وازدياد الذين آمنوا إيمانًا، وحفظًا من ارتياب أهل الكتاب والمؤمنين، وداعيًا إلى تقول أهل النفاق والكفر ما قالوا ؟!
فأما كون هذا العدد فتنة وابتلاء للذين كفروا فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن الذين كفروا يستهزئون، ويقولون: لمَ لمْ يكونوا عشرين، أو ثمانية عشر مثلاً ؟ وذلك لأن حال هذا العدة الناقصة واحدًا من عقد العشرين أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته، ويعترض ويستهزىء، ولا يذعن إذعان المؤمن، وإن خفي عليه وجه الحكمة.
والوجه الثاني: أنهم يقولون: كيف يكون هذا العدد القليل وافيًا بتعذيب أكثر الخلق من الجن والإنس، من أول خلق آدم إلى يوم القيامة ؟
وأما كونه وسيلة إلى استيقان الذين أوتوا الكتاب فلأنه مطابق لما عندهم في التوراة والإنجيل. فإذا سمعوا به في القرآن، استيقنوا أنه منزل من عند الله تعالى، ومصدق لما بين يديهم. وهذا مما يشهد لقومهم على صدق ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، وما ادعاه لإيمانهم وتصديقهم !
وأما كونه وسيلة إلى ازدياد الذين آمنوا إيمانًا فإن المؤمنين كلما جاءهم أمر عن ربهم، صدقوه، وإن لم يعلموا حقيقته، اكتفاء بأنه من عند الله تعالى؛ لأن قلوبهم مفتوحة موصولة تتلقى الحقائق تلقيًا مباشرًا. وكل حقيقة ترد إليها من عند الله تزيدها أنسًا بالله، وتزيد قلوبهم إيمانًا، فتستشعر بحمكة الله في هذا العدد، وتقديره الدقيق في الخلق .
ولمَّا أثبت الله تعالى بذلك العدد الاستيقان لأهل الكتاب، وزيادة الإيمان للمؤمنين، جعله حفظًا لهم من الوقوع في الريبة، فجمع لهم بذلك: إثبات اليقين، ونفي الريب. وإنما فعل ذلك؛ لأنه آكد وأبلغ لوصفهم بسكون النفس، وثلج الصدر؛ ولأن فيه تعريضًا بحال من عَداهم؛ كأنه قال: ولتخالف حالهم حال الشاكين المرتابين من أهل النفاق والكفر.
وإنما لم ينظم المؤمنين في سلك أهل الكتاب في نفي الارتياب؛ حيث لم يقل: ولا يرتابوا، للتنبيه على تباين النفيين حالاً؛ فان انتفاء الارتياب من أهل الكتاب مقارن لما ينافيه من الجحود، ومن المؤمنين مقارن لما يقتضيه من الإيمان، ولا يخفى ما بينهما من الفرق.(1/115)
والتعبير عن المؤمنين باسم الفاعل " الْمُؤْمِنُونَ "، بعد ذكرهم بالموصول والصلة الفعلية المنبئة عن الحدوث " الَّذِينَ آَمَنُوا "، للإيذان بثباتهم على الإيمان بعد ازدياده ورسوخهم فيه.
وأما كونه داعيًا إلى تقوُّل أهل النفاق والكفر:" مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا "؟ فإن هذه السورة الكريمة مكية، ولم يكن بمكة يومئذ نفاق؛ وإنما نجم النفاق بالمدينة، فأخبر الله تعالى أن النفاق سيحدث في قلوب هؤلاء في المدينة بعد الهجرة. وعلى هذا تصير هذه الآية الكريمة معجزة؛ لأنها إخبار عن غيب سيقع، وقد وقع على وفق الخبر، فكان معجزًا.
وتعقيبًا على قولهم هذا قال الزمخشري:” فإن قلت: قد علل جعلهم تسعة عشر بالاستيقان، وانتفاء الارتياب، وقول المنافقين والكافرين ما قالوا، فهب أن الاستيقان، وانتفاء الريب يصح أن يكونا غرضين، فكيف صح أن يكون قول المنافقين والكافرين غرضًا ؟ قلت: أفادت اللام معنى العلة والسبب، ولا يجب في العلة أن تكون غرضًا؛ ألا ترى إلى قولك: خرجت من البلد مخافة الشر ؟ فقد جعلت المخافة علة لخروجك، وما هي بغرضك “.
أراد اللام التي في قوله تعالى:" وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ ".
قال الألوسي:”وفي الحواشي الشهابية: إنما أعيدت اللام فيه، للفرق بين العلتين؛ إذ مرجِّح الأولى الهداية المقصودة بالذات، ومرجِّح هذه الضلال المقصود بالعرض الناشيء من سوء صنيع الضالين “.
وقولهم:" مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا "؟ إنما سموه مثًُلآ- على ما قال الزمخشري- لأنه استعارة من المثل المضروب؛ لأنه مما غرُب من الكلام وبدُع، استغرابًا منهم لهذا العدد، واستبعادًا له.
وقيل: لمَّا استبعدوه، حسبوه مثلاً مضروبًا؛ كما حسبه كذلك بعض الباحثين المعاصرين، ممن ألفوا في أمثال القرآن. والمعنى: أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب ؟ وأي غرض قصد في أن جعل الملائكة تسعة عشر، لا عشرين سواء ؟ ومرادهم: إنكاره من أصله، وأنه ليس من عند الله، وأنه لو كان من عند الله، لما جاء بهذا العدد الناقص.
وهكذا تترك الحقيقة الواحدة أثرين مختلفين في القلوب المختلفة. فبينما الذين أوتوا الكتاب يستيقنون، والذين آمنوا يزيدون إيمانًا، إذا بضعاف القلوب، والذين كفروا في حيرة يتساءلون:
" مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا "؟
فهم لا يدركون حكمة هذا الأمر الغريب، ولا يسلمون بحكمة الله المطلقة في تقدير كل خلق، ولا يطمئنون إلى صدق الخبر، والخير الكامن في إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.
ولهذا أشاروا إليه بقولهم:" هَذَا " استحقارًا للمشار إليه، واستبعادًا له؛ كقولهم:" أهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً "(الفرقان:41)
وهذا هو حال القلوب عند ورود الحق المنزل عليها: قلب يفتتن به كفرًا وجحودًا، وقلب يزداد به إيمانًا وتصديقًا.
وهنا يجيئهم الجواب في صورة التهديد والتحذير بما وراء ما سمَّوْه:" مَثلاً "من تقدير وتدبير؛ وذلك قوله تعالى:
" كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ "(المدثر: 31)
وهو إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهداية. أي: مثل ذلك المذكور من الإضلال والهداية يضل المنافقين والكافرين حسب مشيئته، ويهدي المؤمنين حسب مشيئته.فكل أمر مرجعه في النهاية إلى مشيئة الله تعالى المطلقة، التي ينتهي إليها كل شيء. ومشيئته سبحانه تابعة لحكمته.
وقد جاء هذا المعنى موضحًا في آيات أخر؛ منها قوله تعالى:
" يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ "( إبراهيم: 27)
أي: يفعل ما توجبه الحكمة؛ لأن مشيئة الله تعالى تابعة للحكمة من تثبيت الذين آمنوا، وتأييدهم، وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم، والتخلية بينهم، وبين شأنهم عند زللهم.
ففعله تعالى كله حسن؛ لأنه مبني على الحكمة والصواب. فأما المؤمنون فيسلمون بحكمة الله تعالى، ويذعنون لمشيئته، لاعتقادهم أن أفعال الله تعالى كلها حسنة وحكمة، فيزيدهم ذلك إيمانًا. وأما الكافرون فينكرون أفعاله سبحانه، ويشكون فيها؛ لأنهم لا يدركون حكمة الله تعالى فيها، فيزيدهم ذلك كفرًا وضلالاً.
وفي وضع الفعلين " يُضِلُّ, ويَهْدي "موضع المصدر إشعار بالاستمرار التجددي. والمضارع يستعمل له كثيرًا؛ ففي التعبير به- هنا- إشارة إلى أن الإضلال والهداية لا يزالان يتجددان ما تجدد الزمان.
وقال تعالى:" وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ "(المدثر:31)؛ لأن علم ذلك من الغيب. والمراد: علم حقيقتها، وصفاتها، ووظائفها، وأعدادها. والله تعالى يكشف عما يريد الكشف عنه من أمر جنوده، وقوله هو الفصل في شأنهم.
وليس لقائل بعده أن يجادل، أو يحاول معرفة ما لم يكشف الله تعالى عنه؛ إذ فلا سبيل لأحد إلى معرفة ذلك، ولو إجمالاً، فضلاً عن الاطلاع على تفاصيل أحوالها، من كم وكيف ونسبة !(1/116)
وروى أن إبراهيم- عليه السلام- لما خرج من النار، أحضره نمرود، وقال له في بعض قوله: يا إبراهيم! أين جنود ربك الذي تزعم ؟ فقال له عليه السلام: سيريك فعل أضعف جنوده. فبعث الله تعالى على نمرود وأصحابه سحابة من بعوض، فأكلتهم عن آخرهم ودوابهم؛ حتى كانت العظام تلوح بيضاء، ودخلت منها بعوضة في رأس نمرود، فكان رأسه يضرب بالعيدان وغيرها، ثم هلك منها.
قال الألوسي:"وهذه الآية وأمثالها من الآيات والأخبار تشجع على القول باحتمال أن يكون في الأجرام العلوية جنود من جنود الله تعالى، لا يعلم حقائقها وأحوالها إلا هو عز وجل. ودائرة ملك الله جل جلاله أعظم من أن يحيط بها نطاق الحصر، أو يصل إلى مركزها طائر الفكر ".وقوله تعالى:" وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَر "(المدثر: 31)
إما أن يعود على:" جُنُود رَبِّكَ ". أو يعود على:" سَقَرَ وَمَنْ عَليْهَا من جنود ربك ". أي: وما جنود ربك، أو: وما سقر، ومن عليها إلا ذكرى للبشر. وذكراها للبشر؛ إنما جاء، للتنبيه والتحذير، لا ليكون موضوعًا للجدل ! والقلوب المؤمنة هي التي تتعظ بالذكرى، أما القلوب الضالة فتتخذها جدلاً.
وقد يكون فيما قاله علماء الإعجاز العددي في تفسير هذه الآية الكريمة ما يكشف عن حقيقة هذا العدد.. والله تعالى أعلم، له الحمد في السموات والأرض، وهو بكل شيء عليم !
الأستاذة: رفاه محمد علي زيتوني
مدرسة لغة عربية- حلب
===============
من أسرار الإعجاز اللغوي والبياني في سورة القارعة
قال الله عز وجل:" الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ "(القارعة: 1- 11)
أولاً- افتتح الله تعالى هذه السورة الكريمة بلفظ " الْقَارِعَةُ "، وهو افتتاح مَهول مرعب. فيه ترويع وتخويف، وفيه إثارة وتشويق إلى معرفة ما سيأتي بعده من خبرها، وقد ألقى به سبحانه مفردًا؛ كالقذيفة هكذا:" الْقَارِعَةُ "، بلا خبر، ولا صفة؛ ليلقي بظله، وجرسه الإيحاء المدوِّي، ويقرع بهوله القلوب.
ثم عقَّب سبحانه وتعالى على هذا الإجمال والإبهام بسؤال التهويل والتعظيم عن ماهيَّة هذه القارعة؛ ليثير في النفوس الدهشة من هولها، والتساؤل عن معرفة حقيقتها، ثم أتبعه بسؤال آخر، يزيد في التهويل من أمرها، والتعظيم من شأنها، فقال جل جلاله:
" الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ "(1- 3)
و" الْقَارِعَةُ " وصف مشتق من القرع على وزن الفاعلة. والقرع هو ضرب جسم بآخر بشدة، لها صوت. وأطلق مجازاً على الصوت، الذي يتأثر به السامع تأثُّر خوف، أو اتعاظ. يقال: قَرَّع فُلاناً، بالتشديد. أي: زجره وعَنَّفه بصوت شديد. ويقال: قرَعه، بالتخفيف. أي: ضربه بالعصا، أو غيرها ضربًا عنيفًا. قال المتنبي:
العبد يقرع بالعصا **والحر تكفيه الإشارة
وأطلق لفظ" الْقَارِعَةُ "على الحدث العظيم، وإن لم يكن من الأصوات، ومنه قول العرب: قرعتهم القارعة، وفقرتهم الفاقرة، إذا وقع بهم أمر فظيع، وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى:
" وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ "(الرعد: 31)
أي: داهية تقرعهم بصنوف البلاء من القتل والأسر والحرب والجدب، ونحو ذلك. وأنِّث لفظ القارعة؛ لتأويلها بالحادثة أو الكائنة.
وعليه فالمراد بالـ" الْقَارِعَةُ "هنا: الحادثة العظيمة، أو الشديدة من شدائد الدهر. وجمهور المفسرين على القول بأنها اسم من أسماء القيامة، كالحَاقَّة، والطَّامَّة، والصَّاخَّة، والآزِفَة، والوَاقِعَة.
وقالوا:"إن الشيء إذا عظُم خطره، كثُرت أسماؤه ". وروي عن الإمام علي كرم الله وجهه:"كثرة الأسماء تدل على عظمة المسمَّى". ومعلوم أن ذلك ليس من المترادفات؛ فإن لكل اسم دلالته على معنى خاص به. وفي الحقيقة أن لكل شيء اسم واحد، وما عداه صفات له، وكل صفة منها معناها غير معنى الأولى.
فـ" الحَاقَّةُ "هي التي يحق فيها وعد الله تعالى بالبعث والجزاء. و" الطَّامَّةُ "هي التي تطمُّ، وتعم بأحوالها. و" الصَّاخَّةُ "هي التي تصخُّ الآذان. أي: يصم صوتها الآذان بما يصحبه من جرس عنيف نافذ، يكاد يخترق صماخ الأذن. وتقول العرب: صخَّتهم الصاخَّة، ونابتهم النائبة. و" الآزِفَةُ "هي التي تزِف، بتخفيف الزاي وكسرها. أي: تقترب.
والفرق بين " أَزِفَتْ الْآزِفَةُ "(النجم: 57)و" اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ "(القمر: 1) هو أن( الأَزَفَ ) ضيق الوقت، ولهذا عُبِّرَ عنه في الثانية بـ( الساعة ).
و" الوَاقِعَةُ "هي التي يصدق وقوعها،فليس لنفس أن تكذِّب بها بأن تنفيها؛ كما نفتها في الدنيا" لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ "(الواقعة: 2).(1/117)
أما" الْقَارِعَةُ " فهي التي تقرع الناس بالأهوال، والسماء بالانشقاق والانفطار، والأرض والجبال بالدك والنسف، والنجوم والكواكب بالطمس والانكدار.
ومذهب أهل التحقيق من المفسرين أن قوله تعالى:" الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ "أشدُّ هولاً من قوله تعالى:" الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ "؛ لأن النازل آخرًا لا بد، وأن يكون أبلغ؛ لأن المقصود منه زيادة التنبيه. وهذه الزيادة لا تحصل إلا إذا كانت أقوى.
وأما بالنظر إلى المعنى فـ" الْحَاقَّةُ " أشدُّ لكونها راجعة إلى معنى: العدل، و" الْقَارِعَةُ "أشد لكونها تهجم على القلوب بالأمر الهائل.
إذا عرفت هذا، فتأمل قوله تعالى:
" الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ "
كيف وضعت" الْقَارِعَةُ " في الآية الرابعة موضع ضمير" الْحَاقَّة "؛ إذ كان ينبغي أن يقال:" كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِهَا ". وإنما أتى سبحانه وتعالى- هنا- بلفظ " الْقَارِعَةُ "؛ لتدل على معنى القرع في " الْحَاقَّة "، زيادة في وصف شدَّتها وهولها.
أما قوله تعالى:" مَا الْقَارِعَةُ "؟ فهو استفهام يراد به التهويل والتعظيم على طريقة المجاز المرسل؛ لأن الأمر العظيم من شأنه أن يستفهم عنه، فصار التعظيم والتهويل مع الاستفهام متلازمين.
والأصل فيه:" الْقَارِعَةُ *مَا هِيَ "؟ أي: أيُّ شيء عظيم مَهول هي؟ فوضع الاسم الظاهر موضع المضمَر تفخيمًا لشأنها، وتفظيعًا لهولها. ونحو ذلك قولك: زيد، ما زيد ؟ جعلته لانقطاع قرينه، وعدم نظيره؛ كأنه شيء خَفِيَ عليك جنسه، فأنت تسأل عن جنسه، وتفحص عن جوهره؛ كما تقول: الغول، ما الغول ؟ والعنقاء، ما العنقاء ؟ تريد: أيُّ شيء من الأشياء هي ؟
ولهذا قال السكاكي:"يُسأل بـ( ما ) عن الجنس. تقول: ما عندك ؟ أي: أيُّ الأشياء عندك ؟ وجوابه: إنسان، فرس، كتاب. وكذلك تقول: ما الكلمة ؟ وما الكلام ؟ وفي التنزيل:" فَمَا خَطْبُكُمْ "(الحجر: 57، والذاريات: 31)؟
أو يُسْأل بها عن الوصف، تقول: تقول: ما زيد ؟ وما عمرو ؟ وجوابه: كريم، أو فاضل، ونحوهما ".
وقال الفخر الرازي:"لفظة " مَا " وضعت لطلب ماهيَّات الأشياء وحقائقها. تقول: ما الملك ؟ وما الروح ؟ وما الجن ؟ والمراد: طلب ماهيَّاتها، وشرح حقائقها. وذلك يقتضي كون ذلك المطلوب مجهولاً. ثم إن الشيء العظيم، الذي يكون لعظمه وتفاقم مرتبته، ويعجز العقل عن أن يحيط بكنهه، يبقى مجهولاً؛ فحصل بين الشيء المطلوب بلفظة " مَا " ، وبين الشيء العظيم مشابهة من هذا الوجه. والمشابهة إحدى أسباب المجاز، فبهذا جُعِل " مَا " دليلاً على عظمة حال ذلك المطلوب، وعلو رتبته ".
ولمَّا كان هول الشيء وعظمه يستلزم تساؤل الناس عنه، أتبعه الله تعالى بقوله:
" وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ " ؟
زيادة في التهويل، ومبالغة في التعظيم.
والخطاب فيه لغير معين، والمعنى: أيُّ شيء أدراك أيها السامع: ما القارعة؟ ولك أن تجعل هذا الاستفهام إنكاريًا. أي: لا دراية لك بكنهها، ومدى عظمها وشدتها. يعني: أنها في العظم والشدة، بحيث لا يبلغه دراية أحد، ولا وهمه. وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك وأعظم، فلا يتسنى الإعلام عنها. ومنه يعلم أن الاستفهام- هنا- كُنِّيَ به عن لازمه من أنها لا تعلم، ولا يصل إليها دراية دار، ولا تبلغ كنهها الأفكار والأوهام والتصورات؛ لأنها أكبر من أن يحيط بها الإدراك, ويبلغ درايتها الوهم، ويلمُّ بها التصور !
والدراية- كما قال الراغب- هي المعرفة المُدْرَكة بضرب من الختل؛ ولهذا لا تستعمل الدراية في الله تعالى. وأما قول الشاعر:
لاهُمَّ لا أدري وأنت الداري
يريد: اللهم أنت الداري، فهو من تعجْرُف أجلاف العرب.
وأصل( درى ) الثلاثي أن يتعدى بالباء، وقد تحذف على قلَّة. يقال: دريت به، ودريته. فإذا دخلت عليه همزة التعدية تعدَّى إلى واحد بنفسه، وإلى الآخر بالباء. يقال: أدريت فلانًا بالأمر، ومنه قوله تعالى:" وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ "(يونس: 16)
وقد يتعدَّى إلى ثلاثة مفاعيل، فيكون من باب: أعلم، وأرى. تقول: أدريت فلانًا الأمر سهلاً؛ كما تقول مثله في: أعلمته، وأريته. وقد يعلق عن المفعول الثاني والثالث بهمزة الإنكار، أو بـ( ما ) المتضمنة لها. فمن الأول قول زهير بن أبي سُلمَى:
وما أدري وسوف إخال أدري **أقومٌ آل حصن أم نساء
ومن الثاني قوله تعالى:" مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ ولا الإيمَانُ "(الشورى: 52)
وتركيب:( مَا أدراك ما كذا ) ؟ مما جرى مجرى المثل، فلا يغير عن هذا اللفظ، وهو مركَّب من ( ما ) الاستفهامية، وفعل ( أدرى ) الذي يتعدى بهمزة التعدية إلى ثلاثة مفاعيل، وقد علق عن المفعولين الثاني والثالث بـ( ما ) الاستفهامية الثانية. وكاف الخطاب فيه- كما ذكرنا- خطاب لغير معين؛ فلذلك إذا خوطب به غير المفرد المذكر، فلا يقترن بضمير تثنية، أو جمع، أو تأنيث.
واستعمال ( ما أدراك ما كذا ) ؟ غير استعمال ( ما يدريك ) ؟ في نحو قوله تعالى:
" وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ "(الشورى: 17)(1/118)
" وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً "(الأحزاب: 63)
" وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى "(عبس: 3- 4)
روي عن سفيان بن عيينة:” كل شيء في القرآن " وَمَا أَدْرَاكَ "؟ فقد أُخبِر الرسول به، وكل شيء فيه " وَمَا يُدْرِيكَ "؟ لم يُخبَر به “.
وقد روي نحو هذا أيضًا عن ابن عباس- رضي الله عنهما- وعن يحيى بن سلاّم. فإن صح هذا المروي، فإن مرادهم أن مفعول " مَا أَدْرَاكَ "؟ محقق الوقوع؛ لأن الاستفهام فيه للتهويل، وأن مفعول" مَا يُدْرِيكَ " ؟ غير محقق الوقوع؛ لأن الاستفهام فيه للإِنكار المجرَّد، وهو في معنى نفي الدراية.
وقال الراغب الأصفهاني:”كل موضع ذُكر في القرآن" وَمَا أَدْرَاكَ "؟ فقد عُقِّب ببيانه؛ نحو:
" وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ "(القارعة: 10- 11)
"وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ "(القدر: 2- 3)
" قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ "(يونس: 16).
وكل موضع ذكر فيه" مَا يُدْرِيكَ "؟ لم يُعقِّبْه بذلك؛ نحو:
" وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى "(عبس: 3)
" وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ "(الشورى: 17) “.
ثانيًا- قوله تعالى:" يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ "(4- 5) جواب لقوله تعالى:
" وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ "(3)
وكان حق هذا الجواب أن يكون بماهيَّة القارعة وحقيقتها، لا بما يكون فيها من أحوالها. ولكن عدِل عن الأول إلى هذا؛ لأن ماهيتها وحقيقتها- كما أسلفنا- أكبر من أن يحيط بها الإدراك, ويبلغ درايتها الوهم، ويلم بحقيقتها التصور !
وقد بين الله تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين حالاً من أحوال القارعة، وبين بعض أحوالها الأخرى في سورة( الواقعة ) بأنها خافضة رافعة. وفي( الحاقة ) بما أصاب ثمود وعاد وحلَّ بهم بسبب تكذيبهم بالقارعة. وفي( الطامة والصاخة ) ينظر المرء ما قدَّمت يداه.
وقد ذكر سبحانه وتعالى مع كل حالة من هذه الحالات الحال الذي يناسبها. والقارعة من القرع؛ وهو- كما أسلفنا- ضرب جسم بآخر بشدة لها صوت، فناسب أن يذكر معها ما يوهن قوى الإنسان إلى ضعف الفراش المبثوث، ويفكك ترابط الجبال وتماسكها إلى هباء العهن المنفوش.
و" الفَرَاشُ "هو فرخ الجَراد، حين يخرُج من بيضه من الأرض. وقد يطلق لفظه على ما يطير من الحشرات، ويتساقط على النار ليْلاً. وهو إطلاق آخر، لا يناسب تفسيرُ لفظ الآية به هنا. وقال الفرَّاء:”هو غوغاء الجراد، الذي ينتشر في الأرض، ويركب بعضه بعضًا من الهول “. وقال صاحب التأويلات:” اختلفوا في تأويله على وجوه؛ لكن كلها ترجع إلى معنى واحد، وهو الإشارة إلى الحيرة والاضطراب من هول ذلك اليوم “.
و" الْمَبْثُوث "هو المتفرق على وجه الأرض في كل الجهات. ومن أمثال العرب قولهم:( أطيش من فراشة ) و( أضعف من فراشة ) و( وأذل وأجهل من فراشة ).
وقال تعالى هنا:" يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ "
فشبه الناس يوم البعث بالفراش المبثوث. وقال في موضع آخر:
" يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ "(القمر: 7)
فشبههم بالجراد المنتشر. وقد سبق أن ذكرنا إلى أن الفراش هو فرخ الجراد، أو هو غوغاء الجراد، فما وجه التشبيه في كل منهما ؟
أما وجه تشبيههم بالجراد فقيل: الكثرة، والتتابع. وأما وجه التشبيه بالفراش فقيل: شبِّه الناس بالفراش المتفرق المتطاير في الكثرة والانتشار، والضعف والذلة، والمجيء والذهاب على غير نظام، والتطاير إلى الداعي من كل جهة حين يدعوهم إلى المحشر؛ لأن الفراش إذا ثار، لم يتَّجه لجهة واحدة؛ بل كل واحدة منها تذهب إلى غير جهة الأخرى.
وليت الذين يتحدثون عن كيفية ابتداء الخلق أن يقرنوا بين هذه الآية:
" يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ "(القمر: 7)، وبين قوله تعالى:
" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ "(الروم: 20)
لعلهم يدركون سرَّ تخصيص لفظ البشر بالذكر دون لفظ الناس، وسرَّ تشبيههم بالجراد في الانتشار يوم خلقهم من تراب، ويوم بعثهم، ثم يتذكرون قول الله تعالى:
" كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ "(الأعراف: 29)!
و" الْعِهْنُ "هو الصوف المصبوغ باللون الأحمر، وقيل هو المصبوغ ألوانًا. وفي قراءة ابن مسعود- رضي الله عنه-:" وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْصُّوفِ الْمَنْفُوشِ ". قال زهير بن أبي سُلمَى:
كأنَّ فُتات العِهن في كل منزلٍ ** نَزَلْنَ به حبُّ الفَنَا لم يُحَطَّمِِ
والفَنَا بالقصر: حَبٌّ في البادية، يقال له: عنب الثعلب، وله ألوان بعضه أخضر، وبعضه أصفر، وبعضه أحمر. والعهنة: شجرة تنبت بالبادية لها ورد أحمر.
و" الْمَنْفُوشِ "هو المفرَّق، بعض أجزائه عن بعض؛ ليغزَل، أو تحشَى به الحشايا، فعندما يضرب بالعصا، تتطاير أجزاؤه.
ووجه التشبيه بين الجبال، والعهن المنفوش: أن من الجبال؛ كما قال تعالى:(1/119)
" جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ "(فاطر: 27)
فهي مختلفة الألوان بحجارتها ونبتها، وكذلك الصوف مختلفة ألوانه. فهي تشبهه من هذا الوجه، ثم هي تشبهه من وجه آخر، وهو أنها إذا بسَّت، طيِّرت في الجو كما يتطاير الصوف. قال الحسن رضي الله عنه: تسير الجبال مع الرياح، ثم تنهدُّ، ثم تصير كالعهن، ثم تنسف، فتصير هباء.
وإعادة لفظ الكون مع حرف العطف " تَكُونُ ، وَتَكُونُ "، للإِشارة إلى اختلاف الكونين؛ فإن أولهما كونُ إيجاد، والثاني كونُ اضمحلال، وكلاهما علامة على زوال عالم، وظهور عالم آخر. وقيل: كرَّر ذلك؛ لأن التكرير في مثل هذا المقام أبلغ في التحذير.
وقال تعالى هنا:" وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ "( 3 )، وقال في موضع آخر:
" وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ " (المعارج: 8- 9)
فأتى بالعهن موصوفًا بالنفش في الآية الأولى، وأتى به غير موصوف في الآية الثانية، فما سر البيان في ذلك ؟ ويجاب عنه بأن الغرض من هذا التشبيه في سورة القارعة هو غيره في سورة المعارج، وبيان ذلك:
أن القارعة- كما أسلفنا- هي من القرع، وهو ضرب جسم بآخر بشدة، لها صوت، فناسب أن يذكر معها من أحوالها في ذلك اليوم المهول ما يوهِن قوى الإنسان إلى ضعف الفراش المبثوث، ويفكك ترابط الجبال وتماسكها إلى هباء العهن المنفوش. فشبَّه تعالى أحوال الناس في ذلك اليوم في كثرتهم وحيرتهم واضطرابهم وانتشارهم في كل جهة بالفراش المبثوث، ثم شبَّه الجبال في اختلاف ألوانها وتفكك أجزائها وتطايرها هباء في الجو بالصوف المنفوش، فناسب بين المشبَّه، والمشبَّه به من جهة، ثم ناسب بين التشبيه في الصورة الثانية، والتشبيه في الصورة الأولى، فقال سبحانه:
" يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ "(4- 5)
أما في آية المعارج فقد ذكر تعالى من أحوال ذلك اليوم، الذي وصفه بقوله:" فِيْ يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ "(المعارج: 4)
ما يحيل بناء السماء ولونها، إلى صورة المهل المذاب ولونه، ويحيل تماسك الجبال وثقلها وألوانها، إلى وهن العهن الخفيف وألوانه، فشبَّه السماء في ذلك اليوم بالمهل، وشبَّه الجبال بالعهن، فناسب بين المشبَّه والمشبَّه به من جهة، ثم ناسب بين التشبيه في الصورة الثانية، والتشبيه في الصورة الأولى؛ وذلك قوله تعالى:" يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ "(المعارج: 8- 9)
ووجه التشبيه بين السماء، والمهل: أن السماء تذاب في ذلك اليوم، وتصير كالفضة المذابة؛ كما قال الحسن، رضي الله عنه. وقيل: المهل: ما أذيب من النحاس والرصاص، وما أشبه ذلك. وقال غير واحد: المهل ما أذيب على مهل من الفلزات. والمراد يوم تكون السماء واهية.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قوله:”إن السماء الآن خضراء، وإنها تحول يوم القيامة لونًا آخر إلى الحمرة “.
وسئل ابن مسعود- رضي الله عنه- عن قوله تعالى:
" كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ "(الكهف: 29)
فدعا بفضة، فأذابها، فجعلت تميع، وتلوَّن، فقال: هذا من أشبه ما أنتم راءون بالمهل “.
قال الأزهري:”ومثله قوله:
" فََكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ "(الرحمن: 37)
قال أبو إسحق: كالدهان. أي تتلون؛ كما يتلون الدهان المختلفة، ودليل ذلك قوله تعالى:
" يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ "؛ كالزيت، الذي قد أغلي “.
وقال ابن الأنباري:”تبدل السماوات بطيِّها، وجعلها مرة كالمهل، ومرة وردة كالدهان.. وعن مجاهد- رضي الله عنه- تكون الأرض كالفضة، والسماوات كذلك.
وقال الشيخ ابن تيميَّة:”إن السموات، وإن طويت وكانت كالمهل واستحالت عن صورتها، فإن ذلك لا يوجب عدمها، وفسادها، بل أصلها باق بتحويلها من حال إلى حال؛ كما قال تعالى:
" يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ "(إبراهيم: 48)
وإذا بدلت، فإنه لا يزال سماء دائمة، وأرض دائمة، والله أعلم “!
وعن ابن مسعود، رضي الله عنه:”تبدل الأرض أرضًا بيضاءَ؛ كأنها سبيكة بيضاء، لم يسفك فيها دمٌ حرامٌ، ولم يعمَل فيها خطيئةٌ “.
ووجه التشبيه بين الجبال، والعهن: أن الجبال في ثقلها وتماسك أجزائها واختلاف ألوانها، تصير في ذلك اليوم واهية خفيفة مفككة الأجزاء تتلوَّن بألوان مختلفة؛ كالعهن في ضعفه وخفته وتفرق أجزائه واختلاف ألوانه. وليس المراد- هنا- تطاير أجزائها في الجو، كما في القارعة؛ ولهذا أطلق لفظ العهن هنا دون قيد، وقيد هناك بالوصف.
ثالثًا- ولما وصف الله تعالى في الآيات السابقة حال يوم القيامة، عقَّب على ذلك بقوله:
" فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ "(6- 11)
فقسم سبحانه الناس في هذا اليوم إلى قسمين:
أحدهما:" مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ". والثاني:" مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ "(1/120)
وأخبر عن الأول بأنه في" عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ". أي: عيشة مرضية.
وأخبر عن الثاني بأن" أُمُّهُ هَاوِيَةٌ ". أي: مستقرُّه، أو مسكنه. والهاوية اسم من أسماء النار؛ وكأنها النار العميقة، يهوي فيها أهل النار مهوى بعيدًا.
وقال:" فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ "؛ لأن الأصل في السكون والاستقرار الأمهات.
وقال تعالى:" وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ "
ثم أخبر عنها، فقال:" نَارٌ حَامِيَةٌ "، منبهًا بذلك على أن نار الدنيا في جنب تلك النار الحامية ليست بشيء. وبذلك صار آخر السورة مطابقًا لأولها.
وأما قوله تعالى:" هِيَهْ "فهو ضمير يعود على قوله:" هَاوِيَةٌ "، والهاء فيه للسكت. وحذفها في الوصل: ابن أبي إسحاق، والأعمش، وحمزة، وأثبتها الجمهور.
وقال تعالى:" فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ "ولم يقل:
" وَمَا أَدْرَاكَ مَا هَاوِيَةُ "؛ كما قال:" وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ".
والفرق بينهما: أن كونها قارعة أمر محسوس، وليس كذلك كونها هاوية؛ ولهذا حسُن وضع الضمير- هنا- موضع الاسم الظاهر، خلافًا للآية السابقة. والله تعالى أعلم.
الأستاذة: رفاه محمد علي زيتوني
مدرسة لغة عربية- حلب
===============
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
قال تعالى:" وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ "(البقرة:23-24)
أولاً-بعد أن قرَّر الله تعالى في مكة المكرمة عجز الإنس والجن مجتمعين عن الإتيان بمثل القرآن العظيم في قوله تعالى:
" قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ "(الإسراء: 88)
وتحدَّى الخلق عامة، والمكذبين خاصة أنيأتوا:
" بِسُورَةٍ مِثْلِهِ "(يونس: 37)
و"بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ "(هود: 13)
و" بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ "(الطور: 34)
أعاد سبحانه وتعالى هذا التحدي في المدينة المنورة بعد الهجرة، فأمر الناس جميعهم عامة، والمرتابين في القرآن الكريم من كفار العرب، ومشركيهم خاصة أن يأتوا بسورة واحدة من هذا المِثل للقرآن، وأسجل عليهم إسجالاً عامًا إلى يوم القيامة، أنهم لم يفعلوا، ولن يفعلوا ذلك أبدًا، فليتقوا النار، التي وقودها الناس والحجارة، أعدت للكافرين، من أمثالهم.
ويبدأ هذا التحدي بلفتة لها قيمتها في هذا المجال، هي وصف الرسول عليه الصلاة والسلام بالعبودية لله الواحد القهار. ولهذا الوصف في هذا الموضع دلالات منوعة متكاملة:
فهو أولاً تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم، وتقريب بإضافة عبوديته لله تعالى، دلالة على أن مقام العبودية لله جل وعلا هو أسمى مقام، يدعى إليه بشر، ويدعى به كذلك.
وهو ثانيًا تقرير لمعنى العبودية في مقام دعوة الناس كافة إلى عبادة ربهم وحده, واطِّراح الأنداد كلها من دونه. فها هو ذا النبي صلى الله عليه وسلم في مقام الوحي- وهو أعلى مقام- يدعَى بالعبودية لله الخالق, ويشرَّف بهذه النسبة في هذا المقام.
وقيل في سبب نزول هذه الآية: أنها نزلت في جميع الكفار. وروي عن ابن عباس ومقاتل: أنها نزلت في اليهود. وسبب ذلك أنهم قالوا: هذا الذي يأتينا به محمد لا يشبه الوحي، وإنا لفي شك منه. والأظهر هو القول الأول.
ومناسبة الآية لما قبلها: أن الله عز وجل بعد أن فرغ من تقرير الإلهية والوحدانية، شرع سبحانه في تقرير النبوة، واحتج بهذه الآية الكريمة على صدق نبوة رسوله عليه الصلاة والسلام، وصحة ما جاء به من القرآن، وأنه من عنده وكلامه، الذي يتكلم به، وأنه ليس من صنعة البشر، ولا من كلامهم.
وتقرير الإلهية والوحدانية،وتقرير النبوة توأمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر. فالآية، وإن سيقت لبيان الإعجاز، إلا أن الغرض من هذا الإعجاز إثبات النبوة.
ثانيًا- قوله تعالى:
" وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ "
تنبيه على أن القرآن، الذي نزَّله الله تعالى على عبده، لا رَيْبَ فيه؛ كما قال تعالى في أول السورة:
" ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ "(البقرة: 2)
فنفى جنس الرَّيب فيه على سبيل الاستغراق.
وتنكير الرَّيْب، للإشعار بأن حقه- إن كان- أن يكون ضعيفًا قليلاً، لسطوع ما يدفعه، وقوة ما يزيله. ومثله في ذلك قوله تعالى:
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ "(الحج: 5)
والرَّيْب- في اللغة- أن تتوَّهم بالشئ أمرًا مَّا، فينكشف عمَّا تتوَّهمه. وحقيقته: قَلَقُ النفس. يقال: رابني الشيء، وأرابني. وقيل: دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الشك ريبة، وإن الصدق طمأنينة. والرِّيبةُ: اسم من الرَّيْب. والارتيابُ يجرى مجرى الإرابة. وقد أثبت الله تعالى وقوع الارتياب من الكافرين والمشركين والمنافقين، فقال:(1/121)
" وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ "(الحديد: 14)
ونفاه تعالى من الذين أوتوا الكتاب، والمؤمنين، فقال:
" وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ "(المدّثر: 31)
وقوله تعالى:" رَيْبَ الْمَنُونِ "(الطور: 30)، سمَّاه رَيْبًا، لا أنه مُشكَّكٌ في كونه؛ بل من حيث تشكُّكٍ في وقت حصوله. فالإنسان أبدًا في رَيْبِ المنون، من جهة وقته، لا من جهة كونه.
وقال تعالى هنا:
" وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا "(البقرة: 23)، وقال في يونس:
" إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي"(يونس: 104)
فاستعمل الرَّيْب في الأول، والشَّكَّ في الثاني. والسرُّ في ذلك أن الشَّكَّ هو تردُّدُ الذهن بين أمرين على حدٍّ سواء. أماالرَّيْبُ فهو شَكٌّ بتهمة، وهو من قولهم: رَابَ: حقَّق التهمة. قال الشاعر:
ليس في الحق يا أميْمةُ رَيْبٌ **إنما الرَّيبُ ما يقول الكذوب
ولما كان المشركون، مع شكِّهم في القرآن، يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بأنه هو الذي افترى القرآن، وأعانه عليه قوم آخرون، نفى الله تعالى عنه أولاً جنس الرَّيب على سبيل الاستغراق بقوله تعالى:
" ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ "(البقرة: 2)
ثم نبَّه ثانيًا على أنه لا ريب فيه بقوله :" وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا "(البقرة: 23)
وأما قوله تعالى:" إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي "(يونس: 104) فيمكن أن يكون الخطاب مع أهل الكتاب، أو غيرهم ممَّن كان يعرف النبي صلى الله عليه وآله بالصدق والأمانة، ولا ينسبه إلى الكذب والخيانة.
فإن قيل: كيف نفى سبحانه وتعالى أن يكون في القرآن رَيْبٌ، ثم خاطب المشركين بقوله:
" وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا "(البقرة: 23) ؟
فالجواب: أنه لا تنافيَ بين كونهم في رَيْبٍ من القرآن، وبين نفي الرَّيب عن القرآن؛ لأن نفيَ الرَّيب يدل على نفي الماهيَّة. أي: ليس ممَّا يحلُّه الرَّيْبُ، ولا يكون فيه، ولا يدل على نفي الارتياب فيه؛ لأنه قد وقع ارتياب فيه من ناس كثيرين.
ولا يردُّ على ذلك بقوله تعالى:" وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ "، لاختلاف في الحالِّ والمحلول فيه. فالمحلول فيه هنا هم المخاطبون، والرَّيْبُ هو الحالُّ فيهم. والحالُّ في قوله تعالى:" لاَ رَيْبَ فِيهِ "مَنفيُّ، والمحلُّ هو الكتاب، فلا تنافي بين كونهم في رَيْبٍ من القرآن، وكون الرَّيْب منفيًّا عن القرآن.
ووجهُ الإتيان بـ" فِيْ "الدالة على الظرفية هو الإشارةُ إلى أنهم قد امتلكهم الريب، وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف. واستعارة" فِيْ "لمعنى الملابسة شائعة في كلام العرب؛ كقولهم:"هو في نعمة ".
وفي قوله تعالى:" نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا "التفات؛ لأنه انتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم؛ لأن قبله قوله تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ "(البقرة: 21)، وقوله تعالى:
" فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ "(البقرة: 22)
فلو جرى الكلام على هذا السياق، لكان نظم الكلام هكذا:" مِمَّا أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِه "
لكن في هذا الالتفات من التفخيم للمنزَّل، والمنزَّل عليه ما لا يؤدِّيه ضمير غائب، لا سيَّما كونه أتى بـ{ نَا }المشعرة بالتعظيم التام، وتفخيم الأمر. ونظير ذلك قوله تعالى:
" وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَمِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ "(الأنعام:99)
وفي تعدي " نَزَّلَ "بـ" عَلَى "إشارة إلى استعلاء المنزَّل على المنزَّل عليه، وتمكُّنه منه، وأنه قد صار كالملابس له، بخلاف" إِلَى "؛ فإنها تدل على الانتهاء والوصول؛ كما في قوله تعالى:
" وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ "(الأنعام: 111)
ولما كانوا في ريب من القرآن حقيقة، وكانت" إِنْ " الشرطية؛ إنما تدخل على المُمْكن، أو المحقَّقِ المبهمِ زمانُ وقوعه، ادَّعى بعضهم أنَّ" إِنْ " هنا معناها:" إِذَا "؛ لأن" إِذَا " تفيد مضيَّ ما أضيفت إليه. ومذهب المحققين أنَّ " إِنْ " لا تكون بمعنى:" إِذَا ". والذي قالوه: إن الواقع- ولا بد- يعلق بـ" إِذَا ". وأما ما يجوز أن يقع، وأن لا يقع، فهو الذي يعلق بـ" إِنْ " ، وإن كان بعد وقوعه متعيِّن الوقوع.
وقوله تعالى:" فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ "أمرٌ من الإتيان، وهو المجيء بسهولة، كيفما كان. يقال: أتى بالشيء من مكان كذا إلى مكان كذا، إذا جاء به بسهولة ويسر. وهذا لا يقدر عليه إلا من آتاه الله تعالى بسطة في الجسم، أو العقل والعلم. تأمل قوله تعالى:
" قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ*قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ "(النمل: 39- 40 )(1/122)
كيف نبَّه تعالى على أن الذي عنده علم من الكتاب، وهو رجل من أهل الحكمة، اقتدر على الإتيان بعرش بلقيس، وتغلب على العفريت، مع ما فيه من قوة وشدة، بقوة العلم !
وصيغة الأمر" فَأْتُوا "للتهكم، ومذهب جمهور المفسرين أنها للتعجيز؛ لأن المراد بها ليس طلب ذلك منهم، بل المراد بها إظهار عجزهم.
والمعروف أن الأمر ضد النهي، وهو طلب الفعل، وصيغته: افعل، وليفعل. وهي حقيقة في الإيجاب؛ نحو قوله تعالى:" وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ "(البقرة: 43)، وقوله تعالى:
" فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ "(النساء: 102). ومثل ذلك قوله تعالى:" فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ "- " فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ "
فالأمر فيهما باقٍ على حقيقته، بدليل أن الله تعالى لم يطلب ذلك منهم مطلقًا؛ بل إنما قال عقب كل منهما:" إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ "
ومثل ذلك قوله تعالى:" قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ "(آل عمران: 93)
"قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ "(القصص: 49)
" قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ "(الأحقاف: 4)
"فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ"(الصافات: 157)
" فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ "(القلم: 41)
وعلى هذا التقدير، ووجود ذلك الشرط، يجب الإتيان بالشيء المأمور به.
أما أمر التعجيز في كلام الله تعالى فمثاله قوله إبراهيم- عليه السلام- لنمرود الكافر:
" فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ"(البقرة: 258)
والتنوين في " ِسُورَةٍ " للتنكير. أي: ائتوا بسورة مَّا، وهي القطعة من القرآن، التي أقلها ثلاث آيات. وفيه من التبكيت والتخجيل لهم في الارتياب ما لا يخفى.
واختلف المفسرون في مرجع الضمير في قوله:" مِنْ مِثْلِهِ " على قولين:
أحدهما:أنه يعود على قوله تعالى:" مِمَّا نَزَّلْنَا ". أي: على القرآن. والثاني:أنه يعود على قوله تعالى:" عَبْدِنَا ". أي: على النبي صلى الله عليه وسلم. والصواب هو القول الأول، وهو قول أكثر المفسرين.
واختلفوا في المراد بالمثلية على كون الضمير عائدًا على القرآن على أقوال هي إلى التأويل البعيد أقرب منها إلى التفسير الصحيح؛ لأنها مبنيَّة على فهم غير صحيح لمعنى المثل أولاً. وأن قائلوها لم يفرقوا بين الإتيان بالشيء، وقوله ثانيًا. وكلاهما أوضح من أن ينبَّه عليه، أو يشار إليه، وهذه الأقوال هي كما ذكرها أبو حيَّان:
الأول:من مثله، في حسن النظم، وبديع الرصف، وعجيب السرد، وغرابة الأسلوب وإيجازه وإتقان معانيه.
الثاني:من مثله، في غيوبه من إخباره بما كان، وبما يكون.
الثالث:من مثله، في احتوائه على الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والحكم والمواعظ، والقصص والأمثال.
الرابع:من مثله، في صدقه وسلامته من التبديل والتحريف.
الخامس:من مثله، أي: من كلام العرب، الذي هو من جنسه.
السادس:من مثله، في أنه لا يخلق على كثرة الرد، ولا تمله الأسماع، ولا يمحوه الماء، ولا تفنى عجائبه، ولا تنتهي غرائبه.
السابع:من مثله، في دوام آياته، وكثرة معجزاته.
الثامن:من مثله، أي: في كونه من كتب الله المنزلة على من قبله، تشهد لكم بأن ما جاءكم به ليس هو من عند الله.
ومذهب أكثر المفسرين أن ذكر المِثل في قوله:" مِنْ مِثْلِهِ " هو على سبيل الفرض. ومذهب بعضهم أن المراد به: كلام العرب، الذي هو من جنسه، فيكون ذكره ليس على سبيل الفرض.
ثم اختلفوا في معنى " مِنْ "، فقيل: هي للتبعيض، وهو مذهب الجمهور. وقيل: هي لبيان الجنس، وإليه ذهب الشيخ ابن عطية والمَهدَويُّ، وغيرهما. وذهب بعضهم إلى أنها زائدة؛ ولهذا حذفت في قوله تعالى:
" فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ "(يونس: 38)
أما كون " مِنْ "لبيان الجنس فلا يجوز على مذهب البصريين. وأما كونها زائدة في هذا الموضع فلا يجوز على مذهب الكوفيين، وجمهور البصريين. وليس في قوله تعالى:
" فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ "(يونس: 38)
دليل على زيادتها؛ لأن المراد به: فأتوا بكلام مثل القرآن. أو بقرآن مثل القرآن. وإذا كان كذلك، فلا وجه لدخول" مِنْ "فيه.
وأما قوله تعالى:" بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ "(البقرة: 23) فالمراد به: فأتوا بسورة واحدة من مثل القرآن، طويلة كانت، أو قصيرة؛ لأن لفظ " سُورَة " يعمُّ كل سورة في القرآن؛ لأنه نكرة في سياق الشرط، فتعمُّ؛ كما هي في سياق النفي.وعليه فإن" مِنْ " فيه لابتداء الغاية، وهي متعلقة بقوله:" فَأْتُوا ".
وأما المراد بالمثليّة هنا فهو كالمراد بها في قوله تعالى:(1/123)
" قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا "(الإسراء: 88)
وهذا ما فصَّلت القول فيه في مقالي السابق:" لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ "، المذكور على هذا الرابط:
فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
ثالثًا- لما طالب سبحانه وتعالى المشركين أن يأتوا بسورة من مثل القرآن- على تقدير حصولهم في ريب من كون هذا القرآن من عند الله- لم يكتف بقولهم ذلك بأنفسهم، حتى طلب منهم أن يدعو شهداءهم على الاجتماع على ذلك، والتظافر والتعاون والتناصر، فقال سبحانه:
" وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ "
وصيغة الأمر هنا:" ادْعُوا "للإباحة، بخلاف صيغة الأمر قبلها، فتلك للتهكم بهم؛ لأنهم غير قادرين على ذلك. وفسر بعضهم الدعاء- هنا- بطلب الغوث. يقال: دعا فلانًا: استغاث به. وبالاستحضار. يقال: دعا فلان فلانًا إلى الحاكم، استحضره إليه.
والشهداء في قوله تعالى:" شُهَدَاءَكُمْ "مقيَّد بلفظه، وهو جمع: شهيد، بمعنى: شاهد، من شهد، إذا حضر. وجيء به على: فعيل، لما فيه من المبالغة؛ وكأنه تعالى أشار إلى أن يأتوا بشهداء بالغين في الشهادة، يصلحون أن تقام بهم الحجة. والشهيد كما قال الراغب: كل من يُعتَدُّ بحضوره ممن له الحل والعقد؛ ولذا سمُّوا غيره: مُخلِفًا.
وقوله تعالى:" إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ "عبارة شرطية، جيء بها قيْدًا على الجملة قبلها. وفيها إثارة لحماسهم، أو تهكم بهم. والمعنى المراد: إن كنتم صادقين، فأتوا بسورة من مثله.
رابعًا- ولما كان أمره تعالى إياهم بالإتيان بسورة من مثله أمر تحدٍّ وتهكم؛ لأنهم غير قادرين على ذلك، انتقل سبحانه إلى إرشادهم، فقال لهم:
" فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ "(البقرة: 24)، فذكر أمرين:
أحدهما:أنهم لم يفعلوا.
والثاني:أنهم لن يفعلوا أبدًا؛ لأنهم ليسوا بقادرين على ذلك.
ولذلك أمرهم تعالى باتقاء النار، التي أعدَّها للكافرين من أمثالهم.
وأتى بـ" إِنْ " الشرطية، التي تدل على إمكان ما بعدها وعدم إمكانه، ولم يأت بـ" إِذَا "، التي تدل على تحقق ما بعدها زيادة في التهكُّم بهم؛ كما يقول القائل: إن غلبتك، لم أبق عليك، وهو يعلم أنه غالب.
و" لَنْ " لنفي المستقبل، فثبت الخبر أنهم فيما يستقبل من الزمان، لن يأتوا " بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ "؛ وذلك مبالغة في التحدي، وإفحامًا لهم. ولو كان في طاقتهم تكذيبه، ما توانوا عنه لحظة واحدة.
وقال تعالى:" فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا "، ولم يقل سبحانه:" فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا وَلَنْ تَأْتُوا "؛ لأن{ فَعَلَ } عامٌّ في الأفعال كلها، ويجري مجرى الكناية، فيعبَّر به عن كل فعل، إيجازًا واختصارًا، وحيث أطلق في كلام الله تعالى، فهو محمول على الوعيد الشديد؛ كقوله تعالى:
" أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ "(الفيل: 1). وقوله تعالى:
" وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ "(إبراهيم: 45)
وجملة " لَنْ تَفْعَلُوا " اعتراضية بين الشرط وجوابه، وفيها من تأكيد المعنى ما لا يخفى؛ لأنه لما قال تعالى:" فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا "، وكان معناه: نفي في المستقبل، مخرجًا ذلك مخرج الممكن، أخبر أن ذلك لن يقع، وهو إخبار صدق، فكان في ذلك تأكيد على عجزهم. وفي ذلك إثارة لهممهم؛ ليكون عجزهم بعد ذلك أبلغ وأبدع، وفيه أيضًا دليلان على إثبات النبوة:
أحدهما:صحة كون المتحدَّى به معجزًا، وأنه من عند الله تعالى.
والثاني:الإخبار بالغيب من أنهم لن يفعلوا في المستقبل.
ولما كان الفعل المنفي بـ"لَمْ " في قوله تعالى:" وَلَمْ تَفْعَلُوا "مرادًا به الاستقبال، لدخول أداة الشرط عليه، حسُن تأكيده بقوله:" وَلَنْ تَفْعَلُوا ". وكان من حقه أن يؤكَّد بقول:" وَلَا تَفْعَلُون "، فيقال:"فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَا تَفْعَلُون "؛ لأن قبله في أول السورة:
" ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ "(البقرة: 2)
و" لاَ رَيْبَ فِيهِ " نفيٌ لجنس الريب عن القرآن الكريم على سبيل الاستغراق والشمول. وهذا النفي يناسبه أن يقال:" وَلَا تَفْعَلُون "؛ كما قال تعالى في آية الإسراء :
" قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ "(الإسراء: 88)
والسر في هذا العدول من النفي بـ" لَا " إلى النفي بـ" لَنْ " أن العرب تنفي بـ" لَنْ " ما كان ممكنًا عند المخاطب، مظنونًا أنه سيكون، فتقول: لن يكون، لما يمكن أن يكون؛ لأن " لَنْ " فيها معنى" أَنْ ". و" أَنْ " تدل على إمكان الفعل، دون الوجوب والاستحالة. وإذا كان الأمر عندهم على الشك، لا على الظن: أيكون، أم لا يكون ؟ قالوا في النفي: لا يكون.(1/124)
وقوله تعالى:" فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ "
جواب للشرط. ولقائل أن يقول: ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله ؟ والجواب: إذا ظهر عجزهم عن الإتيان بسورة من مثل القرآن، صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا صح ذلك، ثم لزموا العناد، استوجبوا العقاب بالنار. فاتقاء النار يوجب ترك العناد. فأقيم المؤثر مقام الأثر، وجعل قوله:" فَاتَّقُوا النَّارَ " قائمًا مقام قوله:{ فاتركوا العناد }. وهذا هو الإيجاز، الذي هو أحد أبواب البلاغة. وفيه تهويل لشأن العناد؛ لإنابة اتقاء النار منابه، متبعًا ذلك بتهويل صفة النار.
و" النَّاسُ "يراد به: الخصوص ممَّن شاء الله دخولهم هذه النار، وإن كان لفظه عامًا. و" الْحِجَارَةُ "يراد بها: الأصنام. وقد جعل كلاهما وقودًا لهذه النار، فدل على أنها نار ممتازة من النيران، بأنها لا تتَّقد إلا بالناس والحجارة؛ وذلك يدل- أيضًا- على قوتها من وجهين:
الأول:أن سائر النيران، إذا أريد إحراق الناس بها، أو إحماء الحجارة، أوقدت أولاً بوقود، ثم طرح فيها ما يراد إحراقه، أو إحماؤه. وهذه توقد بنفس ما تحرق.
والثاني:أنها لإفراط حرِّها تتَّقد في الحجر.
والوَقود، بفتح الواو، هو ما يلقى في النار لإضرامها؛ كالحطب ونحوه، كما قال تعالى:
" وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً "(الجن: 15)
وإنما قرن الله سبحانه الناس بالحجارة، وجعلها معهم وقودًا؛ لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا، حيث نحتوها أصنامًا، وجعلوها لله أندادًا، وعبدوها من دونه سبحانه. وإلى ذلك أشار تعالى بقوله:" إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ "(الأنبياء: 98- 99).
وهذه الآية مفسرة لها، فقوله تعالى:" إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ " في معنى: " النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ "
وقوله:" حَصَبُ جَهَنَّمَ "في معنى:" وَقُودُهَا " .
ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء، الذين يستشفعون بهم، ويستدفعون المضار عن أنفسهم تمسكًا بهم، وجعلها الله عذابهم، قرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغًا وإغرابًا في تحسرهم.
ونحو ذلك ما يفعله تعالى بالكافرين، الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة، فشحوا بها، ومنعوها من الحقوق، حيث يُحمَى عليها في نار جهنم، فتُكوَى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم؛ كما أخبر بذلك سبحانه وتعالى بقوله:
" يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ "(التوبة: 35)
وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن، لقوله تعالى:" أُعِدَّتْ ".أي: أرصدت وهيئت. وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك؛ منها:" تحاجَّت الجنة والنار ".
ومنها:" استأذنت النار ربها، فقالت: ربِّ ! أكل بعضي بعضًا، فأذنَ لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف ".
ومنها حديث ابن مسعود رضي الله عنه:" سمعنا وجبة، فقلنا ما هذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا حجر ألقي به من شفير جهنم، منذ سبعين سنة، الآن وصل إلى قعرها ".
وغير ذلك من الأحاديث المتواترة، التي تؤكد على أن النار، التي أعدَّها الله تعالى للكافرين، وجعل وقودها الناس والحجارة، موجودة، نسأل الله تعالى أن يعيذنا منها برحمته الواسعة !
بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك
==============
لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ
قال الله تعالى:" قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا " (الإسراء:88)
أولاً- هذا خطاب من الله جل وعلا، يأمر فيه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر كفار مكة، بعجزهم عن الإتيان بمثل هذا القرآن، وقد عمَّ بهذا الخبر، المؤكَّد بالقسم، جميع الخلق: إنسهم وجنهم، معجزًا لهم، قاطعًا بعجزهم مجتمعين عن الإتيان بمثله إلى يوم القيامة، ولو تظاهروا عليه. وهو من أعظم الدلائل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام في أول الأمر، عند كل من سمع هذا الكلام من المشركين وغيرهم من الكفار، وعلم أنه من القرآن، الذي أمِر ببلاغه إلى جميع الخلق، وهو وحده كافٍ في العلم بأن هذا القرآن العظيم خارقٌ، يُعجِز الثقلين عن الإتيان بمثله بحيلة، وبغير حيلة.
وروي في سبب نزول هذه الآية: أن جماعة من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو جئتنا بآية غريبة غير هذا القرآن، فإنّا نحن نقدر على المجيء بمثل هذا، فنزلت ردًّا عليهم.(1/125)
وافتتاح هذا الخطاب بصيغة الأمر" قُلْ "للاهتمام به، وهو تنويهٌ بشرف هذا القرآن العظيم، وامتنانٌ على الذين آمنوا به؛ إذ كان لهم شفاء ورحمة، وإثباتُ عجز الذين أعرضوا عنه من الكفار والمشركين والملحدين عن الإتيان بمثله.
واللام في قوله تعالى:" لَئِنِ "هي الموطِّئة للقسم، دخلت على الشرط. والمعنى: قل: والله ! :" اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ "
ومعنى اجتماع الإنس والجن: اتفاقهم، واتحاد آرائهم. أي: لو تواردت عقولهم على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يؤتون بمثله، ولو تظاهروا على ذلك.
وقدم سبحانه الإنس على الجن؛ لأنهم هم المعنيون بهذا الخطاب؛ ولأنهم كانوا يزعمون أن القرآن الكريم تنزلت به الشياطين على محمد صلى الله عليه وسلم، فردَّ عليهم سبحانه وتعالى بقوله:
" وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ "(الشعراء: 210- 212)
وكانوا قبل نزول القرآن يسترقون السمع، فيلقون من الجزاء ما يلقون، وقد أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله:
" وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ *وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ *إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ "(الحجر: 16- 18)
وحكي عنهم قولهم:
" وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا *وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا "(الجن: 8-9)
ثم عزلوا بعد ذلك عن السمع كما نصَّ على ذلك قوله تعالى:
" إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ "(الشعراء: 212)
وقوله تعالى:" لَا يَأْتُونَ بمثله " جوابٌ للقسم، مغنٍ عن جواب الشرط. وقد جاء منفيًا بـ" لَا "؛ كما في قوله تعالى:
" لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ "(الحشر: 12)
ومن حق هذا الجواب أن يكون منفيًّا بـ" مَا "، التي يحسُن معها دخول اللام عليه، فيقال: لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لما أتوا؛ كما في قال ابن مالك الأرْحَبي في رثاء النبي صلى الله عليه وسلم:
لعَمْري لئن مات النبي محمد **لما مات يا ابن القيل رب محمد
أو يؤتَ بـ" مَا " دون اللام؛ كما قال تعالى في آية أخرى:
" لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ "(المائدة: 28)
هذا وجه الكلام؛ ولكنْ عُدِلَ عنه إلى قوله تعالى:" لَا يَأْتُونَ "؛ لأن" مَا " تختص بنفي الحال، ولا تدل على نفي الجنس إلا بوجود قرينة لفظية، وهي دخول " مِنْ " على منفيِّها؛ كما في قوله تعالى:"مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ "(المائدة: 19)
"وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا "(الأنعام: 59)
أما " لَا " فهي مختصَّة بنفي ما كان مستقبلاً، وقد ينفى بها الحال، وتدل على نفي جنس ما بعدها نفيًا شاملاً مستغرقًا لكل جزء من أجزاء الزمن في الحال والمستقبل، مع طول النفي وامتداده إلى ما يشاء الله تبارك وتعالى. فأفاد النفيُ بها أن الإتيان بمثل هذا القرآن، غير ممكن أبدًا على مرِّ الزمن، وأنه فوق طاقة الخلق من الإنس والجن.
ومن هنا كانت هذه الآية الكريمة مفحمة للكفار ولغيرهم، وللعالم كله في التحدي بإثبات عجزهم عن الإتيان بمثل هذا القرآن العظيم إلى يوم القيامة، وأنهم لا يقدرون على ذلك، مهما حاولوا.
ثانيًا- والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما المراد بهذه المِثلية، التي تُعجِز الثقلين مجتمعين عن الإتيان بها، رغم تظاهرهما وتعاونهما على ذلك ؟
وقبل الإجابة عن ذلك لا بدَّ من الإشارة إلى الأمور الآتية، والوقوف عندها:
الأمر الأول:اتفقت كلمة العلماء على أن المثل في قوله تعالى:
" أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ "
هو مثل مقدَّر مفروض، لا يمكن للعقل أن يتصوَّره؛ لأن الآية ابتدأت عندهم بافتراض اجتماع الإنس والجن. وهذا الافتراض- كما قال بعضهم- لا يتصور عقلاً، ممَّا يعني: أن نتيجة هذا الافتراض- وهو المجيء بمثل هذا القرآن- لا يتصور عقلاً؛ لأن الكلام مسوق مساق التعجيز.
ثم اختلفوا بعد ذلك في تحديد المتحدَّى بهذا المِثْل للقرآن، فقال بعضهم: التحدي إنما وقع للإنس دون الجن؛ لأنهم ليسوا من أهل اللسان العربي، الذي جاء القرآن على أساليبه؛ وإنما ذكروا مع الإنس، تعظيمًا لإعجاز القرآن؛ لأن للهيئة الاجتماعية من القوة ما ليس للأفراد. فإذا فُرض اجتماع الثقلين فيه، وظاهر بعضهم بعضًا، وعجزوا عن المعارضة، كان الفريق الواحد أعجز.
وقال بعضهم الآخر: بل وقع للجن أيضًا، والملائكةُ منويُّون في الآية؛ لأنهم لا يقدرون أيضًا على الإتيان بمثل القرآن. وإنما اقتصر في الآية على ذكر الإنس والجن؛ لأن محمدًا عليه الصلاة والسلام كان مبعوثا إلى الثقلين، دون الملائكة.(1/126)
أما القول بأن الآية ابتدأت بافتراض اجتماع الإنس والجن، وأن هذا الافتراض لا يتصور عقلاً، ممَّا يعني أن نتيجته لا تتصور عقلاً، فهو خلاف لظاهر الآية الكريمة، ومدلولها؛ لأن اجتماع الإنس والجن، لو كان افتراضًا، لوجب أن يكون نظم الكلام هكذا:
" لَو اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ". فلما لم يقل ذلك، وقيل:
" لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ "
علِم أنه ليس افتراضًا؛ وإنما هو مُمْكنٌ؛ لأن أداة الشرط " إِنْ " تدل على الإمكان، وعدم الإمكان، بخلاف " لَوْ "، التي من معانيها: فرض ما ليس بواقع واقعًا.
ثم إذا كان هذا افتراضًا، فكيف يقسم ربنا تبارك وتعالى على شيء، يفترض حدوثه مسبقًا؛ ليثبت عجز الإنس والجن على الإتيان بمثل هذا القرآن ؟! ولو كان افتراضًا، لكان كل قول ورد على هذا الأسلوب مبنيًّا على الافتراض؛ كقوله تعالى:
" لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ "(المائدة:28)
"وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ "(العنكبوت:61)
فبسط اليد للقتل في الآية الأولى، وسؤال المشركين عمَّن خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر في الآية الثانية، ليس بافتراض؛ وإنما هو ممكن، وغير ممكن.
أما الافتراض فهو ما كان مبنيًّا على الأداة " لَوْ "؛ كما في قوله تعالى:
" وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ "(الأنعام:111).
" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ "(المائدة:36).
ونحن إذا نظرنا إلى الآية الكريمة:
" قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا "(الإسراء:88)
رأيناها مركبة من جزأين: الجزء الأول قوله تعالى:
" لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ "
وهو جملة شرطية إمكانية تامة، قد أُقسِم على مضمونها؛ وهو: اجتماع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله.
والجزء الثاني قوله تعالى:
" وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا "
وهو عبارة شرطية افتراضية، جيءَ بها قيدًا على الجملة الأولى، ومضمونها هو كون بعض الإنس والجن لبعض ظهيرًا.
ولما كان كون بعض الإنس والجن لبعض ظهيرًا لا ينسجم في الدلالة مع اجتماعهم؛ لأن هذا ممكن، والآخر غير ممكن، أدخلت معه الواو الرَّغميَّة على أداة الشرط " لَوْ "؛ لتحسين اللفظ، وتحصين المعنى؛ إذ بدون هذه الواو يفسد معنى الكلام، ويختل نظمه. ويبدو لنا ذلك واضحًا، إذا تلونا الآية الكريمة بدون هذه الواو.
ولمزيد من الإيضاح والبيان نقول: هذه ( الواو الرغميَّة ) لا يؤتى بها إلا بين جملة تامة شرطية أو غير شرطية، وعبارة شرطية قيديَّة، غير منسجمة في الدلالة مع الجملة التامة، التي جعلت قيدًا عليها. وهذا النوع من الشرط يسمَّى شرطًا سلبيًّا، سواء كان مبنيًّا على " لَوْ "، أو " إِنْ "؛ كقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث، الذي رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:” أعطوا السائل، وإن كان على فرس “. وفي رواية أخرى:”ولو كان على فرس “.
أي: أعطوا السائل رَغم غناه؛ لأن كونه على فرس مُشْعِرٌ بالغنى. والغنى لا يناسبه الإعطاء، ولا ينسجم معه في الدلالة انسجامًا مباشرًا؛ ولهذا لا يجوز أن يقال: أعطوا السائل، إن كان غنيًا. أو أعطوا السائل، لو كان غنيًّا، بدون واو؛ لأنه لو قيل ذلك، لجعل الغنى شرطًا في الإعطاء؛ فمن كان غنيًّا يعطى، ومن لم يكن غنيًّا لا يعطى. ومن هنا كان لا بد من تحصين المعنى من هذا الفهم أولاً، وربط العبارة الشرطية بالجملة قبلها ثانيًا، ولا يتم ذلك إلا بإدخال هذه الواو الرَّغميَّة على كل من " لَوْ " و" إِنْ " في العبارة الشرطية.
وعلى هذا الأسلوب وردت الآية الكريمة:" قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا "(الإسراء:88).
وكأنه حين قيل:" قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ "
قيل:" وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا "؟
فقيل: نعم " وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا "!
فلو قيل:" لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا "، بإسقاط الواو، أفاد أن عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن مشروط بكون بعضهم لبعض ظهيرًا، وهذا خلاف المراد.(1/127)
ومن الفروق في المعنى بين " لَوْ "، و" إِنْ": أن الأصل في" لَوْ "أنها أداة تمن، ثم نقلت إلى الشرط؛ وذلك من باب تعدد المعنى الوظيفي للمبنى الواحد؛ ومن خواصِّها فرض ما ليس بواقع واقعًا- كما ذكرنا- ولهذا تستعمل فيما لا يُتَوقَّع حدوثُه، وفيما يمتنع حدوثه، أو فيما هو محال، أو من قبيل المحال.
أما " إِنْ" فهي في الأصل موضوعة للشرط؛ ومن خواصِّها أنها تدل على الإمكان، وعدم الإمكان، بمعنى: أن الفعل معها ممكن الوقوع، وغير ممكن. وقد اجتمعت الأداتان في هذه الآية الكريمة، فأفادت" إِنْ" أن اجتماع الإنس والجن ممكن الحدوث، وأفادت " لَوْ " أن تظاهرهما غير متوقع الحدوث؛ وإنما جيء به للدلالة على المبالغة.
الأمر الثاني:أن المراد بقوله تعالى:" لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ " هو نفيٌ لقدرة الإنس والجن مجتمعين عن الإتيان بمثل هذا القرآن، وليس المراد مطالبتهم بالإتيان بهذا المثل، ويدل على ذلك:
أولاً-أنه ليس في الكلام ما يشير، لا من قريب، ولا من بعيد، إلى أن المراد هو مطالبتهم بذلك. ولو كان المراد مطالبتهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن، لوجب أن يقال: فأتوا بمثل هذا القرآن. أو: فليأتوا بمثل هذا القرآن؛ كما قال سبحانه وتعالى في موضع آخر:" فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ "(البقرة: 23)
" فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ "(الطور: 34)
ثانيًا- أنه ليس من المعقول أن يثبت الله سبحانه عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل هذا القرآن على سبيل القطع والجزم، ثم يطالبهم أن يأتوا بهذا المثل؛ ولهذا قال الزرقاني:”والقرآن نفسه أعذر حين أنذربأنه لا يمكن أن يأتي الجن والإنس بمثله، وإن اجتمعوا له، وكان بعضهم لبعض ظهيرًا، وبذلك قطعت جهيزة قول كل خطيب“.
فثبت بذلك أن المراد بقوله تعالى" لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ "- كما ذكرنا-: هو إثبات عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل هذا القرآن، وأن ذلك فوق طاقاتهم وقدراتهم. وهذا تحد لهم غير مباشر، وهو من أعظم الدلائل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثالث:إذا ثبت عجز الإنس والجن مجتمعين عن الإتيان بمثل هذا القرآن، كان عجز الإنس عن ذلك من باب أولى. وإنما جمع بين الإنس والجن؛ لأن محمدًا عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى الثقلين معًا. فقد ثبت بنص القرآن والسنة أن الجن منهم المؤمنون، ومنهم الكافرون. وأن الكافرين منهم كانوا يستمعون إلى القرآن، وهو يتلى، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يجتمع بهم، ويقرأ القرآن عليهم، ويدعوهم إلى الإيمان، وأن كثيرًا منهم من آمن به، وكثيرًا منهم من بقي على كفره. فمثلهم في ذلك مثل الإنس تمامًا؛ ولهذا خاطبهم الله تعالى بقوله:
" يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ "(الأنعام:130)
ومن هنا نرى أنه لا داع لقول من قال: إن التحدي وقع للإنس دون الجن. أو إنه وقع للملائكة؛ لأنهم لا يقدرون- أيضًا- على الإتيان بمثل هذا القرآن. أو إنه وقع للعرب دون العجم.. أو غير ذلك من الأقوال، التي لا تغني من الحق شيئًا. وهو دليل أيضًا على أن اجتماع الإنس والجن ممكن كما ذكرنا.
الأمر الرابع:وهو أن علماء التفسير اختلفوا- قديمًا وحديثًا- وما زالوا يختلفون في معنى المثلية المنصوص عليها في قوله تعالى:" أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ "، على أقوال كثيرة، لا تخلو من تكلف، وتمحُّل؛ ولهذا وجدنا أحد الطاعنين في القرآن الكريم يثير بعض الأسئلة حول مفهوم هذه المثلية مشككًا في القرآن، وصحة نسبته إلى الله جل وعلا، فقال في مقدمة كتابه ( أكذوبة الإعجاز العلمي في القرآن ):
”لقد تحدى القرآن جميع البشر، فلم يستطع أحد أن يقاوم ذلك التحدي. والسؤال هو: ما هي شروط هذا التحدي ؟ لا يعقل أن تتحدى شخصًا مَّا بأن يأتي " بِمِثْلِهِ " دون أن تحدد الشروط، ودون أن تحدد " بِمِثْلِهِ "في ماذا ؟ اللغة، الشرائع... إلخ “.
وأضاف قائلاً:” هل الإعجاز في المعنى، أم في بناء الجملة، أم في النحو، أم البلاغة، أم إنه في جميعها ؟ وهل هو خاص بالعربية وأهلها فقط، أم إنه أيضًا قائم في حال الترجمة ؟ “.
هذه الأسئلة، التي يثيرها هذا الملحد- وهو محقٌّ في إثارتها وإن كان غرضه خبيثًا- هي مبنية في حقيقتها على ما دار، وما زال يدور، من خلاف بين المفسرين في تحديد المراد من هذه المثلية.(1/128)
ونحن إذا نظرنا إلى قوله تعالى:" أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ "، نرى أنه يشير بوضوح، لا لبس فيه إلى أن المطلوب الإتيان به هو مثل هذا القرآن، لا القرآن نفسه. وأن الإشارة بقوله تعالى:" هَذَا الْقُرْآَنِ " إشارة إلى حاضر موجود، و أن المطلوب هو الإتيان بمِثْل هذا الحاضر الموجود. وهذا المثل ينبغي أن يكون معلومًا؛ لأنه لا تجوز المطالبة الإتيان بما لا يُعلَم، ولا يُدْرَى ما هو ؟ وجاء لفظ المثل في قوله تعالى:" لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ " مكرَّرًا على سبيل التوكيد والتوضيح؛ إذ قد يراد بمِثل الشيء: في موضع الشيء نفسه- كما قال أبو حيان- فبُيِّن بتكرار" بِمِثْلِهِ "، ولم يكن التركيب:" لَا يَأْتُونَ بِهِ "، رفعاً لهذا الاحتمال.
ويتضح مما تقدم أن للقرآن الكريم مثل، يماثله في تمام الحقيقة والماهية، وأن هذا المثل معلوم بنصِّ هذه الآية الكريمة. وهذا المثل هو الذي أخبر الله تعالى بعجز الثقلين مجتمعين عن الإتيان به، رغم تظاهرهم على ذلك.
ومما ينبغي الإشارة إليه- هنا- أن لكل شيء مِثلاً، يماثله في تمام الحقيقة والماهية إلا الله سبحانه وتعالى، فلا شبه له ولا مثل.. وأن مِثْل الشيء يؤخذ من الشيء نفسه، إذا ما تعذر وجود مِثْل له في الواقع. وأن المأخوذ فرعٌ، والمأخوذ منه أصل، وأن لفظ المِثْل يطلق على كل من الأصل، والفرع.
وهذا يعني- كما ذكرنا- أن للقرآن الكريم مِثلٌ معلوم، وأن ذلك المثل المعلوم هو الأصل، وهذا القرآن، الذي بين أيدينا هو فرع مأخوذ من ذلك الأصل.
ولمعرفة ذلك المثل، الذي هو أصل للقرآن، الذي بين أيدينا اقرؤوا، إن شئتم قول الله تعالى:
" بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ "(البروج: 21- 22)
فماذا تجدون ؟ تجدون: قرآنًا مجيدًا، في لوح محفوظ.
والمجيد هو العظيم وهو الكريم، وهو من صفات الباري جل وعلا. وفي لسان العرب:” يريد بالمجيد: الرفيع العالي. وفي حديث عائشة رضي الله عنها: ناوليني المجيد أي المصحف. وهو من قوله تعالى:" بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ ". ولفظ المجيد ورد في القرآن في أربعة مواضع، هذا أحدها.
والموضع الثاني في قوله تعالى:" وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ "(ق: 2)
والثالث في قوله تعالى:" إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ "(هود: 73)
والرابع في قوله تعالى:" ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ "(البروج: 15)
فجعل سبحانه وتعالى صفة القرآن من صفته جل وعلا:
" وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "(الروم: 27)
أما اللوح- كما جاء في لسان العرب- فـ” هو مستودع مشيئات الله تعالى. وكل عظم عريض لوح، والجمع منهما: ألواح. وقال أبو إسحق: القرآن في لوح محفوظ، وهو أم الكتاب عند الله عز وجل. وقيل: هو في الهواء فوق السماء السابعة، طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وهو من درة بيضاء. قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وقوله تعالى:" مَّحْفُوظٍ " يعني: مُصَانٌ، لا يمكن للشياطين أن تتنزَّل بشيء منه، أو تغيِّر منه شيئًا “.
" وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ "(الشعراء: 210- 212)
فهل ذلك القرآن المجيد في ذلك اللوح المحفوظ من الشياطين هو قرآننا، الذي بين أيدينا، أم هو قرآن غيره ؟! وإن لم يكن هو، ولا غيره، فما قرآننا- إذًا- إن لم يكن مِثلاً مأخوذًا منه ؟
ثم اقرؤوا، إن شئتم، قول الله تعالى:
" فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * في كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ "(الواقعة: 75- 79)
وتأملوا، كيف نفى الله تبارك وتعالى حاجته إلى القسم بمواقع النجوم على أن القرآن كريم، وكيف أقسم سبحانه بالقرآن في قوله:
" وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ "(ص: 1)، وقوله:" وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ "(ق: 1)
على ثبوت هذا القرآن نفسه وصدقه، وأنه حق من عنده ؟!
فإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على أن القرآن المقسم به، والموصوف بذي الذكر، وبالمجيد، هو غير القرآن، الذي نفى سبحانه وتعالى حاجته إلى القسم بمواقع النجوم على أنه قرآن كريم.
ويدل على ذلك- أيضًا- أن الله عز وجل وصف هذا القرآن، الذي نفى حاجته إلى القسم عليه بمواقع النجوم، بقوله:
" فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ "(الواقعة: 78- 79)
كما وصفه بقوله:" بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ "(البروج: 21- 22)
وفي تفسير قوله تعالى:" فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ " قال ابن قيِّم الجوزيَّة:”اختلف المفسرون في هذا، فقيل: هو اللوح المحفوظ “. ثم قال:”والصحيح: أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة؛ وهو المذكور في قوله:" فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ "(عبس: 13- 16).(1/129)
ويدل على أنه الكتاب، الذي بأيدي الملائكة قوله:" لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ". فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسُّونه. وهذا هو الصحيح في معنى الآية “.
وأضاف ابن قيِّم الجوزيَّة قائلاً:”ومن المفسرين من قال: إن المراد به أن المصحف لا يمسُّه إلا طاهر، والأول أرجح لوجوه:
أحدها:أن الآية سيقت تنزيهًا للقرآن أن تنزل به الشياطين، وأن محله لا يصل إليه، فلا يمسُّه إلا المطهرون، فيستحيل على أخابث خلق الله وأنجسهم أن يصلوا إليه، أو يمسُّوه؛ كما قال تعالى:
" وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ "(الشعراء: 210- 212)
فنفى الفعل، وتأتِّيه منهم، وقدرتهم عليه. فما فعلوا ذلك، ولا يليق بهم، ولا يقدرون عليه؛ فإن الفعل قد ينتفي عمَّن يحسُن منه، وقد يليق بمن لا يقدر عليه، فنفى عنهم الأمور الثلاثة.
وكذلك قوله تعالى في سورة عبس:"في صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ* كِرَامٍ بَرَرَةٍ "(عبس: 13- 16)
فوصف محلَّه بهذه الصفات بيانًا أن الشيطان لا يمكنه أن يتنزل به. وتقرير هذا المعنى أهم وأجمل وأنفع من بيان كون المصحف، لا يمسُّه إلا طاهر.
الوجه الثاني:أن السورة مكية، والاعتناء في السور المكية؛ إنما هو بأصول الدين من تقرير التوحيد والمعاد والنبوة. وأما تقرير الأحكام والشرائع فمظنة السور المدنية.
الوجه الثالث:أن القرآن لم يكن في مصحف عند نزول هذه الآية، ولا في حياة رسول الله؛ وإنما جمع في المصحف في خلافة أبي بكر. وهذا، وإن جاز أن يكون اعتبار ما يأتي، فالظاهر أنه إخبار بالواقع حال الإخبار.
الوجه الرابع:وهو قوله تعالى:" فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ". والمكنون: المصون المستور عن الأعين، الذي لا تناله أيدي البشر؛ كما قال تعالى:"كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ "(الصافات: 49)
وهكذا قال السلف. قال الكلبي: مكنون من الشياطين. وقال مقاتل: مستور. وقال مجاهد: لا يصيبه تراب ولا غبار. وقال أبو إسحاق: مصون في السماء.
الوجه الخامس:أن وصفه بكونه مكنونًا، نظير وصفه بكونه محفوظًا. فقوله تعالى:" إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ"؛ كقوله تعالى:" بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ".
الوجه السادس:أن هذا أبلغ في الرد على المكذبين، وأبلغ في تعظيم القرآن من كون المصحف، لا يمسَّه محدث.
الوجه السابع:قوله تعالى:" لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ "، بالرفع، فهذا خبر لفظًا ومعنى. ولو كان نهيًا، لكان مفتوحًا. ومن حمل الآية على النهي، احتاج إلى صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى النهي. والأصل في الخبر، والنهي حملُ كلٍّ منهما على حقيقته. وليس- ههنا- موجب يوجب صرف الكلام عن الخبر إلى النهي.
الوجه الثامن:أنه قال:" إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ "، ولم يقل:" إِلَّا المُتَطَهِّرُونَ ". ولو أراد به منع المحدث من مسِّه، لقال: إلا المتطهرون؛ كما قال تعالى:
"ِإنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ"(البقرة: 222)
وفي الحديث:« اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين».
فالمتطهِّر فاعل التطهير. والمطهَّر الذي طهَّره غيرُه. فالمتوضئ متطهِّر، والملائكة مطهَّرون.
الوجه التاسع:أنه لو أريد به المصحف، الذي بأيدينا، لم يكن في الإخبار عن كونه مكنونًا كبيرُ فائدةٍ؛ إذ مجرد كون الكلام مكنونًا في كتاب، لا يستلزم ثبوته، فكيف يمدح القرآن بكونه مكنونًا في كتاب ؟ وهذا أمر مشترك، والآية إنما سيقت لبيان مدحه وتشريفه، وما اختص به من الخصائص، التي تدل على أنه منزل من عند الله، وأنه محفوظ مضمون، لا يصل إليه شيطان بوجه مَّا، ولا يمسُّ محلَّه إلا المطهَّرون، وهم السفرة الكرام البررة.
الوجه العاشر:ما رواه سعيد بن منصور في سننه: حدثنا أبو الأحوص، حدثنا عاصم الأحول عن أنس بن مالك في قوله:" لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ "، قال: المطهرون: الملائكة. وهذا عند طائفة من أهل الحديث في حكم المرفوع.
وقال حرب في مسائله: سمعت إسحق في قوله:" لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " قال: النسخة التي في السماء، لا يمسها إلا المطهرون. قال: الملائكة .
وأنت إذا تأملت قوله تعالى:" إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ "
وجدت الآية من أظهر الأدلة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا القرآن جاء من عند الله، وأن الذي جاء به روح مطهر، فما للأرواح الخبيثة عليه سبيل، ووجدت الآية أخت قوله تعالى:" وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ* وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ* إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ "
وثبت لك أن القرآن الموصوف بقوله تعالى:" وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ "، وقوله تعالى:" وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ "(1/130)
ليس هو القرآن الكريم الموجود" فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ"، والقرآن المجيد الموجود" فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ "؛ وإنما هو فرعمنه، وذاك أصل. والفرع مأخوذ من الأصل. وذلك الأصل هو المراد:" بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ " في قول الله جل وعلا:
" قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ".
فإذا عرفت ذلك، تبين لك أنه ليس المراد بالمِثلية في هذه الآية ما فهمه علماء التفسير منها، وأنها ليست مثلية مفروضة على قول الأكثرين، أو غير مفروضة على قول من قال إن المراد بالمثل: كلام العرب، الذي هو من جنسه؛ بل المراد بها: أن للقرآن الكريم مِثلاً يماثله في تمام حقيقته وماهيته، وأن هذا المثل معلوم، وهو الذي أخبر الله تعالى أولاً بعجز الإنس والجن عن الإتيان به، ثم أخبر ثانيًا بعجز الخلق أجمعهم عن الإتيان بسورة منه في قوله تعالى:
" وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ "(البقرة: 23).
ولهذا فقد ذهب المفسرون بعيدًا حين زعموا أن المراد بهذه المثلية: مثلية في البلاغة، أو الفصاحة، أو حسن النظم.. أو أنها مثلية وحي وتنزيل كما زعم بعضهم، أو غير ذلك من الأقوال، التي لا تفسِّر أسلوبًا، ولا توضح معنى.
ولو كان المراد بهذه المثلية شيئًا مما ذكروا، لوجب أن يكون نظم الكلام هكذا:
" قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَقُولُوا مِثْلَهَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَقولونَ مِثْلَهُ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا "
كما حكي عنهم قولهم:"وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَهَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ "(الأنفال: 31 )
فتأمل، وتدبر، واعتبر الأمور بأمثالها، تصب خيرًا، وتنطق صوابًا، إن شاء الله ، ولا يغرَّنَّك بالله الغَرور !!!
بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك
=============
أسماء الله الحسنى بين الإطلاق والتقييد
تسعة وتسعون ومائة إلا واحدا
ماذا المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا) ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد .
فقد ورد حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه في أكثر من خمسين موضعا من كتب السنة يرفعه إلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) .
والملاحظ أن جميع الروايات تذكر لفظ (التسعة والتسعين) مقرونا بلفظ (مائة إلا واحدا)، فما العلة من التكرار المذكور في الحديث ؟ أهو فقط تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على ذكر العدد تسعة وتسعين ؟ أم أراد المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى شيئا آخر ؟ .
قال عبد الرءوف المناوي في بيان علة قول النبي صلى الله عليه وسلم مائة إلا واحدا : (ولما كانت معرفة أسمائه توقيفية لا يعلم إلا من طريق الوحي والسنة، ولم يكن لنا التصرف فيها بما لم يهتد إليه مبلغ علمنا ومنتهى عقولنا، وقد نهينا عن إطلاق ما لم يرد به توقيف، وكان الاحتمال في رسم الخط واقعا باشتباه تسعة وتسعين في زلة الكاتب وهفوة القلم بسبعة وتسعين أو تسعة وسبعين؛ فينشأ الاختلاف في المسموع من المسطور أكده صلى الله عليه وسلم حسما للمادة وإرشادا للاحتياط بقوله مائة إلا واحدا) (فيض القدير 2/479) .
لقد كان النص على العدد 99 وتكرار ذكره بقوله صلى الله عليه وسلم : (مائة إلا واحدا) دافعا للبعض أن يجزم بأن أسماء الله بجملتها لا تزيد على تسعة وتسعين شيئا على الرغم من كونه لم يقم بإحصائها، فقال ابن حزم الأندلسي: (فصح أنه لا يحل لأحد أن يسمي الله تعالى إلا بما سمى به نفسه، وصح أن أسماءه لا تزيد على تسعة وتسعين شيئا لقوله عليه السلام: مائة إلا واحدا؛ فنفى الزيادة وأبطلها) (المحلى لابن حزم 8/31) .
غير أن البحث عن أسماء الله الحسنى التي ثبتت بنصها في الكتاب والسنة من خلال استخدام الموسوعات الإلكترونية أظهر أمرا آخر غير متوقع .(1/131)
فقد بينا في بحثنا المسمى أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة أن الأسماء المشهورة التي يحفظها الناس لأكثر من ألف عام ليست نصا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هي اجتهاد قام به الوليد بن مسلم (ت:195هـ) ثم ألحقه أو أدرجه مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا)، وظن كثير من الناس أن الأسماء المشهورة من النص النبوي المرفوع . وبينا أيضا أن علماء الأمة على اختلاف مذاهبهم اتفقوا على أنه يجب الوقوف على ما جاء في الكتاب والسنة بذكر أسماء الله نصا دون زيادة أو نقصان؛ لأن أسماء الله الحسنى توقيفية لا مجال للعقل فيها؛ فدورنا حيال الأسماء الجمع والإحصاء ثم الحفظ والدعاء وليس الاشتقاق والإنشاء .
وكذلك ذكرنا أنه من الضوابط الأساسية في التعرف على أسماء الله الحسنى أن يرد الاسم بنصه في الكتاب والسنة، وأن يكون علما على ذات الله وليس فعلا أو وصفا لا يقوم بنفسه، وأن يرد الاسم في سياق النص مطلقا دون إضافة مُقَيِّدة أو قرينة ظاهرة، وأن يكون اسما على مسمى أو اسما دالا على الوصف بالتضمن، وأن يكون الوصف الذي دل عليه الاسم في غاية الكمال والجمال ؛ فلا يكون المعنى عند تجرد اللفظ منقسما إلى كمال أو نقص .
وقد انطبقت تلك الضوابط بالبحث الاستقصائي الحاسوبي على تسعة وتسعين اسما وردت بنصها في الكتاب وصحيح السنة تضاف إلى لفظ الجلالة، وتسمى هذه الأسماء بالأسماء الحسنى المطلقة التي تفيد المدح والثناء على الله بنفسها، وعددها 99 اسما تضاف إلى لفظ الجلالة وهي حسب الترتيب الاجتهادي المختار :
الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ المَلِكُ القدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ الأوَّلُ الآخِرُ الظاهِرُ البَاطِنُ السَّمِيعُ البَصِيرُ المَولَى النصِيرُ العَفُوُّ القَدِيرُ اللطِيفُ الخَبِيرُ الوِترُ الجَمِيلُ الحَيِيُّ السِّتيرُ الكَبِيرُ المُتَعَالُ الوَاحِدُ القَهَّارُ الحَقُ المُبِينُ القَوِيُّ المَتِينُ الحَيُّ القَيُّومُ العَلِيُّ العَظِيمُ الشكُورُ الحَلِيمُ الوَاسِعُ العَلِيمُ التَّوابُ الحَكِيمُ الغَنِيُّ الكَرِيمُ الأَحَدُ الصَّمَدُ القَرِيبُ المُجيبُ الغَفُورُ الوَدودُ الوَلِيُّ الحَميدُ الحَفيظُ المَجيدُ الفَتَّاحُ الشهيدُ المُقَدِّمُ المُؤخِّرُ المَلِيكُ المُقْتَدِرْ المُسَعِّرُ القَابِضُ البَاسِطُ الرَّازِقُ القَاهِرُ الديَّانُ الشاكِرُ المَنانُ القَادِرُ الخَلاَّقُ المالِكُ الرَّزاقُ الوَكيلُ الرَّقيبُ المُحْسِنُ الحَسيبُ الشافِي الرِّفيقُ المُعطي المُقيتُ السَّيِّدُ الطيِّبُ الحَكَمُ الأكرَمُ البَرُّ الغَفارُ الرَّءوفُ الوَهَّابُ الجَوَادُ السُّبوحُ الوَارِث الرَّبُّ الأعلَى الإِلَهُ .
وتلك النتيجة في حد ذاتها إعجاز نبوي يصدق ما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا) .
غير أن الأعجب من ذلك أننا لما بحثنا بحثا منهجيا حاسوبيا عن باقي الأسماء التي وردت بنصها في الكتاب وصحيح السنة ولها حالات مخصوصة ـ وهي الأسماء المقيدة أو الأسماء غير المطلقة ـ كانت المفاجئة ظهور إعجاز نبوي آخر ينضم إلى ما سبق ؛ فقد أظهرت نتيجة البحث أن عددها الثابت الصحيح الذي ورد بنصه تسعة وتسعون اسما أيضا أو مائة إلا واحدا كما ورد في الحديث .
ولمزيد من البيان فالأسماء المقيدة هي تلك الأسماء التي وردت في الكتاب والسنة وتفيد المدح والثناء على الله بغيرها، إما بإضافة ظاهرة أو تقييد مخصوص في اللفظ أو عند انقسام المعنى، فيظهر بالتقييد حسن الأسماء وكمالها، والتقييد في الأسماء الثابتة بنص القرآن والسنة يرد على ثلاثة أنواع :
النوع الأول : - التقييد الصريح كما في قوله تعالى : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) (السجدة:22)، فاسمه المنتقم مقيد بالمجرمين، ولا يصح الإطلاق الذي يعم أو يتناول الأنبياء والمرسلين؛ لأنه يناقض معنى الحسن في أسمائه تعالى، ويقاس على ذلك التقييد في أسمائه : الخادع فإنه مقيد بالمنافقين ولا يجوز بغير ذلك، وكذلك عدو الكافرين ومخزيهم ومهلكم ومعذبهم .. إلخ، فمثل هذا النوع من التقييد ينبغي أن يذكر كما ورد النص به؛ مقرونا فيه الاسم بغيره من الإضافة أو التقييد أو التخصيص ؛ فالله جل جلاله هو الحفي بنبيه إبراهيم u، وهو الصَّاحِبُ في السَّفَرِ والخليفة في الأهل والغالب عَلَى أَمْرِهِ والفعال لما يريد، والقائم على كل نفس بما كسبت، وهو كاشف الضر، وهو المقلب لقلوبنا والمصرف والمثبت لها ، وهو المستعان على أمورنا، وهو الناصر لأنبيائه، والصانع لما شاء، والمحيط بكل شيء ... إلخ(1/132)
النوع الثاني : - التقييد بالإضافة والأسماء فيه تفيد المدح والثناء على الله بذكر المضاف إليه كما في اسمه الشديد حيث أضافه للعقاب والمحال، فهو جل جلاله شديد العقاب والمحال، ومثله أهل التقوى والمغفرة وجامع الناس وبديع السماوات ونورها وفاطرها وقيمها...إلخ، وخير الحافظين والحاكمين والراحمين ... وكذلك ذو المضافة إلى وصف من أوصاف الله أو خلق من خلقه كذي الجلال والإكرام وذي الجبروت وذي العرش وذي المعارج .... إلخ، وكذلك أيضا الزارع في قوله تعالى : { أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ } (الواقعة:64) فلا يقال زارع إلا لما يحرثون لأن ما نبت في الغابات من غير حرث لا يقال عنه زراعة، وكذلك يقاس الماهد والمنزل والمنشيء والموسع .... إلخ .
النوع الثالث : - التقييد بموضع الكمال عند انقسام المعنى المجرد عن الإضافة، والأصل في ذلك ما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه (طريق الهجرتين1/486) حيث بين أنه سبحانه أخبر عن نفسه بأفعال مختصة مقيدة ؛ فلا يجوز أن ينسب إليه مسمى الاسم عند الإطلاق، كما أن مسمى هذه الأسماء منقسم إلى ما يمدح عليه المسمى به وإلى ما يذم ؛ فيحسن في موضع ويقبح في موضع، فيمتنع إطلاقه عليه سبحانه من غير تفصيل أو تقييد، كما أن من أطلق هذه الأسماء على الله دون تقييد لو سمي هو بهذه الأسماء، وقيل له : هذه مدحتك وثناء عليك فأنت الماكر الفاتن المخادع المضل اللاعن الفاعل الصانع ونحوها لما كان يرضى بإطلاق هذه الأسماء عليه ويعدها مدحة، ولله المثل الأعلى كيف يرضاها على ربه سبحانه وتعالى . فلا بد في تلك الأسماء أن تكون مقيدة بموضع الكمال .
وقد أظهر البحث الحاسوبي في ثبوت الأسماء المقيدة معنى جديدا للحديث وإشارة نبوية عظيمة تذكر والله أعلم لأول مرة ـ ويعلم الله أن الأمر مفاجئ لي كما هو الحال لدى القارئ ـ وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لأمته أن المطلق من أسماء الله في الكتاب والسنة عدده 99 اسما، وأن المقيد منها 99 اسما أيضا، كلها تضاف إلى لفظ الجلالة، لاسيما أن العدد (تسعة وتسعين) ذكر في نص الحديث بطريقتين مختلفتين، طريقة مطلقة في قوله صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ لله تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا)، وطريقة مقيدة في قوله صلى الله عليه وسلم : (مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا) حيث ذكر لفظ المائة ثم قيده بالاستثناء .
ومن ثم فإن الله جل جلاله تعرف إلينا في الكتاب والسنة بجملة من أسمائه الكلية عددها تسعة وتسعون 99 اسما مطلقا، وكذلك تسعة وتسعون (100-1= 99) اسما مقيدا، فيكون المجموع مع لفظ الجلالة 199 اسما وردت جميعها في نصوص الكتاب وصحيح السنة ... وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وصفه ربه بقوله : (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم:4) .
وهذا أوان سرد الأسماء المقيدة (المائة إلا واحدا) بأدلتها من الكتاب وصحيح السنة مع ذكر وجه التقييد فيما خفي منها، وهي مرتبة ترتيبا اجتهاديا بدأنا فيه بالقرآن ثم عقبنا بما ورد في السنة على النحو التالي :
1. الله جل جلاله أحسن الخالقين . { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} (المؤمنون:1) .
2. الله جل جلاله أحكم الحاكمين. { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ } (التين:8) .
3. الله جل جلاله أرحم الراحمين . { وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } (يوسف:92) .
4. الله جل جلاله أسرع الحاسبين . { وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } (الأنعام:62) .
5. الله جل جلاله أقرب إلينا من حبل الوريد . { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ } (قّ:16) .
6. الله جل جلاله أهل التقوى والمغفرة . { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ِ} (المدثر:56) .
7. الله جل جلاله بالغ أمره . { إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِه ِ} (الطلاق:3) .
8. الله جل جلاله بديع السماوات. { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } (البقرة:117) .
9. الله جل جلاله جامع الناس. { رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ } (آل عمران:9) .
10. الله جل جلاله حاسب موازيننا . {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } (الأنبياء:47) .
11. الله جل جلاله حفي بإبراهيم . { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } (مريم:47) .
12. الله جل جلاله خادع المنافقين. { إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } (النساء:142) .
13. الله جل جلاله خير الحافظين . { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً } (يوسف:64) .
14. الله جل جلاله خير الحاكمين . { وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ } (يوسف:80) .
15. الله جل جلاله خير الراحمين . { وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } (المؤمنون:118) .
16. الله جل جلاله خير الرازقين . { وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } (الجمعة:11) .
17. الله جل جلاله خير الغافرين. { وَأَنْتَ خَيْرُ الغَافِرِينَ } (الأعراف:155) .
18. الله جل جلاله خير الفاتحين . { وَأَنْتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ } (الأعراف:89) .
19. الله جل جلاله خير الفاصلين . { وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ } (الأنعام:57) .(1/133)
20. الله جل جلاله خير الناصرين. { وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } (آل عمران:150) .
21. الله جل جلاله خير الماكرين. { وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ } (الأنفال:30) .
22. الله جل جلاله خير المنزلين. { وَأَنْتَ خَيْرُ المُنْزِلِينَ } (المؤمنون:29) .
23. الله جل جلاله خير الوارثين. { وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ } (الأنبياء:89) .
24. الله جل جلاله جاعل الملائكة رسلا . { جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً } (فاطر:1) .
25. الله جل جلاله ذو انتقام . { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ }(إبراهيم:47) .
26. الله جل جلاله ذو الجلال والإكرام : { ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } (الرحمن:78) .
27. الله جل جلاله ذو الرحمة. { وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} (الكهف:58) .
28. الله جل جلاله ذو الطول. { ذِي الطَّوْلِ } (غافر:3) .
29. الله جل جلاله ذو العرش. { ذُو العَرْشِ المَجِيدُ } (البروج:15) .
30. الله جل جلاله ذو عقاب أليم . { وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } (فصلت:43) .
31. الله جل جلاله ذو الفضل. { وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ } (الجمعة:4) .
32. الله جل جلاله ذو القوة.{ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ } (الذاريات:58) .
33. الله جل جلاله ذو المعارج. { مِنَ اللَّهِ ذِي المَعَارِجِ } (المعارج:3) .
34. الله جل جلاله ذو مغفرة. { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } (فصلت:43) .
35. الله جل جلاله رافع عيسى عليه السلام . قال تعالى : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } (آل عمران:55) .
36. الله جل جلاله رفيع الدرجات . { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ } (غافر:15) .
37. الله جل جلاله زارع ما يحرثون . قال تعالى: { أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ } (الواقعة:64) .
38. الله جل جلاله سريع الحساب. { إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ } (إبراهيم:51) .
39. الله جل جلاله شاهد لحكم المرسلين . {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } (الأنبياء:78) .
40. الله جل جلاله شديد العقاب. { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ } (الأنفال:25) .
41. الله جل جلاله عالم الغيب. { عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ} (الرعد:9) .
42. الله جل جلاله علام الغيوب. { وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ } (التوبة:78) .
43. الله جل جلاله غافر الذنب. { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ } (غافر:3) .
44. الله جل جلاله قابل التوب. { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ } (غافر:3) .
45. الله جل جلاله عدو للكافرين. { فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلكَافِرِينَ } (البقرة:98) .
46. الله جل جلاله غالب عَلَى أَمْرِهِ. { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِه ِ} (يوسف:21) .
47. الله جل جلاله فاطر السماوات. { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } (فاطر:1) .
48. الله جل جلاله فالق الحب والنوى. { إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى } (الأنعام:95) .
49. الله جل جلاله فاعل ما وعد. { وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } (الأنبياء:104) .
50. الله جل جلاله فعال لما يريد. { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } (البروج:16) .
51. الله جل جلاله قائم على كل نفس. { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } (الرعد:33) .
52. الله جل جلاله كاف عبده. { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } (الزمر:36) .
53. الله جل جلاله كاشف الضر. { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ } (الأنعام:17) .
54. الله جل جلاله كفيل المؤمنين . { وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } (النحل:91) .
55. الله جل جلاله ماهد الأرض. { وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ المَاهِدُونَ } (الذاريات:48) .
56. الله جل جلاله مبتلي العباد . { وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } (المؤمنون:30) .
57. الله جل جلاله مبرم الأمر. { أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } (الزخرف:79) .
58. الله جل جلاله متم نوره . { وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ } (الصف:8) .
59. الله جل جلاله متوفي عباده . { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } (آل عمران:55) .
60. الله جل جلاله محي الموتى. { إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي المَوْتَى } (فصلت:39) .
61. الله جل جلاله مخرج الميت. { وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ } (الأنعام:95) .
62. الله جل جلاله مخزي الكافرين. { وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الكَافِرِينَ } (التوبة:2) .
63. الله جل جلاله مرسل النبيين. { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } (الدخان:5) .
64. الله جل جلاله المستمع لعباده . { قَالَ كَلا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ } .
65. الله جل جلاله المستعان على ما تصفون. { وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } (يوسف:18) .
66. الله جل جلاله مطهر أنبيائه. { وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } (آل عمران:55) .(1/134)
67. الله جل جلاله معذب الكافرين. { أَوْ مُعَذبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً } (الإسراء:58) .
68. الله جل جلاله منتقم من المجرمين. { إِنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ } (السجدة:22) .
69. الله جل جلاله منذر الناس. { إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ } (الدخان:3) .
70. الله جل جلاله منزل المزن. { أَأَنْتُمْ أَنْزَلتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ } (الواقعة:69) .
71. الله جل جلاله منشئ النار. { أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنْشِئُونَ } (الواقعة:72) .
72. الله جل جلاله مهلك الكافرين. { وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَاً } (الإسراء:58) .
73. الله جل جلاله موسع السماء. { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } (الذاريات:47)
74. الله جل جلاله كاتب الأعمال . { فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ } (الأنبياء:94) .
75. الله جل جلاله محيط بكل شيء.{ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً } (النساء:126) .
76. الله جل جلاله نور السماوات . { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } (النور:35) .
77. الله جل جلاله موهن كيد الكافرين . { ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ } (الأنفال:18)
78. الله جل جلاله هادي المؤمنين . { وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا } (الحج:54) .
79. الله جل جلاله الصادق في خبره ووعده ووعيده.{ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } (الأنعام:146) .
80. الله جل جلاله صانع ما شاء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فَإِنَّ اللَّهَ صَانِعٌ مَا شَاءَ لا مُكْرِهَ لَهُ) مسلم .
81. الله جل جلاله طبيبنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طَبِيبُهَا الذي خَلَقَهَا) صحيح د.
82. الله جل جلاله قيم السماوات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) مسلم .
83. الله جل جلاله قيام السماوات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَنْتَ قَيِّامُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) صحيح أبي داود .
84. الله جل جلاله مجري السحاب . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اللهمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِي السَّحَابِ وَهَازِمَ الأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ) صحيح د.
85. الله جل جلاله منزل الكتاب . الحديث السابق .
86. الله جل جلاله هازم الأحزاب. الحديث السابق .
87. الله جل جلاله مقلب القلوب. (لا ومُقَلِّبَ القُلوبِ) صحيح د.
88. الله جل جلاله مثبت القلوب. قال صلى الله عليه وسلم : (يَا مُثَبِّتَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ) صحيح جة .
89. الله جل جلاله مصرف القلوب. قال صلى الله عليه وسلم : (اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ) مسلم .
90. الله جل جلاله معاذ به وإليه . حديث البخاري (فَقَالَتْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ . فَقَالَ :قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ).
91. الله جل جلاله ناصر عبده. قال رضي الله عنه : (إِنِّي رَسُول اللهِ وَلسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي) البخاري .
92. الله جل جلاله الصَّاحِبُ في السَّفَرِ. قال صلى الله عليه وسلم: (اللهُم أنتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ وَالخَلِيفَةُ في الأَهْلِ) مسلم .
93. الله جل جلاله الخليفة في الأهل . الحديث السابق .
94. الله جل جلاله أجل من كل معبود . قال صلى الله عليه وسلم : (قُولُوا اللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ) ردا على قول المشركين في غزوة أحد : أُعْلُ هُبَل . رواه البخاري . (يلاحظ في منهجنا أن أفعل التفضيل غير المعرف بالألف واللام من المقيد وليس من المطلق، ولذلك فإن اسم الأعلى من الأسماء المطلقة لدلالة ما ورد في قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) (الأعلى:1) وليس النص المذكور في الحديث) .
95. الله جل جلاله أغير على حرماته . قال صلى الله عليه وسلم عن سعد رضي الله عنه : (لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي) البخاري .
96. الله جل جلاله أصبر على عصيان عباده . قال صلى الله عليه وسلم: (مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ) البخاري
97. الله جل جلاله أكبر مما سواه . قال صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ) البخاري.
98. الله جل جلاله ذو الملكوت. قال صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُ أَكْبَرُ ذُو المَلَكُوتِ) صحيح.
99. الله جل جلاله مذهب الباس. قال صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ مُذْهِبَ الْبَاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي) البخاري .
تلك مائة اسم إلا واحدا ثبتت بنصها في القرآن وصحيح السنة، راعينا في استخراجا بالبحث الحاسوبي الدقة على قدر المستطاع .(1/135)
صحيح أنه قد تختلف وجهات النظر في تقيد اسم أو إطلاقه لكن ما نؤكده الآن أن قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا) يدل على وجود تسعة وتسعين 99اسما مطلقا، وكذلك تسعة وتسعون (100-1= 99) اسما مقيدا وردت بنصها في الكتاب والسنة، ولعل الباب أصبح مفتوحا الآن أما الباحثين للتأكد من ذلك ، فإن كان توفيق فمن الله وإن كان خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، وأسأل الله أن يغفر لنا إن نسينا أو أخطأنا .
وكتبه د/ محمود عبد الرازق الرضواني
أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الملك خالد (سابقا)
===============
أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة
إعجاز نبوي جديد بتقنية الحاسوب
أكتشفه الدكتور محمود عبد الرزاق الرضواني
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد ..
فقد أمرنا الله عز وجل في غير موضع من كتابه أن ندعوه بأسمائه الحسنى فقال: (وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف:180]، وقال: (قُل ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [الإسراء:110] . لكن السؤال الذي يطرح نفسه على أهل العلم منذ زمن طويل: ما هي الأسماء الحسنى التي ندعو الله بها ؟ وكيف ظهرت الأسماء المشهورة التي يعرفها ملايين المسلمين حتى الآن ؟ وهل هذه الأسماء سمى الله نفسه بها أو سماه رسوله صلى الله عليه وسلم ؟
• المتفق علي ثبوته هو الإشارة إلى العدد تسعة وتسعين .
إن المتفق علي ثبوته وصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإشارة إلى العدد تسعة وتسعين الذي ورد عند البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) . لكن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عين الأسماء الحسنى التسعة والتسعين أو سردها في نص واحد، وهذا أمر لا يخفى على العلماء الراسخين قديما وحديثا والمحدثين منهم خصوصا، إذاً كيف ظهرت الأسماء التي يحفظها الناس منذ أكثر من ألف عام ! .
• ثلاثة من رواة الحديث اجتهدوا في جمع الأسماء الحسنى .
في نهاية القرن الثاني ومطلع القرن الثالث الهجري حاول ثلاثة من رواة الحديث جمعها باجتهادهم، إما استنباطا من القرآن والسنة أو نقلا عن اجتهاد الآخرين في زمانهم، وكان الأول منهم وهو أشهرهم وأسبقهم الوليد بن مسلم مولى بني أمية (ت:195هـ) وهو عند علماء الجرح والتعديل كثير التدليس في الحديث، والثاني هو عبد الملك الصنعاني وهو عندهم ممن لا يجوز الاحتجاج بروايته لأنه ينفرد بالموضوعات، أما الثالث فهو عبد العزيز بن الحصين وهو ضعيف ذاهب الحديث كما قال الإمام مسلم، هؤلاء الثلاثة اجتهدوا وجمع كل منهم قرابة التسعة والتسعين اسما ثم فسر بها الحديث المجمل في الصحيحين.
• إحصاء الوليد بن مسلم اشتهر منذ أكثر من ألف عام .
لكن ما جمعه الوليد بن مسلم هو الذي اشتهر بين الناس منذ أكثر من ألف عام فقد جمع ثمانية وتسعين اسما بالإضافة إلى لفظ الجلالة وهي: الرَّحمنُ الرَّحيمُ المَلِك القُدُّوسُ السَّلاَمُ المُؤْمِنُ المُهَيمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّر الخَالِقُ البَارِيءُ المُصَوِّرُ الغَفَّارُ القَهَّارُ الوَهَّابُ الرَّزَّاقُ الفتَّاحُ العَلِيمُ القَابِضُ البَاسِطُ الخافضُ الرَّافِعُ المعزُّ المذِل السَّمِيعُ البَصِيرُ الحَكَمُ العَدْلُ اللّطِيفُ الخَبِيرُ الحَلِيمُ العَظِيمُ الغَفُورُ الشَّكُورُ العَلِيُّ الكَبِيرُ الحَفِيظُ المُقِيتُ الحَسِيبُ الجَلِيلُ الكَرِيمُ الرَّقِيبُ المُجِيبُ الْوَاسِعُ الحَكِيمُ الوَدُودُ المَجِيدُ البَاعِثُ الشَّهِيدُ الحَق الوَكِيلُ القَوِيُّ المَتِينُ الوَلِيُّ الحَمِيدُ المُحْصِي المُبْدِيءُ المُعِيدُ المُحْيِي المُمِيتُ الحَيُّ القَيُّومُ الوَاجِدُ المَاجِدُ الوَاحِدُ الصَّمَدُ القَادِرُ المُقْتَدِرُ المُقَدِّمُ المُؤَخِّرُ الأوَّلُ الآخِرُ الظَّاهِرُ البَاطِنُ الوَالِي المُتَعَالِي البَرُّ التَّوَّابُ المنتَقِمُ العَفُوُّ الرَّءوف مَالِكُ المُلْكِ ذُو الجَلاَلِ وَالإكْرَامِ المُقْسِط الجَامِعُ الغَنِيُّ المُغْنِي المَانِعُ الضَّارُّ النَّافِعُ النُّورُ الهَادِي البَدِيعُ البَاقِي الوَارِثُ الرَّشِيدُ الصَّبُور .
• الأسماء التي ذكرها الوليد للناس لم تكن متطابقة(1/136)
ولننظر كيف اشتهرت هذه الأسماء التي اجتهد الوليد بن مسلم في جمعها ؟! كان الوليد في أغلب الأحيان عندما يحدث الناس بحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه - والذي يشير إجمالا إلى إحصاء تسعة وتسعين اسما - ثم يتبعه في أغلب الأحيان بذكر هذه الأسماء التي توصل إليها كتفسير شخصي منه للحديث، وقد نُقِلت عنه مدرجة مع كلام النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أو بمعنى آخر ألحقت أو ألصقت بالحديث النبوي، وظن أغلب الناس بعد ذلك أنها نص من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فحفظوها وانتشرت بين العامة والخاصة حتى الآن، ومع أن الإمام الترمذي لما دون هذه الأسماء في سننه مدرجة مع الحديث النبوي نبه على غرابتها، وهو يقصد بغرابتها ضعفها وانعدام ثبوتها مع الحديث، بل من الأمور العجيبة التي لا يعرفها الكثيرون أن الأسماء التي كان الوليد بن مسلم يذكرها للناس لم تكن واحدة في كل مرة ولم تكن متطابقة أبدا، بل يتنوع اجتهاده عند الإلقاء فيذكر للناس أسماء أخرى مختلفة عما ذكره في اللقاء السابق، فالأسماء التي رواها عنه الطبراني وضع الوليد فيها القائم الدائم بدلا من القابض الباسط اللذين وردا في رواية الترمذي المشهورة، واستبدل أيضا الرشيد بالشديد، والأعلى والمحيط والمالك بدلا من الودود والمجيد والحكيم، وأيضا فإن الأسماء التي رواها عنه ابن حبان وضع فيها الرافع بدلا من المانع في رواية الترمذي، وما رواه عنه ابن خزيمة وضع فيها الحاكم بديلا عن الحكيم، والقريب بديلا من الرقيب، والمولى بديلا من الوالى، والأحد مكان المغني، وفي رواية البيهقي استبدل الوليد المقيت بديلا من المغيث، ورويت عنه أيضا روايات أخرى اختلفت عن رواية الترمذي في ثلاثة وعشرين اسما، لكن العجيب أن ما رواه عنه الترمذي هو الذي اشتهر .
• اتفق الحفاظ من أئمة الحديث على أن الأسماء المشهورة لم يرد في تعيينها حديث صحيح
والقصد أن هذه الأسماء التي يحفظها الناس ليست نصا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هي ملحقة أو ملصقة أو كما قال المحدثون مدرجة مع قوله صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا )، وهذا أمر قد يكون غريبا على عامة الناس لكنه لا يخفى على أهل العلم والمعرفة بحديثه صلى الله عليه وسلم ، قال العلامة ابن حجر: (والتحقيق أن سردها من إدراج الرواة) [بلوغ المرام 346]، وقال الأمير الصنعاني: (اتفق الحفاظ من أئمة الحديث أن سردها إدراج من بعض الرواة) [سبل السلام 4/108]، وقال ابن تيمية عن رواية الترمذي وابن ماجه: (وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن هاتين الروايتين ليستا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كل منهما من كلام بعض السلف) [دقائق التفسير 2/473]، وقال أيضا: (لم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذي الذي رواه الوليد بن مسلم عن شعيب عن أبي حمزة، وحفاظ أهل الحديث يقولون: هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه من أهل الحديث، وفيها حديث ثان أضعف من هذا رواه ابن ماجه، وقد روي في عددها غير هذين النوعين من جمع بعض السلف) [الفتاوى الكبرى 1/217] . وقد ذكر أيضا أنه إذا قيل بتعيينها على ما في حديث الترمذي مثلا ففي الكتاب والسنة أسماء ليست في ذلك الحديث مثل اسم الرب فإنه ليس في حديث الترمذي، وأكثر الدعاء المشروع إنما هو بهذا الاسم، وكذلك اسم المنان والوتر والطيب والسبوح والشافي؛ كلها ثابتة في نصوص صحيحة وتتبع هذا الأمر يطول [السابق1/217]، وقال ابن الوزير اليماني: (تمييز التسعة والتسعين يحتاج إلى نص متفق على صحته أو توفيق رباني، وقد عدم النص المتفق على صحته في تعيينها، فينبغي في تعيين ما تعين منها الرجوع إلى ما ورد في كتاب الله بنصه، أو ما ورد في المتفق على صحته من الحديث) [العواصم 7/228]، ولما كان هذا حال
الأسماء الحسنى التي حفظها الناس لأكثر من ألف عام وأنشدها كل منشد وكتبت على الحوائط في كل مسجد، فينبغي تنبيه الملايين من المسلمين على ما ثبت فيها من الأسماء وما لم يثبت، ثم تعريفهم بالأسماء الحسنى الصحيحة الثابتة في الكتاب والسنة ؟ وكيف يمكن أن نتعرف عليها بسهولة ؟
• أجمع علماء أهل السنة على أن الأسماء الحسنى توقيفية(1/137)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد .. اتفق علماء الأمة على اختلاف مذاهبهم أنه يجب الوقوف على ما جاء في الكتاب وصحيح السنة بذكر أسماء الله نصا دون زيادة أو نقصان؛ لأن أسماء الله الحسنى توقيفية لا مجال للعقل فيها؛ فالعقل لا يمكنه بمفرده أن يتعرف على أسماء الله التي تليق بجلاله، ولا يمكنه أيضا إدراك ما يستحقه الرب عز وجل من صفات الكمال والجمال؛ فتسمية رب العزة والجلال بما لم يسم به نفسه قول على الله بلا علم، وهو أمر حرمه الله عز وجل على عباده، وقد اشتهرت في ذلك مناظرة بين الإمام أبي الحسن الأشعري وشيخه أبي على الجبائي عندما دخل عليهما رجل يسأل: هل يجوز أن يسمى الله تعالى عاقلا ؟ فقال أبو علي الجبائي: لا يجوز؛ لأن العقل مشتق من العقال وهو المانع، والمنع في حق الله محال فامتنع الإطلاق، فقال له أبو الحسن الأشعري: فعلى قياسك لا يسمى الله سبحانه حكيما؛ لأن هذا الاسم مشتق من حكمة اللجام، وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج ويشهد لذلك قول حسان بن ثابت رضي الله عنه : فنحكم بالقوافي من هجانا، ونضربُ حين تختلط الدماء، وقول الآخر: أبني حنيفة حكموا سفهاءكم، إني أخاف عليكمُ أن أغضبا، والمعنى نمنع بالقوافي من هجانا، وامنعوا سفهاءكم؛ فإذا كان اللفظ مشتقا من المنع، والمنع على الله محال لزمك أن تمنع إطلاق حكيم على الله تعالى، فلم يجب الجبائي إلا أنه قال للأشعري: فلم منعت أنت أن يسمى الله عاقلا وأجزت أن يسمى حكيما ؟ قال الأشعري: لأن طريقي في مأخذ أسماء الله عز وجل الإذن
الشرعي دون القياس اللغوي، فأطلقت حكيما لأن الشرع أطلقه ومنعت عاقلا لأن الشرع منعه، ولو أطلقه الشرع لأطلقته [طبقات الشافعية3/358] .
• بنى الله السماء وسقانا الغيث ولا يجوز أن يسمى بناء أو سقاء
وقال ابن حزم: (لا يجوز أن يسمى الله تعالى ولا أن يخبر عنه إلا بما سمى به نفسه أو أخبر به عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أو صح به إجماع جميع أهل الإسلام المتيقن ولا مزيد، وحتى وإن كان المعنى صحيحا فلا يجوز أن يطلق عليه تعالى اللفظ، وقد علمنا يقينا أن الله عز وجل بنى السماء فقال: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا) [الذاريات:47]، ولا يجوز أن يسمى بناء، وأنه تعالى خلق أصباغ النبات والحيوان، وأنه تعالى قال: (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) [البقرة:138]، ولا يجوز أن يسمى صباغا، وأنه تعالى سقانا الغيث ومياه الأرض ولا يسمى سقاء ولا ساقيا، وهكذا كل شيء لم يسم به نفسه) [الفصل/2/108]، وقال الإمام النووي: (أسماء الله توقيفية لا تطلق إلا بدليل صحيح) [شرح النووي7/188]، واحتج الإمام الغزالي على أن الأسماء توقيفية بالاتفاق على أنه لا يجوز لنا أن نسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم لم يسمه به أبوه ولا سمى به نفسه وكذا كل كبير من الخلق، قال: فإذا امتنع ذلك في حق المخلوقين فامتناعه في حق الله أولى [فتح الباري11/223]، وقال الإمام السيوطي: (اعلم أن أسماء الله تعالى توقيفية بمعنى أنه لا يجوز أن يطلق اسم ما لم يأذن له الشرع وإن كان الشرع قد ورد بإطلاق ما يرادفه) [شرح سنن ابن ماجة275]،وقال أبو القاسم القشيري: (الأسماء تؤخذ توقيفا من الكتاب والسنة والإجماع، فكل اسم ورد فيها وجب إطلاقه في وصفه، وما لم يرد لم يجز ولو صح معناه) [سبل السلام4/109]، وقال ابن المرتضى: (فأسماء الله وصفاته توقيفية شرعية، وهو أعز من أن يطلق عليه عبيده الجهلة ما رأوا من ذلك) [إيثار الحق 1/314]،
والأقوال في ذلك كثيرة يعز إحصاؤها وكلها تدل على أن عقيدة أهل السنة والجماعة مبنية على أن الأسماء الحسنى توقيفية، وأنه لابد في كل اسم من دليل نصي صحيح يُذكر فيه الاسم بلفظه، إذا كان الأمر كذلك فمن الذي سمى الله عز وجل الخافض المعزّ المذِل العَدْل الجَلِيل البَاعِث المُحْصِي المُبْدِيء المُعِيد المُمِيت المُقْسِط المُغْنِي المَانِعُ الضَّارّ النَّافِع البَاقِي الرَّشِيد الصَّبُور .
• لابد لثبوت كل اسم من دليل نصي صحيح يذكر فيه الاسم بلفظه(1/138)
هذه جميعها ليست من أسماء الله الحسنى لأن الله عز وجل لم يسم نفسه بها وكذلك لم ترد في صحيح السنة، وإنما سماه بها الوليد بن مسلم ضمن ما أدرجه باجتهاده في رواية الترمذي، فالخافض مثلا لم يرد في القرآن أو السنة اسما وإنما ورد فعلا في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ)، ولا يجوز لنا أن نشتق لله من كل فعل اسما ولم يخولنا الله في ذلك أبدا، وإنما أمرنا سبحانه بإحصاء أسمائه وجمعها وحفظها ثم دعاؤه بها، فدورنا حيال الأسماء الحسنى الإحصاء وليس الاشتقاق والإنشاء، ولو أصر أحد على تسميته بالخافض وأجاز لنفسه ذلك فيلزمه تسميته البناء لأنه بنى السماء، والسقاء لأنه سقى أهل الجنة شرابا طهورا، والمدمدم لأنه دمدم علي ثمود، والمدمر لأنه دمر الكافرين، والطامس لأنه طمس على أعينهم، والمقطع لأنه قطع اليهود أمما، والمنسي لأنه أنساهم ذكره، والمفجر لأنه فجر الأرض عيونا، والمفصل لأنه فصل الآيات، والمضاعف لأنه يضاعف الأجر، والمضحك والمبكي لأنه أضحك وأبكى، والمخرج لأنه يخرج الزرع وغير ذلك من آلاف الأفعال في الكتاب والسنة والتي سيقلبها بدون حق إلى أسماء، كما أن الله عز وجل قال: (وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)، (فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [الإسراء:110]، ولم يقل: ولله الأوصاف أو فله الأفعال، وشتان بين الأسماء والأوصاف، فالوصف لا يقوم بنفسه كالعلم والقدرة والعزة والحكمة والرحمة والخبرة وإنما يقوم الوصف بموصوفه ويقوم الفعل بفاعله؛ إذ لا يصح أن نقول: الرحمة استوت على العرش، أو العزة أجرت الشمس، أو العلم والحكمة والخبرة أنزلت الكتاب وأظهرت على النبي صلى الله عليه وسلم ما غاب من الأسرار،فهذه كلها أوصاف لا تقوم بنفسها بخلاف الأسماء الدالة علي المسمى الذي اتصف بها كالرحمن الرحيم
والعزيز العليم والخبير الحكيم القدير .
ويقال هذا أيضا في اشتقاق الوليد بن مسلم وغيره للمعزُّ المذِل حيث اشتق هذين الاسمين من قوله تعالى: (قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26]، فالله عز وجل أخبر أنه يؤتي ويشاء وينزع ويعز ويذل ولم يذكر في الآية بعد مالك الملك واسمه القدير سوى الأفعال، فهؤلاء اشتقوا لله اسمين من فعلين وتركوا على قياسهم اسمين آخرين، فيلزمهم تسمية الله عز وجل بالمُؤْتِي وَالمنْزِعُ فضلا عن تسميته بالمشيء طالما أن المرجعية في علمية الاسم إلى الرأي والاشتقاق دون التتبع والجمع والإحصاء .
• دورنا تجاه الأسماء الإحصاء ثم الحفظ والدعاء وليس الاشتقاق والإنشاء
وكذلك العدل لم يرد في القرآن اسما أو فعلا ولا دليل لمن سمى الله بهذا الاسم سوى الأمر بالعدل في قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان) [النحل:90]، أما الجليل فلم يرد اسما في الكتاب أو صحيح السنة ولكن ورد وصفا في قوله تعالى: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) [الرحمن:27]، وفرق كبير بين الاسم والوصف لأن الله عز وجل وصف نفسه بالقوة فقال: (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات:58]، وسمى نفسه القوي في قوله: (وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) [الشورى:19]، ووصف نفسه بالرحمة فقال: (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَة ِ) [الأنعام:133]، وسمى نفسه الرحمن الرحيم فقال: (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) [فصلت:2]، ولما كانت أسماء الله توقيفية ولا نسمي الله إلا بما سمى به نفسه، فإن الله وصف نفسه بالجلال ولم يسم نفسه الجليل، وكذلك البَاعِثُ المُحْصِي لم أجد حجة أو دليلا على إثبات هذين الاسمين، والذي ورد في القرآن والسنة صفات الأفعال فقط كما في قوله تعالى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ِ) [المجادلة:6]، وهي كثيرة في القرآن والسنة، ومن الملاحظ أن الذي اشتق الباعث من قوله يبعثهم والمحصي من قوله أحصاه الله ترك المنبئ من قوله فينبئهم؛ لأن الآية لم يرد فيها بعد اسم الله الشهيد سوى الأفعال التي اشتق منها فعلين وترك الثالث في حين أن هذه الأسماء جميعها لم ترد نصا صريحا في الكتاب أو صحيح السنة، وكذلك أيضا المُبْدِيء المُعِيدُ اسمان لا دليل على ثبوتهما، فقد استند من سمى الله بهذين الاسمين إلى اجتهاده في الاشتقاق من قوله تعالى: (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) [البروج:13]، ومعلوم أن أسماء الله الحسنى توقيفية على النص وليس في الآية سوى الفعلين فقط، أما الضار النافع،(1/139)
فهذان الاسمان لم يردا في القرآن أو السنة، وليس لمن سمى الله بهما إلا اجتهاده في الاشتقاق من المعنى المفهوم من قوله: (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللهُ) [الأعراف:188]، أو ما صح في سنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس رضي الله عنه : (وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ)، ولم يُذكر في الآية أو الحديث النص على الاسم أو حتى الفعل، فالضار فلم يرد اسما ولا وصفا ولا فعلا، ولم أجد في القرآن أو في السنة إلا ما ورد عند البخاري من قول عائشة: (فَمَا كَانَتْ مِنْ خُطْبَتِهِمَا مِنْ خُطْبَةٍ إِلاَّ نَفَعَ اللهُ بِهَا، لَقَدْ خَوَّفَ عُمَرُ النَّاسَ وَإِنَّ فِيهِمْ لَنِفَاقًا فَرَدَّهُمُ اللهُ بِذَلِكَ) . وقس على ذلك في بقية الأسماء التي ذكرناها سابقا، والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي الأسماء الحسنى التي ندعو الله بها وكيف يمكن التعرف عليها ؟
كيف نتعرف على أسماء الله الحسنى من الكتاب والسنة ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد .. قال ابن الوزير اليماني: (تمييز التسعة والتسعين يحتاج إلى نص متفق على صحته أو توفيق رباني، وقد عدم النص المتفق على صحته في تعيينها، فينبغي في تعيين ما تعين منها الرجوع إلى ما ورد في كتاب الله بنصه أو ما ورد في المتفق على صحته من الحديث) [العواصم 7/228]، والرجوع إلى ما أشار إليه ابن الوزير مسألة أكبر من طاقة فرد وأوسع من دائرة مجد، لأن الشرط الأول والأساسي في إحصاء الأسماء هو فحص جميع النصوص القرآنية وجميع ما ورد في السنة النبوية مما وصل إلينا في المكتبة الإسلامية، وهذا الأمر يتطلب استقصاء شاملا لكل اسم ورد في القرآن، وكذلك كل نص ثبت في السنة، ويلزم من هذا بالضرورة فرز عشرات الآلاف من الأحاديث النبوية وقراءتها كلمة كلمة للوصول إلى اسم واحد، وهذا في العادة خارج عن قدرة البشر المحدودة وأيامهم المعدودة، ولذلك لم يقم أحد من أهل العلم سلفا وخلفا بتتبع الأسماء حصرا، وإنما كان كل منهم يجمع ما استطاع باجتهاده، وكان أغلبهم يكتفي برواية الترمذي أو ما رآه صوابا عند ابن ماجة والحاكم فيقوم بشرحه وتفسيره كما فعل الزجاج والخطابي والبهقي والقشيري والغزالي والرازي والقرطبي وغيرهم من القدامى والمعاصرين، لكن الله عز وجل لما يسر الأسباب في هذا العصر أصبح من الممكن إنجاز مثل هذا البحث في وقت قصير نسبيا، وذلك من خلال استخدام الكمبيوتر والموسوعات الالكترونية التي قامت على خدمة القرآن وحوت آلاف الكتب العلمية واشتملت على المراجع الأصلية للسنة النبوية وكتب التفسير والفقه والعقائد الأدب والنحو والصرف وغيرها الكثير والكثير، ولم تكن هذه التقنية قد ظهرت منذ عشر سنوات تقريبا، أو بصورة أدق لم يكن ما صدر منها كافيا لإنجاز مثل هذا البحث، ولما عايشت الحاسوب منذ أول ظهوره وظهور الموسوعات التراثية الالكترونية حتى جمعت بين يدي تباعا أكثر من خمس وثلاثين موسوعة
الكترونية تراثية دفعني ذلك ومنذ عامين تقريبا إلى أن أقدم على هذا الموضوع مستعينا بالله أولا ثم بما سخره من هذه التقنية الحديثة وقدرة الحاسوب على قراءة آلاف المراجع الأصلية من هذه الموسوعات في ثوان معدودات؛ فالرغبة في إتمام البحث مهما كانت النتائج أمر ملح وضرورة يصعب دفعها عن النفس؛ وكثيرا ما يشعر أي متخصص أو أي داعية بالحيرة والاضطراب عندما يسأل عن تحرير المسألة في اسم من أسماء الله المشهورة كالخافض والرافع والمعطي والمانع والضار والنافع والمبديء والمعيد والمعز والمذل والواجد والماجد والكافي والمنتقم والرازق والباقي والجليل وغير ذلك مما اشتهر على ألسنة العامة والخاصة، هل هذه من أسماء الله الحسنى ! فكانت الإجابة محيرة بالفعل .
لقد كان لارتباط التقنية الحديثة بخبرة التخصص في العقيدة والتوصل إلى القواعد العلمية والشروط المنهجية لإحصاء الأسماء الإلهية التي تعرف الله بها إلى عباده أثر كبير في ظهور المفاجأة التي لم تكن متوقعة ولم تكن في حسبان أحد، وهي تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا) .
ولنبد أولا بذكر الشروط التي يتمكن من خلالها أي مسلم أن يتعرف بسهولة ويسر على كل اسم من الأسماء الحسنى والدليل على تلك الشروط من كتاب الله:
• الشرط الأول هو ثبوت النص في القرآن أو صحيح السنة(1/140)
طالما أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في تعينها وسردها فلا بد لإحصائها من وجود الاسم نصا في القرآن أو صحيح السنة، وهذا الشرط مأخوذ من قوله تعالى: (وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)، ولفظ الأسماء يدل على أن أنها معهودة موجودة، فالألف واللام فيها للعهد، ولما كان دورنا حيال الأسماء هو الإحصاء دون الاشتقاق والإنشاء فإن الإحصاء لا يكون إلا لشيء موجود ومعهود ولا يعرف ذلك إلا بما نص عليه القرآن والسنة، ومعلوم من مذهب أهل السنة والجماعة أن الأسماء توقيفية على الأدلة السمعية ولا بد فيها من تحري الدليل بطريقة علمية تضمن لنا مرجعية الاسم إلى كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا يكون ذلك إلا بالرجوع إلى ما ورد في القرآن بنصه أو ما صح في السنة على طريقة المحدثين؛ فمحيط الرسالة لا تخرج عن هذه الدائرة، وعلى ذلك ليس من أسماء الله النظيف والسخي والواجد والماجد والحنان والهْوِيّ والمفضل والمنعم ورمضان وآمين والأعز والقيام لأنها جميعا لم تثبت إلا في روايات ضعيفة أو موقوفة أو قراءة شاذة .
• الشرط الثاني علمية الاسم واستيفاء العلامات اللغوية .
يشترط في جمع الأسماء وإحصائها أن يرد الاسم في النص مرادا به العلمية ومتميزا بعلامات الاسمية المعروفة في اللغة، كأن يدخل على الاسم حرف الجر كما في قوله: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الذِي لا يَمُوتُ) [الفرقان:58]، أو يرد الاسم منونا كقوله: (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس:58]، أو تدخل عليه ياء النداء كما ثبت في الدعاء المرفوع: (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ) [صحيح أبي داود 1326]، أو يكون الاسم معرفا بالألف واللام كقوله: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) [الأعلى:1]، أو يكون المعنى مسندا إليه محمولا عليه كقوله: (الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً) [الفرقان:59]، فهذه خمس علامات يتميز بها الاسم عن الفعل والحرف وقد جمعها ابن مالك في قوله: بالجر والتنوين والندا وأل: ومسند للاسم تمييز حصل [شرح ابن عقيل1/21]، فلا بد إذا أن تتحقق في الأسماء علامات الاسم اللغوية وهذا الشرط مأخوذ من قوله: (وَللهِ الأَسْمَاءُ)، ولم يقل الأوصاف أو الأفعال، فالوصف أو الفعل لا يقوم بنفسه كالسمع والبصر والعلم والقدرة وهي بخلاف الأسماء الدالة علي المسمى بها كالسميع والبصير والعليم والقدير، كما أن معنى الدعاء بالأسماء في قوله: (فادعوه بها) أن تدخل علي الأسماء أداة النداء سواء ظاهرة أو مضمرة، والنداء من علامات الاسمية، وعليه فإن كثيرا من الأسماء المشتهرة على ألسنة الناس ليست من الأسماء الحسنى وإنما هي في الحقيقة أوصاف أو أفعال لا تقوم بنفسها، فكثير من العلماء ورواة الحديث جعلوا المرجعية في علمية الاسم إلى أنفسهم وليس إلى النص الثابت، فاشتقوا لله أسماء كثيرة من الأوصاف والأفعال وهذا يعارض ما اتفق عليه السلف في كون الأسماء الحسنى توقيفية على النص، فالمعز المذل اسمان اشتهرا بين الناس شهرة واسعة على أنهما من الأسماء الحسنى، وهما وإن كان معناهما صحيحا لكنهما لم يردا في القرآن أو السنة، وقس على ذلك الخافض المبديء
المعيد الضار النافع العدل الجليل الباعث المحصي المقسط المانع الباقي، والفاتن والبالي والراتق والساتر والسخط والمبغض والمحب والمفني والمنجي والمرشد والمنزع وغير ذلك من الأسماء التي اشتقها الكثيرون من أوصاف الله وأفعاله .
• الشرط الثالث إطلاق الاسم دون إضافة أو تقييد
والمقصود بهذا الشرط أن يرد الاسم مطلقا دون تقييد ظاهر أو إضافة مقترنة بحيث يفيد المدح والثناء بنفسه، لأن الإضافة والتقييد يحدان من إطلاق الحسن والكمال على قدر المضاف وشأنه، وقد ذكر الله أسماءه بطلاقة الحسن فقال: (وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)، أي البالغة مطلق الحسن بلا حد أو قيد، قال القرطبي: (وحسن الأسماء إنما يتوجه بتحسين الشرع لإطلاقها والنص عليها) [تفسيرالقرطبي10/343]، ويدخل في الإطلاق أيضا اقتران الاسم بالعلو المطلق لأن معاني العلو هي في حد ذاتها إطلاق فالعلو يزيد الإطلاق كمالا على كمال، وكذلك أيضا إذا ورد الاسم معرفا بالألف واللام مطلقا بصيغة الجمع والتعظيم فإنه يزيد الإطلاق عظمة وجمالا وحسنا وكمالا وينفي في المقابل أي احتمال لتعدد الذوات أو دلالة الجمع على غير التعظيم والإجلال، قال ابن تيمية في تقرير الشروط الثلاثة السابقة: (الأسماء الحسنى المعروفة هي التي يدعى الله بها وهي التي جاءت في الكتاب والسنة، وهي التي تقتضي المدح والثناء بنفسها) [الأصفهانية ص19] .(1/141)
وإذا كانت الأسماء الحسنى لا تخلو في أغلبها من تصور التقييد العقلي بالممكنات وارتباط آثارها بالمخلوقات كالخالق والخلاق والرازق والرزاق؛ أو لا تخلو من تخصيص ما يتعلق ببعض المخلوقات دون بعض؛ كالأسماء الدالة على صفات الرحمة والمغفرة مثل الرحيم والرءوف والغفور فإن ذلك التقييد لا يدخل تحت الشرط المذكور، وإنما المقصود هو التقييد بالإضافة الظاهرة في النص، فلا يدخل في أسماء الله الحسنى البالغ لقوله: (إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) [الطلاق:3]، ولا يصح إطلاقه في حق الله، بل يذكر على التقييد كما ورد النص، وليس من أسمائه المخزي أو العدو أو الخادع أو المتم أو الفالق أو المخرج لأنها أسما مقيدة لا يجوز إطلاقها بل تذكر كما وردت في قوله: (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ) [التوبة:2]، وقوله: (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ)[البقرة:98]، وقوله: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ َ) [النساء:142]، وقوله: (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) [الصف:8]، وقوله: (إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى .. وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ ..) [الأنعام:95]، وكذلك من الأسماء المقيدة الغافر والقابل والشديد وقس على ذلك الفاطر والجاعل الرافع والمطهر المهلك والحفي والمنزل والسريع والمحيي والرفيع والنور والبديع والكاشف والصاحب والخليفة والقائم والزارع والموسع والمنشيء والماهد وغير ذلك كثير، فهذه أسماء مقيدة تذكر في حق الله على الوضع الذي قيدت به ويدعى بها على ما ورد في النص من غير إطلاق اللفظ، فتقول كما قال النبي: يا مقلب القلوب، ولا نقل يا مقلب فقط .
• الشرط الرابع دلالة الاسم على الوصف
والمقصود بدلالة الاسم على الوصف أن يكون اسما على مسمى لأن القرآن بين أن أسماء الله أعلام وأوصاف، فقال في الدلالة على علميتها: (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [الإسراء:110]، فكلها تدل على مسمى واحد؛ ولا فرق بين الرحمن أو الرحيم أو الملك أو القدوس أو السلام إلى آخر ما ذكر في الدلالة على ذاته، وقال في كون أسمائه دالة على الأوصاف: (وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)، فدعاء الله بها مرتبط بحال العبد ومطلبه وما يناسب حاجته واضطراره من ضعف أو فقر أو ظلم أو قهر أو مرض أو جهل أو غير ذلك من أحوال العباد، فالضعيف يدعو الله باسمه القادر المقتدر القوي، والفقير يدعوه باسمه الرازق الرزاق الغني، والمقهور المظلوم يدعوه باسمه الحي القيوم إلى غير ذلك مما يناسب أحوال العباد والتي لا تخرج على اختلاف تنوعها عما أظهر لهم من أسمائه الحسنى، فلو كانت الأسماء جامدة لا تدل على وصف ولا معنى لم تكن حسنى، وعندها يلزم أنه لا معنى لها، ولا قيمة لتعدادها أو الدعوة إلى إحصائها، ويترتب على ذلك أيضا رد حديث الصحيحين: (إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا)، كما أن الله أثنى بها على نفسه فقال: (وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)، والجامد لا مدح فيه ولا دلالة له على الثناء، أما مثال ما لم يتحقق فيه الدلالة على الوصف من الأسماء الجامدة ما ورد عند البخاري مرفوعا: (قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَل: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ الليْلَ وَالنَّهَارَ) [البخاري4549]، فالدهر اسم لا يحمل معنى يلحقه بالأسماء الحسنى كما أنه في حقيقته اسم للوقت والزمن، فمعنى أنا الدهر أي خالق الدهر [فتح الباري10/566]، ويلحق بذلك أيضا الحروف المقطعة في أوائل السور والتي اعتبرها البعض من أسماء الله فلا يصح أن تدعو الله بها فتقول في ألم: اللهم يا ألف ويا لام ويا ميم اغفري لي .
• الشرط الخامس دلالة الوصف على الكمال المطلق .
والمقصود به أن يكون الوصف الذي دل عليه الاسم في غاية الجمال والكمال فلا يكون المعنى عند تجرد اللفظ منقسما إلى كمال أو نقص أو يحتمل شيئا يحد من إطلاق الكمال والحسن، وذلك الشرط مأخوذ من قوله تعالى: (وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)، وكذلك قوله: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) [الرحمن:78]، فالآية تعني أن اسم الله تنزه وتمجد وتعظم وتقدس عن كل معاني النقص لأنه سبحانه له مطلق الحسن والجلال وكل معاني الكمال والجمال، فليس من أسمائه الحسنى الماكر والخادع والفاتن والمضل والمستهزيء والكايد ونحوها لأن ذلك يكون كمالا في موضع ونقصا في آخر، فلا يوصف الله به إلا في موضع الكمال فقط كما ورد به نص القرآن والسنة .
• ارتباط البحث في الموسوعات الالكترونية بالشروط المنهجية أظهرت مفاجأة لم تكن متوقعة(1/142)
هذه هي الشروط التي تضمنها قوله تعالى: (وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)، وعندما تتبعت ما ورد في الكتاب والسنة من خلال الموسوعات الإلكترونية واستخدام تقنية البحث الحاسوبية، وما ذكره مختلف العلماء الذين تكلموا في إحصاء الأسماء، والذين بلغ إحصاؤهم جميعا ما يزيد على المائتين والثمانين اسما ثم مطابقة هذه الشروط على ما جمعوه أكثر من مرة، فإن النتيجة التي يمكن لأي باحث أن يصل إليها هي تسعة وتسعون اسما فقط دون لفظ الجلالة، أكرر تسعة وتسعون اسما فقط، وهو إعجاز جديد بتقنية الكمبيوتر يصدق قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث:(إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا)، وقد كانت مفاجأة لي كما هو الحال لدى القارئ، وها هي الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة بأدلتها التفصيلية:
1-الرَّحْمَنُ 2-الرَّحِيمُ: قال تعالى: (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) [فصلت:2]، 3-المَلِك 4-القُدُّوسُ 5-السَّلامُ 6-المُؤْمِنُ 7-المُهَيْمِنُ 8-العَزِيزُ 9-الجَبَّارُ 10-المُتَكَبِّرُ: (هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الحشر:23]، 11-الخَالِقُ 12-البَارِئُ 13-المُصَوِّرُ: (هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ) [الحشر:24]، 14-الأَوَّلُ 15-الآخِرُ 16-الظَّاهِرُ 17-البَاطِنُ: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحديد:3]، 18-السَّمِيعُ 19-البَصِيرُ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى:11]، 20-المَوْلَى 21-النَّصِيرُ: (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج: 78]، 22-العفو 23-القَدِيرُُ: (فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً) [النساء:149]، 24-اللطيف 25-الخَبِير: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ) [الملك:14]، 26-الوِتْرُ: حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مرفوعا: (وَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ) [مسلم 2677]، 27- الجَمِيلُ: حديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه مرفوعا: (إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)[مسلم:91]، 28- الحَيِيُّ 29-السِّتيرُ حديث يَعْلَى بن أمية رضي الله عنه مرفوعا: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل حَيِىٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ) [صحيح أبي داود:3387]، 30- الكَبِيرُ 31- المُتَعَالُ، قال تعالى: (عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ) [الرعد:9]، 32- الوَاحِد ُ33- القَهَّارُ، قال تعالى: (قُل اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّار ُ)[الرعد:16]، 34- الحَقُّ 35- المُبِينُ، قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ) [النور:25]، 36- القَوِيُِّ، قال: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) [هود:66]، 37- المَتِينُ،قال تعالى: (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات:58]، 38-الحَيُّ 39-القَيُّومُ:(اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة:255]، 40-العَلِيُّ 41-العَظِيمُ،قال تعالى: (وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ) [البقرة:255]، 42-الشَّكُورُ 43-الحَلِيمُ،قال تعالى: (وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) [التغابن:17]، 44-الوَاسِعُ 45-العَلِيمُ،قال تعالى: (إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:115]، 46-التَّوابُ 47-الحَكِيمُ،قال تعالى: (وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيم ٌ) [النور:10]، 48-الغَنِيُّ 49-الكَريمُ،قال تعالى: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل:40]، 50-الأَحَدُ 51-الصَُّمَدُ، قال تعالى: (قُل هُوَ اللهُ أَحَد اللهُ الصَّمَدُ)، 52-القَرِيبُ 53-المُجيبُ، قال تعالى: (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) [هود:61]، 54-الغَفُورُ 55-الوَدودُ،قال تعالى: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُود) [البروج:14/15]، 56-الوَلِيُّ 57-الحَميدُ، قال تعالى: (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشورى:28]، 58-الحَفيظُ، قال تعالى: (وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) [سبأ:21]، 59-المَجيدُ،قال تعالى: (ذُو العَرْشِ المَجِيدُ) [البروج:15]، 60-الفَتَّاحُ، قال تعالى: (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيم ُ) [سبأ:26]، 61-الشَّهيدُ،قال تعالى: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [سبأ:47]، 62-المُقَدِّمُ 63-المُؤِّخرُ:حديث ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه مرفوعا: (أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ) [البخاري1069]، 64-المَلِيكُ 65-المَقْتَدِرُ،قال تعالى:(1/143)
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِر) [القمر:55]، 66-المُسَعِّرُ 67-القَابِضُ 68-البَاسِطُ 69-الرَّازِقُ،حديث أَنَسٍ رضي الله عنه مرفوعا: (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ) [صحيح الجامع 1846]، 70-القَاهِرُ، قوله تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) [الأنعام:18]، 71-الديَّانُ: حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ مرفوعا: (يَحْشُرُ اللهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ، أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ) [البخاري 6/2719]، 72-الشَّاكِرُ، قال تعالى: (وَكَانَ اللهُ شَاكِراً عَلِيماً) [النساء:147]، 73-المَنَانُ: حديث أَنَسِ رضي الله عنه مرفوعا وفيه: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ) [صحيح أبي داود:1325]، 74-القَادِرُ،قوله تعالى: (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ) [المرسلات:23]، 75-الخَلاَّقُ، قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيم ُ) [الحجر:86]، 76-المَالِكُ،حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مرفوعا: (لاَ مَالِكَ إِلاَّ اللهُ عَزَّ وَجَل) [مسلم:2143]، 77-الرَّزَّاقُ، قال تعالى: (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات:58]، 78-الوَكيلُ،قال تعالى: (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران:173]، 79-الرَّقيبُ،قال تعالى: (وَكَانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) [الأحزاب:52]، 80-المُحْسِنُ:حديث شداد بن أوس رضي الله عنه مرفوعا: (إن الله محسن يحب الإحسان) [صحيح الجامع 1824]، 81-الحَسيبُ،قال تعالى: (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حسِيباً) [النساء:86]، 82-الشَّافِي: حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها مرفوعا: (اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي) [البخاري:5351]، 83-الرِّفيقُ: حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها مرفوعا: (رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ) [البخاري:5901]، 84-المُعْطي: حديث مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ رضي الله عنه مرفوعا: (وَاللهُ الْمُعْطِي وَأَنَا الْقَاسِمُ) [البخاري:2948]، 85-المُقيتُ:قوله تعالى: (وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) [النساء:85]، 86-السَّيِّدُ: حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ رضي الله عنه مرفوعا: (السَّيِّدُ الله) [صحيح أبي داود:4021]، 87-الطَّيِّبُ:حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مرفوعا: (إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا) [مسلم:8330]، 88-الحَكَمُ:حديث شُرَيْحٍ بن هَانِئٍ رضي الله عنه مرفوعا: (إِنَّ اللهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ) [صحيح أبي داود:4145]، 89-الأَكْرَمُ، قال تعالى: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ) [العلق:3]، 90-البَرُّ،قال تعالى: (إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور:28]، 91-الغَفَّارُ قال تعالى: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) [ص:66]، 92-الرَّءوفُ،قال تعالى: (وَأَنَّ اللهَ رءوف رَحِيم ٌ) [النور20]، 93-الوَهَّابُ،قال تعالى: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) [ص:9]، 94-الجَوَادُ:حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مرفوعا: (إن الله عز وجل جواد يحب الجود) [صحيح الجامع:1744] 95-السُّبوحُ:حديث عَائِشَةَ مرفوعا: (سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ) [مسلم:487]، 96-الوَارِثُ:قوله: (وَإِنَّا لنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُون) [الحجر:23]، 97-الرَّبُّ،قال تعالى: (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس:58]، 98-الأعْلى،قال تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) [الأعلى:1]، 99-الإِلَهُ،قال تعالى: (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لا إِلهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) [البقرة:163] .
هذه تسعة وتسعون اسما هي التي توافقت مع شروط الإحصاء بلا مزيد ثمانية وسبعون اسما في القرآن وواحد وعشرون في السنة، ويجدر التنبيه على أن هذا العدد لا يعنى أن الأسماء الكلية لله عز وجل محصورة فيه فقد جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في دعاء الكرب: (أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ) [السلسلة الصحيحة1/383]، فهذا الحديث يدل على أن العدد الكلى لأسمائه الحسنى انفراد الله عز وجل بعلمه، وما استأثر به عنده لا يمكن لأحد حصره ولا الإحاطة به، أما حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه في ذكر التسعة والتسعين فالمقصود به الأسماء التي تعرف الله بها إلى عباده في الكتاب والسنة وتناسب الغاية من وجودهم .(1/144)
وتجدر الإشارة إلى أن ترتيب الأسماء الحسنى بأدلتها المذكورة مسألة اجتهادية راعينا في معظمها ترتيب اقتران الأسماء حسب ورودها في الآيات مع تقارب الألفاظ على قدر المستطاع ليسهل حفظها بأدلتها والأمر في ذلك متروك للمسلم وطريقته في حفظها .
وإتماما للفائدة فإنه بعد مراجعة الأسماء المشهورة على ألسنة الناس منذ أكثر من ألف عام تبين أن الأسماء التي وردت فيها ليست تسعة وتسعين اسما بل ثمانية وتسعين لأن لفظ الجلالة هو الاسم الأعظم الذي تضاف إليه الأسماء ويكمل به عند إحصائه مائة اسم كما هو واضح وظاهر من نص الحديث: ( إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا )، كما أن الأسماء الحسنى التي ثبتت بنص الكتاب والسنة في المحفوظ على ألسنة الناس عددها تسعة وستون اسما فقط وهي: الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط السميع البصير الحكم اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد الحي القيوم الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن المتعالي البر التواب العفو الرءوف المالك الغني الوارث، أما الأسماء التي لم تثبت أو توافق شروط الإحصاء فعددها تسعة وعشرون اسما، منها اثنان وعشرون ليست من الأسماء الحسنى ولكنها أفعال وأوصاف لا يصح الاجتهاد الشخصي في الاشتقاق منها وهي: الخافضُ الرَّافِعُ المعزُّ المذِل العَدْلُ الجَلِيلُ البَاعِثُ المُحْصِي المُبْدِيءُ المُعِيدُ المُمِيتُ الوَاجِدُ المَاجِدُ الوَالِي ذُو الجَلاَلِ وَالإكْرَامِ المُقْسِط المُغْنِي المَانِعُ الضَّارُّ النَّافِعُ البَاقِي الرَّشِيدُ الصَّبُور، وكذلك سبعة أسماء مقيدة لا بد من ذكرها مضافة كما ورد نصها في القرآن وهي: الرَّافِعُ المُحْيِي المنتَقِمُ الجَامِعُ النُّورُ الهَادِي البَدِيعُ .
أما الأسماء المدرجة التي لم تثبت أو توافق ضوابط الإحصاء عند ابن ماجة فعددها تسعة وثلاثون اسما وهي: الْبَارُّ الْجَلِيلُ الْمَاجِدُ الْوَاجِدُ الْوَالِي الرَّاشِدُ الْبُرْهَانُ الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ الْبَاعِثُ الشَّدِيدُ الضَّارُّ النَّافِعُ الْبَاقِي الْوَاقِي الْخَافِضُ الرَّافِعُ الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ الْمُقْسِطُ ذُو الْقُوَّةِ الْقَائِمُ الدَّائِمُ الْحَافِظُ الْفَاطِرُ السَّامِعُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ الْمَانِعُ الْجَامِعُ الْهَادِي الْكَافِي الأَبَدُ الْعَالِمُ الصَّادِقُ النُّورُ الْمُنِيرُ التَّامُّ الْقَدِيمُ .
وبخصوص ما أدرجه عبد العزيز بن حصين عند الحاكم فالأسماء التي لم تثبت فيها أو توافق شروط الإحصاء عددها سبعة وعشرون اسما هي: الحنان البديع المبديء المعيد النور الكافي الباقي المغيث الدائم ذو الجلال والإكرام الباعث المحيي المميت الصادق القديم الفاطر العلام المدبر الهادي الرفيع ذو الطول ذو المعارج ذو الفضل الكفيل الجليل البادي المحيط .
وقد أجرينا دراسة كاملة لكل اسم من الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة تناولت الأدلة التفصيلية على ثبوتها وكيف انطبقت عليها شروط الإحصاء ثم تناولت شرح الأسماء وتفسير معانيها بما ورد في القرآن والسنة وصح عن سلف الأمة، ثم دلالتها على أوصاف الكمال بأنواع الدلالات المختلفة مطابقة وتضمنا والتزاما، وكيف ورد الاسم علما في موضع وورد وصفا لله في موضع آخر ؟ ثم اشتملت على كيفية الدعاء بالأسماء الحسنى دعاء مسألة، وما هو الدعاء القرآني أو الدعاء النبوي الصحيح المأثور في كل اسم من الأسماء بمفرده ؟ وأخيرا تناولت الدراسة كيفية الدعاء بالأسماء الحسنى دعاء عبادة ؟ أو أثر الأسماء الحسنى ومقتضاها على سلوك المسلم وأقواله وأفعاله .
==============
حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا
قال الله تعالى في أهل النار:" وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ "(الزمر: 71)
ثم قال تعالى في أهل الجنة:" وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ "(الزمر: 73)
فأدخل واو الجمع على جواب " حَتَّى إِذَا "في آية أهل الجنة، ونزعها منه في آية أهل النار. والسؤال الذي يتردد كثيرًا: لمَ أدخلت هذه الواو في الآية الثانية على الجواب، ونزعت منه في الآية الأولى، والكلام في الموضعين واحد ؟(1/145)
ولعلماء النحو والتفسير في الإجابة عن ذلك أقوال، أذكر بعضها، وأبدأ بقول الفرَّاء- شيخ الكوفيين- وكان قد علل لدخول هذه اللام في الآية الثانية، وسقوطها من الآية الأولى، فقال:" العرب تدخل الواو في جواب" لَمَّا "، و" حَتَّى إِذَا "، وتلقيها؛ فمن ذلك قول الله:
" حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا "، وفي موضع آخر:" وَفُتِحَتْ "، وكلٌّ صواب ". وعلى هذا القول جمهور الكوفيين.
أما سيبويه- شيخ البصريين- فقد حكى لنا رأيَ أستاذه الخليل بن أحمد في الآية الثانية، فقال:"سألت الخليل عن قوله جل ذكره:
" حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا "أين جوابها ؟ وعن قوله جل وعلا:
" وََلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ "(البقرة: 165)..
فقال: إن العرب قد تترك في مثل هذا الخبر الجواب في كلامهم، لعلم المخبَر لأي شيء وُضِع هذا الكلام ".
أما الأخفش فحكى عن الحسن- رضي الله عنه- أنه فسر الآية الثانية على إلقاء الواو من قوله تعالى:" وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ". ثم قال:"فالواو في مثل هذا زائدة ". وقال في موضع آخر:"وإضمار الخبر أحسن في الآية ". ومراده بإضمار الخبر: حذف الجواب، وهو مذهب الخليل وسيبويه وجمهور البصريين.
فعلى قول الفراء وجمهور الكوفيين يكون جواب" حَتَّى إِذَا "في الآيتين قوله تعالى:" فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا "، وجوَّزه الإمام الطبري في أحد قوليه.
وعلى قول الخليل وسيبويه وجمهور البصريين يكون الجواب في الآية الثانية محذوفًا لعلم المخاطب. وعلى قول الحسن- رضي الله عنه- يكون الجواب مذكورًا، وهو قوله تعالى:" وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ".
وفُسِّر قول الفراء على زيادة الواو، ونسِب ذلك إلى الكوفيين، وفُسِّر قول الخليل وسيبويه على أن الواو عاطفة على ما قبلها، والجواب محذوف ونسِب ذلك إلى البصريين. وإلى ذلك أشار النحاس بقوله:" فالكوفيون يقولون: زائدة. وهذا خطأ عند البصريين؛ لأنها تفيد معنى، وهي للعطف ههنا، والجواب محذوف ".
ثم اختلفوا في موضع هذا الجواب المزعوم حذفه على قولين:أحدهما قبل الواو. والثاني بعد الواو. واختلفوا أيضًا في تقديره على أقوال؛ أشهرها قول الزجاج، ونصه الآتي:" والذي قلته أنا- وهو القول إن شاء الله- أن المعنى: حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، دخلوها.. وحذف؛ لأن في الكلام دليلاً عليه ".
واختار الطبري قول الزجاج على أنه أولى الأقوال بالصواب، مع تجويزه لقول الفراء. وقال الزركشي:"ويحتمل أن يكون التقدير: حتى إذا جاؤوها- أذن لهم في دخولها- وفتحت أبوابها".
ثم اختلفوا في معنى الواو على هذا القول على قولين:أحدهما: أنها واو العطف. والثاني: أنها واو الحال، وإليه ذهب الزجاج، والزمخشري، وأبو حيان، وأجاز الزركشي القولين معًا.
وحكى القرطبي عن أبي بكر بن عياش أنها واو الثمانية، وذكر أن من عادة قريش إذا عدوا، قالوا: خمسة، ستة، سبعة، ثمانية. ولما كانت أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة، أدخلت الواو في آية أهل الجنة، ولم تدخل في آية أهل النار. وقد ضعِّف هذا القول من قبل الكثيرين.. وأخيرًا استقرَّ رأي جمهور المتأخرين على أنها واو الحال، وأن المعنى:
حتى إذا جاؤوها، وقد فتحت أبوابها، دخلوها. أو ما شابه ذلك.
وعدُّوا حذف الجواب من بلاغة القرآن وإعجازه. وعن الحكمة في إثبات الواو في الثاني قال بعضهم:"لمّا قال الله عز وجل في أهل النار:
" حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا "
دل على أنها كانت مغلقة.. ولمّا قال في أهل الجنة:
" حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا "
دل على أنها كانت مفتحة قبل أن يجيئوها ".
وقد وقع هذا القول موقع الإعجاب في نفوس الكثير من الدارسين، والباحثين المعاصرين، من علماء اللغة والنحو والتفسير، أذكر منهم الدكتور فضل حسن عباس، صاحب كتاب ( لطائف المنان وروائع البيان في دعوى الزيادة في القرآن ). لقد تحدث الدكتور فضل عن هذه الواو، فصال وجال، وأتى بالعجب العجاب، فكان كالمعري، الذي وصف نفسه بقوله:
وإني وإن كنت الأخير زمانه ***لآت بما لم تستطعه الأوائل
وبدأ حديثه عن هذه الواو بهجومه العنيف على الفراء، واتهمه بسوء النظر والفكر معًا.. ثم زعم أن هذه الواو صاحبة رسالة، مستشهدًا على ذلك بقوله تعالى:" اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ "(الأنعام: 124)
ثم ذكر مدَّعيًا أن حذف الجواب في الآية من دقائق الإعجاز، وأن حذف جواب " إِذَا " مستفيض في القرآن، وكلام العرب؛ ولهذا قال في معنى الآية الكريمة:"حتى إذا جاؤوها، وقد فتحت أبوابها، كان لهم من إكرام الله ما لا يمكن حصره.. أو ما يشابهه ".
ولم يتوقف الدكتور فضل عند هذا الحد؛ بل زعم أن الجواب في آية أهل النار محذوف أيضًا، وأن جملة " فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا " استئنافية، وأن المعنى:
حتى إذا جاؤوها، فتحت أبوابها، وجدوا من الهول والحسرة والندامة والأسى ما يعجز عنه الوصف، وقال لهم خزنتها: كذا وكذا.(1/146)
وانتهى من ذلك إلى القول:” فإن قبلت هذا القول فخذ به، ولكل وجهة هو مولِّيها“.
وفي الإجابة عن ذلك كله أقول بعون الله وتعليمه:
أولاً-للواو في لغة العرب وظيفة لغوية في التركيب، وهي الربط بين مفردين، أو جملتين، ولها معنيان: أولهما: العطف. وثانيهما: الجمع. وكثيرًا ما تُخلَعُ عنها دلالتها على العطف، فتخلص لمعنى الجمع فقط. وهذا ما أشار إليه ابن جني في( باب خلع الأدلة ) من كتابه ( الخصائص )، فقال:”ومن ذلك واو العطف؛ فيها معنيان العطف ، ومعنى الجمع . فإذا وضعت موضع:( مع ) ، خلُصت للاجتماع ، وخلِعت عنها دلالة العطف ؛ نحو قولهم: استوى الماء ، والخشبة “.
ومثل ذلك هذه الواو، التي أدخلت في قوله تعالى:" وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا " فهي واو أخلِصَت لمعنى الجمع بعد أن خلِعت عنها دلالتها على العطف، فدلت بذلك على اجتماع حدثين في وقت واحد: مجيء المؤمنين إلى الجنة، وفتح الجنة أبوابها لهم؛ كما دلت على الجمع بين استواء الماء، واستواء الخشبة في قولهم: استوى الماء والخشبة. ومثلها في الدلالة على معنى الجمع الواو في قوله تعالى:
" فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ "(يونس: 71)
أي: فأجمعوا أمركم مع شركائكم. ويحمل على ذلك أيضًا قوله تعالى:
" وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ "(الحشر: 9)
أي: تبوَّؤوا الدار الآخرة مع الإيمان.
وأما تفسيرهم لها بالحالية، أو العاطفة فهو محكوم بالقاعدة النحوية، التي تنصُّ على أن جواب الشرط لا يقترن في حالات مخصوصة بغير الفاء، أو إذا الفجائية. فلما اعترضتهم نصوص من القرآن الكريم ولغة العرب، تخالف ما اصطلحوا عليه من قواعد، أخذوا بأعناق تلك النصوص، واخضعوها لقواعدهم، وبذلك ارتضوا القواعد النحوية مركبًا، فقتلوا أنفسهم بذلك، وقتلوا معها النصوص، متجاهلين أن النصوص القرآنية لا تخضع لقواعد النحاة، وتأويلاتهم المنطقية. وإذا أردت أن تعرف ذلك، فاسمع قول أبي حيان صاحب تفسير البحر المحيط:”التأويل إنما يسوغ إذا كانت الجادة على شيء، ثم جاء شيء يخالف الجادة، فيُتأَوَّل“.
ويقصد أبو حيان بالجادة-هنا- القواعد النحوية، التي قعَّدها النحاة، فما خرج عنها يجب أن يتأوَّل حتى يعود إليها. وبهذا التأويل، الذي يخضع للجهد الذهني العميق، جعلوا من النصوص القرآنية تبعًا للقواعد النحوية، والعكس هو الذي ينبغي أن يكون.
ثانيًا- إذا ثبت حذف جواب" إِذَا " و" لََوْ " في بعض المواضع، فإن حذف جواب " حَتَّى إِذَا " لم يثبت أبدًا في أيٍّ من تلك المواضع. وليس من الصواب في شيء أن يقاس جواب " حَتَّى إِذَا " على جواب " إِذَا "، أو جواب " لََوْ "؛ لأن من شروط القياس المعتبرة في اللغة أن تقاس الظاهرة اللغوية بأمثالها.
ثم إن القياس النحوي لم يصلح يومًا لأن يكون منهجًا للبحث العلمي؛ إنما الذي يصلح لذلك هو الاستقراء اللغوي، وهذا ما فعله الفراء. والدليل على ذلك أنه أنكر، وبأسلوب رقيق مهذب، قول من جعل قول الله تعالى:" وَأَذِنَتْ " جوابًا لـ" إِذَا "، في قوله تعالى:" ِإِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ "(الانشقاق: 2)
فقال:”ونرى أنه رأيٌ ارتآه المفسِّرُ، وشبَّهه بقوله تبارك وتعالى:" حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا "؛ لأنا لم نسمع جوابًا بالواو في " إِذَا " مبتدأة، ولا قبلها كلام، ولا في " فَلَمَّا "، إذا ابتُدِئت؛ وإنما تجيب العرب بالواو في قوله:( حتى إذا كان ) و( فلمَّا أن كانت )، لم يجاوزوا ذلك “.
والفراء راوية ثقة، لا يشك أحد في ما يرويه عن العرب، وقد شهد له بذلك أبو حيان، الذي تقدم ذكره. والشواهد القرآنية، وغيرها تؤيد قوله وتؤكِّده، فمن الشواهد القرآنية نذكر قول الله تعالى:
" حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ *وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا "(الأنبياء: 96-97)
فقوله تعالى:" وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ " جواب قوله:" حَتَّى إِذَا "، وقد جاء مقترنًا بالواو، والمعنى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، اقترب الوعد الحق.. ويدلك على أن " اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ "هو الجواب، أن فتح يأجوج ومأجوج، ونسلهم من كل حدب هو علامة من علامات اقتراب هذا الوعد، الذي هو يوم القيامة، وهو المشار إليه بقوله تعالى:َ" فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً "(الكهف: 98)
ومن الشواهد الشعرية، التي أنشدها الفرَّاء نذكر قول الشاعر:
حتى إذا قمِلت بطونُكُمُ *** ورأيتمُ أبناءكم شَبُّوا
وقلبتمُ ظهرَ المِجََنِّ لنا ***إن اللئيم العاجز الخبُّ
والمعنى: قلبتم لنا ظهر المجن، بدون واو. والواو جامعة في الموضعين بين حدثين في وقت واحد، أولهما فعل الشرط، والثاني: جواب الشرط.(1/147)
ثالثًا- واضح من كلام الفرَّاء السابق، أنه لم يقل بزيادة هذه الواو، ولم يذكر نوعها، واكتفى بأن فسَّر لنا هذه الظاهرة اللغوية بقوله:”العرب تدخل الواو في جواب" فَلَمَّا " و" حَتَّى إِذَا "، وتلقيها “. ولم يقل مثل ذلك في جواب" إِذَا "؛ بل أنكر قول من قال به، وعقَّب عليه بقوله:”ونرى أنه رأيٌ ارتآه المفسِّرُ “. وكان ينبغي على الدكتور فضل حسن عباس أن يفهم كلام الفراء قبل أن يهاجمه، ويتهمه بسوء النظر والفكر، وليته أعاد النظر في قوله.
رابعًا- أما قولهم:”ولمّا قال في أهل الجنة:" حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا "
دل على أنها كانت مفتحة قبل أن يجيئوها “
فليس كذلك؛ لأن فتح أبواب الجنة يقع مع وقوع مجيئهم إليها، لا بعده، ولا قبله. وهذا ما دلت عليه الواو؛ وذلك لما فيها من معنى الجمع، الذي لا يفارقها أينما وقعت.
ولهذا المعنى، الذي أفادته هذه الواو، لا يجوز القول بأنها عاطفة، أو حالية. أما الأول فلأنها- هنا- مسلوبة الدلالة على العطف. وأما الثاني فلأن واو الحال لا يجوز أن تدخل على الفعل إلا ومعها ( قد ) ظاهرة، لا مقدرة. وجعلها حالية يقتضي تقدير جواب محذوف مع ( قد ). وهذا ما لجئوا إليه، وهو تكلف ظاهر، لا داعي له، لما فيه من إخلال بنظم الكلام، وإفساد لمعناه. وفرق كبير بين أن يقال: حتى إذا جاءوها، فتحت أبوابها مع مجيئهم إليها، وبين أن يقال: حتى إذا جاءوها، وقد فتحت أبوابها قبل مجيئهم إليها؛ لأن هذا فيه حذف للجواب، وتقدير( قد ) بين الواو، والفعل. والأول لا حذف فيه، ولا تقدير. وصون النظم الكريم من العبث بالزيادة والتقدير هو الأولى، وهو الذي ينبغي أن يكون.
أما مجيء الجواب في الآية الأولى غير مقترن بالواو فللدلالة على أن النار لا تفتح أبوابها لأهلها إلا بعد مجيء أهلها إليها. وقد يطول وقوفهم، وانتظارهم، وهذا أنكى لهم، ثم تفتح لهم الأبواب بعد طول انتظار، ويدخلون غير مأسوف عليهم، خلافًا لأهل الجنة، الذين يدخلونها دون انتظار؛ لأنهم يجدون أبوابها قد فتحت لهم مع مجيئهم إليها. وما أشبه هذا بما نشاهده اليوم من الأبواب الزجاجية لبعض المحال والبنوك والدوائر الرسمية، التي تفتح للقادمين إليها من أول وطأة قدم أمامها، ثم تعود إلى الانغلاق بعد الدخول. وذلك بخلاف أبواب السجون، وغيرها من الأبواب، التي لا تفتح للذين يساقون إليها إلا بعد طول انتظار.
وأما ما استدلوا عليه من قولهم: إن الجنة تفتح أبوابها لأهلها قبل مجيئهم إليها إكرامًا لهم بقوله تعالى:
" جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ "(ص: 50)
كمنازل الأفراح والسرور، وأبواب الجنان في الدنيا، فليس كذلك؛ لأن أبواب الجنة مغلقة، لا تفتح إلا وقت مجيء أهلها من المؤمنين إليها. وتفتح بالأمر كما تغلق بالأمر. والآية السابقة دليل عليهم، لا دليل لهم. يدلك على ذلك أن قوله تعالى:" مُّفَتَّحَةً "صيغة مفعول، وكونها منونة يدل على أن زمنها المستقبل، لا الماضي، وأن التشديد فيها للمبالغة وتكررالفتح. وهذا يعني أنها تفتح كلما جاء الجنة وفد من المؤمنين، ثم تغلق، وأن الفتح يتكرر بتكرر المجيء.
وقال القرطبي:”وإنما قال:" مُفَتَّحَةً "، ولم يقل:( مفتوحة )؛ لأنها تفتح لهم بالأمر، لا بالمسِّ. أي: بالأيدي. قال الحسن: تُكَلَّمُ: انفتحي فتنفتح، انغلقي فتنغلق“ وعن الحسن- كما في الدُّرِّ المنثور للسيوطي-:”يُرَى ظاهرُها من باطنها، وباطنُها من ظاهرها، ويقال لها: انفتحي، وانغلقي، تكلمي، فتفهم، وتتكلم “.
وقيل: إن الملائكة الموكلين بالجنان، إذا رأوا صاحب الجنة، فتحوا له أبوابها، وحيوه بالسلام، فيدخل محفوفًا بالملائكة على أعز حال، وأجمل هيئة.. وورد أن أول من يفتح له باب الجنة نبينا صلى الله عليه وسلم. فلو كان الفتح قبل المجيء إكرامًا، لوجدها مفتوحة.
وعن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال:” إذا دخل شهر رمضان فُتِّحَتْ أبوابُ الجنة وغُلِّقَتْ أبوابُ النار وصُفِّدَتْ الشياطينُ “.
فقوله عليه الصلاة والسلام:” فُتِّحَتْ أَبْوَاب الْجَنَّة “يدل على أن أبواب الجنة كانت مغلَقةً، ولا ينافيه- كما جاء في حاشية السِّنْدِيِّ- قوله تعالى:" جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ "؛ إذ ذلك لا يقتضي دوام كونها مفتَّحة.
خامسًا- قال أحد الإخوة الأفاضل على الرابط الآتي:
http://tafsir.org/vb/showthread.php"t=4790
”ولقد عجبت من ادّعاء أستاذنا الكريم إسماعيل عتوك في قوله: (( إذا ثبت حذف جواب( إذا ) و( لو ) في بعض المواضع، فإن حذف جواب ( حتى إذا ) لم يثبت أبداً في أيٍّ من تلك المواضع)) ! “.
ثم عقَّب على ذلك بقوله:” فماذا يقول – وفقّه الله – في قول الهذلي:
حتى إذا أسلكوهم في قُتائدةٍ ==== شلاًّ كما تَطْرُدُ الجَمَّالَةُ الشُّرُدا
حيث إنه حذف هنا جواب ( حتى إذا )، ولم يأت به؛ وذلك لأن هذا البيت هو آخر القصيدة ؟ وكما هو بيّن، فإن جواب ( حتى إذا ) في هذا البيت لم يقترن بالواو !(1/148)
ولعلّ الأصل في هذا كله - أخي الكريم - أن جواب الشرط لا يتمّ المشروط دونه، فإذا حُذف كان أهول وأعظم للكلام، فيكون إضمار الجواب في مواضعه أحسن من إظهاره.
ثم أنَّى للّغة نفسها أن تصف الجنة، وهي التي " فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " ؟ ولذلك يقول الدكتور فاضل السامرائي في بيانه لآية الزمر ما معناه: أنه عندما حذف جواب الشرط هنا، كان في ذلك إشارة خفيّة إلى أن اللغة نفسها لا يمكنها أن تصف ما فيها من نعيم ".
هذا ما قاله الأخ الفاضل تعقيبًا على ما قلته في الفقرة الثانية من هذا المقال، وقد كفاني الرد عليه أخ فاضل آخر، تجدون ردَّه على الرابط المذكور. وفيما ذكرته كفاية لمن أراد الهداية، نسأله سبحانه أن يجعلنا من الذين يفقهون كلامه، ويدركون أسرار بيانه، ولا يقولون فيه إلا صوابًا، والحمد لله رب العالمين !
محمد إسماعيل عتوك
==============
الإعجاز البياني في سورة يوسف
محمود ياسر الأقرع
يقول تعالى:(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) الآية الأولى من سورة يوسف.
تفتتح سورة يوسف بالحروف المقطعة ، شأنها في ذلك شأن بعض السور في القرآن الكريم . وقد ذهب مفسّرو القرآن ودارسوه في تأويل هذه الحروف والبحث عن مدلولاتها مذاهب شتى ، على حين ظن فيها المستشرقون والساعون إلى الطعن في كتاب الله مجالاً واسعاً للنقض والتشكيك .
ولعل أبرز ما قيل في تأويل هذه الحروف إنها إشارة إلى المادة الأولية التي تصنع منها الكلمات العربية ، والقرآن أنزل عربياً ، وما دام الأمر كذلك أي أن المادة الأولية لصناعة النص موجودة " فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ". البقرة. الآية (23).
ولذلك فإن ورود الحروف المقطعة في معظم السور التي بُدِئت بهذه الحروف ، جاء مقترناً بذكر القرآن الكريم كمثل قوله تعالى في سورة البقرة :( الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) . وفي سورة يونس :(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ).وفي سورة هود: (الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ). وهكذا في معظم السور التي استهلت بالحروف المقطعة .
في أول هذه السورة، سورة يوسف، يصف الله تعالى القرآن بـ " الكتاب المبين" (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ)، والمبين لغة من: أبان، أي أظهر وأوضح. ضدها أخفى وستر (لسان العرب م13/ص67) ووصف القرآن في مطلع سورة يوسف بـ ( المبين ) أمر في غاية الدّقة ومنتهى البلاغة في علم البلاغة هنالك ما يسميه البلاغيون ( براعة الاستهلال ) وهو أن يذكر الإنسان في أوّل كلامه ما يشير إلى غرضه من الكلام ليكون ابتداء كلامه دالاً على انتهائه .
وقد جاء وصف الكتاب بـ"المبين" في مطلع سورة يوسف إشارة إلى أن قصة يوسف ( موضوع السورة ) تقوم على مبدأ الإبانة ، والإظهار، والكشف . وهذا معناه وجود أمر خفيٍّ غير ظاهر ولا مكشوف سيزول عنه ستار الغموض ليبدو ويُستحضر من التغييب ليكون حاضراً بادياً للعيان.
وسنعرض أحداث قصة سيدنا يوسف ( عليه السلام ) في مراحلها المختلفة ومواقفها المتباينة حتى نتبيّن قضية (الإخفاء والإبانة) التي يقوم عليها البناء القصصي في سورة يوسف (عليه السلام ) والتي أشارت إليها ، في براعة ودقة، كلمة ( المبين ) التي جاءت في مطلع السورة .
- يتفق المفسّرون على أن سبب نزول سورة يوسف، هو طلب اليهود من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحدثهم بخبر يوسف عليه السلام، وهم يعلمون أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب ولا يعلم من أمر يوسف شيئاً. إذاً فالأمر خفيٌّ عليه مستور عنه ، وجاءت السورة كشفاً وتبياناً لما خفي على رسول الله من أمر يوسف (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)وفي قوله تعالى ( لمن الغافلين ) جاء التوكيد باللام ليدل على تأكيد غياب هذا الأمر عن رسوله كلّياً ، فلم يقل الله سبحانه ( لمن الجاهلين ) لأنني قد أجهل الأمر وأكون قد سمعت به ، فأنا أسمع مثلاً عن علم الذرة لكنني أجهله ، أما أن أكون غافلاً عنه، فمعنى ذلك أنه لم يخطر في بالي مطلقاً فالغفلة عن الأمر أشد تغييباً له من الجهل به .
لذا فإن رسول الله كان ( غافلاً ) عن أمر يوسف تماماً، وهنا عندما تأتي السورة بقصة يوسف على ما جاءت عليه من التفصيل والدقة فإن ذلك معناه أن هذا الكلام ليس من النبي وإنما هو وحي من الله (بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ) . إذاً فالكتاب المبين سيُظهر ما خفي عن النبي (ص) ويقصّ عليه قصة يوسف عليه السلام .(1/149)
- تبدأ القصة بذكر الرؤيا على لسان يوسف (يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)والرؤيا أمر يراه النائم، غالباً ما يكون رمزاً وإشارة ودلالة ( كما جاء في رؤيا سيدنا يوسف عليه السلام ) والرمز أمر غامض خفيّ يحتاج إلى بيان وإظهار وكشف ، وتأويل رؤيا يوسف يعني فكّ رموزها المستورة، وبيان مدلولاتها الخفية. ولذا جاء تأويل سيدنا يعقوب رؤيا ابنه على أنها النبوة إظهاراً وكشفاً لما جاء رمزاً غامضاً.
إذ قال سيدنا يعقوب (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، إذاً أوّل سيدنا يعقوب رؤيا ابنه يوسف على أنها النبوة، وأن ما جاء في الرؤيا من إشارات هو من علامات تلك النبوة.
لكن من يستمع إلى القصة يُفاجأ بقول سيدنا يعقوب (يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) إذ يتساءل من يستمع إلى هذا القول: ما شأن إخوة يوسف حتى يكيدوا لأخيهم ويمكروا به ولا يفرحوا ويسرُّوا برؤياه ، ورؤياه تعني العز والمجد والسلطان، وإن نال أخوهم هذا الشرف فلا بدّ أن يكون لهم نصيب منه ..؟؟
الله يعلم أن هذا الأمر سيثير تساؤلاً في نفس السامع فيأتي قوله تعالى (لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ) ورداً على التساؤل حول موقف إخوة يوسف، يقول الله تعالى (إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ)
أراد الله تعالى أن يبيّن لنا ما خفي علينا من موقف إخوة يوسف حسب ما جاء على لسان سيدنا يعقوب، فجاءت علة هذا الموقف وسببه على لسان إخوة يوسف.
- الآن إخوة يوسف يفكّرون بطريقة للتخلص من يوسف حتى يخلو لهم وجه أبيهم .
ثمة اقتراحات ثلاثة وردت على ألسنتهم :
1- اقْتُلُواْ يُوسُفَ : والقتل إخفاء وتغييب لا إظهار بعده فالقتيل يوارى ثم قد لا يظهر أمره بعد ذلك
2- أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا: أي ارموه في أرض واسعة وهذا إظهار لا تغييب فيه ولا إخفاء ، إلا على احتمال أن يفترسه وحش ضارٍ، وهذا مجرد احتمال لا تبدو دلائله في قولهم ( أو اطرحوه أرضاً ) . ثم إنّ هذا الاقتراح هو انتقال من موقف سلبي إلى موقف أقل سلبية ( من القتل إلى النبذ في أرض مجهولة ) ، ولو كان طرح يوسف في أرضٍ يقتضي بالضرورة أن تنال منه الوحوش الضارية ، لتساوى هذا الاقتراح مع القتل، ولا داعي عندها لوجود ( أو ) العاطفة، التي تفيد التخيير بين أمرين متغايرين، مختلفين ( اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا ).
3- وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ( إخفاء )يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ( إبانة) وشاءت حكمة الله تعالى أن يكون قرارهم فيما يفعلونه قائماً على مبدأ الإخفاء والستر ثم الإظهار والإبانة والكشف.
- في لحظة التغييب والإخفاء (فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ) يطمئن الله سيدنا يوسف بأن الأمر الذي يحاولون إخفاءه سوف يظهر ويُكشف (وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ )
ويأتي الإظهار والإبانة بعد التغييب (وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ ) إن ما أريد له أن يختفي ويستر، كشفه الله تعالى وأبانه، وخرج سيدنا يوسف من البئر .
- غير أن السيّارة الذين وجدوا سيدنا يوسف لم يحملوه بشكل ظاهر علنيّ، مخافة أن يطالب به أحد من ذويه إن كان حرّاً ، أو يدّعي ملكيته سيّد إن كان عبداً ، لذا ( أَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ) ، أي أنهم قاموا بإخفائه بنيّة بيعه، وهذا إخفاء وستر، سيتبعه كشف وإبانة حين يصلون إلى مصر ويبيعونه
- ها هو يوسف (عليه السلام) وقد بلغ أشدّه، تراوده امرأة العزيز،وتغريه بارتكاب الفاحشة، والأمر يتطلب الإخفاء والستر(وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ)،ولمّا أبى يوسف ( عليه السلام ) النزول عند رغبتها، وكبر عندها ذلك، كان أول ما فعله سيدنا يوسف وكذلك امرأة العزيز هو الاتجاه إلى الأبواب المغلقة يوسف ليفتحها و امرأة العزيز لعدم تمكينه من ذلك، (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) ، فالباب الذي أغلق على أنه وسيلة من وسائل الإخفاء والستر، هو الآن أداة من أدوات الإظهار والكشف...
- وتسارع امرأة العزيز باتهام يوسف بأنه أراد بها الفاحشة، وأرادت بذلك ستر الحقيقة وتغييبها ، لكن وجود شاهد من أهلها واقتراحه أن يُنظر في القميص هل قدَّ من قبل فتكون امرأة العزيز صادقة أم من دبر فتكون من الكاذبين ، هذا الشاهد كان أداة الكشف والإظهار التي أبانت براءة يوسف وعفّته .(1/150)
- ولمّا شاع الخبر بين الناس ، ووصل إلى امرأة العزيز أن نسوة في المدينة يتحدثن عنها ويلمنها على مراودتها فتاها ، أرادت أن تكيد لهن وتطلعهن على حُسْنِ يوسف وجماله حتى لا يلمنها ، لكنها لم تُجلس يوسف في مكان ما ثم تحضر النسوة ليرينه ، وإنما اختارت أن تخفيه عن نواظرهن ثم تظهره وتبيّنه لهن ، فأخفت يوسف عليه السلام (وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) وهذه إبانة بعد إخفاء. و بها بيّنت امرأة العزيز للنسوة ما كان خافياً عليهن من سبب مراودة يوسف عن نفسه .
- ثم يدخل يوسف السجن ، وتعرض لنا القصة قضية الرؤيا هنا مرتين :
أ -حين يسأله فَتَيان كانا معه في السجن عن رؤياهما فيؤول لكل فتى منهما رؤياه .
ب _وحين يؤول رؤيا الملك في (سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ) وذلك بعد إخراجه من السجن.
والرؤيا -كما قلنا- رمز موحٍ وإشارة دالة ، يكتنفهما شيء من الغموض والستر وتأويل الرؤيا كشف وإظهار وإبانة .
ثم إن دخول يوسف السجن ( تغييب وإخفاء ) ثم خروجه منه ( إظهار وإبانة ). لكن يوسف ( ع ) لم يكن ليرضى أن يخرج من السجن وما زال في قضية امرأة العزيز والنسوة اللواتي قطعن أيديهن لبس أو غموض، فطلب أن يعاد النظر في الأمر حتى يُعلن ما كان خافياً، ويظهر ما كان مستوراً. فلما سئلت النسوة عن الأمر (قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ) وأما امرأة العزيز فقد قالت (الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ )
وحصحص تعني _ لغوياً _ ظهر وانكشف بعد خفاء. والحصحصة : بيان الحقّ بعد كتمانه ( لسان العرب م7/ ص16 ) .
- ويجعل الملكُ سيدَنا يوسف على خزائن الأرض، ويأتي إليه إخوته ليكتالوا في السنوات المجدبة (فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) .
وهكذا خفيت شخصية يوسف على إخوته ولم يعرفوه ، وهذا الإخفاء سيتبعه بيان في نهاية الأمر حين يكشف يوسف عن شخصيته (قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا).
- موقف آخر تبدو فيه قضية الإخفاء والإبانة واضحة جليّة ، وذلك حين أراد يوسف أن يستبقي أخاه ( بنيامين ) لديه في مصر، حتى يذهب إخوته ويحضروا أباهم معهم ، فعمد سيدنا يوسف إلى الصواع ( وهو ما يُكال به ) فجعله في رحل أخيه ثم نادى منادٍ في العير ( إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) ولمّا فتشت الرِّحال استخرج الصواع من رحل أخيه بنيامين، فأبقاه معه بهذه الحجة . وهذه الحيلة فيما نرى تعتمد الإخفاء والستر ثم الإظهار والكشف .
- ها هو سيدنا يعقوب (عليه السلام) حين يعود أولاده من مصر دون ( بنيامين ) شقيق يوسف يحزن عليه حزناً شديداً ، ويتذكر مصابه بيوسف، فيفقد بصره، وفاقد البصر تخفى عليه مظاهر الأشياء. لكن قميص يوسف الذي حُمل إلى سيدنا يعقوب من مصر، وألقي على وجهه يعيد إليه بصره الذي فقده ، وإذا كان فَقْد البصر ( غياب وستر وإخفاء للأشياء ) فإن الإبصار من بعد ذلك( حضور لما غاب ، وكشف لما سُتر، وإبانة لما أُخفي ) .
- وتنتهي قصة يوسف بسجود أبويه وإخوته له، تأويلاً لرؤياه التي جاءت في بداية القصّة ، فالرؤيا التي بدأت رمزاً وإشارة ودلالة ، وهي أمور خفية غامضة تعتمد الإيحاء، ها هي الآن تنكشف وتظهر لا تأويلاً لفظياً مثلما فعل سيدنا يعقوب أوّّل القصة، وإنما فعلاً حقيقياً وواقعاً ملموساً ، ليقول يوسف في نهاية الأمر (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) .
إذاً فإن الأحداث كلها في قصة يوسف ( عليه السلام ) تقوم على مبدأ الإظهار والإبانة ، ومن هنا نتبين الغاية البلاغية من استهلال السورة بقوله تعالى (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ) ، إذ جاء وصف القرآن بالمبين مؤشراً دلالياً على الخط الذي تقوم عليه الأحداث في البناء القصصي لـ سورة يوسف .
===============
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ
قال الله تبارك وتعالى:" فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ "(الصافات:103- 105).
للنحاة والمفسرين في جواب " فَلَمَّا " قولان: أحدهما: أنه مذكور في الكلام. والثاني أنه محذوف.. فأما الذين قالوا: إنه مذكور فقد اختلفوا على قولين:
أحدهما: أن الجواب هو قوله تعالى:" وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ". والواو زائدة. وهذا القول نسبه العكبري وأبو حيان إلى بعض الكوفيين، وإليه أشار الدكتور فضل حسن عباس.(1/151)
وثانيهما: أن الجواب هو قوله تعالى:" وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ". وإلى هذا ذهب الفرَّاء شيخ الكوفيين، وحجته أن العرب تدخل الواو في جواب" فَلَمَّا "، و" حتى إذا "، وتلقيها. وتابع الفراءَ فيما ذهب إليه الإمامُ الطبري، وردد كلامه دون زيادة، أو نقصان. وعلى هذا القول جمهور الكوفيين، وكثير من المعاصرين.
وأما الذين قالوا: إن جواب " فَلَمَّا "محذوف فحجتهم أن الواو من حروف المعاني، ولا يجوز أن تزاد. وعلى هذا القول جمهور البصريين، ومن تبعهم من المتأخرين. وتقدير الكلام عندهم:" فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ "سعدا وأجزل لهما الثواب" وَنَادَيْنَاهُ "..
وقدر الزمخشري الجواب بعد قوله:" وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ "، فقال:"فإن قلت: أين جواب( لما )؟ قلت: هو محذوف، تقديره: فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.. كان ما كان مما تنطق به الحال، ولا يحيط به الوصف من استبشارهما، واغتباطهما، وحمدهما لله، وشكرهما على ما أنعم به عليهما من دفع البلاء العظيم بعد حلوله".
ونقل الرازي عن البصريين قولهم:"وحذف الجواب ليس بغريب في القرآن. والفائدة فيه أنه إذا كان محذوفًا، كان أعظم وأفخم ".
ومن الغريب أن نجد العكبري يقدر الجواب بقوله:( نادته الملائكة ) محذوفًا، ويرفض أن يكون الجواب:( وناديناه ) مذكورًا؛ لأن القاعدة النحوية تمنع من ارتباط جواب ( لمَّا ) بالواو. ولهذا نجدهم يلوون عنق الآية الكريمة، ويخضعونها للقاعدة النحوية، والذي ينبغي أن يكون هو العكس تمامًا.
ولست أدري كيف يستسيغ عاقل أن يقال في تأويل الآية الكريمة: فلما أسلما وتلَّه للجبين- نادته الملائكة- وناديناه أن يا إبراهيم! مع أن المعنى أوضح من أن يحتاج في بيانه إلى مثل هذا التأويل.
ومن المعاصرين الذين اختاروا القول بحذف الجواب الدكتور فضل حسن عباس، فقال في كتابه ( لطائف المنان وروائع البيان في دعوى الزيادة في القرآن ):"قالوا: الواو زائدة، والتقدير: فلما أسلما، تلَّه للجبين. وليس الأمر كذلك، فليس قوله تعالى:" تَلَّهُ "جواب" فَلَمَّا "؛ بل الجواب محذوف، والتقدير: فلما أسلما، وتلَّه للجبين، وباشر إبراهيم ذبح ابنه،( أجزل لهما في الثواب ). أو ( أكرمهما بالرحمة ). أو ( مَنَّ الله عليهما بنعمة الفداء )..".
وأنت إذا تأملت الآية جيدًا، وتدبرت معناها حق التدبر، تبين لك أن كل ما قيل فيها ليس بشيء؛ لأن المعنى المراد منها ليس على ما ذكروا، بل المراد هو: أن إبراهيم وابنه- عليهما السلام- لما فوَّضا أمرهما إلى لله تعالى، وامتثلا لأمره سبحانه بأن رضي الأول بذبح ابنه، ورضي الثاني بأن يذبح، وصرعه والده على جبينه، أو كبَّه على وجهه، وهمَّ بذبحه، تصديقًا للرؤيا، ناداه ربه عز وجل بقوله:" أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ".
فتوقف إبراهيم- عليه السلام- عن الذبح، والتفت وراءه، فإذا بذبح عظيم أرسله الله تعالى فداء لإسماعيل عليه السلام. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:"وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ "(الصافات:107).
وهذا ما جاء في التفسير، فقد جاء فيه:"لما أضجعه للذبح، نوديَ من الجبل: أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ".
وعليه يكون قوله تعالى:" وَنَادَيْنَاهُ "جوابًا لقوله:" فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ "، وتكون الواو رابطة لجواب " فَلَمَّا "بشرطها. وإنما جيء بها- هنا- دون غيرها من أدوات الربط؛ لما فيها من معنى الجمع، الذي لا يفارقها، فدلت على أن الجواب قد وقع مع وقوع الشرط في وقت واحد. ولولا وجود هذه الواو في الكلام، لتمَّ ذبح إبراهيم- عليه السلام- لابنه بعد أن صرعه على جبينه، ولم ينفعه النداء شيئًا.
وهكذا يتبين لنا أن الله تعالى، لما أراد أن يوقف هذا الذبح، ويمنع وقوعه، قرن نداءه لإبراهيم- عليه السلام- بهذه الواو، التي قال البعض فيها: إنها زائدة، وقال البعض الآخر: إنها عاطفة، والجواب محذوف، وعدوا حذفه من بلاغة القرآن وإعجازه، ولم يدروا أن سرَّ الإعجاز في إدخال هذه الواو على جواب " فَلَمَّا ".. ومن يعرف جوهر الكلام، ويدرك أسرار البيان، يتبين له أن ما قلناه في هذه الواو هو الحق. والله تعالى أعلم بأسرار بيانه، وله الحمد والمنَّة، وسلام على إبراهيم !!!
محمد إسماعيل عتوك
=============
مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
قال الله تعالى:" إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ "(يونس:24)(1/152)
لما ذكر سبحانه وتعالى ما تقدم من تعلقَّ الناس بالحياة الدنيا ومتاعِها الزائل، وركوبهم في سبيل ذلك المتاع مراكب البغي، بيَّن لهم أن هذا البغي أمر باطل، يجب على العاقل أن يحذر منه، فقال سبحانه:
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ "(يونس:23).
مشيرًا بذلك إلى أن بغي على أنفسهم إنما هو منفعة الحياة الدنيا، لا بقاء له. بمعنى: أنه لا يتهيأ لهم بَغيُ بعضهم على بعض إلا أيامًا قليلة؛ وهي مدة حياتهم مع قصرها وسرعة انقضائها.
ثم عقََّبسبحانه وتعالى على ذلك بضرب هذا المثل، الذي يدعو فيه كل لبيب عاقل إلى الزهد في الحياة الدنيا الفانية، ومتاعها الزائل، ويحذرهم من الاغترار بزينتها، وبهجتها؛ لأن مصير ذلك كله إلى زوال، وفناء، فقال جل شأنه:
" إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ.. "
فكان ذلك بمنزلة البيان لقوله تعالى في الآية السابقة:" مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا "، المؤذن بأن تمتعهم بالدنيا ما هو إلا لمدة قصيرة.
وهو تمثيل بين وجودين: الأول ذهني معقول؛ وهو قوله تعالى:" مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ". والثاني خارجي محسوس؛ وهو قوله تعالى:" كمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ.. "؛ وهو صورة مركَّبة من الماء المنزل من السماء، ونبات الأرض المختلط بالماء، وما يمر به من أطوار. والكاف بينهما أداة التشبيه، والجامع: الزينة والبهجة، ثم الهلاك والزوال.
وقوله تعالى:" إِنَّمَا " أداة قصْر جيء بها لتأكيد المقصود من هذا التشبيه، وهو سرعة الهلاك والزوال، ولتنزيل السامعين منزلة من يحسب دوام بهجة الحياة الدنيا وزينتها؛ لأن حالهم في الانكباب على نعيم الدنيا؛ كحال من يحسب دوامه، وينكر أن يكون له انقضاء سريع ومفاجىء. فالقصر- هنا- قصر قلب؛ لأنه مبْنيٌّ على تنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد عكس ذلك.
والمعنى: أن مثل الحياة الدنيا، في زينتها وبهجتها، وما يتعقبها من الزوال والفناء، يُشْبِه نبات الأرض المختلط بماء السماء، ممَّا يأكل الناس والأنعام؛ حتى إذا استكملت به الأرض زينتها، وظهر حسنُها وجمالها، فبدت كأنها العروس ليلة زفافها، بما تزينت به من أنواع النبات، وأشكاله المختلفة وألوانه الزاهية، واطمأن إليها أهلها، وظنوا أنهم قادرون على جنْيِ ثمارها، وحصْد زروعها بعد أن سلمت من الآفات، نزل به قضاء الله بغتة، فجعله حصيدًا؛ كأنْ لم يَغنَ بالأمس.. كذلك مثل الحياة الدنيا، والواثق المغتر بها سواء !
وهكذا صوَّر الله تعالى الحياة الدنيا، في تقضِّيها وذهاب نعيمها بعد إقبالها وبهجتها، بصورة نبات الأرض، في هلاكه وبواره بعد اخضراره وزهائه؛ فبيَّن بذلك لكل باغ مفسد في الأرض مغتر بالدنيا متشبث بها، كيف ينتهي شريط الحياة كلها بما فيها من زينة ومتاع، بهذه الصورة المتحركة المأخوذة من مشاهدات البشرية المألوفة؛ ليلقي في النفس ظل الفناء والزوال.
فالمشبه هنا، وهو مثل الحياة الدنيا في زينتها وبهجتها، ثم زوالها، وإن كان يتكرر، إلا أن إحساسنا به ليس بنفس درجة الإحساس بصورة النبات الزاهي، الذي يصيبه الهلاك؛ لأن هذا يقع كثيرًا تحت السمع والبصر، بخلاف الأول.. ففي كل يوم نرى نباتًا يحياً، ونباتًا يموت، فنرى بذلك الحياة والموت يمثلان أمامنا في كل زمان ومكان. ولهذا كثُرَت هذه الصور في القرآن الكريم. والله سبحانه أراد بذلك أن يلفت في كل حال إلى المصير المحتوم، وأراد أيضًا أن يلفت إلى ضرورة التفكير فيما يحيط بالمسلم، ويقع عليه بصره من الأشياء، وضرورة أخذ العظة والعبرة من ذلك.
ذلك هو مثل الحياة الدنيا، التي لا يملك الناس إلا متاعها, حين يرضون بها, ويقفون عندها، ويستغرقون فيها، ويضيِّعون الآخرة، التي هي أكرم وأبقى؛ لينالوا منها بعض المتاع. وهو من أبلغ الأمثال، التي تقوم على التشبيه والقياس.
وننظر قوله تعالى:" إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ "، فنجد فيه لمحة من لمحات الإعجاز البياني.. نجدها في هذا التخالف بين المُمَثَّل، والمُمَثَّل به؛ حيث كان الظاهر أن يقال: إنما مثل الحياة الدنيا؛ كمثل ماء.. وبذلك تحصل المطابقة بين وجهيْ الصورة.
ولكن هذا يخلُّ بمعنى الكلام؛ حيث يقضي أن تكون المماثلة، بين{ مثل الحياة الدنيا }، { ومثل النبات المختلط بنبات الأرض }. وهذا يوجب أن يكون التمثيل بين وجودين علميين ذهنيين. وقد سبق أن ذكرنا أن التمثيل- هنا- هو بين وجودين: الأول: علمي ذهني. والثاني: علمي خارجي. وإذا كان كذلك، فلا يجوز ذكر لفظ { المثل }، أو تقديره عقب كاف التشبيه.(1/153)
ويتضح لك ذلك، إذا علمت أن المراد هنا: تشبيه مثل الحياة الدنيا بنبات الأرض في حقيقته، مع ما يصحب هذه الحقيقة من أحوال، من اختلاط بالماء، ثم نماء واخضرار وزهوٍّ، ثم ذبول وهلاك.. ولهذا لم يؤتَ بلفظ المَثل، عقِب كاف التشبيه.
وكان حق كاف التشبيه أن تدخل على النبات، فيقال:"إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.. كَنَبَاتِ الأرْضِ اخْتلَطَ بِمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ".
لأن المشبه به- في الحقيقة- هو النبات، لا الماء. والأصل في أداة التشبيه أن يليها المشبه به؛ ولكن خولِف هذا النظم، لفائدة جليلة، وسر بديع؛ وهو تقديم ما هو أهم. والأهم- هنا- هو الماء، بدليل أن الماء من أهم العناصر، التي تدخل في تكوين النبات؛ بل النبات لا يكون نباتًا إلا بوجود الماء فيه؛ ولهذا قدم- هنا- على النبات عناية بذكره واعتمادًا على أن الأفهام الصحيحة تستخرج ما بين المشبه، والمشبه به من المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه وأتمه.. فتأمل ذلك!
مثل الحياة الدنيا في القرآن الكريم كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ َاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ
أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ
وفي قوله تعالى:" فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ " إعجاز آخر من إعجاز القرآن، وسرٌّ بديع من أسراره. فالنظم القرآني لهذه العبارة الموجزة، جعل اختلاط نبات الأرض بماء السماء، ولم يجعل اختلاط الماء بالنبات. لم يقل سبحانه:{ فاختلط بنبات الأرض }، على ما يقتضيه مفهوم النظر الإنساني لهذه الظاهرة؛ لأن الماء هو الذي يختلط بنبات الأرض، ويسري في كيانه، فيبعث فيه الحياة، ويخرجه من عالم الموات.. هكذا نرى نحن البشر، وهكذا نقدر؛ ولكن عين الله المقدِّرة ترى ما لا نرى، وتعلم ما لا نعلم.
وقبل أن نكشف عن سِرِّ النظم في هذه العبارة الموجزة، لا بدَّ أن نعلم أن المراد بالنبات- هنا- هو: البذر، أو الحب، لا النبات حين يكون نباتًا؛ فإنه في تلك الحال لا يكون مجرَّد نباتٍ؛ بل هو الماء، والنبات معًا، وأن لقاءً قد تمَّ بين الماء، وبذرة النبات؛ حتى أصبح نباتًا. وهذه البذرة ليست شيئًا ميتًا- كما يبدو لنا- وإنما هي كائن حيٌّ، يحتفظ في كيانه بكل عناصر الحياة، التي تنتظر مَنْ يثيرها، ويدفع بها إلى الظهور؛ وذلك لا يكون إلا بأمرين:
أولهما: غرس الحبة في الأرض. والثاني: وصول الماء إليها، وتحول تراب الأرض إلى طين. هنا تبدأ الحياة الكامنة في الحبة، فتتحرك، وتأخذ إلى الماء المختلط بالتراب طريقها، فتجذبه إليها، وتأخذ منه ما يروِّي ظمأها إلى الحياة، وإلى الإعلان عن وجودها، وإظهار آيات الخالق، التي ائتمنها عليها.
فالحبة- إذًا- هي الطالبة للحياة، والمهيأة لها، والمتشوقة إليها، وما الماء والتراب والطين إلا عناصرٌ مساعدة.. ومن هنا جاء النظم القرآني لهذه العبارة مسنِدًا الاختلاط بالماء إلى النبات. ولو جاء على عكس ذلك، لكان خطأً علميًّا، يناقض ما كشف عنه العلم اليوم.
ومن هنا ندرك سر وقوف نافع في قراءته على قوله تعالى:" فَاخْتَلَطَ ". ثم ابتداؤه بقوله تعالى:" بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ ". أي: بالماء نبات الأرض. وهذا يؤكد أن الماء المنزل من السماء يختلط بتراب الأرض، ويذيب ما فيه من عناصر غذائية بعد أن يحوله إلى طين، ثم يختلط النبات- أي: البذر- بالماء من خلال اختلاطه بالطين، الذي يمده بالماء والغذاء.. ومن هنا يأخذ البذر طريقه في النمو، ويتحول إلى نبات، يكون الماء أحد عنصريه، فيخضر بعد ذلك، ويزهو، ويحسن. وقد أشار الله تعالى إلى ذلك كله بقوله:
" أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ "(عبس:25- 32).
ثم ماذا بعد ذلك؟ يأتيه أمر الله تعالى بالهلاك، فيجعله حصيدًا كأَن لم يَغْنَ بالأمس.
هكذا تبدأ رحلة حياة النبات، وهكذا تنتهي.. كذلك متاع الحياة الدنيا، مآله إلى الزوال، والإنسان مآله إلى الموت، و" كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ " (القصص:88)، سبحانه وتعالى!
وقوله تعالى:" حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ " جُعِلت فيه الأرض آخذة زخرفها، على التمثيل بالعروس، إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون، فاكتستها، وتزينت بغيرها من ألوان الزيَن.
وأصل" ازَّيَّنَتْ ": تزيَّنت، أدغمت التاء في الزاي، وجيء بألف الوصل؛ لأن الحرف المدغم مقام حرفين: الأول منهما ساكن، والساكن لا يبتدأ به. وقرأ ابن مسعود، وأبي بن كعب رضي الله عنهما:" تَزَيَّنَتْ "، على الأصل.(1/154)
وفي قوله تعالى:" وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا " إشارة إلى تمكُّن أصحابها من جني ثمارها، وتناول قطوفها؛ إذ أصبحت ناضجة الثمار، دانية القطوف، آمنة من تعرضها للآفات، التي تفسد الزهر، وتغتال الثمر. فإذا اجتاحتها آفة- وهي على تلك الحال من الجمال والنضارة- كان ذلك أوجع، وأفجع لأهلها.
وقوله تعالى:" أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا " يراد به: الإبهام. والمعنى: إذا أخذت الأرض زخرفها، وأخذ أهلها الأمن، أتاها أمرنا- ليلاً أو نهارًا- وهم لا يعلمون. أي: أتاها أمرنا فجأة. فهذا إبهام؛ لأن الشك مُحَال على الله تعالى. وفي ذلك إشارة إلى أنه، لا فرق في إتيان العذاب بين زمن غفلتهم، وزمن يقظتهم؛ إذ لا يمنع منه مانع، ولا يدفع عنه دافع.. روي عن قتادة أنه قال:" إن المتشبِّث بالدنيا يأتيه أمرُ الله وعذابُه أغفَلَ ما يكون ".
وقوله تعالى:" فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا " المراد به: فجعلنا نباتها. أو زرعها تشبيهًا بما حُصِد من الزرع في قطعه واستئصاله؛ لأن الحصيد في الأصل هو ما حُصِد من الزروع بعد نضجها. ولم يؤنث؛ لأنه على وزن ( فعيل )، بمعنى:( مفعول ). أي: محصودة، في غير إبان حصادها، على سبيل الإفساد.
وقوله تعالى:" كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ "، قراءة العامة: تَغْنَ، بالتاء، وقرأ قتادة: يَغْنَ، بالياء، ذهب به إلى الزخرف. يعني: فكما يهلك هذا الزرع هكذا.. كذلك زينة الحياة الدنيا، ومتاعها.
والأمس: مَثلٌ في الوقت القريب؛ كأنه قيل: لم تغن آنفًا. أي: لم تلبَث على حال من الاستقرار والثبات. وهو من قولهم: غَنِيَ في مكان كذا: إذا طال مَقامُه فيه، مستغنيًا به عن غيره.
والمغاني جمع مَغْنَى، وهي المنازل، التي يَغنَى أهلها بالإقامة فيها، ويستغنون بها عن غيرها. ولإفادة هذا المعنى، جيء هنا بالفعل " تَغْنَ " منفيًا بـ" لَمْ "؛ كما جيء به في قوله تعالى:" الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا "(الأعراف:92)، إخبارًا عن المهلكين من كفار مدين وثمود.
ومن الملاحظ أن هذا الفعل" يَغْنَى " المنفي بـ" لَمْ "، لم يأت في البيان القرآني إلا في سياق ديار مدين، وثمود، ومثل الحياة الدنيا في أربع آيات؛ لأن سياقها يقتضيه هو دون غيره؛ فكأن القرآن لا يرى أيَّ مَقام في الدنيا، يمكن أن يُغني، أو يُسْتغنَى به عن الآخرة.
وإنما غرَّ هؤلاء القوم الكفرة مَقامُهم في الحياة الدنيا، فظنوا واهمين أنه يغنيهم عن الآخرة، فأخذتهم الصيحة؛ والرجفة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين " كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا "؛ كما غرَّ الأرضَ ما اتخذته من زخرف النبات، وزينته، وظن أهلها أنهم متمكنون منها، وقادرون على جني ثمارها، أتاها أمر الله تعالى بغتة، فجعلها صعيدًا " كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ".
وفي هذه المواضع لا يمكن أن يؤدِّي أيَّ فعل معنى{ غنِيَ }، بما يفيد من وهم الغنى، والاستغناء فيما يظنه الإنسان{ مَغْنًى }؛ إذ ليس من شأن الدنيا الفانية أن يكون فيها{ مَغْنًى }، يغني الإنسان بالاستقرار فيه، إلا غرورًا ووهمًا.
وفي إسناد الاستقرار المفهوم من قوله تعالى:" كَأَنْ لَمْ تَغْنَ " إلى الأرض، مع أنه لأهلها- كما يشير إليه قوله تعالى في آية الأعراف:" كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا "- إشارة إلى أنها، بما لبسها من حياة، وما نبض في عروقها وشرايينها من دماء هذه الحياة، وما تزينت به من حُللٍ وحِلًى، قد أصبحت كائنًا حيًّا، مستغنيًّا بما اجتمع له من هذا المتاع والزخرف.
وقد جعل الله تعالى إهلاك المهلكين حصادًا عقوبة لهم؛ لأنهم ظلموا أنفسهم، فقال سبحانه:
"ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ "(هود:100).
أي: بعضها باق، وبعضها عافي الأثر؛ كالزرع بعضه قائمٌ على ساقه، وبعضه حصيدٌ.
وجاء قوله تعالى:" كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " تذييلاً جامعًا لما قبله. أي: مثل هذا التفصيل، الذي فصلنا به هذا المَثل، نفصل الآيات الدالة على عموم العلم والقدرة وإتقان الصنع. فهذه آية من الآيات المبينة، وهي واحدة من عموم هذه الآيات.
واللام في قوله:" لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " للتعليل. أي: نفصل الآيات لأجلهم، لا لأجل غيرهم. وإنما خصهم بالذكر؛ لأنهم أهل التمييز بين الأمور، والفحص عن حقائق ما يعرض من الشبه في الصدور. والتفكُّر هو التأمل والنظر، وهو مشتقٌّ من الفكر، وفيه تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بالآيات ليسوا من أهل التفكُّر، ولا كان تفصيل الآيات لأجلهم.
اللهم اجعلنا من القوم الذين يتفكرون في آياتك البينات، ويعتبرون، واجعلنا من الذين يفقهون أسرار بيانك، ويعقلون أمثالك، والحمد لله رب العالمين!
بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك
=============
العلاج بسماع القرآن
قصة حدثت معي(1/155)
إن سبب كتابة هذه المقالة هي تجربة مررتُ بها أثناء حفظي لكتاب الله تعالى. فقد كنتُ أجلس مع القرآن طيلة الـ 24 ساعة، وحتى أثناء نومي كنتُ أترك الراديو على إذاعة القرآن الكريم فأستمع إليها وأنا نائم، طبعاً وقتها لم أكن أدرك أن هنالك طريقة حديثة للتعلم أثناء النوم!
وبعد عدة أشهر بدأتُ ألاحظ أن هنالك تغيراً كبيراً في داخلي، فكنتُ أحس وكأن كل خلية من خلايا دماغي تهتز وتتجاوب مع صوت القرآن الذي كنتُ أسمعه، فقد كنتُ أحفظ القرآن بطريقة الاستماع إلى مقرئ وتكرار السورة مرات كثيرة لأجد أنها تنطبع في ذاكرتي بسهولة.
لقد كنتُ أقول وقتها لصديق لي إن الاستماع إلى القرآن يعيد برمجة خلايا الدماغ بشكل كامل! حدث هذا معي منذ عشرين عاماً، ولكنني فوجئت عندما كنتُ أقرأ منذ أيام فقط محاولات العلماء في شفاء الكثير من الأمراض المستعصية بواسطة إعادة برمجة خلايا الدماغ، ويستخدمون الذبذبات الصوتية مثل الموسيقى!!
لقد وصل بعض المعالجين بالصوت إلى نتائج مهمة مثل الأمريكية "آني ويليامز" التي تعالج بصوت الموسيقى، ولكن هذه النتائج بقيت محدودة حتى الآن بسبب عدم قدرة الموسيقى على إحداث التأثير المطلوب في الخلايا.
وعلى الرغم من ذلك فإنها تؤكد أنها حصلت على الكثير من النتائج المبهرة في علاج سرطان الكولون وأورام الدماغ الخبيثة وغير ذلك من الأمراض. وتؤكد أيضاً أن كل من استمع إلى صوت الموسيقى الذي تسجله قد ازداد الإبداع لديه!
وأحب أن أذكر لك أخي القارئ أن التغيرات التي حدثت بنتيجة الاستماع الطويل لآيات القرآن، كثيرة جداً، فقد أصبحتُ أحس بالقوة أكثر من أي وقت مضى، أصبحتُ أحس أن مناعة جسمي ازدادت بشكل كبير، حتى شخصيتي تطورت كثيراً في تعاملي مع الآخرين، كذلك أيقظ القرآن بداخلي عنصر الإبداع، وما هذه الأبحاث والمقالات التي أنتجها خلال وقت قصير إلا نتيجة قراءة القرآن!!
ويمكنني أن أخبرك عزيزي القارئ أن الاستماع إلى القرآن بشكل مستمر يؤدي إلى زيادة قدرة الإنسان على الإبداع، وهذا ما حدث معي، فقبل حفظ القرآن أذكر أنني كنتُ لا أُجيد كتابة جملة بشكل صحيح، بينما الآن أقوم بكتابة بحث علمي خلال يوم أو يومين فقط!
إذن فوائد الاستماع إلى القرآن لا تقتصر الشفاء من الأمراض، إنما تساعد على تطوير الشخصية وتحسين التواصل مع الآخرين، بالإضافة إلى زيادة القدرة على الإبداع والإتيان بأفكار جديدة. وهذا الكلام عن تجربة حدثت معي، وتستطيع أخي القارئ أن تجرب وستحصل على نتائج مذهلة.
حقائق علمية
في عام 1839 اكتشف العالم "هنريك ويليام دوف" أن الدماغ يتأثر إيجابياً أو سلبياً لدى تعريضه لترددات صوتية محددة. فعندما قام بتعريض الأذن إلى ترددات صوتية متنوعة وجد أن خلايا الدماغ تتجاوب مع هذه الترددات.
ثم تبين للعلماء أن خلايا الدماغ في حالة اهتزاز دائم طيلة فترة حياتها، وتهتز كل خلية بنظام محدد وتتأثر بالخلايا من حولها. إن الأحداث التي يمر بها الإنسان تترك أثرها على خلايا الدماغ، حيث نلاحظ أن أي حدث سيء يؤدي إلى خلل في النظام الاهتزازي للخلايا.
خلية عصبية من الدماغ في حالة اهتزاز دائم، هذه الخلية تحوي برنامجاً معقداً تتفاعل من خلاله مع بلايين الخلايا من حولها بتنسيق مذهل يشهد على عظمة الخالق تبارك وتعالى، وإن أي مشكلة نفسية سوف تسبب خللاً في هذا البرنامج مما ينقص مناعة الخلايا وسهولة هجوم المرض عليها.
لأن آلية عمل الخلايا في معالجة المعلومات هو الاهتزاز وإصدار حقول الكهربائية، والتي من خلالها نستطيع التحدث والحركة والقيادة والتفاعل مع الآخرين.
وعندما تتراكم الأحداث السلبية مثل بعض الصدمات التي يتعرض لها الإنسان في حياته، وبعض المواقف المحرجة وبعض المشاكل التي تسبب لخلايا دماغه نوعاً من الفوضى، إن هذه الفوضى متعبة ومرهقة لأن المخ يقوم بعمل إضافي لا يُستفاد منه.
إن الطفل منذ قبل الولادة تبدأ خلايا دماغه بالاهتزاز! ويكون دماغه متوازناً وخلاياه متناغمة في عملها واهتزازها. ولكن بعد خروجه من بطن أمه فإن كل حدث يتعرض له هذا الطفل سوف يؤثر على خلايا دماغه، والطريقة التي تهتز بها هذه الخلايا تتأثر أيضاً، بل إن بعض الخلايا غير المهيّأة لتحمل الترددات العالية قد يختل نظامها الاهتزازي، وهذا يؤدي إلى كثير من الأمراض النفسية والجسدية أيضاً.
ويؤكد العلماء اليوم أن كل نوع من أنواع السلوك ينتج عن ذبذبة معينة للخلايا، ويؤكدون أيضاً أن تعريض الإنسان إلى ذبذبات صوتية بشكل متكرر يؤدي إلى إحداث تغيير في الطريقة التي تهتز بها الخلايا، وبعبارة أخرى إحداث تغيير في ترددات الذبذبات الخلوية.
فهنالك ترددات تجعل خلايا الدماغ تهتز بشكل حيوي ونشيط وإيجابي، وتزيد من الطاقة الإيجابية للخلايا، وهنالك ترددات أخرى تجعل الخلايا تتأذى وقد تسبب لها الموت! ولذلك فإن الترددات الصحيحة هي التي تشغل بال العلماء اليوم، كيف يمكنهم معرفة ما يناسب الدماغ من ترددات صوتية؟(1/156)
اكتشف العلماء أن شريط DNAداخل كل خلية يهتز بطريقة محددة أيضاً، وأن هذا الشريط المحمل بالمعلومات الضرورية للحياة، عرضة للتغيرات لدى أي حدث أو مشكلة أو فيروس أو مرض يهاجم الجسم، ويقول العلماء إن هذا الشريط داخل الخلايا يصبح أقل اهتزازاً لدى تعرضه للهجوم من قبل الفيروسات! والطريقة المثلى لجعل هذا الشريط يقوم بأداء عمله هي إعادة برمجة هذا الشريط من خلال التأثير عليه بأمواج صوتية محددة، ويؤكد العلماء أنه سيتفاعل مع هذه الأمواج ويبدأ بالتنشيط والاهتزاز، ولكن هنالك أمواج قد تسبب الأذى لهذا الشريط.
يقوم كثير من المعالجين اليوم باستخدام الذبذبات الصوتية لعلاج أمراض السرطان والأمراض المزمنة التي عجز عنها الطب، كذلك وجدوا فوائد كثيرة لعلاج الأمراض النفسية مثل الفصام والقلق ومشاكل النوم، وكذلك لعلاج العادات السيئة مثل التدخين والإدمان على المخدرات وغير ذلك.
ما هو العلاج؟
إن أفضل علاج لجميع الأمراض هو القرآن، وهذا الكلام نتج عن تجربة طويلة، ولكن يمكنني أن أستشهد بكثير من الحالات التي شُفيت بسبب العلاج بالقرآن بعد أن استعصت على الطب. لأن الشيء الذي تؤثر به تلاوة القرآن والاستماع إلى الآيات الكريمة هو أنها تعيد التوازن إلى الخلايا، وتزيد من قدرتها على القيام بعملها الأساسي بشكل ممتاز.
ففي داخل كل خلية نظام اهتزازي أودعه الله لتقوم بعملها، فالخلايا لا تفقه لغة الكلام ولكنها تتعامل بالذبذبات والاهتزازات تماماً مثل جهاز الهاتف الجوال الذي يستقبل الموجات الكهرطيسية ويتعامل معها، ثم يقوم بإرسال موجات أخرى، وهكذا الخلايا في داخل كل خلية جهاز جوال شديد التعقيد، وتصور أخي الحبيب آلاف الملايين من خلايا دماغك تهتز معاً بتناسق لا يمكن لبشر أن يفهمه أو يدركه أو يقلده، ولو اختلت خلية واحدة فقط سيؤدي ذلك إلى خلل في الجسم كله! كل ذلك أعطاه الله لك لتحمده سبحانه وتعالى، فهل نحن نقدر هذه النعمة العظيمة؟صورة لخلايا الدماغ وتظهر الأجزاء المتضررة باللون الأحمر، هذه المناطق ذات نشاط قليل وطاقة شبه منعدمة وهي تشرف على الموت، ولكن لدى تعريض هذه الخلايا إلى موجات صوتية محددة فإنها تبدأ بالاهتزاز والنشاط. المصدر National Research Council of Canada
الآيات القرآنية تحمل الشفاء!
يقول العلماء اليوم وفق أحدث الاكتشافات إن أي مرض لا بد أنه يحدث تغيراً في برمجة الخلايا، فكل خلية تسير وفق برنامج محدد منذ أن خلقها الله وحتى تموت، فإذا حدث خلل نفسي أو فيزيائي، فإن هذا الخلل يسبب فوضى في النظام الاهتزازي للخلية، وبالتالي ينشأ عن ذلك خلل في البرنامج الخلوي. ولعلاج ذلك المرض لا بد من تصحيح هذا البرنامج بأي طريقة ممكنة.
وقد لاحظتُ أثناء تأملي لآيات القرآن وجود نظام رقمي دقيق تحمله آيات القرآن، ولكن لغة الأرقام ليست هي الوحيدة التي تحملها الآيات إنما تحمل هذه الآيات أشبه ما يمكن أن نسميه "برامج أو بيانات" وهذه البيانات تستطيع التعامل مع الخلايا، أي أن القرآن يحوي لغة الخلايا!!
وقد يظن القارئ أن هذا الكلام غير علمي، ولكنني وجدت الكثير من الآيات التي تؤكد أن آيات القرآن تحمل بيانات كثيرة، تماماً مثل موجة الراديو التي هي عبارة عن موجة عادية ولكنهم يحمّلون عليها معلومات وأصوات وموسيقى وغير ذلك.
يقول تعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا) [الرعد: 31]. لو تأملنا هذه الآية بشيء من التعمق يمكن أن نتساءل: كيف يمكن للقرآن أن يسير الجبال، أو يقطّع الأرض أي يمزقها، أو يكلم الموتى؟ إذن البيانات التي تخاطب الموتى وتفهم لغتهم موجودة في القرآن إلا أن الأمر لله تعالى ولا يطلع عليه إلا من يشاء من عباده.
بالنسبة للجبال نحن نعلم اليوم أن ألواح الأرض تتحرك حركة بطيئة بمعدل عدة سنتمترات كل سنة، وتحرك معها الجبال، وهذه الحركة ناتجة عن أمواج حرارية تولدها المنطقة المنصهرة تحت القشرة الأرضية، إذن يمكننا القول إن القرآن يحوي بيانات يمكن أن تتعامل مع هذه الأمواج الحرارية وتحركها وتهيجها فتسرع حركتها، أو تحدث شقوقاً وزلازل في الأرض أي تقطّع القشرة الأرضية وتجزّئها إلى أجزاء صغيرة، هذه القوى العملاقة يحملها القرآن، ولكن الله تعالى منعنا من الوصول إليها، ولكنه أخبرنا عن قوة القرآن لندرك عظمة هذا الكتاب، والسؤال: الكتاب الذي يتميز بهذه القوى الخارقة، ألا يستطيع شفاء مخلوق ضعيف من المرض؟؟
ولذلك فإن الله تعالى عندما يخبرنا أن القرآن شفاء فهذا يعني أنه يحمل البيانات والبرامج الكافية لعلاج الخلايا المتضررة في الجسم، بل لعلاج ما عجز الأطباء عن شفائه.
أسهل علاج لجميع الأمراض(1/157)
أخي القارئ! أقول لك وبثقة تامة وعن تجربة، يمكنك بتغيير بسيط في حياتك أن تحصل على نتائج كبيرة جداً وغير متوقعة وقد تغير حياتك بالكامل كما غير حياتي من قبلك. الإجراء المطلوب هو أن تستمع للقرآن قدر المستطاع صباحاً وظهراً ومساءً وأنت نائم، وحين تستيقظ وقبل النوم، وفي كل أوقاتك.
إن سماع القرآن لن يكلفك سوى أن يكون لديك أي وسيلة للاستماع مثل كمبيوتر محمول، أو مسجلة كاسيت، أو فلاش صغير مع سماعات أذن، أو تلفزيون أو راديو، حيث تقوم بالاستماع فقط لأي شيء تصادفه من آيات القرآن.
إن صوت القرآن هو عبارة عن أمواج صوتية لها تردد محدد، وطول موجة محدد، وهذه الأمواج تنشر حقولاً اهتزازية تؤثر على خلايا الدماغ وتحقق إعادة التوازن لها، مما يمنحها مناعة كبيرة في مقاومة الأمراض بما فيها السرطان، إذ أن السرطان ما هو إلا خلل في عمل الخلايا، والتأثير بسماع القرآن على هذه الخلايا يعيد برمجتها من جديد، وكأننا أمام كمبيوتر مليء بالفيروسات ثم قمنا بعملية "فرمتة" وإدخال برامج جديدة فيصبح أداؤه عاليا، هذا يتعلق ببرامجنا بنا نحن البشر فكيف بالبرامج التي يحملها كلام خالق البشر سبحانه وتعالى؟
التأثير المذهل لسماع القرآن
إن السماع المتكرر للآيات يعطي الفوائد التالية والمؤكدة:
- زيادة في مناعة الجسم.
- زيادة في القدرة على الإبداع.
- زيادة القدرة على التركيز.
- علاج أمراض مزمنة ومستعصية.
- تغيير ملموس في السلوك والقدرة على التعامل مع الآخرين وكسب ثقتهم.
- الهدوء النفسي وعلاج التوتر العصبي.
- علاج الانفعالات والغضب وسرعة التهور.
- القدرة على اتخاذ القرارات السليمة.
- سوف تنسى أي شيء له علاقة بالخوف أو التردد أو القلق.
- تطوير الشخصية والحصول على شخصية أقوى.
- علاج لكثير من الأمراض العادية مثل التحسس والرشح والزكام والصداع.
- تحسن القدرة على النطق وسرعة الكلام.
- وقاية من أمراض خبيثة كالسرطان وغيره.
- تغير في العادات السيئة مثل الإفراط في الطعام وترك الدخان.
أخي القارئ: إن هذه الأشياء حدثت معي وقد كنتُ ذات يوم مدخناً ولا أتصور نفسي أني أترك الدخان، ولكنني بعد مداومة سماع القرآن وجدتُ نفسي أترك الدخان دون أي جهد، بل إنني أستغرب كيف تغيرت حياتي كلها ولماذا؟ ولكنني بعدما قرأتُ أساليب حديثة للعلاج ومنها العلاج بالصوت والذبذبات الصوتية عرفتُ سرّ التغير الكبير في حياتي، ألا وهو سماع القرآن، لأنني ببساطة لم أقم بأي شيء آخر سوى الاستماع المستمر للقرآن الكريم.
وأختم هذا البحث الإيماني بحقيقة لمستها وعشتها وهي أنك مهما أعطيت من وقتك للقرآن فلن ينقص هذا الوقت! بل على العكس ستكتشف دائماً أن لديك زيادة في الوقت، وإذا كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: ما نقص مال من صدقة، فإنه يمكننا القول: ما نقص وقت من سماع قرآن، أي أننا لو أنفقنا كل وقتنا على سماع القرآن فسوف نجد أن الله سيبارك لنا في هذا الوقت وسيهيئ لنا أعمال الخير وسيوفر علينا الكثير من ضياع الوقت والمشاكل، بل سوف تجد أن العمل الذي كان يستغرق معك عدة أيام لتحقيقه، سوف تجد بعد مداومة سماع القرآن أن نفس العمل سيتحقق في دقائق معدودة!!
نسأل الله تعالى أن يجعل القرآن شفاء لما في صدورنا ونوراً لنا في الدنيا والآخرة ولنفرح برحمة الله وفضله أن منّ علينا بكتاب كله شفاء ورحمة وخاطبنا فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 57-58].
ـــــــــــــــــ
بقلم عبد الدائم الكحيل
www.kaheel7.com
المراجع الأجنبية
1- Brain cells tune in to music, www.nature.com
2- Neural oscillations,www.en.wikipedia.org
3- Brain wave therapy, Brain Sync Corporation, 2006.
4- Vibration, www.wordpress.com
5- Mike Adams, Vibrational Medicine, NewsTarget Network, July 14, 2004.
6- Simon Heather, The Healing Power of Sound.
7- Virginia Essene, You are Becoming a Galactic Being.
8- Revolutionary nanotechnology illuminates brain cells at work, www.nanotechwire.com, 6/1/2005
==============
وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ
بقلم محمد إسماعيل عتوك
أستاذ في اللغة العربية ـ سوريا
قال الله عز وجل:" وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ "(الذاريات:47- 49)(1/158)
تُعَدُّ هذه الآيات الكريمة من أقوى الدلائل على قدرة الله تعالى، ووحدانيته، ومن أشدها تحذيرًا من عقابه وعذابه. وقد سبقتها آيات، تحدثت عن أخبار الأمم الطاغية المكذبة بالبعث، وهلاكها، فجاءت هذه الآيات عقبها؛ لتؤكد قدرة الله تعالى على الخلق، والإعادة، وأنه واحد، لا شريك له، يستحق العبادة، والتوحيد؛ ولهذا صدر الأمر منه تعالى لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بعبادته سبحانه وحده، وتوحيده، وإلا فمصيرهم كمصير من سبقهم من الأمم؛ وذلك قوله تعالى عقب الآيات السابقة:" فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ "(الذاريات:50- 51)
وأَوَّلُ ما يلفت النظر في هذه الآيات الكريمة، ويدعو إلى التفكر والتدبر مجيئُها على هذا الترتيب البديع: بناء السماء بقوة، والتوسُّع المستمر في بنائها أولاً. ثم فرش الأرض، وتمهيدها لساكنيها ثانيًا0 ثم خلق زوجين من كل شيء ثالثًا.
والسر في ذلك- والله تعالى أعلم- هو أنه لمَّا كان الغرض الإخبار عن قدرة الله تعالى، ووحدانيته، وإقامة الدليل على ذلك، قدَّم سبحانه ما هو أقوى في الخلق. وما كان أقوى في الخلق، كان أقوى في الدلالة، وأظهر في الإفادة.. ومعلوم أن الله تعالى خلق السماوات والأرض، ثم خلق بعدهما جميع المخلوقات، وما خُلِق ابتداءً، كان خَلْقُهُ أشدَّ، وإن كان الكل عند الله تعالى في الخَلْقِ سَواء. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:
" أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا* رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا "(النازعات:28-30)
" فََاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ "(الصافات:11)
ويشير قوله تعالى:" السَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ "إلى أن السماء بُنِيَت بإحكام، على شكل قبَّة مبنية على الأرض، وأن بناءها باقٍ إلى يوم القيامة، لم يُعْدَمْ منه جزءٌ، خلافًا للأرض؛ لأنها في تبدُّل دائم وتغيُّر مستمر، وخلافًا للمخلوقات؛ لأن مصيرها إلى الهلاك والفناء؛ ولهذا قال تعالى في السماء:" بَنَيْنَاهَا "، وقال في الأرض:" فَرَشْنَاهَا"، وقال في كل شيء:" خَلَقْنَا ".
فالخَلْقُ يبلَى ويفنَى، والفَرْشُ يُطوَى ويُنقَل. أما البناءُ فثابتٌ باقٍ، وإليه الإشارة بقوله جل وعلا:" وََبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً "(النبأ:12)
والبناءُ في اللغة نقيضُ الهدم، ومعناه: ضَمُّ شيء إلى شيء آخر. ومنه قولهم: بَنَى فلانٌ على أهله.. والأصل فيه: أن الداخل بأهله كان يضرِب عليها قبة ليلة دخوله بها. ومن هنا قيل لكل داخل بأهله: بَانٍ. والعامة تقول: بَنَى الرجل بأهله. والصوابُ هو الأوَّلُ؛ ولهذا شُبِّهَت السماء بالقبة، في كيفية بنائها.
وفي تقديم كل من" السَّمَاءِ "، و" الْأَرْض "، و" كُلِّ شَيْءٍ "على فعله دليلٌ آخر على أن الخالق جل جلاله واحدٌ أحدٌ، لا شريك له في خلقه، لأن تقديم المفعول يفيد معنى الحصر، فإن تأخر عن الفعل، احتمل الكلام أن يكون الفاعل واحدًا، أو أكثر، أو أن يكون غير المتكلم.
أما تأخير المفعول في نحو قوله تعالى:" وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ (الأنعام: 73 )
فإن الكفار ما كانوا يشكُّون لحظة في أن الله تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض. وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: " وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ "(لقمان:25)
ثم إن قوله تعالى:"وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ "يشير بوضوح وجلاء إلى أن الله تعالى بنى هذا الكون، وأحكم بناءه بقوة، وأن هذا البناء المحكم، لم يتوقف عند هذا الحد، وإنما هو في توسُّع دائم، وامتداد إلى ما شاء الله تعالى وقدر. دلَّ على ذلك التعبير بالجملة الاسمية، المؤكدة بـ( إن ) و( اللام )، وهي قوله تعالى:"وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ".
ثم إن في إطلاق الخبر" مُوسِعُونَ "، دون تقييده بالإضافة، دلالة أخرى على ما أراد الله تعالى أن يخبر عنه، وأكده العلم الحديث. فقد ثبت للعلماء منذ الثلث الأول للقرن العشرين أن هذا الجزء المرئي من الكون مُتَّسِعٌ اتِّساعًا، لا يدركه عقل، وأنه في اتِّساع دائم إلى اليوم. بمعنى أن المجرَّات فيه تتباعد عن مجرتنا، وعن بعضها البعض بسرعات هائلة.
فقد ثبت للعلماء منذ الثلث الأول للقرن العشرين أن هذا الجزء المرئي من الكون مُتَّسِعٌ اتِّساعًا، لا يدركه عقل، وأنه في اتِّساع دائم إلى اليوم صورة تبين توسع السماء بعد خلق الكون
وهذه الحقيقة المكتشفةأكدتها حسابات كل من الفيزيائيين النظريين والفلكيين, ولا تزال تقدم المزيد من الدعم والتأييد لهذه الحقيقة المشاهدة، التي تشكل إعجازًا علميًا رائعًا من إعجاز القرآن!
وفي قوله تعالى:" وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ "إعجاز آخر من إعجاز القرآن؛ حيث(1/159)
كان الظاهر أن يقال:" فَنِعْمَ الْفَارِشُونَ "، بدلاً من قوله تعالى:" فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ". ولو قيل ذلك، لكان بليغًا؛ ولكنه لا يؤدِّي المعنى المراد؛ لأن الأرض خُلِقتْ؛ لتكون موضع سكن واستقرار. ولا يمكن أن تكون كذلك إلا إذا مُهِدَت بعد فرشها. فاختار سبحانه وتعالى للمعنى الأول لفظ ( الفرش )، لِمَا فيه من دلالة على الراحة والاستقرار، واختار للمعنى الثاني لفظ (التمهيد )، لِمَا فيه من دلالة على البَسْط والإصلاح.
وكونُ الأرض مفروشة، وممهدة لا ينافي كونها كروية، بل ينسجم معه تمام الانسجام؛ لأن الكرة إذا عَظُمَتْ جِدًا، كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الاستقرار عليه.
وفَرْشُ الأرض يعني: تذليلها بعد أن كانت ناتئة صلبة. وكما تُذَلَّلُ الأنعام. أي: تفرَش؛ ليُركَب عليها، كذلك تفرَش الأرض؛ ليُسْتقَرَّ عليها.. وأما تمهيد الأرض فهو تهيئتُها، وتسويتها، وإصلاحها؛ لينتفع بها.
وأما قوله تعالى:" وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" فيشير إلى أن الله تعالى
خلق زوجين من كل شيء، ممَّا نعلم، وممَّا لا نعلم، وجاء العلم الحديث؛ ليكتشف تباعًا ظاهرة الزوجية، في هذا الكون الفسيح، وتمكن العلماء أخيرًا من رؤية هذه الظاهرة، في الحيوان المنوي الذكر.
والزَّوْجُ من الألفاظ المتَضَايفَة، التي يقتضي وجودُ أحدهما وجودَ الآخر. وهذا الآخر يكون نظيرًا مُماثلاً، وهو المِثْلُ، ويكون ضِدًّا مُخالفًا، وهو النِّدُّ . وما من مخلوق إلا وله مِثْلٌ، ونِدٌّ، وشِبْهٌ، والله جل وعلا وحده هو الذى لا مِثْلَ له، ولا نِدَّ، ولا شِبْهَ؛ لأنه واحد أحد، وفرد صَمَد،" فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّميعُ البَصيرُ "(الشورى:11)
ولهذا لا يستحق أحد أن يُسَمَّى خالقًا وربًّا مطلقًا، وأن يكون إلهًا معبودًا إلا الله جل وعلا؛ لأن ذلك يقتضى الاستقلال والانفراد بالمفعول المصنوع، وليس ذلك إلا لله وحده سبحانه، وتعالى عمَّا يقول الظالمون عُلُوًّا كبيرًا.. والحمد لله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا
محمد إسماعيل عتوك
=============
وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ
بقلم محمد إسماعيل عتوك
أستاذ في اللغة العربية ـ سوريا
قال الله تعالى:" أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم * قُلْ يُحْييها الّذي أَنْشَأَها أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيم " (يس:77ـ 79)
أولاً- هذه الآيات الكريمة، جاءت في خاتمة سورة ( يس )، وفيها ذكر شُبْهَةِ مُنكري البعث والنشور، والجواب عنها بأتمِّ جواب وأحسنه وأوضحه، في صورة حوار، والغرض منها تثبيت أمر البعث عند منكريه، ومعارضيه بعقولهم. وقد استُهِلت بقوله تعالى:
" أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ"(يس:71)
وهو كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكار الكافرين البعث، بعدما شاهدوا في أنفسهم أوضح دلائله، وأعدل شواهده؛ كما أن ما سبق من قوله تعالى:
" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا "(يس:71)
كلام مستأنف مَسوقٌ لبيان بطلان إشراكهم بالله تعالى بعدما عاينوا فيما بأيديهم ما يوجب التوحيد والإسلام. والغرض من الاستفهام في كل منهما إنكار ما هم عليه من الشرك، والتكذيب بالبعث، وتنبيههم إلى ما كانوا قد شاهدوه بأعينهم في الآفاق من خلق الأنعام وتذليلها لهم، وما كانوا قد عاينوه في أنفسهم من خلقه تعالى لذواتهم، وتذكيرهم به.
وقيل: الجملة الثانية هي عين الأولى، أعيدت تأكيدًا للنكير السابق، وتمهيدًا لإنكار ما هو أحق منه بالإنكار، لما أن المنكَر هناك عدم علمهم بما يتعلق بخلق أسباب معايشهم. وههنا عدم علمهم بما يتعلق بخلق أنفسهم. ولا ريب في أن علم الإنسان بأحوال نفسه أهم، وإحاطته بها أسهل وأكمل، فإنكار الإخلال بذلك أدخل؛ كأنه قيل: أولم يروا خلقه تعالى لأسباب معايشهم، مع كونه آيةمشهودة منظورة بين أيديهم على وحدانيته تعالى، وعبادته وحده ؟ثم قيل: أولم يروا خلقه تعالى لأنفسهم أيضًا، مع كونه آية مشهودة منظورة في واقعهم، وخاصة نفوسهم، وهي في غاية الظهور ونهاية الأهمية على معنى: أن المنكر الأول بعيد قبيح، والثاني أبعد وأقبح؛ فإن الإنسان قد يغفل عن الأنعام وخلقها عند غيبتها، ولكن لا يغفل هو مع نفسه، متى ما يكون، وأينما يكون.(1/160)
فما بال هذا الجاحد يغفل عن خلقه من نطفة مهينة، ولم يك من قبل شيئًا؟! وما باله لا يتذكر ذلك، ولا ينتبه إلى وجه دلالته, ولا يتخذ منه مصداقًا لوعد الله تعالى ببعثه ونشوره بعد موته ودثوره؟! وهل خلقه من نطفة ميتة إلا إحياء بعد موت وعدم حياة؟! أليس في ذلك من الدليل على البعث والنشور ما يكفي لأن يتذكر، ويترك خصومته؟! ولكن أنَّى له الذكرى، وقد لجَّ في الخصام والجدل الباطل!
ومذهب سيبويه، وجمهور النحويين أن الاستفهام في قوله تعالى:
" أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ "
للتقرير، وأن الواو لعطف ما بعدها على ما قبلها؛ وإنما جيء بها بعد الهمزة، وكان القياس تقديمها عليها هكذا:
" وَأَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ "
كما قدِّمت على" هَلْ "في قوله تعالى:
" وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى "(طه:9)
لأنه لا يجوز أن يؤخر العاطف عن شيء من أدوات الاستفهام؛ لأنها جزء من جملة الاستفهام، والعاطف لا يقدم عليه جزء من المعطوف. وإنما خولف هذا في الهمزة دون غيرها؛ لأنها أصل أدوات الاستفهام، فأرادوا تقديمها تنبيهًا على أنها الأصل في الاستفهام.
وعلى ذلك يكون قوله تعالى:
" أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ "(يس:77)
معطوفًا على قوله تعالى:
" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا "(يس:71)
على أن الواو متقدمة على الهمزة في الاعتبار، وأن تقدُّم الهمزة عليها، لاقتضائها الصدارة في الكلام.
والزمخشري اضطرب كلامه في ذلك، فتارة جعل الهمزة متقدمة على الواو؛ كما هو مذهب الجمهور، وتارة جعلها داخلة على جملة محذوفة، عُطِف عليها الجملة، التي بعدها، فقدَّر بينهما فعلاً محذوفًا،يقتضيه المقام، مستتبعًا للمعطوف، تعطف الواو عليه ما بعدها.
وعليه يكون تقدير الكلام في الجملة الأولى:{ أغفلوا، ولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعامًا... }؟ وفي الجملة الثانية:{ أغفل الإنسان، ولم ير أنا خلقناه من نطفة...}؟
والتحقيق في هذه المسألة الخلافيَّة: أن الواو في قولنا:" أَوَلَمْ " مسلوبة الدلالة على العطف، وأصل الكلام:" أَلَمْ "، وهو تركيب يفيد معنى الإثبات، ويجرى في لسان العرب مجرى التنبيه والتذكير؛ كقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
"أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ "(الشرح:1)
قال مكي في(مشكل إعراب القرآن):"الألف نقلت الكلام من النفي، فردته إيجابًا ". والإيجاب: إثبات، وهو ضدُّ النفي. والغرض منه: التذكير، والمعنى: شرحنا لك صدرك. وهذا ما نصَّ عليه الزمخشري، فقال:"استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه؛ فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك، فنبَّه على ذلك، وذكَّر به ".
ولا يجوز حمل هذا الاستفهام على استفهام التقرير؛ لأن التقرير- باتفاقهم جميعًا- هو حمل المخاطب على أمر قد استقر عنده، وعلم به، ثم جحده. وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون جاحدًا لشرح الله تعالى صدره؛ وإنما مراد الله تعالى من هذا الاستفهام هو مجرد التنبيه والتذكير.
ونحو ذلك قوله تعالى:
" أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً "(الحج:63)
سأل سيبويه أستاذه الخليل عن هذه الآية، فقال:"هذا واجب، وهو تنبيه؛ كأنك قلت: أتسمع؟". وفي النسخة الشرقية من كتاب سيبَوَيْهِ:"انتبهْ! أنزل الله من السماء ماء، فكان كذا وكذا ".
فهذا استفهام يراد به الإثبات، والغرض منه التنبيه، أو التذكير، خلافًا لمن ذهب إلى أن الغرض منه التقرير. وبيان ذلك:
أنك إذا قلت: أليس زيد قائمًا ؟ فإن ذلك يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون الاستفهام على أصله من طلب الفهم. فيجاب بـ{ نعم } في الإيجاب، وبـ{ لا } في النفي.
والثاني: أن يكون مرادًا به الإثبات؛ لأن الهمزة للنفي، ونفي النفي إثبات؛ وحينئذ يكون الغرض منه: التنبيه، والتذكير، أو الإنكار، ويجاب بـ{ بلى } في الإيجاب، وبـ{ نعم } في النفي.. وقد يكون الغرض منه أيضًا: العتاب، أو التحذير، أو السخرية والتهكم، أو التوقُّع والانتظار.. أو نحو ذلك من المعاني، التي يخرج إليها الاستفهام. وعلى هذا الوجه يحمل قوله تعالى:
"أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ "(الشرح:1)
" أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ "(هود:78)
فالغرض من الأول: التنبيه، والتذكير. والغرض من الثاني: الإنكار. ولو كان المتكلم- هنا- غير الله تعالى، لاحتمل الاستفهام في كل منهما أن يكون حقيقيًّا، الغرض منه: طلب الفهم.
فإذا قلت: أليس زيد بقائم، كان المراد به الإثبات، والغرض منه: التقرير، لا غير، بدليل دخول الباء على خبر المنفي. ويجاب بما أجيب به الوجه الثاني من الاستفهام الأول، إيجابًا، ونفيًا. وعلى ذلك يحمل قوله تعالى:
" أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ "(التين:8)
" أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى "(العلق:14)(1/161)
فالغرض من هذا الاستفهام في هاتين الآيتين، وأمثالهما لا يكون إلا تقريرًا، بقرينة وجود الباء في كل منهما.
ثم تدخل { الواو } بين الهمزة، و{ لم }، فتشير إشارة خفيَّة إلى حدوث فعل مغاير لما بعدها، ما كان ينبغي أن يحدث؛ كقوله تعالى:
"أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ"(الإسراء:99)
فهذا استفهام يراد به الإثبات، ويفيد أن ما بعده قد وقع فعلاً، والغرض منه التنبيه، والتذكير؛ لأن المخاطبين به على علم بأن الله تعالى هو الخالق لذواتهم، ولكل شيء في هذا الوجود؛ ولكنهم نسوه وغفلوا عن ذلك، أو تناسوه عنادًا، ومكابرةً، فأنكروا قدرة الله تعالى على بعثهم ونشورهم بعد موتهم ودثورهم. ولو أنهم تنبهوا، وتذكروا، أو لم يكابروا، لما وقع منهم ذلك الإنكار.
أما قوله تعالى:
" أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ "(يس:80)
فقد ورد في معرض التقرير لقدرة الله تعالى على الإعادة، ردًّا على اعتراض المشركين والملحدين، الذي تعدَّى الإنكار إلى الجحود؛ ولهذا أدخلت الباء في خبر المنفي. ومثل ذلك قوله تعالى:
" أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى "(القيامة:40)
وعلى الآية الأولى من هذه الآيات الثلاثة يحمل قوله تعالى هنا:
"أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ "
أي: قد رأى الإنسان أنا خلقناه من نطفة؛ لكنه غفل عن مبدأ خلقه، فأنكر إحياء العظام الرميمة، فذكَّره تعالى بمبدأ خلقه؛ ليدله به على النشأة الثانية. وهذا المعنى الثاني- أعني: إنكار إحياء العظام الرميمة- هو الذي أشارت إليه الواو، التي أدخلت بين الهمزة، وأداة النفي، وهو معنى مغاير لما رأوه من خلق الله تعالى لأنفسهم. ولو كانت هذه الواو للعطف، لما دلت الآية على هذا المعنى.
وفرق كبير بين أن يقال في معنى الآية: أغفل الإنسان، ولم يرَ، وبين أن يقال: قد رأى؛ ولكنه غفل، أو نسي، أو تناسى.
وكوْنُ هذا الاستفهام في معنى الإثبات يقتضي- كما ذكرنا- أن ما بعده قد وقع، وعلم به الناس، إما عن طريق المشاهدة؛ كما في قوله تعالى:
"أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ".
أو عن طريق السماع؛ كما في قوله تعالى:
" أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بٍأًصْحَابِ الْفِيلِ "(الفيل:1)
قيل في تفسيره: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. وهو، وإن لم يشهد تلك الوقعة، لكن شاهد آثارها، وسمع بالتواتر أخبارها؛ فكأنه رآها.
ولقائل أن يقول: قال الله تعالى:
" أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىء الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ "(العنكبوت:19)
فعلق الرؤية بكيفية الخلق، لا بالخلق، والكيفية غير معلومة، فكيف جاز أن يقال:" أَوَ لَمْ يَرَوْا "؟ فالجواب عن ذلك: أن هذا القدر من الكيفية معلوم، وهو أن الله تعالى خلق الإنسان، ولم يكن شيئًا مذكورًا، وأنه خلقه من نطفة، هي من غذاء، هو من ماء وتراب، وهذا القَدْرُ كافٍ في حصول العلم بإمكان الإعادة؛ فإن الإعادة مثله.
وقال تعالى:"أَوَلَمْ يَرَ "، ولم يقل:"أَوَلَمْ يَنْظُر "؛ لأن حقيقة النظر هي تقليب البصر حيال مكان المرئي طلبًا لرؤيته، ولا يكون ذلك إلا مع فقد العلم. والشاهد قولهم: نظر، فلم يَرَ شيئًا. ويقال: نظر إلى كذا، إذا مدَّ طرفه إليه رآه، أو لم يرَه. أما الرؤية فهي إدراك الشيء من الجهة المقابلة. وإدراك الشيء هو الإحاطة به من كل الجوانب، ووكلاهما لا يكون إلا مع وجود العلم.
بقي أن تعلم أن الفرق بين الرؤية والعلم هو أن الرؤية لا تكون إلا لموجود، والعلم يتناول الموجود والمعدوم. وكل رؤية لم يعرض معها آفة فالمرئي بها معلوم ضرورة، وكل رؤية فهي لمحدود، أو قائم في محدود؛ كما أن كل إحساس من طريق اللمس، فإنه يقتضي أن يكون لمحدود، أو قائم في محدود.
فإذا عرفت ذلك، تبين لك سِرَّ التعبير بالرؤية في قوله تعالى:
" أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ "؟
دون التعبير بالنظر؛ كأن يقال:" أَوَلَمْ يَنْظُر الْإِنسَانُ "؟ أو التعبير بالعلم؛ كأن يقال:" أَوَلَمْ يَعْلَم "؟
والمراد بـ"الْإِنسَان "- هنا- عموم جنس الكافر المنكر للبعث، وإن كانت الآيات نزلت في كافر مخصوص، هو أبيُّ بن خلَف الجُمَحِيّ- في أصح الأقوال- وهو الذي قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحربة يوم أحد. قال المفسرون:إنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل، فقال: يا محمد! أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمَّ ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم، ويبعثك، ويدخلك جهنم، فأنزل الله عزَّ وجل هذه الآية إلى آخر السورة.
الإنسان وعموم الجنس البشري خلقوا من نطفة، صورة لنطفة بشرية تحاول النفاذ إلى داخل البيضة الأنثوية من أجل تلقيحها(1/162)
وقد ثبت في أصول الفقه أن الاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب؛ ولهذا كان حمله على العموم أولى من حمله على إنسان مخصوص؛ ألا ترى أن قوله تعالى:
" قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا "(المجادلة:1)
قد نزل في واحدة، والمراد به الكل في الحكم؟ فكذلك كل إنسان منكر البعث، فهذه الآية رَدٌّ عليه.وعلى ذلك يكون خطاب"الْإِنسَان "في الآية من حيث هو إنسان، لا إنسان معين، ويدخل من كان سببًا في النزول تحت جنس الإنسان الكافر دخولاً أوليًّا.
وقوله تعالى:" أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ " إشارة إلى وجه الدلالة على البعث والنشور، وتنبيه على كمال القدرة والاختيار؛ لأن النطفة جسم متشابه الأجزاء، ويخلق الله تعالى منه أعضاء مختلفة، وطباعًا متباينة، وخَلْقُ الذكر والأنثى منها أعجب ما يكون؛ ولهذا لم يقدِر أحد على أن يدَّعيه، كما لم يقدِر أحد على أن يدَّعي خَلْقَ السموات والأرض؛ ولهذا قال تعالى:
" وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله "(الزخرف:87)؛ كما قال:
" وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله "(الزمر:38)
والنطفة هي القليل من الماء الصافي، ويعبَّر بها عن ماء الرجل، الذى يخرج منه إلى رحم المرأة، وتجمَع على: نُطَف، ونِطاف. وقيل: سمِّي ماء الرجل نطفة؛ لأنه ينطِف. أي يقطر قطرة بعد قطرة، من قولهم: نطِفت القربة، إذا تقاطر ماؤها بقلَّة. وفي الحديث:” جاء ورأسه ينطِف ماء“. أي: يقطر. ونقطة واحدة من مني الرجل تحوي ألوف الخلايا، وخلية واحدة من هذه الألوف هي التي تصير بقدرة الله الخالقة جنينًا، ثم تُصَيِّر هذا الجنين إنسانًا، فإذا هو خصيم مبين.
فهذه القدرة الخالقة، التي تجعل من هذه النطفة المهينة، التي لا قوام لها، ولا قيمة ذلك الخصيم المبين، هي التي يستعظم عليها أن تعيده بعد البلى والدثور. ولا شك أن النطفة شيء حقير مهين، والغرض منه أن من كان أصله من مثل هذا الشيء الحقير، لا يليق به أن يتجبَّر، وأن يخاصم في أمر يشهد بصحته مبدأ خلقه من تلك النطفة الحقيرة المهينة، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
" فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ *خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ *يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ *إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ *يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ *فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ "(الطارق:5-10)
وأما" خَصِيمٌ " فهو فََعيلٌ، وهو مبالغة في معنى: مُفاعِل، من قولك: خاصَم يخاصِم، فهو مُخاصِمٌ. أي: كثير الخصومة. قال أهل اللغة: خصيمك، الذي يخاصمك. وفَعيلٌ بمعنى: مُفاعِل معروف؛ كالنَّسيب بمعنى: المُناسِب، والعَشير بمعنى: المُعاشِر. ويجوز أن يكون مبالغة في معنى: فَاعل، من خصِم يخصِم، بمعنى: اختصم، ومنه قراءة حمزة:
صورة لبيضة الأنثى تحيط بها الحيوانات المنوية الذكرية سبحان الله كم كان الإنسان مهين
" مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحدة تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ "(يس:49)
و" مُبِينٌ "صفة فاعل، وهو من قولك: أبان الشيءَ يُبينه، فهو مبين. أي: أظهره يظهره، فهو مظهِر. وقيل: هو هنا كناية عن القدرة على المخاصمة؛ كما أن قوله تعالى:
" وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ "(الزخرف:18)
كناية عن عَجْز الأنثى عن المخاصمة، وعدم قدرتها على الانتصار لنفسها.
وقيل: قوله تعالى"فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ " يحتمل وجهين من المعنى: أحدهما: أن الله تعالى خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم لربه يكفر به، ويجادل رسله ويكذب بآياته، وكان حقُّه والواجب عليه أن يطيع وينقاد لأمر الله. والمقصود منه: وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل، والتمادي في كفران النعمة.
والثاني: أن الله تعالى خلق الإنسان من نطفة قذرة، ثم لم يزل ينقله من طور، إلى طور؛ حتى صيَّره عاقلاً متكلمًا، ذا ذهن ورأي، يخاصم ويجادل. والمقصود منه: أن الانتقال من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الحالة العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبر حكيم عليم.
فعلى الأول يكون سياق هذين الوصفين:" خَصِيمٌ مُّبِينٌ" سياق ذَمٍّ. وعلى الثاني يكون سياقهما سياق مدح. واختار الرازي هذا القول الثاني على أنه الوَجْهُ الأوْفَقُ؛ لأن هذه الآيات- كما قال- مذكورة لتقرير وجه الاستدلال على وجود الصانع الحكيم، لا لتقرير وقاحة الناس، وتماديهم في الكفر والكفران.
والظاهر – كما قال أبو حيَّان- أن سياق الوصفين سياق ذمًّ؛ وذلك لوجهين:
أحدهما: مَا تقدَّم من قوله تعالى:"أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ ". وأكثر ما ذكر لفظ " الْإِنسَانُ " في القرآن في معرض الذم، أو مُرْدَفاً بالذم؛ كقوله تعالى:
" فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ "(الطارق:5).
" إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ "(إبراهيم:34).(1/163)
وقد تلا الرسول صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى:" وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً "(الكهف:54)، حين عاتب عليًًّا- كرَّم الله وجهه- على النوم عن صلاة الليل، فقال له عليٌّ:” إنما نفسي بيد الله “، فاستعمل" الْإِنسَانُ "على العموم.
والوجه الثاني: ما عُرِفَ عنهم من مخاصمَتهم ومجادلتهم لأنبياء الله تعالى، وأوليائه بالحجج الداحضة على حدِّ زعمهم، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
" مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ "(الزخرف:58)
وما ينبغي الإشارة إليه هنا: أن المفاجأة بكون الإنسان خصيمًا مبينًا لم تقع بعد خلق الإنسان من النطفة؛ لأن بين خلقه منها، وكونه خصيمًا مبينًا أحوالاً، تطوَّر فيها، وتلك الأحوال محذوفة، وتقع المفاجأة بعدها؛ وهي المشار إليها بقوله تعالى:
" ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً ثُمَّ أنشأناه خلقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ "(المؤمنون:14)
صورة لمرحلة العلقة التي خلق منها الإنسان
وإنما جيء بالثاني عقِب الأول؛ لأنه الوَصْفُ، الذي آل إليه من التمييز والإدراك، الذي يتأتَّى معه الخصام والجدال.
وقال الرازي:” وقوله:" فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ "فيه لطيفة غريبة؛ وهي أنه تعالى قال: اختلاف صور أعضائه، مع تشابه أجزاء ما خلق منه، آية ظاهرة، ومع هذا فهنالك ما هو أظهر، وهو نطقه وفهمه؛ وذلك لأن النطفة جسم، فهَبْ أن جاهلاً يقول: إنه استحال وتكوَّن جسمًا آخرَ؛ لكن القوة الناطقة والقوة الفاهمة من أين تقتضيهما النطفة؟ فإبداع النطق والفهم أعجب وأغرب من إبداع الخلق والجسم، وهو إلى إدراك القدرة والاختيار منه أقرب “.
وأضاف الرازي قائلاً:”فقوله:" خَصِيمٌ ".أي: ناطق. وإنما ذكر الخصيم مكان النطق؛ لأنه أعلى أحوال الناطق، فإن الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثل ما يبينه، وهو يتكلم مع غيره. والمتكلم مع غيره، إذا لم يكن خصيمًا لا يبين، ولا يجتهد مثل ما يجتهد، إذا كان كلامه مع خصمه. وقوله:" مُبِينٌ "إشارة إلى قوة عقله. واختار الإبانة؛ لأن العاقل عند الإفهام أعلى درجة منه عند عدمه؛ لأن المبين بان عنده الشيء، ثم أبانه. فقوله تعالى:" مِن نُّطْفَةٍ "إشارة إلى أدنى ما كان عليه، وقوله:" خَصِيمٌ مُّبِينٌ "إشارة إلى أعلى ما حصل عليه “.
ثانيًا- ثم أخبر تعالى أن هذا الكافر المنكر للبعث والنشور ضرب لربه عز وجل مثلاً من خلقه، لا ينبغي لأحد أن يضربه، قاس فيه قدرة الله جل وعلا على قدرتهم، ونفى الكل على العموم، ونَسِيَ خلْقَ الله تعالى له على الوَجْهِ المذكور، الدالِّ على بطلان ما ضربه من المَثَل، فقال سبحانه:
" وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم "
وقوله تعالى:" وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً "معطوف على قوله:"فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ". أي: ففاجأ بخصومته.. وضرب لنا مثلاً. أما على قول من قال: إن سياق الوصفين:"خَصِيمٌ "، و"مُّبِينٌ " سياق مدح، لا ذمًّ، فيكون حينئذ معطوفًا على الجملة المنفية داخلاً في حيِّز الإنكار.
والمَثَلُ هو الشيءُ يُضرَبُ للشيء مَثَلاً، فيُجْعَل مِثْلَه. أحدهما أصل، والثاني فرع يقاس على الأصل للاعتبار به. وضَرْبُ المثل يعني: جمعُه وتقديرُه؛ وهو من ضَرْب الدرهم، وهو جمعُ فضَّة، وتقديرُها.
ويطلق لفظ المثل، ويراد به: الأصل، الذي يقاس عليه الفرع، ويراد به مجموع القياس. فمن الأول قوله تعالى:" مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً "(الجمعة:5). فمَثَل الحمار يحمل أسفارًا أصل قيس عليه مَثَل الذين حملوا التوراة.
ومن الثاني قوله تعالى هنا:" وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم ". فمثَّل الخالق جل وعلا بالمخلوق، في هذا النفي،وقاس قدرته سبحانه على قدرة المخلوق، ونفى الكل على العموم، فجعل هذا مثل هذا، لا يقدر على إحياء العظام.
وقوله تعالى:" وَنَسِيَ خَلْقَهُ " قرأه زيد بن علي:" وَنَسِيَ خَالِقَهُ "، اسم فاعل. وهو عَطْفٌ إمَّا على قوله:" ضَرَبَ "، داخلٌ في حيِّزِ الإنكارِ والتَّعجيب. أو: هو حالٌ من فاعله، فيكون التقدير: وضرب لنا مثَلاً، ناسيًا خَلْقَ الله تعالى له على الوجه المذكور. أو: ناسيًا خالقه، الذي خلقه من نطفة، على القراءة الثانية.
فلو لم ينسَ هذا الجاحد خلقه، وذكر مبدأ كونه من العدم، لما ضرب المثل. فتحت قوله تعالى:" وَنَسِيَ خَلْقَهُ "- كما قال ابن قيِّم الجوزية- ألطف جواب وأبين دليل. وهذا كما تقول لمن جحدك أن تكون قد أعطيته شيئًا: فلان جحدني الإحسان إليه، ونسي الثياب التي عليه، والمال الذي معه، والدار التي هو فيها؛ حيث لا يمكنه جحْد أن يكون ذلك منك.(1/164)
وقوله تعالى:" قالَ مَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم "؟ استئناف بياني، وقع جوابًا عن سؤال، نشأ من حكاية ضربه المثل؛ كأنه قيل: ما هذا المثل، الذي ضربه؟ فقال تعالى مُبَيِّنًا لهذا المثل، ومُفَسِّرًا له:" قالَ مَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم "؟
فقوله:" مَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم "؟ هو المثل المضروب، الذي أخبر تعالى عنه بقوله:" وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ "، وهو استفهام إنكار، مُتضَمِّن للنفي.
واستفهام الإنكار المتضمِّن للنفي لا يُنْفَى به في القرآن إلا ما ظهر بيانه، أو ادُّعِيَ ظهورُ بيانه، فيكون ضاربه: إما كاملاً في استدلاله وقياسه؛ كقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ "(الزمر: 29 )
وإما جاهلاً بهما؛ كهذا الإنسان، الذي قاس قدرة الخالق جل وعلا بقدرة المخلوق، واستدل به على عجز الله جل وعلا عن إحياء العظام الرميمة.
والعِظامُ جمع: عظم، وهو مذكر؛ ولكن جمعه جمع تكسير. وجمع التكسير يجوز أن يراعى فيه تأنيث الجماعة، وباعتباره قال تعالى:" وَهِيَ "، ولم يقل:" وَهُوَ ". ويجوز أن يراعى فيه معنى الواحد، وباعتباره قالتعالى:" رَمِيم "، ولم يقل: رمائم، أو رميمة.
وتأمل ذلك في قوله تعالى:"وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً "(البقرة:259). فقال:" نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا "مراعاة لقوله:" العِظَامِ ". ثم قال:" لَحْماً "، ولم يقل:" لُحُوماً "؛ لأن لفظ الواحد قد عُلِمَ أنه يراد به الجمع.
أما الرَّميمُ فهواسم لما بَلِيَ من العظام، وغيرها؛ كالرِّمَّة والرُّفات، ويطلق على الجمع والمفرد، والمذكر والمؤنث؛ لأن أصله مصدر: رَمَّ. يقال:رمَّ العظم يرِمُّ رَمًّا. أي: بَلِيَ، فهو رَمِيمٌ، ورُمَامٌ. ورُمَامٌ مبالغة في رَميم. وفي لسان العرب عن اللحياني: الرَّميمُ ما بقي من نبتِ عامِ أول.وقال تعالى في الريح العقيم:
" مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ "(الذاريات:42)
أي:جعلته كالشيء الهالك البالي. قاله ابن مسعود ومجاهد. وقال قتادة: إنه الذي دِيسَ من يابس النبات. وقال أبو العالية والسدي: كالتراب المدقوق. وقال قطرب: الرميم: الرَّمَاد. وقال البغوي: وقيل: أصله من العظم البالي.
و" مَنْ " في قوله:" مَنْ يُحيِي العِظام "عامة في كل من يسند إليه خبر الإحياء، ويشمل عمومها إنكاره أن يكون الله تعالى محييًا للعظام، مستبعدًا إحياءها. فقاس قدرة الخالق بالمخلوق، ونفى الكل على العموم؛ لأن ذلك ليس في مقدور الخَلْق. واختار العظام للذكر؛ لأنها أبعد ما تكون عن الحياة، لعدم الإحساس فيها، ووصفها بما يقوِّي جانب الاستبعاد من البِلَى والتفتُّت.
وهو- كما قال الشيخ ابن تيمية-: قياسٌ حُذِفت إحدى مقدمتيه لظهورها، والأخرى سالبة كلية، قرن معها دليلها، وهو كون العظام رميمًا. والتقدير: هذه العظام رميم، ولا أحد يحي العظام، وهى رميم، فلا أحد يحييها.
ثالثًا- وبعد أن ضمَّن تعالى قوله من قبلُ:" وَنَسِيَ خَلْقَهُ "ما وفَّى بالجواب، وأقام الحجة، وأزال الشبهة، أجاب سبحانه عن سؤال هذا الجاحد بما يتضمَّن أبلغ الدليل جوابًا شافيًا عن ثبوت ما جحده، زيادة في التأكيد والتقرير، فقال مخاطبًا رسوله عليه الصلاة والسلام:
" قُلْ يُحْييها الّذي أَنْشَأَها أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيم "
فقال سبحانه:" قُلْ يُحْييها "، ولم يقل:" يُحْييها "، تبكيتًا له بتذكير ما نسيه من فطرته الدالة على حقيقة الحال، وإرشاده إلى طريقة الاستشهاد بها. وهو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجيب بجواب على طريقة الأسلوب الحكيم بحَمْل استفهام القائل على خلاف مراده؛ لأنه لما قال:
" مَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم "؟
لم يكن مراده طلبَ تعيين المُحْيِي؛ وإنما كان مراده استبعادَ إحياء العظام، واستحالتَه، فأجيب بجواب من يطلب علمًا؛ فلذلك بُنِيَ الجوابُ على فعل الإِحياء مسندًا للمُحْيِي.
وهذا أشدُّ ما يكون من الحِجَاج، ويسمَّى عند علماء البيان: الاحتجاج النظري، وهو أن يذكر المتكلم معنى يستدلُّ عليه بضروب من المعقول.
وفيه الدلالة على وجوب القياس والاعتبار؛ لأنه ألزمهم قياسَ النشأة الثانية على الأولى. وهو بمجرد تصوُّره، يُعْلَمُ به علمًا يقينًا، لا شُبْهَةَ فيه أن منْ قدر على الإنشاء أولاً من لا شيء، كان على الإحياء أقدر وأقدر، ومن كان الفعل الأصعب عليه سهلاً، فمن الأولى أن يكون الفعل اليسير عليه أسهل. وإليه الإشارة بقوله تعالى:
" وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "(الروم:27)(1/165)
وتعقيبًا على قوله تعالى:" قُلْ يُحْييها الّذي أَنْشَأَها أَوّلَ مَرّةٍ "قال الألوسي:"وفي ( الحواشي الخفاجية ) كان الفارابي يقول: ودِدْت لو أن أرسطو وقف على القياس الجليِّ في قوله تعالى:" قُلْ يُحْييها الّذي أَنْشَأَها أَوّلَ مَرّةٍ "، وهو الله تعالى أنشأ العظام وأحياها أول مرة. وكلُّ منْ أنشأ شيئًا أولاً قادرٌ على إنشائه وإحيائه ثانيًا؛ فيلزم أن الله عز وجل قادرٌ على إنشائها وإحيائها بقواها ثانيًا ".
فـ" تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "
ولمَّا كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على مخلوقه، وعلمه بتفاصيل خلْقه، أتبعَ سبحانه وتعالى ذلك بقوله:" وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيم ". وهذا أيضًا دليل آخر من صفات الله تعالى، وهو أن علمه تعالى محيط بكل شيء، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
" وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ " (الأنعام : 59 )
وفي ذلك دلالة أن الخالق لا يمكن أن يكون خالقًا إلا إذا كان قادرًا على الخلق، ولا يكون قادرًا على الخلق إلا إذا كان عليمًا بالمخلوقات كلها، محيطًا بجزئياتها وكلياتها في جميع الأحوال، وفي جميع الأوقات.
وفي قوله تعالى:" قُلْ يُحْييها " إشارة إلى كمال القدرة، وفي قوله:" وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيم " إشارة إلى كمال العلم. والقدرة والعلم، إذا اجتمعا، كان من السهل إيجاد ما أُعدِم بعد أن كان موجودًا فأُعدِم. ومنكرو الحشر والنشر، لا ينكرونه إلا لجهلهم بهذين الأصلين.
" وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا*قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا *أََوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا " (الإسراء:49-52)
فتبارك من تكلم بهذا الكلام، الذي جمع في نفسه بوجازته وبيانه وفصاحته وصحة برهانه كل ما تلزم الحاجة إليه من تقرير الدليل، وجواب الشبهات، ودحض حجة الملحدين، وإسكات المعاندين بألفاظ، لا أعذب منها عند السمع، ولا أحلى منها ومن معانيها للقلب، ولا أنفع من ثمرتها للعبد، والحمد لله رب العالمين!
محمد إسماعيل عتوك
==============
من أسرار الإعجاز البياني في القرآن الذين كفروا بربهم أعمالهم كسراب
بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك
باحث لغوي في الإعجاز البياني
للقرآن الكريم ومدرس للغة العربية
" وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ" (النور:39- 40)
في هاتين الآيتين الكريمتين مثَّل الله تعالى لأعمال الذين كفروا بتمثيلين، شبه أعمالهم في الأول بسراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماء، وشبهها في الثاني بظلمات في بحر لجيٍّ. ومناسبتهما لمَا قبلهما أن الله تعالى ذكر- فيما تقدَّم من آيات- حال المؤمنين الذين نوَّر قلوبهم وعقولهم بنوره، الذي تجلَّى في السموات والأرض، وتبلور في بيوته، التي أذن أن ترفع، ويذكر فيها اسمه، فعبدوا ربهم مخلصين له الدين، وعمَروا بيوته بالذكر والتسبيح، لا يشغلهم عن إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة شاغل، ولا يصرفهم عن ذلك صارف، يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار، فلا تثبت على شيء من الهول والكرب والاضطراب، يعلقون رجاءهم بثواب الله، الذي وعدهم. ويحقق الله تعالى وعده، فيجزيهم ثواب أعمالهم مضاعفًا، ويزيدهم من فضله ما لم يكن يخطر لهم ببال؛ وذلك قوله تعالى:" فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ *رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ *لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب (النور:36-38).(1/166)
وفي مقابل ذلك ذكرالله تعالىحال الكافرين، الذين أعرضوا عن نوره سبحانه، وأغلقوا دونه بصائرهم وأبصارهم، وآثروا الظلمة على النور، والضلال على الهدى، فمثَّل لهم ولأعمالهم بهذين التمثيلين الحافلين بالحياة والحركة. يقتضي الأول منهما أن أعمالهم، التي يحسبونها نافعة لهم في آخرتهم؛ إنما هي أعمال باطلة مخيبة لهم في العاقبة، ومهلكة لهم، ولا يجيئهم منها إلا البلاء وسوء المنقلب. ويقتضي الثاني منهما حالها في الدنيا من أنها في الغاية من الضلال والغمة، التي مآلها ما ذكر من تناهي الظلمات في قوله:" أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ ".
1- أما التمثيل الأول فهو قوله تعالى:" وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ "(النور:39).
وهو تمثيل يصوِّر أعمال الذين كفروا في بطلانها، وعدم انتفاع أصحابها بها، حينما يكونون في أشد الحاجة إلى ذلك النفع، بصورة سراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماء، فيتعلق به قلبه، ويسعى إليه حثيثًا لاهثًا. وكلما بلغ به سعيه مرحلة، وجده يتحرك أمامه، ويفلت من بين يديه.. وهكذا إلى أن تتقطع أنفاسه، وتخور قواه. وبعد هذا الجهد المتواصل، والمعاناة الشاقة يصل إلى حيث كان يخيل إليه أنه ماء، فلم يجده شيئًا؛ فتتضاعف لذلك حسرته، ويشتد يأسه وقنوطه، وتغلي مراجل غيظه وظمئه. وليس هذا وحسب؛ بل إنه يجد نفسه فجأة أمام هول رهيب، يمسك بتلابيبه، ويقوده إلى حتفه وهلاكه. كذلك الكافر يحسب أن أعماله في دنياه نافعةً له في آخرته، فإذا كان يوم القيامة، وقدم على ربه، لا يجد لها أثرًا من ثواب، أو تخفيف عذاب.
وقوله تعالى:" وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَاب بِقِيعَةٍ " ظاهره العموم، فيندرج فيه عبدة الأصنام من الأمم السابقة والأمم اللاحقة، وأهل الكتاب من النصارى الذين عبدوا المسيح، واليهود الذين عبدوا عُزَيْرًا، واتخذوا أحبارهم أربابًا من دون الله تعالى، والمجوس الذين عبدوا النار، والمانَوِيَّة الذين عبدوا النور.. وغيرهم. وهو جملة استئنافية، والموصول وصلته مبتدأ، خبره جملة " أَعْمَالُهُمْ كَسَرَاب " من المشبه والمشبه به.
وكان نظم الكلام يقتضي أن يقال:" وَأَعْمَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا أ كَسَرَاب بِقِيعَةٍ ". ولو قيل ذلك، لكان بليغًا، لما فيه من الإيجاز.. ولكن تعبير القرآن أبلغ؛ لأن الحكم على هذه الأعمال بأنها باطلة فاسدة، ليس لكونها كذلك في ذاتها؛ ولكن لكونها أعمال أولئك الذين كفروا.. فلا شيء يبطل العمل، ويجعله فاسدًا عديم النفع مثل الكفر، ولا شيء يبقي عليه، ويجعله مثمرًا نافعًا مثل الإيمان، وهذا ما يشير إليه تعالى بقوله:" الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ *وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ *ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ "(محمد:1-3).
وقوله تعالى:" أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ". أي: جعلها ضالة. أي: ضائعة محبطة بالكفر، لا ثواب لها، ولا جزاء. ونظير ذلك قوله تعالى:" وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ *ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ "(محمد:8- 9). أي: لأجل ذلك أحبط الله تعالى أعمالهم، التي لو كانوا عملوها مع الإيمان، لأثابهم عليها.
وعليه تكون الحالة المشبهة، وهي:" أَعْمَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا "، مركَّبة من محسوس ومعقول، والحالة المشبه بها، وهي:" سَرَابٌ بِقِيعَةٍ "، حالة محسوسة. أي داخلة تحت إدراك الحواس.
والسراب: ظاهرة ضوئية سببُها انعكاس الشعاع من الأرض عندما تشتد حرارة الشمس، فيظنه الإنسان ماء يجري ويتلألأ على وجه الأرض. واشترط الفرَّاء فيه اللصوقَ بالأرض. وقيل: هو ما ترقرق من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة، وأوهم الناظر إليه على البعد أنه ماء سارب. أي: جار. وسُمِّيَ بذلك؛ لأنه ينسرب كالماء في مرأى العين، وما هو إلا وَهْمٌ، لا حقيقة له. ولهذا قيل: السراب فيما لا حقيقة له؛ كالشراب فيما له حقيقة. قال الشاعر:
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم *** كلمع سراب في الفلا متألق(1/167)
وقوله تعالى:" أَعْمَالُهُمْ كَسَرَاب "بالتنكير، ينبىء عن سراب ضئيل تافه، بخلاف ما لو جيء به معرَّفًا. ووراء ذلك ما وراءه من تعلق نفس الظمآن بالأمل، ولو كان ضعيفًا تافهًا. واستعمال الكاف، دون غيرها من أدوات التشبيه، يجعل هذه الأعمال- في حقيقتها وصورتها- في مرتبة أدنى من مرتبة السراب- في حقيقته وصورته- ووراء ذلك ما وراءه من إزراء لها، واستخفاف بأصحابها؛ ونحو ذلك تشبيه أعمال مثل الذين كفروا بربهم بالرماد في قوله تعالى:
" مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ "(إبراهيم 18).
وصورة السراب، الذي يحسبه الظمآن ماء، وإن كانت تشترك في الموضع مع صورة الرماد، الذي تعصف به الريح في المثل السابق، إلا أنها تختلف عنها اختلافًا دقيقًا ومهمًّا؛ وذلك في المغزى، ولب الغرض، وبيان ذلك:
أن صورة السراب تهتم بتصوير اللهفة، والحاجة الماسَّة إلى الانتفاع بهذه الأعمال، ثم الخيبة والمفاجأة بخديعة الأمل، وأنه ما كان إلا وهمًا؛ ولهذا كانت عناصرها: الظمآن، والسراب. وهذان اللفظان هما- كما ترى- لهما دلالة قوية على هذا المغزى؛ بل إن لفظ السراب يكاد يكون رمزًا حيَّا في هذا الباب.
أما صورة الرماد فإنها تهتم ببيان عدم النفع لهذه الأعمال، وأنها تصير بددًا، من غير أن تركز على معنى اللهفة والتعلق، الذي ركزت عليه صورة السراب؛ ولهذا كانت عناصرها: الرماد، والريح، واليوم العاصف. وكلها- كما ترى- تؤكد معنى الضياع، الذي يعقبه الهلاك، إضافة إلى ما ينطوي عليه لفظ الرماد من معنى الاحتراق، والخفة، وقلة الشأن.
أما القيعة فهي الأرض القفر المستوية، التي لا تنبت الشجر. وقيل: هي جمع قاع، وقيعان؛ كجيرة وجار وجيران. وقيل: القيعة مفرد؛ وهو بمعنى القاع..ولما كان السراب هو ما ترقرق من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة؛ وكأنه ملتصق بها، جيء بالباء الدالة على الإلصاق في قوله تعالى:" بقيعة " للتعبير عن هذا المعنى. ولو قيل: كسراب في قيعة، لدل ذلك على أن القيعة كالظرف للسراب، وأن السراب داخل القيعة، وهو ليس كذلك؛ ولهذا اشترط الفرَّاء في السراب أن يكون ملتصقًا بالأرض.
وفي قوله تعالى:" يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء " إشارة إلى خداع النفس بعد خداع البصر بهذا السراب؛ فإن لهفة الظمآن، وحرارة شوقه إلى الماء تغطي على عقله، فيحسب السراب ماء. مثله في ذلك مثل الخائف المذعور في سواد الليل ووحشته، يمثِّل له الوهم أشباحًا تطلع عليه من كل أفق، تريد الانقضاض عليه، والفتك به. ولهذا اختار سبحانه للتعبير عن هذا المعنى" يَحْسَبُهُ "، دون{ يظنُّه }. وجيء به على صيغة المضارع؛ ليفيد معنى التجدُّد والاستمرار.
ويظهر لنا سر اختيار الفعل{ يحسَب }، دون الفعل{ يظن }، إذا علمنا هذا الفرق الدقيق بينهما في المعنى؛ وهو: أنَّ يحسِب من الحِسبان بكسر الحاء. والحِسبانُ هو أن يحكم الحاسِبُ لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله، فيحسِبه ويعقد عليه الأصبع، ويكون بعَرَض أن يعتريه فيه شك. أما يظنُّ فهو من الظنِّ. والظنُّ هو أن يخطر النقيضان ببال الظانِّ، فيُغلِّب أحدهما على الآخر.
وهذا الظمآن عندما رأى السراب حَسِبَه ماء، ولم يخطر بباله أبدًا أنه نقيض الماء، فعقد عليه العزم، وراح يلهث وراءه. لقد خدعه هذا السراب الكاذب؛ كما خدع أولئك الذين كفروا أعمالهم الباطلة، فرأَوْها حسنة، وحسِبوها نافعة، وكان ذلك سبب شقائهم وضلالهم وضياعهم. والله تعالى يقول:" أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ".
ولو قيل:{ يحسَبه الرائي ماء }، بدلاً من قوله تعالى:" يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء "، ثم يظهر أنه على خلاف ما قدَّر، لكان بليغًا؛ ولكن أبلغ منه لفظ القرآن؛ لأن الظمآن أشد حرصًا على الماء، من الرائي، وقلبُه أكثرُ تعلقًا به منه.. ثم إن لفظ الظمآن بما ينطوي عليه من معنى المبالغة، وبما يوحي به من معنى اللهفة والتحرُّق وشدة الحاجة، ثم شدة الإعياء والخيبة، يكسب الصورة ثراء وخصوبة، ويعطيها بعدًا وعمقًا، يجعلها أقدر على التعبير والإيحاء.
وقوله تعالى:" حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً " يعني: حتى إذا جاء الظمآن ما حسِبه ماء- وهو السراب- وعلَّق به رجاءه، لم يجده شيئًا أصلاً، لا محققًا، ولا متوهَّمًا؛ كما كان يراه قبل المجيء. وهو جملة شرطيَّة مؤلفة من عبارتين: الأولى شرطية:" حَتَّى إِذَا جَاءهُ ". والثانية جوابية:" لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ". أما العبارة الشرطية فقد أشارت بدخول" حَتَّى "على" إِذَا "إلى نهاية رحلة شاقة، ومعاناة طويلة، أجهده فيها الظمأ، وحفزه إليها الأمل، وأفادت باستعمال" إِذَا "أن الشرط قد تحقق في نهاية هذه الرحلة.(1/168)
وأما العبارة الجوابية فقد جيء فيها بلفظ " شَيْئاً "مفعولاً به ثانيًا لقوله:" لَمْ يَجِدْهُ "؛ ليفيد معنى العدم. وكان يمكن أن يقال:{ لم يجده ماء }؛ ولكن لفظ" شَيْئاً " جعله عدمًا محضًا. فتأمل هذا الشرط الذي ربط هذا العدم المحض بذلك السعي الدءوب، وهذا هو الخسران المبين! وصدق الله سبحانه؛ إذ يقول:
" قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا " (الكهف:103-105)
تأمل بعد ذلك هذه الهاء في قوله تعالى:" لَمْ يَجِدْهُ "، وكان يمكن أن يقال:{ لم يجد شيئًا }؛ ولكن ذكر الهاء نصَّ على الأمل المنشود، وصيَّره عدمًا، وفي ذلك إبراز للمغزى، وخيبة الأمل. وشيء آخر في ذكر هذه الهاء، وهو تهيئة الكلام لما بعده؛ لأنه لو قيل:{ حتى إذا جاءه، لم يجد شيئًا }، لكان ذلك متناقضًا مع قوله:" وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ ".
ثم إن قوله تعالى:" حَتَّى إِذَا جَاءهُ " يدلُّ على شىء موجود، واقع عليه المجيء، وأن قوله تعالى:" لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً "مناقض له؛ لأنه يدلُّ على عدم وجود شىء، يقع عليه المجيء. وقد أجيب عن ذلك بأجوبة أظهرها قول من قال: إن السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة كأنه ضباب وهباء، وإذا اقترب منه الرائي، رقَّ وانتثر وصار كالهواء.
أما قوله تعالى:" وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ "فالمراد به: أنه وجد مقدور الله تعالى عليه من هلاك بالظمأ عند موضع السراب، فأعطاه ما كتب له من ذلك وافيًا كاملاً؛ وهو المحسوب له. وقيل: وجد الله بالمرصاد فوفَّاه حسابه. أي: جزاء عمله. قال امرؤ القيس:
فولى مدبرًا يهوي حثيثًا *** وأيقن أنه لاقى حسابا
وقيل: وجد وعد الله بالجزاء على عمله. وقيل: وجد أمر الله عنده حشره. والمعنى متقارب.
" وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ". أي: معجَّل حسابه، لا يؤخره عن أحد؛ وذلك لأنه سبحانه عالم بجميع المعلومات، فلا يشقُّ عليه الحساب. وقال بعض المتكلمين: معناه: لا يشغله محاسبة واحد عن آخر؛ كنحن. ولو كان يتكلم بآلة- كما يقول المشبهة- لما صح ذلك.. وبذلك يكون الكلام مطابقًا للذين كفروا وأعمالهم، من حيث إنهم حسبوها نافعة لهم، فلم تنفعهم، وحصل لهم الهلاك بإثر ما حوسبوا.
2- وأما التمثيل الثاني فهو قوله تعالى:" أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ"(النور:39).
وهو تمثيل آخر يصوِّر أعمال الذين كفروا في الدنيا من حيث خلوها عن نور الحق بصورة ظلمات متراكبة من لجج البحر والأمواج والسحاب، بعد أن صُوِّرت في التمثيل الأول بصورة السراب الخادع.
وقيل في الفرق بين التمثيلين: أن التمثيل الأول فيما يؤول إليه أعمالهم في الآخرة، وهذا التمثيل فيما هم عليه في حال الدنيا. قال أبو حيان في البحر:”وبدأ بالتشبيه الأول؛ لأنه آكد في الإخبار، لما فيه من ذكر ما يؤول إليه أمرهم من العقاب الدائم، والعذاب السرمدي، ثم أتبعه بهذا التمثيل، الذي نبَّهَهم على ما هي أعمالهم عليه؛ لعلهم يرجعون إلى الإيمان، ويفكرون في نور الله، الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم“.
والظاهر أن التشبيه في التمثيلين لأعمالهم. وزعم الجرجاني أن الآية الأولى في ذكر أعمالهم، والثانية في ذكر كفرهم. ونسق الكفر على أعمالهم؛ لأن الكفر أيضًا من أعمالهم. ودليل ذلك قوله تعالى:" اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ "(البقرة:257). أي: يخرجهم من الكفر إلى الإيمان.
وقال أبو علي الفارسي: التقدير: أو كذي ظلمات. قال: ودل على هذا المضاف قوله تعالى:" إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ "؛ فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف. فالتشبيه وقع عند الجرجاني لكفر الكافر، وعند أبي علي للكافر، لا للأعمال. وكلاهما خلاف الظاهر.
أما" أَوْ " فقيل: هي للتخيير؛ فإن أعمالهم لكونها لاغية، لا منفعة لها كالسراب، ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات المتراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب. وقيل: هي للتنويع؛ فإن أعمالهم إن كانت حسنة فهي كالسراب، وإن كانت قبيحة فهي كالظلمات. وقيل: هي للتقسيم باعتبار وقتين؛ فإنها كالظلمات في الدنيا، وكالسراب في الآخرة. وقيل: هي للإباحة، على تقدير: إن شئت مثل بالسراب، وإن شئت مثل بالظلمات.(1/169)
واختار الكرماني كون " أَوْ "للتخيير، على تقدير: شبه أعمال الكفار بأيهما شئت. واختار أبو السعود كونها للتنويع، على تقدير: إِثْرَ ما مثِّلت أعمالهم، التي كانوا يعتمدون عليها أقوى اعتماد، ويفتخرون بها في كل واد وناد، بما ذكر من حال السراب مع زيادة حساب وعقاب، مثِّلت أعمالهم القبيحة، التي ليس فيها شائبة خيرية، يغتر بها المغترون، بظلمات كائنة في بحر لجي.
واختار ابن عاشور كونها للتخيير؛ لأن شأن " أَوْ "- كما قال- إذا جاءت في عطف التشبيهات أن تدل على تخيير السامع أن يشبه بما قبلها، وبما بعدها. واختار طنطاوي كونها للتقسيم.
و" أَوْ "- عند أهل التحقيق من علماء اللغة- موضوعة لأحد الشيئين المذكورين معها. فدل وجودها عاطفة بين التمثيلين على أن أعمال الذين كفروا كسراب، أو كظلمات. فإنها لا تخلو من أحد المثلين. أما ما ذكروه من دلالتها على الإباحة، أو التخيير، أو التنويع، أو التقسيم، فإن ذلك يستفاد من السياق، لا من" أَوْ "نفسها.
والظاهر أنه عطِف بـ" أَوْ "هنا؛ لأنه قُصِد التنويع. ويفهم من السياق في المثلين أن التنويع ليس لتنوع الأعمال؛ وإنما هو لتنوع الأحوال الداعية إلى تشبيهها مرة بالسراب الكاذب، ومرة أخرى بالظلمات الكثيفة. حكى الشوكاني في(فتح القدير) عن الزجاج قوله:”أعلَمَ الله سبحانه أن أعمال الكفار، إن مثلت بما يُوجَد، فمثلها كمثل السراب، وإن مثلت بما يُرَى، فهي كهذه الظلمات التي وصف “.
أما تشبيهها بالسراب فيكون لمن سكن الجزيرة العربية، أو جاورها. وفي هذا التشبيه يتجلىسطح الصحراء العربية المنبسط، والخداع الوهمي للسراب.. ذلك الخداع، الذي لا يدركه إلا أبناء البيئة الصحراوية.
وأما تشبيهها بالظلمات الكثيفة فيكون لمن لا يعرف شيئًا عن البيئة الصحراوية وأسرارها؛ لأنه يترجم- على عكس الأول- عن صورة، لا علاقة لهابالوسط الجغرافي للقرآن الكريم؛ بل لا علاقة لها بالمستوى العقلي، أو المعارف البحرية في العصر الجاهلي؛ وإنما هي في مجموعها منتزعة من بعض البلدان الشمالية التي يغشاها الضباب الكثيف، وتحيط بها مياه البحار والمحيطات من كل جانب. هذا ما يشير إليه تشبيه الأعمال بالظلمات الكثيفة في أعماق البحار نتيجة لتراكب الأمواج والسحاب. وذلك يستلزم من القائل أن يكون على معرفة علمية بالظواهر الخاصة بقاع البحار، وهي معرفة، لم تُتَحْ للبشرية، إلا بعد معرفة جغرافية المحيطات، ودراسة البصريات الطبيعية.
وغني عن البيان أن نقول: إن العصر القرآني كان يجهل كلية تراكب الأمواج، وظاهرة امتصاص الضوء، واختفائه على عمق معين في الماء. وعلى ذلك فما كان لنا أن ننسب هذا القول إلى عبقرية صنعتها الصحراء، ولا إلى ذات إنسانية صاغتها بيئة قاريَّة؛ كالتي عاش فيها محمد عليه الصلاة والسلام.. وهذا إعجاز جاء به القرآن الكريم إلى جانب إعجازاته الكثيرة.
" كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ "
و" بَحْرٍ لُّجِّيٍّ "منسوب إلى اللجَُّّة؛ وهو الذي لا يكاد يدرك قعره. ولُجَّة البحر: تردُّد أمواجه. قال تعالى:" قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً "(النمل:44). والجمع: لجج.تقول العرب : إلتجَّ البحر . أي : تلاطمت أمواجه.
و" يَغْشَاهُ مَوْجٌ ". أي: يستره ويغطيه. قال تعالى:" وإذا غشيهم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ "(لقمان:32). أي: علاهم موج كالجبال. ومثله قوله تعالى:" فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ "(طه:78). والموج في البحر ما يعلو من غوارب الماء.
و" مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ". أي: من فوق ذلك الموج، الذي يغشى البحر اللجي موج آخر، ومن فوق هذا الموج الآخر سحاب. والسحاب هو الغيم، كان فيه ماء، أو لم يكن. ولهذا يقال: سحاب جَهَامٌ. أي: لا ما فيه. ويقال عكسه: سحاب ثِقال. قال تعالى:" هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ "(الرعد:12). أي: المحمل بالمطر. وقد يذكَّر لفظه، ويراد به الظلُّ والظلمة؛ كما في هذه الآية:" مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ".
وقرأ جمهور السبعة:" سَحَابٌ "، بالرفع والتنوين، و" ظُلُمَاتٌ "، بالرفع على معنى: هي ظلماتٌ. وقرأ ابن كثير في رواية قنبل:" سَحَابٌ "، بالرفع والتنوين، و" ظُلُمَاتٍ"، بالخفض على البدل من" ظُلُمَاتٍ " الأولى. وقرأ ابن محيصن والبزي:" سَحَابُ ظُلُمَاتٍ "، بإضافة سحاب إلى ظلمات. ووجه الإضافة أن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات، فأضيف إليها لهذه الملابسة.
ويرى العلماء أن أسباب وجود هذه الظلمات في البحار اللجيَّة ترجع في الحقيقة إلى سببين رئيسين:(1/170)
أما السبب الأول فهو العمق. فإن الجزء المرئي من أشعة الشمس، الذي ينفذ إلى كتل الماء في البحار والمحيطات،يتعرض لعمليات كثيرة من الانكسار , والتحلل إلى الأطياف المختلفة، والامتصاص بواسطة كل من جزيئات الماء , وجزيئات الأملاح المذابة فيه , وبواسطة المواد الصلبة العالقة به , وبما يحيا فيه من مختلف صور الأحياء , وبما تفرزه تلك الأحياء من مواد عضوية ؛ ولذلك يضعف الضوء المار في الماء بالتدريج مع العمق .
والطيف الأحمر هو أول ما يمتص من أطياف الضوء الأبيض. ويتم امتصاصه بالكامل على عمق، لا يكاد يتجاوز العشرين مترًا . فلو أن غواصًا جرح، وهو يغوص في ماء البحر، فإن الدم، الذي يخرج منه يكون أسودًا؛ لأن اللون الأحمر ينعدم تمامًا، ويصبح هناك ظلمة اللون الأحمر.ويليه الطيف البرتقالي، الذي يتم امتصاصه على عمق ثلاثين مترًا. ثم يليه الطيف الأصفر، الذي يتم امتصاصه زرق اللون، لتشتت هذا الطيف من أطياف الضوء الأبيض في المائتي متر العليا من تلك الكتل المائية .
وبذلك فإن معظم موجات الضوء المرئي تمتص على عمق مائة متر تقريبًا من مستوي سطح الماء في البحار والمحيطات , ويستمر1% منها إلى عمق مائة وخمسين مترًا , و 0,01% إلى عمق مائتيْ مترٍ في الماء الصافي الخالي من العوالق .
وعلى الرغم من السرعة الفائقة للضوء, فإنه لا يستطيع أن يستمر في ماء البحار والمحيطات لعمق يزيد على الألف متر , فبعد مائتي متر من أسطح تلك الأوساط المائية يبدأ الإظلام شبه الكامل؛ حيث لا ينفذ بعد هذا العمق سوى أقل من 0,01% من ضوء الشمس , ويظل هذا القدر الضئيل من الضوء المرئي يتعرض للانكسار والتشتت والامتصاص حتى يتلاشى تمامًا على عمق، لا يكاد يصل إلي كيلومتر واحد تحت مستوى سطح البحر ؛ حيث لا يبقى من أشعة الشمس الساقطة على ذلك السطح سوى واحد من عشرة تريليون جزء منها . ثم تغرق أعماق تلك البحار والمحيطات بعد ذلك في ظلام دامس .
وأما السبب الثاني فهو الحواجز من الموج الداخلي، والموج الخارجي، والسحاب. فهذه كلها حواجز، تمنع مرور الشعاع الضوئي إلى الأسفل.
والموج الداخلي هو الذي يعلو البحر اللجِّي ويغطيه، ويعكس معظم ما بقي من الأشعة الشمسيةالساقطة على أسطح البحار والمحيطات , ويحول دون الوصول إلى أعماقها. وبذلك يكون السبب الرئيس في إحداث الإظلام التام فوق قيعان البحار اللجية. ويتكون هذا الموج الداخلي عند الحدود الفاصلة بين كل كتلتين مائيتين مختلفتين في الكثافة . ويبدأ تكونه على عمق أربعين مترًا تقريبًا من مستوى سطح الماء في المحيطات؛ حيث تبدأ صفات الماء فجأة في التغير من حيث كثافتها ودرجة حرارتها , وقد تتكرر على أعماق أخرى، كلما تكرر التباين بين كتل الماء في الكثافة .
ومن فوق هذا الموج الداخلي موج آخر، يسمَّى بالموج السطحي، الذي يعدُّ أحد العوائق أمام مرور الأشعة الشمسية. وبذلك يعد أحد الأسباب في إحداث ظلمة تلك الأعماق , بالإضافة إلى تحلل تلك الأشعة إلي أطيافها، وامتصاصها بالتدريج في الماء .
ومن فوق هذا الموج السطحي يأتي السحاب، الذي يمتص حوالي تسعة عشر جزءًا بالمائة من الأشعة الشمسية المارة من خلاله. ويحجب بالانعكاس والتشتيت نحو ثلاثين جزءًا بالمائة منها , فيحدث قدرًا من الظلمة النسبية، التي تحتاجها الحياة على سطح الأرض . وبذلك تجتمع ظلمة الموج الداخلي، وظلمة الموج السطحي، وظلمة السحاب مع ظلمات الأطياف السبعة، التي يحدثها امتصاص الماء لتلك الأطياف.
والله سبحانه عندما يصف هذه الظلمات، ينسبها إلى عمق البحر اللجي:" كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ".
ثم يقول سبحانه:" ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ "؛ وكأنه يقول لنا: هذه الظلمات الكثيفة المتراكبة سببها الأعماق، وسببها الحواجز. ومن المعروف أن لفظ " ظُلُمَاتٌ " من جموع القلة. وجمع القلة من ثلاثة إلى عشرة. فأنت تقول: ظلمة، وظلمتان، وثلاث ظلمات إلى عشر ظلمات. والظلمات التي تتحدث عنها الآية الكريمة هي عشر ظلمات: سبع منها للألوان، وثلاث للحواجز(الأمواج الداخلية، والأمواج السطحية، والسحاب).
ثم عقب سبحانه على ذلك بقوله:" إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا "مبالغة في بيان شدة هذه الظلمات. والمعنى: إذا أخرج من ابتليَ بهذه الظلمات يده من كمِّه، لم يكد يراها. وجاز إضمار الفاعل- هنا- من غير أن يتقدم ذكره، لدلالة المعنى عليه دلالة واضحة. وكذا تقدير ضمير يرجع إلى ظلمات. واحتيج إليه؛ لأن الجملة في موضع الصفة لظلمات، ولا بد لها من رابط. وقيل: ضمير الفاعل عائد على اسم الفاعل المفهوم من الفعل. أي: إذا أخرج المخرج فيها يده، لم يكد يراها.(1/171)
واختلف علماء اللغة والتفسير في قوله تعالى:" لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا "؛ هل يقتضي أن هذا الرجل المقدر في هذه الأحوال، إذا أخرج يده من كمِّه، لم يرها البتة. أو رآها بعد عسر وشدة ؟ فقالت فرقة: لم يرها البتة؛ وذلك أن { كاد } معناها: قارب؛ فكأنه قال:" إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ "، لم يقارب رؤيتها. وهذا يقتضي نفي الرؤية جملة. وقالت فرقة: بل رآها بعد عسر وشدة، وكاد أن لا يراها. ووجه ذلك: أن { كاد }، إذا صحبها حرف النفي، وجب الفعل الذي بعدها. وإذا لم يصحبها، انتفى ذلك الفعل.
وهذا القول يكون لازمًا، إذا كان حرف النفي بعد { كاد } داخلاً على الفعل، الذي بعدها. تقول: كاد زيد يقوم، فالقيام منفي. فإذا قلت: كاد زيد أن لا يقوم، فالقيام واجب واقع. وتقول: كاد النعام يطير. فهذا يقتضي نفي الطيران عنه. فإذا قلت: كاد النعام أن لا يطير، وجب الطيران له.
أما إذا كان حرف النفي مع { كاد }، فالأمر محتمل، مرة يوجب الفعل، ومرة ينفيه. تقول: المريض لا يكاد يسكن. فهذا كلام صحيح، تضمن نفي السكون. وتقول: رجل متكلم لا يكاد يسكن. فهذا كلام صحيح، يتضمن إيجاب السكون بعد جهد. ويشهد لذلك قوله تعالى:"أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ "(الزخرف:52). أي: لا يكاد يظهر كلامه للثغته بالجمرة. التي تناولها في صغره.وقول تأبط شرًّا:
فأُبْتُ إلى فَهْمٍ، وما كِدْتُ آيِبًا *** وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
يقول: رجعت إلى قبيلتي فَهْمٍ، وكدت لا أرجع؛ لأنني شافهت التلَفَ.
ومما يحمل على الاحتمالين قوله تعالى:"فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ "(البقرة:71). أي: وما كادوا يذبحون. فكنَّى عن الذبح بالفعل؛ لأن الفعل يكنَى به عن كل فعل. والنفي مع { كاد }- هنا- يتضمن وجوب الذبح بعد جهد، ويتضمن نفيه البتة. وبيان ذلك أن جملة:" وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ " تحتمل الحال والاستئناف. والأول أظهر إشارة إلى أن مماطلتهم قارنت أول أزمنة الذبح.. وعلى الاستئناف يصح اختلاف الزمنين: زمان نفي المقاربة، وزمان الذبح؛ إذ المعنى: وما قاربوا ذبحها قبل ذلك. أي: وقع الذبح بعد أن نفى مقاربته. فالمعنى: أنهم تعسروا في ذبحها، ثم ذبحوها بعد ذلك. قيل: والسبب الذي لأجله ما كادوا يذبحون هو: إمَّا غلاء ثمنها، وإمَّا خوف فضيحة القاتل، وإمَّا قلة انقياد وتعنت على الأنبياء- عليهم السلام- على ما عهد منهم.
ونحو ذلك قوله تعالى في هذه الآية:" لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا "، فإنه نفيٌ مع " يَكَدْ " يتضمن- في أحد التأويلين- نفي الرؤية. ويتضمن- في الاحتمال الآخر وجوب الرؤية بعد عسر وشدة؛ فإن الكائن في ظلمات البحر اللجي،التي ما زال فيها شيء من ضوء، لا يرى يده إلا بصعوبة. لكن إذا غاص إلى الأعماق، التي تغرق في الظلام الشديد، ومد يده أمام عينيه، فإنه لا يراها أبداً. ولهذا، ونحوه قال سيبويه رحمه الله: إن أفعال المقاربة لها نحو آخر. بمعنى: أنها دقيقة التصرف. أما قول ابن الأنباري وغيره ممن اعتقد زيادة " يَكَدْ "، وأن المعنى: لم يرها، فليس بصحيح.
ثم يختم الله تبارك وتعالى الآية الكريمةبهذه الحقيقة المعنوية الكبرى، فيقول سبحانه:" وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ".ثم تفاجئنا البحوث العلمية أخيرًا بواقع مادي ملموس لهذه الحقيقة المعنوية , فقد كان العلماء إلى عهد قريب جدًا لا يتصورون إمكانية وجود حياة في أغوار المحيطات العميقة , للظلمة التامة فيها , وللبرودة الشديدة لمائها , وللضغوط الهائلة الواقعة عليها، وللملوحة المرتفعة أحيانا لذلك الماء ؛ ولكن بعد تطوير غوَّاصات خاصة لدراسة تلك الأعماق، فوجيء دارسو الأحياء البحرية بوجود بلايين الكائنات الحيَّة، التي تنتشر في تلك الظلمة الحالكة، وقد زودها خالقها بوسائل إنارة ذاتية في صميم بنائها الجسدي تعرف باسم الإنارة الحيوية.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا : من غير الله الخالق يمكنه أن يعطي كل نوع من أنواع تلك الأحياء البحرية العميقة , هذا النور الذاتي؟ وهنا يتضح البعد المادي الملموس لهذا النص القرآني المعجز , كما يتضح بعده المعنوي الرفيع : " وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ".
فمن لم ينوِّر الله تعالى قلبه بنوره، الذي أضاء الوجود كله، ويهديه إليه، فهو باق في ظلمات الجهل والغيِّ والضلال، لا يهتدي أبدًا. وكيف يهتدي، وهو لا يملك شيئًا من النور، الذي هو سبب الهداية ؟
ولتأكيد هذا المعنى جيء بعد" مَا " النافية بـ" مِن "، التي يدل وجودها على استغراق النفي وشموله لكل جزء من أجزاء النور. ولو قيل:" فَمَا لَهُ نُّورٍ "، بدون " مِن "، ما أفاد هذا المعنى، الذي دل عليه وجودها.
نسأل الله تعالى أن ينوِّر بصائرنا وأبصارنا بنور وجه، الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
===============
من أسرار البيان في أمثال القرآن: مثل المنافقين
بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك(1/172)
باحث لغوي في الإعجاز البياني
للقرآن الكريم ومدرس للغة العربية
قال الله تعالى:" مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ *صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ *أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدير " (البقرة:17- 20)
لمَّا أخبر الله تعالى في أوائل سورة البقرة عن أحوال المنافقين مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع القرآن الكريم، وبيَّن حقيقة مواقفهم منهما، وكشف عن مكنون صدورهم، وفضح نفاقهم، أراد سبحانه وتعالى أن يكشفَ عن تلك الأحوال، والمواقف كشفًا تامًّا، ويبرزَها في معرض المحسوس المشاهد؛ فأتبعها بضرب هذين المثلين، زيادة في التوضيح والتقرير، ومبالغة في البيان.
وهما مثلان لكلِّ من آتاه الله ضربًا من الهدى، فأضاعه ولم يتوصلْ به إلى نعيم الأبد، فبقيَ متحيِّرًا متحسِّرًا، يخبط في ظلمات الجهل والضلال. ويدخل في عمومه هؤلاء المنافقون؛ فإنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق، باستبطان الكفر وإظهاره حين خلَوا إلى شياطينهم، وكانوا غالبًا من أحبار اليهود، الذين كانوا يجدون في هؤلاء المنافقين أداة لتمزيق الصف الإسلامي وتفتيته؛ كما أن هؤلاء كانوا يجدون فيهم سندًا لهم وملاذًا.
"وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين "(البقرة:14-16).
هؤلاء المنافقون، الذين اشترَوا الضلالة بالهدى، والكفر بالإيمان، فخسروا كلتا الطلبتين؛ كأغفل ما يكون المتجرون، وفشلوا في تحقيق مآربهم الخبيثة، وأهدافهم الدنيئة، وحرموا أنفسهم من السعادة، التي رسم الله تعالى لهم طريقها، ثم غادروا دنياهم، وهم صفر اليدين من كل خير، مثقلون بأنواع الذنوب والآثام، كانوا- وما زالوا- أشدَّ خطرًا على الإسلام من الكافرين، الذين"خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ "(البقرة:7).
ولهذا جاءت آيات الله تعالى تنبِّه على صفاتهم، وتفضح نفاقهم، وتكشف عن حقيقتهم، وتحذر من خطرهم على المسلمين وعلىالكافرين؛ لئلا يغترَّ المؤمنون بظاهر أمرهم، فيقع لذلك فساد عريض من عدم الاحترازمنهم، ومن اعتقاد إيمانهم، وهم كفار في نفس الأمر. وهذا- كما قال ابن كثير- من المحذورات الكبار أن يظَن لأهل الفجور خير، فقال تعالى:" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ "(البقرة:8). أي: يقولون ذلك قولاً ليس وراءه شيء آخر، فكذبهم الله تعالى، ثم شرع يعدد صفاتهم، ويفضح نفاقهم، ويكشف عن زيغهم، وفساد قلوبهم، ويرد عليهم أقوالهم؛ وهم الذين حذّر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم منهم، بقوله سبحانه:" هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ "(المنافقون:4).
هؤلاءالمنافقون هم الذين ضرب الله تعالى لهم هذين المثلين، اللذين يصوران حقيقة أحوالهم،ويكشفان عن مكنون صدورهم، ويفضحان نفاقهم،ويرسمان ما كان يتولَّد في نفوسهم عند سماعهم القرآن من قلق واضطراب، وذعر وخوف، وحسرة وحيرة، وتيه وضلال، نتيجة كذبهم، وخداعهم، وتعاليهم، واستهزائهم، وتآمرهم.
والمنافقون الذين ضُرِب لهم هذان المثلان هم قسم واحد خلافًا لمن ذهب إلى أنهم قسمان، وأن المثل الأول منهما مضروب للقسم الأول، وهم الذين آمنوا، ثم كفروا، وأن الثاني مضروب للقسم الثاني، وهم الذين لا يزالون على نفاقهم، مترددين بين الإيمان والكفر. وخلافًا لمن ذهب إلى أن المثل الأول يخصُّ طائفة الكافرين، الذين قال الله تعالى في حقهم:" خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وّلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ "(البقرة:7). وأن المثل الثاني يخصُّ طائفة المنافقين، الذين قال الله تعالى في حقهم:" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ "(البقرة:8)؛ لأنالمنافقين، وإن كانوا- على ما قيل- قسمين: أئمة، وسادة مردوا على النفاق، وأتباع لهم كالبهائم والأنعام، فإن الأوصاف، التي ذكرت في الآيات السابقة من سورة البقرة هي أوصاف رءوس النفاق، لا أوصاف أتباعهم، وإن كانت تشملهم جميعًا؛ وهم المشار إليهم بقوله تعالى:(1/173)
" أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين "(البقرة:14).
المثل الأول: مثل المنافقين مع رسول الله(x)
" مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ " (البقرة:17- 18)
وهو مثل يصور حقيقة المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومواقفهم منه بصورة طائفة من الناس مع الذي استوقد نارًا في ليلة شديدة الظلمة. فلما حصل لهم نور من ضوء تلك النار، ذهب الله بنورهم، وتركهم يخبطون في ظلمات بعضها فوق بعض؛ لأنهم آثروا الظلمة على النور، والضلالة على الهدى.. كذلك كان حال المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجمهور المفسرين على القول إن مثل المنافقين، ومثل الذي استوقد نارًا معناه: صفتهم العجيبة كصفته. وذهب الزمخشري إلى أن المعنى: حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارًا.وهذا القول يرجع إلى القول الأول. وذهب ابن عطية إلى أن المعنى: أن الذي يتحصل في نفس الناظر في أمرهم كمثل الذي يتحصل في نفس الناظر في أمر المستوقد.
ولكن ظاهر لفظ المثل يقتضي أن يكون للمنافقين مَثَلٌ مطابق لهم في تمام أحوالهم، وأن يكون للذي استوقد نارًا مَثَلٌ مطابق له في تمام أحواله. وكلاهما معنى معلوم موجود في الذهن، الأول معقول، والثاني محسوس. وما بينهما وجه شبه، دلت عليه كاف التشبيه؛ وكأنه قيل: هذا المثل كهذا المثل. أي هذا المثل يشبه هذا المثل في بعض أحواله وصفاته.
ولو لم يكن في الكلام هذه الكاف، لكان بين المثلين تماثلٌ، أو تطابق في تمام الأحوال والصفات؛ لأن التقدير- حينئذ- يكون: مَثلهم مَثلُ الذي استوقد نارًا. ولكن وجود الكاف حصَّن المعنى من هذا التأويل، الذي ذهب إليه بعض النحاة والمفسرين، حين حكموا على هذه الكاف بالزيادة.
وننظر فيما بين المثلين من وجه شبَه:
فنرى في المثل الأول- وهو المشبه- أن المنافقين كانوا في زمرة الكافرين، ثم إنهم أعلنوا إيمانهم للنبي صلى الله عليه وسلم، واتخذوا هذا الإيمان، جُنَّة يتَّقون بها يد المؤمنين إذا هي علَت على الكافرين، وأنزلتهم على حكمهم، وذريعة يتوصَّلون بها إلى ما قد يفيءُ الله على المؤمنين من خير؛ فكان أن فضح الله نفاقهم، وجاءت آياته، تنزع عنهم هذا الثوب، الذي ستروا به هذا النفاق.
ونرى في المثل الثاني- وهو المشبه به- أن الذي استوقد نارًا كان واحدًا في جماعة، في ليل شديد الظلمة، فاستوقد نارًا. أي: طلب أن توقد له. ولما أوقدت النار، وأضاءت ما حوله، واجتمع القوم على ضوئها، الذي بدَّد بنوره ظلام الليل الحالك، ذهب الله تعالى بنور طائفة مخصوصة منهم، فلم يرَوا ما حولهم، ولم يعرفوا وجه الطريق الذي يسلكون، فركبتهم الحَيْرة، وقيَّدهم العمى والضلال. كذلك كان حال المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير:”وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا، ثم كفروا؛ كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع، والله أعلم. وقد حكى هذا الذي قلناه الرازي في تفسيره عن السدي، ثم قال: والتشبيه ههنا في غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولاً نورًا، ثم بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك، فوقعوا في حيرة عظيمة؛ فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين “.
وأضاف ابن كثير قائلاً:”وزعم ابن جرير الطبري أن المضروب لهم المثل- ههنا- لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى:" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ "(البقرة:8).
والصواب: أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سلبوه، وطبع على قلوبهم. ولم يستحضر ابن جرير هذه الآية- ههنا- وهي قوله تعالى:" ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ "(المنافقون:3)؛ فلهذا وجَّه هذا المثل بأنهم استضاءوا بما أظهروه من كلمة الإيمان. أي: في الدنيا، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة“.
ونقرأ قوله تعالى:" مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ"، فنجد فيه لمحة، من لمحات الإعجاز البياني، نجدها في هذا التخالف بين أجزاء الصورة، في المشبه به؛ حيث كان الظاهر أن يقال:"مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا. فلما أضاءت ما حولهم، ذهب الله بنورهم ".
أو يقال:"مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا. فلما أضاءت ما حوله، ذهب الله بنوره ".
وبذلك يتم التطابق بين أجزاء الصورة.(1/174)
ولكن جاء النظم المعجز في الآية الكريمة على خلاف هذا الظاهر. وللنحاة والمفسرين، في تفسير ذلك والتعليل له، أقوالٌ أشهرُها: أن" الَّذِي "- هنا- مفرد في اللفظ، ومعناه على الجمع؛ ولذلك قال تعالى:" ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ "، فحمِل أول الكلام على الواحد، وآخره على الجمع. والتقدير: مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا، فلما أضاءت ما حولهم، ذهب الله بنورهم.
وقيل: إنما وُحِّد "الَّذِي "، وما بعده؛ لأن المستوقد كان واحدًا من جماعة، تولّى الإيقاد لهم، فلما ذهب الضوءُ، رجع عليهم جميعًا.
وذهب بعضهم إلى القول بأن جواب " فلَمَّا "محذوف للإيجاز، تقديره: خمدت، أو طفئت. وأن قوله تعالى:" ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ " كلام مستأنف، راجع إلى بيان حال الممثل.
ولكن هذا كله ممَّا يفسد المعنى؛ حيث يَقضي بهذا الحكم على مستوقد النار، فيذهب بنوره، الذي رفعه لهداية الناس؛ وحيث يقع هذا الحكم على غير المنافقين، من طالبي الهدى عنده. والصورة، التي رسمتها الآية الكريمة، تأخذ المنافقين وحدهم بجرمهم، فتحرمهم الإفادة من هذا النور، الذي ملأ الوجود من حولهم، ثم لا تحرم المهتدين ما أفادوا من هدى.
وجاء في حاشية الكشاف عن جواب" فَلَمَّا "قول ابن المنير:” فالظاهر أن يجعل" ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ "جواب" فَلَمَّا "، إلا أن فيه مانعًا لفظيًّا، هو توحيد الضمير في" اسْتَوْقَدَ"و" حَوْلَهُ"، وجمعه في" بِنُورِهِمْ". ومعنويَّا، وهو أن المستوقد لم يفعل ما يستحق به إذهاب النور، بخلاف المنافق؛ فجَعْلُهُ جوابًا يحتاج إلى تأويل “.
وتأويله ليس على ما تقدم من أقوال؛ وإنما تأويلهعلى ما ذكرنا أن هذا "الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا "كان واحدًا في جماعة معه، استدعى إيقاد النار. أي: طلبه، وسعى في تحصيله، فلما أوقِدت له النار وأضاءت ما حوله واجتمع القوم على ضوئها، ذهب الله بنور طائفة مخصوصة منهم.
كذلك كان شأن المنافقين وحالهم، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المبعوث هدًى ورحمة للعالمين، كذبٌ ونفاق وخداعٌ وإفساد واستهزاء، فكان أن وقعوا في ضلالتهم، التي اشتروها بالهدى، وخبطوا في مستنقع الحيرة، التي أدهشتهم؛ولهذا كذبهم الله تعالى بادعائهم الإيمان، وذمَّهم بأنهم دخلوا في الإيمان، ثم خرجوا منه بقوله الله تعالى:
"إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ "(المنافقون:1-3).
وبذلك يكون الغرض من هذا التمثيل: تشبيه مثلالمنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثل القوم مع الذي استوقد نارًا، وما حصل لهم من إذهاب نورهم؛ لأنهم آثروا الظلمة على النور.
وتقدير الكلام: مثل المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كمثل قوم اجتمعوا مع غيرهم على ضوء نار، استوقدها رجل منهم. فلما أضاءت ما حوله وحصل لهم نور من ضوء هذه النار، ذهب الله بنورهم، وتركهم في ظلمات لا يبصرون. فحذف من المشبه ما أثبت نظيره في المشبه به، وحذف من المشبه به ما أثبت نظيره في المشبه. وقد طوي ذكركل منهما اعتمادًا على أن الأفهام الصحيحة، تستخرج ما بين المشبه، والمشبه به من المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه وأتمه. وهذا من ألطف أنواع البديع وأبدعها.
وبهذا الفهم لمعنى الآية الكريمة يكون قوله تعالى:" الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا "مثلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون قوله تعالى:" ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ "مثلاً للمنافقين.ويدل على ذلك ما رواه الشيخان في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله:” إنما مَثلي ومَثل أمتي؛ كمَثل رجل استوقد نارًا. فجعلت الدوابُّ، وهذه الفراش، يقعْن فيها. فأنا آخذٌ بحِجْزكم، وأنتم تُقحَمون فيها “.
وفي رواية أخرى:” إنما مَثلي ومَثل الناس؛ كمَثل رجل استوقد نارًا. فلما أضاءت ما حوله، جعل الفراش، وهذه الدواب، التي تقع في النار، يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه، فيقتحمن فيها.. فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقحمون فيها “.
فمثَّل- عليه الصلاة والسلام- نفسه برجل استوقد نارًا، ومثل الناس، الذين لم ينتفعوا بضوء النار بالفراش والدوابِّ، التي تقع في النار.
فليس بعد هذا البيان لمدَّع أن يدَّعي أن الذي استوقد نارًا مثلٌ للمنافق، وأن ناره، التي استوقدها خمدت. وكيف يكون منافقًا من أضاء بناره الوجود من حوله، ثم يُؤخَذ بجرم المنافقين؟ وكيف يحكم على ناره، التي استوقدها لهداية الناس بالخمود والانطفاء.. هذه النار، التي أوقدها الله تعالى؛ ليهتدي بنور ضوئها كل موجود في هذا الوجود؟!(1/175)
ونقرأ قوله تعالى:" ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ "، فنجد لمحة أخرى، من لمحات الإعجاز البياني؛ حيث كان الظاهر أن يقال:{ أذهب الله نورَهم }، وكذا قرأ اليمانيُّ. أو يقال:{ ذهب الله بنارهم، أو بضوئهم }.
ولكنَّ الله تعالى، لم يقل هذا، ولا ذاك؛ وإنما قال:" ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ "، فأسند سبحانه الذهاب إليه حقيقة، لا مجازًا، واختار النور، على النار وضوئها.
أما إسناد الذهاب إليه سبحانه فللدِّلالة على المبالغة؛ ولذلك عُدِّيَ الفعل بالباء، دون الهمزة، لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك.. وبيان ذلك:
أنه إذا قيل: ذهب الشيءُ، فمعناه: مضى إلى رجعة، أو غير رجعة؛ قوله تعالى:" وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ "(الصافات:99). وقوله تعالى:" فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ "(هود:74).
وإذا قيل: أذهبَ فلانٌ الشيءَ، فمعناه: أزاله من الوجود، وجعله ذاهبًا؛ ومنه قوله تعالى:"إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ "(إبراهيم:19).
فإذا قيل: ذهبَ فلانٌ بالشيء، يُفهَمُ منه: أنه استصحبه معه، وأمسكه عن الرجوع إلى الحالة الأولى، التي كان عليها؛ وكأنه التصق به التصاقًا. وليس كذلك: أذهبه؛ ومنه قوله تعالى في يوسف عليه السلام:" فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ "(يوسف:15).
فثبت بذلك: أنَّ{ ذهب بالشيءِ }أبلغ من { أذهب الشيءَ}، وأصلهما جميعًا: الذهاب، الذي هو المُضِيُّ. وكلاهما متعدٍّ إلى المفعول: الأول بنفسه، والثاني بوساطة الباء؛ ولهذا لا يجوز القول بزيادة هذه الباء، وأن المعنى معها، وبدونها سواء.
وأما اختيار النور على النار وضوئها فلأنه المراد من استيقاد النار؛ إذ هو أعظم منافعها، ولكونه الأنسب بحال المنافقين، الذين حُرموا الانتفاع والإضاءة، بما جاء من عند الله، ممَّا سمَّاه الله نورًا في قوله:" َقدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ "(المائدة:15)؛ فكأنَّ الله عزَّ شأنه أمسك عنهم النور، وحرمهم الانتفاع به، ولم يسمِّه سبحانه ضوءًا، أو نارًا؛ لتتأتَّى هذه الإشارة.
والنار جَوهرٌ، لطيفٌ، نيِّرٌ، واشتقاقها من نار ينور، إذا نفر؛ لأن فيها حركة واضطرابًا،وتنكيرها للتفخيم. ومن أخصِّ أوصافها: الإحراقُ والإضاءةُ.والإضاءة: فرط الإنارة. يقال: ضاءت النار، وأضاءت، وأضاءها غيرُها، وما انتشر منها يسمى: ضوءًا. والفرق بينه، وبين النور: أن الضوء ما يكون للشيء لذاته؛ كما للشمس. والنور ما يكون من غيره؛ كما للقمر. ومصداق ذلك قوله تعالى:" هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً "(يونس:5)
هذا وقد اشتهر في العرف أن الضوء، ينتشر من المضيء إلى مقابلاته، فيجعلها مستضيئة؛ ولهذا قال تعالى:" فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ "، فأضاف النور إلى المنافقين، الذين اجتمعوا على ضوء هذه النار، مع المجتمعين. فلو قيل: ذهب الله بضوئهم، أفاد ذلك أن لهؤلاء المنافقين ضوءًا؛ كما أن للنار والشمس ضوءًا. وهذا باطل. فهم مستضيئون، لا مضيئون. وما انعكس عليهم من ضوء النار، نتيجة استضاءتهم به هو نورهم، الذي أمسكه الله تعالى عنهم، وحرمهم من الانتفاع به. ولو قيل: ذهب الله بنارهم، لفُهِم منه أن النار هي نارهم، وأنهم هم الذين أوقدوها. وهذا خلاف المراد.
وقوله تعالى:" وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ " عطفٌ على قوله:" ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ". ويُستفاد منه التأكيد والتقرير، لانتفاء النور عنهم بالكليَّة، تِبْعًا لما فيه من ذكر الظلمة المنافية للنور، ثم إيرادِ ما يدل على أنها ظلمة، لا يتراءى فيها شبحان. والقصد من هذا التأكيد والتقرير زيادة إيضاح الحالة، التي صاروا إليها.
أما قوله تعالى:" وَتَرَكَهُمْ " فهو إشارة إلى تحقيرهموعدم المبالاة بهم، لما فيه من معنى الطرح للمتروك. و" ظُلُمَاتٍ " جمع: ظلمة. والظلمة هي عدم النور. وقيل: هي عرض ينافي النور. واشتقاقها من قولهم: ما ظلمك أن تفعل كذا: أي ما منعك وشغلك؛ لأنها تسدّ البصر وتمنع الرؤية. وقرأ الحسن:" ظُلْمَاتٍ "، بسكون اللام.وجمعها وتنكيرها، لقصد بيان شدتها؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم:” الظلم ظلمات يوم القيامة“؛ فإن الكثرة، لما كانت في العرف سبب القوة، أطلقوها على مطلق القوة، وإن لم يكن ثمَّة تعدد، ولا كثرة.
ومن اللطائف البديعة أن{ الظلمة }حيثما وقعت في القرآن، وقعت مجموعة، وأن{ النور }حيثما وقع، وقع مفردًا.ولعل السبب هو أن الظلمة، وإن قلَّت، تستكثر. وأن النور، وإن كثُر، يُستقلّ ما لم يضرَّ. وأيضًا فكثيرًا ما يشار بهما إلى نحْو الكفر والإيمان. والقليل من الكفر كثيرٌ، والكثير من الإيمان قليلٌ، فلا ينبغي الركونُ إلى قليل من ذاك، ولا الاكتفاء بكثير من هذا.(1/176)
وفي ذلك تأكيد على أن الظلمات المذكورة هي ظلمة واحدة، لا متعددة؛ ولكنها لشدتها استعير لها صيغة الجمع مبالغة.. والدليل على ذلك قراءة اليماني:" وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَة "، على التوحيد.
ومفعولقوله:" لَا يُبْصِرُونَ " محذوف لقصد عموم نفي المبصرات، فتنزل الفعل منزلة اللازم، ولا يقدَّر له مفعول؛ كأنه قيل: لا إحساس بصر لهم. وهذا ما أشار إليه الزمخشري بقوله:” والمفعول الساقط من" لاَّ يُبْصِرُونَ "من قبيل المتروك المُطرَح، الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال، لا من قبيل المقدر المنوي، كأنَّ الفعل غير متعدٍّ أصلاً؛ نحو" يَعْمَهُونَ "في قوله تعالى:" وَيَذَرُهُمْ فِيْ طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ " “.
وفي نفي الفعل بـ"لا "دلالة على طول النفي وامتداده، واستحالة وقوع المنفي بها أبدًا. وفي إطلاق فعل الإبصار، دون تقييده بمفعول محدد دلالة على أنهم في عمًى تام، لا يبصرون شيئًا؛ ولهذا أتبِع بقوله تعالى:" صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ".
أما قوله تعالى:"صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ "فقيل: مرفوع على الاستئناف، على أنه خبر واحد لمبتدأ محذوف، هو ضمير المنافقين. أو أخبار، وتؤول إلى عدم قبولهم الحق.أي: هم صم بكم عمي.
وإذا كان ظاهر اللفظ يوحي بأنهم متصفون بالصمم، والبكم، والعمى، فإن الله تعالى قد بيّن في موضع آخر أن معنى صممهم، وبكمهم، وعماهم هو عدم انتفاعهم بأسماعهم، وقلوبهم، وأبصارهم، فقال جلّ جلاله:
" وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَيْء إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ ِبآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون"(الأحقاف:26).
فدل ذلك على أنهم، وإن كانوا سمعاء الآذان، فصحاء الألسن، بصراء الأعين، إلا أنهم لمَّا لم يصيخوا للحق، وأبت أن تنطق بسائره ألسنتهم، ولم يتلمحوا أدلة الهدى المنصوبة في الآفاق والأنفس، وصفوا بما وصفوا به من الصمم والبكم والعمى؛ كقوله:
صُم إذا سَمِعُوا خَيْراً ذُكِرْتُ بِه *** وإنْ ذُكِرْتُ بُسوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
وقيل: الآية هي تتمَّة للتمثيل، وتكميل له بأن ما أصابهم ليس مجرد ذهاب نورهم،وبقائهم في ظلمات كثيفة هائلة، مع بقاء حاسة البصر بحالها؛ بل اختلت مشاعرهم جميعًا، واتصفوا بتلك الصفات على طريقة التشبيه، أو على الحقيقة؛ إذ لا يبعد- كما قيل- فقد الحواس ممن وقع في ظلمات مخوفة هائلة؛ إذ ربما يؤدي ذلك إلى الموت، فضلاًعن ذلك.
ويؤيد كونها تتمة للتمثيل، وتكميلاً له قراءة ابنمسعود، وحفصة أم المؤمنين، رضي الله تعالى عنهما:"صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ " بالنصب. ونصبُه من وجهين: أحدهما:على معنى: تركهم صمّاً بكمًا عميًا. والثاني: على معنى الذم، فيكون كلامًا مستأنفًا. والعرب تنصب بالذمِّ وبالمدح؛ لأن فيه مع الأسماء مثل معنى قولهم: وَيْلاً له، وثَوَابًا له, وبُعْدًا وسَقْيًا ورَعْيًا.
ومثله على القراءتين قوله تعالى:" إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ "إلى قوله تعالى:" وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ "(التوبة:111). ثم قال جل وجهه:" التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحامِدُونَ.. "، بالرفع في قراءة الجمهور، وفى قراءة عبد الله بن مسعود:" التَّائِبُينَ الْعَابِدُينَ الْحامِدُينَ.. "(التوبة:112).
وكان ظاهر الكلام يقتضي أن يكون ترتيب هذه الصفات هكذا:" عميٌ، بكمٌ، صمٌّ "- كما في قوله تعالى:" وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً "(الإسراء:97)- ولكن جاء ترتيبها، على وفق حال المُمَثَّل له، خلافًا للظاهر:" صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ "؛ لأنه يسمع أولا دعوة الحقِّ، ثم يجيب ويعترف، ثم يتأمَّل ويتبصَّر.
وقيل: قدِّم الصَّمَم؛ لأنه إذا كان خَلقيًا يستلزم البَكَم، وأخِّر العمَى؛ لأنه- كما قيل- شامل لعمى القلب الحاصل من طرق المبصرات والحواس الظاهرة، وهو بهذا المعنى متأخر؛ لأنه معقول صِرْف، ولو توسَّط، حلَّ بين العصا ولحائها. ولو قدِّم، لأوهِم تعلقه بقوله:"لا يُبْصِرُونَ ".
وأما قوله تعالى:" فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ "فقيل: المراد به: أنهم لا يرجعون إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها. وكلاهما مبنيٌّ على أن وجه التشبيه في التمثيل مستنبط من قوله تعالى:"أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى "(البقرة:16).(1/177)
والصواب- على ما قيل- أن المراد به: أنهم لا يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه ما داموا على هذه الحال، على تقدير أن يكون من" ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ "بأن يراد به: أنهم غِبَّ الإضاءة خبطوا في ظلمة، وتورطوا في حيرة. فالمراد هنا: أنهم بمنزلة المتحيرين، الذين بقوا جامدين في مكانهم، لا يبرحون، ولا يدرون: أيتقدمون، أم يتأخرون؟ وكيف يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه، والأعمى لا ينظر طريقًا، والأبكم لا يسأل عنها، والأصم لا يسمع صوتًا من صوب مرجعه، فيهتدي به. أما الفاء في قوله تعالى:" فَهُمْ " فهي للدلالة على أن اتصافهمبما تقدم سبب لتحيرهم واحتباسهم، كيفما كانوا.
هذا هو مثل المنافقين، الذين لم يصحبهم نور الإيمان في الدنيا؛بل خرجوا منه وفارقوه،بعد أن استضاءؤا به، وهم يحملون أوزارهم. وهو مثل يصَوِّر تصويرًا دقيقًاأحوال أولئك المنافقين، الذين سلكوا طريق النفاق, وظنوا أنهم قادرون بذلك على أن يحافظوا على مكانتهم ومصالحهم لدى المؤمنين والكافرين، وأن ينضموا إلى الفئة الغالبة في نهاية المعركة؛ ولكن اللّه سبحانه سرعان ما فضح نفاقهم، وكشف عن مكنون صدورهم، وسلبهم النور، الذي باعوه بالضلالة، وتركهم يتيهون بين الوحشة والحسرة في ظلمات، لا خروج لهم منها ما داموا على هذه الحال!
ومن أظهر الأدلة على أن المراد بهذا المثل المنافقون أن الله تعالى قال هنا في حقهم:" صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ "(البقرة:18)، فسلب الرجوع عنهم؛ لأنهم آمنوا ثم كفروا، وفارقوا الإسلام بعد أن تلبسوا به، واستناروا بنوره، فهم لا يرجعون إليه، ما داموا على هذه الحال. وقال تعالى في حق الكافرين:" صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ "(البقرة:171)، فسلب العقل عن الكافرين؛ لأنهم لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان. وقال عنهم في آية أخرى:" إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ "(الأنفال:22).
المثل الثاني: مثل المنافقين في القرآن ومع القرآن
"أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " (البقرة : 19- 20)
هذا مثل آخر يصَوِّر أحوال المنافقين مع القرآن الكريم، ومواقفهم منه بصورة قوم، أخذتهم السماء في ليلة شديدة المطر،فيها ظلمات من السحب الكثيفة المتراكمة، مع رعد يقصف بالآذان، وبرق يأخذ بالأبصار، وصواعق يصحبها الهلاك والموت،فلقوْا من الهول والشدَّة ما لقَوا. وهو معطوف على المثل السابق:" مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ".
والتقدير في العربية:" مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا.. أَوْ مَثَلُهُمْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ.. ".أي: مثلهم كمثل هذا.. أو مثلهم كهذا. فأضمر"مَثَلُهُمْ " الثانية بعدَ "أَوْ " لدلالة "مَثَلُهُمْ " الأولى عليها. وحسَّن هذا الإضمار- هنا- العطف بـ"أَوْ " الفارقة أولاً، واختلاف الأحوال الممَثَّلة في المثلين ثانيًا. ولو كان العاطف هو{ الواو }، لما حسُن هذا الإضمار؛ لأن { الواو } تشرك بين المعطوفين في اللفظ والمعنى، بخلاف{ أَو }، التي تشرك بينهما في اللفظ فقط.
ولهذا لا يجوز العطف هنا بـ{ الواو }. والدليل على ذلك أنه لم يعطف بـ{ الواو } في مثل هذا التركيب، في موضع من المواضع، وكل ما ورد في القرآن، ورد معطوفًا بـ"أَوْ "؛ نحو قوله تعالى:
"وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ.. "(النور:39-40).
تقديره:أعمالهم كسراب.. أو أعمالهم كظلمات.
وقوله تعالى:" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ " إلى قوله:" أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا.. "(البقرة:258-259).
تقديره: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم.. أو ترَ كالذي مرَّ على قرية.
وكذلك قوله تعالى:" مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا.. أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ "، تقديره: مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا.. أو مثلهم كصيِّب من السماء.. فدل على أن للمنافقين حالان: حال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وحال مع القرآن الكريم. وبهذا يعلم أن الغرض من هذا التمثيل هو تمثيل حالة مغايرة للحالة التي مُثِّلتْفي التمثيل الأول.(1/178)
وعليه يكون التقسيم في التمثيلين لتنوع الأحوال، لا لتنوع الأشخاص. ولهذا عطف الثاني على الأول بـ"أَوْ "الفارقة، التي تؤذن بتساوي المثلين في استقلال كل منهما بوجه الشبه، وبصحة التمثيل بكل واحد منهما، وبهما معًا، لا بتساويهما في التمثيل، بخلاف الواو الجامعة.. يدلك على ذلك أنه لو قيل: مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا.. وكصيِّب.. لربما أوهم صحة التشبيه بمجموعهما، لا بكل واحد منهما، وحينئذ يعتقد أنهما مثل واحد، لا مثلان.
وإذا كان مثل المنافقين في التمثيل الأول قد شبِّه بمثل الذي استوقد نارًا، فإنه في هذا التمثيل قد شُبِّه بصيِّبٍ نزل من السماء ليلاً على قوم في مفازة، فيه ظلمات كثيفة متراكمة، مع رعد يقصف بالآذان، وبرق يأخذ بالأبصار، وصواعق يصحبها الموت والهلاك،فلقوْا من الهول والشدَّة ما جعلهم في حيرة من أمرهم، وقلق واضطراب، وذعر وخوف، وتيه وضلال. لا يدرون ماذا يفعلون في هذه الصحراء المكشوفة، التي لا ملجأ لهم فيها، ولا ملاذ من قصف الرعد، الذي يهدد أسماعهم, ونور البرق، الذي يكاد يخطف أبصارهم، وخطر الصواعق، الذي يهددهم في كل حين بتحويلهم إلى رماد؟!
كذلك كانت آيات القرآن الكريم حين تتنزَّل، تنخلع لها قلوب المنافقين، لمَا يتوقعون فيها من صواعق، تُدَمْدِم عليهم، وتفضح مكنون صدورهم.. فإذا تلقّى الرسول الكريم وحيًا من ربه جلَّ وعلا وأعلنه في أصحابه، اصطكَّت به أسماع المنافقين، وانخلعت له أفئدتهم هلعًا وفزعًا. فهم مع إظهارهم الإيمان، وإبطانهم الكفر كانوا في قلق شديد من أحكام القرآن وتبعاته ووظائفه؛ كما كانوا على طمع من التعلُّق بمنافعه الدنيوية وخيراته. وهم لا يزالون كذلك ينكمشون، أو يتوارون من تبعاته ووظائفه وزواجره، إذا أقبلت تواجههم، ويسرعون للاستفادة من ثماره، كلما لاحت لهم.
فنهوض المسلمين بواجبهم الجهادي المسلح بوجه أعداء الإسلام كان يشكل صواعق وحممًا، تنزل على رءوسهم، وانتشار الإسلام بسرعة كالبرق الخاطف قد أذهلهم، وآيات القرآن التي تفضح أسرارهم قد صعقتهم, وفي كل لحظة كانوا يحْذرون أن تنزل آية تكشف عن مكائدهم ونواياهم. وهذا ما عبَّرت عنه الآية الكريمة:" يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ "(التوبة:64).
وهم أيضًا في خوف دائم وفزع شديد من أن يأذن اللّه بمحاربتهم, وأن يحث القوة الإسلامية المتصاعدة على مجابهتهم؛ لأنهم كانوا يواجَهون بمثل هذه التهديدات القرآنية؛ كقوله تعالى:
" لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً "(الأحزاب:60).
"يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ "(المنافقون:4).
" وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ "(التوبة:57).
هذه الآيات وأمثالها كانت تنزل كالرعد والبرق والصواعق على المنافقين, وتتركهم في خوف وذعر وحيرة وقلق، وتضعهم أمام خطر الإبادة، أو الإخراج من المدينة في كل حين. ولهذا كانوا- كما قال ابن مسعود رضي الله عنه في رواية عنه- إذا حضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجعلون أصابعهم في آذانهم؛ لئلا يسمعوا القرآن، فضرب الله تعالى لهم هذا المثل.
والتمثيل- هنا- كما في التمثيل الأول مَسُوقٌ في تفصيل صوره وأجزائه مساق وصف قصصي- كما ترى- وهو من خصائص أمثلة القرآن، ثم هو مبني على تشبيه مجموع حالة بمجموع حالة أخرى دون النظر إلى مقارنة، أو تشبيه أجزاء الحالين ببعضهما.
وجمهور المفسرين على القول الأول، وعليه يكون الصَّيِّب مثلاً للقرآن، وما في الصَّيِّب من الظلمات مثلاً لمَا في القرآن من ذكر الكفر والنفاق، وما فيه من الرعد مثلاً لما في القرآن من زجر ووعيد، وما فيه من البرق مثلاً لما في القرآن من النور والحجج الباهرة، وما فيه من الصواعق مثلاً لما في القرآن من تكاليف الشرع، التي يكرهونها؛ كالجهاد، والصلاة، والزكاة، ونحو ذلك. أما جعلهم أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت فهو مثل لتخوفهم وروعهم من فضح نفاقهم، والكشف عن حقيقتهم.
ويجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى" أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ":{ أو مَثَلُهُم كَمَثَلِ صَيِّب }، فيقدرون لفظ "مَثل "عقب كاف التشبيه. ومنهم من جعل تقديره أمرًا مسلمًا، يقتضيه العطف على السابق. وذهب بعضهم إلى أن تقديره أوْفى في تأدية المعنى، وأشدُّه ملاءمة مع المعطوف عليه..وعليه يكون أصل الكلام:" مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا.. أو مثلهم كمثل صيِّب من السماء "(1/179)
ثم حذِف " مَثَلُ"المقدرة عقب كاف التشبيه- كما قال الإمام الطبري- طلبَ الإيجاز والاختصار، اكتفاءً بدلالة ما مضى من الكلام، من إعادة ذكره.
ولكن هذه التأويل يُخلُّ بمعنى الكلام ونظمه، ويذهب بما فيه من روعة الإعجاز. وفرق كبير بين أن يكون تقدير"مَثلٍ "عقِب كاف التشبيه أوْفى بتأدية المعنى، وبين أن يكون مخلاًّ بالمعنى والنظم معًا. وكيف يحذف لفظ من القرآن يكون ذكره أوفى بتأدية المعنى؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلمَ لمْ يذكر هذا اللفظ- هنا- كما ذكر في المثل الأول؟ وهل يصلح ما قاله الإمام الطبري أن يكون جوابًا عن ذلك؟
أما ما قاله الإمام الطبري فيصلح أن يكون جوابًا لحذف"مَثلُهُمْ "عقب "أَوْ "العاطفة، وأما أن يكون لفظ "مَثَلٍ " مرادًا عقب الكاف، ثم حذف طَلبَ الإيجاز والاختصار، اكتفاء بذكره في المثل الأول، فليس كذلك؛ لأنه لا يجوز ذكره- هنا- لا لفظًا، ولا تقديرًا.
وعلى فرض أنه مراد في اللفظ، وأن أصل الكلام:" أو مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ صَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ "، فأيُّ اختصار مزعوم هذا الذي يطلب بحذفه، وأيُّ إيجاز هذا ؟ وسيتضح لك خطأ هذا الجواب، إذا علمت الفرق في المعنى بين قولنا:{ مَثلُ هذا كمَثلِ هذا }، وقولنا:{ مَثلُ هذا كهذا }.
وبيان ذلك أن القول الأول هو تمثيل بين وجودين علميين ذهنيين؛ كما سبق أن بيِّنا ذلك في المثل الأول. أما الثاني فهو تمثيل بين وجود علمي ذهني، ووجود علمي خارجي. ومن الأول قوله تعالى:" مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ.. "(الجمعة:5). ومن الثاني قوله تعالى:" إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ.. "(يونس:24).
وعلى القول الأول يحمل قوله تعالى:" مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا.."، وعلى القول الثاني يحمل قوله تعالى:"أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ.. "؛ لأن الغرض من المثل الأول هو تشبيه مثل المنافقين مع الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل جماعة مستوقد النار. وكلاهما معنى موجود في العلم والذهن. وللدلالة على هذا المعنى جيء بلفظ المثل في طرف كل من المشبه والمشبه به. أما الغرض من المثل الثاني فهو تشبيه مثل المنافقين مع القرآن الكريم بجماعة نزلوا فلاة ليلاً، فأصابهم مطر شديد. والأول موجود في العلم والذهن، والثاني موجود خارج الذهن. وللدلالة على هذا المعنى، جيء بلفظ المثل في طرف المشبه، دون المشبه به.. فتأمل!
ويدل على هذا الذي ذكرناه في المثل الثاني ما روي عن ابن مسعود- رضي الله عنه- من قوله:”كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر، الذي ذكر الله، وأيقنا بالهلاك، فقالا: ليتنا أصبحنا فنأتي محمدًا، ونضع أيدينا في يده، فأصبحا وأتياه وحسن إسلامهما، فضرب الله ما نزل بهما مثلاً للمنافقين“.
والصَيِّب هو المطر الشديد، الذي يَصُوب من السماء. أي: ينزل منها بسرعة، وهو مثل للقرآن الكريم؛ كما أن الذي استوقد نارًا-في المثل الأول- مثل لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وذهب بعضهم إلى أن المراد بالصيِّب السحاب. وهذا أوْلى من حمله على المطر، يدلك على ذلك: أن المطر، لا يكون محلاً للظلمات والرعد والبرق؛ وإنما يكون محلها السحاب؛ ولهذا قال تعالى:" فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ "، ولم يقل:{ مَعَهُ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ }. وأما من فسر"فِيهِ " بمعنى:{ مَعَهُ }فليس بشيء.
وفي الصيِّب مبالغات من جهة تركيبه، وبنائه، وتنكيره: أما من جهة تركيبه فالمراد به مادته الأولى، والثانية. أي: حروفه، واشتقاقه. أما حروفه فإن الصاد من المستعلية، والياء مشدَّدَة، والباء من الشديدة. وأما اشتقاقه فمن الصَّوْب، وهو نزولٌ له وقعٌ وتأثير. وأما من جهة بنائه. أي: صورته، فإن صيغة: فَيْعِل من الصيغ الدالة على الثبوت. وأما من جهة تنكيره فلأنه أريد به نوعٌ من المطر شديد هائل؛ كما نكِّرت النار في التمثيل الأول. ولهذا كله ناسب تشبيه القرآن الكريم به.
وقوله تعالى:" مِنَ السَّمَاءِ "متعلق بـ"كَصَيِّبٍ "، ومن لابتداء الغاية. والمراد بالسماء هذه المظلة، التي تظلنا، وهي- في الأصل- كل ما علاك من سقف ونحوه. وعن الحسن: أنها موج مكفوف. أي: ممنوع بقدرة الله عز وجل من السيلان. والمراد بها- هنا- الأفق،وتعريفها للاستغراق، فيفيد أن الغمام آخذ بالآفاق كلها، فيشعر بقوة المصيبة، مع ما فيه من تمهيد للظلمات. ولهذا القصد جاء ذكرها بعد الصيِّب؛ إذ كان يمكن أن يقال: كصيِّب فيه ظلمات ورعد وبرق. وقيل: يحتمل أن يكون ذكرها- أيضا- للتهويل، والإشارة إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم؛ وذلك أبلغ في الإيذاء؛ كما يشير إليه قوله تعالى:" فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ "(الحج:19).(1/180)
وقوله تعالى:" فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ "المراد بالظلمات: ظلمة السحمة، وظلمة التطبيق مع ظلمة الليل، على أن المراد بالصيِّب: السحاب المحمَّل بالمطر. وجيء بلفظَيْ الرعد والبرق مفردين، خلافًا للظلمات قبلهما، وللصواعق بعدهما. والسِّرُّ في ذلك أنهما- في الأصل- مصدران. والأصل في المصادر أن لا تجمع، وإن كان جمعها جائزًا في العربية، على أنه لو جُمِعا، دلَّ جمعهما ظاهرًا على تعدد الأنواع، وكلٌّ منهما نوع واحد.
وفي قوله تعالى:" يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ " تنبيه على أن ما صنعوه، من سدِّ الآذان بالأصابع، لا يغني عنهم شيئًا، وقد أحاط بهم الهلاك. وفيه أيضًا مبالغة في فرط دهشتهم، وكمال حيرتهم، من وجوه: أحدها: نسبة الجعل إلى الأصابع كلها، وهو منسوب إلى بعضها؛ وهو الأنامل. وثانيها: من حيث الإبهام في الأصابع. والمعهود إدخال السبابة؛ فكأنهم، من فرط دهشتهم، يدخلون أيَّ أصبع كان، ولا يسلكون المسلك المعهود. ثالثها: في ذكر الجعل موضع الإدخال؛ فإن جَعْلَ شيءٍ في شيء أدلُّ على إحاطة الثاني بالأول، من إدخاله فيه.
والصَّوَاعِقِ جمع: صاعقة. والظاهر أنها- في الأصل- صفة من الصَّعْق؛ وهو الصُّراخ، ثم صارت اسمًا لكل هائل مهلك مسموع، أو مشاهد. وتاؤها للمبالغة كراوية. أو مصدرًا كالكاذبة والعافية. يقال: صعقته الصاعقة: إذا أهلكته بالإحراق، أو شدَّة الصوت.وهي نار لطيفة حديدة. لا تمرّ بشيء إلا أتت عليه، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود. يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثم طفئت. ويقال: صعقته الصاعقة إذا أهلكته، فصعق؛ أي مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق. ومنه قوله تعالى:" وَخَرَّ موسَى صَعِقًا "(الأعراف:143).
وقرأ الحسن:" مِنَ الصَّوَاقِعِ "؛ وليس بقلب للصواعق، لأنَّ كلا البنائين سواء في التصرف. وإذا استويا، كان كل واحد بناءً على حياله. ألا تراك تقول: صقعه على رأسه، وصقع الديك، وخطيب مصقع: مجهر بخطبته.
وقد ثبت أن الأرض وما عليها مشحونة كهربيًا. وعندما تكون هناك سحب مشحونة بشحن كهربائية متناقضة، فإنه قد تنشأ شرارة كهربائية. والصوت الذي يُنشِئ هذه الشرارة يُسمَّى: رعدًا. وتتوقف شدة هذا الصوت على حجم السحب وقربها من الأرض. أما الضوء الذي ينشأ عن حدوث الشرارة فيسمى: برقًا. وقد تخترق هذه الشرارة الجو بسرعة هائلة، فتنزل إلى الأرض، فتحرق الأشجار، وغيرها، وتسمى حينئذ: صاعقة. قال تعالى:" فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِم "(النساء:153).
ويتسبب البرق، أو الصواعق البرقية في الكثير من الأضرار للمباني والتجهيزات الكهربائية. ولذلك نجد أن المباني عادة ما تُجهَّز بمانعات الصواعق، وهي وسائل لتفريغ الشحنة الكهربائية الضخمة الناتجة عن البرق.
وفي قوله تعالى:" وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ "إشارة إلى دورة من دورات المنافقين؛ حيث انتهى بهم تردُّدهم، بين الإيمان والكفر، إلى الكفر الغليظ. ولم يُجْدِ عنهم حَذرُهم، ولا تدبيرهم شيئًا؛ لأن الله تعالى محيطٌ بهم. أي: لا يفوتونه أبدًا؛ فهم في قبضته، وتحت قهره ومشيئته. والجملة اعتراضية منبهة على أن ما صنعوا من سد الآذان بالأصابع، لا يغنى عنهم شيئًا؛ فإن القدر لا يدفعه الحذر، والحيل لا ترد بأس الله عز وجل.
وقال تعالى:" مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ "، ولم يقل:{ مُحِيطٌ بِهِمْ }. أي: بالمنافقين؛ ليدخل في عمومه المشركون، والمنافقون، وغيرهم من الذين كفروا من أهل الكتاب. وللدلالة على ثبوت هذا المعنى ولزومه عبَّر عنه تعالى بالجملة الاسمية، دون الفعلية، لما فيها من دلالة على معنى الثبوت والدوام.
فإحاطته سبحانه بهم ثابتة، وعذابه لهم واقع لا محالة، ولا مَدْفَع لهم منه،في الدنيا، والآخرة؛ كما قال سبحانه وتعالى:"هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ *فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ *بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ *وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ "(البروج:17-20).
وقال تعالى:" يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ "، فأدخل الفعل " يَكَادُ "على جملة:" الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ "؛ ليدل بذلك على قرب وقوع الخبر، وأنه لم يقع. وأسند خطف الأبصار إلى البرق لِما في الخطف من معنى الأخذ، أو الاختلاس بسرعة، إضافة إلى معنىالمباغتة والمفاجأة؛ كما يشير إليه قوله تعالى في صفة الشياطين:" إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ "(الصافات:10)، فعبَّر عن استراق الشياطين للسمع بقوله:" خَطِفَ الْخَطْفَةَ ". ومنه سُمِّيَ الطيرُ خطَّافًا لسرعته؛ ولهذا أسند فعل الخطف إلى الطير في قوله تعالى:" وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيق "(الحج:31).(1/181)
وعليه يكون معنى قوله تعالى" يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ": يأخذها بسرعة؛ وكأنه يختلسها اختلاسًا. فلو قيل: يأخذ أبصارهم، لمَا أفاد هذا المعنى، الذي يفيده الخطف، الذي يتجدد حدوثه باستمرار؛ كما تدل عليه صيغة الفعل الحاضر.
ويتضح لك ذلك إذا علمت أن سرعة البرق تبلغ ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة، وهي سرعة الضوء. وإذا حدث هذا البرق على مسافة عدة كيلو مترات في الغيوم، فإن الزمن اللازم لوصول هذا البرق إلى الشخص، الذي سيصيبه هو أقل من جزء من مئة ألف جزء من الثانية. أي أقل من(1/100000) من الثانية. وهذه السرعة الهائلة لا يناسبها من الألفاظ للتعبير عنها سوى لفظالخطف" يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ".
ويعبَّر عن خطف البصر بالعمى الناتج عن بريق الضوء الشديد. وهذا النوع من العمى ينتج من مصادر ضوء ساطع ومفاجئ مثل: البرق، والليزر، وانعكاس الضوء من المباني العالية الزجاجية.
وإذا علمنا أن البرق يحتوي على الضوء المرئي بالإضافة إلى الأشعة الخطيرة بأنواع متعددة، فإننا ربما ندرك السر في قوله تعالى:" يَكَادُ ". أي يقارب. فالكمية الضخمة من الإشعاعات، التي يطلقها البرق خلال زمن قصير جدًا ذات تأثير كبير على العصب البصري، والشبكية، والقرنية، والجسم الزجاجي للعين، وهي عناصر تتعلق بعملية الإبصار؛ ولذلك قال الله تعالى:" يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ "، ولم يقل سبحانه:" يَخْطَفُ عُيُونَهُمْ "!
وقوله تعالى:"كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا "هو عبارة عن جملتين شرطيتين: الثانية منهما معطوفة على الأولى. وجيء في الثانية بـ" أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ "في مقابلة "أَضَاءَ لَهُمْ "، وبـ"قَامُوا "في مقابلة "مَشَوْا "، وجيء بـ"كُلَّمَا " في تعليق المشي بالإضاءة، وبـ"إِذَا "في تعليق القيام بالإظلام؛ لأن الأولى تفيد التكرار، والثانية تفيد التحَقق. وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب، وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون، وما يذرون.
وإضاءةُ البرق: خفقانه ولمعانه. وإظلامه: اختفاؤه. والمَشْيُ: جنس الحركة المخصوصة. فإذا اشتد فهو سعي، وإذا ازداد فهو عدو. والقيام: الوقوف والثبات، ويراد به: الجمود؛ ومنه قولهم: قام الماء. أي: جَمَدَ. والمعنى: كلَّما خفق البرق لهم خفقة، أو لمع لمعة، مشوا فيه، أو مشوا في ضوئه. وإذا خفي عنهم، وقفوا جامدين متحيرين، لا يدرون أين يذهبون. ولجهلهم لا يعلمون أن ذلك من لوازم الصيِّب، الذي به حياةُالأرض والنبات، وحياتُهم هم أنفسهم؛ بل لا يدركون إلا رعدًا وبرقًا وظلمة، ولا شعورَ لهم بما وراء ذلك.
ولقائل أن يقول: كيف قال تعالى:" مَشَوْا فِيهِ "، والمَشْيُ لا يكون في البرق، ولا في ضوئه؛ وإنما يكون في محله، وموضع إشراق ضوئه ؟ والجواب: أنهم- لفرط حيرتهم ودهشتهم، وشدَّة الأمر عليهم وفظاعته- كانوا يخبطون خَبْط عَشْواءَ، ويمشون كلَّ مَمْشى، لا يدرون أين يذهبون؛ وكأنهم يمشون في البرق، أو في ضوئه. وكيف لا يمشون فيه، وهو يخطف أبصارهم باستمرار، فلا يدع لهم فرصة لأن يبصروا أمامهم؟!
وفي ذلك إشارة إلى أن حركتهم، إن لم تكن معدومة، فهي بطيئة جدًا؛ لضعف قواهم، ومزيد خوفهم، رَغْمَ حرصهم الشديد على المشي؛ وكأنهم لا يمشون. ويدل على ذلك أنه في مصحف عبد الله بن مسعود:" مَضَوْا فِيهِ "بدلا من" مَشَوْا فِيهِ "، فعبَّر عن ذلك بالمضيَّ، الذي يدل على انعدام الحركة.
وقال تعالى:" وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ "، فعلق ذهاب سمعهم وأبصارهم بمشيئته سبحانه، فأفاد ذلك أن الله تعالى، لو شاء، لذهب بأسماعهم وأبصارهم من غير سبب، أو بسبب آخر غير قصيف الرعد، ووميض البرق، فلا يغنيهم ما صنعوه من سدِّ الآذان وغيره، وقد أحاط بهم الهلاك من كل جانب؛ ولكن اقتضت مشيئته سبحانه أن يؤجل هذه العقوبة لأشدَّ منها، كان ذلك " وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ "(الروم:6).
وهذا الوعد هو المشار إليه بقول الله تعالى:" وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ "(التوبة:68).
ولإفادة هذا المعنى- أعني: تأخير العقوبة لأشدَّ منها- أدخلت اللام على جواب"لَوْ " الشرطية. هذه اللام، التي أجمعوا على القول بجواز سقوطها من الكلام؛ لأنها- عندهم- زيدت للتأكيد، وهم معذورون في ذلك؛ لأن أسرار القرآن الكريم أكثر، وأعظم من أن تحيط بها عقول البشر؛ فلا عجب أن قالوا بجواز سقوطها، ولم يعلموا أنها لو سقطت، لأفاد سقوطها التعجيل بوقوع الجواب، خلافًا للمراد.
أما"شَاءَ "فهو فعل منزَّل منزلة اللازم، ولا يجوز أن يُصَرَّح بمفعوله، إلا في الشيء المستغرب. ولا يُكتفَى فيه بدلالة الجواب عليه؛ بل يصرح به، اعتناء بتعيينه، ودفعًا لذهاب الوهم إلى غيره، بناء على استبعاد تعلق الفعل به واستغرابه.(1/182)
وبيان ذلك: أنك إذا قلت:{ لو شئت لبكيت دمًا }، فإنه يحتمل تعليق المشيئة ببكاء الدمع، على مجرى العادة، وأن ما ذكرته من بكاء الدم واقع بدله من غير قصد إليه؛ وكأنك قلت: لو شئت أن أبكي دمعًا، لبكيت دمًا.. أقول: هذا المعنى محتمل، وإن كان تقييد البكاء في الجواب بالدم، يدل دلالة ظاهرة على أنه المراد؛ فإذا ذكر المفعول، زال هذا الاحتمال، وصار الكلام نصًّا فيما قصِد به.
والمشيئة- عند أكثر المتكلمين- كالإرادة سواء. وقيل: أصل المشيئة إيجاد الشيء وإصابته، وإن استعملت عرفًا في موضع الإرادة. وذهب بعضهم إلى أن المشيئة من الله تعالى هي الإيجاد، ومن الناس هي الإصابة. قال: والمشيئة من الله تقتضي وجود الشيء؛ ولذلك قيل: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. والإرادة منه سبحانه لا تقتضي وجود المراد، لا محالة. ألا ترى أنه سبحانه قال:" يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ "(البقرة:185)،" وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ "(آل عمران:108)، ومعلومٌ أنه قد يحصل العسر، والتظالم فيما بين الناس! ولهذا قال تعالى هنا:" وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ "، ولم يقل:{ وَلَوْ أَرَادَ الله }.
وقوله:" وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذهَبَ.."قال الفرَّاء:” المعنى- والله أعلم-: ولو شاء الله لأذهب سمعهم. ومن شأن العرب أن تقول: أذهبت بصره، بالألف إذا أسقطوا الباء، فإذا أظهروا الباء أسقطوا الألف من أذهبت. وقد قرأ بعض القرّاء:" يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يُذْهبُ بِالأَبْصَارِ"،بضمِّ الياء والباء في الكلام. وقرأ بعضهم:" وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَينَاءَ تُنْبِتُ بالدُّهْنِ ". فترى- والله أعلم- أن الذين ضمُّوا على معنى الألف شبَّهوا دخول الباء وخروجها من هذين الحرفين بقولهم: خذْ بالخطام، وخُذِ الخطامَ، وتعلَّقتُ بزيدٍ, وتعلَّقتُ زيدًا. فهو كثير فى الكلام والشعر، ولستُ أستحبُّ ذلك لقلَّته “.
وقد سبق أن ذكرنا سر دخول هذه الباء في قوله تعالى:" ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ "(البقرة:17) في المثل الأول، وبينا الفرق في المعنى بين قولنا: ذهب بالشيء، وأذهب الشيء، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
ولقائل أن يقول: لمَ أفرد السمع، وجمع البصر في قوله تعالى:" لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ "؟ وما السرُّ في تقديم الأول على الثاني ؟
والجواب عن الأول: أن السمع- في اللغة- هو إدراك الأصوات المحيطة بنا بعد سماعها، وآلته الأذن السامعة، وأن البصر اسم يطلق على عملية الإبصار، التي يتم بها إدراك المرئيات الحسيَّة بعد النظر إليها، وآلته العين الباصرة. ومن هنا جاز التعبير بالسمع عن الأذن، التي هي آلة السماع، كما جاز التعبير بالبصر عن العين، التي هي آلة الإبصار. هذا أولا.
وأما ثانيًا:فإن البصر يجمع على: أبصار، وأن السمع، يجمع على: أسماع ؛ ولكنه لم يرد في القرآن الكريم مجموعًا بخلاف البصر؛ إلا في قراءة ابن أبي عبلة:" لَذَهَبَ بِأسَمْاعِهِمْ "، بدلا من:" لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ ". وكذلك قرأ:" خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى أَسْمَاعِهِمْ "(البقرة:7)، بدلاً من:" خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سْمْعِهِمْ ".
وأظهر الأقوال في نكتة إفراده دائمًا، أنه مصدر- في أصله- والمصادر لا تجمع. فإذا جعِلت أسماءَ، ذَكِّرت، وأفردَت.. وأما المرجَّح فالاختصار، والتفنن بتوحيد السمع، وجمع البصر، مع إشارة لطيفة إلى أن مدركات السمع نوع واحد؛ وهي المسموعات، ومدركات البصر، أنواع مختلفة؛ وهي المرئيات؛ كما كانت مدركات القلب كذلك.. ولهذا أفرد السمع دائمًا، وجمع البصر والقلب غالبًا، في البيان القرآني!
وأما الجواب عن الثاني- وهو سر تقديم السمع على البصر- فقيل: إنما قدم عليه؛ لأنه أهم منه، من حيث إنه يُدرَك به من الجهات الست، وفي النور والظلمة، ولا يُدرَك بالبصر؛ إلا من الجهة المقابلة، وفي النور دون الظلمة. وهذا ما ذكره- أيضًا- أصحاب الشافعي، وحكَوْا- هم وغيرهم- عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا: البصر أفضل؛ من حيث أن إدراكه أكمل، ونصبوا معهم الخلاف، وذكروا الحجاج من الطرفين.
والتحقيق في هذه المسألة الخلافية: أن إدراك البصر أكمل؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:” ليس المخبر كالمعاين“. ولكن السمع، يحصل به من العلم لنا، أكثر ممَّا يحصل بالبصر. فالبصر أقوى وأكمل، والسمع أعم وأشمل. فهذا له صفة العموم والشمول، وذاك له صفة التمام والكمال، وإذا تقابلت المرتبتان، كان كل واحد منهما مفضلا، ومفضلا عليه. وبذلك يترجَّح أحدهما على الآخر بما اختصَّ به من صفات.
ولهذا قيل: لما كان إدراك القلب والسمع من جميع الجوانب، جُعِل المانع فيهما الختم، الذي يمنع من جميع الجهات، ولما كان إدراك البصر من الجهة المقابلة فقط، خُصَّ المانع فيه بالغشاء، المتوسط بين الرائي، والمرئي؛ كما في قوله تعالى:" خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ " (البقرة:7)،(1/183)
وقوله تعالى:"وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً "(الجاثية:23)
وقد ذهب بعضهم إلى القول بأن السمع قدِّم في القرآن على البصر؛ لأنه أشرف منه، بدليل أن الأذن، التي هي آلة السمع، أفضل وأرقى عند الله في الخلق من العين، التي هي آلة الإبصار؛ لأن الأذن لا تنام أبدًا، ولا تتوقف عن العمل أبدًا، بخلاف بقية أعضاء الجسم.
ولست أدري بماذا يعللون تقديم ( الأعمى ) على ( الأصم، والبصير ) على السميع في قول الله تعالى:"مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ "(هود:24).
وقوله تعالى:" رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ "(السجدة:12).
وقوله تعالى:"وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا "(الأعراف:179) ؟!
ثم ماذا يقولون في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور لأبي بكر وعمر، رضي الله عنهما:” هذان السمع والبصر“؛ إذ جعل صفة السمع للفاروق عمر، وجعل صفة البصر للصديق أبي بكر، مع إجماعهم على أن للصديقيَّة مقامًا، لا يعلوه مقام سوى مقام النبوة؛ ولهذا جعل الله جل وعلا مرتبة الصديقين بعد مرتبة النبيِّين عليهم الصلاة والسلام وقبل مرتبة الشهداء، فقال سبحانه وتعالى:" وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا "(النساء:69)؟!
وإذا كان السمع قد قدِّم على البصر في أغلب الآيات، فليس معنى ذلك أن السمع أهم من البصر، وأشرف عند الله تعالى في الخلق؛ وإنما معنى ذلك أن هذا التقديم من ناحية الخلق فقط، لا من ناحية الفائدة. فمن المعلوم أن الله تعالى خلق السمع قبل البصر؛ كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:
" وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ "(المؤمنون:78).
وقد أثبت علم الأجنة، وعلم تطور الأجناس أن السمع هو الحاسة الوحيدة، التي يولد بها الطفل مكتملة، في حين أن البصر لا يكتمل خلقه قبل ستة أشهر من الولادة. أما من ناحية الفائدة فإن الله عز وجل لم يذكر السمع في القرآن مثلما ذكر البصر.. تأمل قول الله تعالى:
" قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أََفَلا تَتَفَكَّرُونَ "(الأنعام:50)، وقوله تعالى:" أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم "(الملك:22)
تجد أن العين أهم حاسة في جسم الإنسان، وقد وضعت في أعلى مكان منه، ولأهميتها هذه وفَّر الله سبحانه وتعالى لها الحماية الكاملة، فوضعها في تجويف متين{ المحجر }، حدوده الأمامية ذات قوة وبأس، يستطيع أن يقيها، إذا حُشرت فيه وضُغط عليها.ولأهمية البصر فقد خلق الله تعالى للإنسان عينيْن، فأصبحت نعمة البصر حصيلة للازدواج الخلقي للعين، وعلى أتم ما تكون من ناحية الأداء؛ إذ يمكن تمييز البعد الثالث- وهو العمق- فتكون الصورة ذات جسم واضح من حيث طوله وعرضه وعمقه.
ويقال: إنه كانت هناك عينٌ ثالثة، تقع في الخلف عند اتصال مؤخرة الجمجمة بالعنق؛ ولكنها بمرور الزمن انقرضت، وأصبحت تمثل الآن ما يسمى بالجسم الصنوبري داخل الجمجمة عند اتصال المخ بالمخيخ.. وتقوم العين بوظائف ثلاثة:
أولها: تقوم العين بعمل النافذة، التي منها يستطيع الجسم أن يطل على العالم. فهي جواز السفر لمشاهدة العالم، وتقليب صفحاته، والوقوف على مواطن الجمال فيه؛ كما أن العالِم يستطيع أن يطل منها على الجسم، فيعلم حالته بالتفصيل، ويمكنه الاستدلال على حالته الصحية من فحص قاع العين، مثل داء البول السكري، والدم المرتفع، وأورام المخ، واضطرابات الدورة الدموية، والحميات، وغير ذلك. ولهذا قيل: العين مرآة الجسم. وبمعنى آخر، فإن الإنسان يتلخص كله، ويرتكز في العين، التي تعتبر صورة مصغرة لما يدور في داخل الإنسان.
ثانيها: تقوم العين بالتعبير عن إحساسات الشخص الداخلية بما فيها من مشاعر؛ سواء أكانت إيجابية، أم سلبية. فلمعان العين يظهر عند الحب والفرح والأمل، وانطفاؤها يظهر عند الكره والحزن والألم. كل هذه المعاني لا يمكن التعبير عنها إلا من خلال العينين. كذلك حركتها ونظرتها وتغيراتها الكونية، كل ذلك له معنى، يمكن الاستفادة منه. ومن هنا قالوا: عندما يتكلم الإنسان فانظر إلى عينيه!
ثالثها: تقوم العين بالتأثير في الغير بافتعال شعور خارجي، وإحساس معين، يقصد به الإيحاء بفكرة ما، أو عمل ما. وهذه النقطة تجرنا للحديث عن العلاقة بين العين والروح.(1/184)
فثبت بذلك أن ما قيل من حكمة، أو من سرٍّ في تقديم السمع على البصر، لا يجدي نفعًا، ولا يفسر أسلوبًا، وبخاصَّة إذا علمنا أن السمع والبصر هما الأصل- من بين الحواس- في العلم بالمعلومات، التي يمتاز بها الإنسان عن البهائم؛ ولهذا يقرن الله تعالى بهما الفؤادَ في كثير من المواضع.
وإن كان من تفسير لتقديم السمع على البصر في أغلب الآيات؛ فإنما يرجع- في الحقيقة- إلى أن حركة اللسان بالكلام أعظمُ حركات الجوارح، وأشدُّها تأثيرًا في الخير والشر، والصلاح والفساد.. بل عامَّة ما يترتب في الوجود من الأفعال؛ إنما ينشأ بعد حركة اللسان، فكان تقديم الصفة المتعلقة به أهم وأولى.
وبهذا يُعلََم تقديم السمع على البصر، ثم تقديمهما على الفؤاد في قوله تعالى:" وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا "(الإسراء:36)
وكثيرًا ما يكون السياق مقتضيًا تقديم صفة السميع على صفة البصير؛ بحيث يكون ذكرها بين الصفتين متضمِّنًا للتهديد والوعيد؛ كما جرت عادة القرآن بتهديد المخاطبين, وتحذيرهم، بما يذكره من صفات الله جل وعلا، التي تقتضي الحذر والاستقامة؛ كقوله تعالى:
" إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا * مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا"(النساء:133-134).
فقدَّم صفة السميع على صفة البصير؛ لأن الأول أوقع في باب التهديد والتخويف؛ ولهذا كان أولى منه بالتقديم.
ولما كان قوله تعالى:" وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ " خبرًا يتضمَّن التخويف والتهديد والوعيد، قدِّم السميع على البصير؛ كما قِّدم على العليم في نحو قوله تعالى:"قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ "(المائدة:76)؛ ولهذا كان تقديمه أهمَّ، والحاجة إلى العلم به أمسّ.. فتأمل!
ثم قال تعالى:"إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "، فخصَّ صفته- التي هي القدرة- بالذكر دون غيرها؛ لأنه تقدم ذِكرُفعلٍ مُضَمَّنُه التخويف والتهديد والوعيد؛ وهو الذهاب بالأسماع والأبصار. هذا أولا.
وأما ثانيًا فلأن القدرة هي التمكن من إيجاد الشيء. وقيل: هي صفة تقتضي التمكن. وقيل: قدرة الإنسان هيئة بها يتمكن من الفعل، وقدرة الله تعالى عبارة عن نفي العجز عنه سبحانه. والقادر هو الذي، إن شاء فعل، وإن لم يشأ لم يفعل، والقدير هو الفعَّال لما يشاء على ما يشاء؛ ولذلك قلَّما يوصف به غير الباري جل وعلا.
فتأمل هذه اللمحات اللطيفة، واللطائف الدقيقة، والأسرار البديعة في البيان الأعلى، واعلم أن أسراره أكثر وأعظم، من أن تحيط بها عقول البشر.. فسبحان من جعل كلامه لأدواء الصدور شافيًا، وإلى الإيمان وحقائقه مناديًا، وإلى الحياة الأبدية ونعيمها داعيًا، وإلى طريق الرشاد هاديًا، بما أودع فيه من هذه الأسرار المعجزة، التي تشهد بأنه تنزيل من حكيم حميد، والحمد لله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان حمدًا بعدد كلماته التي لا تنفد، وصلى الله على عبده ونبيه محمد إمام البلغاء، وسيد الفصحاء، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا!!
==============
البصر والبصيرة
د. محمد السقا عيد
ماجستير وأخصائى جراحة العيون
عضو الجمعية الرمدية المصرية
البصر أحد الحواس الخمس التي ندرك بها العالم حولنا نتأثر به ونؤثر فيه.
والبصر حاسة الرؤية كوظيفة جسدية وحاسة الإدراك كأداة سلوكية فنحن لا نبصر الشيء أي نراه فقط ولكننا نكون سلوكا معينا نتيجة هذه الرؤية. وفي مختار الصحاح "بصير بالشيء أي عليم به فهو بصير" ومنها قوله تعالى:(بصرت بما لم يبصروا به) والتبصر هو التأمل والتعرف والتبصير التعريف والإفصاح
ومنه قوله (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة) والابصار لا يكون مجرد فعل ورد فعل وانما يكون عملية تفاعل متكاملة .فنرى الشيء وندركه ونحلله ونكون عاطفة نحوه سلبية أو إيجابية ونسمى هذا الشعور حالة انفعال .
وحاسّة البصر نافذة من نوافد المعرفة، فبها نرى الأشياء التي تقع تحت نظرنا فنميّزها تمييزاً أوّلياً ، لكنّ الاعتماد على البصر وحده في التشخيص والتمييز والمعرفة غير كاف، إذ لا بدّ من مرجع آخر نرجع إليه في رفع الالتباس والغموض، أي إنّنا بحاجة إلى (ضوء) آخر نكشف به الظلمة العقلية، وهذا الضوء هو (البصيرة).
وقد ميز الله الانسان عن الحيوان بنعمة الفكر بالاستبصار حيث يتدرج الطفل من التفكير بالمحاولة والخطأ والتعلم بالشرطية والتقليدية والمحاكاة إلى مرحلة الاستبصار أي جمع حصيلة التجارب الفكرية القديمة ومزجها في خليط جديد لمواجهة مشكلة مستجدة عليه في المستقبل.(1/185)
وقد خاطب الله الإنسان في أكثر من موقع قال تعالى"وفي أنفسكم أفلا تبصرون"... وتفسير الآية يحمل في طياته أن التبصر أعلى مراحل الوعي عند الإنسان لا تتحقق إلا إذا وصل درجة من العقل ترقي به إلى الملاحظة والاستنتاج والاستدلال والتحليل وفي الحياة العامة نلاحظ عند عامة الناس.
إن كثيراً من المآسي تكون نتيجة هذه الهوة العميقة بين البصر والبصيرة بين رؤية الشيء والقدرة على إدراكه والصبر في تحليله ووسيلة التعبير عن هذا الشعور نحوه بالقول أو الفعل.
ألا يمكن لكلمة واحدة أن تفسد علاقة سنوات أو حركة شاردة أن تهدم أركان أقوى الصلات هذه الكلمة أو ذلك الفعل قد سقط في الخندق الذي يفصل بين البصر والبصيرة .وما كل ذي عينين بالفعل يبصر ولا كل ذي كفين يعطي فيؤجر.
والسؤال الآن ما هي البصيرة ؟
البصيرة هي الحجة والاستبصار في الشيء في قوله تعالى( بل الإنسان على نفسه بصيرة)
ونفاذ البصيرة يعني قوة الفراسة وشدة المراس وقوة الحنكة والقدرة على تخطي العقبات الحالية بالخيرات السباقة المتراكمة بتطويعها وترويضها والاستفادة منها في رؤية حلول لمشاكل جديدة.
وقد تطلق البصيرة على العلم واليقين، كما في قوله تعالى( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي...)
وقد تطلق على نور القلب كما يطلق البصر على نور العين.
قال الراغب البصر يقال للجارحة الباصرة والقوة التي فيها، ويقال لقوة القلب المدركة بصيرة والبصيرة هي هذه القدرة على الرؤية الصحيحة المتشكّلة من عقل الانسان وثقافته وتربيته وتجربته ودينه ، وهي ما نصطلح عليها اليوم بـ (الوعي) فقد يكون الانسان ذا بصر حاذق لكنه ذو بصيرة كليلة ضعيفة ، ولذا اعتبر القرآن أن رؤية البصيرة أهم بكثير من رؤية البصر وذلك في قوله تعالى:(فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)
والبصيرة هي أعلى القدرات التعليمية الفطرية، ولربما انفرد الإنسان بها، إذ يصعب قياس هذه القدرة مخبرياً ……
وهذه القدرة تتفاوت قوتها بين أفراد البشر … صحيح أننا كلنا نشعر بها حين نواجه مشكلة أعياناً حلها ثم (يأتى الجواب كلمح البرق) ولربما جاء الحل نتيجة تفكير طويل انشغل به الدماغ من حيث لا ندرى.
فالقدرة على النفاذ إلى كنه الأمور وخفايا المعضلات ملكة لا نعرف أحكامها الآلية العصبية، ونسميها بأسماء كثيرة (إلهام ، رؤية ، بصيرة ، النظر الثاقب ، أو النفاذ) وهى ليست القدرة على التحليل المنطقي والحساب أو الرياضيات ، أو البلاغة.
وحادثة رؤية سيدنا عمر بين الخطاب رضي الله عنه لسارية ومناداته له بمقولته الشهيرة " يا سارية الجبل " رغم بعد المسافة التي بينهما عن مجال البصر العادي هو نقلة للرؤية عبر الضوء السريع، فألقيت في الشبكية فحذر عمر سارية ، وتلك حادثة بأمر الله تعالى حيث سخر الله الضوء لسيدنا عمر (فحدث تغير فسيولوجي في البصر والبصيرة) نقل له هذه اللقطة عبر الشعاع الضوئي تأييداً ونصراً لمن ينصره.
وهذا أحد صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينظر إلى امرأة في الطريق فتعجبه فيطيل النظر إليها ، ثم يدخل هذا الصحابي على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه فيبادره بقوله : أما يستحى أحدكم أن يدخل على أمير المؤمنين وفى عينيه آثار الزنا؟ … فيتعجب الصحابي من معرفة سيدنا عثمان لذلك بالرغم من أن أحداً لم يره ، فيبادر سيدنا عثمان بقوله : أوحى أُنزل بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيقول له سيدنا عثمان : اتق فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله.
وكما أنّنا لا نستطيع أن نبصر في الظُلمة حيث. تتشابه الأشياء، أو إنّها تصبح أشباحاً لا يمكن تمييز بعضها عن بعض، فكذلك إذا فقدنا البصيرة فإنّنا نتورّط في التشخيص الخاطئ للأشخاص وللأمور. وهذا هو الفرق بين إنسان صاحب وعي وبصيرة، وآخر عديم البصيرة.
فالأوّل لا يقع ضحيّة الخداع والتغرير والتزوير، والثاني عرضة لذلك كلّه أمّا النموذج الآخر فهو الإنسان العاقل الذي يعي الواقع ويدركه ويعرف الناس من حوله، أي أنّ لديه القدرة على التمييز بين ما هو مستقيم وما هو منحرف، وما هو عدل وما هو ظلم، وما هو حق وما هو باطل، فالخير منه مأمول لأنّه مستقيم في فكره وفي عمله .
النموذج الأوّل إذن هو النموذج السالب الذي لا يعطي للحياة شيئاً بل يتسبّب في المتاعب لنفسه ولغيره.
والنموذج الثاني هو النموذج الموجب الذي يأخذ من الحياة ويعطيها وقد صوّر القرآن المميز بين الاثنين في قوله تعالى(أفمن يهدي إلى الحقِّ أحقُّ أن يُتّبع أمّن لا يهدِّي إلاّ أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) وفي قوله تعالى : (أفمن يمشي مكبّاً على وجهه أهدى أمّن يمشي سوياً على صراط مستقيم ).
إنّ الجواب على التساؤل القرآني واضح ، فالذي يمشي سوياً ببصره وبصيرته أهدى من المنكبّ على وجهه الذي لا ينتفع ببصره في المشيء ولا ببصيرته، لأنّ السير على الطريق المستقيم لا يحتاج فقط إلى عينين مفتوحتين وإنّما إلى عقل مفتوح أيضاً.
كيف تعمل البصيرة في قلب المؤمن؟(1/186)
إن عمل البصيرة الإيمانية في قلب المؤمن كعمل كشاف ضوء منير في وسط ظلمة حالكة، فهي التي تكشف الأشياء على حقيقتها فيراها المؤمن كما هي، ولا يراها كما زينت في الدنيا ولا كما زينها الشيطان للغاوين ولا كما زينها هوى النفس في الأنفس الضعيفة.
يقول الله _سبحانه_: " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله.." (الزمر: 22)
- ويقول سبحانه: " أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها" ( الأنعام122).
يقول الإمام ابن القيم: " أصل كل خير للعبد - بل لكل حي ناطق - كمال حياته ونوره، فالحياة والنور مادة كل خير.. فبالحياة تكون قوته وسمعه وبصره وحياؤه وعفته.. كذلك إذا قوي نوره وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه فاستبان حسن الحسن بنوره وآثره بحياته وكذلك قبح القبيح " (إغاثة اللهفان 1/24).فما يكاد نور القرآن ونور الإيمان يجتمعان حتى لكأن النور الهادئ الوضيء يفيض فيغمر حياة المرء كلها ويفيض على المشاعر والجوارح، وينسكب في الحنايا والجوانح، تعانق النور، وتشرفه العيون والبصائر، فيشف القلب الطيب الرقراق، ويتجرد من كثافته ويتحرر من قيد العبودية غير عبودية الله الكبير المتعال، فإذا القلب المؤمن المبصر غاية في القوة والثبات وغاية في الطاعة والإخبات وغاية في التضحية والبذل بكل المتاع الزائل.
قال ابن القيم - رحمه الله - قال الله _تعالى_: " إن في ذلك لآيات للمتوسمين "
قال مجاهد يعني للمتفرسين.
وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله "، والتوسم التفرس ولهذا خص الله بالآيات والانتفاع بها هؤلاء...وبعث الله الرسل مذكرين ومنبهين ومكملين لما عند الناس من استعداد لقبول الحق بنور الوحي والإيمان فيضاف إلى ذلك نور الفراسة فيصير نوراً على نور فتقوى البصيرة " ( مدارج السالكين 1/110)
المصادر:
- كتاب القرآن وعلم النفس-د.محمد عثمان نجاتى
-كتاب مقومات الوعي والبصيرة
-مجلة النفس المطمئنة- العدد 53- مقال بين البصر والبصيرة
د.الزين عباس عمارة -أستاذ الطب النفسي
-موقع المسلم -البصيرة الإيمانية وإيجابية السلوك الشخصى -خالد السيد روشه
===============
الحية والثعبان ... إعجاز بياني في قصة موسى عليه السلام
بقلم المهندس عبد الدائم الكحيل
لفت انتباهي إلى هذا الموضوع أحد الإخوة القراء من خلال سؤال عن سر مجيء كلمة (ثعبان) تارة وكلمة (حية) تارة أخرى وذلك في سياق قصة سيدنا موسى عليه السلام. وقد يظن بعض القراء أن المعنى واحد، وأن هذا الأمر من باب التنويع وشد انتباه القارئ فقط....
ولكن وبعد بحث في هذا الموضوع ظهرت لي حكمة بيانية رائعة تثبت أن كل كلمة في القرآن إنما تأتي في الموضع المناسب، ولا يمكن أبداً إبدالها كلمة أخرى، وهذا من الإعجاز البياني في القرآن الكريم.
ولكي نوضح الحكمة من تعدد الكلمات عندما نبحث عن قصة سيدنا موسى عليه السلام مع فرعون لنجد أنها تكررت في مناسبات كثيرة، ولكن العصا ذُكرت في ثلاثة مراحل من هذه القصة:
1- عندما كان موسى سائراً بأهله ليلاً فأبصر ناراً وجاء ليستأنس بها فناداه الله أن يلقي عصاه.
2- عندما ذهب موسى إلى فرعون فطلب منه فرعون الدليل على صدق رسالته من الله تعالى فألقى موسى عصاه.
3- عندما اجتمع السَّحَرة وألقوا حبالهم وعصيّهم وسحروا أعين الناس، فألقى موسى عصاه.
هذه هي المواطن الثلاثة حيث يلقي فيها موسى العصا في قصته مع فرعون. ولكن كيف تناول البيان الإلهي هذه القصة وكيف عبّر عنها، وهل هنالك أي تناقض أو اختلاف أو عشوائية في استخدام الكلمات القرآنية؟
الموقف الأول
في الموقف الأول نجد عودة سيدنا موسى إلى مصر بعد أن خرج منها، وفي طريق العودة ليلاً أبصر ناراً فأراد أن يقترب منها ليستأنس فناداه الله تعالى، وأمره أن يلقي عصاه، فإذاها تتحول إلى حيّة حقيقية تهتز وتتحرك وتسعى، فخاف منها، فأمره الله ألا يخاف وأن هذه المعجزة هي وسيلة لإثبات صدق رسالته أمام فرعون.
ولو بحثنا عن الآيات التي تحدثت عن هذا الموقف، نجد العديد من الآيات وفي آية واحدة منها ذكرت الحيّة، يقول تعالى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى *قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌتَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى) [طه: 17-21].
الموقف الثاني
أما الموقف فيتمثل بقدوم موسى عليه السلام إلى فرعون ومحاولة إقناعه بوجود الله تعالى، وعندما طلب فرعون الدليل المادي على صدق موسى، ألقى عصاه فإذا بها تتحول إلى ثعبان مبين. ولو بحثنا عن الآيات التي تناولت هذا الموقف نجد عدة آيات، ولكن الثعبان ذُكر مرتين فقط في قوله تعالى:(1/187)
1- (وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ* قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌمُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) [الأعراف: 104-109].
2- (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ* قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ* قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ* قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌمُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) [الشعراء: 23-34].
الموقف الثالث
بعدما جمع فرعون السحرة وألقوا الحبال والعصيّ وسحروا أعين الناس وخُيّل للناس ولموسى أن هذه الحبال تتحرك وتهتز وتسعى، ألقى موسى عصاه فابتلعت كل الحبال والعصي، وعندها أيقن السحرة أن ما جاء به موسى حق وليس بسحر، فسجدوا لله أمام هذه المعجزة.
وقد تحدث القرآن عن هذا الموقف في العديد من سوره، ولكننا لا نجد أي حديث في هذا الموقف عن ثعبان أو حية، بل إننا نجد قول الحق تبارك وتعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) [الأعراف: 117].
التحليل البياني للمواقف الثلاثة
لو تأملنا جيداً المواقف الثلاثة نجد أن الموقف الأول عندما أمر الله موسى أن يلقي عصاه وهو في الوادي المقدس، تحولت العصا إلى (حيَّة) صغيرة، وهذا مناسب لسيدنا موسى لأن المطلوب أن يرى معجزة،/ وليس المطلوب أن يخاف منها، لذلك تحولت العصا إلى حية.
أما في الموقف الثاني أمام فرعون فالمطلوب إخافة فرعون لعله يؤمن ويستيقن بصدق موسى عليه السلام، ولذلك فقد تحولت العصا إلى ثعبان، والثعبان في اللغة هو الحية الكبيرة[1]. وهكذا نجد أن الآيات التي ذُكرت فيها كلمة (ثعبان) تختص بهذا الموقف أمام فرعون.
ولكن في الموقف الثالث أمام السّحَرَة نجد أن القرآن لا يتحدث أبداً عن عملية تحول العصا إلى ثعبان أو حية، بل نجد أن العصا تبتلع ما يأفكون، فلماذا؟
إذا تأملنا الآيات بدقة نجد أن السحرة أوهموا الناس بأن الحبال تتحرك وتسعى، كما قال تعالى: (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى)[طه: 66]. وهنا ليس المطلوب أن يخاف الناس بالثعبان، وليس المطلوب أن تتحول العصا إلى حية، بل المطلوب أن تتحرك العصا وتلتهم جميع الحبال والعصِيَ بشكل حقيقي، لإقناع السحرة والناس بأن حبالهم تمثل السحر والباطل، وعصا موسى تمثل الحق والصدق، ولذلك يقول تعالى (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ*فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) [الأعراف: 115-122].
إحصائيات قرآنية
إن كلمة (حيَّة) لم تُذكر في القرآن إلا مرة واحدة عندما أمر الله موسى أن يلقي العصا وهو في الوادي المقدس، فتحولت إلى حية تسعى. وجاءت هذه الكلمة مناسبة للموقف. أما كلمة (ثعبان) فقد تكررت في القرآن كله مرتين فقط، وفي كلتا المرتين كان الحديث عندما ألقى موسى عصاه أمام فرعون، وكانت هذه الكلمة هي المناسبة في هذا الموقف لأن الثعبان أكبر من الحية وأكثر إخافة لفرعون.
ونستطيع أن نستنتج أن الله تعالى دقيق جداً في كلماته وأن الكلمة القرآنية تأتي في مكانها المناسب، ولا يمكن إبدال كلمة مكان أخرى لأن ذلك سيخل بالجاني البلاغي والبياني للقرآن الكريم الذي قال الله عنه: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 42].
بقلم عبد الدائم الكحيل
[1]الفيروز آبادي، المعجم المحيط، معنى كلمة (ثعبان)، دار المعرفة، بيروت 2005.
==============(1/188)
حتى إذا بلغ مغربَ الشمس وجدها تغرب في عينٍ حَمِئَةٍ
(رد على رسالة من أحد نصارى المهجر تدعونا إلى ترك الإسلام واعتناق التثليث)
بقلم: د. إبراهيم عوض
بعث لي أحد إخواننا من نصارى المهجر في الأسبوع الماضي برسالة مشباكية (مكتوبة بلغة إنجليزية لا بأس بها، وإن لم تخل من الأخطاء) يعقّب فيها على مقالي: "إعلان سيد القمنى الاعتزال: خواطر وتساؤلات"، الذي نُشِر بجريدة "الشعب" الضوئية يوم الجمعة الموافق 20/ 8/ 2005م، لكنه ترك تقريبا كل ما قلته في مقالي المشار إليه فلم يردّ على شيء منه، اللهم إلا ما كتبته عن المعجزات وأن غيابها عن النسق العقيدى عندنا لا يضر الإسلام في شيء، ورغم هذا جاء تناوله للموضوع على نحو لم أجد معه داعيا إلى الخوض فيه كَرّةً أخرى، وبخاصة أنه لم يحقِّق جيدا ما كتبته في هذه النقطة. ثم ثنَّى فتحدَّى المسلمين أن يستطيعوا الرد على ما يوجَّه للقرآن من انتقادات علمية منها ما يتعلق مثلا بما جاء في الآية 86 من سورة "الكهف" عن ذي القرنين ومشاهدته الشمس وهى تغرب في عين ماء، مما يخالف حقائق علوم الفلك كما قال. وفى نهاية الرسالة لم ينس أن يرجو لنا أن نفيق من الغاشية التي تطمس على أبصارنا منذ أربعة عشر قرنا من الظلام وأن نعود إلى المسيح بعد أن بيَّن لنا هو وأمثاله مقدار الجهل الكبير الذي يتصف به الله ومحمد حسبما قال. يا شيخ، فأل الله ولا فألك! أتريدنا أن نرتد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ونعود إلى العصر الحجري في مسائل العقيدة والعبادة، ونترك التوحيد إلى التثليث، وندع الاحترام والتقدير العظيم الذي نكنّه في أعماق قلوبنا للسيد المسيح عليه السلام بوصفه رسولا وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقرَّبين ونتخذه وثنا نشركه مع الله سبحانه وتعالى كما يفعل الكافرون؟ ألم تقرأ قول الحق تبارك وتعالى:"وقالت اليهود: عُزَيْرٌ ابنُ الله، وقالت النصارى: المسيحُ ابنُ الله! ذلك قولهم بأفواههم، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل. قاتلهم الله! أَنَّى يُؤْفَكون؟" (التوبة/ 30)؟ لا يا عم، يفتح الله! خّلِّك فيما أنت فيه، ولْنَبْقَ نحن أيضا في النور والهدى
الذي أكرمنا الله به على يد سيد النبيين والمرسلين، صلَّى الله وسلَّم عليه وعليهم أجمعين. وقد كتبتُ هذه الكلمة على الطائر وأنا على جناح سفر، ولم يرنِّق النوم في عيني طوال الليل إلا لساعة أو أقلّ دون سببٍ واضح، فلم يتسنّ لي تدقيق مراجعتها، ولعلي لم أخطئ فيها أخطاء فاحشة، وإلا فإني أعتذر مقدما من الآن.
والآية التي يشير إليها صاحب الرسالة هي قوله تعالى: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ (أي ذو القرنين) مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا...". وأَدْخُل في الموضوع على الفور فأقول: من المعروف في كتب اللغة أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، بمعنى أن هناك توسعا في استعمالها، بل إن في اللغة توسعات كثيرة في غير حروف الجر أيضا، وإن لم تكن هذه التوسعات دون ضوابط حتى لو لم نستطع في بعض الأحيان أن نتنبه لها، أو على الأقل حتى لو لم نتفق عليها. وقد تُسَمَّى هذه التوسعات بـ"المجاز"، وهو ما يعنى أن الكلام لا ينبغي أن يؤخذ على ظاهره أو حرفيته. وهذا، كما سبق القول، معروف عند دارسي اللغات. ولْنأخذ حرف الجرّ "في" (الموجود في الآية) لنرى ماذا يقول النحاة في استعمالاته: فهم يقولون إنه يُسْتَخْدَم في عشرة معانٍ : الأول : الظرفية، زمانًا أو مكانًا، حقيقةً أو مجازًا، ومن الزمانية: "حضرتُ إلى الاجتماع في العاشرة مساء"، ومن المكانية: "سكنتُ في هذا البيت أعواما طوالا". الثاني : المصاحبة، نحو قوله تعالى: "ادخلوا في أُمَمٍ"، أي بمصاحبتها (الأعراف / 38 ) . الثالث : التعليل، نحو : "فذلكم الذي لمتُنَّنى فيه"، أي بسببه (يوسف / 32). الرابع : الاستعلاء، نحو قوله تعالى: "ولأُصَلِّبَنَّكم في جذوع النخل"، أي عليها (طه/ 71 ). الخامس : مرادفة الباء، نحو: "فلان بصير في الموضوع الفلاني"، أي بصير به . السادس : مرادفة "إلى " نحو قوله تعالى: "فرَدّوا أيديهم في أفواههم"، أي مَدَّ الكفار
أيديهم إلى أفواه الرسل ليمنعوهم من الدعوة إلى الهدى والنور (إبراهيم / 9). السابع : مرادفة " مِنْ ". الثامن : المقايسة، وهي الداخلة بين مفضولٍ سابقٍ وفاضلٍ لاحقٍ، كما في قوله سبحانه:"فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل"، أي أن متاع الحياة الدنيا بالقياس إلى الآخرة قليل (التوبة / 38). التاسع : التعويض، كما في قولنا: "دفعتُ في هذا الكتاب عشرين جنيها". العاشر : التوكيد، وأجازه بعضهم في قوله تعالى: "وقال: اركبوا فيها"، أي أن الركوب لا يكون إلا في السفينة، ولذلك لا ضرورة للنص على ذلك إلا من باب التوكيد (انظر في ذلك مثلا "مغنى اللبيب" لابن هشام).(1/189)
وفى القرآن الكريم نقرأ قوله عز وجل:"يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت" (البقرة/ 19)، والمقصود أن كلا منهم يضع طرف إصبع واحدة من أصابعه عند فتحة الأذن، لا في داخلها. ونقرأ: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة" (البقرة/ 30)، وطبعا لم يجعل المولى الإنسان خليفة في الأرض، أي في باطنها، بل على سطحها. ونقرأ: "وأُشْرِبوا في قلوبهم العِجْل بكفرهم" (البقرة/ 93)، وليس المقصود العجل نفسه بل عبادته، وهى لا تُشْرَب ولا تدخل في القلب بالمعنى الذي نعرفه. ونقرأ: "قل: أتحاجّوننا في الله، وهو ربنا وربكم" (البقرة/ 139)، أي أتحاجّوننا بشأن الله؟ ونقرأ:"قد نرى تقلُّب وجهك في السماء، فلنولينَّك قِبْلَةً ترضاها" (البقرة/ 144)، أي صوب نواحي السماء، وليس في السماء فعلا. ونقرأ: "ليس البِرَّ أن تُوَلُّوا وجوهكم قِبَل المشرق والمغرب، ولكن البِرَّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حُبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب" (البقرة/ 177)، والإنسان لا ينفق ماله في الرقاب، بل يعتق به الرقاب. ونقرأ: "يا أيها الذين آمنوا، كُتِب عليكم القِصَاص في القتلى" (البقرة/ 178)، أي مقابل جريمة القتل وتعويضا لأهل القتيل. ونقرأ: "وإذا تولَّى سَعَى في الأرض ليُفْسِد فيها" (البقرة/ 205)، أي فوقها. ونقرأ:"هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظُلَلٍ من الغمام والملائكةُ وقُضِيَ الأمر؟" (البقرة/ 217)، أي يقع بهم عقاب الله في هيئة ظلل من الغمام. ونقرأ: "والذين يُتَوَفَّوْن منكم ويَذَرُون أزواجا وصيةً لأزواجهم متاعًا إلى الَحْول غيرَ إخراج. فإن خرجن فلا جُناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف" (البقرة/ 234)، أي فعلن بأنفسهن. ونقرأ: "وكتبنا له في الألواح من كل شيءٍ موعظةً وتفصيلاً لكل شيء" (الأعراف/ 145)، أي على الألواح. ونقرأ: "وإذ يُريكموهم إذ
التقيتم في أعينكم قليلا ويقلِّلكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا" (الأنفال/ 44)، أي أمام أعينكم وأعينهم. ونقرأ: "يا أيها النبي، قل لمن في أيديكم من الأسرى..." (الأنفال/ 70)، ولا يمكن إنسانا أن يكون في يد إنسان آخر بالمعنى الحرفي كما هو واضح. ونقرأ: "الذين كانت أعينهم في غطاءٍ عن ذِكْرِي" (الكهف/ 101)، والعيون لا تكون في الغطاء، بل تحت الغطاء. ونقرأ: "وأَذِّنْ في الناس بالحج يأتوك رجالا" (الحج/ 27)، أي أذِّن بحيث يسمعك الناس. ونقرأ: "... وتقلُّبك في الساجدين" (الشعراء/ 219)، أي معهم. ونقرأ:"فإذا أُوذِيَ في الله جَعَل فتنة الناس كعذاب الله" (العنكبوت/ 10)، أي أُوذِىَ بسبب إيمانه بالله. ونقرأ: "لقد كان لسبإٍ في مسكنهم آيةٌ: جنتان عن يمينٍ وشِمال" (سبأ/ 15)، والجنتان لم تكونا في مساكن سبإ، بل حولها أو قريبا منها. "أَوَمَنْ يُنَشَّا في الحِلْيَة وهو في الخصام غير مُبِين؟" (الزخرف/ 18)، والنساء لا ينشأن في الحلية بل مرتديات لها ومستمتعات بها. ونقرأ: "إن المتقين في جنّات ونَهَر" (القمر/ 94)، والمتقون في الآخرة سيكونون فعلا في الجِنَان، لكنهم بكل تأكيد لن يكونوا في الأنهار، بل ستجرى الأنهار في الجِنَان. ونقرأ: "في سِدْرٍ مخضود" (الواقعة/ 28)، وهم لن يكونوا في الجنة في شجر السِّدْر، بل سيأكلون منه. ونقرأ: "أولئك كَتَب في قلوبهم الإيمان" (المجادلة/ 22)، ولا كتابة في القلوب بالمعنى الظاهرى بطبيعة الحال ولا حتى فوقها. ونقرأ:"ثم في سلسلةٍ ذَرْعُها سبعون ذراعا فاسلكوه" (الحاقة/ 32)، أي اربطوه بها. ونقرأ: "في جِيدها حبلٌ من مَسَد" (المسد/ 5)، أي حَوْل جيدها... وهكذا.
وفى الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى أمثلة كثيرة على ما نقول، وهو أمر طبيعي، فهذه هي طبيعة اللغة، سواء في كتاب الله أو في كلام أهل الكتاب أو في أي كلام آخر. وهذه بعض الأمثلة من الكتاب المذكور: " كل شجر البرية لم يكن بعد في الارض" (تكوين/ 2/ 5)، " وكان قايين(1/190)
عاملا في الأرض" (تكوين/ 4/ 2)، "وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب" (تكوين/ 6/ 8)، " كان نوح رجلا بارا كاملا في أجياله" (تكوين/ 6/ 9)، "تنجح طريقي الذي أنا سالك فيه" (تكوين/ 24/ 42)، "فوضعت الخزامة في انفها" (تكوين/ 24/ 47)، "فاحب اسحق عيسو لان في فمه صيدا" (تكوين/ 25/ 28)، "فتعاظم الرجل وكان يتزايد في التعاظم" (تكوين/ 26/ 13)، "فالآن يا ابني اسمع لقولي في ما أنا آمرك به" (تكوين/ 27/ 8)، "ويتبارك فيك وفي نسلك جميع قبائل الأرض" (تكوين/ 28/ 14)، "وخلع فرعون خاتمه من يده وجعله في يد يوسف والبسه ثياب بوص ووضع طوق ذهب في عنقه" (تكوين/ 41/ 42)، "فتقدموا إلى الرجل الذي على بيت يوسف وكلموه في باب البيت" (تكوين/ 43/ 19)، "أليس هذا هو الذي يشرب سيدي فيه؟" (تكوين/ 44/ 5)، "وحمل بنو إسرائيل يعقوب أباهم وأولادهم ونساءهم في العجلات التي أرسل فرعون لحمله" (تكوين/ 46/ 5)، "ومرّروا حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللبن وفي كل عمل في الحقل" (خروج/ 1/ 14)، "خرج إلى إخوته لينظر في أثقالهم" (خروج/ 2/ 11)، "ما بالكنّ اسرعتنّ في المجيء اليوم" (خروج/ 2/ 18)، "وقال الرب لموسى: عندما تذهب لترجع إلى مصر انظر جميع العجائب التي جعلتها في يدك واصنعها قدام فرعون" (خروج/ 4/ 21)، "فذهب والتقاه في جبل الله وقبّله" (خروج/ 4/ 27)، "هما اللذان كَلّما فرعون ملك مصر في إخراج بني إسرائيل من مصر" (خروج/ 6/ 27)، " الدمامل كانت في العرّافين وفي كل المصريين" (خروج/ 9/ 11)، "تخبر في مسامع ابنك وابن ابنك بما فعلتُه في مصر وبآياتي التي صنعتها بينهم" (خروج/ 10/
2)...إلخ، وهى بالمئات، إن لم تكن بالألوف. ومن هنا كان من السهل أن ندرك معنى قول القرطبى مثلا في الآية المذكورة: "وَيَجُوز أَنْ تَكُون الشَّمْس تَغِيب وَرَاءَهَا (أي وراء العَيْن الحَمِئَة) أَوْ مَعَهَا أَوْ عِنْدهَا، فَيُقَام حَرْف الصِّفَة مَقَام صَاحِبه". يقصد أن حروف الجر قد ينوب بعضها عن بعض، بمعنى أن يُسْتَعْمَل بعضها في مكان بعضها الآخر. وفى نفس المجرى يجرى ما نجده عند البغوى وأبى حيان، إذ نقرأ في تفسير الأول نقلا عن القتيبى أنه بجوز أن يكون المعنى هو أنه كان "عند الشمس" أو "في رأى العين" عين حمئة، أما الثاني فقد ذكر أن بعض البغداديين يفسر قوله تعالى: "في عين حمئة" بمعنى "عند عين حمئة".
بل إن في الكتاب المقدس عبارات كثيرة من نوع الآية القرآنية التي بين أيدينا بل أَوْغَل في مضمار الاستخدامات المجازية، ويقرؤها هؤلاء الذين يرددون تخطئة القرآن كما تفعل الببغاوات الغبية، لكن دون فهم أو تمييز، ومن ثم لا يخطر في بالهم أن يقفوا ويتدبروا ويفكروا في أمر هذا التشابه في الاستعمالات الأسلوبية وأنه مسألة عادية جدا لأنه هكذا كانت اللغة وهكذا ستظل إلى يوم يبعثون. وهم في هذا كالكلب الذي ربّاه صاحبه على نباح المارة وعضِّهم، فكلما رأى شخصا مارًّا من أمام البيت نبحه وعضه دون تفكير. لنأخذ مثلا الشواهد التالية: "اما هما في عبر الأردن وراء طريق غروب الشمس في ارض الكنعانيين..." (تثنية/ 11/ 30)، "هكذا يبيد جميع اعدائك يا رب. واحباؤه كخروج الشمس في جبروتها" (قضاة/ 5/ 31)، "هكذا قال الرب: هانذا أقيم عليك الشر من بيتك وآخذ نساءك إمام عينيك واعطيهنّ لقريبك فيضطجع مع نسائك في عين هذه الشمس" (صموئيل 2/ 12/ 11)، "وقلت لهما: لا تفتح أبواب أورشليم حتى تَحْمَى الشمس" (نحميا/ 7/ 3)، "قدام الشمس يمتد اسمه" (مزامير/ 72/ 17)، "ثم رجعت ورأيت كل المظالم التي تجرى تحت الشمس" (الجامعة/ 4/ 1)، "ويخجل القمر وتَخْزَى الشمس" (إشعيا/ 24/ 23)، "واظلمت الشمس وانشقّ حجاب الهيكل من وسطه" (لوقا/ 23/ 44)، "انك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض ومن وجهك اختفِي وأكون تائها وهاربا في الأرض. فيكون كل من وجدني يقتلني" (تكوين/ 4/ 14)، "وفسدت الأرض إمام الله وامتلأت الأرض ظلما" (تكوين/ 6/ 11)، "الآن قم اخرج من هذه الأرض" (تكوين/ 31/ 13)، "وأدخلكم إلى الأرض التي رفعت يدي أن أعطيها لإبراهيم" (خروج/ 6/ 8)، "واستراحت الأرض من الحرب" (يشوع/ 14/ 15)، "دور يمضي ودور يجيء والأرض قائمة إلى الأبد" (جامعة/ 1/ 4)، "فوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية. على العين التي في طريق شور" (تكوين/ 16/ 7). ومن الواضح أن هذا كله على خلاف(1/191)
الواقع وينبغي ألا يأخذه القارئ مأخذا حرفيا، وإلا لم يكن للكلام معنى: فمثلا ليس هناك للشمس تحتٌ ولا فوقٌ، وإنما هو تعبير بشرى، فنحن أينما كنا على الأرض نتصور أن الشمس فوقنا، ومن ثم فنحن تحتها، على حين أنه لو كان الأمر كذلك لكان ينبغي إذن أن نكون "فوق" الشمس بعد ستة أشهر من ذلك حين تدور الأرض نصف دورتها السنوية، وهذا لا يصير. كذلك فليس للشمس عين (ولا أذن ولا أنف) أصلا حتى نكون أوْ لا نكون في عينها، كما أنها ليس لها طريق تسير فيه على الأرض، ودَعْك من أننا يمكن أن نسير نحن فيه أيضا. وبالنسبة لقول قابيل إنه هرب في الأرض، فهو مجرد تعبير بشرىّ، وإلا فقولنا: "في الأرض" إنما يعنى حرفيا: "داخل الأرض"، وهو ما لا يقصده قابيل ولا أي إنسان آخر في مثل وضعه... وهكذا.
وقبل كل ذلك فإن الكلام هنا ليس كلاما في علم الطبيعة أو الجغرافيا أو الجيولوجيا، بل هو كلام أدبي يقوم في جانب منه على التعبيرات المجازية والتجسيدية والتشخيصية وما إلى ذلك. باختصار: هذه هي طبيعة اللغة، أما الكلاب التي تنبح المارة وتعضهم لا لشىء سوى أنه قد قيل لها: انبحي أي مارٍّ من هنا وعضّيه، فإنها لا تفهم هذا ولا تفقهه ولا تدركه ولا تتذوقه، إذ متى كانت الكلاب تستطيع أن تتذوق شيئا غير العظم المعروق الذي أُكِل ما عليه من لحم، ثم أُلْقِىَ به لها تعضعضه وتمصمصه تحت الأقدام؟ وعلى هذا فليس هناك أي متعلَّق لأي إنسان كائنا من كان كي ينتقد الآية القرآنية إلا إذا كان يريد النباح والعضّ والسلام، ولا يبغى فهما أو معرفة. فالحرف "في" في الآية الكريمة لا يعنى "داخل العين الحمئة" لأن الآيات القرآنية التي تذكر الشمس (كما سنوضح لاحقا) تتحدث عنها على أنها جِرْمٌ موجودٌ في الفضاء لا يغادره أبدا، بل يعنى أنه قد تصادف وقوع غروب الشمس حين كان ذو القرنين في ذلك المكان عند العين الحمئة، وإن كان ما شاهده بعينه يوحى أنها قد غربت في تلك العين. وحتى لو قيل إنها لم تغرب في العين بل وراء العين أو عند العين أو ما إلى ذلك، فإن هذا كله لا يصح من الناحية العلمية، فالشمس لا تبتعد ولا تختفي، بل الأرض هي التي تتحرك حولها، فتبدو الشمس وكأنها هي التي تغيب. لكنى قد عثرت أثناء تقليبي في المشباك بمن يقول معترضا على الآية إن مثل هذا التوجيه كان يمكن أن يكون مقبولا لو أن الآية فالت إن ذا القرنين "رأى" أو "شاهد" الشمس تغرب في العين، أمّا والآية تقول إنه "وجدها" تغرب في عينٍ حمئةٍ فمعنى هذا أن المقصود هو أنها كانت تغرب في العين فعلا. وقد جعلني هذا أفكر في استعمال هذا الفعل في مثل ذلك السياق في العربية لأرى أهو حقا لا يعنى إلا أن الأمر هو كذلك في الواقع لا في حسبان الشخص وإدراكه بغضّ النظر عما إذا كان هذا هو الواقع فعلا
أو لا. وقد تبين لي أن الأمر ليس كما ذهب إليه ذلك المعترض الذي سمي نفسه: "جوتاما بوذا" أو شيئا كهذا، فنحن مثلا عندما يُسْأَل الواحد منا السؤال التالي عن صحته: "كيف تجدك اليوم؟" (أي "كيف حالك؟") يجيب قائلا: "أجدنى بخير وعافية"، وقد يكون هذا القائل مريضا لكنه لا يدرى لأن أعراض المرض ليست من الوضوح أو لأنه من الاندماج في حياته اليومية بحيث لا يتنبه لحالته الصحية الحقيقية. وبالمثل يمكن أن يقول الواحد منا (صادقا فيما يظن) إنه وجد فلانا يضرب ابنه عند البيت، بينما الحقيقة أنه كان يداعبه أو كان يضرب ابن الجيران مثلا، لكن المتكلم توهم الأمر على ما قال. كذلك فالمصاب بعمى الألوان قد يقول إنه وجد البطيخة التي اشتراها خضراء على عكس ما أكد له البائع، ثم يكون العيب في الشاري لا في البائع ولا في البطيخة. أما المتنبي في قوله:
ومن َيكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ ** يجدْ مُرًّا به الماءَ الزُّلالا(1/192)
فقد كفانا مؤنة التوضيح بأنّ وجْداننا الشيء على وضعٍ ما لا يعنى بالضرورة أنه على هذا الوضع في الحقيقة والواقع. وفى القرآن مثلا: "فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه" (الكهف/ 77)، وليس هناك في أي مكان في الدنيا جدار عنده إرادة: لا للانقضاض ولا للبقاء على وضعه الذي هو عليه، لأن الجدران من الجمادات لا من الكائنات الحية ذوات الإرادة. كذلك فعندنا أيضا قوله عز شأنه: "والذين كفروا أعمالُهم كسرابٍ بقِيعَةٍ يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفّاه حسابه" (النور/ 39)، ولا يمكن القول أبدا بأن الآية على معناها الحرفي، فالله سبحانه لا ينحصر وجوده في مكان من الأمكنة، بل الكون كله مكانا وزمانا وكائنات في قبضته عز وجل، ومن ثم لا يمكن أن ينحصر وجوده عند السراب، وهذا من البداهة بمكان لأنه سبحانه وتعالى هو المطلق الذي لا يحده حد. والطريف أن بعض المفسرين الذين رجعت إليهم بعد ذلك قد وجدتهم يقولون إنه لو كانت الآية قالت إن الشمس "كانت تغرب" في العين فعلا لكان ثم سبيل لانتقادها، أما قولها إن ذا القرنين "وجدها تغرب" في العين فمعناه أن ذلك هو إدراكه للأمر لا حقيقته الخارجية. ومن هؤلاء البيضاوى، وهذه عبارته: "ولعله بلغ ساحل المحيط فرآها كذلك إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء، ولذلك قال: وجدها تغرب، ولم يقل: كانت تغرب"، وهذا الذي قاله أولئك المفسرون هو الصواب. وفى الكتاب المقدس لدى اليهود والنصارى شيء مثل ذلك، ومنه هذا الشاهدان: "وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب" (تكوين/ 6/ 8)، "فوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية. على العين التي في طريق شور" (تكوين/ 16/ 7). فالنعمة لا توجد في عين الرب على سبيل الحقيقة، فضلا عن أن الله لا يمكن أن يُرَى ولا أن تُرَى عينه (إن قلنا إن له سبحانه عينا لكنها ليست كأعيننا). كما أن المرأة التي وجدها ملاك الرب لم تكن "على" العين، بل "عند" العين.
أي أن الحقيقة الخارجية في كلا الشاهدين لم تكن على حَرْفِيّة ما جاء في العبارتين.
وعلى هذا النحو يمكننا أن نقرأ الشواهد الشعرية التالية: قال الأسعر الجعفى:
إِنّي وَجَدتُ الخَيلَ عِزّاً ظاهِراً ** تَنجي مِنَ الغُمّى وَيَكشِفنَ الدُجى
وقال الحارث بن عباد:
وَاِمتَرَتهُ الجَنوبُ حَتّى إِذا ما ** وَجَدَت فَودَهُ عَلَيها ثَقيلا
وقال امرؤ القيس:
أَلَم تَرَياني كُلَّما جِئتُ طارِقاً ** وَجَدتُ بِها طيباً وَإِن لَم تطَيَّب؟ِ
وقال الدحداحة الفقيمية:
* مِنْ معشرٍ وجدتهم لئاما *
وقال حاتم الطائى:
إِذا أَوطَنَ القَومُ البُيوتَ وَجَدتَهُم ** عُماةً عَنِ الأَخبارِ خُرقَ المَكاسِبِ
وقال سلامة بن جندل:
فَإِن يَكُ مَحمودٌ أَباكَ فَإِنَّنا ** وَجَدناكَ مَنسوباً إِلى الخَيرِ أَروَعا
وقال النابغة الذبيانى:
مَتى تَأتِهِ تَعشو إِلى ضَوءِ نارِهِ ** تَجِد خَيرَ نارٍ عِندَها خَيرُ مَوقِدِ
وقال مالك بن عمرو:
متى تفخَرْ بزَرْعَةَ أو بحِجْرٍ ** تجدْ فخرا يطيرُ به السناءُ
وقال الحصين بن الحمام الفزارى:
تَأَخَّرتُ أَستَبقي الحَياةَ فَلَم أَجِد ** لِنَفسي حَياةً مِثلَ أَن أَتَقَدَّما(1/193)
ذلك أن وِجْدانك الشىء على وضع من الأوضاع إنما يعنى إدراكك له على هذا الوضع رؤيةً أو سماعًا أو شمًّا أو لمسًا أو شعورًا باطنيًّا أو استدلالا عقليًّا كما في العبارات التالية: "نظرتُ فوجدتُه قائما"، أو "حينما اقتربتُ من الحجرة وجدتُه يغنى"، أو "قرّبت الزهرة من أنفى فوجدتها مسكيّة العبير"، أو "احتكت يدي بالحائط فوجدته خشن الملمس"، أو "وجدتُ وقع إهانته لي عنيفا"، أو "أعاد العلماء النظر في هيئة الأرض فوجدوها أقرب إلى شكل الكرة"، ثم سواء عليك بعد هذا أكان هو فعلا في الواقع والحقيقة كذلك أم لا. وفى ضوء ما قلناه نقرأ قول الزبيدى صاحب "تاج العروس": "وقال المُصَنّف في البصائرِ نقلاً عن أَبي القاسم الأَصبهانيّ: الوُجُودُ أَضْرُبٌ، وُجُودٌ بِإِحْدى الحَوَاسِّ الخَمْسِ، نحو: وَجَدْتُ زَيْداً وَوَجَدْتُ طَعْمَه ورائحتَه وصَوتَه وخُشُونَتَه، ووجُودٌ بِقُوَّةِ الشَّهْوَةِ نحو: وَجَدْتُ الشبع ووجوده أيده الغضب كوجود الحَرْبِ والسَّخَطِ، ووُجُودٌ بالعَقْل أَو بِوسَاطَة العَقْلِ، كمَعْرِفَة الله تعالى، ومَعْرِفَة النُّبُوَّةِ. وما نُسِب إِلى الله تعالى مِن الوُجُود فبمَعْنَى العِلْمِ المُجَرَّدِ، إِذ كان اللهُ تعالَى مُنَزَّهاً عن الوَصْفِ بالجَوَارِحِ، والآلاتِ، نحو قولِه تَعالى: "وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ"، وكذا المعدوم يقال على ضِدّ هذه الأَوْجُهِ. ويُعَبَّر عن التَمَكُّنِ من الشيءِ بالوُجُودِ نحو: "فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" أَي حَيْثُ رَأَيْتُمُوهُم، وقوله تعالى: "إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ"، وقوله: "وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للشَّمْسِ" وقوله: "وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ"، ووجود بالبصيرة، وكذا قوله: "وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا" وقوله: "فَلَمْ تَجِدُوا
مَاءً فَتَيَمَّمُوا"، أَي إِن لم تَقْدِروا على الماءِ".
ولقد كفانا مؤنة المضىّ أبعد من ذلك (على كفايته في حد ذاته) كاتبان ألّفا بحثا عثرت عليه في المشباك بعنوان: "Islam and the Setting of the Sun: Examining the traditional Muslim View of the Sun’s Orbit" يهاجمان فيه القرآن ويزعمان أن الرسول حين قال ما قال في الآية التي نحن بإزائها هنا إنما كان يقصد فعلا أن الشمس تغرب في عينٍ حمئةٍ على حرفية معناها، ومع هذا فقد بدءا كلامهما بالقول بما معناه أن تعبيرا مثل التعبير الذي في الآية الكريمة لا يدل بالضرورة على أن صاحبه قد اجترح خطأ علميا أو أنه يعتقد أن الشمس تغرب فعلا في العين. ثم أضافا أننا، حتى في عصرنا هذا حيث يعرف الجميع تمامًا أن الشمس في الواقع لا تشرق ولا تغرب، ما زلنا نقول إنها تشرق وتغرب. والكاتبان هما: Sam Shamounnو Jochen Katz، وهذا نَصّ ما قالاه:
we do need to make it clear that statements about the sun rising or setting do not, in and of themselves, prove that a person or author held to erroneous scientific views, or made a scientific error. One can legitimately argue that the person or author in question is using everyday speech, ordinary language, or what is called phenomenological language. From the vantage point of the person who is viewing the sun from the earth, the sun does indeed appear to be rising and setting. In fact, even today with all our advanced scientific knowledge we still refer to sunrise and sunset .Hence, an ancient book or writer may have not intended to convey actual scientific phenomena when describing the sun as rising or setting any more than today’s meteorologists, or newscasters, are speaking scientifically when referring to the rising and setting of the sun.(1/194)
وقد أخذتُ أنقّر في النصوص الإنجليزية والفرنسية الموجودة في المشباك حتى عثرتُ على طائفة من الشواهد النثرية والشعرية يتحدث فيها أصحابها لا على أن الشمس تشرق وتغرب فحسب، بل عن سقوطها أو غوصها أو غروبها في البحر أو في السهل أو ما إلى هذا. وإلى القارئ عينةً مما وجدته من تلك النصوص: "Alone stood I atop a little hill, And beheld the light-blue sea lying still, And saw the sun go down into the sea" (من قصيدة بعنوان: "AN EPISTLE" لـ Numaldasan)، "The sun sinks down into the sea" (من رواية "The Water-Babies" لـCharles Kingsley)، " The Sun came up upon the left, out of the sea came he! And he shone bright, and on the right Went down into the sea" (من قصيدة "The Rime of the Ancient Mariner" لكوليردج)، "The red sun going down into the sea at Scheveningen" (من "Letter from Theo van Gogh to Vincent Gogh van Auvers-sur-Oise, 30 June 1890")، "The sun sank slowly into the sea" (من مقال "The Light Of The Setting Sun" لـRocky)، " Just then the sun plunged into the sea it popped out from behind the gray cloud screen that had obscured the fiery disk" (من مقال بعنوان "Taps for three war buddies" في موقع "sun-herald.com")، "le soleil descendre dans l'ocean…" (من " L'ILE DES PINGOUINS" لأناتول فرانس)، " Le soleil, disparu dans la mer, avait laissé le ciel tout rouge, et cette lueur saignait aussi sur les grandes pierres, nos voisines" (من " En Bretagne" لجى دى موباسان)، "Spectacle saisissant, que le soleil couchant dans ces dunes impressionnantes" (من مقال "RAID EN LIBYE" لـRoger Vacheresse)، "On comprend aussi que la blessure de Réginald a quelque chose du Soleil plongeant dans la mer" (من "LES
CHANTS DE MALDOROR" لـle comte de Lautréamont).
هذا، ومن معانى "العين" في العربية (فيما يهمنا هنا) حسبما جاء في "لسان العرب": "عين الماء. والعين: التي يخرج منه الماء. والعين: ينبوع الماء الذي ينبع من الأرض ويجري... ويقال: غارت عين الماء. وعين الركية: مَفْجَر مائها ومنبعها. وفي الحديث: "خير المال عينٌ ساهرةٌ لعينٍ نائمة"، أراد عين الماء التي تجري ولا تنقطع ليلا ونهارا، وعين صاحبها نائمة، فجعل السهر مثلا لجريها... وعين القناة: مصب مائها... والعين من السحاب: ما أقبل من ناحية القبلة وعن يمينها، يعني قبلة العراق... وفي الحديث: إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عينٌ غديقة... والعين: مطر أيام لا يُقْلِع، وقيل: هو المطر يدوم خمسة أيام أو ستة أو أكثر لا يُقْلِع، قال الراعي:
وأنآء حيٍّ تحت عينٍ مطيرةٍ ** عظام البيوت ينزلون الروابيا
... والعين: الناحية". وعلى هذا فعندما يقول عبد الفادى (اقرأ: "عبد الفاضى") مؤلف كتاب "هل القرآن معصوم؟" (وهو جاهل كذاب من أولئك الجهلاء الكَذَبة الذين يَشْغَبون على كتاب الله المجيد) إن القرآن، بناء على ما جاء في تفسير البيضاوي، يذكر أن الشمس تغرب في بئرٍ، فإننا نعرف في الحال أنه يتكلم بلسان الكذب والجهل: فأما الجهل فلأن المسألة، حسبما رأينا في "لسان العرب"، أوسع من ذلك كثيرا بحيث تَصْدُق كلمة "العين" على البحر والسحاب والمطر أيضا. ولذلك وجدنا من المترجمين من يترجمها بمعنى "بحر" أو "بحيرة"، فضلا عن أنه من غير المستبعد أن يكون المعنى في الآية هو ذلك النوع المذكور من السحاب أو المطر. وأما الكذب فلأن البيضاوي لم يقل هذا، بل قال: "حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عينٍ حمئةٍ: "ذات حمأ"، من "حَمِئَتِ البئر" إذا صارت ذات حمأة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر: "حامية"، أي حارة، ولا تنافي بينهما لجواز أن تكون العين جامعة للوصفين، أو "حَمِيَة" على أن ياءها مقلوبة عن الهمزة لكسر ما قبلها. ولعله بلغ ساحل المحيط فرآها كذلك إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء. ولذلك قال: "وجدها تغرب"، ولم يقل: "كانت تغرب"...". فكما ترى ليس في البيضاوي أنها غربت في بئر، بل كل ما فعله المفسر الكبير أنه اتخذ من "البئر" مثالا لشرح كلمة "حمئة"، لكنه لم يقل قط إن معنى "العين" هو "البئر"، بل قال ما نصه: لعل ذا القرنين قد بلغ ساحل المحيط فرآها كذلك. وحتى لو قال ذلك فإن كلامه يبقى مجرد اجتهاد منه قد يصح أو لا يصح، ولا يجوز حمله على القرآن أبدا، وبخاصة أن كثيرا من المفسرين كذلك لم يفسروا العين بهذا المعنى. بيد أننا هنا بصدد جماعة من الطَّغَام البُلَداء الرُّقَعاء الذين كل همهم هو الشَّغْب بجهل ورعونة، إذ هم في واقع الأمر وحقيقته لا يعرفون في الموضوع الذي يتناولونه شيئا ذا بال، ومع هذا نراهم يتطاولون على(1/195)
القرآن الكريم! فيا للعجب! إن الواحد من هؤلاء الطَّغَام يتصور، وهو يتناول الكلام في كتاب الله، أنه بصدد كراسة تعبير لطفل في المرحلة الابتدائية، بل إن معلوماته هو نفسه لا تزيد بحال عن معلومات طفل في تلك المرحلة كما تبين لي وبينته للقراء الكرام في كتابي: "عصمة القرآن الكريم وجهالات المبشرين"، الذي فَنَّدْتُ فيه كلام هذا الرقيع، ومسحت به وبكرامته وكرامة من يقفون وراءه الأرض!
وهأنذا أسوق أمام القارئ الكريم بعض ما جاء في كتب التفسير القديمة: ففي القرطبى مثلا: "وَقَالَ الْقَفَّال: قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: لَيْسَ الْمُرَاد أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى الشَّمْس مَغْرِبًا وَمَشْرِقًا ووَصَلَ إِلَى جُرْمهَا وَمَسّهَا، لأَنَّهَا تَدُور مَعَ السَّمَاء حَوْل الأَرْض مِنْ غَيْر أَنْ تَلْتَصِق بِالأَرْضِ، وَهِيَ أَعْظَم مِنْ أَنْ تَدْخُل فِي عَيْن مِنْ عُيُون الأَرْض، بَلْ هِيَ أَكْبَر مِنْ الأَرْض أَضْعَافًا مُضَاعَفَة، بَلْ الْمُرَاد أَنَّهُ اِنْتَهَى إِلَى آخِر الْعِمَارَة مِنْ جِهَة الْمَغْرِب وَمِنْ جِهَة الْمَشْرِق، فَوَجَدَهَا فِي رَأْي الْعَيْن تَغْرُب فِي عَيْن حَمِئَة، كَمَا أَنَّا نُشَاهِدهَا فِي الأَرْض الْمَلْسَاء كَأَنَّهَا تَدْخُل فِي الأَرْض. وَلِهَذَا قَالَ: "وَجَدَهَا تَطْلُع عَلَى قَوْم لَمْ نَجْعَل لَهُمْ مِنْ دُونهَا سِتْرًا"، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهَا تَطْلُع عَلَيْهِمْ بِأَنْ تُمَاسّهُمْ وَتُلاصِقهُمْ، بَلْ أَرَادَ أَنَّهُمْ أَوَّل مَنْ تَطْلُع عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْقُتَبِيّ: وَيَجُوز أَنْ تَكُون هَذِهِ الْعَيْن مِنْ الْبَحْر، وَيَجُوز أَنْ تَكُون الشَّمْس تَغِيب وَرَاءَهَا أَوْ مَعَهَا أَوْ عِنْدهَا، فَيُقَام حَرْف الصِّفَة مَقَام صَاحِبه. وَاَللَّه أَعْلَم". وفى ابن كثير: "وَقَوْله: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِب الشَّمْس"، أَيْ فَسَلَكَ طَرِيقًا حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَقْصَى
مَا يُسْلَك فِيهِ مِنْ الأَرْض مِنْ نَاحِيَة الْمَغْرِب، وَهُوَ مَغْرِب الأَرْض. وَأَمَّا الْوُصُول إِلَى مَغْرِب الشَّمْس مِنْ السَّمَاء فَمُتَعَذِّر، وَمَا يَذْكُرهُ أَصْحَاب الْقَصَص وَالأَخْبَار مِنْ أَنَّهُ سَارَ فِي الأَرْض مُدَّة، وَالشَّمْس تَغْرُب مِنْ وَرَائِه،ِ فَشَيء لا حَقِيقَة لَهُ. وَأَكْثَر ذَلِكَ مِنْ خُرَافَات أَهْل الْكِتَاب وَاخْتِلاق زَنَادِقَتهمْ وَكَذِبهمْ. وَقَوْله: "وَجَدَهَا تَغْرُب فِي عَيْن حَمِئَة"، أَيْ رَأَى الشَّمْس فِي مَنْظَره تَغْرُب فِي الْبَحْر الْمُحِيط. وَهَذَا شَأْن كُلّ مَنْ اِنْتَهَى إِلَى سَاحِله يَرَاهَا كَأَنَّهَا تَغْرُب فِيه،ِ وَهِيَ لا تُفَارِق الْفَلَك الرَّابِع الَّذِي هِيَ مُثْبَتَة فِيهِ لا تُفَارِقهُ". وفى الجلالين: "..."حَتَّى إذَا بَلَغَ مَغْرِب الشَّمْس": مَوْضِع غُرُوبهَا "وَجَدَهَا تَغْرُب فِي عَيْن حَمِئَة": ذَات حَمْأَة، وَهِيَ الطِّين الأَسْوَد. وَغُرُوبهَا فِي الْعَيْن: فِي رَأْي الْعَيْن، وَإِلاّ فَهِيَ أَعْظَم مِنْ الدُّنْيَا". وأرجو ألا يغيب عن ناظر القارئ الحصيف كيف أن ابن كثير يلقى باللوم في أمر التفسيرات الخرافية في الآية على زنادقة أهل الكتاب وكذابيهم، مما يدل على أن القوم هم هكذا من قديم لم تتغير شِنْشِنَتهم، وأن فريقا من علمائنا كانوا واعين بالدور الشرير الذي كانوا يضطلعون به لتضليل المسلمين بإسرائيلياتهم، وكانوا يعملون على فضح سخفهم ومؤامراتهم.(1/196)
أما الرازي فإني أود أن نقف معه قليلا لنرى كم يبلغ جهل عبد الفاضى وبلادته وتدليسه هو وأشباهه، إذ إن مفسرنا العظيم قد أشبع القول في هذا الموضوع بما يكفى لقطع لسان كل زنديق كذاب. قال العلامة المسلم عليه رضوان الله: "{حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا: يا ذا القرنين، إما أن تعذِّب وإما أن تتخذ فيهم حُسْنا* قال: أما من ظَلَم فسوف نعذبه ثم يُرَدّ إلى ربه فيعذبه عذابا نُكْرا* وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاءً الحسنى وسنقول له من أمرنا يُسْرا* ثم أَتْبَعَ سببا}: اعلم أن المعنى أنه أراد بلوغ المغرب فأتبع سببا يوصله إليه حتى بلغه، أما قوله: {وجدها تغرب في عينٍ حَمِئَة} ففيه مباحث: الأول: قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم "في عين حامية" بالألف من غير همزة، أي حارة... وهي قراءة ابن مسعود وطلحة وابن عامر، والباقون: "حمئة"، وهي قراءة ابن عباس... واعلم أنه لا تنافي بين "الحمئة" و"الحامية"، فجائز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعا. البحث الثاني: أنه ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها، ولا شك أن الشمس في الفلك، وأيضا قال: {ووجد عندها قوما}، ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود، وأيضا الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض؟ إذا ثبت هذا فنقول: تأويل قوله: {تغرب في عين حمئة} من وجوه. الأول: أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب ولم يبق بعده شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عينِ وهدةٍ مظلمةٍ، وإن لم تكن كذلك في الحقيقة، كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط، وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر. هذا هو التأويل الذي ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره. الثاني: أن للجانب الغربي من الأرض مساكن يحيط البحر بها، فالناظر إلى الشمس يتخيل كأنها تغيب في تلك البحار، ولا شك أن البحار الغربية
قوية السخونة فهي حامية، وهي أيضا حمئة لكثرة ما فيها من الحمأة السوداء والماء، فقوله: {تغرب في عين حمئة} إشارة إلى أن الجانب الغربي من الأرض قد أحاط به البحر، وهو موضع شديد السخونة. الثالث: قال أهل الأخبار: إن الشمس تغيب في عين كثيرة الماء والحمأة، وهذا في غاية البعد، وذلك لأنا إذا رصدنا كسوفا قمريا فإذا اعتبرناه ورأينا أن المغربيين قالوا: "حصل هذا الكسوف في أول الليل"، ورأينا المشرقيين قالوا: "حصل في أول النهار"، فعلمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق، بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا فهو وقت العصر في بلد، ووقت الظهر في بلد آخر، ووقت الضحوة في بلد ثالث، ووقت طلوع الشمس في بلد رابع، ونصف الليل في بلد خامس. وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بعد الاستقراء والاعتبار، وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال: إنها تغيب في الطين والحمأة كلاما على خلاف اليقين. وكلام الله تعالى مبرَّأ عن هذه التهمة، فلم يبق إلا أن يُصَار إلى التأويل الذي ذكرناه. ثم قال تعالى: {ووجد عندها قوما}. الضمير في قوله: "عندها" إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: الأول: أنه عائد إلى الشمس، ويكون التأنيث للشمس لأن الإنسان لما تخيل أن الشمس تغرب هناك كان سكان هذا الموضع كأنهم سكنوا بالقرب من الشمس. والقول الثاني: أن يكون الضمير عائدا إلى العين الحامية، وعلى هذا القول فالتأويل ما ذكرناه ".
ومع هذا كله يريد الكاتبان المذكوران آنفا ( Sam Shamounو Jochen Katz) أن يعيدانا مرة أخرى إلى المربع رقم واحد، إذ يقولان إن مؤلف القرآن (يقصدان بالطبع الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام. نعم عليه الصلاة والسلام رغم أنفهما وأنف رشاد خليفة وتابِعه قُفّة) قد ذكر أن ذا القرنين وجد الشمس تغرب في عين حمئة، ولم يقل إنها كانت تبدو له كذلك. وهذا رغم قولهما إننا لا نزال حتى الآن، ورغم كل التقدم العلمى والفلكى والجغرافي، نقول إن الشمس تشرق وتغرب، ولم يقولا إن على الواحد منا أن يوضح أن الأمر إنما يبدو فقط كذلك. فلماذا الكيل بمكيالين هنا؟ ترى أي خبث هذا الذي أتياه حين أرادا في البداية أن يتظاهرا بالموضوعية والحياد والبراءة كي يخدّرا القارئ ويوهماه أنهما لا يريدان بالقرآن شرا ولا تدليسا، ثم سرعان ما يستديران بعد ذلك ويلحسان ما قالاه؟(1/197)
ثم يمضى العالمان النحريران فيقولان إن القرآن يؤكد أن ذا القرنين قد بلغ فعلا المكان الذي تغرب فيه الشمس، وهو ما لا وجود له على الأرض، مما لا معنى له البتة إلا أن مؤلف القرآن قد ارتكب خطأ علميا فاحشا بظنِّه أن القصة الخرافية التي وصلت إلى سمعه هي حقيقة تاريخية: "However, the Quran goes beyond what is possible in phenomenological language when it states that Zul-Qarnain reached the place where the sun sets, i.e. the Quran is speaking of a human being who traveled to the place of the setting of the sun. Such a statement is wrong in any kind of language, since such a place does not exist on this earth. This is a serious error that was introduced into the Quran because the author mistook a legend to be literal and historical truth". أي أن سيادتهما يريان أن كلمة "مغرب الشمس" لا تعنى إلا مكان غروب الشمس، وأن معنى الكلام لا يمكن أن يكون إلا ما رأياه بسلامتهما. فلننظر إذن في هذا الكلام لنرى نحن أيضا مبلغه من العلم أو الجهل: فأما أن "غروب الشمس" لا تعنى هنا إلا المكان الذي تغرب فيه الشمس فهو كلامٌ غبىٌّ كصاحبيه، إذ إن صيغة "مَفْعل" (التي جاءت عليها كلمة "مغرب") قد تعنى المكان، أو قد تعنى الزمان، بل قد تعنى المصدرية فقط، وهو ما يجده القارئ في كتب الصرف والنحو في بابَىِ "اسم الزمان والمكان" و"المصدر الميمى". أي أن الآية قد يكون معناها أن ذا القرنين قد بلغ مكان غروب الشمس أو أن يكون قد بلغ زمان غروبها، إذ البلوغ كما يقع على المكان فإنه يقع على الزمان أيضا (فضلاً عن الأشياء والأشخاص). جاء في مادة "بلغ" من "تاج العروس": "بَلَغَ المَكَانَ، بُلُوغاً، بالضَّمِّ: وَصَلَ إليْهِ وانْتَهَى، ومنْهُ قوْلُه تعالى: لَمْ تَكُونُوا بالغِيهِ إلا بشِقِّ الأنْفُسِ. أو بَلَغَه: شارَفَ عليْهِ، ومنه قولُه
تعالى: فإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ. أي قارَبْنَهُ. وقالَ أبو القاسِمِ في "المُفْرَداتِ": البُلُوغُ والإبْلاغُ: الانْتِهَاءُ إلى أقْصَى المَقْصِدِ والمُنْتَهَى، مَكَاناً كان، أو زَماناً، أو أمْرَاً منَ الأمُورِ المُقَدَّرَةِ. ورُبَّمَا يُعَبَّرُ بهِ عن المُشارَفَةِ عليهِ، وإن لم يُنْتَهَ إليْهِ، فمنَ الانْتِهَاءِ: "حتى إذا بَلَغَ أشُدَّهُ وبَلَغ أرْبَعِينَ سنَةً"، و"ما هُمْ ببالغِيه"ِ، "فلما بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ"، و"لَعلِّي أبْلُغُ الأسْبَاب"َ، و"أيْمانٌ عَلَيْنَا بالِغَةٌ"، أي مُنْتَهِيَةٌ في التَّوْكيدِ، وأمّا قَوْلُه: "فإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فأمْسِكُوهُنَّ بمَعْرُوفٍ"، فللمُشارَفَةِ، فإنّهَا إذا انْتَهَتْ إلى أقْصَى الأجَلِ لا يَصِحُّ للزَّوْجِ مُرَاجَعَتُهَا وإمْسَاكُها. وبَلَغَ الغُلامُ: أدْرَكَ، وبَلَغَ في الجَوْدَةِ مَبْلَغَاً، كما في "العُبَاب"ِ، وفي "المُحْكَمِ": أي احْتَلَمَ، كأنَّهُ بَلَغَ وَقْتَ الكِتابِ عليْهِ والتَّكْليفِ، وكذلكَ: بَلَغَتِ الجارِيَةُ...".
فإذا كان بلوغ الزمان (أو حتى بلوغ الحدث، أي المصدر) هو المقصود في الآية الكريمة فلا مشكلة، إذ سيقال حينئذ إن ذا القرنين حين أتى عليه وقت المغرب قد وجد كذا وكذا. لكن ماذا لو كان مكان غروب الشمس هو المراد؟ والجواب هو أن الكاتبين الألمعيين أنفسهما قد ذكرا ما معناه أنه لا غضاضة في أن يقول المتكلم حتى في عصرنا هذا إن الشمس قد غربت في البحر أو في السهل أو فيما وراء الجبل...إلخ. أليس كذلك؟ فهذا إذن هو مغرب الشمس طبقا لما تجيزه اللغة الظاهراتية (phenomenological language) حسب تعبيرهما، وعليه فإنه يجوز أيضا أن يقال إن فلانا أو علانا أو ترتانا قد بلغ مغرب الشمس، أي وصل إلى البحر أو الجبل أو السهل الذى رآها تغرب عنده. وعلى هذا أيضا فلا مشكلة! وأنا أحيلهما إلى ما سقتُه في هذا المقال من تعبيرات مشابهة في الكتاب المقدس، ومنها ما هو أبعد من الآية القرآنية في انتجاع هذه الاستعمالات المجازية! فما قول سيادتهما إذن؟ ألا يرى القارئ معى أن الأسداد قد ضُرِبت عليهما تماما فلا يستطيعان أن يتقدما خطوة ولا أن يتأخرا؟ وبالمناسبة فقد تكرر الفعل "بلغ" في صيغتي الماضي والمضارع هنا سبع مرات، وهو ما لم يتحقق لأية سورة أخرى غيرها. كما تعددت صيغة "مفعل" فيها: "مسجد، موعد (مرتين)، موبق، مصرف، موئل".(1/198)
والعجيب أنهما يُورِدان بعد ذلك عددا من النصوص القرآنية المجيدة التي تتحدث عن لزوم الشمس والقمر مسارا سماويا دائما لا يخرجان عنه، وهو ما يعضد ما قلناه من أن الأمر في قصة ذي القرنين إنما هو استعمالٌ مجازىٌّ أو وَصْفٌ لما كان يظنه ذلك الرجل في نفسه بخصوص غروب الشمس لا لما وقع فعلا خارج ذاته لأن القرآن يؤكد وجود مسارات سماوية دائمة لهذين الجِرْمَيْن، بَيْدَ أنهما كعادتهما يحاولان عبثا لي الآيات الكريمة عن معناها كي تدل على ما يريدان هما على سبيل القسر والتعنت! وعلى هذا فقول المؤلفين إنه إذا كان المفسرون المسلمون يشرحون الآية القرآنية بما يصرفها عن معناها الحرفي فذلك لأنهم يعرفون أن الشمس أكبر من الأرض، ومن ثم يستحيل أن تسعها أي عين فيها، ولأنهم أيضا يؤمنون بعصمة القرآن مما يدفعهم من البداية إلى تأويل الآية بحيث لا تدل على أن ثمة خطأ علميا قد ارتُكِب هنا، أكرر أن قول المؤلفين هذا هو قول متهافت بناء على ما أورداه هما أنفسهما من آيات قرآنية تنص على أن لكل من الشمس والقمر مسارا فلكيا دائما لا يفارقه، ومن ثم فمن المضحك أن نتمسك بحرفية المعنى في الآية المذكورة بعد كل الذي قلناه وقالاه هما أيضا. والعجيب أيضا أن المؤلفين يَعْمَيَان، أو بالحرى: يتعاميان عن أنه كان أولى بهما، بدلا من تضييع وقتهما في محاولتهما الفاشلة لتخطئة القرآن الكريم، أن يحاولا إنقاذ الإنجيل مما أوقعه فيه النص التالي مثلا من ورطة مخزية ليس لها من مخرج. قال متى: "ولما وُلِد يسوع في بيت لحم في أيام هيردوس الملك إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين. أين هو المولود ملك اليهود؟ فإننا رأينا نجمة في المشرق وأتينا لنسجد له… وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي، فلما رأوا النجم فرحوا فرحاً عظيماً جدا" (متى/ 2/ 1- 10)، فها نحن أولاء إزاء نجمٍ حجْمه ضِعْف حجم الأرض مراتٍ ومراتٍ
ومراتٍ...يتحرك من مكانه في الفضاء ويهبط مقتربا منها إلى حيث البيت الذي كان فيه الطفل الرضيع مع أمه وخطيبها السابق يوسف النجار، وهذا هو المستحيل بعينه، ولا يمكن توجيهه على أي نحوٍ يخرج كاتبه من الورطة الغبية التي أوقعه سوء حظه العاثر فيها. إن النص لا يقول بأي حال إن النجم قد صدر منه مثلا شعاع اتجه إلى المكان المذكور، بل قال إن النجم نفسه هو الذي اقترب من البيت، كما أنه لم يقل إن جماعة المجوس وجدوا النجم يقترب أو بدا لهم أنه يقترب، بما قد يمكن أن نقول معه إنهم كانوا يُهَلْوِسُون، ومن ثم ننقذ كاتب الإنجيل من ورطته ولو على حساب جماعة المجوس المساكين، وأمْرنا إلى الله، بل كان الكلام واضحا قاطعا في أن النجم هو الذي تحرك هابطًا حتى بات فوق المكان تماما!
وإلى القارئ شيئا من النصوص القرآنية التي تبين أن هناك مسارا سماويا دائما للشمس والقمر: "فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا" (أي بنظام وحساب دقيق: الأنعام/ 96)، "هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ (يونس/ 5)، "وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَار" (إبراهيم/ 33)، "وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى" (لقمان/ 29)، "لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَار" (يس/ 40)، "وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا" (أي في السماوات السبع)، "إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ" (أي خُلِعَتْ من مسارها يوم القيامة، بما يعنى أنها لا تفارق هذا المسار قبل ذلك الحين: التكوير/1). وقد صادفتُ بحثا في المشباك بعنوان " Orbits of Earth, Moon, & Sun: 18 RELEVANT VERSES REGARDING THE SUN’S & MOON’S: ORBIT, ROTATION AND LIFE" لكاتب وقَّع باسم "Frank" يستشهد بهذه الآيات وأمثالها على ما قلناه هنا، ويردّ من خلالها على من يتهمون القرآن بأن ثمة أخطاء علمية في حديثه عن الشمس والقمر والأجرام السماوية. ثم إنه يؤكد أيضا أننا ما زلنا نقول حتى الآن إن "الشمس غربت في البحر" كما جاء في الآية التي يدور حولها هذا المقال: "we still use expressions such as the sun set into the sea, as is used in verse 18:86". وفى النهاية أحب أن أقول للقارئ إن هناك وجها آخر في تفسير الآية الكريمة يجنِّبها كل هذا اللغط رأيت ابن حزم في كتابه العبقرى العظيم: "الفِصَل في الملل والنِّحَل" يقول به ويرفض كل ما سواه، وهو أن الذى كان في "عينٍ حمئةٍ" ليس هو الشمس، بل ذو القرنين نفسه. والمعنى حينئذ هو أن الرجل قد(1/199)
أدركه المغرب (أو أدرك هو المغرب) وهو في العين الحمئة. وتركيب الجملة يسمح بهذا بشيء غير قليل من الوجاهة، وإن لم يكن هو المعنى الذي يتبادر للذهن للوهلة الأولى. وشِبْه جملة "في عين حمئة" في هذه الحالة سيكون ظرفًا متعلقًا بفاعل "وجدها" وليس بالمفعول، أي أنه يصور حال ذى القرنين لا الشمس، وإن كان من المفسرين من يرفض هذا التوجيه كأبي حيان في "البحر المحيط"، إذ يرى فيه لونا من التعسف. وسأضرب لهذا التركيب مثلا أَبْسَط يوضح ما أقول، فمثلا لو قلنا: "ضرب سعيدٌ رشادًا واقفا" لجاز أن يكون المعنى هو أن سعيدا ضرب رشادا، وسعيد واقف، أو أن يكون المعنى هو أن سعيدا ضرب رشادا، ورشاد واقف. والسياق هو الذي يوضح ما يراد.
وأخيرًا أختم المقال بإيراد نص الرسالة التي بعث بها الأخ النصراني المهجري إلى العبد لله، والتي يصلنا منها الكثير منه ومن أمثاله لكننا نُغْضِى عنها عادة ولا نحب أن نشير إليها حتى لا يتحول الأمر إلى مسألة شخصية. وهذا هو النص المذكور:
Mr. Ibrahim Awad
Articles Writer
Online El Shaab Newspaper August 24,2005
Cairo, Egypt.
In your article titled, 'Sayed Qumni retires', in the 8/20/05 issue of the Online El Shaab Newspaper. Even though the article subject was a critical review of Mr. Qumni's response to a threat on his life, you could not help but inject your venomous hate to Christianity, Christians and the West at large. What concerns me here is that you made two, equally absurd, Claims.
First claim : Christianity needs Islam ,because it is the only religion that witness to the legitimacy of the lord Jesus Christ.
Second claim : Denying miracle occurrence, matters not to Islam, Muhammad or the Quran because of its absence in their make up. Unlike Christianity with it's theology that relies heavily on belief in miracles.
To address the first claim: Make no mistake, Christianity never admitted that Islam is a God inspired religion, nor Christians ever appealed to
Muslim's god 'Allah', his prophet Muhammad or the Quran to vouch for it's legitimacy.. It would be absolutely inappropriate for God, Jesus Christ, to ask a human to testify for Him. In the Gospel of John chapter 5, the lord Jesus Christ explained what would be acceptable as witness for Him. I chose 3 verses to quote. John 5:31 "If I bear witness to myself, my witness is not true." He goes on to say in 5:34 "But I receive not testimony from man, but these things I say that you may be saved." then He drives in the point in 5:36 " But I have greater witness than that of John (the Baptist). For the works which the Father has given me to finish. The same works that I do bears witness of Me that the Father has sent me."
You Are a writer and your works are articles and books. we know you as good or bad writer through your works, likewise a taxi driver, his works is to drive safely his customers, a teacher's work is to teach and so on..., God's work is to create. and all his works to us humans are supernatural.
No one else but Him can do it, we call it miracles.
The works that Jesus Christ did, Mr. Awad, bears witness to Him, and all His works can only be explained as the works of God. No sane person can deny that God's work s are miracles.
Responding to your second claim : By contrast you claim that denying miracles, matters not to Islam.
A close examination of this statement reveals fast that it is unfounded. on account that Hadith and Sunnah recite that Muhammad experienced a miracle at the start of his mission. Whereupon, while in a cave in the mountain an angel Gabriel appeared to him Then holding Muhammad three times and ordering him to read in the name of Allah, Sura 96:1-5. He Muhammad-an illiterate man-learned to read. Would not you say that was a miracle of substantial importance to the advent of Islam.
However the internal evidence within the Quran reveals that it was a lie....!, Because if Allah the creator had performed the miracle of causing Muhammad learned to read. It would have stayed with him for the rest of his life....! Alas a short while later when Muhammad had doubts about what Allah says to him. Allah in Sura Yunis 10:94 says If you Muhammad had doubts about what I said to you then ASk those who read the(1/200)
Book before thee.. This clearly shows that if Allah had taught him how to read, then He would have told him in this Sura to read what is written in the Book. The truth always has a funny way of being shouted out loud from the roof top of buildings and it prevails.
Without miracles, how else can you explain the events of the Israa and Mi'raj"
No discussion of the Quran miracles is complete without talking about what I call the 'MOTHER' of all miracles. Most miracles we know of are recitation of a single supernatural event that ceased to occur anymore and there are no ways to verify it. Not so,with the Mother of all miracles because it is an event that recurs once daily since the creation of earth and will keep going on strong until the hereafter. It is out there for every one to see and verify, should He/she will. If you are now anxious enough to know about it, read Sura El-Kahf 18:83-85. In response To the people curiosity about where does the sun go at night..." The all knowing Allah creator of the Earth and heavens provided the answer in the above said sura (18)
in which Allah instructed his macho man "'Zul Qurnain" to follow the sun, so he followed it until he saw it submerse in a hot murky spring.
The American philosopher Mark Twain said:" It is better to keep your mouth shut and appear stupid, than to open it and remove all doubts."
Little did Allah and his prophet Muhammad know neither about mark Twain, nor that the sun that appears to the human as big as a Basketball or a big round water melon, if you will, in the sky is actually the largest body in the solar system.
Consider these scientific facts before you embark on doing unwise thing.:
The sun's diameter is : 1,390,000 kilometers
The Earth's diameter is : 12,106 kilometers
That means that the sun is 115 times bigger than the earth.
downscale it to visualize it. The sun would be the size of a Basketball or a large round water melon, then the earth would be the size of one grapes and the hot murky spring, may be a dot, if can see it all, on the outer skin of this one grapes.
need I say anything more to show how hopelessly impossible the situation is and how pathetically ignorant Allah and Muhammad turned to be.
Tank you Mr. Awad, for giving me the challenge to respond to your unfounded allegations about Christianity and I pray that Lord Jesus Christ would break the shackles and locks that holds a steal veil of darkness upon Muslim people mind, so they would come out from 1400 years of ignorance to the light of knowing the one and only true God; the Father; His Word (Jesus Christ);and the Holy Ghost.
================
الإيجاز البلاغي في قصة النبي يوسف عليه السلام
يشكل الإيجاز، بوصفه صورة من صور البلاغة القرآنية، سمة من سمات كتاب الله (عز وجل) إذ يتميز النص القرآني عموماً بالتركيز والتكثيف، والوصول إلى جوهر المعنى عبر القول الموجز والإشارة الدالة.
تُستثنى من ذلك بعض الآيات التي اقتضى البيان الإلهي أن تأتي بشكل مفصّل، لكنه تفصيل لا ِيُحَمِّلَ التركيبَ فوق ما يحتمل المعنى أو يقتضيه. وفي ذلك كله بلاغة استدعت الإطناب والتفصيل في موضع، والإيجاز والتكثيف في موضع آخر.
تتجلى ظاهرة الإيجاز في قصة سيدنا يوسف (عليه السلام) في عنصرين أساسيين هما:
1 - الإيجاز في اللفظ
2 - الإيجاز بالحذف
وهذان العنصران متداخلان، متشابكان، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، ولذا فإن الحديث عن الإيجاز في القصة يقتضي بالضرورة دراسة هذين العنصرين في سياق واحد.
لكن الوقوف على مواطن الإيجاز جميعها في قصة يوسف (عليه السلام ) والإشارة إلى ما تحمله من دلالات بلاغية أمر متعذر، فكل جملة ( لا في القصة وحدها بل في القرآن الكريم كله) تحتاج إلى وقفة مطولة، دراسة وتحليلاً، فهماً وتدبراً ، إذا ما أردنا دراسة جانب من جوانب تركيبها البلاغي.
ولذلك نرى أن نقف على بعض مواطن الإيجاز في القصة، علنا نجد فيه مثالاً لما يذخر به النص القرآني من الإيجاز البلاغي الذي يمثل جانباً من جوانب إعجاز القرآن الكريم، مما لا يكون لبشر قط مهما أوتي من فصاحة القول وبلاغة المعنى .(1/201)
ولابد أن نشير أولاً إلى أن قصة يوسف (عليه السلام) جاءت في السورة عبر مجموعة من المشاهد، التي ترتبط فيما بينها ترابطاً عضوياً، فالانتقال من موقف إلى آخر في القصة يتم - غالباً - دون رابط سردي، غير أن الارتباط برابط السببية بين المشاهد، يغني عن السرد المحذوف، ويقوم بدوره، ويخلق في الوقت ذاته حالة من الحركية التعبيرية.
من هنا كان تناولنا قضية الإيجاز في القصة يقوم على التقاط بعض المشاهد منها، ومن ثم دراستها دراسة تحليلية تبين دور الإيجاز في صياغة القصة صياغة فنية رفيعة.
قضية الرؤيا:
( إذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ )
بذكر قضية الرؤيا تبدأ قصة يوسف ( عليه السلام )، هكذا دون تمهيد أو مقدمات غالباً ما تحفل بمثلهما القصص الأدبية، وفي حذفهما هنا ، والبدء بذكر قضية الرؤيا إشارة بليغة إلى أنها قضية جوهرية ومحور رئيس في البناء القصصي، وبذلك يكون البدء بذكرها أدعى إلى لفت النظر إليها، والتركيز عليها، وهذا ما لا يكون لو أنّ ذكرها سبق بتمهيد أو مقدمات!!!
وقول سيدنا يوسف " إني رأيت " ثم توكيده بـ " رأيتهم" ليس فيه ما يشير إلى أن ما رآه كان على وجه الحقيقة /من الرؤية/ وذلك من قبيل المعجزة التي لن تكون غريبة على بيت النبوة، أو أنه في المنام /من الرؤيا/ ذلك أن الفعل ( رأيت) يصلح في حالتي ( الرؤية ) و( الرؤيا).
ولكن يأتي قول سيدنا يعقوب ( يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ ) إذ لم يقل (رؤيتك) ليدلّنا على أن الرؤيا كانت في المنام، ولو ذكر سيدنا يوسف ذلك لكان في قول أبيه تكرار لما سبق ذكره، فكان حذف السابق لدلالة ما سيأتي عليه، وهذه سمة من سمات الأسلوب القصصي في سورة يوسف ( عليه السلام) كما سيتضح لاحقاً.
ولربما قيل: لماذا لا يذكر الأمر أولاً ثم يحذف تالياً فينتفي بذلك التكرار؟
نقول : إن ذلك سيفقد القصة عنصر التشويق، ويلغي إثارة التساؤل، وتحفيز الفكر، وتحريض المخيلة، وتلك عناصر مهمة ومؤثرة في البناء الفني للقصة، وكلما كان البناء الفني جيداً كان أقدر على إيصال الفكرة، وتحصيل الفائدة، وإدامة الأثر.
بين يوسف وإخوته:
( قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ )
بهذا عقّب سيدنا يعقوب على ذِكْرٍ ابنه رؤياه، وفي قوله هذا ما قد يثير في نفس يوسف (عليه السلام) حقداً على إخوته وكراهية لهم، فأراد أبوه أن ينسب أسباب الكيد إلى عداوة الشيطان للإنسان، ليؤكد ليوسف أن كيد إخوته له _ فيما لو حدث _ ليس صادراً عن طبع فيهم وسجية، بل إنه من وساوس الشيطان، فيدفع بذلك ما قد يثار في نفس يوسف على إخوته، وجاء ذلك في قوله: ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) فجاء في تلازم التحذير من إخوته وذكر عداوة الشيطان للإنسان في سياق واحد ما يغني عن طول الشرح وكثرة التفصيل.
ولعلنا نلاحظ أن تحذير سيدنا يعقوب ابنه يوسف من إخوته إنما جاء مقتضباً موجزاً ، إذ لم يأتِ على ذكر الأسباب التي ستدفعهم - وهم إخوته - إلى الكيد له وإظهار العداوة، ليأتي ذكر ذلك كله فيما بعد على لسان إخوة يوسف: ( إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) .
ويجتمع إخوة يوسف للتشاور في أمره، وإيجاد طريقة للتخلص منه، وتطرح الآراء:
( اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ *قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ )
هنالك ثلاثة آراء إذاً (اقتلوا يوسف _ اطرحوه أرضاً _ ألقوه في غيابة الجب) ولا تشير الآية الكريمة، إلى الطريقة التي أجمعوا عليها ، والقرار الذي توصلوا إليه، بل انتهى الأمر بهم في هذا المجلس حسب ما جاء في الآية عند حدود طرح الآراء والتشاور الذي لم يأتِ من بعده اتفاق نهائي أو إجماع مطلق، حسب نص الآية .... وهذا حذف يثير التساؤل حول ما ينوون فعله، وقد تضاربت آراءهم واختلفت، لنكتشف، فيما بعد، القرار الذي اتخذوه أثناء مشاوراتهم وأكدوه قبيل تنفيذه وذلك في قوله تعالى: (فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ) فكلمة (أجمعوا) في هذا الموضع تدل على أن الأمر لم يكن مجمعاً عليه تماماً حتى ذلك الوقت، وربما وجد بينهم من لم يكن راضياً عن هذا القرار، لكنه انصاع لرأي الأكثرية فصار الأمر إجماعاً.(1/202)
ومن مواطن الحذف ما يتجلى في عدم ذكر العذر الذي سيعود به إخوة يوسف إلى أبيهم بعد التخلص من أخيهم، إذ لا يعقل أن الأمر لم يكن موضع اهتمام ومدار نقاش خلال مشاوراتهم، لكن الحذف جاء لإثارة الفكر، والمحافظة على عنصر التشويق من جهة، ومنعاً للتكرار من جهة أخرى، ذلك أن ادعاءهم بأن الذئب أكل أخاهم سيأتي في موقف آخر (عند لقائهم أباهم) وقد عادوا دون أخيهم، ولا شك أن تأجيل ذكر ما اتفقوا عليه إلى هذا الموقف أكثر أهمية من ذكره في موضع سابق.
اتفق إخوة يوسف على التخلص منه، وبيّتوا عذراً يحملونه إلى أبيهم بعد أن يتم لهم ما خططوا له، ولم يعد أمامهم إلا إقناع أبيهم بأخذ يوسف معهم:
( َقالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ )
انظر إلى البيان الإلهي، وتأمل البلاغة القرآنية فيما ينطوي عليه قولهم هذا من معانٍ متعددة تشير في مجملها إلى طبيعة العلاقة بين الأب وأبنائه فيما يتعلق بشأن أخيهم يوسف، وأنها علاقة مبنية على فقد الثقة وعدم الاطمئنان.
ففي قولهم: مالك لا تأمنّا - على قلة ألفاظه - ما يدل على أن إخوة يوسف قد حاولوا أكثر من مرة الانفراد بأخيهم وكان أبوهم يقف حائلاً بينهم وبين ذلك، لشعوره أن ابنه (يوسف ) لن يكون في مأمن ما داموا منفردين به، وقولهم (مالك لا تأمنا)، تدل على حال دائمة، قائمة، مألوفة، وتدل أيضاً _ وقد جاءت على ألسنة إخوة يوسف_ أنهم يدركون بأنهم ليسوا موضع ثقة أبيهم (في شأن يوسف على الأقل) لذلك تجدهم حين عودتهم دون أخيهم يقولون: (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) مؤكدين إدراكهم غياب الثقة عن نفس أبيهم تجاههم.
وما كان ردّ سيدنا يعقوب أمام ادّعاء أبنائه إلا أن:
( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ )
انظر في قوله تعالى، حكاية عن سيدنا يعقوب: (سوّلت لكم أنفسكم) أي زيّنت لكم، فإنكم إنما مكرتم به ابتغاء منفعة تظنون، واهمين، أنكم ستحققونها بفعلكم. لكنّ أنفسكم خدعتكم وغرّتكم وصورت لكم الأمور على غير ما ستنتهي إليه.
وهذا ما كان حقيقة، فما فعلوه كان بقصد تغييب يوسف ليخلو لهم وجه أبيهم، ولينفردوا بمحبته إياهم، لكن الأمر سار على غير ما أرادوا، إذ ظلّ أمر يوسف يشغل بال أبيه مدة غيابه عنه حتى ضجر منه مَن حوله و: (قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ). فانظر في قوله: سولت لكم أنفسكم ، كم استطاعت أن تعبر عن المعنى المراد بإيجاز شديد.
إخراج يوسف من البئر:
( وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ )
بهذه الآية الكريمة يصف الله تعالى إخراج يوسف من البئر، بواسطة بعض المسافرين من التجار، وقد جاء ذكر إخراج يوسف من البئر موجزاً، مختصراً، لكنه إيجاز مذهل يغني عن السرد الطويل والشرح المفصّل.
فقد تتالت الأفعال في الآية الكريمة تتالياً سريعاً، رشيقاً، بالفاء العاطفة التي تفيد ترتيب حدوث الأفعال وتعاقبها دون فارق زمني يذكر، وهذا معناه أن المسافرين لما صاروا على مقربة من البئر أسرعوا في إرسال من يجلب لهم الماء ( فأرسلوا واردهم )، فأسرع هذا بدوره ملبياً حاجتهم إلى إحضار الماء بسرعة (فأدلى دلوه) وهنا تختفي (الفاء) (قال يا بشرى) ولم يقل الله سبحانه وتعالى (فقال يا بشرى ) ذلك أن البشرى تقتضي المفاجأة، وهذا ما يتحقق بحذف الفاء لتأتي العبارة مفاجئة، للدلالة على البشارة.... وتأمل - ضمن السياق - قول الوارد مستبشراً: (فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ) .
وقوله تعالى عن المسافرين الذين وجدوا يوسف (عليه السلام) : (سيّارة) وهي صيغة مبالغة من اسم الفاعل،إنما تدل على أن شأنهم كثرة السير، فهم تجار تعودوا السير في هذا الطريق، وهم بحكم كثرة سيرهم على هذا الطريق يعرفون البئر، يدل على ذلك سرعة إرسالهم الوارد حال اقترابهم من البئر( دلت على ذلك الفاء العاطفة) دون وجود ما يشير إلى أنهم وجدوا مشقة في اكتشاف هذا البئر، و ربما يوحي هذا بغير ما ذهب إليه بعض مفسّري الآية من أن إخوة يوسف ألقوه في بئر بعيدة عن طريق المارة، وأن هؤلاء السيارة قد ضلوا طريق سفرهم، فوجدوا البئر مصادفة.
فتعودهم السير في هذا الطريق(إذ هم سيّارة) يبعد من الذهن إمكانية أن يضلوا طريقهم. وإسراعهم بإرسال الوارد لا يوحي بإيجادهم البئر مصادفة، بل ربما دلّ على معرفتهم بوجود بئر في المكان الذي وصلوا إليه.(1/203)
ولنعد إلى قول إخوة يوسف عند تشاورهم في أمر يوسف: ( وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ )، والفعل (يلتقطه) جواب الطلب (ألقوه)، وجواب الطلب نتيجة له، ولو أنهم ألقوه في بئر بعيدة لكان التقاط بعض السيارة إياه أمر غير وارد، بل ربما هلك قبل أن يهتدي إلى مكان وجوده أحد !!
ويأتي الإيجاز في صورة من أجمل صوره، وأكثرها إيحاء،في قوله تعالى (وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً) فأما قوله تعالى:" أسرّوه " أي تعاملوا مع الأمر بسرية، فيعني أنهم خافوا أمراً ما( ربما خافوا أن يدّعي ملكيته أحد أو غير ذلك مما لا فائدة من تحديده ).
وأما قوله تعالى: " بضاعة " فيدلّ على أنهم تجّار، وربما كانوا تجار رقيق، أو أن هذا النوع من التجارة كان رائجاً منتشراً في ذلك الوقت، فاستبشروا بعثورهم على الغلام كونه بضاعة لها قيمتها وأهميتها... فتأمل كم اختزلت عبارة ( وأسروه بضاعة ) من المعاني والدلالات.ويأتي قوله تعالى: ( وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ )
ليثير في النفس تساؤلاً مهماً إذ كيف كان إيجاد الغلام والتعامل معه بوصفه بضاعة رابحة أمراً يبعث البشرى في نفس الوارد ورفاقه، ثم باعوه بثمن بخس وكانوا فيه من الزاهدين!؟
إن هذا الأمر الذي يثير التساؤل إنما يعلله ما جاء في الآية السابقة، في قوله تعالى: " وأسرّوه بضاعة " والسّرّية كما قلنا تعني الخوف، فالخوف إذاً هو الذي دفعهم إلى بيعه بأي ثمن، فذلك خير من أن يفقدوه دون مقابل، أو يظلّ عبئاً عليهم لأن ملكيتهم له لم تكن مشروعة، لذا استعجلوا الخلاص منه، ومن يستعجل الخلاص من بضاعة يبيعها بثمن بخس، ويكون زاهداً فيها، أما رأيت إلى السارق كيف يبيع ما يسرقه بأرخص الأثمان مهما ارتفعت قيمته وغلا ثمنه ...!!
يوسف وامرأة العزيز:
ويشتريه رجل من مصر (العزيز) ويوصي زوجته بأن تكرم مثواه، غير أن امرأة العزيز تجاوزت ذلك – لما بلغ أشده - إلى حدّ العشق والتعلق، فرغبت به وراودته عن نفسه، وغلقت الأبواب، فأبى وأصرت:
( وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )
(واستبقا الباب) أي استبقا إلى الباب ( الباب اسم منصوب بنزع الخافض ) أي أراد كل منهما أن يسبق الآخر إلى الباب هو ليفتحه وهي لتمنعه، ورأى بعض المفسرين أن في قوله تعالى: ( واستبقا الباب ) بالمعنى الذي قلناه إيجاز قرآني بلاغي.
ولنا أن نضيف إلى ذلك أن الصيغة التي جاءت عليها الكلمة ( استبقا ) وهي تدل على تكلّف الفعل وبذل المشقة في سبيله، إنما تحمل دلالة بيانية أعمق، ففيها أن امرأة العزيز أسرعت إلى الباب باذلة في ذلك جهداً مقترناً بعزيمة وإصرار على ارتكاب الفاحشة دون أن يثنيها عن ذلك ولو خاطر عابر بالتراجع عما أقدمت على فعله.
وبالمقابل فإن يوسف (عليه السلام) بذل كل مشقة في سبيل الوصول إلى الباب وفي ذلك دلالة قاطعة على أن ثمة عزماً شديداً منه على تجنب ارتكاب الفاحشة دون تراخٍ أو تهاون أو مرور خاطر بالنزول عند رغبتها.
( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ )
لنقف عند شهادة الشاهد، والشاهد أتت من المشاهدة، وامرأة العزيز ويوسف لم يكن معهما أحد ليكون شاهداً على ما حدث، ولعل الشاهد قد شهد موقف امرأة العزيز ويوسف ( عليه السلام ) وقد ألفيا سيدها لدى الباب، وذِكرُ الشاهد قضيةَ قدِّ القميص تعني بالضرورة عدم رؤيته قميص يوسف وقد قُدَّ من دبر، وإلا فلا معنى لشهادته.
كيف خطرت له مسألة القميص إذاً ؟
أَوَلم يكن ممكناً ألا يكون يوسف ( عليه السلام ) مرتدياً قميصاً في ذلك الموقف ؟
الراجح - والله أعلم - أن امرأة العزيز ذكرت قميص يوسف لتجعله دليلاً على مقاومتها إياه ومنعه من فعل الفاحشة، ولم تُشر إلى الجهة التي قُدَّ منها، وكأن الشاهد – وهو خارج الباب برفقة العزيز – قد سمع ذلك دون أن يرى يوسف ، فرأى أن يجعل القميص دليل إدانة أو براءة، وهنا تنبّه العزيز إلى هذه المسألة فعرف بها كيد زوجته، وتأكد من براءة يوسف مما اتهمته به زوجته.
وهذا من وجوه الحذف البلاغي في القصة، إذ لم تشر الآية إلى أن امرأة العزيز ذكرت قدّ القميص كدلالة على براءتها، والآية لم تذكر أيضاً مكان وجود الشاهد في هذا الموقف، وأنه كان يسمع ما يحدث وهو خارج الباب دون أن يرى... فهذا كله مما توحي به الآية الكريمة بإيجاز موحٍ يحتاج إلى شيء من التأمل والتدبر.
ومما جاء في هذا الموقف مفصلاً قول الشاهد:
إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ
إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ(1/204)
وكان ممكناً حسب البلاغة القرآنية اختزال هذا القول بالاكتفاء بالجزء الأول منه، إذ يتضمن في ظل وجود الشرط معنى جزئه الثاني.
لكن ذكر جانب دون الآخر، أو التفصيل في جانب والإيجاز في جانب الآخر– فيما لو جاء على هذا النحو – ربما يحمل دلالة على ميل الشاهد إلى الاحتمال الذي فصّل فيه، لذا جاء قوله في الاحتمالين متساوياً من حيث عدد الكلمات، حرصاً منه على أن يكون دقيقاً في قوله، منطقياً في رأيه، حيادياً، عادلاً، في سبيل الوصول إلى الحقيقة.
( وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ )
إن قوله تعالى: ( قال نسوة في المدينة ) يدل على تسرّب الخبر من القصر وانتشاره على نطاق ضيّق، لم يصل حدّ الشيوع والعموم، فـ( نسوةٌ ) اسم جمع قلّة، وهذا ما مكن امرأة العزيز من دعوة هؤلاء النسوة إلى قصرها.
(ونسوة في المدينة) تقليل لشأن هؤلاء النسوة إذ جاء ذكرهن منكراً، على عكس ما جاء في الآية نفسها بقولهم:(امرأة العزيز) وهذا يدل على أنهن دونها شأناً ومكانةً.
وقد فصّل المفسرون القول في هذه الآية، فرأوا أن نسبتها إلى زوجها العزيز أدعى إلى استعظام الأمر، فهي متزوجة (هذا من جهة) وهي من (ذوات النفوذ والسلطان) فأمرها أعظم سوءاً من سواها
(تراود): مضارع يدل على التجدد والاستمرارية، أي كان هذا ، وما يزال، دأبها وديدنها حتى لحظة قولهن، فهي تفعل ذلك بإصرار واستمرار.
( فتاها ):عبدها أو مملوكها، وهذا أكثر تشنيعاً وتشهيراً فسميت بـ (امرأة العزيز) أي ذات النفوذ والسلطان، وسمي من تراوده عن نفسه بـ( فتاها)، تذكيراً بتبعيته لها ومملوكيتها له.
( قد شغفها حباً ): أي وصل حبه سويداء قلبها وتمكّن منه.
( إنّا لنراها في ضلال مبين ) وجاء قولهن هذا مؤكداً بمؤكدين زيادة في استنكارهن فعلها، وأنه بعيد كل البعد عن الصواب والرأي السديد... فتأمل كم حملت هذه الكلمات القليلة الموجزة من معان ودلالات !!
( فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا )
قوله تعالى: آتت كل واحدة منهن سكيناً، إشارة إلى أنها وضعت لهن أصناف الفواكه وسواه، مما يحتاج أكله إلى استخدام السكين.
وقوله تعالى(سمعت بمكرهن) يدل على أن ما قالته النسوة قد تناقلته الألسن(كثرت أم قلّت) حتى تناهى الخبر إلى سمعها. فسماع الأمر غير السماع به، فالسماع بالأمر يعني أن ثمة واسطة أو ناقلاً بين القائل والسامع، بين المرسل والمتلقي، وهذا يؤكد تناقل الخبر، ولو على نطاق محدود، ويفسّر في الوقت ذاته علّة سجن يوسف رغم رؤية الدلائل على براءته، إذ أخذ الخبر ينتشر بين الناس، حتى غدا سجنه أدعى إلى إلصاق التهمة به وتجريمه، وبذلك يبدو الأمر محاولة اعتداء عبد على سيدته، نال جزاءه سجناً.
خروج يوسف من السجن:
يخرج يوسف ( عليه السلام ) من السجن بعد تأويل رؤيا رآها الملك وقد جهل تأويلها أصحاب هذا العلم ممن يحيطون به، ولما أن علم الملك بقصة يوسف مع النسوة، وعلم ببراءته مما اتهم به ...
(قَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ) انظر في قوله تعالى حكاية عن الملك (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) فقد اشتملت كلمة (أستخلصه) على جملة من المعاني (كما وردت في معاجم اللغة ):
أستخلصه: أي أنجيه من كربته أو مصيبته، وأختاره، وأصطفيه، وأختصه: أجعله خالصاً لي.
وأستخلصه: مبالغة من ( أخلصه ) تدل على شدة حرص الملك على اصطفائه يوسف، واختياره إياه، ليكون من خاصته.
(فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ )
وفي الكلام محذوف .... أي لما كلمه الملك أعجب بحسن منطقه، ورجاحة عقله، واتزانه، مما زاده إعجاباً به، فارتقى بعلاقته بيوسف ( عليه السلام ) من العلاقة الخاصة، بجعله مقرباً إليه، إلى أن يجعل له مكانة مرموقة ورتبة عالية في دولته.
ولما أن علم يوسف علوّ منزلته عند الملك، وتيقن من ثقته به، ومحبته إياه (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ).
وقوله: إني حفيظ، جاءت رداً على قول الملك (مكين أمين) أي إنني أهل للثقة، حافظ للأمانة.
ثم أضاف إلى ذلك قوله ( عليم ) أي عالم بإدارة الأمور المالية في الدولة، بما يضمن تحقيق العدل والمساواة بين الرعية.
و يبدو أن وزارة المالية لم تكن قادرة - إذ ذاك - على إدارة شؤون الدولة الاقتصادية، فأراد يوسف ( عليه السلام ) أن يشغل هذا المنصب لدرايته بذلك، وعلمه به.
وليس أدل على ذلك من قول يوسف عند تأويل رؤيا الملك :(1/205)
( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ )
نلاحظ أنّ يوسف ( عليه السلام ) لم يكتفِ بتأويل الرؤيا بل ضمّن ذلك إيجاد الحلول، ولو كان من يدير الشؤون الاقتصادية قادراً على إيجاد الحلول، لوقف سيدنا يوسف عند حدّ تأويل الرؤيا وترك أمر الحل إلى أصحاب الشأن.
ولعل ما طرحه يوسف ( عليه السلام ) حلاً للمشكلة قبل وقوعها كان سبباً في جعل الملك أكثر إيماناً بأهليّة يوسف لهذا المنصب...
وإذا صحّ ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن الرجل الذي اشترى سيدنا يوسف ( أي العزيز ) هو من كان يشغل منصب وزير المالية في ذلك الوقت، فإن في ظلمه يوسف ( عليه السلام ) وسجنه إياه، رغم تأكده من براءته، دليل كاف على أنه ليس أهلاً لذلك المنصب، إذ لن يكون وهو على هذه الحال عادلاً بين الرعية ...
يوسف وإخوته في مصر:
وجاء إخوة يوسف ليكتالوا في سنوات الجدب، غير أن يوسف أبى إلا أن يعودوا ليحضروا أخاهم بنيامين حتى ينال حصته ، فعاد إخوته وراودوا عنه أباه حتى جاؤوا به بعد أن أعطوا أباهم ميثاقاً بأن يحفظوا أخاهم بنيامين من كل سوء ما لم يغلبوا على أمرهم:
( وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )
انظر في قوله تعالى (آوى إليه أخاه) كم فيه من إيجاز في الألفاظ ، وغنىً بالمعاني والدلالات.
فمن ينظر في كلمة (آوى) في معاجم اللغة سيجد أنها تأتي بمعنى: أعاد، وضمّ، وأحاط، وأنزل عنده، وأشفق، ورحم، ورقّ. وتآوت الطير: تجمعت بعضها إلى بعض. وتآوى الجرح : أي تقارب للبرء.
فانظر بلاغة القرآن العظيم وكم لهذه الكلمة من المعاني التي تصوّر حال يوسف (عليه السلام) عند لقائه أخاه بعد فراق طويل !!
ثم يأتي قوله تعالى:
( فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ )
إن الآية الكريمة تشير إلى أمر يثير الاستغراب، إذ لا يعلم المتلقي أية حاجة تلك دفعت يوسف ( عليه السلام ) إلى إلصاق تهمة السرقة بأخيه!!
إذاً ثمة أمر كان قد أضمره يوسف (عليه السلام) بوضع الصواع في رحل أخيه ( فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ ) ، وليس في نص الآية الكريمة ما يشير إلى أن يوسف (عليه السلام) كان قد اخبر أخاه بما ينوي فعله، حتى لا يفاجأ أو يفزع من وجود الصواع في رحله أمام مرأى من إخوته، وبعض خاصة يوسف (عليه السلام).
لقد أراد يوسف (عليه السلام) بفعله هذا أن يستبقي أخاه بنيامين فاحتال لذلك ودبّر، لكن ما فعله يوسف (عليه السلام ) لم يكن في حقيقته إلا وحياً من الله سبحانه وتعالى: ( كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ ).
وحاول إخوة يوسف ( عليه السلام ) العودة بأخيهم بنيامين إلى أبيهم، وذهبوا في إقناع يوسف كل مذهب ... لكنهم يفلحوا:
( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا )
واستيئسوا : صيغة مبالغة من يئسوا، ومعنى ذلك أنهم بذلوا في سبيل إقناعه كل جهد ولم يفلحوا، فلما بلغوا غاية اليأس اعتزلوا الناس ومضوا، منفردين في جانب بعيد عنهم، ليقلّبوا وجوه الأمر فيما بينهم.
واستخدام صيغة مبالغة من يئسوا ( استيئسوا ) فيه التزام بما عاهدوا أباهم عليه حين أعطوه موثقاً من الله أن يحفظوا أخاهم ما لم يغلبوا على أمرهم، ولذا بذلوا في سبيل ذلك كل جهد، واتبعوا كل وسيلة.
وأما التناجي فيما بينهم ففيه ما يدل على طرح أمر لا يريدون من غيرهم أن يطّلع عليه ... لذا كانت نجواهم فيما بينهم تتعلق بهذين الأمرين:
قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ.
وتمضي الأحداث ليكتشف إخوة يوسف أن العزيز ما هو إلا ذلك الغلام الصغير الذي ألقوه في غيابة الجب منذ سنوات بعيدة، فاعتذروا إليه، وحملوا قميصه، وعادوا به ليلقوه على وجه أبيهم، فيرتد إليه بصره بعد أن فقده حزناً على فراق ولديه.
وينتقل الجميع إلى مصر ليجمع الله تعالى سيدنا يعقوب بابنه يوسف ( عليهما السلام ) بعد غياب طويل، (فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) ها هي كلمة ( آوى ) ترد من جديد، تتضمن معاني التآلف ، والتئام الجرح، وتحمل في طياتها معاني الرحمة بأبويه، والعطف عليهما، وقد أصبحا طاعنين في السن.
دعاء يوسف (عليه السلام):
وتنتهي قصة يوسف بدعائه عليه السلام:(1/206)
( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ).
فانظر المعاني العظيمة التي اشتمل عليها الدعاء بإيجاز شديد كما ورد ت في الآية الكريمة ؟
في دعاء يوسف ( عليه السلام ):
- أمران نالهما يوسف من ربه في الدنيا: آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ
- أمران طلبهما يوسف من ربه لآخرته: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ
- أمران يتعلقان بصفات الله تعالى :
القدرة والخلق .. فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
الإلوهية والوحدانية .. أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا (بما وهبتني) وَالآخِرَةِ (بما أرجوه منك)
فانظر آداب الدعاء في قول سيدنا يوسف:
بدأ يوسف ( عليه السلام ) دعاءه بالاعتراف بفضل الله تعالى عليه في الدنيا، بما وهبه من العلم والملك. ثم أثنى عليه بما هو أهله، واختار من صفات الله تعالى القدرة، والخلق (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، فخالق السموات والأرض هو القادر وحده على إجابة الدعاء.ثم أقر سيدنا يوسف بعبوديته لله تعالى، وتوحيده إياه، والافتقار إليه، باستعطاف، واسترحام، وتذلل: ( أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ ).
ثم طلب بعد ذلك من الله تعالى أن يتوفاه على الإسلام ويلحقه بالصالحين.
فكان أن جمع سيدنا يوسف في دعائه بين خيري الدنيا ( العلم والملك ) والآخرة ( الوفاة على الإسلام، والحشر مع الصالحين في الجنة ) طالباً ذلك كله من خالق السموات والأرض ومن فيهما، ووارثهما ومن فيهما.
ياسر محمود الأقرع
==============
لمسات في وصية لقمان
بقلم الدكتور فاضل السامرائي
تبدأ الوصية من قوله تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ( 19))
تلك هي الوصية وقد بدأت بذكر إتيان لقمان الحكمة
"وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ" 12
الحكمة
والحكمة هي وضع الشيء في محله قولا وعملا، أو هي توفيق العلم بالعمل، فلا بد من الأمرين معا: القول والعمل، فمن أحسن القول ولم يحسن العمل فليس بحكيم، ومن أحسن العمل ولم يحسن القول فليس بحكيم.فالحكمة لها جانبان: جانب يتعلق بالقول، وجانب يتعلق بالعمل. والحكمة خير كثير كما قال الله تعالى: "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا" البقرة 269
الله تعالى مؤتي الحكمة ولذلك نلاحظ أنه تعالى قال: " وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ"
قال (آتينا) بإسناد الفعل إلى نفسه، ولم يقل: لقد أوتي لقمان الحكمة، بل نسب الإتيان لنفسه. والله تعالى في القرآن الكريم يسند الأمور إلى ذاته العلية في الأمور المهمة وأمور الخير، ولا ينسب الشر والسوء إلى نفسه ألبتة. قال تعالى: "وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً10" الجن(1/207)
فعندما ذكر الشر بناه للمجهول، وعندما ذكر الخير ذكر الله تعالى نفسه.وهذا مطرد في القرآن الكريم، ونجده في نحو: "آتيناهم الكتاب" و "أوتوا الكتاب" فيقول الأولى في مقام الخير، وإن قال الثانية فهو في مقام السوء والذم. وقال تعالى: " وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً 83" الإسراء فعندما ذكر النعمة قال: (أنعمنا) بإسناد النعمة إلى نفسه تعالى. وعندما ذكر الشر قال: "وإذا مسه الشر" ولم يقل: إذا مسسناه بالشر.ولم ترد في القرآن مطلقا: زينا لهم سوء أعمالهم، وقد نجد: زينا لهم أعمالهم، بدون السوء، لأن الله تعالى لا ينسب السوء إلى نفسه، ولما كانت الحكمة خيرا محضا نسبها إلى نفسه
ـ إن قيل: فقد قال في موضع: "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا" البقرة 269
فالرد أنه عز وجل قد قال قبلها: "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" فنسب إتيان الحكمة إلى نفسه، ثم أعادها عامة بالفعل المبني للمجهول.
مقام الشكر
- ( أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) لها دلالتان:
الأولى: أن الحكمة لما كانت تفضلا ونعمة فعليه أن يشكر النعم، كما تقول: لقد آتاك الله نعمة فاشكره عليها. والله آتاه الحكمة فعليه أن يشكره لأن النعم ينبغي أن تقابل بالشكر لموليها. (آتاك نعمة الحكمة فاشكره عليها)
الثانية:أن من الحكمة أن تشكر ربك، فإذا شكرت ربك زادك من نعمه "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ 7)" إبراهيم ولو قال غير هذا ، مثلا (فاشكر لله) لكان فيه ضعف، ولم يؤد هذين المعنيين. وضعف المعنى يكون لأن الله تعالى آتاه النعمة "وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ" فإن قال بعدها: (فاشكر لله ) فهذا أمر موجه لشخص آخر وهو الرسول، فيصير المعنى : آتى الله لقمان الحكمة فاشكر أنت!! كيف يكون؟ المفروض أن من أوتي الحكمة يشكر ولذلك قال: "أن اشكر لله" فجاء بأن التفسيرية ولو قال أي تعبير آخر لم يؤد هذا المعنى.
الشكر والكفر
( وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ 12)
"يشكر" قال الشكر بلفظ المضارع ، والكفران قاله بالفعل الماضي "ومن كفر" من الناحية النحوية الشرط يجعل الماضي استقبالا ، مثال (إذا جاء نصر الله)، فكلاهما استقبال. ويبقى السؤال : لماذا اختلف زمن الفعلين فكان الشكر بالمضارع والكفر بالمشي على أن الدلالة هي للاستقبال؟
من تتبعنا للتعبير القرآني وجدنا أنه إذا جاء بعد أداة الشرط بالفعل الماضي فذلك الفعل يُفعل مرة واحدة أو قليلا، وما جاء بالفعل المضارع يتكرر فعله
مثال: " وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا92" النساء وبعدها قال:"وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا 93" النساء فعندما ذكر القتل الخطأ جاء بالفعل الماضي لأن هذا خطأ غير متعمد، إذن هو لا يتكرر وعندما جاء بالقتل العمد جاء بالفعل المضارع (ومن يقتل) لأنه ما دام يتعمد قتل المؤمن فكلما سنحت له الفرصة فعل. فجاء بالفعل المضارع الذي يدل على التكرار.
مثال آخر: "وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً 19" الإسراء ، فذكر الآخرة وجاء بالفعل الماضي لأن الآخرة واحدة وهي تراد. لكن عندما تحدث عن الدنيا قال: "وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ 145" آل عمران، لأن إرادة الثواب تتكرر دائما.
كل عمل تفعله تريد الثواب، فهو إذن يتكرر والشيء المتكرر جاء به بالمضارع يشكر، فالشكر يتكرر لأن النعم لا تنتهي " وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ 34" إبراهيم.
فالشكر يتكرر، كلما أحدث لك نعمة وجب عليك أن تحدث له شكرا أما الكفر فهو أمر واحد حتى إن لم يتكرر، فإن كفر الإنسان بأمر ما فقد كفر، إن كفر بما يعتقد من الدين بالضرورة فقد كفر، لا ينبغي أن يكرر هذا الأمر لأنه إن أنكر شيئا من الدين بالضرورة واعتقد ذلك فقد كفر وانتهى ولا يحتاج إلى تكرار، أما الشكر فيحتاج إلى تكرار لأن النعم لا تنتهي. وفيه إشارة إلى أن الشكر ينبغي أن يتكرر وأن الكفر ينبغي أن يقطع، فخالف بينهما في التعبير فجاء بأحدهما في الزمن الحاضر الدال على التجدد والاستمرار وجاء بالآخر في الزمن الماضي الذي ينبغي أن ينتهي.
الله غني حميد
( فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ 12 )(1/208)
جاء بإنما التي تفيد الحصر، أي الشكر لا يفيد إلا صاحبه ولا ينفع الله ولا يفيد إلا صاحبه حصرا أما الله فلا ينفعه شكر ولا تضره معصية
( يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر )
لذلك قال فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
جمع بين هاتين الصفتين الجليلتين الحميد أي المحمود على وجه الدوام والثبوت وهو تعالى غني محمود في غناه
- قد يكون الشخص غنيا غير محمود.
- أو محمودا غير غني.
- أو محمودا وهو ليس غنيا بعد، فإن اغتنى انقلب لأن المال قد يغير الأشخاص وقد يغير النفوس كما أن الفقر قد يغير النفوس.
- وقد يكون الشخص غنيا وغير محمود لأنه لا ينفع في غناه، ولا يؤدي حق الله عليه ولا يفيد الآخرين، بل قد يجر المصالح لنفسه على غناه.
- وقد يكون محمودا غير غني، ولو كان غنيا لما كان محمودا، فإن اجتمع الأمران فكان غنيا محمودا فذلك منتهى الكمال.
وفي آية أخرى في السورة نفسها قال: " لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
نقول: فلان غني أي هو من جملة الأغنياء، وقد يكون ملكا معه أغنياء فإذا قلت هو الغني فكأن الآخرين ليسوا شيئا بالنسبة إلى غناه وهو صاحب الغنى وحده.
فلماذا قال ها هنا فإن الله غني حميد وهناك في السورة نفسها هو الغني الحميد؟
نلاحظ أن في هذه الآية لم يذكر له ملكا ولا شيئا وهذا حتى في حياتنا اليومية نستعمله نقول أنا غني عنك كما قال الخليل:
أبلغ سليمان أني عنه في جو وفي غنى غير أني لست ذا مال
فقد تقول: أنا غني عنك، ولكن ليس بالضرورة أن تكون ذا ثروة ومال فهنا لم يذكر الله سبحانه لنفسه ملكا المعنى أن الله غني عن الشكر وعن الكفر لا ينفعه شكر ولا يضره كفر.
أما في الآية الأخرى فقد ذكر له ملكا " لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
فعندما ذكر له ملك السموات والأرض المتسع ، فمن أغنى منه؟ فقال ( هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
أهمية الحكمة في الوعظ
( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ 13 )
من هنا بدأت الوصية، فلماذا صدر بقوله: "ولقد آتينا.." وكان يمكن مثلا أن يحذفها؟
الحكمة لها جانبان : جانب قولي وجانب عملي، وحكمة لقمان ليست فيما ذكره من أحاديث وأقوال وما قاله لابنه من الوصية، وإنما أيضا في العمل الذي فعله وهو تعهده لابنه وعدم تركه بلا وعظ أو إرشاد، وفي هذا توجيه للآباء أن يتعهدوا أبناءهم ولا يتركوهم لمعلمي سوء ولا للطرقات.
وصدّر بالحكمة وهي ذات جانبين قولي وعملي لأمر آخر مهم، فعندما وصى ابنه فهل من الحكمة أن يوصي ابنه بشيء ويخالفه؟ هذا ليس من الحكمة ولو فعله فلن تنفع وصيته، لو خالف الوعظ عمل الواعظ والموجه لم تنفع الوصية بل لا بد أن يطبق ذلك على نفسه، فعندما قال آتينا لقمان الحكمة علمنا من هذا أن كل ما قاله لقمان لابنه فقد طبقه على نفسه أولا حتى يكون كلامه مؤثرا لذلك كان لهذا التصدير دور مهم في التربية والتوجيه.
ففي هذا القول ولقد آتينا لقمان الحكمة عدة دروس مهمة:
الأولفيما قاله من الحكمة،
الثانيفي تعهده لابنه وتربيته وتعليمه وعدم تركه لأهل السوء والجهالة يفعلون في نفسه وعقله ما يشاء،
الثالثقبل أن يعظ ابنه طبق ذلك على نفسه فرأى الابن في أبيه كل ما يقوله وينصحه به من خير ، لذلك كان لهذا التصدير ملمح تربوي مهم وهو توجيه الوعاظ والمرشدين والناصحين والآباء أن يبدؤوا بأنفسهم فإن ذلك من الحكمة وإلا سقطت جميع أقوالهم
التعهد بالنصح مع حسن اختيار الوقت
( وَهُوَ يَعِظُهُ)
نحن نعرف أنه يعظه ويتضح أنه وعظ من خلال الآيات والأوامر وسياق الكلام، فلماذا قال وَهُوَ يَعِظُهُ
فيها دلالتان
1. من حيث اللغة:الحال والاستئناس للدلالة على الاستمرار. وهو يعظه اختار الوقت المناسب للوعظ ، ليس كلاما طارئا يفعله هكذا، أو في وقت لا يكون الابن فيه مهيأ للتلقي، ولا يلقيه بغير اهتمام فلا تبلغ الوصية عند ذلك مبلغا لكنه جاء به في وقت مناسب للوعظ فيلقي ونفسه مهيأة لقبول الكلام فهو إذن اختار الوقت المناسب للوعظ والتوجيه
2. والأمر الثاني (وَهُوَ يَعِظُهُ) . فهذا من شأن لقمان أن يعظ ابنه، هو لا يتركه، وليست هذه هي المرة الأولى، هو من شأنه ألا يترك ابنه بل يتعاهده دائما، وهكذا ينبغي أن يكون المربي.
فكل كلمة فيها توجيه تربوي للمربين والواعظين والناصحين والآباء.
الرفق في الموعظة
(يا بني)(1/209)
كلمة تصغير للتحبيب، أي ابدأ بالكلام اللين اللطيف الهين للابن وليس بالتعنيف والزجر. بل بحنان ورِقّة لأن الكلمة الطيبة الهينة اللينة تفتح القلوب المقفلة وتلين النفوس العصية، عكس الكلمة الشديدة المنفرة التي تقفل النفوس . لذلك قال ربنا لموسى عن فرعون: "فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى 44" طه .
وأنت أيها الأب إن أجلست ولدك إلى جانبك ووضعت يدك على رأسه وكتفه، وقلت له يا بني ، فتأكد أن هذه الكلمة بل هذه الحركة من المسح تؤثر أضعاف الكلام الذي تقوله ، وتؤثر في نفسه أكثر بكثير من كل كلام تقوله وتزيل أي شيء بينك وبينه من حجاب وتفتح قلبه للقبول. وعندها فهو إن أراد أن يخالفك فهو يخجل أن يخالفك، بهذه الكلمة اللطيفة الشفيقة تزيل ما بينك وبينه من حجاب، ويكون لك كتابا مفتوحا أمامك، وعندها سيقبل كلامك والكلمة الطيبة صدقة
لذلك بدأ بهذه الكلمة مع أنه من الممكن أن يبدأ الأب بالأمر مباشرة ولكن لها أثُرها الذي لا ينكر ولا يترك، فأراد ربنا أن يوجهنا إلى الطريقة اللطيفة الصحيحة المنتجة في تربية الأبناء وتوجيههم وإزالة الحجاب بيننا بينهم من دون تعنيف أو قسوة أو شدة، وبذلك تريح نفسه وتزيل كل حجاب بينك وبينه ونحن في حياتنا اليومية نعلم أن كلمة واحدة قد تؤدي إلى أضعاف ما فيها من السوء، وكلمة أخرى تهون الأمور العظيمة وتجعلها يسيرة
ولقد تعلمت درسا في هذه الحياة قلته لابني مرة وقد اشتد في أمر من الأمور في موقف ما، وأنا أتجاوز الستين بكثير، وكان الموقف شديدا جدا، وقد فعل فعلته في جهة ما وخُبّرت بذلك فجئت به ووضعته إلى جنبي وقلت له: يا فلان تعلمت من الحياة درسا أحب أن تتعلمه وهو أنه بالكلمة الشديدة الناهرة ربما لا أستطيع أن أحصل على حقي ولكن تعلمت أنه بالكلمة الهينة اللينة آخذ أكثر من حقي.
أس الوصية
( يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ 13 )
لم يبدأ بالعبادة ولم يقل له اعبد الله وإنما بدأ بالنهي عن الشرك، وذلك لما يلي:
أولا :التوحيد أس الأمور، ولا تقبل عبادة مع الشرك، فالتوحيد أهم شيء.
ثانيا:العبادة تلي التوحيد وعدم الشرك فهي أخص منه. التوحيد تعلمه الصغير والكبير، فالمعتقدات تُتعلم في الصغر وما تعلم في الصغر فمن الصعب فيما بعد أن تجتثه من نفسه ، ولن يترك ما تعلمه حتى لو كان أستاذا جامعيا في أرقى الجامعات، هذا ما شهدناه وعايناه بأنفسنا فهذا الأمر يكون للصغير والكبير ، تعلمه لابنك وهو صغير، ويحتاجه وهو كبير، أما العبادة فتكون بعد التكليف.
ثالثا:أمر آخر أنه أيسر، فالأمر بعدم الشرك (أي بالتوحيد) هو أيسر من التكليف بالعبادة، العبادة ثقيلة ولذلك نرى كثيرا من الناس موحدين ولكنهم يقصرون بالعبادة، فبدأ بما هو أعم وأيسر؛ أعم لأنه يشمل الصغير والكبير، وأيسر في الأداء والتكليف.
ثم قال ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ13 )
لماذا اختار الظلم؟ لماذا لم يختر : إثم عظيم، ولماذا لم يقل كبير؟
لو تقدم شخصان إلى وظيفة أحدهما يعلم أمر الوظيفة ودقائقها وأمورها وحدودها، ويعبر عن ذلك بأسلوب واضح سهل بين، والثاني تقدم معه ولكنه لا يعلم شيئا ولا يحسنها وهو فيه عبء، وعنده قصور فهم وإدراك، فإن سوينا بينهما أفليس ذلك ظلما؟
ولو تقدم اثنان للدراسات العليا وأحدهما يعرف الأمور بدقة ويجيب على كل شيء، وله أسلوب فصيح بليغ لطيف، وآخر لا يعلم شيئا ولا يفقه شيئا ولم يجب عن سؤال ولا يحسن أن يبين عن نفسه، فإن سويت بينهما أفليس ذلك ظلما؟
والفرق بين الله وبين المعبود الآخر أكبر بكثير، ليست هناك نسبة بين الخالق والمخلوق، بين مولي النعمة ومن ليس له نعمة، فإن كان ذاك الظلم لا نرضى به في حياتنا اليومية فكيف نرضى فيما هو أعظم منه فهذا إذن ظلم، وهو ظلم عظيم
والإنسان المشرك يحط من قدر نفسه لأن الآلهة التي يعبدها تكون أحط منه، وقصارى الأمر أن تكون مثله، فهو يعبد من هو أدنى منه، أو بمنزلته، فهذا حط وظلم للنفس بالحط من قدرها، إنه ظلم لأنه يورد نفسه موارد التهلكة ويخلدها في النار وهذا ظلم عظيم.
وأمر آخر أن الإنسان بطبيعته يكره الظلم، قد يرتضيه لنفسه لكن لا يرضى أن يقع عليه ظلم ، فاختار الأمر الذي تكرهه نفوس البشر (الظلم) وإن كان المرء بنفسه ظالما.
وفي هذا القول تعليل، فهو لم يقل له: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ وسكت، وإنما علل له، وهذا توجيه للآباء أن يعللوا لا أن يقتصروا على الأوامر والنواهي بلا تعليل، لا بد من ذكر السبب حتى يفهم لماذا، لا بد أن يعرف حتى يقتنع فهو بهذه النهاية ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ13) أفادنا أمورا كثيرة في التوجيه والنصح والتعليم والتربية.
عظم حق الوالدين
( وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ14)(1/210)
(ووصينا) من قائلها؟ هذه ليست وصية لقمان، هذا كلام الله ، لقمان لم ينه وصيته، هذه مداخلة، وستتواصل الوصية فيما بعد .قبل أن يتم الوصية قال الله ( وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ ) ، ولم يدع لقمان يتم الوصية، بل تدخل سبحانه بهذا الكلام ، وذلك لأسباب:
أولا: أمر الوالدين أمر عظيم، والوصية بهما كذلك، فالله تعالى هو الذي تولى هذا الأمر، ولم يترك لقمان يوصي ابنه به، فلما كان شأن الوالدين عظيما تولى ربنا تعالى أمرهما، لعظم منزلتهما عند الله تعالى.
ثانيا:لو ترك لقمان يوصي ابنه يا بني أطع والديك لكان الأمر مختلفا. لأننا عادة في النصح والتوجيه ننظر للشخص الناصح هل له في هذا النصح نفع؟ فإن نصحك شخص ما فأنت تنظر هل في هذا النصح نفع يعود على الناصح؟ فإن كان فيه نفع يعود على الناصح فأنت تتريث وتفكر وتقول: قد يكون نصحني لأمر في نفسه، قد ينفعه، لو لم ينفعه لم ينصحني هذه النصيحة. لو ترك الله تعالى لقمان يوصي ابنه لكان ممكنا أن يظن الولد أن الوالد ينصحه بهذا لينتفع به، ولكن انتفت المنفعة هنا فالموصي هو الله وليست له فيه مصلحة.
وقال: ( ووصينا)، ولم يقل: وأوصينا
والله تعالى يقول (وصّى) بالتشديد إذا كان أمر الوصية شديداً ومهماً، لذلك يستعمل وصى في أمور الدين، وفي الأمور المعنوية: ("وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 132" البقرة ) ("وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ 131" النساء)
أما (أوصى) فيستعملها الله تعالى في الأمور المادية : "يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ" النساء
لم ترد في القرآن أوصى في أمور الدين إلا في مكان واحد اقترنت بالأمور المادية وهو قول السيد المسيح: "وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً 31" مريم
في غير هذه الآية لم ترد أوصى في أمور الدين، أما في هذا الموضع الوحيد فقد اقترنت الصلاة بالأمور المادية وقد قالها السيد المسيح في المهد وهو غير مكلف أصلا.
قال وصّى وأسند الوصية إلى ضمير التعظيم (ووصينا) والله تعالى ينسب الأمور إلى نفسه في الأمور المهمة وأمور الخير
ولم يقل بأبويه بل اختار بوالديه
الوالدان مثنى الوالد والوالدة، وهو تغليب للمذكر كعادة العرب في التغليب إذ يغلبون المذكر كالشمس والقمر يقولون عنهما (القمران).
والأبوان هما الأب والأم ولكنه أيضا بتغليب المذكر ولو غلب الوالدة لقال الوالدتين، فسواء قال بأبويه أو بوالديه فهو تغليب للمذكر، ولكن لماذا اختار الوالدين ولم يقل الأبوين؟
لو نظرنا إلى الآية لوجدناه يذكر الأم لا الأب: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ )
فذكر أولا الحمل والفطام من الرضاع (وفصاله) ولم يذكر الأب أصلا ذكر ما يتعلق بالأم (الحمل والفصال) وبينهما الولادة والوالدان من الولادة، والولادة تقوم بها الأم.إذن:
أولا(المناسبة) فعندما ذكر الحمل والفصال ناسب ذكر الولادة.
ثانيا:ذكره بالولادة وهو عاجز ضعيف، ولولا والداه لهلك فذكره به.
ثالثاإشارة إلى انه ينبغي الإحسان إلى الأم أكثر من الأب، ومصاحبة الأم أكثر من الأب، لأن الولادة من شأن الأم وليست من شأن الأب.
لذلك فعندما قال (بوالديه) ذكر ما يتعلق في الأصل بالأم، ولذلك فهذه الناحية تقول : ينبغي الإحسان إلى الوالدة قبل الأب وأكثر من الأب. ولذلك لا تجد في القرآن الكريم البر أو الدعاء أو التوصية إلا بذكر الوالدين لا الأبوين
أمثلة :
"وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً 23" الإسراء
" وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً 36" النساء
" قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً 151"الأنعام وكذلك البر والدعاء والإحسان.
"رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ 41" إبراهيم
" رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً 28" نوح
"وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً 8" العنكبوت.
" وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً 15" الأحقاف.
لم يرد استعمال (الأبوين) إلا مرة في المواريث، حيث نصيب الأب أكثر من نصيب الأم، أو التساوي في الأنصبة. لكن في البر والتوصية والدعاء لم يأت إلا بلفظ الوالدين إلماحا إلى أن نصيب الأم ينبغي أن يكون أكثر من نصيب الأب.(1/211)
كما ان لفظ (الأبوان) قد يأتي للجدين : "وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ 6" يوسف
ويأتي لآدم وحواء: "يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ 27" الأعراف
فاختيار الوالدين له دلالات مهمة.
ثم هو هنا لم يأت بالأب أصلا بل قال ( حملته أمه وهنا ..) ولم يرد ذكر للأب أبدا، لذلك كان اختيار الوالدين انسب من كل ناحية.
قد تقول إن هذا الأمر تخلف في قصة سيدنا يوسف عندما قال: "وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً100" يوسف فاختار الأبوين. الجواب: لم يتخلف هذا الأمر، فعندما قال رفع أبويه لم يتخلف وإنما هو على الخط نفسه، وذلك لما يلي:
أولا : في قصة يوسف لم يرد ذكر لأم مطلقا ورد ذكر الأب فهو الحزين وهو الذي ذهب بصره .. الخ ولم يرد ذكر للام أصلا في قصة يوسف.
ثانيا :في هذا الاختيار أيضا تكريم للأم لأنه قال: "وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً100" فالعادة أن يكرم الابن أبويه ، ليس أن يكرم الأبوان الابن ولكن هنا هم خروا له سجدا فالتكريم هنا حصل بالعكس من الأبوين للابن ولذلك جاء بلفظ الأبوين لا الوالدين إكراما للام فلم يقل: ورفع والديه
o وفيها إلماح آخر أن العرش ينبغي أن يكون للرجال.
فلما قال أبويه هنا ففيه تكريم للأم، ويلمح أن لعرش ينبغي أن يكون للرجال ، ويناسب ما ذكر عن الأب إذ القصة كلها مع الأب، فهو الأنسب من كل ناحية
وهنا قد يرد سؤال: إن الأم هي التي تتأثر وتتألم أكثر وتحزن فلماذا لم يرد ذكرها هنا؟ ألم تكن بمنزلة أبيه في اللوعة والحسرة؟
لا .. المسألة أمر آخر ، أم يوسف ليست أم بقية الإخوة ، هي أم يوسف وأخيه فقط ، ولذلك فيكون كلامها حساسا مع إخوته ، أما يعقوب عليه السلام فهو أبوهم جميعا ، فإذا عاتبهم أو كلمهم فهو أبوهم ، أما الأم فليست أمهم ، فإذا تكلمت ففي الأمر حساسية ، وهذا من حسن تقديرها للأمور فكتمت ما في نفسها وأخفت لوعتها حتى لا تثير هذه الحساسية في نفوسهم وهذا من حسن التقدير والأدب، فلننظر كيف يختار القرآن التعبيرات في مكانها ويعلمنا كيف نربي ونتكلم مع أبنائنا.
المصدر : موقع إسلاميات http://www.islamiyyat.com/
================
لمسات بيانية في سورة الفاتحة
الدكتور فاضل السامرائي
الحمد لله:
معنى الحمد:الثناء على الجميل من النعمة أو غيرها مع المحبة والإجلال، فالحمد أن تذكر محاسن الغير سواء كان ذلك الثناء على صفة من صفاته الذاتية كالعلم والصبر والرحمة أم على عطائه وتفضله على الآخرين. ولا يكون الحمد إلا للحي العاقل.
وهذا أشهر ما فرق بينه وبين المدح فقد تمدح جمادا ولكن لا تحمده؛ وقد ثبت أن المدح أعم من الحمد. فالمدح قد يكون قبل الإحسان وبعده؛ أما الحمد فلا يكون إلا بعد الإحسان، فالحمد يكون لما هو حاصل من المحاسن في الصفات أو الفعل فلا يحمد من ليس في صفاته ما يستحق الحمد؛ أما المدح فقد يكون قبل ذلك فقد تمدح إنساناً ولم يفعل شيئا من المحاسن والجميل ولذا كان المدح منهياً عنه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"احثوا التراب في وجه المداحين" بخلاف الحمد فإنه مأمور به فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من لم يحمد الناس لم يحمد الله".
وبذا علمنا من قوله: الحمد لله" أن الله حي له الصفات الحسنى والفعل الجميل فحمدناه على صفاته وعلى فعله وإنعامه ولو قال المدح لله لم يفد شيئا من ذلك، فكان اختيار الحمد أولى من اختيار المدح.
ولم يقل سبحانه الشكر لله لأن الشكر لا يكون إلا على النعمة ولا يكون على صفاته الذاتية فانك لا تشكر الشخص على علمه أو قدرته وقد تحمده على ذلك وقد جاء في لسان العرب "والحمد والشكر متقاربان والحمد أعمهما لأنك تحمد الإنسان على صفاته الذاتية وعلى عطائه ولا تشكره على صفاته.فكان اختيار الحمد أولى أيضاً من الشكر لأنه أعم فانك تثني عليه بنعمه الواصلة إليك والى الخلق جميعا وتثني عليه بصفاته الحسنى الذاتية وان لم يتعلق شيء منها بك. فكان اختيار الحمد أولى من المدح والشكر.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أنه قال: الحمد لله ولم يقل أحمد الله أو نحمد الله وما قاله أولى من وجوه عدة:
إن القول " أحمد الله " أو " نحمد الله " مختص بفاعل معين ففاعل أحمد هو المتكلم وفاعل نحمد هم المتكلمون في حين أن عبارة "الحمد لله" مطلقة لا تختص بفاعل معين وهذا أولى فإنك إذا قلت " أحمد الله " أخبرت عن حمدك أنت وحدك ولم تفد أن غيرك حمده وإذا قلت " نحمد الله " أخبرت عن المتكلمين ولم تفد أن غيركم حمده في حين أن عبارة "الحمد لله" لا تختص بفاعل معين فهو المحمود على وجه الإطلاق منك ومن غيرك.
وقول " أحمد الله " تخبر عن فعلك أنت ولا يعني ذلك أن من تحمده يستحق الحمد؛ في حين إذا قلت " الحمد لله" أفاد ذلك استحقاق الحمد لله وليس مرتبط بفاعل معين.(1/212)
وقول " أحمد الله " أو " نحمد الله " مرتبط بزمن معين لأن الفعل له دلالة زمنية معينة، فالفعل المضارع يدل على الحال أو الاستقبال ومعنى ذلك أن الحمد لا يحدث في غير الزمان الذي تحمده فيه، ولا شك أن الزمن الذي يستطيع الشخص أو الأشخاص الحمد فيه محدود وهكذا كل فعل يقوم به الشخص محدود الزمن فإن أقصى ما يستطيع أن يفعله أن يكون مرتبطا بعمره ولا يكون قبل ذلك وبعده فعل فيكون الحمد أقل مما ينبغي فإن حمد الله لا ينبغي أن ينقطع ولا يحد بفاعل أو بزمان في حين أن عبارة "الحمد لله" مطلقة غير مقيدة بزمن معين ولا بفاعل معين فالحمد فيها مستمر غير منقطع.
جاء في تفسير الرازي أنه لو قال " احمد الله " أفاد ذلك كون القائل قادرا على حمده، أما لما قال "الحمد لله" فقد أفاد ذلك، أنه كان محمودا قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين فهؤلاء سواء حمدوا أم لم يحمدوا فهو تعالى محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم.
وقول "أحمد الله" جملة فعلية و"الحمد لله" جملة اسمية والجملة الفعلية تدل على الحدوث والتجدد في حين أن الجملة الاسمية دالة على الثبوت وهي أقوى وأدوم من الجملة الفعلية. فاختيار الجملة الاسمية أولى من اختيار الجملة الفعلية ههنا إذ هو أدل على ثبات الحمد واستمراره.
وقول "الحمد لله" معناه أن الحمد والثناء حق لله وملكه فانه تعالى هو المستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آلائه على العباد. فقولنا "الحمد لله" معناه أن الحمد لله حق يستحقه لذاته ولو قال "احمد الله" لم يدل ذلك على كونه مستحقا للحمد بذاته ومعلوم أن اللفظ الدال على كونه مستحقاً للحمد أولى من اللفظ الدال على أن شخصاً واحداً حمده.
والحمد: عبارة عن صفة القلب وهي اعتقاد كون ذلك المحمود متفضلا منعما مستحقا للتعظيم والإجلال. فإذا تلفظ الإنسان بقوله: "أحمد الله" مع أنه كان قلبه غافلا عن معنى التعظيم اللائق بجلال الله كان كاذبا لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامدا مع انه ليس كذلك. أما إذا قال "الحمد لله" سواء كان غافلاً أو مستحضراً لمعنى التعظيم فإنه يكون صادقاً لأن معناه: أن الحمد حق لله وملكه وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلاً بمعنى التعظيم والإجلال أو لم يكن. فثبت أن قوله "الحمد لله" أولى من قوله أحمد الله أو من نحمد الله. ونظيره قولنا "لا اله إلا الله" فانه لا يدخل في التكذيب بخلاف قولنا "اشهد أن لا اله إلا الله" لأنه قد يكون كاذبا في قوله "أشهد" ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين: "والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" (المنافقون، آية 1)
فلماذا لم يقل " الحمدَ لله " بالنصب؟
الجواب أن قراءة الرفع أولى من قراءة النصب ذلك أن قراءة الرفع تدل على أن الجملة اسمية في حين أن قراءة النصب تدل على أن الجملة فعلية بتقدير نحمد أو احمد أو احمدوا بالأمر. والجملة الاسمية أقوى وأثبت من الجملة الفعلية لأنها دالة على الثبوت.
وقد يقال أليس تقدير فعل الأمر في قراءة النصب أقوى من الرفع بمعنى "احمدوا الحمد لله" كما تقول "الإسراع في الأمر" بمعنى أسرعوا؟ والجواب لا فإن قراءة الرفع أولى أيضاً ذلك لان الأمر بالشيء لا يعني أن المأمور به مستحق للفعل. وقد يكون المأمور غير مقتنع بما أمر به فكان الحمد لله أولى من الحمد لله بالنصب في الأخبار والأمر.
ولماذا لم يقل " حمداً لله " ؟ الحمد لله معرفة بأل و" حمداً " نكرة؛ والتعريف هنا يفيد ما لا يفيده التنكير ذلك أن "أل" قد تكون لتعريف العهد فيكون المعنى: أن الحمد المعروف بينكم هو لله، وقد يكون لتعريف الجنس على سبيل الاستغراق فيدل على استغراق الأحمدة كلها. ورجح بعضهم المعنى الأول ورجح بعضهم المعنى الثاني بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لك الحمد كله" فدل على استغراق الحمد كله فعلى هذا يكون المعنى: أن الحمد المعروف بينكم هو لله على سبيل الاستغراق والإحاطة فلا يخرج عنه شيء من أفراد الحمد ولا أجناسه.
"الحمد لله" أهي خبر أم إنشاء؟ الخبر هو ما يحتمل الصدق أو الكذب والإنشاء هو ما لا يحتمل الصدق أو الكذب.
قال أكثر النحاة والمفسرين: أن الحمد لله إخبار كأنه يخبر أن الحمد لله سبحانه وتعالى، وقسم قال: أنها إنشاء لأن فيها استشعار المحبة وقسم قال: أنها خبر يتضمن إنشاء.
أحيانا يحتمل أن تكون التعبيرات خبرا أو إنشاء بحسب ما يقتضيه المقام الذي يقال فيه.فعلى سبيل المثال قد نقول (رزقك الله) ونقصد بها الدعاء وهذا إنشاء وقد نقول (رزقك الله وعافاك) والقصد منها أفلا تشكره على ذلك؟ وهذا خبر.
والحمد لله هي من العبارات التي يمكن أن تستعمل خبرا وإنشاء بمعنى الحمد لله خبر ونستشعر نعمة الله علينا ونستشعر التقدير كان نقولها عندما نستشعر عظمة الله سبحانه في أمر ما فنقول الحمد لله.(1/213)
??? ??? ???? - (? 6 / ? 452)
2227 - ?????????? ????????? ???? ??????????? ???????????? ?????????? ?????????? ???? ???????? ???? ????? ???????? ???? ????? ??????????? ???? ??????? ???? ?????? ??????? ????? ????? ??????? ??????? -??? ???? ???? ????- « ???????? ???????? ???????? ??????? ???????????? ??? ????????? ??????? ??????? ???? ??????? ?????? ???????????? ????????? ?????? ???????? ??????? ?????????? ??????? ???????????? ??? ????????? ?????? ??? ????? ???????? ??? ?????? ».
__________
????? ??? ??????? :
?????? : ?????
==============
21011???? ??? ?????? ???? - (? 8 / ? 425)
-???? ???????? ?? ????? ???? ?? ??? ?? ???? ???? ??? ???? ???? ???? ??? ?? ???? ???? ?????? ?? ????? ???????? ?? ????? ??? ?? ????? ??? ??? ??? ????? ??? ?? ???? ??????? ???? ?????? ??? ??? ?????? ???? ????? ??? ???? ???? ??? ???? ????? ????? ???? ??????? ?? ????? ??? ????? ????? ??????? ???? ?? ???? ??? ?? ??? ???? ???? ???? ?? ???? ?? ??? ???? ??? ??????
=================
???? ??? ??? ???? ???? ????? - (? 13 / ? 84)
34326-?????????? ????????? ???? ?????? ? ????? : ?????????? ??????????? ???? ????? ??????? ? ???? ?????? ????????? ???? ???????? ? ????? : ????????? ? ????? ????? ????????? ? ????? : ????? ??????? ????? ??? ???? ???? ???? : ???????? ???????? ? ??????? ?????? ???? ?????? ????????????? ???? ?????????? ?????????????? ???? ???????? ?????? ???? ???????????? ???? , ???????? ?????? ????????????? ???? ???????? ?????????????? ???? ?????????? ?????? ???? ???????????? ? ?????? ? ??????? ???????? ????????? ?????? ??? ??????? ? ??????? ?????? ???? ?????? ??????? ?????? ???????????? ????????? , ?????????? ??????? ???????????? ??? ????????? , ????? ???????????? ???????????? ????????? ????? ???? ??????????? ?????????? ????? ????????? ??? ??????? ??? ???????? ?????? ??????????? .
=================
???????? ??? ???????? ?????? - (? 5 / ? 233)
2094 - ??????? ???? ?? ???? ??????? ? ????? ??? ???? ?? ???? ?? ???? ? ????? ??? ? ????? ???? ?? ??? ? ?? ??? ???? ? ?? ??? ?????? ? ?? ???? ? ??? : ??? ???? ???? ??? ???? ???? ???? : « ?? ????? ?? ???? ??? ?????? ???? ? ??? ???????? ????? ? ?????? ???? ???? ????? ? ??????? (1) ?? ????? ? ???? ?? ?? ????? ?? ??? » ????? ?? ???? ?? ??? ????? ??????? ?????
__________
(1) ???? : ??? ?? ??? ??????? ?? ??? ?????? ?????
===============
????? ?????? ??????? ??? ???? ?????? ????? - (? 5 / ? 264)
10707- ?????????? ????????? ????? ?????????? : ?????? ???? ????????? ???? ??????????? ????????? ??????????? ????? ?????? : ????????? ???? ??????? ???? ???????????? ??????????? ?????????? ????????? ???? ??????? ?????????????? ?????????? ????? ???????? : ?????????? ???? ??????? ?????????? ?????? ??????? ???? ?????? ?????????? ??????? ???? ?????????? ???? ??????? ???? ????? ??????? ???? ????????? ???? ????????????? ???? ??????? ???? ?????? ??????? ????? ????? ??????? ??????? -??? ???? ???? ????- :« ??? ?????????????? ????????? ????????? ???? ?????? ?????? ??????? ?????? ?????????? ????? ?????? ???? ???? ?????????? ??????? ???????????? ??? ????????? ???? ?????????? ???????? ?????????? ».
================
????? ?????? ??????? ??? ???? ?????? ????? - (? 5 / ? 265)
10708- ????????????? ????? ?????? ??????? ?????????? ?????????? ????? ?????? ??????? : ????????? ???? ????????? ?????????? ??????? ???? ????????? ???? ????? ?????? ????????????? ?????????? ?????? ?????????? ???? ?????? ?????????? ???? ????? ???????? ?????????? ????? ???????? ???? ????? ??????????? ???? ??????? ???? ?????? ??????? ????? ????? ??????? ??????? -??? ???? ???? ????- :« ???????? ???????? ????? ?????????? ???? ??????? ?????? ???????????? ???????? ????? ?????????????? ????????? ?????????? ??????? ??? ???????? ???????? ???????????? ??? ????????? ?????? ??? ????? ???????? ??? ?????? ». {?} ?????????? ??????? ????????? ???? ?????? ???? ????? ????????.
==================
???? ?????? 1-10 - (? 4 / ? 370)
(/)
فلماذا لم يقل سبحانه " إن الحمد لله " ؟ لا شك أن الحمد لله لكن هناك فرق بين التعبيرين أن نجعل الجملة خبراً محضا في قول الحمد لله (ستعمل للخبر أو الإنشاء) ولكن عندما تدخل عليه " إن " لا يمكن إلا أن يكون إنشاء، لذا فقول " الحمد لله " أولى لما فيه من الإجلال والتعظيم والشعور بذلك. لذا جمعت الحمد لله بين الخبر والإنشاء ومعناهما، مثلا نقول رحمة الله عليك (هذا دعاء) وعندما نقول إن رحمة الله عليك فهذا خبر وليس دعاء
من المعلوم انه في اللغة قد تدخل بعض الأدوات على عبارات فتغير معناها مثال: رحمه الله (دعاء)، قد رحمه الله (إخبار)، رزقك الله (دعاء)، قد رزقك الله (إخبار).
لماذا لم يقل سبحانه " لله الحمد " ؟
الحمد الله تقال إذا كان هناك كلام يراد تخصيصه (مثال: لفلان الكتاب) تقال للتخصيص والحصر فإذا قدم الجار والمجرور على اسم العلم يكون بقصد الاختصاص والحصر (لإزالة الشك أن الحمد سيكون لغير الله)
الحمد لله في الدنيا ليست مختصة لله سبحانه وتعالى، الحمد في الدنيا قد تقال لأستاذ أو سلطان عادل، أما العبادة فهي قاصرة على الله سبحانه وتعالى، المقام في الفاتحة ليس مقام اختصاص أصلاً وليست مثل ( إياك نعبد ) أو( إياك نستعين ). فقد وردت في القران الكريم (فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين) الجاثية (لآية 36)
لا أحد يمنع التقديم لكن التقديم والتأخير في القرآن الكريم يكون حسب ما يقتضيه السياق، المقام في سورة الفاتحة هو مقام مؤمنين يقرون بالعبادة ويطلبون الاستعانة والهداية؛ أما في سورة الجاثية فالمقام في الكافرين وعقائدهم وقد نسبوا الحياة والموت لغير الله سبحانه لذا اقتضى ذكر تفضله سبحانه بأنه خلق السموات والأرض وأثبت لهم أن الحمد الأول لله سبحانه على كل ما خلق لنا فهو المحمود الأول لذا جاءت فلله الحمد مقدمة حسب ما اقتضاه السياق العام للآيات في السورة.
فلماذا التفصيل في الجاثية (رب السموات والأرض) ولم ترد في الفاتحة؟ في الجاثية تردد ذكر السموات والأرض وما فيهن وذكر ربوبية الله تعالى لهما فقد جاء في أول السورة ( إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين ) فلو نظرنا في جو سورة الجاثية نلاحظ ربوبية الله تعالى للسموات والأرض والخلق والعالمين مستمرة في السورة كلها. (ولله ملك السموات والأرض) يعني هو ربهما ( ويوم تقوم الساعة يخسر المبطلون) إذن هو رب العالمين ( وخلق الله السموات والأرض بالحق) فهو ربهما ( لتجزى كل نفس..) فهو رب العالمين. (فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين) جمع الربوبية في السموات والأرض والعالمين في آية واحدة، أما في الكلام في الفاتحة فهو عن العالمين فقط وذكر أصناف الخلق من العالمين (المؤمنين، الضالين..) لذا ناسب التخصيص في الجاثية وليس في الفاتحة.
(وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم) (الجاثية الآية 37) ولم يذكرالكبرياء في الفاتحة لأنه جاء في الجاثية ذكر المستكبرين بغير حق ( ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم. وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين) (الجاثية الآيات 7-9) دل على مظهر من مظاهر الاستكبار لذا ناسب أن يرد ذكر الكبرياء في السموات والأرض. فسبحانه وتعالى يضع الكلام بميزان دقيق بما يتناسب مع السياق العام للآيات.
الحمد لله: جاء سبحانه وتعالى باسمه العلم (الله) ،لم يقل الحمد للخالق أو القدير أو أي اسم آخر من أسمائه الحسنى فلماذا جاء باسمه العلم؟ لأنه إذا جاء بأي اسم آخر غير العلم لدل على انه تعالى استحق الحمد فقط بالنسبة لهذا الاسم خاصة فلو قال الحمد للقادر لفهمت على انه يستحق الحمد للقدرة فقط لكن عند ذكر الذات (الله) فإنها تعني انه سبحانه يستحق الحمد لذاته لا لوصفه.
من ناحية أخرى " الحمد لله " مناسبة لما جاء بعدها (إياك نعبد) لأن العبادة كثيرا ما تختلط بلفظ الله. فلفظ الجلالة (الله) يعنى الإله المعبود مأخوذة من أله (بكسر اللام) ومعناها عبد ولفظ الله مناسب للعبادة وأكثر اسم اقترن بالعبادة هو لفظ الله تعالى (أكثر من 50 مرة اقترن لفظ الله بالعبادة في القرآن) لذا فالحمد لله مناسب لأكثر من جهة.
" الحمدُ لله "أولى من قول الحمد للسميع أو العليم أو غيرها من أسماء الله الحسنى. وقول الحمد لله أولى من قول أحمد الله أو الحمدَ لله أو حمداً لله أو إن الحمد لله أو الحمد للحي أو القادر أو السميع أو البصير. جلت حكمة الله سبحانه وتعالى وجل قوله العزيز.
رب العالمين:
الرب هو المالك والسيد والمربي والمنعم والقيِّم، فإذن رب العالمين هو ربهم ومالكهم وسيدهم ومربيهم والمنعم عليهم وقيُمهم لذا فهو أولى بالحمد من غيره وذكر (رب العالمين) هي أنسب ما يمكن وضعه بعد (الحمد لله)(1/214)
رب العالمين يقتضي كل صفات الله تعالى ويشمل كل أسماء الله الحسنى، العالمين: جمع عالم والعالم هو كل موجود سوى الله تعالى؛ والعالم يجمع على العوالم وعلى العالمين لكن اختيار العالمين على العوالم أمر بلاغي يعني ذلك أن العالمين خاص للمكلفين وأولي العقل (لا تشمل غير العقلاء) بدليل قوله تعالى (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) (الفرقان آية 1) ومن المؤكد انه ليس نذيرا للبهائم والجماد. وبهذا استدلوا على أن المقصود بالعالمين أولي العقل وأولي العلم أو المكلفون.
والعالمين جمع العالم بكل أصنافه لكن يغلُب العقلاء على غيرهم فيقال لهم العالمين لا يقال لعالم الحشرات أو الجماد أو البهائم العالمين وعليه فلا تستعمل كلمة العالمين إلا إذا اجتمع العقلاء مع غيرهم وغلبوا عليهم.
أما العوالم قد يطلق على أصناف من الموجودات ليس منهم البشر أو العقلاء أو المكلفون (تقال للحيوانات والحشرات والجمادات)
اختيار كلمة العالمين له سببه في سورة الفاتحة فالعالمين تشمل جيلا واحدا وقد تشمل كل المكلفين أو قسما من جيل (قالوا أولم ننهك عن العالمين) (الحجر آية 70) في قصة سيدنا لوط جاءت هنا بمعنى قسم من الرجال.
واختيار " العالمين " أيضاً لأن السورة كلها في المكلفين وفيها طلب الهداية وإظهار العبودية لله وتقسيم الخلق كله خاص بأولي العقل والعلم لذا كان من المناسب اختيار " العالمين " على غيرها من المفردات أو الكلمات. وقد ورد في آخر الفاتحة ذكر المغضوب عليهم وهم اليهود، والعالمين رد على اليهود الذين ادعوا أن الله تعالى هو رب اليهود فقط فجاءت رب العالمين لتشمل كل العالمين لا بعضهم.
أما اختيار كلمة رب فلأنها تناسب ما بعدها (اهدنا الصراط المستقيم) لأن من معاني الرب المربي وهي أشهر معانيه وأولى مهام الرب الهداية لذا اقترنت الهداية كثيراً بلفظ الرب كما اقترنت العبادة بلفظ الله تعالى (قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) (طه آية 49-50) (فاجتباه ربه فتاب عليه وهدى) (طه آية 122) (سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى) (الأعلى آية 1-3) (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم) (الأنعام آية 161) (وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا) (الكهف آية 24) (قال كلا إن معي ربي سيهدين) (الشعراء آية 62) (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين) (الصافات آية 99) (ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) (القصص آية 22) لذا ناسب لفظ " رب " مع " اهدنا الصراط المستقيم " وفيها طلب الهداية.
الرحمن الرحيم:
الرحمن على وزن فعلان والرحيم على وزن فعيل ومن المقرر في علم التصريف في اللغة العربية أن الصفة فعلان تمثل الحدوث والتجدد والامتلاء والاتصاف بالوصف إلى حده الأقصى فيقال غضبان بمعنى امتلأ غضبا (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) لكن الغضب زال (فلما سكت عن موسى الغضب) ومثل ذلك عطشان، ريان ، جوعان ، يكون عطشان فيشرب فيذهب العطش
أما صيغة فعيل فهي تدل على الثبوت سواء كان خلقة ويسمى تحول في الصفات مثل طويل، جميل، قبيح فلا يقال خطيب لمن ألقى خطبة واحدة وإنما تقال لمن يمارس الخطابة وكذلك الفقيه.
هذا الإحساس اللغوي بصفات فعلان وفعيل لا يزال في لغتنا الدارجة إلى الآن فنقول بدا عليه الطول (طولان) فيرد هو طويل (صفة ثابتة) فلان ضعفان(حدث فيه شيء جديد لم يكن) فيرد هو ضعيف (هذه صفته الثابتة فهو أصلاً ضعيف).
ولذا جاء سبحانه وتعالى بصفتين تدلان على التجدد والثبوت معا فلو قال الرحمن فقط لتوهم السامع أن هذه الصفة طارئة قد تزول كما يزول الجوع من الجوعان والغضب من الغضبان وغيره. ولو قال رحيم وحدها لفهم منها أن صفة رحيم مع أنها ثابتة لكنها ليست بالضرورة على الدوام ظاهرة إنما قد تنفك مثلا عندما يقال فلان كريم فهذا لا يعني انه لا ينفك عن الكرم لحظة واحدة إنما الصفة الغالبة عليه هي الكرم.
وجاء سبحانه بالصفتين مجتمعتين ليدل على أن صفاته الثابتة والمتجددة هي الرحمة ويدل على أن رحمته لا تنقطع وهذا يأتي من باب الاحتياط للمعنى وجاء بالصفتين الثابتة والمتجددة لا ينفك عن إحداهما، إنما هذه الصفات مستمرة ثابتة لا تنفك البتة غير منقطعة.
فلماذا إذاً قدم سبحانه الرحمن على الرحيم ؟
قدم صيغة الرحمن والتي هي الصفة المتجددة وفيها الامتلاء بالرحمة لأبعد حدودها لأن الإنسان في طبيعته عجول وكثيراً ما يؤثر الإنسان الشيء الآتي السريع وان قل على الشيء الذي سيأتي لاحقاً وإن كثر (بل تحبون العاجلة) لذا جاء سبحانه بالصفة المتجددة ورحمته قريبة ومتجددة وحادثة إليه ولا تنفك لأن رحمته ثابتة. ووقوع كلمة " الرحيم " بعد كلمة الرب يدلنا على أن الرحمة هي من صفات الله تعالى العليا وفيها إشارة إلى أن المربي يجب أن يتحلى بالرحمة وتكون من أبرز صفاته وليست القسوة والرب بكل معانيه ينبغي أن يتصف بالرحمة سواء كان مربياً أو سيداً أو قيما وقد وصف الله تعالى رسوله بالرحمة.
مالك يوم الدين:(1/215)
هناك قراءة متواترة(ملك يوم الدين) بعض المفسرين يحاولون تحديد أي القراءتين أولى وتحديد صفة كل منهما لكن في الحقيقة ليس هناك قراءة أولى من قراءة فكلتا القراءتين متواترة نزل بهما الروح الأمين ليجمع بين معنى المالك والملك.
المالك من التملك والملك بكسر الميم (بمعنى الذي يملك الملك)
وملك بكسر اللام من الملك بضم الميم والحكم (أليس لي ملك مصر) الملك هنا بمعنى الحكم والحاكم الأعلى هو الله تعالى.
المالك قد يكون ملكا وقد لا يكون والملك قد يكون مالكا وقد لا يكون. المالك يتصرف في ملكه كما لا يتصرف الملك (بكسر اللام) والمالك عليه أن يتولى أمر مملوكه من الكسوة والطعام والملك ينظر للحكم والعدل والإنصاف. المالك أوسع لشموله العقلاء وغيرهم والملك هو المتصرف الأكبر وله الأمر والإدارة العامة في المصلحة العامة فنزلت القراءتين لتجمع بين معنى المالك والملك وتدل على انه سبحانه هو المالك وهو الملك (قل اللهم مالك الملك) الملك ملكه سبحانه وتعالى فجمع بين معنى الملكية والملك
مالك يوم الدين، لِمَ لمْ يذكر الدنيا ؟ سواء كان مالكا أو ملكا فلماذا لم يقل مالك يوم الدين والدنيا؟
أولا قال " الحمد لله رب العالمين " فهو مالكهم وملكهم في الدنيا وهذا شمل الدنيا. مالك يوم الدين هو مالك يوم الجزاء يعني ملك ما قبله من أيام العمل والعمل يكون في الدنيا فقد جمع في التعبير يوم الدين والدنيا وبقوله " يوم الدين " شمل فيه الدنيا أيضاً.
لم قال يوم الدين ولم يقل يوم القيامة؟
الدين بمعنى الجزاء وهو يشمل جميع أنواع القيامة من أولها إلى آخرها ويشمل الجزاء والحساب والطاعة والقهر وكلها من معاني الدين وكلمة الدين انسب للفظ رب العالمين وانسب للمكلفين (الدين يكون لهؤلاء المكلفين) فهو أنسب من يوم القيامة لأن القيامة فيها أشياء لا تتعلق بالجزاء أما الدين فمعناه الجزاء وكل معانيه تتعلق بالمكلفين لان الكلام من أوله لآخره عن المكلفين لذا ناسب اختيار كلمة الدين عن القيامة.
لماذا قال مالك يوم واليوم لا يملك إنما ما فيه يملك ؟ والسبب لقصد العموم ومالك اليوم هو ملك لكل ما فيه وكل من فيه فهو أوسع وهو ملكية كل ما يجري وما يحدث في اليوم وكل ما فيه ومن فيه فهي إضافة عامة شاملة جمع فيها ما في ذلك اليوم ومن فيه وإحداثه وكل ما فيه من باب الملكية (بكسر الميم) والملكية (بضم الميم)
اقتران الحمد بهذه الصفات أحسن وأجمل اقتران. الحمد لله فالله محمود بذاته وصفاته على العموم والله هو الاسم العلم) ثم محمود بكل معاني الربوبية (رب العالمين) لان من الأرباب من لا تحمد عبوديته وهو محمود في كونه رحمن رحيم، محمود في رحمته لان الرحمة لو وضعت في غير موضعها تكون غير محمودة فالرحمة إذا لم توضع في موضعها لم تكن مدحا لصاحبها، محمود في رحمته يضعها حيث يجب أن توضع وهو محمود يوم الدين محمود في تملكه وفي مالكيته (مالك يوم الدين) محمود في ملكه ذلك اليوم (في قراءة ملك يوم الدين)
استغرق الحمد كل الأزمنة، لم يترك سبحانه زمناً لم يدخل فيه الحمد أبداً من الأزل إلى الأبد فهو حمده قبل الخلق (الحمد لله) حين كان تعالى ولم يكن معه شيء قبل حمد الحامدين وقبل وجود الخلق والكائنات استغرق الحمد هنا الزمن الأول وعند خلق العالم (رب العالمين) واستغرق الحمد وقت كانت الرحمة تنزل ولا تنقطع (الرحمن الرحيم) واستغرق الحمد يوم الجزاء كله ويوم الجزاء لا ينتهي لأن الجزاء لا ينتهي فأهل النار خالدين فيها وأهل الجنة خالدين فيها لا ينقضي جزاؤهم فاستغرق الحمد كل الأزمنة من الأزل إلى الأبد كقوله تعالى له الحمد في الأولى والآخرة هذه الآيات جمعت أعجب الوصف.
- قوله ( إياك نعبد وإياك نستعين ):
قدم المفعولين لنعبد ونستعين وهذا التقديم للاختصاص لأنه سبحانه وتعالى وحده له العبادة لذا لم يقل نعبدك ونستعينك لأنها لا تدل على التخصيص بالعبادة لله تعالى، أما قول ( إياك نعبد ) فتعني تخصيص العبادة لله تعالى وحده وكذلك في الاستعانة (إياك نستعين) تكون بالله حصرا (ربنا عليك توكلنا واليك أنبنا واليك المصير) (الممتحنة آية 4) كلها مخصوصة لله وحده حصرا فالتوكل والإنابة والمرجع كله إليه سبحانه (وعلى الله فليتوكل المتوكلون)(إبراهيم 12)
(قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا) (الملك آية 29) تقديم الإيمان على الجار والمجرور هنا لأن الإيمان ليس محصورا بالله وحده فقط بل علينا الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر والقضاء والقدر لذا لم تأت به آمنا. أما في التوكل فجاءت وعليه توكلنا لا توكلنا عليه لان التوكل محصور بالله تعالى.
الآن لماذا كررت إياك مع فعل الاستعانة ولم يقل إياك نعبد ونستعين ؟(1/216)
التكرار يفيد التنصيص على حصر المستعان به؛ لو اقتصرنا على ضمير واحد (إياك نعبد ونستعين) لم يعني المستعان إنما عني المعبود فقط ولو اقتصرنا على ضمير واحد لفهم من ذلك انه لا يتقرب إليه إلا بالجمع بين العبادة والاستعانة بمعنى انه لا يُعبد بدون استعانة ولا يُستعان به بدون عبادة. يفهم من الاستعانة مع العبادة مجموعة تربط الاستعانة بالعبادة وهذا غير وارد وإنما هو سبحانه نعبده على وجه الاستقلال ونستعين به على وجه الاستقلال وقد يجتمعان لذا وجب التكرار في الضمير إياك نعبد وإياك نستعين. التكرار توكيد في اللغة ، في التكرار من القوة والتوكيد للاستعانة فيما ليس في الحذف.
إياك نعبد وإياك نستعين: أطلق سبحانه فعل الاستعانة ولم يحدد نستعين على شيء أو نستعين على طاعة أو غيره، إنما أطلقها لتشمل كل شيء وليست محددة بأمر واحد من أمور الدنيا. وتشمل كل شيء يريد الإنسان أن يستعين بربه لان الاستعانة غير مقيدة بأمر محدد. وقد عبر سبحانه عن الاستعانة والعبادة بلفظ ضمير الجمع (نعبد ونستعين) وليس بالتعبير المفرد أعبد وأستعين وفي هذا إشارة إلى أهمية الجماعة في الإسلام لذا تلزم قراءة هذه السورة في الصلاة وتلزم أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين مرة، وفيها دليل على أهمية الجماعة عامة في الإسلام مثل الحج وصلاة الجماعة، الزكاة، الجهاد، الأعياد والصيام. إضافة إلى أن المؤمنين إخوة فلو قال إياك اعبد لأغفل عبادة إخوته المؤمنين وإنما عندما نقول ( إياك نعبد ) نذكر كل المؤمنين ويدخل القائل في زمرة المؤمنين أيضاً.
لماذا قرن العبادة بالاستعانة؟
أولاً ليدل على أن الإنسان لا يستطيع أن يقوم بعبادة الله إلا بإعانة الله له وتوفيقه فهو إذن شعار وإعلان أن الإنسان لا يستطيع أن يعمل شيئاً إلا بعون الله وهو إقرار بعجز الإنسان عن القيام بالعبادات وعن حمل الأمانة الثقيلة إذا لم يعنه الله تعالى على ذلك، الاستعانة بالله علاج لغرور الإنسان وكبريائه عن الاستعانة بالله واعتراف الإنسان بضعفه.
لماذا قدم العبادة على الاستعانة؟
العبادة هي علة خلق الإنس والجن (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)(الذاريات 56) والاستعانة إنما هي وسيلة للعبادة فالعبادة أولى بالتقديم.
العبادة هي حق الله والاستعانة هي مطلب من مطالبه وحق الله أولى من مطالبه.
تبدأ السورة بالحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين وهذه كلها من أسلوب الغيبة أي كلها للغائب ثم انتقل إلى الخطاب المباشر بقوله ( إياك نعبد وإياك نستعين ). فلو قسنا على سياق الآيات الأولى لكان أولى القول إياه نعبد وإياه نستعين. فلماذا لم يقل سبحانه هذا؟
في البلاغة يسمى هذا الانتقال من الغائب للمخاطب أو المتكلم أو العكس " الإلتفات ". للإلتفات فائدة عامة وفائدة في المقام ، أما الفائدة العامة فهي تطرية لنشاط السامع وتحريك الذهن للإصغاء والانتباه. أما الفائدة التي يقتضيها المقام فهي إذا التفت المتكلم البليغ يكون لهذه الالتفاتة فائدة غير العامة مثال: (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) (يونس آية 22) لم يقل وجرين بكم فيها التفات لأنهم عندما ركبوا في البحر وجرت بهم الفلك أصبحوا غائبين وليسوا مخاطبين.
وعندما قال سبحانه الحمد لله رب العالمين فهو حاضر دائما فنودي بنداء الحاضر المخاطب. الكلام من أول الفاتحة إلى مالك يوم الدين كله ثناء على الله تعالى والثناء يكون في الحضور والغيبة والثناء في الغيبة أصدق وأولى أما ( إياك نعبد وإياك نستعين )فهو دعاء والدعاء في الحضور أولى وأجدى؛ إذن الثناء في الغيبة أولى والدعاء في الحضور أولى والعبادة تؤدى في الحاضر وهي أولى.
- قوله ( اهدنا الصراط المستقيم )
هذا دعاء ولا دعاء مفروض على المسلم قوله غير هذا الدعاء فيتوجب على المسلم قوله عدة مرات في اليوم وهذا بدوره يدل على أهمية الطلب وهذا الدعاء لان له أثره في الدنيا والآخرة ويدل على أن الإنسان لا يمكن أن يهتدي للصراط المستقيم بنفسه إلا إذا هداه الله تعالى لذلك. إذا ترك الناس لأنفسهم لذهب كل إلى مذهبه ولم يهتدوا إلى الصراط المستقيم وبما أن هذا الدعاء في الفاتحة ولا صلاة بدون فاتحة فلذا يجب الدعاء به في الصلاة الفريضة وهذا غير دعاء السنة في (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) (البقرة آية 201)
والهداية: هي الإلهام والدلالة. وفعل الهداية هدى يهدي في العربية قد يتعدى بنفسه دون حرف جر مثل " اهدنا الصراط المستقيم " (تعدى الفعل بنفسه) وقد يتعدى بإلى (وانك لتهدي إلى صراط مستقيم) (الشورى آية 52) (وأهديك إلى ربك فتخشى) (النازعات آية 19) وقد يتعدى باللام (الحمد لله الذي هدانا لهذا ) (الأعراف 43) (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) (الحجرات آية 17)(1/217)
ذكر أهل اللغة أن الفرق بين التعدية بالحرف والتعدية بالفعل نفسه أن التعدية بالحرف تستعمل عندما لا تكون الهداية فيه بمعنى أن المهدي كان خارج الصراط فهداه الله له فيصل بالهداية إليه. والتعدية بدون حرف تقال لمن يكون فيه ولمن لا يكون فيه كقولنا " هديته الطريق " قد يكون هو في الطريق فنعرفه به وقد لا يكون في الطريق فنوصله إليه. (فاتبعني أهدك صراطا سويا) (مريم آية 43) أبو سيدنا إبراهيم لم يكن في الطريق، (ولهديناهم صراطا مستقيما) (النساء آية 68) والمنافقون ليسوا في الطريق. واستعملت لمن هم في الصراط (وقد هدانا سبلنا) (إبراهيم آية 12) قيلت في رسل الله تعالى وقال تعالى مخاطبا رسوله (ويهديك صراطا مستقيما) (الفتح آية 2) والرسول مالك للصراط. استعمل الفعل المعدى بنفسه في الحالتين.
التعدية باللام وإلى لمن لم يكن في الصراط (فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط) (ص آية 22) (هل من شركائكم من يهدي إلى الحق) (يونس آية 35)
وتستعمل هداه له بمعنى بينه له والهداية على مراحل وليست هداية واحدة فالبعيد عن الطريق، الضال، يحتاج من يوصله إليه ويدله عليه (نستعمل هداه إليه) والذي يصل إلى الطريق يحتاج إلى هاد يعرفه بأحوال الطريق وأماكن الأمن والنجاة والهلاك للثقة بالنفس ثم إذا سلك الطريق في الأخير يحتاج إلى من يريه غايته واستعمل سبحانه اللام (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) (الأعراف آية 43) وهذه خاتمة الهدايات.
ونلخص ما سبق على النحو التالي:
-إنسان بعيد يحتاج من يوصله إلى الطريق نستعمل الفعل المتعدي بإلى .
-إذا وصل ويحتاج من يعرفه بالطريق وأحواله نستعمل الفعل المتعدي بنفسه .
-إذا سلك الطريق ويحتاج إلى من يبلغه مراده نستعمل الفعل المتعدي باللام.
الهداية مع اللام لم تستعمل مع السبيل أو الصراط أبدا في القرآن لان الصراط ليست غاية إنما وسيلة توصل للغاية واللام إنما تستعمل عند الغاية. وقد اختص سبحانه الهداية باللام له وحده أو للقرآن لأنها خاتمة الهدايات كقوله (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) (الإسراء آية 9) وقوله (يهدي الله لنوره من يشاء) (النور آية 35).
قد نقول جاءت الهدايات كلها بمعنى واحد مع اختلاف الحروف.
- (قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع امن لا يهدي إلا أن يهدى) (يونس آية 35).
جاءت يهدي للحق المقترنة بالله تعالى لان معنى الآيات تفيد هل من شركائكم من يوصل إلى الحق قل الله يهدي للحق الله وحده يرشدك ويوصلك إلى خاتمة الهدايات، يعني أن الشركاء لا يعرفون أين الحق ولا كيف يرشدون إليه ويدلون عليه.
- (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) (المائدة آية 16)
استعمل الهداية معداة بنفسها بدون حرف واستعملها في سياق واحد مع الفعل المعدى بإلى ومعنى الآيات انه من اتبع رضوان الله وليس بعيدا ولا ضالا استعمل له الفعل المعدى بنفسه والذي في الظلمات هو بعيد عن الصراط ويحتاج إلى من يوصله إلى الصراط لذا قال يهديهم إلى صراط مستقيم (استعمل الفعل المعدى بإلى).
نعود إلى الآية " اهدنا الصراط المستقيم " (الفعل معدى بنفسه) وهنا استعمل هذا الفعل المعدى بنفسه لجمع عدة معاني فالذي انحرف عن الطريق نطلب من الله تعالى أن يوصله إليه والذي في الطريق نطلب من الله تعالى أن يبصره بأحوال الطريق والثبات والتثبيت على الطريق.
وهنا يبرز تساؤل آخر ونقول كما سبق وقدم سبحانه مفعولي العبادة والاستعانة في (إياك نعبد وإياك نستعين) فلماذا لم يقل سبحانه إيانا اهدي؟ هذا المعنى لا يصح فالتقديم بـ ( إياك نعبد وإياك نستعين ) تقيد الاختصاص ولا يجوز أن نقول إيانا اهدي بمعنى خصنا بالهداية ولا تهدي أحداً غيرنا فهذا لا يجوز لذلك لا يصح التقديم هنا. المعنى تطلب التقديم في المعونة والاستعانة ولم يتطلبه في الهداية لذا قال ( اهدنا الصراط المستقيم ).
فلم قال ( اهدنا ) ولم يقل اهدني؟
لأنه مناسب لسياق الآيات السابقة وكما في آيات الاستعانة والعبادة اقتضى الجمع في الهداية أيضاً.
فيه إشاعة لروح الجماعة وقتل لروح الأثرة والأنانية وفيه نزع الأثرة والاستئثار من النفس بان ندعو للآخرين بما ندعو به لأنفسنا.
الاجتماع على الهدى وسير المجموعة على الصراط دليل قوة فإذا كثر السالكون يزيد الأنس ويقوى الثبات فالسالك وحده قد يضعف وقد يمل أو يسقط أو تأكله الذئاب، فكلما كثر السالكون كان ادعى للاطمئنان والاستئناس.(1/218)
والاجتماع رحمة والفرقة عذاب يشير لله تعالى إلى أمر الاجتماع والأنس بالاجتماع وطبيعة حب النفس للاجتماع كما ورد في قوله الكريم (ومن يطع الله ورسوله ندخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) (النساء آية 13) خالدين جاءت بصيغة الجمع لان المؤمنين في الجنة يستمتعون بالأنس ببعضهم وقوله (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) (النساء آية 14) في العذاب فيزيد على عذاب الكافر عذاب الوحدة فكأنما عذبه الله تعالى بشيئين النار والوحدة.
لذا فعندما قال سبحانه وتعالى (اهدنا الصراط المستقيم ) فيه شيء من التثبيت والاستئناس، هذا الدعاء ارتبط بأول السورة وبوسطها وآخرها. الحمد لله رب العالمين مهمة الرب هي الهداية وكثيرا ما اقترنت الهداية باسم الرب فهو مرتبط برب العالمين وارتبط بقوله الرحمن الرحيم لان من هداه الله فقد رحمه وأنت الآن تطلب من الرحمن الرحيم الهداية أي تطلب من الرحمن الرحيم أن لا يتركك ضالا غير مهتد ثم قال ( إياك نعبد وإياك نستعين )فلا تتحقق العبادة إلا بسلوك الطريق المستقيم وكذلك الاستعانة ومن الاستعانة طلب الهداية للصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم أي صراط الذين سلكوا الصراط المستقيم، ولا الضالين، والضالون هم الذين سلكوا غير الصراط المستقيم فالهداية والضلال نقيضان والضالين نقيض الذين سلكوا الصراط المستقيم.
لماذا اختار كلمة الصراط بدلا من الطريق أو السبيل؟ لو لاحظنا البناء اللغوي للصراط هو على وزن (فعال بكسر الفاء) وهو من الأوزان الدالة على الاشتمال كالحزام والشداد والسداد والخمار والغطاء والفراش، هذه الصيغة تدل على الاشتمال بخلاف كلمة الطريق التي لا تدل على نفس المعنى. الصراط يدل على انه واسع رحب يتسع لكل السالكين ، أما كلمة طريق فهي على وزن فعيل بمعنى مطروق أي مسلوك والسبيل على وزن فعيل ونقول أسبلت الطريق إذا كثر السالكين فيها لكن ليس في صيغتها ما يدل على الاشتمال. فكلمة " الصراط " تدل على الاشتمال والوسع هذا في أصل البناء اللغوي (قال الزمخشري في كتابه الكشاف: الصراط من صرط كأنه يبتلع السبل كلما سلك فيه السالكون وكأنه يبتلعهم من سعته).
- قوله ( صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين )
لماذا جاءت كلمة الصراط معرفة بأل مرة ومضافة مرة أخرى (صراط الذين أنعمت عليهم)؟ جاءت كلمة الصراط مفردة ومعرفة بتعريفين: بالألف واللام والإضافة وموصوفا بالاستقامة مما يدل على انه صراط واحد (موصوف بالاستقامة لأنه ليس بين نقطتين إلا طريق مستقيم واحد والمستقيم هو أقصر الطرق وأقربها وصولا إلى الله) وأي طريق آخر غير هذا الصراط المستقيم لا يوصل إلى المطلوب ولا يوصل إلى الله تعالى. والمقصود بالوصول إلى الله تعالى هو الوصول إلى مرضاته فكلنا واصل إلى الله وليس هناك من طريق غير الصراط المستقيم. (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) (المزمل آية 19) (الإنسان آية 29) (إن ربي على صراط مستقيم) (هود آية 56) (قال هذا صراط علي مستقيم) (الحجر آية 41)
وردت كلمة الصراط في القرآن مفردة ولم ترد مجتمعة أبداً بخلاف السبيل فقد وردت مفردة ووردت جمعا (سبل) لان الصراط هو الأوسع وهو الذي تفضي إليه كل السبل (فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) (الأنعام 153) (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) (المائدة 16) (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) (العنكبوت 69) (هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة ) (يوسف آية 108) الصراط هو صراط واحد مفرد لأنه هو طريق الإسلام الرحب الواسع الذي تفضي إليه كل السبل وأتباع غير هذا الصراط ينأى بنا عن المقصود [1].
ثم زاد هذا الصراط توضيحا وبيانا بعد وصفه بالاستقامة وتعريفه بأل بقول (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) جمعت هذه الآية كل أصناف الخلق المكلفين ولم تستثني منهم أحداً فذكر:
الذين انعم الله عليهم هم الذين سلكوا الصراط المستقيم وعرفوا الحق وعملوا بمقتضاه.
الذين عرفوا الحق وخالفوه (المغضوب عليهم) ويقول قسم من المفسرين أنهم العصاة.
الذين لم يعرفوا الحق وهم الضالين (قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) (الكهف آية 103-104) هذا الحسبان لا ينفعهم إنما هم من الأخسرين.
ولا يخرج المكلفون عن هذه الأصناف الثلاثة فكل الخلق ينتمي لواحد من هذه الأصناف.
وقال تعالى (صراط الذين أنعمت عليهم) ولم يقل تنعم عليهم فلماذا ذكر الفعل الماضي؟(1/219)
اختار الفعل الماضي على المضارع أولاً: ليتعين زمانه ليبين صراط الذين تحققت عليهم النعمة (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) (النساء آية 69) صراط الذين أنعمت عليهم يدخل في هؤلاء. وإذا قال تنعم عليهم لأغفل كل من انعم عليهم سابقا من رسل الله والصالحين ولو قال تنعم عليهم لم يدل في النص على انه سبحانه انعم على احد ولأحتمل أن يكون صراط الأولين غير الآخرين ولا يفيد التواصل بين زمر المؤمنين من آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة. مثال: اذا قلنا أعطني ما أعطيت أمثالي فمعناه أعطني مثل ما أعطيت سابقا، ولو قلنا أعطني ما تعطي أمثالي فهي لا تدل على أنه أعطى أحداً قبلي.
ولو قال " تنعم عليهم " لكان صراط هؤلاء اقل شأنا من صراط الذين أنعم عليهم فصراط الذين انعم عليهم من أولي العزم من الرسل والأنبياء والصديقين أما الذين تنعم عليهم لا تشمل هؤلاء. فالإتيان بالفعل الماضي يدل على انه بمرور الزمن يكثر عدد الذين انعم الله عليهم فمن ينعم عليهم الآن يلتحق بالسابقين من الذين انعم الله عليهم فيشمل كل من سبق وانعم الله عليهم فهم زمرة كبيرة من أولي العزم والرسل وأتباعهم والصديقين وغيرهم وهكذا تتسع دائرة المنعم عليهم، أما الذين تنعم عليهم تختص بوقت دون وقت ويكون عدد المنعم عليهم قليل لذا كان قوله سبحانه أنعمت عليهم أوسع وأشمل واعم من الذين تنعم عليهم.
لماذا قال صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين؟
أي لماذا عبر عن الذين أنعم عليهم باستخدام الفعل (أنعمت) والمغضوب عليهم والضالين بالاسم؟
الاسم يدل على الشمول ويشمل سائر الأزمنة من المغضوب عليهم والدلالة على الثبوت. أما الفعل فيدل على التجدد والحدوث فوصفه أنهم مغضوب عليهم وضالون دليل على الثبوت والدوام.
إذن فلماذا لم يقل المنعم عليهم للدلالة على الثبوت؟
لو قال صراط المنعم عليهم بالاسم لم يتبين المعنى أي من الذي أنعم إنما بين المنعِم (بكسر العين) في قوله ( أنعمت عليهم ) لأن معرفة المنعِم مهمة فالنعم تقدر بمقدار المنعِم (بكسر العين) لذا أراد سبحانه وتعالى أن يبين المنعم ليبين قدرة النعمة وعظيمها ومن عادة القرآن أن ينسب الخير إلى الله تعالى وكذلك النعم والتفضل وينزه نسبة السوء إليه سبحانه (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا) (الجن آية 10) والله سبحانه لا ينسب السوء لنفسه فقد يقول (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون) (النمل آية 4) لكن لا يقول زينا لهم سوء أعمالهم (زين لهم سوء أعمالهم) (التوبة آية 37) (زين للناس حب الشهوات ) (آل عمران آية 14) (وزين لفرعون سوء عمله). (غافر آية 37) (أفمن زين له سوء عمله) (فاطر آية 8) (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) (الأنفال آية 48) أما النعمة فينسبها الله تعالى إلى نفسه لأن النعمة كلها خير (ربي بما أنعمت علي) (القصص آية 17) (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه) (الزخرف آية 59) (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤوسا) (الإسراء آية 83) ولم ينسب سبحانه النعمة لغيره إلا في آية واحدة (وإذ تقول للذي انعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك) (الأحزاب آية 37) فهي نعمة خاصة بعد نعمة الله تعالى عليه.
لماذا قال " المغضوب عليهم " ولم يقل أغضبت عليهم؟ جاء باسم المفعول وأسنده للمجهول ولذا ليعم الغضب عليهم من الله والملائكة وكل الناس حتى أصدقاؤهم يتبرأ بعضهم من بعض حتى جلودهم تتبرأ منهم ولذا جاءت المغضوب عليهم لتشمل غضب الله وغضب الغاضبين.
غير المغضوب عليهم ولا الضالين: لم كرر لا؟ وقال غير المغضوب عليهم والضالين؟ إذا حذفت (لا) يمكن أن يُفهم أن المباينة والابتعاد هو فقط للذين جمعوا الغضب والضلالة فقط ، أما من لم يجمعها (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فلا يدخل في الاستثناء ، فإذا قلنا مثلا : لا تشرب الحليب واللبن الرائب (أي لا تجمعهما) أما إذا قلنا : لا تشرب الحليب ولا تشرب اللبن الرائب كان النهي عن كليهما إن اجتمعا أو انفردا.
فلماذا قدم إذن المغضوب عليهم على الضالين؟ المغضوب عليهم : الذين عرفوا ربهم ثم انحرفوا عن الحق وهم اشد بعدا لان ليس من علم كمن جهل لذا بدأ بالمغضوب عليهم وفي الحديث الصحيح أن المغضوب عليهم هم اليهود وأما النصارى فهم الضالون. واليهود أسبق من النصارى ولذا بدأ بهم واقتضى التقديم.
وصفة المغضوب عليهم هي أول معصية ظهرت في الوجود وهي صفة إبليس عندما أُمر بالسجود لآدم عليه السلام وهو يعرف الحق ومع ذلك عصى الله تعالى وهي أول معصية ظهرت على الأرض أيضاً عندما قتل ابن آدم أخاه فهي إذن أول معصية في الملأ الأعلى وعلى الأرض (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه) (النساء آية 93) ولذا بدأ بها.
أما جعل المغضوب عليهم بجانب المنعم عليهم فلأن المغضوب عليهم مناقض للمنعم عليهم والغضب مناقض للنعم.(1/220)
خاتمة سورة الفاتحة هي مناسبة لكل ما ورد في السورة من أولها إلى آخرها فمن لم يحمد الله تعالى فهو مغضوب عليه وضال ومن لم يؤمن بيوم الدين وأن الله سبحانه وتعالى مالك يوم الدين وملكه ومن لم يخص الله تعالى بالعبادة والاستعانة ومن لم يهتد إلى الصراط المستقيم فهم جميعاً مغضوب عليهم وضالون.
ولقد تضمنت السورة الإيمان والعمل الصالح، الإيمان بالله (الحمد لله رب العالمين) واليوم الآخر (مالك يوم الدين) والملائكة والرسل والكتب (اهدنا الصراط المستقيم) لما تقتضيه من إرسال الرسل والكتب. وقد جمعت هذه السورة توحيد الربوبية (رب العالمين) وتوحيد الألوهية (إياك نعبد وإياك نستعين) ولذا فهي حقاً أم الكتاب.
3) يقول الدكتور أحمد الكبيسي في كلمة الصراط وأخواتها في القرآن الكريم في برنامجه الكلمة وأخواتها في القرآن الكريم على قناة دبي الفضائية في شرح كلمة الصراط وأخواتها في القرآن الكريم وكيف أن كل كلمة منها وردت في القرآن في مكانها المناسب والمعنى الذي تأتي به كل كلمة لا يمكن أن يكون إلا من عند العلي العظيم الذي وضع كل كلمة بميزانها وبمكانها الذي لا يمكن لكلمة أخرى أن تأتي بنفس معناها:
مرادفات كلمة الطريق تأتي على النحو التالي: إمام – صراط – طريق - سبيل – نهج – فج - جدد (جمع جادة) – نفق
وجاء معنى كل منها العام على النحو التالي:
إمام: وهو الطريق العام الرئيسي الدولي الذي يربط بين الدول وليس له مثيل وتتميز أحكامه في الإسلام بتميز تخومه. وقدسية علامات المرور فيه هي من أهم صفاته وهو بتعبيرنا الحاضر الطريق السريع بين المدن (Highway). وقد استعير هذا اللفظ في القرآن الكريم ليدل على الشرائع (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) (الإسراء آية 71 ) أي كل ما عندهم من شرائع وجاء أيضا بمعنى كتاب الله (وكل شئ أحصيناه في إمام مبين) (يس آية 12)
صراط: هو كل ممر بين نقطتين متناقضتين كضفتي نهر أو قمتي جبلين أو الحق والباطل والضلالة والهداية في الإسلام أو الكفر والإيمان. والصراط واحد لا يتكرر في مكان واحد ولا يثنى ولا يجمع. وقد استعير في القرآن الكريم للتوحيد فلا إله إلا الله تنقل من الكفر إلى الإيمان (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم) ( الأنعام آية 161) (من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) ( الأنعام آية 39) (اهدنا الصراط المستقيم) (الفاتحة آية 7) (فاتبعني أهدك صراطا سويا) (مريم آية 43 ) (وان الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون) (المؤمنون آية 74 )
والصراط عموما هو العدل المطلق لله تعالى وما عداه فهو نسبي. (إن ربي على صراط مستقيم) ( هود آية 56 ) والتوحيد هو العدل المطلق وما عداه فهو نسبي.
سبيل: الطريق الذي يأتي بعد الصراط وهو ممتد طويل آمن سهل لكنه متعدد (سبل جمع سبيل) (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) ( العنكبوت آية 69 )السبل متعددة ولكن شرطها أن تبدأ من نقطة واحدة وتصب في نقطة واحدة عند الهدف. وفيه عناصر ثلاث: ممتد، متحرك ويأخذ إلى غاية.
و المذاهب في الإسلام من السبل كلها تنطلق من نقطة واحدة وتصل إلى غاية واحدة. وسبل السلام تأتي بعد الإيمان والتوحيد بعد عبور الصراط المستقيم. ولتقريب الصورة إلى الأذهان فيمكن اعتبار السبل في عصرنا الحاضر وسائل النقل المتعددة فقد ينطلق الكثيرون من نقطة واحدة قاصدين غاية واحدة لكن منهم من يستقل الطائرة ومنهم السيارة ومنهم الدراجة ومنهم الدواب وغيرها.
واستخدمت كلمة السبيل في القرآن بمعنى حقوق في قوله (ليس علينا في الأميين سبيل) (آل عمران آية 75 ) وابن السبيل في القرآن هو من انقطع عن أهله انقطاعا بعيدا وهدفه واضح ومشروع كالمسافر في تجارة أو للدعوة فلا تعطى الزكاة لمن انقطع عن أهله بسبب غير مشروع كالخارج في معصية أو ما شابه.
طريق:الطريق يكون داخل المدينة وللطرق حقوق خاصة بها وقد سميت طرقا لأنها تطرق كثيرا بالذهاب والإياب المتكرر من البيت إلى العمل والعكس. والطريق هي العبادات التي نفعلها بشكل دائم كالصلاة والزكاة والصوم والحج والذكر. (يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم) (الأحقاف آية 30)
نهج: وهو عبارة عن ممرات خاصة لا يمر بها إلا مجموعة خاصة من الناس وهي كالعبادات التي يختص بها قوم دون قوم مثل نهج القائمين بالليل ونهج المجاهدين في سبيل الله ونهج المحسنين وأولي الألباب وعباد الرحمن فكل منهم يعبد الله تعالى بمنهج معين وعلى كل مسلم أن يتخذ لنفسه نهجا معينا خاصا به يعرف به عند الله تعالى كبر الوالدين والذكر والجهاد والدعاء والقرآن والإحسان وغيرها (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) ( المائدة آية 48 ) وإذا لاحظنا وصفها في القرآن وجدنا لها ثلاثة صفات والإنفاق فيها صفة مشتركة.
1- نهج المستغفرين بالأسحار: (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) ( الذاريات آية 17 - 19 )
2- ونهج أهل التهجد: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون) (السجدة آية 16)(1/221)
3- ونهج المحسنين: (الذين ينفقون بالسراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس) (آل عمران آية 134 ).
فج: وهو الطريق بين جبلين (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) (الحج آية 27)
جادة: وتجمع على جدد كما وردت في القرآن الكريم (ومن الجبال جدد بيض وحمر) (فاطر آية 27 ) والجادة هي الطريق الذي يرسم في الصحراء أو الجبال من شدة الأثر ومن كثرة سلوكه.
نفق: وهو الطريق تحت الأرض (فان استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض) (الأنعام آية 35 )
المصدر: موقع إسلاميات http://www.islamiyyat.com
=============
لمسات بيانية في سورة الكوثر
الدكتور فاضل السامرائي
قال الله تعالى:(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ {1} فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ {2} إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ )
لماذا قال الله تعالى أعطيناك ولم يقل آتيناك؟
سورة الكوثر تأتي بعد سورة الماعون (أرأيت الذي يكذب بالدين..) وهي تقابل هذه السورة من نواحي عديدة:
سورة الماعون
…
سورة الكوثر
أرأيت الذي يكذب بالدين
فذلك الذي يدع اليتيم
ولا يحض على طعام المسكين
فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون
…
إنا أعطيناك الكوثر
فصل لربك وانحر
(المقصود بالنحر التصدق)
فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون (سهو عن الصلاة)
فصل لربك وانحر (أمر بالصلاة ودوام عليها)
الذين هم يرآؤون (مرآءاة في الصلاة)
فصل لربك وانحر (إخلاص الصلاة لله)
الذي يكذب بيوم الدين (لا يصدق بالجزاء ويوم الدين)
…
إنا أعطيناك الكوثر (الكوثر نهر في الجنة وهذا تصديق بيوم الدين والجزاء)
كل الصفات في هذه السورة تدل على الأبتر لأنه انقطع الخير عنه فهو الأبتر حقيقة (يكذب بيوم الدين, لا يدع اليتيم، لا يحض على طعام المسكين، ...)
إن شانئك هو الأبتر (والأبتر هو من انقطع عمله من كل خير)
وسورة الكوثر هي إنجاز لما وعد الله تعالى رسوله في سورة الضحى (ولسوف يعطيك ربك فترضى) في سورة الضحى وعد من الله بالإعطاء وفي سورة الكوثر عطاء وتحقق العطاء. وفي سورة الكوثر قال تعالى (إنا أعطيناك الكوثر) وإنا تفيد التوكيد وفي سورة الضحى (ولسوف يعطيك ربك فترضى) ولسوف تفيد التوكيد أيضاً. وفي سورة الكوثر (فصل لربك وانحر) وفي الضحى (ولسوف يعطيك ربك فترضى) أي فصل لربك الذي وعدك بان يعطيك وأنجز الوعد.
إنا أعطيناك: في بناء الآية لغوياً يوجد تقديم الضمير إنا على الفعل أعطيناك وهو تقديم مؤكد تأكيد بـ (إن) وتقديم أيضاً.
فلماذا قدم الضمير إنا ؟ أهم أغراض التقديم هو الاهتمام والاختصاص.
فعندما نقول أنا فعلت بمعنى فعلته أنا لا غيري (اختصاص)
وأنه خلق الزوجين ...ونوحاً هدينا من قبل.. (تفيد الاهتمام)
ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان...(تفيد الاهتمام ) لم يقصر السماع عليهم وحدهم إنما سمع غيرهم أيضاً.
في الآية إنا أعطيناك الكوثر يوجد الأمران: الاختصاص والاهتمام؛ فالله تعالى أعطى نبيه الكوثر اختصاصاً له وليس لأحد سواه وللاهتمام أيضاً وإذا كان ربه هو الذي أعطاه حصراً فلا يمكن لأي أحد أن ينزع ما أعطاه الله من حيث التأكيد في تركيب الجملة.
إنا: ضمير التعظيم ومؤكد
أعطيناك: لماذا لم يقل آتيناك؟
هناك تقارب صوتي بين آتى وأعطى وتقارب من حيث المعنى أيضاً لكن آتى تستعمل لما هو أوسع من أعطى في اللغة فقد يتقاربان.
آتى تستعمل لأعطى وما لا يصح لأعطى (يؤتي الحكمة من يشاء) (ولقد آتينا موسى تسع آيات) ( وآتيناهم ملكاً عظيماً). آتى تستعمل للرحمة، للحكمة، للأموال (وآتى المال على حبه) وتستعمل للرشد (وآتينا إبراهيم رشده). آتى تستعمل عادة للأمور المعنوية (لقد آتيناك من لدنا ذكرا) وقد تستعمل للأمور المادية أيضاً.
أما أعطى فهي تستعمل في الأمور المادية فقط (وأعطى قليلاً وأكدى) (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى)
إذن آتى تستعمل للأموال وغير الأموال وأكثر استعمالها للأمور الواسعة والعظيمة كالملك والرشد والحكمة.
وأعطى للتخصيص على الأغلب وهناك أمور لا يصح فيها استعمال أعطى أصلا كالحكمة والرشد.
وما دامت كلمة آتى أوسع استعمالا فلماذا إذن لم يستعمل آتى بدل أعطى؟
الإيتاء يشمله النزع بمعنى انه ليس تمليكا إنما العطاء تمليك. والإيتاء ليس بالضرورة تمليكا (تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) (وآتيناه من الكنوز....ثم خسفنا به وبداره الأرض) إذن الإيتاء يشمله النزع أما العطاء فهو تمليك. في الملك يستعمل الإيتاء لأنه قد ينزعه سبحانه أما العطاء فهو للتمليك وبما انه تمليك للشخص فله حق التصرف فيه وليس له ذلك في الإيتاء. (رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي.... هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) أي بما انه عطاء من الله تعالى لسيدنا سليمان فله حق التصرف في عطاء الله له.
وقد يكون الإيتاء آية فليس للنبي حق التصرف بها بل عليه تبليغها ورب العالمين ملك رسوله صلى الله عليه وسلم الكوثر وأعطاه إياه تمليكاً له أن يتصرف فيه كيفما شاء.
لماذا قال تعالى الكوثر ولم يقل الكثير؟(1/222)
الكوثر من صفات المبالغة تفيد (فوعل وفيعل) تدل على المبالغة المفرطة في الخير. وقيل عن الكوثر انه نهر في الجنة وقيل الحوض وقيل رفعة الذكر وغيره وكل ما قيل يشمل الخير الذي أعطاه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم فهو كوثر ومن الكوثر أي الخير الذي انعم الله تعالى على رسوله به.
والكوثر يدل على الكثرة المفرطة في الشيء والفرق بين الكوثر والكثير ان الكوثر قد تكون صفة وقد تكون ذاتاً أما الكثير فهي صفة فقط. وكون الكوثر صفة يدل على الخير الكثير وليس على الكثرة (الكثير هو الكثرة) ولكن الكوثر تدل على الخير الكثير والكثرة قد تكون في الخير وغيره. فالكوثر هو بالإضافة إلى الكثرة المفرطة فهو في الخير خصوصاً. وقد تكون الكوثر الذات الموصوفة بالخير (يقال أقبل السيد الكوثر أي السيد الكثير الخير و العطاء) ولا يقال اقبل الكثير. النهر عادة هو ذات ولكنه ذات موصوف بكثرة الخير. فالكوثر أولى من الكثير لما فيه من الكثرة المفرطة مع الخير وهناك قراءة للآية (الكيثر) وهي صفة مشابهة مثل الفيصل.
والواو أقوى من الياء فأعطى الله تعالى الوصف الأقوى وهو الكوثر وليس الكثير. وفي هذه الآية حذف للموصوف فلم يقل تعالى ماءً كوثراً ولا مالاً كوثراً وإنما قال الكوثر فقط لإطلاق الخير كله.
وعندما عرف الكوثر بأل التعريف دخل في معناها النهر ولو قال كوثر لما دخل النهر فيه لكن حذف الموصوف أفاد الإطلاق وجمع كل الخير.
وعندما أعطى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم الخير المطلق والكثير فهو في حاجة للتوكيد والتعظيم ولذلك قال إنا مع ضمير التعظيم لأنه يتناسب مع الخير الكثير والمطلق وناسبه التوكيد أيضاً في إنا.
- قوله ( فصل لربك وانحر )
لماذا لم يقل سبحانه وتعالى فصل لنا أو صل لله ولماذا قال انحر ولم يقل ضحي أو اذبح.
بعد أن بشر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بإعطائه الكوثر جاء السبب بالفاء أي أراد منه أن يشكر النعمة التي أعطاه إياها ، ينبغي تلقي النعم بالشكر ولم يقل له فاشكر لان الشكر قد يكون قليلاً أو كثيراً فلو قال الحمد لله فقط لكان شاكراً لكن هذا الأمر الكبير والعطاء الكبير يستوجب الحمد الكثير ولذا طلب الله تعالى من رسوله صلى الله عليه وسلم شيئين الأول يتعلق بالله تعالى وهو الصلاة والثاني يتعلق بالعباد وهو النحر. والصلاة أعظم ركن من أركان الإسلام وهو أعلى درجات الشكر لله والنحر وفيه إعطاء خلق الله والشفقة بخلق الله. فشكر النعم يكون بأمرين شكر الله والإحسان إلى خلقه من الشكر أيضاً وعندما نحسن إلى خلق الله يكون هذا من شكر نعم الله.
وقدم الله تعالى الصلاة على النحر لأن الصلاة أهم من النحر وهي ركن من أركان الإسلام وأول ما يسأل العبد عنه يوم الحساب والمفروض أن تكون خمس مرات في اليوم والليلة ولهذا فهي أعم من النحر لأن النحر يكون مع التمكن المادي فقط في حين أن الصلاة لا تسقط عن العباد في أي حال من الأحوال من مرض أو فقر أو غيره. وقد وردت الصلاة في القرآن على عدة صور فهي إن كانت من الله تعالى فهي رحمة ، ومن الرسول صلى الله عليه وسلم دعاء ، ومن العباد عبادة وقول وفعل وحركة الصلاة. وكلما ورد ذكر الصلاة والزكاة في القرآن تتقدم الصلاة على الزكاة لأنها أعم وأهم.
فصل لربك: لماذا لم يقل فصل لله أو فصل لنا؟
اللام في (لربك) تفيد الاختصاص والقصد أن الصلاة لا تكون إلا لله وحده وهي مقابلة لما ورد في ذكر المرائين في الصلاة في سورة الماعون (الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يرآؤون ويمنعون الماعون) أما في سورة الكوثر فجاءت فصل لربك أي داوم على الصلاة لربك وليس كالمرائين.
لماذا لم يقل فصل لنا؟ في اللغة تسمى التفات من الغيبة إلى الحضور أو العكس. الصلاة تكون للرب وليس للمعطي فإذا قال فصل لنا لأفاد أن الصلاة تكون للمعطي ولكن الصحيح أن المعطي له الشكر فقط وليس الصلاة حتى لا يتوهم أن الصلاة تكون لأي معطي والصلاة حق لله وحده إنما المعطي له الشكر فقط. وكذلك قال تعالى إنا أعطيناك باستخدام ضمير التعظيم فلو قال فصل لنا لأوهم انه فيه شرك (انه تعالى له شريك والعياذ بالله) أو انه يمكن استخدام ضمير التعظيم للجمع
ملاحظة: في القرآن كله لا يوجد موضع ذكر فيه ضمير التعظيم إلا سبقه أو تبعه إفراد بما يفيد وحدانية الله تعالى (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ...إنا لله وإنا إليه راجعون) (كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله) (ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك....وإلى ربك فارغب) ولم يقل والينا فارغب. وهكذا يتبين انه لم يذكر ضمير التعظيم في القرآن كله إلا سبقه أو تبعه ما يدل على الإفراد تجنباً للشرك.(1/223)
واختيار كلمة الرب بدل كلمة الله (فصل لربك ولم يقل فصل لله) هذه الآية إنجاز لما وعد الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في سورة الضحى (ولسوف يعطيك ربك فترضى) ومعناها صل لربك الذي أنجز الوعد الذي وعدك إياه. والعطاء من الرعاية ولم يرد في القرآن كله لفظ العطاء إلا مع لفظ الرب (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) (ولسوف يعطيك ربك فترضى) (كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محذورا) (جزاء من ربك عطاء حسابا) لم تقترن كلمة العطاء في القرآن كله بغير لفظ الرب، والرب هو المربي والمعطي والقيم.
لماذا قال : ( وانحر ) ولم يقل واذبح؟
النحر في اللغة : يتعلق بنحر الإبل فقط ولا تستعمل مع غير الإبل. يقال ذبح الشاة وقد يستعمل الذبح للجميع وللبقر والطيور والشاة والإبل لكن النحر خاص بالإبل لأنها تنحر من نحرها فأراد الله تعالى أن يتصدق بأعز الأشياء عند العرب فلو قال اذبح لكان جائزاً أن يذبح طيراً أو غير ذلك ومعروف أن الإبل من خيار أموال العرب. وبما أن الله تعالى أعطى رسوله صلى الله عليه وسلم الخير الكثير والكوثر فلا يناسب هذا العطاء الكبير أن يكون الشكر عليه قليلاً لذا اختار الصلاة والنحر وهما أعظم أنواع الشكر.
لماذا لم يقل وتصدق؟
الصدقة تشمل القليل والكثير فلو تصدق احدهم بدرهم أو بطير لكفى المعنى ولكن الله تعالى أراد التصدق بخير الأموال ليتناسب مع العطاء الكثير.
لماذا لم يقل وزكي؟
الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يملك النصاب للزكاة أصلاً فهي غير واردة على الإطلاق ثم إن الزكاة تجب مرة واحدة في العام وبنسبة 2.5 % فقط ولما اختلف عما فرضه الله تعالى على المسلمين جميعاً ولن تكون شكراً خاصاً لله تعالى على عطائه الكثير ألا وهو الكوثر.
لماذا لم يقل وضحى؟
الأضحية هي كل ما تصح به الأضحية الشرعية فلو ضحى بشاة لكفت ، والأضحية لها وقتها وهو أربعة أيام يوم النحر و أيام التشريق فقط والله تعالى لم يرد أن يحصر الشكر له على عطائه الكثير بأيام محددة.
اختلف المفسرون بالصلاة والنحر أهي صلاة العيد أو عامة الصلاة أو خاصة والمعنى في الآية (فصل لربك وانحر) تشمل كل هذه الحالات ففي العيد يكون النحر بعد الصلاة ولكن الكثير من المفسرين قالوا إنها عامة ويدخل فيها صلاة العيد والأضحية.
لماذا لم يقل فصل لربك وانحر لربك؟ أو انحر له؟
- إن المتعلق الأول لربك كأنما يغني عن المتعلق الثاني وهو ما يسمى بظهور المراد أي يفهم من الآية فصل لربك وانحر لربك .
- الصلاة أهم من النحر لأنها لا تسقط بأي حال من الأحوال فجعل المتعلق بما هو أهم والنحر لا يكون إلا مع الاستطاعة .
- الصلاة لا تكون إلا عبادة ولا تكون غير ذلك أما النحر فقد يكون إما للعبادة وقد يكون للأكل فقط وليست بهدف العبادة لذا النحر يختلف عن الصلاة. وإذا كان النحر عبادة فلا يكون إلا لله تعالى وملعون من ذبح لغير الله فلو قال وانحر لربك لألزم أن يكون النحر فقط عبادة ولما جاز لغير العبادة أبداً .
لماذا لم يقل وتقرب؟ القربان من التقرب ولقد ورد القربان مرة واحدة في القرآن الكريم في حادثة ابني آدم عليه السلام.
- قوله ( إن شانئك هو الأبتر ).
نزلت هذه الآية لما مات ابني الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت قريش بتر محمد وإذا مات أبناء الشخص المذكور يقال له أبتر.
ما هو تعريف كلمة الأبتر وما معناها؟
الأبتر في اللغة لها عدة معاني:
1. كل أمر انقطع من الخير أثره فهو أبتر
2. إذا مات أولاد الشخص الذكور أو ليس له أولاد ذكور أصلاً
3. الخاسر يسمى أبتر
من أشهر ما ذكر في أسباب النزول حادثة وفاة ابني الرسول صلى الله عليه وسلم
هو الأبتر" يقال هو الغني لتفيد التخصيص. هو غني : أي هو من جملة الأغنياء.
أراد الله تعالى أن يخصص الشانئ بالأبتر ولم يقل إن شانئك هو أبتر. هو في الآية ضمير منفصل وتعريف الأبتر بأل التعريف حصر البتر بالشانئ تخصيصاً.
شنئان: بغض.
جعل الله تعالى مجرد بغض الرسول صلى الله عليه وسلم هو خسارة وهذه خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
لم يقل عدوك هو الأبتر لأن مجرد الشنئان للرسول صلى الله عليه وسلم هو بغض وخسارة ولو لم يعلن عداوته علناً (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن).
لماذا قال الأبتر ولم يقل المبتور؟
الأبتر صفة مشبهة على وزن أفعل تفيد الثبوت مثل الأحمر والأعرج والأسمر والأصلع.
المبتور صيغة فعول تدل على الحدوث فترة مثل مهموم ومحزون ومسرور ولا تدل على الثبوت بل تتحول.
فاستخدام الأبتر وجب بكل معاني البتر مع استمرارية هذه الصفة مع انقطاع ذريته حقيقة أو حكماً ويقال إن شانيء الرسول صلى الله عليه وسلم انقطع نسله بتاتاً إما بانقطاع الذرية أصلاً أو بإسلام ذريته من بعده فلا يدعون لأبيهم الكافر أبداً فينقطع أيضاً ذريته وذكره بعد موته، فقد بتر من الذرية وبتر من الخير أيضاً (وورد أن شانيء الرسول صلى الله عليه وسلم هو أبو جهل الذي اسلم أبناؤه كلهم وآمنوا بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم).
لماذا لم يقل وجعلنا شانئك هو الأبتر أو سنجعل شانئك هو الأبتر؟(1/224)
الخير الكثير هو الذي يعطيه الله تعالى والعطاء يقاس بقدر العطاء وقيمته وبقدر المعطي فإذا كان المعطي عظيما كان العطاء عظيماً. من ناحية المعطي ليس هناك أعظم من الله تعالى والكوثر هو الخير الكثير أما الأبتر فهو ليس جعلاً إنما صفته الأصلية فهناك فرق بين جعل الإنسان بصفة معينة او انه كذلك بصفته الأصلية.
شانئك : من حيث البيان هي أقوى الألفاظ وفي قراءة (شنئك) تفيد أن الأبتر هو الذي بالغ في الشنئ. ارتبط آخر السورة بأولها فالله تعالى أعطى في أولها الكثير من الخير وفي المقابل جاءت كلمة الأبتر وهو الذي خسر كل شيء والذي انقطع أثره من كل خير مقابل الخير الكثير الذي أعطاه الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم.
الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخسر لا في الدنيا ولا في الآخرة وهو ليس بالأبتر فالرسول صلى الله عليه وسلم يذكر اسمه في كل ثانية وهذا خاص بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلمإنما الشانيء فهو الأبتر في الدنيا والآخرة وهو الخاسر مادياً ومعنوياً.
لما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالنحر (فصل لربك وانحر) مكنه من مئة من الإبل نحرها بعد نزول الآية شكراً لله تعالى على نعمه الكثيرة.
المصدر:
موقع إسلاميات http://www.islamiyyat.com/
=============
لمسات بيانية في سورة الضحى
بقلم الدكتور فاضل السامرائي
(والضُّحَى*وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى)
ما هي دلالة القسم في قوله تعالى (والضحى)
يذكر أهل التفسير أن الوحي أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً فشق ذلك عليه وقيل له: إن ربك قلاك، فأنزل الله تعالى هذه السورة رداً على المشركين وإكراماً للرسول صلى الله عليه وسلم، فلماذا حزن الرسول الكريم وجزع لانقطاع الوحي مع ما يلقاه في سبيل الوحي من العنت والجهد؟ في الحقيقة انه اختبار من الله تعالى للرسول الكريم: هل هو حريص على الوحي وما فيه من مشقة أم انه سيرتاح من هذا الوحي الثقيل؟ وهذا فيه توجيه إلى الدعاة أنه عليهم أن يصبروا ويثبتوا في الدعوة مهما لاقوا من مشقة وعنت في سبيل الدعوة إلى الله.
الضحى في اللغة :هو وقت ارتفاع الشمس بعد الشروق
سجى في اللغة :لها ثلاث معاني ، فهي بمعنى سكن، أو اشتد ظلامه أو غطى مثل تسجية الميت.
أقسم الله تعالى بالضحى والليل إذا سجى انه ما ودع رسوله وما قلاه، والضحى هنا يمثل نور الوحي وإشراقه كما قال المفسرون ، والليل يمثل انقطاع الوحي وسكونه والدنيا من غير نور الوحي ظلام ولذلك قدم سبحانه الضحى هنا لأنه ما سبق من نور الوحي وأخر الليل لما يمثل من انقطاع الوحي. وقال بعض المفسرين أن القسم يشير أن الانقطاع يمثل الاستجمام والسكون كما يرتاح الشخص المتعب في الليل ومن معاني سجى السكون وهو يمثل الراحة وهو نعمة. فالقسم هنا جاء لما تستدعيه الحالة التي هو فيها.
ما اللمسة البيانية في كلمة (سجى) وليست في كلمتي غشي أو يسر ؟
كما في قوله (والليل إذا يغشى) (والليل إذا يسر) سبق القول أن من معاني سجى: سكن وهذا يمثل سكون الوحي وانقطاعه وهذا هو السكون، والانقطاع ظلمة وهذا المعنى الثاني لسجى فكلمة سجى جمعت المعاني كلها التي تدل على انقطاع الوحي وسكونه. أما كلمة يغشى أو يسر فهما تدلان على الحركة وهذا يناقض المعنى للقسم في هذه السورة. وعليه فان القسم (والضحى والليل إذا سجى) هو انسب قسم للحالة التي هو فيها من نور الوحي وانقطاعه وكل قسم في القرآن له علاقة بالمقسم به.
ما الحكم البياني في استخدام كلمة (والضحى) بدل والفجر أو النهار؟
الضحى هو وقت إشراق الشمس أما النهار فهو كل الوقت من أول النهار إلى آخره، والضحى يمثل وقت ابتداء حركة الناس يقابله الليل إذا سجى وهو وقت السكون والراحة. والفجر هو أول دخول وقت الفجر (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) ولا يكون هناك ضوء بعد أو نور كوقت الضحى بعد شروق الشمس.
- قوله ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ).
أين مفعول الفعل قلى؟
في هذه الآية الكريمة ذكر مفعول الفعل ودع وهو (الكاف في ودعك) وحذف مفعول الفعل قلى (ولم يقل قلاك)
في اللغة عند العرب التوديع عادة يكون بين المتحابين والأصحاب فقط ويكون عند فراق الأشخاص. اختلف النحاة في سبب ذكر مفعول فعل التوديع وحذف مفعول فعل قلى منهم من قال لظهور المراد بمعنى أن الخطاب واضح من الآيات انه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال إنها مراعاة لفواصل الآيات في السورة (الضحى، سجى، قلى، الأولى،...) لكن القرآن العظيم لا يفعل ذلك لفواصل الآيات وحدها على حساب المعنى أبداً ولا يتعارض المعنى مع الفاصلة والمقام في القرآن كله. فلماذا إذن هذا الحذف والذكر؟
الذكر من باب التكريم والحذف من باب التكريم أيضاً. لم يقل الله تعالى قلاك لرسوله الكريم حتى لا ينسب الجفاء للرسول صلى الله عليه وسلم فلا يقال للذي نحب ونجل ما أهنتك ولا شتمتك إنما من باب أدب المخاطبة يقال ما أهنت وما شتمت فيحذف المفعول به إكراماً للشخص المخاطب وتقديرا لمنزلته وترفع عن ذكر ما يشينه ولو كان بالنفي.(1/225)
أما التوديع فالذكر فيه تكريم للمخاطب فيحسن ذكر المفعول مع أفعال التكريم وحذفه مع أفعال السوء ولو بالنفي. وهكذا يوجه الله تعالى المسلمين لأدب الكلام ويعلمنا كيف نخاطب الذين نجلهم ونحترمهم. ولقد جمعت هذه الآية التكريم للرسول من ربه مرتين مرة بذكر المفعول مع فعل التوديع ومرة بحذف المفعول مع الفعل قلى.
فلماذا قال تعالى " ربك " ولم يقل " الله " ؟
هنا تكريم آخر من الله تعالى لرسوله الكريم. فالرب هو المربي والموجه والقيم. وذكر الفاعل وهو الرب إكرام آخر فلم يقل لم تودع ولم تقلى. والرب هو القيم على الأمر فكيف يودعك وهو ربك لا يمكن أن يودع الرب عبده كما لا يمكن لرب البيت أن يودعه ويتركه ورب الشيء لا يودعه ولا يتركه وإنما يرعاه ويحرص عليه. واختيار كلمة الرب بدل كلمة الله لأن لفظ الجلالة الله كلمة عامة للناس جميعا ولكن كلمة الرب لها خصوصية وهذا يحمل التطمين للرسول الكريم من ربه الذي يرعاه ولا يمكن أن يودعه أو يتركه أبداً.
- قوله ( وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى )
اختلف المفسرون في معنى كلمة الآخرة فمنهم من قال : إنها ما هو غير الدنيا بمعنى الدار الآخرة. وقسم قال إنها كل ما يستقبل من الحياة على العموم كما جاء في قوله تعالى(فإذا جاء وعد الآخرة ...) الآخرة هنا ليست في القيامة
الآخرة في سورة الضحى جاءت مقابل الأولى ولم تأت مقابل الدنيا فلم يقل وللآخرة خير لك من الدنيا. ومعنى الآية أن ما يأتي خير لك أيها الرسول مما مضى ؛ أي من الآن فصاعداً فيما يستقبل من عمرك هو خير لك من الأولى وأكد ذلك باللام في كلمة وللآخرة. وقد حصل هذا بالفعل فكل ما استقبل من حياته صلى الله عليه وسلم خير له مما حصل .
فلماذا لم يقل خير لك من الدنيا؟
لأنه لو قالها لما صحت إلا في الآخرة فكأنما حصر الخير في الآخرة فقط ونفى حصول الخير فيما يستقبل من حياته صلى الله عليه وسلم وهذه الآية توكيد لما سبقها في قوله تعالى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى.
ولماذا قال تعالى (لك) ولم يقل وللآخرة خير من الأولى؟
هذه السورة وسورة الشرح هما خاصتان بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو المخاطب المباشر بهما ولو قال تعالى : "وللآخرة خير من الأولى" لما صح هذا القول لأنه سيكون عاماً للناس جميعاً وهذا ما لا يحصل وعندها ستفيد الإطلاق ولا يصح على عمومه لان بعض الناس آخرتهم شر لهم من أولاهم ولا يصح هذا الكلام على إطلاقه إنما لا بد من أن يخصص المعنى وهو للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالذات ولهذا قال تعالى (وللآخرة خير لك من الأولى)
- قوله ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى )
ما هي علاقة هذه الآية بما سبقها من الآيات؟
سوف دالة على الاستقبال وقد سبق أن قال تعالى ( وللآخرة خير لك من الأولى ) وهي تدل أيضاً على الاستقبال وجاء أيضاً باللام في (ولسوف) وأكده بنفس التوكيد باللام في (وللآخرة)
ولماذا لم يحدد العطاء بشيء ما وإنما قال ولسوف يعطيك ربك فترضى؟
لقد أطلق سبحانه العطاء ولم يحدده إنما شمل هذا العطاء كل شيء ولم يخصصه بشيء معين إكراماً للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وتوسيعاً للعطاء وكذلك أطلق فعل الرضا كما أطلق العطاء فجعل العطاء عاماً وجعل الرضا عاماً وذكر المعطي أيضاً وهو الرب وعلينا أن نتخيل كيف يكون عطاء الرب؟ والعطاء على قدر المعطي وهذا كله فيه تكريم للرسول كذلك في إضافة ضمير الخطاب " الكاف " في (ربك) تكريم آخر للرسول صلى الله عليه وسلم
لماذا اختيار كلمة (فترضى) ؟
اختيار هذه الكلمة بالذات في غاية الأهمية ؛ فالرضا هو من أجل النعم على الإنسان وهو أساس الاستقرار والطمأنينة وراحة البال فإن فقد الرضا حلت الهموم والشقاء ودواعي النكد على الإنسان. وان فقد في جانب من جوانب الحياة فقد استقراره بقدر ذلك الجانب ولذا جعل الله تعالى الرضا صفة أهل الجنة (فهو في عيشة راضية) (فارجعي إلى ربك راضية مرضية). وعدم الرضا يؤدي إلى الضغط النفسي واليأس وقد يؤدي إلى الانتحار. والتعب مع الرضا راحة والراحة من دونه نكد وتعب، والفقر مع الرضا غنى والغنى من دونه فقر، والحرمان معه عطاء والعطاء من دونه حرمان. لذا فان اختيار الرضا هو اختيار نعمة من اجل النعم ولها دلالتها في الحياة عامة وليست خاصة بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فإذا رضي الإنسان ارتاح وهدأ باله وسكن وان لم يرض حل معه التعب والنكد والهموم والقلق مع كل ما أوتي من وسائل الراحة والاستقرار.
لماذا قال يعطيك ولم يقل يؤتيك؟(1/226)
الإيتاء يكون لأمور مادية وغيرها (الملك، الحكمة، الذكر) أما العطاء فهو خاص بالمادة. والإيتاء أوسع من العطاء واعم والعطاء مخصص للمال. والإيتاء قد يشمله النزع والعطاء لا يشمله النزع. (آتيناه آياتنا فانسلخ منها) (يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء) وقد لا يستوجب الإيتاء لشخص ما أن يتصرف بما أوتي ، أما العطاء فلصاحبه حرية التصرف فيه بالوهب والمنح ولذا قال تعالى (إنا أعطيناك الكوثر) لأن الكوثر أصبح ملكاً للرسول صلى الله عليه وسلم وكما قال الله تعالى لسيدنا سليمان عليه السلام(هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب) أي له الحق بالتصرف فيه كما يشاء.
- قوله ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8) )
هذه الآيات مرتبطة بالآيات السابقة (ما ودعك ربك وما قلى) (وللآخرة خير لك من الأولى) ومرتبطة أيضاً بالقسم في أول السورة (والضحى والليل إذا سجى) والآية (ألم يجدك يتيماً فآوى) تؤكد أن ربه لم يودعه ولم يقله وكذلك في ( وجدك ضالاً فهدى ) وهي كلها تصب في ( وللآخرة خير لك من الأولى) فالإيواء خير من اليتم ؛ والهداية خير من الضلالة ؛ والاغناء خير من العيلة فكلها مرتبطة بالآية (ما ودعك ربك وما قلى) وتؤكد معناها.
( وللآخرة خير لك من الأولى )فالله تعالى لم يترك رسوله صلى الله عليه وسلم ليتمه أو لحاجته أو للضلال هذا من ناحية ؛ ومن ناحية أخرى هي مرتبطة بالقسم فقد اقسم الله تعالى بالضحى والليل وما سجى ؛ واليتم ظلمة والإيواء هو النور وكذلك الضلال ظلمة والهدى نور (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) سورة البقرة، والحاجة والعيلة ظلمة أيضاً والغنى نور وبهجة.
في هذه الآيات بدأ سبحانه وتعالى بالظلمة ثم النور (اليتم ثم الإيواء، الضلال ثم الهدى، العيلة ثم الغنى وهذا ليناسب ويتوافق مع قوله تعالى (وللآخرة خير لك من الأولى) والأولى هي الظلمة أما الآخرة فهي النور وهي خير له من الأولى.
لماذا لم يقسم سبحانه بالليل إذا سجى أولاً ثم الضحى؟
الضحى هو نور الوحي وكان السكون بعد الوحي وكان القسم على اثر انقطاع الوحي فانقطاع الوحي هو الذي تأخر وليس العكس لذا جاء قسم الضحى أولاً ثم الليل.
لماذا تكررت كلمة ربك في هذه السورة؟
الرب معناه انه هو المعلم والمربي والمرشد والقيم وكل آيات السورة مرتبطة بكلمة الرب (ألم يجدك يتيماً فآوى....) اليتيم يحتاج لمن يقوم بأمره ويرعاه ويعلمه ويوجهه ويصلح حاله وهذه من مهام الرب واليتيم يحتاج هذه الصفات في الرب أولاً ثم إن الضال يحتاج لمن يهديه والرب هو الهادي والعائل أيضاً يحتاج لمن يقوم على أمره ويصلحه ويرزقه فكلمة الرب تناسب كل هذه الأشياء وترتبط بها ارتباطاً أساسياً ، وكثيراً ما ارتبطت الهداية في القرآن الكريم بكلمة الرب (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) (يهديهم ربهم بإيمانهم) (الحمد لله رب العالمين....اهدنا الصراط المستقيم)
لماذا حذف المفعول للأفعال: فآوى ، فأغنى، فهدى مثلما حذف في فعل قلى؟
ذكر المفسرون هنا عدة آراء منها : أن الحذف هو لظهور المراد لأنه تعالى كان يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم والمعنى واضح ، وقسم قال إنها مراعاة لفواصل الآيات حتى لا يقال آواك وأغناك وهداك فتختلف عن فواصل باقي الآيات ولكن كما سبق آنفاً قلنا إن القرآن الكريم لا يراعي الفاصلة على حساب المعنى مطلقاً وهي قاعدة عامة في القرآن: المعنى أولاً ثم الفاصلة القرآنية ومثال ذلك الآية في سورة طه ( إلهكم واله موسى فنسي) وكانت الفاصلة في باقي السورة مختلفة وعليه فان الحذف هنا جاء للإطلاق والدلالة على سعة الكرم. فآوى بمعنى فآواك وآوى لك وآوى بك وأغناك وأغنى لك وأغنى بك وهداك وهدى لك وهدى بك ، فلو قال سبحانه وتعالى فوجدك عائلا فأغناك لكان الغنى محصوراً بالرسول صلى الله عليه وسلم فقط لكن عندما أفاد الإطلاق دل ذلك على انه سبحانه أغنى رسوله وأغنى به وبتعليماته فيما خص الإنفاق وغيره خلقاً كثيراً وأغنى له خلقاً كثيراً وكذلك آوى الرسول صلى الله عليه وسلم وآوى به خلقا كثيراً بتعاليمه الكثيرين وتعاليمه كانت تحض على رعاية اليتامى وحسن معاملتهم واللطف بهم وآوى لأجله الكثير من الناس لان من الناس من يؤوى اليتامى حبا برسول الله وطمعا في صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة كما ورد في الحديث: أنا وكافل اليتيم كهاتين وأشار إلى إصبعيه. وكذلك بالنسبة للهداية فالله تعالى هدى رسوله الكريم وهدى به خلقاً كثيراً ( وانك لتهدي إلى صراط مستقيم) وهدى له ولأجله من أراد سبحانه وتعالى ، إذن خلاصة القول أن الحذف هنا جاء لظهور المراد وفواصل الآيات وسعة الإطلاق كلها مجتمعة لا يتعارض احدها مع الآخر. وكذلك تناسب سعة الإطلاق هنا قوله تعالى (ولسوف يعطيك ربك فترضى). فالحذف هنا جاء للعموم والإطلاق في المعنى.(1/227)
لماذا ترتيب الآيات على هذا النحو؟ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8)
هذا هو الترتيب الطبيعي في الحياة. اليتم يقال لمن فقد والديه أو احدهما وهو دون سن البلوغ فإذا بلغ انتفت عنه صفة اليتم ، وإذا بلغ دخل في سن التكليف الشرعي فهو يحتاج إلى الهداية ليتعلم كيف يسير في الحياة قبل أن يكون فقيراً أو غنياً وكيف يجمع المال الحلال لأن كل مال جمع من غير طريق الهداية هو سحت ثم تأتي العيلة وهي أمر آخر بعد البلوغ ؛ من الناس من يكون فقيراً أو غنياً وعلى الاثنين أن يسيرا وفق التعاليم التي تعلماها بعد البلوغ مباشرة وهذا طبيعي ويمر به كل الخلق فهذا هو التسلسل الطبيعي في الحياة.لذا فقد بدأ سبحانه بالحالة الأولى (اليتم) ثم إذا بلغ تأتي الهداية في المرتبة الثانية ، وثالثاً العائل والغني يجب أن يسيرا على الهداية.
- قوله ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
القهرفي اللغة : هو التسلط بما يؤذي ولا تقهره بمعنى لا تظلمه بتضييع حقه ولا تتسلط عليه أو لا تحتقره أو تغلب على ماله ،كل هذه المعاني تدخل تحت كلمة القهر.
السائل اختلف المفسرون فيها فقال بعضهم : هو سائل المال والمعروف والصدقة ومنهم من قال : انه سائل العلم والدين والمعرفة وقسم قال انه مطلق ويشمل المعنيين ، فسواء كان السائل سائل مال وصدقة أو سائل علم ومعرفة يجب أن لا ينهر مهما كان سؤاله. لا يصح أن يزجز أو ينهر سائل المال أو سائل العلم والدين . إذا كان سائل مال أعطيناه أو رددناه بالحسنى وسائل العلم علينا أن نجيبه ونعلمه أمور الدين.
أما النعمة فقال بعض المفسرين إنها النبوة وتعاليمها وقال آخرون إنها كل ما أصاب الإنسان من خير سواء كان في الدنيا أو الآخرة. وقال آخرون إنها نعمة الدين (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) والواقع أن النعمة هنا أيضاً تشمل كل هذه المعاني فهي نعمة الدين يجب أن يتحدث بها ويبلغ عنها وهي نعمة الدنيا والله سبحانه يحب أن يرى اثر نعمته على عباده وان يتحدث الإنسان بنعم الله عليه وان يظهرها والنعمة عامة في الدنيا والدين وعلى الإنسان أن يحدث بهذه النعمة. (النعمة بفتح النون وردت في القرآن بمعنى العقوبات والسوء كما في قوله (ونعمة كانوا فيها فاكهين) (الكافرين أولي النعمة)
لماذا اختيار كلمة (فحدث) ولم يقل (فأخبر)؟
الإخبار لا يقتضي التكرار يكفي أن تقول الخبر مرة واحدة فيكون إخباراً أما التحديث فهو يقتضي التكرار والإشاعة أكثر من مرة، وفي سياق الآية يجب أن يتكرر الحديث عن الدعوة إلى الله مرات عديدة ولا يكفي قوله مرة واحدة. ولهذا سمي الله تعالى القرآن حديثا (فليأتوا بحديث مثله). فمعنى (فحدث) في هذه الآية هو المداومة على التبليغ وتكرارها وليس الإخبار فقط فيمكن أن يتم الإخبار مرة واحدة وينتهي الأمر.
وفي تسلسل الأحاديث في كتب السنة نلاحظ أنهم يقولون: حدثنا فلان عن فلان ويكررون ذلك مرة أو مرات عديدة حتى يصلوا إلى أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فالرسول الكريم يخبر بالحديث ثم يتناقله الصحابة فيما بينهم ويستمر تناقل الحديث حتى يعم وينتشر.
لماذا جاء ترتيب الآيات على هذا النحو؟ ( فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدث ).
أثار هذا الترتيب الكثير من الأسئلة عند المفسرين لماذا رتبت الآيات على هذه الصورة لأنه لا يرد بنفس تسلسل الآيات السابقة (الم يجدك يتيما فآوى، ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلاً فأغنى).
لنستعرض الآيات واحدة واحدة: أما اليتيم فلا تقهر جاءت بنفس تسلسل الآية (ألم يجدك يتيما فآوى) نفس النسق.
, أما السائل فلا تنهر كان من المفروض أن تأتي مقابلة للآية (ووجدك عائلا فأغنى) لكنها جاءت في مقابل الآية (ووجدك ضالاً فهدى)
( وأما بنعمة ربك فحدث )،كان يجب أن تقدم باعتبار النعمة دين ويجب أن تكون مقابل ( ووجدك ضالاً فهدى )
لكن الواقع أن ترتيب الآيات كما ورد في السورة هو الترتيب الأمثل، كيف؟ اليتيم ذكر أولا مقابل اليتيم ، ثم ذكر ( وأما السائل فلا تنهر ) قلنا سابقا أن السائل يشمل سائل العلم والمال وهنا اخذ بعين الاعتبار السائل عن المال والسائل عن العلم فهي إذن تكون مقابل (ووجدك ضالاً فهدى) وأيضاً (ووجدك عائلا فأغنى) لان السائل عن المال يجب أن لا ينهر والسائل عن العلم يجب أن لا ينهر أيضاً وعليه فان الآية جاءت في المكان المناسب لتشمل الحالتين ومرتبطة بالاثنين تماما.
( وأما بنعمة ربك فحدث )، هي في انسب ترتيب لها فان كان المقصود بالنعمة كل ما أصاب الإنسان من خير في الدنيا فلا يمكن أن نتحدث عن النعمة إلا بعد وقوعها وليس قبل ذلك. والآيات السابقة تذكر نعم الله على الرسول فاقتضى السياق أن يكون التحدث بالنعمة آخراً أي بعد حدوث كل النعم على الرسول صلى الله عليه وسلم.(1/228)
وإذا كان المقصود بالنعمة الدين، فيجب أن يكون التحديث في المرحلة الأخيرة لأن على الداعية أن يتحلى بالخلق الكريم وفيه إشارة أن الإنسان إذا أتاه سائل عليه أن يتصف بهذه الصفات قبل أن يبلغ الناس عن النعمة (الدين) فعليه أن لا يقهر يتيماً ولا ينهر سائلاً ولا يرد عائلاً وقد جاءت هذه الآية بعد إسباغ النعم وهو توجيه للدعاة قبل أن يتحدثوا أن يكونوا هينين لينين فقد قال تعالى (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) فعلى الداعية أن يتحلى بالخلق الحسن ولا ينهر سائلاً.
وكذلك جعل التحديث بالنعمة (وأما بنعمة ربك فحدث) جاءت بعد ( وأما السائل فلا تنهر) لان كل داعية يتعرض لأسئلة محرجة أحيانا تكون لغاية الفهم وقد تكون لنوايا مختلفة فعليه أن يتسع صدره للسائل مهما كانت نية السائل أو قصده من السؤال وعلى الداعية أن لا يستثار وإلا فشل في دعوته وقد يكون هذا هو قصد السائل أصلاً
من الدروس المستفادة من هذه السورة إضافة إلى ما سبق انه يحسن للإنسان تذكر أيام العسر والضيق لأنه مدعاة للشكر ومدعاة لمعاونة المبتلى أيضاً لذا يجب التذكير بالماضي وما يتقلب فيه المرء من نعم ليشكر الله تعالى عليها مهما كان في ماضيه من أذى أو حرج أو ضيق فلا بأس أن يتذكر أو يذكر به حتى يشكر الله تعالى على نعمه فيكون من الشاكرين لله تعالى.
المصدر: منقول عن موقع إسلاميات http://www.islamiyyat.com
============
بعض اللمسات البيانية في سورة الكهف
الدكتور فاضل السامرائي
قال الله تعالى:(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا {1} قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا {2} مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا {3} وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا )[سورة الكهف]
سؤال 1:في سورة الكهف قال الله تعالى (ماكثين فيه أبدا) آية 3 فلماذا لم تستخدم كلمة (خالدين)؟
المكث في اللغة: هو الأناة واللبث والإنتظار وليس بمعنى الخلود أصل المكث. الله تعالى يقصد الجنّة (إن لهم أجراً حسنا) والأجر الذي يُدفع مقابل العمل وننظر ماذا يحصل بعد الأجر. والجنّة تكون بعد أن يوفّى الناس أجورهم وفي الآية قال تعالى (أجراً حسناً) فالمقام هنا إذن مقام انتظار وليس مقام خلود بعد وعلى قدر ما تأخذ من الأجر يكون الخلود فيما بعد الأجر وهو الخلود في الجنّة. ومن حيث الدلالة اللغوية الأجر ليس هو الجنّة لذا ناسب أن يأتي بالمكث وليس الخلود للدلالة على الترقّب لما بعد الأجر.
سؤال 2:ما اللمسة البيانية في استخدام (فأردت) (فأردنا) (فأراد ربك) في سورة الكهف في قصة موسى والخضر؟
الملاحظ في القرآن كله أن الله تعالى لا ينسب السوء إلى نفسه ؛ أما الخير والنِعم فكلها منسوبة إليه تعالى كما في قوله (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه وإذا مسّه الشر كان يؤوسا) ولا نجد في القرآن فهل زيّن لهم سوء أعمالهم أبدا إنما نجد (زُيّن لهم سوء أعمالهم) وكذلك في قول الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام (الذي يميتني ثم يحيين) وقوله (وإذا مرضت هو يشفين) ولم يقل يمرضني تأدباً مع الله تعالى.(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً {79}) في هذه الآية الله تعالى لا ينسب العيب إلى نفسه أبداً فكان الخضر هو الذي عاب السفينة فجاء الفعل مفرداً.
(فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً {81})في هذه الآية فيها اشتراك في العمل قتل الغلام والإبدال بخير منه حسن فجاء بالضمير الدالّ على الاشتراك. في الآية إذن جانب قتل وجانب إبدال فجاء جانب القتل من الخضر وجاء الإبدال من الله تعالى لذا جاء الفعل مثنّى.
(وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً {82})في هذه الآية الجدار كلّه خير فنسب الفعل لله وحده وأنه يدلّ على أن الله تعالى هو علاّم الغيوب وسبق في علمه أن هذا الجدار تحته كنز لهما وأنه لو سقط سيأخذ أهل القرية المال من الأولاد اليتامى وهذا ظلم لهم والله تعالى ينسب الخير لنفسه عزّ وجلّ.وهذا الفعل في الآية ليس فيه اشتراك وإنما هو خير محض للغلامين وأبوهما الصالح والله تعالى هو الذي يسوق الخير المحض. وجاء بكلمة رب في الآيات بدل لفظ الجلالة (الله) للدلالة على أن الرب هو المربي والمعلِّم والراعي والرازق والآيات كلها في معنى الرعاية والتعهد والتربية لذا ناسب بين الأمر المطلوب واسمه الكريم سبحانه.(1/229)
سؤال 3:ما الفرق بين كلمة (قرية) وكلمة (مدينة) في القرآن الكريم كما وردتا في سورة يس وسورة الكهف؟
في اللغة : إذا اتّسعت القرية تُسمى مدينة ، والقرية قد تكون صغيرة وقد تكون كبيرة. وفي سورة يس وردت الكلمتان (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ {13}) و (وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ {20}) أي أن أصحاب القرية جدّوا في التبليغ حتى وصل إلى أبعد نقطة في المدينة مع بُعدها. وقوله تعالى (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) أي أن هذا الرجل جاء يحمل همّ الدعوة والتبليغ. ووصل التبليغ إلى أقصى نقطة في المدينة مع أنها متّسعة وهذا فيه دليل على جهدهم لنشر الدعوة والذي جاء حمل همّ الدعوة من أقصى المدينة.
وفي سورة الكهف (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً {77}) و(وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً {82}) استطعم موسى والخضر أهل القرية على سعتها أي أنهما جالا فيها كلها وبلغ بهم الجوع كثيراً حتى استطعموا أهلها.
سؤال 4:في سورة الكهف ما دلالة حرف العطف واو في قوله (سبعة وثامنهم كلبهم) مع أنها لم ترد فيما قبلها (ثلاثة رابعهم كلبهم وخمسة سادسهم كلبهم)؟
الواو تفيد التوكيد والتحقيق كما صرّح المفسرون أي كأنها تدل على أن الذين قالوا أن أصحاب الكهف كانوا سبعة وثامنهم كلبهم هم الذين قالوا القول الصحيح الصواب ومنهم الزمخشري. الواو إذن هي واو الحال ولكنها أفادت التوكيد والتحقيق بأن هذا القول صحيح لأن الواو يؤتى بها إذا تباعد معنى الصفات للدلالة على التحقيق والإهتمام (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) وإذا اقترب معنى الصفات لا يؤتى بالواو (همّاز مشّاء بنميم) هنا الصفات متقاربة فلم يؤتى بالواو.
وفي قوله تعالى في سورة التوبة (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ {112}) نلاحظ أن الواو ذكرت مع الصفة الأخيرة وهي الأشد على النفس والآخرين وباقي الصفات الأولى كلها متقاربة لكن النهي عن المنكر يكون أشدّ على الإنسان وقد يؤدي إلى الإهانة والقتل أحياناً.
سؤال 5:ما الفرق من الناحية البيانية بين قوله تعالى في سورة الكهف (فأتبع سببا) وقوله (ثم أتبع سببا)؟
الحكم العام في النحو:الفاء تفيد الترتيب والتعقيب. وثمّ تفيد الترتيب والتراخي أي تكون المدة أطول.
وفي سورة الكهف الكلام عن ذي القرنين ففي الآية الأولي (فأتبع سببا) لم يذكر قبل هذه الآية أن ذي القرنين كان في حملة أو في مهمة معينة وإنما جاء قبلها الآية (وآتيناه من كل شيء سببا) هذا في الجملة الأولى لم يكن قبلها شيء وإنما حصل هذا الشيء بعد التمكين لذي القرنين مباشرة، أما في الجملة الثانية (ثم أتبع سببا) فهذه حصلت بعد الحالة الأولى بمدة ساق ذو القرنين حملة إلى مغرب الشمس وحملة أخرى إلى مطلع الشمس وحملة أخرى إلى بين السدين وهذه الحملات كلها تأتي الواحدة بعد الأخرى بمدة وزمن ولهذا جاء استعمال ثم التي تفيد الترتيب والتراخي في الزمن.
ما دلالة قوله تعالى (ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً) ولماذا استخدام اللام في (لشيء) ولم يقل (عن شيء)؟
ورود اللام بعد القول له أكثر من دلالة وهو ليس دائماً للتبليغ وإنما تأتي لبيان العِلّّة إما بمعنى عن أو بسبب أمر ما (قال له). وقد جاء في سورة الكهف في قصة الخضر مع موسى قوله تعالى: (ألم أقل لك أنك لن تستطيع معي صبرا)، ويقال في اللغة: قلت له كذا وكذا. وقد تأتي اللام مع القول لغير التبليغ وتأتي بمعنى عن كما جاء في قول الشاعر (كضرائر الحسناء قلن لوجهها إنه لدميم) قلن لوجهها بمعنى عن وجهها. وقد تأتي اللام بعد فعل قال للتعليل بمعنى لأجل ذلك أو بسبب ذلك
سؤال 6:ما إعراب كلمة (كلمة) في قوله تعالى (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) سورة الكهف؟
كلمة هي تمييز، الفاعل ضمير مستتر ويأتي التمييز ليفسرها وتسمى في النحو: الفاعل المفسّر بالتمييز.
ما إعراب (أيّ) في الآية (لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أبدا) في سورة الكهف؟
أي: هي مبتدأ. وهي من أسماء الإستفهام وكل الأسماء التي لها صدر الكلام لا يعمل بها ما قبلها إلا حروف الجرّ ولكن يعمل فيها ما بعدها (ولتعلمنّ أيّنا أشدّ عذاباً وأبقى).(1/230)
ما السبب في تنكير الغلام وتعريف السفينة في سورة الكهف في قوله تعالى (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً {74}) و (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً {71})؟
حسب التفاسير أن الخضر وموسى عليه السلام لم يجدا سفينة لما جاءا إلى الساحل ثم جاءت سفينة مارّة فنادوهما فعرفا الخضر فحملوهما بدون أجر ولهذا جاءت السفينة معرّفة لأنها لم تكن أية سفينة. أما الغلام فهما لقياه في طريقهم وليس غلاماً محدداً معرّفاً.
سؤال 7: ما اللمسة البيانية في إختيار كلمة الأخسرين في قوله تعالى في سورة الكهف (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً {103})؟ وما الفرق بين الخاسرون والأخسرون؟
ورد في القرآن الكريم استخدام كلمتي الخاسرون كما جاء في سورة النحل (لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ {109}) والأخسرون كما جاء في سورة هود (لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ {22})، وفي سورة النمل (أوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ {5}) وآية سورة الكهف أيضاًََ (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً) . وفي اللغة الأخسر هو أكثر خسراناً من الخاسر ، ندرس أولاً ما السبب في إختيار كلمة الأخسرون في سورة هود؟ إذا لاحظنا سياق الآيات في سورة هود نجد أنها تتحدث عن الذين صدوا عن سبيل الله وصدّوا غيرهم أيضاً ، إنما السياق في سورة النحل فهو فيمن صدّ عن سبيل الله وحده ولم يصُدّ أحداً غيره فمن المؤكّد إذن أن الذي يصدّ نفسه وغيره عن سبيل الله أخسر من الذي صدّ نفسه عن سبيل الله لوحده فقط (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ {107}).
وإذا قارنّا بين آية سورة هود وآية سورة النمل (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ {4} أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ {5}) نجد أنه في سورة هود جاء التوكيد بـ (لا جرم) وهي عند النحاة تعني القسم أو بمعنى حقاً أو حقَّ وكلها تدل على التوكيد وإذا لاحظنا سياق الآيات في سورة هود الآيات (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ {18} الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ {19} أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ {20} أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ {21}). أما في سورة النمل فسياق الآيات يدل على أنهم لا يؤمنون بالآخرة فقط أما في سورة هود فقد زاد على ذلك أنهم يصدون عن سبيل الله وأنهم يفترون على الله الكذب وفيها خمسة أشياء إضافية عن آية سورة النمل لذا كان ضرورياً أن يؤتى بالتوكيد في سورة هود باستخدام (لا جرم) والتوكيد بـ (إنهم) ولم يأتي التوكيد في سورة النمل.
ونعود إلى آية سورة الكهف (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً {103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً {104}). نلاحظ استخدام كلمة (ضلّ) مع كلمة (سعيهم) ولم يقل ضل عملهم لأن السعي هو العدو أو المشي الشديد دون العدو ، وقال في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يُحسن صنعا ، والإحسان هو الإتقان وليس العمل العادي ، في اللغة لدينا: فعل وعمل وصنع. أما الفعل فقد تقال للجماد (نقول هذا فعل الرياح) والعمل ليس بالضرورة صنعاً فقد يعمل الإنسان بدون صنع، أما الصنع فهو أدقّ وهو من الصَّنعة كما في قوله تعالى (صُنع الله الذي أتقن كل شيء) والصنع لا تستعمل إلا للعاقل الذي يقصد العمل بإتقان.
إذن آية سورة الكهف جاء فيها ضلال وسعي وصُنع لذا استوجب أن يؤتى بكلمة الأخسرين أعمالاً ومن الملاحظ أنه في القرآن كله لم يُنسب جهة الخُسران للعمل إلا في هذه الآية. ولأن هذه الآية هي الوحيدة التي وقعت في سياق الأعمال من أولها إلى آخرها (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات).
والأخسرين:اسم تفضيل أي أنه هناك اشتراك في الخُسران، يوجد خاسرون كُثُر والأخسرين بعضهم أخسر من بعض أي التفضيل فيما بين الخاسرين أنفسهم.(1/231)
سؤال 8:ما الفرق من الناحية البيانية بين فعل استطاعوا واسطاعوا وفعل تسطع وتستطع في سورة الكهف؟
قال تعالى: (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً {97}). زيادة التاء في فعل استطاع تجعل الفعل مناسباً للحث وزيادة المبنى في اللغة تفيد زيادة المعنى. والصعود على السدّ أهون من إحداث نقب فيه لأن السدّ قد صنعه ذو القرنين من زبر الحديد والنحاس المذاب لذا استخدم اسطاعوا مع الصعود على السد واستطاعوا مع النقب. فحذف مع الحدث الخفيف أي الصعود على السد ولم يحذف مع الحدث الشاق الطويل بل أعطاه أطول صيغة له، وكذلك فإن الصعود على السدّ يتطلّب زمناً أقصر من إحداث النقب فيه فحذف من الفعل وقصّر منه ليجانس النطق الزمني الذي يتطلبه كل حدث.
أما عدم الحذف في قوله تعالى (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً {78}) وحذف التاء في الآية (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً {82}) لأن المقام في الآية الأولى مقام شرح وإيضاح وتبيين فلم يحذف من الفعل أما في الآية الثانية فهي في مقام مفارقة ولم يتكلم بعدها الخضر بكلمة وفارق موسى عليه السلام فاقتضى الحذف من الفعل.
سؤال 9:لماذا قدّم البصر على السمع في آية سورة الكهف و سورة السجدة؟
قال تعالى في سورة الكهف (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً {26}) وقال في سورة السجدة (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ {12}) والمعلوم أن الأكثر في القرآن تقديم السمع على البصر لأن السمع أهم من البصر في التكليف والتبليغ لأن فاقد البصر الذي يسمع يمكن تبليغه أما فاقد السمع فيصعب تبليغه ثم إن مدى السمع أقل من مدى البصر فمن نسمعه يكون عادة أقرب ممن نراه ، بالإضافة إلى أن السمع ينشأ في الإنسان قبل البصر في التكوين ؛ أما لماذا قدّم البصر على السمع في الآيتين المذكورتين ؟ فالسبب يعود إلى أنه في آية سورة الكهف الكلام عن أصحاب الكهف الذين فروا من قومهم لئلا يراهم أحد ولجأوا إلى ظلمة الكهف لكيلا يراهم أحد لكن الله تعالى يراهم في تقلبهم في ظلمة الكهف وكذلك طلبوا من صاحبهم أن يتلطف حتى لا يراه القوم إذن مسألة البصر هنا أهم من السمع فاقتضى تقديم البصر على السمع في الآية.وكذلك في آية سورة السجدة، الكلام عن المجرمون الذين كانوا في الدنيا يسمعون عن القيامة وأحوالها ولا يبصرون لكن ما يسمعوه كان يدخل في مجال الشك والظنّ ولو تيقنوا لآمنوا أما في الآخرة فقد أبصروا ما كانوا يسمعون عنه لأنهم أصبحوا في مجال اليقين وهو ميدان البصر (عين اليقين) والآخرة ميدان الرؤية وليس ميدان السمع وكما يقال ليس الخبر كالمعاينة. فعندما رأوا في الآخرة ما كانوا يسمعونه ويشكون فيه تغير الحال ولذا اقتضى تقديم البصر على السمع.
سؤال 10:ما دلالة كلمة (لنعلم) في آية سورة الكهف (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً {12})؟
قال تعالى في سورة الكهف (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً {12}) والعلم قسمان قسم يتعلق بالجزاء وقسم يعلمه الله ابتداء لا يتعلق بالجزاء. ما يفعله الإنسان هو من علم الله لكن حتى ما نفعله يتعلق بالجزاء وهناك علم آخر وهو العلم الذي قضاه الله تعالى وما يفعله الإنسان هو تصديق لعلم الله هذا. وقوله تعالى لنعلم أي الحزبين يعني لنعلم أي منهم يعلم الحقيقة لأن كل قسم قال شيئاً فمن الذي يعلم الحقيقة؟ الله تعالى. هناك علمان علم سابق الذي سجّل فيه الله تعالى القدر وعلم لاحق يحقق هذا العلم وهو الذي يتعلق بالجزاء.
سؤال 11:ماذا عن ربط المستقبل بـ(غد) فقط في قوله تعالى : (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) الكهف) ؟(1/232)
سبب نزول الآية هو الذي يحدد. سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلمعن ثلاثة أسئلة من قبل الكفار منها عن أهل الكهف فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: سأجيبكم غداً لأنه لم يكن لديه علم وجاء غد ولم يُجِب الرسول صلى الله عليه وسلمولم ينزل عليه الوحي مدة خمس عشرة ليلة فحصل إرجاف لأن الوحي يتنزّل بحكمة الله تعالى ثم نزلت الآية (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23))فهي مناسبة لأصل سبب النزول وهذا ينسحب لأنه أحياناً سبب النزول لا يتقيّد بشيء. مثلاً في مسألة (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) (سورة النور)ماذا إذا لم يردن تعففاً؟ الحادثة التي حصلت أن عبد الله بن أبيّ أراد إكراههن وهن يردن التحصّن فذكر المسألة كما هي واقعة ثم تأتي أمور أخرى تبيّن المسألة.
غداً في الآية موضع السؤال لا تعني بالضرورة الغد أي اليوم الذي يلي وإنما (قد) تفيد المستقبل وهي مناسبة لما وقع وما سيقع.
سؤال 12 -ما الفرق من الناحية البيانية بين قوله تعالى (شيئاً إمرا) و(شيئاً نُكرا) في سورة الكهف؟
قال تعالى على لسان موسى للرجل الصالح عندما خرق السفينة (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71))وقال تعالى عندما قتل الرجل الصالح الغلام (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)).
فوصف خرق السفينة بأنه شيء إمر ووصف قتل الغلام بأنه شيء نُكر وذلك أن خرق السفينة ونزع لوح خشب منها دون قتل الغلام شناعة فإنه إنما خرق السفينة لتبقى لمالكيها وهذا لا يبلغ مبلغ قتل الغلام بغير سبب ظاهر. والإمر دون النُكر فوضع التعبير في كل موضع بما يناسب كل فعل. وعن قتادة: النُكر أشدّ من الإمر. فجاء كل على ما يلائم ولم يكن ليحسن مجيء أحد الوصفين في موضع الآخر.
وهذا الاختلاف يدخل في فواصل الآي في القرآن الكريم.
المصدر: منقول عن موقع إسلاميات http://www.islamiyyat.com
=============
لمسات بيانية في آية الكرسي
الدكتور فاضل السامرائي
قال الله تعالى:( اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ )[سورة البقرة].
آية الكرسي هي سيّدة آي القرآن الكريم. بدأت الآية بالتوحيد ونفي الشرك وهو المطلب الأول للعقيدة عن طريق الإخبار عن الله. بدأ الإخبار عن الذات الإلهية ونلاحظ أن كل جملة في هذه الآية تصح أن تكون خبراً للمبتدأ (الله) لأن كل جملة فيها ضمير يعود إلى الله سبحانه وتعالى: الله لا تأخذه سنة ولا نوم، الله له ما في السموات وما في الأرض، الله من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، الله يعلم مابين أيديهم وما خلفهم، الله لا يحيطون بعلمه إلا بما شاء، الله وسع كرسيّه السموات والأرض، الله لا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم.
- قوله ( اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ):
الحيّ معرّفة والقيّوم معرّفة. والحيّ هو الكامل الاتصاف بالحياة ولم يقل حيّ لأنها تفيد أنه من جملة الأحياء. فالتعريف بـ(ال) هي دلالة على الكمال والقصر لأن ما سواه يصيبه الموت. والتعريف قد يأتي بالكمال والقصر، فالله له الكمال في الحياة وقصراً كل من عداه يجوز عليه الموت وكل ما عداه يجوز عليه الموت وهو الذي يفيض على الخلق بالحياة، فالله هو الحيّ لا حيّ سواه على الحقيقة لآن من سواه يجوز عليه الموت.
القيّوم:من صيغ المبالغة (على وزن فيعال وفيعول من صيغ المبالغة وهي ليست من الأوزان المشهورة) هي صيغة المبالغة من القيام ومن معانيها القائم في تدبير أمر خلقه في إنشائهم وتدبيرهم، ومن معانيها القائم على كل شيء، ومن معانيها الذي لا ينعس ولا ينام لأنه إذا نعس أو نام لا يكون قيّوماً ومن معانيها القائم بذاته وهو القيّوم جاء بصيغة التعريف لأنه لا قيّوم سواه على الأرض حصراً.
- قوله ( لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ) :(1/233)
سنة هي النعاس الذي يتقدم النوم ولهذا جاءت في ترتيب الآية قبل النوم وهذا ما يعرف بتقديم السبق، فهو سبحانه لا يأخذه نعاس أو ما يتقدم النوم من الفتور أو النوم، المتعارف عليه يأتي النعاس ثم ينام الإنسان. ولم يقل سبحانه لا (تأخذه سنة ونوم) أو (سنة أو نوم) ففي قوله سنة ولا نوم ينفيهما سواءً اجتمعا أو افترقا لكن لو قال سبحانه سنة ونوم فإنه ينفي الجمع ولا ينفي الإفراد فقد تأخذه سنة دون النوم أو يأخذه النوم دون السنة.
- قوله ( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ )
دلالة (ما):ما تفيد ذوات غير العاقل وصفات العقلاء، إذن لمّا قال (له ما) جمع العقلاء وغيرهم ولو قال (من) لخصّ العقلاء. (ما) أشمل وعلى سبيل الإحاطة. قال (ما في السموات وما في الأرض) أولاً بقصد الإحاطة والشمول، وثانياً قدّم الجار والمجرور على المبتدأ (له ما في السموات) إفادة القصر أن ذلك له حصراً لا شريك له في الملك (ما في السموات والأرض ملكه حصراُ قصراً فنفى الشرك). وجاء ترتيب (له ما في السموات وما في الأرض) بعد (الحيّ القيّوم) له دلالة خاصة: يدلّ على أنه قيوم على ملكه الذي لا يشاركه فيه أحد غيره وهناك فرق بين من يقوم على ملكه ومن يقوم على ملك غيره فهذا الأخير قد يغفل عن ملك غيره أما الذي يقوم على ملكه لا يغفل ولا ينام ولا تأخذه سنة ولا نوم سبحانه. فله كمال القيومية. وفي قوله (له ما في السموات وما في الأرض) تفيد التخصيص فهو لا يترك شيئاً في السموات والأرض إلا هو قائم عليه سبحانه.
- قوله ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ )
دلالة واضحة على تبيان ملكوت الله وكبريائه وأن أحداً لا يملك أن يتكلم إلا بإذنه ولا يتقدم إلا بإذنه مصداقاً لقوله تعالى: (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) هذا الجزء من الآية والجزء الذي قبلها (له ما في السموات وما في الأرض) يدل على ملكه وحكمه في الدنيا والآخرة لأنه لمّا قال (له ما في السموات وما في الأرض) يشمل ما في الدنيا وفي قوله (لمن ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) هذا في الآخرة فدلّ هذا على ملكوته في الدنيا والآخرة وأخرجه مخرج الإستفهام الإنكاري لأنه أقوى من النفي. فدلّ هذا على أنه حيّ قيّوم كيف؟ لأن الذي يَستشفع عنده حيّ والذي لا يستطيع أحد أن يتقدم إلا بإذنه يجعله قائم بأمر خلقه وكلها تؤكد معنى أنه الحيّ القيّوم.
من ذا:فيها احتمالين كما يذكر أهل النحو: فقد تكون كلمة واحدة بمعنى (من) استفهامية لكن (من ذا) أقوى من (من) لزيادة مبناها (يقال في النحو: زيادة المبنى زيادة في المعنى)، فقد نقول من حضر، ومن ذا حضر؟
لماذا الاختلاف في التعبير في قصة إبراهيم في سورة الصافات (ماذا تعبدون) وفي سورة الشعراء (ما تعبدون)؟ في الأولى استعمال (ماذا) أقوى لأن إبراهيم لم يكن ينتظر جواباً من قومه فجاءت الآية بعدها (فما ظنكم برب العالمين)، أما في الشعراء فالسياق سياق حوار فجاء الرد (قالوا نعبد أصناماً). إذن (من ذا) و(ماذا) أقوى من (من) و(ما).
(من ذا) قد تكون كلمتان (من) مع اسم الإشارة ذا (من هذا) يقال : من ذا الواقف؟ من الواقف؟ ومن هذا الواقف؟ فـ (من ذا الذي) تأتي بالمعنيين (من الذي) و(من هذا الذي) باعتبار ذا اسم إشارة فجمع المعنيين معاً.
في سورة الملك قوله: (أمّن هذا الذي هو جند لكم) هذا مكون من (هـ) للتنبيه والتوكيد و(ذا) اسم الإشارة وكذلك (هؤلاء) هي عبارة عن (هـ) و(أولاء) . فالهاء تفيد التنبيه والتوكيد فإذا كان الأمر لا يدعو إليها لا يأتي بها فلنستعرض سياق الآيات في سورة الملك مقابل آية الكرسي: آيات سورة الملك في مقام تحدّي فهو أشد وأقوى من سياق آية الكرسي لأن آية سورة الملك هي في خطاب الكافرين أما آية الكرسي فهي في سياق المؤمنين ومقامها في الشفاعة والشفيع هو طالب حاجة يرجو قضاءها ويعلم أن الأمر ليس بيده وإنما بيد من هو أعلى منه. أما آية سورة الملك فهي في مقام الندّ وليس مقام شفاعة ولذلك جاء بـ(هـ) التنبيه للإستخفاف بالشخص الذي ينصر من دون الرحمن (من هو الذي ينصر من دون الرحمن) وهذا ليس مقام آية الكرسي. والأمر الآخر أن التعبير في آية الكرسي اكتسب معنيين: قوة الإستفهام والإشارة بينما آية الملك دلت على الإشارة فقط ولو قال من الذي لفاتت قوة الإشارة. ولا يوجد تعبير آخر أقوى من (من ذا) لكسب المعنيين قوة الاستفهام والإشارة معاً بمعنى (من الذي يشفع ومن هذا الذي يشفع).
- قوله ( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ )
يعلم ما أمامهم مستقبلاً وما وراءهم والمقصود إحاطة علمه بأمورهم الماضية والمستقبلية ويعلم أحوال الشافع الذي يشفع ودافعه ولماذا طلب الشفاعة ويعلم المشفوع له وهل يستحق استجابة الطلب هذا عام فهذه الدلالة الأولية.(1/234)
في سورة مريم قال تعالى: (له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك) فما الحكمة أنها لم ترد على هذا الأسلوب في آية الكرسي؟ في سورة مريم سياق الآيات عن الملك (ولهم رزقهم فيها، تلك الجنة التي نورث من عبادنا، رب السموات والأرض..) الذي يرزق هو الذي يورّث فهو مالك وقوله رب السموات فهو مالكهم) أما في سورة آية الكرسي فالسياق عن العلم (يعلم ما بين أيدينا) وبعد هذه الجملة يأتي قوله (ولا يحيطون بلمه إلا بما شاء) أي أن السياق في العم لذا كان أنسب أن تأتي (يعلم ما بين أيدينا وما خلفنا) وهذه الجملة هي كما سبق توطئة لما سيأتي بعدها.
- قوله ( وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء )
ما هي فائدة (ما)؟ هي تحتمل معنيين في اللغة هنا تحتمل أن تكون مصدرية بمعنى (لا يحيطون بشيء من علمه إلا بمشيئته) وتحتمل أن تكون اسماًً موصولاً بمعنى (إلا بالذي شاء) وهنا جمع المعنيين أي لا يحيطون بعلمه إلا بمشيئته وبالذي يشاؤه أي بالعلم الذي يريد وبالمقدار الذي يريد. المقدار الذي يشاؤه نوعاً وقدراً. فمن سواه لا يعلم شيئاً إلا إذا ما أراده الله بمشيئته وبما أراده وبالقدر الذي يشاؤه والبشر لا يعلمون البديهيات ول أنفسهم ولا علّموا أنفسهم، فهو الذي شاء أن يعلّم الناس أنفسهم ووجودهم والبديهيات التي هي أساس كل علم. من سواه ما كان ليعلم شيئاً لولا أن أراد الله تماماً كما في قوله في سورة طه: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) أي بذاته في المعنى. إذن لماذا ذكر نفي الإحاطة بالذات في سورة طه ونفى الإحاطة بالعلم في آية الكرسي؟ في سورة طه جاءت الآية تعقيباً على عبادة بني إسرائيل للعجل وقد صنعوه بأيديهم وأحاطوا به علماً والله لا يحاط به، لقد عبدوا إلهاً وأحاطوا به علما فناسب أن لا يقول العلم وإنما قال (ولا يحيطون به علما) أما في آية الكرسي فالسياق جاء في العلم لذا قال تعالى (لا يحيطون بشيء من علمه) .
- قوله ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ )
دلّ أولاً على أنه من ملكه (السموات والأرض من ملكه) وقبل هذه الجملة قال تعالى (له ما في السموات وما في الأرض) فدلّ على أن الذي فيهما هو ملكه أيضاً لأن المالك قد يملك الشيء لكن لا يملك ما فيه وقد يكون العكس. فبدأ أولاً ( له ما في السموات وما في الأرض) أي أن ما فيهما ملكه لم يذكر أن السموات والأرض ملكه وهنا ذكر أن السموات والأرض وما فيهما هو ملكه. وإن الكرسي وسع السموات والأرض كما ورد في الحديث القدسي (السموات والأرض كحلقة في فلاة في العرش، والكرسي كحلقة في فلاة في العرش)
فما الحكمة من استخدام صيغة الماضي في فعل (وسع)؟ الحكمة أن صيغة الماضي تدلّ على أنه وسعهما فعلاً فلو قال يسع لكان فقط إخبار عن مقدار السعة فعندما نقول تسع داري ألف شخص فليس بالضرورة أن يكون فيها ألف شخص ولكن عندما نقول وسعت داري ألف شخص فهذا حصل فعلاً .تسع : تعني إخبار ليس بالضرورة حصل، لكن وسع بمعنى حصل فعلاً وهذا أمر حاصل فعلاً.
- قوله ( وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ )
أي لا يثقله ولا يجهده وجاء بـ (لا) للدلالة على الإطلاق لا تدل على الزمن المطلق وإن كان كثير من النحاة يجعلونها للمستقبل لكن الأرجح أنها تفيد الإطلاق (لا يمكن أن يحصل) . والعليّ من العلو والقهر والتسلط والغلبة والملك والسلطان والعلو عن النظير والمثيل. والعظيم من العظمة وقد عرّفهما ـ (أل التعريف) لأنه لا علليّ ولا عظيم على الحقيقة سواه فهو العليّ العظيم حصراً.
وهذين الوصفين وردا مرتين في ملك السموات والأرض في آية الكرسي في سورة البقرة، وفي سورة الشورى (له ما في السموات وما في الأرض وهو العلي العظيم) والأمرين في ملك السموات والأرض بما يدلّ على العلو والعظمة حصراً له سبحانه.
الملاحظ في آية الكرسي أنها ذكرت في بدايتها صفتين من صفات الله تعالى (الحيّ القيّوم) وانتهت بصفتين (العليّ العظيم) وكل حملة في الآية تدل على أنه الحيّ القيّوم والعليّ العظيم سبحانه تقدست صفاته. فالذي لا إله إلا هو ؛ هو الحي القيوم ؛ والذي لا تأخذه سنة ولا نوم هو حيّ وقيّوم والذي له ما في السموات وما في الأرض أي المالك والذي يدبر أمر ملكه هو الحيّ القيوم والذي لا يشفع عنده هو الحي القيوم ولا يشفع إلا بإذنه والذي يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحاط بشيء من علمه هو الحيّ القيّوم القيّم على الآخرين والذي وسع كرسيه السموات والأرض هو الحيّ القيّوم والذي لا يؤده حفظهما هو الحيّ القيّوم لأن الذي يحفظ هو الحي القيوم وهو العلي العظيم.
والحي القيوم هو العلي العظيم والذي لا تأخذه سنة ولا نوم والذي له ما في السموات والأرض والذي لا يشفع عنده إلا بإذنه والذي يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم والذي لا يحاط بعلمه إلا بما شاء هو العليّ العظيم فكل جملة في آية الكرسي المباركة تدلّ على أنه الحيّ القيّوم والعلي العظيم.(1/235)
الخطوط التعبيرية في الآية: الملاحظ في الآية أنها تذكر من كل الأشياء اثنين اثنين، بدأها بصفتين من صفات الله تعالى (الحي القيوم) وذكر اثنين من النم(سنة ونوم) وكرّر (لا) مرتين (لا تأخذه سنة ولا نوم) وذكر اثنين في الملكية(السموات والأرض) وكرر (ما) مرتين وذكر اثنين من علمه في (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) وذكر اثنين مما وسعه الكرسي (وسع كرسيه السموات والأرض) وختم الآية باثنين من صفاته (العليّ العظيم).
وقد ورد اسمين من أسماء الله الحسنى مرتين في القرآن: في سورة البقرة (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) ومرة في سورة (آل عمران) في الآية الثانية (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) (لاحظ الرقم 2). والعلي العظيم وردت في القرآن مرتين في القرآن أيضاً مرة في سورة البقرة ومرة (له ما في السموات وما في الأرض وهو العلي العظيم) في سورة الشورى في الآية الرابعة (أربع أسماء في الآية الرابعة).
الدلالة: القرآن هو تعبير فني مقصود كل لفظة وكل عبارة وردت فيه لعظة على حروفها وهو مقصود قصداً.
المصدر: منقول عن موقع إسلاميات http://www.islamiyyat.com/
===============
تيسير العزيز المنان في بيان إعجاز القرآن
بقلم الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن علي الهرفي
أولاً: معنى الإعجاز:
في اللغة:قال صاحب القاموس: (وأعجزه الشيء: فاته، وأعجز فلاناً: وجده عاجزاً وصيّره عاجزاً، والتعجيز: التثبيط والنسبة إلى العجز، ومعجزة النبي صلى الله عليه وسلم: ما أعجز به الخصم عند التحدي والهاء للمبالغة) [1].
وقال في التبيان: (الإعجاز في اللغة العربية هو: نسبة العجز إلى الغير، قال تعالى: (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) [المائدة:31] وتسمى المعجزة بهذا الاسم؛ لأن البشر يعجزون عن الاتيان بمثلها، لأنه أمر خارق للعادة، خارج عن حدود الأسباب المعروفة، وإعجاز القرآن معناه: إثبات عجز البشر متفرقين ومجتمعين عن الاتيان بمثله، وليس المقصود من (إعجاز القرآن) هو تعجيز البشر لذات التعجيز، أي: تعريفهم بعجزهم عن الاتيان بمثل القرآن) [2].
ثانياً: شروط المعجزة:
أ- أنها أمر خارق للعادة غير جار على ما اعتاد الناس من سنن الكون والظواهر الطبيعية.
ب- أنها أمر مقرون بالتحدي للمكذبين أو الشاكين، ولا بد أن يكون الذين يتحدون من القادرين على اتيان مثل المعجزة إن لم تكن من عند الله، وإلا فإن التحدي لا يتصور، إذ أننا لا نستطيع أن نتصور بطلاً في الملاكمة يتحدى طفلاً؛ لأن هذا الطفل عاجز عن مقابلته.
جـ- أنها أمر سالم من المعارضة، فمتى أمكن لأحد أن يعارض هذا الأمر ويأتي بمثله بطل أن يكون معجزة.
وهي على نوعين: حسية وعقلية.
والملاحظ أن أكثر معجزات الأنبياء السابقين كانت حسية، بينما نجد أن المعجزة الكبرى التي جاء بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عقلية، ونعني بهذه المعجزة: القرآن، وهناك معجزات أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم جاء في الصحيح أخبارها وهي كثيرة، ولعل مرد ذلك إلى أن هذه الشريعة آخر الشرائع وستبقى إلى أبد الدهر.. إلى يوم القيامة؛ ومن أجل ذلك فقد خصت بالمعجزة العقلية الباقية، ليراها ذوو البصائر في كل العصور ومهما تقدم الزمان، وهكذا فإن معجزات الأنبياء السابقين عليهم السلام قد انقرضت بانقراض أعمارهم، فلم يشاهدها إلا من حضرها، بينما معجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة [3].
ثالثاً: أوجه الإعجاز:
أ- الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب.
ب- الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال، وتأمل في ذلك سورة (ق) بتمامها.
قال ابن الحصار: وهذه الثلاثة من النظم، والأسلوب والجزالة، لازمة كل سورة، بل هي لازمة كل آية، وبمجموع هذه الثلاثة يتميز مسموع كل آية وكل سورة عن سائر كلام البشر، وبها وقع التحدي والتعجيز، ومع هذا فكل سورة تنفرد بهذه الثلاثة، من غير أن ينضاف إليها أمر آخر من الوجوه العشرة، فهذه سورة (الكوثر) ثلاث آيات قصار، وهي أقصر سورة في القرآن، وقد تضمنت الإخبار عن مغيبين:
أحدهما:الإخبار عن الكوثر وعظمته، وسعته وكثرة أوانيه، وذلك يدل على أن المصدقين به أكثر من أتباع سائر الرسل.
والثاني: الإخبار عن الوليد بن المغيرة، وقد كان عند نزول الآية ذا مال وولد على ما يقتضيه قوله الحق: ((ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً)) [المدثر:11-14].
ج- التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي، حتى يقع الاتفاق من جميعهم على أصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه.
د- الإخبار عن الأمور التي تقدمت في أول الدنيا، إلى وقت نزوله، من أمي ما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه [4].
هـ- الوفاء بالوعد، المدرك بالحس في العيان، في كل ما وعد سبحانه: ((وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)) [الأنفال:65] وشبه ذلك.(1/236)
و- الإخبار عن المغيبات في المستقبل التي لا يطلع عليها إلا الوحي، فمن ذلك: ما وعد الله نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان، بقوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ)) [التوبة:33] ففعل ذلك، وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله من إظهار دينه ليثقوا بالنصر، وليستيقنوا بالنجاح.
ز- ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام، في الحلال والحرام، وفي سائر الأحكام.
ح- الحكم البالغة، التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي.
ط- التناسب في جميع ما تضمنه ظاهراً وباطناً من غير اختلاف، قال الله تعالى: ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)) [النساء:82] [5].
ومن فصاحة القرآن أن الله تعالى جل ذكره، ذكر في آية واحدة أمرين، ونهيين وخبرين وبشارتين، وهو قوله تعالى: ((وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ...)) [القصص:7] [6].
رابعاً: بم وقع التحدي؟ :
(إن قال قائل: بينوا لنا ما الذي وقع التحدي إليه أهو الحروف المنظومة أو الكلام القائم بالذات أو غير ذلك؟
قيل: الذي تحداهم به أن يأتوا بمثل الحروف التي هي نظم القرآن، منظومة كنظمها، متتابعة كتتابعها، مطردة كاطرادها، ولم يتحدهم إلى أن يأتوا بمثل الكلام القديم الذي لا مثل له.
وإن كان كذلك فالتحدي واقع إلى أن يأتوا بمثل هذه الحروف المنظومة، التي هي عبارة عن كلام الله تعالى في نظمها وتأليفها) [7].
لمن وقع التحدي؟:
(التحدي إنما وقع للإنس دون الجن؛ لأن الجن ليسوا من أهل اللسان العربي الذي جاء القرآن على أساليبه، وإنما ذكروا في قوله: ((قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ)) [الإسراء:88] تعظيماً لإعجازه؛ لأن الهيئة الاجتماعية لها من القوة ما ليس للأفراد، فإذا فرض اجتماع جميع الإنس والجن، وظاهر بعضهم بعضاً، وعجزوا عن المعارضة كان الفريق الواحد أعجز) [8].
كلمة للإمام السيوطي رحمه الله
(الحمد لله الذي جعل معجزات هذه الأمة عقلية؛ لفرط ذكائهم وكمال أفهامهم، وفضلهم على من تقدمهم، إذ معجزاتهم حسية لبلادتهم وقلة بصيرتهم، نحمده سبحانه على قوله لرسوله: ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)) [النحل:44].وخصه بالإعانة على التبليغ، فلم يقدر أحد منهم على معارضته بعد تحديهم وكانوا أفصح الفصحاء، وأبلغ البلغاء، وأمهلهم طول السنين فعجزوا، وقالوا: ((وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ)) [العنكبوت:50، 51].
فأخبر تعالى أن الكتاب آية من آياته قائم مقام معجزات غيره من الأنبياء لفنائها بفنائهم) [9].
(أما بعد:
فإن إطلاق السلف رضي الله عنهم على كلام الله أنه محفوظ في الصدور مقروء بالألسنة مكتوب بالمصاحف، هو بطريق الحقيقة لا بطريق المجاز، وليسوا يعنون بذلك حلول كلام الله تعالى القديم في هذه الأجرام، تعالى الله عن ذلك! وإنما يريدون أن كلامه جل وعلا مذكور مدلول عليه [10] بتلاوة اللسان، وحفظ الجنان، وكتابة البنان، فهو موجود فيها حقيقة وعلماً لا مدلولاً، وقد أفرد علماؤنا رضي الله عنهم بتصانيف إعجاز القرآن وخاضوا في وجوه إعجازه كثيراً، وأنهى بعضهم وجوه إعجازه إلى ثمانين، والصواب أنه لا نهاية لوجوه إعجازه، كما قال السكاكي في المفتاح: اعلم أن إعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن، تدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة، وكما يدرك طيب النغم العارض لهذا الصوت، ولا يدرك تحصيله لغير ذوي الفطر السليمة، إلا بإتقان علمي المعاني والبيان، والتمرين فيهما [11].
فإن قلت: هل يقال: إن غير القرآن من كلام الله معجز كالتوراة والإنجيل؟
فالجواب:ليس شيء من ذلك معجزاً في النظم والتأليف، وإن كان معجزاً كالقرآن فيما يتضمن من إخبار بالغيوب، وإنما لم يكن معجزاً؛ لأن الله لم يصفه بما وصف به القرآن، ولأنا قد علمنا أنه لم يقع التحدي إليه كما وقع في القرآن، ولأن ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي به إلى حد الإعجاز) [12].
حفظ السطر والصدر
1- الإعجاز:تيسير حفظه، قال تعالى: ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)) [القمر:22] وسائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منهم فكيف الجم، على مرور السنين عليهم، والقرآن ميسر حفظه للغلمان في أقرب مدة، حتى أن منهم من حفظه في المنام، ويحكي أنه رفع إلى المأمون صبي ابن خمس سنين وهو يحفظ القرآن [13].
2- الإعجاز:كونه محفوظاً عن الزيادة والنقصان، محروساً عن التبديل والتغيير على تطاول الأزمان، بخلاف سائر الكتب، قال تعالى: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر:9] فلم يقدر أحد بحمد الله على التجاسر عليه [14].
حسن التآلف(1/237)
1- افتتاح السور وخواتيمها: وهو من أحسن البلاغة عند البيانيين، وهو أن يتأنق في أول الكلام؛ لأنه أول ما يقرع السمع، ومن الابتداء الحسن نوع أخص منه يسمى: براعة الاستهلال، وهو أن يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتكلم فيه، ويشير إلى ما سبق الكلام لأجله، والعلم الأسنى في ذلك سورة الفاتحة التي هي مطلع القرآن، فإنها مشتملة على جميع مقاصده؛ لأنه افتتح بها، فنبه في الفاتحة على جميع مقاصد القرآن، وهذا هو الغاية في براعة الاستهلال، مع ما اشتملت عليه من الألفاظ الحسنة والمقاطع المستحسنة وأنواع البلاغة.
وخواتيم السور مثل الفواتح في الحسن، فلهذا جاءت متضمنة للمعاني البديعة، مع إيذان السامع بانتهاء الكلام، حتى لا يبقى معه للنفوس تشوق إلى ما يذكر بعد) [15].
فإن قلت: ما الحكمة في ختم هذا القرآن العظيم بالمعوذتين؟
والجواب:ما قاله ابن جرير في تفسيره عن شيخه ابن الزبير: لثلاثة أمور:
الأول:لما كان القرآن العظيم من أعظم نعم الله على عباده، والنعم مظنة الحسد، فختم بما يطفئ الحسد من الاستعاذة بالله.
الثاني:إنما ختم بهما لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيهما: (أنزلت عليَّ آيات لم أر مثلهن قط) كما قال في فاتحة الكتاب: (لم ينزل في التوارة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها) ففتح القرآن بسورة لم ينزل مثلها، واختتمه بسورتين لم ير مثلهما، يجمع حسن الافتتاح وحسن الاختتام.
الثالث: أنه لما أمر القارئ أن يفتتح قراءته بالتعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ ختم القرآن بالمعوذتين لتحصل الاستعاذة بالله عند أول القراءة وعند آخر ما يقرأ من القرآن [16].
2- المناسبة: مناسبة آياته وسوره وارتباط بعضها ببعض حتى تكون الكلمة الواحدة، متسقة المعاني منتظمة المباني ومن ذلك قوله تعالى: ((لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)) [القيامة:16] ذكر الأئمة لها مناسبات: منها أنه تعالى لما ذكر القيامة وكان من شأن من يقصر عن العمل لها حب العاجلة، فنبه على أنه قد يعترض على فعل الخير ويترك ما هو أجل منه، وهو الإصغاء إلى الوحي وتفهم ما يراد منه، والتشاغل بالحفظ قد يصد عن ذلك فأمر ألا يبادر إلى التحفظ؛ لأن تحفيظه مضمون على ربه، وليصغي إلى ما يراد منه ويقضي ويتبع ما اشتمل عليه، ثم لما انقضت الجملة المعترضة رجع الكلام إلى ما يتعلق بالإنسان المبتدأ بذكره وهو من جنسه فقال: (كلا) وهي كلمة ردع كأنه قال بل أنتم يا بني آدم لكونكم خلقتم من عجل تعجلون في كل شيء، ومن ثم تحبون العاجلة [17].
ومن ذلك ما ذكر الفخر الرازي في مناسبة الفاتحة لما بعدها في قوله تعالى: ((غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)) [الفاتحة:7] المشهور أن المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى، وقيل: إنه قول ضعيف، ويحتمل أن يكون المغضوب عليهم هم الكفار والضالون هم المنافقين، وذلك لأنه تعالى بدأ بذكر المؤمنين في سورة البقرة والثناء عليهم في خمس آيات، ثم أتبعه بذكر الكفار ثم أتبعه بذكر المنافقين وكذلك في الفاتحة [18].
3- لفظة غريبة: وفي القرآن لفظة غريبة هي من أغرب ما فيه، وما حسنت في كلام قط إلا في موقعها فيه، وهي كلمة (ضيزى) من قوله تعالى: ((تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى)) [النجم:22] ومع ذلك فإن حسنها في نظم الكلام من أغرب الحسن ومن أعجبه، ولو أردت اللغة العربية ما صلح لهذا الموضع غيرها، فإن السورة التي هي منها وهي سورة النجم مفصلة كلها على الياء، فجاءت الكلمة فاصلة من الفواصل، ثم هي في معرض إنكار العرب، إذ وردت في ذكر الأصنام وزعمهم بقسمة الأولاد، فإنهم جعلوا الملائكة والأصنام بنات الله مع وأدهم البنات؛ فقال تعالى: ((أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى)) [النجم:21، 22] فكانت غرابة اللفظ أشد الأشياء ملاءمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها، وكانت الجملة كلها كأنها تصور في هيئة النطق بها، الإنكار في الأولى والتهكم في الأخرى، وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة وخاصة في اللفظة الغريبة الذي تمكنت في موضعها من الفصل [19].
لفتة جميلة من سيد قطب
سحر القرآن:(سَحَرَ القرآن العرب منذ اللحظة الأولى، سواء منهم في ذلك من شرح الله صدره للإسلام، ومن جعل على بصره منهم غشاوة، وإذا تجاوزنا القليل الذين كانت شخصية محمد صلى الله عليه وسلم وحده، هي داعيتهم إلى الإيمان في أول الأمر، كزوجه خديجة، وصديقه أبي بكر، وابن عمه علي، ومولاه زيد، وأمثالهم، فإننا نجد القرآن كان العامل الحاسم أو أحد العوامل الحاسمة في إيمان من آمنوا أوائل أيام الدعوة يوم لم يكن لمحمد حول ولا طول، ويوم لم يكن للإسلام قوة ولا منعة، وقصة إيمان عمر بن الخطاب، وقصة تولي الوليد بن المغيرة، نموذجان من قصص كثيرة للإيمان والتولي، وكلتاهما تكشفان عن هذا السحر القرآني الذي أخذ العرب منذ اللحظة الأولى، وتبينان في اتجاهين مختلفين، عن مدى هذا السحر القاهر، الذي يستوي في الإقرار به المؤمنون والكافرون [20].(1/238)
منبع هذا السحر:(كيف استحوذ القرآن على العرب هذا الاستحواذ؟! وكيف اجتمع على الإقرار بسحره المؤمنون والكافرون سواء؟
بعض الباحثين في مزايا القرآن، ينظر إلى القرآن جملة ثم يجيب، وبعضهم يذكر غير النسق الفني للقرآن أسباباً أخرى يستمدها من موضوعاته بعد أن صار كاملاً، من تشريع دقيق صالح لكل زمان ومكان، ومن إخبار عن الغيب يتحقق بعد أعوام، ومن علوم كونية في خلق الكون والإنسان، ولكن البحث على هذا النحو إنما يثبت المزية للقرآن مكتملاً، فما القول في السور القلائل التي لا تشريع فيها ولا غيب ولا علم، ولا تجمع بطبيعة الحال كل المزايا المتفرقة في القرآن؟
إن هذه السور القلائل قد سحر العرب بها منذ اللحظة الأولى، وفي وقت لم يكن التشريع المحكم ولا الأغراض الكبرى، هي التي تسترعي إحساسهم، وتستحق منهم الإعجاب.
لا بد إذن أن تلك السور القلائل كانت تحتوي على العنصر الذي يسحر المستمعين، ويستحوذ على المؤمنين والكافرين، وإذا حسب الأثر القرآني في إسلام المسلمين، فهذه السور الأولى تفوز منه بالنصيب الأوفى مهما يكن عدد المسلمين من القلة في ذاك الأوان، ذلك أنهم إذ ذاك تأثروا بهذا القرآن وحده -على الأغلب- فآمنوا [21].
يجب إذن أن نبحث عن منبع السحر في القرآن، قبل التشريع المحكم، قبل النبوءة الغيبية، وقبل العلوم الكونية، وقبل أن يصبح القرآن وحدة مكتملة تشمل هذا كله، فقليل القرآن الذي كان في أيام الدعوة الأولى كان مجرداً من هذه الأشياء التي جاءت فيما بعد، وكان مع ذلك محتوياً على هذا النبع الأصيل الذي تذوقه العرب فقالوا: ((إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ)) [المدثر:24] [22].
فلننظر في السورة الأولى: (سورة العلق) إنها تضم خمس عشرة فاصلة قصيرة، ربما يلوح في أول الأمر أنها تشبه (سجع الكهان) أو (حكمة السجاع) مما كان معروفاً عند العرب إذ ذاك، ولكن العهد في هذه وتلك أنها جمل متناثرة، لا رابط بينها ولا اتساق، فهل هذا هو الشأن في سورة العلق.
الجواب: لا. فهذا نسق متساوق يربط فواصله تناسق داخلي دقيق، هذه هي السورة الأولى في القرآن، فناسب أن يستفتحها بالإقراء، وباسم الله: الإقراء، للقرآن، واسم الله، لأنه هو الذي يدعو باسمه إلى الدين والله (رب) فالقراءة للتربية والتعليم، ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)) [العلق:1] [23].
وإنها لبدء الدعوة، فليختر من صفات (الرب) صفته التي بها معنى البدء بالحياة: (الذي خلق) وليبدأ من الخلق بمرحلة أولية صغيرة: ((خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ)) [العلق:2] منشأ صغير حقير، ولكن الرب الخالق كريم، كريم جداً: فقد رفع هذا العلق إلى إنسان كامل، يعلم فيتعلم: ((اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)) [العلق:3-5].
وإنها لنقلة بعيدة بين ذلك المنشأ وهذا المصير، وهي تصور هكذا مفاجأة بلا تدرج وتغفل المراحل التي توالت بين المنشأ والمصير، لتلمس الوجدان الإنساني لمسة قوية في مجال الدعوة الدينية، وفي مجال التأملات الوجدانية، ولقد كان المتوقع أن يعرف الإنسان هذا الفضل العظيم، وأن يشعر بتلك النقلة البعيدة، ولكن: ((كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)) [العلق:6، 7].
لقد برزت إذن صورة الإنسان الطاغي الذي نسي منشأه وأبطره الغنى، فالتعقيب التهديدي السريع على بروز هذه الصورة هو: ((إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)) [العلق:8] فإذا رد الأمر إلى نصابه هكذا سريعاً، لم يكن هناك ما يمنع من المضي في حديث الطغيان الإنساني، وإكمال الصورة الأولى: إن هذا الإنسان الذي يطغى ليتجاوز بطغيانه نفسه إلى سواه: ((أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى)) [العلق:9،10] أرأيت؟ إنها لكبيرة وإنها لتبدو أكبر إذا كان هذا العبد على الهدى آمراً بالتقوى: ((أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى)) [العلق:11،12] صلى الله عليه وسلم، فما بال هذا المخلوق الإنساني غافلاً عن كل شيء غفلته عن نشأته ونقلته؟(1/239)
((أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)) [العلق:13، 14]فالتهديد إذن يأتي في إبانه: ((كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ)) [العلق:15] هكذا (لنسفعا) بذلك اللفظ الشديد المصور بجرسه لمعناه.. وأنه لأوقع من مرادفه: لنأخذنه بشدة. و(لنسفعاً بالناصية) صورة حسية للأخذ الشديد السريع، ومن أعلى مكان يرفعه الطاغية المتكبر، من مقدم الرأس المتشامخ، إنها ناصية تستحق السفع: ((نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ)) [العلق:16] وإنها للحظة سفع وصرع فقد يخطر له أن يدعو من يعتز بهم من أهله وصحبه: ((فَلْيَدْعُ نَادِيَه)) [العلق:17] ومن فيه، أما نحن فإننا ((سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ)) [العلق:18] وهنا يخيل السياق للسامع صورة معركة بين المدعوين: بين الزبانية وأهل ناديه، وهي معركة تخييلية تشغل الحس والخيال، ولكنها على هذا النحو معروفة المصير، فلتترك لمصيرها المعروف، وليمض صاحب الرسالة في رسالته، غير متأثر بطغيان الطاغي وتكذيبه، ((كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)) [العلق:19] هذا ابتداء قوي منذ اللحظة الأولى للدعوة، وهذه الفواصل التي تبدو في الظاهر متناثرة، هي هكذا من الداخل متناسقة وهذا نسق من القرآن في السورة الأولى الشبيه في ظاهرها بسجع الكهان، أو حكمة السجاع) [24].
التأثير
الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله وإبانة خطره، هي على المكذبين به أعظم حتى كانوا يستثقلون سماعه، وأما المؤمن فلا تزال روعته به وهيبته إياه مع تلاوته توليه انجذاباً، وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه، وتصديقه به، قال تعالى:
((تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ)) [الزمر:23] [25].قال سيد رحمه الله يبين هذا التأثير في تفسيره لسورة النجم: ((فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا)) [النجم:62] وإنها لصيحة مزلزلة مذهلة في هذا السياق وفي هذه الظلال ، وبعد هذا التمهيد الطويل، الذي ترتعش له القلوب، ومن ثم سجدوا، سجدوا وهم مشركون! وهم يمارون في الوحي والقرآن! وهم يجادلون في الله والرسول!
سجدوا تحت هذه المطارق الهائلة التي وقعت على قلوبهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يتلو هذه السورة عليهم، وفيهم المسلمون والمشركون، ويسجد فيسجد الجميع، مسلمين ومشركين، لا يملكون أن يقاوموا وقع هذا القرآن، ولا أن يتماسكوا لهذا السلطان، ثم أفاقوا بعد فترة فإذا هم في ذهول من سجودهم كذهولهم وهم يسجدون!!
بهذا تواترت الروايات، ثم افترقت في تعليل هذا الحديث الغريب، وما هو في الحقيقة بالغريب، فهو تأثير هذا القرآن العجيب ووقعه الهائل في القلوب!
ولقد بقيت فترة أبحث عن السبب الممكن لهذا السجود، ويخطر لي احتمال أنه لم يقع، وإنما هي رواية ذكرت لتعليل عودة المهاجرين من الحبشة، بعد نحو شهرين أو ثلاثة، وهو أمر يحتاج إلى تعليل، وبينما أنا كذلك وقعت لي تجربة شعورية خاصة وهي...) [26].
الفن
1- القصة: وذلك أن القصة الواحدة ترد في سور شتى، وفواصل مختلفة، بأن يأتي في موضع واحد مقدماً وفي آخر مؤخراً، كقوله في سورة البقرة: ((وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ)) [البقرة:58] وقوله في الأعراف: ((وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً)) [الأعراف:161] وقوله في البقرة: ((وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ)) [البقرة:173] وسائر القرآن: ((وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ)) [المائدة:3] سورة الأنعام (145)، سورة النحل (115) [27].
2- التصوير: هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المحسوسة المتخيلة عن المعنى الذهني والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية، ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة [28].
والآن نأخذ في ضرب الأمثال:
ونبدأ بالمعاني الذهنية التي تخرج في صورة حسية:
أ- يريد أن يبين أن الذين كفروا لن ينالوا القبول عند الله ولن يدخلوا الجنة إطلاقاً، وأن القبول أو الدخول أمر مستحيل، هذه هي الطريقة الذهنية للتعبير عن هذه المعاني المجردة، ولكن أسلوب التصوير يعرضها في الصورة الآتية: ((إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)) [الأعراف:40] ويدعك ترسم بخيالك صورة لتفتح أبواب السماء، صور أخرى لولوج الحبل الغليظ في سم الخياط، ويختار من أسماء الحبل الغليظ اسم (الجمل) خاصة في هذا المقام، ويدع للحس أن يتأثر عن طريق الخيال بالصورتين ما شاء له التأثر؛ ليستقر في النهاية معنى القبول ومعنى الاستحالة في أعماق النفس، وقد وردا إليها عن طريق العين والحس –تخيلاً- وعبرا إليها من منافذ شتى في هينة وتؤدة، لا من منفذ الذهن وحده، في سرعة الذهن التجريدية [29].(1/240)
ب- ويريد أن يبين أن الذي يشرك بالله،لا منبت له ولا جذور، ولا بقاء له ولا استقرار، يمثل لهذا المعنى بصورة سريعة الخطوات عنيفة الحركات: ((وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)) [الحج:31] هكذا في ومضه يخر من السماء من حيث لا يدري أحد، فلا يستقر على الأرض لحظة أن تخطفه الطير أو أن الرياح تهوي به في مكان سحيق حيث لا يدري أحد كذلك وذلك هو المقصود. [30]
ج- الأداء:إن القرآن الكريم معجز في بنائه التعبيري، وتنسيقه الفني، وأسلوبه في الأداء.
إن تعبير القرآن يستقيم على خصائص واحدة في مستوى واحد، لا يختلف ولا يتفاوت، ولا تختلف خصائصه كما هي الحال في أعمال البشر، ففي كلام البشر تبدو القمم والسفوح.. التوفيق والتعثر.. الإشراق والانطفاء... إلى آخر هذه الظواهر التي تتجلى معها سمات البشر، وخصها سمة التغير والاختلاف المستمر الدائم من حال، إلى حال هذه الظاهرة واضحة كل الوضوح، وعكسها وهو الثبات والتناسق هو الظاهرة الملحوظة في القرآن [31].
د- الموسيقى:وحسبك بهذا الاعتبار في إعجاز النظم الموسيقي في القرآن وأنه مما لا يتعلق به أحد ولا ينفق على ذلك الوجه الذي فيه إلا فيه؛ لترتيب حروفه لاعتبار من أصواتها ومخارجها ومناسبة بعض ذلك لبعض مناسبة طبيعية في الهمس والجهر، والشدة والرخاوة، والتفخيم والترقيق، والتفشي والتكرار، وما هذه الفواصل التي تنتهي بها آيات القرآن إلا صورة تامة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقى وهي متفقة مع آياتها في قرار الصوت اتفاقاً عجيباً ليلائم نوع الصوت، والوجه الذي يساق عليه بما ليس وراءه في العجب مذهب [32].
ثالثاً: كلمة الختام:
إن الكلام في إعجاز القرآن طويل، وقد اقتصرنا على أجزاء معينة، فنرجو من كل مطلع على هذا الموضوع أن يتفضل فيدعو لنا بالخير، وأن يزودنا بملاحظاته واستدراكاته، فإن الدين النصيحة، والمؤمنون بخير ما تناصحوا، وليعلم القارئ الكريم أننا لا نزعم لأنفسنا الكمال.
وأخيراً أسأل الله عز وجل أن يبارك في هذا العمل القليل، وأن يرزقنا الإخلاص والإتباع، ونعوذ به من الرياء والابتداع، فما أخطأت فمن نفسي والشيطان، وما أصبت فمن الله.
وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
متخصر عن كتاب المؤلف بتصرف.
المراجع
1- القرآن الكريم.
2- تفسير وبيان مفردات القرآن – دار الرشيد – إعداد محمد حسن الحمصي.
3- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم – محمد فؤاد عبد الباقي – دار الفكر العربي.
4- معترك الأقران في إعجاز القرآن – الإمام جلال الدين السيوطي – تحقيق: أحمد شمس الدين – دار الكتب العلمية – الطبعة الأولى 1408هـ.
5- إعجاز القرآن – الإمام محمد بن الطيب الباقلاني – تحقيق الشيخ: عماد الدين أحمد حيدر – مؤسسة الكتب الثقافية.
6- إعجاز القرآن – الإمام محمد بن الطيب الباقلاني – تحقيق الشيخ: محمد شريف سكر – دار إحياء العلوم – الطبعة الثانية 1411هـ.
7- البرهان في علم القرآن – بدر الدين الزركشي – تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم – المكتبة العصرية.
8- الجامع لأحكام القرآن – الإمام محمد القرطبي – دار الكتب العلمية – الطبعة الأولى – 1408هـ.
9- التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب -الفخر الرازي- دار الكتب العلمية – الطبعة الأولى – 1411هـ.
10- في ظلال القرآن – سيد قطب – دار الشروق – الطبعة السادسة عشرة – 1410هـ.
11- مناهل العرفان في علم القرآن – الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني – تحقيق: أحمد شمس الدين – دار الكتب العلمية – الطبعة الأولى 1409هـ.
12- التصوير الفني في القرآن -سيد قطب- دار الشروق – المكتب الإسلامي – الطبعة الثالثة- 1410هـ.
13- لمحات في علوم القرآن – د/ محمد بن لطفي الصباغ – المكتب الإسلامي – الطبعة الثالثة- 1410هـ.
14- التبيان في علوم القرآن – الشيخ محمد علي الصابوني – عالم الكتب – الطبعة الأولى- 1405هـ.
15- إعجاز القرآن والبلاغة النبوية -مصطفى صادق الرافعي- دار الفكر العربي.
16- نظرية التصوير الفني عند سيد قطب – د/ صلاح عبد الفتاح الخالدي- دار المنارة -الطبعة الثانية- 1409هـ.
17-وفي أنفسكم أفلا تبصرون – أنس عبد الحميد القوز – الطبعة الأولى 1409هـ.
18-الطبيعيات والإعجاز العلمي في القرآن الكريم – د/ عبد العليم عبد الرحمن خضر – الدار السعودية للنشر والتوزيع – الطبعة الأولى- 1409هـ.
19- الإعجاز العلمي في القرآن الكريم – د/ زغلول النجار – شريط.
20- كتاب توحيد الخالق – عبد المجيد بن عزيز الزنداني – مؤسسة الكتب الثقافية – الطبعة الرابعة- 1411هـ.
21- كتاب التوحيد – عبد المجيد بن عزيز الزنداني – دار المجتمع للنشر والتوزيع – الطبعة الثالثة- 1408هـ.
22- الظواهر الجغرافية من العلم والقرآن – د/ عبد العليم عبد الرحمن خضر – الدار السعودية للنشر والتوزيع – الطبعة الثالثة- 1407هـ.
23- القاموس المحيط – الفيروز آبادي – مؤسسة الرسالة – الطبعة الثانية- 1407هـ.(1/241)
24- مباحث في علوم القرآن - الشيخ مناع القطان - مكتبة المعارف - الطبعة الثالثة.
25- دلائل الإعجاز - عبد القاهر الجرجاني - تعليق وشرح: محمد عبد المنعم خفاجي - مكتبة القاهرة - الطبعة الأولى- 1389هـ.
الهوامش:
[1] القاموس المحيط ص:663[2] التبيان في علوم القرآن ص:93[3] لمحات في علم القرآن ص:71-79[4] الجامع لأحكام القرآن 1/53[5] المصدر السابق 1/55[6] الموضع نفسه من المصدر السابق [7] إعجاز القرآن للباقلاني ص:266، ومذهب أهل السنة أن هذه الحروف المنظومة هي كلام الله حقيقة في نظمها تأليفها[8] البرهان 2/111[9] معترك الأقران ص:3[10] مذهب أهل السنة والجماعة أن كلامه عز وجل المتلو باللسان، المحفوظ في النان والمكتوب بالبنان همكلامه حقيقة ليس مدلولاً عليه[11] المصدر السابق ص:4-5[12] معترك الأقران[13] معترك الأقران ص:145[14] المصدر السابق ص:22[15] معترك الأقران ص:51[16] المصدر السابق 1/65[17] معترك الأقران ص:49 [18] الفتح الكبير 1/210 بتصرف[19] إعجاز القرآن للرافعي ص:230[20] التصوير الفني في القرآن ص:11[21] المصدر السابق ص:17[22] التصوير الفني في القرآن ص:18[23] المصدر السابق ص:19-20[24] المصدر السابق ص:20-22[25] معترك الأقران ص:182[26] لم تكتب القصة لمزيد التشويق، وهي قصة رائعة فراجع الظلال 6/3419-3420 [27] معترك الأقران ص:66[28] التصوير الفني في القرآن ص:36[29] المصدر السابق ص:38[30] المصدر السابق ص:43[31] نظرية التصوير الفني ص:308[32] إعجاز القرآن للرافعي ص:215[33] التبيان في علوم القرآن ص:127[34] مباحث في علوم القرآن ص:270[35] الإعجاز العلمي في القرآن، النجار، شريط في مكتبتي، بتصرف[36] وفي أنفسكم أفلا تبصرون ص:151[37] الطبيعيات والإعجاز العلمي ص:70[38] الظواهر الجغرافية ص:29[39]كتاب التوحيد 2/72[40] كتاب توحيد الخالق ص:154[41] تفسير وبيان مفردات القرآن ص:270[42] مناهل العرفان 2/376، 377، 378[43] المصدر السابق 2/379[44] المصدر السابق 2/387-389[45] المصدر السابق 2/319[46]المصدر السابق 2/392[47] المصدر السابق 2/393 [48] المصدر السابق 2/418-419[49] المصدر السابق 2/422-423[50] إعجاز القرآن
للباقلاني، ت:محمد سكر، 319[51] المصدر السابق 326-327 بتصرف
==============
نشأة الإعجاز التأثيري للقرآن وتطوره
د. محمد عطا أحمد يوسف
نستطيع أن نميِّز بين مراحل نشأة الإعجاز التأثيري وتطوره:
ـ المرحلة الأولى: مرحلة النشأة:
تتصل نشأة هذا الوجه الإعجازي للقرآن بنزول القرآن الكريم نفسه اتصالاً مباشراً، وذلك لما يلي:
أولاً: أمر الله سبحانه وتعالى ـ في كتابه بالحرص على إسماع المشركين القرآن الكريم، ليكون ذلك عوناً على دعوتهم للإسلام، قال ابن حجر: «ولا خلاف بين العقلاء أن كتاب الله تعالى معجز، لم يقدر أحد على معارضته بعد تحديهم بذلك، قال تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) ». فلولا أن سماعه حجة عليه لم يقف أمره على سماعه، ولا يكون حجة إلا وهو معجزة والمعجزة لابدّ لها من أثر فيمن تعجزه، إما تصديقاً أو تكذيباً.
ثانياً: ما ورد في كتب السيرة والتفسير وأغلب الكتب التي تتناول قضية الإعجاز عن لجوء رسول الله (ص) لإعجاز القرآن التأثيري كوسيلة أساسية من أسس الدعوة للإسلام وظهور أثر هذه الوسيلة الفعال في كل من استعملت معه، إما قبولاً واعتناقاً للإسلام، أو نفوراً وإعراضاً عنه، أو إقراراً بإعجاز القرآن في حاله.
ثالثاً: إن الإعجاز التأثيري في هذه المرحلة ـ وهي مرحلة النشأة الأولى ـ يتمثل في الممارسة والسلوك العملي للإعجاز نفسه، دون التأليف فيه، أو وضع قواعد أو أصول له، وإنما تدل الشواهد الكثيرة على ممارسته في حياة المسلمين.
وبعد قرنين من الزمان ـ وفي أوائل القرن الثالث الهجري ـ أشار الجاحظ (ت 255) في كتابه (البيان والتبيين) ـ من خلال حديثه عن الإعجاز البلاغي للقرآن ـ إشارات خاطفة للإعجاز التأثيري، وكذلك فعل الرماني في منتصف القرن الرابع ت 386.
ـ المرحلة الثانية: مرحلة التأصيل العلمي للإعجاز التأثيري:
سنقف في هذه المرحلة مع عدد من العلماء القدامى والمحدثين، ممن تحدثوا عن الإعجاز التأثيري: فمن العلماء القدامى: (الخطابي، والجرجاني، وابن القيم(.
ومن العلماء المحدثين: (د. عبد الكريم الخطيب الإمام/ محمد الغزالي).
1 ـ الخطابي: (أبو سيلمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي ـ ت 388هـ)(1/242)