الرابعة أن نسخ الحكم إباحة ترك المنسوخ الذي هو حق الشارع فوجب أن يثبت قبل علم المباح له كما لو قال القائل أبحت ثمرة بستاني لكل من دخله فإنه يباح لكل داخل وإن لم يعلم بذلك.
الخامسة أن رفع الحكم يتحقق بعد علم المكلف بالنسخ فرفعه إما أن يكون بعلمه أو بالنسخ والعلم غير مؤثر في الرفع فكان الرفع بالنسخ ولزم رفعه عند تحقق النسخ.
والجواب عن الأول بمنع عزل الوكيل قبل علمه بالعزل.
وعن الثانية لم قالوا بأن النسخ إذا لم يتوقف على رضى المنسوخ عنه لا يتوقف على علمه ولا يلزم من عدم اعتبار العلم في صورة الاستشهاد عدم اعتباره في النسخ فإنه لا مانع أن يكون عدم اعتبار العلم ثم لعدم تضمنه رفع حكم خطاب سابق بخلاف ما نحن فيه فكان العلم مشترطاً فيه لما ذكرناه.
وعن الثالثة والرابعة بمنع الحكم فيما ذكروه من صوره الاستشهاد.
وعن الخامسة أن رفع الحكم بالنسخ مشروط بالعلم ولا تحقق للمشروط دون شرطه.
المسألة الثامنة عشرة الزيادة على النص هل تكون نسخاً وقد اتفق العلماء على أن الزيادة إذا كانت عبادةً منفردةً بنفسها عن العبادة المزيد عليها أنها لا تكون نسخاً لحكم المزيد عليه وذلك كزيادة صلاة على صلوات أو صوم أو حجة أو زكاة إلا ما نقل عن بعض العراقيين أنهم قالوا: إن زيادة صلاة سادسة على الصلوات الخمس يكون نسخاً من جهة أن الصلاة الوسطى المأمور بالمحافظة عليها في قوله تعالى: " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " تخرج عن كونها وسطى وهو غير صحيح لوجهين: الأول: أن النسخ إنما يكون لحكم شرعي على ما تقدم وكون العبادة وسطى أمر حقيقي ليس بحكم شرعي.
الثاني: أنه يلزم عليه أن لو أوجب الشارع أربع صلوات ثم أوجب صلاة خامسة أو زكاة أو صوماً أن يكون ذلك نسخاً لإخراج العبادة الأخيرة عن كونها أخيرة وإخراج العبادات السابقة عن كونها أربعاً وهو خلاف الإجماع.
وإنما اختلفوا في غير هذه الزيادة كزيادة ركعة على ركعات صلاة واحدة وزيادة جلدات على جلدات حد واحد وزيادة صفة في رقبة الكفارة كالإيمان إلى غير ذلك من الزيادات: فذهبت الشافعية والحنابلة وجماعة من المعتزلة كالجبائي وأبي هاشم إلى أنها لا تكون نسخاً وقالت الحنفية تكون نسخاً ومنهم من فصل.
ثم القائلون بالتفصيل منهم من قال إن كانت الزيادة قد أفادت خلاف ما أفاده مفهوم المخالفة والشرط كانت الزيادة نسخاً كإيجاب الزكاة في معلوفة الغنم فإنه خلاف ما أفاده قوله صلى الله عليه وسلم: " في الغنم السائمة زكاة " من نفي الزكاة عن المعلوفة وإلا فلا.
ومنهم من قال إن كانت الزيادة مغيرةً لحكم المزيد عليه في المستقبل كزيادة التغريب في المستقبل على الحد وزيادة عشرين جلدةً على حد القذف كانت نسخاً وإن لم تغير حكمه في المستقبل فإنها لا تكون نسخاً وسواء كانت الزيادة لا تنفك عن المزيد عليه كما لو وجب علينا ستر الفخذ فإنه يجب ستر بعض الركبة ضرورة أن ما لا يتم الواجب.
إلا به فهو واجب أو كانت الزيادة عند تعذر المزيد عليه وذلك كإيجاب قطع رجل السارق بعد قطع يديه وهذا هو مذهب الكرخي وأبي عبد الله البصري من المعتزلة.
ومنهم من قال إن كانت الزيادة قد غيرت المزيد عليه تغيراً شرعياً بحيث صار المزيد عليه لو فعل بعد الزيادة على حسب ما كان يفعل قبلها كان وجوده كعدمه ووجب استئنافه كزيادة ركعة على ركعتي الفجر كان ذلك نسخاً أو كان قد خير بين فعلين فزيد فعل ثالث فإنه يكون نسخاً لتحريم ترك الفعلين السابقين وإلا فلا وذلك كزيادة التغريب على الحد وزيادة عشرين جلدةً على حد القذف وزيادة شرط منفصل في شرائط الصلاة كزيادة الوضوء وهذا هو مذهب القاضي عبد الجبار.
ومنهم من قال إن كانت الزيادة متصلة بالمزيد عليه اتصال اتحاد رافع للتعدد والانفصال كزيادة ركعتين على ركعتي الصبح فهو نسخ وإن لم تكن الزيادة كذلك كزيادة عشرين جلدةً على حد القذف فلا تكون نسخاً.
وهذا هو الذي اختاره الغزالي والمختار أنه إن كانت الزيادة متأخرةً عن المزيد عليه وكانت رافعةً لحكم شرعي كان ذلك نسخاً ووجب النظر في دليل الزيادة فإن كان مما يجوز بمثله نسخ حكم النص فهو نسخ وإلا فلا.(1/306)
وإن لم تكن الزيادة متأخرةً عن المزيد عليه أو كانت رافعةً لحكم العقل الأصلي لا غير لم يكن ذلك نسخاً شرعياً وإن كان نسخاً لغوياً وجاز بكل ما يصلح أن يكون دليلاً في موضعه وإن لم يجز به النسخ كالقياس وخبر الواحد ونحوه وهذا هو اختيار أبي الحسين البصري.
وإذ أتينا على شرح المذاهب بالتفصيل فلا بد من النظر فيما يتفرع على هذه المذاهب من المسائل الفرعية والكشف عن وجه الحق في كل واحدة منها تتمةً للمقصود وهي عشرة فروع: الفرع الأول إذا وجبت الزكاة في معلوفة الغنم لا يكون ذلك نسخاً لحكم قوله صلى الله عليه وسلم في الغنم السائمة زكاة لأنه لا يقتضي نفي الزكاة عن المعلوفة كما سبق في إبطال دليل الخطاب وإنما يقتضي نفي الزكاة عن المعلوفة بناء على حكم العقل الأصلي فرفعه لا يكون نسخاً لما تقدم وإن سلمنا أن دليل الخطاب حجة وأنه يدل على نفي الزكاة عن المعلوفة فلا يخفى أن وجوب الزكاة فيها يكون رافعاً لما اقتضاه دليل الخطاب فيكون نسخاً.
الفرع الثاني إذا زيدت ركعة على ركعتي الصبح بحيث صارت صلاة الصبح ثلاث ركعات قال أبو الحسين البصري هذا ليس بنسخ لحكم الدليل الدال على وجوب صلاة الصبح لأن زيادة الركعة إما أن تكون نسخاً للركعتين أو نسخاً لأجزائها ووجوبها أو نسخاً لوجوب التشهد عقيب الركعتين: لا جائز أن يكون نسخاً للركعتين لأن النسخ لا يتعلق بالأفعال كيف وإن الركعتين قارتان لم يرتفعا ولا جائز أن يكون نسخاً لأجزائها وإلا كان زيادة غسل عضو آخر في طهارة الصلاة ناسخاً لأجزائها ووجوبها الذي كان قبل إيجاب غسل العضو الزائد ولم يقل به من قال بهذا المذهب كالقاضي عبد الجبار كما عرف من مذهبه ولا جائز أن يكون نسخاً لوجوب التشهد عقيب الركعتين لأنه إنما كان واجباً آخر الصلاة وذلك غير مرتفع ولا متغير وإنما المتغير آخر الصلاة فإن آخرها كان بآخر الركعتين والآن صار آخر الثلاث.
وقد قيل في إبطاله لا نسلم الحصر فإنه كان يحرم الزيادة على الركعتين والتحريم حكم شرعي وقد ارتفع بالزيادة وليس بحق إذ لقائل أن يقول: إنما يصح ذلك أن لو كان الأمر بالركعتين مقتضياً للنهي عن الزيادة عليهما وليس كذلك بل أمكن أن يكون ذلك مستفاداً من دليل آخر فزيادة الركعة على الركعتين لا يكون نسخا لحكم الدليل الدال على وجوب الركعتين.
وقد قيل في إبطاله أيضاً إن النسخ إنما هو لأجزاء الركعتين بتقدير انفرادهما وهو حكم شرعي وقد ارتفع بالزيادة وفيه نظر إذ يمكن أن يقال: معنى كون الركعتين مجزية أنه يخرج بها عن عهدة الأمر ومعنى الخروج بها عن العهدة أنه لا يجب مع فعلها شيء آخر وليس ذلك حكماً شرعياً ليكون رفعه نسخاً شرعياً بل هو من مقتضيات النفي الأصلي وإنما طريق الرد عليه أن يقال: ما ذكره من الإلزام باشتراط غسل العضو الزائد وإن كان لازماً على القاضي عبد الجبار فغير لازم لغيره كالغزالي ونحوه من القائلين يكون ذلك نسخاً فلا بد من الدلالة عليه ولم يتعرض لذلك وإن قدر لزوم ذلك فلا يخفى أن وجوب التشهد بعد الركعتين حكم شرعي وقد ارتفع بزيادة الركعة.
والقول بأن المغير إنما هو آخر الصلاة ليس كذلك فإن التشهد كان واجبا عقيب الركعتين وبالزيادة صار غير واجب.
الفرع الثالث زيادة التغريب على الحد وزيادة عشرين جلدةً على الثمانين ليس بنسخ لأن النسخ يستدعي رفع ما ثبت للثمانين من الحكم الشرعي ولا تحقق له إذ الأصل بقاء ما كان لها من الحكم قبل الزيادة بعدها.
فإن قيل: بيان ارتفاع حكم الثمانين من خمسة أوجه: الأول: أن الثمانين قبل الزيادة كانت كل الحد الواجب وقد صارت بعد الزيادة بعض الحد.
الثاني: أن الثمانين كانت مجزئة قبل الزيادة وقد ارتفع إجزاؤها بالزيادة.
الثالث: الثمانون وحدها كان يتعلق بها التفسيق ورد الشهادة وبعد الزيادة زال تعلق ذلك بالثمانين.
الرابع: أن الثمانين قبل الزيادة كان يجب الاقتصار عليها وبعد الزيادة زال هذا الوجوب.
الخامس: أن قبل الزيادة كانت الزيادة غير واجبة وقد زال هذا الحكم بإيجاب الزيادة.
والجواب عن الأول أنه لا معنى لكون الثمانين قبل الزيادة كل الواجب إلا أنها واجبة وغيرها ليس بواجب ووجوبها لم يرتفع وإنما المرتفع بالزيادة عدم وجوب الزيادة وذلك معلوم بالبراءة الأصلية فلا يكون رفعه نسخاً شرعياً.(1/307)
وعن الثاني ما سبق في الفرع الذي قبله.
وعن الثالث لا نسلم أن التفسيق ورد الشهادة متعلق بالثمانين بل بالقذف وإن سلمنا تعلق ذلك بالثمانين إلا أن معنى التفسيق يرجع إلى عدم موافقة أمر الشارع ورد الشهادة إلى عدم قبولها وذلك معلوم بالنفي الأصلي ورد الشهادة وإن كان معلوماً من قوله تعالى: " ولا تقبلوا لهم شهادة " فليس من مقتضيات دليل إيجاب الثمانين فرفعه لا يكون نسخاً شرعياً.
وعن الرابع أن معنى وجوب الاقتصار على الثمانين قبل الزيادة أنها واجبة ولا تجوز الزيادة عليها ووجوبها لم يرتفع وإنما المرتفع عدم الجواز المستند إلى البراءة الأصلية وذلك ليس بنسخ على ما تقدم وعلى هذا فقد خرج الجواب عن الإلزام الخامس أيضاً.
الفرع الرابع إذا أوجب الله تعالى غسل الرجلين على التعيين ثم خيرنا بين ذلك وبين المسح على الخفين أو خيرنا في الكفارة بين الإطعام والصيام ثم زاد ثالثاً وهو الإعتاق هل يكون ذلك نسخاً لوجوب غسل الرجلين على التعيين ووجوب التخيير بين الإطعام والصيام على التعيين؟ الحق إنه نسخ لغسل الرجلين وليس نسخاً للتخيير بين الإطعام والصيام لأن التخيير بين الإطعام والصيام على التعيين معناه أن الواجب واحد منهما وأن غيرهما لايقوم مقامهما ووجوب أحدهما لا يقوم مقامهما ووجوب أحدهما لا بعينه غير مرتفع وإنما المرتفع كون غيرهما لايقوم مقامهما وذلك حكم ثابت بمقتضى النفي الأصلي فرفعه لايكون نسخاً شرعياً.
الفرع الخامس إذا وقف الله تعالى الحكم على شاهدين بقوله: " فاستشهدوا شهيدين " البقرة 282 فإذا جوز الحكم بشاهد ويمين بخبر الواحد فهل يكون ذلك نسخاً للحكم بالشاهدين على التعيين؟ الحق أنه ليس بنسخ وذلك لأن مقتضى الآية جواز الحكم بالشاهدين وأن شهادتهما حجة وليس فيه ما يدل على امتناع الحكم بحجة أخرى إلا بالنظر إلى المفهوم ولا حجة فيه على ما تقدم وإن كان حجةً فرفعه يكون نسخاً ولا يجوز بخبر الواحد.
الفرع السادس إذا أوجب الله تعالى عتق رقبة مطلقة في كفارة الظهار فتقييدها بعد ذلك بالإيمان إن ثبت أن الله تعالى أراد بكلامه الدلالة على أجزاء الرقبة الكافرة وغيرها كان التقييد بالإيمان نسخاً ولا يجوز بدليل العقل والقياس وخبر الواحد وإلا كان تقييداً للمطلق لا نسخاً.
الفرع السابع إذا أوجب الله تعالى قطع يد السارق ورجله على التعيين فإباحة قطع رجله الأخرى بعد ذلك إن كان رافعا لعدم الإباحة الثابتة بحكم العقل الأصلي فلا يكون نسخاً شرعياً وإن كان رافعاً للتحريم وإن جاز أن يكون نسخاً فليس نسخا لمقتضى النص الأول لعدم دلالته عليه.
الفرع الثامن إذا زيد في الطهارة اشتراط غسل عضو زائد على الأعضاء الستة فلا يكون ذلك نسخاً لوجوب غسل الأعضاء الستة إذ هي واجبة مع وجوب غسل العضو الزائد ولا لإجزائها عند الاقتصار عليها لأن معنى كونها مجزئة أن امتثال الأمر بفعلها غير متوقف على أمر آخر وامتثال الأمر بفعلها غير مرتفع وإنما المرتفع عدم التوقف على شرط آخر وذلك المرتفع وهو عدم اشتراط أمر آخر إنما كان مستنداً إلى حكم العقلي الأصلي فلا يكون رفعه نسخاً شرعياً وعلى هذا يكون الحكم فيما إذا زيد في الصلاة شرط آخر.
الفرع التاسع قوله تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " البقرة 187 دال على جعل أول الليل غاية للصوم فإيجاب صوم أول الليل بعد ذلك هل يكون نسخاً لما دلت عليه الآية من كون أول الليل غاية للصوم وظرفاً له؟ والحق في ذلك أن يقال: إن قلنا إن مفهوم الغاية ليس بحجة وأنه لا يدل على مد الحكم إلى غاية أن يكون الحكم فيما بعد الغاية على خلاف ما قبلها فإيجاب صوم أول الليل لا يكون نسخاً لمدلول الآية وإلا كان نسخاً وامتنع ذلك بدليل العقل وخبر الواحد.
الفرع العاشر إذا قال الله تعالى صلوا إن كنتم متطهرين فاشتراط شرط آخر لا يكون نسخاً لأنه إما أن يكون نسخاً لوجوب الصلاة مع الطهارة أو لأجزائها أو لما فيه من رفع عدم اشتراط شرط آخر أو لشيء آخر: لا سبيل إلى الأول لأن الوجوب مع الطهارة لم يرتفع والثاني لا سبيل إليه لما سبق في الفرع الثامن ولا سبيل إلى الثالث لأنه رفع حكم العقل الأصلي فلا يكون نسخاً شرعياً والرابع لا بد من تصويره لأن الأصل عدمه.(1/308)
وعلى هذا أيضاً قوله تعالى: " وليطوفوا بالبيت العتيق " الحج 29 موجب للطواف مطلقاً مع الطهارة ومن غير طهارة فاشتراط الطهارة بقوله صلى الله عليه وسلم الطواف بالبيت صلاة لا يكون نسخاً لوجوب الطواف لبقاء وجوبه ولا لإجزائه ولا لعدم اشتراط الطهارة لما بيناه ولذلك منع الشافعي من الإجزاء بقوله الطواف بالبيت صلاة.
وأبو حنيفة لما لم يسعه مخالفة الخبر قال بوجوب الطهارة مع بقاء الطواف مجزئاً من غير طهارة حيث اعتقد أن رفع الإجزاء يكون نسخاً لحكم الكتاب بخبر الواحد.
المسألة التاسعة عشرة اتفقوا على أن نسخ سنة من سنن العبادة لا يكون نسخا لتلك العبادة كنسخ ستر الرأس والوقوف على يمين الإمام في الصلاة واختلفوا في أن نسخ ما تتوقف عليه صحة العبادة هل يكون نسخاً لتلك العبادة؟ فذهب الكرخي وأبو الحسين البصري إلى أن ذلك لا يكون نسخاً للعبادة.
وسواء كان المنسوخ جزءاً من مفهوم العبادة كالركعة من صلاة الظهر مثلاً أو شرطاً خارجاً عن مفهوم الصلاة كالوضوء.
ومن المتكلمين من قال: إنه نسخ للعبادة مطلقاً وإليه ميل الغزالي ومنهم من فصل بين الجزء والشرط وأوجب نسخ العبادة بنسخ جزئها دون شرطها كالقاضي عبد الجبار.
والمختار أنه لا يكون ذلك نسخا للعبادة مطلقاً أما إذا كانت الصلاة أربع ركعات فكل ركعتين منها واجبة فنسخ أحد الواجبين لا يوجب نسخ الواجب الآخر وكذلك إذا كانت الصلاة واجبةً والطهارة شرط فيها فنسخ اشتراط الطهارة لا يكون موجباً لنسخ وجوب الصلاة بل الوجوب باق بحاله فلا نسخ.
فإن قيل: إذا أوجب الشارع أربع ركعات ثم نسخ منها وجوب ركعتين فقد نسخ وجوب أصل العبادة لا أنه نسخ للبعض وتبقية للبعض فإن الركعتين الباقيتين ليست بعض الأربع بل هي عبادة أخرى وإلا فلو كانت بعضاً منها لكان من صلى الصبح أربع ركعات آتياً بالواجب وزيادة كما لو أوجب عليه التصدق بدرهم فتصدق بدرهمين.
وإن سلمنا أن وجوب الركعتين باق بحاله غير أنها كانت قبل نسخ الركعتين لا تجزىء وقد ارتفع ذلك بنسخ الركعتين الزائدتين حيث صارت تجزىء وكان يجب تأخير التشهد إلى ما بعد الأربع وقد ارتفع ذلك وهو عين النسخ وعلى هذا يكون الحكم فيما إذا نسخ شرط العبادة فإنها كانت قبل النسخ لا تجزىء وقد ارتفع ذلك بنسخ الشرط.
والجواب: قولهم إن نسخ الركعتين نسخ لوجوب أصل العبادة ليس كذلك بدليل بقاء وجوب الركعتين.
قولهم الركعتان عبادة أخرى غير العبادة الأولى إن أرادوا بالغيرية أنها بعض منها والبعض غير الكل فمسلم ولكن لا يكون نسخاً للركعتين وإن كان نسخاً لوجوب الكل وإن أرادوا به أنها ليست بعضاً من الأربع فهو غير مسلم.
قولهم لو كانت بعضاً من الأربع لكان من صلى الصبح أربعاً قد أتى بالواجب وزيادة قلنا: ولو لم تكن بعضاً من الواجب الأول بل عبادةً أخرى لافتقرت في وجوبها إلى ورود أمر يدل على وجوبها وهو خلاف الإجماع وحيث لم تصح صلاة الصبح عند الإتيان بأربع ركعات فإنما كان لإدخال ما ليس من الصلاة فيها.
قولهم إنها كانت قبل نسخ الركعتين لا تجزىء قلنا: إن أريد به عدم امتثال الأمر والثواب عليها فذلك مستند إلى النفي الأصلي فرفعه لا يكون نسخاً وإن أريد به وجوب القضاء فهو نسخ لكن لا لنفس العبادة.
قولهم إنه كان يجب تأخير التشهد إلى ما بعد الأربع ليس كذلك فإن التشهد بعد الركعتين جائز نعم غايته أنه لم يكن واجباً وعدم وجوبه فلبقائه على النفي الأصلي فرفعه لا يكون نسخاً شرعياً على ما عرف نعم لو قيل برفع جوازه بحكم الشرع كان ذلك نسخاً.
وعلى هذا عرف الجواب عن قولهم إن العبادة كانت لا تجزىء دون الطهارة ثم صارت مجزئةً.
المسألة العشرون اتفق العلماء على جواز نسخ جميع التكاليف بإعدام العقل الذي هو شرط في التكليف وأنه يستحيل أن يكلف الله أحداً بالنهي عن معرفته إلا على رأي من يجوز التكليف بما لا يطاق وذلك لأن تكليفه بالنهي عن معرفته يستدعي العلم بنهيه والعلم بنهيه يستدعي العلم بذاته فإن من لا يعرف الباري تعالى يمتنع عليه أن يكون عالماً بنهيه فإذا تحريم معرفته متوقف على معرفته وهو دور ممتنع.
وإنما الخلاف في أمرين:(1/309)
الأول أنه هل يتصور نسخ وجوب معرفة الله تعالى وشكر المنعم ونسخ تحريم الكفر والظلم والكذب وكذلك كل ما قيل بوجوبه لحسنه وتحريمه لقبحه في ذاته: فذهبت المعتزلة بناء على فاسد أصولهم في اعتقاد الحسن والقبح الذاتي ورعاية الحكمة في أفعال الله تعالى إلى امتناع نسخ هذه الأحكام لاعتقادهم أن المقتضى لوجوبها وتحريمها إنما هو صفات ذاتية لا يجوز تبديلها ولا تغييرها ونحن قد أبطلنا هذه الأصول ونبهنا على فسادها فيما تقدم.
الثاني أنه وإن جاز نسخ هذه الأحكام فبعد أن كلف الله العبد هل يجوز أن ينسخ عنه جميع التكاليف أو لا؟اختلفوا فيه نفياً وإثباتاً واختار الغزالي المنع من ذلك مصيراً منه إلى أن المنسوخ عنه يجب عليه معرفة النسخ والناسخ والدليل المنصوب عليه.
فهذا النوع من التكليف لا يمكن نسخه بل هو باق بالضرورة وليس بحق فإنا وإن قلنا بأن النسخ لا يحصل في حق المكلف دون علمه بنزوله النسخ فلا يمتنع تحقق النسخ لجميع التكاليف في حقه عند علمه بالنسخ وإن لم يكن مكلفاً بمعرفة النسخ.
خاتمة في طريق معرفة الناسخ والمنسوخ فنقول: النصان إذا تعارضا إما أن يتعارضا من كل وجه أو من وجه دون وجه: فإن تنافيا من كل وجه فإما أن يكونا معلومين أو مظنونين أو أحدهما معلوماً والآخر مظنوناً فإن كانا معلومين أو مظنونين فإما أن يعلم تأخر أحدهما عن الآخر أو اقترانهما أو لا يعلم شيء من ذلك: فإن علم تأخر أحدهما عن الآخر فهو ناسخ والمتقدم منسوخ وذلك قد يعرف إما بلفظ النسخ والمنسوخ كما لو قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا ناسخ وهذا منسوخ أو أجمعت الأمة على ذلك وإما بالتاريخ وذلك قد يعلم إما بأن يكون في اللفظ ما يدل على التقدم والتأخر كقوله صلى الله عليه وسلم: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها " وإما بإسناد الراوي أحدهما إلى شيء متقدم كقوله: كان هذا في السنة الفلانية وهذا في السنة الفلانية وإحداهما معلومة التقدم على الأخرى هذا كله إذا كان سند الناسخ والمنسوخ مستوياً.
وليس من الطرق الصحيحة في معرفة النسخ أن يقول الصحابي كان الحكم كذا ثم نسخ فإنه ربما قال ذلك عن اجتهاد ولا أن يقول في أحد المتواترين إنه كان قبل الآخر لأنه يتضمن نسخ المتواتر بقول الواحد ولا يلزم ثبوت نسب الولد من صاحب الفراش ضمناً من قبول قول القابلة في الولد إنه من إحدى المرأتين وأن النسب لا يثبت بقولها ابتدأ مثل ذلك هاهنا كما قاله القاضي عبد الجبار فإن غاية ذلك الجواز ولا يلزم منه الوقوع ولا أن يكون أحدهما مثبتاً في المصحف بعد الآخر لأنه ليس ترتيب الآيات في المصحف على ترتيبها في النزول ولا أن يكون راوي أحدهما من أحداث الصحابة لأنه قد ينقل عمن تقدمت صحبته.
وإن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير واسطة فلجواز أن تكون رواية متقدم الصحبة متأخرةً ولا أن يكون إسلام أحد الراويين بعد إسلام الآخر لما ذكرناه في رواية الحدث ولا أن يكون أحد الراويين متجدد الصحبة بعد انقطاع صحبة الراوي الآخر لجواز سماعه عمن تقدمت صحبته ولا أن يكون أحد النصين على وفق قضية العقل والبراءة الأصلية والآخر على خلافه فإنه ليس تقدم الموافق لذلك أولى من المخالف.
وأما إن علم اقترانهما مع تعذر الجمع بينهما فعندي أن ذلك غير متصور الوقوع وإن جوزه قوم وبتقدير وقوعه فالواجب إما الوقف عن العمل بأحدهما أو التخيير بينهما إن أمكن وكذلك الحكم فيما إذا لم يعلم شيء من ذلك.
وأما إن كان أحدهما معلوماً والآخر مظنوناً فالعمل بالمعلوم واجب سواء تقدم أو تأخر أو جهل الحال في ذلك لكنه إن كان متأخراً عن المظنون كان ناسخاً وإلا كان مع وجوبه العمل به غير ناسخ.
هذا كله فيما إذا تنافياً من كل وجه وأما إن تنافيا من وجه دون وجه بأن يكون كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه دون وجه كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه " فإنه خاص بالمبدل وعام في النساء والرجال وقوله: " نهيت عن قتل النسوان " فإنه خاص في النساء وعام بالنسبة إلى المبدل فالحكم فيهما كما لو تنافيا من كل وجه فعليك بالاعتبار والله أعلم.
الأصل الخامس
في القياس
ويشتمل على مقدمة وخمسة أبواب.
أما المقدمة ففي تحقيق معنى القياس وبيان أركانه.(1/310)
أما القياس فهو في اللغة عبارة عن التقدير ومنه يقال: قست الأرض بالقصبة وقست الثوب بالذراع أي قدرته بذلك وهو يستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بالمساواة فهو نسبة وأضافة بين شيئين ولهذا يقال: فلان يقاس بفلان ولا يقاس بفلان أي يساويه ولا يساويه.
وأما في اصطلاح الأصوليين فهو منقسم إلى قياس العكس وقياس الطراد.
أما قياس العكس فعبارة عن تحصيل نقيض حكم معلوم ما في غيره لافتراقهما في علة الحكم وذلك كما لو قيل: لو لو يكن الصوم شرطاً في الاعتكاف لما كان شرطاً له عند نذره أن يعتكف صائماً كالصلاة فإن الصلاة لما لم تكن شرطاً في الاعتكاف لم تكن من شرطه إذا نذر أن يعتكف مصلياً.
فالأصل هو الصلاة والفرع هو الصوم وحكم الصلاة أنها ليست شرطاً في الاعتكاف والثابت في الصوم نقيضه وهو أنه شرط في الاعتكاف وقد افترقا في العلة لأن العلة التي لأجلها لم تكن الصلاة شرطا في الاعتكاف أنها لم تكن شرطاً فيه حالة النذر وهذه العلة غير موجودة في الصوم لأنه شرط في الاعتكاف حالة النذر إجماعاً.
وأما قياس الطرد فقد قيل فيه عبارات غير مرضية لا بد من الإشارة إليها وإلى إبطالها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار فيه.
فمنها قول بعضهم إنه عبارة عن إصابة الحق وهو منتقض بإصابة الحق بالنص والإجماع فإنه على ما قيل وليس بقياس كيف وإن إصابة الحق فرع للقياس وحكم له وحكم القياس لا يكون هو القياس.
ومنها قول بعضهم إنه بذل الجهد في استخراج الحق وهو أيضاً باطل بما أبطلنا به الحد الذي قبله كيف وإن بذل الجهد إنما هو منبىء عن حال القائس لا عن نفس القياس وقد قيل في إبطاله إنه غير منعكس لوجود المحدود دون الحد وذلك أن من رأى حكماً منصوصاً عليه وعلى علته وكانت علته مما يشهد الحس بها في الفرع فإن ذلك مقتضى تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع بطريق القياس وإن لم يوجد فيه بذل جهد في استخراج الحق فقد وجد المحدود دون حده وليس بحق فإنه وإن لم يلحق المكلف بذل جهد في معرفة الحكم وعلته لكونهما منصوصين ولا في معرفة وجود العلة في الفرع لكونها محسةً فيه فلا بد من الاجتهاد في معرفة صحة النص إن كان آحاداً وإن كان متواتراً ولا بد من البحث عن كونه منسوخاً أم لا.
وإن لم يكن منسوخاً فلا بد من النظر في الأصل هل للعلة فيه معارض أو لا وإن لم يكن لها معارض في الأصل فلا بد من النظر في الفرع هل وجد فيه مانع أو فات شرط أو لا ثم وإن قدر انتفاء الاجتهاد مطلقاً في الصورة المفروضة فلا نسلم تحقق القياس فيها بل الحكم إنما يثبت في الفرع على هذا التقدير بالاستدلال لا بالقياس على ما يأتي تحقيقه.
ومنها قول بعضهم إن القياس هو التشبيه ويلزم عليه أن يكون تشبيه أحد الشيئين بالآخر في المقدار وفي بعض صفات الكيفيات كالألوان والطعوم ونحوها قياساً شرعياً إذ الكلام إنما هو في حد القياس في اصطلاح المتشرعين وليس كذلك.
ومنها قول بعضهم: القياس هو الدليل الموصل إلى الحق وهو باطل بالنص والإجماع.
ومنهم من قال: هو العلم الواقع بالمعلوم عن نظر وهو أيضاً باطل بالعلم الحاصل بالنظر في دلالة النص والإجماع كيف وإن العلم غير حاصل من القياس فإنه لا يفيد غير الظن وإن كان حاصلاً منه فهو ثمرة القياس فلا يكون هو القياس.
وقال أبو هاشم إنه عبارة عن حمل الشيء على غيره وإجراء حكمه عليه وهو باطل من وجهين: الأول أنه غير جامع لأنه يخرج منه القياس الذي فرعه معدوم ممتنع لذاته فإنه ليس بشيء الثاني أن حمل الشيء على غيره وإجراء حكمه عليه قد يكون من غير جامع فلا يكون قياساً وإن كان بجامع فيكون قياساً وليس في لفظه ما يدل على الجامع فكان لفظه عاماً للقياس ولما ليس بقياس.
وقال القاضي عبد الجبار: إنه حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه بضرب من الشبه وهو باطل بما أبطلنا به حد أبي هاشم في الوجه الأول.
وقال أبو الحسين البصري: القياس تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد وقد أورد على نفسه في ذلك إشكالا وأجاب عنه.
أما الإشكال فهو أن الفقهاء يسمون قياس العكس قياساً وليس هو تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم بل هو تحصيل نقيض حكم الشيء في غيره لافتراقهما في علة الحكم كما سبق تحقيقه.(1/311)
وأما الجواب فحاصله أن تسمية قياس العكس قياساً إنما كان بطريق المجاز لفوات خاصية القياس فيه وهو إلحاق الفرع بالأصل في حكمه لما بينهما من المشابهة ويمكن أن يقال في جوابه أيضاً إنه وإن كان قياس العكس قياساً حقيقة غير أن اسم القياس مشترك بين قياس الطرد وقياس العكس فتحديد أحدهما بخاصيته لا ينتقض بالمسمى الآخر المخالف له في خاصيته وإن كان مسمى باسمه ولهذا فإنه لو حدت العين بحد يخصها لا ينتقض بالعين الجارية المخالفة لها في حدها وإن اشتركا في الاسم.
والمحدود هاهنا إنما هو قياس الطرد المخالف في حقيقته لقياس العكس غير أن ما ذكره من الحد مدخول من وجهين.
الأول: أن قوله تحصيل حكم الأصل في الفرع مشعر بتحصيل عين حكم الأصل في الفرع وهو ممتنع فكان من حقه أن يقول مثل حكم الأصل في الفرع.
الثاني: أن تحصيل حكم الأصل في الفرع هو حكم الفرع ونتيجة القياس ونتيجة الشيء لا تكون هي نفس ذلك الشيء فكان الأولى أن يقول: القياس هو اشتباه الفرع والأصل في علة حكم الأصل في نظر المجتهد على وجه يستلزم تحصيل الحكم في الفرع.
وقال القاضي أبو بكر: القياس حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما وقد وافقه عليه أكثر أصحابنا وهو مشتمل على خمسة قيود: الأول قوله: حمل معلوم على معلوم.
الثاني قوله: في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما.
الثالث قوله: بناء على جامع بينهما.
الرابع قوله: من إثبات حكم أو صفة لهما.
الخامس قوله: أو نفيه عنهما.
أما القيد الأول فيستدعي بيان معنى الحمل وبيان فائدة إطلاق لفظ المعلوم وفائدة حمل المعلوم على المعلوم أما الحمل فمعناه مشاركة أحد المعلومين للآخر في حكمه وإنما أطلق لفظ المعلوم لأنه ربما كانت صورة المحمول والمحمول عليه عدميةً وربما كانت وجوديةً فلفظ المعلوم يكون شاملاً لهما فإنه لو أطلق لفظ الموجود لخرج منه المعدوم ولو أطلق لفظ الشيء لاختص أيضاً بالموجود على رأي أهل الحق ولو قال: حمل فرع على أصل ربما أوهم اختصاصه بالموجود من جهة أن وصف أحدهما بكونه فرعاً والآخر بكونه أصلاً قد يظن أنه صفة وجودية والصفات الوجودية لا تكون صفةً للمعدوم وإن لم يكن حقاً فكان استعمال لفظ المعلوم أجمع وأمنع وأبعد عن الوهم الفاسد.
وإنما قال: حمل معلوم على معلوم لأن القياس يستدعي المقايسة وذلك لا يكون إلا بين شيئين ولأنه لولاه لكان إثبات الحكم أو نفيه في الفرع غير مستفاد من القياس أو كان معللاً بعلة غير معتبرة فيكون بمجرد الرأي والتحكم وهو ممتنع.
وأما القيد الثاني فإنما ذكره لأن حمل الفرع على الأصل قد بان أن معناه التشريك في الحكم وحكم الأصل وهو المحمول عليه قد يكون إثباتاً وقد يكون نفيا وكانت عبارته بذلك أجمع للنفي والإثبات.
وأما القيد الثالث فإنما ذكره لأن القياس لا يتم إلا بالجامع بين الأصل والفرع وإلا كان حمل الفرع على الأصل في حكمه من غير دليل وهو ممتنع.
وأما القيد الرابع فإنما ذكره لأن الجامع بين الأصل والفرع قد يكون تارةً حكماً شرعياً كما لو قال في تحريم بيع الكلب نجس فلا يجوز بيعه كالخنزير وقد يكون وصفاً حقيقياً كما لو قال في النبيذ مسكر فكان حراماً كالخمر.
وأما القيد الخامس فإنما ذكره لأن الجامع من الحكم أو الصفة قد يكون إثباتاً كما ذكرناه من المثالين وقد يكون نفياً أما في الحكم فكما لو قال في الثوب النجس إذا غسل بالخل غير طاهر فلا تصح الصلاة فيه كما لو غسله باللبن والمرق وأما في الصفة فكما لو قال في الصبي غير عاقل فلا يكلف كالمجنون.
وقد أورد عليه تشكيكات لا بد في ذكرها والإشارة إلى دفعها الإشكال الأول أن القول بحمل المعلوم على المعلوم إما أن يراد به إثبات مثل حكم أحدهما للآخر أو شيء آخر: فإن كان الأول فالقول ثانياً في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما يكون تكراراً من غير فائدة.
وإن كان الثاني فلا بد من بيانه كيف وإنه بتقدير أن يراد به شيء آخر فلا يجوز ذكره في تعريف القياس لأن ماهية القياس تتم بإثبات مثل حكم أحد المعلومين للآخر بأمر جامع فكان ذكر ذلك الشيء زائداً عما يحتاج إليه.(1/312)
الثاني أن قوله في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما مشعر بأن الحكم في الأصل والفرع مثبت بالقياس وهو محال من جهة أن القياس فرع على ثبوت الحكم في الأصل فلو كان ثبوت الحكم في الأصل فرعاً على القياس كان دوراً.
الثالث أنه كما يثبت الحكم بالقياس فقد ثبتت الصفة أيضاً بالقياس كقولنا في الباري تعالى:عالم فكان له علم كالشاهد فالقياس أعم من القياس الشرعي والعقلي.
وعند ذلك إما أن تكون الصفة مندرجةً في الحكم أو لا تكون: فإن كان الأول كان القول بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة أو نفيهما تكراراً لكون الصفة أحد أقسام الحكم وإن كان الثاني كان التعريف ناقصاً.
الرابع أن المعتبر في ماهية القياس الجامع من حيث هو جامع لا أقسام الجامع وذلك إن ماهية القياس قد تنفك عن كل واحد من أقسامه بعينه وما تنفك عنه الماهية لا يكون داخلاً في حدها وأيضاً فإنه لو وجب في ذكر ماهية القياس ذكر أقسام الجامع فالحكم والصفة الجامعة أيضاً كل واحد منهما منقسم إلى أقسام كثيرة لا تحصى فكان يجب استقصاؤها في الذكر وإلا كان الحد ناقصاً وهو محال.
الخامس أن كلمة أو للترديد والشك والتحديد إنما هو للتعيين والترديد ينافي التعيين.
السادس أن القياس الفاسد قياس وهو غير داخل في هذا الحد وذلك لأن هذا القائل قد اعتبر في حده حصول الجامع ومهما حصل الجامع كان صحيحاً فالفاسد الذي لم يحصل الجامع فيه في نفس الأمر لا يكون داخلا فيه فكان يجب أن يقال بأمر جامع في ظن المجتهد فإنه يعم القياس الفاسد الذي لم يحصل الجامع فيه في نفس الأمر.
والجواب عن الإشكال الأول أن المراد بحمل المعلوم على المعلوم إنما هو التشريك بينهما في حكم أحدهما مطلقاً وقوله بعد ذلك في إثبات حكم أو نفيه إشارة إلى ذكرها بفاصل ذلك الحكم وأقسامه وهي زائدة على نفس التسوية في مفهوم الحكم فذكرها ثانيا لا يكون تكراراً.
وعن الثاني وإن كان هو أقوى الإشكالات الواردة هاهنا أن يقال: لا نسلم أن قول القائل حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما مشعر بإثبات حكم الأصل بالقياس حتى يلزم منه الدور لأن القياس على ما علم مركب من الأصل والفرع وحكم الأصل والوصف الجامع بين الأصل والفرع والحكم في الأصل غير مستند في ثبوته ولا نفيه إلى مجموع هذه الأمور إذ هو غير متوقف على الفرع ولا على نفيه وإنما هو متوقف في ثبوته على الوصف الجامع وهو العلة حيث إن الشرع لم يثبت الحكم في الأصل إلا بناء عليه.
ولهذا قال الحاد في هذه في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما والوصف الجامع ركن القياس وليس هو نفس القياس فلا يكون ثبوت الحكم في الأصل ولا نفيه بالقياس بل بالعلة وليست هي نفس القياس وإنما الثابت والمنفي بالقياس إنما هو حكم الفرع لا غير.
وعن الثالث من وجهين: الأول أنه مبني على تصور القياس في غير الشرعيات وهو غير مسلم على ما يأتي بيانه وما ذكروه من المثال فقد أبطلنا صحة القياس فيه في أبكار الأفكار.
الثاني وإن سلمنا تصور القياس في غير الشرعيات غير أن الكلام إنما وقع في تحديد القياس الشرعي في مصطلح أهل الشرع وذلك لايكون إلا فيما كان حكم الأصل فيه شرعياً والصفة ليست حكماً شرعياً فلا تكون مندرجةً فيه وعلى هذا فخروج القياس العقلي عن الحد المذكور للقياس الشرعي لا يكون موجباً لنقصانه وقصوره.
وعن الرابع أنه وإن كان ذكر أقسام الجامع من الحكم والصفة وتعيين كل واحد غير داخل في مفهوم القياس فذكره لم يكن لتوقف مفهوم القياس عليه حتى يقال بقصور التعريف بل للمبالغة في الكشف والإيضاح بذكر الأقسام وذلك مما لا يخل بالحد ولا يلزم من ذلك الاستقصاء بذكر باقي أقسام الحكم والصفة لعدم وجوبه.
وعن الخامس أن التحديد والتعريف قد تم بقولنا: حمل معلوم على معلوم بأمر جامع بينهما وما وقع فيه الترديد بحرف أو فقد بان التحديد والتعريف غير متوقف عليه وإنما ذكر لزيادة البيان والإيضاح فلا يكون ذلك مانعاً من تعريف المحدود كيف وإنه لا معنى للترديد سوى بيان صحة انقسام الحكم والجامع إلى ما قيد وصحة الانقسام من الصفات اللازمة التي لا ترديد فيها.(1/313)
وعن السادس أن المطلوب إنما هو تحديد القياس الصحيح الشرعي والفاسد ليس من هذا القبيل فخروجه عن الحد لا يكون مبطلاً له لكنه يرد عليه إشكال مشكل لا محيص عنه وهو أن الحكم في الفرع نفياً وإثباتاً متفرع على القياس إجماعاً وليس هو ركناً في القياس لأن نتيجة الدليل لا تكون ركناً في الدليل.
لما فيه من الدور الممتنع وعند ذلك فيلزم من أخذ إثبات الحكم ونفيه في الفرع في حد القياس أن يكون ركنا في القياس وهو دور ممتنع وقد أخذه في حد القياس حيث قال في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما إشارة إلى الفرع والأصل.
والمختار في حد القياس أن يقال إنه عبارة عن الاستواء بين الفرع والأصل في العلة المستنبطة من حكم الأصل وهذه العبارة جامعة مانعة وافية بالغرض عرية عما يعترضها من التشكيكات العارضة لغيرها على ما تقدم.
وإذا عرف معنى القياس فهو يشتمل على أربعة أركان: الأصل والفرع وحكم الأصل والوصف الجامع.
أما الأصل فقد يطلق على أمرين الأول ما بني عليه غيره كقولنا: إن معرفة الله أصل في معرفة رسالة الرسول من حيث إن معرفة الرسول تنبني على معرفة المرسل.
الثاني ما عرف بنفسه من غير افتقار إلى غيره وإن لم يبن عليه غيره وذلك كما تقوله في تحريم الربا في النقدين فإنه أصل وإن لم يبن عليه غيره.
وعلى هذا اختلف العلماء في الأصل في القياس وذلك كما إذا قسنا النبيذ على الخمر المنصوص عليه بقوله عليه السلام: حرمت الخمرة لعينها في تحريم الشراب هل الأصل هو النص أو الخمر أو الحكم الثابت في الخمر وهو التحريم مع اتفاق الكل على أن العلة في الخمر وهي الشدة المطربة ليست هي الأصل.
فقال بعض المتكلمين: الأصل هو النص الدال على تحريم الخمر لأنه الذي بني عليه التحريم والأصل ما بني عليه.
وقالت الفقهاء: الأصل إنما هو الخمر الثابتة حرمته لأن الأصل ما كان حكم الفرع مقتبسا منه ومردوداً إليه وهذا إنما يتحقق في نفس الخمر.
وقال بعضهم: الأصل إنما هو الحكم الثابت في الخمر لأن الأصل ما انبنى عليه غيره وكان العلم به موصلاً إلى العلم بغيره أو الظن وهذه الخاصية موجودة في حكم الخمر فكان هو الأصل.
قالوا: وليس الأصل هو النص لأن النص هو الطريق إلى العلم بالحكم ولو تصور العلم بالحكم في الخمر دون النص كان القياس ممكناً ولأنه لو كان النص هو الأصل لكونه طريقاً إلى معرفة الحكم لكان قول الراوي هو أصل القياس بطريق الأولى لكونه طريقاً إلى معرفة النص وليس كذلك بالاتفاق.
وليس الأصل أيضاً هو الخمر لأنه يعلم الخمر ولا يعلم أن الحرمة جارية فيه ولا في الفرع بخلاف ما إذا علم الحكم فكان هو الأصل.
واعلم أن النزاع في هذه المسألة لفظي وذلك لأنه إذا كان معنى الأصل ما يبنى عليه غيره فالحكم أمكن أن يكون أصلاً لبناء الحكم في الفرع عليه على ما تقرر وإذا كان الحكم في الخمر أصلا فالنص الذي به.
معرفة الحكم يكون أصلاً للأصل وعلى هذا أي طريق عرف به حكم الخمر من إجماع أو غيره أمكن أن يكون أصلاً وكذلك الخمر فإنه إذا كان محلاً للفعل الموصوف بالحرمة فهو أيضاً أصل للأصل فكان أصلاً.
والأشبه أن يكون الأصل هو المحل على ما قاله الفقهاء لافتقار الحكم والنص إليه ضرورةً من غير عكس فإن المحل غير مفتقر إلى النص ولا إلى الحكم.
وأما الفرع فهل هو نفس الحكم المتنازع فيه أو محله؟ اختلفوا فيه: فمن قال بأن الأصل هو الحكم في الخمر قال الفرع هو الحكم في النبيذ ومن قال أن الأصل هو المحل قال الفرع هو المحل وهو النبيذ وإن كان الأولى أن يكون الفرع هو الحكم المتفرع على القياس والمحل أصل الحكم المفرع على القياس فتسمية الخمر أصلاً أولى من تسمية النبيذ فرعاً من حيث إن الخمر أصل للتحريم الذي هو الأصل بخلاف النبيذ فإنه أصل للفرع لا أنه فرع له.
وأما الوصف الجامع فهو فرع في الحكم لكونه مستنبطاً من محل حكم المنصوص عليه فهو تبع للنص والحكم ومحله وهو أصل في الفرع لكون الحكم المتنازع فيه في النبيذ مبنياً عليه وتسمية الوصف الجامع في الفرع أصلاً أولى من تسمية النص في الخمر والتحريم ومحله أصلاً للاختلاف في ذلك والاتفاق على كون الوصف في ذلك أصلاً.
وإذا عرف معنى القياس وأركانه فلنشرع في بيان أبوابه: الباب الأول في شرائط القياس(1/314)
ويشتمل على مقدمة وأقسام.
أما المقدمة فاعلم أن القياس على ما سبق تعريفه يستدعي أركانا لا يتم دونها وثمرةً هي نتيجته فأما الأركان فهي أربعة: الفرع المسمى بصورة محل النزاع وهي الواقعة التي يقصد تعدية حكمها إلى الفرع والحكم الشرعي الخاص بالأصل والعلة الجامعة بين الأصل والفرع.
وأما ثمرته فحكم الفرع فإنه إذا تم القياس أنتج حكم الفرع وليس حكم الفرع من أركان القياس إذ الحكم في الفرع متوقف على صحة القياس فلو كان ركنا منه لتوقف على نفسه وهو محال.
وعلى هذا فشروط القياس لا تخرج عن شروط هذه الأركان فمنها ما يعود إلى الأصل ومنها ما يعود إلى الفرع: وما يعود إلى الأصل فمنها ما يعود إلى حكمه ومنها ما يعود إلى علته فلنرسم في كل واحد منهما قسماً.
القسم الأول
في شرائط حكم الأصل وهي ثمانية
الشرط الأول أن يكون حكماً شرعياً لأن الغرض من القياس الشرعي إنما هو تعريف الحكم الشرعي في الفرع نفياً وإثباتاً فإذا لم يكن الحكم في الأصل شرعياً فلا يكون الغرض من القياس الشرعي حاصلاً كيف وإنه إذا كان قضية لغوية فقد بينا امتناع جريان القياس فيه في اللغات.
الشرط الثاني يكون ثابتاً غير منسوخ حتى يمكن بناء الفرع عليه وإلا فبتقدير أن لا يكون ثابتاً فلا ينتفع به ناظر ولا مناظر لأنه إنما تعدى الحكم من الأصل إلى الفرع بناء على الوصف الجامع وذلك متوقف على اعتبار الشارع له فإذا لم يكن الحكم المرتب على وصفه ثابتا في الشرع فلا يكون معتبراً.
الشرط الثالث أن يكون دليل ثبوته شرعياً لأن ما لا يكون دليله شرعياً لا يكون حكماً شرعياً.
الشرط الرابع أن لا يكون حكم الأصل متفرعاً عن أصل آخر وهذا ما ذهب إليه أكثر أصحابنا والكرخي خلافاً للحنابلة وأبي عبد الله البصري وذلك لأن العلة الجامعة بينه وبين أصله إما أن تكون هي العلة الجامعة بينه وبين فرعه أو هي غيرها: فإن كان الأول فالأصل الذي به الشهادة بالاعتبار إنما هو الأصل الأخير لا الأصل الأول فليقع الرد إليه وإلا فهو تطويل من غير فائدة وذلك كما لو قال الشافعي مثلاً في السفرجل مطعوم فجرى فيه الربا قياساً على التفاح ثم قاس التفاح في تحريم الربا على البر بواسطة الطعم أيضاً.
وإن كان الثاني وهو أن تكون العلة في القياسين مختلفةً فلا تخلو إما أن تكون العلة التي عدي بها الحكم من الأصل الممنوع حكمه إلى فرعه مؤثرةً أي ثابتةً بنص أو إجماع أو مستنبطةً منه: فإن كان الأول فقد أمكن إثبات الحكم في الفرع الأول بالعلة المؤثرة ولم يبق للقياس على الأصل الممنوع حكمه وقياسه على الأصل الأخير حاجة بل هو تطويل غير مفيد.
وإن كان الثاني وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة فسخ النكاح بالجذام عيب يثبت به الفسخ في البيع فيثبت به الفسخ في النكاح قياساً على الرتق والقرن ثم قاس الرتق والقرن عند توجيه منعه على الجب والعنة بواسطة فوات غرض الاستمتاع به فلا يصح القياس فيه وذلك لأن الحكم في الفرع المتنازع فيه أولاً إنما يثبت بما ثبت به حكم أصله.
فإذا كان حكم أصله ثابتاً بعلة أخرى وهي ما استنبطت من الأصل الآخر فيمتنع تعدية الحكم بغيرها لأن غيرها لم يثبت اعتبار الشارع له ضرورة أن الحكم الثابت معه ثابت بغيره بالاتفاق فلو ثبت الحكم به في الفرع الأول مع عدم اعتباره كان ذلك إثباتاً للحكم بالمعنى المرسل الخلي عن الاعتبار وذلك ممتنع.
وعلى هذا فإن قلنا بجواز تعليل الحكم الواحد بعلتين مع كونه ممتنعاً كما يأتي تقريره فهو ممتنع هاهنا حيث إنا قطعنا بأن العلة المستنبطة من الأصل الممنوع مما لم يلتفت إليها الشارع في إثبات الحكم في أصلها للاتفاق على ثبوته بغيرها.(1/315)
والجمع بين العلل إنما يكون حيث يمكن الظن باعتبار الشارع لها من إثبات الحكم على وفقها هذا كله إن كان حكم الأصل مقولاً به من جهة المستدل ممنوعاً من جهة المعترض وأما إن كان مقولاً به من جهة المعترض ممنوعاً من جهة المستدل وذلك كما لو قال الحنفي في مسألة تعيين النية عندما إذا نوى النفل أتى بما أمر به فوجب أن يصح كما إذا كان عليه فريضة الحج ونوى النفل فإن الحكم في الأصل مما لا يقول به الحنفي بل الشافعي فلا يصح من المستدل بناء الفرع عليه لأنه إما أن يذكر ذلك في معرض التقرير لمأخذ من هو منتم إليه أو في معرض الإلزام للخصم: فإن كان الأول فهو ممتنع لأنه إنما يعرف كون الوصف الجامع مأخذاً لأمامه بإثباته للحكم على وفقه وبالقياس على الأصل الذي لا يقول به إمامه لا يعرف ذلك.
وإن كان الثاني وذلك بأن يقول هذا هو عندك علة الحكم في الأصل المقيس عليه وهو موجود في محل النزاع فيلزمك الاعتراف بحكمه وإلا فيلزم منه إبطال المعنى وانتقاضه لتخلف الحكم عنه من غير معارض ويلزم من إبطال التعليل به امتناع إثبات الحكم به في الأصل فهو أيضاً ممتنع لوجهين: الأول أن للمعترض أن يقول: الحكم في الأصل لم يكن عندي ثابتاً على هذا الوصف بل بناء على غيره ويجب تصديقه فيه لكونه عدلاً والظاهر من حاله الصدق وهو أعرف بمأخذ مذهبه الثاني أنه وإن كان الحكم في الأصل معللاً بالوصف المذكور غير أن حاصل الإلزام يرجع إلى إلزام المعترض بالتخطئة في الفرع بإثبات خلاف حكمه ضرورة تصويبه في اعتقاد كون الوصف الجامع علة للحكم في الأصل المقيس عليه وهو غير لازم إذ ليس تخطئته في الفرع ضرورة تصويبه في تعليل حكم الأصل بالوصف المذكور أولى من تخطئته في تعليل حكم الأصل بالوصف المذكور وتصويبه في حكم الفرع.
الشرط الخامس أن لا يكون حكم الأصل معدولاً به عن سنن القياس والمعدول به عن سنن القياس على قسمين : الأول ما لا يعقل معناه وهو على ضربين: إما مستثنى من قاعدة عامة أو مبتدأ به: فالأول كقبول شهادة خزيمة وحده فإنه مع كونه غير معقول المعنى مستثنىً من قاعدة الشهادة.
والثاني كأعداد الركعات وتقدير نصب الزكوات ومقادير الحدود والكفارات فإنه مع كونه غير معقول المعنى غير مستثنى من قاعدة سابقة عامة وعلى كلا التقديرين يمتنع فيه القياس.
الثاني ما شرع ابتداء ولا نظير له ولا يجري فيه القياس لعدم النظير وسواء كان معقول المعنى كرخص السفر والمسح على الخفين لعلة دفع المشقة أو هو غير معقول المعنى كاليمين في القسامة وضرب الدية على العاقلة ونحوه.
الشرط السادس إذا كان حكم الأصل متفقاً عليه فقد اختلفوا في كيفية الاتفاق: فمنهم من قال بأنه يكفي أن يكون ذلك متفقاً عليه بين الفريقين لا غير ومنهم من قال لا يكفي ذلك بل لا بد وأن يكون متفقاً عليه بين الأمة وإلا فإن كان متفقاً عليه بين الفريقين فقط فلا يصح القياس عليه وسموه قياساً مركباً.
وقبل النظر في مأخذ الحجاج فلا بد من النظر في معنى القياس المركب وأقسامه.
أما القياس المركب فهو أن يكون الحكم في الأصل غير منصوص عليه ولا مجمع عليه من الأمة وهو قسمان: الأول مركب الأصل والثاني مركب الوصف.
أما التركيب في الأصل فهو أن يعين المستدل علةً في الأصل المذكور ويجمع بها بينه وبين فرعه فيعين المعترض فيه علةً أخرى ويقول: الحكم عندي ثابت بهذه العلة وذلك كما إذا قال في مسألة الحر بالعبد مثلاً عبد فلا يقتل به الحر كالمكاتب فإن المكاتب غير منصوص عليه ولا مجمع عليه بين الأمة لاختلاف الناس في وجوب القصاص على قاتله وإنما هو متفق عليه بين الشافعي وأبي حنيفة وعند ذلك فللحنفي أن يقول العلة في المكاتب المتفق عليه المانعة من جريان القصاص فيه عندي إنما هو جهالة المستحق من السيد أو الورثة.
فإن سلم ذلك امتنعت التعدية إلى الفرع لخلو الفرع عن العلة وإن أبطل التعليل بها فأنا أمنع الحكم في الأصل لأنه إنما ثبت عندي بهذه العلة وهي مدرك إثباته ولا محذور في نفي الحكم لانتفاء مدركه إذ لم يلزم منه مخالفة نص ولا إجماع وعلى كلا التقديرين فالقياس يكون ممتنعاً إما لمنع حكم الأصل وإما لعدم علة الأصل في الفرع.(1/316)
قال بعض الأصوليين: وإنما سمي هذا النوع قياساً مركباً لاختلاف الخصمين في علة الأصل وليس بحق وإلا كان كل قياس اختلف في علة أصله وإن كان منصوصاً أو متفقاً عليه بين الأمة مركباً وليس كذلك.
والأشبه أنه إنما سمي بذلك لاختلاف الخصمين في تركيب الحكم على العلة في الأصل فإن المستدل يزعم أن العلة الجامعة مستنبطة من حكم الأصل وهي فرع له والمعترض يزعم أن الحكم في الأصل فرع على العلة وهي المثبتة له وأنه لا طريق إلى إثباته سواها وأنها غير مستنبطة منه ولا هي فرع عليه ولذلك منع ثبوت الحكم عند إبطالها وإنما سمي مركب الأصل لأنه نظير في علة حكم الأصل.
وأما مركب الوصف فهو ما وقع الاختلاف فيه في وصف المستدل هل له وجود في الأصل أو لا؟ وذلك كما لو قال المستدل في مسألة تعليق الطلاق بالنكاح تعليق فلا يصح قبل النكاح كما لو قال: زينب التي أتزوجها طالق فللخصم أن يقول: لا نسلم وجود التعليق في الأصل بل هو تنجيز فإن ثبت أنه تعليق فأنا أمنع الحكم وأقول بصحته كما في الفرع ولا يلزمني من المنع محذور لعدم النص عليه وإجماع الأمة وإنما سمي مركب الوصف لأنه خلاف في تعيين الوصف الجامع.
وإذ أتينا على بيان معنى القياس المركب وأقسامه فنقول: لا يخلو إما أن ينظر في ذلك إلى الناظر المجتهد أو المناظر: فإن كان الأول فإن كان له مدرك في ثبوت حكم الأصل سوى النص والإجماع فالقياس صحيح لأنه إذا غلب على ظنه صحة القياس فلا يكابر نفسه فيما أوجبه ظنه وإن لم يكن له مدرك سوى النص والإجماع فالقياس متعذر لتعذر إثبات حكم الأصل وإن كان الثاني فالمختار بعد إبطال ما يعارض به الخصم في القسم الأول من التركيب وتحقيق وجود ما يدعيه في الأصل في القسم الثاني منه إنما هو التفصيل وهو أن الخصم إما أن يكون مجتهداً أو مقلداً.
فإن كان مجتهداً وظهر في نظره إبطال المدرك الذي بني عليه حكم الأصل فله منع حكم الأصل وعند ذلك فالقياس لا يكون منتفعاً به بالنسبة إلى الخصم.
وإن كان مقلداً فليس له منع الحكم في الأصل وتخطئة إمامه فيه بناء على عجزه هو عن تمشية الكلام مع المستدل وذلك لاحتمال أن لا يكون ما عينه المعترض هو المأخذ في نظر إمامه وبتقدير أن يكون هو المأخذ في نظر إمامه فلا يلزم من عجز المقلد عن تقريره عجز إمامه عنه لكونه أكمل حالاً منه وأعرف بوجه ما ذهب إليه وتقريره.
وقد قيل إنه وإن كان لا بد من تخطئة إمام المعترض إما في حكم الأصل أو الفرع فليس للخصم تخطئة إمامه في حكم الأصل دون الفرع وليس بحق فإنه كما أنه ليس للخصم تخطئة إمامه في حكم الأصل دون الفرع فليس للمستدل تخطئة إمام المعترض في الفرع دون الأصل ولا أولوية.
فإن قيل: بل تخطئته في الفرع أولى لوقوع الخلاف فيه بين إمام المستدل وإمام المعترض بخلاف حكم الأصل فيقال كما أن الخلاف واقع في الفرع بين الإمامين فالخلاف في الأصل أيضاً واقع بين الأئمة إذ هو غير مجمع عليه وليس موافقة إمام المستدل في الفرع أولى من موافقة المخالف في الأصل.
الشرط السابع أن لا يكون الدليل الدال على إثبات حكم الأصل دالاً على إثبات حكم الفرع وإلا فليس جعل أحدهما أصلاً للآخر أولى من العكس.
الشرط الثامن اختلف الأصوليون في اشتراط قيام الدليل على تعليل حكم الأصل وجواز القياس عليه نفياً وإثباتاً والمختار أنه إن أريد بالدليل الدال على ذلك أن يكون دليلاً خاصاً بذلك الأصل من كتاب أو سنة أو إجماع فهو باطل.
وإن أريد به أنه لا بد من قيام دليل على ذلك بجهة العموم والشمول فهو حق: وذلك لأنا سنبين أن كل أصل أمكن تعليل حكمه فإنه يجب تعليله وإنه يجوز القياس عليه وذلك لأن مدرك كون القياس حجةً إنما هو إجماع الصحابة على ما يأتي.
وقد علمنا من تتبع أحوالهم في مجاري اجتهاداتهم أنهم كانوا يقيسون الفرع على الأصل عند وجود ما يظن كونه علةً لحكم الأصل في الأصل فظن وجوده في الفرع وإن لم يقم دليل خاص على وجوب تعليل حكم ذلك الأصل وجواز القياس عليه حتى قال عمر لأبي موسى الأشعري: اعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور برأيك ولم يفصل.
وكذلك اختلفوا في قوله: أنت علي حرام حتى قاسه بعضهم على الطلاق وبعضهم على الظهار وبعضهم على اليمين ولم ينقل نص خاص ولا إجماع على القياس على تلك الأصول ولا على جواز تعليلها.(1/317)
القسم الثاني
في شروط علة الأصل
وقد اتفق الكل على جواز تعليل حكم الأصل بالأوصاف الظاهرة الجلية العرية عن الاضطراب وسواء أكان الوصف معقولاً كالرضى والسخط أم محساً كالقتل والسرقة أم عرفياً كالحسن والقبح وسواء أكان موجوداً في محل الحكم كما ذكر من الأمثلة أم ملازماً له غير موجود فيه كتحريم نكاح الأمة لعلة رق الولد لكن اختلفوا في شروط فلنفرض في كل واحد منها مسألة.
المسألة الأولى ذهب الأكثرون إلى أن شرط علة الأصل أن لا يكون محل حكم الأصل ولا جزءً من محله.
وذهب آخرون إلى جوازه.
والمختار إنما هو التفصيل وهو امتناع ذلك في المحل دون الجزء وذلك لأن الكلام إنما هو واقع في علة أصل القياس فلو كانت العلة فيه هي محل حكم الأصل بخصوصه لكانت العلة قاصرةً لاستحالة كون محل حكم الأصل بخصوصه متحققاً في الفرع وإلا كان الأصل والفرع متحداً وهو محال.
نعم إنما يمكن ذلك فيما إذا لم تكن علة حكم الأصل متعديةً لأنه لا يعد في استلزام محل الحكم لحكمة داعية إلى ذلك الحكم كاستلزام الأوصاف العامة لمحل الأصل والفرع.
وأما الجزء فلا يمتنع التعليل به لاحتمال عموم الأصل والفرع.
المسألة الثانية اختلفوا في جواز كون العلة في الأصل بمعنى الأمارة المجردة والمختار أنه لا بد وأن تكون العلة في الأصل بمعنى الباعث أي مشتملة على حكمة صالحة أن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم وإلا فلو كانت وصفاً طردياً لا حكمة فيه بل أمارة مجردة فالتعليل بها في الأصل ممتنع لوجهين: الأول: أنه لا فائدة في الأمارة سوى تعريف الحكم والحكم في الأصل معروف بالخطاب لا بالعلة المستنبطة منه.
الثاني: أن علة الأصل مستنبطة من حكم الأصل ومتفرعة عنه فلو كانت معرفةً لحكم الأصل لكان متوقفاً عليها ومتفرعاً عنها وهو دور ممتنع.
المسألة الثالثة ذهب الأكثرون إلى امتناع تعليل الحكم بالحكمة المجردة عن الضابط.
وجوزه الأقلون ومنهم من فصل بين العلة الظاهرة المنضبطة بنفسها والحكمة الخفية المضطربة فجوز التعليل بالأولى دون الثانية وهذا هو المختار.
أما إذا كانت الحكمة ظاهرةً منضبطةً غير مضطربة فلأنا أجمعنا على أن الحكم إذا اقترن بوصف ظاهر منضبط مشتمل على حكمة غير منضبطة بنفسها أنه يصح التعليل به وإن لم يكن هو المقصود من شرع الحكم بل ما اشتمل عليه من الحكمة الخفية فإذا كانت الحكمة وهي المقصود من شرع الحكم مساويةً للوصف في الظهور والانضباط كانت أولى بالتعليل بها.
وأما إذا كانت الحكمة خفية مضطربة غير منضبطة فيمتنع التعليل بها لثلاثة أوجه: الأول أنها إذا كانت خفيةً مضطربةً مختلفةً باختلاف الصور والأشخاص والأزمان والأحوال فلا يمكن معرفة ما هو مناط الحكم منها والوقوف عليه إلا بعسر وحرج ودأب الشارع فيما هذا شأنه على ما ألفناه منه إنما هو رد الناس فيه إلى المظان الظاهرة الجلية دفعاً للعسر عن الناس والتخبط في الأحكام.
ولهذا فإنا نعلم أن الشارع إنما قضى بالترخص في السفر دفعاً للمشقة المضبوطة بالسفر الطويل إلى مقصد معين ولم يعلقها بنفس المشقة لما كانت مما يضطرب ويختلف ولهذا فإنه لم يرخص للحمال المشقوق عليه في الحضر وإن ظن أن مشقته تزيد على مشقة المسافر في كل يوم فرسخ وإن كان في غاية الرفاهية والدعة لما كان ذلك مما يختلف ويضطرب.
الثاني: أن الإجماع منعقد على صحة تعليل الأحكام بالأوصاف الظاهرة المنضبطة المشتملة على احتمال الحكم كتعليل وجوب القصاص بالقتل العمد العدوان لحكمة الزجر أو الجبر وتعليل صحة البيع بالتصرف الصادر من الأهل في المحل لحكمة الانتفاع وتعليل تحريم شرب الخمر وإيجاب الحد به لحكمة دفع المفسدة الناشئة منه ونحوه ولو كان التعليل بالحكمة الخفية مما يصح لم احتيج إلى التعليل بضوابط هذه الحكم والنظر إليها لعدم الحاجة إليها ولما فيه من زيادة الحرج بالبحث عن الحكمة وعن ضابطها مع الاستغناء بأحدهما.(1/318)
الثالث: أن التعليل بالحكمة المجردة إذا كانت خفيةً مضطربةً مما يفضي إلى العسر والحرج في حق المكلف بالبحث عنها والاطلاع عليها والحرج منفي بقوله تعالى: " ما جعل عليكم في الدين من حرج " الحج 78 غير أنا خالفناه في التعليل بالوصف الظاهر المنضبط لكون المشقة فيه أدنى فبقينا عاملين بعموم النص فيما عداه.
فإن قيل: ما ذكرتموه في جواز التعليل بالحكمة الظاهرة المنضبطة فهو فرع إمكان ذلك وهو غير مسلم في الحكمة فإنها راجعة إلى الحاجات إلى المصالح ودفع المفاسد والحاجات مما تخفى وتزيد وتنقص فلا تكون ظاهرةً ولا منضبطةً وإن سلمنا إمكان ذلك نادراً غير أنه يلزم من التوسل إلى معرفتها في آحاد الصور لتعيين القليل منها نوع عسر وحرج لا يلزم في التوسل إلى معرفة الضوابط الجلية والمظان الظاهرة المنضبطة المشتملة على احتمال الحكم في الغالب وذلك مدفوع بقوله تعالى: " ما جعل عليكم في الدين من حرج " .
وما ذكرتموه في امتناع التعليل بالحكمة الخفية: أما الوجه الأول فالبحث عن الحكمة الخفية وإن كان فيه نوع حرج ومشقة غير أنه لا بد منه عند التعليل بالوصف الظاهر المشتمل عليها ضرورة أنها علة لكون الوصف علةً ولولا اشتمال الوصف عليها لما كان علةً للحكم وإذا لم يكن بد من معرفتها في جعل الوصف علة للحكم وقد جعلت علة للعلة أمكن أن تجعل علة للحكم من غير حاجة إلى ضابطها.
وحيث لم تقض بالترخص في حق الحمال في الحضر دفعاً للمشقة عنه فغايته امتناع تعليل الرخصة بمطلق المشقة بل بالمشقة الخاصة بالسفر ولا يلزم من ذلك امتناع التعليل بالحكمة مطلقاً.
وأما الوجه الثاني فغاية ما فيه جواز التعليل بالضابط المشتمل على الحكمة وليس فيه ما يدل على امتناع التعليل بالحكمة قولكم: إنه لا حاجة إليه لا نسلم ذلك فإن الاطلاع عليه أسهل من الاطلاع على الحكمة.
وأما الوجه الثالث فهو أن الحرج اللازم عن البحث عن الحكمة الخفية وإن كان شاقاً غير أنه لا يزيد على البحث عنها عند التعليل بضابطها بل المشقة في تعرفها مع تعرف ضابطها أشق من تعرفها دون ضابطها.
وقد أجمعنا على مخالفة النص المذكور عند التعليل بالضابط وكانت مخالفته عند التعليل بالحكمة لا غير أقل مشقةً وحرجاً فكان أولى بالمخالفة.
والجواب عن الاعتراض الأول: أن الكلام إنما هو مفروض فيما إذا كانت الحكمة ظاهرةً منضبطةً بنفسها في بعض الصور لا فيما لم يكن قولهم: إن الاطلاع عليها والبحث عنها أشق من البحث عن الضابط ليس كذلك فإنها إذا كانت ظاهرةً منضبطةً كالوصف فلا تفاوت.
وعن الاعتراض الأول: على الوجه الثاني: أن البحث عن الحكمة عند تجردها عن الضابط لا بد فيه من معرفة كميتها وخصوصيتها حتى نأمن من الاختلاف بين الأصل والفرع فيها وذلك غير ممكن في الحكمة الخفية المضطربة ولا يكفي فيه مجرد معرفة احتمالها بخلاف ما إذا كانت مضبوطةً بضابط فإنا نكتفي بمعرفة الضابط ومعرفة أصل احتمال الحكمة لا غير ويدل على ذلك ما ذكرناه من الاستشهاد وما ذكروه عليه فهو اعتراف بامتناع التعليل بمجرد الحكمة وهو المطلوب.
وعن الاعتراض على الوجه الثاني أنه لو أمكن التعليل بالحكمة لما احتيج إلى التعليل بالضابط: قولهم إن الوقوف عليه أسهل من الوقوف على الحكمة بمجردها قلنا: فيلزم من ذلك امتناع التعليل بالحكمة لما فيه من تأخير إثبات الحكم الشرعي إلى زمان إمكان الاطلاع على الحكمة مع إمكان إثباته بالضابط في أقرب زمان وذلك ممتنع.
وعن الاعتراض على الوجه الثالث أنا لا نسلم التساوي في الحرج والمشقة في البحث عن الحكمة مع ضابطها ومع خلوها عن الضابط وذلك لأنا نفتقر في البحث عنها عند خلوها عن الضابط إلى معرفة خصوصيتها وكميتها حتى نأمن من التفاوت فيها بين الأصل والفرع كما سبق ولا كذلك في البحث عنها مع ضابطها فإنا لا نفتقر في البحث عنها إلى أكثر من معرفة أصل احتمالها ولا يخفى أن الحرج في تعرفها على جهة التفصيل أتم من تعرفها لا بجهة التفصيل.
المسألة الرابعة اختلفوا في جواز تعليل الحكم الثبوتي بالعدم: فجوزه قوم ومنع منه آخرون وشرطوا أن تكون العلة للحكم الثبوتي أمراً وجودياً وهو المختار وبيانه من ثلاثة أوجه:(1/319)
الأول: أن الحكم بكون الوصف علةً صفة وجودية لأن نقيض العلة لا علة و لا علة أمكن أن يكون صفة لبعض الأعدام ولو كان المفهوم من لا علة وجودياً لكان الوجود صفة للعدم وهو محال وإذا كان لا علة عدماً فالمفهوم من نقيضها وجودي.
الوجه الثاني: أنه يصح قول القائل أي شيء وجد حتى حدث هذا الأمر؟ ولو لم يكن الحدوث متوقفاً على وجود شيء لما صح هذا الكلام كما لو قال أي رجل مات حتى حدث لفلان هذا المال؟ حيث لم يكن حدوث المال لفلان متوقفاً على ما قيل.
الثالث: وهو خاص بما إذا كان الحكم ثابتاً بخطاب التكليف كالوجوب والحظر ونحوه وهو أن يقال قد ثبت أن العلة المستنبطة من الحكم لا بد وأن تكون بمعنى الباعث لا بمعنى الأمارة والباعث ما اشتمل على تحصيل مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تعليلها كما يأتي بيانه.
فإذا كان الحكم ثابتاً بخطاب التكليف لمثل هذا الغرض فلا بد وأن يكون ضابط ذلك الغرض مقدوراً للمكلف في إيجاده وإعدامه وإلا لما كان شرع ذلك الحكم مفيداً لمثل ذلك الغرض لعدم إفضائه إلى الغرض المطلوب والعدم المحض لا انتساب له إلى قدرة المكلف لا بإيجاد ولا إعدام فجعل ضابطاً لغرض الحكم ومقصوده لا يكون مفضياً إلى مقصود شرع الحكم فيمتنع التعليل به.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الوجه الأول معارض بما يدل على أن المفهوم من صفة العلة عدم وبيانه من وجهين: الأول أنه لو كانت صفة العلة أمراً وجودياً لم يخل إما أن تكون واجبةً لذاتها أو ممكنةً: الأول محال وإلا لما افتقرت إلى الموصوف بها والثاني يوجب افتقارها إلى علة مرجحة لها والكلام في صفة تلك العلة كالكلام في الأولى وهو تسلسل ممتنع.
الوجه الثاني: أنه يصح وصف الأمر العدمي بكونه علة للأمر العدمي ولهذا يصح أن يقال: إنما لم أسلم على فلان لأني لم أره وإنما لم أفعل كذا لعدم الداعي إليه.
وأما الوجه الثاني فليس فيه دلالة على توقف حدوث ذلك الأمر على تجدد وجود أمر آخر ولهذا فإنه يصح أن يقال أي شيء صنع هذا حتى حدث له هذا المال؟ وإن لم يكن حصول المال له موقوفاً على صنع من جهته لجواز حدوثه له عن إرث أو وصية.
وإن سلمنا دلالته على التوقف على الأمر الوجودي غير أنه معارض بما يدل على صحة تعليل الأمر الوجودي بالأمر العدمي وبيانه أنه يصح أن يقال ضرب فلان عبده لأنه لم يمتثل أمره وشتم فلان فلاناً لأنه لم يسلم عليه وهو تعليل للأمر الوجودي بالأمر العدمي.
وأما الوجه الثالث فهو وإن سلمنا أن العلة لا بد وأن تكون بمعنى الباعث وأن الباعث عبارة عما ذكرتموه ولكن لا نسلم امتناع كون الوصف العدمي باعثاً وذلك لأنا أجمعنا على جواز التعليل بالوصف الوجودي الظاهر المنضبط إذا كان يلزم من ترتيب الحكم على وفقه تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة ظاهرا فالعدم المقابل له يكون أيضاً ظاهراً منضبطاً ويكون مشتملاً على نقيض ما اشتمل عليه الوصف الوجودي وهو لا يخرج عن المصلحة أو المفسدة لأنه إن كان ما اشتمل عليه الوصف الوجودي مصلحةً فعدمه يلزمه عدم تلك المصلحة وعدم المصلحة مفسدة وإن كان ما اشتمل عليه الوصف الوجودي مفسدة فعدمه يلزمه عدم تلك المفسدة وعدم المفسدة مصلحة وهو مقدور للمكلف لأنه إذا كان مقابله وهو الوصف الوجودي مقدوراً فلا معنى لكونه مقدوراً إلا أنه مقدور على إيجاده وإعدامه فإذا العدم المقابل للوجود مقدور وإذا كان مقدورا وهو ظاهر منضبط مشتمل على مصلحة أو مفسدة فقد أمكن التعليل به كما أمكن التعليل بالوصف الوجودي.
والجواب عن الأول أن ما ذكروه من لزوم التسلسل بتقدير كون العلية صفةً وجوديةً لازم بتقدير كونها عدمية وذلك لأن المفهوم من صفة العلية إذا كان أمراً عدمياً فإما أن يكون واجباً لنفسه ومفهومه أو ممكناً: لا جائز أن يكون واجباً لذاته ولا لما افتقر في تحقيقه إلى نسبته إلى ذات العلة وكونه وصفاً لها وإن كان ممكناً فلا بد له من علة مرجحة والتسلسل لازم له وعند ذلك فالجواب يكون متحداً.
وما ذكروه من الاحتجاج ثانياً فلا يصح وذلك لأن وجود الداعي إلى الفعل شرط لوجود الفعل وكذلك الرؤية لزيد شرط في السلام عليه لا أن ذلك علة له وإنما أضيف عدم الأثر إليه بلام التعليل بجهة التجوز لمشابهته للعلة في افتقار الأثر إلى كل واحد منهما.(1/320)
ولذلك يقال في صورة تعليق الطلاق والعتق بدخول الدار إنما طلقت الزوجة وعتق العبد لدخول الدار ويجب حمل ذلك على جهة التجوز جمعاً بينه وبين ما ذكرناه من الدليل.
قولهم على الوجه الثاني: ليس فيه دلالة على توقف الحدوث عل تجدد الوجود قلنا: دليله ما ذكرناه وما ذكروه من الاستشهاد فإنما صح بناء على الظاهر من جهة أن الغالب في حدوث المال لبعض الأشخاص أن يكون مستنداً إلى صنعة لا إلى ما ذكروه ونحن إنما نتمسك في هذا الوجه بالظاهر لا بالقطع.
وما ذكروه من المعارضة الدالة على تعليل الأمر الوجودي بالأمر العدمي غير صحيح فإن المعلل به ليس هو العدم المحض فإنه غير منتسب إلى فعل الشخص فلا يحسن جعله علة للعقاب لا عقلاً ولا شرعاً وإنما التعليل بالامتناع عن ذلك وكف النفس عنه وهو أمر وجودي لا عدمي.
وما ذكروه على الوجه الثالث فحاصله راجع إلى التعليل بالإعدام المقدور وهو أمر وجودي لا بالعدم المحض الذي لا قدرة للمكلف عليه وذلك غير ما وقع فيه النزاع.
وإذا عرف امتناع تعليل الوجود بالعدم المحض مما ذكرناه فبمثله يعلم أن العدم لا يكون جزأ من العلة المقتضية للأمر الوجودي ولا داخلاً فيها والوجه في الاعتراض على ذلك والانفصال فعلى ما تقدم.
ويخصه اعتراض آخر وهو أن انتفاء معارضة المعجزة بمثلها جزء من المعرف لكونها معجزةً وكذلك الدوران فإنه معرف لعلية المدار وأحد أجزاء الدوران العدم مع العدم.
وجوابه أنا لا نسلم أن العدم فيما ذكروه من صور الاستشهاد جزء من المعرف بل شرط والشرط غير الجزء.
وإذا عرف امتناع تعليل الحكم الثبوتي بالعدم المحض وامتناع جعله جزأ من العلة لزم امتناع التعليل بالصفات الإضافية وذلك لأن المفهوم من الصفة الإضافية إما أن يكون وجوداً أو عدماً لا جائز أن يكون وجوداً لأن الصفة الإضافية لا بد وأن تكون صفة للمضاف ويلزم من ذلك قيام الصفة الوجودية بالمعدوم المحض وهو محال.
وبيان لزوم ذلك أن الإضافة الواقعة بين المتناقضين وبين المتقدم والمتأخر قائمة لكل واحد من الأمرين وأحد المتقابلين مما ذكرناه لا بد وأن يكون معدوماً وإذا بطل أن يكون المفهوم من الإضافة وجوداً تعين أن يكون عدماً.
؟المسألة الخامسة اختلفوا في جواز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي: فجوزه قوم ومنع منه آخرون وشرطوا في العلة أن لا تكون حكماً شرعياً.
ونحن نشير إلى مأخذ الفريقين وننبه على ما فيه ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار: فأما من قال بأن الحكم يجوز أن يكون علةً للحكم فقد احتجوا عليه بأن أحد الحكمين قد يكون دائراً مع الحكم الآخر وجوداً وعدماً والدوران دليل كون المدار عليه للدائر وسنبين أن الدوران لا يدل على التعليل فيما بعد.
وأما القائلون بامتناع التعليل بالحكم فقد احتجوا بأن الحكم إذا كان علة لحكم آخر فإما أن يكون متقدماً عليه أو متأخراً عنه أو مقارناً له: لا جائز أن يقال بالأول وإلا لزم منه وجود العلة مع تخلف حكمها عنها وهو نقض للعلة.
ولا جائز أن يقال بالثاني لأن المتأخر لا يكون علة للمتقدم.
وإن كان الثالث فليس جعل أحدهما علةً للآخر أولى من العكس.
وأيضاً فإنه يحتمل أن لا يكون لحكم الأصل علة ويحتمل أن يكون وإذا كان معللاً احتمل أن لا يكون الحكم به هو العلة واحتمل أن يكون وعلى هذا فلا يكون علةً على تقديرين وإنما يكون علة على تقدير واحد ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد.
وأيضاً فإنه لو كان الحكم علة للحكم فإما أن يكون علة بمعنى الإمارة المعرفة أو بمعنى الباعث: لا جائز أن يقال بالأول لما سبق ولا جائز أن يقال بالثاني لأن القول بكون الحكم داعياً وباعثاً على الحكم محال خارق للإجماع.
ولقائل أن يقول: أما الحجة الأولى فلا نسلم امتناع التقدم.
قولهم: يلزم منه نقض العلة ليس كذلك فإن الحكم لم يكن علة لنفسه وذاته بل إنما يصير علة باعتبار الشرع له بقران الحكم الآخر به وذلك كما في تعليل تحريم شرب الخمر بالشدة المطربة فإن الشدة المطربة وإن كانت متقدمة على التحريم فلا يقال إنها علة قبل اعتبارها من الشرع بقران التحريم بها فلا تكون منتقضةً بتخلف التحريم عنها قبل ورود الشرع وإن سلمنا امتناع التقدم فما المانع أن يكون مقارناً؟.(1/321)
قولهم: ليس جعل أحد المقترنين علة للآخر أولى من العكس ليس كذلك فإن الكلام إنما هو مفروض فيما إذا كان أحد الحكمين مناسباً للحكم الآخر من غير عكس وإلا فمع قطع النظر عن جهة البعث في أحد الحكمين فلا يكون علة.
وما ذكروه من الترجيح فهو لازم عليهم في التعليل بالأوصاف الحقيقة وما هو جواب ثم فهو الجواب فيما نحن فيه.
وأما الحجة الثانية فالمختار من قسميها أنه علة بمعنى الباعث.
قولهم: إنه ممتنع خارق للإجماع دعوى مجردة لا دليل عليها.
وعند هذا فنقول: المختار أنه يجوز أن يكون الحكم علة للحكم بمعنى الإمارة المعرفة لكن لا في أصل القياس بل في غيره فقد حرمت كذا فإنه لا يمتنع أن يقول الشارع: مهما رأيتم أنني حرمت كذا فقد حرمت كذا ومهما أبحت كذا فقد أبحث كذا كما لو قال: مهما زالت الشمس فصلوا ومهما طلع هلال رمضان فصوموا.
وأما في أصل القياس فقد بينا أنه لا يجوز أن تكون العلة فيه بمعنى الإمارة المعرفة بل بمعنى الباعث فإذا كان الحكم علة لحكم أصل القياس فلا بد وأن يكون باعثاً عليه وعلى هذا فحكم الأصل إما أن يكون حكماً تكليفياً أو ثابتاً بخطاب الوضع والأخبار.
فإن كان ثابتاً بخطاب التكليف امتنع أن يكون الحكم الشرعي علةً له لأنه غير مقدور للمكلف لا في إيجاده ولا في إعدامه فلا يصلح أن يكون علةً لما ذكرناه في امتناع التعليل بالوصف العدمي وبما ذكرناه أيضاً يمتنع تعليله بالوصف العرفي والتقديري والوصف الوجودي الذي لا قدرة للمكلف على تحصله كالشدة المطربة والطعم والتعدية والصغر ونحوه.
وأما إن كان حكم الأصل ثابتاً بخطاب الوضع والأخبار فلا بد وأن يكون الحكم المعلل به باعثاً على حكم الأصل إما لدفع مفسدة لزمت من شرع الحكم مصلحة تلزم منه: فإن كان الأول فيمتنع أن يكون الحكم علةً لأن المفسدة اللازمة من الحكم المعلل به كانت مطلوبة الانتفاء بشرع حكم الأصل لما شرع الحكم المعلل به لما يلزم من شرعه من وجوه مفسدة مطلوبة الانتفاء للشارع: وإن كان الثاني فلا يمتنع تعليل الحكم بالحكم فإنه لا يمتنع أن يكون ترتيب أحد الحكمين على الآخر يستلزم حصول مصلحة لا يستقل بها أحدهما فقد ينحل من هذه الجملة أن إطلاق القول بامتناع التعليل بالحكم الشرعي وجوازه ممتنع بل لا بد من النظر إلى ما ذكرناه لما ذكرناه من التفصيل.
المسألة السادسة اشترط قوم أن تكون العلة ذات وصف واحد لا تركيب فيه كتعليل تحريم الخمر بالإسكار ونحوه ومنع من ذلك الأكثرون وهو المختار وذلك كتعليل وجوب القصاص بالمحدد بالقتل العمد العدوان.
ودليله أنه لا يمتنع أن تكون الهيئة الاجتماعية من الأوصاف المتعددة مما يقوم الدليل على ظن التعليل بها إما بمناسبة أو شبه أو سبر وتقسيم أو غير ذلك من طرق الاستنباط أو التخريج مع اقتران الحكم بها حسب دلالته على علية الوصف الواحد وكان علةً.
فإن قيل: ما ذكرتموه وإن دل على جواز التعليل بعلة ذات أوصاف غير أنه معارض بما يدل على امتناعه.
وبيانه من أربعة أوجه: المعارضة الأولى أن مجموع الأوصاف إذا كان علةً للحكم فالعلية صفة زائدة على مجموع تلك الأوصاف ودليله أمران: الأول: أنا نعقل الهيئة الاجتماعية من الأوصاف ونجهل كونها علةً والمعلوم غير المجهول.
الثاني: أنه يحسن أن يقال: الهيئة الاجتماعية من الأوصاف علة فنصفها بها والصفة يجب أن تكون غير الموصوف وعند ذلك فإما أن تكون صفة العلية بتمامها قائمةً بكل واحد من الأوصاف أو بواحد منها أو أنها مع اتحادها قائمة بالمجموع كل بعض منها قائم بوصف: لا جائز أن يقال بالأول وإلا كان كل وصف علةً مستقلةً لأن العلة مجموع الأوصاف وهو خلاف الفرض كيف وإن ذلك محال كما يأتي.
وإن قيل بالثاني فالعلة ذلك الوصف الذي قامت به صفة العلية لا مجموع الأوصاف وهو أيضاً خلاف الفرض.
ولا جائز أن يقال بالثالث لأن صفة العلية متحدة فيلزم من ذلك تعدد المتحد لقيامه بالمتعدد أو اتحاد المتعدد وهو محال.
المعارضة الثانية أنه لو كانت العلية صفة لأوصاف متعددة فهي متوقفة على كل واحد من تلك الأوصاف ويلزم من ذلك أن يكون عدم كل وصف منها علةً مستقلةً لعدم صفة العلية ضرورة انتفائها عند عدمه وذلك محال لوجهين:(1/322)
الأول أنه إذا انتفت جميع الأوصاف فإما أن يكون عدم كل وصف علةً مستقلةً لعدم العلية أو البعض دون البعض أو أنه لا واحد منها مستقل بل المستقل الجميع.
لا جائز أن يقال بالأول لأن معنى استقلال عدم كل واحد من الأوصاف بعدم العلية لا معنى له سوى أنه المفيد لذلك دون غيره ويلزم من ذلك امتناع استقلال كل واحد منها.
ولا جائز أن يقال بالثاني لأنه لا أولوية لاختصاص البعض بذلك دون البعض.
ولا جائز أن يقال بالثالث لما فيه من إخراج كل واحد من تلك الأوصاف عن الاستقلال بالعلية وقد قيل إنه مستقل.
الوجه الثاني: أنه إذا كان عدم كل وصف منها يستقل عند انفراده بعدم العلية فبتقدير انتفاء العلية عند انتفاء بعض الأوصاف يلزم منه أنه إذا انتفى بعد ذلك وصف آخر من تلك الأوصاف أن لا يكون موجباً لعدم العلية لكونها معدومةً ويلزم من ذلك نقض العلة العقلية وهو محال.
المعارضة الثالثة: أنه لا يخلو إما أن يكون كل واحد من تلك الأوصاف مناسباً للحكم أو لا واحد منها مناسب له أو المناسب البعض دون البعض: فإن كان الأول فيلزم من مناسبة كل واحد للحكم مع اقتران الحكم به أن يكون مستقلاً بالتعليل وعند ذلك فالحكم إما أن يضاف إلى كل واحد على سبيل الاستقلال أو إلى البعض دون البعض أو إلى الجملة والكل محال لما تقدم في المعارضة السابقة.
وإن كان الثاني فضم ما لا يصلح للتعليل إلى ما يصلح له لا يكون مفيداً للتعليل.
وإن كان الثالث فذلك هو العلة المستقلة لمناسبته وقران الحكم به ولا مدخل لغيره في التعليل.
المعارضة الرابعة: أن كل واحد من الأوصاف إذا لم يكن علة عند انفراده فعند انضمامه إن تجددت صفة العلية له فلا بد من تجدد أمر يقتضي العلية وذلك الأمر المتجدد لا بد له من علة متجددة توجبه والكلام في ذلك المتجدد كالكلام في الأول وهو تسلسل ممتنع.
الجواب عن المعارضة الأولى من ثلاثة أوجه: الأول أنه لا معنى لكون مجموع الأوصاف علةً سوى أن الشارع قضى بالحكم رعايةً لما اشتملت عليه الأوصاف من الحكمة وليس ذلك صفة لها فلا يلزم ما ذكروه.
الثاني: أنه إن كانت العلية صفةً وجوديةً فممنوع وبيانه من وجهين: الأول: أنها لو كانت صفةً وجوديةً لكانت عرضاً والصفات المعلل بها أعراض والعرض لا يقوم بالعرض كما بيناه في أبكار الأفكار وغيره.
الثاني: أنها صفة إضافية وقد بينا فيما تقدم أن المفهوم من الصفة الإضافية غير وجودي وما ذكروه من المحال إنما يلزم بتقدير كونها صفةً وجوديةً وليس كذلك.
غير أن هذين الجوابين يناقضان ما ذكر من الوجه الأول في امتناع التعليل بالعدم.
الثالث: أن ما ذكروه منتقض بكون القول المخصوص خبراً أو استخباراً أو وعداً أو وعيداً أو غير ذلك مع تعدل ألفاظه وحروفه فإن كل ما ذكروه من الأقسام بعينه متحقق فيه ومع ذلك لم يمتنع وصفه بما وصف به فما هو الجواب هاهنا يكون جوابا في محل النزاع.
وعن الثانية: أنها مبنية على كون عدم الأوصاف علة لعدم العلية وليس كذلك لوجهين: الأول أن العدم لا يصلح أن يكون علية لما تقدم.
الثاني أن وجود كل واحد من الأوصاف شرط في تحقق العلية فانتفاء العلية عند انتفاء بعض الأوصاف أو كلها إنما هو لانتفاء الشرط لا لعلة عدم العلية.
وعن الثالثة أنه وإن لم يكن كل واحد من الأوصاف مناسباً للحكم مناسبة استقلال فلا يمتنع أن تكون مناسبة الاستقلال ناشئةً أو ملازمةً للهيئة الاجتماعية من الأوصاف كما في القتل العمد العدوان بالنسبة إلى وجوب القصاص ونحوه.
وعن الرابعة أن المتجدد والمستلزم للعلية إنما هو الانضمام الحادث بالفاعل المختار فلا تسلسل ثم يلزم على ما ذكروه تجدد الهيئة الاجتماعية من الأوصاف المتعددة فإنها غير متحققة في كل واحد واحد من الأوصاف مع لزوم ما ذكروه فما هو الجواب عن تجدد الهيئة الاجتماعية يكون جواباً عن تجدد صفة العلية.
المسألة السابعة اتفق الكل على أن تعدية العلة شرط في صحة القياس وعلى صحة العلة القاصرة كانت منصوصةً أو مجمعاً عليها وإنما اختلفوا في صحة العلة القاصرة إذا لم تكن منصوصةً ولا مجمعاً عليها.(1/323)
وذلك كتعليل أصحاب الشافعي حرمة الربا في النقدين بجوهرية الثمينة: فذهب الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل والقاضي أبو بكر والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري وأكثر الفقهاء والمتكلمين إلى صحتها وذهب أبو حنيفة وأصحابه وأبو عبد الله البصري والكرخي إلى إبطالها.
والمختار صحتها.
وقد احتج القائلون بذلك بمسالك: المسلك الأول أنهم قالوا تعدية العلة إلى الفرع موقوف على صحتها في نفسها فلو كانت صحتها متوقفةً على تعديتها كان دوراً ممتنعاً ولقائل أن يقول إن أردتم بالتعدية الموقوفة على صحة العلة ثبوت الحكم بها في الفرع فهو مسلم وإن أردتم بالتعدية نقول بأن التعدية بالاعتبار الأول شرط في صحة العلة ليكون دوراً وإنما نقول بأن شرط صحة العلة التعدية بالاعتبار الثاني وهو غير مفض إلى الدور فإن صحة العلة وإن كانت مشروطةً بوجودها في غير محل النص فوجودها غير متوقف على صحتها في نفسها فلا دور وإن سلمنا توقف التعدية على الصحة وتوقف الصحة على التعدية فإنما يلزم الدور أن لو كان ذلك التوقف مشروطاً بتقدم كل واحد من الأمرين على الآخر وأما إذا كان ذلك بجهة المعية كما في توقف كل واحد من المضافين على الآخر فلا دور.
المسلك الثاني: أنهم قالوا إذا دار الحكم مع الوصف القاصر وجوداً وعدما دل على كونه علةً كالمتعدي وهو غير صحيح لما سنبينه من إبطال التمسك بالدوران.
المسلك الثالث: أنهم قالوا إذا جاز أن تكون علةً عند دلالة النص عليها جاز أن يكون علةً بالاستنباط وهو غير صحيح أيضاً.وذلك لأن عليتها عند دلالة النص مستفادة من النص ودلالة النص عليها غير متحققة حالة استنباطها فلا يلزم أن تكون علةً.
فإن قيل: إذا دل النص على علية الوصوف القاصر وجب الحكم بعلية المستنبط لما بينهما من الاشتراك في الحكمة قلنا: هذا قياس في الأسباب وسيأتي إبطاله والمعتمد في ذلك أن يقال إذا كان الوصف القاصر مناسباً للحكم والحكم ثابت على وفقه غلب على الظن كونه علة للحكم بمعنى كونه باعثاً عليه ولا معنى لصحة العلة سوى ذلك.
فإن قيل القضاء بصحة العلة يستدعي فائدةً فإن ما لا فائدة فيه لا يمكن القضاء بصحته وفائدة العلة إنما هي في إثبات الحكم بها والعلة القاصرة غير مثبتة للحكم في الأصل لكونه ثابتاً بالنص أو الإجماع ولأنها مستنبطة منه فتكون فرعاً عليه فلو كانت مثبتةً له لكان فرعاً عليها وهو دور ولا هي مثبتة للحكم في الفرع لعدم تعديتها فقد تعرت عن الفائدة بالكلية فلا تكون صحيحةً قلنا: وإن سلمنا امتناع إثبات الحكم بالعلية القاصرة وأن إثبات الحكم بها فائدة لها ولكن لا نسلم انحصار فائدتها في ذلك بل لها ثلاث فوائد أخر: الأولى: معرفة كونها باعثةً على الحكم بما اشتملت عليه من المناسبة أو الشبه وإذا كانت باعثة على الحكم كان الحكم معقول المعنى وكان أدعى إلى الانقياد وأسرع في القبول له مما لم يظهر فيه الباعث وكان تعبداً وإذا كان كذلك كان أفضى إلى تحصيل مقصود الشرع من شرع الحكم فكان التعليل بها مفيداً.
الثانية: أن العلة إذا كانت قاصرة فبتقدير ظهور وصف آخر متعد في محلها يمتنع تعدية الحكم به دون ترجيحه على العلة القاصرة وذلك من أجل الفوائد.
الثالثة: أنه إذا كانت القاصرة علةً وعرفناها فقد امتنع بسببها تعدية الحكم إلى الفرع وذلك أيضاً من أتم الفوائد.
فإن قيل: وإن كان ما ذكرتموه من جملة الفوائد وأن ذلك مما يغلب على الظن الصحة غير أن العمل بالظن على خلاف قوله تعالى: " وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً " النجم 28 وحيث خالفناه في العلة المتعدية لاشتمالها على ما ذكرتموه من الفوائد وزيادة فائدة التعدية فلا يلزم منه المخالفة فيها دون ذلك.
قلنا: يجب حمل الآية على ما المطلوب فيه القطع جمعاً بينه وبين ما ذكرناه من الدليل سلمنا أنه لا فائدة في العلة القاصرة ولكن لا يلزم من ذلك امتناع القضاء بصحتها بدليل ما لو كانت منصوصةً.
المسألة الثامنة اختلفوا في جواز تخصيص العلة المستنبطة: فجوزه أكثر أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل ومنع من ذلك أكثر أصحاب الشافعي(1/324)
وقد قيل إنه منقول عن الشافعي ثم القائلون بجواز تخصيصها اتفقوا على جواز تخصيص العلة المنصوصة واختلفوا في جواز تخصيص المستنبطة إذا لم يوجد في محل التخلف مانع ولا فوات شرط فمنع منه الأكثرون وجوزه الأقلون والقائلون بالمنع في تخصيص العلة المستنبطة اختلفوا في جواز تخصيص العلة المنصوصة.
والمختار إنما هو التفصيل وهو أن يقال: العلة الشرعية لا تخلو إما أن تكون قطعيةً أو ظنيةً: فإن كانت قطعيةً فتخلف الحكم عنها لايخلو إما أن يكون لا بدليل أو بدليل لا جائز أن يقال بالأول لأنه محال.
وإن كانت ظنيةً فتخلف الحكم عنها إما في معرض الاستثناء أو لا في معرض الاستثناء.
فإن كان الأول كتخلف إيجاب المثل في لبن المصراة عن العلة الموجبة له وهي تماثل الأجزاء بالعدول إلى إيجاب صاع من التمر وتخلف وجوب الغرامة عمن صدرت عنه الجناية في باب ضرب الدية على العاقلة وتخلف حكم الربا مع وجود الطعم في العرايا ونحوه فذلك مما لا يدل على بطلان العلة بل تبقي حجةً فيما وراء صورة الاستثناء وسواء كانت العلة المخصوصة منصوصةً أو مستنبطةً وذلك لأن الدليل من النص أو الاستنباط قد دل على كونها علةً وتخلف الحكم حيث ورد بطريق الاستثناء عن قاعدة القياس كان مقررا لصحة العلة لا ملغياً لها.
وأما إن كان تخلف الحكم عنها لا بطريق الاستثناء فلا يخلو إما أن تكون العلة منصوصة أو مستنبطةً: فإن كانت منصوصةً فلا يخلو إما أن يمكن حمل النص على أن الوصف المنصوص عليه بعض العلة وذلك كتعليل انتقاض الوضوء بالخارج من غير السبيلين مأخوذاً من قوله عليه السلام الوضوء مما خرج فإنه إذا تخلف عنه الوضوء في الحجامة أمكن أخذ قيد الخارج من السبيلين في العلة وتأويل النص بصرفه عن عموم الخارج النجس إلى الخارج من المخرج المعتاد أو حمله على تعليل حكم آخر غير الحكم المصرح به في النص وذلك قوله تعالى: " يخربون بيوتهم بأيدهم وأيدي المؤمنين " الحشر 2 معللاً بقوله تعالى: " ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله " فإن الحكم المعلل المصرح به إنما هو خراب البيت وليس كل من شاق الله ورسوله يخرب بيته فأمكن حمل الخراب على استحقاق الخراب وجد الخراب أو لم يوجد.
أو أنه لا يمكن ذلك فإن أمكن تأويل النص بالحمل على معنى خاص أو حكم آخر خاص وجب التأويل لما فيه من الجمع بين دليل التعليل بتأويله ودليل إبطال العلة المذكورة وإن لم يمكن تأويله بغير الوصف المذكور والحكم المرتب عليه فغايته امتناع إثبات حكم العلية لما عارضها من النص النافي لحكمها والعلة المنصوصة في معنى النص وتخلف حكم النص عنه في صوره لما عارضه لا يوجب إبطال العمل به في غير صورة المعارضة فكذلك العلة المنصوصة.
وأما إن كانت العلة مستنبطةً فتخلف الحكم عنها إما أن يكون لمانع أو فوات شرط أو لا يكون: فإن كان الأول وذلك كما في تعليل إيجاب القصاص على القاتل بالقتل العمد العدوان وتخلف الحكم عنه في الآب والسيد بمانع الأبوة والسيادة فلا يكون ذلك مبطلاً للعلية فيما وراء صورة المخالفة لأن دليل الاستنباط قد دل على العلية بالمناسبة والاعتبار وقد أمكن إحالة نفي الحكم على ما ظهر من المانع لا على إلغاء العلة فيجب الحمل عليه جمعاً بين الدليل الدال على العلة والدليل الدال عل مانعية الوصف النافي للحكم فإن الجمع بين الأدلة أولى من إبطالها.
ولا يخفى أن القول بإبطال العلة يتخلف الحكم عنها مما يلزم منه إبطال الدليل الدال على العلة والدليل الدال على مانعية المانع فكان القول بإحالة نفي الحكم على المانع أولى.
فإن قيل: لا نسلم أن المناسبة وقران الحكم بها فقط دليل العلية بل مع الاطراد وإن سلمنا ذلك لكن لا نسلم إمكان تعليل انتفاء الحكم بالمانع لوجهين:(1/325)
الأول: أن تعليل انتفاء الحكم بالمانع أو فوات الشرط في صورة التخلف يتوقف على وجود المقتضي للحكم فيها فإنه لو لم يكن المقتضي للحكم موجوداً فيها لكان الحكم منتفياً لانتفاء المقتضي لا للمانع ولا لفوات الشرط والقول بكون الوصف المذكور علةً يتوقف في صورة التخلف على وجود المانع أو فوات الشرط فإنا إذا لم نتبين وجود المانع ولا فوات الشرط فالحكم يجب أن يكون منتفياً لانتفاء ما يقتضيه وعند ذلك نتبين أن الوصف المذكور ليس بعلة وإذا توقف كل واحد من المقتضي والمانع على الآخر كان دوراً ممتنعاً وهذا الامتناع إنما لزم من التعليل بالمانع أو فوات الشرط في صورة التخلف فكان ممتنعاً.
الوجه الثاني أن انتفاء الحكم في صورة التخلف كان متحققاً قبل وجود المانع وفي تعليله بالمانع تعليل المتقدم بالمتأخر وهو محال وسواء كان المانع بمعنى الإمارة أو الباعث.
قلنا: جواب الأول أنا إذا رأينا الوصف مناسباً والحكم مقترناً به غلب على الظن تأول النظر إليه أنه علة مع قطع النظر عن البحث في جميع مجاري العلة هل الحكم مقارن لها أو لا وأما الاطراد فحاصله يرجع إلى السلامة عن النقص المعارض لدليل العلية وعدم المعارض عن داخل في دليل العلية وعن الدور من ثلاثة أوجه: الأول: لا نسلم أن تعليل انتفاء الحكم بالمانع يستدعي وجود المقتضي ودليله أنه يصح انتفاؤه بالمانع مع وجود المقتضي ومع كون المقتضي معارضاً للمانع فلأن يصح تعليل النفي به مع عدم المقتضي كان أولى.
الثاني: وإن سلمنا توقف التعليل بالمانع على وجود المقتضي ولكن لا نسلم توقف وجود المقتضي على وجود المانع فإن كون المقتضي مقتضياً إنما يعرف بدليله من المناسبة والاعتبار أو غير ذلك من الطرق وذلك متحقق فيما نحن فيه.
فيجب القضاء بكونه مقتضياً والمانع إنما هو من قبيل المعارض فإن وجد انتفاء الحكم المقتضي مع بقاء المقتضي بحاله مقتضياً وإن لم يوجد عمل المقتضي عمله.
الثالث: سلمنا توقف كل واحد منهما على الآخر لكن توقف معية أو توقف تقدم: الأول مسلم والثاني ممنوع وعلى هذا فلا دور.
وعن قولهم: فيه تعليل المتقدم بالمتأخر أن المعلل نفيه بالمانع إنما هو انتفاء الحكم الذي صار بسبب وجود المقتضي بعرضية الثبوت عرضيةً لازمةً لا مطلق حكم وذلك مما لا يسلم تقدمه على المانع المفروض وأما إن لم يظهر في صورة التخلف مانع ولا فوات شرط فالحق بطلان العلة وذلك لأن العلة المستنبطة إنما عرف كونها علةً باعتبار الشارع لها بثبوت الحكم على وفقها وذلك إن دل على اعتبارها.
فتخلف الحكم عنها مع ظهور ما يكون مستنداً لنفيه يدل على إلغائها وليس أحد الدليلين أولى من الآخر فيتقاومان ويبقى الوصف على ما كان قبل الاعتبار ولم يكن قبل ذلك علة فكذلك بعده.
فإن قيل: مناسبة الوصف وقران الحكم به دليل ظاهر على كونه علةً وكذلك سائر طرق الاستنباط وهذا الدليل قائم وإن وجد النقص وتخلف الحكم عن الوصف غايته أنه يوجب الشك في فساد العلة وتقاوم احتمال انتفاء الحكم لانتفاء العلة أو وجود المعارض على السواء وإذا كان دليل العلة ظاهراً ودليل الفساد مشكوكاً فيه فالمشكوك فيه لا يقع في مقابلة الظاهر.
ودليل وقوع الشك في فساد العلة في صورة النقض وتقاوم الاحتمال فيها أنه يحتمل أن يكون انتفاء الحكم في صورة النقض لمعارض من وجود مانع أو فوات شرط ويحتمل أنه لفساد العلة وهما متقاومان.
وبيان التقاوم أن احتمال الانتفاء لانتفاء العلة وإن كان على وفق الأصل بالنسبة إلى احتمال انتفائه للمعارض دفعاً لمحذور المعارضة غير أنه على خلاف الأصل بالنظر إلى إبطال العلة مع قيام الدليل الدال على كون الوصف علةً واحتمال انتفاء الحكم للمعارض وإن كان على خلاف الأصل لما فيه من نفي الحكم مع قيام دليله غير أنه على وفق الأصل من جهة موافقة الدليل الدال على كون الوصف علة فإذا احتمال انتفاء الحكم لانتفاء العلة موافق للأصل من وجه ومخالف له من وجه فيتقاوم الاحتمالان على السواء وذلك مما يوجب الشك في فساد العلة والشك لا يعارض الظاهر بوجه.(1/326)
قلنا: اذا اعترف بالشك في دليل فساد العلة فيلزم منه الشك في فساد العلة ويلزم من الشك في فساد العلة انتفاء الظن بكونها علةً لأن الصحة والفساد متقابلان فمهما وقع الشك في أحد المتقابلين وقع الشك في الآخر وإن كان أحدهما ظاهراً والآخر بعيداً فالقول بوقوع الشك في أحد المتقابلين مع ظهور الآخر ممتنع كما يمتنع الشك في الغيم مع ظن الصحو والشك في موت زيد مع ظن حياته وهذا بخلاف ما اذا شككنا في الطهارة وحكمنا بالنجاسة نظراً إلى النجاسة السابقة فإن الشك في هذه الصور لا يجامع النظر إلى الأصل بل عند النظر إلى الأصل يترجح أحد احتمالي الشك على الآخر فلا يبقى الشك متحققاً حتى إنه لو وقع الشك في النجاسة أو الطهارة مع النظر إلى الأصل لبقي الشك معمولاً به.
وهذا بخلاف ما نحن فيه فإن الشك انما وقع في فساد العلة في صورة النقض مع النظر إلى دليل العلة ولولا النظر إلى دليل العلة لكان الظاهر انتفاء الحكم لا انتفاء العلة ومهما كان كذلك فلا يمكن القضاء بظهور العلة مع أن تقاوم الاحتمال إنما كان بالنظر إلى دليل العلة.
كيف وإنه قد يمكن أن يقال: انتفاء الحكم مع وجود الوصف دليل ظاهر على أنه ليس بعلة وثبوت الحكم على وفقه مع مناسبته مما يوجب الشك في صحة التعليل به في محل الاعتبار والمشكوك فيه لايعارض الظاهر وبيان وقوع الشك في صحة التعليل في الأصل المستروح إليه أنه وإن كان ثبوت الحكم به على وفق الأصل غير أنه على خلاف الأصل بالنظر إلى دليل الفساد.
وثبوت الحكم لغيره وإن كان على خلاف الأصل مع عدم الظفر به إلا أنه على وفق الأصل بالنظر إلى دليل الفساد ويلزم من ذلك تقاوم الاحتمالات في صحة العلة وكان الظاهر قد دل على فسادها فلا يترك بالمشكوك فيه.
فإن قيل: ما ذكرتموه من دلائل عدم الانتقاض في الصور المذكورة معارض من ثمانية أوجه: الأول: وهو اختيار أبي الحسين البصري أن تخصيص العلة مما يمنع من كونها أمارة على الحكم في شيء من الفروع سواء ظن بها أنها جهة للمصلحة أو لم يكن ظن بها ذلك.
وبيان ذلك أنا إذا علمنا أن علة تحريم بيع الذهب بالذهب متفاضلاً هي كونه موزوناً ثم علمنا إباحة بيع الرصاص بالرصاص متفاضلاً مع أنه موزون لم يخل إما أن يعلم ذلك بعلة أخرى تقتضي إباحته أو بنص: فإن علمنا إباحته بعلة أخرى يقايس بها الرصاص على أصل مباح لكونه أبيض مثلاً فإنا عند ذلك لا نعلم تحريم بيع الحديد بالحديد متفاضلاً إلا بكونه موزوناً غير أبيض فإنا لو شككنا في كونه أبيض لم نعلم قبح بيعه متفاضلاً كما لو شككنا في كونه موزوناً فبان أنا لا نعلم بعد التخصيص تحريم شيء لكونه موزوناً فقط فبطل أن يكون الموزون وحده علة بل الموزون مع كونه غير أبيض وعلى هذا يكون الكلام فيما إذا دل على إباحة بيع الرصاص نص وسواء علمت علة الإباحة أو لم تعلم.
الثاني: قال بعض أصحابنا: اقتضاء العلة للحكم إما أن يعتبر فيه انتفاء المعارض أو لا يعتبر: فإن اعتبر لم تكن العلة علة الا عند انتفاء المعارض وذلك يقتضي أن الحاصل قبل انتفاء المعارض ليس هو تمام العلة بل بعضها.
وإن لم يعتبر فسواء حصل المعارض أو لم يحصل يكون الحكم حاصلا وذلك يقدح في كون المعارض معارضاً.
الثالث: أنه لا بد وأن يكون بين كون المقتضي مقتضياً اقتضاء حقيقياً بالفعل وبين كون المانع مانعاً حقيقياً بالفعل منافاة بالذات وشرط طريان أحد المتنافيين بالذات انتفاء الأول وليس انتفاء الأول لطريان اللاحق وإلا لزم الدور وحيث كان شرط كون المانع مانعاً خروج المقتضي عن كونه مقتضياً بالفعل لم يجز أن يكون خروجه عن كونه مقتضياً بالفعل لأجل تحقق والا لزم الدور فاذا المقتضي إنما خرج عن كونه مقتضياً لا بالمانع بل بذاته وقد انعقد الإجماع على أن ما يكون كذلك لا يصلح للعلية.
الرابع: أن الوصف وإن وجد مع الحكم في الأصل فقد وجد مع الحكم في صورة النقض مع عدم الحكم ووجوده مع الحكم لا يقتضي القطع بكونه علةً لذلك الحكم ووجوده مع عدم الحكم في صورة النقض يقتضي القطع بأنه ليس بعلة لذلك الحكم في تلك الصورة.
والوصف الحاصل في الفرع كما إنه مثل الوصف الحاصل في الأصل فهو مثل الوصف الحاصل في صورة النقض وليس إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر فلم يجز الحكم عليه بكونه علةً.(1/327)
الخامس قالوا: لا طريق إلى صحة العلة الشرعية سوى جريانها مع معلولها فإذا لم تجر معه لم يكن إلى صحتها طريق.
السادس قالوا: العلة الشرعية إذا دل الدليل على تعلق الحكم بها امتنع تخصيصها كالعلة العقلية.
السابع قالوا: العلة في القياس طريق إلى إثبات الحكم في الفرع فإذا وجدت العلة في نوعين امتنع أن تكون طريقاً إلى العلم بحكم أحدهما دون الآخر كما في الإدراكات والأدلة العقلية.
الثامن قالوا: لو جاز وجود العلة الشرعية في فروع يثبت الحكم معها في البعض دون البعض لم يكن البعض بالإثبات أولى من البعض الآخر.
وما ذكرتموه من دليل الانتقاض في الصورة الأخيرة معارض من أربعة أوجه: الأول إجماع الصحابة على ذلك ودليله ما روي عن ابن مسعود أنه كان يقول هذا حكم معدول به عن سنن القياس واشتهر ذلك فيما بين الصحابة من غير نكير فصار إجماعاً.
الثاني: أن العلة الشرعية أمارة على الحكم في الفرع ووجودها في موضع من غير حكم لا يخرجها عن كونها أمارةً فإنه ليس من شرط كون الأمارة أمارةً على شيء أن يكون ذلك الشيء ملازماً لها دائماً بدليل وجود جميع الأمارات الشرعية على إثبات الأحكام وإن لم تكن الأحكام ملازمةً لها قبل ورود الشرع وبدليل الغيم الرطب فإنه أمارة على وجود المطر وإن لم يكن المطر ملازماً له ولذلك فإن وقوف مركوب القاضي على باب الملك أمارة على كونه في دار الملك ولا يخرج في ذلك أمارة لوجوده في بعض الأوقات والقاضي غير موجود في دار الملك بأن يكون مركوبه مستعاراً وكذلك خبر الواحد فإنه أمارة على وجود الحكم وتخلف حكمه عند وجود النص الراجح المخالف له لا يخرجه عن كونه أمارة عليه عند عدم ذلك النص.
الثالث: أن العلة المستنبطة أمارة فجاز تخصيصها كالمنصوصة.
الرابع: أن كون الوصف أمارة على الحكم في محل إما أن يتوقف على كونه إمارةً على ذلك الحكم في محل آخر أو لا يتوقف: فإن توقف فإما أن لا يتعاكس الحال في ذلك أو يتعاكس: الأول محال لما فيه من الدور والثاني أيضاً محال لعدم الأولوية وإن لم يتوقف فهو المطلوب.
والجواب عن المعارضة الأولى من المعارضات الدالة على امتناع التخصيص: أنا وإن سلمنا أن علة القياس أمارة على حكم الفرع معرفة له وأنه إذا تخلف الحكم عنها في صورة أخرى للمعارض لا يمكن إثبات الحكم بها في فرع من الفروع دون العلم بانتفاء ذلك المعارض لها المتفق عليه ولكن لا يلزم أن يكون انتفاء المعارض من جملة المعرف للحكم بل المعرف للحكم إنما هو ما كان باعثاً عليه في الأصل.
وانتفاء المعارض انما توقف إثبات حكم الامارة عليه ضرورة أن الحكم لا يثبت مع تحقق المعارض النافي له فكان نفيه شرطاً في إثبات حكم الأمارة لا أنه داخل في مفهوم الأمارة.
وعن الثانية أنه وإن سلم أن اقتضاء العلة للحكم لا يتوقف على عدم المعارض فما المانع منه قولهم إنه يكون الحكم حاصلاً وإن حصل المعارض لا نسلم ذلك فإن العلة وان كانت مقتضيةً للحكم فإنما يلزم وجود الحكم أن لو انتفى المعارض الراجح أو المساوي وعلى هذا فلا يلزم من انتفى القدح في المعارض ولا في العلة.
وعن الثالثة لا نسلم المنافاة بين اقتضاء المقتضي واقتضاء المانع ولا استحالة الجمع بينهما وإن استحال الجمع بين حكميهما وعلى هذا فلا يلزم من تحقق المانع خروج المقتضي عن جهة اقتضائه لا بذاته ولا بغيره بخلاف المتنافيات بالذات.
وعن الرابعة أنه وإن كان وجود الوصف مع الحكم في الأصل لا يوجب القطع بكونه علةً لكنه يغلب على الظن كونه علة ووجوده مع عدم الحكم في صورة النقص لا نسلم أنه يقتضي القطع بأنه ليس بعلة لذلك الحكم بل الظن بالعلية باق بحاله وانتفاء الحكم إنما كان لوجود المعارض النافي للحكم على ما هو معلوم من قاعدة القائلين بتخصيص العلة.
وعن الخامسة لا نسلم أن اطراد العلة طريق إلى صحتها كما يأتي مفصلاً من كونه لا طريق سواه.(1/328)
وعن السادسة لا نسلم أن العلة العقلية يمتنع تخلف الحكم عنها بل ذلك جائز عند فوات القابل لحكمها كما بيناه في الكلاميات وإن سلمنا امتناع تخلف حكمها عنها فليس ذلك لدلالة الدليل على تعلق الحكم بها ولا لكونها علةً بل إنما كان ذلك بكونها مقتضيةً للحكم لذاتها وذلك غير متحقق في العلة الشرعية فإنها ليست مقتضيةً للحكم لذاتها وإنما هي علة بوضع الشارع لها أمارةً على الحكم في الفرع.
وعن السابعة أنه ليست العلة في امتناع الافتراق في الدليل العقلي المتعلق بمدلولين وامتناع الافتراق في الإدراك المتعلق بمدركين كونه طريقاً لا دليلاً بل لكون الدليل العقلي موجباً لذاته ولكون الإدارك مما يجب العلم بالمدرك عنده عادةً بخلاف العلل الشرعية على ما سبق.
وعن الثامنة أنه إنما اختص البعض بتخلف الحكم دون البعض لاختصاصه بمعارض لا تحقق له فيما كان الحكم ثابتاً فيه.
وعن المعارضة الأولى من المعارضات الدالة على التخصيص أنه لا دلالة لقول ابن مسعود على أن القياس الذي كان الحكم ثابتاً على خلافه أنه حجة فالإجماع على ذلك لا يكون مفيداً وإن كان حجةً لكن يمكن حمله على ما إذا كان تخلف الحكم عنه بطريق الاستثناء ويجب الحمل عليه جمعاً بين الأدلة.
وعن الثانية لا نسلم أن تخلف الحكم عن الأمارة من غير معارض لا يخرجها عن كونها أمارةً وذلك لأنه إما أن يكون كل ما توقف عليه التعريف في صورة كانت الأمارة أمارةً فيه قد تحقق في صورة تخلف الحكم أو لم يتحقق: فإن كان الأول فتخلف الحكم عنه ممتنع وإن كان الثاني فالموجود في صورة التخلف ليس هو الأمارة التي توقف عليها التعريف بل البعض منها وعلى هذا يكون تخريج كل ما ذكروه من الصور.
وعن الثالثة: بمنع كون المستنبطة مع تخلف الحكم عنها من غير معارض أمارةً.
وعلى هذا فلم يوجد الجامع بين الأصل والفرع وإن دلوا على كونها أمارةً مع التخصيص بطريق آخر فهو كاف في المطلوب وخروج عن خصوص هذه الدلالة.
وعن الرابعة: أن المختار مما ذكروه من الأقسام قسم التوقف من الطرفين.
قولهم: إن ذلك يفضي إلى الدور إنما يلزم إن لو توقف كون الأمارة في كل واحدة من الصورتين على كونها أمارةً في الصورة الأخرى توقف تقدم أما إذا كان ذلك بطريق المعية فلا كما عرف ذلك فيما تقدم والله أعلم.
المسألة التاسعة اختلفوا في الكسر هل هو مبطل للعلة أو لا ؟ اختلفوا في الكسروهو تخلف الحكم المعلل عن معنى العلة وهو الحكمة المقصوده من الحكم هل هو مبطل للعلة أو لا؟ وصورته ما لو قال الحنفي في مسألة العاصي بسفره مسافر فوجب أن يترخص في سفره كغير العاصي في سفره وبين مسافة السفر بما فيه من المشقة فقال المعترض: ما ذكرته من الحكمة وهي المشقة منتقضة فإنها موجودة في حق الحمال وأرباب الصنائع الشاقة في الحضر ومع ذلك فإنه لا رخصة والأكثرون على أن ذلك غير مبطل للعلة.
والوجه فيه أن الكلام إنما هو مفروض في الحكمة التي ليست منطبطةً بنفسها بل بضابطها وعند ذلك فلا يخفى أن مقدارها مما لا ينضبط بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال وما هذا شأنه.
فدأب الشارع فيه رد الناس إلى المظان الظاهرة الجلية دفعاً للعسر عن الناس والتخبط في الأحكام على ما قال تعالى: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " وعلى هذا فيمتنع التعليل بها دون ضابطها وإذا لم تكن علة فلا معنى لإيراد النقض عليها.
فإن قيل: المقصود من شرع الحكم إنما هو الحكمة دون ضابطها وعند ذلك فيحتمل أن يكون مقدار الحكمة في صورة النقض مساوياً لمقدارها في صورة التعليل ويحتمل أن يكون أزيد ويحتمل أن يكون أنقص.
وعلى تقدير المساواة والزيادة فقد وجد في صورة النقص ما كان موجوداً في صورة التعليل وإنما لا يكون موجوداً بتقدير أن يكون أنقض ولا يخفى أن ما يتم على تقديرين أغلب على الظن مما لا يتم إلا على تقدير واحد ومع ذلك فيظهر إلغاء ما ظن أن الحكم معلل به.
قلنا: الحكمة وإن كانت هي المقصودة من شرع الحكم لكن على وجه تكون مضبوطةً إما بنفسها أو بضابطها لما ذكرناه وما فرض من الحكمة في صورة النقض مجردةً عن ضابطها فامتنع كونها مقصودةً وبتقدير كونها مقصودةً فالنقض إنما هو من قبيل المعارض لدليل كونها معللاً بها.(1/329)
وعلى هذا فانتفاء الحكم مع وجود الحكمة في دلالته على إبطال التعليل بالحكمة مرجوح بالنظر إلى دليل التعليل بها وذلك لأنه من المحتمل أن يكون انتفاء الحكم في صورة النقص لمعارض ومع هذا الاحتمال فتخلف الحكم عنها لا يدل على إبطالها.
فإن قيل: بحثنا وسبرنا فلم نطلع على ما يصلح معارضاً في صورة النقص فيظهر أن انتفاءه لانتفاء العلة فهو معارض بقول المستدل بحثت في محل التعليل فلم أطلع على ما يصلح للتعليل سوى ما ذكرته فدل على التعليل به.
فإن قيل: بحثنا راجح لما فيه من موافقة انتفاء الحكم لانتفاء علته إذ هو الأصل نفياً للتعارض فهو معارض بما بحث المستدل من موافقة ما ظهر من دليل العلة من المناسبة والاعتبار فيتقاومان ويترجح كلام المستدل بأن مقدار الحكمة في صورة التعليل وإن كان مظنون الوجود في صورة النقض.
فيحتمل أن لا يكون موجوداً فيها وإلا كان مقطوعاً لا مظنوناً وهو موجود في صورة التعليل قطعاً مع قران الحكم به قطعاً وهو دليل العلية وما هو دليل البطلان موجودها في صورة النقض ظناً مع انتفاء الحكم قطعاً والمقطوع به من وجهين راجح على ما هو مقطوع من وجه ومظنون من وجه ولا يخفى أن مثل هذا الترجيح مما لا يتجه على النقض على المظنة فلذلك كان النقض لازماً على المظنة دون الحكمة.
فإن قيل: فلو فرض وجود الحكمة في صورة النقض قطعاً فما المختار فيه؟ قلنا: ذلك مما يمتنع وقوعه وبتقدير وقوعه فقد قال بعض أصحابنا: إنه لا الفتات إليه مصيراً منه إلى أن التوسل إلى معرفة ذلك في آحاد الصور بخفائه وندرته مما يلزم منه نوع عسر وحرج ولا يلزم مثله في التوسل إلى معرفة الضوابط الجلية فكان من المناسب حط هذه الكلفة عن المجتهد ورد الناس إلى الضوابط الجلية المشتملة على احتمال الحكم في الغالب.
ولقائل أن يقول: البحث عن الحكمة في آحاد الصور هل هي موجودة قطعاً وإن كان يفضي إلى العسر والحرج إلا أنا نعلم أن المقصود الأصلي من إثبات الأحكام ونفيها إنما هو الحكم والمقاصد.
فعلى تقدير وجود الحكمة في بعض الصور مماثلةً لها في محل التعليل قطعاً لو لم نقل بوجوب التعليل بها في غير محل التعليل لزم منه انتفاء الحكم مع وجود حكمته قطعاً وذلك ممتنع كما يمتنع إثبات الحكم مع انتفاء حكمته قطعاً فيما عدا الصورة النادرة وكذلك لو لم نقل بإلغائها عند تخلف الحكم عنها فيصح مع تيقنها فيلزم منه إثبات الحكم بها مع الضابط مع كونها ملغاة قطعاً ولا يخفى أن محذور إثبات الحكم لحكمة ألغاها الشارع أو نفي الحكم مع وجود حكمته يقيناً أعظم من المحذور اللازم للمجتهد من البحث عن الحكمة في آحاد الصور على ما لا يخفى.
وعلى هذا يكون الكلام فيما إذا فرض وجود الحكمة في صورة النقض أزيد منها في محل التعليل يقيناً لكن إن كان قد ثبت معها في صورة النقض حكم هو أليق بها بأن يكون وافياً بتحصيل أصل الحكمة وزيادة ولو رتب عليها في تلك الصورة الحكم المعلل كان فيه الإخلال بتلك الزيادة في صورة النقض فلا يكون ذلك نقضا للحكمة ولا إلغاء لها بل الواجب تخلف الحكم المعلل عنها وإثبات الحكم اللائق بها الوافي بتحصيل الزيادة لما فيه من رعاية أصل المصلحة وزيادتها فإنه أولى من رعاية أصل المصلحة وإلغاء الزيادة.
فإذاً انتفاء الحكم في هذه الصورة لا يدل على إلغاء الحكمة بل على اعتبارها بأصلها وصفتها ومثال ذلك ما إذا علل المستدل وجوب القطع قصاصاً بحكمة الزجر فقال المعترض مقصود الزجر في القتل العمد العدوان أعظم.
ومع ذلك فإنه لا يجب به القطع فللمستدل أن يقول: الحكمة في صورة النقض وإن كانت أزيد منها في محل التعليل غير أنه قد ثبت معها في صورة النقض حكم هو أليق بها وهو وجوب القتل.
المسألة العاشرة اختلفوا في النقض المكسور وهو النقض على بعض أوصاف العلة وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة بيع الغائب: مبيع مجهول الصفة عند العاقد حال العقد فلا يصح بيعه كما لو قال بعتك عبداً فقال المعترض هذا ينتقض بما لو تزوج امرأة لم يرها فإنها مجهولة الصفة عند العاقد لدى العقد ومع ذلك فإن النكاح يصح والأكثرون على رده وإبطاله.(1/330)
وذلك لأن التعليل إنما وقع بكونه مبيعاً مجهول الصفة لا بكونه مجهول الصفة فقط والمنكوحة ليست مبيعةً وإن كانت مجهولة الصفة وإبطال التعليل ببعض أوصاف العلة لا يكون إبطالاً بجملة العلة.
نعم إن بين المعترض أنه لا تأثير للوصف الذي وقع به الأحتراز عن النقص في الحكم لا بانفراده ولا مع ضميمة إلى الوصف الآخر فالمستدل بين أمرين بين أن يبقى مصراً على التعليل بمجموع الوصفين وبين أن يترك الكلام على التعليل بالوصف المنقوض: فإن كان الأول فقد بطل التعليل بما علل به لعدم التأثير لا بالنقض.
وإن كان الثاني فقد بطل التعليل بالنقض لكونه وارداً على كل العلة فإن قيل الوصف المحذوف وإن لم يكن مناسباً ولا له تأثير في إثبات الحكم المعلل لا بانفراده ولا مع ضميمة إلى غيره فلا يمتنع أخذه في التعليل لفائدة الاحتراز عن النقض وإنما يخرج عن التعليل إن لو تعرى عن الفائدة بالكلية وليست الفائدة منحصرةً في المناسبة على ما تقدم.
قلنا: فائدة الاحتراز به عن النقض متوقفة على كونه من أجزاء العلة حتى إنه لو لم يكن من أجزاء العلة لكانت العلة ما وراءه والنقض إذ ذاك يكون وارداً عليها وكونه من أجزاء العلة يتوقف على إمكان الاحتراز به عن النقض وهو دور ممتنع.
المسألة الحادية عشرة اختلفوا في اشتراط العكس في العلل الشرعية: فأثبته قوم ونفاه أصحابنا والمعتزلة.
وقبل الخوض في الحجاج لا بد من بيان أقسام العكس واختلاف الاصطلاحات فيه وتعيين محل النزاع منها فنقول: أما العكس في اللغة فمأخوذ من رد أول الأمر إلى آخره وآخره إلى أوله وأصله شد رأس البعير بخطامه إلى ذراعه.
وأما في اصطلاح الحكماء فهو عبارة عن جعل اللازم ملزوماً والملزوم لازماً مع بقاء كيفية القضية بحالها من السلب والإيجاب وذلك كقول القائل في عكس القضية الحملية إذا كانت موجبةً كليةً كقولنا كل إنسان حيوان أو جزئيةً كقولنا بعض الإنسان حيوان بعض الحيوان إنسان أو كليةً سالبةً كقولنا لا شيء من الإنسان بحجر لا شيء من الحجر بإنسان وعلى قياسه عكس القضية الشرطية.
وأما في اصطلاح الفقهاء والأصوليين فقد يطلق العكس باعتبارين: الأول: منهما مثل قول الحنفي: لما لم يجب القتل بصغير المثقل لم يجب بكبيره بدليل عكسه في المحدد وهو أنه لما وجب بكبير الجارح وجب بصغيره وهو باطل فإنه لا مانع من ورود الشارع بوجوب القصاص بكل جارح وإن تخصص وجوبه في المثقل بالكبير منه.
وأما الثاني فهو انتفاء الحكم عند انتفاء العلة والعكس بهذا الاعتبار هو المقصود بالخلاف هاهنا.
والمختار فيه إنما هو التفصيل وهو أن جنس الحكم المعلل إما أن لا يكون له سوى علة واحدة أو أنه معلل بعلل في كل صورة بعلة فإن كان الأول وذلك كتعليل جنس وجوب القصاص في النفس بالقتل العمد العدوان فإنه لا علة له سواه فلا شك في لزوم انتفائه عند انتفاء علته لا لأنه يلزم من نفي العلة الواحدة نفي الحكم بل لأن الحكم لا بد له من دليل ولا دليل.
وإن كان الثاني كما في تعليل إباحة الدم بالقتل العمد العدوان والردة عن الإسلام والزنى في الإحصان وقطع الطريق وتعليل نقض الوضوء بالمس واللمس والبول والغائط فلا شك أنه لا يلزم من انتفاء بعض هذه العلل نفي جنس الحكم لجواز وجود علة أخرى وإنما يلزم نفيه بتقدير انتفاء جميع العلل.
هذا في جنس الحكم المعلل وأما آحاد أشخاص الحكم في آحاد الصور فإنه يمتنع تعليله بعلتين على ما يأتي تقريره وإنما يكون معللاً بعلة واحدة على طريق البدل فلا يلزم من نفي العلة المعينة نفيه لجواز وجود بدلها لما سبق.
فإن قيل: وإن كان الحكم معللاً بعلة واحدة ولا علة له سواها في دليل عليه فكانت مشابهةً للدليل العقلي في العقليات ولا يلزم من نفي الدليل في العقليات نفي المدلول ولهذا فإن الصنعة دليل وجود الرب تعالى ولو قدر انتفاؤها لم يلزم منه انتفاء وجود الرب تعالى فكذلك العلة الشرعية.
قلنا: العلة وإن كانت دليل الحكم فلا نعني بانتفاء الحكم عند انتفائها انتفاءه في نفسه بل انتفاء العلم أو الظن به ضرورة توقف ذلك على النظر الصحيح في الدليل ولا دليل وكذلك الحكم في الصنعة مع الصانع.
المسألة الثانية عشرة اتفقوا على جواز تعليل الحكم بعلل في كل صورة بعلة(1/331)
واختلفوا في جواز تعليل الحكم الواحد في صورة واحدة بعلتين معاً: فمنهم من منع ذلك مطلقاً كالقاضي أبي بكر وإمام الحرمين ومن تابعهما ومنهم من جوز ذلك مطلقاً ومنهم من فصل بين العلل المنصوصة والمستنبطة فجوزه في المنصوصة ومنع منه في المستنبطة كالغزالي ومن تابعه.
والمختار إنما هو المذهب الأول وذلك لأنه لو كان معللاً بعلتين لم يخل إما أن تستقل كل واحدة بالتعليل أو أن المستقل بالتعليل إحداهما دون الأخرى أو أنه لا استقلال لواحدة منهما بل التعليل لا يتم إلا باجتماعهما.
لا جائز أن يقال بالأول لأن معنى كون الوصف مستقلاً بالتعليل أنه علة الحكم دون غيره ويلزم من استقلال كل واحدة منهما بهذا التفسير امتناع استقلال كل واحدة منهما وهو محال.
وإن كان الثاني أو الثالث فالعلة ليست إلا واحدةً وعلى هذا فلا فرق بين أن تكون العلة في محل التعليل بمعنى الباعث أو بمعنى الأمارة.
فإن قيل: نحن لا نفسر استقلال العلة بأن الحكم ثبت بها لا غير ليلزمنا ما قيل بل معنى استقلالها أنها لو انفردت لكان الحكم ثابتاً لها ولا أثر لانتفاء غيرها ولا يخفى وجه الفرق بينه وبين القسمين الآخرين سلمنا دلالة ما ذكرتموه على امتناع تعليل الحكم بعلتين على وجه تكون كل واحدة مستقلةً بالحكم لكنه معارض بما يدل على جوازه بالنظر إلى ما هو الواقع من أحكام الشرع وذلك أنا قد اتفقنا على ثبوت الحكم الواحد عقيب علل مختلفة كل واحدة قد ثبت استقلالها بالتعليل في صورة وعند ذلك فإما أن يقال: العلة منها واحدة أو الكل علة واحدة ذات أوصاف أو أن كل واحدة علة مستقلة: لا جائز أن يقال بالأول وإلا فهي معينة أو مبهمة: القول بالتعيين ممتنع لعدم الأولوية ولما فيه من خروج الباقي عن التعليل مع استقلال كل واحدة به وبهذا يبطل الإبهام.
والقسم الثاني أيضاً فلم يبق سوى القسم الثالث وهو الاستقلال ودليل ثبوت مثل هذه الأحكام الإجماع على إباحة قتل من قتل مسلماً قتلاً عمداً عدواناً وارتد عن الإسلام وزنى محصناً وقطع الطريق معاً وعلى ثبوت الولاية على الصغير المجنون وعلى امتناع نكاح من أولدته وأرضعته وعلى تحريم وطء الحائض المعتدة المحرمة وعلى انتقاض الوضوء بالمس واللمس والبول والغائط معاً.
والجواب عن الإشكال الأول أن الكلام إنما هو مفروض في حالة الاجتماع لا في حالة الانفراد والتقسيم في حالة الاجتماع فعلى ما سبق وأما الأحكام فالوجه في دفعها أن تقول أما إباحة قتل من قتل وارتد وزنى محصناً وقطع الطريق فالعلل وإن كانت فيه متعددة فالحكم أيضاً متعدد شخصاً وإن اتحد نوعاً.
ولذلك فإنه لا يلزم من انتفاء إباحة القتل بعد العود عن الردة إلى الإسلام انتفاء إباحة بباقي الأسباب الأخر ولا من انتفاء الإباحة بسبب إسقاط القصاص انتفاؤها بباقي الأسباب ويدل على تعدد الحكم أيضاً أن الإباحة بجهة القتل العمد العدوان حق للآدمي بجهة الخلوص.
ولذلك يتمكن من إسقاطه مطلقاً والإباحة بجهة الزنى والردة حق لله تعالى بجهة الخلوص دون الآدمي وذلك غير متصور في شيء واحد وعلى تقدير الاستيفاء فالمقدم حق الآدمي وهو الإباحة بجهة القصاص لأن حقه مبني على الشح والمضايقة وحق الله تعالى مبني على المسامحة والمساهلة من حيث إن الآدمي يتضرر بفوات حقه دون الباري تعالى.
وأما ثبوت الولاية على الصغير المجنون فمستندة إلى الصغر لسبقه على الجنون لكون الجنون لا يعرف إلا بعد حين وكذلك امتناع نكاح الوالدة المرضعة فإنه مستند إلى الولادة دون الرضاع لسبقها عليه.
وأما الوطء في حق الحائض المعتدة المحرمة فغير محرم على التحقيق وإنما المحرم في حق الحائض ملابسة الأذى وفي حق المعتدة تطويل العدة وفي حق المحرمة إفساد العبادة وهي أحكام متعددة لا أنها حكم واحد.
وأما المس واللمس وباقي الأسباب فالأحداث المرتبة عليها متعددة على رأي لنا.
وعلى هذا فلو نوى رفع حدث واحد منها لارتفع الباقي فأحكامها أيضاً متعددة لا أنها حكم واحد والنزاع إنما هو في تعليل الحكم الواحد بالشخص بعلتين لا في تعليل حكمين وعلى هذا فلا يخفى وجه التخريج لكل ما يرد من هذا القبيل.
المسألة الثالثة عشرة اختلفوا في العلة الواحدة الشرعية هل تكون علة لحكمين شرعيين أو لا؟(1/332)
والمختار جوازه وذلك لأن العلة إما بمعنى الأمارة أو الباعث.
فإن كانت بمعنى الأمارة فغير ممتنع لا عقلاً ولا شرعاً نصب أمارة واحدة على حكمين مختلفين وذلك مما لا نعرف فيه خلافاً كما لو قال الشارع: جعلت طلوع الهلال أمارةً على وجوب الصوم والصلاة ونحوه.
وأما إن كانت بمعنى الباعث فلا يمتنع أيضاً أن يكون الوصف الواحد باعثاً للشرع على حكمين مختلفين أي مناسباً لهما وذلك كمناسبة شرب الخمر للتحريم ووجوب الحد وكذلك التصرف بالبيع من الأهل في المحل المرئي فإنه مناسب لصحة البيع ولزومه.
فإن قيل: إذا كان الوصف مناسبا لأحد الحكمين فمعنى كونه مناسباً له أنه لو رتب ذلك الحكم عليه لحصل مقصوده.
وعلى هذا فيمتنع أن يكون مناسباً للحكم الآخر لأنه لو ناسبه لكان بمعنى أن ترتيبه عليه محصل للمقصود منه وفي ذلك تحصيل الحاصل لكونه حاصلاً به لحكم الآخر وأيضاً فإنه إذا كان الوصف الواحد مناسباً لحكمين مختلفين: فإما أن يناسبهما من جهة واحدة أو من جهتين مختلفتين: فإن كان الأول فهو ممتنع إذ الشيء الواحد لا يكون مناسباً لشيء من جهة ما يناسب مخالفه وإن كان الثاني فعلة الحكمين مختلفة لا أنها متحدة.
والجواب عن الأول أن معنى المناسب للحكم أعم مما ذكروه وذلك لأن المناسب ينقسم إلى ما ترتيب الحكم الواحد عليه يستقل بتحصيل مقصوده وذلك مما يمنع كونه مناسباً للحكمين بهذا التفسير وإلى ما يتوقف حصول مقصوده على ترتيب الحكم عليه وإن لم يكن ذلك الحكم وافياً بتحصيل المقصود دون الحكم الآخر.
وعلى هذا فامتناع مناسبة الوصف الواحد للحكمين بالتفسير الأول وإن كان لازماً فلا يمتنع أن يكون مناسباً للحكمين بالتفسير الثاني.
وعن الإشكال الثاني أنه إذا عرف أن معنى مناسبة الوصف للحكمين توقف حصول المقصود منه على شرع الحكمين فلا يمتنع أن يكون الوصف مناسباً لهما من جهة واحدة.
المسألة الرابعة عشرة إذا كانت العلة في أصل القياس بمعنى الباعث فشرطها أن تكون ضابط الحكمة المقصودة للشرع كما قررناه من إثبات الحكم أو نفيه بحيث لا يلزم منه إثبات الحكم مع تيقن انتفاء الحكمة في صورة وإلا كان فيه إثبات الحكم مع انتفاء الحكمة المطلوبة منه يقيناً وهو ممتنع ومثاله ما لو قيل بأن حكمة القصاص إنما هي صيانة النفس المعصومة عن الفوات فمن ضبط صيانة النفس عن الفوات بالجرح لا غير كما يقوله أبو حنيفة فيلزمه شرع القصاص في حق من جرح ميتاً ضرورة وجود الضابط مع تيقن انتفاء الحكمة أو نفي الحكم مع وجود علته وهو ممتنع.
فإن قيل: وإن لزم من ذلك إثبات الحكم في صورة بدون حكمة.
فذلك الضابط في الأصل المذكور إنما يمتنع الضبط به إن لو لم يكن له سوى حكمة واحدة وأما إذا جاز أن يكون الوصف الواحد ضابطاً في كل صورة لحكمة فانتفاء حكمة إحدى الصورتين عن الأخرى لا يوجب أن يكون ثبوت الحكم في الصورة التي انتفت عنها تلك الحكمة عرياً عن الفائدة بل يكون ثبوته بالحكمة الخاصة بتلك الصورة والضابط لها ولحكمة الحكم في الصورة الأخرى شيء واحد.
قلنا: إذا اتحد الضابط فاختصاصه في كل صورة بحكمة مخالفة للحكمة المختصة به في الصورة الأخرى إما أن يكون ذلك لذاته أو لمخصص مختص بتلك الصورة دون الصورة الأخرى.
لا جائز أن يقال بالأول وإلا لزم الاشتراك بين الصورتين في الحكمتين ضرورة اتحاد المستلزم لها.
وإن قيل بالثاني فما به التخصيص في كل واحدة من الصورتين ولا وجود له في الصورة الأخرى يكون من جملة الضابط فالضابط للحكمتين يكون مختلفاً وإن كان مركبا من الوصف المشترك وما به تخصصت كل صورة من المخصص الزائد.
المسألة الخامسة عشرة ذهب جماعة إلى إن شرط ضابط الحكمة أن يكون جامعاً بحيث لا توجد الحكمة يقينا في صورة دونه مصيراً منهم إلى أنه لو كان كذلك فلا يخلو إما أن يثبت الحكم في الصورة التي وجدت فيها الحكمة دون ذلك الضابط أو لا يثبت: فإن كان الأول فيلزم مه إدارة الحكم على الحكمة دون ضابطها وهو ممتنع لما فيه من الاستغناء عن الضابط لإمكان إثبات الحكم بالحكمة دونه.(1/333)
وإن كان الثاني فيلزم منه إهمال الحكمة مع العلم بأن الحكم لم يثبت إلا بها وهو ممتنع وصورة ذلك ضبط الحنفي العمدية باستعمال الجارح حيث إنه يلزم منه إهمال العمدية مع تيقن وجودها فيما إذا أدار حجر البزارة على رأسه أو ألقاه في بحر مغرق أو نار محرقة.
ولقائل أن يقول: ما ذكر من المحذور إنما يلزم إن لو امتنع تعليل الحكم في صورتين بعلتين وهو باطل لما سبق ومع جواز تعليل الحكم في صورتين بعلتين لا يمتنع أن تكون حكمة الحكم في الصورتين واحدة ولها في كل صورة ضابط بحسب تلك الصورة وذلك لا يجر إلى إهمال الحكمة ولا إلى إلغاء الضابط.
المسألة السادسة عشرة اختلفوا في جواز تعليل حكم الأصل بعلة متأخرة عن ذلك الحكم في الوجود وذلك كتعليل إثبات الولاية للأب على الصغير الذي عرض له الجنون بالجنون فإن الولاية ثابتة قبل عروض الجنون.
والمختار امتناعه وذلك لأن علة حكم الأصل إما أن تكون بمعنى الباعث أو بمعنى الأمارة المعرفة له.
فإن كان الأول فيلزم من تأخر العلة عن الحكم في الوجود أن يكون الحكم ثابتاً قبل ذلك إما لا بباعث أو بباعث غير العلة المتأخرة عنه لاستحالة ثبوت الحكم بباعث لا تحقق له مع الحكم.
وإن كان الثاني فهو ممتنع لوجهين: الأول: ما بيناه من امتناع كون العلة في الأصل بمعنى الأمارة.
الثاني: أنها وإن كانت بمعنى الأمارة فإنما هو في تعريف الحكم وقد عرف قبلها ضرورة سبقه في الوجود عليها وتعريف المعروف محال.
فإن قيل: ما ذكرتموه إنما يستقيم بتقدير امتناع تعليل الحكم الواحد بعلتين وإلا فبتقدير تعليله بعلتين فلا يمتنع تعليله بعلة موجودة معه وعلة متأخرة عنه.
قلنا: أما أولاً فقد بينا امتناع تعليل الحكم بعلتين في صورة واحدة وبتقدير جواز ذلك فإنما يجوز لتقدير أن لا تكون إحدى العلتين متقدمة على الأخرى لما بيناه فيما تقدم.
المسألة السابعة عشرة إذا كان الحكم في الأصل نفياً والعلة له وجود مانع أو فوات شرط فقد اختلفوا في اشتراط وجود المقتضي لإثباته.
والمختار اشتراطه وذلك لأن الأحكام إنما شرعت لمصالح الخلق فما لا فائدة في إثباته فلا يشرع فانتفاؤه يكون لانتفاء فائدته وسواء وجدت ثم حكمة تقتضي نفيه أو لم توجد وفرق بين انتفاء الحكم لانتفاء فائدته وبين انتفائه لوجود فائدة نافية له.
وإذا كان كذلك فما لم يوجد المقتضي للإثبات كان نفي الحكم للمانع أو لفوات الشرط ممتنعاً.
فإن قيل: لا خفاء بأن وجود المقتضب من قبيل المعارض لوجود المانع وفوات الشرط فإذا استقل المانع وفوات الشرط بنفي الحكم مع وجود ما يعارضه ويكسر سورته فلأن يستقل بالنفي مع انتفاء المعارض كان أولى وأيضاً فإنا لو اشترطنا وجود المقتضي فيلزم منه التعارض بينه وبين المانع أو فوات الشرط والتعارض على خلاف الأصل لما فيه من إهمال أحد الدليلين.
وعند انتفاء المقتضي لو أحلنا نفي الحكم على نفي المقتضى مع تحقق ما يناسب نفي الحكم من المانع أو فوات الشرط لزم منه إهمال مناسبة المانع وفوات الشرط مع اقتران نفي الحكم به وهو خلاف الأصل.
قلنا: جواب الإشكال الأول أنه لا يلزم من انتفاء الحكم بالمانع وفوات الشرط مع وجود المقتضي المشترط في إعماله لما بيناه انتفاؤه له مع فوات شرط إعماله.
وجواب الثاني: أنه وإن لزم من وجود المقتضي التعارض بينه وبين المانع أو فوات الشرط فهو أهون من نفيه لوجود المانع مع فوات شرط إعماله على ما حققناه.
ولهذا كان نفي الحكم بالمانع وفوات الشرط مع وجود المقتضي متفقاً عليه بين القائلين بتخصيص العلة ومختلفاً فيه مع انتفاء المقتضي وبتقدير انتفاء المقتضي فنفي الحكم له دون ما ظهر من المانع وفوات الشرط وإن أفضى إلى إلغاء مناسبة المانع وفوات الشرط مع اعتباره إلا أنه أولى من انتفائه للمانع أو فوات الشرط.
ولهذا وقع الاتفاق من الكل على استقلاله بالنفي عند عدم المعارض ووقع الخلاف في استقلال المانع وفوات الشرط بالنفي مع القائلين بامتناع تخصيص العلة فكان النفي له أولى.(1/334)
ولا يمكن أن يقال بإحالة النفي على نفي المقتضي والمانع معاً لأنه معا لأنه لا يخلو إما أن يكون كل واحد مستقلاً بالنفي أو أن المقتضي للنفي الهيئة الاجتماعية منهما وهما بمنزلة أجزاء العلة النافية لا سبيل إلى الأول لما بيناه من امتناع تعليل الحكم الواحد في صورة واحدة بعلتين مستقلتين ولا سبيل إلى الثاني لأن نفي المقتضي بتقدير انتفاء معارضه مستقل بالنفي إجماعاً وفيه إخراج المستقل عن الاستقلال وهو ممتنع.
وإذا ثبت أنه لا بد في التعليل بالمانع وفوات الشرط من وجود المقتضي فلا بد من بيانه بطريق تفصيلي يدل على وجوده وعليته بما يساعد من الأدلة وإن اتفق أن كان الشارع قد نص على نفي الحكم فهو دليل ظاهر على وجود المقتضى لأنه لو لم يكن المقتضي موجوداً كانت فائدة التنصيص على النفي التأكيد لاستقلال نفي المقتضي بالنفي.
والأصل أن يحمل كلام الشارع على فائدة التأسيس لكونها أصلاً وإنما يتم ذلك بالنظر إلى وجود المقتضي.
فإن قيل: اعتقاد وجود المقتضي حملاً للكلام على فائدة التأسيس يلزم منه نفي الحكم مع وجود ما يقتضيه وهو خلاف الأصل وليس مخالفة محذور مخالفة المقتضى مع كونه خلاف الأصل دفعاً لمحذور حمل الكلام على فائدة التأكيد أولى من العكس.
قلنا: بل المحذور اللازم من نفي الحكم مع وجود ما يقتضيه مخالفة المقتضي لا غير وهو غالب في الشرع ومحذور التأكيد مع كونه نادراً فيه مخالفة ما ظهر من مناسبة المانع واعتباره مع أن الغالب من حال الشارع اعتبار المناسبات لا إلغاؤها.
ولا يخفى أن التزام محذور عهد التزامه في الشرع غالباً وليس فيه التزام محذور آخر أولى من التزام محذور لم يعهد التزامه في الشرع غالباً وفيه التزام محذور آ خر.
المسألة الثامنة عشرة يجب أن تكون العلة المستنبطة من الحكم المعلل بها مما ترجع عليه بالإبطال يجب أن لا تكون العلة المستنبطة من الحكم المعلل بها مما ترجع على الحكم الذي استنبطت منه بالإبطال وذلك كتعليل وجوب الشاة في باب الزكاة بدفع حاجة الفقراء لما فيه من رفع وجوب الشاة وأن ارتفاع الأصل المستنبط منه يوجب إبطال العلة المستنبطة منه ضرورة توقف عليتها على اعتبارها به وأن لا تكون طرديةً محضةً كالطول والقصر والسواد والبياض ونحوه لما بيناه من أن العلة في الأصل لا تكون إلا بمعنى الباعث والوصف الطردي لا يكون باعثاً ولأن الحكم في الفرع إنما يثبت بما غلب على الظن أن الحكم في الأصل ثابت له وذلك غير متصور في الوصف الطردي وأن لا يكون لها في الأصل معارض لا تحقق له في الفرع لما يأتي تقريره وأن لا تكون مخالفة للنص الخاص أو للإجماع وهذا كله من الشروط المتفق عليها.
وقد اشترط فيها أن لا تكون مخصصةً لعموم القرآن وقد أبطلناه فيما تقدم وأن لا تعارضها علةً أخرى تقتضي نقيض حكمها وإنما يصح ذلك أن لو كانت العلة المعارضة لها راجحةً عليها وممتنعة التخصيص وقد عرف ما في ذلك وأن لا تتضمن زيادة على النص وإنما يصح ذلك أن لو كانت الزيادة منافيةً لمقتضى النص وأن تكون منتزعةً من أصل مقطوع بحكمه وليس كذلك لما بيناه من جواز القياس على أصل حكمه ثابت بدليل مظنون وأن لا تكون مخالفةً لمذهب الصحابي وليس كذلك لجواز أن يكون مذهب الصحابي مستنداً إلى علة مستنبطة من أصل آخر إلا أن تكون علته مع ظهورها راجحة وأن يكون وجودها في الفرع مقطوعاً به وليس كذلك لأن وجودها أحد ما يتوقف عيه الحكم في الفرع فكان الظن كافياً فيه كما في وجودها في الأصل وفي كونها علةً وفي نفي المعارض عنها في الأصل والفرع وبالجملة فهذه الشروط في محل الاجتهاد.
المسألة التاسعة عشرة اتفقوا على أن نصب الوصف سبباً وعلة من الشارع وأن دليله لا بد وأن يكون شرعياً وسواء كان كونه سبباً وعلةً وحكماً شرعياً أو لم يكن كما سبق وجه الكلام فيه وإنما اختلفوا في الدليل الدال على العلة الجامعة في القياس: فذهب بعض أصحابنا إلى أن شرطه أن لا يكون متناولاً لإثبات الحكم في الفرع وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة الفواكه مطعوم فجرى فيه الربا قياسا على البر ثم دل على كون الطعم علة بقوله عليه السلام: " لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل " فإنه وإن كان دليلاً على كون الطعم علةً بالإيماء فهو دليل على تحريم الربا في الفواكه بعمومه.(1/335)
وربما كان الدليل الدال على العلة متناولاً لحكم الفرع بخصوصه دون حكم الأصل وذلك كما لو قال الحنفي في مسألة الخارج من غير السبيلين خارج نجس فينفض الوضوء كالخارج من السبيلين.
ثم دل على كون الخارج النجس علةً للنقض بقوله عليه السلام: " من قاء أو رعف أو أمذى فليتوضأ وضوءه للصلاة " فإن القيء والرعاف والمذي من حيث هو خارج نجس مناسب لنقض الوضوء فترتيب الحكم عليه في كلام الشارع يدل على التعليل به كما يأتي في طرق إثبات العلة ولكنه مع ذلك متناول لإثبات حكم الفرع بخصوصه دون حكم الأصل وإنما شرطوا امتناع ذلك مصيراً منهم إلى أنه إذا كان دليل العلة يستقل بالدلالة على الحكم المتنازع فيه فالاستدلال بالعلة على الحكم على وجه لا بد من إثباتها بدليل يستقل بإثبات الحكم المتنازع فيه يكون تطويلاً بلا فائدة فليعدل إليه أولاً.
ولقائل أن يقول: الاستدلال بالعلة المثبتة بالنص المتناول لحكم الفرع وإن أفضى إلى التطويل فحاصله يرجع إلى مناقشة جدلية وليس ذلك مما يقدح في صحة القياس المذكور ولا يكون قادحاً في المقصود وقد ينقدح عنه جواب آخر في بعض الصور وهو عند ما إذا كان العام الدال على حكم الفرع قد خص في صورة وكان المستدل ممن يرى أن العام بعد التخصيص لا يبقى حجة إلا في أقل الجمع فله أن يقول: إنما لم أتمسك بعموم النص في إثبات حكم الفرع لعدم مساعدة الدليل على إدراج الفرع فيه وذلك لا يمنع من التمسك به في إثبات العلة ولو في صورة واحدة ومهما كان كذلك لزم إثبات الحكم بتلك العلة في أي صورة وجدت ولذلك وقع التمسك به في إثبات العلة دون الحكم.
المسألة العشرون اختلف الشافعية والحنفية في حكم أصل القياس المنصوص عليه هل هو ثابت بالعلة أو النص؟ فقالت الشافعية إنه ثابت بالعلة وقالت الحنفية إنه ثابت بالنص محتجين على ذلك بأمور ثلاثة: الأول: أن الحكم في الأصل مقطوع به والعلة المستنبطة منه مظنونة والمقطوع به لا يكون ثابتاً بالمظنون.
الثاني: أن العلة مستنبطة من حكم الأصل ومتفرعة عليه وتابعة له في الوجود فلو كان الحكم ثابتا بها لكان الأصل ثابتاً بما لا ثبوت له دون ثبوته وهو دور.
الثالث: أنه قد يثبت الحكم تعبداً من غير علة فلو كان ثابتا بالعلة لما ثبت مع عدمها.
واعلم أن الخلاف في هذه المسألة آئل إلى اختلاف في اللفظ وذلك أن قول أصحابنا بأن الحكم ثابت بالعلة لا يريدون به أن العلة معرفة له بالنسبة إلينا ضرورة أنها مستنبطة منه وأنها لا تعرف دون معرفته وإنما يريدون به أنها الباعثة للشارع على إثبات الحكم في الأصل وأنها التي لأجلها أثبت الشارع الحكم وأصحاب أبي حنيفة غير منكرين لذلك وحيث قالت الحنفية إن العلة غير مثبتةً للحكم لم يريدوا بذلك أنها ليست باعثةً وإنا أرادوا بذلك أنها غير معرفة لحكم الأصل بالنسبة إلينا وأصحابنا غير منكرين لذلك فلا خلاف في المعنى بل في اللفظ.
القسم الثالث
في شروط الفرع وهي خمسة
الشرط الأول أن يكون خالياً عن معارض راجح يقتضي نقيض ما اقتضته علة القياس على رأي القائلين بجواز تخصيص العلة ليكون القياس مفيداً.
الشرط الثاني: أن تكون العلة الموجودة فيه مشاركةً لعلة الأصل إما في عينها كتعليل تحريم شرب النبيذ بالشدة المطربة المشتركة بينه وبين الخمر أو في جنسها كتعليل وجوب القصاص في الأطراف بجامع الجناية المشتركة بين القطع والقتل لأن القياس على ما تقدم إنما هو تعدية حكم الأصل إلى الفرع بواسطة علة الأصل.
فإذا لم تكن علة الفرع مشاركةً لها في صفة عمومها ولا خصوصها فلم تكن علة الأصل في الفرع فلا يمكن تعدية حكم الأصل إلى الفرع.
الشرط الثالث: أن يكون الحكم في الفرع مماثلاً لحكم الأصل في عينه كوجوب القصاص في النفس المشترك بين المثقل والمحدد أو جنسه كإثبات الولاية على الصغيرة في نكاحها قياساً على إثبات الولاية في مالها فإن المشترك بينهما إنما هو جنس الولاية لا عينها ولو لم يكن كذلك لكان القياس باطلاً.
وذلك لأن شرع الأحكام لم يكن مطلوباً لذاته بل لما يفضي إليه من مقاصد العبد وسواء ظهر المقصود أم لم يظهر.
فإذا كان حكم الفرع مماثلاً لحكم الأصل علمنا أن ما يحصل به من المقصود مثل ما يحصل من حكم الأصل ضرورة اتحاد الوسيلة فيجب إثباته.(1/336)
وأما إذا كان حكم الفرع مخالفاً لحكم الأصل مع أنه الوسيلة إلى تحصيل المقصود فإفضاؤه إلى الحكمة المطلوبة يجب أن يكون مخالفاً لإفضاء حكم الأصل إليها والمخالفة بينهما من الإفضاء إما أن تكون بزيادة في إفضاء حكم الأصل إليها أو في إفضاء حكم الفرع: فإن كان الأول: فلا يلزم من شرع الحكم في الأصل رعايةً لأصل المقصود وزيادة الإفضاء إليه شرع حكم الفرع تحصيلاً لأصل المقصود دون زيادة الإفضاء إليه لأن زيادة الإفضاء إلى المقصود مقصودة في نظر العقلاء وأهل العرف.
وإن كان الثاني: فهو ممتنع لأنا أجمعنا على امتناع ثبوت مثل حكم الفرع في الأصل.
وعند ذلك فتنصيص الشارع على حكم الأصل دون حكم الفرع يدل على أن حكم الأصل أفضى إلى المقصود من حكم الفرع وإلا فلو كان حكم الفرع أفضى إلى المقصود من حكم الأصل لكان أولى بالتنصيص عليه فإن قيل ما ذكرتموه فرع تصور الاختلاف في الأحكام الشرعية وليس كذلك وذلك لأن حكم الله هو كلامه وخطابه وذلك مما لا اختلاف فيه وإنما الاختلاف في تعلقاته ومتعلقاته.
وحكم الشارع بالوجوب لا يخالف حكمه بالتحريم من حيث هو حكم الله وكلامه وإن وقع الاختلاف في أمر خارج كالذم على الفعل والذم على الترك بسبب اختلاف محل الخطاب ولا يخفى أن اختلاف محل الخطاب غير موجب لاختلاف الحكم في نفسه بدليل اشتراك الصوم والصلاة في حكم الوجوب والقتل والزنى في التحريم.
وإن سلمنا تصور الاختلاف في نفس الحكم الشرعي ولكن ما المانع أن يكون إفضاء حكم الفرع إلى المقصود أتم من إفضاء حكم الأصل إليه.
قولكم: لو كان كذلك لكان التنصيص عليه في الأصل أولى إنما يلزم أن لو لم تكن فائدة التنصيص على حكم الأصل لقصد التنبيه بالأدنى على الأعلى وبتقدير أن لا يكون ذلك مقصوداً للشارع فإنما لم ينص عليه لاحتمال أن يكون ذلك لمانع مختص به لا وجود له في حكم الأصل.
والجواب عن السؤل الأول: أنه ليس حكم الشارع عبارةً عن مطلق كلامه وخطابه ليصح ما قيل بل الخطاب المقيد بتعلق خاص كما بيناه في حد الحكم وإذا كان التعلق داخلاً في مفهوم الحكم فالتعلقات مختلفة ويلزم من اختلافها اختلاف الأحكام.
وعن الثاني: أنه لو كانت فائدة تخصيص حكم الأصل بالتنصيص عليه التنبيه به على حكم الفرع لكان حكم الفرع ثابتاً بمفهوم الموافقة لا بالقياس ولجاز إثباته في الأصل وهو ممتنع.
قولهم: إنما لم ينص عليه لاحتمال اختصاصه بمانع.
قلنا: المانع إما أن يكون من لوازم صورة الأصل أو من لوازم مثل حكم الفرع أو من لوازم اجتماع الأمرين: فإن كان الأول فيلزم منه امتناع إثبات حكم الأصل في الأصل بطريق الأولى ضرورة كون مقصوده أدنى من مقصود حكم الفرع على ما وقع به الفرض.
وإن كان الثاني فيلزم منه امتناع ثبوته في الفرع أيضاً ضرورة أن ما هو المانع من إثباته في الأصل من لوازم نفس ذلك الحكم وإن كان الثالث فالأصل عدمه.
الشرط الرابع: أن لا يكون حكم الفرع منصوصاً عليه وإلا ففيه قياس المنصوص على المنصوص وليس أحدهما بالقياس على الآخر أولى من العكس وهذا مما لا نعرف خلافاً بين الأصوليين في اشتراطه.
الشرط الخامس أن لا يكون حكم الفرع متقدماً على حكم الأصل وذلك كما لو قاس الشافعي الوضوء على التيمم في الافتقار إلى النية لأنه يلزم منه أن يكون الحكم في الفرع ثابتاً قبل كون العلة الجامعة في قياسه علة ضرورة كونها مستنبطةً من حكم متأخر عنه اللهم إلا أن يذكر ذلك بطريق الإلزام للخصم لا بطريق مأخذ القياس.
وقد شرط قوم أن يكون الحكم في الفرع ثابتاً بالنص جملة لا تفصيلاً وهو باطل فإن الصحابة قاسوا قوله: أنت علي حرام على الطلاق واليمين والظهار ولم يوجد في الفرع نص لا جملة ولا تفصيلاً.
الباب الثاني في مسالك إثبات العلة الجامعة في القياس
المسلك الأول:
الإجماع
وهو أن يذكر ما يدل على إجماع الأمة في عصر من الأعصار على كون الوصف الجامع علةً لحكم الأصل إما قطعاً أو ظناً فإنه كاف في المقصود وذلك كإجماعهم على كون الصغر علةً لثبوت الولاية على الصغير في قياس ولاية النكاح على ولاية المال.(1/337)
فإن قيل: فإذا كانت العلة مجمعاً عليها قطعاً فكيف يسوغ الخلاف معها في مسائل الاجتهاد؟ قلنا بأن يكون وجودها ظنياً في الأصل أو الفرع وأما إن كان وجودها فيهما مع كونها مقطوعاً بعليتهما فلا.
المسلك الثاني:
النص الصريح
وهو أن يذكر دليل من الكتاب أو السنة على التعليل بالوصف بلفظ موضوع له في اللغة من غير احتياج فيه إلى نظر واستدلال وهو قسمان: الأول: ما صرح فيه بكون الوصف علةً أو سبباً للحكم الفلاني وذلك كما لو قال: العلة كذا أو السبب كذا.
القسم الثاني: ما ورد فيه حرف من حروف التعليل كاللام والكاف ومن وإن والباء.
أما اللام فكقوله تعالى: " أقم الصلاة لدلوك الشمس " الإسراء 78 أي زوال الشمس.
وكقوله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " الذاريات 56 وكقوله عليه السلام: " كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة " أي القوافل السيارة وذلك يدل على التعليل بالوصف الذي دخلت عليه اللام لتصريح أهل اللغة بأنها للتعليل.
وأما الكاف فكقوله تعالى: " كيلا يكون دولة بين الأغنياء " الحشر 7 أي كي لا تبقى الدولة بين الأغنياء بل تنتقل إلى غيرهم.
وأما من فكقوله تعالى: " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل " المائدة 32 وأما إن فكقوله عليه السلام في قتلى أحد زملوهم بكلومهم فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك وكقوله عليه السلام في حق محرم وقصت به ناقته لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيباً فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً.
وأما الباء فكقوله تعالى: " جزاء بما كانوا يعملون " .
فهذه هي الصيغ الصريحة في التعليل وعند ورودها يجب اعتقاد التعليل إلا أن يدل الدليل على أنها لم يقصد بها التعليل فتكون مجازاً فيما قصد بها وذلك في اللام كما لو قيل: لم فعلت كذا؟ فقال: لأني قصدت أن أفعل وكما في قول القائل: أصلي لله وقول الشاعر: لدوا للموت وابنوا للخراب فقصد الفعل لا يصلح أن تكون علة للفعل وغرضاً له.
وكذلك ذات الله تعالى لا تصلح أن تكون علةً للصلاة ولا الموت علةً للولادة ولا الخراب علةً للبناء بل علة الفعل ما يكون باعثاً على الفعل وهي الأشياء التي تصلح أن تكون بواعث.
وكما في قوله تعالى: " يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين " الحشر 2 " ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله " الأنفال 13 وليس كل من شاق الله ورسوله يخرب بيته فليست المشاقة علة لخراب البيت اللهم إلا أن يحمل لفظ الخراب على استحقاق الخراب أو على استحقاق العذاب فإنه يكون معللاً بالمشاقة.
المسلك الثالث:
ما يدل على العلية بالتنبيه والإيماء.
وذلك بأن يكون التعليل لازماً من مدلول اللفظ وضعاً لا أن يكون اللفظ دالاً بوضعه على التعليل وهو ستة أقسام.
الأول ترتيب الحكم على الموصف بفاء التعقيب والتسبيب في كلام الله أو رسوله أو الراوي عن الرسول.
أما في كلام الله تعالى فكما في قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " المائدة 38 " واذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم " المائدة 6.
وأما في كلام رسوله فكقوله عليه السلام " من أحيا أرضاً ميتةً فهي له " وقوله " ملكت نفسك فاختاري " .
وأما في كلام الراوي فكما في قوله: سها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فسجد وزنى ماعز فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في جميع هذه الصور يدل على أن ما رتب عليه الحكم بالفاء يكون علةً للحكم لكون الفاء في اللغة ظاهرةً في التعقيب.
ولهذا فإنه لو قيل جاء زيد فعمرو فإن ذلك يدل على مجيء عمرو عقيب مجيء زيد من غير مهلة ويلزم من ذلك السببية لأنه لا معنى لكون الوصف سبباً إلا ما ثبت الحكم عقيبه وليس ذلك قطعاً بل ظاهراً لأن الفاء في اللغة قد ترد بمعنى الواو في إرادة الجمع المطلق وقد ترد بمعنى ثم في إرادة التأخير مع المهلة كما سبق تعريفه.(1/338)
غير أنها ظاهرة في التعقيب بعيدة فيما سواه وهذه الرتب متفاوتة فأعلاها ما ورد في كلام الله تعالى ثم ما ورد في كلام رسوله ثم ما ورد في كلام الراوي وسواء كان فقهياً أو لم يكن لكنه إن كان فقيهاً كان الظن بقوله أظهر وإذا لم يكن فقيهاً وإن كان في أدنى الرتب غير أنه مغلب على الظن لأنه إذا قال سها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد فالظاهر من حاله مع كونه متديناً عالماً بكون الفاء موضوعةً للتعقيب أنه لو لم يفهم أن السهو سبب للسجود وإلا لما رتب السجود على السهو بالفاء لما فيه من التلبيس بنقل ما يفهم منه السببية ولا يكون سبباً بل ولما كان تعليقه للسجود بالسهو أولى من غيره.
القسم الثاني ما لو حدثت واقعة فرفعت إلى النبي عليه السلام فحكم عقيبها بحكم فإنه يدل على كون ما حدث علة لذلك الحكم.
وذلك كما روي أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: هلكت وأهلكت فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا صنعت؟ فقال واقعت أهلي في نهار رمضان عامداً فقال له عليه السلام: اعتق رقبة فإنه يدل على كون الوقاع علةً للعتق.
وذلك لأنا نعلم أن الأعرابي إنما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن واقعته لبيان حكمها شرعاً وأن النبي عليه السلام إنما ذكر ذلك الحكم في معرض الجواب له لا أنه ذكره ابتداء منه لما فيه من إخلاء السؤال عن الجواب وتأخير البيان عن وقت الحاجة وكل ذلك وإن كان ممكناً إلا أنه على خلاف الظاهر.
وإذا كان ذلك جواباً عن سؤاله فالسؤال الذي عنه الجواب يكون ذكره مقدراً في الجواب في كلام المجيب فيصير كأنه قال: واقعت فكفر وقد عرف أن الوصف إذا رتب الحكم عليه في كلام الشارع بفاء التعقيب تحقيقاً فإنه يكون علة فكذلك إذا كان الحكم مرتبا عليه بفاء التعقيب تقديراً.
ولهذا كان هذا القسم ملحقاً بالقسم الذي قبله وإن كان دونه في الظهور والدلالة لكون الفاء فيه مقدرةً وفي الأول محققةً ولاحتمال أن يكون قد بدأ به لا عن قصد الجواب وذلك كما لو قال العبد لسيده: قد طلعت الشمس أو غربت.
فقال له: اسقني ماء فإنه لا يفهم منه الجواب لسؤاله ولا التعليل بل هو أمر له ابتداء بسقي الماء وعدول عن السؤال بالكلية إما لذهوله عن السؤال أو لعدم الالتفات اليه لعدم تعلق الغرض به غير أن هذا الاحتمال وإن كان منقدحاً هاهنا فهو بعيد في حق النبي عليه السلام فيما فرض السؤال عنه إذ الغالب عدم الذهول وأنه إنما قصد الجواب حتى لا يكون مؤخراً للبيان عن وقت الحاجة مع كونه خلاف الظاهر.
القسم الثالث: أن يذكر الشارع مع الحكم وصفاً لو لم يقدر التعليل به لما كان لذكره فائدة ومنصب الشارع مما ينزه عنه وذلك لأن الوصف المذكور إما أن يكون مذكوراً مع الحكم في كلام الله تعالى أو كلام رسوله.
فإن كان في كلام الله تعالى وقدرنا أنه لو لم يقدر التعليل به فذكره لا يكون مفيداً ولا يخفى أن ذلك غير جائز في كلام الله تعالى إجماعاً نفياً لما لا يليق بكلامه عنه.
وإن كان ذلك في كلام رسوله فلا يخفى أن الأصل إنما هو انتفاء العبث عن العاقل في فعله وكلامه ونسبة ما لا فائدة فيه إليه لكونه عارفاً بوجوه المصالح والمفاسد فلا يقدم في الغالب على ما لا فائدة فيه واذا كان ذلك هو الظاهر من آحاد العقلاء فمن هو أهل للرسالة عن الله تعالى ونزول الوحي عليه وتشريع الأحكام أولى.
وإذا عرف ذلك فيجب اعتقاد كون الوصف المذكور في كلامه مع الحكم علة له.
وهذا القسم على أصناف وذلك لأن الشارع إما أن يذكر ذلك ابتداء من غير سؤال أو بعد السؤال.
فإن كان من غير سؤال فهو الصنف الأول وذلك كما في حديث ابن مسعود ليلة الجن حيث توضأ عليه السلام بماء كان قد نبذ فيه تميرات لاجتناب ملوحته فقال: ثمرة طيبة وماء طهور فإنه يدل على جواز الوضوء به وإلا كان ذكره ضائعاً لكون ما ذكر ظاهراً غير محتاج إلى بيان.(1/339)
وان كان مع السؤال فلا يخلو إما أن يذكر ذلك الوصف في محل السؤال أو في غيره: فإن كان في محل السؤال فهو الصنف الثاني وذلك كما روي عنه عليه السلام أنه سئل عن جواز بيع الرطب بالتمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا: نعم فقال: فلا إذا " فهذا وإن فهم منه أن النقصان علة امتناع بيع الرطب بالتمر من ترتيبه الحكم على الوصف بالفاء واقترانه بحرف إذا وهي من صيغ التعليل غير أنا لو قدرنا انتفاء هذين لبقي فهم التعليل بالنقصان بحاله نظراً إلى أنه لو لم يقدر التعليل به لكان ذكره والاستفسار عنه غير مفيد.
وإن كان في غير محل السؤال وهو أن يعدل في بيان الحكم إلى ذكر نظير لمحل السؤال فهو الصنف الثالث وذلك كما روي عنه عليه السلام أنه لما سألته الجارية الخثعمية وقالت: يا رسول الله إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج فإن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال عليه السلام: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك؟ فقالت: نعم قال: فدين الله أحق بالقضاء.
فالخثعمية إنما سألت عن الحج والنبي عليه السلام ذكر دين الآدمي والحج من حيث هو دين نظير لدين الآدمي فذكره لنظير المسؤول عنه مع ترتيب الحكم عليه يدل على التعليل به وإلا كان ذكره عبثاً.
ويلزم من كون نظير الواقعة علةً للحكم المرتب عليها أن يكون المسؤول عنه أيضاً علةً لمثل ذلك الحكم ضرورة المماثلة وما مثل هذا يسميه الأصوليون التنبيه على أصل القياس فكأنه نبه على الأصل وعلى علة حكمه وعلى صحة إلحاق المسؤول عنه بواسطة العلة المومي إليها.
وليس من هذا القبيل ما مثل به بعض الأصوليين وذلك كما روي عن عمر أنه سأل النبي عليه السلام عن قبلة الصائم: هل تفسد الصوم؟ فقال عليه السلام: أرأيت لو تمضمضت أكان ذلك يفسد الصوم؟ فقال: لا وذلك لأن النبي عليه السلام إنما ذكر ذلك بطريق النقض لما توهمه عمر من كون القبلة مفسدةً للصوم لكونها مقدمةً للوقاع المفسد للصوم فنقض النبي عليه السلام ذلك بالمضمضة فإنها مقدمة للشرب المفسد للصوم وليست مفسدةً للصوم أما أن يكون ذلك تنبيهاً على تعليل عدم الإفساد بكون المضمضة مقدمةً للفساد فلا.
وذلك لأن كون القبلة والمضمضة مقدمةً لإفساد الصوم ليس فيه ما يتخيل أن يكون مانعاً من الإفطار بل غايته أن لا يكون مفطراً فكان الأشبه بما ذكره النبي عليه السلام أن يكون نقضاً لا تعليلاً.
وأيضاً فإن الأصل أن يكون الجواب مطابقاً للسؤال لا زائدا عليه ولا ناقصاً عنه أما الزيادة فلعدم تعلق الغرض بها وأما النقصان فلما فيه من الإخلال بمقصود السائل.
وعمر إنما سأل عن كون القبلة مفسدةً للصوم أم لا؟ فالجواب المطابق إنما يكون بما يدل على الإفساد أو عدمه وكون القبلة علة لنفي الفساد غير مسؤول عنه فلا يكون اللفظ الدال على ذلك جواباً مطابقاً للسؤال بخلاف النقض فإنه يتحقق به أن القبلة غير مفسدة فكان جواباً مطابقاً للسؤال.
القسم الرابع: أن يفرق الشارع بين أمرين في الحكم بذكر صفة فإن ذلك يشعر بأن تلك الصفة هي علة التفرقة في الحكم حيث خصصها بالذكر دون غيرها فلو لم تكن علةً لكان ذلك على خلاف ما أشعر به اللفظ وهو تلبيس يصان منصب الشارع عنه.
وذلك منقسم إلى ما يكون حكم أحد الأمرين مذكوراً في ذلك الخطاب دون ذكر الآخر وإلى ما لا يكون مذكوراً فيه: الأول: كما في قوله عليه السلام القاتل لا يرث فإنه خصص القاتل بعدم الميراث بعد سابقة إرث من يرث.
والثاني: فمنه ما تكون التفرقة فيه بلفظ الشرط والجزاء كقوله: " لا تبيعوا البر بالبر " إلى قوله: " فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد " ومنه ما يكون بالغاية كقوله تعالى: " ولا تقربوهن حتى يطهرن " البقرة 222 ومنه ما يكون بالاستثناء كقوله تعالى: " فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون " البقرة 237 ومنه ما يكون بلفظ الاستدراك كقوله تعالى: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " المائدة 89 ومنه أن يستأنف أحد الشيئين بذكر صفة من صفاته بعد ذكر الآخر كقوله عليه السلام " للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم "(1/340)
القسم الخامس: أن يكون الشارع قد أنشأ الكلام لبيان مقصود وتحقيق مطلوب ثم يذكر في أثنائه شيئاً آخر لو لم يقدر كونه علة لذلك الحكم المطلوب لم يكن له تعلق بالكلام لا بأوله ولا بآخره فإنه يعد خبطاً في اللغة واضطراباً في الكلام وذلك مما تبعد نسبته إلى الشارع وذلك كقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع " الجمعة 9 فالآية إنما سيقت لبيان أحكام الجمعة لا لبيان أحكام البيع.
فلو لم يعتقد كون النهي عن البيع علة للمنع عن السعي الواجب إلى الجمعة لما كان مرتبطاً بأحكام الجمعة وما سيق له الكلام ولا تعلق به وذلك ممتنع لما سبق وقوله تعالى: " وذروا البيع " وإن كانت صيغته صيغة أمر إلا أنه في معنى النهي إذا النهي طلب ترك الفعل وقوله تعالى: " وذروا البيع " طلب لترك البيع فكان نهياً.
القسم السادس: أن يذكر الشارع مع الحكم وصفاً مناسباً كقوله عليه السلام: " لا يقضي القاضي وهو غضبان " فإنه يشعر بكون الغضب علةً مانعةً من القضاء لما فيه من تشويش الفكر واضطراب الحال وكذلك اذا قال: أكرم العالم وأهن الجاهل فإنه يسبق إلى الفهم منه أن العلم علة للإكرام والجهل علة للإهانة وذلك لوجهين.
الأول: ما ألف من عادة الشارع من اعتبار المناسبات دون إلغائها فإذا قرن بالحكم في لفظه وصفا مناسباً غلب على الظن اعتباره له.
الثاني: ما علمنا من حال الشارع أنه لا يرد بالحكم خلياً عن الحكمة إذ الأحكام إنما شرعت لمصالح العبيد وليس ذلك بطريق الوجوب بل بالنظر إلى جري العادة المألوفة من شرع الأحكام فإذا ذكر مع الحكم وصفاً مناسباً غلب على الظن أنه علة له إلا أن يدل الدليل على أنه لم يرد به ما هو الظاهر منه فيجوز تركه.
وذلك كما في قوله لا يقضي القاضي وهو غضبان فإنه وإن دل بظاهره على أن مطلق الغضب علة فجواز القضاء مع الغضب اليسير يدل على أن مطلق الغضب ليس بعلة بل الغضب المانع من استيفاء النظر وإذا عرفت أقسام الوصف المومي إليه ترتب عليه النظر في مسألتين.
المسألة الاولى اختلف الأصوليون في اشتراط مناسبة الوصف المومي إليه: فأثبته قوم ونفاه آخرون كالغزالي وأتباعه.
حجة من قال باشتراط المناسبة أن الغالب من تصرفات الشارع أن تكون على وفق تصرفات العقلاء وأهل العرف ولو قال الواحد من أهل العرف لغيره أكرم الجاهل وأهن العالم قضى كل عاقل أنه لم يأمر بإكرام الجاهل لجهلة ولا أن أمره بإهانة العلم لعلمه وإن ذلك لا يصلح للتعليل نظرا إلى أن تصرفات العقلاء لا تتعدى مسالك الحكمة وقضايا العقل.
وأيضاً فإن الاتفاق من الفقهاء واقع على امتناع خلو الاحكام الشرعية عن الحكم إما بطريق الوجوب على رأي المعتزلة وإما بحكم الاتفاق على رأي أصحابنا وسواء ظهرت الحكمة أم لم تظهر.
وما يعلم قطعاً أنه لا مناسبة فيه ولا وهم المناسبة يعلم امتناع التعليل به.
والمختار أن تقول أما ما كان من القسم السادس الذي فهم التعليل فيه مستنداً إلى ذكر الحكم مع الوصف المناسب فلا يتصور فهم التعليل فيه دون فهم المناسبة لأن عدم المناسبة فيما المناسبة شرط فيه يكون تناقضاً.
وأما ما سواه من الأقسام فلا يمتنع التعليل فيها بما لا مناسبة فيه إلا أن تكون العلة بمعنى الباعث وأما بمعنى الأمارة والعلامة فلا.
وعلى هذا فما ذكروه من الحجة على امتناع التعليل بالوصف الطردي إنما يصح إن لو قيل إن التعليل بالوصف الطردي بمعنى الباعث ولا اتجاه لها في التعليل بمعنى الأمارة والعلامة.
وعلى هذا فلا امتناع في جعل الجهل علامةً على الإكرام والعلم علامةً على الإهانة إذا لم يكن هو الباعث بل الباعث غيره.
المسألة الثانية اتفقوا على صحة الإيماء فيما إذا كان حكم الوصف المومي إليه مدلولاً عليه بصريح اللفظ. كالأمثلة السابق ذكرها وأما إذا كان اللفظ يدل على الوصف بصريحه والحكم مستنبط منه غير مصرح به كما في قوله تعالى: " وأحل الله البيع وحرم الربا " فإن اللفظ بصريحة يدل على الحل والصحة مستنبطة منه.(1/341)
ووجه استنباط الصحة منه أنه لو لم يكن البيع صحيحاً لم يكن مثمراً إذ هو معنى نفي الصحة وإذا لم يكن مثمراً مفيداً كان تعاطيه عبثاً والعبث مكروه والمكروه لا يحل وعند ذلك فيلزم من الحل الصحة لتعذر الحل مع انتفاء الصحة.
وهذا مما اختلف في كونه مومى إليه: فذهب قوم إلى امتناع الإيماء تمسكاً منهم بأن الإيماء إنما يتحقق إذا دل اللفظ بوضعه على الوصف والحكم كما سبق من الأمثلة وأما اذا دل على الوصف بالوضع وكان الحكم مستنبطاً منه فلا يدل ذلك على كونه مومي إليه كما إذا دل اللفظ على الحكم بوضعه وكان الوصف مستنبطاً منه فإنه لا يدل على الإيماء إلى الوصف وذلك كما في قوله عليه السلام حرمت الخمرة لعينها فإنه يدل على الحكم وهو التحريم وضعاً والشدة المطربة علة مستنبطة منه وليست مومي إليها.
وذهب المحققون إلى كونه مومي إليه وهو الحق وذلك لأنه إذا كان اللفظ بصريحه يدل على الوصف وهو الحل والصحة لازمة له لما تقرر فإثبات الحل وضعاً يدل على إرادة ثبوت الصحة ضرورة كونها لازمةً للحل فيكون ثابتاً بإثبات الشارع له مع وصف الحل وإثبات الشارع للحكم مقترناً بذكر وصف مناسب دليل الإيماء إلى الوصف كما لو ذكر معه الحكم بلفظ يدل عليه وضعاً ضرورة تساويهما في الثبوت وإن اختلفا في طريق الثبوت بأن كان أحدهما ثابتاً بدلالة اللفظ وضعاً والآخر مستنبطاً من مدلول اللفظ وضعا لأن الإيماء إنما كان مستفاداً عند ذكر الحكم والوصف بطريق الوضع من جهة اقتران الحكم بالوصف لا من جهة كون الحكم ثابتاً بطريق الوضع.
وهذا بخلاف ما إذا كان الحكم مدلولا عليه وضعا والوصف مستنبط منه وذلك لأن الوصف المستنبط من الحكم المصرح به كما في المثال المذكور لم يكن وجوده لازماً من الحكم المصرح به ولا مناسبته لتحققه قبل شرع الحكم بخلاف الصحة مع الحل كما تقدم تحقيقه.
والمعتبر في الإيماء أن يكون الوصف المومي إليه مذكوراً في كلام الشارع مع الحكم أو لازما من مدلول كلامه والأمران مفقودان في الوصف المستبط بخلاف الحل مع الصحة.
المسلك الرابع:
في إثبات العلة بالسير والتقسيم
وذلك أن يقال: الحكم الثابت في الأصل إما أن يكون ثابتاً لعلة أو لا لعلة: لا جائز أن يقال بالثاني إذا هو خلاف إجماع الفقهاء على أن الحكم لا يخلو عن علة إما بجهة الوجوب كما قالت المعتزلة أو لا بجهة الوجوب كقول أصحابنا وبتقدير جواز خلوه عن العلة فالخلو عنها على خلاف الغالب المألوف من شرع الأحكام وذلك يدل ظاهراً على استلزام الحكم فيما نحن فيه للعلة وإذا كان لا بد له من علة فإما بأن تكون ظاهرةً أو غير ظاهرة: لا جائز أن تكون غير ظاهرة وإلا كان الحكم تعبداً وهو خلاف الأصل لوجوه ثلاثة: الأول: أن إثبات الحكم بجهة التعقل أغلب من إثباته بجهة التعبد وإدراج ما نحن فيه تحت الغالب أغلب على الظن.
الثاني: أنه إذا كان الحكم معقول المعنى كان على وفق المألوف من تصرفات العقلاء وأهل العرف والأصل تنزيل التصرفات الشرعية على وزان التصرفات العرفية.
الثالث: أنه إذا كان معقول المعنى كان أقرب إلى الانقياد وأسرع في القبول فكان أفضى إلى تحصيل مقصود الشارع من شرع الحكم فكان أولى وإذا كان لا بد من علة ظاهرة.
فإذا قال المناظر: الموجود في محل الحكم لا يخرج عن وصفين أو ثلاثة مثلاً لأني بحثت وسبرت فلم أطلع على ما سواه وكان أهلاً للنظر بأن كانت مدارك المعرفة بذلك لديه متحققة من الحس والعقل وكان عدلاً ثقة فيما يقول.
والغالب من حاله الصدق غلب على الظن انتفاء ما سوى المذكور من الأوصاف أو قال الأصل عدم كل موجود سوى ما وجد من الأوصاف المذكورة إلا أن يدل الدليل عليه والأصل عدم ذلك الدليل فإنه يغلب على الظن الحصر فيما عينه.
وإذا ثبت حصر الأوصاف فيما عينه فإذا بين بعد ذلك حذف البعض عن درجة الاعتبار في التعليل بدليل صالح مساعد له عليه بحيث يغلب على الظن ذلك فيلزم من مجموع الأمرين انحصار التعليل فيما استبقاه.
ضرورة امتناع خلو محل الحكم عن علة ظاهرة وامتناع وجود ما وراء الأوصاف المذكورة وامتناع إدراج المحذوف في التعليل لما دل عليه الدليل.(1/342)
فإن قيل لعله لم يبحث ولم يسبر وإن بحث وسبر فلعله وجد وصفاً وراء ما أدعى الحصر فيه ولم يذكره ترويجاً لكلامه وإن لم يجد شيئاً وراء المذكور فلا يدل ذلك على عدمه فإن عدم العلم بالوصف جهل به والجهل بوجود الوصف لا يدل على عدمه وإن دل على عدمه بالنسبة إلى الباحث فلا يدل على عدمه بالنسبة إلى الخصم فإنه ربما كان عالماً بوجود وصف آخر وراء المذكور.
وعند ذلك فلا ينتهض بحث المستدل دليلاً في نظر خصمه على العدم لعلمه بمناقضته ثم وإن دل ذلك على حصر الأوصاف فيما ذكره فحذف بعض الأوصاف عن درجة الاعتبار في التعليل إنما يلزم منه انحصار التعليل في المستبقي أن لو كان الحكم في محل التعليل معقول المعنى.
وإما على تقدير كونه غير معقول المعنى فلا لأنه جاز أن يشترك المحذوف والمستبقي في انتفاء الاعتبار وإن كان الحكم معقول المعنى فغاية ما في حذف الوصف المحذوف إبطال معارض العلة ولا يلزم من ذلك صحة كون المستبقي علةً لأن صحة العلة إنما تكون بالنظر إلى وجود مصححها لا بالنظر إلى انتفاء معارضها.
قلنا إذا كان الباحث مسلماً عدلاً فالظاهر أنه صادق فيما أخبر به من البحث وعدم الاطلاع على وصف آخر وعند ذلك فالقضاء بنفي الوصف لا يكون مستنداً إلى عدم العلم به بل بناء على الظن بعدمه فإن الظن بعدم الشيء ملازم للبحث عن ذلك الشيء ممن هو أهله مع عدم الاطلاع عليه.
وعند ذلك فالظاهر أنه لو كان الخصم يعلم وجود وصف آخر لأبرزه وأظهره إفحاماً لخصمه وإظهاراً لعلم مست الحاجة إلى اظهاره فدعوى العلم منه بوجود وصف آخر من غير بيان مع إمكان البيان لا يكون مقبولاً لظهور العناد فيه ولو بين الخصم وجود وصف آخر فإنا وإن تبيناً انخرام حصر المستدل به.
غير أنه إذا أدرجه في الإبطال معما أبطل فإنه لا يعد منقطعاً فيما يقصده من التعليل بالوصف المستبقي واذا ثبت انحصار الأوصاف في القدر المذكور فلا يخفى أنه إذا أخرج البعض عن درجة الاعتبار تعين انحصار التعليل في المستبقي فإنه وإن جاز أن يكون الحكم تعبداً غير أنه بعيد لما سبق تقريره.
وليس القضاء بكون المستبقي علةً بناء على إبطال المعارض بل على أن الحكم في محل التعليل لا بد له من علة ظاهراً.
وعند ذلك يغلب على الظن انحصارها في الأوصاف المذكورة فإذا قام الدليل على إبطال البعض غلب على الظن التعليل بالمستبقي ويكون ذلك الظن مستفاداً من جملة القواعد الممهدة لا من نفس إبطال المعارض.
هذا كله في حق المناظر.
وأما الناظر المجتهد فإنه مهما غلب على ظنه شيء من ذلك فلا يكابر نفسه وكان مؤاخذاً بما أوجبه ظنه وعند ذلك فلا بد من بيان طرق الحذف.
الأول: منها أن يبين المستدل أن الوصف الذي استبقاه قد ثبت به الحكم في صورة بدون الوصف المحذوف وهو ملقب بالإلغاء وهو شديد الشبه بالعكس الذي ليس بمقبول وسيأتي الفرق بينهما.
ولا بد من بيان ثبوت الحكم مع الوصف المستبقي فإنه لو ثبت دونه كما ثبت المحذوف كان ذلك إلغاء للمستبقي أيضاً وعند ذلك فيتبين استقلال المستبقي بالتعليل ومع ظهور ذلك فيمتنع إدخال الوصف المحذوف في التعليل في محل التعليل.
لأنه يلزم منه إلغاء وصف المستدل في الفرع مع استقلاله ضرورة تخلف ما لم يثبت كونه مستقلاً وهو ممتنع ويمتنع أيضاً إضافة الحكم في محل التعليل إلى الوصف المحذوف لا غير لما فيه من إثبات الحكم بما لم يثبت استقلاله وإلغاء ما ثبت استقلاله وهو ممتنع.
لكن لقائل أن يقول: دعوى استقلال الوصف المستبقي في صورة الإلغاء بالتعليل من مجرد إثبات الحكم مع وجوده وانتفاء الوصف المحذوف غير صحيحة فإنه لو كان مجرد ثبوت الحكم مع الوصف في صورة الإلغاء كافياً في التعليل بدون ضميمة ما يدل على استقلالة بطريق من طرق إثبات العلة لكان ذلك كافياً في أصل القياس ولم يكن إلى البحث والسبر حاجة.(1/343)
وكذا غيره من الطرق فإذا لا بد من بيان الاستقلال بالاستدلال ببعض طرق إثبات العلة وعند ذلك إن شرع المستدل في بيان الاستقلال ببعض طرق إثبات العلة فإن بين الاستقلال في صورة الإلغاء بالبحث والسبر كما أثبت ذلك في الأصل الأول فقد استقلت صورة الإلغاء بالاعتبار وأمكن أن تكون أصلاً لعلته وتبيناً أن الأصل الأول لا حاجة إليه فإن المصير إلى أصل لا يمكن التمسك به في الاعتبار إلا بذكر صورة أخرى مستقلة بالاعتبار يكون تطويلاً بلا فائدة وإن بين الاستقلال بطريق آخر فيلزمه مع هذا المحذور محذور آخر وهو الانتقال في إثبات كون الوصف علةً من طريق إلى طريق آخر وهو شنيع في مقام النظر.
الطريق الثاني: أن يكون ما يحذفه من جنس ما ألفنا من الشارع عدم الالتفات إليه في إثبات الأحكام كالطول والقصر والسواد والبياض ونحوه.
الطريق الثالث: أن يكون ما يحذفه من جنس ما ألفنا من الشارع إلغاءه في جنس ذلك الحكم المعلل فيجب إلغاؤه وإن كان مناسباً وذلك كما في قوله عليه السلام: " من أعتق شركاً له من عبد قوم عليه نصيب شريكه " فإنه وإن أمكن تقرير مناسبة بين صفة الذكورة وسراية العتق غير أنا لما عهدنا من الشارع التسوية بين الذكر والأنثى في أحكام العتق ألغينا صفة الذكورة في السراية بخلاف ما عداه من الأحكام.
الطريق الرابع: إذا قال بحثت في الوصف المحذوف فلم أجد فيه مناسبة ولا ما يوهم المناسبة وكان أهلاً للنظر والبحث عدلاً فالظاهر صدقه وأن الوصف غير مناسب ويلزم من ذلك حذفه ضرورة كون العلة في الأصل بمعنى الباعث على ما تقرر قبل وامتناع اعتبار ما لا يكون مناسباً.
فإن قيل: البحث والسبر وإن دل على عدم المناسبة في الوصف المحذوف فللمعترض أن يقول: بحثت في الوصف المستبقي فلم أجد فيه مناسبةً وعند ذلك فإن بين المستدل المناسبة فيه فقد انتقل في إثبات العلة من طريقة السبر إلى المناسبة وإن لم يبين ذلك لم يكن وصف المعترض بالحذف أولى من وصف المستدل.
قلنا: إن كان قد سبق من المعترض تسليم مناسبة كل واحد من الوصفين فلا يسمع منه بعد بيان المستدل نفي المناسبة في الوصف المحذوف منع المناسبة في المستبقي لكون مانعاً لما سلمه ولا يجب على المستدل بيان المناسبة في الوصف المستبقي.
وإن لم يسبق من المعترض تسليم ذلك فللمستدل طريق صالح في دفع السؤال من غير حاجة إلى بيان المناسبة في الوصف المستبقي وهو ترجيح سبره على سبر المعترض بموافقته للتعدية وموافقة سبر المعترض للقصور والتعدية أولى من القصور على ما يأتي تقريره في الترجيحات.
المسلك الخامس
في إثبات العلة المناسبة والإحالة
ويشتمل على ثمانية فصول.
الفصل الأول
في تحقيق معنى المناسب
قال أبو زيد: المناسب عبارة عما لو عرض على العقول تلقته بالقبول.
وما ذكره وإن كان موافقاً للوضع اللغوي حيث يقال هذا الشيء مناسب لهذا الشيء أي ملائم له غير أن تفسير المناسب بهذا المعنى وإن أمكن أن يتحققه الناظر مع نفسه فلا طريق للمناظر إلى إثباته على خصمه في مقام النظر لإمكان أن يقول الخصم: هذا مما لم يتلقه عقلي بالقبول فلا يكون مناسباً بالنسبة الي وإن تلقاه عقل غيري بالقبول.
فإنه ليس الاحتجاج علي بتلقي عقل غيري له بالقبول أولى من الاحتجاج على غيري بعدم تلقي عقلي له بالقبول وعلى هذا بني أبو زيد امتناع التمسك في إثبات العلة في مقام النظر بالمناسبة وقران الحكم بها وإن لم يمتنع التمسك بذلك في حق الناظر لأنه لا يكابر نفسه فيما يقضي به عقله.
والحق في ذلك أن يقال: المناسب عبارة عن وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع ذلك الحكم وسواء كان ذلك الحكم نفيا أو إثباتا وسواء كان ذلك المقصود جلب مصلحة أو دفع مفسدة وهو أيضاً غير خارج عن وضع اللغة لما بينه وبين الحكم من التعلق والارتباط.
وكل ما له تعلق بغيره وارتباط فإنه يصح لغةً أن يقال إنه مناسب له ولا يخفى إمكان إثبات مثل ذلك في مقام النظر على الخصم بما لو أعرض عنه الخصم وأصر معه على المنع كان معانداً.
الفصل الثاني
في تحقيق معنى المقصود المطلوب من شرع الحكم(1/344)
المقصود من شرع الحكم إما جلب مصلحة أو دفع مضرة أو مجموع الأمرين بالنسبة إلى العبد لتعالى الرب تعالى عن الضرر والانتفاع وربما كان ذلك مقصوداً للعبد لأنه ملائم له وموافق لنفسه.
ولذلك إذا خير العاقل بين وجود ذلك وعدمه اختار وجوده على عدمه وإذا عرف أن المقصود من شرع الحكم إنما هو تحصيل المصلحة أو دفع المضرة فذلك إما أن يكون في الدنيا أو في الآخرة: فإن كان في الدنيا فشرع الحكم إما أن يكون مفضياً إلى تحصيل أصل المقصود ابتداء أو دواماً أو تكميلاً.
فالأول: مثل القضاء بصحة التصرف الصادر من الأهل في المحل تحصيلاً لأصل المقصود المتعلق به من الملك أو المنفعة كما في البيع والإجارة ونحوهما.
وأما الثاني: فكالقضاء بتحريم القتل وإيجاب القصاص على من قتل عمداً عدواناً لإفضائه إلى دوام المصلحة المعلقة بالنفس الإنسانية المعصومة.
وأما الثالث: فكالحكم باشتراط الشهادة ومهر المثل في النكاح فإن مكمل لمصلحة النكاح لا أنه محصل لأصلها لحصولها بنفس اعتبار التصرف وصحته.
وأما في الاخرى فالمقصود العائد إليها من شرع الحكم لا يخرج عن جلب الثواب ودفع العقاب.
فالأول: كالحكم بإيجاب الطاعات وأفعال العبادات لإفضائه إلى نيل الثواب ورفع الدرجات.
والثاني: فكالحكم بتحريم أفعال المعاصي وشرع الزواجر عليها دفعا لمحذور العقاب المرتب عليها.
الفصل الثالث
في بيان مراتب إفضاء الحكم
إلى المقصودمن شرع الحكم واختلافها
المقصود إما أن يكون حاصلا من شرع الحكم يقينا أو ظنا أو أن الحصول وعدمه متساويان أو أن عدم الحصول راجح على الحصول.
أما الأول: فمثاله إفضاء الحكم بصحة التصرف بالبيع إلى إثبات الملك.
وأما الثاني: فكشرع القصاص المرتب على القتل العمد العدوان صيانة للنفس المعصومة عن الفوات فإنه مظنون الحصول راجح الوقوع إذ الغالب من حال العاقل أنه إذا علم أنه إذا قتل قتل أنه لا يقدم على القتل فتبقى نفس المجني عليه إلى نظائره من الزواجر وليس ذلك مقطوعاً به لتحقق الإقدام على القتل مع شرع القصاص كثيراً.
وأما القسم الثالث: فقلما يتفق له في الشرع مثال على التحقيق بل على طريق التقريب وذلك كشرع الحد على شرب الخمر لحفظ العقل فإن إفضاءه إلى ذلك متردد حيث إنا نجد كثرة الممتنعين عنه مقاومةً لكثرة المقدمين عليه لا على وجه الترجيح والغلبة لأحد الفريقين على الآخر في العادة.
ومثال القسم الرابع: إفضاء الحكم بصحة نكاح الآيسة إلى مقصود التوالد والتناسل فإنه وإن كان ممكناً عقلاً غير أنه بعيد عادة فكان الإفضاء إليه مرجوحاً.
فهذه الأقسام الأربعة وإن كانت مناسبةً نظراً إلى أنها موافقة للنفس غير أن أعلاها القسم الأول لتيقنه ويليه الثاني لكونه مظنوناً راجحاً ويليه الثالث لتردده ويليه الرابع لكونه مرجوحاً.
والقسمان الأولان متفق على صحة التعليل بهما عند القائلين بالمناسبة وأما القسم الثالث والرابع: فلكون المقصود فيهما غير ظاهر للمساواة في الثالث والمرجوحية في الرابع فالاتفاق واقع على صحة التعليل بهما إذا كان ذلك في آحاد الصور الشاذة وكان المقصود ظاهراً من الوصف في غالب صور الجنس وإلا فلا.
وذلك كما ذكرناه من مثال صحة نكاح الآيسة لمقصود التوالد فإنه وإن كان غير ظاهر بالنسبة إلى الآيسة إلا انه ظاهر فيما عداها.
وعلى هذا فلو خلا الوصف الذي رتب عليه الحكم عن المقصود الموافق للنفس قطعاً وإن كان ظاهراً في غالب صور الجنس كما في لحوق النسب في نكاح المشرقي للمغربية وشرع الاستبراء في شراء الجارية لمعرفة فراغ الرحم فيما إذا اشترى الجارية ممن باعها منه في مجلس البيع الأول لعلمنا بفراغ رحمها من غيره قطعاً وإن كان ذلك ظاهراً في غالب صور الجنس فيما عدا هذه الصور فلا يكون مناسباً ولا يصح التعليل به لأن المقصود من شرع الأحكام الحكم فشرع الأحكام مع انتفاء الحكمة يقيناً لا يكون مفيداً فلا يرد به الشرع خلافا لأصحاب أبي حنيفة.
الفصل الرابع
في أقسام المقصود من شرع الحكم
واختلاف مراتبه في نفسه وذاته
وهو لا يخلو إما أن يكون من قبيل المقاصد الضرورية أو لا يكون من قبيل المقاصد الضرورية.
فإن كان من قبيل المقاصد الضرورية فإما أن يكون أصلاً أو لا يكون أصلاً.(1/345)
فإن كان أصلاً فهو الراجع إلى المقاصد الخمسة التي لم تخل من رعايتها ملة من الملل ولا شريعة من الشرائع وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال فإن حفظ هذه المقاصد الخمسة من الضروريات وهي أعلى مراتب المناسبات والحصر في هذه الخمسة الأنواع إنما كان نظرا إلى الواقع العلم بانتفاء مقصد ضروري خارج عنها في العادة.
أما حفظ الدين فبشرع قتل الكافر المضل وعقوبة الداعي إلى البدع وأما حفظ النفوس فبشرع القصاص وأما حفظ العقول فبشرع الحد على شرب المسكر وأما حفظ الأموال التي بها معاش الخلق فبشرع الزواجر للغصاب والسراق.
وأما إن لم يكن أصلاً فهو التابع المكمل للمقصود الضروري وذلك كالمبالغة في حفظ العقل بتحريم شرب القليل من المسكر الداعي إلى الكثير وإن لم يكن مسكراً فإن أصل المقصود من حفظ العقل حاصل بتحريم شرب المسكر لا بتحريم قليله وإنما يحرم القليل للتكميل والتتميم.
وأما إن لم يكن المقصود من المقاصد الضرورية فإما أن يكون من قبيل ما تدعو حاجة الناس إليه أو لا تدعو إليه الحاجة.
فإن كان من قبيل ما تدعو إليه الحاجة فإما أن يكون أصلا أو لا يكون أصلاً.
فإن كان أصلاً فهو القسم الثاني الراجع إلى الحاجات الزائدة وذلك كتسليط الولي على تزويج الصغيرة لا لضرورة ألجأت إليه بل لحاجة تقييد الكفوء الراغب خيفة فواته عند دعو الحاجة إليه بعد البلوغ لا إلى خلف.
وأما تسليط الولي على تربية الصغير وإرضاعه وشرآء المطعوم والملبوس له فليس من هذا القبيل بل من قبيل الضروريات الأصلية التي لا تخلو شريعة عن رعايتها وهذا القسم في الرتبة دون القسم الأول ولهذا جاز اختلاف الشرائع فيه دون القسم الأول وهو في محل المعارضة مع ما كان من قبيل التكملة والتتمة للقسم الأول ولهذا اشتركا في جواز اختلاف الشرائع فيهما.
وإن لم يكن أصلاً فهو التابع الجاري مجرى التتمة والتكملة للقسم الثاني وذلك كرعاية الكفاءة ومهر المثل في تزويج الصغيرة فإنه أفضى إلى دوام النكاح وتكميل مقاصده وإن كان أصل المقصود حاصلاً دون ذلك.
وهذ النوع في الرتبة دون ما تقدم أما بالنظر إلى المقصود الذي هو من باب الضرورات والحاجات فظاهر وأما بالنظر إلى ما هو من قبيل التكملة للمقصود الضروري فلكونه مكملا لما ليس بضروري.
وأما إن كان المقصود ليس من قبيل الحاجات الزائدة فهو القسم الثالث وهو ما يقع موقع التحسين والتزيين ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات وذلك كسلب العبيد أهلية الشهادة من حيث إن العبد نازل القدر والمنزلة لكونه مستسخراً للمالك مشغولاً بخدمته فلا يليق به منصب الشهادة لشرفها وعظم خطرها جرياً للناس على ما ألفوه وعدوه من محاسن العادات وإن كان لا تتعلق به حاجة ضرورية ولا زائدة ولا هو من قبيل التكملة لأحدهما وليس هذا من قبيل سلب ولايته على الطفل فإن سلب ولايته من قبيل الحاجات لأن الولاية على الطفل تستدعي الخلو والفراغ والنظر في أحواله واستغراق العبد بما هو الواجب عليه من خدمة مالكه مانع له من ذلك ولا كذلك في الشهادة لاتفاقهما في بعض الأحيان.
الفصل الخامس
اختلفوا في الحكم إذا ثبت لوصف مصلحي
على وجه يلزم منه وجود مفسدة
مساوية له أو راجحة عليه هل تنخرم مناسبته أو لا؟ فأثبته قوم ونفاه آخرون.
وقد احتج من قال ببقاء المناسبة من وجوه أربعة.
الأول: أن مناسبة الوصف تنبني على ما فيه من المصلحة والمصلحة أمر حقيقي لا تختل بمعارضة المفسدة ودليله أن المصلحة والمفسدة المتعارضتان إما أن يتساويا أو تترجح إحداهما على الأخرى.
فإن كان الأول فإما أن تبطل كل إحداة منهما بالأخرى أو أن تبطل إحداهما بالأخرى من غير عكس أو لا تبطل واحدة منها بالأخرى الأول محال لأن عدم كل واحدة منهما إنما هو بوجود الأخرى وذلك يجر إلى وجودهما مع عدمهما ضرورة أن العلة لا بد وأن تكون متحققةً مع المعلول والثاني محال لعدم الأولوية.(1/346)
والثالث هو المطلوب وإن كانت إحداهما أرجح من الأخرى فلا يلزم منه إبطال المرجوحة إلا أن تكون بينهما منافاة ولا منافاة لما بيناه من جواز اجتماعهما في القسم الأول ولأن الراجحة منهما إذا كانت معارضةً بالمرجوحة فإما أن ينتفي شيء من الراجحة لأجل المرجوحة أو لا ينتفي منها شيء فإن كان الأول فهو محال أن تتساويا لما سبق في القسم الأول ولأنه ليس انتفاء بعض الراحج وبقاء بعضه أولى من العكس ضرورة التساوي في الحقيقة وإن تفاوتا فالكلام في الراجح كالكلام في الأول وهو تسلسل ممتنع.
وإذا كانت المصلحة لا تختل بمعارضة المفسدة فالعقل يقضي بمناسبتها للحكم وبالنظر إلى المعارض يقضي بانتفاء الحكم لأجل المعارض ولهذا يحسن من العاقل أن يقول الداعي إلى إثبات الحكم موجود غير أنه يمنعني منه مانع ولو اختلت مناسبة الوصف لما حسن من العاقل هذه المقالة.
الوجه الثاني: أنه قد يتعارض في نظر الملك عند الظفر بجاسوس عدوه المنازع له في ملكه قتله وعقوبته زجراً له ولأمثاله عن الحبس المضر به والإحسان إليه وإكرامه إما للاستهانة بعدوه أو لقصد كشف أسراره.
وأي الأمرين سلك فإنه لا يعد خارجاً عن مذاق الحكمة ومقتضى المناسبة وإن لزم منه فوات المقصود الحاصل من سلوك مقابله وسواء تساويا أو كان أحدهما راجحاً.
الثالث: أنه إذا اجتمع الأخ من الأبوين مع الأخ من الأب في الميراث فإنه قد يتعارض في نظر الناظر تقديم الأخ من الأبوين لاختصاصه بقرابة الأمومة والتسوية بينهما لاشتراكهما في جهة العصوبة وإلغاء قرابة الأمومة وتفضيل الأخ من الأبوين لاختصاصه بمزيد القرابة.
ومع ذلك فالعقل يقضي بتأدي النظر من غير احتياج إلى ترجيح بأن ورود الشرع بالاحتمال الأول مناسب غير خارج عن مذاق العقول ولو كان ترجيح الوصف المصلحي معتبراً في مناسبته لما كان كذلك.
الرابع: أن الشارع قد ورد بصحة الصلاة في الدار المغصوبة نظراً إلى ما فيها من المصلحة وبتحريمها نظراً إلى ما فيها من مفسدة الغصب فلو اشترط الترجيح في المناسبة لما ثبت الصحة ولا التحريم بتقدير التساوي بين مصلحة الصحة ومفسدة التحريم ولا حكم الصحة بتقدير رجحان مفسدة الغصب ولا التحريم بتقدير رجحان مصلحة الصحة لعدم المناسبة.
وهذه الحجج ضعيفة: أما الحجة الأولى فلقائل أن يقول: إن أردت أن مناسبة الوصف تنبني على أنه لا بد في المناسبة من المصلحة على وجه لا يستقل بالمناسبة فمسلم ولكن لا يلزم من وجود بعض ما لا بد منه في المناسبة تحقق المناسبة.
وإن أردت أنها مستقلة بتحقيق المناسبة فممنوع وذلك لأن المصلحة وإن كانت متحققة في نفسها فالمناسبة أمر عرفي وأهل العرف لا يعدون المصلحة العارضة بالمفسدة المساوية أو الراجحة مناسبة.
ولهذا إن من حصل مصلحة درهم على وجه يفوت عليه عشرة يعد سفيهاً خارجاً في تصرفه عن تصرفات العقلاء ولو كان ذلك مناسباً لما كان كذلك وعلى هذا فلا يلزم من اجتماع المصلحة والمفسدة تحقق المناسبة.
وقول القائل إن الداعي موجود فالمراد به المصلحة دون المناسبة.
وقوله: غير أنه يمنعني منه مانع وإن كان صحيحاً في العرف فليس ذلك إلا لإخلال المانع المفسدي بمناسبة المصلحة لا بمعنى أن الانتفاء محال على المفسدة مع وجود المناسب للحكم.
وعلى هذا نقول بأن مناسبة كل واحدة من المصلحة والمفسدة تختل بتقدير التساوي وبتقدير مرجوحية إحداهما فالمختل مناسبتها دون مناسبة الراجحة ضرورة فوات شرط المناسبة لا لأن كل واحدة علة للإخلال بمناسبة الأخرى أو إحداهما ليلزم في ذلك ما قيل.
وأما الحجة الثانية فلقائل أن يقول أيضاً: مهما لم يترجح في نظر الملك وأهل العرف مصلحة ما عينه من أحد الطريقين من الإحسان أو الإساءة بمقتضى الحالة الراهنة فإن فعله لا يكون مناسباً ويكون بتصرفه خارجاً عن تصرفات العقلاء.
وأما الحجة الثالثة فلقائل أن يقول: لا نسلم جواز الجزم بمناسبة ما عين دون ظهور الترجيح في نظر الناظر وبعد ظهور الترجيح فليس الجزم بمناسبة الوصف في نفس الأمر قطعاً لجواز أن يكون في نفسه مرجوحاً وإن لم يطلع عليه.(1/347)
وأما الحجة الرابعة: فبعيدة عن التحقيق وذلك لأن الكلام إنما هو مفروض في إثبات حكم لمصلحة يلزم من إثباته تحصيلاً للمصلحة مفسدة مساوية أو راجحة وما ذكر من مفسدة تحريم الغصب وهي شغل ملك الغير غير لازمة من ترتيب حكم المصلحة عليها وهو صحة الصلاة فإنا وإن لم نقض بصحة الصلاة فالمفسدة اللازمة من الغضب لا تختل بل هي باقية بحالها ولو كانت لازمةً من حكم المصلحة لا غير لانتفت المفسدة المفروضة بانتفاء حكم المصلحة وليس كذلك.
وحيث لم تكن مفسدة تحريم الغضب لازمة عن حكم المصلحة كان من المناسب اعتبار كل واحدة منهما في حكمها وهي المصلحة والمفسدة إذ لا معارضة بينهما على ما تقرر.
وإذا تقرر توقف المناسبة على الترجيح فللمعلل ترجيح وصفه بطرق تفصيلية تختلف باختلاف المسائل وله الترجيح بطريق إجمالي يطرد في جميع المسائل وحاصله أن يقول المعلل لو لم يقدر ترجيح المصلحة على ما عارضها من المفسدة مع البحث وعدم الاطلاع على ما يمكن إضافة الحكم إليه في محل التعليل سوى ما ذكرته لزم أن يكون الحكم قد ثبت تعبداً وهو خلاف الأصل لوجهين.
الأول: أن الغالب من الأحكام التعقل دون التعبد فإدراج ما نحن فيه تحته أولى.
الثاني: أنه إذا كان معقول المعنى كان الحكم أقرب إلى الانقياد وأدعى إلى القبول فإن الانقياد إلى المعقول المألوف أقرب مما ليس كذلك فكان أفضى إلى المقصود من شرع الحكم.
لكن لقائل أن يقول: ما ذكرتموه من البحث عن وصف آخر تمكن إضافة الحكم إليه مع عدم الظفر به وإن دل على ترجيح جهة المصلحة فهو معارض بما يدل على عدم ترجيحها وهو عدم الاطلاع على ما به تكون راجحةً على معارضها مع البحث عنه وعدم الظفر به وليس أحد البحثين أولى من الآخر.
فإن قلتم: بل ما ذكرناه أولى من جهة أن بحثنا عن وصف صالح للتعليل وذلك لا يتعدى محل الحكم فمحله متحد وبحثكم إنما هو عما به الترجيح وهو منحصر في محل الحكم فإن ما به الترجيح قد يكون بما يعود إلى ذات العلة وقد يكون بأمر خارج عنها كما يأتي تقريره فكان ما ذكرناه أولى.
قلنا: ما به الترجيح إن كان خارجاً عن محل الحكم فلا يتحقق به الترجيح في محل الحكم وإن كان في محل الحكم فقد استوى البحثان في اتحاد محلهما ولا ترجيح بهذه الجهة وبتقدير تسليم اتحاد محل بحث المستدل والتعدد في محل بحث المعترض.
غير أن الظن الحاصل من البحثين إما أن يكون متساوياً أو متفاوتاً: وبتقدير المساواة ورجحان ظن المعترض فلا ترجيح في جانب المستدل وإنما يترجح بتقدير أن يكون ظنه راجحاً.
ولا يخفى أن ما يقع على تقدير من تقديرين يكون أغلب مما لا يقع إلا على تقدير واحد وينبغي أن يعلم أن اشتراط الترجيح في تحقيق المناسبة إنما يتحقق على رأي من لا يرى تخصيص العلة.
وأما من يرى جواز تخصيصها وجواز إحالة انتفاء الحكم على تحقق المعارض مع وجود المقتضي فلا بد له من الاعتراف بالمناسبة وإن كانت المصلحة مرجوحةً أو مساويةً.
فإن انتفاء الحكم بالمانع مع وجود المقتضي إما أن يكون لمقصود راجح على مقصود المقتضي للإثبات أو مساو له أو مرجوح بالنسبة إليه فإن كان راجحاً فقد قيل بمناسبة المقتضي للإثبات مع كون مقصوده مرجوحاً وإلا فلو لم يكن مناسباٍ كان الحكم منتفياً لانتفاء المناسب لا لوجود المانع وإن كان مساوياً.
فكذلك أيضاً وإن كانت مفسدة المانع مرجوحةً فقد قيل بانتفاء الحكم له ولولا مناسبته للانتفاء لما انتفى الحكم به فإنه لو جاز أن ينتفي الحكم بما ليس بمناسب لجاز أن يثبت بما ليس بمناسب.
الفصل السادس
في كيفية ملازمة الحكمة لضابطها
وبيان أقسامها
فنقول: الحكمة اللازمة لضابطها إما أن تكون ناشئةً عنه وإما أن لا تكون ناشئةً عنه.
والتي لا تكون ناشئةً عنه إما أن تكون للوصف دلالة على الحاجة إليها أو لا تكون كذلك.
فالأول: كشرع الرخصة في السفر لدفع المشقة الناشئة من السفر.
والثاني: كالحكم بصحة البيع بإفضائه إلى الانتفاع بالعوض فإن الانتفاع لازم لصحة البيع ظاهراً وليس ناشئاً عن البيع ولكن للبيع وهو التصرف الصادر من الأهل في المحل وهو الإيجاب والقبول دلالة على الجاحة إليه.(1/348)
والثالث: كما في ملك نصاب الزكاة فإنه يناسب إيجاب الزكاة من حيث إنه نعمة والنعمة تناسب الشكر لإفضاء الشكر إلى زيادة النعمة على ما قال تعالى: " ولئن شكرتم لأزيدنكم " والزكاة صالحة لأن تكون شكراً لما فيها من إظهار النعمة وإظهار النعمة في العرف يعد شكراً.
ولا يخفى أن ما مثل هذا المقصود وهو زيادة النعمة ملازم لترتيب إيجاب الزكاة على ذلك النصاب وليس زيادة النعمة ناشئة عن نفس ملك النصاب كما كانت المشقة ناشئةً عن السفر ولا لملك النصاب دلالة على الحاجة إلى زيادة النعمة كدلالة البيع على الحاجة إلى الانتفاع.
الفصل السابع
في أقسام المناسب
بالنظر إلى اعتباره وعدم اعتباره
فنقول: الوصف المناسب إما أن يكون معتبراً في نظر الشارع أو لا يكون معتبراً فإن كان معتبراً فاعتباره إما أن يكون بنص أو إجماع أو بترتيب الحكم على وفقه في صورة بنص أو إجماع.
فإن كان معتبراً بنص أو إجماع فيسمى المؤثر على ما سبق تحقيقه في المسائل المتقدمة وإذا كان معتبراً بترتيب الحكم على وفقه في صورة فالذي تقتضيه القسمة العقلية تسعة أقسام وذلك لأنه إما أن يكون معتبراً بخصوص وصفه أو بعموم وصفه أو بخصوصه وعمومه وإن كان معتبراً بخصوص وصفه دون عموم وصفه فإما أن يكون معتبرا في عين الحكم المعلل أو في جنسه أو في عينه وجنسه.
وإن كان معتبراً بعموم وصفه فإما أن يكون معتبراً في عين الحكم أو جنسه أو في عينه وجنسه وإن كان معتبراً بعموم وصفه وخصوصه فإما أن يكون معتبراً في عين الحكم أو جنسه أو في عينه وجنسه وأما إن لم يكن الوصف معتبراً فلا يخلو إما أن يظهر مع ذلك إلغاؤه أو لم يظهر منه ذلك.
فهذه جملة الأقسام المذكورة غير أن الواقع منها في الشرع لا يزيد على خمسة.
القسم الأول: أن يكون الشارع قد اعتبر خصوص الوصف في خصوص الحكم وعموم الوصف في عموم الحكم في أصل آخر وذلك كما في إلحاق القتل بالمثقل بالمحدد لجامع القتل العمد العدوان فإنه قد ظهر تأثير عين القتل العمد العدوان في عين الحكم وهو وجوب القتل في المحدد وظهر تأثير جنس القتل من حيث هو جناية على المحل المعصوم بالقود في جنس القتل من حيث هو قصاص في الأيدي وهذا القسم هو المعبر عنه بالملائم وهو متفق عليه بين القياسين ومختلف فيما عداه.
القسم الثاني: أن يكون الشارع قد اعتبر خصوص الوصف في خصوص الحكم من غير أن يظهر اعتبار عينه في جنس ذلك الحكم في أصل آخر متفق عليه ولا جنسه في عين ذلك الحكم ولا جنسه في جنسه ولا دل على كونه علةً نص.
ولا إجماع لا بصريحه ولا إيمائه وذلك كمعنى الإسكار فإنه يناسب تحريم تناول النبيذ وقد ثبت اعتبار عينه في عين التحريم في الخمر ولم يظهر تأثير عينه في جنس ذلك الحكم ولا جنسه في عينه ولا جنسه في جنسه ولا إجماع عليه فلو قدرنا انتفاء النصوص الدالة على كون الإسكار علةً فلا يكون معتبراً بنص أيضاً وهذا هو المناسب الغريب وهو مختلف فيه بين القياسين وقد أنكره بعضهم وإنكاره غير متجه لأنه يفيد الظن بالتعليل.
ولهذا فإنا إذا رأينا شخصاً قابل الإحسان بالإحسان والإساءة بالإساءة مع أنه لم يعهد من حاله قبل ذلك شيء فيما يرجع إلى المكافأة وعدمها غلب على الظن ما رتب الحكم عليه والذي يؤيد ذلك أنه لا يخلو إما أن يكون الحكم قد ثبت لعلة أو لا لعلة.
فإن كان لا لعلة فهو بعيد لما سبق تقريره من امتناع خلو الأحكام عن العلل وإن كان لعلة فإما أن يكون لما لم يظهر أو لما ظهر: الأول ويلزم منه التعبد وهو بعيد على ما عرف والثاني هو المطلوب.
فإن قيل: الفرق بين ما نحن فيه وبين صورة الاستشهاد إنا قد ألفنا من تصرفات العقلاء مقابلة الإحسان بالإحسان والإساءة بالإساءة فكان ذلك من قبيل القسم الأول وهو الملائم المتفق عليه لا من قبيل القسم الثاني وهو الغريب المختلف فيه.
قلنا: نحن إنما نفرض الكلام في شخص لم يعهد من حاله قبل ذلك الفعل موافقة ولا مخالفة فلا يكون من الملائم المتفق عليه ولا من الملغى ومع ذلك فإن التعليل يظهر من فعله لكل عاقل نظراً إلى أن الغالب إنما هو غلبة طبيعة المكافأة بالانتقام والإحسان في حق العاقل كما أن الغالب من الشارع اعتبار المناسبات دون إلغائها.(1/349)
وليس هذا من القسم الأول في شيء لأن القسم الأول مفروض فيما علم من الشارع اعتبار العين في العين فيه والجنس في الجنس والفرق بين الأمرين ظاهر.
القسم الثالث أن يكون الشارع قد اعتبر جنس الوصف في جنس الحكم لا غير أي أنه لم يعتبر مع ذلك عينه في عينه ولا عينه في جنسه ولا جنسه في عينه ولا دل عليه نص ولا إجماع وهذا أيضاً من جنس المناسب الغريب المختلف فيه بين القياسين إلا أنه دون القسم الثاني وذلك لأن الظن الحاصل باعتبار الخصوص لكثرة ما به الاشتراك أقوى من الظن الحاصل من اعتبار العموم في العموم وذلك كاعتبار جنس المشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في جنس التخفيف.
فإن عين مشقة الحائض ليست عين مشقة المسافر بل من جنسها وعين التخفيف عن المسافر بإسقاط الركعتين الزائدتين ليس عين التخفيف عن الحائض بإسقاط أصل الصلاة بل من جنسها.
واعلم أن الوصف المعلل به وكذلك الحكم المعلل له أجناس: منها ما هو عال ليس فوقه ما هو أعلى منه ومنها ما هو قريب إليه ليس بينه وبينه واسطة ومنها ما هو متوسط بين الطرفين إما على السواء أو أنه إلى أحد الطرفين أقرب من الآخر.
فأما الجنس العالي للحكم الخاص فكونه حكماً وأخص منه كونه وجوباً أو تحريماً أو غير ذلك من الأحكام وأخص من الوجوب العبادة وغير العبادة وأخص من العبادة الصلاة وغير الصلاة وأخص من الصلاة الفرض والنفل.
وأما الجنس العالي للوصف الخاص فكونه وصفاً تناط الأحكام به وأخص منه كونه مناسباً بحيث يخرج منه الشبهي وأخص منه المصلحة الضرورية وأخص منه حفظ النفس والعقل وعلى هذا النحو فالظن في هذا القسم مما يزيد وينقص بسبب التفاوت فيما به الاشتراك من الجنس العالي والسافل والمتوسط فيما كان الاشتراك فيه بالجنس السافل فهو أغلب على الظن وما كان الاشتراك فيه بالأعم فهو أبعد وما كان بالمتوسط فمتوسط على الترتيب في الصعود والنزول.
القسم الرابع: المناسب الذي لم يشهد له أصل من أصول الشريعة بالاعتبار بطريق من الطرق المذكورة ولا ظهر إلغاؤه في صورة ويعبر عنه بالمناسب المرسل وسيأتي الكلام عنه فيما بعد.
القسم الخامس: المناسب الذي لم يشهد له أصل بالاعتبار بوجه من الوجوه وظهر مع ذلك إلغاؤه وإعراض الشارع عنه في صوره فهذا مما اتفق على إبطاله وامتناع التمسك به وذلك كقول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان وهو صائم يجب عليك صوم شهرين متتابعين.
فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة مع اتساع ماله قال لو أمرته بذلك لسهل عليه ذلك واستحقر إعتاق رقبة في قضاء شهوة فرجه فكانت المصلحة في إيجاب الصوم مبالغةً في زجره فهذا وإن كان مناسباً غير أنه لم يشهد له شاهد في الشرع بالاعتبار مع ثبوت الغاية بنص الكتاب.
الفصل الثامن
في إقامة الدلالة
على أن المناسبة والاعتبار دليل كون الوصف علةً
وذلك لأن الأحكام إنما شرعت لمقاصد العباد أما أنها مشروعة لمقاصد وحكم فيدل عليه الإجماع والمعقول.
أما الإجماع فهو أن أئمة الفقه مجمعة على أن أحكام الله تعالى لا تخلو عن حكمة ومقصود وإن اختلفوا في كون ذلك بطريق الوجوب كما قالت المعتزلة أو بحكم الاتفاق والوقوع من غير وجوب كقول أصحابنا وأما المعقول فهو أن الله تعالى حكيم في صنعه فرعاية الغرض في صنعه إما أن يكون واجباً أو لا يكون واجباً: فإن كان واجباً فلم يخل عن المقصود وإن لم يكن واجباً ففعله للمقصود يكون أقرب إلى موافقة المعقول من فعله بغير مقصود فكان المقصود لازماً من فعله ظناً.
وإذا كان المقصود لازماً في صنعه فالأحكام من صنعه فكانت لغرض ومقصود والغرض إما أن يكون عائدا إلى الله تعالى أو إلى العباد ولا سبيل إلى الأول لتعاليه عن الضرر والانتفاع ولأنه على خلاف الإجماع فلم يبق سوى الثاني.
وأيضاً فإن الأحكام مما جاء بها الرسول فكانت رحمة للعالمين لقوله تعالى: " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " الأنبياء 107 فلو خلت الأحكام عن حكمة عائدة إلى العالمين ما كانت رحمة بل نقمة لكون التكليف بها محض تعب ونصب.(1/350)
وأيضاً قوله تعالى: " ورحمتي وسعت كل شيء " الأعراف 156 فلو كان شرع الأحكام في حق العباد لا لحكمة لكانت نقمةً لا رحمة لما سبق وأيضاً قوله عليه السلام لا ضرر ولا ضرار في الإسلام فلو كان التكليف بالأحكام لا لحكمة عائدة إلى العباد لكان شرعها ضرراً محضاً وكان ذلك بسبب الإسلام وهو خلاف النص.
وإذا ثبت أن الأحكام إنما شرعت لمصالح العباد فإذا رأينا حكماً مشروعاً مستلزماً لأمر مصلحي فلا يخلو إما أن يكون ذلك هو الغرض من شرع الحكم أو ما لم يظهر لنا لا يمكن أن يكون الغرض ما لم يظهر لنا وإلا كان شرع الحكم تعبداً وهو خلاف الأصل لما سبق تقريره فلم يبق إلا أن يكون مشروعاً لما ظهر وإذا كان ذلك مظنوناً فيجب العمل به لأن الظن واجب الاتباع في الشرع ويدل على ذلك إجماع الصحابة على العمل بالظن ووجوب اتباعه في الأحكام الشرعية.
فمن ذلك ما اشتهر عنهم في زمن عمر من تقدير حد شارب الخمر بثمانين جلدة بسبب ظن وقع لهم من قول علي رضي الله عنه أرى أنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذي وإذا هذي افترى فأرى أن يقام عليه حد المفترين إقامة للشرب الذي هو مظنة الافتراء مقام الافتراء في حكمه.
ومن ذلك حكمهم في إمامة أبي بكر بالرأي والظن وقياسهم العهد على العقد في الإمامة ورجوعهم إلى اجتهاد أبي بكر في قتال بني حنيفة حيث امتنعوا من أداء الزكاة واتفاقهم على كتبة المصحف وجمع القرآن بين الدفتين بالرأي والظن واتفاقهم على الاجتهاد في مسألة الجد والإخوة على وجوه مختلفة.
ومن ذلك ما اشتهر عن آحاد الصحابة من العمل بالظن والرأي من غير نكير عليه.
فمن ذلك قول أبي بكر: أقول في الكلالة برأيي وحكمه بالرأي في التسوية في العطاء ومن ذلك قول عمر: أقول في الجد برأيي وأقضي فيه برأيي وقضى فيه بآراء مختلفة وقوله في حديث الجنين لولا هذا لقضينا فيه برأينا وتشريكه في المسألة الحمارية لما قيل له هب أن أبانا كان حماراً ألسنا من أم واحدة؟ ومن ذلك ما نقل عن عثمان إنه قال لعمر في بعض الأحكام إن اتبعت رأيك فرأيك أشد وإن تتبع من قبلك فنعم ذلك الرأي إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى.
فإن قيل: لا نسلم استلزام شرع الأحكام للحكم والمقاصد وذلك لأن شرع الأحكام من صنع الله تعالى وصنعه إما أن يستلزم الحكمة والمقصود أو لا يستلزم والأول ممتنع لسبعة عشر وجهاً: الأول: أن القائل قائلان: قائل يقول بأن أفعال العبيد مخلوقة لله تعالى وقائل إنها مخلوقة للعبيد فمن قال إنها مخلوقة لله تعالى فيلزمه من ذلك أن يكون خالقا للكفر والمعاصي وأنواع الشرور مع أنه لا حكمة ولا مقصود في خلق هذه الأشياء.
ومن قال إنها مخلوقة للعبيد فإنما كانت مخلوقةً لهم بواسطة خلق الله تعالى القدرة لهم على ذلك فخلقه للقدرة الموجبة لهذه الأمور لا يكون أيضاً لحكمة.
الثاني: أنه لو استلزم فعله للحكمة ما أمات الأنبياء وأنظر إبليس وما أوجب تخليد أهل النار في النار لعدم الحكمة في ذلك.
الثالث: أنه لو كان لحكمة ومقصود فعند تحقق الحكمة لا يخلو إما أن يجب الفعل بحيث لا يمكن عدمه أو لا يجب: فإن كان الأول فيلزم منه أن يصير الباري تعالى مضطراً غير مختار وإن لم يجب الفعل فقد أمكن وجوده تارةً وعدمه تارةً وعند ذلك إما أن يترجح أحد الممكنين على الآخر لمقصود أو لا لمقصود فإن كان الأول فالكلام فيه كالكلام في الأول وهو تسلسل ممتنع وإن كان الثاني فهو المطلوب.
الرابع: أنه لو كان صنع الرب تعالى يستلزم الغرض والمقصود فذلك المقصود إما أن يكون حادثاً أو قديماً: فإن كان قديماً فيلزم منه قدم الصنع والمصنوع وهو محال وإن كان حادثاً فإما أن يتوقف حدوثه على مقصود آخر أو لا يتوقف فالأول يلزم منه التسلسل والثاني هو المطلوب.
الخامس: أنه تعالى قد كلف بالإيمان من علم أنه لا يؤمن كأبي جهل وغيره وذلك مما يستحيل معه الإيمان وإلا كان علمه جهلاً والتكليف بما لا يمكن وقوعه على وجه يعاقب المكلف على عدم فعله مجرد عن الغرض والحكمة.
السادس: أن حكم الله هو كلامه وخطابه وكلامه وخطابه قديم والمقصود لا جائز أن يكون قديماً وإلا لزم منه موجود قديم غير الباري تعالى وصفاته وهو محال وإن كان حادثاً فيلزم منه تعليل القديم بالحادث وهو ممتنع.(1/351)
السابع: أن خلق الباري تعالى للعالم في وقته المعلوم المحدود مع جواز خلقه قبله أو بعده وتقديره بشكله المقدر مع جواز أن يكون أصغر أو أكبر مما لا يوقف منه على غرض ومقصود.
الثامن: أنه لو كان له في فعله غرض ومقصود لم يخل إما أن يكون فعله لذلك الغرض أولى من تركه أو لا يكون أولى: فإن كان الأول فيلزمه منه أن يكون الرب تعالى مستكملاً بذلك الصنع وناقصاً قبله وهو محال وإن لم يكن فعله أولى من الترك امتنع الفعل لعدم الأولوية.
التاسع: أن الحكم والمقاصد خفية وفي ربط الأحكام الشرعية بها ما يوجب الحرج في حق المكلف باطلاعه عليها بالبحث عنها والحرج منفي بقوله تعالى: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " الحج 78.
العاشر: أن وجود الحكمة مما يجب تأخره عن وجود شرع الحكم وما يكون متأخراً في الوجود يمتنع أن يكون علة لما هو متقدم عليه.
الحادي عشر: أنه لو كان شرع الأحكام للحكم لكانت مفيدةً لها قطعاً وذلك لأن الله تعالى قادر على تحصيل تلك الحكمة قطعاً.فلو فعل ما فعله قصداً لتحصيل تلك الحكمة لكان الظاهر منه أنه فعله على وجه تحصل الحكمة به قطعاً وأكثر الأحكام من الزواجر وغيرها غير مفيدة لما ظن أنها حكم لها قطعاً.
الثاني عشر: أنه لا يخلو إما أن يكون الرب تعالى قادراً على تحصيل تلك الحكمة الحاصلة من شرع الحكم دون شرع الحكم أو لا يكون قادراً عليه: لا جائز أن لا يكون قادراً إذ هو صفة نقص والنقص على الله محال وإن كان قادراً على ذلك فشرع الحكم وتوسطه في البين لا يكون مفيداً بل هو محض عناء وتعب.
الثالث عشر: أن خلق الكافر شقياً في الدنيا مخلداً في العذاب أخرى مما لا حكمة فيه ولا مقصود.
الرابع عشر: أن الله تعالى قد أوجب على المكلف معرفته وذلك إما أن يكون على العارف به أو على غير العارف: الأول فيه تحصيل الحاصل والثاني يلزم منه المحال حيث أوجب معرفته على من لا يعرفه مع توقف معرفة إيجابه على معرفة ذاته وهو دور ولا مصلحة في شيء من ذلك.
الخامس عشر: أن الله تعالى قد أقدر العباد على المعاصي وتركهم يرتكبون الفواحش وهو مطلع عليهم وقادر على منعهم من ذلك ولم يفعل شيئاً من ذلك وذلك مما لا حكمة فيه.
السادس عشر: أن الحكمة إنما تطلب في حق من تميل نفسه في صنعه إلى جلب نفع أو دفع ضرر والرب تعالى منزه عن ذلك.
السابع عشر: أن الحكمة إنما تطلب في فعل من لو خلا فعله عن الحكمة لحقه الذم وكان عابثاً والرب يتعالى عن ذلك لكونه متصرفاً في ملكه بحسب ما يشاء ويختار من غير سؤال عما يفعل على ما قال تعالى: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " الأنبياء 23 وإن لم يكن فعله مستلزماً للحكمة فهو المطلوب.
سلمنا استلزام شرع الحكم للحكمة ولكن لا يلزم أن يكون ما ظهر من المناسب علةً ولو كان يدل المناسب على كونه علة لكانت أجزاء العلة المناسبة عللاً بل غايته أن تكون جزء علة ولا يلزم من وجود جزء العلة في الفرع وجود الحكم.
سلمنا غلبة الظن بكون ما ظهر من المناسب علةً ولكن لا نسلم وجوب العمل بالظن مطلقاً لما سنبينه في مسألة كون القياس حجةً وما ذكرتموه من الدلائل فسيأتي الكلام عليها أيضاً في مسألة كون القياس حجة.
والجواب عما ذكروه من المنع ما سبق تقريره وعن الشبهة الأولى من ثلاثة أوجه.
الأول أن القدرة إنما تتعلق بالحدوث والوجود لا غير والكفر وأنواع المعاصي والشرور راجعة إلى مخالفة نهي الشارع وليس ذلك من متعلق القدرة في شيء.
الثاني وإن سلمنا أن جميع ذلك مخلوق لله تعالى فنحن لا ندعي ملازمة الحكمة لأفعاله مطلقاً حتى يطرد ذلك في كل مخلوق بل إنما ندعي ذلك فيما يمكن مراعاة الحكمة فيه وذلك ممكن فيما عدا أنواع الشرور والمعاصي ولا ندعي ذلك قطعاً بل ظاهراً.
الثالث وإن سلمنا لزوم الحكمة لأفعاله مطلقاً ولكن لا نسلم امتناع ذلك فيما ذكروه من الصور قطعاً لجواز أن يكون لازمها حكم لا يعلمها سوى الرب تعالى.
وبهذين الجوابين الأخيرين يكون جواب الشبهة الثانية.
وعن الثالثة أن وجود الفعل وإن قدر تحقق الحكمة غير واجب بل هو تبع لتعلق القدرة والإرادة به ومع ذلك فالباري لا يكون مضطرا بل مختاراً.(1/352)
وعن الرابعة أن المقصود حادث ولكن لا يفتقر إلى مقصود آخر فإنا إنما ندعي ذلك فيما هو ممكن وافتقار المقصود إلى مقصود آخر غير ممكن لإفضائه إلى التسلسل الممتنع وإن كان مفتقراً إلى مقصود فذلك المقصود هو نفسه لا غيره فلا تسلسل.
وعن الخامسة أنا لا ندعي لزوم المقصود في كل فعل ليلزمنا ما قيل وإن كان ذلك لازماً فلا يمتنع أن يكون ذلك لحكمة استأثر الرب تعالى بالعلم بها كما بيناه في التكليف بما لا يطاق.
وعن السادسة أن الحكم ليس هو نفس الكلام القديم كما سبق تقريره بل الكلام بصفة التعلق فكان حادثاً وإن كان الحكم قديماً والمقصود حادثاً فإنما يمتنع تعليله به أن لو كان موجباً للحكم وليس كذلك بل إما بمعنى الأمارة والعلامة عند من يقول بذلك والحادث لا يمتنع أن يكون أمارةً على القديم وإما بمعنى الباعث فلا يمتنع أيضاً أن يكون متأخراً ويكون حكم الله القديم بما حكم به لأجل ما سيوجد من المقصود الحادث.
وعن السابعة بمنع انتفاء الحكمة فيما قيل وإن لم تكن معلومة لنا.
وعن الثامنة أن فعله لذلك الغرض أولى من تركه لكن بالنظر إلى المخلوق دون الخالق.
وعن التاسعة أنه لا حرج في ربط الأحكام بالحكم إذا كانت منضبطةً بأنفسها أو بأوصاف ظاهرة ضابطة لها لعدم العسر في معرفتها وإن كان في ذلك نوع عسر وحرج يكد العقل في الاجتهاد فيها فلا نسلم خلو ذلك عن المقصود وهو زيادة الثواب على ما قال عليه السلام: " ثوابك على قدر نصبك " .
وعن العاشرة أن الحكمة وإن كانت متأخرة في الوجود عن شرع الحكم فإنما يمتنع أن تكون علةً بمعنى المؤثر لا بمعنى الباعث.
وعن الحادية عشرة أنه لا يمتنع أن تكون الحكمة المقصودة من شرع الحكم إنما هو حصول الحكمة ظاهراً لا قطعاً.
وعن الثانية عشرة أنه لا يمتنع على بعض آراء المعتزلة أن يقال بأن الرب تعالى غير قادر على تحصيل ذلك الغرض الخاص من شرع ذلك الحكم دون شرعه ولا يلزم منه العجز ضرورة كونه غير ممكن.
وإن قدر أنه قادر على ذلك وهو الحق فلا يلزم أن يكون شرع الحكم غير مفيد مع حصول الفائدة به وإن قدر إمكان حصول الفائدة بطريق آخر.
وعن الثالثة عشرة أن الحكمة فيما ذكروه إما أن تكون ممتنعةً أو جائزةً فإن كان الأول فلا يلزم امتناعها فيما هي ممكنة فيه وإن كان الثاني فلا مانع من وجودها وإن لم نطلع نحن عليها.
وهو الجواب عن الرابعة عشرة كيف وأنه إنما يلزم الدور الممتنع أن لو قيل بتوقف الوجوب على معرفة المكلف للوجوب وليس كذلك على ما سبق تقريره في شكر المنعم.
وعن الخامسة عشرة ما هو جواب الشبهتين قبلها.
وعن السادسة عشرة بمنع ما ذكروه في رعاية الحكمة بل الحكمة إنما تطلب في فعل من لو وجدت الحكمة في فعله لما كان ممتنعاً بل واقعاً في الغالب.
وعن السابعة عشرة أن ما ذكروه إنما يلزم في حق من تجب مراعاة الحكمة في فعله والباري تعالى ليس كذلك على ما حققناه في كتبنا الكلامية.
قولهم: لا يلزم أن يكون ما ظهر من المناسب علةً قلنا لا يلزم أن يكون علةً قطعاً وإنما يلزم أن يكون علةً ظاهراً ضرورة أنه لا بد للحكم من علة ظاهرة على ما سبق تقريره ولا ظاهر سواه.
وأما أجزاء العلة وإن كانت مناسبة فإنما يمتنع التعليل بكل واحد منها لما سبق من امتناع تعليل الحكم الواحد في محل واحد بعلل بخلاف ما إذا اتحد الوصف أو تعدد وكانت العلة مجموع الأوصاف.
قولهم: لا نسلم وجوب العمل بذلك وإن كان مظنوناً قلنا: دليله ما ذكرناه وما سيأتي في مسألة إثبات القياس على منكريه وما يذكرونه على ذلك فسيأتي جوابه ثم أيضاً.
المسلك السادس:
إثبات العلة بالشبه.
ويشتمل على ثلاثة فصول.
الفصل الأول
في حقيقة الشبه واختلاف الناس فيه
وما هو المختار فيه
نقول: اعلم أن اسم الشبه وإن أطلق على كل قياس ألحق الفرع فيه بالأصل لجامع يشبهه فيه غير أن آراء الأصوليين مختلفة فيه: فمنهم من فسره بما تردد فيه الفرع بين أصلين ووجد فيه المناط الموجود في كل واحد من الأصلين إلا أنه يشبه أحدهما في أوصاف هي أكثر من الأوصاف التي بها مشابهته للأصل الآخر فإلحاقه بما هو أكثر مشابهةً هو الشبه.(1/353)
وذلك كالعبد المقتول خطأ إذا زادت قيمته على دية الحر فإنه قد اجتمع فيه مناطان متعارضان أحدهما النفسية وهو مشابه للحر فيها ومقتضى ذلك أن لا يزاد فيه على الدية والثاني المالية وهو مشابه للفرس فيها ومقتضى ذلك الزيادة.
إلا أن مشابهته للحر في كونه آدمياً مثاباً معاقباً ومشابهته للفرس في كونه مملوكاً مقوماً في الأسواق فكان إلحاقه بالحر أولى لكثرة مشابهته له وليس هذا من الشبه في شيء فإن كل واحد من المناطين مناسب وما ذكر من كثرة المشابهة إن كانت مؤثرةً فليست إلا من باب الترجيح لأحد المناطين على الآخر وذلك لا يخرجه عن المناسب وإن كان يفتقر إلى نوع ترجيح.
ومنهم من فسره بما عرف المناط فيه قطعاً غير أنه يفتقر في آحاد الصور إلى تحقيقه وذلك كما في طلب المثل في جزاء الصيد بعد أن عرف أن المثل واجب بقوله تعالى: " فجزاء مثل ما قتل من النعم " .
وليس هذا أيضاً من الشبه إذ الكلام إنما هو مفروض في العلة الشبهية والنظر هاهنا إنما هو في تحقيق الحكم الواجب وهو الأشبه لا في تحقيق المناط وهو معلوم بدلالة النص ودليل أن الواجب هو الأشبه أنه أوجب المثل ونعلم أن الصيد لا يماثله شيء من النعم فكان ذلك محمولاً على الأشبه كيف وهو مجزوم مقطوع به والشبه مختلف فيه وكيف يكون المتفق عليه هو نفس المختلف فيه.
ومنهم من فسره بما اجتمع فيه مناطان مختلفان لا على سبيل الكمال إلا أن أحدهما أغلب من الآخر فالحكم بالأغلب حكم بالأشبه وذلك كاللعان فإنه قد وجد فيه لفظ الشهادة واليمين وليسا بمتمحضين لأن الملاعن مدع والمدعي لا تقبل شهادته لنفسه ولا يمينه وهذا وإن كان أقرب من المذاهب المتقدمة إلا أنه مهما غلبت إحدى الشائبتين فقد ظهرت المصلحة الملازمة لها في نظرنا فيجب الحكم بها ولكنه غير خارج عن التعليل بالمناسب.
وقد ذهب القاضي أبو بكر إلى تفسيره بقياس الدلالة وهو الجمع بين الأصل والفرع بما لا يناسب الحكم ولكن يستلزم ما يناسب الحكم وسيأتي تحقيقه في موضعه بعد.
ومنهم من فسره بما يوهم المناسبة من غير اطلاع عليها وذلك أن الوصف المعلل به لا يخلو إما أن تظهر فيه المناسبة أو لا تظهر فيه المناسبة بوقوف من هو أهل معرفة المناسبة عليها وذلك بأن يكون ترتيب الحكم على وفقه مما يفضي إلى تحصيل مقصود من المقاصد المبينة من قبل فهو المناسب.
وإن لم تظهر فيه المناسبة بعد البحث التام ممن هو أهله فإما أن يكون مع ذلك مما لم يؤلف من الشارع الالتفات إليه في شيء من الأحكام أو هو مما ألف من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام.
فإن كان من الأول فهو الطردي الذي لا التفات إليه ومثاله ما لو قال الشافعي مثلاً في إزالة النجاسة بمائع لا تبنى القنطرة على جنسه فلا تجوز إزالة النجاسة به كالدهن وكما لو علل في مسألة من المسائل بالطول والقصر والسواد والبياض ونحوهما: وإن كان الثاني فهو الشبهي وذلك لأنه بالنظر إلى عدم الوقوف على المناسبة فيه بعد البحث يجزم المجتهد بانتفاء مناسبته وبالنظر إلى اعتباره في بعض الأحكام يوجب إيقاف المجتهد عن الجزم بانتفاء المناسبة فيه فهو مشابه للمناسب في أنه غير مجزوم به في ظهور المناسبة فيه ومشابه للطردي في أنه غير مجزوم بظهور المناسبة فيه فهو دون المناسب وفوق الطردي.
ولعل المستند في تسميته شبهياً إنما هو هذا المعنى: ومثاله قول الشافعي في مسألة إزالة النجاسة طهارة تراد لأجل الصلاة فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث فإن الجامع هو الطهارة ومناسبتها لتعيين الماء فيها بعد البحث التام غير ظاهرة وبالنظر إلى كون الشارع اعتبرها في بعض الأحكام كمس المصحف والصلاة والطواف يوهم اشتمالها على المناسبة كما تقرر.
واعلم أن إطلاق اسم الشبه وإن كان حاصله في هذه الصور راجعاً إلى الاصطلاحات اللفظية غير أن أقربها إلى قواعد الأصول الاصطلاح الأخير وهو الذي ذهب إليه أكثر المحققين ويليه في القرب مذهب القاضي أبي بكر.
الفصل الثاني
في أن الشبه مع قران الحكم به دليل
على كون الوصف علةً(1/354)
وبيانه أنا إذا رأينا حكماً ثابتاً عقيب وصفين وأحد الوصفين شبهي بالتفسير الأخير والآخر طردي فلا يخلو: إما أن يكون الحكم ثابتاً لمصلحة أو لا لمصلحة لا جائز أن يقال بالثاني إذ الحكم الشرعي لا يخلو عن مصلحة وإن لم يكن ذلك بطريق الوجوب كما تقرر قبل فلم يبق غير الأول وهو أنه ثابت لمصلحة وتلك المصلحة لا تخلو: إما أن تكون في ضمن الوصف الشبهي أو الطردي لعدم ما سواهما ولا يخفى أن اشتمال الوصف الشبهي على المصلحة أغلب على الظن من اشتمال الطردي عليها لأن الطردي مجزوم بنفي مناسبته والشبهي متردد فيه على ما تقرر وإذا كان ذلك هو الغالب على الظن فالظن معمول به في الشرعيات على ما تقدم تقريره.
الفصل الثالث
زعم بعض أصحابنا أن الشبهي إذا اعتبر جنسه في جنس الحكم دون اعتبار عينه في عينه لا يكون حجةً بخلاف الوصف المناسب مصيراً منه إلى أن الشبهي إذا ظهر تأثير عينه في عين الحكم فالظن المستفاد منه في أدنى درجات الظن فإذا انحط عن هذه الرتبة إلى رتبة اعتبار الجنس في الجنس فقد اضمحل الظن بالكلية لأنه ليس تحت أدنى درجات الظن درجة سوى ما ليس بظن وما ليس بمظنون لا يكون حجةً وهذا بخلاف المناسب فإن الظن المستفاد منه باعتبار العين في العين قوي جداً فنزوله عن هذه الرتبة إلى رتبة اعتبار الجنس في الجنس وإن فات معه ذلك الظن الغالب فقد بقي له أصل الظن فكان حجةً.
وأيضاً فإن الوصف الشبهي إنما صار شبهياً باعتبار الشارع له في جنس الحكم المعلل وذلك في إفادة الظن دون المناسب المرسل والمناسب المرسل ليس بحجة لما سيأتي تقريره فما هو دونه أولى أن لا يكون حجةً وهذا بخلاف المناسب المتأيد بشهادة الجنس في الجنس فإنه فوق المناسب المرسل فلا يلزم من كون المرسل ليس بحجة أن يكون ذلك ليس بحجة.
ولقائل أن يقول: أما الأول فهو مبني على أن الشبهي المتأيد بشهادة العين في العين في أدنى درجات الظنون وهو غير مسلم بل للخصم أن يقول: ما هو في أدنى درجات الظنون إنما هو الشبهي المتأيد بشهادة الجنس في الجنس والنزول عن تلك الدرجة إلى ما دونها لا يوجب انمحاق الظن بالكلية كما قيل.
وأما الثاني فهو وإن سلم أن الشبهي إنما صار شبهياً بالتفات الشارع إليه في بعض الأحكام وأنه أدنى من المناسب المرسل من حيث إن مناسبة المرسل ظاهرة ومناسبة الشبهي غير ظاهرة بل موهومة متردد فيها.
غير أن الشبهي بعد أن ثبت كونه شبيهاً بالتفات الشارع إليه في بعض الأحكام إذا رأينا الشارع قد اعتبر جنسه في جنس الحكم المعلل فقد صار معتبراً ولا كذلك المرسل فإنه غير معتبر ولا يلزم من عدم الاحتجاج بما ليس معتبرا عدم الاحتجاج بالمعتبر.
المسلك السابع:
إثبات العلة بالطرد والعكس.
وقد اختلف فيه: فذهب جماعة من الأصوليين إلى أنه يدل على كون الوصف علةً.
لكن اختلف هؤلاء: فمنهم من قال إنه يدل على العلية قطعاً كبعض المعتزلة ومنهم من قال يدل عليها ظناً كالقاضي أبي بكر وبعض الأصوليين وهو مذهب أكثر أبناء زماننا.
والذي عليه المحققون من أصحابنا وغيرهم أنه لا يفيد العلية لا قطعاً ولا ظناً وهو المختار وصورته ما إذا قيل في مسألة النبيذ مثلاً مسكر فكان حراماً كالخمر وأثبت كون المسكر علة للتحريم بدورانه مع التحريم وجوداً وعدماً في الخمر فإنه إذا صار مسكراً حرم وإن زال الإسكار عنه بأن صار خلا فإنه لا يحرم وقد احتج القائلون إنه ليس بحجة بأمرين: الأول ما ذكره الغزالي وهو أن قال حاصل الاطراد يرجع إلى سلامة العلة عن النقض وسلامة العلة عن مفسد واحد لا يوجب سلامتها عن كل مفسد وعلى تقدير السلامة عن كل مفسد فصحة الشيء لا تكون بسلامته عن المفسدات بل لوجود المصحح والعكس ليس شرطاً في العلل فلا يؤثر.
وهذه الحجة ضعيفة فإنه وإن سلم أن كل واحد من الأمرين على انفراده لا دلالة له على العلية فلا يلزم منه عدم التأثير بتقدير الإجتماع ودليله إجزاء العلة فإن كل واحد منها لا يستقل بإثبات الحكم ولم يلزم من ذلك عدم استقلال المجموع.
الحجة الثانية لبعض أصحابنا: قال إن الصور التي دار الحكم فيها مع الوصف وجوداً وعدماً لا بد أن تكون متمايزة بصفات خاصة بها وإلا كانت متحدةً لا متعددةً.(1/355)
وعند ذلك فللخصم أن يأخذ الوصف الخاص بكل صورة من صور الطرد والعكس في العلة في تلك الصورة ويجعل العلة في كل صورة مجموع الوصفين وهما الوصف المشترك والوصف الخاص بها وهي من النمط الأول إذ لقائل أن يقول: الترجيح للتعليل بالوصف المشترك لكونه مطرداً في جميع مجاري الحكم فيكون أغلب على الظن بخلاف التعليل بالمركب من الوصف الخاص والمشترك.
فإن قيل: بل التعليل بالمركب أولى لما فيه من تعدد مدارك الحكم فإنه أولى من اتحاده لكونه أقرب إلى تحصيل مقصود الشارع من الحكم فهو مقابل بأن التعليل بالوصف المشترك يكون منعكساً بخلاف التعليل بالمركب من الوصفين في كل صورة ولا يخفى أن التعليل بالمطرد المنعكس أولى من التعليل بالمطرد الذي لا ينعكس للاتفاق عليه ولأن التعليل بالوصف المشترك يكون متعدياً بخلاف التعليل بالمركب من الوصفين في كل صورة فإنه يكون قاصراً والتعليل بالمتعدية أولى للاتفاق عليها والاختلاف في القاصرة.
والحق في ذلك أن يقال: مجرد الدوران لا يدل على التعليل بالوصف لوجهين: الأول أنه يجوز أن يكون الوصف وصفاً ملازماً للعلة وليس هو العلة وذلك كالرائحة الفائحة الملازمة للشدة المطربة ولا سبيل إلى دفع ذلك إلا بالتعرض لانتفاء وصف غيره بدلالة البحث والسبر أو بأن الأصل عدمه.
ويلزم من ذلك الانتقال من طريقة الدوران إلى طريقة السبر والتقسيم وهو كاف في الاستدلال على العلية.
الثاني أن الدوران قد وجد فيما لا دلالة له على العلية كدوران أحد المتلازمين المتعاكسين كالمتضايفين وليس أحدهما علة للآخر وكذلك فإن الدوران كما وجد في جانب الحكم مع الوصف فقد وجد في جانب الوصف مع الحكم وليس الحكم علة للوصف.
فإن قيل: نحن لا ندعي أن مطلق الدوران دليل على علية الوصف ليلزم ما قيل بل بقيود ثلاثة وهي أن يكون حدوث ذلك الأثر مرتباً على وجود ذلك الوصف ترتباً عقلياً بحيث يصدق قول القائل: وجد هذا الشيء فحدث ذلك الأثر.
وأن لا يقطع بخروج هذا الوصف عن أن يكون علةً وموجباً لحدوث ذلك الأثر وأن لا يقطع بوجود علة أخرى لهذا الحكم سوى هذا الوصف ومهما وجد الدوران على هذه القيود كان دليلاً على العلية.
وذلك كما إذا دعي الإنسان باسم فغضب منه وإذا لم يدع به لم يغضب ورأينا ذلك منه مراراً مرة بعد مرة وجوداً وعدما فإنه يغلب على الظن أن ذلك الاسم هو سبب الغضب حتى إن الصبيان يعلمون ذلك منه ويتبعونه في الدروب داعين له بذلك الاسم المغضب له والدوران بهذه القيود متحقق في السكر مع التحريم فكان دليلاً على كونه علةً وخرج عليه ما ذكر من الرائحة الفائحة حيث قطعنا أنها ليست علةً وكذلك الحكم في كل واحد من المتضايفين بالنسبة إلى الآخر ولأنه يمتنع ترتيب كل واحد على الآخر في الوجود بالتفسير المذكور وكذلك الكلام في نسبة الحكم إلى الوصف وخرج عليه أيضاً ما إذا ظهر ثم علة مغايرة للمدار.
قلنا: ما ذكروه من دوران غضب الإنسان مع دعائه ببعض الأسماء بالقيود المذكورة لا نسلم غلبة الظن بكون ذلك الاسم علة بل به أو بملازمه وإنما يظهر كونه علة مع ظهور انتفاء الملازم والطريق في ذلك إنما هو التمسك بالعدم الأصلي أو بعدم الاطلاع عليه بعد البحث والسبر والتقسيم ويلزم منه الانتقال من طريقة الدوران إلى طريقة السبر والتقسيم وهي كافية في التعليل.
وقد ترد عليه أسئلة أخرى مشهورة الجواب آثرنا الإعراض عن ذكرها اكتفاء في إبطال الدوران بما ذكرناه فإنه في غاية القوة والدقة.
وإذا عرف أن الطرد والعكس لا يصلح دليلاً على العلية فالاطراد بانفراده أولى أن لا يكون دليلاً نظراً إلى أن الاطراد عبارة عن السلامة عن النقض المفسد والسلامة عن مفسد واحد غير موجبة للتصحيح.
خاتمة في أنواع النظر والاجتهاد في مناط الحكم وهو العلة. ولما كانت العلة متعلق الحكم ومناطه فالنظر والاجتهاد فيه إما في تحقيق المناط أو تنقيحه أو تخريجه أما تحقيق المناط فهو النظر في معرفة وجود العلة في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها وسواء كانت معروفةً بنص أو إجماع أو استنباط أما إذا كانت معروفةً بالنص فكما في جهة القبلة فإنها مناط وجوب استقبالها وهي معروفة بإيماء النص وهو قوله تعالى: " وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره " البقرة 144.(1/356)
وكون هذه الجهة هي جهة القبلة في حالة الاشتباه فمظنون بالاجتهاد والنظر في الأمارات وأما إذا كانت معلومةً بالإجماع فكالعدالة فإنها مناط وجوب قبول الشهادة وهي معلومة بالإجماع وأما كون هذا الشخص عدلاً فمظنون بالاجتهاد.
وأما إذا كانت مظنونةً بالاستنباط فكالشدة المطربة فإنها مناط تحريم الشرب في الخمر فالنظر في معرفتها في النبيذ هو تحقيق المناط ولا نعرف خلافا في صحة الاحتجاج بتحقيق المناط إذا كانت العلة فيه معلومة بنص أو إجماع وإنما الخلاف فيه فيما إذا كان مدرك معرفتها الاستنباط.
وأما تنقيح المناط فهو النظر والاجتهاد في تعيين ما دل النص على كونه علةً من غير تعيين بحذف ما لا مدخل له في الاعتبار مما اقترن به من الأوصاف كل واحد بطريقة كما علم فيما تقدم مما ذكرناه من التعليل بالوقاع في قصة الأعرابي فإنه وإن كان مومى إليه بالنص غير أنه يفتقر في معرفته عيناً إلى حذف كل ما اقترن به من الأوصاف عن درجة الاعتبار بالرأي والاجتهاد وذلك بأن يبين أن كونه أعرابياً وكونه شخصاً معيناً وأن كون ذلك الزمان وذلك الشهر بخصوصه وذلك اليوم بعينه وكون الموطوءة زوجة وامرأة معينةً لا مدخل له في التأثير بما يساعد من الأدلة في ذلك حتى يتعدى إلى كل من وطىء في نهار رمضان عامداً وهو مكلف صائم وهذا النوع وإن أقر به أكثر منكري القياس فهو دون الأول.
وأما تخريج المناط فهو النظر والاجتهاد في إثبات علة الحكم الذي دل النص أو الإجماع عليه دون عليته وذلك كالاجتهاد في إثبات كون الشدة المطربة علة لتحريم شرب الخمر وكون القتل العمد العدوان علةً لوجوب القصاص في المحدد وكون الطعم علة ربا الفضل في البر ونحوه حتى يقاس عليه كل ما ساواه في علته وهذا في الرتبة دون النوعين الأولين ولذلك أنكره أهل الظاهر والشيعة وطائفة من المعتزلة البغداديين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الثالث في أقسام القياس وأنواعه وهي خمس قسم: القسمة الأولى: القياس ينقسم إلى ما المعنى الجامع فيه باقتضاء الحكم في الفرع أولى منه في الأصل وإلى ما هو مساو وإلى ما هو أدنى.
فالأول كتحريم ضرب الوالدين بالنسبة إلى تحريم التأفيف لهما وما في معناه وسواء كان قطعياً أو ظنياً كما سبق تقريره في مسائل المفهوم.
وإن كان الثاني فكما في إلحاق الأمة بالعبد في تقويم نصيب الشريك على المعتق وكما في إلحاق نجاسة الماء بصب البول فيه من كوز بنجاسته بالبول فيه ونحوه.
وإن كان الثالث فكما في إلحاق النبيذ بالخمر في تحريم الشرب وإيجاب الحد ونحوه غير أن هذا النوع الثالث متفق على كونه قياساً ومختلف في النوعين الأولين كما سبق.
القسمة الثانية: القياس ينقسم إلى جلي وخفي.
فالجلي ما كانت العلة فيه منصوصةً أو غير منصوصة غير أن الفارق بين الأصل والفرع مقطوع بنفي تأثيره فالأول كإلحاق تحريم ضرب الوالدين بتحريم التأفيف لهما بعلة كف الأذى عنهما.
والثاني كإلحاق الأمة بالعبد في تقويم النصيب حيث عرفنا أنه لا فارق بينهما سوى الذكورة في الأصل والأنوثة في الفرع وعلمنا عدم التفات الشارع إلى ذلك في أحكام العتق خاصة.
وأما الخفي فما كانت العلة فيه مستنبطةً من حكم الأصل كقياس القتل بالمثقل على المحدد ونحوه.
القسمة الثالثة. القياس ينقسم إلى مؤثر وملائم.
أما المؤثر فإنه يطلق باعتبارين: الأول ما كانت العلة الجامعة فيه منصوصة بالصريح أو الإيماء أو مجمعاً عليها.
والثاني ما أثر عين الوصف الجامع في عين الحكم أو عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم.
وأما الملائم فما أثر جنسه في جنس الحكم كما سبق تحقيقه ومن الناس من جعل المؤثر من هذه الأقسام ما أثر عينه في عين الحكم لا غير والملائم ما بعده من الأقسام.
القسمة الرابعة. القياس ينقسم إلى قياس علة ودلالة والقياس في معنى الأصل.
وذلك لأنه لا يخلو إما أن يكون الوصف الجامع بين الأصل والفرع قد صرح به أو لم يصرح به فإن صرح به فلا يخلو إما أن يكون هو العلة الباعثة على الحكم في الأصل أو لا يكون هو العلة بل هو دليل عليها.
فإن كان الأول فيسمى قياس العلة وذلك كالجمع بين النبيذ والخمر في تحريم الشرب بواسطة الشدة المطربة ونحوه وإنما سمي قياس العلة للتصريح فيه بالعلة.(1/357)
وإن كان الثاني فيسمى قياس الدلالة وذلك كالجمع بين النبيذ والخمر بالرائحة الفائحة الملازمة للشدة المطربة أو الجمع بين الأصل والفرع بأحد موجبي العلة في الأصل استدلالاً به على الموجب الآخر كما في الجمع بين قطع الجماعة ليد الواحد وقتل الجماعة للواحد في وجوب القصاص بواسطة الاشتراك في وجوب الدية عليهم بتقدير إيجابها.
وأما إن كان الوصف الجامع لم يصرح به في القياس كما في إلحاق الأمة بالعبد في تقويم نصيب الشريك على المعتق بواسطة نفي الفارق بينهما فيسمى القياس في معنى الأصل.
القسمة الخامسة. القياس لا يخلو إما أن يكون طريق إثبات العلة المستنبطة فيه المناسبة أو الشبه أو السبر والتقسيم أو الطرد والعكس كما سبق تحقيقه.
فإن كان الأول فيسمى قياس الإحالة.
وإن كان الثاني فيسمى قياس الشبه.
وإن كان الثالث فيسمى قياس السبر.
وإن كان الرابع فيسمى قياس الاطراد.
الباب الرابع في مواقع الخلاف في القياس وإثباته على منكريه وفيه ست مسائل.
المسألة الأولى يجوز التعبد بالقياس في الشرعيات عقلاً وبه قال السلف من الصحابة والتابعين والشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وأكثر الفقهاء والمتكلمين وقالت الشيعة والنظام وجماعة من معتزلة بغداد كيحيى الإسكافي وجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب بإحالة ورود التعبد به عقلاً وإن اختلفوا في مأخذ الإحالة العقلية كما سنبينه وقال القفال من أصحاب الشافعي وأبو الحسين البصري بأن العقل موجب لورود التعبد بالقياس.
والمختار إنما هو الجواز ويدل على ذلك الإجمال والتفصيل: أما الإجمال فهو أنه لا خلاف بين العقلاء أنه يحسن من الشارع أن ينص ويقول: لا يقضي القاضي وهو غضبان لأن الغضب مم يوجب اضطراب رأيه وفهمه فقيسوا على الغضب ما كان في معناه كالجوع والعطش والإعياء المفرط وأن يقول: حرمت عليكم شرب الخمر ومهما غلب على ظنونكم أن علة التحريم الشدة المطربة الصادة عن ذكر الله المفضية إلى وقوع الفتن والعدواة والبغضاء لتغطيتها على العقل فقيسوا عليها كل ما في معناه من النبيذ وغيره ولو كان ذلك ممتنعاً عقلاً لما حسن ورود الشرع بذلك.
وأما من جهة التفصيل فمن وجهين: الأول هو أن العاقل إذا صح نظره واستدلاله أدرك بالأمارات الحاضرة المدلولات الغائبة وذلك كمن رأى جداراً مائلاً منشقاً فإنه يحكم بهبوطه أو رأى غيماً رطباً وهواءً بارداً حكم بنزول المطر أو رأى إنساناً خارجاً من بيت فيه قتيل وبيده سكين مخضبة بالدم حكم بكونه قاتلاً فإذا رأى الشارع قد أثبت حكماً في صورة من الصور ورأى ثم معنى يصلح أن يكون داعياً إلى إثبات ذلك الحكم ولم يظهر له ما يبطله بعد البحث التام والسبر الكامل فإنه يغلب على ظنه أن الحكم ثبت له وإذا وجد ذلك الوصف في صورة أخرى غير الصورة المنصوص عليها ولم يظهر له أيضاً ما يعارضه فإنه يغلب على ظنه ثبوت الحكم به في حقنا وقد علمنا أن مخالفة حكم الله تعالى سبب للعقاب فالعقل يرجح فعل ما ظن فيه المصلحة ودفع المضرة على تركه ولا معنى للجواز العقلي سوى ذلك.
الثاني أن التعبد بالقياس فيه مصلحة لا تحصل دونه وهي ثواب المجتهد على اجتهاده وإعمال فكره وبحثه في استخراج علة الحكم المنصوص عليه لتعديته إلى محل آخر على ما قال عليه السلام ثوابك على قدر نصبك وما كان طريقا إلى تحصيل مصلحة المكلف فالعقل لا يحيله بل يجوزه.
فإن قيل: ما ذكرتموه من جواز التعبد بالقياس بناء على ظن حصول المصلحة ودفع المضرة إنما يحسن إذا لم يكن الوصول إلى ذلك بطريق يقيني وأما إذا أمكن فلا وذلك لأنه مهما أمكن الوصول إلى المطلوب بطريق يؤمن فيه الخطأ فالعقل يمنع من سلوك طريق لا يؤمن فيه الخطأ فما لم تثبتوا أنه لم يوجد دليل شرعي قاطع يدل على ذلك من كتاب أو سنة أو إجماع أمة فاتباع الظن يكون ممتنعاً عقلاً.
سلمنا أنه لم يوجد دليل قطعي على ذلك لكن إنما يسوغ العقل التمسك بالظن إذا لم يوجد دليل ظني راجع على ظن القياس مفض إلى حكم القياس وإلا كان العمل بما الخطأ فيه أقرب مما ترك وهو ممتنع عقلاً سلمنا دلالة ما ذكرتموه على تجويز العقل لذلك غير أنه منقوض ومعارض.(1/358)
أما النقض فبصور: منها أن قول الشاهد الواحد بل العبيد والنساء المتمحضات في الحقوق المالية والدماء والفروج بل الفساق مغلب على ظن القاضي الصدق ومع ذلك لا يجوز له العمل به ومنها أن مدعى النبوة إذا غلب على الظن صدقه من غير دلالة المعجزة عليه لا يجوز اتباعه والعمل بقوله ومنها أن المصالح المرسلة وإن غلبت على الظن لا يجوز العمل بها ومنها أنه لو اشتبهت رضيعة بعشر أجنبيات أو ميتة بعشر مذكيات لم يجز مد اليد إلى واحدة منها وإن وجدت علامات مغلبة على الظن.
وأما المعارضة فمن خمسة وعشرين وجهاً: الأول: قال النظام إن العقل يقتضي التسوية بين المتماثلات في أحكامها والاختلاف بين المختلفات في أحكامها والشارع قد رأيناه فرق بين المتماثلات وجمع بين المختلفات وهو على خلاف قضية العقل وذلك يدل على أن القياس الشرعي غير وارد على مذاق العقل فلا يكون العقل مجوزاً له.
أما تفرقته بين المتماثلات فإنه فرض الغسل من المني وأبطل الصوم بإنزاله عمداً دون البول والمذي وأوجب غسل الثوب من بول الصبية والرش عليه من بول الغلام ونقص من عدد الرباعية في حق المسافر الشطر دون الثنائية وأوجب الصوم على الحائض دون الصلاة مع أن الصلاة أولى بالمحافظة عليها وحرم النظر إلى العجوز القبيحة المنظر وأباحه في حق الأمة الحسناء وقطع سارق القليل دون غاصب الكثير وأوجب الجلد بالقذف بالزنى دون القذف بالكفر وقبل في القتل شاهدين دون الزنى وجلد قاذف الحر الفاسق دون العبد العفيف وفرق في العدة بين الموت والطلاق مع استواء حال الرحم فيهما وجعل استبراء الرحم بحيضة واحدة في حق الأمة والحرة المطلقة بثلاث حيضات وأوجب تطهير غير الموضع الذي خرجت منه الريح مع أن القياس كان مقتضياً للتسوية في جميع هذه الصور بل ربما كان بعض الصور التي لم يثبت فيها الحكم أولى به مما ثبت فيها.
وأما تسويته بين المختلفات فإنه سوى بين قتل الصيد عمداً وخطأ في إيجاب الضمان وسوى في إيجاب القتل بين الردة والزنى وسوى في إيجاب الكفارة بين قتل النفس والوطء في رمضان والظهار مع الاختلاف وذلك مما يبطل الاعتبار بالأمثال ويوجب امتناع العمل بالقياس.
الثاني: قالت الشيعة: إن القول بالتعبد بالقياس يفضي إلى الاختلاف وذلك عند ما إذا ظهر لكل واحد من المجتهدين قياس مقتضاه نقيض حكم الآخر والاختلاف ليس من الدين لقوله تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " النساء 82 وقوله تعالى: " وأن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " الشورى 13 وقوله: " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " الأنفال 46 وقوله: " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً " الأنعام 159 وقوله تعالى: " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا " آل عمران 105 ذكر ذلك في معرض الذم ولا ذم على ما يكون من الدين وقد ذم الصحابة الاختلاف حتى قال عمر لا تختلفوا فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافاً وأنه لما سمع ابن مسعود وأبي بن كعب يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد أو الثوبين صعد المنبر وقال: رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفا فعن أي فتياكم يصدر المسلمون؟ لا أسمع اثنين يختلفان بعد مقامي هذا إلا فعلت وصنعت وقال جرير بن كليب رأيت عمر ينهى عن المتعة وعلياً يأمر بها فقلت إن بينكما لشراً.
وكتب علي إلى قضاته أيام خلافته أن اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف وأرجو أن أموت كما مات أصحابي.
الثالث: أنه إذا اختلفت الأقيسة في نظر المجتهدين فإما أن يقال بأن كل مجتهد مصيب فيلزم منه أن يكون الشيء ونقيضه حقاً وهو محال وإما أن يقال بأن المصيب واحد وهو أيضاً محال فإنه ليس تصويب أحد الظنين مع استوائهما دون الآخر أولى من العكس.
الرابع: قال النبي صلى الله عليه وسلم أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصاراً فلو كان التنصيص منه على الأشياء الستة الربوية قصداً لقياس ما عداها من المطعومات عليها مع أنه كان قادراً على ما هو أصرح منه وللخلاف والجهل أدفع وهو أن يقول حرمت الربا في كل مطعوم لكان عدولاً منه عن الظاهر المفهوم إلى الخفي الموهوم وهو غير لائق بفصاحته وحكمته وهو خلاف نصه.(1/359)
الخامس: أن الحكم في أصل القياس إن كان ثابتاً بالنص امتنع إثباته في الفرع لعدم وجود النص في الفرع وامتناع ثبوته فيه بغير طريق حكم الأصل وإلا لما كان تابعاً للأصل ولا فرعاً له وإن كان ثابتاً بالعلة فهو ممتنع لوجهين: الأول أن الحكم في الأصل مقطوع والعلة مظنونة والمقطوع به لا يثبت بالمظنون.
الثاني أن العلة في الأصل مستنبطة من حكم الأصل ومتفرعة عليه والمتفرع على الشيء لا يكون مثبتاً لذلك الشيء وإلا كان دورا ممتنعاً.
السادس: أنه لو كانت العلة منصوصة كما لو قال حرمت الربا في البر لكونه مطعوماً فإنه لا يقتضي التحريم في غير البر فالمستنبطة أولى بعدم التعدية وبيان أن المنصوصة لا تقتضي التحريم في غير محل النص قصور دلالة اللفظ عن ذلك.
ولهذا فإنه لو قال: أعتقت كل عبد لي أسود عتق كل السودان من عبيده ولو قال: أعتقت عبدي سالماً لسواده أو لسوء خلقه فإنه لا يعتق غانم وإن كان أشد سواداً من سالم وأسوأ خلقاً.
السابع: أن حكم القياس إما أن يكون موافقاً للبراءة الأصلية أو مخالفاً لها: فإن كان الأول لم يكن القياس مفيداً لأنه لو قدر عدمه كان مقتضاه متحققاً بالبراءة الأصلية وإن كان الثاني فهو ممتنع لأن البراءة الأصلية متيقنة والقياس مظنون واليقين تمتنع مخالفته بالظن.
الثامن: أنه لو جاز التعبد بالقياس عقلا في الفروع لظن المصلحة لجاز مثل ذلك في أصول الأقيسة وهو محال لما فيه من التسلسل.
التاسع: أن الشرعيات مصالح فلو جاز إثباتها بالقياس لجاز أن يتعبد بالإخبار عن كون زيد في الدار عند غلبة الظن بكونه فيها بالأمارات وهو ممتنع.
العاشر: أن الرجم بالظن جهل ولا صلاح للخلق في إقحامهم ورطة الجهل حتى يتخبطوا فيه ويحكموا بما يجوز أن يكون مخالفاً لحكم الله تعالى.
الحادي عشر: أنه لا يستقيم قياس إلا بعلة والعلة ما توجب الحكم بذاتها وعلل الشرع ليس كذلك فلا قياس.
الثاني عشر: أن حكم الله تعالى خبره وذلك إنما يعرف بالتوقيف لا بالقياس لأن القياس من فعلنا لا من توقيف الشارع.
الثالث عشر: أن جلي الأحكام الشرعية لا يعرف إلا بالنصوص فكذلك خفيها كالمدركات فإن جليها وخفيها لا يدرك بغير الحس.
الرابع عشر: أنه لو كان للشرعيات علل لاستحال انفكاكها عن أحكامها كما في العلل العقلية فإنه يستحيل انفكاك الحركة القائمة بالجسم عن كون متحركاً لما كانت الحركة علة لكونه متحركاً وذلك يوجب ثبوت الأحكام الشرعية قبل ورود الشرع لتقدم العلل عليها وهو محال.
الخامس عشر: أنه لو كان القياس صحيحاً لكان حجة مع النص وذلك ممتنع بالإجماع.
السادس عشر: أن نظر القائس لا بد وأن يقع في منظور فيه والمنظور فيه ليس سوى النص والحكم وهو الواجب والحرام مثلاً وليس المنظور فيه هو النص إذ هوغير متناول للفرع والحكم فهو فعل المكلف ويلزم من ذلك أنه إذا لم يوجد فعل المكلف أن لا يصح القياس: ويلزم من فساد الأمرين فساد القياس الشرعي السابع عشر: أنه لو جاز التعبد بتحريم شيء أو وجوبه عند ظننا أنه مشابه لأصل محرم أو واجب بناء على أمارة لجاز أن يتعبد بذلك عند ظننا المشابهة من غير أمارة وهو محال.
الثامن عشر: أنه لو جاز التعبد بالقياس الشرعي لكان على عليته دلالةً والدلالة عليها إما النص والعلة المستنبطة التي فيها الخلاف غير منصوصة وإما العادات والعادات تكون مثبتةً للأحكام الشرعية فلا تكون مثبتة لأماراتها.
التاسع عشر: لو كانت المعاني المشروعة من الأصول أدلة على ثبوب الأحكام في الفروع لم يقف كونها أدلةً على شيء سواها كما في النصوص والاتفاق واقع على احتياج المستنبطة إلى دليل والمحتاج إلى الدليل لا يكون دليلاً كما في الأحكام.
العشرون: أنه إذا غلب على الظن تحريم ربا الفضل في البر إما لكونه مطعوم جنس أو مكيل جنس أو قوتاً أو مالاً فلا بد من رعاية المصلحة في ذلك وأي مصلحة في تحريم بيع ما هذه صفته.
الحادي والعشرون: أنه لو صح معرفة الحكم الشرعي مع كونه غيبياً بالقياس لصح معرفة الأمور الغيبية بالقياس وهو محال.
الثاني والعشرون: أن القياس فعل القائس وذلك مما لا يجوز أن يتوصل به إلى معرفة المصالح.(1/360)
الثالث والعشرون: أن القياس لا بد فيه من علة مستنبطة من حكم الأصل والحكم في الأصل جاز أن يكون معللاً وجاز أن لا يكون معللا وبتقدير كونه معللاً يحتمل أن يكون الحكم ثابتاً بغير ما استنبط وبتقدير أن يكون ثابتاً بما استنبط يحتمل أن لا يكون متحققاً في الفرع إذا كان وجوده فيه ظنيا وما هذا شأنه لا يصلح للدلالة.
الرابع والعشرون: أنه لو جاز التعبد بالقياس لأفضى ذلك إلى تقابل الأدلة وتكافئها وأن يكون الرب تعالى موجباً للشيء ومحرماً له وهو محال على الله تعالى وبيان ذلك أنه قد يتردد الفرع بين أصلين حكم أحدهما الحل والآخر الحرمة فإذا ظهر في نظر المجتهد شبه الفرع بكل واحد منهما لزم الحكم بالحل والحرمة في شيء واحد وذلك محال.
الخامس والعشرون: أن القياس لا بد فيه من علة جامعة والعلل الشرعية لا بد وأن تكون على وزان العلل العقلية والعلة الشرعية يجوز عند القائلين بالقياس أن تكون ذات أوصاف والعلة العقلية ليست كذلك فإنها تستقل بحكمها كاستقلال الحركة بكون المحل الذي قامت به متحركاً واستقلال السواد بكون محله أسود ونحوه.
وأما من زعم أن العقل موجب للتعبد بالقياس الشرعي فقد احتج بثلاث شبه.
الأولى أن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بتعميم الحكم في كل صورة والصور لا نهاية لها فلا تمكن إحاطة النصوص بها فاقتضى العقل وجوب التعبد بالقياس.
الثانية أنه إذا غلب على الظن أن المصلحة في إثبات الحكم بالقياس وأنه أنفى للضرر فيجب اتباعه عقلاً تحصيلاً للمصلحة ودفعاً للمضرة كما يجب القيام من تحت حائط ظن سقوطه لفرط ميله وإن جاز أن تكون السلامة في القعود والهلاك في النهوض.
الثالثة أن العلل الشرعية ومناسبتها للأحكام مدركة بالعقل فكان العقل موجباً لورود التعبد بها كما توجب أحكام العلل العقلية.
والجواب عن السؤال الأول أنه إذا سلم أن القياس مغلب على الظن وجود المصلحة فهو بيان وهو وإن كان البيان فيه مرجوحاً بالنسبة إلى البيان القاطع فليس ذلك مما يمنع من التعبد به مع عدم الظفر بالبيان القاطع وإن كان ممكن الوجود وإلا لما جاز التعبد بالنصوص الظنية وأخبار الآحاد مع إمكان أن يخلق الله تعالى لنا العلم الضروري بالأحكام وإمكان وجود النصوص القاطعة الجلية.
وعلى هذا يخرج الجواب عن السؤال الثاني أيضاً.
وعن النقض بما ذكروه من الصور أن العقل يجوز ورود التعبد بكل ما هو مغلب عن الظن غير أنه لما ورد التعبد من الشارع بامتناع العمل به كان ذلك لمانع الشرع لا لعدم الجواز العقلي.
وعن المعارضة الأولى أن كل ما ظن فيه الجامع بين الأصل والفرع وظهرت صلاحيته للتعليل فالعقل لا يمنع من ورود التعبد من الشارع فيه بالإلحاق وحيث فرق الشارع في الصور المذكورة فلم يكن ذلك لاستحالة ورود التعبد بالقياس بل إنما كان ذلك إما لعدم صلاحية ما وقع جامعاً أو لمعارض له في الأصل أو في الفرع وحيث جمع بين مختلفات الصفات فإنما كان لاشتراكها في معنى جامع صالح للتعليل أو لاختصاص كل صورة بعلة صالحة للتعليل فإنه لا مانع عند اختلاف الصورة وإن اتحد نوع الحكم أن تعلل بعلل مختلفة لا أن الحكم ثبت في الكل بالقياس.
وعلى هذا نقول: ما لم يظهر تعليله وصحة القياس عليه إما لعدم صلاحية الجامع أو لتحقق الفارق أو لظهور دليل التعبد فلا قياس فيه أصلاً وإنما القياس فيما ظهر كون الحكم في الأصل معللاً فيه وظهر الاشتراك في العلة وانتفى الفارق.
وعن الثانية أن ذلك وإن أفضى إلى الاختلاف بين المجتهدين فإن ذلك غير محذور مطلقاً فإن جميع الشرائع والملل كلها من عند الله وهي مختلفة ولا محذور فيها وإلا لما كانت مشروعةً من عند الله كيف وإن الأمة الإسلامية معصومة عن الخطإ على ما عرف.
فلو كان الاختلاف مذموماً ومحذوراً على الإطلاق لكانت الصحابة مع اشتهار اختلافهم وتباين أقوالهم في المسائل الفقهية مخطئةً بل الأمة قاطبةً وذلك ممتنع.
وعلى هذا فيجب حمل ما ورد من ذم الاختلاف والنهي عنه على الاختلاف في التوحيد والإيمان بالله ورسوله والقيام بنصرته وفيما المطلوب فيه القطع دون الظن والاختلاف بعد الوفاق واختلاف العامة ومن ليس له أهلية النظر والاجتهاد وبالجملة كل ما لا يجوز فيه الاختلاف جمعاً بين الأدلة بأقصى الإمكان.(1/361)
وقوله تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " النساء 82 إنما المراد به نفي التناقض والاضطراب والاختلاف المناقض للبلاغة عن القرآن لا نفي الاختلاف في الأحكام الشرعية.
وأما إنكار عمر على ابن مسعود وأبي بن كعب فيجب أيضاً حمله على اختلافهما فيما سبق فيه الإجماع أو على اختلافهما بالنظر إلى مستفت واحد حذراً من تحيره.
وأما قول جرير لعلي وعمر عند اختلافهما في مسألة المتعة فيجب حمله على ما ظنه من إفضاء ذلك إلى فتنة وثوران أمر.
وأما ما كتبه علي إلى قضاته فيجب حمله أيضاً على خوفه من انفتاق فتق بسبب نسبته إلى تعصب لمخالفة من سبق.
وعن الثالثة باختيار تصويب كل مجتهد بناء على أن الحكم عند الله تعالى في حق كل واحد ما أدى إليه اجتهاده وذلك مما لا يمنع من كون الشيء ونقيضه حقاً بالنسبة إلى شخصين مختلفين كما في الصلاة وتركها بالنسبة إلى الحائض والطاهر وكالجهات المختلفة في القبلة حال اشتباهها بالنسبة إلى شخصين وبالنسبة إلى شخص واحد في حالتين مختلفتين وكجواز ركوب البحر في حق من غلب على ظنه السلامة وتحريمه في حق من غلب على ظن الهلاك.
وهذا بخلاف القضايا العقلية وما الحق فيه في نفس الأمر لا يكون إلا واحداً معيناً كحدوث العالم وقدمه ووجود الصانع وعدمه.
وعن الرابعة من وجهين: الأول أنه لو كان العدول من أصرح الطريقين وأبينهما إلى أدناهما مما يمتنع ويخل بالبلاغة لما ساغ ورود الكتاب بالألفاظ المجملة وإرادة المعين والعامة وإرادة الخاص والمطلقة وإرادة المقيد والألفاظ المحتملة ولما ساغ أيضا مثل ذلك من الرسول مع إمكان الإتيان بألفاظ صريحة ناصة على الغرض المطلوب وهو ممتنع خلاف الواقع.
الوجه الثاني: أنه غير بعيد أن يكون الله تعالى ورسوله قد علم أن في التعبد بالقياس والاجتهاد مصلحةً للمكلفين لا تحصل من التنصيص وذلك بسبب بعث دواعيهم على الاجتهاد طلباً لزيادة الثواب الحاصل به على ما نطق به النص في حق عائشة حتى تبقى الشريعة مستمرة غضةً طرية.
وعن الخامسة أن الحكم في الأصل وإن كان ثابتاً بالنص أو الإجماع لا بالعلة وأن ذلك غير متحقق في الفرع فلا نسلم وجوب ثبوت الحكم في الفرع بمثل طريق إثبات حكم الأصل بل يمكن أن يكون إثبات الحكم في الأصل مع كونه مقطوعاً به بدليل مقطوع به وفي الفرع بوجود ما كان قد ظهر كونه باعثاً على الحكم في الأصل ولا يلزم من كون الفرع تابعاً في حكمه للأصل اتحاد الطريق المثبت للحكم فيهما وإلا لما كان أحدهما تابعاً للآخر بل التبعية متحققة بمجرد إثبات الحكم في الفرع بما عرف كونه باعثاً على الحكم في الأصل.
وعن السادسة من وجهين: الأول قال بعضهم: إن علم قطعاً قصده للسواد عتق كل عبد أسود له وقال بعضهم: لا يكفي مجرد القصد بل لا بد مع ذلك من أن ينوي بهذا اللفظ عتق جميع السودان فإنه كاف في عتق كل عبد له أسود وغايته إطلاق اللفظ الخاص وإرادة العام وهو سائغ لغةً كما حمل قوله تعالى: " ولا تأكلوا أموالهم " النساء 2 على النهي عن الإتلاف العام وكما حمل قول القائل والله لا أكلت لفلان خبزاً ولا شربت من مائه جرعةً إذا قصد به دفع المنة على أخذ الدراهم وغيرها من العروض حتى إنه يحنث بكل ذلك.
وقال بعضهم: لا يكفي ذلك لأن مجرد النية والإرادة لذلك غير كافية في العتق بل إن قال مع ذلك وقيسوا عليه كل أسود عتق كل عبد له أسود وهذا هو اختيار الصيرفي من أصحاب الشافعي وهو أقرب من الذي قبله.
الثاني: أنه لا يلزم من امتناع التعدية هاهنا امتناع التعدية في العلل المستنبطة الشرعية وذلك لأن العتق من باب التصرف في أملاك العبيد بالزوال ولا كذلك في الأحكام الشرعية وعند ذلك فلا يلزم من امتناع التعدية هاهنا مبالغة في صيانة ملك العبيد مثله في الأحكام الشرعية.
ولهذا فإنه لو اجتمع في المحل الواحد حقان لله وللآدمي وتضايق المحل عن استيفائهما كما لو وجب القتل على شخص بالردة وبالقتل الموجب للقصاص فإنه يقدم حق الآدمي على حق الله تعالى ويقتل قصاصاً لا بالردة.(1/362)
ولهذا طرد أهل اللغة مثل ذلك وعدوه فيما لا يقتضي زوال ملك الآدمي فإنه لو قال القائل لغيره لا تأكل هذا الطعام فأنه مسموم ولا تشرب هذا الشراب فأنه مسهل ولا تجالس فلاناً لسواده فإن أهل اللغة يعدونه إلى كل ما هو من جنسه مشارك له في العلة.
وعلى هذا نقول إنه لو قال لوكيله بع هذا العبد لسواده أو لسوء خلقه وكان قد قال له مهما ظهر لك رضائي بشيء من التصرفات بقرائن الأحوال دون صريح الأقوال فافعله وعلم أن العلة في إطلاق البيع السواد وسوء الخلق خاصةً فله بيع كل ما شاركه في تلك العلة على وزان ذلك في الشرع.
وعن السابعة: أنها منقوضة بمخالفة البراءة الأصلية بالنصوص الظنية وبالإقرار والشهادة والفتوى وغير ذلك.
وعن الثامنة: أنه لو لم يرد النص بالحكم في أصول الأقيسة وإلا كان التعبد بإثبات أحكامها بالقياس على أصل آخر جائزا وإن امتنع ذلك لما فيه من التسلسل فلا يرد به التعبد لاستحالته في نفسه.
وعن التاسعة: أنه لا يمتنع في العقل أيضاً ورود التعبد بإخبارنا عن كون زيد في الدار عن ظن إذا ظهرت أمارة كونه في الدار.
وعن العاشرة: أنها مبينة على فاسد أصول الخصوم في وجوب رعاية الصلاح والأصلح وهو باطل على ما عرف من أصلنا وإن سلمنا وجوب رعاية المصلحة فلا يمتنع أن يكون في التعبد بالقياس مصلحة وقد استأثر الرب تعالى بالعلم بها كيف وإن ما ذكروه منقوض بورود التعبد بالنصوص الظنية وقبول الشهادة والاجتهاد في القبلة حالة الاشتباه وبقبول قول العدول في قيم المتلفات وأرش الجنايات وتقدير النفقات.
وعن الحادية عشرة أن العلة في القياس إنما هي بمعنى الأمارة والعلامة على الحكم في الفرع وذلك مما لا يمتنع التعبد باتباعه ولهذا فإنه لو قال الشارع مهما رأيتم وصف الشدة المطربة فاعلموا أني قضيت بتحريم ذلك المشتد المطرب كان واجب الاتباع.
وعن الثانية عشرة: أنه مهما لم يقم دليل يدل على وجوب التعبد بالقياس من نص أو إجماع فإنا لا نثبت به الحكم ولا ننفيه وإن كان يجوز ورود التعبد به عقلاً.
فإذا قال الشارع قد تعبدتكم بالقياس فمهما رأيتم الحكم قد ثبت في صورة وغلب على ظنونكم أنه ثبت لعلة وأنها وأنها متحققة في صورة أخرى فقيسوها كان ذلك إخباراً عن إثبات الحكم في الفرع وإن لم يرد مثل هذا النص فانعقاد الإجماع على ذلك يكون كافياً.
وعن الثالثة عشرة أنها قياس تمثيلي من غير جامع فلا يصح وقد أجاب بعضهم بأن كثيرالزعفران الواقع في الماء يعلم بالإدراك وخفيه إنما يعلم بإخبار من شاهده لا بنفس الإدراك وليس بحق فإن الخبر مستند إلى المشاهدة.
فإن قيل: الحكم في الفرع أيضاً مستند إلى الحكم الثابت بالنص فكان جلي الأحكام وخفيها مستنداً إلى النص.
قيل النص الوارد في الأصل لم يكن واردا في الفرع ولو ورد في الفرع لما احتيج إلى القياس وعن الرابعة عشرة أنا لا نسلم أن كون المتحرك متحركاً يزيد على قيام الحركة بالمحل فلا علة ولا معلول وإن سلمنا أن المتحركية معللة بالحركة ولكن ما ذكروه تمثيل من غير جامع وذلك لأن اسم العلة مشترك بين العلة العقلية والعلة الشرعية لأن العلة العقلية مقتضية للحكم بذاتها لا بوضع بخلاف العلة الشرعية فإنها بمعنى الأمارة والعلامة أو بمعنى الباعث ولا يمتنع أن يكون الوصف علامة على الحكم في بعض الأزمان دون البعض اتباعا لوضع الشارع ولا يمتنع أن يكون الوصف باعثاً لما يختص به من المصلحة في بعض الأزمان دون البعض كما أبيحت الخمرة في زمان وحرمت في زمان وجوز الصوم في زمان وحرم في زمان ويكون مناط معرفة ذلك اعتبار الشارع للوصف في وقت وإلغاءه في وقت آخر.
وعن الخامسة عشرة أن القياس عندنا حجة مع النص الموافق ولا يلزم أن يكون حجةً مع النص المخالف الراجح بدليل خبر الواحد فإنه حجة وإن لم يكن حجة مع النص المخالف الراجح.
وعن السادسة عشرة أن نظر القائس في الفرع وإن لم يكن في دلالة النص فهو ناظر في المعنى الجامع والدلالة على عليته وفي الحكم في الفرع وليس الحكم هو فعل المكلف بل الحكم إنما هو الوجوب أو التحريم المتعلق بفعله.
وعن السابعة عشرة أنه إن غلب على الظن مشابهة شيء لشيء محرم وأمكن ذلك من غير أمارة فالعقل يجوز ورود الشرع بالتعبد بتحريمه وإن لم يرد الشرع به.(1/363)
وعن الثامنة عشرة بمنع الحصر فيما ذكروه وما المانع من طريق آخر يعرف كون الوصف الجامع علة من الإيماء أو غيره من طرق التخريج كما عرف.
وعن التاسعة عشرة: أن العلل المستنبطة من الأصول وإن كانت أدلةً على الأحكام في الفروع فليست أدلةً لذواتها وصفات أنفسها الذاتية كما في العلل العقلية بل إنما كانت أدلة بالوضع والتوقيف وجعل الشارع لها أدلة فلذلك افتقرت في جعلها أدلة إلى غيرها.
وعن العشرين: أن الكلام في هذه المسألة غير مختص بتصحيح القياس في آحاد الصور بل إنما هو في جواز ورود التعبد بالقياس في الجملة كيف وإن الوجه في ظهور المصلحة في التعليل بمطعوم جنس أو مكيل جنس أو غير ذلك مما قد تكلف بيانه في مسائل الفروع فعلى الناظر في ذلك بالاعتبار حتى إن كل ما لم يظهر فيه وجه المصلحة ولا دفع المفسدة من الأوصاف المستنبطة بدليله فالقياس فيه غير جائز.
وعن الحادية والعشرين أن كل ما هو غيب عنا لو جعل الله عليه أمارة تدل عليه كما جعل ذلك في الأحكام الشرعية كان الحكم في معرفته كما في الأحكام وحيث لم يجعل له أمارةً تدل عليه لم يكن معلوماً.
وعن الثانية والعشرين: لا نسلم أن التوصل إلى معرفة المصالح بفعل القائس وإنما فعل القائس وهو إثبات مثل حكم الأصل في الفرع تبع لمعرفة المصلحة المأخوذة من حكم الأصل.
وعن الثالثة والعشرين: أنه متى غلب على ظن القائس كون الحكم معللاً وظهرت له علة في نظره مجردة عن المعارض وتحقق وجودها في الفرع كان له القياس وإلا فلا.
وعن الرابعة والعشرين: أنه مهما تقابل في نظر القائس قياسان على التحليل والتحريم مثلاً فكل واحدة من العلتين غير موجبة لحكمها لذاتها فلا يلزم من ذلك اجتماع الحكمين وعلى هذا إن ترجحت إحداهما على الأخرى كان العمل بها وإن تعارضا من كل وجه أمكن أن يقال بالوقف إلى حين ظهور الترجيح وأمكن أن يقال بتخيير المجتهد في العمل بأي القياسين شاء على ما عرف من مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل.
وعن الخامسة والعشرين: لا نسلم أن العلل الشرعية على وزان العلل العقلية وإنما هي بمعنى الأمارات والعلامات وما كان بمعنى الأمارة والعلامة لا يمتنع أن يكون الظن الحاصل منه من مجموع أوصاف لا يستقل البعض بها وذلك كالظن الحاصل بنزول المطر عند طلوع الغيم وتكاثفه ودنوه من الأرض وهبوب الهواء البارد وكذلك ظن سقوط الجدار بميله وانشقاقه وتخلخل أجزائه إلى غير ذلك.
والجواب عن الشبهة الأولى للقائلين بكون العقل موجباً لورود التعبد بالقياس أن الذي لا يتناهى إنما هو الجزئيات الداخلة تحت الأجناس الكلية أما الأجناس الكلية فلا نسلم أنها غير متناهية وعلى هذا فقد أمكن التنصيص على كل واحد من الأجناس بأن يقول الشارع كل مطعوم ربوي وكل مسكر حرام وكل قاتل عمداً عداوناً مقتول وكل سارق من حرز مثله لا شبهة له فيه مقطوع إلى نظائره والحكم في كل صورة من جزئيات ذلك الجنس يكون ثابتا بالنص.
وإن افتقرنا فيه إلى الاجتهاد في إدراج كل واحد تحت جنسه ليتم إثبات الحكم فيه بالنص فذلك إنما هو من باب تحقيق متعلق الحكم لا أنه قياس وعلى هذا فلا حاجة إلى القياس وإن سلمنا امتناع التعميم بغير القياس فإنما يجب التعبد به أن لو كان النبي عليه السلام مكلفاً بالتعميم وهو غير مسلم بل يمكن أن يقال بأنه إنما كلف بما يقدر على تبليغه بطريق المخاطبة وما ذكروه مبني على وجوب رعاية الصلاح والأصلح وهو غير مسلم على ما عرفناه في الكلاميات.
وعن الثانية أنها مبنية على كون العقل موجباً وعلى وجوب رعاية المصلحة وهو باطل على ما عرفناه وإن سلمنا أن العقل موجب عند ظهور المصلحة في نظر العاقل لكن متى إذا كان علم الله تعالى متعلقاً بما ظنه العبد على وفق ما ظنه العبد أو على خلافه الأول مسلم والثاني ممنوع وعند ذلك فمن الجائز أن يكون الرب تعالى قد علم أنه لا مصلحة للمكلفين في القياس وأنه مضر في حقهم على خلاف مظنون العبد.
ومع ذلك فلا يكون العقل موجبا للقياس وإن سلمنا إيجاب ذلك مطلقا لكن إذا أمكن إثبات الحكم في الفرع بطريق غير القياس أو إذا لم يمكن؟ الأول ممنوع والثاني مسلم وقد بينا إمكان ذلك في دفع الشبهة التي قبلها.(1/364)
وعن الثالثة أنها مبينة على كون العقل موجباً وعلى وجوب رعاية المصلحة وعلى أنه لا طريق إلى معرفة الحكم في الفرع سوى القياس وعلى أن الله تعالى عالم بأن المصلحة في القياس كما ظنه العبد وكل ذلك ممنوع وأيضاً فإن العلة الجامعة قد لا يكون طريق إثباتها المناسبة كما سبق تعريفه.
وبتقدير أن يكون لا طريق سوى المناسبة وأنه لا طريق إلى معرفتها إلا بالعقل فلا نسلم أنه يلزم من ذلك وجوب التعبد بها عقلاً وما ذكروه من العلل العقلية مبني على العلة والمعلول العقليين وهو غير مسلم.
وبتقدير تحقق ذلك فالعقل إنما يقضي بملازمة معلول العلة العقلية لها لكونها مقتضيةً لمعلولها بذاتها ولا كذلك العلل الشرعية فإنها إنما كانت عللاً بمعنى الأمارات والعلامات فلا يصح القياس.
المسألة الثانية الذين اتفقوا على جواز التعبد بالقياس عقلاً اختلفوا فمنهم من قال لم يرد التعبد الشرعي به بل ورد بحظره كداود بن علي الأصفهاني وابنه القاشاني والنهرواني ولم يقضوا بوقوع ذلك إلا فيما كانت علته منصوصة أو مومى إليها.
وذهب الباقون إلى أن التعبد الشرعي به واقع بدليل السمع واختلفوا في وقوعه بدليل العقل كما بيناه في المسألة المتقدمة وأومأنا إلى إبطاله.
ثم الدليل السمعي هل هو قاطع أو ظني اختلفوا فيه فقال الكل إنه قطعي سوى أبي الحسين البصري فإنه قال إنه ظني وهو المختار.
وقد احتج على ذلك بحجج ضعيفة لا بد من الإشارة إليها والتنبيه على ضعفها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار فمنها كتابية وإجماعية ومعنوية أما الكتابية فقوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " النساء 59 ووجه الاحتجاج به أنه أمر بطاعة الله والرسول.
والمراد من ذلك إنما هو امتثال أمرهما ونهيهما فقوله ثانياً: " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " النساء والظاهر من الرد هو القياس ولأنه لو أراد به اتباع أوامرهما ونواهيهما لكان ذلك تكراراً فلم يبق إلا أن يكون المراد به الرد إلى ما استنبط من الأمر والنهي.
ولقائل أن يقول لا نسلم أن المراد من قوله تعالى: " فردوه " القياس على ما أمر الله ورسوله بل يمكن أن يكون المراد البحث عن كون المتنازع فيه مأمورا أو منهيا حتى يدخل تحت قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فالأمر الأول بالطاعة للأمر والنهي والثاني بالبحث عن المتنازع فيه هل هو مأمور أو منهي أو لا فلا تكرار.
وإنما يمكن حمل الرد على القياس مع كونه مختلفاً في الاحتجاج به أن لو تعذر حمل لفظ الرد على غيره وليس بمتعذر.
وإن سلمنا امتناع حمله على البحث عن كون المتنازع فيه مأموراً أو منهياً أمكن أن يكون المراد بقوله: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " النساء 59 فيما أمركم به ونهاكم عنه والمراد من قوله: " فإن تنازعتم في شيء " أي فيما لم يسبق فيه أمر ولا نهي فردوه إلى الله والرسول بالسؤال للرسول لينبئكم عن مقتضى ذلك في كتاب الله وسنة رسوله.
فإن قيل: هذا يوجب اختصاص الآية بمن وجد في زمن النبي عليه السلام لتعذر ذلك بالنسبة إلى من بعدهم والإجماع منعقد على تعميم وجوب الطاعة والرد إلى الله والرسول في كل زمان فلو كان معنى الرد السؤال للرسول لما تصور ذلك في حق من وجد بعد النبي عليه السلام.
قلنا: وإن سلمنا أن الطاعة واجبة بالنسبة إلى كل زمان ولكن لا نسلم أن وجوب الرد ثابت في كل زمان لأنه إن حمل الرد على القياس فهو محل النزاع وإن حمل على السؤال للنبي عليه السلام فظاهر أنه غير واجب على من لم يره.
فإن قيل: الضمير في المخاطب بالرد عائد إلى المخاطب بالطاعة فإذا كان الخطاب بالطاعة عاماً فكذلك الخطاب بالرد وإذا تعذر حمل الرد على السؤال في حق الكل تعين أن يكون المراد به القياس.(1/365)
قلنا: وإن سلمنا أن الطاعة واجبة بالنسبة إلى كل زمان ولكن لا نسلم أنها واجبة بقوله: " أطيعوا الله وأطيعو الرسول " لأنها خطاب مشافهة على ما سبق تقريره في الأوامر وإن سلمنا عموم خطاب الأمر بالطاعة فغايته أن يكون الضمير في قوله: " فردوه إلى الله والرسول " ظاهراً في العود إلى كل من أمر بالطاعة فعوده إلى البعض وهو من كان في زمن النبي عليه السلام لضرورة حمل الرد على السؤال للنبي عليه السلام غايته أن يكون تخصيصا للعموم وهو مقابل بمثله في حمل الرد على القياس وذلك لأن الآية عامة في حق كل مجتهد وعامي ويلزم من حمل لفظ الرد على القياس تخصيص الآية بالمجتهدين دون غيرهم وليس مخالفة أحد العمومين والتمسك بالآخر أولى من العكس وأيضا قوله تعالى: " ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم " النساء 83 والاستنباط هو القياس وهو ضعيف أيضاً.
ولك لأنه إنما يجب حمل الاستنباط في الآية على القياس أن لو تعذر حمله على غيره وليس كذلك إذ أمكن أن يراد به استخراج الحكم من دليله وهو أعم من القياس.
ولهذا يصح أن يقال لمستخرج الحكم من دلالة النص إنه مستنبط كيف وإن المذكور في صدر الآية إنما هو الأمن والخوف بقوله تعالى: " وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف " النساء 83 فيجب أن يكون الضمير في قوله أذاعوا به وفي قوله: " ولو ردوه " وفي قوله: " لعلمه " وفي قوله: " يستنبطونه " عائداً إليه لأنه المذكور لا إلى غيره لكونه غير مذكور وليس ذلك من القياس في شيء.
وأيضاً قوله تعالى: " إن أنتم إلا بشر مثلنا " يس 15 ووجه الاحتجاج به أنهم أوردوا ذلك في معرض صدهم عما كان يعبد أباؤهم لما بينهم من المشابهة في البشرية ولم ينكر عليهم ذلك وهو عين القياس فكان حجة وهو ضعيف أيضاً لوجهين: الأول: لا نسلم عدم النكير عليهم فإن الآية إنما خرجت مخرج الإنكار لقولهم ذلك ولذلك قال تعالى: " إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده " إبراهيم 11.
الثاني: أنه وإن كان قياسا وتشبيها في الأمور الحقيقية فلا يلزم مثله في الأحكام الشرعية إلا بطريق القياس أيضاً وهو محل النزاع.
وأما الإجماعية فمنها أنهم قالوا الأمة قد علقت من قوله تعالى: " ولا تقل لهما أف " الإسراء 23 تحريم الشتم والضرب بطريق القياس وهو غير صحيح لإمكان قول الخصم إن ذلك إنما عقل من دلالة اللفظ وفحوى الخطاب على ما سبق وإن كان ذلك بطريق القياس غير أن العلة فيه معلومة بدلالة النص وهي كف الأذى عن الوالدين ولا يلزم مثله فيما كانت العلة فيه مستنبطة مظنونة كما قاله النظام.
ومنها أن الأمة مجمعة على رجم الزاني المحصن قياساً على رجم النبي صلى الله عليه وسلم: لماعز وهو ضعيف وأيضاً لإمكان أن يقال بل إنما حكموا بذلك بناء على قوله صلى الله عليه وسلم حكمي على الواحد حكمي على الجماعة ومنها أن الأمة مجمعة على أن الله تعالى تعبدنا بالاستدلال بالإمارات على جهة القبلة عند اشتباهها وذلك أيضاً مما لا يمكن التمسك به لأن الخصم لا يمنع من التمسك بالأمارات مطلقاً بل يجوز ذلك في القبلة وفي تقويم أروش الجنايات وقيم المتلفات وتقدير النفقات وفيما كانت الأمارات فيه خفيةً ولا يلزم مثله في الأمارات الشرعية والأقيسة كيف وإن من الخصوم من يمنع من صحة الاجتهاد عند اشتباه القبلة ويوجب التوجه إلى الجهات الأربع حتى يخرج عن العهدة بيقين.
وأما الحجة المعنوية فهي أن النص والإجماع مما يقل في الحوادث ويندر.فلو لم يكن القياس حجة أفضى ذلك إلى خلو أكثر الوقائع عن الأحكام الشرعية وهو خلاف المقصود من بعثة الرسل وذلك ممتنع وهي ضعيفة أيضاً وذلك لأن الوقائع التي خلت عن النصوص والإجماع إنما يلزم خلوها عن الأحكام الشرعية أن لو لم يكن نفي الحكم الشرعي بعد ورود الشرع حكماً شرعياً وأما إذا كان حكماً شرعياً وكان مدركه شرعياً وهو استصحاب الحال وانتفاء المدارك الشرعية المقتضية للأحكام الإثباتية فلا.(1/366)
وإن سلمنا أن انتفاء الحكم عند انتفاء النص والإجماع ليس حكماً شرعياً ولكن إنما يمتنع ذلك أن لو كنا مكلفين بإثبات الأحكام الشرعية في كل قضية وهو غير مسلم وذلك لأن الشارع كما يورد إثبات الأحكام في بعض الوقائع قد يورد نفيها في بعض آخر على حسب اختلاف المصالح ثم يلزم على ما ذكروه أن تكون المصالح المرسلة الخلية عن الاعتبار حججاً في الشريعة وهو محال وذلك لأنه ليس كل واقعة يمكن وجود النص أو الإجماع أو القياس فيها.
فلو لم تكن المصلحة المرسلة حجةً أفضى ذلك أيضاً إلى خلو الوقائع عن الأحكام الشرعية لعدم وجود النص أو الإجماع أو القياس فيها والعذر إذ ذاك يكون مشتركاً.
والمعتمد في المسألة الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " الحشر2 أمر بالاعتبار والاعتبار هو الانتقال من الشيء إلى غيره وذلك متحقق في القياس حيث إن فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع.
ولهذا قال ابن عباس في الأسنان اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها متساوية أطلق الاعتبار وأراد به نقل حكم الأصابع إلى الأسنان والأصل في الإطلاق الحقيقة وإذا ثبت أن القياس مأمور به فالأمر إما أن يكون للوجوب أو للندب على ما سبق في الأوامر وعلى كلا التقديرين فالعمل بالقياس يكون مشروعاً.
فإن قيل لا نسلم أنه أمر بالاعتبار وصيغة افعلوا مترددة بين الأمر وغيره كما سبق في الأوامر وليس جعلها ظاهرةً في البعض أولى من البعض سلمنا أنها للأمر ولكن لا نسلم أن الاعتبار ما ذكرتموه بل هو عبارة عن الاتعاظ ويدل عليه أمران: الأول قوله تعالى: " إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار " آل عمران13 وقوله: " وإن لكم في الأنعام لعبرة " النحل 66 والمراد به الاتعاظ إذ هو المتبادر إلى الفهم من إطلاق هذا اللفظ الثاني أن القائس في الفروع إذا أقدم على المعاصي ولم يتفكر في أمر آخرته يقال إنه غير معتبر ولو كان القياس هو الاعتبار لما صح سلب ذلك عنه سلمنا أن الاعتبار ظاهر في القياس لكنه قد وجد في الآية ما يمنع من الحمل عليه ويصرفه إلى الاعتبار بمعنى الاتعاظ وذلك قوله تعالى : " يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين " الحشر 2 ولو كان الاعتبار بمعنى القياس لما حسن ترتيبه على ذلك وإنما يحسن ذلك عند إرادة الاتعاظ.
سلمنا أن المراد به القياس غير أنه ليس في الآية صيغة عموم تقتضي العمل بكل قياس فكانت الآية مطلقة والمطلق إذا عمل به في صورة أو صور لا يبقى حجةً فيما عداها ضرورة الوفاء بالعمل بدلالته وقد عملنا بذلك في القياس العقلي والقياس الذي علته منصوصة أو مومى إليها وبقياس الفروع على الأصول في امتناع إثباتها بالقياس سلمنا العموم لكنه قد خص بما كلفنا فيه باليقين وبما كان منصوصا عليه وبما لم نعلم له أصلاً ولا وصفاً جامعاً فإن القياس غير مأمور به في ذلك كله وكذلك إذا قال لوكيله أعتق غانما لسواده فإنه لا يجوز تعدية ذلك إلى سالم وإن كان مسوداً والعام بعد التخصيص لا يبقى حجةً وإن بقي حجة ففي أقل ما يتناوله الاسم العام على ما سبق في العموم.
وإن سلمنا أنه يبقى حجةً فيما عدا محل التخصيص غير أن الآية خطاب مع الموجودين فيختص ذلك بمن كان موجوداً في وقت نزول الوحي بالآية وإن عم جميع الأزمان ولكنه أمر مطلق فلا يكون مفيداً للفور ولا للتكرار وإن كان مفيدا لذلك لكن بطريق ظني لا قطعي والمسألة قطعية لا ظنية.
والجواب عن السؤال الأول أنا قد بينا أن صيغة افعل ظاهرة في الطلب وأن الطلب لا يخرج عن اقتضاء الوجوب أو الندب في الأوامر وأي الأمرين قدر كان دليلاً على شرع القياس.
قولهم: لا نسلم أن الاعتبار عبارة عما ذكرتموه قلنا: دليله ما ذكرناه.
قولهم: يطلق بمعنى الاتعاظ قلنا: عنه جوابان الأول المنع ويدل عليه قولهم اعتبر فلان فاتعظ ولو كان الاعتبار هو الاتعاظ لما حسن هذا الكلام والترتيب ولأن ترتيب الشيء على نفسه ممتنع الثاني أن الاعتبار بمعنى الانتقال من الشيء إلى غيره هو القياس وهو متحقق في الاتعاظ وذلك لأن المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه فكان مأمورا به من جهة ما فيه من الانتقال وذلك هو القياس وعلى هذا فقد خرج الجواب عن الآيتين.(1/367)
قولهم: القائس إذا كان معرضاً عن أمر آخرته يقال إنه غير معتبر قلنا لا يصح ذلك بالنظر إلى كونه قائساً وإنما صح ذلك بالنظر إلى أمر الآخرة وإنما أطلق النفي بطريق المجاز نظراً إلى إخلاله بأعظم المقاصد وهو أمر المعاد.
وعن الثالث أنه إذا كان الانتقال متحققاً في الاتعاظ على ما قدمناه وذلك هو القياس فلا نسلم امتناع ترتيب القياس على ما ذكروه.
وعن الرابع أن اللفظ إن كان عاماً فهو المطلوب وإن كان مطلقاً فيجب حمله على القياس الشرعي نظرا إلى أن الغالب من الشارع أنه إنما يخاطبنا بالأمور الشرعية دون غيرها وهو إما أن تكون العلة فيه منصوصةً أو مستنبطةً والأول ليس بقياس على ما حققناه قبل وإن كانت مستنبطةً فقد سلم صحة الاحتجاج ببعض الأقيسة المختلف فيها ويلزم من ذلك تسليم الباقي ضرورة أن لا قائل بالفرق.
وعن الخامس أن العام بعد التخصيص يكون حجةً فيما وراء صور التخصيص على ما سبق في العموم.
وعن قولهم إنه خطاب مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام فلا يعم قلنا: لا نسلم أنه لا يعم بتقدير الوجود والفهم وإن سلمنا أنه لا يعم بلفظه فهو عام بمعناه نظراً إلى انعقاد الإجماع عل أن أحكام الخطاب الثابث في زمن النبي عليه السلام عامة في حق من بعد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا لم يكن الخطاب عاماً بلفظه وجب أن يكون عاماً بمعناه ضرورة انعقاد الإجماع على ذلك وبتقدير أن لا يكون عاما لا بلفظه ولا بمعناه فهو حجة على الخصوم في بعض صور النزاع ويلزم من ذلك الحكم في الباقي ضرورة أن لا قائل بالتفصيل.
وبهذا الجواب يكون الجواب عن قولهم: إن الأمر المطلق لا يقتضي الفور ولا التكرار.
وعن السؤال الأخير أن المسألة ظنية غير قطعية.
وأما من جهة السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن قاضياً بم تحكم؟ قال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي والنبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك.
وقال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله " واجتهاد الرأي لا بد وأن يكون مردوداً إلى أصل وإلا كان مرسلا والرأي المرسل غير معتبر وذلك هو القياس.
وأيضاً ما روي عنه عليه السلام أنه قال لمعاذ وأبي موسى الأشعري وقد أنفذهما إلى اليمن بم تقضيان؟ فقالا: إن لم نجد الحكم في الكتاب ولا السنة قسنا الأمر بالأمر فما كان أقرب إلى الحق عملنا به صرحوا بالعمل بالقياس والنبي صلى الله عليه وسلم أقرهما عليه فكان حجةً.
وأيضاً ما روي عنه عليه السلام أنه قال لابن مسعود اقض بالكتاب والسنة إذا وجدتهما فإذا لم تجد الحكم فيهما اجتهد رأيك ووجه الاحتجاج به كما تقدم في الخبر الأول.
وأيضاً ما روي عنه عليه السلام أنه لما سألته الجارية الخثعمية وقالت يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الحج شيخاً زمناً لا يستطيع أن يحج إن حججت عنه أينفعه ذلك فقال: لها أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك قالت: نعم قال فدين الله أحق بالقضاء ووجه الاحتجاج به أنه ألحق دين الله بدين الآدمي في وجوب القضاء ونفعه وهو عين القياس وما مثل هذا يسميه الأصوليون التنبيه على أصل القياس كما سبق تحقيقه.
وأيضاً ما روي عنه عليه السلام أنه قال لأم سلمة وقد سئلت عن قبلة الصائم هل أخبرته أني أقبل وأنا صائم وإنما ذكر ذلك تنبيها على قياس غيره عليه.
وأيضاً ما روي عنه أنه أمر سعد بن معاذ أن يحكم في بني قريظة برأيه وأمرهم بالنزول على حكمه فأمر بقتلهم وسبي نسائهم فقال عليه السلام لقد وافق حكمه حكم الله.
وأيضاً ما روي عنه عليه السلام أنه قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها حكم بتحريم ثمنها باعتبار تحريم أكلها.
وأيضاً ما روي عنه عليه السلام أنه علل كثيراً من الأحكام والتعليل موجب لاتباع العلة أين كانت وذلك هو نفس القياس.
فمن ذلك قوله عليه السلام " كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة فادخروها " .
وقوله " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة " .
ومنا قوله لما سئل عن بيع الرطب بالتمر أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا: نعم فقال فلا إذاً.(1/368)
ومنها قوله في حق محرم وقصت به ناقته لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيباً فإنه يحشر يوم القيامة ملبياً.
ومنها قوله في حق شهداء أحد " زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك " ومنها قوله في الهرة " إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات " وقوله: " إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده " وقوله في الصيد: " فإن وقع في الماء فلا تأكل منه لعل الماء أعان على قتله " وأيضاً قوله: " أنا أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي " والرأي إنما هو تشبيه شيء بشيء وذلك هو القياس إلى غير ذلك من الأخبار المختلف لفظها المتحد معناها النازل جملتها منزلة التواتر وإن كانت آحادها آحاداً.
فإن قيل: أما حيث معاذ فإنه مرسل وخبر واحد ورد في إثبات كون القياس حجةً وهو مما تعم به البلوى والمرسل ليس بحجة عند الشافعي وخبر الواحد فيما تعم به البلوى ليس بحجة عند أبي حنيفة فالإجماع من الفريقين على أنه ليس بحجة والذي يدل على ضعفه أن النبي عليه السلام كان قد ولاه القضاء وذلك لا يكون إلا بعد معرفة اشتمال معاذ على معرفه ما به يقضي فالسؤال عما علم لا معنى له وأيضاً فإنه وقف العمل بالرأي على عدم وجدان الكتاب والسنة ووقف العمل بالسنة على عدم وجدان الكتاب.
والأول على خلاف قوله تعالى : " ما فرطنا في الكتاب من شيء " الأنعام 38 وعلى خلاف قوله : " ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " الأنعام 59 والثاني على خلاف الدليل الدال على جواز نسخ الكتاب وتخصيصه بالسنة.
سلمنا صحته وأنه حجة غير أن اجتهاد الرأي أعم من القياس وذلك لأن اجتهاد الرأي كما يكون بالقياس قد يكون بالاجتهاد في الاستدلال بخفي النصوص من الكتاب والسنة وطلب الحكم فيهما على التمسك بالبراءة الأصلية ولفظه غير عام في كل رأي فلا يكون حمله على اجتهاد الرأي بالقياس أولى من غيره.
سلمنا أن المراد به اجتهاد الرأي بالقياس غير أن القياس ينقسم إلى ما علته منصوصة أو مومى إليها وإلى ما علته مستنبطة بالرأي واللفظ أيضاً مطلق وقد عملنا به في القياس الذي علته منصوصة على ما قاله النظام.
سلمنا أنه حجة مطلقاً في كل قياس ولكن قبل إكمال الدين أو بعده؟ على ما قال تعالى : " اليوم أكملت لكم دينكم " المائدة 3 الأول مسلم والثاني ممنوع وذلك أن إكمال الدين إنما يكون باشتمال الكتاب والسنة على تعريف كل ما لا بد من معرفته.
وعلى هذا فالقياس لا حاجة إليه بعد ذلك وبتقدير كونه حجة مطلقا لكن فيما تعبد في إثباته بالظن لا باليقين والقياس ليس من هذا الباب.
وبهذا يكون الاعتراض على حديث ابن مسعود أيضاً.
وأما حديث الجارية الخثعمية فالورود عليه من جملة الأسئلة الواردة على حديث معاذ أنه خبر واحد فيما تعم به البلوى وأنه ظني فلا يتمسك به في مسائل الأصول وهما عامان في جميع ما ذكر من الأخبار ويخصه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر دين الآدمي بطريق التقريب إلى فهم الجارية في حصول نفع القضاء أما أن يكون ذلك بطريق القياس فلا.
وأما حديث أم سلمة فيدل على أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم حجة متبعة أما أن يكون ذلك بطريق القياس على فعل النبي صلى الله عليه وسلم فلا.
وأما حديث سعد بن معاذ فليس فيه أيضاً ما يدل على صحة القياس فإن أمره له بأن يحكم في بني قريظة برأيه لا يخص القياس لما تقدم من أن اجتهاد الرأي أعم من القياس فلعله أمره أن يحكم باجتهاد رأيه في الاستدلال بخفي النصوص من الكتاب والسنة ولذلك قال عليه السلام لقد وافق حكمه حكم الله ورسوله.
وأما خبر تحريم الشحوم على اليهود فليس فيه ما يدل على تحريم البيع بالقياس على تحريم الأكل فإن تحريم الشيء أعم من تحريم أكله فإن تحريم الشيء تحريم للتصرف فيه مطلقاً وبتقدير أن يكون تحريم الأكل مصرحا به فالمراد به تحريم التصرف مطلقاً بدليل قوله تعالى : " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " البقرة 188 وقوله : " ولا تقربوا مال اليتيم " وقوله : " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " النساء 2 والمراد به المنع من التصرف في ذلك بغير حق.(1/369)
وأما الأخبار الدالة على تعليل الأحكام فليس يلزم من تعليل الحكم المنصوص عليه بعلة إلحاق غير المنصوص به لاشتراكهما في تلك العلة إذ هو محل النزاع وليس في الأخبار ما يدل على الإلحاق بل التعليل إنما كان لتعريف الباعث على الحكم ليكون أقرب إلى الانقياد وأدعى إلى القبول ولهذا أمكن التنصيص على العلة القاصرة ولا قياس عنها وبتقدير دلالتها على الإلحاق فالعلل فيها منصوصة ومومى إليها ونحن نقول بهذا النوع من القياس كما قاله النظام وقوله عليه السلام : " إني أحكم بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي " فهو على خلاف قوله تعالى : " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " النجم 3 وبتقدير أن يكون حكمه بالرأي فلا يلزم أن يكون ذلك بالقياس لما تقدم وبتقدير أن يكون بالقياس فلا يلزم من جواز التمسك بالقياس للنبي عليه السلام مع كونه معصوماً عن الخطإ مسدداً في أحكامه جواز ذلك لغيره.
والجواب عن السؤال الأول على خبر معاذ أنا قد بينا أن المرسل وخبر الواحد فيما تعم به البلوى حجة وأما سؤال معاذ عما به يقضي فإنما كان قبل توليه القضاء ليعلم صلاحيته لذلك وإن كان ذلك بعد توليه القضاء فإنما كان ذلك بطريق التأكيد أو بأعلام الغير بأهليته للقضاء وأما توقيفه للعمل بالرأي على عدم وجدان الكتاب والسنة فغير مخالف لقوله تعالى : " ما فرطنا في الكتاب من شيء " الأنعام 38 إذ المراد منه إنما هو عدم التفريط فيما ورد من الكتاب لا أن المراد به بيان كل شيء فإنا نعلم عدم اشتماله على بيان العلوم العقلية من الهندسية والحسابية وكثير من الأحكام الشرعية وبتقدير أن يكون المراد به بيان كل شيء لكن لا بطريق الصريح بل بمعنى أنه أصل لبيان كل شيء فإنه أصل لبيان صدق الرسول في قوله وقوله بيان للقياس وغيره وبه يخرج الجواب عن الآية الأخرى وأما توقيفه العمل بالسنة على عدم الكتاب فالمراد به الكتاب الذي لا معارض له ولا ناسخ ويجب تنزيله على ذلك ضرورة الجمع بين تقرير النبي عليه السلام له على ذلك وبين الدليل الدال على نسخ الكتاب وتخصيصه بالسنة.
وعن السؤال الثاني: أنه يمتنع حمل اجتهاد الرأي على الاجتهاد في الاستدلال بخفي نصوص الكتاب والسنة لأن قوله فإن لم تجد عام في الجلي والخفي بدليل صحة الاستثناء وورود الاستفهام فتخصيص ذلك بالجلي دون الخفي من غير دليل ممتنع والتمسك بالبراءة الأصلية في نفي الأحكام الشرعية ليس بحجة على ما يأتي فلا يكون اجتهاد الرأي فيه مستنداً للحكم وبتقدير أن يكون حجة فذلك معلوم لكل عاقل فلا يكون مفتقراً إلى اجتهاد الرأي.
وعن السؤال الثالث: أنا لا نسلم أن ما كانت علته منصوصة يكون قياس على ما سيأتي وإن سلمنا أنه قياس فما ذكرناه وإن لم يكن حجة على النظام فهو حجة على غيره.
وعن الرابع: أن إكمال الدين إنما يكون ببيان كل شيء إما بلا واسطة أو بواسطة على ما بيناه وعلى هذا فلا يمتنع العمل بالقياس بعد إكمال الدين لكونه من جملة الوسائط.
وعن الخامس: ما سبق من أن المسألة ظنية غير قطعية وعلى هذا فلا يخفى الجواب عما يعترض به على خبر ابن مسعود.
وكذلك جواب كل ما يعترض به من هذه الأسئلة على باقي الأخبار.
وما ذكروه على خبر الجارية الخثعمية فبعيد أيضاً فإنه لو لم يكن مدرك الحكم فيما سألت عنه القياس على دين الآدمي لما كان التعرض لذكره مفيداً بل كان يجب الاقتصار على قوله نعم.
وما ذكروه على حديث أم سلمة فغير صحيح وذلك لأنه لو لم يكن اتباعنا له في فعله بطريق التأسي به لما كان حكم فعله ثابتاً في حقنا ولا معنى للقياس سوى ذلك.
وما ذكروه على حديث سعد بن معاذ باطل أيضاً لأن حكمه لو كان مستنداً إلى الكتاب أو السنة لما كان ذلك برأيه وقد قال أحكم فيهم برأيك وقوله عليه السلام: " لقد وافق حكمه حكم الله ورسوله " لا منافاة بينه وبين الحكم بالقياس فإنه إذا كان القياس من طرق الشرع فالحكم المستند إليه يكون حكماً لله ولرسوله.(1/370)
وما ذكروه على خبر الشحوم مندفع من حيث إن الظاهر من إضافة التحريم إلى المأكول إنما هو تحريم الأكل وكذلك التحريم المضاف إلى النساء إنما هو تحريم الوطء وإلى الدابة تحريم الركوب وإلى الدار تحريم السكنى وكذلك في كل شيء على حسبه وهو المتبادر إلى الفهم عند إطلاقه فتحريم البيع لا يكون مأخوذاً من مطلق التحريم المضاف إلى أكل الشحوم فلم يبق إلا أن يكون بطريق الإلحاق به وهو معنى القياس.
وما ذكروه على الأخبار الدالة على التعليل بالعلل المذكورة من أن ذلك لا يدل على التعدية فحق غير أن ما ذكروه بتقدير تسليم التعدية على مذهب النظام فقد سبق جوابه.
وأما الإجماع وهو أقوى الحجج في هذه المسألة فهو أن الصحابة اتفقوا على استعمال القياس في الوقائع التي لا نص فيها من غير نكير من أحد منهم : فمن ذلك رجوع الصحابة إلى اجتهاد أبي بكر رضي الله عنه في أخذ الزكاة من بني حنيفة وقتالهم على ذلك وقياس خليفة رسول الله على الرسول في ذلك بوساطة أخذ الزكاة للفقراء وأرباب المصارف.
ومن ذلك قول أبي بكر لما سئل عن الكلالة أقول في الكلالة برأيي فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان الكلالة ما عدا الوالد والولد.
ومن ذلك أن أبا بكر ورث أم الأم دون أم الأب فقال له بعض الأنصار لقد ورثت امرأةً من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها وتركت امرأةً لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت فرجع إلى التشريك بينهما في السدس.
ومن ذلك حكم أبي بكر بالرأي في التسوية في العطاء حتى قال له عمر كيف تجعل من ترك دياره وأمواله وهاجر إلى رسول الله كمن دخل في الإسلام كرهاً؟ فقال أبو بكر: إنما أسلموا لله وأجورهم على الله وإنما الدنيا بلاغ وحيث انتهت النوبة إلى عمر فرق بينهم.
ومن ذلك قياس أبي بكر تعيين الإمام بالعهد على تعيينه بعقد البيعة حتى إنه عهد إلى عمر بالخلافة ووافقه على ذلك الصحابة.
ومن ذلك ما روي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري اعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور برأيك.
ومن ذلك قول عمر أقضي في الجد برائي وأقول فيه برائي وقضى فيه بآراء مختلفة.
ومن ذلك قوله لما سمع حديث الجنين لولا هذا لقضينا فيه برأينا.
ومن ذلك أنه لما قيل له في مسألة المشركة هب أن أبانا كان حماراً ألسنا من أم واحدة فشرك بينهم.
ومن ذلك أنه لما قيل لعمر إن سمرة قد أخذ الخمر من تجار اليهود في العشور وخللها وباعها قال: قاتل الله سمرة أما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها قاس الخمر على الشحم وأن تحريمها تحريم لثمنها.
ومن ذلك أنه جلد أبا بكرة حيث لم يكمل نصاب الشهادة بالقياس على القاذف وإن كان شاهداً لا قاذفاً.
ومن ذلك قول عثمان لعمر في واقعة إن تتبع رأيك فرأيك أسد وإن تتبع رأي من قبلك فنعم ذلك الرأي كان ولو كان فيه دليل قاطع على أحدهما لم يجز تصويبهما.
ومن ذلك أنه ورث المبتوتة بالرأي.
ومن ذلك قول علي عليه السلام في حد شارب الخمر إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه حد المفترين قاس حد الشارب على القاذف.
ومن ذلك أن عمر كان يشك في قود القتيل الذي اشترك في قتله سبعة فقال له علي يا أمير المؤمنين أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة أكنت تقطعهم ؟ قال: نعم.
قال: فكذلك وهو قياس للقتل على السرقة.
ومن ذلك ما روي عن علي أنه قال في أمهات الأولاد اتفق رأيي ورأي عمر على أن لا يبعن وقد رأيت الآن بيعهن حتى قال له عبيدة السلماني رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك.
ومن ذلك قول علي في المرأة التي أجهضت بفزعها بإرسال عمر إليها أما المأثم فأرجو أن يكون منحطاً عنك ورأى عليك الدية فقال له: عزمت عليك أن لا تبرح حتى تضربها على بني عدي يعني قومه وألحقه عثمان وعبد الرحمن بن عوف بالمؤدب وقالا: إنما أنت مؤدب ولا شيء عليك.
ومن ذلك قول ابن عباس لما ورث زيد ثلث ما بقي في مسألة زوج وأبوين أين وجدت في كتاب الله ثلث ما بقي؟ فقال له زيد: أقول برأيي وتقول برأيك.
ومن ذلك قوله في مسألة الجد ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا.(1/371)
ومن ذلك قول ابن مسعود في المفوضة برأيه بعد أن استمهل شهرا وأنه كان يوصي من يلي القضاء بالرأي ويقول لا ضير في القضاء بالكتاب والسنة وقضايا الصالحين فإن لم تجد شيئا من ذلك فاجتهد رأيك.
ومن ذلك اختلاف الصحابة في الجد حتى ألحقه بعضهم بالأب في إسقاط الأخوة وألحقه بعضهم بالأخوة.
ومن ذلك اختلافهم في قول الرجل لزوجته أنت علي حرام حتى قال أبو بكر وعمر: هو يمين وقال علي وزيد: هو طلاق ثلاث وقال ابن مسعود هو طلقة واحدة وقال ابن عباس هو ظهار إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى وذلك يدل على أن الصحابة مثلوا الوقائع بنظائرها وشبهوها بأمثالها وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها وأنه ما من واحد من أهل النظر والاجتهاد منهم إلا وقد قال بالرأي والقياس.
ومن لم يوجد منه الحكم بذلك فلم يوجد منه في ذلك إنكار فكان إجماعاً سكوتياً وهو حجة مغلبة على الظن لما سبق تقريره في مسائل الإجماع وإنما قلنا إنهم قالوا بالرأي والقياس في جميع هذه الصور وذلك لا بد لهم فيها من مستند وإلا كانت أحكامهم بمحض التشهي والتحكم في دين الله من غير دليل وهو ممتنع وذلك المستند يمتنع أن يكون نصاً وإلا لأظهر كل واحد ما اعتمد عليه من النص إقامة لعذره ورداً لغيره عن الخطإ بمخالفته على ما اقتضته العادة الجارية بين النظار ولأن العادة تحيل على الجمع الكثير كتمان نص دعت الحاجة إلى إظهاره في محل الخلاف وهذا بخلاف ما إذا أجمعوا على حكم في واقعة بناء على نص فإنه لا يمتنع اتفاقهم على عدم نقله بناء على الاكتفاء في ذلك الحكم بإجماعهم ولو أظهروا تلك النصوص واحتجوا بها لكانت العادة تحيل عدم نقلها فحيث لم تنقل دل على عدمها وإذا لم يكن نصاً تعين أن يكون قياساً واستنباطاً.
فإن قيل: لا نسلم أن أحداً من الصحابة عمل بالقياس وما نقل عنهم من الاجتهاد في الوقائع المذكورة والعمل بالرأي فلعلهم إنما استندوا فيه إلى الاجتهاد في دلالات النصوص الخفية من الكتاب والسنة كحمل المطلق على المقيد والعام على الخاص وترجيح أحد النصين على الآخر والنظر في تقرير النفي الأصلي ودلالة الاقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء وأدلة الخطاب وتحقيق المناط وغير ذلك من الاجتهادات المتعلقة بالأدلة النصية.
قولكم: لو كان ثم نص لظهر قلنا: ولو كانوا قائسين لتلك الصور على غيرها لأظهروا العلل الجامعة فيها وصرحوا بها كما في النصوص ولو أظهروها واحتجوا بها لنقلت أيضاً فعدم نقلها يدل على عدمها وإذا لم يكن قياس واستنباط تعين أن يكون المستند إنما هو النص وليس أحد الأمرين أولى من الآخر وما نقل عن الصحابة من التصريح بالعمل بالرأي في الوقائع المذكورة لا يلزم أن يكون قياساً فإن اجتهاد الرأي أعم من اجتهاد الرأي بالقياس على ما تقرر ولا يلزم من وجود الأعم وجود الأخص.
سلمنا أنهم عملوا بالقياس غير أنا لا نسلم عمل الكل به فإنه لم ينقل ذلك إلا عن جماعة يسيرة لا تقوم الحجة بقولهم.(1/372)
قولكم إنه لم يوجد من غيرهم نكير عليهم لا نسلم ذلك وبيان وجود الإنكار ما روي عن أبي بكر أنه لما سئل عن الكلالة قال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي وأيضاً ما روي عن عمر أنه قال: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء الدين أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا وقال: إياكم والمكايلة فسئل عن ذلك فقال: المقايسة وروي عن شريح أنه قال كتب إلي عمر اقض بما في كتاب الله فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فاقض بما في سنة رسول الله فإن جاءك ما ليس في سنة رسول الله فاقض بما أجمع عليه أهل العلم فإن لم تجد فلا عليك أن لا تقضي وأيضاً ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال لعمر في مسألة الجنين إن اجتهدوا فقد أخطؤوا وإن لم يجتهدوا فقد غشوك وروي عن عثمان وعلي أنهما قالا لو كان الدين بالقياس لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره وروي عن ابن عباس أنه قال: إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " المائدة 49 ولم يقل بما رأيت ولو جعل لأحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسول الله وقال: إياكم والمقاييس فإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس وقال: إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم في دينه برأيه وروي عن ابن عمر أنه قال: السنة ما سنة رسول الله لا تجعلوا الرأي سنة وقال أيضاً إن قوماً يفتون بآرائهم لو نزل القرآن لنزل بخلاف ما يفتون وقال أيضاً: اتهموا الرأي على الدين فإنه منا تكلف وظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا وروي عن ابن مسعود أنه قال: إذا قلتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيراً مما حرم الله وحرمتم كثيراً مما حلل الله وقال أيضاً: قراؤكم صلحاؤكم يذهبون ويتخذ الناس رؤوسا جهالاً يقيسون ما لم يكن بما كان وقالت عائشة أخبروا زيد بن أرقم أنه أحبط جهاده مع رسول الله بفتواه بالرأي في مسألة العينة وقد أنكر التابعون ذلك أيضاً حتى قال الشعبي ما أخبروك عن أصحاب محمد فاقبله وما أخبروك عن رأيهم فألقه في الحش وقال مسروق لا أقيس شيئاً بشيء أخاف أن تزل قدم بعد ثبوتها وكان ابن سيرين يذم المقاييس ويقول أول من قاس إبليس.
ومع هذه الإنكارات من الصحابة والتابعين فلا إجماع.
سلمنا أنه لم يظهر النكير في ذلك لكن لا يلزم منه أن يكون سكوت الباقين عن موافقة لما ذكر في الإجماع سلمنا أنه عن موافقة لكنه لا حجة في إجماع الصحابة وكيف يقال بذلك وقد عدلوا عما أمروا به ونهوا عنه وتجبروا وتآمروا وجعلوا الخلاف طريقا إلى أغراضهم الفاسدة حتى جرى بينهم ما جرى من الفتن والحروب وتألبوا على أهل البيت وكتموا النص على علي رضي الله عنه غصبوه الخلافة ومنعوا فاطمة إرثها من أبيها المنصوص عليه في كتاب الله برواية انفرد بها أبو بكر وعدلوا عن طاعة الإمام المعصوم المحيط بجميع النصوص الدالة على جميع الأحكام الشرعية إلى غير ذلك من الأمور التي لا يجوز معها الاحتجاج بأقوالهم وهذا السؤال مما أورده الرافضة.
سلمنا أن قول البعض بالقياس وسكوت الباقين حجة لكنها حجة ظنية على ما سبق في الإجماع وكون القياس حجةً أمر قد تعبدنا فيه بالعلم فلا يكون مستفاداً من الدليل الظني سلمنا صحة الاحتجاج به ولكن ما المانع أن يكون عملهم بالقياس المنصوص على علته ونحن نقول به كما قاله النظام والقاشاني والنهرواني سلمنا عملهم بكل قياس لكن لم قلتم إنه إذا جاز العمل بالقياس للصحابة جاز ذلك لمن بعدهم وذلك لأن الصحابة لما كانوا عليه من شدة اليقين والصلابة في الدين ومشاهدة الوحي والتنزيل وكثرة التحفظ في أمور دينهم حتى نقل عنهم قتل الأباء والأبناء وبذل الأنفس والأموال ومهاجرة الأهل والأوطان في نصرة الدين حتى ورد في حقهم من التفضيل والتعظيم في الكتاب والسنة ما لم يرد مثله في حق غيرهم على ما ذكر في الإجماع وعند ذلك فلا يلزم من جواز عملهم بالقياس جوازه لغيرهم.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على صحة القياس وأنا متعبدون به لكنه معارض بالكتاب والسنة.(1/373)
أما الكتاب فقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " الحجرات 1 والحكم بالقياس تقدم بين يدي الله ورسوله لأنه حكم بغير قوليهما وقوله تعالى : " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " البقرة 169 وقوله تعالى : " ولا تقف ما ليس لك به علم " الإسراء 36 والحكم بالقياس قول بما لا يعلم وقوله تعالى: " إن الظن لا يغني من الحق شيئاً " النجم 28 وقوله تعالى: " إن بعض الظن إثم " الحجرات 12 وقوله تعالى : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " المائدة 49 والحكم بالقياس حكم بغير ما أنزل الله.
وقوله تعالى: " وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله " الشورى 10 وقوله تعالى: " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " النساء 59 والحكم بالقياس لا يكون حكماً لله ولا مردوداً إليه وقوله تعالى: " ما فرطنا في الكتاب من شيء " الأنعام 38 وقوله تعالى: " ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " الأنعام 59 وذلك يدل على أنه لا حاجة إلى القياس.
وأما من جهة السنة فما روى عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ستفترق أمتي فرقاً أعظمها فتنةً الذين يقيسون الأمور بالرأي وأيضاً ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تعمل هذه الأمة برهةً بكتاب الله وبرهةً بسنة رسول الله وبرهةً بالرأي فإذا فعلوا ذلك ضلوا وأضلوا وذلك يدل على أن القياس والعمل بالرأي غير صحيح.
والجواب قولهم لا نسلم أن أحدا من الصحابة عمل بالقياس قلنا: دليله ما ذكرناه.
قولهم: يحتمل أن يكون عملهم بدلالات النصوص الخفية قلنا لو كان كذلك لظهر المستند واشتهر على ما قررناه.
قولهم: ولو كان ذلك لمحض القياس لأظهروا العلل الجامعة وصرحوا بها كما في النصوص قلنا: منهم من صرح كتصريح أبي بكر في التسوية في العطاء بين المهاجرين وغيرهم وهو قوله إنما الدنيا بلاغ وتصريح علي في قياسه حد شارب الخمر على حد القاذف بواسطة الاشتراك في الافتراء وتصريح عثمان وعبد الرحمن بن عوف في إلحاقهم عمر في صورة المرأة التي أجهضت الجنين بالمؤدب بواسطة التأديب.
ومنهم من اعتمد في التنبيه عليها بفتواه وجري العادة بفهم المستمع وجه المأخذ والشبه بين محل النزاع ومحل الإجماع ولهذا فإن العادة جارية من بعض الملوك بقتل الجاسوس إذا ظفر به زجراً له ولغيره عن التجسس عليه وعادة البعض الإحسان إليه لاستمالته له حتى يدله على أحوال عدوه فإذا رأينا ملكاً قد قتل جاسوساً أو أحسن إليه ولم نعهد من عادته قبل ذلك شيئاً كان ذلك كافياً في التنبيه على رعاية العلة الموجبة للقتل أو الإحسان في محل الوفاق ولا كذلك النصوص فإن الأذهان غير مستقلة بمعرفتها فدعت الحاجة إلى التصريح بها.
وعلى هذا فمن قال منهم في قوله: أنت علي حرام إنه طلاق ثلاث نبه على أن مطلق التحريم يقتضي نهاية التحريم وذلك مشترك بينه وبين الطلاق الثلاث فلذلك عدى الطلاق الثلاث إليه ومن جعله طلقةً واحدةً نبه على أنه اعتبر فيه أقل ما يثبت معه التحريم فلذلك ألحقه بالطلقة الواحدة ومن جعله ظهاراً ألحقه بالظهار من حيث إنه يفيد التحريم بلفظ ليس هو لفظ الطلاق ولا لفظ الإيلاء ومن شرك بين الجد وابن الابن نبه على أن العلة في ذلك استواؤهما في الإدلاء إلى الميت في طرفي العلو والسفل ولهذا شبههما بغصني شجرة وجدولي نهر.
ومن ذلك تنبيه عمر في قياسه الخمور على الشحوم على أن العلة في تحريم أثمانها تحريمها.
ومن ذلك التنبيه في التشريك بين الإخوة من الأب والأم والإخوة من الأم على أن العلة الاشتراك في جهة الأمومة إلى غير ذلك من التنبيهات ويدل على ما ذكرناه تصريح أكثر الصحابة فيما عملوا به بالرأي.
قولهم: اجتهاد الرأي أعم من القياس قلنا: وإن كان الأمر على ما قيل غير أنا قد بينا أنه لم يكن ذلك مستنداً إلى النصوص فتعين استناده إلى القياس والاستنباط.
قولهم: لا نسلم عمل الكل بالقياس قلنا: وإن عمل به البعض فقد بينا أنه لم يوجد من الباقين في ذلك نكير فكان إجماعاً.(1/374)
قولهم: قد وجد الإنكار لا نسلم ذلك وما ذكروه من صور الإنكار فهي منقولة عمن نقلنا عنهم القول بالرأي والقياس فلا بد من التوفيق بين النقلين لاستحالة الجمع بينهما والعمل بأحدهما من غير أولوية وعند ذلك فيجب حمل ما نقل عنهم من إنكار العمل بالرأي والقياس على ما كان من ذلك صادراً عن الجهال ومن ليس له رتبة الاجتهاد وما كان مخالفاً للنص وما ليس له أصل يشهد له بالاعتبار وما كان على خلاف القواعد الشرعية وما استعمل من ذلك فيما تعبدنا فيه بالعلم دون الظن جمعاً بين النقلين.
هذا من جهة الإجمال وأما من جهة التفصيل: أما قول أبي بكر أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي فإنما أراد به قوله في تفسير القرآن ولا شك أن ذلك مما لا مجال للرأي فيه لكونه مستنداً إلى محض السمع عن النبي صلى الله عليه وسلم وأهل اللغة بخلاف الفروع الشرعية.
وأما قول عمر إياكم وأصحاب الرأي الخبر إلى آخره فإنما قصد به ذم من ترك الأحاديث وحفظ ما وجد منها وعدل إلى الرأي مع أن العمل مشروط بعدم النصوص.
وقوله: إياكم والمكايلة أي المقايسة فالمراد به المقايسة الباطلة لما ذكرناه.
وأما قوله لأبي موسى الأشعري فإنما يفيد أن لو لم يكن القياس مما أجمع عليه أهل العلم وإلا فبتقدير أن يكون واجداً له فلا.
وقول علي لعمر في مسألة الجنين لا يدل على أن كل اجتهاد خطأ ونحن لا ننكر الخطأ في بعض الاجتهادات كما سبق تعريفه.
وأما قول عثمان وعلي لو كان الدين بالقياس ...الخبر.فيجب حمله على أنه لو كان جميع الدين بالقياس لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره ويكون المقصود منه أنه ليس كل ما أتت به السنن على ما يقتضيه القياس.
وأما قول ابن عباس إن الله قال لنبيه الخبر ليس فيه ما يدل على عدم الحكم بالقياس إلا بمفهومه وليس بحجة على ما سبق بيانه.
وقوله: إياكم والمقاييس يجب حمله على المقاييس الفاسدة كالمقاييس التي عبدت بها الشمس والقمر وغير ذلك مما بيناه لما سلف من الجمع بين النقلين.
وقوله: إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم في دينه برأيه يجب حمله على الرأي المجرد عن اعتبار الشارع له لما سبق.
وأما قول ابن عمر السنة ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما ينفع أن لو كان القياس ليس مما سنه الرسول.
وقوله لا تجعلوا الرأي سنة أراد به الرأي الذي لا اعتبار له وإلا فالرأي المعتبر من السنة لا يكون خارجاً عن السنة.
وقوله: إن قوماً يفتون بآرائهم ...الخبر ليس فيه ما يدل على أن كل من أفتى برأيه يكون كذلك ونحن لا ننكر أن بعض الآراء باطل.
وقوله اتهموا الرأي على الدين غايته الدلالة على احتمال الخطإ فيه وليس فيه ما يدل على إبطاله.
وقوله: " وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً " النجم 28 المراد به استعمال الظن في مواضع اليقين لا أن المراد به إبطال الظن بدليل صحة العمل بظواهر الكتاب والسنة.
وأما قول ابن مسعود: إذا قلتم في دينكم بالقياس ...الخبر يجب حمله على القياس الفاسد لما سبق.
وقوله ويتخذ الناس رؤوسا جهالاً... إلى آخره فالمراد به أيضا القياس الباطل ولهذا وصفهم بكونهم جهالاً وعلى ذلك يجب حمل قول عائشة في حق زيد بن أرقم وكذلك قول الشعبي ومسروق وابن سيرين جمعاً بين النقلين كما سبق تقريره.
قولهم: لا نسلم أن السكوت يدل على الموافقة قلنا: دليله ما سبق في مسائل الإجماع.
قولهم: لا نسلم أن إجماع الصحابة حجة قد دللنا عليه في مسائل الإجماع أيضاً.
وما ذكروه من القوادح في الصحابة فمن أقوال المبتدعة الزائغين كالنظام ومن تابعه من الرافضة الضلال وقد أبطلنا ذلك كله في كتاب أبكار الأفكار في المواضع اللائقة بذلك.
قولهم: إنه حجة ظنية قلنا: والمسألة أيضاً عندنا ظنية.
قولهم: ما المانع أن يكون عملهم بالأقيسة المنصوص على عللها عنه أجوبة ثلاثة : الأول: أنه لو كان ثم نص لنقل كما ذكرناه في النصوص الدالة على الأحكام.
الثاني: أنه إذا كانت العلة منصوصةً فإن لم يرد التعبد بإثبات الحكم بها في غير محل النص فيمتنع إثباته لما يأتي في المسألة التي بعدها وإن ورد الشرع بذلك فالحكم يكون في الفرع ثابتاً بالاستدلال أي بعلة منصوصة لا بالقياس على ما يأتي تقريره وعلى هذا فلا يكونون عاملين بالقياس.(1/375)
الثالث: أن ذلك يكون حجةً على من أنكر القياس مطلقاً وإن لم يكن حجة على النظام والقائلين بقوله.
قولهم: لا يلزم أن يكون القياس حجةً بالنسبة إلى غير الصحابة قلنا: القائل قائلان: قائل يقول بالقياس مطلقاً بالنسبة إلى الكل وقائل بنفيه مطلقاً بالنسبة إلى الكل وقد اتفق الفريقان على نفي التفصيل كيف وإنه حجة على من قال بنفيه مطلقاً.
وما ذكروه من المعارضة أما الآية الأولى فإنما تفيد أن لو لم يكن القياس مما عرف التعبد به من الله تعالى ورسوله وعند ذلك فيتوقف كون العمل بالقياس تقدماً بين يدي الله ورسوله على كون الحكم به غير مستفاد من الله ورسوله وذلك متوقف على كون الحكم به تقدماً بين يدي الله ورسوله فلا يكون حجةً.
وأما الآية الثانية والثالثة فجوابهما من ثلاثة أوجه : الأول: أنا نقول بموجب الآيتين وذلك لأنا إذا حكمنا بمقتضى القياس عند ظننا به فحكمنا به يكون معلوم الوجوب لنا بالإجماع لا أنه غير معلوم.
الثاني: أنه يجب حمل الآيتين على النهي عن القول بما ليس بمعلوم على ما تعبدنا فيه بالعلم جمعاً بينهما وبين ما ذكرناه من الأدلة.
الثالث: أن الآيتين حجة على الخصوم في القول بإبطال القياس إذا هو غير معلوم لهم لكون المسألة غير علمية فكانت مشتركة الدلالة.
وبمثل هذه الأجوبة يكون الجواب عن قوله تعالى : " وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً " النجم 28 وقوله : " إن بعض الظن إثم " الحجرات 12 وأما قوله تعالى : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " المائدة 49 فنحن نقول بموجبه فإن من حكم بما هو مستنبط من المنزل فقد حكم بالمنزل كيف وأن ذلك خطاب مع الرسول ولا يلزم من امتناع ذلك في حق الرسول لإمكان تعرفه أحكام الوقائع بالوحي امتناع ذلك في حق غيره.
وقوله تعالى: " وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله " الشورى 10 وقوله: " فردوه إلى الله والرسول " النساء 59 غير مانع من القياس لأن العمل بالمستنبط من قول الله وقول الرسول حكم من الله ورد إليه وإلى الرسول وأما من قال بإبطال القياس فلم يعمل بقول الله وقول الرسول ولا بما استنبط منهما فكان ذلك حجةً عليه لا له.
وقوله تعالى: " ما فرطنا في الكتاب من شيء " الأنعام 38 وقوله : " ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " الأنعام 59 فالمراد به أن الكتاب بيان لكل شيء إما بدلائل ألفاظه من غير واسطة وإما بواسطة الاستنباط منه أو دلالته على السنة والإجماع الدالين على اعتبار القياس فالعمل بالقياس يكون عملا بما بينه الكتاب لا أنه خارج عنه كيف وإنه مخصوص بالإجماع فإنا نعلم عدم اشتماله على تعريف العلوم الرياضية من الهندسية والحسابية بل وكثير من الأحكام الشرعية كمسائل الجد والإخوة وأنت علي حرام والمفوضة ومسائل العول ونحوه وعند ذلك فيجب حمله على أن ما اشتمل عليه الكتاب من الأحكام المبينة به لا تفريط فيها حذراً من مخالفة عموم اللفظ.
وأما ما ذكروه من السنة في ذم الرأي فيجب حمله على الرأي الباطل كما ذكرناه جمعاً بين الأدلة.
المسألة الثالثة إذا نص الشارع على علة الحكم هل يكفي ذلك في تعدية الحكم بها إلى غير محل الحكم المنصوص دون ورود التعبد بالقياس بها ؟اختلفوا فيه : فقال أبو إسحاق الاسفرايني وأكثر أصحاب الشافعي وجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب وبعض أهل الظاهر: لا يكفي ذلك.
وقال أحمد بن حنبل والنظام والقاشاني والنهرواني وأبو بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة والكرخي: يكفي ذلك في إثبات الحكم بها أين وجدت وإن لم يتعبد بالقياس بها.
وقال أبو عبد الله البصري: إن كانت العلة المنصوص عليها علة للتحريم وترك الفعل كان التنصيص عليها كافياً في تحريم الفعل بها أين وجدت وإن كانت علة لوجوب الفعل أو ندبه لم يكن ذلك كافيا في إيجاب الفعل بها ولا في ندبه أين وجدت دون ورود التعبد بالقياس لأن من تصدق على فقير لفقره بدرهم لا يجب أن يتصدق على كل فقير ومن أكل شيئاً من السكر لأنه حلو لا يجب عليه أن يأكل كل سكر وهذا بخلاف من ترك أكل رمانة لحموضتها فإنه يجب عليه أن يترك كل رمانة حامضة.(1/376)
والمختار هو القول الأول لأنه إذا قال الشارع حرمت الخمر لأنه مسكر ولم يرد التعبد بإثبات التحريم بالمسكر في غير الخمر فالقضاء بالتحريم في غير الخمر كالنبيذ إما أن يكون ذلك لأن اللفظ اقتضى بعمومه تحريم كل مسكر وأن قوله: حرمت الخمر لأنه مسكر نازل منزلة قوله: حرمت كل مسكر كما قاله النظام ومن قال بمقالته وإما لوجود العلة في غير الخمر لعدم إمكان قسم ثالث.
فإن كان الأول: فهو ممتنع من حيث إن قوله: حرمت الخمر لإسكاره لا دلالة له من جهة اللغة على تحريم كل مسكر كدلالة قوله: حرمت كل مسكر ولهذا فإنه لو قال: أعتقت عبيدي السودان عتق كل عبد أسود له ولو قال: أعتقت سالماً لسواده فإنه لا يعتق كل عبد له أسود وإن كان أشد سواداً من سالم وكذلك إذا قال لوكيله: بع سالما لسوء خلقه لم يكن له التصرف في غيره من العبيد بالبيع وإن كان أسوأ خلقاً من سالم.
وإن كان الثاني فهو ممتنع لوجهين: الأول أنه لو كان وجود ما نص على عليته كافياً في إثبات الحكم أينما وجدت العلة دون التعبد بالقياس للزم من قوله:أعتقت سالماً لسواده عتق غانم إذا كان مشاركاً له في السواد وهو ممتنع.
الثاني: أنه من الجائز أن يكون ما وقع التنصيص عليه هو عموم الإسكار ومن الجائز أن يكون خصوص إسكار الخمر لما علم الله فيه من المفسدة الخاصة به التي لا وجود لها في غير الخمر وإذا احتمل واحتمل فالتعدية به تكون ممتنعةً إلا أن يرد التعبد بالتعدية.
فإن قيل: لم قلتم إن اللفظ لا يقتضي بعمومه تحريم كل مسكر وقوله: أعتقت عبدي سالماً لسواده دال على عتق غانم أيضاً إذا كان أسود ولهذا فإن أهل اللسان وكل عاقل يناقضه في ذلك عند عدم إعتاقه ويقول له: فغانم أيضاً أسود فلم خصصت سالماً بالعتق ؟ وكذلك القول في قوله لوكيله: بع سالماً لسواده.
هذا بالنظر إلى المفهوم من اللفظة لغةً وحيث لم يقع العتق بغير سالم ولا جاز بيعه شرعاً فإنما كان لأن اللفظ وإن كان له على ذلك دلالة لكنها غير صريحة فالشارع قيد التصرف في أملاك العبيد بصريح القول نظراً لهم في عاقبة الأمر لجواز طرو الندم والبداء عليهم بخلاف تصرف الشارع في الأحكام الشرعية.
ولهذا فإنه لو قال الشارعً حرمت الخمر لإسكاره وقيسوا عليه كل مسكر لزم منه تحريم كل مسكر ولو قال لوكيله: بع سالماً لسواده وقس عليه كل أسود فإنه لا ينفذ تصرفه بذلك وإن سلمنا أنه لا عموم في اللفظ ولكن لم قلتم إنه يمتنع إثبات الحكم لوجود العلة ؟ وما ذكرتموه من ً الأول: فالعذر عنه ما ذكرناه من تقييد الشارع التصرف في أملاك العبيد بصريح القول دون غيره.
وما ذكرتموه من الوجه الثاني: فغير صحيح لستة أوجه: الأول: أن العرف شاهد بأن الأب إذا قال لولده: لا تأكل هذا فإنه مسموم وكل هذا لأنه غذاء نافع فإنه يفهم منه المنع من أكل كل طعام مسموم وجواز أكل كل غذاء نافع ولو أمكن أن يكون لخصوص الإضافة تأثير أو احتمل أن تكون داخلةً في التعليل لما تبادر إلى الفهم التعميم من ذلك والأصل تنزيل التصرفات الشرعية على وفق التصرفات العرفية.
الثاني: أن الغالب من العلة المنصوص عليها أن تكون مناسبةً للحكم حتى تخرج عن التعبد ولا مناسبة في خصوص إضافة الإسكار إلى الخمر بل المناسبة في كونه مسكراً لا غير.
الثالث: أنه لو لم يكن الوصف المنصوص عليه علةً بعمومه بحيث يثبت به الحكم في موضع آخر بل العلة خصوص إضافة ذلك الوصف إلى محله لم يكن للتنصيص عليه فائدة وذلك لأن اختصاص الخمر بوصف الإسكار ملازم له غير مفارق فكان يكفيه أن يقول: حرمت الخمر لا غير.
الرابع: أن أخذ خصوص إضافة الوصف المنصوص على عليته في التعليل على خلاف الظاهر في جميع التعاليل ولهذا فإن عقلاء العرب ما نطقوا بعلة إلا وطردوها في غير المحل الذي أضافوها إليه ولهذا فإنهم إذا قالوا: اضرب هذا الأسود لكونه سارقاً فإنهم يلغون خصوص إضافة السرقة إلى الأسود حتى إن السرقة لو وجدت من أبيض كانت مقتضيةً لضربه.
الخامس: أنه لو أمكن أخذ خصوص إضافة الصفة إلى محلها في التعليل لما صح قياس أصلاً وذلك ممتنع.(1/377)
السادس: أنه إذا قال الشارع: حرمت التأفيف للوالدين فإنه يفهم منه كل عاقل تحريم ضربهما لما كان الشارع مومياً إلى العلة وهي كف الأذى عنهما فإذا صرح بالعلة ونص عليها كان ذلك أولى بالتعدية ولو كان لخصوص الأذى بالتأفيف مدخل في التعليل لما فهم تحريم الضرب سلمنا دلالة ما ذكرتموه على امتناع التعدية فيما إذا قال: حرمت الخمر لكونها مسكرةً لكنه غير مطرد فيما إذا قال: علة تحريم الخمر الإسكار حيث إنه لا إضافة.
والجواب: قولهم: لم قلتم إن اللفظ بعمومه لا يقتضي ذلك قلنا: لما ذكرناه.
قولهم: إن قوله: أعتقت سالماً لسواده مقتض بلفظه عتق غيره من العبيد السودان غير صحيح فإن اللفظ الدال على العتق إنما هو قوله: أعتقت سالماً وذلك لا دلالة له على غيره وإن قيل إنه يدل عليه من جهة التعليل فهو عود إلى الوجه الثاني.
قولهم إن العقلاء يناقضونه في ذلك بغانم قلنا: ليس ذلك بناء على عموم لفظ العتق لهما وإنما ذلك منهم طلباً لفائدة التخصيص لسالم بالعتق مع ظنهم عموم العلة التي علل بها وإذا بطل القول بتعميم اللفظ فالعتق يكون منتفياً في غانم لعدم دلالة اللفظ على عتقه لا لما ذكروه كيف وإنه يجب اعتقاد ذلك حتى لا يلزم منه نفي العتق مع وجود دليله في حق غانم لأنه لو دل اللفظ عليه لكان الأصل اعتبار لفظه في مدلوله نظراً إلى تحصيل مصلحة العاقل التي دل لفظه عليها.
قولهم إنه لو قال لوكيله: بع سالماً لسواده وقس عليه كل أسود من عبيدي لا ينفذ تصرفه في غير سالم لا نسلم ذلك فإنه لو قال له: مهما ظهر لك من إرادتي ورضائي بشيء بالاستدلال دون صريح المقال فافعله فله فعله فإذا قال: أعتق سالما لسواده وقس عليه غيره فإذا ظهر أن العلة السواد الجامع بين سالم وغانم وأنه لا فارق بينهما فقد ظهر له إرادته لعتق غانم فكان له عتقه.
قولهم: لم قلتم بامتناع الحكم لوجود العلة ؟ قلنا: لما ذكرناه من الوجهين وما ذكروه على الوجه الأول فإنما يصح أن لو كان ما ذكروه من العلة موجباً للحكم في غير محل النص ويجب اعتقاد انتفاء الحكم لانتفاء العلة حذراً من التعارض فإنه على خلاف الأصل والجواب عما ذكروه على الوجه الثاني من الإشكال الأول أنا إنما قضينا فيما ذكروه بالتعميم نظراً إلى قرينة حال الآباء مع الأبناء وأنهم لا يفرقون في حقهم بين سم وسم وغذاء نافع وما في معناه من الأغذية النافعة وهذا بخلاف ما إذا حرم الله شيئاً أو أوجبه فإن العادة الشرعية مطردة بإباحة مثل ما حرم وتحريم مثل ما أوجب حتى أنه يوجب الصوم في نهار رمضان ويحرمه في يوم العيد ويبيح شرب الخمر في زمان ويحرمه في زمان ويوجب الغسل من بول الصبية والرش من بول الغلام ويوجب الغسل من المني دون البول والمذي مع اتحاد مخرجهما ويوجب الحائض قضاء الصوم دون الصلاة ويبيح النظر إلى وجه الرقيقة الحسناء دون الحرة العجوز الشوهاء إلى غير ذلك مما ذكرناه فيما تقدم من التفرقة بين المتماثلات وعلى عكسه الجمع بين المختلفات وذلك لما علمه الله تعالى من اختصاص أحد المثلين بمصلحة مقارنة لزمانه لا وجود لها في مثله إذ ليست المصالح والمفاسد من الأمور التابعة لذوات الأوصاف وطباعها حتى تكون لازمة لها بل ذلك مختلف باختلاف الأوقات هذا كله إن قلنا بوجوب رعاية المصالح وإلا فلله أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وعن الإشكال الثاني: أن النظر في التعليل إلى مناسبة القدر المشترك وإلغاء ما به الافتراق من الخصوصية إما أن يكون دالاً على وجوب الاشتراك بين الأصل والفرع أو لا يكون موجبا له: فإن كان موجباً فهو دليل التعبد بالقياس والتنصيص على العلة دونه لا يكون كافياً في تعدية الحكم وهو المطلوب وإن لم يكن موجباً للتعدية فلا أثر لإيراده.
وعن الإشكال الثالث: بأن فائدة التنصيص على العلة أن تعلم حتى يكون الحكم معقول المعنى إن كان الوصف مناسباً للحكم فإنه يكون أسرع في الانقياد وأدعى إلى القبول وأن ينتفي الحكم في محل التنصيص عند انتفائها ولمثل هذه الفائدة يكون التنصيص على الوصف وإن لم يكن مناسباً للحكم.
وعن الإشكال الرابع: ما ذكرناه في حل الإشكال الأول.(1/378)
وعن الإشكال الخامس: أنه لا يلزم من إمكان أخذ خصوص المحل في التعليل إبطال القياس لجواز أن يقوم الدليل على إبطال أخذه في التعليل في آحاد الصور ومهما لم يقم الدليل على ذلك فالقياس يكون متعذراً.
وعن السادس: أنه إنما فهم تحريم ضرب الوالدين من تحريم التأفيف لهما نظراً إلى القرينة الدالة على ذلك من إنشاء الكلام وسياقه لقصد إكرام الوالدين ودفع الأذى عنهما ولا يخفى أن اقتضاء ذلك لتحريم الضرب أشد منه لتحريم التأفيف ولذلك كان سابقاً إلى الفهم من تحريم التأفيف والتنبيه بالأدنى على الأعلى أما أن يكون ذلك مستفاداً من نفس اللفظ والتنصيص على العلة بمجرده فلا.
وعن الإشكال الأخير أنه مهما قال: جعلت شرب المسكر علةً للتحريم فالحكم يكون ثابتاً في كل صورة وجد فيها شرب المسكر بالعلة المنصوص عليها بجهة العموم حتى في الخمر وذلك من باب الاستدلال لا من باب القياس فإنه ليس قياس بعض المسكر هاهنا على البعض أولى من العكس لتساوي نسبة العلة المنصوصة إلى الكل ولا كذلك فيما نحن فيه وعلى هذا فلا معنى لما ذكره أبو عبد الله البصري من التفصيل بين الفعل والترك وذلك لأنه لا مانع ولا بعد في تحريم الخمر لشدة الخمر خاصة دون غيره من المسكرات ولعلم الله باختصاصه بالحكمة الداعية إلى التحريم وأن يشرك بين المتماثلات في إيجاب الفعل أو تركه أو ندبه لعلمه باشتراكها في الحكمة الداعية إلى الإيجاب والندب وأما من أكل سكراً فلم يأكله لمجرد حلاوته بل لحلاوته وصدق شهوته عند فراغ معدته فإذا زالت الشهوة بالأكل وامتلأت المعدة وتبدلت الحالة الأولى إلى مقابلها امتنع لزوم الأكل لكل سكر مرة بعد مرة حتى إنه لو لم تتبدل الحال لعم ذلك كل سكر وحلو.
المسألة الرابعة مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر الناس جواز إثبات الحدود والكفارات بالقياس خلافاً لأصحاب أبي حنيفة.
ودليل ذلك النص والإجماع والمعقول.
أما النص فتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ في قوله " اجتهد رأيي " مطلقاً من غير تفصيل وهو دليل الجواز وإلا لوجب التفصيل لأنه في مظنة الحاجة إليه وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع.
وأما الإجماع فهو أن الصحابة لما اشتوروا في حد شارب الخمر قال علي رضي الله عنه: إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه حد المفتري.
قاسه على حد المفتري ولم ينقل عن أحد من الصحابة في ذلك نكير فكان إجماعاً.
وأما المعقول فهو أنه مغلب على الظن فجاز إثبات الحد والكفارة به لقوله عليه السلام: " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " وقياساً على خبر الواحد.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الدلائل ظنية والمسألة أصولية قطعية فلا يسوغ التمسك بالظن فيها سلمنا دلالة ما ذكرتموه على المطلوب ولكنه معارض بما يدل على عدمه وذلك من ثلاثة أوجه : الأول: أن الحدود والكفارات من الأمور المقدرة التي لا يمكن تعقل المعنى الموجب لتقديرها والقياس فرع تعقل علة حكم الأصل فما لا تعقل له من الأحكام علة فالقياس فيه متعذر كما في أعداد الركعات وأنصبة الزكاة ونحوها .
الثاني: أن الحدود عقوبات وكذلك الكفارات فيها شائبة العقوبة والقياس مما يدخله احتمال الخطإ وذلك شبهة والعقوبات مما تدرأ بالشبهات لقوله عليه السلام: " ادرؤوا الحدود بالشبهات " .
الثالث: أن الشارع قد أوجب حد القطع بالسرقة ولم يوجبه بمكاتبة الكفار مع أنه أولى بالقطع وأوجب الكفارة بالظهار لكونه منكراً وزوراً ولم يوجبها في الردة مع أنها أشد في المنكر وقول الزور فحيث لم يوجب ذلك فيما هو أولى دل على امتناع جريان القياس فيه.
والجواب عن الأول: لا نسلم أن المسألة قطعية.
وعن المعارضة الأولى: أن الحكم المعدى من الأصل إلى الفرع إنما هو وجوب الحد والكفارة من حيث هو وجوب وذلك معقول بما علم في مسائل الخلاف لا أنه مجهول.
وعن الثانية: لا نسلم احتمال الخطإ في القياس على قولنا إن كل مجتهد مصيب وإن سلمنا احتمال الخطإ فيه لكن لا نسلم أن ذلك يكون شبهةً مع ظهور الظن الغالب بدليل جواز إثبات الحدود والكفارات بخبر الواحد مع احتمال الخطإ فيه لما كان الظن فيه غالباً.(1/379)
وعن الثالثة من وجهين: الأول أن غاية ما يقدر أن الشارع قد منع من إجراء القياس في بعض صور وجوب الحد والكفارة وذلك لا يدل على المنع مطلقاً بل يجب اعتقاد اختصاص تلك الصور بمعنى لا وجود له في غيرها تقليلاً لمخالفة ما ذكرناه من الأدلة.
الثاني الفرق.وذلك أما بين السرقة ومكاتبة الكفار فلأن داعية الأراذل وهم الأكثرون متحققة بالنسبة إليها فلولا شرع القطع لكانت مفسدة السرقة مما تقع غالباً ولا كذلك في مكاتبة الكفار.
وأما بين الظهار والردة فهو أن الحاجة إلى شرع الكفارة في الردة دون الحاجة إلى شرعها في الظهار وذلك لما ترتب على الردة من شرع القتل الوازع عنها بخلاف الظهار وربما أورد الأصحاب مناقضة على أصحاب أبي حنيفة في منعهم من إيجاب الكفارة بالقياس بإيجاب الكفارة بالأكل والشرب في نهار رمضان بالقياس على المجامع وهو غير لازم على من قال منهم بذلك وذلك لأن العلة عندهم في حق المجامع لإيجاب الكفارة مومى إليها في قصة الأعرابي وهي عموم الأفساد فالحكم في الأكل والشرب يكون ثابتاً بالاستدلال أي بعلة مومى إليها لا بالقياس وذلك لأن القياس لا بد فيه من النظر إلى حكم الأصل إذ هو أحد أركان القياس لضرورة اعتبار العلة الجامعة.
والعلة إذا كانت منصوصة أو مومى إليها فقد ثبت اعتبارها بالنص لا بحكم الأصل ومهما كان الحكم في الأصل غير ملتفت إليه في اعتبار العلة لاستقلال النص باعتبارها فلا يكون الحكم في الفرع ثابتاً بالقياس لأن العمل بالقياس لا بد فيه من النظر إلى حكم الأصل.
وقد قيل إنه لا نظر إليه بل غايته أن النص قد دل في الوقاع على الحكم وعلى العلة فالحكم في الفرع إذا كان ثابتاً بالعلة المنصوصة لا يكون حكماً بالقياس ولا بالنص لعدم دلالة النص عليه وإن دل على العلة.
ولا إجماع لوقوع الخلاف فيه وما كان ثابتاً لا بنص ولا إجماع ولا قياس فالذي ثبت به هو المعبر عنه بالاستدلال.
المسألة الخامسة ذهب أكثر أصحاب الشافعي إلى جواز إجراء القياس في الأسباب ومنع من ذلك أبو زيد الدبوسي وأصحاب أبي حنيفة وهو المختار.
وصورته إثبات كون اللواط سبباً للحد بالقياس على الزنا.ودليل ذلك أن الحكمة وهي كونه إيلاج فرج في فرج محرم مشتهى طبعاً التي يكون الوصف سبباً بها وهي الحكمة التي لأجلها يكون الحكم المرتب على الوصف ثابتاً وعند ذلك فقياس أحد الوصفين على الآخر في حكم السببية لا بد وأن يكون لاشتراكهما في حكمة الحكم بالسببية.
وتلك الحكمة إما أن تكون منضبطةً بنفسها ظاهرةً جليةً غير مضطربة وإما أن تكون خفيةً مضطربةً.
فإن كان الأول فلا يخلو إما أن يقال بأن الحكمة إذا كانت منضبطةً بنفسها يصح تعليل الحكم بها أو لا يصح؟ إذ الاختلاف في ذلك واقع فإن قيل بالأول كانت مستقلة بإثبات الحكم وهو الحد المرتب على الوصف ولا حاجة إلى الوصف المحكوم عليه بكونه سبباً للاستغناء عنه وإن كان الثاني فقد امتنع التعليل والجمع بين الأصل والفرع بها.
وأما إن كانت خفيةً مضطربةً فإما أن تكون مضبوطة بضابط أو لا فإن كانت مضبوطة بضابط فذلك الضابط لها هو السبب وهو القدر المشترك بين الأصل والفرع ولا حاجة إلى النظر إلى خصوص كل واحد من الوصفين المختلفين وهما الزنا واللواط هنا المقتضي على أحدهما بالأصالة والآخر بالفرعية.
وإن لم تكن مضبوطة بضابط فالجمع بها يكون ممتنعاً إجماعاً لاحتمال التفاوت فيها بين الأصل والفرع فإن الحكم مما يختلف باختلاف الصور والأشخاص والأزمان والأحوال.(1/380)
فإن قيل: ما المانع أن يكون الوصف الجامع بينهما هو الحكمة؟ وما ذكرتموه من كون الحكمة إذا كانت خفيةً مضطربة يمتنع الجمع بها لاحتمال التفاوت فيها قلنا: احتمال التفاوت وإن كان قائماً غير أن احتمال التساوي راجح وذلك لأنه يحتمل أن تكون الحكمة التي في الفرع مساوية لما في الأصل ويحتمل أن تكون راجحةً ويحتمل أن تكون مرجوحةً: وعلى التقديرين الأولين فالمساواة حاصلة وزيادة على التقدير الثاني منهما وإنما تكون مرجوحة على التقدير الثالث وهو احتمال واحد ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب وقوعاً من احتمال واحد بعينه فكان الجمع أولى ثم كيف وقد جعلتم القتل بالمثقل سبباً لوجوب القصاص بالقياس على القتل بالمحدد وجعلتم اللواط سبباً للحد بالقياس على الزنا وجعلتم النية في الوضوء شرطاً لصحة الصلاة بالقياس على نية التيمم.
والجواب: أما ما ذكروه من دليل ظهور التساوي في الحكمة فلا يخلو إما أن يكون ذلك كافياً في الجمع أو لا يكون كافياً: فإن كان كافياً فليجمع بين الأصل والفرع في الحكم المرتب على السبب ولا حاجة إلى الجمع بالسبب وإن لم يكن ذلك كافياً فهو المطلوب.
وما ذكروه من الإلزامات فلا وجه لها.
أما قياس القتل بالثقل على المحدد فلم يكن ذلك في السببية وإنما ذلك في إيجاب القصاص بجامع القتل العمد العدوان وهو السبب لا غير.
وأما قياس اللواط على الزنا فإنما كان ذلك في وجوب الحد بجامع إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً وذلك هو السبب مع قطع النظر عن خصوصية الزنا واللواط.
وأما قياس الضوء على التيمم فإنما هو في اعتبار النية بجامع الطهارة المقصودة للصلاة وذلك هو السبب لا أن القياس في الاشتراط.
وعلى هذا النحو كل ما يرد من هذا القبيل.
المسألة السادسة اختلفوا في جواز إجراء القياس في جميع الأحكام الشرعية فأثبته بعض الشذوذ مصيراً منه إلى أن جميع الأحكام الشرعية من جنس واحد ولهذا تدخل جميعها تحت حد واحد وهو حد الحكم الشرعي وتشترك فيه وقد جاز على بعضها أن يكون ثابتاً بالقياس وما جاز على بعض المتماثلات كان جائزاً على الباقي وهو غير صحيح.
وذلك أنه وإن دخلت جميع الأحكام الشرعية تحت حد الحكم الشرعي وكان الحكم الشرعي من حيث هو حكم شرعي جنساً لها غير أنها متنوعة ومتمايزة بأمور موجبة لتنوعها.
وعلى هذا فلا مانع أن يكون ما جاز على بعضها وثبت له أن يكون ذلك له باعتبار خصوصيته وتعينه لا باعتبار ما به الاشتراك وهو عام لها.
كيف وإن ذلك مما يمتنع لثلاثة أوجه.
الأول: أنا قد بينا امتناع إجراء القياس في الأسباب والشروط وبينا أن حكم الشارع على الوصف بكونه سبباً وشرطاً حكم شرعي.
الثاني: أن ذلك مما يفضي إلى أمر ممتنع فكان ممتنعاً وبيان لزوم ذلك أن كل قياس لا بد له من أصل يستند إليه على ما علم فلو كان كل حكم يثبت بالقياس لكان حكم أصل القياس ثابتاً بالقياس وكذلك حكم أصل أصله فإن تسلسل الأمر إلى غير النهاية امتنع وجود قياس ما لتوقفه على أصول لا نهاية لها وإن انتهى إلى أصل لا يتوقف على القياس على أصل آخر فهو خلاف الفرض.
الثالث: أن من الأحكام ما ثبت غير معقول المعنى كضرب الدية على العاقلة ونحوه وما كان كذلك فإجراء القياس فيه متعذر وذلك لأن القياس فرع تعقل علة حكم الأصل وتعديتها إلى الفرع فما لا يعقل له علة فإثباته بالقياس يكون ممتنعاً.
خاتمة لهذا الباب
القياس مأمور به لقوله تعالى: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " الحشر2 كما سبق تقريره وهو منقسم إلى واجب ومندوب.
والواجب منه منقسم إلى ما هو واجب على بعض الأعيان وذلك في حق كل من نزلت به نازلة من القضاة والمجتهدين ولا يقوم غيره فيها مقامه مع ضيق الوقت وإلى ما هو واجب على الكفاية وذلك بأن يكون كل واحد من المجتهدين يقوم مقام غيره في تعريف حكم ما حدث من الواقعة بالقياس.
وأما المندوب وهو القياس فيما يجوز حدوثه من الوقائع ولم يحدث بعد فإن المكلف قد يندب إليه ليكون حكمه معداً لوقت الحاجة وهل يوصف القياس بكونه ديناً لله تعالى فذلك مما وصفه به القاضي عبد الجبار مطلقاً ومنع منه أبو الهذيل وفصل الجبائي بين الواجب والمندوب منه فوصف الواجب بذلك دون المندوب.(1/381)
والمختار أن يقال: إن عني بالدين ما كان من الأحكام المقصودة بحكم الأصالة كوجوب الفعل وحرمته ونحوه فالقياس واعتباره ليس بدين فإنه غير مقصود لنفسه بل لغيره.
وإن عني بالدين ما تعبدنا به كان مقصودا أصلياً أو تابعاً فالقياس من الدين لأنا متعبدون به على ما سبق.وبالجملة فالمسألة لفظية.
الباب الخامس في الاعتراضات الواردة على القياس وجهات الانفصال عنها أما الاعتراضات الواردة على قياس العلة فخمسة وعشرون اعتراضاً الاعتراض الأول: الاستفسار وهو طلب شرح دلالة اللفظ المذكور وإنما يحسن ذلك إذا كان اللفظ مجملاً متردداً بين محامل على السوية أو غريباً لا يعرفه السامع المخاطب فعلى السائل بيان كونه مجملا أو غريباً لأن الاستفسار عن الواضح عناد أو جهل.
ولهذا قال القاضي أبو بكر: ما ثبت فيه الاستبهام صح عنه الاستفهام ولذلك وجب أن يكون سؤال الاستفسار أولاً وما سواه متأخرا عنه لكونه فرعاً على فهم معنى اللفظ.
وصيغه متعددة : فمنها الهمزة كقوله أعندك زيد؟ وهي الأصل في الاستفسار إذ لا ترد لغيره بخلاف غيرها من الأسئلة فإنها قد ترد لغير الاستفهام.
فمن ذلك هل وهي تلي الهمزة في الرتبة إذ هي أصل في الاستفهام كقولك هل زيد موجود ؟ ولكنها قد ترد نادراً للتأكيد كقوله تعالى: " هل أتى على الإنسان حين من الدهر " الإنسان1 والمراد به: قد أتى.
ومن ذلك ما فإنها قد ترد بمعنى الاستفهام كقولك ما عندك؟ ولكنها قد ترد للنفي كقولك ما رأيت أحداً وللتعجب كقولك ما أحسن زيداً! إلى معان أخر ولذلك كانت متأخرة في الرتبة عن هل.
ومن ذلك من وهي قد ترد بمعنى الاستفهام كقولك من عندك؟ وقد ترد بمعنى الشرط والجزاء كقوله عليه السلام: " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " وقد ترد بمعنى الخبر كقولك جاءني من أحبه وهي مختصة بمن يعقل دون ما لا يعقل وهي متأخرة في الرتبة عن ما لأن ما قد ترد لما لا يعقل ولمن يعقل كقوله تعالى: " والسماء وما بناها " الشمس 5 أي: ومن بناها.
ومن ذلك أين وهي سؤال عن المكان.
ومتى عن الزمان.
وكيف عن الكيفية.
و كم عن الكمية.
و أي عن التمييز.
والهمزة تقوم مقام الكل في السؤال.
وإذا ثبت أن شرط قبول الاستفسار كون اللفظ مجملاً أو غريباً فيجب على السائل بيان ذلك لصحة سؤاله.
فإن قيل: لا خفاء بأن ظهور الدليل شرط في صحة الدليل كما سبق وإنما يتم الظهور أن لو لم يكن اللفظ مجملاً فنفي الإجمال إذاً شرط في الدليل وبيان شرط الدليل على المستدل لا على المعترض.
قلنا: ظهور الدليل وإن كان متوقفاً على نفي الإجمال غير أن الأصل عدم الإجمال.
وسؤال الاستفسار يستدعي الإجمال المخالف للأصل فكان بيانه على المستفهم ولا تقبل منه دعوى الإجمال بجهة الاشتراك أو الغرابة بناء على أنه لم يفهم منه شيئا فيما كان ظاهراً مشهوراً في ألسنة أهل اللغة والشرع لانتسابه إلى العناد لعدم خفائه عليه في الغالب لكن إن بين الإجمال بجهة الغرابة بطريقة أو بجهة الاشتراك بسبب تردده بين احتمالين كفاه ذلك من غير احتياج إلى بيان التسوية بينهما لأن الأصل عدم الترجيح ولعدم قدرته على بيان التسوية وقدرة المستدل على الترجيح وطريق المستدل في جواب دفع الإجمال بجهة الغرابة التفسير إن عجز عن إبطال غرابته وفي جواب دفع الإجمال بجهة الاشتراك منع تعدد محامل اللفظ إن أمكن أو بيان الظهور في أحد الاحتمالين وله فيه طريق تفصيلي بالنقل عن أهل الوضع أو الشرع أو ببيان أنه مشهور فيه والشهرة دليل الظهور والحقيقة غالباً وطريق إجمالي وهو أن يقول الإجمال على خلاف الأصل لإخلاله بالتفاهم فيجب اعتقاد ظهوره في أحد الاحتمالين نفياً للإجمال عن الكلام وهو وإن لزم منه التجوز في أحدهما وهو خلاف الأصل أيضاً غير أن محذور الاشتراك أعظم من محذور التجوز كما سبق تقريره.
وإن تعذر عليه بيان ذلك فقد يقدر على دفع الإجمال أيضاً بدعوى كون اللفظ متواطئا فيهما لموافقته لنفي الإجمال والتجوز أو أن يفسر لفظه بما أراد منهما.
الاعتراض الثاني: فساد الاعتبار(1/382)
ومعناه أن ما ذكرته من القياس لا يمكن اعتباره في بناء الحكم عليه لا لفساد في وضع القياس وتركيبه وذلك كما إذا كان القياس مخالفاً للنص فهو فاسد الاعتبار لعدم صحة الاحتجاج به مع النص المخالف له.
وقد مثل ذلك أيضاً بقياس الكافر على المسلم في صحة الطهارة وبقياس الصبي على البالغ في إيجاب الزكاة من جهة الظهور الفرق بين الأصل والفرع.
وعلى هذا النحو كل قياس ظهر الفارق في بين الأصل والفرع وأقرب هذه الأمثلة إنما هو المثال الأول لأنه مهما ثبت أن القياس مخالف للنص كان باطلاً لما سبق تقريره.
وأما باقي الأمثلة فحاصلها يرجع إلى إبداء الفرق بين الأصل والفرع وهو سؤال آخر غير سؤال فساد الاعتبار وسيأتي الكلام عليه.
وجوابه إما بالطعن في سند النص إن أمكن أو بمنع الظهور أو التأويل أو القول بالموجب أو المعارضة بنص آخر ليسلم له القياس أو أن يبين أن القياس من قبيل ما يجب ترجيحه على النص المعارض له بوجه من وجوه الترجيحات المساعدة له.
الاعتراض الثالث: فساد الوضع واعلم أن صحة وضع القياس أن يكون على هيئة صالحة لاعتباره في ترتيب الحكم عليه وفساد الوضع لا يكون على الهيئة الصالحة لاعتباره في ترتيب الحكم عليه.
وقد مثله الفقهاء بما تلقي الحكم فيه من مقابله كتلقي التضييق من التوسيع والتخفيف من التغليظ والإثبات من النفي وبالعكس وأن يكون ما جعله علة للحكم مشعراً بنقيض الحكم المرتب عليه وذلك كقولهم في النكاح بلفظ الهبة لفظ ينعقد به غير النكاح فلا ينعقد به النكاح كلفظ الإجارة فإنه من حيث إنه ينعقد به غير النكاح يقتضي انعقاد النكاح به لا عدم الانعقاد لأن الاعتبار يقتضي الاعتبار لا عدم الاعتبار.
وعلى هذا فكل فاسد الوضع فاسد الاعتبار وليس كل فاسد الاعتبار يكون فاسد الوضع لأن القياس قد يكون صحيح الوضع وإن كان اعتباره فاسداً بالنظر إلى أمر خارج كما سبق تقريره ولهذا وجب تقديم سؤال فساد الاعتبار على سؤال فساد الوضع لأن النظر في الأعم يجب أن يتقدم على النظر في الأخص لكون الأخص مشتملاً على ما اشتمل عليه الأعم وزيادة.
وإذا عرف ما قررناه في سؤال فساد الوضع فلقائل أن يقول اقتضاء الوصف لنقيض الحكم المرتب عليه أما أن يدعي أنه يراد به اقتضاؤه له أنه مناسب نقيض الحكم على ما هو إشعار اللفظ وأما اعتبار الوصف في نقيض الحكم في صوره كما قاله بعض المتأخرين فإن كان الأول فإما أن يدعي أنه مناسب لنقيض الحكم من الجهة التي تمسك بها المستدل أو من جهة أخرى.
فإن كان ذلك من الجهة التي تمسك بها المستدل فيلزم منه أن يكون وصف المستدل غير مناسب لحكمه ضرورة أن الوصف الواحد لا يناسب حكمين متقابلين من جهة واحدة ولكن يرجع حاصله إلى القدح في المناسبة وعدم التأثير لا أنه سؤال آخر.
وإن كان ذلك من جهة أخرى فلا يمتنع مناسبة وصف المستدل لحكمه من الجهة التي تمسك بها.
ثم لا يخلو إما أن تكون جهة المناسبة لنقيض الحكم معتبرة في صوره أو غير معتبرة فإن لم تكن معتبرة كان ما يبديه المستدل من جهة المناسبة كافياً في دفع السؤال ضرورة كونها معتبرة ومناسبة المعترض غير معتبرة.
وإن كانت مناسبة المعترض معتبرة فإن أورد المعترض ما ذكره في معرض المعارضة فقد انتقل عن سؤاله الأول إلى سؤال المعارضة ووجب على المستدل الترجيح لما ذكره ضرورة التساوي في المناسبة والاعتبار وإن لم يورد ذلك في معرض المعارضة وبقي مصرا على السؤال الأول فلا يحتاج المستدل إلى الترجيح لكونه خاصاً بالمعارضة.
وهذا من مستحسنات صناعة الجدل فليتأمل.
الاعتراض الرابع: منع حكم الأصل ولما كان منع حكم الأصل من قبيل النظر في تفصيل القياس كان متأخراً عما قبله لكون ما قبله نظرا في القياس من جهة الجملة لا من جهة التفصيل.
والنظر في الجملة يتقدم على النظر في التفصيل.ومثاله ما لو قال الشافعي في إزالة النجاسة مثلاً: مائع لا يرفع الحدث فلا يزيل حكم النجاسة كالدهن.
فقال الحنفي: لا أسلم الحكم في الأصل فإن الدهن عندي مزيل لحكم النجاسة.(1/383)
وقد اختلف الفقهاء في انقطاع المستدل بتوجيه منع حكم الأصل عليه: فمنهم من قال بانقطاعه لأنه أنشأ الكلام للدلالة على حكم الفرع لا على حكم الأصل فإذا منع حكم الأصل فإما أن يشرع في الدلالة عليه أولاً يشرع: فإن لم يشرع في الدلالة عليه لم يتم دليله على مقصوده وهو انقطاع وإن شرع في الدلالة عليه فقد ترك ما كان بصدد الدلالة عليه أولاً وعدل عما أنشأه من الدليل على حكم الفرع إلى الدلالة على حكم الأصل ولا معنى للانقطاع سوى هذا.
ومنهم من قال: لا يكون منقطعاً لأنه إنما أنشأ الدليل على حكم الفرع إنشآء من يحاول تمشيته وتقريره وبالدلالة على حكم الأصل يحصل هذا المقصود لا أنه تارك لما شرع فيه أولاً ولا منع من ذلك فإن الحكم في الفرع كما يتوقف على وجود علة الأصل في الأصل وكونها علة فيه وعلى وجودها في الفرع يتوقف علي ثبوت حكم الأصل وكل ذلك من أركان القياس ولم يمنع أحد من محاولة تقرير القياس عند منع وجود علة الأصل ومنع كونها علة فيه ومنع وجودها في الفرع من الدلالة على محل المنع فكذلك حكم الأصل ضرورة التساوي بين الكل في افتقار صحة القياس إليه.
ومنهم من فصل بين أن يكون المنع خفياً وبين أن يكون ظاهراً فحكم بانقطاعه عند ظهور المنع وبعدم انقطاعه عند خفائه لظهور عذره وهذا هو اختيار الاستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني .
ومنهم من قال: يجب اتباع عرف المكان الذي هو فيه ومصطلح أهله في ذلك وهذا هو اختيار الغزالي.
والمختار أنه لا يعد منقطعا إذا دل على موقع المنع لما قررناه فيما تقدم وقد بينا شرط الدلالة على حكم الأصل في أركان القياس.
وقد قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: لا يفتقر إلى الدلالة على محل المنع بل له أن يقول: إنما قست على أصلي ولا وجه لذلك فإنه إن قصد إثبات الحكم على أصل نفسه فالخصم غير منازع له في ثبوت حكم الفرع على أصله ولا وجه للمناظرة بينهما في ذلك.
وإن قصد إثبات الحكم في الفرع بالنسبة إلى الخصم بحيث يوجب الانقياد إليه فذلك متعذر مع منع حكم الأصل وعدم ثبوته بالدلالة وإنما يتصور الاستغناء عن الدلالة على حكم الأصل إذا كان اللفظ الدال على حكم الأصل عاماً وهو منقسم إلى ممنوع وغير ممنوع كالدهن فإنه وإن منع الحكم في الطاهر منه فهو غير ممنوع في الدهن النجس وعند ذلك فله أن يقول: إنما قست على الدهن النجس دون الطاهر وإن كان قياسي عليهما فغايته القياس على أصلين وقد بطل التمسك بأحدهما فيبقى التمسك بالآخر.
وإذا ذكر الدليل على موقع المنع فمنهم من حكم بانقطاع المعترض لتبين فساد المنع وتعذر الاعتراض منه على دليل المستدل لإفضائه إلى التطويل فيما هو خارج عن المقصود الأصلي في أول النظر ومنهم من قال لا يعد منقطعاً ولا يمنع من الاعتراض على دليل المنع ولا يكتفي من المستدل بما يدعيه دليلاً وإلا لما كان لقبول المنع معنى بل الانقطاع إنما يتحقق في حق كل واحد بعجزه عما يحاوله نفياً وإثباتاً وهذا هو المختار.
الاعتراض الخامس :التقسيم وهو في عرف الفقهاء عبارة عن ترديد اللفظ بين احتمالين أحدهما ممنوع والآخر مسلم غير أن المطالبة متوجهة ببناء الغرض عليه إما أنه لا بد من ترديده بين احتمالين لأنه لو لم يكن محتملاً لأمرين لم يكن للترديد والتقسيم معنى بل كان يجب حمل اللفظ على ما هو دليل عليه وإما أنه لا بد وأن يكون احتمال اللفظ لهما على السوية لأنه لو كان ظاهراً في أحدهما لم يكن للتقسيم أيضاً وجه بل كان يجب تنزيل اللفظ على ما هو ظاهر فيه كان ممنوعاً أو مسلماً.
وذلك كما لو قال المستدل في البيع بشرط الخيار وجد سبب ثبوت الملك للمشتري فوجب أن يثبت وبين وجود السبب بالبيع الصادر من الأهل من المحل فقال المعترض :السبب هو مطلق بيعٍ أو البيع المطلق أي الذي لا شرط فيه :الأول ممنوع والثاني مسلم ولكن لم قلت بوجوده.(1/384)
ولقائلٍ أن يقول: التقسيم وإن كان من شرطه تردد اللفظ بين احتمالين على السوية فليس من شرطه أن يكون أحد الإحتمالين ممنوعاً والآخر مسلماً بل كما يجوز أن يكون كذلك يجوز أن يشترك الاحتمالان في التسليم ولكن بشرط أن يختلفا باعتبار ما يرد على كل واحد منهما من الاعتراضات القادحة فيه وإلا فلو اتحدا فيما يرد عليهما من الاعتراضات مع التساوي في التسليم لم يكن للتقسيم معنى بل كان يجب تسليم المدلول وإيراد ما يختص به.
ولا خلاف أنهما لو اشتركا في المنع أن التقسيم لا يكون مفيداً وعلى هذا فلو أراد المعترض تصحيح تقسيمه فيكفيه بيان إطلاق اللفظ بإزاء الاحتمالين من غير تكليف ببيان التساوي بينهما في دلالة اللفظ عليهما بجهة التفصيل لأن ذلك مما يعسر من جهة أن ما من وجه يبين التساوي فيه إلا وللمستدل أن يقول ولم قلت بعدم التفاوت من وجه آخر؟ بلى لو قيل إنه يكلف التساوي بينهما من جهة الإجمال وهو أن يقول: التفاوت يستدعي ترجح أحدهما على الآخر وزيادته عليه والأصل عدم تلك الزيادة لم يكن ذلك شاقاً وكان وافياً بالدلالة على شرط التقسيم ولو ذكر المعترض احتمالين لا دلالة للفظ المستدل عليهما وأورد الاعتراض عليهما كما لو قال المستدل في مسألة الالتجاء إلى الحرم: وجد سبب استيفاء القصاص فيجب استيفاؤه وبين وجود السبب بالقتل العمل العدوان فقال المعترض متى يمكن القول بالاستيفاء إذا وجد المانع أو إذا لم يوجد؟ الأول ممنوع والثاني مسلم.
ولكن لم قلت إنه لم يوجد وبيان وجوده أن الحرم مانع وبينه بطريقة لم يخل إما أن يورد ذلك بناء على أن لفظ المستدل متردد بين الاحتمالين المذكورين أو على دعواه الملازمة بين الحكم ودليله:فإن كان الأول فهو باطل لعدم تردد لفظ السبب بين ما ذكر من الاحتمالين وإن كان الثاني فإن اقتصر على المطالبة ببيان انتفاء المانع فهو غير مقبول لما تقرر في الاصطلاح من حط مؤنة ذلك عن المناظر في الموانع والمعارضات المختلف فيها وإن أضاف إلى ذلك الدلالة على وجود المعارض فحاصل السؤال يرجع إلى المعارضة ولا حاجة إلى التقسيم وإذا اتجه سؤال التقسيم على التفسير الأول.
فجوابه من جهة الجدل من ستة أوجه: الأول: أن يعين المستدل بعض محامل لفظه ويبين أن اللفظ موضوع بإزائه حقيقة في لغة العرب إما بالنفل عن أهل الوضع أو الشارع الصادق أو ببيان كونه مشهوراً به في الاستعمال فيكون حقيقة لأنه الغالب وبما يساعد من الأدلة ومع بيان ذلك فالتقسيم يكون مردوداً لتبين فوات شرطه من التساوي في الدلالة.
الثاني: أن يقول إنه وإن لم يكن ظاهراً بحكم الوضع فيما عينته من الاحتمال غير أنه ظاهر بعرف الاستعمال كما في لفظ الغائط ونحوه.
الثالث: أنه وإن لم يكن ظاهرا بالأمرين إلا أنه ظاهر في عرف الشرع كلفظ الصلاة والصوم ونحوه.
الرابع: أنه وإن تعذر كونه ظاهراً بأحد الأنحاء المذكورة لكنه ظاهر بحكم ما اقترن به من القرائن المساعدة له في كل مسألة.
الخامس: أنه وإن تعذر بيان الظهورية بأحد الطرق المفصلة فله دفع التقسيم بوجه إجمالي وهو أن يقول: الإجمال على خلاف الأصل فيجب اعتقاد ظهور اللفظ في بعض احتمالاته ضرورة نفي الإجمال عن اللفظ ومع ذلك فالتقسيم لا يكون وارداً.
وقد يقدر على بيان كون اللفظ ظاهراً فيما عينه بهذا الطريق الإجمالي وهو أن يقول: إذا ثبت أنه لا بد وأن يكون اللفظ ظاهراً في بعض محامله نفياً للإجمال عن الكلام فيجب اعتقاد ظهوره فيما عينه المستدل ضرورة الاتفاق على عدم ظهوره فيما عداه أما عند المعترض فلضرورة دعواه الإجمال في اللفظ وأما عند المستدل فلضرورة دعواه أنه ظاهر فيما ادعاه دون غيره.
السادس: أن يبين أن اللفظ له احتمال آخر غير ما تعرض له المعترض بالمنع والتسليم وأنه مراده إلا أن يحترز المعترض عن ذلك بأن يعين مجملاً ويقول إن أردت هذا فمسلم ولكن لم قلت ببناء الغرض عليه وإن أردت ما عداه فممنوع فما مثل هذا الجواب لا يكون متجهاً وإن أراد المستدل الجواب الفقهي فإن كان قادراً على تنزيل كلامه على أحد القسمين فالأولى في الاصطلاح تنزيله على أحدهما حذراً من التطويل وليكن منزلا على أسهلهما في التمشية والقرب إلى المقصود إن أمكن وإن كان الجمع جائزاً شرعاً وإن لم يقدر على شيء من ذلك كان منقطعاً.(1/385)
وأما موقع سؤال التقسيم فيجب أن يكون بعد منع حكم الأصل لكونه متعلقاً بالوصف المتفرع عن حكم الأصل وأن يكون مقدما على منع وجود الوصف لدلالة منع الوجود على تعيين الوصف والتقسيم على الترديد وإن يكون مقدماً على سؤال المطالبة بتأثير الوصف المدعي علة لكونه مشعراً بترديد لفظ المستدل بين أمرين والمطالبة بتأثير الوصف مشعرة بتسليم كونه مدلولاً للفظ لا غير ضرورة تخصيصه بالكلام عليه وإلا كان التخصيص به غير مفيد وإيراد ما يشعر بالترديد بعد ما يشعر بتسليم اتحاد المدلول يكون متناقضاً.
وقد علل ذلك بعض أرباب الاصطلاح بأن المطالبة بتأثير الوصف تستدعي تسليم وجود الوصف والتقسيم مشتمل على منع الوجود ومنع الوجود بعد تسليم الوجود لا يكون مقبولاً لما فيه من التناقض وهو غير صحيح لوجهين: الأول أن ما ذكره إنما هو مبني على أن أحد القسمين لا بد وأن يكون ممنوع الوجود وليس كذلك لما سبق في مبدأ السؤال وبتقدير أن يكون أحد القسمين ممنوع الوجود فإنما يلزم التناقض والمنع بعد التسليم أن لو كان ما أورد عليه سؤال المطالبة أو لا هو نفس القسم الذي منع وجوده في التقسيم وبتقدير أن يكون غيره فلا وبالجملة فيمتنع أيضاً قبول سؤال التقسيم بعد سؤال الاستفسار لأن المسؤول إن كان قد دفع سؤال الاستفسار جدلاً بنفي الإجمال فالتقسيم بعده لا يرد ضرورة توقفه على الإجمال وقد انتفى وإن أجاب عنه بتعيين ما قصده بكلامه فبعد التعيين لا حاجة إلى التقسيم بل يجب ورود الاعتراض على عينه دون غيره.
الاعتراض السادس: منع وجود العلة في الأصل ولكون النظر في علة الأصل متفرعاً عن حكم الأصل وجب تأخيره عن النظر في حكم الأصل وعن التقسيم لما ذكرناه في السؤال الذي قبله.
ومثاله ما لو قال الشافعي في مسألة جلد الكلب مثلاً: حيوان يغسل الإناء من ولوغه سبعاً فلا يطهر جلده بالدباغ كالخنزير فيقول الخصم لا أسلم وجوب غسل الإناء من ولوغ الخنزير سبعاً.
وجوابه بذكر ما يدل على وجوده من العقل أو الحس أو الشرع على حسب حال الوصف في كل مسألة أو أن يفسر لفظه بما لا يمكن الخصم منعه وإن كان احتمال اللفظ له بعيداً وذلك كما لو قال في المثال المذكور أعني به ما إذا لم يغلب على ظنه الطهارة.
وإن فسر لفظه بما له وجود في الأصل غير أن لفظه لا يحتمله لغة فالمختار أنه لا يقبل وإن ذهب إلى قبوله بعض المتأخرين وذلك لأن وضع اللفظ إنما كان لقصد تحصيل المعنى منه وأن يعرف كل أحد ما في ضميره لغيره بواسطة اللفظ المستعمل وذلك مشروط بضبط الوضع ضبطاً يمتنع معه دخول الزيادة والنقصان وإذا قبل من كل أحد تفسير لفظه بما لا يحتمله لغة حالة عجزه عن تقرير كلامه أفضى ذلك إلى اضطراب اللغة وإبطال فائدة وضعها كيف وإن إطلاقه لذلك اللفظ دليل ظاهر على إرادة مدلوله وعدوله عند المنع مشعر بالانقطاع في تقريره.
الاعتراض السابع: منع كون الوصف المدعى علة ولما كانت العلية صفة للوصف المذكور ومتوفقةً على وجوده وجب أن يكون النظر فيها نفياً وإثباتاً متأخراً عن النظر في وجود الوصف وهذا هو أعظم الأسئلة الواردة على القياس لعموم وروده على كل ما يدعى كونه علة واتساع طرق إثباته وتشعب مسالكه كما تقدم تقريره وقد اختلف العلماء في قبوله نفيا وإثباتا والمختار لزوم قبوله.
وذلك لأن إثبات الحكم في الفرع مما لا يمكن إسناده إلى مجرد إثبات حكم الأصل دون جامع بينهما والجامع يجب أن يكون في الأصل بمعنى الباعث لا بمعنى الأمارة على ما سبق تقريره والوصف الطردي لا يصلح أن يكون باعثاً فيمتنع التمسك به في القياس فلو لم يقبل منع تأثير الوصف والمطالبة بتأثيره أفضى ذلك إلى التمسك بالأوصاف الطردية ثقة من المتكلم بامتناع مطالبته بالتأثير ولا يخفى وجه فساده.
وأيضاً فإن الأصل عدم الدليل الدال على جواز التمسك بالقياس غير أنا استثنينا منه ما كانت علة القياس فيه مخيلة أو شبهية لإجماع الصحابة عليه ولم ينقل عنهم أنهم تمسكوا بقياس علته طردية فبقينا فيه على حكم الأصل فلذلك وجب قبول سؤال منع التأثير وبيان كون الوصف مؤثراً وعند هذا فلا بد من ذكر شبه الرادين له وتحقيق جوابها.
وقد احتجوا بشبه.(1/386)
الأولى: أنه لو قبل سؤال منع التأثير فما من دليل يذكره المستدل على كون الوصف علةً إلا وهذا السؤال وارد عليه إلى ما لا يتناهى فيجب رده حفظاً للكلام عن الخبط والنشر.
الثانية: أنه لا معنى للقياس سوى رد الفرع إلى الأصل بجامع وقد أتى به المستدل وخرج عن وظيفته فعلى المعترض القدح فيه.
الثالثة: أن الأصل أن كل ما ثبت الحكم عقيبه في الأصل أن يكون علةً فمن ادعى أن الوصف الجامع ليس بعلة احتاج إلى بيانه.
الرابعة: أنا بحثنا فلم نجد سوى هذه العلة فعلى المعترض القدح فيها أو إبداء غيرها.
الخامسة: أنهم قالوا عجز المعترض عن الاعتراض على الوصف المذكور دليل صحته كالمعجزة فالمنع من الصحة مع وجود دليل الصحة لا يكون مقبولاً السادسة: قولهم حاصل هذا السؤال يرجع إلى المنازعة في علة الأصل ويجب أن يكون متنازعاً فيها ليتصور الخلاف في الفرع.
السابعة: أن حاصل القياس يرجع إلى تشبيه الفرع بالأصل والشبه حجة وقد تحقق ذلك بما ذكر من الوصف الجامع فلا حاجة إلى إبداء غيره.
الثامنة: قولهم: هذا الوصف مطرد لم يتخلف حكمه عنه في صورة فكان صحيحاً والجواب عن الأولى: أن التسلسل منقطع بذكر ما يفيد أدنى ظن بالتعليل من الطرق التي بيناها قبل فإن المطالبة بعلية ما غلب على الظن كونه علةً بعد ذلك يكون عناداً وهو مردود إجماعاً.
وعن الثانية: بمنع تحقق القياس بجامع لا يغلب على الظن كونه علة.
وعن الثالثة: بمنع أن الأصل علية كل ما ثبت الحكم معه من الأوصاف.
وعن الرابعة: أن البحث مع عدم الاطلاع على غير الوصف المذكور طريق من طرق إثبات العلة كما سبق فكان ذلك جواباً عن سؤال المطالبة وقبولاً له لا أنه رد له.
وعن الخامسة: أنه لو كان عجز المعترض عن الاعتراض دليل صحة العلة لكان عجز المستدل عن تصحيح العلة دليل فسادها ولا أولوية ولكان عجز المعترض عن الاعتراض على إبطال ما ادعى من الحكم في الفتوى دليلاً على ثبوت الحكم ولم يقل به قائل.
وعن السادسة: أن علة الأصل وإن كانت متنازعاً فيها فلا بد من دليل ظني يدل على كونها علة كما في الحكم المختلف فيه.
وعن :السابعة أن إثبات الحكم في الفرع متوقف على ظن إثباته ولا نسلم أن مطلق المشابهة بين الأصل والفرع في مطلق وصف مفيد للظن.
وعن الثامنة: أن حاصلها يرجع إلى الاكتفاء بالوصف الطردي لكونه غير منتقض وهو باطل بما سبق في طرق إثبات العلة.
وإذا علم أنه لا بد من قبول سؤال المطالبة بالتأثير وأنه لا بد من الدلالة على كون الوصف علةً وطريق إثبات ذلك ما يساعد من الأدلة التي قررناها قبل.
الاعتراض الثامن: سؤال عدم التأثير وهو إبداء وصف في الدليل مستغنى عنه في إثبات الحكم أو نفيه وقد قسمه الجدليون أربعة أقسام: الأول: عدم التأثير في الوصف وذلك بأن يكون الوصف المأخوذ في الدليل طردياً لا مناسبة فيه ولا شبه وذلك كما يقال في صلاة الصبح صلاة لا يجوز قصرها فلا تقدم في الأداء على وقتها كالمغرب فإن عدم القصر وصف طردي بالنسبة إلى الحكم المذكور.
الثاني: عدم التأثير في الأصل وهو أن يكون الوصف قد استغني عنه في إثبات الحكم في الأصل المقيس عليه بغيره وذلك كما إذا قال المستدل في بيع الغائب مبيع غير مرئي فلا يصح بيعه كالطير في الهواء والسمك في الماء فإن ما وجد في الأصل من العجز عن التسليم مستقل بالحكم.
وهذا النوع مما اختلف فيه فرده الأستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني ومن تابعه مصيراً منهم إلى أنه إشارة إلى علة أخرى في الأصل ولا يمتنع تعليل الحكم الواحد في محل واحد بعلتين ومنهم من قبله مصيراً منهم إلى امتناع تعليل الحكم بعلتين وقد سبق تقرير كل واحد من المأخذين وما هو المختار منهما.
الثالث: عدم التأثير في الحكم وهو أن يذكر في الدليل وصفاً لا تأثير له في الحكم المعلل وذلك كما لو قال المستدل في مسألة المرتدين إذا أتلفوا أموالنا طائفة مشركة فلا يجب عليهم الضمان بتلف أموالنا في دار الحرب كأهل الحرب فإن الإتلاف في دار الحرب لا تأثير له في نفي الضمان ضرورة الاستواء في الحكم عندهم بين الإتلاف في دار الحرب ودار الإسلام وحاصل هذا القسم يرجع إلى عدم التأثير في الوصف بالنسبة إلى الحكم المذكور إن كان طردياً أو إلى سؤال الإلغاء إن كان مؤثراً.(1/387)
الرابع: عدم التأثير في محل النزاع وهو أن يكون الوصف المذكور في الدليل لا يطرد في جميع صور النزاع وإن كان مناسباً وذلك كما لو قال المستدل في مسألة ولاية المرأة: زوجت نفسها من غير كفوء فلا يصح نكاحها وذلك من حيث إن النزاع واقع فيما إذا زوجت نفسها من الكفء وغير الكفء وهذا أيضاً مما اختلف في قبوله فرده قوم مصيراً منهم إلى منع جواز الفرض في الدليل وقبله من لم يمنع من ذلك وهو المختار على ما عرفناه في كتاب الجدل.
وإذا بطل القسم الرابع وهو عدم التأثير في محل النزاع ورجع حاصل القسم الثالث وهو عدم التأثير في الحكم إلى عدم التأثير في الوصف أو الإلغاء فلم يبق غير عدم التأثير في الوصف وعدم التأثير في الأصل.
وعدم التأثير في الوصف راجع إلى بيان انتفاء مناسبة الوصف وسؤال المطالبة يغني عنه وجوابه جوابه فلا يجتمعان وعدم التأثير في الأصل فحاصله يرجع إلى المعارضة في الأصل لا أنه غيره.
وجوابه جوابه كما يأتي ومع ذلك كله فقد يكون أخذ الوصف الذي لا يناسب الحكم في الدليل مفيداً بأن يكون مشيراً إلى نفي المانع الموجود في صورة النقض أو وجود الشرط الفائت فيها لقصد دفع النقض أو مشيراً إلى قصد الفرض في الدليل في بعض صور النزاع كما ذكر من مثال أخذ الإتلاف في دار الحرب في مسألة المرتدين ولا يكون عديم التأثير إذ هو غير مستغنى عنه في إثبات الحكم إما لقصد دفع النقض أو لقصد الفرض.
الاعتراض التاسع: القدح في مناسبة الوصف المعلل به وذلك بما يلزم من ترتيب الحكم على وفقه لتحصيل المصلحة المطلوبة منه وجود مفسدة مساوية لها أو راجحة عليها وقد بينا وجه الاختلاف فيه وأن المختار إبطاله لا أن يبين ترجيح المصلحة على المفسدة إما بطريق إجمالي أو تفصيلي كما بيناه فيما سبق .
الاعتراض العاشر القدح في صلاحية إفضاء الحكم إلى ما علل به من المقصود.
وذلك كما لو عللت حرمة المصاهرة على التأبيد في حق المحارم بالحاجة إلى ارتفاع الحجاب بين الرجال والنساء إلى سد باب الفجور بالحرمة المؤبدة وعلم الرجل امتناع وصوله إلى الأنثى على الوجه المشروع حتى ينسد عليه باب الطمع في مقدمات الهم بها والنظر إليها فإن للمعترض أن يقول: هذا الحكم غير صالح لإفضائه إلى هذا المقصود من حيث إن سد باب النكاح أدعى إلى محذور الوقوع في الزنا.
وجوابه أن الحرمة المؤبدة مما تمنع من النظر إلى المرأة بشهوة عادة والامتناع العادي على مر الزمان يلتحق بالامتناع الطبعي وبه يتحقق انسداد باب الفجور.
الاعتراض الحادي عشر أن يكون الوصف المعلل به باطناً خفياً.
وذلك لو علل بالرضا أو القصد فإنه قد يقال القصد والرضا من الأوصاف الباطنة الخفية التي لا يطلع عليها بأنفسها فلا تكون علة للحكم الشرعي الخفي ولا معرفةً له.
وجوابه أن يبين ضبط الرضا بما يدل عليه من الصيغ الظاهرة وضبط القصد بما يدل عليه من الأفعال الظاهرة.وكل ذلك معلوم في الخلافيات.
الاعتراض الثاني عشر أن يكون الوصف المعلل به مضطرباً غير منضبط كالتعليل بالحكم والمقاصد مثل التعليل بالحرج والمشقة والزجر والردع ونحوه.
فإنه قد يقال: مثل هذه الأوصاف مما تضطرب وتختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال.وما هذا شأنه فدأب الشارع فيه رد الناس إلى المظان الظاهرة الجلية دفعاً للعسر والحرج عن الناس في البحث عنها ومنعاً للاضطراب في الأحكام عند اختلاف الصور بسبب الاختلاف في هذه الأوصاف بالزيادة والنقصان.
وجوابه إما ببيان كون ما علل به مضبوطاً بنفسه أو بضابطه كضبط الحرج والمشقة بالسفر ونحوه.
الاعتراض الثالث عشر: النقض وهو عبارة عن تخلف الحكم مع وجود ما ادعى كونه علةً له وقد أومأنا في مسألة تخصيص العلة إلى وجه دلالة ذلك على إبطالها ووجه الانفصال عنه فيما إذا كانت العلة منصوصةً أو مجمعاً عليها أو مستنبطة وفي صورة النقض مانع أو فوات شرط بالاستقصاء التام المفصل والذي يختص بما نحن فيه هاهنا وجوه أخر في الجواب الأول منع وجود العلة في صورة النقض إن أمكن.
وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة زكاة الحلي مال غير نام فلا تجب فيه الزكاة كثياب البذلة فقال المعترض: هذا ينتقض بالحلي المحظور فإنه غير نام ومع ذلك فإن الزكاة تجب فيه.(1/388)
فقال المستدل: لا أسلم أن الحلي المحظور غير نام وإنما كان منع وجود العلة في صورة النقض دافعاً للنقض لأن النقض وجود العلة ولا حكم فإذا لم توجد العلة في صورة النقض فلا نقض لكن اختلفوا في المعترض هل له الدلالة على وجود العلة في صورة النقض عند منع المستدل لوجودها؟ فمنهم من قال: له ذلك إذ به يتحقق انتقاضها وهدم كلام المستدل فكان له ذلك كغيره من الاعتراضات.
ومنهم من منع من ذلك لما فيه من قلب القاعدة بانقلاب المستدل معترضاً والمعترض مستدلاً.
والواجب إنما هو التفصيل وهو أنه إن تعين ذلك طريقاً للمعترض في هدم كلام المستدل وجب قبوله منه تحققاً لفائدة المناظرة وإن أمكنه القدح بطريق آخر هو أفضى إلى المقصود فلا نعم لو كان المستدل قد دل على وجود العلة في محل التعليل بدليل هو موجود في صورة النقض فإذا منع وجود العلة فإن قال المعترض فقد انتقض الدليل الذي دللت به على وجود العلة لا يكون مسموعاً لكونه انتقالاً من النقض على نفس العلة إلى النقض على دليلها.
وذلك كما لو قال الحنفي في مسألة تبييت النية وتعيينها أي بمسمى الصوم فوجب أن يصح كما في محل الوفاق ودل على وجود الصوم بقوله إن الصوم عبارة في الإمساك مع النية وهو موجود فيما نحن فيه.
فقال المعترض: هذا منتقض بما إذا نوى بعد الزوال. وإن قال المعترض للمستدل ابتداء أمرك لا يخلو من حالين إما أن تعتقد وجود الصوم في صورة النقض أو لا تعتقده.
فإن كان الأول فقد انتقضت علتك وإن كان الثاني فقد انتقض ما ذكرته من الدليل على وجود العلة كان متجهاً.
وإن أورد ذلك لا في معرض نقض دليل وجود العلة بل في معرض الدلالة به على وجود العلة ي صورة النقض فالحكم فيه على ما سبق في الدلالة على نفي الحكم في صورة النقض فهو غير مسموع على ما يأتي: الثاني: منع تخلف الحكم وإنما كان ذلك دافعاً للنقض لما ذكرناه في منع وجود العلة وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة الثيب الصغيرة ثيب فلا يجوز إخبارها كالثيب البالغ فقال المعترض هذا منقوض: بالثييب المجنونة فإنه يجوز إجبارها.
فقال المستدل: لا نسلم صحة إجبار الثيب المجنونة.والكلام في تمكين المعترض من الاستدلال على تخلف الحكم في صورة النقض كالكلام في دلالته على وجود العلة وقد عرف ما فيه.
الثالث: أن يكون النقض على أصل المستدل خاصةً وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة الرطب بالتمر: باع مال الربا بجنسه متفاضلاً فلا يصح كما لو باع صاعاً بصاعين فقال الحنفي: هذا منتقض على أصلك بالعرايا فإنه يصح وإن باع مال الربا بجنسه متفاضلاً.
وجوابه من ثلاثة أوجه: الأول أن يبين في صورة النقض مناسباً يقتضي النفي من مانع أو فوات شرط مع قران الحكم به على أصله.
الثاني أن يقول: النقض إنما هو من قبيل المعارض لدليل العلة فتخلف الحكم عن العلة إنما هو على مذهب أحد الفريقين وثبوت الحكم على وفق العلة المعلل بها بالاتفاق ولا مساواة بين المتفق عليه والمختلف فيه فلا يقع في معارضة دليل العلة.
الثالث: أن يبين أن تخلف الحكم عن العلة في معرض الاستثناء والمستثنى لا يقاس عليه ولا يناقض به كما في صورة العرايا المذكورة.
الرابع: أن يكون إبداء النقض على أصل المعترض لا غير وتوجيهه أن يقول المعترض: هذا الوصف مما لم يطرد على أصلي فلا يلزمني الانقياد إليه.
وجوابه أن يقول المستدل: ما ذكرته حجة عليك في الصورتين إذ هي محل النزاع ومذهبك في صورة النقض لا يكون حجة في درء الاحتجاج وإلا كان حجة في محل النزاع وهو محال.
وهل يجب على المستدل الاحتراز في دليله عن النقض؟ اختلفوا: فمنهم من قال بوجوبه لقربه من الضبط وبعده عن النشر والخبط ولأن ما أشار إليه المستدل من الوصف المعلل به إذا كان منتقضاً فإما أن يكون انتفاء الحكم في صورة النقض لا لمعارض أو لمعارض: فإن كان الأول فلا يكون الوصف علةً لما سبق تقريره في مسألة تخصيص العلة.
وإن كان الثاني فقد ثبت أن للعلة معارضاً متفقاً عليه فلا بد من نفيه في الدليل لأن المناظر تلو الناظر وليس للناظر الجزم بالحكم عند ظهور سببه دون ظهور انتفاء معارضه فكذلك المناظر غير أنا أسقطنا عنه كلفة نفي المعارض المختلف فيه لعسر نفيه فبقينا فيما عداه على حكم الأصل.(1/389)
ومنهم من لم يوجبه تمسكاً منه بأن ما يقع به الاحتراز عن النقض إما أن يكون من جملة أجزاء العلة أو خارجاً عنها: فإن كان الأول فالعلة لا تكون علةً دونه وما مثل هذا لا خلاف في وجوب ذكره في العلة لعدم تمام العلة دونه ومن نازع فيه فقد نازع في أنه: هل يجب على المستدل ذكر العلة أو لا وإن كان الثاني فلا يخلو إما أن يكون مشيراً إلى نفي المعارض أو لا يكون كذلك فإن كان الأول.
فقد تعرض لما لم يسأل عنه لكونه مسؤولاً بعد الفتوى عن الدليل المقتضي للحكم وانتفاء المعارض ليس من الدليل ولو قيل إنه من الدليل كان خلاف الغرض في هذا القسم.
وإن كان الثاني فالنقض غير مندفع به لأن النقض عبارة عن وجود العلة ولا حكم فإذا كان المذكور خارجاً عن العلة ولا فيه إشارة إلى نفي المعارض فالعلة ما دونه وقد وجدت في صورة النقض ولا معارض فكان النقض متجهاً.
وإن قيل إن الوصف المأخوذ للاحتراز من جملة العلة لتعلق فائدة دفع النقض به وإن لم يكن مناسباً فقد سبق إبطاله في تخصيص العلة.
الاعتراض الرابع عشر: الكسر وهو النقض على المعنى. وقد ذكرنا طريق إيراده ووجه الانفصال عنه في شروط العلة.
ويخصه من الأجوبة هاهنا منع وجود المعنى المشار إليه في صورة النقض ومنع تخلف الحكم عنه وباقي الأجوبة التي أوردناها في سؤال النقض قبله.
الاعتراض الخامس عشر المعارضة في الأصل بمعنى وراء ما علل به المستدل وسواء كان مستقلاً بالتعليل كمعارضة من علل تحريم ربا الفضل في البر بالطعم أو بالكيل أو بالقوت أو غير مستقل بالتعليل على وجه يكون داخلاً في التعليل وجزءا من العلة وذلك كمعارضة من علل وجوب القصاص في القتل بالمثقل بالقتل العمد العدوان بالجارح في الأصل ونحوه.
وقد اختلف الجدليون في قبوله فمنهم من رده بناء منه على أنه لا يمتنع تعليل الحكم الواحد بعلتين كما سبق تقريره ولهذا فإنا لو قدرنا انفراد ما ذكر المستدل مجرداً عن المعارض صح التعليل به إجماعاً وإنما صح التعليل به لصلاحية فيه لا لعدم المعارض فإن العدم لا يكون علةً ولا داخلاً فيها لما سبق تقريره.
فإذا صح التعليل به مع عدم المعارض صح مع وجوده ولأنه لا معنى للعلة إلا ما يثبت الحكم عقيبها وهذا المعنى موجود في الوصفين فكان كل واحد علةً.
ومنهم من قبله وأوجب جوابه على المستدل وهو المختار.وذلك لأنه إذا وجد في الأصل وصفان فإما أن يكون كل واحد علةً مستقلةً أو لا يكون كذلك لا جائز أن يكون كل واحد علةً مستقلةً لما سبق تقريره في امتناع ذلك سواء كانت العلة بمعنى الأمارة أو الباعث.
وإن كان القسم الثاني فإما أن يكون الحكم ثابتاً لما ذكره المستدل لا غير أو لما ذكره المعترض لا غير أو لهما جميعاً بحيث تكون العلة مجموع الوصفين وكل واحد منهما جزؤها. لا جائز أن يقال بالأول ولا بالثاني.فإنه ليس تعيين أحدهما للتعليل وإلغاء الآخر مع تساويهما في الاقتضاء أولى من الآخر فلم يبق غير الثالث.
ويلزم منه امتناع تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع.
وبتقدير تساوي الاحتمالات الثلاثة فلا يخفى أن التعدية تمتنع بتقدير أن تكون العلة ما ذكره المعترض.وبتقدير أن تكون العلة هي الهيئة الاجتماعية من الوصفين.
وإنما يصح بتقدير التعليل بما ذكره المستدل لا غير.ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد بعينه.
ومع ذلك فالتعدية تكون ممتنعةً لكن بشرط أن يكون ما أبداه المعترض صالحاً للتعليل أو لدخوله فيه عند كون ما أبداه المستدل صالحاً وإلا فلا معارضة وهل يجب على المعترض نفي ما أبداه معارضاً في الأصل عن الفرع اختفوا فيه: فمنهم من قال: لا يجب عليه ذلك فإنه إن كان موجوداً في الفرع فيفتقر المستدل إلى بيان وجوده فيه ليصح الإلحاق.
وإن لم يبين ذلك فقد انقطع الجمع.ومنهم من قال لا بد له من نفيه عن الفرع لأن مقصوده الفرق.وذلك لا يتم دون نفيه عن الفرع.(1/390)
والمختار أنه إن قصد المعترض الفرق فلا بد له من نفيه وإن لم يقصد الفرق بأن يقول: هذا الوصف قد ثبت أنه لا بد من إدراجه في التعليل لما دل عليه من الدليل فإن كان غير موجود في الفرع فقد ثبت الفرق وإن كان موجوداً في الفرع فالحكم يكون ثابتاً في الفرع بمجموع الوصفين ونتبين أن المستدل لم يكن ذاكراً للعلة في الابتداء بل لبعضها. وأي الأمرين قدر فالإشكال لازم.
هذا كله فيما إذا كان المقيس عليه أصلاً واحداً.وإن كان المقيس عليه أصولاً متعددةً فمنهم من منع من ذلك لإفضائه إلى النشر مع إمكان حصول المقصود بالواحد منها ومنهم من جوز ذلك لكونه أقوى في إفادة الظن.
ومن جوز ذلك اختلفوا في جواز الاقتصار في المعارضة في الأصل على أصل واحد فمنهم من جوزه لأن المستدل قصد إلحاق الفرع بجميع الأصول فإذا وقع الفرق بين الفرع وبعض الأصول فقد تم مقصود المعترض من إبطال غرض المستدل ومنهم من قال: لا بد من المعارضة في كل أصل لأنه إذا عارض في البعض دون البعض فقد بقي قياس المستدل صحيحاً على الأصل الذي لم يعارض فيه وبه يتم المقصود من إثبات الحكم أو نفيه والذين أوجبوا المعارضة في جميع الأصول منهم من أوجب اتحاد المعارض في الكل دفعاً لانتشار الكلام ولأن يكون مقابلاً في اتحاده لاتحاد وصف المستدل ومنهم من جوز المعارضة في كل أصل بغير ما في الأصل الآخر لجواز أن لا يساعده في الكل علة واحدة.
ثم اختلف هؤلاء: فمنهم من قال يجوز للمستدل الاقتصار في الجواب على أصل واحد إذ به يتم مقصوده ومنهم من لم يجوز ذلك حيث إن المستدل التزم صحة القياس على الكل وعلى هذا يقع الخلاف فيما لو عارض في بعض الأصول هل يجب على المستدل الجواب أو لا ؟ والوجه في الجواب من ستة أوجه : الأول: منع وجود الوصف المعارض به في الأصل.
الثاني: المطالبة بتأثير الوصف إن كان طريق إثبات العلة من جانب المستدل المناسبة أو الشبه دون السبر والتقسيم.
الثالث: أن يبين كونه ملغى في جنس الأحكام كالطول والقصر ونحوه.
الرابع: أن يبين أنه ملغى في جنس الحكم المعلل وإن كان مناسباً وذلك كالذكورة في باب العتق.
الخامس: أن يبين أنه قد استقل بالحكم في صورة دون الوصف المعارض به وعند ذلك فيمتنع أن يكون علةً مستقلةً في محل التعليل لما فيه من إلغاء المستقل واعتبار غير المستقل ويمتنع أن يكون داخلاً في التعليل لما فيه من إلغاء ما علل به المستدل في الفرع مع استقلاله لفوات ما لم يثبت استقلاله وهو ممتنع.
فإن عارض المعترض في صورة الإلغاء بوصف آخر غير ما عارض به في الأصل فلا بد من إبطاله وإلا فالقياس متعذر ولا يمكن أن يقال في جوابه إن كل وصف اختص بصورة فهو ملغى بالصورة الأخرى.
وهذا هو المسمى في الاصطلاح بتعدد الوضع.فإن للمعترض أن يقول العكس غير لازم في العلل الشرعية لجواز ثبوت الحكم في كل صورة بعلة غير علة الصورة الأخرى وإذا جاز ثبوت الحكم في صورتين بعلتين مختلفتين فلا يلزم من إثبات الحكم في كل صورة بعلة مع عدم علة الصورة الأخرى فيها إلغاء ما وجد في تلك الصورة.
السادس: أن يبين رجحان ما ذكره على ما عارض به المعترض بوجه من وجوه الترجيحات التي يأتي ذكرها وعند ذلك.فيمتنع جعل ما عارض به المعترض علة مستقلة في محل التعليل لما فيه من إهمال الراجح واعتبار المرجوح ويمتنع أن يكون داخلاً في التعليل لما فيه من إلغاء ما علل به المستدل في الفرع بتخلف الحكم عنه مع رجحانه ضرورة إنتفاء الوصف المرجوح.
وهاهنا ترجيح آخر وهو أن يكون أحد الوصفين في الأصل المستنبط منه متعديا والآخر قاصراً وذلك لا يخلو إما أن يكون في طرف الإثبات أو النفي: فإن كان في طرف الإثبات فلا يخلو إما أن يكون الوصف المتعدي جزءاً من العلة أو خارجاً عنها بأن يكون المعارض في الأصل بالوصف القاصر لا غير فإن كان خارجاً عنها فلا يخلو إما أن يكون الوصف المتعدي مساوياً للقاصر في جهة اقتضائه أو أن الترجيح لأحدهما فإن كان مساوياً للقاصر من جهة الاقتضاء فالتعليل بالمتعدي أولى وبيانه من جهة الإجمال والتفصيل.
أما الإجمال فهو أن التعليل بالمتعدي متفق عليه بخلاف التعليل بالقاصر والتعليل بالمتفق عليه أولى.(1/391)
وأما التفصيل فهو أن فائدة المتعدي أكثر من القاصر لأن فائدة القاصر إنما هي في ظهور الحكمة الباعثة في الأصل لسرعة الانقياد وسهولة القبول والمتعدي مشارك للقاصر في هذا المعنى وزيادة التعريف للحكم في الفرع وهو أعظم فوائد العلة عند الأكثرين وهو وإن لزم من التعليل به إهمال المناسب القاصر فمقابل بمثله حيث إنه يلزم من التعليل بالقاصر إهمال المناسب المتعدي مع كونه راجحاً.
والتعليل بالقاصر وإن كان على وفق النفي الأصلي في الفرع والتعليل بالمتعدي على خلافه إلا أنه مخالفة لما وقعت مخالفته في الأصل بما لم تظهر مخالفته ولو عملنا بالقاصر لموافقة النفي الأصلي لكان فيه العمل بموافقة ما وقع الاتفاق على مخالفته ومخالفة ما لم يقع الاتفاق على مخالفته وهو الوصف المتعدي فكان مرجوحاً.
فإن قيل: إلا أن التعليل بالوصف المتعدي يلزم منه مخالفة ما لم يتفق على مخالفته من الوصف القاصر وما اتفق على مخالفته من النفي الأصلي فكان فيه مخالفة ظاهرين: أحدهما متفق على مخالفته والآخر عير متفق على مخالفته.
والتعليل بالوصف القاصر يلزم منه العمل بهذين الظاهرين ومخالفة ظاهر واحد وهو الوصف المعتدي.
قلنا: هذا مقابل بمثله فإنه بعد أن ثبت الحكم في الأصل لمعنى وإن كان قاصراً فالأصل أن يثبت في الفرع بما وجد مساوياً لوصف الأصل في الاقتضاء نظراً إلى تماثل مقصود الشارع والمحافظة على هذا الأصل أولى من المحافظة على النفي الأصلي لكون النفي الأصلي مخالفاً في الأصل بمثل ما قيل باقتضائه للحكم في الفرع.
وعند ذلك فيترجح ما ذكرناه من جهة أن العمل بالوصف المتعدي عمل به وبأصل مترجح على النفي الأصلي والعمل بالقاصر عمل به وبأصل مرجوح بالنظر إلى الأصل المعمول به من جانبنا فكان ما ذكرناه أولى.
فإن قيل ربما كان المانع للحكم قائماً مطلقاً وعند ذلك فالتعليل بالقاصر أولى لما فيه من موافقة الدليل الشرعي النافي وموافقة النفي الأصل بخلاف المتعدي.
قلنا: المانع في الفرع بستدعي وجود المقتضي وإلا فالحكم يكون فيه منتفياً لانتفاء ما يقتضيه لا لوجود منافيه فدعوى وجود المانع في الفرع مع وجوب قصور العلة المقتضية للإثبات على الأصل تناقض لا حاصل له كيف وإن ما مثل هذا المانع مرجوح عند الخصم بالنسبة إلى الوصف القاصر والمتعدي على ما وقع به الفرض في ابتداء الكلام مساو للقاصر في المقصود فكان مرجوحاً بالنسبة إلى المتعدي أيضاً فكان المتعدي أولى كما بيناه في النفي الأصلي.
فإن قيل: كما أن المتعدية قد تعرف إثبات الحكم في الفرع فالقاصرة تعرف نفيه عن الفرع وكما أن معرفة ثبوت الحكم في الفرع مقصود للشارع فمعرفة انتفائه أيضاً عنه مقصود له.
قلنا: هذا إنما يستقيم أن لو لم يوجد في الفرع ما هو مساو للعلة القاصرة في الأصل فيما يرجع إلى جهة الاقتضاء.
والمقصود المطلوب للشارع من إثبات الحكم لأن تعريف العلة القاصرة لنفي الحكم في الفرع إنما هو بناء على انتفاء مقصود الحكم ولن يتصور ذلك مع وجود ما هو مساو في الطلب والاقتضاء لما هو المقصود في الأصل فلا ينتهض الوصف القاصر في الأصل علامةً على انتفاء الحكم في الفرع مع وجود الوصف المتعدي فيه ومساواته للقاصر في الاقتضاء على ما وقع به الفرض كيف وإن العلة القاصرة غير مستقلة بتعريف انتفاء الحكم في الفرع إلا مع ضميمة انتفاء علة غيرها وانتفاء النص والإجماع بخلاف العلة المتعدية في طرف الإثبات فما استقل بالتعريف يكون أولى مما لا يستقل.
نعم قد يتوقف العمل بالعلة المثبتة على انتفاء المعارض لا أن انتفاء المعارض من جملة المعرف ولا الداعي بخلاف ما تتوقف عليه العلة القاصرة في تعريفها نفي الحكم في الفرع.
والعمل بما هو معرف بنفسه من غير توقف في تعريفه على غيره أولى.
وعلى هذا يكون الحكم إن كان الوصف المتعدي راجحاً في جهة اقتضائه أولى والوصف المتعدي وإن توقف استقلاله على إخراج القاصر عن التعليل فليس إخراج القاصر موقوفاً على استقلال المتعدي ليلزم الدور لجواز اتفاقهما في إخراجهما عن التعليل كيف وإنه مقابل بدور آخر حيث إنه يتوقف إدخال القاصر في التعليل على عدم استقلال المتعدي وكذلك بالعكس.(1/392)
وأما إن كان المتعدي مرجوحاً في جهة اقتضائه بالنسبة إلى الوصف القاصر فالوصف القاصر أولى نظراً إلى المحافظة على زيادة المناسبة المعتبرة بثبوت الحكم على وفقها والنظر إليها وإن أوجب إهمال فائدة المتعدية أولى لما فيه من زيادة المصلحة وصلاح المكلف وما يتعلق به من زيادة التعقل وسرعة الانقياد في ابتداء ثبوت الحكم لأنه الأصل في كون الحكم معللاً.
وفائدة التعدية إنما تعرف بعد تعرف تعليل الحكم بما علل به بنظر ثان متأخر عن النظر فيما علل به الحكم في الأصل ولا شك أن ما هو أشد مناسبة للحكم يكون أسبق إلى الفهم بالتعليل للحكم الثابت في الأصل فكان التعليل به أولى.
وإن كانت جهة التساوي والأرجحية غير معلومة ولا ظاهرة فالتعليل بالمتعدي أولى نظراً إلى أن العمل به أولى على تقدير أن يكون مساوياً وعلى تقدير أن يكون راجحاً.
وإنما يمتنع العمل به على تقدير أن يكون مرجوحاً في نفس الأمر.ولا يخفى أن العمل بما العمل به يتم على تقدير من التقديرين أولى مما لا يتم العمل به إلا على تقدير واحد بعينه.
وعلى ما فصلناه في طرف الإثبات يكون الحكم في طرف النفي.
هذا كله إن كان الوصف المتعدي خارجاً عن العلة القاصرة وأما إن كان داخلاً فيها بأن كان المعارض معللاً بمجموع الوصفين: الوصف القاصر والمتعدي معاً فالقاصر أولى وسواء كان ذلك في طرف الإثبات أو النفي وسواء كان المتعدي راجحاً على القاصر أو مرجوحاً أو مساوياً.
أما في طرف الإثبات فلأن التعليل بالعلة المتعدية يلزم منه إهمال الوصف القاصر وتعطيله ولا كذلك بالعكس.ولايخفى أن الجمع أولى من التعطيل.
فإن قيل: إلا أنه على تقدير أن يكون الوصف المتعدي راجحاً لو جعلنا الوصف القاصر داخلاً في التعليل فيلزم منه أن يتخلف الحكم في الفرع عن الوصف المتعدي الراجح رعاية لما فات من الوصف المرجوح وهو ممتنع.
قلنا: هذا إنما يستقيم علي تقدير أن يكون رجحانه ظاهراً ولا يستقيم على تقدير أن يكون مرجوحاً أو مساوياً.
ولا يخفى أن احتمال وقوع العمل بما يتم على تقدير من تقديرين أولى من العمل بما لا يتم العمل به إلا على تقدير واحد بعينه.
كيف وإن العمل بالقاصر وإن كان يفضي إلى إهمال الوصف المتعدي في الفرع إلا إنه لا يلزم منه إهماله مطلقاً إذ هو داخل في العلة ولو عملنا بالوصف المتعدي فقط يلزم منه إهمال القاصر وتعطيله مطلقاً فالعمل بالقاصر يكون أولى وعلى هذا يكون الحكم إن كان ذلك في طرف النفي أيضاً بل أولى لما فيه من تقليل مخالفة المقتضي للإثبات.
هذا إن ظهر الترجيح وأما إن تحققت المعارضة من غير ترجيح بعد البحث التام فعلى مقتضى ما أسلفناه من القول بالتخيير عند التعارض مع التنافي فلا مانع من الجري على تلك القاعدة هاهنا.
الاعتراض السادس عشر: سؤال التركيب وهو الوارد على القياس المركب.وقد بينا معنى القياس المركب وأقسامه ووجه تسميته بذلك والسؤال الوارد عليه وجوابه في شرط حكم الأصل.
الاعتراض السابع عشر: سؤال التعدية وهو أن يعين المعترض في الأصل معنى ويعارض به ثم يقول للمستدل: ما عللت به وإن تعدى إلى فرع مختلف فيه فالذي عللت به أيضاً قد تعدى إلى فرع مختلف فيه وليس أحدهما أولى من الآخر.
وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة إجبار البكر البالغ: بكر فجاز إجبارها كالبكر الصغيرة فعارضه الحنفي بالصغر وقال: البكارة وإن تعدت إلى البكر البالغة فالصغر متعدً إلى الثيب الصغيرة.
وهذا أيضاً مما اختلف فيه والحق أنه لا يخرج عن سؤال المعارضة في الأصل مع زيادة التسوية في التعدية.
وجوابه بإبطال ما عارض به المعترض وحذفه عن درجة الاعتبار بما أسلفناه في سؤال المعارضة في الأصل.
ومهما حقق شيء من تلك الطرق فقد اندفع ولا أثر لما أشير إليه من التسوية خلافاً للداركي.
الاعتراض الثامن عشر: منع وجود الوصف المعلل به في الفرع وجوابه كجواب منع وجوده في الأصل وقد عرف.
الاعتراض التاسع عشر المعارضة في الفرع بما يقتضي نقيض حكم المستدل إما بنص أو إجماع ظاهر أو بوجود مانع الحكم أو بفوات شرط الحكم.
ولا بد من بيان تحققه وطريق كونه مانعاً أو شرطاً على نحو طريق إثبات المستدل كون الوصف الذي علل به من التأثير أو الاستنباط.(1/393)
وقد اختلف في قبوله فمنع منه قوم تمسكاً منهم بأن المعارضة استدلال وبناء وحق المعترض أن يكون هادماً لا بانياً.
وقبله الأكثرون وهو المختار إذ يلزم منه هدم ما بناه المستدل لمقاومة دليله لدليله ولا حجر عليه في سلوك طرق الهدم ولا سيما إذا تعين ذلك طريقاً في الهدم بأن لم يكن له هادم سواه فلو لم يقبل منه لبطل مقصود المناظرة واختلت فائدة البحث والاجتهاد.
والوجه في جوابه عند توجهه أن يقدح فيه المستدل بكل ما للمعترض أن يقدح به فيه أن لو كان المستدل متمسكاً به وإن عجز عن جميع ذلك فقد اختلفوا في جواز دفعه بالترجيح: فمنهم من لم يجوز ذلك اعتماداً منهم على أن ما ذكره المعترض وإن كان مرجوحا بالنسبة إلى ما ذكره المستدل فلا يخرج بذلك عن كونه اعتراضاً.
ومنهم من جوزه وهو المختار لأنه مهما ترجح ما ذكره المستدل بوجه من وجوه الترجيحات الآتية كان العمل به متعيناً.
وهل يجب على المستدل أن يذكر في دليله ما يومىء إلى الترجيح منهم من أوجبه لتوقف العمل بالدليل عليه فكان من الدليل فلو لم يذكره لم يكن ذاكراً للدليل أولا بل لبعضه ومنهم من لم يوجبه لما في التكليف به من الحرج والمشقة.
والمختار أن يقال: إما أن يكون ما به الترجيح يرجع إلى العلة بأن يكون وصفاً من أوصافها أو لا يكون كذلك: فإن كان الأول فلا بد من ذكره في الدليل أولاً ليكون ذاكراً للدليل.
وإن كان الثاني فلا لأنه مسؤول عن الدليل وقد أتى بمسماه حقيقة والترجيح بأمر خارج عن الدليل إنما هو من توابع ورود المعارضة فذكره بعد المعارضة وإن توقف عليه إعمال الدليل بدفع المعارض لا يوجب أن يكون داخلاً في مسمى الدليل حتى يقال إنه لم يكن ذاكرا للدليل أولاً.
الاعتراض العشرون: الفرق واعلم أن سؤال الفرق عند أبناء زماننا لا يخرج عن المعارضة في الأصل أو الفرع إلا أنه عند بعض المتقدمين عبارة عن مجموع الأمرين حتى إنه لو اقتصر على أحدهما لا يكون فرقاً ولهذا اختلفوا فمنهم من قال: إنه غير مقبول لما فيه من الجمع بين أسئلة مختلفة وهي المعارضة في الأصل والمعارضة في الفرع.
ومنهم من قال بقبوله واختلفوا مع ذلك في كونه سؤالين أو سؤالاً واحداً.فقال ابن سريج إنه سؤالان جوز الجمع بينهما لكونه أدل على الفرق.
وقال غيره: بل هو سؤال واحد لاتحاد مقصوده وهو الفرق وإن اختلفت صيغته.ومن المتقدمين من قال: ليس سؤال الفرق هو هذا وإنما هو عبارة عن بيان معنى في الأصل له مدخل في التعليل ولا وجود له في الفرع فيرجع حاصله إلى بيان انتفاء علة الأصل في الفرع وبه ينقطع الجمع.
وجوابه على كل تقدير لا يخرج عما ذكرناه في جواب المعارضة في الأصل والفرع.
الاعتراض الحادي والعشرون إذا اختلف الضابط بين الأصل والفرع واتحدت الحكمة.
كما لو قيل في شهود القصاص: تسببوا في القتل عمداً عدواناً فلزمهم القصاص زجراً لهم عن التسبب كالمكره.
فللمعترض أن يقول: ضابط الحكمة في الأصل إنما هو الإكراه وفي الفرع الشهادة والمقصود منهما وإن كان متحداً وهو الزجر فلا يمكن تعدية الحكم به وحده وما جعل ضابطا له في الأصل غير موجود في الفرع والضابط في الفرع يحتمل أن لا يكون مساوياً لضابط الأصل في الإفضاء إلى المقصود فامتنع الإلحاق.
وجوابه إما بأن يبين أن التعليل إنما هو بعموم ما اشترك فيه الضابط من التسبب المضبوط عرفاً أو بأن يبين أن إفضاء الضابط في الفرع إلى المقصود أكثر من إفضاء ضابط الأصل فكان أولى بالثبوت.
وذلك كما لو كان أصله في مثل هذه المسألة المغرى للحيوان من حيث إن انبعاث الولي للتشفي والانتقام في الفرع لغلبة إقدام المكره بالإكراه على القتل طلبا لخلاص نفسه أغلب من إقدام الحيوان بالإغراء على الآدمي بسبب غلبة نفرته عنه وبالجملة فيبين الغلبة بما يساعد في آحاد المسائل.
الاعتراض الثاني والعشرون إذا اتحد الضابط بين الأصل والفرع واختلف جنس المصلحة كما لو قال الشافعي في مسألة اللواط أولج فرجاً في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً فوجب به الحد كالزنا.(1/394)
فللمعترض أن يقول: الضابط وإن كان متحداً غير أن الحكمة التي في الفرع وهي صيانة النفس عن رذيلة اللياطة مخالفة لحكمة الأصل وهي دفع محذور اختلاط المياه واشتباه الأنساب المفضي إلى تضييع المولود وانقطاع نسل جنس الإنسان.
وعند ذلك فلا يلزم من اعتبار الضابط في الأصل لما لزمه من الحكمة اعتباره في الفرع لغير تلك الحكمة لجواز أن لا تكون قائمةً مقامها في نظر الشارع.
وجوابه أن يقال: التعليل إنما وقع بالضابط المشترك المستلزم لدفع المحذور اللازم من عموم الجماع والتعرض لحذف خصوص ما اختص به الأصل من الزنى ومقصوده اللازم عنه وحذفه بطريق من طرق الحذف التي سبق بيانها في السبر والتقسيم.
الاعتراض الثالث والعشرون أن يقال حكم الفرع مخالف الأصل فلا قياس لأن القياس عبارة عن تعدية حكم الأصل إلى الفرع بواسطة الجامع بينهما ومع اختلاف الحكم فحكم الأصل لا يكون متعديا إلى الفرع فلا قياس.
وجوابه ببيان اتحاد الحكم إما عيناً وذلك كما في قياس وجوب الصوم على وجوب الصلاة وقياس صحة البيع على صحة النكاح وأن الاختلاف إنما هو عائد إلى المحل وهو غير قادح في صحة القياس لكونه شرطاً فيه وإما جنساً كما في قياس وجوب قطع الأيدي باليد الواحدة على وجوب قتل الأنفس بالنفس الواحدة وأن الاختلاف إنما هو في عين الحكم فكان إما ملائماً إن كان الاشتراك في جنس العلة أو مؤثراً إن كان الاشتراك في عينها على ما سبق تحقيقه وذلك غير مبطل للقياس عند القائلين به.
وأما إن كان الحكم مختلفا جنساً ونوعاً كما في إلحاق الإثبات بالنفي أو الوجوب بالتحريم وبالعكس فقد بينا وجه الاختلاف في صحته وأن المختار إبطاله.
الاعتراض الرابع والعشرون :سؤال القلب وهو قسمان: الأول قلب الدعوى والآخر قلب الدليل.
أما قلب الدعوى فضربان وذلك لأن الدعوى إما أن يكون الدليل مضمراً فيها أو لا يكون كذلك فإن كان الأول فهو كما لو قال الأشعري أعلم بالضرورة أن كل موجود مرئي فهذه دعوى فيها إضمار الدليل وتقديره لأنه موجود إذ الوجود هو المصحح للرؤية عنده فقال المعتزلي: أعلم بالضرورة أن كل ما ليس في جهة لا يكون مرئياً.
فهذه الدعوى مقابلة للأولى من جهة أن الموجود ينقسم إلى ما هو في جهة وإلى ما ليس في جهة فالقول بأن ما ليس في جهة لا يكون مرئيا يقابل قول القائل: كل موجود مرئي ودليلها مضمر فيها وتقديره أن انتفاء الجهة مانع من الرؤية.
وأما إن لم يكن الدليل مضمراً فيها فكما لو قال القائل في مسألة إفضاء النظر إلى العلم أو في مسألة التحسين والتقبيح مثلاً: أعلم بالضرورة أن النظر لا يفضي إلى العلم وأن الكفر قبيح لعينه والشكر حسن لعينه.
فقال المعترض أعلم بالضرورة أن النظر يفضي إلى العلم وأن الكفر ليس قبيحاً لعينه ولا الشكر حسناً لعينه وهذا هو عين مقابلة بالفاسد والمقصود منه استنطاق المدعي باستحالة دعوى الضرورة من خصمه في محل الخلاف فيقال: وهذا لازم لك أيضاً وقد أورد الجدليون في هذا الباب قلب الاستبعاد في الدعوى وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة إلحاق الولد بأحد الأبوين المدعيين تحكيم الولد في ذلك تحكم بلا دليل فقال الحنفي: وتحكيم القائف في ذلك أيضاً تحكم بلا دليل.
قالوا والمقصود منه أيضاً استنطاق المدعي بأن ما ذكره ليس بتحكم بل له مأخذ صحيح فيقول المعترض: وكذلك ما ذكرته وهو في غاية البعد فإنه إما أن يعترف المدعى بأن ما ذهب إليه تحكم أو أن يبين مأخذه فيه فإن كان تحكماً فلا تغني معارضته بتحكمه في مذهبه في إبطال دعواه التحكم في مذهب خصمه وإن بين له مأخذاً فلا يلزم منه أن يكون ما استبعده من مذهب خصمه كذلك وإن تعرض المعترض لبيان المأخذ فيما استبعده المدعي فهو الجواب ولا حاجة إلى القلب.(1/395)
وأما قلب الدليل وهو عبارة عن بيان كون ما ذكره المستدل يدل عليه ثم لا يخلو إما أن يسلم المعترض أن ما ذكره المستدل من الدليل يدل له من وجه أو يبين أنه لا دلالة له على مذهب المستدل ولا من وجه فإن بين أن ما ذكره لا يدل له وهو دليل عليه فهذا قلما يوجد له مثال في غير المنصوص وذلك كما لو استدل في توريث الخال بقوله عليه السلام: " الخال وارث من لا وارث له " فقال المعترض: المراد به نفي توريث الخال بطريق المبالغة كما يقال: الجوع زاد من لا زاد له والصبر حيلة من لا حيلة له معناه نفي كون الجوع زاداً والصبر حيلة.
ويدل على إرادة هذا الاحتمال أنه لا يخلو إما أن يكون المراد من قوله: " لا وارث له " نفي كل وارث فتوريث الخال لا يتوقف عند من يراه وارثاً على نفي جميع الوراث لإرثه مع الزوج والزوجة وإما نفي من عداه من الوراث بجهة العصوبة فتخصيص الخال بالذكر لا يكون مفيداً لأن من عداه من ذوي الأرحام كذلك وهذا النوع من القلب وإن دل على مذهب المعترض فهو شبيه بفساد الوضع من حيث إنه لا يدل على مذهب المستدل.
وإن سلم أن ما ذكره المستدل يدل له من وجه فهذا النوع من القلب ثلاثة أقسام وذلك لأن المعترض إما أن يتعرض في القلب لتصحيح مذهبه أو لإبطال مذهب المستدل: وإن تعرض لإبطال مذهب المستدل فإما أن يتعرض له صريحاً بأن يجعله حكماً للدليل بلا واسطة أو لا بصريحه بل بطريق الالتزام بأن يرتب على الدليل حكما يلزم منه إبطال مذهب المستدل.
فإن كان من القسم الأول فهو كما لو قال الحنفي مثلاً في مسألة الاعتكاف لبث محض فلا يكون قربة بنفسه كالوقوف بعرفة فقال المعترض لبث محض فلا يشترط الصوم في صحته كالوقوف بعرفة فكل واحد منهما قد تعرض في دليله لتصحيح مذهبه غير أن المستدل أشار بعلته إلى اشتراط الصوم بطريق الالتزام والمعترض أشار إلى نفي اشتراطه صريحاً وعند التحقيق فتعليل المستدل في هذا المثال لنفي القربة ليس تعليلاً بمناسب يقتضي نفي القربة بل بانتفاء المناسب من حيث إن اللبث المحض لا يناسب ولا يشم منه رائحة المناسبة للقرابة وتعليل المعترض بأمر طردي فإنه لا مناسبة في اللبث المحض لنفي اشتراط الصوم وقد يتفق أن يكون المستدل قد تعرض لتصحيح مذهبه صريحا والمعترض كذلك كما لو قال الشافعي في إزالة النجاسة: طهارة تراد لأجل الصلاة فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث فقال المعترض: طهارة تراد لأجل الصلاة فتصبح بغير الماء كطهارة الحدث فكل واحد منهما متعرض في الدليل لتصحيح مذهبه صريحاً والعلة في الطرفين شبهية.
وإن كان من القسم الثاني: وهو أن يتعرض المعترض في القلب لإبطال مذهب المستدل صريحاً فمثاله ما لو قال الحنفي في مسألة مسح الرأس: عضو من أعضاء الوضوء فلا يكتفي فيه بأقل ما ينطلق عليه الاسم كسائر الأعضاء.
فقال الشافعي: عضو من أعضاء الوضوء فلا يتقدر بالربع كسائر الأعضاء فكل واحد منهما قد صرح في دليله بإبطال مذهب خصمه وليس في ذلك ما يدل على تصحيح مذهب أحدهما فإنه ليس يلزم من إبطال مذهب كل واحد منهما تصحيح مذهب الآخر لجواز أن يكون الصحيح هو مذهب مالك وهو وجوب الاستيعاب.
نعم لو كان القائل في المسألة قائلان والاتفاق منهما واقع على نفي قول ثالث فإنه يلزم من تعرض كل واحد منهما لإبطال مذهب الآخر تصحيح مذهبه ضرورة الاجتماع على إبطال قول ثالث وذلك كالحكم بالأولوية في مسألة التخلي للعبادة.
وإن كان من القسم الثالث: فهو كما لو قال الحنفي في مسألة بيع الغائب: عقد معاوضة فيصح مع الجهل بالمعوض كالنكاح فقال الشافعي: عقد معاوضة فلا يشترط فيه خيار الرؤية كالنكاح فإن المعترض في هذا المثال لم يتعرض لإبطال مذهب المستدل في القول بالصحة صريحاً بل بطريق الالتزام.
وذلك أن من قال بالصحة فقد قال بخيار الرؤية فخيار الرؤية لازم الصحة فإذا بطل خيار الرؤية فقد انتفى اللازم ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم.(1/396)
ويلتحق بأذيال هذا القسم الثالث قلب التسوية ومثاله قول الحنفي في مسألة إزالة النجاسة بالخل: مائع طاهر مزيل للعين والأثر فتحصل به الطهارة كالماء فيقول الشافعي: مائع طاهر مزيل للعين والأثر فتستوي فيه طهارة الحدث والخبث كالماء فإنه يلزم من القول بالتسوية في الخل بين طهارة الحدث والخبث عدم حصول الطهارة بالخل في الخبث لعدم حصولها به في الحدث والحكم بالتسوية.
واعلم أن أعلى مراتب أنواع القلب ما بين فيه أنه يدل على المستدل ولا يدل له ثم يليه النوع الثاني وهو ما بين فيه أنه يدل له وعليه وأعلى مراتب هذا النوع ما صرح فيه بإثبات مذهب المعترض وهو القسم الأول منه ثم ما صرح فيه بإبطال مذهب المستدل فإنه دون ما قبله من حيث إنه لا يلزم منه تصحيح مذهبه على ما تقدم وهو القسم الثاني منه ثم القسم الثالث فإنه وإن شارك ما قبله من القسم الثاني في إبطال مذهب المستدل إلا أنه يدل عليه بطريق الالتزام وما قبله بصريحه وهذا النوع من القلب لا تعرض فيه لدلالة المستدل بالقدح بل غايته بيان دلالة أخرى منه تدل على نقيض مطلوبه فكان شبيهاً بالمعارضة وإن فارقها من جهة أنه معارضة نشأت من نفس دليل المستدل.
وإذا أتينا على ما أردناه من تحقيق معنى القلب وأقسامه فقد اختلف في قبوله: فقبله قوم من حيث إنه يشير إلى ضعف الدليل لدلالته على نقيض مذهب المستدل ورده آخرون من حيث إن المعترض إما أن يتعرض في دليله لنقيض حكم المستدل أو إلى غيره: فإن كان الأول فقد تعذر عليه القياس على أصل المستدل لاستحالة اجتماع حكمين متقابلين مجمع عليهما في صورة واحدة وإن كان الثاني فلا يكون ذلك اعتراضاً على الدليل.
والحق في ذلك أنه وإن تعرض في الدليل لحكم يقابل حكم المستدل صريحاً فقد لا يمتنع الجمع بينهما في أصل واحد كما ذكرناه من مثال إزالة النجاسة في القسم الأول وإن تعرض لغيره فيصح القلب إذا كان ذلك لازماً عما ذكره المعترض كما ذكرناه من المثال في القسم الثاني من النوع الثاني من التمثيل في مسألة بيع الغائب ومن التمثيل بقلب التسوية في إزالة النجاسة وإنما يمتنع قبوله لأن ما ذكره المستدل إما أن يكون مقصود الشارع من الحكم المرتب عليه ملازماً له أو لا يكون كذلك: فإن كان الأول فتعليل المعترض به لمقابل حكم المستدل إما أن يكون بحيث يلزمه مقصود من مقابل الحكم أو لا يكون كذلك: فإن كان الأول فإما أن يكون ذلك من جهة ما علل به المستدل أو من غيرها: فإن كان الأول فمحال أن يكون الوصف الواحد من جهة واحدة يناسب الحكم ومقابله وإن كان الثاني فما ذكره ليس بقلب إذ القلب لا بد فيه من اتحاد العلة في القياسين بل هو معارضة بدليل آخر وإن كان بحيث لا يلازمه المقصود فهو بالنسبة إلى حكم المعترض طردي ووصف المستدل مناسب أو شبهي فلا يكون قادحاً فيه وإن كان ما ذكره المستدل طردياً بالنسبة إلى ما رتبه عليه فهو باطل في نفسه لتعذر التعليل بالطردي المحض ولا حاجة إلى شيء من الاعتراضات.
الاعتراض الخامس والعشرون: سؤال القول بالموجب وحاصله يرجع إلى تسليم ما اتخذه المستدل حكماً لدليله على وجه لا يلزم منه تسليم الحكم المتنازع فيه ومهما توجه على هذا الوجه كان المستدل منقطعاً لتبين أن ما نصه من الدليل لم يكن متعلقاً بمحل النزاع وهو منحصر في قسمين وذلك لأن المستدل إما أن ينصب دليله على تحقيق مذهبه وما نقل عن إمامه من الحكم أو على إبطال ما يظنه مدركاً لمذهب خصمه.
فإن كان الأول: فهو كما لو قال الشافعي في الملتجىء إلى الحرم وجد سبب جواز استيفاء القصاص فكان استيفاؤه جائزاً فقال الخصم أقول بموجب هذا الدليل فإن استيفاء القصاص عندي جائز.وإنما النزاع في جواز هتك حرمة الحرم.
وإن كان الثاني فهو كما لو قال الشافعي في مسألة استيلاد الأب جارية ابنه: وجوب القيمة لا يمنع من إيجاب المهر كاستيلاد أحد الشريكين أو قال في مسألة القتل بالمثقل: التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص كالتفاوت في المتوسل إليه.(1/397)
فقال الخصم: أقول بموجب هذا الدليل وأن وجوب القيمة لا يمنع من وجوب المهر والتفاوت في الوسيلة لا يمنع من التفاوت في المتوسل إليه والنزاع إنما هو في وجوب المهر ووجوب القصاص ولا يلزم من إبطال ما ذكر من الموانع إثبات وجوب المهر والقصاص لجواز انتفاء المقتضي لذلك أو وجود مانع آخر أو فوات شرط.
وورود هذا النوع من القول بالموجب أغلب في المناظرات من ورود النوع الأول من جهة أن خفاء المدارك أغلب من خفاء الأحكام لكثرة المدارك وتشعبها وعدم الوقوف على ما هو معتمد الخصم من جملتها بخلاف الأحكام فإنه قلما يتفق الذهول عنها.
ولهذا قد يشترك في معرفة الحكم المنقول عن الإمام الخواص والعوام دون معرفة المدارك فكان احتمال الخطإ في اعتقاد كون المدرك المعين هو مدرك الإمام أقرب من احتمال الخطإ فيما ينسب إلى الإمام من الحكم المدلول عليه.
وقد اختلف الجدليون في وجوب تكليف المعترض إبداء مستند القول بالموجب في هذا النوع فقال بعضهم: لا بد من تكليفه بذلك لاحتمال أن يكون هذا هو المأخذ عنده فإذا علم أنه لا يكلف بإبداء المأخذ عند إيراد القول بالموجب فقد يقول بذلك عناداً قصداً لإيقاف كلام خصمه ولا كذلك إذا وظف عليه بيان المأخذ فكان أفضى إلى صيانة الكلام عن الخبط والعناد فكان أولى.
وقال آخرون: لا وجه لتكليفه بذلك بعد وفائه بشرط القول بالموجب وهو استبقاء محل النزاع وهو الأظهر لأنه عاقل متدين وهو أعرف بمأخذ إمامه فكان الظاهر من حاله الصدق فيما ادعاه فوجب تصديقه كيف وإنا لو أوجبنا عليه إبداء المأخذ فإن مكنا المستدل من إبطاله والاعتراض عليه يلزم منه قلب المستدل معترضاً والمعترض مستدلاً ولا يخفى ما فيه من الخبط.
وإن لم يمكن من ذلك فلا فائدة في إبداء المأخذ لإمكان ادعائه ما يصلح للتعليل ترويحاً لكلامه ثقة منه بامتناع ورود الاعتراض عليه وللمستدل في دفع القول بالموجب بالاعتبار الأول طرق.
الأول أن يقول: المسألة مشهورة بالخلاف فيما فرض فيه الكلام إن أمكن والشهرة بذلك دليل وقوع الخلاف فيه.
الثاني: أن يبين أن محل النزاع لازم فيما فرض الكلام فيه وذلك كما لو كان حكم دليله أنه لا يجوز قتل المسلم بالذمي فقال المعترض: هو عندي غير جائز بل واجب فيقول المستدل المعنى بعدم الجواز لزوم التبعة بفعله ويلزم من ذلك نفي الوجوب لاستحالة لزوم التبعة بفعل الواجب.
الثالث: أن يقول المستدل القول بالموجب فيه تغيير كلامي عن ظاهره فلا يكون قولاً بموجبه وذلك كما لو كان المستدل قد قال في زكاة الخيل: حيوان تجوز المسابقة عليه فوجبت فيه الزكاة قياساً على الإبل.
فقال المعترض: عندي تجب فيه زكاة التجارة والنزاع إنما هو في زكاة العين فيقول المستدل إذا كان النزاع في زكاة العين فظاهر كلامي منصرف إليها لقرينة الحال ولظهور عود الألف واللام في الزكاة إلى المعهود وأيضاً فإن لفظ الزكاة يعم زكاة العين والتجارة فالقول به في زكاة التجارة قول بالموجب في صورة واحدة وهو غير متجه لأن موجب الدليل التعميم فالقول ببعض الموجب لا يكون قولاً بالموجب بل ببعضه.
وكذلك إذا قال في مسألة إزالة النجاسة: مائع لا يزيل الحدث فلا يزيل الخبث كالمرقة فقال المعترض: أقول به فإن الخل النجس لا يزيل الحدث ولا الخبث فيقول المستدل: ظاهر كلامي إنما هو الخل الطاهر ضرورة وقوع النزاع فيه وإيراد القول بالموجب على وجه يلزم منه تغيير كلام المستدل عن ظاهره لا يكون قولاً بمدلوله وموجبه بل بغيره فلا يكون مقبولاً وله في دفع القول بالموجب بالاعتبار الثاني أيضاً طرق الأول: أن يكون المستدل قد أفتى بما وقع مدلولاً لدليله وفرض المعترض الكلام معه فيه وطالبه بالدليل عليه فإذا قال بالموجب بعد ذلك فقد سلم ما وقع النزاع فيه وأفسد على نفسه القول بالموجب بالمطالبة بالدليل عليه أولاً.
وبمثل هذا يمكن أن يجاب عن القول بالاعتبار الأول أيضاً الثاني: أن يبين لقب المسألة مشهور بذلك بين النظار كما سبق تقريره أولاً.(1/398)
الثالث: أن يبين أن محل النزاع لازم من مدلول دليله إن أمكن وذلك بأن يكون المعترض قد ساعد على وجود المقتضي لوجوب القصاص وكانت الموانع التي يوافق المستدل عليها منتفيةً والشروط متحققة.فإذا أبطل كون المانع المذكور مانعاً فيلزم منه الحكم المتنازع فيه ظاهراً.
وأما قياس الدلالة والقياس في معنى الأصل فيرد عليهما كل ما كان وارداً على قياس العلة سوى الأسئلة المتعلقة بمناسبة الوصف الجامع فإنها لا ترد عليهما أما قياس الدلالة فلأن الوصف الجامع فيه ليس بعلة وأما القياس في معنى الأصل فلعدم ذكر الجامع فيه.
والأسئلة الواردة على نفس الوصف الجامع لا ترد على القياس في معنى الأصل لعدم ذكر الجامع فيه ويختص قياس الدلالة بسؤال آخر وهو عند ما إذا كان الجامع بين الأصل والفرع أحد موجبي الأصل كما إذا قال القائل في مسألة الأيدي باليد الواحدة أحد موجبي الأصل فالطرف المعصوم يساوي النفس فيه دليله الموجب الثاني وقرره بأن الدية أحد الموجبين في الأصل وهي واجبة في الفرع على الكل ويلزم من وجود أحد الموجبين في الفرع وجود الموجب الآخر وذلك لأن علة الموجبين في الأصل إما أن تكون واحدةً أو متعددةً :فإن كانت واحدةً فيلزم من وجود أحد موجبيها في الفرع وجودها فيه ومن وجودها فيه وجود الموجب الآخر وهو القصاص على الكل.
وإن كانت متعددةً فتلازم الحكمين في الأصل دليل تلازم العلتين وعند ذلك فيلزم من وجود أحد الحكمين في الفرع وجود علته التي وجد بها في الأصل ويلزم من وجود علته وجود علة الحكم الآخر.
والسؤال الوارد عليه أن يقال: لا يلزم من وجود أحد حكمي الأصل في الفرع وجود الحكم الآخر سواء اتحدت علتهما في الأصل أو تعددت أما إذا اتحدت فلأنه لا يمتنع عند تعدد المحال وإن اتحد نوع الحكم أن يكون الحكم الثابت في الفرع ثابتاً بغير علة الأصل وهو الأولى لما فيه من تكثير مدارك الحكم فإنه أفضى إلى اقتناص مقصود الشارع من الحكم مما إذا اتحد المدرك وإذا كان كذلك فلا يلزم منه وجود الحكم الآخر لجواز أن لا تكون علة الفرع مستقلةً بإثبات الحكم الآخر كاستقلال علة الأصل.
وأما إذا تعددت العلة فإن وقع التلازم بينهما فلجواز أن تكون علة الحكم الثابت في الفرع غير علته في الأصل لما ذكرناه وعند ذلك فلا يلزم منها وجود العلة الأخرى في الفرع فإنه لا يلزم من التلازم بين علة ذلك الحكم وعلة الحكم الآخر في الأصل التلازم بين علته في الفرع وعلة الحكم الآخر وعلى هذا لا يكون الحكم الآخر لازماً في الفرع.
وجوابه أن يقال: ثبوت أحد الحكمين في الفرع يدل ظاهراً على وجود علته التي ثبت بها في الأصل وإن جاز ثبوته في الفرع بغيرها لأن الأصل عدم وجود علة أخرى غير علته في الأصل.
والقول بأن تعدد المدارك أولى معارض بأن الاتحاد أولى لما فيه من التعليل بعلة مطردة منعكسة وما ذكروه وإن كانت العلة فيه مطردةً إلا أنها غير منعكسة والتعليل بالعلة المطردة المنعكسة متفق عليه بخلاف غير المنعكسة فكانت أولى.
فإن قيل: وكما أن الأصل عدم علة أخرى في الفرع غير علة الأصل فالأصل عدم علة الأصل في الفرع وليس العمل بأحد الأصلين أولى من الآخر.
قلنا: بل العمل بما ذكرناه أولى لأن العلة فيه تكون متعدية وهي متفق على صحة التعليل بها وما ذكروه يلزم منه أن تكون العلة في الأصل قاصرة لأن الأصل عدم وجودها في صورة أخرى وهي مختلف في صحة التعليل بها فكان ما ذكرناه أولى.
خاتمة لهذا الباب في ترتيب الأسئلة الواردة على القياس والاعتراضات الواردة على القياس أما أن تكون من جنس واحد كالنقوض أو المعارضات في الأصل أو في الفرع وإما أن تكون من أجناس مختلفة كالمنع والمطالبة والنقض والمعارضة ونحوها.
فإن كان الأول فقد اتفق الجدليون على جواز إيرادها معاً إذ لا يلزم منها تناقض ولا نزول عن سؤال إلى سؤال.
وإن كان الثاني فلا يخلو: إما أن تكون الأسئلة غير مرتبة أو مرتبة: فإن كانت غير مرتبة فقد أجمع الجدليون على جواز الجمع بينهما سوى أهل سمرقند فإنهم أوجبوا الاقتصار على سؤال واحد لقربه إلى الضبط وبعده عن الخبط.(1/399)
ويلزمهم على ذلك ما كان من الأسئلة المتعددة من جنس واحد فإنها وإن أفضت إلى النشر فالجمع بينها مقبول من غير خلاف بين الجدليين وإن كانت مرتبةً فقد منع منه أكثر الجدليين من حيث إن المطالبة بتأثير الوصف بعد منع وجوده نزول عن المنع ومشعر بتسليم وجوده لأنه لو بقي مصراً على منع وجود الوصف فالمطالبة بتأثير ما لا وجود له محال.
وعند ذلك فلا يستحق المعترض غير جواب الأخير من الأسئلة ومنهم من لم يمنع منه وذلك بأن يورد المطالبة بتأثير الوصف بعد منع وجود الوصف مقدراً لتسليم وجود الوصف وذلك بأن يقول: وإن سلم عن المنع تقديراً فلا يسلم عن المطالبة وغيرها ولا شك أنه أولى لعدم إشعاره بالمناقضة والعود إلى منع ما سلم وجوده أولا كمنع وجود الوصف بعد المطالبة بتأثيره المشعر بتسليم وجوده وهذا هو اختيار الأستاذ أبي إسحاق وهو المختار.
وإذا كان لا بد من رعاية الترتيب في الأسئلة فأول ما تجب البداية به سؤال الاستفسار لأن من لا يعرف مدلول اللفظ لا يعرف ما يتجه عليه.
ثم بعده سؤال فساد الاعتبار لأنه نظر في فساده من جهة الجملة قبل النظر في تفصيله ثم سؤال فساد الوضع لأنه أخص من سؤال فساد الاعتبار كما سبق تقريره والنظر في الأعم يجب أن يكون قبل النظر في الأخص.
ثم بعده منع الحكم في الأصل ويجب أن يكون مقدماً على ما يتعلق بالنظر في العلة لأن العلة مستنبطة من حكم الأصل فهي فرع عليه والكلام في الفرع يجب تأخيره عن الكلام في أصله ثم بعده منع وجود العلة في الأصل.
ثم بعده النظر فيما يتعلق بعلية الوصف كالمطالبة وعدم التأثير والقدح في المناسبة والتقسيم وكون الوصف غير ظاهر ولا منضبط وكون الحكم غير صالح لإفضائه إلى المقصود منه.
ثم بعده النقض والكسر لكونه معارضاً لدليل العلية ثم بعده المعارضة في الأصل لأنه معارضة لنفس العلة فكان متأخراً عن المعارض لدليل العلية والتعدية والتركيب لأن حاصلهما يرجع إلى المعارضة في الأصل كما سبق تقريره.
ثم بعده ما يتعلق بالفرع كمنع وجود العلة في الفرع ومخالفة حكمه لحكم الأصل ومخالفته للأصل في الضابط والحكمة والمعارضة في الفرع وسؤال القلب.
ثم بعد ذلك القول بالموجب لتضمنه تسليم كل ما يتعلق بالدليل المثمر له من تحقيق شروطه وانتفاء القوادح فيه وهذا آخر الأصل الخامس.
الأصل السادس
في معنى الاستدلال وأنواعه
أما معناه في اللغة فهو استفعال من طلب الدليل والطريق المرشد إلى المطلوب.
وأما في اصطلاح الفقهاء فإنه يطلق تارةً بمعنى ذكر الدليل وسواء كان الدليل نصاً أو إجماعاً أو قياساً أو غيره ويطلق تارةً على نوع خاص من أنواع الأدلة وهذا هو المطلوب بيانه هاهنا.
وهي عبارة عن دليل لا يكون نصاً ولا إجماعاً ولا قياساً.
فإن قيل: تعريف الاستدلال بسلب غيره من الأدلة عنه ليس أولى من تعريف غيره من الأدلة بسب حقيقة الاستدلال عنه.
قلنا: إنما كان تعريف الاستدلال بما ذكرناه أولى بسبب سبق التعريف لحقيقة ما عداه من الأدلة دون تعريف الاستدلال كما سبق وتعريف الأخفى بالأظهر جائز دون العكس.
وإذا عرف معنى الاستدلال فهو على أنواع منها قولهم: وجد السبب فثبت الحكم ووجد المانع وفات الشرط فينتفي الحكم فإنه دليل من حيث إن الدليل ما يلزم من ثبوته لزوم المطلوب قطعاً أو ظاهراً ولا يخفى لزوم المطلوب من ثبوت ما ذكرناه فكان دليلاً وليس هو نصاً ولا إجماعاً ولا قياساً فكان استدلالاً.
فإن قيل: تعريف الدليل بما يلزم من إثباته الحكم المطلوب تعريف للدليل بالمدلول والمدلول لا يعرف إلا بدليله فكان دوراً ممتنعاً وإن سلمنا صحة الحد ولكن لا نسلم أن المذكور ليس بقياس فإنه إذا آل الأمر إلى إثبات المدعى كان مفتقراً إلى المناسبة والاعتبار ولا معنى للقياس سوى هذا.
قلنا: أما الدور فإنما يلزم أن لو اتحدت جهة التوقف وليس كذلك وذلك لأن المطلوب إنما يتوقف على الدليل من جهة وجوده في آحاد الصور لا من جهة حقيقته لأنا نعرف حقيقة الحكم من حيث هو حكم وإن جهلنا دليل وجوده والدليل إنما يتوقف على لزوم المطلوب له من جهة حقيقته لا من جهة وجوده في آحاد الصور.(1/400)
وإذا اختلفت الجهة فلا دور وما ذكروه في تحقيق كونه قياساً فإنما يلزم أن لو كان تقرير السببية والمانعية والشرطية لا يكون إلا بما ذكروه وليس ذلك بلازم لإمكان تقريره بنص يدل عليه أو إجماع والثابت بالنص أو الإجماع لا يكون نصاً ولا إجماعاً كما تقرر قبل والاعتراضات الواردة على طريق تقريره ووجوه الانفصال عنها غير خافية.
ومنها نفي الحكم لانتفاء مداركه كقولهم: الحكم يستدعي دليلاً ولا دليل فلا حكم أما أنه يستدعي دليلاً فبالضرورة وأما أنه لا دليل فلا يدل عليه سوى البحث والسبر وإن الأصل في الأشياء كلها العدم وطريق الاعتراض بإبداء ما يصلح دليلاً من نص أو إجماع أو قياس أو استدلال.
وجوابه بالقدح في الدليل المذكور بما يساعد في كل موضع على حسبه ولا يخفى وقد ترد عليه أسئلة كثيرة أوردناها في كتاب المؤاخذات وقررناها اعتراضاً وانفصالاً فعليك بالالتفات إليها.
ومنها الدليل المؤلف من أقوال يلزم من تسليمها لذاتها تسليم قول آخر.وذلك القول اللازم إما أن لا يكون ولا نقيضه مذكوراً فيما لزم عنه بالفعل أو هو مذكور فيه.
فإن كان الأول فيسمى اقترانياً وأقل ما يتركب من مقدمتين ولا يزيد عليهما.وكل مقدمة تشتمل على مفردين الواحد منهما مكرر في المقدمتين ويسمى حداً أوسط والمفردان الآخران اللذان بهما افتراق المقدمتين منهما يكون المطلوب اللازم ويسمى أحدهما وهو ما كان محكوم به في المطلوب حداً أكبر وما كان منهما محكوما عليه في المطلوب يسمى حداً أصغر والمقدمة التي فيها الحد الأكبر كبرى والتي فيها الحد الأصغر صغرى.
ثم هيئة الحد الأوسط في نسبته إلى الحدين المختلفين تسمى شكلاً وهيئته في النسبة إما بكونه محمولاً على الحد الأصغر وموضوعاً للحد الأكبر ويسمى الشكل الأول وإما بكونه محمولاً عليهما ويسمى الشكل الثاني وإما بكونه موضوعا لهما ويسمى الشكل الثالث وإما بكونه موضوعاً للأصغر ومحمولاً على الأكبر ويسمى الشكل الرابع.
وهو بعيد عن الطباع ومستغنى عنه بباقي الأشكال فلنقتصر على ذكر ما قبله من الأشكال الثلاثة.
أما الشكل الأول منها: فهو أبينها وما بعده فمتوقف في معرفة ضروبه عليه وهو منتج للمطالب الأربعة الكلي موجباً وسالباً والجزئي موجباً وسالباً.
وشرطه في الإنتاج إيجاب صغراه وأن تكون في حكم الموجبة وكلية كبراه.
وضروبه المنتجة أربعة : الضرب الأول: من كليتين موجبتين كقولنا: كل وضوء عبادة وكل عبادة تفتقر إلى النية. واللازم كل وضوء يفتقر إلى النية.
الضرب الثاني: من كلية صغرى موجبة كلية كبرى سالبة كقولنا: كل وضوء عبادة ولا شيء من العبادة يصح بدون النية واللازم لا شيء من الوضوء يصح بدون النية.
الضرب الثالث: بعض الوضوء عبادة وكل عبادة تفتقر إلى النية واللازم بعض الوضوء يفتقر إلى النية.
الضرب الرابع: بعض الوضوء عبادة ولا شيء من العبادة يصح بدون النية واللازم بعض الوضوء لا يصح بدون النية.
الشكل الثاني: وشروطه في الإنتاج اختلاف مقدمتيه في الكيفية وكلية كبراه.
وضروبه المنتجة أربعة : الضرب الأول: من كليتين الصغرى موجبة والكبرى سالبة كقولنا كل بيع غائب فصفات المبيع فيه مجهولة ولا شيء مما يصح بيعه صفات المبيع فيه مجهولة واللازم لا شيء من بيع الغائب صحيح.
الضرب الثاني: من كلية صغرى سالبة وكلية كبرى موجبة كقولنا لا شيء من بيع الغائب معلوم الصفات وكل بيع صحيح فمعلوم الصفات واللازم كالذي قبله.
الضرب الثالث: من جزئية صغرى موجبة وكلية كبرى سالبة كقولنا بعض بيع الغائب مجهول الصفات ولا شيء مما يصح بيعه مجهول الصفات ولازمه بعض بيع الغائب لا يصح.
الضرب الرابع: من جزئية صغرى سالبة وكلية كبرى موجبة كقولنا ليس كل بيع غائب معلوم الصفات وكل بيع صحيح معلوم الصفات ولازمه كلازم الذي قبله.(1/401)
والإنتاج في هذا الشكل غير بين بنفسه بل هو مفتقر إلى بيان وذلك بأن تعكس الكبرى من الأول وتبقيها كبرى بحالها فإنه يعود إلى الضرب الثاني من الشكل الأول ناتجاً عين المطلوب وتعكس الصغرى من الثاني فتجعلها كبرى ثم تستنتج وتعكس النتيجة فيعود إلى عين المطلوب وأن تعكس الكبرى من الثالث وتبقيها كبرى بحالها فأنه يعود إلى الضرب الرابع من الشكل الأول ناتجاً عين المطلوب والضرب الرابع منه لا يتبين بالعكس لأنك إن عكست الكبرى منه عادت جزئية ولا قياس عن جزئيتين والصغرى فلا عكس لها.
وإن شئت بينت الإنتاج بالخلف وهو أن تأخذ نقيض النتيجة من كل ضرب منه وتجعله صغرى للمقدمة الكبرى من ذلك الضرب فإنه ينتج نقيض المقدمة الصغرى الصادقة وهو محال وليس لزوم المحال عن نفس الصورة القياسية لتحقق شروطها ولا عن نفس المقدمة الكبرى لكونها صادقةً فكان لازماً عن نقيض المطلوب فكان محالاً وإلا لما لزم عنه المحال وإذا كان نقيض المطلوب محالاً كان المطلوب الأول هو الصادق.
الشكل الثالث: وشرط إنتاجه إيجاب صغراه أو أن تكون في حكم الموجبة وكلية إحدى مقدميته ولا ينتج غير الجزئي الموجب والسالب.وضروبه المنتجة ستة : الضرب الأول: من كليتين موجبتين كقولنا: كل برً مطعوم وكل برً ربوي ولازمه بعض المطعوم ربوي.
الضرب الثاني: من جزئية صغرى موجبة وكلية موجبة كبرى كقولنا: بعض البر مطعوم وكل برً ربوي ولازمه كلازم ما قبله.
الضرب الثالث: من كلية موجبة صغرى وجزئية موجبة كبرى كقولنا: كل برً مطعوم وبعض البر ربوي ولازمه كلازم ما قبله.
الضرب الرابع: من كلية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى كقولنا: كل بر مطعوم ولا شيء من البر يصح بيعه بجنسه متفاضلاً ولازمه لا شيء من المطعوم يصح بيعه يجنسه متفاضلاً.
الضرب الخامس: من جزئية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى كقولنا: بعض البر ربوي ولا شيء من البر يصح بيعه بجنسه متفاضلاً ولازمه كلازم ما قبله.
الضرب السادس: من كلية موجبة صغرى وجزئية سالبة كبرى كقولنا: كل برً مطعوم وبعض البر لا يصح بيعه بجنسه متفاضلاً ولازمه كلازم ما قبله.
وإنتاج هذا الشكل غير بين بنفسه دون بيان وهو أن تعكس الصغرى من الأول والثاني وتبقيها صغرى بحالها فإنه يعود إلى الضرب الثالث من الشكل الأول ناتجاً عين المطلوب وتعكس الصغرى من الرابع والخامس وتبقيها صغرى بحالها فإنه يعود إلى الضرب الرابع من الشكل الأول ناتجاً عين المطلوب وتعكس الكبرى من الثالث وتجعلها صغرى للصغرى ثم تعكس النتيجة فتعود إلى عين المطلوب.
وأما السادس منه فلا يتبين بالعكس لأنك إن عكست الصغرى عادت جزئية ولا قياس عن جزيئتين والكبرى فلا عكس لها.
وإن شئت بينت بالخلف وهو أن تأخذ نقيض النتيجة وتجعله كبرى للصغرى في جميع ضروبه فإنه ينتج نقيض المقدمة الكبرى الصادقة ويلزم من ذلك كذب النقيض لما بيناه في الشكل الثاني.ويلزمه صدق المطلوب الأول.
وأما إن كان القسم الثاني وهو أن يكون اللازم أو نقيضه مذكوراً فيما لزم عنه بالفعل فيسمى استثنائياً.
ولا بد فيه من قضيتين إحداهما استثنائية لعين أحد جزئي القضية الأخرى أو نقيضه ثم القضية المستثنى منها لا بد فيها من جزئين بينهما نسبة بإيجاب أو سلب.
والنسبة الإيجابية بينهما إما أن تكون باللزوم والاتصال وفي حالة السلب برفعه أو بالعناد والانفصال وفي حالة السلب برفعه.
فإن كان الأول فتسمى تلك القضية شرطيةً متصلةً وأحد جزئيها وهو ما دخل عليه حرف الشرط مقدماً والثاني وهو ما دخل عليه حرف الجزاء تالياً وما هي مقدمة فيه يسمى قياساً شرطياً متصلاً.
وإن كان الثاني فتسمى منفصلة وما هي مقدمة فيه يسمى قياساً منفصلاً أما الشرطي المتصل فشرط إنتاجه أن تكون النسبة بين المقدم والتالي كليةً أي دائمةً وأن يكون الاستثناء إما بعين المقدم منها أو نقيض التالي وذلك لأن التالي إما أن يكون أعم من المقدم أو مساوياً له.
ولا يجوز أن يكون أخص منه وإلا كانت القضية كاذبة.وعند ذلك فاستثناء عين المقدم يلزم منه عين التالي سواء كان التالي أعم من المقدم أو مساوياً له.(1/402)
واستثناء نقيض التالي يلزم منه نقيض المقدم.وأما استثناء نقيض المقدم وعين التالي فلا يلزم منه شيء لجواز أن يكون التالي أعم من المقدم فلا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم ولا من وجود الأعم وجود الأخص.
وإن لزم ذلك فإنما يكون عند التساوي بينهما فلا يكون الإنتاج لازماً لنفس صورة الدليل بل لخصوص المادة وذلك كما في قولنا: دائماً إن كان هذا الشيء إنساناً فهو حيوان لكنه إنسان فيلزمه أنه حيوان أو لكنه ليس بحيوان فيلزمه أنه ليس إنساناً.
وأما المنفصل فالمنفصلة منه إما أن تكون مانعة الجمع بين الجزأين والخلو معاً أو مانعة الجمع دون الخلو أو مانعة الخلو دون الجمع.
فإن كان الأول فيلزم من استثناء عين كل واحد من الجزئين نقيض الآخر ومن استثناء نقيضه عين الآخر وذلك كما في قولنا: دائماً إما أن يكون العدد زوجاً وإما أن يكون فرداً لكنه زوج فليس بفرد أو لكنه فرد ليس بزوج أو لكنه ليس بزوج فهو فرد أو لكنه ليس بفرد فهو زوج.
وإن كان الثاني فاستثناء عين أحدهما يلزمه نقيض الجزء الآخر ولا يلزم من استثناء نقيض أحدهما عين الآخر ولا نقيضه وذلك كقولنا: دائماً إما أن يكون الجسم جماداً وإما حيواناً لكنه حيوان فليس بجماد أو لكنه جماد.
فليس بحيوان ولا يلزم من استثناء نقيض أحدهما عين الآخر ولا نقيضه.
وإن كان الثالث فاستثناء نقيض كل واحد منهما يلزم منه عين الآخر ولا يلزم من استثناء عين أحدهما عين الآخر ولا نقيضه وذلك كما إذا قلنا: دائماً إما أن يكون المحل لا أسود وإما لا أبيض.
فاستثناء نقيض أحدهما يلزمه عين الآخر ولا يلزم من استثناء عين أحدهما عين الآخر ولا نقيضه.
فهذه جملة ضروب هذا النوع من الاستدلال لخصناها في أوجز عبارة.ومن أراد الاطلاع على ذلك بطريق الكمال والتمام فعليه بمراجعة كتبنا المخصوصة بهذا الفن.
ولا يخفى ما يرد عليها من الاعتراضات من منع المقدمات والقوادح في الأدلة الدالة عليها على اختلاف أنواعها وكذلك الجواب عنها.
ومن أنواع الاستدلال استصحاب الحال وفيه مسألتان : المسألة الأولى في الاستدلال باستصحاب الحال وقد اختلف فيه: فذهب أكثر الحنفية وجماعة من المتكلمين كأبي الحسين البصري وغيره إلى بطلانه.ومن هؤلاء من جوز به الترجيح لا غير.
وذهب جماعة من أصحاب الشافعي كالمزني والصيرفي والغزالي وغيرهم من المحققين إلى صحة الاحتجاج به وهو المختار وسواء كان ذلك الاستصحاب لأمر وجودي أو عدمي أو عقلي أو شرعي وذلك لأن ما تحقق وجوده أو عدمه في حالة من الأحوال فإنه يستلزم ظن بقائه والظن حجة متبعة في الشرعيات على ما سبق تحقيقه.وإنما قلنا إنه يستلزم ظن بقائه لأربعة أوجه.
الأول: أن الإجماع منعقد على أن الإنسان لو شك في وجود الطهارة ابتداء لا تجوز له الصلاة ولو شك في بقائها جازت له الصلاة ولو لم يكن الأصل في كل متحققاً دوامه للزم إما جواز الصلاة في الصورة الأولى أو عدم الجواز في الصورة الثانية وهو خلاف الإجماع.
وإنما قلنا ذلك لأنه لو لم يكن الراجح هو الاستصحاب لم يخل.
إما أن يكون الراجح عدم الاستصحاب أو أن الاستصحاب وعدمه سيان فإن كان الأول فيلزم منه امتناع جواز الصلاة في الصورة الثانية لظن فوات الطهارة وإن كان الثاني فلا يخلو إما أن يكون استواء الطرفين مما تجوز معه الصلاة أو لا تجوز فإن كان الأول فيلزم منه جواز الصلاة في الصورة الأولى وإن كان الثاني فيلزمه عدم جواز الصلاة في الصورة الثانية وكل ذلك ممتنع.
الوجه الثاني: أن العقلاء وأهل العرف إذا تحققوا وجود شيء أو عدمه وله أحكام خاصة به فإنهم يسوغون القضاء والحكم بها في المستقبل من زمان ذلك الوجود أو العدم حتى إنهم يجيزون مراسلة من عرفوا وجوده قبل ذلك بمدد متطاولة وإنفاذ الودائع إليه ويشهدون في الحالة الراهنة بالدين على من أقر به قبل تلك الحالة ولولا أن الأصل بقاء ما كان على على ما كان لما ساغ لهم ذلك.
الثالث: أن ظن البقاء أغلب من ظن التغير وذلك لأن الباقي لا يتوقف على أكثر من وجود الزمان المستقبل ومقابل ذلك الباقي له كان وجوداً أو عدماً.
وأما التغير فمتوقف على ثلاثة أمور: وجود الزمان المستقبل وتبدل الوجود بالعدم أو العدم بالوجود ومقارنة ذلك الوجود أو العدم لذلك الزمان.(1/403)
ولا يخفى أن تحقق ما يتوقف على أمرين لا غير أغلب مما يتوقف على ذينك الأمرين وثالث غيرهما.
الوجه الرابع: إذا وقع العرض فيما هو باق بنفسه الجوهر فقد يقال: غلبة الظن بدوامه أكثر من تغيره فكان دوامه أولى.
وذلك لأن بقاءه مستغن عن المؤثر حالة بقائه لأنه لو افتقر إلى المؤثر فإما أن يصدر عن ذلك المؤثر أثر أو لا يصدر عنه أثر فإن صدر عنه أثر فإما أن يكون هو عين ما كان ثابتاً أو شيئاً متجدداً: الأول محال لما فيه من تحصيل الحاصل والثاني فعلى خلاف الفرض.
وإن لم يصدر عنه أثر فلا معنى لكونه مؤثراً وإذا كان مستغنيا في بقائه عن المؤثر فتغيره لا بد وأن يكون بمؤثر وإلا كان منعدما بنفسه وهو محال وإلا لما بقي وإذا كان البقاء غير مفتقر إلى مؤثر وتغيره مفتقر إلى المؤثر فعدم الباقي لا يكون إلا بمانع يمنع منه.
وأما المتجدد سواء كان عدماً أو وجوداً فإنه قد ينتفي تارةً لعدم مقتضيه وتارةً لمانعه وما يكون عدمه بأمرين يكون أغلب مما عدمه بأمر واحد.
وعلى هذا فالأصل في جميع الأحكام الشرعية إنما هو العدم وبقاء ما كان على ما كان إلا ما ورد الشارع.
بخالفته فإنا نحكم به ونبقى فيما عداه عاملين بقضية النفي الأصلي كوجوب صوم شوال وصلاة سادسة ونحوه.
فإن قيل: لا نسلم أن كل ما تحقق وجوده في حالة من الأحوال أو عدمه فهو مظنون البقاء وما ذكرتموه من الوجه الأول فالاعتراض عليه من وجوه.
الأول: أنا نسلم انعقاد الإجماع على الفرق في الحكم فيما ذكرتموه من الصورتين فإن مذهب مالك وجماعة من الفقهاء إنما هو التسوية بينهما في عدم الصحة وإن سلمنا ذلك وسلمنا أنه لو لم يكن الأصل البقاء في كل متحقق للزم رجحان الطهارة أو المساواة في الصورة الأولى ورجحان الحدث أو المساواة في الصورة الثانية.
ولكن لا يلزم من رجحان الطهارة في الصورة الأولى جوز الصلاة بدليل امتناع الصلاة بعد النوم والإغماء والمس على الطهارة وإن كان وجود الطهارة راجحاً.
ولامتناع الصلاة مع ظن الحدث في الصورة الثانية حيث قلتم بأن ظن الحدث لا يلحق بتيقين الحدث.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن الأصل في الطهارة والحدث البقاء ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك الطهارة والحدث أن يكون الأصل في كل متحقق سواهما البقاء لا بد لهذا من دليل.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن الأصل البقاء في كل شيء.لكنه منقوض بالزمان والحركات من حيث إن الأصل فيهما التقضي دون البقاء والاستمرار.
وما ذكرتموه من الوجه الثاني فليس فيه ما يدل على ظن البقاء بل إنما كان ذلك مجوزا منهم لاحتمال إصابة الغرض فيما فعلوه وذلك كاستحسان الرمي إلى الغرض لقصد الإصابة لاحتمال وقوعها وإن لم تكن الإصابة ظاهرةً بل مرجوحة أو مساوية.
وما ذكرتموه من الوجه الثالث لا نسلم أن ظن البقاء أغلب من ظن التغير.
وما ذكرتموه من زيادة توقف التغير على تبدل الوجود بالعدم أو بالعكس معارض بما يتوقف عليه البقاء من تجدد مثل السابق وإن سلمنا أن ما يتوقف عليه التغير أكثر لكن لا نسلم أنه يدل على غلبة البقاء على التغير لجواز أن تكون الأشياء المتعددة التي يتوقف عليها التغير أغلب في الوجود من الأعداد القليلة التي يتوقف عليها البقاء أو مساويةً لها.
وإن سلمنا أن البقاء أغلب من التغير ولكن لا نسلم كونه غالباً على الظن لجواز أن يكون الشيء أغلب من غيره وإن غلب على الظن عدمه في نفسه.
سلمنا دلالة ذلك على الأغلبية لكن فيما هو قابل للبقاء أو فيما ليس قابلاً له؟ الأول مسلم والثاني ممنوع.
فلم قلتم بأن الأعراض التي وقع النزاع في بقائها قابلة للبقاء؟ كيف وإنها غير قابلة لما علم في الكلاميات.
وما ذكرتموه من الوجه الرابع لا نسلم أن الباقي لا يفتقر إلى مؤثر.وما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه وذلك لأن الباقي في حالة بقائه إما أن يكون واجباً لذاته أو ممكناً لذاته الأول محال وإلا لما تصور عليه العدم وإن كان ممكناً فلا بد له من مؤثر وإلا لانسد علينا باب إثبات واجب الوجود.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن الأصل في كل متحقق دوامه لكنه معارض بما يدل على عدمه وبيانه من ثلاثة أوجه : الأول: أنه لو كان الأصل في كل شيء استمراره ودوامه لكان حدوث جميع الحوادث على خلاف الدليل المقتضي لاستمرار عدمها وهو خلاف الأصل.(1/404)
الثاني: أن الإجماع منعقد على أن بينة الإثبات تقدم على بينة النفي ولو كان الأصل في كل متحقق دوامه لكانت بينة النفي لاعتضادها بهذا الأصل أولى بالتقدم.
الثالث: أن مذهب الشافعي أنه لا يجزي عتق العبد الذي انقطع خبره عن الكفارة ولو كان الأصل بقاءه لأجزأ.
سلمنا أن الأصل هو البقاء والاستمرار ولكن متى يمكن التمسك به في الأحكام الشرعية إذا كان محصلاً لأصل الظن أو غلبة الظن؟ الأول ممتنع وإلا كانت شهادة العبيد والنساء المتمحضات والفساق مقبولةً لحصول أصل الظن بها.
والثاني مسلم ولكن لا نسلم أن مثل هذا الأصل يفيد غلبة الظن وذلك لأن الأصل عدم هذه الزيادة بنفس ما ذكرتم.
سلمنا كون ذلك مغلبا على الظن لكن قبل ورود الشرع أو بعده؟ الأول مسلم والثاني ممنوع وبيانه أن قبل ورود الشرع قد أمنا الدليل المغير فكان الاستصحاب لذلك مغلباً وبعد ورود الشرع لم نأمن التغير وورود الدليل المغير فلا يبقى مغلبا على الظن.
والجواب عن منع الإجماع على التفرقة فيما ذكرناه من الصورتين أن المراد به إنما هو الإجماع بين الشافعي وأبي حنيفة وأكثر الأئمة فكان ما ذكرناه حجة على الموافق دون المخالف.
وعن السؤال الأول على الوجه الأول أنه يلزم من رجحان الطهارة في الصورة الأولى صحة الصلاة تحصيلا لمصلحة الصلاة مع ظن الطهارة كالصورة الثانية.
وأما النوم فإنما امتنعت معه الصلاة لكونه سبباً ظاهراً لوجود الخارج الناقض للطهارة لتيسر خروج الخارج معه باسترخاء المفاصل على ما قال عليه السلام: " العينان وكاء السته " .
وقال: " إذا نامت العينان انطلق الوكاء " وإذا كان النوم مظنة الخارج المحتمل وجب إدارة الحكم عليه كما هو الغالب من تصرفات الشارع لا على حقيقه الخروج دفعاً للعسر والحرج عن المكلفين.وبه يقع الجواب عن الإغماء والمس.
ويلزم من رجحان الحدث في الصورة الثانية امتناع صحة الصلاة زجرا له عن التقرب إلى الله تعالى والوقوف بين يديه مع ظن الحدث فإنه قبيح عقلاً وشرعاً ولذلك نهي عنه والشاهد له بالاعتبار الصورة الأولى.
قولهم إنه لا تأثير للحدث المظنون عندكم قلنا: إنما لا يكون مؤثراً بتقدير أن لا نقول باستصحاب الحال كالتقدير الذي نحن فيه وإلا فلا.
وعن السؤال الثاني: أنه لو لم يكن الاستصحاب والاستمرار مقتضى الدليل في كل متحقق لكان الاستمرار في هاتين الصورتين على خلاف حكم الأعم أغلب إن كان عدم الاستمرار هو الأغلب أو أن يكون عدم الاستمرار على خلاف الغالب إن كان الاستمرار هو الأغلب وهو على خلاف الأصل وإن تساوى الطرفان فهو احتمال من ثلاثة احتمالات ووقوع احتمال من احتمالين أغلب من احتمال واحد بعينه.
وعن السؤال الثالث: أنا إنما ندعي أن الأصل البقاء فيما يمكن بقاؤه إما بنفسه كالجواهر أو بتجدد أمثاله كالأعراض وعليه بناء الأدلة المذكورة وعلى هذا فالأصل في الزمان بقاؤه بتجدد أمثاله.
وأما الحركات فإما أن تكون من قبيل ما يمكن بقاؤه واستمراره أو لا من هذا القبيل فإن كان الأول فهو من جملة صور النزاع وإن كان الثاني فالنقض به يكون مندفعاً.
وعما ذكروه على الوجه الثاني أن الإقدام على الفعل لغرض موهوم غير ظاهر إنما يكون فيما لا خطر في فعله ولا مشقة كما ذكروه من المثال.
وأما ما يلزم الخطر والمشقة في فعله فلا بد وأن يكون لغرض ظاهر راجح على خطر ذلك الفعل ومشقته على ما تشهد به تصرفات العقلاء وأهل العرف من ركوب البحار ومعاناة المشاق من الأسفار فإنهم لا يرتكبون ذلك إلا مع ظهور المصلحة لهم في ذلك ومن فعل ذلك لا مع ظهور المصلحة في نظره عد سفيهاً مخبطاً في عقله وما وقع به الاستشهاد من تنفيذ الودائع وإرسال الرسل إلى من بعدت مدة غيبته والشهادة بالدين على من تقدم إفراره من هذا القبيل فكان الاستصحاب فيه ظاهراً.
وعما ذكروه على الوجه الثالث أولاً فجوابه بزيادة افتقار التغير إلى تجدد علة موجبة للتغير بخلاف البقاء لإمكان اتحاد علة المتجددات.
وما ذكروه ثانياً فجوابه من وجهين : الأول: أن الشيء إذا كان موقوفاً على شيء واحد والآخر على شيئين فما يتوقف على شيء واحد لا يتحقق عدمه إلا بتقدير عدم ذلك الشيء وما يتوقف تحققه على أمرين يتم عدمه بعدم كل واحد من ذينك الأمرين.(1/405)
ولايخفى أن ما يقع عدمه على تقديرين يكون عدمه أغلب من عدم ما لا يتحقق عدمه إلا بتقدير واحد.وما كان عدمه أغلب كان تحققه أندر وبالعكس مقابله.
فإن قيل عدم الواحد المعين إما أن يكون مساوياً في الوقوع لعدم الواحد من الشيئين أو غالباً أو مغلوباً ولا تتحقق غلبة الظن فيما ذكرتموه بتقدير غلبة الواحد المعين ومساواته وإنما يتحقق ذلك بتقدير كونه مغلوباً.
ولا يخفى أن وقوع أحد أمرين لا بعينه أغلب من وقوع الواحد المعين كما ذكرتموه.
قلنا: إذا نسبنا أحد الشيئين لا بعينه إلى ذلك الواحد المعين فإما أن يكون عدمه أغلب من ذلك المعين أو مساوياً له أو مغلوباً فإن كان الأول لزم ما ذكرناه وإن كان الثاني فكذلك أيضاً لترجحه بضم عدم الوصف الآخر إليه وإن كان مغلوباً فنسبة الوصف الآخر إليه لا تخلو من الأقسام الثلاثة ويترجح ما ذكرناه بتقديرين آخرين منها وإنما لا يترجح ما ذكرناه بتقدير أن يكون كل واحد من الوصفين مرجوحاً فإذا ما ذكرناه يتم على تقديرات أربعة ولا يتم على تقدير واحد وفيه دقة فليتأمل.
الوجه الثاني: أن العاقل إذا عن له مقصودان متساويان وكانت المقدمات الموصلة إلى أحدهما أكثر من مقدمات الآخر فإنه يبادر إلى مقدماته أقل ولولا أن ذلك أفضى إلى مقصوده وأغلب لما كان إقدامه عليه أغلب لخلوه عن الفائدة المطلوبة من تصرفات العقلاء.
قولهم وإن كان البقاء أغلب من التغير فلا يلزم أن يكون غالباً على الظن قلنا إذا كان البقاء أغلب من مقابله فهو أغلب على الظن منه ويجب المصير إليه نظراً إلى أن المجتهد مؤاخد بما هو الأظهر عنده.
قولهم: إنما يدل ما ذكرتموه على غلبة الظن فيما هو قابل للبقاء.قلنا: الأعراض إن كانت باقية فلا إشكال وإن لم تكن باقية بأنفسها فممكنة البقاء بطريق التجدد كسواد الغراب وبياض الثلج.
وعلى كل تقدير فالكلام إنما هو واقع فيما هو ممكن التجدد من الأعراض لا فيما هو غير ممكن.
وعما ذكروه على الوجه الرابع أن يقال: مجرد الإمكان غير محوج إلى المؤثر بل المحوج إليه إنما هو الإمكان المشروط بالحدوث أو الحدوث المشروط بالإمكان.
وعن المعارضات أما الحوادث فإنما خالفنا فيها الأصل لوجود السبب الموجب للحدوث ونفي حكم الدليل مع وجوده لمعارض أولى من إخراجه عن الدلالة وإبطاله بالكلية مع ظهور دلالته.
وأما تقديم الشهادة المثبتة على النافية وإن كانت معتضدة بأصل براءة الذمة فإنما كان لاطلاع المثبت على السبب الموجب لمخالفة براءة الذمة وعدم اطلاع النافي عليه لإمكان حدوثه حالة غيبة النافي عن المنكر وتعذر صحبته له واطلاعه على أحواله في سائر الأوقات.
وأما مسألة العبد فهي ممنوعة وبتقدير تسليمها فلأن الذمة مشغولة بالكفارة يقيناً ولا تحصل البراءة منها إلا بيقين وجود العبد ولا يقين.فمن ادعى وجود مثل ذلك فيما نحن فيه فعليه الدليل.
قولهم إنما يمكن التمسك به في الأحكام الشرعية إذا كان مفيدا لغلبة الظن لا نسلم ذلك بل أصل الظن كاف وبه يظهر الشيء على مقابله وأما رد الشهادة في الصور المذكورة فلم يكن لعدم صلاحيتها بل لعدم اعتبارها في الشرع بخلاف ما نحن فيه من استصحاب الحال فإنه معتبر بدليل ما ذكرناه من صورة الشاك في الطهارة والحدث.
قولهم إنه مغلب على الظن قبل ورود الشرع لا بعده ليس كذلك فإنا بعد ورود الشرع إذا لم نظفر بدليل يخالف الأصل بقي ذلك الأصل مغلباً على الظن.
نعم غايته أنه قبل ورود الشرع أغلب على الظن لتيقن عدم المعارض منه بعد ورود الشرع لظن عدم المعارض.
المسألة الثانية اختلفوا في جواز استصحاب حكم الإجماع في محل الخلاف فنفاه جماعة من الأصوليين كالغزالي وغيره وأثبته آخرون وهو المختار.
وصورته ما لو قال الشافعي مثلا في مسألة الخارج النجس من غير السبيلين إذا تطهر ثم خرج منه خارج من غير السبيلين فهو بعد الخروج متطهر ولو صلى فصلاته صحيحة لأن الإجماع منعقد على هذين الحكمين قبل الخارج والأصل في كل متحقق دوامه لما تحقق في المسألة التي قبلها إلا أن يوجد المعارض النافي والأصل عدمه فمن ادعاه يحتاج إلى الدليل.(1/406)
فإن قيل القول بثبوت الطهارة وصحة الصلاة في محل النزاع إما أن يكون لدليل أو لا لدليل: لا جائز أن يكون لا لدليل فإنه خلاف الإجماع وإن كان لدليل فإما نص أو قياس أو إجماع فإن كان بنص أو قياس فلا بد من إظهاره ولو ظهر لم يكن إثبات الحكم في محل الخلاف بناء على الاستصحاب بل بناء على ما ظهر من النص أو القياس.
وإن كان بالإجماع فلا إجماع في محل الخلاف وإن كان الإجماع قبل خروج الخارج ثابتاً.
قلنا: متى يفتقر الحكم في بقائه إلى دليل إذا قيل بنزوله منزلة الجواهر أو الأعراض؟ الأول ممنوع بل هو باق بعد ثبوته بالإجماع لا بدليل لما سبق تقريره في المسألة المتقدمة والثاني مسلم ولكن لم قلتم إنه نازل منزلة الأعراض؟ سلمنا أنه نازل منزلة الأعراض وأنه لا بد له من دليل ولكن لا نسلم انحصار الدليل المبقى فيما ذكروه من النص والإجماع والقياس إلا أن يبينوا أن الاستصحاب ليس بدليل وهو موضوع النزاع.
سلمنا أن الاستصحاب بنفسه لا يكون دليلا على الحكم الباقي بنفسه ولكنه دليل الدليل على الحكم وذلك لأنا بينا في المسألة المتقدمة وجود غلبة الظن ببقاء كل ما كان متحققا على حاله وذلك يدل من جهة الإجمال على دليل موجب لذلك الظن.
القسم الثاني
فيما ظن أنه دليل صحيح وليس كذلك
وهو أربعة أنواع : النوع الاول شرع من قبلنا. وفيه مسألتان : المسألة الأولى : اختلفوا في النبي عليه السلام قبل بعثته هل كان متعبدا بشرع أحد من الأنبياء قبله ؟ فمنهم من نفى ذلك كأبي الحسين البصري وغيره ومنهم من أثبته ثم اختلف المثبتون فمنهم من نسبه إلى شرع نوح ومنهم من نسبه إلى شرع ابراهيم ومنهم من نسبه إلى موسى ومنهم من نسبه إلى عيسى.
ومن الأصوليين من قضى بالجواز وتوقف في الوقوع كالغزالي والقاضي عبد الجبار وغيرهما من المحققين وهو المختار.
أما الجواز فثابت وذلك لأنه لو امتنع إما أن يمتنع لذاته أو لعدم المصلحة في ذلك أو لمعنى آخر الأول ممتنع فإنا لو فرضنا وقوعه لم يلزم عنه لذاته في العقل محال.
والثاني فمبني على وجوب رعاية المصلحة في أفعال الله تعالى وقد أبطلناه في كتبنا الكلامية وبتقدير رعاية المصلحة في أفعال الله تعالى فغير بعيد أن يعلم الله تعالى أن مصلحة الشخص قبل نبوته في تكليفه بشريعة من قبله.
والثالث فلا بد من إثباته إذ الأصل عدمه.
وأما الوقوع فيستدعي دليلاً والأصل عدمه وما يتخيل من الأدلة الدالة على الوقوع وعدمه فمع عدم دلالتها في أنفسها متعارضة كما يأتي وليس التمسك بالبعض منها أولى من البعض.
فإن قيل الدليل على أنه لم يكن قبل البعثة متعبداً بشريعة أحد قبله أنه لو كان متعبداً بشريعة من الشرائع السالفة لنقل عنه فعل ما تعبد به واشتهر تلبسه بتلك الشريعة ومخالطة أهلها كما هو الجاري من عادة كل متشرع بشريعة وقد عرفت أحواله قبل البعثة ولم ينقل عنه شيء من ذلك.
وأيضاً فإنه لو كان متعبدا ببعض الشرائع السالفة لافتخر أهل تلك الشريعة بعد بعثته واشتهاره وعلو شأنه بنسبته إليهم وإلى شرعهم.ولم ينقل شيء من ذلك.
سلمنا أنه لا دليل يدل على عدم تعبده بشرع من قبله ولكن لا نسلم عدم الدليل الدال على تعبده بشرع من قبله ويدل على ذلك أمران.
الأول: أن كل من سبق من المرسلين كان داعيا إلى اتباع شرعه كل المكلفين وكان النبي عليه السلام داخلا في ذلك العموم.
الثاني: أنه عليه السلام قبل البعثة كان يصلي ويحج ويعتمر ويطوف بالبيت ويعظمه ويذكي ويأكل اللحم ويركب البهائم ويستسخرها ويتجنب الميتة وذلك كله مما لا يرشد إليه العقل ولا يحسن بغير الشرع.
والجواب عن الاعتراض الأول أنه مقابل بأنه لو لم يكن على شريعة من الشرائع ولا متعبداً بشيء منها لظهر منه التلبس بخلاف ما أهل تلك الشرائع متلبسون به.
واشتهرت مخالفته لهم في ذلك وكانت الدواعي متوفرةً على نقله ولم ينقل عنه شيء من ذلك وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
وعن الاعتراض الأول للمذهب الثاني بمنع دعوة من سبق من الأنبياء لكافة المكلفين إلى اتباعه فإنه لم ينقل في ذلك لفظ يدل على التعميم ليحكم به.(1/407)
وبتقدير نقله فيحتمل أن يكون زمان نبينا عليه السلام زمان اندراس الشرائع المتقدمة وتعذر التكليف بها لعدم نقلها وتفصيلها ولذلك بعث في ذلك الزمان.
وعن الاعتراض الثاني أنا لا نسلم ثبوت شيء مما ذكروه بنقل يوثق به وبتقدير ثبوته لا يدل ذلك على أنه كان متعبداً به شرعاً لاحتمال أن تكون صلاته وحجته وعمرته وتعظيمه للبيت بطريق التبرك بفعل مثل ما نقل جملته عن أفعال الأنبياء المتقدمين واندرس تفصيله.
وأما أكل اللحم وذبح الحيوان واستسخاره للبهائم فإنما كان بناء منه على أنه لا تحريم قبل ورود الشرع.
وأما تركه للميتة بناء على عيافة نفسه لها كعيافته لحم الضب أما أن يكون متعبداً بذلك شرعاً فلا.
المسألة الثانية اختلفوا في النبي عليه السلام وأمته بعد البعث هل هم متعبدون بشرع من تقدم ؟ فنقل عن أصحاب أبي حنيفة وعن أحمد في إحدى الراويتين عنه وعن بعض أصحاب الشافعي أن النبي عليه السلام كان متعبدا بما صح من شرائع من قبله بطريق الوحي إليه لا من جهة كتبهم المبدلة ونقل أربابها.
ومذهب الأشاعرة والمعتزلة المنع من ذلك وهو المختار ويدل على ذلك أمور أربعة.
الأول: أن النبي عليه السلام لما بعث معاذاً إلى اليمن قاضياً قال له: " بم تحكم؟ قال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله.قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي " ولم يذكر شيئاً من كتب الأنبياء الأولين وسننهم والنبي عليه السلام أقره على ذلك ودعا له وقال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله " ولو كانت من مدارك الأحكام الشرعية لجرت مجرى الكتاب والسنة في وجوب الرجوع إليها ولم يجز العدول عنها إلى اجتهاد الرأي إلا بعد البحث عنها واليأس من معرفتها.
الثاني: أنه لو كان النبي عليه السلام متعبداً بشريعة من قبله وكذلك أمته لكان تعلمها من فروض الكفايات كالقرآن والأخبار ولوجب على النبي عليه السلام مراجعتها وأن لا يتوقف على نزول الوحي في أحكام الوقائع التي لا خلو للشرائع الماضية عنها ولوجب أيضاً على الصحابة بعد النبي عليه السلام مراجعتها والبحث عنها والسؤال لناقليها عند حدوث الوقائع المختلف فيها فيما بينهم كمسألة الجد والعول وبيع أم الولد والمفوضة وحد الشرب وغير ذلك على نحو بحثهم عن الأخبار النبوية في ذلك وحيث لم ينقل شيء من ذلك علم أن شريعة من تقدم غير متعبد بها لهم.
الثالث: أنه لو كان متعبداً باتباع شرع من قبله إما في الكل أو البعض لما نسب شيء من شرعنا إليه على التقدير الأول ولا كل الشرع إليه على التقدير الثاني كما لا ينسب شرعه عليه السلام إلى من هو متعبد بشرعه من أمته وهو خلاف الإجماع من المسلمين.
الرابع: أن إجماع المسلمين على أن شريعة النبي عليه السلام ناسخة لشريعة من تقدم فلو كان متعبداً بها لكان مقرراً لها ومخبراً عنها لا ناسخاً لها ولا مشرعاً وهو محال.
فإن قيل على الحجة الأولى: إنما لم يتعرض معاذ لذكر التوراة والإنجيل إكتفاء منه بآيات في الكتاب تدل على اتباعهما على ما يأتي ولأن اسم الكتاب يدخل تحته التوراة والإنجيل لكونهما من الكتب المنزلة.
وأما الحجة الثانية: لا نسلم أن تعلم ما قيل بالتعبد به من الشرائع ليس من فروض الكفايات ولا نسلم عدم مراجعة النبي عليه السلام لها.
ولهذا نقل عنه مراجعة التوارة في مسألة الرجم وما لم يراجع فيه شرع من تقدم إما لأن تلك الشرائع لم تكن مبينة له أو لأنه ما كان متعبداً باتباع الشريعة السالفة إلا بطريق الوحي ولم يوح اليه به.
وأما عدم بحث الصحابة عنها فإنما كان لأن ما تواتر منها كان معلوما لهم وغير محتاج إلى بحث عنه وما كان منها منقولاً على لسان الآحاد من الكفار لم يكونوا متعبدين به.
وأما الحجة الثالثة: فإنما ينسب إليه ما كان متعبداً به من الشرائع بأنه من شرعه بطريق التجوز لكونه معلوما لنا بواسطته وإن لم يكن هو الشارع له.
وأما الحجة الرابعة فنحن نقول بها وأن ما كان من شرعه مخالفاً لشرع من تقدم فهو ناسخ له وما لم يكن من شرعه بل هو متعبد فيه باتباع شرع من تقدم فلا.
ولهذا فإنه لا يوصف شرعه بأنه ناسخ لبعض ما كان مشروعاً قبله كوجوب الإيمان وتحريم الكفران والزنى والقتل والسرقة وغير ذلك مما شرعنا فيه موافق لشرع من تقدم.(1/408)
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على مطلوبكم لكنه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من جهة الكتاب والسنة.
أما من جهة الكتاب فآيات.
الأولى: قوله تعالى في حق الأنبياء: " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " الأنعام90 أمره باقتدائه بهداهم وشرعهم من هداهم فوجب عليه اتباعه.
الثانية: قوله تعالى: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح " النساء 163 وقوله تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً " الشورى13 فدل على وجوب اتباعه لشريعة نوح.
الثالثة: قوله تعالى: " ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم " النحل 123 أمره باتباع ملة ابراهيم والأمر للوجوب.
الرابعة: قوله تعالى: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون " المائدة 44 والنبي عليه السلام من جملة النبيين فوجب عليه الحكم بها.
وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجع إلى التوراة في رجم اليهودي وأيضاً ما روي عنه عندما طلب منه القصاص في سن كسرت فقال: " كتاب الله يقضي بالقصاص " وليس في الكتب ما يقضي بالقصاص في السن سوى التوراة وهو قوله تعالى فيها: " السن بالسن " المائدة 45 وأيضاً ما روي عنه أنه قال: " من نام عن صلاة أو أنسيها فليصلها إذا ذكرها " وتلا قوله تعالى: " أقم الصلاة لذكري طه 14 وهو خطاب مع موسى عليه السلام.
والجواب قولهم: إنما لم يذكر معاذ التوراة والإنجيل لدلالة القرآن عليهما لا نسلم ذلك وما يذكرونه في ذلك فسيأتي الكلام عليه.
وإن سلمنا ذلك لكن لا يكون ذلك كافياً عن ذكرهما كما لو لم يكن ما في القرآن من ذكر السنة والقياس على ما بيناه كافيا عن ذكرهما أو أن لا يكون إلى ذكر السنة والقياس في خبر معاذ حاجة وكل واحد من الأمرين على خلاف الأصل.
قولهم: إن الكتب السالفة مندرجة في لفظ الكتاب ليس كذلك لأن المتبادر من إطلاق لفظ الكتاب في شرعنا عند قول القائل: قرأت كتاب الله وحكمت بكتاب الله ليس غير القرآن.
وذلك لما علم من معاناة المسلمين لحفظ القرآن ودراسته والعمل بموجباته دون غيره من الكتب السالفة.
قولهم لا نسلم أن تعلم ما تعبد به من الشرائع الماضية ليس فرضاً على الكفاية قلنا لأن إجماع المسلمين قبل ظهور المخالفين على أنه لا تأثيم بترك النظر على كافة المجتهدين في ذلك وأما مراجعة النبي عليه السلام التوراة فإنما كان لإظهار صدقه فيما كان قد أخبر به من أن الرجم مذكور في التوراة وإنكاره اليهود ذلك لا لأن يستفيد حكم الرجم منها ولذلك فإنه لم يرجع إليها فيما سوى ذلك.
وما ذكروه في امتناع بحث الصحابة عن ذلك فغير صحيح لأن ما نقل من ذلك متواتراً إنما يعرفه من خالط النقلة له وكان فاحصاً عنه ولم ينقل عن أحد من الصحابة شيء من ذلك كيف وإنه قد كان يمكن معرفة ذلك ممن أسلم من أحبار اليهود وهو ثقة مأمون كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار وغيرهما ولم ينقل عن النبي عليه السلام ولا عن أحد من الأمة السؤال لهم عن ذلك.
وما ذكروه على الحجة الثالثة فترك للظاهر المشهور المتبادر إلى الفهم من غير دليل فلا يسمع.
وما ذكروه على الحجة الرابعة فمندفع وذلك لأن إطلاق الأمة أن شرع النبي عليه السلام ناسخ للشرائع السالفة بينهم يفهم منه أمران أحدهما رفع أحكامها والثاني أنه غير متعبد بها.
فما لم يثبت رفعه من تلك الأحكام بشرعه ضرورة استمراره فلا يكون ناسخا له فيبقى المفهوم الآخر وهو عدم تعبده به.
ولا يلزم من مخالفة دلالة الدليل على أحد مدلوليه مخالفته بالنظر إلى المدلول الآخر.
والجواب عن المعارضة بالآية الأولى أنه إنما أمره باتباع هدى مضاف إلى جميعهم مشترك بينهم دون ما وقع به الخلاف فيما بينهم والناسخ والمنسوخ منه لاستحالة اتباعه وامتثاله والهدى المشترك فيما بينهم إنما هو التوحيد والأدلة العقلية الهادية إليه وليس ذلك من شرعهم في شيء.
ولهذا قال: " فبهداهم اقتده " الأنعام 90 ولم يقل بهم وبتقدير أن يكون المراد من الهدي المشترك ما اتفقوا فيه من الشرائع دون ما اختلفوا فيه فاتباعه له إنما كان بوحي إليه وأمر مجدد لا أنه بطريق الاقتداء بهم.(1/409)
وعن قوله تعالى: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح " النساء 163 أنه لا دلالة له على أنه موحى إليه بعين ما أوحي به إلى نوح والنبيين من بعده حتى يقال باتباعه لشريعتهم بل غايته أنه أوحى إليه كما أوحى إلى غيره من النبيين قطعا لاستبعاد ذلك وإنكاره.
وبتقدير أن يكون المراد به أنه أوحى إليه بما أوحى به إلى غيره من النبيين فغايته أنه أوحى إليه بمثل شريعة من قبله بوحي مبتدإ لا بطريق الاتباع لغيره.
وعن قوله تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً " الشورى 13 أن المراد من الدين إنما هو أصل التوحيد لا ما اندرس من شريعته.
ولهذا لم ينقل عن النبي عليه السلام البحث عن شريعة نوح وذلك مع التعبد بها في حقه ممتنع وحيث خصص نوحاً بالذكر مع اشتراك جميع الأنبياء في الوصية بالتوحيد كان تشريفاً له وتكريما كما خصص روح عيسى بالإضافة إليه والمؤمنين بلفظ العباد وعن قوله تعالى : " ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم " النحل 123 أن المراد بلفظ الملة إنما هو أصول التوحيد وإجلال الله تعالى بالعبادة دون الفروع الشرعية ويدل على ذلك أربعة أوجه الأول أن لفظ الملة لا يطلق على الفروع الشرعية بدليل أنه لا يقال ملة الشافعي وملة أبي حنيفة لمذهبيهما في الفروع الشرعية.
الثاني: أنه قال عقيب ذلك وما كان من المشركين ذكر ذلك في مقابلة الدين ومقابل الشرك إنما هو التوحيد.
الثالث: أنه قال: " ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه " البقرة 130 ولو كان المراد من الدين الأحكام الفرعية لكان من خالفه فيها من الأنبياء سفيها وهو محال.
الرابع: أنه لو كان المراد من الدين فروع الشريعة لوجب على النبي عليه السلام البحث عنها لكونه مأموراً بها وذلك مع اندراسها ممتنع ثم وإن سلمنا أن المراد بالملة الفروع الشرعية غير أنه إنما وجب عليه اتباعها بما أوحى ولهذا قال: ثم أوحينا إليك.
وعن قوله تعالى: " إنا أنزلنا التوراة " المائدة 44 الاية أن قوله : " يحكم بها النبيون صيغة إخبار لا صيغة أمر وذلك لا يدل على وجوب اتباعها وبتقدير أن يكون ذلك أمراً فيجب حمله على ما هو مشترك الوجوب بين جميع الأنبياء وهو التوحيد دون الفروع الشرعية المختلف فيها فيما بينهم لإمكان تنزيل لفظ النبيين على عمومه بخلاف التنزيل على الفروع الشرعية كيف وإن هذه الآيات متعارضةً والعمل بجميعها ممتنع وليس العمل بالبعض أولى من البعض.
وعن الخبر الأول: وهو رجوع النبي عليه السلام إلى التوراة في رجم اليهودي ما سبق.
وعن الخبر الثاني: لا نسلم أن كتابنا غير مشتمل على قصاص السن بالسن ودليله قوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " البقرة 194 وهو عام في السن وغيره.
وعن الخبر الثالث: أنه لم يذكر الخطاب مع موسى لكونه موجباً لقضاء الصلاة عند النوم والنسيان وإنما أوجب ذلك بما أوحى إليه ونبه على أن أمته مأمورة بذلك كما أمر موسى عليه السلام.
ثم ما ذكرتموه من النقل معارض بقوله عليه السلام: " بعثت إلى الأحمر والأسود " وكل نبي بعث إلى قومه والنبي عليه السلام لم يكن من أقوام الأنبياء المتقدمين فلا يكون متعبداً بشرعهم وبما روي عنه عليه السلام أنه رأى مع عمر بن الخطاب قطعة من التوراة ينظر فيها فغضب وقال ألم آت بها بيضاء نقية لو أدركني أخي موسى لما وسعه إلا اتباعي أخبر بأن موسى لو كان حياً لما وسعه إلا اتباعه فلأن لا يكون النبي عليه السلام متبعاً لموسى بعد موته أولى وربما عورض أيضاً بقوله تعالى : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً " المائدة 48 والشرعة الشريعة والمنهاج الطريق وذلك يدل على عدم اتباع الأخير لمن تقدم من الأنبياء لأن الشريعة لا تضاف إلا إلى من اختص بها دون التابع لها ولا حجة فيه فإن الشرائع وإن اشتركت في شيء فمختلفة في أشياء.
وباعتبار ما به الاختلاف بينها كانت شرائع مختلفةً وذلك كما يقال لكل إمام مذهب باعتبار اختلاف الأئمة في بعض الأحكام وإن وقع الاتفاق بينهم في كثير منها.
وربما أورد النفاة في ذلك طرقاً أخرى شتى ضعيفةً آثرنا الإعراض عن ذكرها.(1/410)
وكما أن النبي عليه السلام لم يكن متعبداً بشريعة من تقدم إلا بوحي مجدد لم يكن قبل بعثته على ما كان قومه عليه بل كان متجنباً لأصنامهم معرضاً عن أزلامهم ولا يأكل من ذبائحهم على النصب هذا هو مذهب أصحاب الشافعي وأئمة المسلمين.
ومن الأصوليين من قال بالوقف وهو بعيد.
النوع الثاني: مذهب الصحابي وفيه مسألتان : المسألة الأولى اتفق الكل على أن مذهب الصحابي في مسائل الاجتهاد لا يكون حجةً على غيره من الصحابة المجتهدين إماماً كان أو حاكماً أو مفتياً.
واختلفوا في كونه حجةً على التابعين ومن بعدهم من المجتهدين: فذهبت الأشاعرة والمعتزلة والشافعي في أحد قوليه وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه والكرخي إلى أنه ليس بحجة وذهب مالك بن انس والرازي والبرذعي من أصحاب أبي حنيفة والشافعي في قول له وأحمد بن حنبل في رواية له إلى أنه حجة مقدمة على القياس وذهب قوم إلى أنه إن خالف القياس فهو حجة وإلا فلا وذهب قوم إلى أن الحجة في قول أبي بكر وعمر دون غيرهما.
والمختار أنه ليس بحجة مطلقاً.
وقد احتج النافون بحجج ضعيفة لا بد من ذكرها والإشارة إلى وجه ضعفها قبل ذكر ما هو المختار في ذلك.
الحجة الأولى قوله تعالى : " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " النساء 59 أوجب الرد عند الاختلاف إلى الله والرسول فالرد إلى مذهب الصحابي يكون تركاً للواجب وهو ممتنع.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أن قوله تعالى: " فردوه إلى الله والرسول " يدل على الوجوب على ما سبق تقريره فالرد إلى مذهب الصحابي لا يكون تركاً للواجب.
وإن سلمنا أنه للوجوب ولكن عند إمكان الرد وهو أن يكون حكم المختلف فيه مبيناً في الكتاب أو السنة: وأما بتقدير أن لا يكون مبيناً فيهما فلا ونحن إنما نقول باتباع مذهب الصحابي مع عدم الظفر بما يدل على حكم الواقعة من الكتاب والسنة.
الحجة الثانية قالوا: أجمعت الصحابة على جواز مخالفة كل واحد من آحاد الصحابة المجتهدين للآخر ولو كان مذهب الصحابي حجةً لما كان كذلك وكان يجب على كل واحد منهم اتباع الآخر وهو محال.
ولقائل أن يقول: الخلاف إنما هو في كون مذهب الصحابي حجةً على من بعده من مجتهدة التابعين ومن بعدهم لا مجتهدة الصحابة فلم يكن الإجماع دليلاً على محل النزاع.
الحجة الثالثة: أن الصحابي من أهل الاجتهاد والخطأ ممكن عليه فلا يجب على التابع المجتهد العمل بمذهبه كالصحابيين والتابعيين.
ولقائل أن يقول: لا يلزم من امتناع وجوب العمل بمذهب الصحابي على صحابي مثله وامتناع وجوب العمل بمذهب التابعي على تابعي مثله امتناع وجوب عمل التابعي بمذهب الصحابي مع تفاوتهما على ما قال عليه السلام: " خير القرون القرن الذي أنا فيه وقال عليه السلام: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ولم يرد مثل ذلك في حق غيرهم.
الحجة الرابعة: أن الصحابة قد اختلفوا في مسائل وذهب كل واحد إلى خلاف مذهب الآخر كما في مسائل الجد مع الأخوة وقوله: أنت علي حرام كما سبق تعريفه فلو كان مذهب الصحابي حجة على غيره من التابعين لكانت حجج الله تعالى مختلفةً متناقضةً ولم يكن اتباع التابعي للبعض أولى من البعض.
ولقائل أن يقول: اختلاف مذاهب الصحابة لا يخرجها عن كونها حججاً في أنفسها كأخبار الآحاد والنصوص الظاهرة ويكون العمل بالواحد منها متوققاً على الترجيح ومع عدم الوقوف على الترجيح فالواجب الوقف أو التخيير كما عرف فيما تقدم.
الحجة الخامسة: أن قول الصحابي عن اجتهاد مما يجوز عليه الخطأ فلا يقدم على القياس كالتابعي.
ولقائل أن يقول: اجتهاد الصحابي وإن جاز عليه الخطأ فلا يمنع ذلك من تقديمه على القياس كخبر الواحد ولا يلزم من امتناع تقديم مذهب التابعي على القياس امتناع ذلك في مذهب الصحابي لما بيناه من الفرق بينهما.
الحجة السادسة: أن التابعي المجتهد متمكن من تحصيل الحكم بطريقه فلا يجوز له التقليد فيه كالأصول.
ولقائل أن يقول: اتباع مذهب الصحابي إنما يكون تقليداً له إن لو لم يكن قوله حجةً متبعةً وهو محل النزاع وخرج عليه الأصول فإن القطع واليقين معتبر فيها ومذهب الغير من أهل الاجتهاد فيها ليس بحجة قاطعة فكان اتباعه في مذهبه تقليداً من غير دليل وذلك لا يجوز(1/411)
والمعتمد في ذلك الاحتجاج بقوله تعالى: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " أوجب الاعتبار وأراد به القياس كما سبق تقريره في إثبات كون القياس حجةً وذلك ينافي وجوب اتباع مذهب الصحابي وتقديمه على القياس.
فإن قيل: لا نسلم دلالة على وجوب اتباع القياس وقد سبق تقريره من وجوه سلمنا دلالته على ذلك لكنه معارض من جهة الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أما الكتاب فقوله تعالى : " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف " آل عمران 110 وهو خطاب مع الصحابة بأن ما يأمرون به معروف والأمر بالمعروف واجب القبول.
وأما السنة فقوله عليه السلام: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وقوله عليه السلام: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " ولا يمكن حمل ذلك على مخاطبة العامة والمقلدين لهم لما فيه من تخصيص العموم من غير دليل ولما فيه من إبطال فائدة تخصيص الصحابة بذلك من جهة وقوع الاتفاق على جواز تقليد العامة لغير الصحابة من المجتهدين فلم يبق إلا أن يكون المراد به وجوب اتباع مذاهبهم.
وأما الإجماع فهو أن عبد الرحمن بن عوف ولي علياً رضي الله عنه الخلافة بشرط الاقتداء بالشيخين فأبى وولى عثمان فقبل ولم ينكر عليه منكر فصار إجماعاً.
وأما المعقول فمن وجوه.
الأول: أن الصحابي إذا قال قولا يخالف القياس فإما أن لا يكون له فيما قال مستند أو يكون: لا جائز أن يقال بالأول وإلا كان قائلاً في الشريعة بحكم لا دليل عليه وهو محرم وحال الصحابي العدل ينافي ذلك وإن كان الثاني فلا مستند وراء القياس سوى النقل فكان حجةً متبعة.
الثاني: أن قول الصحابي إذا انتشر ولم ينكر عليه منكر كان حجةً فكان حجةً مع عدم الانتشار كقول النبي عليه السلام.
الثالث: أن مذهب الصحابي إما أن يكون عن نقل أو اجتهاد فإن كان الأول كان حجةً وإن كان الثاني فاجتهاد الصحابي مرجح على اجتهاد التابعي ومن بعده لترجحه بمشاهدة التنزيل ومعرفة التأويل ووقوفه من أحوال النبي عليه السلام ومراده من كلامه على ما لم يقف عليه غيره فكان حال التابعي إليه كحال العامي بالنسبة إلى المجتهد التابعي فوجب اتباعه له.
والجواب عن منع دلالة الآية ما ذكرناه.
وعن القوادح ما سبق.
وعن المعارضة بالكتاب أنه لا دلالة فيه لما سبق في إثبات الإجماع وإن كان دالا فهو خطاب مع جملة الصحابة ولا يلزم من كون ما أجمعوا عليه حجةً أن يكون قول الواحد والاثنين حجةً.
وعن السنة أنه لا دلالة فيها أيضاً لما سبق في الإجماع ولأن الخبر الأول وإن كان عاماً في أشخاص الصحابة فلا دلالة فيه على عموم الاقتداء في كل ما يقتدى فيه.
وعند ذلك فقد أمكن حمله على الاقتداء بهم فيما يرونه عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس الحمل على غيره أولى من الحمل عليه وبه يظهر فساد التمسك بالخبر الثاني.
وعن الإجماع أنه إنما لم ينكر أحد من الصحابة على عبد الرحمن وعثمان ذلك لأنهم حملوا لفظ الاقتداء على المتابعة في السيرة والسياسة دون المتابعة في المذهب بدليل الإجماع على أن مذهب الصحابي ليس حجةً على غيره من الصحابي المجتهدين كيف وإنه لو كان المراد بشرط الاقتداء بهما المتابعة في مذهبهما فالقائل بأن مذهب الصحابي حجة قائل بوجوب اتباعه والقائل أنه ليس بحجة قائل بتحريم اتباعه على غيره من المجتهدين ويلزم من ذلك الخطأ بسكوت الصحابة عن الإنكار إما على علي حيث امتنع من الاقتداء إن كان ذلك واجباً وإما على عثمان وعبد الرحمن بن عوف إن كان الاقتداء بالشيخين محرماً وذلك ممتنع.
عن المعارضة الأولى: من المعقول أنها منتقضة بمذهب التابعي فإن ما ذكروه بعينه ثابت فيه وليس بحجة بالاتفاق.
وعن الثانية: أنه لا يخلو إما أن يقول بأن قول الصحابي إذا انتشر ولم ينكر عليه منكر أيكون ذلك إجماعاً أم لا يكون إجماعاً فإن كان الأول فالحجة في الإجماع لا في مذهب الصحابي وذلك غير متحقق فيما إذا لم ينتشر وإن كان الثاني فلا حجة فيه مطلقاً كيف وإن ما ذكروه منتقض بمذهب التابعي فإنه إذا انتشر في عصره ولم يوجد له نكير كان حجةً ولا يكون حجةً بتقدير عدم انتشاره إجماعاً.
وعن الثالثة: لا نسلم أن مستنده النقل لأنه لو كان معه نقل لأبداه ورواه لأنه من العلوم النافعة(1/412)
وقد قال عليه السلام: " من كتم علماً نافعاً ألجمه الله بلجام من نار " وذلك خلاف الظاهر من حال الصحابي فلم يبق إلا أن يكون عن رأي واجتهاد وعند ذلك فلا يكون حجةً على غيره من المجتهدين بعده لجواز أن يكون دون غيره في الاجتهاد وإن كان متميزاً بما ذكروه من الصحبة ولوازمها.
ولهذا قال عليه السلام: " فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " ثم هو منتقض بمذهب التابعي فإنه ليس بحجة على من بعده من تابعي التابعين وإن كانت نسبته إلى تابعي التابعين كنسبة الصحابي إليه.
المسألة الثانية إذا ثبت أن مذهب الصحابي ليس بحجة واجبة الاتباع فهل يجوز لغيره تقليده ؟ أما العامي فيجوز له ذلك من غير خلاف وأما المجتهد من التابعين ومن بعدهم فيجوز له تقليده إن جوزنا تقليد العالم للعالم وإن لم نجوز ذلك فقد اختلف قول الشافعي في جواز تقليد العالم من التابعين للعالم من الصحابة فمنع من ذلك في الجديد وجوزه في القديم غير أنه اشترط انتشار مذهبه تارة ولم يشترطه تارةً والمختار امتناع ذلك مطلقاً لما يأتي في قاعدة الاجتهاد إن شاء الله تعالى.
النوع الثالث: الاستحسان وقد اختلف فيه فقال به أصحاب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأنكره الباقون حتى نقل عن الشافعي أنه قال من استحسن فقد شرع.
ولا بد قبل النظر في الحجاج من تلخيص محل النزاع ليكون التوارد بالنفي والإثبات على محز واحد فنقول.
الخلاف ليس في نفس إطلاق لفظ الاستحسان جوازاً وامتناعاً لوروده في الكتاب والسنة وإطلاق أهل اللغة.
أما الكتاب فقوله تعالى: " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " الزمر 18 وقوله تعالى: " وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " الأعراف 145 وأما السنة فقوله عليه السلام: " ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن " وأما الإطلاق فما نقل عن الأئمة من استحسان دخول الحمام من غير تقدير عوض للماء المستعمل ولا تقدير مدة السكون فيها وتقدير أجرته واستحسان شرب الماء من أيدي السقائين من غير تقدير في الماء وعوضه.
وقد نقل عن الشافعي أنه قال: أستحسن في المتعة أن تكون ثلاثين درهماً وأستحسن ثبوت الشفعة للشفيع إلى ثلاثة أيام وأستحسن ترك شيء للمكاتب من نجوم الكتابة وقال في السارق إذا أخرج يده اليسرى بدل اليمنى فقطعت القياس أن تقطع يمناه والاستحسان أن لا تقطع.
فلم يبق الخلاف إلا في معنى الاستحسان وحقيقته ولا شك أن الاستحسان قد يطلق على ما يميل إليه الإنسان ويهواه من الصور والمعاني وإن كان مستقبحاً عند غيره وهو في اللغة استفعال من الحسن وليس ذلك هو محز الخلاف لاتفاق الأمة قبل ظهور المخالفين على امتناع حكم المجتهد في شرع الله تعالى بشهواته وهواه من غير دليل شرعي وأنه لا فرق في ذلك بين المجتهد والعامي وإنما محز الخلاف فيما وراء ذلك.
وقد اختلف أصحاب أبي حنيفة في تعريفه بحده: فمنهم من قال إنه عبارة عن دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على إظهاره لعدم مساعدة العبارة عنه.
والوجه في الكلام عليه أنه إن تردد فيه بين أن يكون دليلاً محققاً ووهماً فاسداً فلا خلاف في امتناع التمسك به وإن تحقق أنه دليل من الأدلة الشرعية فلا نزاع في جواز التمسك به أيضاً وإن كان ذلك في غاية البعد وإنما النزاع في تخصيصه باسم الاستحسان عند العجز عن التعبير عنه دون حالة إمكان التعبير عنه ولا حاصل للنزاع اللفظي.
ومنهم من قال إنه عبارة عن العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى منه ويخرج منه الاستحسان عندهم بالعدول عن موجب القياس إلى النص من الكتاب أو السنة أو العادة.
أما الكتاب فكما في قول القائل: مالي صدقة فإن القياس لزوم التصدق بكل مال له وقد استحسن تخصيص ذلك بمال الزكاة كما في قوله تعالى : " خذ من أموالهم صدقة " التوبة 103 ولم يرد به سوى مال الزكاة.
وأما السنة فكاستحسانهم أن لا قضاء على من أكل ناسيا في نهار رمضان والعدول عن حكم القياس إلى قوله عليه السلام لمن أكل ناسياً الله أطعمك وسقاك.
وأما العادة فكالعدول عن موجب الإجارات في ترك تقدير الماء المستعمل في الحمام وتقدير السكنى فيها ومقدار الأجرة كما ذكرناه فيما تقدم للعادة في ترك المضايقة في ذلك.
ومنهم من قال إنه عبارة عن تخصيص قياس بدليل هو أقوى منه وحاصله يرجع إلى تخصيص العلة وقد عرف ما فيه.(1/413)
وقال الكرخي: الاستحسان هو العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه هو أقوى ويدخل فيه العدول عن حكم العموم إلى مقابله للدليل المخصص والعدول عن حكم الدليل المنسوخ إلى مقابله للدليل الناسخ وليس باستحسان عندهم.
وقال أبو الحسين البصري: هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه هو أقوى منه وهو في حكم الطارىء على الأول وقصد بقوله: غير شامل شمول الألفاظ الاحتراز عن العدول عن العموم إلى القياس لكونه لفظاً شاملاً وبقوله: وهو في حكم الطارىء الاحتراز عن قولهم: تركنا الاستحسان بالقياس فإنه ليس استحساناً من حيث إن القياس الذي ترك له الاستحسان ليس في حكم الطارىء بل هو الأصل وذلك كما لو قرأ أية سجدة في آخر سورة فالاستحسان أن يسجد لها ولا يجتزىء بالركوع ومقتضى القياس أن يجتزىء بالركوع فإنهم قالوا بالعدول هاهنا عن الاستحسان إلى القياس.
وهذا الحد وإن كان أقرب مما تقدم لكونه جامعاً مانعاً غير أن حاصله يرجع إلى تفسير الاستحسان بالرجوع عن حكم دليل خاص إلى مقابله بدليل طارىء عليه أقوى منه من نص أو إجماع أو غيره ولا نزاع في صحة الاحتجاج به.
وإن نوزع في تلقيبه بالاستحسان فحاصل النزاع راجع فيه إلى الإطلاقات اللفظية ولا حاصل له وإنما النزاع في إطلاقهم الاستحسان على العدول عن حكم الدليل إلى العادة وهو أن يقال: إن أردتم بالعادة ما اتفق عليه الأمة من أهل الحل والعقد فهو حق وحاصله راجع إلى الاستدلال بالإجماع.
وإن أريد به عادة من لا يحتج بعادته كالعادات المستحدثة للعامة فيما بينهم فذلك مما يمتنع ترك الدليل الشرعي به.
وإذا تحقق المطلوب في هذه المسألة فلا بد من الإشارة إلى شبه تمسك بها القائلون بالاستحسان في بيان كون المفهوم منه حجةً مع قطع النظر عن تفصيل القول فيه والإشارة إلى جهة ضعفها.
وقد تمسكوا في ذلك بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.
أما الكتاب فقوله تعالى: " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " الزمر 18 وقوله تعالى: " واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم " الزمر 55.
ووجه الاحتجاج بالآية الأولى ورودها في معرض الثناء والمدح لمتبع أحسن القول وبالآية الثانية من جهة أنه أمر باتباع أحسن ما أنزل ولولا أنه حجة لما كان كذلك.
وأما السنة فقوله عليه السلام: " ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن " ولولا أنه حجة لما كان عند الله حسناً.
وأما إجماع الأمة فما ذكر من استحسانهم دخول الحمام وشرب الماء من أيدي السقائين من غير تقدير لزمان السكون وتقدير الماء والأجرة.
والجواب عن الآية الأولى أنه لا دلالة له فيها على وجوب اتباع أحسن القول وهو محل النزاع.
وعن الآية الثانية: أنه لا دلالة أيضاً فيها على أن ما صاروا إليه دليل منزل فضلاً عن كونه أحسن ما أنزل.
وعن الخبر كذلك أيضاً فإن قوله: " ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن " إشارة إلى إجماع المسلمين والإجماع حجة ولا يكون الا عن دليل وليس فيه دلالة على أن ما رآه آحاد المسلمين حسناً أنه حسن عند الله وإلا كان ما رآه آحاد العوام من المسلمين حسناً أن يكون حسناً عند الله وهو ممتنع.
وعن الإجماع على استحسان ما ذكروه لا نسلم أن استحسانهم لذلك هو الدليل على صحته بل الدليل ما دل على استحسانهم له وهو جريان ذلك في زمن النبي عليه السلام مع علمه به وتقريره لهم عليه أو غير ذلك.
النوع الرابع: المصالح المرسلة وقد بينا في القياس حقيقة المصلحة وأقسامها في ذاتها وانقسامها باعتبار شهادة الشارع لها إلى معتبرة وملغاة وإلى ما لم يشهد الشرع لها باعتبار ولا إلغاء وبينا ما يتعلق بالقسمين الأولين ولم يبق غير القسم الثالث وهو المعبر عنه بالمناسب المرسل وهذا أوان النظر فيه.(1/414)
وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك به وهو الحق إلا ما نقل عن مالك أنه يقول به مع إنكار أصحابه لذلك عنه ولعل النقل إن صح عنه فالأشبه أنه لم يقل بذلك في كل مصلحة بل فيما كان من المصالح الضرورية الكلية الحاصلة قطعاً لا فيما كان من المصالح غير ضروري ولا كلي ولا وقوعه قطعي وذلك كما لو تترس الكفار بجماعة من المسلمين بحيث لو كففنا عنهم لغلب الكفار على دار الإسلام واستأصلوا شأفة المسلمين ولو رمينا الترس وقتلناهم اندفعت المفسدة عن كافة المسلمين قطعاً غير أنه يلزم منه قتل مسلم لا جريمة له.
فهذا القتل وإن كان مناسباً في هذه الصورة والمصلحة ضرورية كلية قطعية غير أنه لم يظهر من الشارع اعتبارها ولا إلغاؤها في صورة.
وإذا عرف ذلك فالمصالح على ما بينا منقسمة إلى ما عهد من الشارع اعتبارها وإلى ما عهد منه إلغاؤها وهذا القسم متردد بين ذينك القسمين وليس إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر فامتنع الاحتجاج به دون شاهد بالاعتبار يعرف أنه من قبيل المعتبر دون الملغى.
فإن قيل: ما ذكرتموه فرع تصور وجود المناسب المرسل وهو غير متصور وذلك لأنا أجمعنا على أن ثم مصالح معتبرة في نظر الشارع في بعض الأحكام وأي وصف قدر من الأوصاف المصلحية فهو من جنس ما اعتبر وكان من قبيل الملائم الذي أثر جنسه في جنس الحكم وقد قلتم به قلنا وكما أنه من جنس المصالح المعتبرة فهو من جنس المصالح الملغاة فإن كان يلزم من كونه من جنس ما اعتبر من المصالح أن يكون معتبرا فيلزم أن يكون ملغى ضرورة كونه من جنس المصالح الملغاة وذلك يؤدي إلى أن يكون الوصف الواحد معتبراً ملغى بالنظر إلى حكم واحد وهو محال.
وإذا كان كذلك فلا بد من بيان كونه معتبراً بالجنس القريب منه لنأمن إلغاءه والكلام فيما إذا لم يكن كذلك.
القاعدة الثالثة
في المجتهدين وأحوال المفتين والمستفتين
وتشتمل على بابين:
الباب الأول
في المجتهدين
ويشتمل على مقدمة ومسائل.
أما المقدمة ففي تعريف معنى الاجتهاد والمجتهد والمجتهد فيه.
أما الاجتهاد فهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور مسلتزم للكلفة والمشقة ولهذا يقال اجتهد فلان في حمل حجر البزارة ولا يقال اجتهد في حمل خردلة.
وأما في اصطلاح الأصوليين فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه.
فقولنا: استفراغ الوسع كالجنس للمعنى اللغوي والأصولي وما وراءه خواص مميزة للاجتهاد بالمعنى الأصولي وقولنا في طلب الظن احتراز عن الأحكام القطعية وقولنا بشيء من الأحكام الشرعية ليخرج عنه الاجتهاد في المعقولات والمحسات وغيرها.
وقولنا: بحيث يحس من النفس العجز عن المزيد فيه ليخرج عنه اجتهاد المقصر في اجتهاده مع إمكان الزيادة عليه فإنه لا يعد في اصطلاح الأصوليين اجتهاداً معتبراً.
وأما المجتهد فكل من اتصف بصفة الاجتهاد وله شرطان.
الشرط الأول: أن يعلم وجود الرب تعالى وما يجب له من الصفات ويستحقه من الكمالات وأنه واجب الوجود لذاته حي عالم قادر مريد متكلم حتى يتصور منه التكليف وأن يكون مصدقاً بالرسول وما جاء به من الشرع المنقول بما ظهر على يده من المعجزات والآيات الباهرات ليكون فيما يسنده إليه من الأقوال والأحكام محققاً.
ولا يشترط أن يكون عارفاً بدقائق علم الكلام متبحراً فيه كالمشاهير من المتكلمين بل أن يكون عارفاً بما يتوقف عليه الإيمان مما ذكرناه ولا يشترط أن يكون مستند علمه في ذلك الدليل المفصل بحيث يكون قادراً على تقريره وتحريره ودفع الشبه عنه كالجاري من عادة الفحول من أهل الأصول بل أن يكون عالماً بأدلة هذه الأمور من جهة الجملة لا من جهة التفصيل.
الشرط الثاني: أن يكون عالماً عارفاً بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها وطرق إثباتها ووجوه دلالاتها على مدلولاتها واختلاف مراتبها والشروط المعتبرة فيها على ما بيناه وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها وكيفية استثمار الأحكام منها قادراً على تحريرها وتقريرها والانفصال عن الاعتراضات الواردة عليها.(1/415)
وإنما يتم ذلك بأن يكون عارفاً بالرواة وطرق الجرح والتعديل والصحيح والسقيم كأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأن يكون عارفاً بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ في النصوص الإحكامية عالما باللغة والنحو ولا يشترط أن يكون في اللغة كالأصمعي وفي النحو كسيبويه والخليل بل أن يكون قد حصل من ذلك على ما يعرف به أوضاع العرب والجاري من عاداتهم في المخاطبات بحيث يميز بين دلالات الألفاظ من المطابقة والتضمين والالتزام والمفرد والمركب والكلي منها والجزئي والحقيقة والمجاز والتواطىء والاشتراك والترادف والتباين والنص والظاهر والعام والخاص والمطلق والمقيد والمنطوق والمفهوم والاقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء ونحو ذلك مما فصلناه ويتوقف عليه استثمار الحكم من دليله.
وذلك كله أيضاً إنما يشترط في حق المجتهد المطلق المتصدي للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه.
وأما الاجتهاد في حكم بعض المسائل فيكفي فيه أن يكون عارفاً بما يتعلق بتلك المسألة وما لا بد منه فيها ولا يضره في ذلك جهله بما لا تعلق له بها مما يتعلق بباقي المسائل الفقهية كما أن المجتهد المطلق قد يكون مجتهداً في المسائل المتكثرة بالغاً رتبة الاجتهاد فيها وإن كان جاهلاً ببعض المسائل الخارجة عنها فإنه ليس من شرط المفتي أن يكون عالماً بجميع أحكام المسائل ومداركها.
فإن ذلك مما لا يدخل تحت وسع البشر ولهذا نقل عن مالك أنه سئل عن أربعين مسألةً فقال في ست وثلاثين منها لا أدري.
وأما ما فيه الاجتهاد: فما كان من الأحكام الشرعية دليله ظني فقولنا: من الأحكام الشرعية تمييز له عما كان من القضايا العقلية واللغوية وغيرها.
وقولنا: دليله ظني تمييز له عما كان دليله منها قطعياً كالعبادات الخمس ونحوها فإنها ليست محلاً للاجتهاد فيها لأن المخطىء فيها يعد آثماً والمسائل الاجتهادية ما لا يعد المخطىء فيها باجتهاده آثماً.
هذا ما أردناه من بيان المقدمة وأما المسائل فاثنتا عشرة مسألة.
المسألة الاولى اختلفوا في أن النبي عليه السلام هل كان متعبداً بالاجتهاد فيما لا نص فيه ؟ فقال أحمد بن حنبل والقاضي أبو يوسف إنه كان متعبداً به وقال أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم إنه لم يكن متعبداً به.
وجوز الشافعي في رسالته ذلك من غير قطع وبه قال بعض أصحاب الشافعي والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري ومن الناس من قال إنه كان له الاجتهاد في أمور الحروب دون الأحكام الشرعية.
والمختار جواز ذلك عقلاً ووقوعه سمعاً.
أما الجواز العقلي فلأنا لو فرضنا أن الله تعالى تعبده بذلك وقال له: حكمي عليك أن تجتهد وتقيس لم يلزم عنه لذاته محال عقلا ولا معنى للجواز العقلي سوى ذلك.
وأما الوقوع السمعي فيدل عليه الكتاب والسنة والمعقول.
أما الكتاب فقوله تعالى: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " الحشر 2 أمر بالاعتبار على العموم لأهل البصائر والنبي عليه السلام أجلهم في ذلك فكان داخلاً في العموم وهو دليل التعبد بالاجتهاد والقياس على ما سبق تقريره في إثبات القياس على منكريه.
وأيضاً قوله تعالى: " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " النساء 105 وما أراه يعم الحكم بالنص والاستنباط من النصوص وأيضاً قوله تعالى: " وشاورهم في الأمر " آل عمران 159 والمشاورة إنما تكون فيما يحكم فيه بطريق الاجتهاد لا فيما يحكم فيه بطريق الوحي.
وأيضاً قوله تعالى بطريق العتاب للنبي عليه السلام في أسارى بدر وقد أطلقهم: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " الأنفال 67 فقال عليه السلام: لو نزل من السماء إلى الأرض عذاب ما نجا منه إلا عمر لأنه كان قد أشار بقتلهم وذلك يدل على أن ذلك كان بالاجتهاد لا بالوحي.
وأيضا قوله تعالى: " عفا الله عنك لم أذنت لهم " التوبة 43 عاتبه على ذلك ونسبه إلى الخطإ وذلك لا يكون فيما حكم فيه بالوحي فلم يبق سوى الاجتهاد وليس ذلك خاصاً بالنبي عليه السلام بل كان غيره أيضاً من الأنبياء متعبداً بذلك.
ويدل عليه قوله تعالى: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث " الأنبياء 78 الآية وقوله: " ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً " الأنبياء 79 وما يذكر بالتفهيم إنما يكون بالاجتهاد لا بطريق الوحي.(1/416)
وأما السنة فما روى الشعبي أنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي القضية وينزل القرآن بعد ذلك بغير ما كان قضى به فيترك ما قضى به على حاله ويستقبل ما نزل به القرآن والحكم بغير القرآن لا يكون إلا باجتهاد.
وأيضاً ما روي عنه أنه قال في مكة لا يختلا خلاها ولا يعضد شجرها فقال العباس: إلا الأذخر فقال عليه السلام: إلا الأذخر ومعلوم أن الوحي لم ينزل عليه في تلك الحالة فكان الاستثناء بالاجتهاد.
وأيضاً ما روى عنه عليه السلام أنه قال: " العلماء ورثة الأنبياء " وذلك يدل على أنه كان متعبداً بالاجتهاد والا لما كانت علماء أمته وارثة لذلك عنه وهو خلاف الخبر.
وأما المعقول فمن وجهين: الأول: أن العمل بالاجتهاد أشق من العمل بدلالة النص لظهوره وزيادة المشقة سبب لزيادة الثواب لقوله عليه السلام لعائشة: " ثوابك على قدر نصبك " وقوله عليه السلام: " أفضل العبادات أحمدها " أي أشقها فلو لم يكن النبي عليه السلام عاملاً بالاجتهاد مع عمل أمته به لزم اختصاصهم بفضيلة لم توجد له وهو ممتنع فإن آحاد أمة النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون أفضل من النبي في شيء أصلاً.
الثاني: أن القياس هو النظر في ملاحظة المعنى المستنبط من الحكم المنصوص عليه وإلحاق نظير المنصوص به بواسطة المعنى المستبنط والنبي عليه السلام أولى بمعرفة ذلك من غيره لسلامة نظره وبعده عن الخطإ والإقرار عليه.
وإذا عرف ذلك فقد ترجح في نظره إثبات الحكم في الفرع ضرورة فلو لم يقض به لكان تاركاً لما ظنه حكماً لله تعالى على بصيرة منه وهو حرام بالإجماع.
فإن قيل: ما ذكرتموه في بيان الجواز العقلي فالاعتراض عليه يأتي فيما نذكره من المعقول.
وأما الآية الأولى: فقد سبق الاعتراض عليها فيما تقدم.
وأما قوله تعالى: " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " النساء 105 أي بما أنزل إليك.
وأما الآية الثالثة فالمراد منها المشاورة في أمور الحروب والدنيا وكذلك العتاب في قوله تعالى: " عفا الله عنك لم أذنت لهم " التوبة 43 وأما عتابه في أسارى بدر فلعله كان مخيراً بالوحي بين قتل الكل أو إطلاق الكل أو فداء الكل فأشار بعض الأصحاب بإطلاق البعض دون البعض فنزل العتاب للذين عينوا لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنه ورد بصيغة الجمع في قوله تريدون عرض الدنيا والمراد به أولئك خاصة.
وأما الخبر الأول: فهو مرسل ولا حجة في المراسيل كما سبق وإن كان حجة غير أنه يحتمل أنه كان يقضي بالوحي والوحي الثاني يكون ناسخاً للأول.
أما الخبر الثاني: فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريدا لاستثناء الإذخر فسبقه به العباس.
وأما الخبر الثالث: فيدل على أن العلماء ورثة الأنبياء فيما كان للأنبياء ولا نسلم أن الاجتهاد كان للأنبياء حتى يكون موروثاً عنهم كيف ويحتمل أنه أراد به الإرث في تبليغ أحكام الشرع إلى العامة كما كان الأنبياء مبلغين للمبعوث إليهم ويحتمل أنه أراد به الإرث فيما كان للأنبياء في حفظ قواعد الشريعة.
وأما الوجه الأول: من المعقول فالثواب فيما عظمت مشقته وإن كان أكثر ولكن لا يلزم منه ثبوته للنبي عليه السلام وإلا لما ساغ له الحكم إلا بالاجتهاد تحصيلاً لزيادة الثواب وهو ممتنع واختصاص علماء الأمة بذلك دون النبي عليه السلام لا يوجب كونهم أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم مع اختصاصه بمنصب الرسالة ورتبة النبؤة وتشريفه بالبعثة وهداية الخلق بعد الضلالة على جهة العموم.
وأما الوجه الثاني: وإن كان النبي عليه السلام أشد علماً من غيره بمعرفة القياس وجهات الاستنباط إلا أن وجوب العمل به في حقه مشروط بعدم معرفة الحكم بالوحي وهذا الشرط مما لم يتبين في حقه عليه السلام فلا مشروط وهذا بخلاف علماء أمته فافترقا.
وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على تعبده بالقياس والاجتهاد غير أنه معارض بما يدل على عدمه.
وبيانه من جهة الكتاب والمعقول أما الكتاب فقوله تعالى: " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " النجم 3 وقوله تعالى: " ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي " يونس 15 وذلك ينفي أن يكون الحكم الصادر عنه بالاجتهاد.
وأما المعقول فمن عشرة أوجه:(1/417)
الأول: أن النبي عليه السلام نزل منزلاً فقيل له: إن كان ذلك عن وحي فالسمع والطاعة وإن كان ذلك عن رأي فليس ذلك منزل مكيدة فقال: بل هو بالرأي فدل على أنه تجوز مراجعته في الرأي وقد علم أنه لا تجوز مراجعته في الأحكام الشرعية فلا تكون عن رأي.
الثاني: أنه لو كان في الأحكام الصادرة عنه ما يكون عن اجتهاد لجاز أن لا يجعل أصلاً لغيره وأن يخالف فيه وأن لا يكفر مخالفه لأن جميع ذلك من لوازم الأحكام الثابتة بالاجتهاد.
الثالث: لو كان متعبداً بالاجتهاد لأظهره ولما توقف على الوحي فيما كان يتوفق فيه في بعض الوقائع لما فيه من ترك ما وجب عليه من الاجتهاد واللازم ممتنع.
الرابع: أن الاجتهاد لا يفيد سوى الظن والنبي عليه السلام كان قادرا على تلقي الأحكام من الوحي القاطع والقادر على تحصيل اليقين لا يجوز له المصير إلى الظن كالمعاين للقبلة لا يجوز له الاجتهاد فيها.
الخامس: أن الأمور الشرعية مبنية على المصالح التي لا علم للخلق بها فلو قيل للنبي عليه السلام احكم بما ترى كان ذلك تفويضاً إلى من لا علم له بالأصلح وذلك مما يوجب اختلال المصالح الدينية والأحكام الشرعية.
السادس: أن لنا صواباً في الرأي وصدقاً في الخبر وقد أجمعنا على أن النبي عليه السلام ليس له أن يخبر بما لا يعلم كونه صدقاً فكذلك لا يجوز له الحكم بما لا علم له بصوابه.
السابع: أنه لو جاز أن يكون متعبداً بالاجتهاد لجاز أن يرسل الله رسولاً ويجعل له أن يشرع شريعة برأيه وأن ينسخ ما تقدمه من الشرائع المنزلة من الله تعالى وأن ينسخ أحكاما أنزلها الله تعالى عليه برأيه وذلك ممتنع.
الثامن: أنه لو جاز صدور الأحكام الشرعية عن رأيه واجتهاده فربما أورث ذلك تهمة في حقه وأنه هو الواضع للشريعة من تلقاء نفسه وذلك مما يخل بمقصود البعثة وهو ممتنع.
التاسع: أن الاجتهاد عرضة للخطإ فوجب صيانة النبي عليه السلام عنه.
العاشر: أن الاجتهاد مشروط بعدم النص وهذا الشرط غير متحقق في حق النبي عليه السلام لأن الوحي متوقع في حقه في كل حالة.
والجواب عما ذكروه على الآية الأولى قد سبق فيما تقدم أيضاً.
وعما ذكروه على الآية الثانية من وجهين: الأول: أن الحكم بما استنبط من المنزل يكون حكماً بالمنزل لأنه حكم بمعناه ولهذا قال في آخر الآية: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " الحشر 2 الثاني: أن حكمه بالاجتهاد حكم بما أراه الله فتقييده بالمنزل خلاف الإطلاق وعما ذكروه على الآية الثالثة: أنه إنما أمر بالمشاورة في أمر الفداء وهو من أحكام الدين لتعلقه بأعظم مصالح العبادات وبتقدير أن يكون كما ذكروه فهو حجة على من خالف فيه وبه دفع ما ذكروا على الآية الرابعة.
وعما ذكروه على العتاب في أسارى بدر فهو على خلاف عموم الخطاب الوارد في الآية وتخصيص من غير دليل فلا يصح.
وعما ذكروه على الخبر الأول من السنة بما بيناه فيما سبق من أن المرسل حجة.
وقولهم: يحتمل أنه كان يحكم بالوحي والوحي الثاني ناسخ له قلنا: النسخ خلاف الأصل لما فيه من تعطليل الدليل المنسوخ وذلك وإن كان نسخاً لما حكم به النبي عليه السلام غير أن تعطيل دليل الاجتهاد بنسخ حكمه أولى من تعطيل القرآن.
وعما ذكروه على الخبر الثاني أنه لو كان الإذخر مستثنىً فيما نزل إليه لكان تأخيره إلى ما بعد قول العباس تأخيراً للاستثناء عن المستثنى منه مع دعو الحاجة إلى اتصاله به حذراً من التلبيس خلاف الأصل.
وعما ذكروه على الخبر الثالث أن الظاهر من قوله: " العلماء ورثة الأنبياء " فيما اختصوا به من العلم مطلقاً فلو لم تكن علومهم الاجتهادية موروثة عن الأنبياء لكان ذلك تقييداً للمطلق وتخصيصاً للعام من غير ضرورة وهو ممتنع وبه يبطل ما ذكروه من التأويلات.
وعما ذكروه على الوجه الأول من المعقول إنما يصح أن لو كان ذلك ممكناً في جميع الأحكام وليس كذلك فان الاجتهاد بالقياس يستدعي أصلاً ثابتاً لا بالاجتهاد قطعاً للتسلسل.
قولهم: إنه قد اختص بمنصب الرسالة فلا يكون أحد أفضل منه قلنا: وإن كان كذلك غير أن زيادة الثواب بزيادة المشقة نوع فضيلة فيبعد اختصاص أحد من أمته بفضيلة لا تكون موجودة في حق النبي عليه السلام وإلا كان أفضل منه من تلك الجهة وهو بعيد.(1/418)
وعما ذكروه على الثاني من المعقول أنه باطل باجتهاد أهل عصره فإنه كان واقعاً بدليل تقريره لمعاذ على قوله: أجتهد رأيي ولم يكن احتمال معرفة الحكم بورود الوحي إلى النبي عليه السلام مانعا من الاجتهاد في حقه وإنما المانع وجود النص لاحتمال وجوده.
وعن المعارضة بالآية الأولى أنها إنما تتناول ما ينطق به واجتهاده من فعله لا من نطقه والخلاف إنما هو في الاجتهاد لا في النطق.
فإن قيل فإذا اجتهد فلا بد وأن ينطق بحكم اجتهاده والإخبار عما ظنه من الحكم فتكون الآية متناولةً له ومن المعلوم أن ما ينطق به إذا كان مستنده الاجتهاد فليس عن وحي وإن لم يكن عن هوى.
قلنا: إذا كان متعبداً بالاجتهاد من قبل الشارع وقيل له مهما ظننت باجتهادك حكما فهو حكم الشرع فنطقه بذلك يكون عن وحي لا عن هوىً.
وعن الآية الثانية: أنها إنما تدل على أن تبديله للقرآن ليس من تلقاء نفسه وإنما هو بالوحي والنزاع إنما وقع في الاجتهاد والاجتهاد وإن وقع في دلالة القرآن فذلك تأويل لا تبديل.
وعن المعارضة الأولى من جهة المعقول أن المراجعة إنما كانت في أمر دنيوي متعلق بالحروب وليس ذلك من المراجعة في أحكام الشرع في شيء.
وعن الثانية: لا نسلم أن ما ذكروه من لوازم الأحكام الثابتة بالاجتهاد بدليل إجماع الأمة على الاجتهاد واجتهاد النبي عليه السلام لا يتقاصر عن اجتهاد الأمة الذين ثبتت عصمتهم بقول الرسول إن لم يكن مترجحاً عليه.
وعن الثالثة: أنه لا مانع أن يكون متعبداً بالاجتهاد وإن لم يظهره صريحاً لمعرفة ذلك لما ذكرناه من الأدلة.وأما تأخره عن جواب بعض ما كان يسأل عنه فلاحتمال انتظار النص الذي لا يجوز معه الاجتهاد إلى حين اليأس منه أو لأنه كان في مهلة النظر في الاجتهاد فيما سئل عنه فأن زمان الاجتهاد في الأحكام الشرعية غير مقدر.
وعن الرابعة: النقض بما وقع الإجماع عليه من تعبد النبي عليه السلام بالحكم بقول الشهود حتى قال: إنكم لتختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض مع إمكان انتظاره في ذلك لنزول الوحي الذي لا ريب فيه.
وعن الخامسة: أنها مبنية على وجوب اعتبار المصالح وهو غير مسلم على ما عرفناه في علم الكلام وإن سلمنا ذلك فلا مانع من إلهام الله تعالى له بالصواب فيما يجتهد فيه من الحوادث كيف وإن ما ذكروه منتقض بتعبد غيره بالاجتهاد.
وعن السادسة من ثلاثة أوجه: الأول: أنها تمثيل من غير جامع صحيح فلا تكون حجةً.
الثاني: الفرق وهو أن الإخبار بما لا يعلم كونه صادقاً قد لا نأمن فيه الكذب وهو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه وذلك مما لا يجوز لأحد الإقدام عليه.
وأما الاجتهاد فعلى قولنا بأن كل مجتهد مصيب فالنبي أولى أن يكون مصيباً في اجتهاده والخطأ في الاجتهاد مبني على أن الحكم عند الله تعالى واحد في كل واقعة في نفس الأمر وليس كذلك بل الحكم عند الله في كل واقعة ما أدى إليه نظر المجتهد على ما يأتي تقريره.
الثالث: أن ما ذكروه منتقض بإجماع الأمة إذا كان عن اجتهاد.
وعن السابعة: أنها أيضاً تمثيل من غير جامع صحيح كيف وإنا لا نمنع من إرسال رسول بما وصفوه لا عقلاً ولا شرعاً فإن لله تعالى أن يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد ولا سيما إذا قلنا بأن المصالح غير معتبرة في أفعاله تعالى وإن قلنا إنها معتبرة فلا يبعد أن يعلم الله تعالى المصلحة للمكلفين في إرسال رسول بهذه المثابة ويعصمه عن الخطإ في اجتهاده كما في إجماع الأمة.
وعن الثامنة: أن التهمة منفية عنه في وضع الشريعة برأيه بما دل على صدقه فيما يدعيه من تبليغ الأحكام بجهة الرسالة من المعجزة القاطعة.
وعن التاسعة: أنا لا نسلم أن كل اجتهاد في الأحكام الشرعية عرضة للخطإ بدليل إجماع الصحابة على الاجتهاد.
واجتهاد النبي عليه السلام غير متقاصر عن اجتهاد أهل الإجماع فكان معصوما فيه عن الخطإ.
وعن العاشرة: أن المانع من الاجتهاد دائماً هو وجود النص لا إمكان وجود النص ثم ما ذكروه منتقض باجتهاد الصحابة في زمن النبي عليه السلام.
المسألة الثانية اتفقوا على جواز الاجتهاد بعد النبي عليه السلام واختلفوا في جواز الاجتهاد لمن عاصره فذهب الأكثرون إلى جوازه عقلاً ومنع منه الأقلون.
ثم اختلف القائلون بالجواز في ثلاثة أمور :(1/419)
الأول: منهم من جوز ذلك للقضاة والولاة في غيبته دون حضوره ومنهم من جوزه مطلقاً.
الثاني: أن منهم من قال بجواز ذلك مطلقاً إذا لم يوجد من ذلك منع ومنهم من قال لا يكتفي في ذلك بمجرد عدم المنع بل لا بد من الإذن في ذلك ومنهم من قال السكوت عنه مع العلم بوقوعه كاف.
الثالث: اختلفوا في وقوع التعبد به سمعاً: فمنهم من قال إنه كان متعبدا به ومنهم من توقف في ذلك مطلقاً كالجبائي ومنهم من توقف في حق من حضر دون من غاب كالقاضي عبد الجبار.
والمختار جواز ذلك مطلقاً وأن ذلك مما وقع مع حضوره وغيبته ظناً لا قطعاً.
أما الجواز العقلي فيدل عليه ما دللنا به على جواز ذلك في حق النبي عليه السلام في المسألة المتقدمة.
وأما بيان الوقوع: أما في حضرته فيدل عليه قول أبي بكر رضي الله عنه في حق أبي قتادة حيث قتل رجلاً من المشركين فأخذ سلبه غيره لا نقصد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فنعطيك سلبه.فقال النبي عليه السلام: " صدق وصدق في فتواه " ولم يكن قال ذلك بغير الرأي والاجتهاد.
وأيضاً ما روي عن النبي عليه السلام أنه حكم سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم بقتلهم وسبي ذراريهم بالرأي فقال عليه السلام: " لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " .
وأيضاً ما روي عنه عليه السلام أنه أمر عمرو بن العاص وعقبة بن عامر الجهني أن يحكما بين خصمين وقال لهما: " إن أصبتما فلكما عشر حسنات وإن أخطأتما فلكما حسنة واحدة " وأما في غيبته فيدل عليه قصة معاذ وعتاب بن أسيد حين بعثهما قاضيين إلى اليمن.
فإن قيل: الموجود في عصر النبي عليه السلام قادر على معرفة الحكم بالنص وبالرسول عليه السلام.
والقادر على التوصل إلى الحكم على وجه يؤمن فيه الخطأ إذا عدل إلى الاجتهاد الذي لا يؤمن فيه الخطأ كان قبيحاً والقبيح لا يكون جائزاً.
وأيضاً فإن الحكم بالرأي في حضرة النبي عليه السلام من باب التعاطي والافتيات على النبي عليه السلام وهو قبيح فلا يكون جائزاً وهذا بخلاف ما بعد النبي عليه السلام.وأيضاً فإن الصحابة كانوا يرجعون عند وقوع الحوادث إلى النبي عليه السلام ولو كان الاجتهاد جائزاً لهم لم يرجعوا إليه.
وأما ما ذكرتموه من أدلة الوقوع فهي أخبار آحاد لا تقوم الحجة بها في المسائل القطعية وبتقدير أن تكون حجةً فلعلها خاصة بمن وردت في حقه غير عامة.
والجواب عن السؤال الأول ما مر في جواز اجتهاد النبي عليه السلام.
وعن الثاني أن ذلك إذا كان بأمر رسول الله وإذنه فيكون ذلك من باب امتثال أمره لا من باب التعاطي والافتيات عليه.
وعن قولهم: إن الصحابة كانوا يرجعون في أحكام الوقائع إلى النبي عليه السلام يمكن أن يكون ذلك فيما لم يظهر لهم فيه وجه الاجتهاد وإن ظهر غير أن القادر على التوصل إلى مقصوده بأحد طريقين لا يمتنع عليه العدول عن أحدهما إلى الآخر ولا يخفى أنه إذا كان الاجتهاد طريقاً يتوصل به إلى الحكم فالرجوع إلى النبي عليه السلام أيضاً طريق آخر.
وما ذكروه من أن الأخبار المذكورة في ذلك أخبار آحاد فهو كذلك غير أن المدعي إنما هو حصول الظن بذلك دون القطع.
قولهم يحتمل أن يكون ذلك خاصاً بمن وردت تلك الأخبار في حقه قلنا :المقصود من الأخبار المذكورة إنما هو الدلالة على وقوع الاجتهاد في زمن النبي عليه السلام ممن عاصره لا بيان وقوع الاجتهاد من كل من عاصره.
المسألة الثالثة مذهب الجمهور من المسلمين أنه ليس كل مجتهد في العقليات مصيباً وأن الإثم غير محطوط عن مخالف ملة الإسلام سواء نظر وعجز عن معرفة الحق أم لم ينظر.
وقال الجاحظ وعبيد الله بن الحسن العنبري من المعتزلة بحط الإثم عن مخالف ملة الإسلام إذا نظر واجتهد فأداه اجتهاده إلى معتقده وأنه معذور بخلاف المعاند.
وزاد عبيد الله بن الحسن العنبري بأن قال: كل مجتهد في العقليات مصيب وهو إن أراد بالإصابة موافقة الاعتقاد للمعتقد فقد أحال وخرج عن المعقول وإلا كان يلزم من ذلك أن يكون حدوث العالم وقدمه في نفس الأمر حقا عند اختلاف الاجتهاد وكذلك في كل قضية عقلية اعتقد فيها النفي والإثبات بناء على ما أدى إليه من الاجتهاد وهو من أمحل المحالات وما أظن عاقلا يذهب إلى ذلك.(1/420)
وإن أراد بالإصابة أنه أتى بما كلف به مما هو داخل تحت وسعه وقدرته من الاجتهاد وأنه معذور في المخالفة غير آثم فهو ما ذهب إليه الجاحظ وهو أبعد عن الأول في القبح.
ولا شك أنه غير محال عقلاً وإنما النزاع في إحالة ذلك وجوازه شرعاً.
وقد احتج الجمهور على مذهبهم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.
أما الكتاب فقوله تعالى: " ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار: ص 27 وقوله: " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم " فصلت23 وقوله تعالى: " ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون " المجادلة 18 ووجه الاحتجاج بهذه الآيات أنه ذمهم على معتقدهم وتوعدهم بالعقاب عليه ولو كانوا معذورين فيه لما كان كذلك.
وأما السنة فما علم منه عليه السلام علماً لا مراء فيه تكليفه للكفار من اليهود والنصاري بتصديقه واعتقاد رسالته وذمهم على معتقداتهم وقتله لمن ظفر بهم وتعذيبه على ذلك منهم مع العلم الضروري بأن كل من قاتله وقتله لم يكن معانداً بعد ظهور الحق له بدليله فان ذلك مما تحيله العادة.ولو كانوا معذورين في اعتقاداتهم وقد أتوا بما كلفوا به لما ساغ ذلك منه.
وأما الإجماع فهو أن الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين اتفقوا أيضاً على قتال الكفار وذمهم ومهاجرتهم على اعتقاداتهم ولو كانوا معذورين في ذلك لما ساغ ذلك من الأمة المعصومة عن الخطإ.
فإن قيل: أما الآية الأولى فغاية ما فيها ذم الكفار وذلك غير متحقق في محل النزاع لأن الكفر في اللغة مأخوذ من الستر والتغطية ومنه يقال: لليل كافر لأنه ساتر للحوادث وللحارث كافر لسترة الحب وذلك غير متصور إلا في حق المعاند العارف بالدليل مع إنكاره لمقتضاه كيف وإنه يجب حمل هذه الآية والآيتين بعدها على المعاند دون غيره جمعاً بينه وبين ما سنذكره من الدليل.
وأما ما ذكرتموه من قتل النبي عليه السلام الكفار فلا نسلم أنه كان على ما اعتقدوه عن اجتهادهم بل على إصرارهم على ذلك وإهمالهم لترك البحث عما دعوا إليه والكشف عنه مع إمكانه.
وأما الإجماع فلا يمكن الاستدلال به في محل الخلاف كيف وإنه يمكن حمل فعل أهل الإجماع على ما حمل عليه فعل النبي عليه السلام.
ودليل هذه التأويلات أن تكليفهم باعتقاد نقيض معتقدهم الذي أدى إليه اجتهادهم واستفرغوا الوسع فيه تكليف بما لا يطاق وهو ممتنع للنص والمعقول.
أما النص فقوله تعالى: " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " البقرة 286.
وأما المعقول فهو أن الله تعالى رؤوف بعباده رحيم لهم فلا يليق به تعذيبهم على ما لا قدرة لهم عليه.
ولهذا كان الإثم مرتفعاً عن المجتهدين في الأحكام الشرعية مع اختلاف اعتقاداتهم فيها بناء على اجتهاداتهم المؤدية إليها كيف وقد نقل عن بعض المعتزلة أنهم أولوا قول الجاحظ وابن العنبري بالحمل على المسائل الكلامية المختلف فيها بين المسلمين ولا تكفير فيها كمسألة الرؤية وخلق الأعمال وخلق القرآن ونحو ذلك لأن الأدلة فيها ظنية متعارضة.
الجواب عما ذكروه على الآية أنه خلاف الإجماع في صحة إطلاق اسم الكافر على من اعتقد نقيض الحق وإن كان عن اجتهاد.
وقولهم إن الكفر في اللغة مأخوذ من التغطية مسلم ولكن لا نسلم انتفاء التغطية فيما نحن فيه وذلك لأنه باعتقاده لنقيض الحق بناء على اجتهاده مغط للحق وهو غير متوقف على علمه بذلك.
وما ذكروه من التأويل ففيه ترك الظاهر من غير دليل وما يذكرونه من الدليل فسيأتي الكلام عليه.
وما ذكروه على السنة فبعيد أيضاً وذلك لأنه إن تعذر قتلهم وذمهم على ما كانوا قد اعتقدوه عن اجتهادهم واستفراغ وسعهم فهو لازم أيضاً على تعذر قتلهم وذمهم على عدم تصديقه فيما دعاهم إليه لأن الكلام إنما هو مفروض فيمن أفرغ وسعه وبذل جهده في التوصل إلى معرفة ما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إليه وتعذر عليه الوصول إليه.
وما ذكروه في امتناع التمسك بالإجماع في محل الخلاف إنما يصح فيما كان من الإجماع بعد الخلاف أو حالة الخلاف وأما الإجماع السابق على الخلاف فهو حجة على المخالف وقد بينا سبقه.(1/421)
وما ذكروه من التأويل فجوابه كما تقدم.قولهم إن ذلك يفضي إلى التكليف بما لا يطاق لا نسلم ذلك فإن الوصول إلى معرفة الحق ممكن بالأدلة المنصوبة عليه ووجود العقل الهادي وغايته امتناع الوقوع باعتبار أمر خارج وذلك لا يمنع من التكليف به وإنما يمتنع التكليف بما لا يكون ممكناً في نفسه كما سبق تقريره في موضعه.
وما ذكروه فقد سبق تخريجه أيضاً في مسألة تكليف ما لا يطاق.
وأما رفع الإثم في المجتهدات الفقهية فإنما كان لأن المقصود منها إنما هو الظن بها وقد حصل بخلاف ما نحن فيه فإن المطلوب فيها ليس هو الظن بل العلم ولم يحصل.
وما ذكروه من التأويل إن صح أنه المراد من كلام الجاحظ وابن العنبري ففيه رفع الخلاف والعود إلى الحق ولا نزاع فيه.
المسألة الرابعة اتفق أهل الحق من المسلمين على أن الإثم محطوط عن المجتهدين في الأحكام الشرعية وذهب بشر المريسي وابن علية وأبو بكر الأصم ونفاة القياس كالظاهرية.
والإمامية إلى أنه ما من مسألة إلا والحق فيها متعين وعليه دليل قاطع فمن أخطأه فهو آثم غير كافر ولا فاسق.
وحجة أهل الحق في ذلك ما نقل نقلاً متواتراً لا يدخله ريبة ولا شك وعلم علماً ضروريا من اختلاف الصحابة فيما بينهم في المسائل الفقهية كما بيناه فيما تقدم مع استمرارهم على الاختلاف إلى انقراض عصرهم ولم يصدر من أحد منهم نكير ولا تأثيم لأحد لا على سبيل الإبهام ولا التعيين مع علمنا بأنه لو خالف أحد في وجوب العبادات الخمس وتحريم الزنى والقتل لبادروا إلى تخطئته وتأثيمه.
فلو كانت المسائل الاجتهادية نازلة منزلة هذه المسائل في كونها قطعية ومأثوماً على المخالفة فيها لبالغوا في الإنكار والتأثيم حسب مبالغتهم في الإنكار على من خالف في وجوب العبادات الخمس وفي تأثيمه لاستحالة تواطئهم على الخطإ ودلالة النصوص النازلة منزلة التواتر على عصمتهم عنه كما سبق تقريره في مسائل الإجماع.
فإن قيل: فقد وقع الإنكار من بعضهم على بعض في العمل بالرأي والاجتهاد في المسائل الفقهية كما ذكرناه في إثبات القياس على منكريه ومع الإنكار فلا إجماع.
وإن سلمنا عدم نقل إنكارهم لذلك فيحتمل أنهم أنكروا ولم ينقل إلينا.وبتقدير عدم صدور الإنكار منهم ظاهرا فيحتمل أنهم أضمروا الإنكار والتأثيم تقية وخوفاً من ثوران فتنة وهجوم آفة.
قلنا: أما السؤال الأول فقد أجبنا عنه فيما تقدم.وأما الثاني فهو خلاف مقتضى العادة فإنه لو وجد الإنكار لتوفرت الدواعي على نقله واستحال في العادة كتمانه كما نقل عنهم الإنكار على الخوارج ومانعي الزكاة وغير ذلك وبمثل هذا يندفع أيضا ما ذكروه من السؤال الثالث.
المسألة الخامسة المسألة الظنية من الفقهيات إما أن يكون فيها نص أو لا يكون : فإن لم يكن فيها نص فقد اختلفوا فيها :فقال قوم: كل مجتهد فيها مصيب وإن حكم الله فيها لا يكون واحداً بل هو تابع لظن المجتهد فحكم الله في حق كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده وغلب على ظنه وهو قول القاضي أبي بكر وأبي الهذيل والجبائي وابنه.
وقال آخرون: المصيب فيها واحد ومن عداه مخطىء لأن الحكم في كل واقعة لا يكون إلا معيناً لأن الطالب يستدعي مطلوباً وذلك المطلوب هو الأشبه عند الله في نفس الأمر بحيث لو نزل نص لكان نصا عليه.
لكن منهم من قال بأنه لا دليل عليه وإنما هو مثل دفين يظفر به حالة الاجتهاد بحكم الاتفاق فمن ظفر به فهو مصيب ومن لم يصبه فهو مخطىء.
ومنهم من قال عليه دليل لكن اختلف هؤلاء فمنهم من قال إنه قطعي ثم اختلف هؤلاء: فمنهم من قال بتأثيم المجتهد بتقدير عدم الظفر به ونقض حكمه كأبي بكر الأصم وابن علية وبشر المريسي ومنهم من قال بعدم التأثيم لخفاء الدليل وغموضه فكان معذوراً ومنهم من قال إنه ظني فمن ظفر به فهو مصيب وله أجران ومن لم يصبه فهو مخطىء وله أجر واحد وهذا هو مذهب ابن فورك والأستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني.
ومنهم من نقل عنه القولان التخطئة والتصويب كالشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل والأشعري.
وأما إن كان في المسألة نص فإن قصر في طلبه فهو مخطىء آثم لتقصيره فيما كلف به من الطلب.(1/422)
وإن لم يقصر فيه وأفرغ الوسع في طلبه لكن تعذر عليه الوصول إليه إما لبعد المسافة أو لإخفاء الراوي له وعدم تبليغه فلا إثم لعدم تقصيره وهل هو مخطىء أو مصيب؟ ففيه من الخلاف ما سبق.
والمختار إنما هو امتناع التصويب لكل مجتهد غير أن القائلين بذلك قد احتجوا بحجج ضعيفة لا بد من الإشارة إليها والتنبيه على ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
الحجة الأولى: من جهة الكتاب قوله تعالى: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان " الأنبياء 78 - 79.
ووجه الاحتجاج به أنه خصص سليمان بفهم الحق في الواقعة وذلك يدل على عدم فهم داود له وإلا لما كان التخصيص مفيداً وهو دليل اتحاد حكم الله في الواقعة وأن المصيب واحد وأيضا قوله تعالى: " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " النساء83 وقوله تعالى: " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " آل عمران 7 ولولا أن في محل الاستنباط حكماً معيناً لما كان كذلك وأيضاً قوله تعالى: " ولا تفرقوا فيه " الشورى 13 " ولا تنازعوا فتفشلوا " الأنفال 46 " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا " آل عمران 105 وذلك أيضاً يدل على اتحاد الحق في كل واقعة.
ولقائل أن يقول على الآية الأولى: غاية ما فيها تخصيص سليمان بالفهم ولا دلالة له على عدم ذلك في حق داود إلا بطريق المفهوم وليس بحجة على ما تقرر في مسائل المفهوم.
وان سلمنا أنه حجة غير أنه قد روي أنهما حكما في تلك القضية بالنص حكماً واحداً ثم نسخ الله الحكم في مثل تلك القضية في المستقبل وعلم سليمان بالنص الناسخ دون داود فكان هذا هو الفهم الذي أضيف إليه.
والذي يدل على هذا قوله تعالى: " وكلا آتينا حكماً وعلماً " الأنبياء 79 ولو كان أحدهما مخطئاً لما كان قد أتي في تلك الواقعة حكماً وعلماً.
وإن سلمنا أن حكمهما كان مختلفاً لكن يحتمل أنهما حكماً بالاجتهاد مع الأذن فيه وكانا محقين في الحكم إلا أنه نزل الوحي على وفق ما حكم به سليمان فصار ما حكم به حقا متعينا بنزول الوحي به ونسب التفهيم إلى سليمان بسبب ذلك.
وإن سلمنا أن داود كان مخطئاً في تلك الواقعة غير أنه يحتمل أنه كان فيها نص اطلع عليه سليمان دون داود ونحن نسلم الخطأ في مثل هذه الصورة وإنما النزاع فيما إذا حكما بالاجتهاد وليس في الواقعة نص.
وعلى الآية الثانية والثالثة: أنه يجب حملهما على الأمور القطعية دون الاجتهادية.
ودليله قوله تعالى: " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " النساء 83 وقوله تعالى: " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " آل عمران 7 والقضايا الاجتهادية لا علم فيها وإن سلمنا أن المراد بهما القضايا الاجتهادية فقوله تعالى: " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " النساء 83 وقوله تعالى: " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " آل عمران 7 يدل على تصويب المستنبطين والراسخين في العلم وليس فيه ما يدل على تصويب البعض منهم دون البعض بل غايته الدلالة بمفهومه على عدم ذلك في حق العوام ومن ليس من أهل الاستنباط والرسوخ في العلم.
وعلى الآيات الدالة على النهي عن التفرق أن المراد منها إنما هو التفرق في أصل الدين والتوحيد وما يطلب فيه القطع دون الظن.
ويدل على ذلك أن القائلين بجواز الاجتهاد مجمعون على أن كل واحد من المجتهدين مأمور باتباع ما أوجبه ظنه ومنهي عن مخالفته وهو أمر بالاختلاف ونهي عن الاتفاق في المجتهدات.
الحجة الثانية: من جهة السنة قوله عليه السلام: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد " وذلك صريح في انقسام الاجتهاد إلى خطإ وصواب.
ولقائل أن يقول: نحن نقول بموجب الخبر وأن الحاكم إذا أخطأ في اجتهاده فله أجر واحد غير أن الخطأ عندنا في ذلك إنما يتصور فيما إذا كان في المسألة نص أو إجماع أو قياس جلي وخفي عليه بعد البحث التام عنه وذلك غير متحقق في محل النزاع أو فيما إذا أخطأ في مطلوبه من رد المال إلى مستحقه بسبب ظنه صدق الشهود وهم كاذبون أو مغالطة الخصم لكونه أخصم من خصمه وألحن بحجته لا فيما وجب عليه من حكم الله تعالى.
ولهذا قال عليه السلام " إنما أحكم بالظاهر وإنكم لتختصمون إلي ولعل أحدكم ألحن بمجته من صاحبه فمن حكمت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار " .(1/423)
الحجة الثالثة: من جهة الإجماع أن الصحابة أجمعوا على إطلاق لفظ الخطإ في الاجتهاد فمن ذلك ما روى عن أبي بكر أنه قال أقول في الكلالة برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان ومن ذلك ما روي عن عمر أنه حكم بحكم فقال رجل حضره هذا والله! الحق.فقال عمر أن عمر لا يدري أنه أصاب الحق لكنه لم يأل جهداً وروي عنه أنه قال لكاتبه: اكتب هذا ما رأى عمر فإن يكن خطأ فمنه وإن يكن صواباً فمن الله وأيضاً قوله في جواب المرأة التي ردت عليه النهي عن المبالغة في المهر أصابت امرأة وأخطأ عمر ومن ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في المرأة التي استحضرها عمر فأجهضت ما في بطنها وقد قال له عثمان وعبد الرحمن بن عوف: إنما أنت مؤدب لا نرى عليك شيئاً إن كانا قد اجتهدا فقد أخطأ وإن لم يجتهدا فقد غشاك أرى عليك الدية ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود أنه قال في المفوضة أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله ورسوله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان ومن ذلك ما روي أن عليا وابن مسعود وزيداً رضي الله عنهم خطؤوا ابن عباس في ترك القول بالعول وأنكر عليهم ابن عباس قولهم بالعول بقوله من شاء أن يباهلني باهلته إن الذي أحصى رمل عالج عددا لم يجعل في مال واحد نصفاً ونصفاً وثلثاً هذان نصفان ذهباً بالمال فأين موضع الثلث ومن ذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا إلى غير ذلك من الوقائع ولم ينكر بعضهم على بعض في التخطئة فكان ذلك إجماعاً على أن الحق من أقاويلهم ليس إلا واحداً.
ولقائل أن يقول: نحن لا ننكر وقوع الخطإ في الاجتهاد لكن فيما إذا لم يكن المجتهد أهلاً للاجتهاد أو كان أهلا لكنه قصر في اجتهاده أو إن لم يقصر لكنه خالف النص أو الإجماع أو القياس الجلي أو في مطلوبه دون ما وجب عليه من حكم الله كما سبق تقريره في جواب السنة وأما ما تم فيه الاجتهاد من أهله ولم يوجد له معارض مبطل فليس فيما ذكروه من قضايا الصحابة ما يدل على وقوع الخطإ فيه.
الحجة الرابعة: من جهة المعقول من ستة أوجه : الأول: أن الاجتهاد مكلف به بالإجماع فعند اختلاف المجتهدين في حكم الحادثة ومصير كل واحد إلى مناقضة الآخر إما أن يكون اجتهاد كل واحد منهما مستنداً إلى دليل أو لا دليل لواحد منهما أو أن الدليل مستند أحدهما دون الآخر فإن كان الأول فالدليلان المتقابلان إما أن يكون أحدهما راجحاً على الآخر أو هما متساويان فإن كان أحدهما راجحاً فالذاهب إليه مصيب ومخالفه مخطىء.
وإن كان الثاني فمقتضاهما التخيير أو الوقف فالجازم بالنفي أو الإثبات يكون مخطئاً.وإن كان لا دليل لواحد منهما فهما مخطئان.
وإن كان الدليل لأحدهما دون الآخر فأحدهما مصيب والآخر مخطىء لا محالة.
الثاني: أن القول بتصويب المجتهدين يفضي عند اختلاف المجتهدين بالنفي والإثبات أو الحل والحرمة في مسألة واحدة إلى الجمع بين النقيضين وهو محال وما أفضى إلى المحال يكون محالاً.
الثالث: أن الأمة مجمعة على تجويز المناظرة بين المجتهدين ولو كان كل واحد مصيباً فيما ذهب إليه لم يكن للمناظرة معنى ولا فائدة وذلك لأن كل واحد يعتقد أن ما صار إليه مخالفه حق وأنه مصيب فيه.
والمناظرة: إما لمعرفة أن ما صار إليه خصمه صواب أو لرده عنه فإن كان الأول ففيه تحصيل الحاصل.
وإن كان الثاني فقصد كل واحد لرد صاحبه عما هو عليه مع اعتقاده أنه صواب يكون حراماً.
الرابع: أن المجتهد في حال اجتهاده إما أن يكون له مطلوب أو يكون فإن كان الأول فهو محال إذ المجتهد طالب وطالب لا مطلوب له محال.
وإن كان الثاني فمطلوبه متقدم على اجتهاده ونظره وذلك مع عدم تعين المطلوب في نفسه محال.
الخامس: أنه لو صح تصويب كل واحد من المجتهدين لوجب عند الاختلاف في الآنية بالطهارة والنجاسة أن يقضى بصحة اقتداء كل واحد من المجتهدين بالآخر لاعتقاد المأموم صحة صلاة إمامه.
السادس: أن القول بتصويب المجتهدين يلزم منه أمور ممتنعة فيمتنع.(1/424)
الأول: أنه إذا تزوج شافعي بحنفية وكانا مجتهدين وقال لها أنت بائن فإنه بالنظر إلى ما يعتقده الزوج من جواز الرجعة تجوز له المراجعة والمرأة بالنظر إلى ما تعتقده من امتناع الرجعة يحرم عليها تسليم نفسها إليه وذلك مما يفضي إلى منازعة بينهما لا سبيل إلى رفعها شرعاً وهو محال.
الثاني: أنه إذا نكح واحد امرأةً بغير ولي ونكحها آخر بعده بولي فيلزم من صحة المذهبين حل الزوجة للزوجين وهو محال.
الثالث: أن العامي إذا استفتى مجتهدين واختلفا في الحكم فإما أن يعمل بقوليهما وهو محال أو بقول أحدهما ولا أولوية وإما لا بقول واحد منهما فيكون متحيراً وهو ممتنع ولقائل أن يقول على الوجه الأول إن المختار إنما هو القسم الأول من أقسامه.
قولهم: الدليلان إما أن يتساويا أو يترجح أحدهما على الآخر قلنا في نفس الأمر أو في نظر الناظر الأول ممنوع وذلك لأن الأدلة في مسائل الظنون ليست أدلة لذواتها وصفات أنفسها حتى تكون في نفس الأمر متساوية في جهة دلالتها أو متفاوتة وإن كان في نظر الناظر فلا نسلم صحة هذه القسمة بل كل واحد منهما راجح في نظر الناظر الذي صار إليه وذلك لأن الأدلة الظنية مما تختلف باختلاف الظنون فهي أمور إضافية غير حقيقية كما أن ما وافق غرض زيد فهو حسن بالنسبة إليه وإن كان قبيحا بالنسبة إلى من خالف غرضه وعلى هذا فلا تخطئة على ما ذكروه.
وإن سلمنا أن الدليلين في نفسيهما لا يخرجان عن المساواة أو الترجيح لأحدهما على الآخر غير أن النزاع إنما هو في الخطإ بمعنى عدم الإصابة لحكم الله في الواقعة لا بمعنى عدم الظفر بالدليل الراجح ولا يلزم من عدم الظفر بالدليل الراجح عدم الظفر بحكم الله في الواقعة لأن حكم الله تعالى عندنا عبارة عما أدى إليه نظر المجتهد وظنه لا ما أدى إليه الدليل الراجح في نفس الأمر.
وعلى الوجه الثاني أن التناقض إنما يلزم أن لو اجتمع النفي والإثبات والحل والحرمة في حق شخص واحد من جهة واحدة أما بالنظر إلى شخصين فلا.
ولهذا فإن الميتة تحل للمضطر وتحرم على غيره وإفطار رمضان مباح للمريض والمسافر ومن له عذر دون غيره.
وفيما نحن فيه كذلك فأن من وجب عليه الحكم بالحل الذي أداه نظره إليه غير من وجب عليه الحكم بالتحريم الذي أداه نظره إليه.
ثم لو كان ذلك ممتنعاً لما وجب على كل واحد من المجتهدين في القبلة إذا أدى اجتهاده إلى خلاف ما أدى إليه اجتهاد الآخر التوجه إلى الجهة التي غلب على ظنه أنها جهة القبلة كتحريم التوجه إليها بالنسبة إلى الآخر ولما حرم على كل واحد ما وجب على الآخر وهو ممتنع.
وعلى الثالث: أن فائدة المناظرة غير منحصرة فيما ذكروه بل لها فوائد أخر تجب المناظرة لها أو تستحب.
فالأولى: كالمناظرة لتعرف انتفاء الدليل القاطع الذي لا يجوز معه الاجتهاد أو لطلب تعرف الترجيح عند تساوي الدليلين في نظر المجتهد حتى يجزم بالنفي أو الإثبات أو يحل له الوقف أو التخيير لكونه مشروطاً بعدم الترجيح.
والثانية: كالمناظرة التي يطلب بها تذليل طرق الاجتهاد والقوة على استثمار الأحكام من الأدلة واستنباطها منها وشحذ الخاطر وتنبيه المستمعين على مدارك الأحكام ومآخذها لتحريك دواعيهم إلى طلب رتبة الاجتهاد لنيل الثواب الجزيل وحفظ قواعد الشريعة.
وعلى الرابع: أن مطلوب المجتهد ما يؤدي إليه نظره واجتهاده لا غير وذلك غير معين لا عنده ولا عند الله تعالى.
وعلى الخامس: أن ما ذكروه إنما يلزم أن لو كان القضاء بصحة صلاة المأموم مطلقاً وليس كذلك وإنما هي صحيحة بالنسبة إليه غير صحيحة بالنسبة إلى مخالفه.
وشرط صحة اقتداء المأموم بالإمام اعتقاد صحة صلاة إمامه بالنسبة إليه.
وعلى السادس: أما الإلزام الأول فلا نسلم إفضاء ذلك إلى منازعة لا ترتفع لأنه يمكن رفعها فيما فرضوه من الصورة برفع الأمر إلى حاكم من حكام المسلمين أو محكم منهم فما حكم به وجب اتباعه كيف وإن ما ذكروه لم يكن لازما من القول بتصويب المجتهدين بل إنما كان لازماً من القول بأنه يجب على كل مجتهد اتباع ما أوجبه ظنه وسواء كان مخطئاً أو مصيباً لأن المصيب غير معين وذلك متفق عليه فما هو جواب لهم ها هنا فهو جواب الخصم في قوله بالتصويب.(1/425)
وإما الإلزام الثاني فنقول أي النكاحين وجد من معتقد صحته أولاً فهو صحيح والنكاح الثاني باطل لكونه نكاحاً لزوجة الغير وإن صدر الأول ممن لا يعتقد صحته كالنكاح بلا ولي من الشافعي فهو باطل والثاني صحيح.
وأما الإلزام الثالث فنقول: حكم العامي عند تعارض الفتاوى في حقه حكم تعارض الدليلين في حق المجتهد من غير ترجيح.
وحكم المجتهد في ذلك إما التوقف أو التخيير على ما يأتي والأقرب في ذلك أن يقال الأصل عدم التصويب والأصل في كل متحقق دوامه إلا ما دل الدليل على مخالفته.
والأصل عدم الدليل المخالف فيما نحن فيه فيبقى فيه على حكم الأصل.
غير أنا خالفناه في تصويب واحد غير معين للإجماع ولا إجماع فيما نحن فيه فوجب القضاء بنفيه.
فإن قيل: وإن كان الأصل عدم الدليل المخالف للنفي الأصلي إلا أنه قد وجد ودليله من جهة الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أما الكتاب فقوله تعالى في حق داود وسليمان: " وكلا آتينا حكماً وعلماً " الأنبياء 79 ولو كان أحدهما مخطئاً لما كان ما صار إليه حكماً لله ولا علماً.
وأما السنة فقوله عليه السلام: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ووجه الاحتجاج به أنه عليه السلام جعل الاقتداء بكل واحد من الصحابة هدى مع اختلافهم في الأحكام نفياً وإثباتاً كما بيناه قبل.فلو كان فيهم مخطىء لما كان الاقتداء به هدى بل ضلالة.
وأما الإجماع فهو أن الصحابة اتفقوا على تسويغ خلاف بعضهم لبعض من غير نكير منهم على ذلك بل ونعلم أن الخلفاء منهم كانوا يولون القضاة والحكام مع علمهم بمخالفتهم لهم في الأحكام ولم ينكر عليهم منكر.
ولو تصور الخطأ في الاجتهاد لما ساغ ذلك من الصحابة كما لم يسوغوا ترك الإنكار على مانعي الزكاة وكل منكر أنكروه.
وأما من جهة المعقول فمن سبعة أوجه : الأول: أنه لو كان الحق متعيناً في باب الاجتهاد في كل مسألة لنصب الله تعالى عليه دليلاً قاطعاً دفعاً للإشكال وقطعا لحجة المحتج كما هو المألوف من عادة الشارع في كل ما دعا إليه ومنه قوله تعالى: " رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " النساء 165 وقوله تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " إبراهيم 4 وقوله تعالى: " ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً " طه 134 ولو كان عليه دليل قاطع لوجب الحكم على مخالفه بالفسق والتأثيم كالمخالف في العقليات.
الثاني: أنه لو كان الحق في جهة واحدة لما ساغ لأحد من العامة تقليد أحد من العلماء إلا بعد الاجتهاد والتحري فيمن يقلده وليس كذلك.
وحيث خير في التقليد دل على التساوي بين المجتهدين فإن الشرع لا يخير إلا في حالة التساوي.
الثالث: أنه لو كان الحق في جهة واحدة لوجب نقض كل حكم خالفه كما قاله بشر المريسي والأصم.وحيث لم ينقض دل على التساوي.
الرابع: أنه لو كان الحق في جهة واحدة لما وجب على كل واحد من المجتهدين اتباع ما أوجبه ظنه ولا كان مأموراً به لأن الشارع لا يأمر بالخطإ وحيث كان مأموراً باتباعه دل على كونه صواباً.
الخامس: أنه لا خلاف في ترجيح الأدلة المتقابلة في المجتهدات بما لا يستقل بإثبات أصل الحكم ولا نفيه فدل على أن الدليل من الجانبين ما هو خارج عن الترجيح فالدليل على كل واحد من الحكمين قائم فكان حقاً.
السادس: أن حصر الحق في جهة واحدة مما يفضي إلى الضيق والحرج وهو منفي بقوله تعالى: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " الحج 78 وقوله تعالى: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " البقرة 185.
السابع: أنه لو كان المجتهد مخطئا لما علم كونه مغفوراً له واللازم ممتنع وبيان الملازمة أنه لو كان مخطئاً فلا يخلو إما أن لا يجوز كونه مخطئاً أو يجوز كونه مخطئاً الأول محال فإن من قال بالتخطئة لم يعين الخطأ في واحد بل أمكن أن يكون قائلاً بالنفي أو الإثبات.
والثاني فلا يخلو: إما أن يعلم مع تجويز كونه مخطئاً أنه قد انتهى في النظر إلى الرتبة التي يغفر له بترك ما بعدها أو لا يعلم ذلك الأول محال فإن المجتهد لا يميز ما بين الرتبتين.(1/426)
وإن كان الثاني فهو مجوز لترك النظر الذي إذا أخل به بعد النظر الذي انتهى إليه لا يكون مغفوراً له وذلك ممتنع مخالف لإجماع الأمة على ثواب كل مجتهد وغفران ما أخل به من النظر.
والجواب عن الآية أن غايتها الدلالة على أن كل واحد منهما أوتي حكماً وعلماً وهو نكرة في سياق الإثبات فيخص وليس فيه ما يدل على أنه أوتي حكما وعلما فيما حكم به.
وقد أمكن حمل ذلك على أنه أوتي حكما وعلما بمعرفة دلالات الأدلة على مدلولاتها وطرق الاستنباط فلا يبقى حجة في غيره.
وعن السنة أن الخبر وإن كان عاما في الأصحاب والمقتدين بهم غير أن ما فيه الاقتداء غير عام ولا يلزم من العموم في الأشخاص العموم في الأحوال.
وعلى هذا فقد أمكن حمله على الاقتداء في الرواية عن النبي عليه السلام لا في الرأي والاجتهاد.
وقد عمل به فيه فلا يبقى حجة فيما عداه ضرورة إطلاقه.
وعن الإجماع أنه إنما لم ينكر بعض الصحابة على بعض المخالفة لأن المخطىء غير معين ومع ذلك فهو مأمور باتباع ما أوجبه ظنه ومثاب عليه.
والذي يجب إنكاره من الخطإ ما كان مخطئه معينا وهو منهي عنه وما نحن فيه ليس كذلك.
وعن الشبهة الأولى من المعقول: لا نسلم أنه لو كان الحكم في الواقعة معيناً لنصب الله عليه دليلاً قاطعاً إذ هو مبني على وجوب رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وقد أبطلناه في كتبنا الكلامية وإن سلمنا وجوب رعاية الحكمة ولكن لا مانع أن تكون الحكمة طلب الظن بذلك الحكم بناء على الأدلة الظنية لا طلب العلم به لنيل ثواب النظر والاجتهاد.
فإن ثوابه لزيادة المشقة فيه أزيد على ما قال عليه السلام: " ثوابك على قدر نصبك " وإن لم تظهر فيه حكمة فلا مانع من اختصاصه بحكمة لا يعلمها سوى الرب تعالى.
وعن الثانية أنه إنما خير العامي في التقليد لمن شاء لكونه لا يقدر على معرفة الأعلم دون معرفة مأخذ المجتهدين ووجه الترجيج فيه وذلك مما يخرجه عن العامية ويمنعه من جواز الاستفتاء بل غاية ما يقدر على معرفته كون كل واحد منهما عالماً أهلاً للاجتهاد ومن هذه الجهة قد استويا في نظره فلذلك كان مخيراً حتى إنه لو قدر على معرفة الأعلم ولو بإخبار العلماء بذلك لم يجز له تقليد غيره.
وعن الثالثة: أنه إنما امتنع نقض ما خالف الصواب لعدم معرفة الصواب من الخطإ.
وعن الرابعة: أنها منقوضة بما إذا كان في المسألة نص أو إجماع ولم يعلم به المجتهد بعد البحث التام فان الحكم فيها معين ومع ذلك فالمجتهد مأمور باتباع ما أوجبه ظنه.
وعن الخامسة: أنا وإن سلمنا أن الترجيح قد يكون بما لا يستقل بالحكم فلا يمنع ذلك من اعتباره جزءاً من الدليل وعلى هذا فالمرجوح لا يكون دليلاً وإن كان دليلاً لكن لا نسلم جواز ترتب الحكم على المرجوح مع وجود الراجح في نفس الأمر.
وعن السادسة: أن الحرج إنما يلزم من تعيين الحق أن لو وجب على المجتهدين اتباعه قطعاً أما إذا كان ذلك مفوضاً إلى ظنونهم واجتهاداتهم فلا كيف ويلزم على ما ذكروه ما إذا كان في المسألة نص أو إجماع فإن الحكم فيها يكون معيناً وإن لزم منه الحرج.
وعن السابعة: بمنع ما ذكروه من الملازمة وذلك لأن الكلام إنما هو مفروض فيما إذا علم المجتهد من نفسه انتهاءه في الاجتهاد واستفراغ الوسع إلى حد يقطع بانتفاء قدرته على المزيد عليه وذلك هو ضابط العلم بكونه مغفوراً له ما وراءه.
المسألة السادسة اتفقوا في الأدلة العقلية المتقابلة بالنفي والإثبات على استحالة التعادل بينها.
وذلك لأن دلالة الدليل العقلي يجب أن يكون مدلولها حاصلاً فلو تعادل الدليلان في نفسيهما لزم من ذلك حصول مدلوليهما كالدليل الدال على حدوث العالم والدال على قدمه ويلزم من ذلك اجتماع النقيضين وهو محال.
واختلفوا في تعادل الأمارات الظنية فذهب أحمد بن حنبل والكرخي إلى المنع من ذلك وذهب القاضي أبو بكر والجبائي وابنه وأكثر الفقهاء إلى جوازه وهو المختار.
وذلك لأنه لو استحال تعادل الأمارتين في نفسيهما فإما أن يكون ذلك محالاً في ذاته أو لدليل خارج: الأول ممتنع فإنا لو قدرنا ذلك لم يلزم عنه لذاته محال عقلاً وإن كان الدليل من خارج عقلياً كان أو شرعياً فالأصل عدمه وعلى مدعيه بيانه.(1/427)
فإن قيل: إذا قيل بتعادل الأمارتين فإما أن يعمل بكل واحدة منهما: أو بأحديهما دون الأخرى أو لا يعمل ولا بواحدة منهما الأول محال لما فيه من الجمع بين النقيضين والثاني محال لأنه إما أن يعمل بواحدة منهما على طريق التعيين أو الإبهام: فإن كان على طريق التعيين فلا أولوية مع التساوي وإن كان على سبيل التخيير فهو ممتنع لوجوه ثلاثة.
الأول: أن الأمة مجمعة على امتناع تخيير المكلفين في مسائل الاجتهاد.
الثاني: أن التخيير إباحة للفعل والترك وهو عمل بأمارة الإباحة وهو ممتنع لما سبق.
الثالث: أنه يلزم منه جواز تخيير الحاكم للمتخاصمين وكذلك المفتي للعامي بين الحكم ونقيضه وأن يحكم لزيد بحكم ولعمرو بنقيضه وأن يحكم في يوم بحكم وفي الغد بنقيضه وذلك محال والثالث أيضا محال لما فيه من الجمع بين النقيضين ولأن وضع الأمارتين يكون عبثاً والعبث في تصرفات الشارع ممتنع وأيضاً فإن الحكم عند الله تعالى في الواقعة لا يكون إلا واحداً على ما سبق تقريره في المسألة المتقدمة وهو الذي وقع عليه اختياركم فلو تعادلت الأمارتان لزم من ذلك التضليل والحيرة في إصابة الحق وهو ممتنع على الشارع الحكيم.
والجواب عن الشبهة الأولى بمنع الحصر فيما ذكروه إذ قد أمكن قسم ثالث وهو العمل بمجموعهما بأن يكونا كالدليل الواحد ومقتضاهما الوقف أو التخيير وإن سلمنا امتناع ذلك فما المانع من العمل بإحداهما على طريق التخيير بأن يعمل المكلف بما شاء منهما إن شاء أثبت وإن شاء نفي.
قولهم: إن الأمة مجمعة على امتناع تخيير المكلف في مسائل الاجتهاد قلنا: متى إذا ترجح في نظره إحدى الأمارتين أو إذا تعادلتا الأول مسلم والثاني ممنوع ولا بعد في التخيير عند التعارض مع التساوي نازلاً منزلة ورود التخيير من الشارع بلفظ التخيير كما في خصال الكفارة أو كما في التخيير بين إخراج الحقاق وبنات اللبون عندما إذا اجتمع في ماله مائتان من الإبل بقوله عليه السلام: " في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حق " فإنه إن أخرج أربع حقاق فقد عمل بالنص وإن أخرج خمس بنات لبون فقد عمل بالنص.
قولهم: إن التخيير إباحة للفعل والترك وهو عمل بأمارة الإباحة وترك للأمارة الوجوب قلنا: إنما يلزم ذلك أن لو كان التخيير بين الفعل والترك مطلقاً وليس كذلك.
وإنما هو تخيير في العمل بأحد الحكمين مشروطا بقصد العمل بدليله كما في التخيير بين القصر في السفر والإتمام بشرط قصد العمل بدليل الرخصة أو دليل الإتمام.
قولهم إنه يلزم منه جواز تخيير الحاكم للخصمين والمفتي للعامي بين الحكمين المتناقضين ليس كذلك بل التخيير إنما هو للحاكم والمفتي في العمل بإحدى الأمارتين عند الحكم والفتوى فلا بد من تعين ما اختاره دفعاً للنزاع بين الخصوم وللتحير عن المستفتى.
وأما حكمه لزيد بحكم ولعمرو بنقيضه فغير ممتنع كما لو تغير اجتهاده وكذلك الحكم في يوم وبنقيضه في الغد وإنما يمتنع ذلك أن لو كان المحكوم عليه واحداً لما فيه من إضرار المحكوم عليه بالحكم له بحل النكاح والانتفاع بالملك في وقت وتحريمه عليه في وقت آخر وإن سلمنا امتناع التخيير فما المانع من ترك العمل بهما والقول بتساقطهما.
قولهم إنه يلزم منه الجمع بين النقيضين إنما يلزم ذلك أن لو اعتقد نفي الحل والإباحة وأما إذا لم يعتقد شيئا من ذلك فلا.
قولهم إن وضع الأمارتين يكون عبثاً فهو مبني على وجوب رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وقد أبطلناه في مواضعه وبتقدير التسليم فلا يمتنع استلزام ذلك لحكمة استأثر الله تعالى بالعلم بها دون المخلوقين كيف وقد أمكن أن تكون الحكمة فيه إيقاف المجتهد عن الجزم بالنفي أو الإثبات.
وعن الشبهة الثانية: أنا وإن سلمنا أن الحكم في المسألة لا يكون إلا واحداً ولكن ما المانع من تعادل الأمارات.
قولهم يلزم منه التحير والتضليل إنما يلزم ذلك أن لو كان مكلفاً بإصابة ما هو الحكم عند الله تعالى وليس كذلك وإنما هو مكلف بما أوجبه ظنه على ما سبق فإن لم يغلب على ظنه شيء ضرورة التعادل كان الواجب التخيير أو التوقف أو التساقط.
المسألة السابعة فيما يصح نسبته من الأقوال إلى المجتهد وما لا يصح(1/428)
ولا خلاف في صحة اعتقاد الوجوب والتحريم أو النفي والإثبات معاً في مسألتين مختلفتين كوجوب الصلاة وتحريم الزنى وفي اعتقاد الجمع بين الأحكام المختلفة التي لا تقابل بينها في شيء واحد كالتحريم ووجوب الحد ونحوه وفي اعتقاد وجوب فعلين متضادين على البدل كالاعتداد بالأطهار والحيض أو فعلين غير متضادين كخصال الكفارة.
وأما اعتقاد حكمين متقابلين في شيء واحد على سبيل البدل فقد اختلفوا فيه وبينا مأخذ القولين في المسألة المتقدمة وما هو المختار في ذلك.
وأما ما يقال في هذه المسألة: للمجتهد الفلاني قولان فلا يخلو إما أن يكونا منصوصين في تلك المسألة أو أحدهما منصوص عليه والآخر منقول فإن كان الأول فلا يخلو إما أن يكون التنصيص عليهما في وقتين أو في وقت واحد فإن كان ذلك في وقتين فلا يخلو إما أن يكون التاريخ معلوماً أو غير معلوم: فإن كان الأول فالقول الثاني ناسخ للأول وهو الذي يجب إسناده إليه دون الأول لكونه مرجوعاً عنه.
وإن قيل إن الأول قوله فليس إلا بمعنى أنه كان قولاً له لا بمعنى انه الآن قوله ومعتقده وإن كان الثاني فيجب اعتقاد نسبة أحدهما إليه والرجوع عن الآخر وإن لم يكن ذلك معلوماً ولا معيناً.
وعلى هذا فيمتنع العمل بأحدهما قبل التبيين لاحتمال أن يكون ما عمل به هو المرجوع عنه وهذا كما إذا وجدنا نصين وعلمنا أن أحدهما ناسخ للآخر ولم يتبين لنا الناسخ من المنسوخ فإنه يمتنع العمل بكل واحد منهما لاحتمال أن يكون ما عمل به هو المنسوخ وكذلك الراوي فإنه إذا سمع كتاباً من الأخبار سوى خبر واحد منه وأشكل عليه ما سمعه عن غيره فإنه لا يجوز له رواية شيء منه لاحتمال أن يكون ذلك ما لم يروه.
وأما إن كان التنصيص عليهما في وقت واحد فإما أن ينص على الراجح منهما بأن يقول: وهذا القول أولى أو يفرع عليه دون الآخر فيظهر من ذلك أن قوله وما يجب أن يكون معتقداً له هو الراجح دون المرجوح.
وأما أن لا يوجد منه ما يدل على الترجيح كما نقل عن الشافعي ذلك في سبع عشرة مسألة فلا يخلو إما أنه ذكر ذلك بطريق الحكاية لأقوال من تقدم فلا تكون أقوالاً له وإما أن يكون ذلك بمعنى اعتقاده للقولين وهو محال.
وذلك لأن دليلي القولين إما أن يكون أحدهما راجحاً على الآخر في نظره أو هما متساويان فإن كان الأول فاعتقاده لحكم الدليل المرجوح ممتنع وإن كان الثاني فاعتقاده للتحريم والإباحة معاً في شيء واحد من جهة واحدة محال.
وإن كان معنى القولين التخيير بين الحكمين أو التردد والشك كتردد الشافعي في التسمية هل هي آية من أول كل سورة ؟فذلك مما لا يصح معه نسبة القولين إليه ولهذا فإن من قال بالتخيير بين خصال الكفارة لا يقال إن له في الكفارة أقوالاً.
وكذلك من شك في شيء وتردد فيه لا يقال له فيه أقوال وإنما يمكن تصحيح ذلك بأن يحمل قوله: في المسألة قولان على أنه قد وجد فيها دليلين متعارضين ولا موجود سواهما إما نصان أو استصحابان كما إذا أعتق عن كفارته عبداً غائباً منقطع الخبر.
فإن الأصل بقاء حياته والأصل بقاء اشتغال الذمة أو أصلان مختلفان والمسألة مشابهة لكل واحد من الأصلين على السوية ويمكن أن يقول بكل واحد منهما قائل فقوله بوجود هذا الاحتمال وهذا الاحتمال قولان لكنه ليس قولا بحكم شرعي.
وأما إن كان منصوصاً عليه والآخر منقولاً فذلك إنما يتصور في صورتين متناظرتين وعند ذلك فلا يخلو إما أن يظهر بين الصورتين فارق أو لا يظهر: فإن ظهر بينهما فارق فالنقل يكون ممتنعاً وإن لم يظهر بينهما فارق وكان الإمام قد نص على حكم الصورتين فلا يخلو إما أن يكون قد نص عليهما في وقتين أو في وقت واحد.
فإن كان في وقتين: فإما أن يكون التاريخ معلوماً أو غير معلوم فإن كان معلوماً فتنصيصه على الحكم الأخير يستلزم ثبوت مثله في الصورة المنصوص عليها أولا ضرورة عدم الفرق ويلزم من ذلك رجوعه عن الحكم المنصوص عليه أولاً.
وإن لم يكن التاريخ معلوماً فيجب اعتقاد اشتراك الصورتين في أحد الحكمين وهو ما نص عليه آخراً وإن لم يكن معلوماً بعينه وعلى هذا فلا يمكن العمل بأحدهما على سبيل التعيين لجواز أن يكون هو المرجوع عنه كما أسلفناه وأما إن نص على حكمي الصورتين في وقت واحد فهو كما لو نص عليهما في صورة واحدة وقد عرف ما فيه.
المسألة الثامنة(1/429)
اتفقوا على أن حكم الحاكم لا يجوز نقضه في المسائل الاجتهادية لمصلحة الحكم فإنه لو جاز نقض حكمه إما بتغيير اجتهاده أو بحكم حاكم آخر لأمكن نقض الحكم بالنقض ونقض نقض النقض إلى غير النهاية.
ويلزم من ذلك اضطراب الأحكام وعدم الوثوق بحكم الحاكم وهو خلاف المصلحة التي نصب الحاكم لها وإنما يمكن نقضه بأن يكون حكمه مخالفاً لدليل قاطع من نص أو إجماع أو قياس جلي وهو ما كانت العلة فيه منصوصةً أو كان قد قطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع كما سبق تحقيقه.
ولو كان حكمه مخالفاً لدليل طني من نص أو غيره فلا ينقض ما حكم به بالظن لتساويهما في الرتبة ولو حكم على خلاف اجتهاده مقلداً لمجتهد آخر فقد اتفقوا على امتناعه وإبطال حكمه ولو كان الحاكم مقلداً لإمام وحكم بحكم يخالف مذهب إمامه فإن قضينا بصحة حكم المقلد ضرورة عدم المجتهد في زماننا فنقض حكمه مبني على الخلاف في أنه هل يجوز له تقليد غير إمامه فإن منعنا من ذلك نقض وإلا فلا.
وأما المجتهد إذا أداه اجتهاده إلى حكم في حق نفسه كتجويز نكاح المرأة بلا ولي ثم تغير اجتهاده فإما أن يتصل بذلك حكم حاكم آخر أو لا يتصل: فإن كان الأول لم ينقض الاجتهاد السابق نظراً إلى المحافظة على حكم الحاكم ومصلحته.
وإن كان الثاني لزمه مفارقة الزوجة وإلا كان مستديماً لحل الاستمتاع بها على خلاف معتقده وهو خلاف الإجماع وأما إن كان قد أفتى بذلك لغيره وعمل ذلك الغير بفتواه.
ثم تغير اجتهاده فقد اختلفوا في أن المقلد هل يجب عليه مفارقة الزوجة لتغير اجتهاد مفتيه والحق وجوبه كما لو قلد من ليس له أهلية الاجتهاد في القبلة من هو من أهل الاجتهاد فيها ثم تغير اجتهاده إلى جهة أخرى في أثناء صلاة المقلد له فإنه يجب عليه التحول إلى الجهة الأخرى كما لو تغير اجتهاده هو في نفسه.
المسألة التاسعة المكلف إذا اجتهد في مسألة حصلت له أهلية الإجتهاد فيها اتفقوا على أنه لا يجوز له تقليد غيره في خلاف ما أوجبه ظنه المكلف إذا كان قد حصلت له أهلية الاجتهاد بتمامها في مسألة من المسائل فإن اجتهد فيها وأداه اجتهاده إلى حكم فيها فقد اتفق الكل على أنه لا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين في خلاف ما أوجبه ظنه وترك ظنه.
وإن لم يكن قد اجتهد فيها فقد اختلفوا فيه فقال أبو علي الجبائي: الأولى له أن يجتهد وإن لم يجتهد وترك الأولى جاز له تقليد الواحد من الصحابة إذا كان مترجحاً في نظره على غيره ممن خالفه وإن استووا في نظره يخير في تقليد من شاء منهم ولا يجوز له تقليد من عداهم وبه قال الشافعي في رسالته القديمة.
ومن الناس من قال: يجوز له تقليد الواحد من الصحابة أو التابعين دون من عداهم قال محمد بن الحسن: يجوز تقليد العالم لمن هو أعلم منه ولا يقلد من هو مثله أو دونه وسواء كان من الصحابة أو غيرهم وقال ابن سريج يجوز تقليد العالم لمن هو أعلم منه إذا تعذر عليه وجه الاجتهاد.
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وسفيان الثوري يجوز تقليد العالم للعالم مطلقاً.
وعن أبي حنيفة في ذلك روايتان وقال بعض أهل العراق: يجوز تقليد العالم فيما يفتي به وفيما يخصه ومنهم من قال بجواز ذلك فيما يخصه دون ما يفتى به ومن هؤلاء من خصص ذلك بما يفوت وقته لو اشتغل بالاجتهاد.وذهب القاضي أبو بكر وأكثر الفقهاء إلى منع تقليد العالم للعالم سواء كان أعلم منه أو لم يكن وهو المختار.
إلا أن القائلين بذلك قد احتجوا بحجج ضعيفة لا بد من ذكرها والتنبيه على ضعفها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
الحجة الأولى: أن من له أهلية الاجتهاد متمكن من الاجتهاد فلا يجوز مع ذلك مصيره إلى قول غيره كما في العقليات.
الثانية: أنه لو كان قد اجتهد وأداه اجتهاده إلى حكم من الأحكام لم يجز له تقليد غيره وترك ما أدى إليه اجتهاده فكذا لا يجوز له تقليده قبل الاجتهاد لإمكان أن يؤديه اجتهاده إلى خلاف رأي من قلده.
الثالثة: أنه لو جاز لغير الصحابة تقليد الصحابة مع تمكنه من الاجتهاد لجاز لبعض الصحابة من المجتهدين تقليد البعض ولو جاز ذلك لما كان لمناظراتهم فيما وقع بينهم من المسائل الخلافية معنى.(1/430)
الرابعة: أن الصحابة كانت تترك ما رأته باجتهادها لما تسمعه من الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان عمل غيرهم بالخبر وترك العمل برأيهم أولى.
ولقائل أن يقول على الحجة الأولى: إنما لم يجز التقليد العقليات ضرورة أن المطلوب فيها هو العلم وهذا غير حاصل بالتقليد بخلاف مسائل الاجتهاد فإن المطلوب فيها هو الظن وهو حاصل بالتقليد فافترقا.
وعلى الثانية: أنه إذا اجتهد وأداه اجتهاده إلى حكم من الأحكام فوثوقه به أتم من وثوقه بما يقلد فيه الغير لأنه مع مساواة اجتهاده لاجتهاد الغير يحتمل أن لا يكون الغير صادقا فيما أخبر به عن اجتهاده والمجتهد لا يكابر نفسه فيما أدى إليه اجتهاده.
وقبل أن يجتهد لم يحصل له الوثوق بحكم ما فلا يلزم من امتناع التقليد مع الاجتهاد امتناعه مع عدمه.
وعلى الثالثة: أن من المخالفين في هذه المسألة من يجوز تقليد الصحابة بعضهم لبعض إذا كان المقلد أعلم كما سبق في تفصيل المذاهب في أول المسألة وبتقدير التسليم فلا يخفى أن الوثوق باجتهاد الصحابي لمشاهدة الوحي والتنزيل ومعرفة التأويل والاطلاع على أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وزيادة اختصاص الصحابة بالتشدد في البحث عن قواعد الدين وتأسيس الشريعة وعدم تسامحهم فيها أشد من غيرهم على ما قال عليه السلام: " خير القرون القرن الذي أنا فيه " أتم من الوثوق باجتهاد غير الصحابي.
وما مثل هذا التفاوت فغير واقع بين الصحابة وعلى هذا فلا يلزم من جواز تقليد غير الصحابي للصحابي تقليد الصحابي للصحابي.
وعن الرابعة: أن الخبر لا يخلو إما أن يكون صريحاً في مناقضة مذهب الصحابي أو لا يكون صريحاً بل دلالته على ذلك ظنية اجتهادية: فإن كان الأول فلا خفاء في امتناع تقليد الصحابي معه كما يمتنع على الصحابي العمل برأيه مع ذلك الخبر.
وإن كان الثاني فلا نسلم أنه يجب على الصحابي الرجوع إليه مع استمراره على اعتقاد ما رآه أولاً وترجيح ما أداه إليه اجتهاده على ذلك الخبر وعلى ذلك فلا يمتنع تقليد الصحابي مع وجود ذلك الخبر.
والمعتمد في المسألة أن يقال: القول بجواز التقليد حكم شرعي ولا بد له من دليل والأصل عدم ذلك الدليل فمن ادعاه يحتاج إلى بيانه ولا يلزم من جواز ذلك في حق العامي العاجز عن التوصل إلى تحصيل مطلوبه من الحكم جواز ذلك في حق من له أهلية التوصل إلى الحكم وهو قادر عليه ووثوقه به أتم مما هو مقلد فيه لما سبق.
فإن قيل: دليل جواز التقليد في حق من لم يجتهد وإن كانت له أهلية الاجتهاد الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أما الكتاب فقوله تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " النحل 43 أمر بالسؤال وأدنى درجاته جواز اتباع المسؤول واعتقاد قوله وليس المراد به من لم يعلم شيئاً أصلاً بل من لم يعلم تلك المسألة ومن لم يجتهد في المسألة وإن كانت له أهلية الاجتهاد فيها غير عالم بها فكان داخلاً تحت عموم الآية وأيضاً قوله تعالى: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " النساء 59 والمراد بأولي الأمر العلماء أمر غير العالم بطاعة العالم وأدنى درجاته جواز اتباعه فيما هو مذهبه.
وأما السنة فقوله عليه السلام: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وقوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " من بعدي وقوله عليه السلام: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " وأما الإجماع فهو أن عمر رجع إلى قول علي رضي الله عنه وإلى قول معاذ وبايع عبد الرحمن بن عوف عثمان على اتباع سنة الشيخين أبي بكر وعمر ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة مع أن المقلد كان أهلاً للاجتهاد فصار ذلك إجماعاً.
وأما المعقول: فهو أنه لا يقدر باجتهاده على غير الظن واتباع المجتهد فيما ذهب إليه مفيد للظن والظن معمول به في الشرعيات على ما سبق تقريره فكان اتباعه فيه جائزاً.
والجواب عن الآية الأولى: أن المراد بأهل الذكر أهل العلم أي المتمكن من تحصيل العلم بأهليته فيما يسأل عنه لا من العلم بالمسألة المسؤول عنها حاضر عتيد لديه.
فإن أهل الشيء من هو متأهل لذلك الشيء لا من حصل له ذلك الشيء والأصل تنزيل اللفظ على ما هو حقيقة فيه وعلى هذا فتخص الآية بسؤال من ليس من أهل العلم كالعامي لمن هو أهل له.(1/431)
وما نحن فيه فهو من أهل العلم بالتفسير المذكور فلا يكون داخلاً تحت الآية لأن الآية لا دلالة لها على أمر أهل العلم بسؤال أهل العلم فإنه ليس السائل أولى بذلك من المسؤول.
وعن الآية الثانية أن المراد بأولي الأمر الولاة بالنسبة إلى الرعية والمجتهدين بالنسبة إلى العوام بدليل أنه أوجب الطاعة لهم واتباع المجتهد للمجتهد وإن جاز عند الخصوم فغير واجب بالإجماع فلا يكون داخلاً تحت عموم الآية.
وعن السنة ما سبق في مسألة مذهب الصحابي هل هو حجةً أو لا ؟ وعن الإجماع: أما عمر فإنه لم يكن مقداً لعلي ولمعاذ فيما ذهبا إليه بل لأنه اطلع من قوليهما على دليل أوجب رجوعه إليه.
وأما قصة عبد الرحمن بن عوف فقد سبق جوابها في المسائل المتقدمة.
وعن المعقول أنه لو اجتهد وأداه اجتهاده إلى حكم لم يجز له تقليد غيره في خلاف ما أدى إليه اجتهاده إجماعاً فلو جاز له التقليد مع عدم الاجتهاد لكان ذلك بدلا عن اجتهاده والبدل دون المبدل والأصل أن لا يجوز العدول إلى البدل مع إمكان تحصيل المبدل مبالغة في تحصيل الزيادة من مقصوده اللهم إلا أن يرد نص بالتخيير يوجب إلغاء الزيادة من مقصود المبدل أو نص بأنه بدل عند العدم لا عند الوجود كما في بنت مخاض وابن لبون عن خمس وعشرين من الإبل فإن وجود بنت مخاض يمنع من أداء ابن لبون ولا يمتنع ذلك عند عدمها.
والأصل عدم ذلك النص كيف وإن ما ذكروه معارض بقوله تعالى: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " الحشر 2 وقوله تعالى: " وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله " الشورى 10 وقوله تعالى: " واتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم " الأعراف 3 وقوله تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم " الإسراء 36 وبقوله عليه السلام: " اجتهدوا فكل ميسر لما خلق له " وتقليد العالم للعالم يلزم منه ترك الاعتبار وترك العمل بحكم الله ورسوله وترك ما أنزل واقتفاء ما ليس له به علم وترك الاجتهاد المأمور به وهو خلاف ظاهر النص وإذا تعارضت الأدلة سلم لنا ما ذكرناه أولاً.
المسألة العاشرة اختلفوا في أنه هل يجوز أن يقال للمجتهد: احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب فأجاز ذلك قوم لكن اختلفوا: فقال موسى بن عمران بجواز ذلك مطلقاً للنبي وغيره من العلماء وقال أبو علي الجبائي بجواز ذلك للنبي خاصةً في أحد قوليه وقد نقل عن الشافعي في كتاب الرسالة ما يدل على التردد بين الجواز والمنع ومنع من ذلك الباقون.
والمختار جوازه دون وقوعه لكن لا بد من الإشارة إلى حجج عول عليها المجوزون بعضها يدل على الجواز وبعضها يدل على الوقوع والتنبيه على ضعفها كالجاري من عادتنا ثم نذكر بعد ذلك ما هو المعتمد في هذه المسألة.
وقد احتجوا بالنص والإجماع والمعقول.
أما النص فمن جهة الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم اسرائيل على نفسه " آل عمران 93 أضاف التحريم إليه فدل على كونه مفوضاً إليه وأما السنة فمن وجوه.
منها ما روي عن النبي عليه السلام أنه لما قال في مكة " لا يختلي خلاها ولا يعضد شجرها " قال له العباس: إلا الإذخر فقال النبي عليه السلام: " إلا الإذخر " ومعلوم أن ذلك لم يكن إلا من تلقاء نفسه لعلمنا بأن الوحي لم ينزل عليه في تلك الحالة ولولا أن الحكم مفوض إليه لما ساغ ذلك.
ومنها قوله عليه السلام: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " .
ومنها قوله عليه السلام: " عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق " ومنها ما روي أنه لما قيل: له أحجنا هذا لعامنا أم للأبد ؟فقال: " بل للأبد ولو قلت نعم لوجب " أضاف الوجوب والعفو إلى أمره وفعله ولولا أنه مفوض إلى أختياره لما جاز.
ومنها ما روي عنه عليه السلام أنه أمر منادياً يوم فتح مكة " أن اقتلوا ابن حبابة وابن أبي سرح ولو كانا متعلقين بأستار الكعبة " ثم عفا عن ابن أبي سرح بشفاعة عثمان ولو كان قد أمر بقتله بوحي لما خالفه بشفاعة عثمان.
ومنها ما روي عنه عليه السلام أنه لما قتل النضر بن الحارث جاءته بنت النضر فأنشدته.
ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق
فقال عليه السلام: " أما إني لو كنت سمعت شعرها ما قتلته " ولو كان قتله بأمر من الله لما خالفه وإن سمع شعرها.(1/432)
ومنها ما روي عنه عليه السلام أنه لما قيل له إن ماعزاً رجم فقال: " لو كنتم تركتموه حتى أنظر في أمره " وذلك يدل على أن حكم الرجم كان مفوضاً إلى رأيه ومنها قوله عليه السلام: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وعن لحوم الأضاحي ألا فانتفعوا بها " وذلك يدل على تفويض الحل والحرمة في ذلك إليه.
وأما الإجماع فما نقل عن آحاد الصحابة فيما حكم به إن كان صواباً فمن الله ورسوله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان أضاف الحكم إلى نفسه ولم ينكر عليه منكر فصار ذلك إجماعاً ومن ذلك ما شاع وذاع من رجوع آحاد الصحابة عما حكم به أولا من غير نكير عليه ولو لم يكن ذلك من تلقاء نفسه بل عن دليل من الشارع لما شاع ذلك منه ولما جاز تطابق الصحابة على عدم الإنكار عليه وأما المعقول فمن وجوه الأول: أنه إذا جاز تفويض الشارع إلى المكلف اختيار واحدة من خصال الكفارة جاز مثله في الأحكام.
الثاني: أنه إذا جاز أن يفوض إلى العامي العمل بما شاء من فتوى أي المجتهدين شاء من غير دليل جاز مثله في الأحكام الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين.
الثالث: أنه إذا جاز الحكم بالأمارة الظنية مع جواز الخطإ فيها عن الصواب جاز الحكم بما يختاره المجتهد من غير دليل وإن جاز عدو له عن جهة الصواب.
ولقائل أن يجيب عن الآية: بأن إسرائيل لم يكن من جملة بنيه حتى يكون داخلاً في عموم الآية وعند ذلك فيحتمل أن إسرائيل حرم ما حرم على نفسه بالاجتهاد مستنداً إلى دليل ظني لا أنه عن غير دليل.
وعن الخبر الأول: أنه قد قيل إن الإذخر ليس من الخلا فلا يكون داخلاً فيما حرم وعلى هذا فإباحته تكون بناء على استصحاب الحال والاستثناء من العباس والنبي عليه السلام كان تأكيداً وبتقدير أن يكون مستثنىً حقيقةً مما حرم بطريق التأسيس لكن من المحتمل أن يكون ذلك بوحي سابق وهو الأولى لقوله تعالى في حق رسوله: " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " النجم 3 أما أن يكون ذلك من تلقاء نفسه من غير دليل فلا.
وعن الخبر الثاني: أنه من الجائز أن الوحي نزل بتخييره في أمرهم بالسواك الشاق عند كل صلاة وعدم أمرهم بذلك لا أن أمره لهم بالسواك يكون من تلقاء نفسه ويجب اعتقاد ذلك لما سبق في الآية.
وعن الخبر الثالث: أنه إنما أضاف العفو إلى نفسه بمعنى أنه لم يأخذ صدقة الخيل والرقيق منهم لا بمعنى أنه المسقط لها ودليله ما سبق في الآية.
وعن الخبر الرابع: أن قوله ولو قلت نعم لوجب لا يدل على أن الوجوب مستند إلى قوله: نعم من تلقاء نفسه بل لأنه لا يقول ما يقول إلا بوحي لما سبق في الآية.
وعن الخامس: أنه يجوز أن يكون قد أبيح القتل وتركه بالوحي بدليل ما سبق في الآية وهو الجواب عن قصة النضر بن الحارث وماعز.
وعن الخبر الأخير أنه إنما نهى وأباح بعد النهي بطريق الوحي لا أن ذلك من تلقاء نفسه.
وعن الإجماع أما إضافة الخطإ الى أنفسهم فلا يدل على أن من حكم منهم أنه حكم من غير دليل بل يمكن أن يكون حكمه بناء على ما ظنه دليلاً وهو مخطىء فيه ولو كان ذلك عن اختيار قد أبيح لهم العمل به لما شكوا في كونه صواباً.
وأما رجوع آحاد الصحابة عما حكم به إلى غيره فإنما كان ذلك لظهور الخطإ له فيما ظنه دليلاً على الحكم أولا وقد سوغ له الحكم به أما أن يكون ذلك من غير دليل فلا.
وعن الوجه الأول: من المعقول أنه لا يلزم من التخيير في خصال الكفارة من غير اجتهاد جواز ذلك في الأحكام الشرعية بدليل أن العامي له أن يتخير في خصال الكفارة ومن قال بجواز التخيير في الأحكام الشرعية لم يقض بجوازه لغير المجتهد ولو وقع التساوي بين الصورتين لجاز ذلك للعامي وهو ممتنع بالإجماع.
وبمثله يخرج الجواب عن الوجه الثاني.
وعن الوجه الثالث: أنه لا يلزم من جواز العمل بالأمارة مع كونها مفيدة للظن العمل بالاختيار من غير ظن مفيد للحكم.
والمعتمد في المسألة أن يقال: لو امتنع ذلك إما أن يمتنع لذاته أو لمانع من خارج الأول محال فأنا إذا قدرناه لم يلزم عنه لذاته محال في العقل وإن كان لمانع من خارج فالأصل عدمه وعلى من يدعيه بيانه.(1/433)
فإن قيل: يمتنع ذلك لأن الباري تعالى إنما شرع الشرائع لمصالح العباد فلو فوض ذلك إلى اختيار العبد فاختيار العبد متردد بين أن يكون مصلحةً وبين أن يكون مفسدة فلا نأمن من اختياره للمفسدة وذلك خلاف ما وضعت له الشريعة.
والجواب عن هذا الإشكال أنه مبني على رعاية المصلحة في أفعال الله تعالى وقد أبطلناه في موضعه وإن سلمنا اعتبار ذلك في أفعاله تعالى ولكن قد أمنا في ذلك من اختيار المفسدة لقول الله اختر فإنك لا تختار إلا الصواب.
فإن قيل: يمتنع على الشارع قول ذلك لاستحالة استمرار المكلف على اختيار الصلاح دون الفساد كما لا يجوز اتفاق الأفعال الكثيرة المحكمة من غير علم ثم لو جاز ذلك في حق المجتهد لجاز مثله في حق العامي وليس كذلك.
قلنا: دليل جواز ذلك من الشارع أنا لو قدرنا وروده منه لم يلزم عنه لذاته محال.
قولهم: إنه لا يتفق اختيار الصلاح في الأفعال الكثيرة قلنا: متى إذا أخبر الصادق بذلك أو إذا لم يخبر؟ الأول ممنوع.
والثاني مسلم.وعلى هذا فلو قال للعامي مثل ذلك كان جائزاً عقلاً.
ثم وإن سلمنا أنه لا يتفق اختيار المصلحة في الأفعال الكثيرة لكن متى إذا كانت المصلحة خارجة عن الفعل المختار أو إذا كانت المصلحة هي نفس الفعل المختار الأول مسلم والثاني ممنوع.
فإن قيل: فيلزم من ذلك الإباحة وإسقاط التكليف قلنا: ليس كذلك بل هو إيجاب التخيير وإيجاب التخيير تكليف لا أنه إباحة وإسقاط للتكليف.
فإن قيل: إنما يحسن إيجاب ما يمكن الخلو منه ويمتنع الخلو من الفعل والترك فلا يحسن إيجابه قلنا هذا وإن استمر في إيجاب الفعل وتركه فلا يستمر في التخيير بين الأحكام التي يتصور الخلو منها كالتخيير بين أن يكون الفعل محرماً أو واجباً.
وذلك بأن يقال له: اختر إما التحريم وإما الوجوب وأيهما اخترت فلا تختر إلا ما المصلحة فيه ولا يخفى جواز الخلو منهما بالإباحة.
وإن سلمنا أن المصلحة خارجة عن نفس الفعل المختار وأنه يمتنع اختيار المصلحة في الأفعال الكثيرة ولكن ما المانع من ذلك في الأفعال القليلة.
فإن قيل: إنه إما أن يكون قد أوجب عليه اختيار ما المصلحة فيه أو خيره بين المصلحة والمفسدة فإن كان الأول فقد كلفه ما لا يطاق حيث أوجب عليه اختيار المصلحة من غير دليل وإن كان الثاني فهو محال على الشارع لما فيه من الإذن منه في فعل المفسدة وهو خارج عن العدل.
قلنا: إن أوجب عليه اختيار المصلحة وإن كان تكليفا بما لا يطاق فهو جائز على ما سبق تقريره.
وإن خيره بين أمرين فلا يمتنع ذلك كما أنه يوجب عليه الحكم بما أوجبه ظنه من الأمارة الظنية وإن كان مخطئاً مرتكباً للمفسدة كما تقرر قبل.
وإذا جاز إيجاب فعل ما هو مفسدة مع عدم علم المكلف به جاز التخيير بين المصلحة والمفسدة مع عدم علم المكلف بذلك.
المسألة الحادية عشرة القائلون بجواز الاجتهاد للنبي عليه السلام اختلفوا في جواز الخطإ عليه في اجتهاده فذهب بعض أصحابنا إلى المنع من ذلك.وذهب أكثر أصحابنا والحنابلة وأصحاب الحديث والجبائي وجماعة من المعتزلة إلى جوازه لكن بشرط أن لا يقر عليه وهو المختار ودليله المنقول والمعقول.
أما المنقول فمن جهة الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين " التوبة 43 وذلك يدل على خطئه في إذنه لهم.
وقوله تعالى في المفاداة في يوم بدر: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " الأنفال67 إلى قوله تعالى: " لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم " الأنفال 68 حتى قال النبي عليه السلام: " لو نزل من السماء عذاب لما نجا منه إلا عمر " لأنه كان قد أشار بقتلهم ونهى عن المفاداة وذلك دليل على خطئه في المفاداة.
وقوله تعالى: " إنما أنا بشر مثلكم " فصلت 6 أثبت المماثلة بينه وبين غيره.
وقد جاز الخطأ على غيره فكان جائزاً عليه لأن ما جاز على أحد المثلين يكون جائزاً على الآخر.
وأما السنة فما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: " إنما أحكم بالظاهر وإنكم لتختصمون إلي ولعل أحدكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار " وذلك يدل على أنه قد يقضي بما لا يكون حقا في نفس الأمر.(1/434)
وأيضاً ما روي عنه عليه السلام أنه قال: " إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني " .
وأيضاً ما اشتهر عنه عليه السلام من نسيانه في الصلاة وتحلله عن ركعتين في الرباعية في قصة ذي اليدين وقول ذي اليدين أقصرت الصلاة أم سهوت؟ فقال النبي عليه السلام: " أحق ما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم.
وأما المعقول فإنه لو امتنع وقوع الخطإ منه في اجتهاده فإما أن يكون ذلك لذاته أو لأمر من خارج لا جائز أن يقال بالأول فإنا لو فرضناه لم يلزم عنه المحال لذاته عقلاً وإن كان لأمر خارج فالأصل عدمه وعلى مدعيه بيانه.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض من ثلاثة أوجه : الأول: أنا قد أمرنا باتباع حكمه على ما قال تعالى: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً " النساء 65 فلو جاز عليه الخطأ في حكمه لكنا قد أمرنا باتباع الخطإ والشارع لا يأمر بالخطإ.
الثاني: أن الأمة إذا أجمعت على حكم مجتهد فيه كان إجماعهم معصوماً عن الخطإ كما سبق بيانه.
ولو جاز على النبي الخطأ في اجتهاده لكانت الأمة أعلى رتبة منه وذلك محال.
الثالث: أن المقصود من البعثة وإظهار المعجزة اتباع النبي عليه السلام في الأحكام الشرعية إقامة لمصالح الخلق فلو جاز عليه الخطأ في حكمه لأوجب ذلك التردد في قوله والشك في حكمه وذلك مما يخل بمقصود البعثة وهو محال.
والجواب عن الإشكال الأول: أنه يلزم على ما ذكروه أمر الشارع للعامي باتباع قول المفتي مع جواز خطئه فما هو جواب لهم في صورة الإلزام فهو جواب لنا في محل النزاع.
وعن الإشكال الثاني: أن من الناس من منع من تصور انعقاد الإجماع عن الاجتهاد فضلاً عن وقوعه وامتناع الخطأ فيه.
ومنهم من جوزه وجوز مع ذلك مخالفته لإمكان الخطإ فيه كما سبق ذكره في مسائل الإجماع وبتقدير التسليم لانعقاد الإجماع عن الاجتهاد وامتناع الخطإ فيه فلا مانع منه ولا يلزم من ذلك علو رتبة الأمة على رتبة النبي عليه السلام مع اختصاصه بالرسالة وكون عصمة الإجماع مستفادةً من قوله وأنه الشارع المتبع وأهل الإجماع متبعون له ومأمورون بأوامره ومنهيون بنواهيه.ولا كذلك بالعكس.
وعن الثالث: أن المقصود من البعثة إنما هو تبليغه عن الله تعالى أوامره ونواهيه.
والمقصود من إظهار المعجزات إظهار صدقه فيما يدعيه من الرسالة والتبليغ عن الله تعالى وذلك مما لا يتصور خطؤه فيه بالإجماع.
ولا كذلك ما يحكم به عن اجتهاده فإنه لا يقول ما يقوله فيه عن وحي ولا بطريق التبليغ بل حكمه فيه حكم غيره من المجتهدين فتطرق الخطإ إليه في ذلك لا يوجب الإخلال بمعنى البعثة والرسالة.
المسألة الثانية عشرة اختلفوا في النافي هل عليه دليل أو لا ؟ منهم من قال: لا دليل عليه وسواء كان ذلك من القضايا العقلية أو الشرعية.
ومنهم من أوجب ذلك عليه في الموضعين ومنهم من أوجبه عليه في القضايا العقلية دون الشرعية.
والمختار إنما هو التفصيل وهو أن النافي إما أن يكون نافياً بمعنى ادعائه عدم علمه بذلك وظنه أو مدعياً للعمل أو الظن بالنفي فإن كان الأول فالجاهل لا يطالب بالدليل على جهله ولا يلزمه ذلك كما لا يطالب على دعواه أني لست أجد ألما ولا جوعاً ولا حراً ولا برداً إلى غير ذلك.
وإن كان الثاني فلا يخلو إما أن يدعي العلم بنفي ما نفاه ضرورةً أو لا بطريق الضرورة فإن كان الأول فلا دليل عليه أيضاً لأنه إن كان صادقاً في دعوى الضرورة فالضروري لا يطالب بالدليل عليه.
وإن لم يكن صادقاً في دعواه الضرورة فلا يطالب بالدليل عليه أيضاً فإنه ما ادعى حصوله له عن نظر.
ويكفي المنع في انقطاعه حيث إنه لا يقدر على تحقيق الضرورة في ذلك والنظر غير مدعى له وإن ادعى العلم بنفيه لا بطريق الضرورة فلا يخلو إما أن لا يكون قد حصل له بطريق مفض إليه أو يكون بطريق مفض إليه لا جائز أن يقال بالأول لأن حصول علم غير ضروري من غير طريق يفضي إليه محال.(1/435)
وإن كان الثاني فلا بد عند الدعوى والمطالبة بدليلها من ذكره وكشفه لينظر فيه.وإلا كان قد كتم علماً نافعاً مست الحاجة إلى إظهاره ودخل تحت قوله عليه السلام: " من كتم علماً نافعاً فقد تبوأ مقعده من النار " ولأنه لا فرق في ذلك في دعوى الإثبات والنفي وقد وجب على مدعي الإثبات ذكر الدليل فكذلك في دعوى النفي كيف وإن الإجماع منعقد على أن من ادعى الوحدانية لله تعالى وقدمه أنه يجب عليه إقامة الدليل وإن كان حاصل دعوى الوحدانية نفي الشريك وحاصل دعوى القدم نفي الحدوث والأولية.
ولهذا نبه الله تعالى على نفي آلهة غير الله على الدليل في قوله تعالى: " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " الآية الأنبياء 22.
فإن قيل: فماذا تقولون فيما إذا ادعى رجل أنه نبي ولم تقم على دعواه بينة؟ هل يلزم المكرين لنبوته إقامة الدليل على أنه ليس بنبي أو لا يلزم؟ وكذلك من أنكر وجوب صلاة سادسة أو صوم شوال أو المدعى عليه بحق إذا أنكر ما ادعي عليه به هل يلزمه إقامة الدليل على ما نفاه أو لا إن قلتم بالأول فهو خلاف الإجماع وإن قلتم بالثاني مع كونه نافياً في قضية غير ضرورية فقد سلمتم محل النزاع.
قلنا: النفي في جميع هذه الصور لم يخل عن دليل يدل على النفي غير أنه قد يكتفي بظهوره عن ذكره وهو البقاء على النفي الأصلي واستصحاب الحال مع عدم القاطع له وهو ما يدل على النبوة وما يدل على وجوب صلاة سادسة وعلى وجوب صوم شوال وشغل الذمة.
وإذا قيل إن النافي عليه دليل فالدليل المساعد في ذلك إما نص وارد من الشارع يدل على النفي أو إجماع من الأمة وإما التمسك باستصاحب النفي الأصلي وعدم الدليل المغير القاطع وإما الاستدلال بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم.
وهل يمكن الاستدلال على النفي بالقياس الشرعي؟ اختلفوا فيه بناء على الاختلاف في جواز تخصيص العلة ولا فرق في ذلك بين قياس العلة والدلالة والقياس في معنى الأصل.
الباب الثاني
في التقليد والمفتي والمستفتي
وما فيه الاستفتاء وما يتشعب عن ذلك من المسائل
أما التقليد فعبارة عن العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة وهو مأخوذ من تقليده بالقلادة وجعلها في عنقه وذلك كالأخذ بقول العامي وأخذ المجتهد بقول من هو مثله.
وعلى هذا فالرجوع إلى قول النبي عليه السلام وإلى ما أجمع عليه أهل العصر من المجتهدين ورجوع العامي إلى قول المفتي وكذلك عمل القاضي بقول العدول لا يكون تقليدا لعدم عروه عن الحجة الملزمة.
أما في قبول قول الرسول فما دل على وجوب تصديقه من المعجزة ووجوب قبول قول الإجماع قول الرسول ووجوب قبول قول المفتي والشاهدين الإجماع على ذلك وإن سمي ذلك تقليدا بعرف الاستعمال فلا مشاحة في اللفظ.
وأما المفتي فلا بد وأن يكون من أهل الاجتهاد وإنما يكون كذلك بأن يكون عارفاً بالأدلة العقلية كأدلة حدوث العالم وأن له صانعاً وأنه واحد متصف بما يجب له من صفات الكمال والجلال منزه عن صفات النقص والخلل وأنه أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم وأيده بالمعجزات الدالة على صدقه في رسالته وتبليغه للأحكام الشرعية وأن يكون مع ذلك عارفاً بالأدلة السمعية وأنواعها واختلاف مراتبها في جهات دلالاتها والناسخ والمنسوخ منها والمتعارضات وجهات الترجيح فيها وكيفية استثمار الأحكام منها على ما سبق تعريفه وأن يكون عدلاً ثقة حتى يوثق به فيما يخبر عنه من الأحكام الشرعية ويستحب له أن يكون قاصداً للإرشاد وهداية العامة إلى معرفة الأحكام الشرعية لا بجهة الرياء والسمعة متصفا بالسكينة والوقار ليرغب المستمع في قبول ما يقول كافا نفسه عما في أيدي الناس حذراً من التنفير عنه.
وأما المستفتي فلا يخلو إما أن يكون عالماً قد بلغ رتبة الاجتهاد أو لم يكن كذلك فإن كان الأول قد اجتهد في المسألة وأداه اجتهاده إلى حكم من الأحكام فلا خلاف في امتناع اتباعه لغيره في خلاف ما أداه إليه اجتهاده وإن لم يكن قد اجتهد فيها فقد اختلفوا في جواز اتباعه لغيره من المجتهدين فيما أدى إليه اجتهاده وقد سبق الكلام فيه بجهة التفصيل وما هو المختار(1/436)
وإن لم يكن من أهل الاجتهاد فلا يخلو إما أن يكون عامياً صرفاً لم يحصل له شيء من العلوم التي يترقى بها إلى رتبة الاجتهاد أو أنه قد ترقى عن رتبة العامة بتحصيل بعض العلوم المعتبرة في رتبة الاجتهاد فإن كان الأول فقد اختلف في جواز اتباعه لقول المفتي والصحيح أن وظيفته اتباع قول المفتي على ما يأتي.
وإن كان الثاني فقد تردد أيضاً فيه والصحيح أن حكمه حكم العامي.
وأما ما فيه الاستفتاء فلا يخلو إما أن يكون من القضايا العلمية أو الظنية الاجتهادية فإن كان الأول فقد اختلف أيضاً في جواز اتباع قول الغير فيه والحق امتناعه كما يأتي.
وإن كان الثاني فهو المخصوص بجواز الاستفتاء عنه ووجوب اتباع قول المفتي.
وإذ أتينا على ما حققناه فلنرجع إلى المسائل المتشعبة عنه وهي ثمان.
المسألة الاولى اختلفوا في جواز التقليد في المسائل الأصولية المتعلقة بالاعتقاد في وجود الله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه وما يجب له وما يستحيل عليه فذهب عبيد الله بن الحسن العنبري والحشوية والتعليمية إلى جوازه.وربما قال بعضهم إنه الواجب على المكلف وإن النظر في ذلك والاجتهاد فيه حرام.وذهب الباقون إلى المنع منه وهو المختار لوجوه.
الأول: أن النظر واجب وفي التقليد ترك الواجب فلا يجوز.
ودليل وجوبه أنه لما نزل قوله تعالى: " إن في خلق السماوات والأرض " آل عمران 190 الآية قال عليه السلام: " ويل لمن لاكها بين لحييه ولم يتفكر فيها " توعد على ترك النظر والتفكر فيها فدل على وجوبه.
الثاني: أن الإجماع من السلف منعقد على وجوب معرفة الله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز فالتقليد إما أن يقال إنه محصل للمعرفة أو غير محصل لها القول بأنه محصل للمعرفة ممتنع لوجوه الأول أن المفتي بذلك غير معصوم ومن لا يكون معصوماً ولا يكون خبره واجب الصدق وما لا يكون واجب الصدق فخبره لا يفيد العلم.
الثاني أنه لو كان التقليد يفيد العلم لكان العلم حاصلاً لمن قلد في حدوث العالم ولمن قلد في قدمه وهو محال لإفضائه إلى الجمع بين كون العالم حادثاً وقديماً.
الثالث أنه لو كان التقليد مفيداً للعمل فالعلم بذلك إما أن يكون ضرورياً أو نظرياً لا جائز أن يكون ضرورياً وإلا لما خالف فيه أكثر العقلاء ولأنه لو خلاً الإنسان ودواعي نفسه من مبدإ نشئه لم يجد ذلك من نفسه أصلاً والأصل عدم الدليل المفضي إليه فمن ادعاه لا بد له من بيانه الوجه الثالث: من الوجوه الأول أن التقليد مذموم شرعاً فلا يكون جائزاً غير أنا خالفنا ذلك في وجوب اتباع العامي المجتهد وفيما ذكرناه من الصور فيما سبق لقيام الدليل على ذلك والأصل عدم الدليل الموجب للاتباع فيما نحن فيه فنبقي على مقتضي الأصل.
وبيان ذم التقليد قوله تعالى حكاية عن قوم: " إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون " الزخرف 23 ذكر ذلك في معرض الذم لهم.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض من وجوه الأول أن النظر غير واجب لوجوه.
الأول: أنه منهي عنه ودليل النهي عنه الكتاب والسنة : أما الكتاب فقوله تعالى: " وما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا " غافر4 والنظر يفضي إلى فتح باب الجدال فكان منهياً عنه.
وأما السنة فما روي عن النبي عليه السلام أنه نهى الصحابة لما رآهم يتكلمون في مسألة القدر وقال: " إنما هلك من كان قبلكم لخوضهم في هذا " وقال عليه السلام: " عليكم بدين العجائز " وهو ترك النظر ولو كان النظر واجباً لما كان منهياً عنه.
الثاني: أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة الخوض والنظر في المسائل الكلامية مطلقاً ولو وجد ذلك منهم لنقل كما نقل عنهم النظر في المسائل الفقهية ولو كان النظر في ذلك واجباً لكانوا أولى بالمحافظة عليه.
الثالث: أنه لم ينقل عن النبي عليه السلام ولا عن أحد من الصحابة والتابعين إلى زمننا هذا الإنكار على من كان في زمانهم من العوام ومن ليس له أهلية النظر على ترك النظر مع أنهم أكثر الخلق بل كانوا حاكمين بإسلامهم مقرين لهم على ما هم عليه.(1/437)
الرابع: لو كان النظر في معرفة الله تعالى واجباً فإما أن يجب على العارف أو على غير العارف الأول محال لما فيه من تحصيل الحاصل والثاني يلزم منه أن يكون الجهل بالله تعالى واجباً ضرورة توقف النظر الواجب عليه وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ولأنه يلزم منه توقف معرفة إيجاب الله تعالى على معرفة ذاته ومعرفة ذاته على النظر المتوقف على إيجابه وهو دور.
المعارضة الثانية: أن النظر مظنة الوقوع في الشبهات واضطراب الآراء والخروج إلى الضلال بخلاف التقليد فكان سلوك ما هو أقرب إلى السلامة أولى.ولهذا صادفنا أكثر الخلق على ذلك فكان أولى بالاتباع.
الثالثة: أن أدلة الأصول فيما يرجع إلى الغموض والخفاء أشد من أدلة الفروع فإذا جاز التقليد في الفروع مع سهولة أدلتها دفعاً للحرج فلأن يجوز ذلك في الأصول أولى.
الرابعة: أن الأصول والفروع قد استويا في التكليف بهما وقد جاز التقليد في الفروع فكذلك في الأصول.
والجواب عن المعارضة الأولى بمنع النهي عن النظر وأما الآية فالمراد بهما إنما هو الجدال بالباطل على ما قال تعالى: وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق " غافر 5 دون الجدال بالحق ودليله قوله تعالى: " وجادلهم بالتي هي أحسن " النحل 125 وقوله تعالى: " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " العنكبوت 46 ولو كان الجدال بالحق منهياً عنه لما كان مأموراً به ثم كيف يكون النظر منهياً عنه وقد أثنى الله تعالى على الناظرين بقوله تعالى: " ويتفكرون في خلق السموات والأرض " آل عمران 191 أورد ذلك في معرض الثناء والمدح والمنهي عنه لا يكون ممدوحاً عليه.
وبه يخرج الجواب عن نهيه عن النظر في القدر.وقوله عليه السلام: " عليكم بدين العجائز " لم يثبت ولم يصح.
وإن صح فيجب حمله على التفويض إلى الله تعالى فيما قضاه وأمضاه جمعا بينه وبين ما ذكرناه من الأدلة.
قولهم: لم ينقل عن أحد من الصحابة النظر في ذلك يلزم منه نسبة الصحابة إلى الجهل بمعرفة الله تعالى مع كون الواحد منا عالماً بذلك وهو محال.
وإذا كانوا عالمين بذلك فليس العلم بذلك من الضروريات فتعين إسناده إلى النظر والدليل وإنما لم تنقل عنهم المناظرة في ذلك لصفاء أذهانهم وصحة عقائدهم وعدم من يحوجهم إلى ذلك وحيث نقل عنهم ذلك في مسائل الفروع فلكونها اجتهادية والظنون فيها متفاوتة بخلاف المسائل القطعية.
قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لم ينكروا على العامة ترك النظر قلنا: إنما لم ينكروا ذلك لأن المعرفة الواجبة كانت حاصلةً لهم وهي المعرفة بالدليل من جهة الجملة لا من جهة التفصيل.
قولهم: إن وجوب النظر يلزم منه وجوب الجهل بالله تعالى إنما يلزم ذلك أن لو كان الجهل مقدورا للعبد وهو غير مسلم.
قولهم: يلزم منه الدور لا نسلم ذلك فإن الواجب الشرعي عندنا غير متوقف على النظر كما سبق في مسألة شكر المنعم.
قولهم: إن النظر مظنة الوقوع في الشبهات والتردي في الضلالات قلنا فاعتقاد من يقلده إما أن يكون عن تقليد أو نظر ضرورة امتناع كونه ضرورياً فإن كان الأول فالكلام فيمن قلده كالكلام فيه وهو تسلسل ممتنع وإن كان الثاني فالمحذور اللازم من النظر لازم في التقليد مع زيادة وهو احتمال كذب من قلده فيما أخبره به بخلاف الناظر مع نفسه فإنه لا يكابر نفسه فيما أدى إليه نظره.
قولهم إن التقليد عليه الأكثر والسواد الأعظم.قلنا: ذلك لا يدل على أنه أقرب إلى السلامة لأن التقليد في العقائد المضلة أكثر من الصحيحة على ما قال تعالى: " وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله " الأنعام 116 وقال تعالى: " وقليل ما هم ص 24 وقال عليه السلام: " تفترق أمتي ثلاثاً وسبعين فرقةً واحدة ناجية والباقي في النار " وإنما كان ذلك لأن أدلة الحق دقيقة غامضة لا يطلع عليها سوى أصحاب الأذهان الصافية والعقول الراجحة مع المبالغة في الجد والاجتهاد وذلك مما يندر ويقل وقوعه.
قولهم: إن أدلة الأصول أخفى فكان التقليد فيها أولى من الفروع ليس كذلك فإن المطلوب في الأصول القطع واليقين بخلاف الفروع فإن المطلوب فيها الظن وهو حاصل من التقليد فلا يلزم من جواز التقليد في الفروع جوازه في الأصول.
وبه يكون الجواب عن المعارضة الأخيرة أيضاً.
المسألة الثانية(1/438)
العامي ومن ليس له أهلية الاجتهاد يلزمه اتباع قول المجتهدين العامي ومن ليس له أهلية الاجتهاد وان كان محصلاً لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد يلزمه اتباع قول المجتهدين والأخذ بفتواه عند المحققين من الأصوليين.
ومنع من ذلك بعض معتزلة البغداديين وقالوا لا يجوز ذلك الا بعد أن يتبين له صحة اجتهاده بدليله.
ونقل عن الجبائي أنه أباح ذلك في مسائل الاجتهاد دون غيرها كالعبادات الخمس.
والمختار إنما هو المذهب الأول.ويدل عليه النص والإجماع والمعقول.
أما النص فقوله تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " النحل 43 وهو عام لكل المخاطبين ويجب أن يكون عاماً في السؤال عن كل ما لا يعلم بحيث يدخل فيه محل النزاع وإلا كان متناولاً لبعض ما لا يعلم بعينه أو لا بعينه والأول غير مأخوذ من دلالة اللفظ والثاني يلزم منه تخصيص ما فهم من معنى الأمر بالسؤال وهو طلب الفائدة ببعض الصور دون البعض وهو خلاف الأصل.
وإذا كان عاماً في الأشخاص وفي كل ما ليس بمعلوم فأدنى درجات قوله فاسألوا الجواز وهو خلاف مذهب الخصوم.
وأما الإجماع فهو أنه لم تزل العامة في زمن الصحابة والتابعين قبل حدوث المخالفين يستفتون المجتهدين ويتبعونهم في الأحكام الشرعية والعلماء منهم يبادرون إلى إجابة سؤالهم من غير إشارة إلى ذكر الدليل ولا ينهونهم عن ذلك من غير نكير فكان إجماعا على جواز اتباع العامي للمجتهد مطلقاً.
وأما المعقول فهو أن من ليس له أهلية الاجتهاد إذا حدثت به حادثة فرعية إما أن لا يكون متعبدا بشيء وهو خلاف الإجماع من الفريقين وإن كان متعبدا بشيء فإما بالنظر في الدليل المثبت للحكم أو بالتقليد الأول ممتنع لأن ذلك مما يفضي في حقه وفي حق الخلق أجمع إلى النظر في أدلة الحوادث والاشتغال عن المعايش وتعطيل الصنائع والحرف وخراب الدنيا وتعطيل الحرث والنسل ورفع الاجتهاد والتقليد رأسا وهو من الحرج والإضرار المنفي بقوله تعالى: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " الحج 78 وبقوله عليه السلام: " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " وهو عام في كل حرج وضرار ضرورة كونه نكرة في سياق النفي.
غير أنا خالفناه في امتناع التقليد في أصول الدين لما بيناه من الفرق في مسألة امتناع التقليد في أصول الدين ولأن الوقائع الحادثة الفقهية أكثر بأضعاف كثيرة من المسائل الأصولية التي قيل فيها بامتناع التقليد فكان الحرج في إيجاب الاجتهاد فيها أكثر فبقينا فيما عدا ذلك عاملين بقضية الدليل وهو عام في المسائل الاجتهادية وغيرها.
فإن قيل ما ذكرتموه معارض بالكتاب والسنة والمعقول أما الكتاب فقوله تعالى: " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " البقرة 169 والقول بالتقليد قول بما ليس بمعلوم فكان منهياً عنه وأيضاً.
قوله تعالى حكاية عن قوم: " إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون " الزخرف 23 ذكر ذلك في معرض الذم للتقليد والمذموم لا يكون جائزاً.
وأما السنة فقوله عليه السلام: " طلب العلم فريضة على كل مسلم " وقوله عليه السلام: " اجتهدوا فكل ميسر لما خلق له " والنصان عامان في الأشخاص وفي كل علم وهما يدلان على وجوب النظر.
وأما المعقول فمن وجهين الأول أن العامي لو كان مأموراً بالتقليد فلا يأمن أن يكون من قلده مخطئاً في اجتهاده وأنه كاذب فيما أخبره به فيكون العامي مأموراً باتباع الخطإ والكذب وذلك على الشارع ممتنع.
الثاني: أن الفروع والأصول مشتركة في التكليف بها فلو جاز التقليد في الفروع لمن ظهر صدقه فيما أخبر به لجاز ذلك في الأصول.
والجواب عن الآية الأولى: أنها مشتركة الدلالة فإن النظر أيضاً والاجتهاد في المسائل الاجتهادية قول بما ليس بمعلوم ولا بد من سلوك أحد الأمرين.
وليس في الآية دليل على تعيين امتناع أحدهما كيف ويجب حملها على ما لا يعلم فيما يشترط فيه العلم تقليلا لتخصيص العموم ولما فيه من موافقة ما ذكرناه من الأدلة.
وعن الآية الثانية: بوجوب حملها على ذم التقليد فيما يطلب فيه العلم جمعا بينها وبين ما ذكرناه من الأدلة.
وعن الخبر الأول: أنه متروك بالإجماع في محل النزاع فإن القائل فيه قائلان قائل بأن الواجب التقليد وقائل إن الواجب إنما هو النظر والعلم غير مطلوب فيهما إجماعاً.(1/439)
وعن الثاني: لا نسلم دلالته على الوجوب على ما سبق تعريفه وإن دل على وجوب الاجتهاد لكنه لا عموم له بالنسبة إلى كل مطلوب حتى يدخل فيه محل النزاع وإن كان عاما بلفظه لكن يجب حمله على من له أهلية الاجتهاد جمعاً بينه وبين ما ذكرناه من الأدلة.
وعن الوجه الأول: من المعقول أنه وإن اجتهد العامي فلا نأمن من وقوع الخطإ منه بل هو أقرب إلى الخطإ لعدم أهليته والمحذور يكون مشتركاً وعن الوجه الثاني: ما سبق من الفرق.
المسألة الثالثة القائلون بوجوب الاستفتاء على العامي اتفقوا على جواز استفتائه لمن عرفه بالعلم وأهلية الاجتهاد والعدالة بأن يراه منتصباً للفتوى والناس متفقون على سؤاله والاعتقاد فيه وعلى امتناعه فيمن عرفه بالضد من ذلك.
واختلفوا في جواز استفتاء من لم يعرفه بعلم ولا جهالة.
والحق امتناعه على مذهب الجمهور وذلك لأنه لا نأمن أن يكون حال المسؤول كحال السائل في العامية المانعة من قبول القول.
ولا يخفى أن احتمال العامية قائم بل هو أرجح من احتمال صفة العلم والاجتهاد نظراً إلى أن الأصل عدم ذلك وإلى أن الغالب إنما هو العوام وأن اندراج من جهلنا حالة تحت الأغلب أغلب على الظن.
ولهذا امتنع قبول قول مدعي الرسالة وقبول قول الراوي والشاهد إذا لم يقم دليل على صدقه.
فإن قيل: إذا لم يعرف العامي السائل عدالة المفتي فلا يخلو إما أن يقال إنه يجب عليه البحث عن عدالته أو لا يجب فإن قيل بالأول فهو خلاف ما الناس عليه في العادة من غير نكير وإن قيل بالثاني فلا يخفى أن احتمال عدم العدالة مقاوم لاحتمال العدالة وعند ذلك فاحتمال صدقه فيما يخبر به مقاوم لاحتمال كذبه.
وعند ذلك إما أن يلزم من جواز الاستفتاء مع الجهل بالعدالة جوازه مع الجهل بالعلم أو لا يلزم فإن لم يلزم فما الفرق وإن لزم فهو المطلوب.
قلنا: لا نسلم جريان العادة بما ذكروه عند إرادة الاستفتاء وعلى هذا فلا بد من السؤال عن العدالة بما يغلب على الظن من قول عدل أو عدلين.
وإن سلمنا أنه لا يحتاج إلى البحث عن ذلك فالفرق ظاهر وذلك لأن الغالب من حال المسلم ولا سيما المشهور بالعلم والاجتهاد إنما هو العدالة وهو كاف في إفادة الظن ولا كذلك في العلم لأنه ليس الأصل في كل إنسان أن يكون عالما مجتهدا ولا الغالب ذلك.
المسألة الرابعة إذا استفتى العامي عالما في مسألة فأفتاه ثم حدث مثل تلك الواقعة فهل يجب على المفتي أن يجتهد لها ثانياً ولا يعتمد على الاجتهاد الأول ؟ اختلفوا فيه فمنهم من قال لا بد من الاجتهاد ثانياً لاحتمال أن يتغير اجتهاده ويطلع على ما لم يكن اطلع عليه أولا.
ومنهم من قال لا حاجة إلى اجتهاد آخر لأن الأصل عدم اطلاعه على ما لم يطلع عليه أولا.
والمختار إنما هو التفصيل وهو أنه إما أن يكون ذاكرا للاجتهاد الأول أو غير ذاكر له فإن كان الأول فلا حاجة إلى اجتهاد آخر كما لو اجتهد في الحال.
وإن كان الثاني فلا بد من الاجتهاد لأنه في حكم من لم يجتهد.
المسألة الخامسة اختلفوا في أنه هل يجوز خلو عصر من الأعصار عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه ؟ فمنع منه قوم كالحنابلة وغيرهم وجوزه آخرون وهو المختار وذلك لأنه لو امتنع لامتنع إما لذاته أو لأمر من خارج الأول محال فإنا لو فرضنا وقوعه لم يلزم عنه لذاته محال عقلا وإن كان الثاني فالأصل عدمه وعلى مدعيه بيانه.
فإن قيل: دليل امتناعه النص والمعقول.
أما النص فقوله عليه السلام: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله وحتى يظهر الدجال " وأيضا ما روي عنه عليه السلام أنه قال: " واشوقاه إلى إخواني! قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ فقال: أنتم أصحابي إخواني قوم يأتون بعدي يهربون بدينهم من شاهق إلى شاهق ويصلحون إذا فسد الناس " وأيضا قوله عليه السلام: " العلماء ورثة الأنبياء " وأحق الأمم بالوراثة هذه الأمة وأحق الأنبياء بإرث العلم عنه نبي هذه الأمة.
وأما المعقول فمن وجهين : الأول أن التفقه في الدين والاجتهاد فيه فرض على الكفاية بحيث إذا اتفق الكل على تركه أثموا.فلو جاز خلو العصر عمن يقوم به لزم منه اتفاق أهل العصر على الخطإ والضلالة وهو ممتنع لما سبق.(1/440)
الثاني أن طريق معرفة الأحكام الشرعية إنما هو الاجتهاد فلو خلا العصر عن مجتهد يمكن الاستناد إليه في معرفة الأحكام أفضى إلى تعطيل الشريعة واندراس الأحكام وذلك ممتنع لأنه على خلاف عموم ما سبق من النصوص.
والجواب عما ذكروه من النصوص أنها معارضة بما يدل على نقيضها فمن ذلك قوله عليه السلام " : بدىء الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ " وقوله عليه السلام: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ولكن بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " وقوله عليه السلام: " تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها أول ما ينسى " وقوله عليه السلام: " لتركبن سنن من كان قبلكم حذوا القذة بالقذة " وقوله صلى الله عليه وسلم: " خير القرون القرن الذي أنا " فيه ثم الذي يليه ثم الذي يليه ثم تبقى حثالة كحثالة التمر لا يعبأ الله بهم وإذا تعارضت النصوص سلم لنا ما ذكرناه من الدليل أولاً.
وما ذكروه من الوجه الأول من المعقول فجوابه أن يقال متى يكون التفقه في الدين والتأهل للاجتهاد فرضاً على الكفاية في كل عصر إذا أمكن اعتماد العوام على الأحكام المنقولة إليهم في كل عصر عمن سبق من المجتهدين في العصر الأول بالنقل المغلب على الظن أو إذا لم يمكن الأول ممنوع والثاني مسلم ولكن لا نسلم امتناع ذلك.
وهذا هو الجواب عن الوجه الثاني من المعقول أيضاً.
المسألة السادسة من ليس بمجتهد هل تجوز له الفتوى بمذهب غيره من المجتهدين كما هو المعتاد في زمننا هذا ؟ اختلفوا فيه فذهب أبو الحسين البصري وجماعة من الأصوليين إلى المنع من ذلك لأنه إنما يسأل عما عنده لا عما عند غيره ولأنه لو جازت الفتوى بطريق الحكاية عن مذهب الغير لجاز ذلك للعامي وهو محال مخالف للإجماع.ومنهم من جوزه إذا ثبت ذلك عنده بنقل من يوثق بقوله.
والمختار أنه إذا كان مجتهدا في المذهب بحيث يكون مطلعا على مأخذ المجتهد المطلق الذي يقلده وهو قادر على التفريع على قواعد إمامه وأقواله متمكن من الفرق والجمع والنظر والمناظرة في ذلك كان له الفتوى.
تمييزاً له عن العامي ودليله انقطاع الإجماع من أهل كل عصر على قبول مثل هذا النوع من الفتوى وإن لم يكن كذلك فلا.
المسألة السابعة إذا حدثت للعامي حادثة وأراد الاستفتاء عن حكمها فإما أن يكون في البلد مفت واحد أو أكثر فإن كان الأول وجب عليه الرجوع إليه والأخذ بقوله وإن كان الثاني فقد اختلف الأصوليون فمنهم من قال لا يتخير بينهم حتى يأخذ بقول من شاء منهم بل يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين من الأورع والأدين والأعلم وهو مذهب أحمد بن حنبل وابن سريج والقفال من أصحاب الشافعي وجماعة من الفقهاء والأصوليين مصيراً منهم إلى أن قول المفتيين في حق العامي ينزل منزلة الدليلين المتعارضين في حق المجتهد وكما يجب على المجتهد الترجيح بين الدليلين فيجب على العامي الترجيح بين المفتيين إما بأن يتحفظ من كل باب من الفقه مسائل ويتعرف أجوبتها ويسأل عنها فمن أجابه أو كان أكثر إصابة اتبعه أو بأن يظهر له ذلك بالشهرة والتسامع ولأن طريق معرفة هذه الأحكام إنما هو الظن والظن في تقليد الأعلم والأدين أقوى فكان المصير إليه أولى.
وذهب القاضي أبو بكر وجماعة من الأصوليين والفقهاء إلى التخيير والسؤال لمن شاء من العلماء وسواء تساووا أو تفاضلوا وهو المختار.
ويدل على ذلك أن الصحابة كان فيهم الفاضل والمفضول من المجتهدين فإن الخلفاء الأربعة كانوا أعرف بطريق الاجتهاد من غيرهم ولهذا قال عليه السلام: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " وقال عليه السلام: " أقضاكم علي وأفرضكم زيد وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل " وكان فيهم العوام ومن فرضه الاتباع للمجتهدين والأخذ بقولهم لا غير.
ومع ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة والسلف تكليف العوام الاجتهاد في أعيان المجتهدين ولا أنكر أحد منهم اتباع المفضول والاستفتاء له مع وجود الأفضل ولو كان ذلك غير جائز لما جاز من الصحابة التطابق على عدم إنكاره والمنع منه ويتأيد ذلك بقوله عليه السلام: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ولولا إجماع الصحابة على ذلك لكان القول بمذهب الخصوم أولى.
المسألة الثامنة(1/441)
إذا اتبع العامي بعض المجتهدين في حكم حادثة فليس له الرجوع عنه إذا اتبع العامي بعض المجتهدين في حكم حادثة من الحوادث وعمل بقوله فيها اتفقوا على أنه ليس له الرجوع عنه في ذلك الحكم بعد ذلك إلى غيره.
وهل له اتباع غير ذلك المجتهد في حكم آخر ؟ اختلفوا فيه: فمنهم من منع منه ومنهم من أجازه وهو الحق نظراً إلى ما وقع عليه إجماع الصحابة من تسويغ استفتاء العامي لكل عالم في مسألة وأنه لم ينقل عن أحد من السلف الحجر على العامة في ذلك ولو كان ذلك ممتنعاً لما جاز من الصحابة إهماله والسكوت عن الإنكار عليه ولأن كل مسألة لها حكم نفسها فكما لم يتعين الأول للاتباع في المسألة الأولى إلا بعد سؤاله فكذلك في المسألة الأخرى.
وأما إذا عين العامي مذهباً معيناً كمذهب الشافعي أو أبي حنيفة أو غيره وقال أنا على مذهبه وملتزم له فهل له الرجوع إلى الأخذ بقول غيره في مسألة من المسائل ؟ اختلفوا فيه: فجوزه قوم نظراً إلى أن التزامه لمذهب معين غير ملزم له ومنع من ذلك آخرون لأنه بالتزامه المذهب صار لازما له كما لو التزم مذهبه في حكم حادثة معينة.
والمختار إنما هو التفصيل وهو أن كل مسألة من مذهب الأول اتصل عمله بها فليس له تقليد الغير فيها وما لم يتصل عمله بها فلا مانع من اتباع غيره فيها.
القاعدة الرابعة
في الترجيحات
وتشتمل على مقدمة وبابين.
أما المقدمة ففي
بيان معنى الترجيح
ووجوب العمل بالراجح وما فيه الترجيح.
أما الترجيح فعبارة عن اقتران أحد الصالحين للدلالة على المطلوب مع تعارضهما بما يوجب العمل به وإهمال الآخر.
فقولنا: اقتران أحد الصالحين احتراز عما ليسا بصالحين للدلالة أو أحدهما صالح والآخر ليس بصالح فإن الترجيح إنما يكون مع تحقق التعارض ولا تعارض مع عدم الصلاحية للأمرين أو أحدهما.
وقولنا: مع تعارضهما احتراز عن الصالحين اللذين لا تعارض بينهما فإن الترجيح إنما يطلب عند التعارض لا مع عدمه وهو عام للمتعارضين مع التوافق في الاقتضاء كالعلل المتعارضة في أصل القياس كما يأتي وللمتعارضين مع التنافي في الاقتضاء كالأدلة المتعارضة في الصور المختلف فيها نفياً وإثباتاً.
وقولنا: بما يوجب العمل بأحدهما وإهمال الآخر احتراز عما اختص به أحد الدليلين عن الآخر من الصفات الذاتية أو العرضية ولا مدخل له في التقوية والترجيح.
وأما أن العمل بالدليل الراحح واجب فيدل عليه ما نقل وعلم من إجماع الصحابة والسلف في الوقائع المختفلة على وجوب تقديم الراجح من الظنين وذلك كتقديمهم خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين على خبر أبي هريرة في قوله: " إنما الماء من الماء " وما روت عن النبي عليه السلام أنه كان يصبح جنباً وهو صائم على ما رواه أبو هريرة من قوله عليه السلام : " من أصبح جنباً فلا صوم له " لكونها أعرف بحال النبي عليه السلام.
وكانوا لا يعدلون إلى الآراء والأقيسة إلا بعد البحث عن النصوص واليأس منها ومن فتش عن أحوالهم ونظر في وقائع اجتهاداتهم علم علما لا يشوبه ريب أنهم كانوا يوجبون العمل بالراجح من الظنين دون أضعفهما.
ويدل على ذلك أيضا تقرير النبي عليه السلام لمعاذ حين بعثه إلى اليمن قاضياً على ترتيب الأدلة وتقديم بعضها على بعض كما سبق تقريره غير مرة ولأنه إذا كان أحد الدليلين راجحاً فالعقلاء يوجبون بعقولهم العمل بالراحج.
والأصل تنزيل التصرفات الشرعية منزلة التصرفات العرفية.ولهذا قال عليه السلام: " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن " فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بالنص والمعقول.
أما النص فقوله تعالى: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " الحشر 2 أمر بالاعتبار مطلقاً من غير تفصيل.
وأيضا قوله عليه السلام: " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " والدليل المرجوح ظاهر فجاز العمل به.
وأما المعقول فهو أن الأمارات الظنية المتعارضة لا تزيد على البينات المتعارضة والترجيح غير معتبر في البينات حتى إنه لا تقدم شهادة الأربعة على شهادة الاثنين.
قلنا: أما الآية فغايتها الأمر بالنظر والاعتبار وليس فيها ما ينافي القول بوجوب العمل بالترجيح فإن إيجاب أحد الأمرين لا ينافي إيجاب غيره.(1/442)
وأما الخبر فيدل على جواز العمل بالظاهر والظاهر هو ما ترجح أحد طرفيه على الآخر ومع وجود الدليل الراجح فالمرجوح المخالف له لا يكون راجحاً من جهة مخالفته للراجح فلا يكون ظاهراً فيه.
وأما المعقول فلا نسلم امتناع الترجيح في باب الشهادة بل عندنا يقدم قول الأربعة على قول الاثنين على رأي لنا.
وإن سلمنا أنه لا اعتبار بالترجيح في باب الشهادة فإنما كان لأن المتبع في ذلك إنما هو إجماع الصحابة.وقد ألف منهم اعتبار ذلك في باب تعارض الأدلة دون باب الشهادة.
وأما ما فيه الترجيح فهي الطرق الموصلة إلى المطلوبات.
وهي تنقسم إلى قطعي وظني.
أما القطعي فلا ترجيح فيه لأن الترجيح لا بد وأن يكون موجباً لتقوية أحد الطريقين المتعارضين على الآخر.
والمعلوم المقطوع به غير قابل للزيادة والنقصان فلا يطلب فيه الترجيح ولأن الترجيح إنما يكون بين متعارضين وذلك غير متصور في القطعي لأنه إما أن يعارضه قطعي أو ظني الأول محال لأنه يلزم منه إما العمل بهما وهو جمع بين النقيضين في الإثبات أو امتناع العمل بهما وهو جمع بين النقيضين في النفي أو العمل بأحدهما دون الآخر ولا أولوية مع التساوي.
والثاني أيضاً محال لامتناع ترجح الظني على القاطع وامتناع طلب الترجيح في القاطع كيف وإن الدليل القاطع لا يكون في مقابلته دليل صحيح فلم يبق سوى الطرق الظنية والطرق الظنية منقسمة إلى شرعية وعقلية وليس من غرضنا بيان العقلية بل الشرعية وهي إما أن تكون موصلة إلى الظن بأمر مفرد وهي الحدود أو الظن بأمر مركب وهي الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال كما سبق تحقيقه.
فلنرسم في ترجيحات كل واجد من الطريقين باباً.
الباب الأول
في ترجيحات الطرق الموصلة
إلى التصديقات الشرعية.
والتعارض إما أن يكون بين منقولين أو معقولين أو منقول ومعقول فلنرسم في كل واحد قسماً.
القسم الأول
في التعارض الواقع بين منقولين
والترجيح بينهما منه ما يعود إلى السند ومنه ما يعود إلى المتن ومنه ما يعود إلى المدلول ومنه ما يعود إلى أمر من خارج.
فأما ما يعود إلى السند فمنه ما يعود إلى الراوي ومنه ما يعود إلى ومنه ما يعود إلى المروي ومنه ما يعود إلى المروي عنه.
فأما ما يعود إلى الراوي فمنه ما يعود إلى نفسه ومنه ما يعود إلى تزكيته.
فأما ما يعود إلى نفس الراوي فترجيحات.
الأول: أن تكون رواة أحدهما أكثر من رواة الآخر فما رواته أكثر يكون مرجحاً خلافا للكرخي لأنه يكون أغلب على الظن من جهة أن احتمال وقوع الغلط والكذب على العدد الأكثر أبعد من احتمال وقوعه في العدد الأقل ولأن خبر كل واحد من الجماعة يفيد الظن.
ولا يخفى أن الظنون المجتمعة كلما كانت أكثر كانت أغلب على الظن حتى ينتهي إلى القطع ولهذا فإنه لما كان الحد الواجب بالزنى من أكبر الحدود وآكدها جعلت الشهادة عليه أكثر عدداً من غيره وأن النبي عليه السلام لم يعمل بقول ذي اليدين " أقصرت الصلاة أم نسيت " حتى أخبره بذلك أبو بكر وعمر ولم يعمل أبو بكر بخبر المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أطعم الجدة السدس حتى اعتضد بخبر محمد بن مسلمة ولم يعمل عمر بخبر أبي موسى حتى اعتضد بخبر أبي سعيد الخدري.
الثاني: أن يكون راوي أحد الحديثين مشهوراً بالعدالة والثقة بخلاف الآخر أو أنه أشهر بذلك فروايته مرجحة لأن سكون النفس إليه أشد والظن بقوله أقوى.
الثالث: أن يكون أحد الراويين أعلم وأضبط من الآخر أو أورع وأتقى فروايته أرجح لأنها أغلب على الظن.
الرابع: أن يكون أحد الراويين حالة روايته ذاكرا للرواية عن شيخه غير معتمد في ذلك على نسخة سماعه أو خط نفسه بخلاف الآخر فهو أرجح لأنه يكون أبعد من السهو والغلط.
الخامس: أن يكون أحد الراويين قد عمل بما روى والآخر خالف ما روى فمن لم يخالف روايته أولى لكونه أبعد عن الكذب بل هو أولى من رواية من لم يظهر منه العمل بروايته.
السادس: أن يكونا مرسلين وقد عرف من حال أحد الراويين أنه لا يروي عن غير العدل كابن المسيب ونحوه بخلاف الآخر فرواية الأول تكون أولى(1/443)
السابع: أن يكون راوي أحد الخبرين مباشراً لما رواه والآخر غير مباشر فرواية المباشر تكون أولى لكونه أعرف بما روى وذلك كرواية أبي رافع أن النبي عليه السلام نكح ميمونة وهو حلال فإنه يرجح على رواية ابن عباس أنه نكحها وهو حرام لأن أبا رافع كان هو السفير بينهما والقابل لنكاحها عن رسول الله.
الثامن: أن يكون أحد الراويين هو صاحب القصة كما روت ميمونة أنها قالت: " تزوجني رسول الله ونحن حلالان " فإنها تقدم على رواية ابن عباس لكونها أعرف بحال العقد من غيرها لشدة اهتمامها خلافا للجرجاني من أصحاب أبي حنيفة.
التاسع: أن يكون أحد الراويين أقرب إلى النبي عليه السلام حال سماعه من الآخر فروايته تكون أولى وذلك كرواية ابن عمر إفراد النبي عليه السلام فإنها مقدمة على من روى أنه قرن لأنه ذكر أنه كان تحت ناقته حين لبى النبي عليه السلام وأنه سمع إحرامه بالإفراد.
العاشر: إذا كان أحد الراويين من كبار الصحابة والآخر من صغارهم فرواية الأكبر أرجح لأن الغالب أنه يكون أقرب إلى النبي عليه السلام حالة السماع لقوله عليه السلام ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى ولأن محافظته على منصبه مما يوجب التحرز عن الكذب أكثر من الصغير.
الحادي عشر: إذا كان أحد الراويين متقدم الإسلام على الراوي الآخر فروايته أولى إذ هي أغلب على الظن لزيادة أصالته في الإسلام وتحريره فيه.
الثاني عشر: أن يكون أحد الراويين فقيها والآخر غير فقيه أو هو أفقه وأعلم بالعربية فخبره يكون مرجحاً لكونه أعرف بما يرويه لتمييزه بين ما يجوز وما لا يجوز.
الثالث عشر: أن يكون أحد الراويين أفطن وأذكى وأكثر تيقظاً من الآخر فروايته أولى لكثرة ضبطه.
الرابع عشر: أن يكون أحد الراويين روايته عن حفظ والآخر عن كتاب فالراوي عن الحفظ أولى لكثرة ضبطه.
الخامس عشر: إن كان أحد الراويين مشهور النسب بخلاف الآخر فروايته أولى لأن احترازه عما يوجب نقص منزلته المشهورة يكون أكثر.
السادس عشر: إذا كان في رواة أحد الخبرين من يلتبس اسمه باسم بعض الضعفاء بخلاف الآخر فالذي لا يلتبس اسمه أولى لأنه أغلب على الظن.
السابع عشر: أن يكون أحد الراويين قد تحمل الرواية في زمن الصبي والآخر في زمن بلوغه فرواية البالغ أولى لكثرة ضبطه.
وأما ما يعود إلى التزكية فترجيحات.
الأول: أن يكون المزكي لأحد الراويين أكثر من الآخر أو أن يكون المزكي له أعدل وأوثق فروايته مرجحة لأنها أغلب على الظن.
الثاني: أن تكون تزكية أحدهما بصريح المقال والآخر بالرواية عنه أو بالعمل بروايته أو الحكم بشهادته فرواية من تزكيته بصريح المقال مرجحة على غيرها لأن الرواية قد تكون عمن ليس بعدل وكذلك العمل بما يوافق الرواية والشهادة قد تكون بغيرها وهو موافق لها ولا يكون ذلك بهما ولا كذلك التزكية بصريح المقال.
الثالث: تزكية أحد الراويين بالحكم بشهادته والآخر بالرواية عنه فرواية المعمول بشهادته أولى لأن الاحتياط في الشهادة فيما يرجع إلى أحكام الجرح والتعديل أكثر منه في الرواية والعمل بها.
ولهذا قبلت رواية الواحد والمرأة دون شهادتهما وقبلت رواية الفرع مع إنكار الأصل لها على بعض الآراء ومن غير ذكر الأصل بخلاف الشهادة.
الرابع: أن تكون تزكية أحدهما بالعمل بروايته والآخر بالرواية عنه فالأول أرجح لأن الغالب من العدل أنه لا يعمل برواية غير العدل ولا كذلك في الرواية لأن كثيرا ما يروي العدل عمن لو سئل عنه لجرحه أو توقف في حاله.
وبالجملة فاحتمال العمل برواية غير العدل أقل من احتمال الرواية عن غير العدل.
واحتمال العمل بدليل غيره وإن كان قائماً إلا أنه بعيد عن البحث التام مع عدم الاطلاع عليه وأما ما يعود إلى نفس الرواية فترجيحات.
الأول: أن يكون أحد الخبرين متواتراً والآخر آحاداً فالمتواتر لتيقنه أرجح من الآحاد لكون مظنوناً.
الثاني: أن يكون أحد الخبرين مسندا والآخر مرسلا فالمسند أولى لتحقق المعرفة براويه والجهالة براوي الآخر.ولهذا تقبل شهادة الفرع إذا عرف شاهد الأصل ولا تقبل إذا شهد مرسلاً(1/444)
فإن قيل: الراوي إذا كان عدلاً ثقةً وأرسل الخبر فالغالب أن لا يكون إلا مع الجزم بتعديل من روي عنه وإلا كان ذلك تلبيساً على المسلمين وهو بعيد في حقه وهذا بخلاف ما إذا ذكر المروي عنه فإنه غير جازم بتعديله فكان المرسل أولى قلنا: التلبيس إنما يلزم بروايته عمن لم يذكره إذا لم يكن لي نفس الأمر عدلاً أن لو وجب اتباعه في قوله وإنما يجب اتباعه في قوله أن لو ظهرت عدالة الأصل وهو دور كيف وإنه لو كان ذلك تعديلاً منه فهو غير مقبول لكونه تعديلاً مطلقاً وإن كان مقبولاً فإنما يقبل إذا كان مضافاً إلى شخص معين لم يعرف بفسق.
وأما إذا كان غير معين فلا لاحتمال أن يكون بحيث لو عينه لاطلعنا من حاله على فسق قد جهله الراوي.
ثم ولو كان تعديلاً مقبولاً إلا أنه إذا كان مذكوراً مشهور الحال وقد عدل بمثل ذلك التعديل أو أعلى منه كان قبول قوله أولى وأغلب على الظن وعدم جزم الراوي بعدالة المروي عنه إذا كان مصرحاً به وجزمه بعدالة من سكت عن ذكره بعد أن ظهر تعديل المذكور بتعديل غيره لا يكون موجباً للترجيح بل من ظهرت عدالته بطريق متفق عليه يكون أولى ممن ظهرت عدالته بطريق مختلف فيه.
الثالث: أن يكون أحد الخبرين من مراسيل التابعين والآخر من مراسيل تابعي التابعين فما هو من مراسيل التابعين أولى لأن الظاهر من التابعي أنه لا يروي عن غير الصحابي وعدالة الصحابة بما ثبت من ثناء النبي عليه السلام وتزكيته لهم في ظواهر الكتاب والسنة أغلب على الظن من العدالة في حق غيرهم من المتأخرين.
ولهذا قال عليه السلام: " خير القرون القرن الذي أنا فيه " وقال عليه السلام: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ولم يرو مثل ذلك في حق غيرهم.
الرابع: أن يكون أحدهما معنعناً وطريق ثبوت الآخر الشهرة مع عدم النكير أو الإسناد إلى كتاب من كتب المحدثين فالمعنعن أولى لأنه أغلب على الظن أما بالنسبة إلى الطريق الأول فلمساواته له في عدم النكير وزيادته عليه برواية العدل عن العدل وأما بالنسبة إلى الطريق الثاني فلأنه أسلم من الغلط والتلبيس وأبعد عن التبديل والتصحيف.
الخامس: أن يكون أحدهما ثابتاً بطريق الشهرة والآخر بالإسناد إلى كتاب من كتب المحدثين فالمسند إلى كتب المحدثين أولى من جهة أن احتمال تطرق الكذب إلى ما دخل في صنعة المحدثين وإن لم يكن من كتبهم المشهورة بهم والمنسوبة إليهم أبعد من احتمال تطرقه إلى ما اشتهر وهو غير منسوب إليهم.
ولهذا فإن كثيرا ما اشتهر مع كذبه ورد المحدثين له.
السادس: أن يكون أحدهما مسنداً إلى كتاب موثوق بصحته كمسلم والبخاري والآخر مسنداً إلى كتاب غير مشهور بالصحة ولا بالسقم كسنن أبي داود ونحوها فالمسند إلى الكتاب المشهور بالصحة أولى.
السابع: أن تكون رواية أحدهما بقراءة الشيخ عليه والآخر بقراءته هو على الشيخ أو بإجازته أو مناولته له أو بخط رآه في كتاب.
فما الرواية فيه بقراءة الشيخ أرجح لأنه أبعد عن غفلة الشيخ عما يرويه.
الثامن: أن تكون رواية أحدهما بالمناولة والآخر بالإجازة فالمناولة أولى لأن الإجازة غير كافية وهو أن يقول خذ هذا الكتاب وحدث به عني فقد سمعته من فلان وعند ذلك فتكون إجازة وزيادة.
والإجازة تكون راجحة على رؤية الخط في الكتاب لأن الخطوط مما تشتبه ولا احتمال في نسبة لفظه إليه بالإجازة.
وكذلك لو قال الشيخ هذا خطي فالإجازة تكون أولى لأن دلالة لفظ الشيخ على الرواية عمن روى عن أظهر من دلالة خطه عليها.
وإذا كانت الإجازة أولى من الرواية عن الخط والمناولة أولى من الإجازة كانت المناولة أولى من الرواية عن الخط.
التاسع: أن يكون أحد الخبرين أعلى إسناداً من الآخر فيكون أولى لأنه كلما قلت الرواة كان أبعد عن احتمال الغلط والكذب.
العاشر: أن يكون أحد الخبرين قد اختلف في كونه موقوفاً على الراوي والآخر متفق على رفعه إلى النبي عليه السلام فالمتفق على رفعه أولى لأنه أغلب على الظن.
الحادي عشر: أن تكون رواية أحد الخبرين بلفظ النبي والآخر بمعناه فرواية اللفظ أولى لكونها أضبط وأغلب على الظن بقول الرسول.(1/445)
الثاني عشر: أن تكون إحدى الروايتين بسماع من غير حجاب والأخرى مع الحجاب وذلك كرواية القاسم بن محمد عن عائشة من غير حجاب لكونها عمة له أن بريرة عتقت وكان زوجها عبدا فإنها تقدم على رواية أسود عنها أن زوجها كان حراً لسماعه عنها مع الحجاب لأن الرواية من غير حجاب شاركت الرواية مع الحجاب في السماع وزادت تيقن عين المسموع منه.
الثالث عشر: إذا كانت إحدى الروايتين قد اختلفت دون الأخرى فالتي لا اختلاف فيها أولى لبعدها عن الاضطراب.
وأما ما يعود إلى المروي فترجيحات.
الأول: أن تكون رواية أحد الخبرين عن سماع من النبي عليه السلام والرواية الأخرى عن كتاب فرواية السماع أولى لبعدها عن تطرق التصحيف والغلط.
الثاني: أن تكون إحدى الروايتين عن سماع من النبي عليه السلام والأخرى عما جرى في مجلسه أو زمانه وسكت عنه فرواية السماع أولى لكونها أبعد عن غفلة النبي عليه السلام وذهوله بخلاف الرواية عما جرى في مجلسه وسكت عنه فرواية السماع أولى مما جرى في زمانه خارجا عن مجلسه.
الثالث: أن تكون إحدى الروايتين عما خطره مع السكوت عنه أعظم من خطر المسكوت عنه في الرواية الاخرى فما خطره أعظم يكون أرجح لكون السكوت عنه أغلب على الظن في تقريره.
الرابع: أن تكون إحدى الروايتين عن صيغة النبي عليه السلام والأخرى عن فعله فرواية الصيغة تكون راجحة لقوة دلالتها وضعف الفعل.
ولهذا أن من خالف في دلالة الفعل وجواز الاحتجاج به لم يخالف في الصيغ لأن ما يفعله النبي عليه السلام إلى الاختصاص به أقرب من اختصاصه بمدلول الصيغة ولأن تطرق الغفلة إلى الإنسان في فعله أكثر منها في كلامه ولهذا قلما يتكلم الإنسان غافلاً بخلاف الفعل.
الخامس: أن يكون أحدهما خبر واحد ورد فيما تعم به البلوى بخلاف الآخر فما لا تعم به البلوى أولى لكونه أبعد عن الكذب من جهة أن تفرد الواحد بنقل ما تعم به البلوى مع توفر الدواعي على نقله قريب من الكذب وذلك كمن تفرد بنقل قتل الملك في وسط السوق بمشهد من الخلق.ولهذا كان مختلفاً فيه ومتفقاً على مقابله.
وأما ما يعود إلى المروي عنه فترجيحات.
الأول: أن يكون أحد الراويين قد روى عمن أنكر روايته عنه كما في حديث الزهري بخلاف الراوي الآخر فما لم يقع فيه إنكار المروي عنه يكون أرحج لكونه أغلب على الظن.
الثاني: أن يكون الأصل في أحد الخبرين قد أنكر رواية الفرع عنه إنكار نسيان ووقوف والآخر إنكار تكذيب وجحود فالأول أولى لأن غلبة الظن بالرواية عنه أكثر من غلبة الظن بالثاني.
وأما الترجيحات العائدة إلى المتن.
الأول: منها أن يكون أحدهما أمراً والآخر نهياً فالنهي من حيث هو نهي مرجح على الأمر لثلاثة أوجه.
الأول أن الطلب فيه الترك أشد.ولهذا لو قدر كون كل واحد منهما مطلقاً فإن أكثر من قال بالخروج عن عهدة الأمر بالفعل مرة واحدة نازع في النهي.
الثاني: أن محامل النهي وهي تردده بين التحريم والكراهة لا غير أقل من محامل الأمر لتردده بين الوجوب والندب والإباحة على بعض الآراء.
الثالث: أن الغالب من النهي طلب دفع المفسدة ومن الأمر طلب تحصيل المصلحة واهتمام العقلاء بدفع المفاسد أكثر من اهتمامهم بتحصيل المصالح.
الترجيح الثاني: أن يكون أحدهما آمراً والآخر مبيحاً فالآمر وإن ترجح على المبيح نظراً إلى أنه إن عمل به لا يصير مخالفاً للمبيح ولا كذلك بالعكس لاستواء طرفي المباح وترجح جانب المأمور به إلا أن المبيح يترجح على الآمر من أربعة أوجه : الأول: أن مدلول المبيح متحد ومدلول الآخر متعدد كما سبق تعريفه فكان أولى.
الثاني: أن غاية ما يلزم من العمل بالمبيح تأويل الآخر بصرفه عن محمله الظاهر إلى المحمل البعيد والعمل بالآمر يلزم منه تعطيل المبيح بالكلية والتأويل أولى من التعطيل.
الثالث: أن المبيح قد يمكن العمل بمقتضاه على تقديرين على تقدير مساواته للآمر ورجحانه والعمل بمقتضى الآمر متوقف على الترجيح وما يتم العمل به على تقديرين يكون أولى مما لا يتم العمل به إلا على تقدير واحد.
الرابع: أن العمل بالمبيح بتقدير أن يكون الفعل مقصوداً للمكلف لا يختل لكونه مقدوراً له والعمل بالآخر يوجب الإخلال بمقصود الترك بتقدير كون الترك مقصوداً له.(1/446)
الترجيح الثالث: أن يكون أحدهما أمراً والآخر خبراً فالخبر يكون راجحاً لثلاثة أوجه.
الأول: أن مدلول الخبر متحد بخلاف الأمر على ما سبق فكان أولى لبعده عن الاضطراب.
الثاني: أن الخبر أقوى في الدلالة ولهذا امتنع نسخه على بعض الآراء بخلاف الأمر.
الثالث: أن العمل يلزمه محذور الكذب في الخبر من كلام الشارع وهو فوق المحذور اللازم من فوات مقصود الأمر فكان الخبر أولى.
الترجيح الرابع: أن يكون أحدهما ناهياً والآخر مبيحاً فالمبيح يكون مقدماً على ما عرف في الأمر.
الخامس: أن يكون أحدهما نهياً والآخر خبراً فالخبر مقدم على النهي على ما عرف في الأمر أيضاً.
السادس: أن يكون أحدهما مبيحاً والآخر خبراً فالخبر مقدم لما سبق في الوجه الثاني والثالث في الأمر إذا عارض الخبر.
السابع: أن يكون أحدهما مشتركاً والآخر غير مشترك بل متحد المدلول فما اتحد مدلوله أولى لبعده عن الخلل.
الثامن: أن يكون مدلول أحدهما حقيقياً والآخر مجازياً فالحقيقي أولى لعدم افتقاره إلى القرنية المخلة بالتفاهم.
التاسع: أن يكونا مشتركين إلا أن مدلولات أحدهما أقل من مدلولات الآخر فالأول أولى لقلة اضطرابه وقرب استعماله فيما هو المقصود منه.
العاشر: أن يكونا مجازين إلا أن أحدهما منقول مشهور في محل التجوز كلفظ الغائط بخلاف الآخر فالمنقول أولى لعدم افتقاره إلى القرنية.
الحادي عشر: أن يكون المصحح للتجوز في أحدهما أظهر وأشهر من الآخر فهو أولى الثاني عشر: أن يكون لفظ أحدهما مشتركاً والآخر مجازاً غير منقول وقد ذكرنا ما يستحقه كل واحد منهما من الترجيح في الأمر بطريق الاستقصاء فعليك باعتباره والالتفات إليه.
الثالث عشر: أن يكونا حقيقيين إلا أن أحدهما أظهر وأشهر فالأظهر مرجح.
الرابع عشر: أن تكون إحدى الحقيقتين متفقاً عليها والأخرى مختلفا فيها فالمتفق عليه أولى لأنه أغلب على الظن.
الخامس عشر: أن تكون دلالة أحدهما غير محتاجة إلى إضمار ولا حذف بخلاف الأخرى فالذي لا يحتاج إلى ذلك أولى لقلة اضطرابه.
السادس عشر: أن يكون أحدهما يدل على مدلوله بالوضع الشرعي والآخر بالوضع اللغوي وكل واحد منهما مستعمل في الشرع فها هنا يظهر أن العمل باللفظ اللغوي يكون أولى لأنه من لسان الشارع مع كونه مقرراً لوضع اللغة وما هو عرفه ومصطلحه وإن كان من لسانه إلا أنه مغير للوضع اللغوي ولا يخفى أن العمل بما هو من لسان الشارع من غير تغيير أولى من العمل بما هو من لسانه مع التغيير ولأنه أبعد عن الخلاف وهذا بخلاف ما إذا أطلق لفظا واحداً وكان له مدلول لغوي وقد استعاره الشارع في معنى آخر وصار عرفا له فإنه مهما أطلق الشارع ذلك اللفظ فيجب تنزيله على عرفه الشرعي دون اللغوي لأن الغالب من الشارع أنه إذا أطلق لفظا وله موضوع في عرفه أنه لا يريد به غيره.
السابع عشر: أن يكون العمل بأحدهما يلزم منه الجمع بين مجازين والآخر لا يلزم منه غير مجاز واحد فالذي فيه مجاز واحد أولى لأنه أبعد عن الاضطراب وأقرب إلى الأصل.
الثامن عشر: أن يكون أحدهما دالاً على مطلوبه من وجهين أو أكثر والآخر لا يدل إلا من جهة واحدة فالذي كثرت جهة دلالته أولى لأنه أغلب على الظن.
التاسع عشر: أن تكون دلالة أحدهما مؤكدة دون الأخرى فالمؤكدة أولى لأنه أقوى دلالة وأغلب على الظن وذلك كما في قوله عليه السلام: " فنكاحها باطل باطل باطل " .
العشرون: أن تكون دلالة أحدهما على مدلوله بطريق المطابقة والآخر بدلالة الالتزام فدلالة المطابقة أولى لأنها أضبط.
الحادي والعشرون: أن يكونا دالين بجهة الاقتضاء إلا أن العمل بأحدهما في مدلوله ضرورة صدق المتكلم أو لضرورة وقوع الملفوظ به عقلا والآخر لضرورة وقوع الملفوظ به شرعاً كما سبق تعريفه فما يتوقف عيله صدق المتكلم فوقوع الملفوظ به عقلاً أولى نظراً إلى بعد الخلف في كلام الشارع وامتناع مخالفة المعقول وقرب المخالفة في المشروع.(1/447)
الثاني والعشرون: أن يكونا دالين بجهة التنبيه والإيماء إلى أن أحدهما لو لم يقدر كون المذكور فيه علة للحكم المذكور معه كان ذكره عبثاً وحشواً والآخر من قبيل ما رتب فيه الحكم على الوصف بفاء التعقيب فالذي لو لم يقدر فيه التعليل كان ذكره عبثاً أولى من الآخر نظراً إلى محذور العبث في كلام الشارع وإلغاؤه أتم من محذور المخالفة الدلالة حرف الفاء على التعليل وإمكان تأويلها بغير السببية بل وهو أولى من سائر أنواع التنبيه والإيماء لما ذكرناه من زيادة المحذور وما دل على العلية بفاء التعقيب لظهورها مقدم على ما عداه من باقي أقسام التنبيه والإيماء.
الثالث والعشرون: أن يكونا دالين بجهة المفهوم إلا أن أحدهما من قبيل مفهوم المخالفة والآخر من قبيل مفهوم الموافقة فقد يمكن ترجيح مفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة من جهة أنه متفق عليه ومختلف في مقابله وقد يمكن ترجيح مفهوم المخالفة عليه من وجهين الأول أن فائدة مفهوم المخالفة التأسيس وفائدة مفهوم الموافقة التأكيد والتأسيس أصل والتأكيد فرع فكان مفهوم المخالفة أولى الثاني أن مفهوم الموافقة لا يتم إلا بتقدير فهم المقصود من الحكم في محل النطق وبيان وجوده في محل السكوت وأن اقتضاءه للحكم في محل السكوت أشد.
وأما مفهوم المخالفة فإنه يتم بتقدير عدم فهم المقصود من الحكم في محل النطق وبتقدير كونه غير متحقق في محل السكوت وبتقدير أن يكون له معارض في محل السكوت ولا يخفى أن ما يتم على تقديرات أربعة أولى مما لا يتم إلا على تقدير واحد.
الرابع والعشرون: أن تكون دلالة أحدهما من قبيل دلالة الاقتضاء ودلالة الآخر من قبيل دلالة الإشارة فدلالة الاقتضاء أولى لترجحها بقصد المتكلم لها بخلاف دلالة الإشارة.
الخامس والعشرون: أن تكون دلالة أحدهما من قبيل دلالة الاقتضاء والآخر من قبيل دلالة التنبيه والإيماء فدلالة الاقتضاء أولى لتوقف صدق المتكلم أو مدلول منطوقه عليه بخلاف دلالة التنبيه والإيماء.
السادس والعشرون: أن تكون دلالة أحدهما من قبيل دلالة الاقتضاء والآخر من قبيل دلالة المفهوم فدلالة الاقتضاء أولى لوقوع الاتفاق عليها ووقوع الخلاف في مقابلها ولأن ما يعترض دلالة الاقتضاء من المبطلات أقل مما يعترض المفهوم وبهذا كان ما كان من قبيل دلالة التنبيه والإيماء مقدماً على دلالة المفهوم.
السابع والعشرون: أن تكون دلالة أحدهما من قبيل المنطوق والآخر من قبيل دلالة غير المنطوق فالمنطوق أولى لظهور دلالته وبعده عن الالتباس بخلاف مقابله.
الثامن والعشرون: أن يكون أحدهما عاماً والآخر خاصاً فالخاص مقدم على العام لثلاثة أوجه الأول أنه أقوى في الدلالة وأخص بالمطلوب الثاني أن العمل بالعام يلزم منه إبطال دلالة الخاص وتعطيله ولا يلزم من العمل بالخاص تعطيل العام بل تأويله وتخصيصه ولا يخفى أن محذور التعطيل فوق محذور التأويل.
الثالث أن ضعف العموم بسبب تطرق التخصيص إليه وضعف الخصوص بسبب تأويله وصرفه عن ظاهره إلى مجازه ولا يخفى أن تطرق التخصيص إلى العمومات أكثر من تطرق التأويل إلى الخاص ولهذا كانت أكثر العمومات مخصصةً وأكثر الظواهر الخاصة مقررة وبهذا يكون المطلق الدال على واحد لا بعينه مرجحاً على العام.
التاسع والعشرون: أن يكون أحدهما عاماً مخصصاً والآخر غير مخصص فالذي لم يدخله التخصيص أولى لعدم تطرق الضعف إليه وعلى هذا فما كان عاماً من وجه وخاصا من وجه يكون مرجحاً على ما هو عام من كل وجه وكذلك المطلق من وجه والمقيد من وجه مرجح على ما هو مطلق من كل وجه وما هو منطوق من كل وجه مقدم على ما هو حقيقي من وجه دون وجه.
الثلاثون: أن يكونا عامين إلا أن أحدهما من قبيل الشرط والجزاء والآخر من قبيل النكرة المنفية فقد يمكن ترجح دلالة الشرط والجزاء لكون الحكم فيه معللاً بخلاف النكرة المنفية والمعلل أولى من غير المعلل وقد يمكن ترجح دلالة نفي النكرة بأن دلالته أقوى.
ولهذا كان خروج الواحد منه يعد خلفاً في الكلام عند ما إذا قال لا رجل في الدار وكان فيها رجل بخلاف مقابله وبهذا تكون دلالة النكرة المنفية أولى من جميع أقسام العموم.(1/448)
الحادي والثلاثون: أن تكون دلالة أحدهما من قبيل دلالة الشرط والجزاء والآخر من قبيل أسماء الجموع فالأول أولى لأن أكثر من خالف في صيغ العموم وافق على صيغة الشرط والجزاء ولأن الدلالة فيه مشيرة إلى الحكم والعلة بخلاف مقابله وبهذا يكون أولى من باقي أقسام العموم.
الثاني والثلاثون: أن تكون دلالة أحدهما من قبيل الجمع المعرف والآخر جمع منكر فالمعرف أولى لوجهين الأول أن بعض من وافق على عموم الجمع المعرف خالف في المنكر فكان أقوى لقربه إلى الوفاق.
الثاني أنه لا يدخله الإبهام بخلاف المنكر فكان أولى وربما رجح المنكر بكونه دالا على عدد أقل من الجمع المعرف فكان أقرب إلى الخصوص فكان أولى.
الثالث والثلاثون: أن يكون أحدهما اسم جمع معرف والآخر اسم جنس دخله الألف واللام فاسم الجمع أولى لإمكان حمل اسم الجنس على الواحد المعهود بخلاف الجمع المعرف فكان أقوى عموما وبهذا يكون مقدما على من و ما فمن وما أولى لعدم احتمالهما للعهد واحتمال ما قابلهما له.
الرابع والثلاثون: أن يكون أحد الظاهرين مضطرباً في لفظه بخلاف الآخر فغير المضطرب أولى لأنه أدل على الحفظ والضبط.
الخامس والثلاثون: أن يكون أحدهما قد دل على الحكم وعلته والآخر دل على الحكم دون علته فالدال على العلة أولى لأنه أقرب إلى الإيضاح والبيان.
السادس والثلاثون: أن يكون أحدهما قولاً والآخر فعلاً فالقول أولى لأنه أبلغ في البيان من الفعل وإن كان أحدهما قولاً وفعلاً والآخر قول فقط فالقول والفعل أولى لأنه أقوى في البيان.
السابع والثلاثون: أن يكون أحدهما مشتملاً على زيادة لم يتعرض الآخر لها كرواية من روى أنه عليه السلام كبر في صلاة العيد سبعا فإنها مقدمة على رواية من روى أربعاً لاشتمالها على زيادة علم خفي على الآخر.
الثامن والثلاثون: أن يكون أحد المنقولين الظاهرين إجماعاً والآخر نصاً وسواء كان من الكتاب أو السنة فالإجماع مرجح لأن النسخ مأمون فيه بخلاف النص.
التاسع والثلاثون: أن يكونا إجماعين ظاهرين إلا أن أحدهما قد دخل فيه جميع أهل العصر والآخر لم يدخل فيه سوى أهل الحل والعقد فالذي دخل فيه الجميع أولى لأنه أغلب على الظن وأبعد عن الخلاف فيه.
الأربعون: أن يكون أحدهما قد دخل فيه مع أهل الحل والعقد الفقهاء الذين ليسوا أصوليين والأصوليون الذين ليسوا فقهاء وخرج عنه العوام والآخر بالعكس فالأول أولى لقربهم من المعرفة والإحاطة بأحكام الشرع واستنباطها من مداركها وبهذا المعنى يكون أيضاً ما دخل فيه الأصولي الذي ليس بفقيه ولم يدخل فيه الفقيه أولى مما هو بالعكس لأن الأصولي أعرف بمدارك الأحكام وكيفية تلقي الأحكام من المنطوق والمفهوم والأمر والنهي وغيره الحادي والأربعون: أن يكون أحدهما قد دخل فيه المجتهد المبتدع الذي ليس بكافر بخلاف الآخر فما دخل فيه المجتهد المبتدع أولى لأن الظاهر من حاله الصدق ولأنه أبعد عن الخلاف.
الثاني والأربعون: أن يكون أحدهما قد دخل فيه المجتهد المبتدع دون العوام والفروعيين الذين ليسوا أصوليين والأصوليون الذين ليسوا فروعيين والآخر بعكسه فما دخل فيه المجتهد المبتدع أولى إذ الخلل في قوله إنما هو من جهة كذبه فيما يقول والخلل في قول من عداه من المذكورين إنما هو من جهله وعدم إحاطته وعدم كماله.
ولا يخفى أن احتمال وقوع الخلل بجهة الكذب من الفاسق لحرمته وتعلق الإثم به أنذر من الخلل الناشىء بسبب الجهل وعدم الإحاطة.
الثالث والأربعون: أن يكون أحد الإجماعين من الصحابة والآخر من التابعين فإجماع الصحابة أولى للثقة بعدالتهم وبعد تقاعدهم عن تحقيق الحق وإبطال الباطل وغلبة جدهم وكثرة اجتهادهم في تمهيد أحكام الشريعة ولأنه أبعد عن خلاف من خالف في إجماع غير الصحابة.
وعلى هذا فإجماع التابعين يكون مقدماً على إجماع من بعدهم لقربهم من العصر الأول ولقوله عليه السلام: " خير القرون القرن الذي أنا فيه ثم الذي يليه " فإجماعهم يكون أغلب على الظن.
الرابع والأربعون: أن يكون أحد الإجماعين قد انقرض عصره بخلاف الآخر فما انقرض عصره يكون أولى لاستقراره وبعده عن الخلاف.(1/449)
الخامس والأربعون: أن يكون أحدهما مأخوذاً عن انقسام الأمة في مسألة من المسائل على قولين في أنه إجماع على نفي قول ثالث والإجماع الآخر على إثبات القول الثالث فالإجماع على إثباته أولى لأنه أبعد عن اللبس وعما يقوله المنازع في الأول من وجوه القدح ويبديه من الاحتمالات.
السادس والأربعون: أن يكون أحدهما مسبوقاً بالمخالفة بخلاف الآخر فالذي لم يسبق بالمخالفة أولى لأنه أغلب على الظن وأبعد عن الخلاف.
السابع والأربعون: أن يكون أحدهما قد رجع بعض المجتهدين فيه عما حكم به موافقا للباقين لدليل ظهر له بخلاف الآخر فما لم يرجع فيه بعض المجتهدين أولى لبعده عن المناقضة والخلاف فيه.
الثامن والأربعون: أن يكون أحدهما إجماع الصحابة إلا أنه لم يدخل فيه غير المجتهدين والآخر من إجماع التابعين إلا أنه قد دخل فيه جميع أهل عصرهم فإجماع الصحابة أولى للوثوق بعدالتهم وزيادة جدهم كما سبق تقريره وفي معنى هذا يكون قد رجع واحد من الصحابة عن الواقعة بخلاف التابعين.
التاسع والأربعون: أن يكون أحدهما قد دخل فيه جميع أهل العصر إلا أنه لم ينقرض عصرهم والآخر بالعكس فما دخل فيه جميع أهل العصر أولى لأن غلبة الظن فيه متيقنة واحتمال الرجوع بسبب عدم انقراض العصر موهوم وفي معناه أن يكون ما لم ينقرض عصره قد دخل فيه المجتهد المبتدع أو الأصولي الذي ليس فروعياً أو الفروعي الذي ليس بأصولي والآخر بخلافه.
الخمسون: أن يكون أحدهما غير مأخوذ من انقسام الأمة على قولين كما سبق إلا أنه ينقرض عصره والآخر بعكسه فالأول أولى نظراً إلى أن جهة الإجماع فيه أقوى بيقين أو رجوع الواحد عنه قبل انقراض العصر موهوم وفي معناه ما إذا كان أحد الإجماعين قد انقرض عصره إلا أنه مسبوق بالمخالفة والآخر بعكسه.
الحادي والخمسون: أن يكون أحد الإجماعين مأخوذاً من انقسام الأمة على قولين إلا أنه غير مسبوق بمخالفة بعض المتقدمين والآخر بعكسه فالذي لم يكن مأخوذاً من انقسام الأمة على قولين أولى لقوة الإجماع فيه.
وأما الترجيحات العائدة إلى المدلول.
الأول: منها أن يكون حكم أحدهما الحظر والآخر الإباحة وهذا مما اختلف فيه فذهب الأكثر كأصحابنا وأحمد بن حنبل والكرخي والرازي من أصحاب أبي حنيفة إلى أن الحاظر أولى وذهب أبو هاشم وعيسى بن أبان إلى التساوي والتساقط.
والوجه في ترجيح ما مقتضاه الحظر أن ملابسة الحرام موجبة للمأثم بخلاف المباح فكان أولى بالاحتياط.
ولهذا فإنه لو اجتمع في العين الواحدة حظر وإباحة كالمتولد بين ما يؤكل وما لا يؤكل قدم التحريم على الإباحة وكذلك إذا طلق بعض نسائه بعينها ثم أنسيها حرم وطء الجميع تقديما للحرمة على الإباحة وإليه الإشاره بقوله عليه السلام: " ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال " وقال عليه السلام: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " غير أنه قد يمكن ترجيح ما مقتضاه الإباحة من جهة أخرى وهي أنا لو عملنا بما مقتضاه التحريم لزم منه فوات مقصود الإباحة من الترك مطلقاً ولو عملنا بما مقتضاه الإباحة فقد لا يلزم منه فوات مقصود الحظر لأن الغالب أنه إذا كان حراما فلا بد وأن تكون المفسدة ظاهرة وعند ذلك فالغالب أن الملكف يكون عالماً بها وقادراً على دفعها لعلمه بعدم لزوم المحذور من ترك المباح ولأن المباح مستفاد من التخيير قطعاً بخلاف استفادة الحرمة من النهي لتردده بين الحرمة والكراهة فكان أولى وعلى هذا فلا يخفى وجه الترجيح بين ما مقتضاه الحرمة وما مقتضاه الندب.
الثاني: أن يكون مدلول أحدهما الحظر والآخر الوجوب فما مقتضاه التحريم أولى لوجهين: الأول هو أن الغالب من الحرمة إنما هو دفع مفسدة ملازمة للفعل أو تقليلها وفي الوجوب تحصيل مصلحة ملازمة للفعل أو تكميلها واهتمام الشارع والعقلاء بدفع المفاسد أتم من اهتمامهم بتحصيل المصالح.
ولهذا فإن من أراد فعلاً لتحصيل مصلحة ينفر عنه إذا عارضه في نظرة لزوم مفسدة مساوية للمصلحة كمن رام تحصيل درهم على وجه يلزم منه فوات مثله وإذا كان ما هو المقصود من التحريم أشد وآكد منه في الواجب كانت المحافظة عليه أولى.
ولهذا كان ما شرعت العقوبات فيه من فعل المحرمات أكثر من ترك الواجبات وأشد كالرجم المشروع في زنا المحصن.(1/450)
الوجه الثاني أن إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتم من إفضاء الوجوب إلى مقصوده فكانت المحافظة عليه أولى.
وذلك لأن مقصود الحرمة يتأتى بالترك وذلك كاف مع القصد له أو مع الغفلة عنه ولا كذلك فعل الواجب.
وأيضاً فإن ترك الواجب وفعل المحرم إذا تساويا في داعية الطبع إليهما فالترك يكون أيسر وأسهل من الفعل لتضمن الفعل مشقة الحركة وعدم المشقة في الترك.وما يكون حصول مقصوده أوقع يكون أولى بالمحافظة عليه.
الثالث: أن يكون حكم أحدهما الحرمة والآخر الكراهة فالحظر أولى لمساواته الكراهة في طلب الترك وزيادته عليه بما يدل على اللوم عند الفعل ولأن المقصود منهما إنما هو الترك لما يلزمه من دفع المفسدة الملازمة للفعل والحرمة أوفى لتحصيل ذلك المقصود فكانت أولى بالمحافظة.
وأيضاً فإن العمل بالمحرم لا يلزم منه إبطال دلالة المقتضي للكراهة وهو طلب الترك والعمل بالمقتضي للكراهة مما يجوز معه الفعل وفيه إبطال دلالة المحرم ولا يخفى أن العمل بما لا يفضي إلى الإبطال يكون أولى وبما حققناه في ترجيح المحرم على المقتضي للكراهة يكون ترجيح الموجب على المقتضي للندب.
الرابع: أن يكون حكم أحدهما إثباتاً والآخر نفياً وذلك كخبر بلال بأن النبي عليه السلام دخل البيت وصلى وخبر أسامة أنه دخل ولم يصل فالنافي مرجح على المثبت خلافاً للقاضي عبد الجبار في قوله إنهما سواء.
والمثبت وإن كان مترجحاً على النافي لاشتماله على زيادة علم غير أن النافي لو قدرنا تقدمه على المثبت كانت فائدته التأكيد ولو قدرنا تأخره كانت فائدته التأسيس وفائدة التأسيس أولى لما سبق تقريره فكان القضاء بتأخيره أولى.
فإن قيل: إلا أنه يلزم من تأخره مخالفة الدليل المثبت ورفع حكمه دون تقدمه.
قلنا: هو معارض بمثله فإنا لو قدرنا تقدم النافي فالمثبت بعده يكون نافياً لحكمه ورافعاً له.
فإن قيل: المثبت وإن كان رافعاً لحكم النافي على تقدير تأخره عنه فرافع لما فائدته التأكيد ولو قدرنا تأخر النافي كان مبطلاً لما فائدته التأسيس فكان فرض تأخر المثبت أولى.
قلنا: إلا أنه وإن كانت فائدة النافي التأكيد على تقدير تقدمه فالمثبت يكون رافعاً لحكم تأسيسي وهو الباقي على الحال الأصلي وزيادة ما حصل من النافي من التأكيد ولا كذلك ما لو كان النافي متأخراً فإنه لا يرفع غير التأسيس وما لا يفضي إلى رفع التأسيس مع التأكيد يكون أولى مما يفضي إلى رفع الأمرين معاً وما يقال من أن المثبت مفيد لما هو حكم شرعي بالاتفاق والنافي غير مجمع على إفادته لحكم شرعي.
والغالب من الشارع أنه لا يتولى بيان غير الشرعي فمع أنه غير سديد من جهة أن الحكم الشرعي غير مقصود لذاته وإنما هو مقصود لحكمته لكونه وسيلة إليها وحكمة الإثبات وإن كانت مقصودة فكذلك حكمة النفي فهو معارض من جهة أن الغالب من الشارع على ما هو المألوف منه إنما هو التقرير لا التغيير وعلى هذا فالحكم للنفي الأصلي يكون أولى من المغير.
الخامس: أن يكون حكم أحدهما معقولاً والآخر غير معقول فما حكمه غير معقول وإن كان الثواب بتلقيه أكثر لزيادة مشقته كما نطق به الحديث إلا أن مقصود الشارع بشرع ما هو معقول أتم مما ليس بمعقول نظراً إلى سهولة الانقياد وسرعة القبول وما شرعه أفضى إلى تحصيل مقصود الشرع يكون أولى.
ولهذا كان شرع المعقول أغلب من شرع غير المعقول حتى إنه قد قيل إنه لا حكم إلا وهو معقول حتى في ضرب الدية على العاقلة ونحوه مما ظن أنه غير معقول ولأن ما يتعلق بالمعقول من الفائدة بالنظر إلى محل النص بالتعدية والإلحاق أكثر منه في غير المعقول فكان أولى وما كانت جهة تعقله أقوى كما يأتي وجه التفصيل فيه في العلل فهو أولى.(1/451)
السادس: أن يكون أحدهما مشتملاً على زيادة لا وجود لها في الآخر كموجب الجلد مع الموجب للجلد والتغريب فالموجب للزيادة يكون أولى لأن العمل بالزيادة غير موجب لإبطال منطوق الآخر فيما دل عليه من وجوب الجلد وإجزائه عن نفسه والعمل بالموجب للجلد فقط موجب لإبطال المنطوق في الدلالة على وجوب الزيادة وما لا يفضي إلى إبطال حكم الدليل أولى مما يفضي إلى الإبطال ولأن دلالة الموجب للجلد على نفي الزيادة غير مأخوذة من منطوق اللفظ ووجوب الزيادة مأخوذ من منطوق اللفظ ومخالفة ما ليس بمنطوق بالمنطوق أولى من العكس لما تقدم.
السابع: أن يكون موجب أحدهما الجلد والآخر الدرء فالدارىء يكون أولى نظراً إلى ما حققناه في ترجيح ما حكمه النفي على ما حكمه الإثبات ولأن الخطأ في نفي العقوبة أولى من الخطإ في تحقيقها على ما قال عليه السلام : " لأن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة " ولأن ما يعترض الحد من المبطلات أكثر مما يعترض الدرء فكان أولى لبعده عن الخلل وقربه إلى المقصود ولأنه على خلاف الدليل النافي للحد والعقوبة.
الثامن: أن يكون حكم أحدهما وقوع الطلاق أو العتق وحكم الآخر نفيه قال الكرخي ما حكمه الوقوع أولى لأنه على وفق الدليل النافي لملك البضع وملك اليمين والنافي لهما على خلافه ويمكن أن يقال بل النافي لهما أولى لأنه على وفق الدليل المقتضي لصحة النكاح وإثبات ملك اليمين المترجح على النفي له.
التاسع: أن يكون حكم أحدهما تكليفياً وحكم الآخر وضعيا فالتكليفي وإن اشتمل على زيادة الثواب المرتبط بالتكليف وكان لأجله راجحا فالوضعي من جهة أنه لا يتوقف على ما يتوقف عليه الحكم التكليفي من أهلية المخاطب وفهمه وتمكنه من الفعل يكون مترجحاً.
العاشر: أن يكون حكم أحدهما أخف من الآخر فقد قيل إن الأخف أولى لأن الشريعة مبناها على التخفيف على ما قال الله تعالى: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " البقرة 185 وقال تعالى: " ما جعل عليكم في الدين من حرج " الحج 78 وقال عليه السلام: " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " وقيل إن الأثقل أولى نظراً إلى الشرعية إنما يقصد بها مصالح المكلفين والمصلحة في الفعل الأشق أعظم منها في الفعل الأخف على ما قال عليه السلام: " ثوابك على قدر نصبك " ولأن الغالب على الظن إنما هو تأخره عن الأخف نظراً إلى المألوف من أحوال العقلاء فإن من قصد تحصيل مقصود بفعل من الأفعال ولم يحصل به لا يقصد تحصيله بما هو أخف منه بل بما هو أعلى منه فبتقدير تقدم الأخف على الأثقل يكون موافقا لنظر أهل العرف فكان أولى ولأن زيادة ثقله تدل على تأكد المقصود منه على مقصود الأخف فالمحافظة عليه تكون أولى.
الحادي عشر: أن يكون كل واحد من الخبرين خبراً واحداً إلا أن حكم أحدهما مما تعم به البلوى بخلاف حكم الآخر فما لا تعم به البلوى أولى لكونه أبعد عن الكذب من جهة أن تفرد الواحد بنقل ما تعم به البلوى مع توفر الدواعي على نقله أقرب إلى الكذب كما تقرر قبل ولهذا كان مختلفاً فيه ومتفقاً على مقابله.
وأما الترجيحات العائدة إلى أمر خارج.
الأول: منها أن يكون أحد الدليلين موافقاً لدليل آخر من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس أو عقل أو حسً والآخر على خلافه فما هو على وفق الدليل الخارج أولى لتأكد غلبة الظن بقصد مدلوله ولأن العمل به وإن أفضى إلى مخالفة مقابله وهو دليل واحد فالعمل بمقابله يلزم منه مخالفة دليلين والعمل بما يلزم معه مخالفة دليل واحد أولى مما يلزم منه مخالفة دليلين.
الثاني: أن يكون أحدهما قد عمل بمقتضاه علماء المدينة أو الأئمة الأربعة أو بعض الأمة بخلاف الآخر فما عمل به يكون أولى أما ما عمل به أهل المدينة فلأنهم أعرف بالتنزيل وأخبر بمواقع الوحي والتأويل وكذلك الأئمة والخلفاء الراشدون لحث النبي عليه السلام على متابعتهم والاقتداء بهم على ما سبق تعريفه وذلك يغلب على الظن قوته في الدلالة وسلامته عن المعارض وعلى هذا أيضا ما عمل بمقتضاه بعض الأمة يكون أغلب على الظن فكان أولى وفي معنى هذا أن يعتضد كل واحد منهما بدليل غير أن ما عضد أحدهما راجح على ما عضد الآخر أو أن يعمل بكل واحد منهما بعض الأمة غير أن من عمل بأحدهما أعرف بمواقع الوحي والتنزيل فيكون أولى.(1/452)
الثالث: أن يكون كل واحد منهما مؤولاً إلا أن دليل التأويل في أحدهما أرجح من دليل التأويل في الآخر فهو أولى لكونه أغلب على الظن.
الرابع: أن يكون أحدهما دالا على الحكم والعلة والآخر على الحكم دون العلة فما يدل على العلة يكون أولى لقربه إلى المقصود بسبب سرعة الانقياد وسهولة القبول ولدلالته على الحكم من جهة لفظه ومن جهة دلالته عليه بواسطة دلالته على العلة وما دل على الحكم بجهتين يكون أولى ولأن العمل به يلزمه مخالفة ما قابله من جهة واحدة والعمل بالمقابل يلزم منه مخالفة الدليل الآخر على الحكم من جهتين فكان أولى وربما رجح ما لم يدل على العلة من جهة أن المشقة في قبوله أشد والثواب عليه أعظم إلا أنه مرجوح بالنظر إلى مقصود التعقل ولذلك كان هو الأغلب.
الخامس: أن يدل كل واحد منهما على الحكم والعلة إلا أن دلالة أحدهما على العلية أقوى من دلالة الآخر عليها كما بيناه فيما تقدم فالأقوى يكون أولى لكونه أغلب على الظن.
السادس: أن يكونا عامين إلا أن أحدهما ورد على سبب خاص بخلاف الآخر وعند ذلك فتعارضهما إما أن يكون بالنسبة إلى ذلك السبب الخاص أو بالنسبة الى غيره فإن كان الأول فالوارد على ذلك السبب يكون أولى لكونه أمر به ولأن محذور المخالفة فيه نظراً إلى أن تأخير البيان عما دعت الحاجة إليه يكون أتم من المحذور اللازم من المخالفة في الآخر لكونه غير وارد فيها.
وإن كان الثاني فالعام المطلق يكون أولى لأن عمومه أقوى من عموم مقابله لاستوائهما في صيغة العموم وغلبة الظن بتخصيص ما ورد على الواقعة بها نظراً إلى بيان ما دعت الحاجة إليه وإلى أن الأصل إنما هو مطابقة ما ورد في معرض البيان لما مست إليه الحاجة ولأن ما ورد على السبب الخاص مختلف في تعميمه عند القائلين بالعموم بخلاف مقابله وعلى هذا فمحذور المخالفة في العام المطلق يكون أشد.
السابع: أن يكون أحدهما قد وردت به المخاطبة على سبيل الإخبار بالوجوب أو التحريم أو غيره كما في قوله تعالى " : والذين يظاهرون منكم من نسائهم " المجادلة 2 أو في معرض الشرط والجزاء كما في قوله تعالى: " ومن دخله كان آمناً " آل عمران 98 والآخر وردت المخاطبة به شفاها كما في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام " البقرة 183.
فإن تقابلا في حق من وردت المخاطبة إليه شفاها فخطاب المشافهة أولى وإن كان ذلك بالنظر إلى غير من وردت المخاطبة إليه شفاها كان الآخر أولى لما حققناه في معارضة العام المطلق والوارد على السبب المعين ولأن الخطاب شفاهاً إنما يكون للحاضر من الموجودين وتعميمه بالنسبة إلى غيرهم إنما يكون بالنظر إلى دليل آخر إما من إجماع الأمة على أنه لا تفرقة أو من قوله عليه السلام: " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " .
الثامن: أن يكون أحدهما مما يجوز تطرق النسخ إليه أو قد اختلف في تطرق النسخ إليه بخلاف الآخر فالذي لا يقبل النسخ يكون أولى لقلة تطرق الأسباب الموهية إليه.
التاسع: أن يكونا عامين إلا أن أحدهما قد اتفق على العمل به في صورة بخلاف الآخر فما اتفق على العمل به وإن كان قد يغلب على الظن زيادة اعتباره إلا أن العمل بما لم يعمل به في صورة متفق عليها أولى إذ العمل به مما لا يفضي إلى تعطيل الآخر لكونه قد عمل به في الجملة والعمل بما عمل به يفضي إلى تعطيل ما لم يعمل به وما يفضي إلى التأويل أولى مما يفضي إلى التعطيل.
وما عمل به في الصورة المتفق عليها وإن لزم أن يكون فيها راجحاً على العام المقابل إلا أنه يحتمل أن يكون الترجيح له لأمر خارج لا وجود له في محل النزاع وهو وإن كان المرجح الخارج بعيد الوجود لكن يجب اعتقاد وجوده نفيا لإهمال العام الآخر.
فإن قيل: لو كان له مرجح من خارج لوقفنا عليه بعد البحث التام وقد بحثنا فلم نجد شيئاً من ذلك واحتمال مخالفة السبر أيضاً بعيد فهو معارض بمثله فإنه لو كان رجحانه لمعنى يعود إلى نفسه لوقفنا عليه بعد البحث وقد بحثنا فلم نجده.
وعند ذلك فيتقاوم الكلامان وقد يسلم لنا ما ذكرناه أولاً.(1/453)
العاشر: أن يكون أحدهما قد قصد به بيان الحكم المختلف فيه بخلاف الآخر فالذي قصد به البيان للحكم يكون أولى لأنه يكون أمس بالمقصود وذلك كما في قوله تعالى: " وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف " النساء 23 فإنه قصد به بيان تحريم الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين فإنه مقدم على قوله تعالى: " أو ما ملكت أيمانكم " حيث لم يقصد به بيان الجمع.
الحادي عشر: أن يكون أحدهما أقرب إلى الاحتياط وبراءة الذمة بخلاف الآخر فالأقرب إلى الاحتياط يكون مقدما لكونه أقرب إلى تحصيل المصلحة ودفع المضرة.
الثاني عشر: أن يكون أحدهما يستلزم نقص الصحابي كحديث القهقهة في الصلاة بخلاف الآخر فالذي لا يستلزم ذلك أولى لكونه أقرب إلى الظاهر الموافق لحال الصحابي ووصف الله له بالعدالة على ما قال تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً " البقرة 143 أي عدولاً الثالث عشر: أن يقترن بأحد الخبرين تفسير الراوي بفعله أو قوله فإنه يكون مرجحاً على ما ليس كذلك لأن الراوي للخبر يكون أعرف وأعلم بما رواه.
الرابع عشر: أن يذكر أحد الراويين سبب ورود ذلك النص بخلاف الآخر فالذاكر للسبب أولى لأن ذلك يدل على زيادة اهتمامه بما رواه.
الخامس عشر: أن يكون قد اقترن بأحد الخبرين ما يدل على تأخيره عن الآخر كالخبر الذي ظهر بعد استظهار النبي عليه السلام وقوة شوكته بخلاف الآخر فالظاهر بعد قوة شوكة النبي عليه السلام أولى لأن احتمال ظهور مقابله قبل قوة الشوكة أكثر من احتمال وقوع ما ظهر بعد قوة الشوكة فكان تأخيره أغلب على الظن فكان أولى.
وفي معناه أن يكون أحد الراويين متأخر الإسلام عن الآخر فالغالب أن ما رواه عن النبي عليه السلام بعد إسلامه فروايته أولى لأن رواية الآخر يحتمل أن تكون قبل إسلام المتأخر ويحتمل أن تكون بعد إسلامه فكان تأخير ما رواه متأخر الإسلام أغلب على الظن وفي معناه أن يعلم أن موت متقدم الإسلام كان متقدماً على إسلام المتأخر وكذلك إذا علمنا أن غالب رواية أحد الراويين قبل الغالب من رواية الآخر فروايته تكون مرجوحة لأن الغالب تقدم ما رواه وكذلك إذا كانت رواية أحدهما مؤرخة بتاريخ مضيق دون الآخر فاحتمال تقدم غير المؤرخة يكون أغلب وكذلك إذا كان أحد الخبرين يدل على التخفيف والآخر على التشديد فاحتمال تأخر التشديد أظهر لأن الغالب منه عليه السلام أنه ما كان يشدد إلا بحسب علو شأنه واستيلائه وقهره ولهذا أوجب العبادات شيئا فشيئا وحرم المحرمات شيئاً فشيئاً.
القسم الثاني
في التعارض الواقع بين معقولين والمعقولان
إما قياسان أو استدلالان أو قياس واستدلال فإن كان التعارض بين قياسين فالترجيح بينهما قد يكون بما يعود إلى أصل القياس وقد يكون بما يعود إلى فرعه وقد يكون بما يعود إلى مدلوله وقد يكون بما يعود إلى أمر خارج.
فأما ما يعود إلى الأصل فمنه ما يعود إلى حكمه ومنه ما يعود إلى علته فأما ما يعود إلى حكم الأصل فترجيحات.
الأول: أن يكون الحكم في أصل أحدهما قطعياً وفي الآخر ظنياً فما حكم أصله قطعي أولى لأن ما يتطرق إليه من الخلل بسبب حكم الأصل منفي ولا كذلك الآخر فكان أغلب على الظن وفي معنى هذا ما يكون الحكم في أصل أحدهما ممنوعا وفي الآخر غير ممنوع فغير الممنوع يكون أولى.
الثاني: أن يكون حكم الأصل فيهما ظنياً غير أن الدليل المثبت لأحدهما أرجح من المثبت للآخر فيكون أولى.
الثالث: أن يكون حكم الأصل في أحدهما مما اختلف في نسخه بخلاف الآخر فالذي لم يختلف في نسخه أولى لبعده عن الخلل.
الرابع: أن يكون الحكم في أصل أحدهما غير معدول به عن سنن القياس كما ذكرناه فيما تقدم بخلاف الآخر فما لم يعدل به عن سنن القياس أولى لكونه أبعد عن التعبد وأقرب إلى المعقول وموافقة الدليل.
الخامس: أن يكون حكم الأصل في أحدهما قد قام دليل خاص على وجوب تعليله وجواز القياس عليه ولا كذلك الآخر فما قام الدليل فيه على وجوب تعليله وجواز القياس عليه أولى وإن لم يكون ذلك شرطاً في صحته كما سبق لما فيه من الأمن من غائلة التعبد والقصور على الأصل ولبعده عن الخلاف.
السادس: أن يكون حكم أحد الأصلين مما اتفق القياسون على تعليله والآخر مختلف فيه فما اتفق على تعليله أولى إذ هو أبعد عن الالتباس وأغلب على الظن.(1/454)
السابع: أن يكون حكم أحد الأصلين قطعياً لكنه معدول به عن سنن القياس والآخر ظني لكنه غير معدول به عن سنن القياس فالظني الموافق لسنن القياس أولى لكونه موافقاً للدليل وأبعد عن التعبد.
الثامن: أن يكون حكم أحدهما في الأصل قطعياً إلا أنه لم يقم دليل خاص على وجوب تعليله وعلى جواز القياس عليه وحكم الآخر ظني إلا أنه قد قام الدليل على وجوب تعليله وعلى جواز القياس عليه فما حكمه قطعي أولى لأن ما يتطرق إليه من الخلل إنما هو بسبب قربه من احتمال التعبد والقصور على الأصل المعين وما يتطرق إلى الظني من الخلل فمن جهة أن يكون الأمر في نفسه خلاف ما ظهر واحتمال التعبد والقصور على ما ورد الشرع فيه بالحكم أبعد من احتمال ظن الظهور لما ليس بظاهر والترك للعمل بما هو ظاهر.
التاسع: أن يكون حكم أصل أحدهما قطعياً إلا أنه لم يتفق على تعليله وحكم الآخر ظني إلا أنه متفق على تعليله فالظني المتفق على تعليله أولى لأن تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع إنما هو فرع تعقل العلة في الأصل وتحقق وجودها في الفرع واحتمال معرفة ذلك فيما هو متفق عليه أغلب واحتمال الخلل بالنظر إلى الحكم الظني وإن كان قائماً ومأموناً في جانب الحكم القطعي إلا أن احتمال قطع القياس فيما لم يتفق على تعليله لعدم الاطلاع على ما هو المقصود من حكم الأصل أغلب من احتمال انقطاع القياس لخلل ملتحق بالظاهر الدال على حكم الأصل مع ظهور دليله وعدم الاطلاع عليه بعد البحث التام فيه.
العاشر: أن يكون دليل ثبوت الحكم في أصل أحدهما أرحج من الآخر إلا أنه مختلف في نسخه بخلاف الآخر فما دليله راجح أولى لأن الأصل عدم النسخ وقول النسخ معارض بقول عدم النسخ فكان احتمال عدم النسخ أرجح.
الحادي عشر: أن يكون دليل ثبوت الحكم في أحدهما راجحا على دليل حكم أصل الآخر إلا أنه معدول به عن سنن القياس والقاعدة العامة بخلاف الآخر فما لم يعدل به عن القاعدة أولى لأنه يلزم من العمل به الجري على وفق القاعدة العامة التي ورد الحكم في القياس الآخر على خلافها غير أنه يلزم منه إهمال جانب الترجيح في الآخر وما يلزم من العمل بالآخر فإنما هو اعتبار ظهور الترجيح لكن مع مخالفة القاعدة المتفق عليها واحتمال مخالفة القواعد العامة المتفق عليها أبعد من احتمال مخالفة الشذوذ من ظواهر الأدلة كيف وإن العمل بما دليل ثبوت حكم أصله ظني محافظة على أصل الدليل الظني والقاعدة العامة والعمل بما ظهر الترجيح في دليل ثبوت حكمه فيه الموافقة لما ظهر من الترجيح ومخالفة القاعدة وأصل الدليل الآخر ولا يخفى أن العمل بما يلزم منه موافقة ظاهرين ومخالفة ظاهر واحد أولى من العكس.
الثاني عشر: أن يكون دليل ثبوت حكم أصل أحدهما راجحاً على دليل الآخر إلا أنه لم يقم دليل خاص على وجوب تعليله وعلى جواز القياس عليه بخلاف الآخر فما ظهر الترجيح في دليله أولى لما ذكرناه فيما إذا كان الحكم قطعياً.
الثالث عشر: أن يكون دليل ثبوت حكم أصل أحدهما أرجح من دليل الآخر إلا أنه غير متفق على تعليله بخلاف الآخر فما اتفق على تعليله أولى لما ذكرناه فيما إذا كان حكم الأصل في أحدهما قطعياً والآخر ظنياً.
الرابع عشر: أن يكون حكم أصل أحدهما مما اتفق على عدم نسخه إلا أنه معدول به عن القاعدة العامة بخلاف الآخر فما لم يعدل به عن القاعدة أولى لما سبق تحقيقه.
الخامس عشر: أن يكون حكم أصل أحدهما غير معدول به عن القاعدة العامة إلا أنه لم يقم دليل خاص على وجوب تعليله وجواز القياس عليه بخلاف الآخر فما هو على وفق القاعدة العامة أولى لأن العمل به عمل بأغلب ما يرد به الشرع والعمل بمقابله بالعكس ولأن أكثر من قال باشتراط كون الحكم في الأصل غير معدول به عن القاعدة العامة خالف في اشتراط قيام الدليل على وجوب تعليل الحكم وجواز القياس عليه ولم يشترط غير الشذوذ فكونه غير معدول به عن القاعدة العامة أمس بالقياس.(1/455)
السادس عشر: أن يكون حكم أصل أحدهما غير معدول به عن القاعدة العامة إلا أنه لم يتفق على تعليله والآخر بعكسه فما اتفق على تعليه أولى لأن كل واحد من القياسين وإن كان مختلفاً فيه إلا أن احتمال وقوع التعبد في القياس يبطله قطعا ومخالفة القاعدة العامة غير مبطلة للقياس قطعا وما يبطل القياس قطعاً بتقدير وقوعه يكون مرجوحاً بالنسبة إلى ما لا يبطله قطعاً.
وأما الترجيحات العائدة إلى علة حكم الأصل فمنها ما يرجع إلى طريق إثباتها ومنها ما يرجع إلى صفتها.
أما الترجيحات العائدة إلى طرق إثباتها.
فالأول: منها أن يكون وجود علة أحد القياسين مقطوعاً به في أصله بخلاف علة الآخر فما وجود علته في أصله قطعي أولى وسواء كان وجودها معقولاً أو محساً مدلولاً عليه أو غير مدلول لكونه أغلب على الظن.
وفي معنى هذا أن يكون وجود العلتين مظنوناً غير أن ظن وجود إحداهما أرجح من الاخرى فقياسها أولى لأنها أغلب على الظن.
الثاني: أن يكون دليل علية الوصف في أحد القياسين قطعياً وفي الآخر ظنياً فيكون أولى لأنه أغلب على الظن.
الثالث: أن يكون دليل العلتين ظنياً غير أن دليل إحدى العلتين أرجح من دليل الأخرى فما دليلها أرجح فقياسها أولى لأنه أغلب على الظن.
الرابع: أن يكون طريق علية الوصف فيهما الاستنباط إلا أن دليل إحدى العلتين السبر والتقسيم والأخرى المناسبة فما طريق ثبوت العلية فيه السبر والتقسيم يكون أولى لأن الحكم في الفرع كما يتوفف على تحقق مقتضيه في الأصل يتوقف على انتفاء معارضه في الأصل والسبر والتقسيم فيه التعرض لبيان المقتضي وإبطال المعارض بخلاف إثبات العلة بالإحالة فكان السبر والتقسيم أولى.
فإن قيل: وصف العلة لا بد وأن يكون مناسباً في نفس الأمر أو شبهياً لامتناع التعليل بالوصف الطروي ولا يخفى أن احتمال عدم المناسبة بعد إظهارها بالطريق التفصيلي أبعد من احتمال عدمها في السبر والتقسيم حيث لم يتعرض فيه لبيانها تفصيلا فكان طريق المناسبة أولى.
قلنا: إلا أن التعرض لمناسبة الوصف لا دلالة له بوجه على نفي المعارض في الأصل فإنه لامتناع من اجتماع مناسبين في محل واحد على حكم واحد ودلالة البحث والسبر على مناسب في الأصل غير الوصف المشترك مع أن الأصل أن يكون الحكم معقول المعنى وأن يدل على أن الوصف المشترك مناسب ولا يخفى أن ما يدل على مناسبة العلة وعلى انتفاء معارضها أولى مما يدل على مناسبتها ولا يدل على انتفاء معارضها.
فإن قيل: إلا أن طريق إثبات العلة بالمناسبة أو الشبه أدل على مناسبة الوصف بعد إظهارها من دلالة السبر والتقسيم على انتفاء وصف آخر لاحتمال أن يصدق الناظر في قوله وأن يكذب وبتقدير صدقه فظهور ذلك مختص به دون غيره بخلاف طريق المناسبة فإنه ظاهر بالنظر إلى الخصمين.
قلنا: بل العكس أولى وذلك لأن الخلل العائد إلى دليل نفي المعارض إنما هو بالكذب أو الغلط لعدم الظفر بالوصف ولا يخفى أن وقوع الغلط مع كون الوصف المبحوث عنه ظاهراً جلياً ووقوع الكذب مع كون الباحث عدلاً أبعد من احتمال وقوع الغلط فيما أبدى من المناسبة مع كونها خفية مضطربةً.
الخامس: أن يكون نفي الفارق في أصل أحد القياسين مقطوعاً به وفي الآخر مظنونا فما قطع فيه بنفي الفارق يكون أولى لكونه أغلب على الظن.
السادس: أن يكون طريق ثبوت إحدى العلتين السبر والتقسيم والأخرى الطرد والعكس فما طريق ثبوته السبر والتقسيم أولى إذ هو دليل ظاهر على كون الوصف علة وما دار الحكم معه وجوداً وعدماً غير ظاهر العلية لأن الحكم قد يدور مع الأوصاف الطردية كما في الرائحة الفائحة الملازمة للشدة المطربة الدائرة مع تحريم الشرب وجوداً وعدماً مع أنها ليست علة لأن العلة لا بد وأن تكون في الأصل بمعنى الباعث لا بمعنى الأمارة كما سبق تقريره.
والرائحة الفائحة ليست باعثة إذ لا يشم منها رائحة المناسبة وكما أنه غير ظاهر في الدلالة على علية الوصف فلا دلالة له على ملازمة العلة لما قدمناه في إبطال الطرد والعكس.
وبهذا يكون القياس الذي طريق إثبات العلية فيه المناسبة أولى مما طريق إثباتها فيه الطرد والعكس.
وأما الترجيحات العائدة إلى صفة العلة.(1/456)
فالأول: منها أنه إذا كانت علة الأصل في أحد القياسين حكماً شرعياً وفي الآخر وصفاً حقيقياً فما علته وصف حقيقي أولى لوقوع الاتفاق عليه ووقوع الخلاف في مقابله فكانت أغلب على الظن.
الثاني: أن تكون علة الحكم الثبوتي في أحدهما وصفاً وجودياً وفي الآخر وصفاً عدمياً فما علته ثبوتية أولى للاتفاق عليه ووقوع الخلاف في مقابله.
الثالث: أن تكون علة أحدهما بمعنى الباعث وفي الآخر بمعنى الأمارة فما علته باعثة أولى للاتفاق عليه.
الرابع: أن تكون علة أحدهما وصفاً ظاهراً منضبطاً وفي الآخر بخلافه فما علته مضبوطة أولى لأنه أغلب على الظن لظهوره ولبعده عن الخلاف.
الخامس: أن تكون علة أحدهما وصفاً متحداً وفي الآخر ذات أوصاف فما علته ذات وصف واحد أولى لأنه أقرب إلى الضبط وأبعد عن الخلاف.
السادس: أن تكون علة أحدهما أكثر تعديةً من علة الآخر فهو أولى لكثرة فائدته.
السابع: أن تكون علة أحدهما مطردةً بخلاف الآخر فما علته مطردة أولى لسلامتها عن المفسد وبعدها عن الخلاف.
وفي معنى هذا أن تكون علة أحدهما غير منكسرة بخلاف علة الآخر فما علته غير منكسرة أولى لبعدها عن الخلاف.
الثامن: أن تكون علة أحدهما منعكسة بخلاف علة الآخر فما علته منعكسة أولى لأنها أغلب على الظن وأبعد عن الخلاف.
التاسع: أن تكون علة أحدهما غير متأخرة عن الحكم بخلاف الآخر فما علته غير متأخرة أولى لبعده عن الخلاف.
العاشر: أن تكون علة أحدهما مطردة غير منعكسة وعلة الآخر منعكسة غير مطردة فالمطردة أولى لما بيناه من اشتراط الاطراد وعدم اشتراط الانعكاس ولهذا فإن من سلم اشتراط الاطراد خالف في اشتراط الانعكاس.
الحادي عشر: أن يكون ضابط الحكمة في علة أحد القياسين جامعاً للحكمة مانعاً لها بخلاف ضابط حكمة العلة في القياس الآخر كما بيناه فالجامع المانع أولى لزيادة ضبطه وبعده عن الخلاف.
الثاني عشر: أن تكون العلة في أحدهما غير راجعة على الحكم الذي استنبطت منه برفعه أو رفع بعضه بخلاف الآخر فهو أولى لسلامة علته عما يوهيها وبعدها عن الخلاف.
الثالث عشر: أن تكون علة أحد القياسين مناسبة وعلة الآخر شبهية فما علته مناسبة أولى لزيادة غلبة الظن بها وزيادة مصلحتها وبعدها عن الخلاف.
الرابع عشر أن يكون المقصود من إحدى العلتين من المقاصد الضرورية كما بيناه من قبل والمقصود من العلة الأخرى غير ضروري فما مقصوده من الحاجات الضرورية أولى لزيادة مصلحته وغلبة الظن به ولهذا فإنه لم تخل شريعة عن مراعاته وبولغ في حفظه بشرع أبلغ العقوبات.
الخامس عشر: أن يكون مقصود إحدى العلتين من الحاجات الزائدة ومقصود الأخرى من باب التحسينات والتزيينات فما مقصوده من باب الحاجات الزائدة أولى لتعلق الحاجة به دون مقابله.
السادس عشر: أن يكون مقصود إحدى العلتين من مكملات المصالح الضرورية ومقصود الأخرى من أصول الحاجات الزائدة فما مقصوده من مكملات الضروريات وإن كان تابعا لها ومقابله أصل في نفسه يكون أولى ولهذا أعطى حكم أصله حتى شرع في شرب قليل الخمر ما شرع في كثيره.
السابع عشر: أن يكون مقصود إحدى العلتين حفظ أصل الدين ومقصود الأخرى ما سواه من المقاصد الضرورية فما مقصوده حفظ أصل الدين يكون أولى نظراً إلى مقصوده وثمرته من نيل السعادة الأبدية في جوار رب العالمين وما سواه من حفظ الأنفس والعقل والمال وغيره فإنما كان مقصوداً من أجله على ما قال تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " .
فإن قيل: بل ما يفضي إلى حفظ مقصود النفس أولى وأرجح وذلك لأن مقصود الدين حق الله تعالى ومقصود غيره حق للآدمي وحق الآدمي مرجح على حقوق الله تعالى مبني على الشح والمضايقة وحقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والمساهلة من جهة أن الله تعالى لا يتضرر بفوات حقه فالمحافظة عليه أولى من المحافظة على حق لا يتضرر مستحقه بفواته ولهذا رجحنا حقوق الآدمي على حق الله تعالى بدليل أنه لو ازدحم حق الله تعالى وحق الآدمي في محل واحد وضاق عن استيفائهما بأن يكون قد كفر وقتل عمداً عدواناً فإنا نقتله قصاصاً لا بكفره.(1/457)
وأيضا فإنا قد رجحنا مصلحة النفس على مصلحة الدين حيث خففنا عن المسافر بإسقاط الركعتين وأداء الصوم وعن المريض بترك الصلاة قائما وترك أداء الصوم وقدمنا مصلحة النفس على مصلحة الصلاة في صورة إنجاء الغريق.
وأبلغ من ذلك أنا رجحنا مصلحة المال على مصلحة الدين حيث جوزنا ترك الجمعة والجماعة ضرورة حفظ أدنى شيء من المال ورجحنا مصالح المسلمين المتعلقة ببقاء الذمي بين أظهرهم على مصلحة الدين حتى عصمنا دمه وماله مع وجود الكفر المبيح.
قلنا: أما النفس فكما هي متعلق حق الآدمي بالنظر إلى بعض الأحكام فهي متعلق حق الله تعالى بالنظر إلى أحكام أخر ولهذا يحرم عليه قتل نفسه والتصرف بما يفضي إلى تفويتها فالتقديم إنما هو لمتعلق الحقين ولا يمتنع تقديم حق الله وحق الآدمي على ما تمحض حقا لله كيف وإن مقصود الدين متحقق بأصل شرعية القتل وقد تحقق والقتل بالفعل إنما هو لتحقيق الوعيد به والمقصود بالقصاص إنما هو التشفي والانتقام ولا يحصل ذلك للوارث بشرع القتل دون القتل بالفعل على ما يشهد به العرف فكان الجمع بين الحقين أولى من تضييع أحدهما كيف وإن تقديم حق الآدمي ها هنا لا يفضي إلى تفويت حق الله فيما يتعلق بالعقوبة البدنية مطلقاً لبقاء العقوبة الأخروية وتقديم حق الله مما يفضي إلى فوات حق الآدمي من العقوبة البدنية مطلقاً فكان لذلك أولى.
وأما التخفيف عن المسافر والمريض فليس تقديماً لمقصود النفس على مقصود أصل الدين بل على فروعه وفروع الشيء غير أصل الشيء ثم وإن كان فمشقة الركعتين في السفر تقوم مقام مشقة الأربع في الحضر وكذلك صلاة المريض قاعداً بالنسبة إلى صلاته قائماً وهو صحيح فالمقصود لا يختلف.
وأما أداء الصوم فلأنه لا يفوت مطلقاً بل يفوت إلى خلف وهو القضاء وبه يندفع ما ذكروه من صورة إنقاذ الغريق وترك الجمعة والجماعة لحفظ المال أيضاً وبقاء الذمي بين أظهر المسلمين معصوم الدم والمال ليس لمصلحة المسلمين بل لأجل اطلاعه على محاسن الشريعة وقواعد الدين ليسهل انقياده ويتيسر استرشاده وذلك من مصلحة الدين لا من مصلحة غيره وكما أن مقصود الدين مقدم على غيره من مقاصد الضروريات فكذلك ما يتعلق به من مقصود النفس يكون مقدماً على غيره من المقاصد الضرورية أما بالنظر إلى حفظ النسب فلأن حفظ النسب إنما كان مقصوداً لأجل حفظ الولد حتى لا يبقى ضائعاً لا مربي له فلم يكن مطلوبا لعينه وذاته بل لأجل بقاء النفس مرفهة منعمة حتى تأتي بوظائف التكاليف وأعباء العبادات.
وأما بالنظر إلى حفظ العقل فمن جهة أن النفس أصل والعقل تبع فالمحافظة على الأصل أولى ولأن ما يفضي إلى فوات النفس على تقدير أفضليته يفوتها مطلقا وما يفضي إلى تفويت العقل كشرب المسكر لا يفضي إلى فواته مطلقاً فالمحافظة بالمنع مما يفضي إلى الفوات مطلقاً أولى وعلى هذا أيضاً يكون المقصود في حفظ النسب أولى من المقصود في حفظ العقل ومقدم على ما يفضي إلى حفظ المال لكونه مركب الأمانة وملاك التكليف ومطلوباً للعبادة بنفسه من غير واسطة ولا كذلك المال ولهذا كانت هذه الرتب مختلفة في العقوبات المرتبة عليها على نحو اختلافها في أنفسها.وبمثل تفاوت هذه الرتب يكون التفاوت بين مكملاتها.
الثامن عشر: أن يكون الوصف الجامع في أحد القياسين نفس علة حكم الأصل والآخر دليل علة الأصل وملازمها فالذي فيه الجامع نفس العلة أولى لظهورها وركون النفس إليها.
التاسع عشر: أن تكون علة الأصل في أحد القياسين ملائمةً وعلة الآخر غريبة فما علته ملائمة أولى لأنها أغلب على الظن وأبعد عن الخلاف.
العشرون: أن تكون علة الأصلين منقوضةً إلا أنه قد ظهر في صورة النقض في أحدهما ما يمكن إحالة النقض عليه من وجود مانع أو فوات شرط بخلاف الأخرى فهي أولى لأنها أغلب على الظن.
الحادي والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين قد يتخلف عنها مدلولها في صورة بطريق الاستثناء على خلاف القاعدة العامة والأخرى يتخلف عنها حكمها لا على جهة الاستثناء فالتي يتخلف عنها حكمها بجهة الاستثناء تكون أولى لقربها إلى الصحة وبعدها عن الخلاف.
الثاني والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين قد خلفها في صورة النقض ما هو أليق بها لكون مناسبتها فيها أشد كما ذكرناه فيما تقدم بخلاف الأخرى فهي أولى لتبين عدم إلغائها بخلاف الأخرى.(1/458)
الثالث والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين لا مزاحم لها في أصلها بخلاف الأخرى فالتي لا مزاحم لها أولى لأنها أغلب على الظن وأقرب إلى التعدية وعلى هذا يكون ما رجحانها على مزاحمها أكثر مقدمة أيضاً.
الرابع والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين مقتضية للإثبات والأخرى مقتضيةً للنفي فالنافية تكون أولى لأن مقتضاها يتم على تقدير رجحانها وعلى تقدير مساواتها ومقتضى المثبتة لا يتم إلا على تقدير رجحانها وما يتم مطلوبه على تقدير من تقديرين يكون أغلب على الظن مما لا يتم مطلوبه إلا على تقدير واحد معين.
فإن قيل: إلا أن العلة المثبتة مقتضاها حكم شرعي بالاتفاق بخلاف النافية وما فائدتها شرعية بالاتفاق تكون أولى وأيضاً فإنه يجب اعتقاد اختصاص أصل النافية بمعنى لا وجود له في الفرع تقليلا لمخالفة الدليل كيف وإن ما ذكرتموه من الترجيح للنافية غير مستقيم على رأي من يعتقد التخيير عند تساوي الدليلين المتعارضين وعلى هذا فيتساوى القدمان.
قلنا: أما كون حكم إحدى العلتين شرعي فلا يرجح به لأن الحكم إنما كان مطلوباً لا لنفسه بل لما يفضي إليه من الحكم به والشارع كما يود تحصيل الحكمة بواسطة ثبوت الحكم يود تحصيلها بواسطة نفيه كيف وإن العلة النافية متأيدة بالنفي الأصلي والمثبتة على خلافه فكانت أولى.
وما قيل من وجوب اعتقاد اختصاص النافية بمعنى في الأصل لا وجود له في الفرع فهو معارض بمثله في المثبتة وأنه يجب اعتقاد اختصاص أصلها بمعنى لا وجود له في الفرع تقليلاً لمخالفة الدليل النافي وليس أحدهما أولى من الآخر والتخيير وإن كان مقولاً به عند تعارض الدليلين مع التساوي من كل وجه فليس إلا على بعض الآراء الشاذة بالنسبة إلى ما قابله كيف وإن الحكم إنما يثبت لما يصلح أو يكون مقصوداً وإثبات الحكم عند التعارض من كل وجه لتحصيل مصلحة على وجه يلزم منه مفسدة مساويه لا يصلح أن يكون مقصودا فالحكم يكون منتفيا لانتفاء مقصوده.
الخامس والعشرون أن تكون حكمة إحدى العلتين قد اختلت احتمالاً لمانع أخل بها دون الأخرى فالتي لا يختل حكمها احتمالاً أولى لقربها إلى الظن وبعدها عن الخلل والخلاف.
السادس والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين أفضى إلى تحصيل مقصودها من الأخرى فتكون أولى لزيادة مناسبتها بسبب ذلك.
السابع والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين مشيرة إلى نقيض المطلوب ومناسبة له من وجه بخلاف الأخرى فما لا تكون مناسبةً لنقيض المطلوب تكون أولى لكونها أظهر في إفضائها إلى حكمها وأغلب على الظن وأبعد عن الاضطراب.
الثامن والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين متضمنة لمقصود يعم جميع المكلفين والأخرى متضمنة لمقصود يرجع إلى آحادهم فالأولى أولى لعموم فائدتها.
التاسع والعشرون أن تكون علة أحد القياسين أكثر شمولاً لمواقع الخلاف من الأخرى فتكون أولى لعموم فائدتها.
وأما الترجيحات العائدة إلى الفرع فأربعة : الأول أن يكون فرع أحد القياسين مشاركاً لأصله في عين الحكم وعين العلة وفرع الآخر مشاركاً لأصله في جنس الحكم وجنس العلة أو جنس الحكم وعين العلة أو بالعكس فما المشاركة فيه في عين العلة وعين الحكم أولى لأن التعدية باعتبار الاشتراك في المعنى الأخص والأعم أغلب على الظن من الاشتراك في المعنى الأعم.
وعلى هذا فما المشاركة فيه بين الأصل والفرع عين أحد الأمرين: إما الحكم أو العلة تكون أولى مما المشاركة فيه بين أصله وفرعه في جنس الأمرين وإن كان فرع أحدهما مشاركاً لأصله في عين العلة وجنس الحكم والآخر بعكسه فما المشاركة فيه في عين العلة وجنس الحكم أولى لأن تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع إنما هي فرع تعدية العلة فهي الأصل في التعدية وعليها المدار.
الثاني أن يكون الفرع في أحد القياسين متأخراً عن أصله وفي الآخر متقدماً فما الفرع فيه متأخر أولى لسلامته عن الاضطراب وبعده عن الخلاف وعلمنا بثبوت الحكم فيه بما استنبط من الأصل.
الثالث أن يكون وجود العلة في أحد الفرعين قطعياً وفي الآخر ظنياً فما وجود العلة فيه قطعي أولى لأن أغلب على الظن وأبعد عن احتمال القادح فيه.
الرابع أن يكون حكم الفرع في أحدهما قد ثبت بالنص جملةً لا تفصيلاً بخلاف الآخر فإنه يكون أولى لأنه أغلب على الظن وأبعد عن الخلاف.(1/459)
وأما الترجيحات العائدة إلى حكم الفرع وإلى أمر خارج فعلى ما أسلفناه في المنقولات وقد يتركب مما ذكرناه من الترجيحات ومقابلات بعضها لبعض ترجيحات أخر خارجة عن الحصر لا يخفى إيجادها في مواضعها على من أخذت الفطانة بيده.
وقد أشرنا إلى جملة منها في كتابنا الموسوم بمنتهى المسالك في رتب السالك فعليك بمراجعته.
وعلى هذا فلا يخفى الترجيح المتعلق بالاستدلالات المتعارضة بالنظر إلى ذواتها وطرق إثباتها.
وأما التعارض الواقع بين المنقول والمعقول فالمنقول إما أن يكون خاصاً وإما عاماً.
فإن كان خاصاً فإما أن يكون دالاً بمنظومه أو لا بمنظومه فإن كان الأول فهو أولى لكونه أصلاً بالنسبة إلى الرأي وقلة تطرق الخلل إليه.
وإن كان الثاني فمنه ما هو ضعيف جداً ومنه ما هو قوي جدا ومنه ما هو متوسط بين الرتبتين.
والترجيح إذ ذاك يكون على حسب ما يقع في نفس المجتهد من قوة الدلالة وضعفها وذلك مما لا ينضبط ولا حاصر له بحيث تمكن الإشارة إليه في هذا الكتاب وإنما هو موكول إلى الناظرين في آحاد الصور التي لا حصر لها.
وأما إن كان المنقول عاماً فقد قيل بتقدم القياس عليه وقيل بتقدم العموم وقيل بالتوقف وقيل يتقدم على جلي القياس دون خفيه وقيل يتقدم القياس على ما دخله التخصيص دون ما لم يدخله.
والمختار إنما هو تقديم القياس وسواء كان جلياً أو خفياً لأنه يلزم من العمل بعموم العام إبطال دلالة القياس مطلقاً ولا يلزم من العمل بالقياس إبطال العام مطلقا بل غاية ما يلزم منه تخصيصه وتأويله.
ولا يخفى أن الجمع بين الدليلين على وجه يلزم منه تأويل أحدهما أولى من العمل بأحدهما وإبطال الآخر ولأن القياس يتناول المتنازع فيه بخصوصه والمنقول يتناوله بعمومه والخاص أقوى من العام.
فإن قيل: إلا أن العموم أصل والقياس فرع والأصل مقدم على الفرع وأيضاً فإن تطرق الخلل إلى العموم أقل من تطرقه إلى القياس على ما سبق تقريره فكان أولى.
قلنا: أما الأول فإنما يلزم أن لو كان ما قيل بتقديم القياس عليه هو أصل ذلك القياس وليس كذلك بل جاز أن يكون فرعاً لغيره.
فإن قيل: وإن لم يكن فرعاً لذلك العام بعينه فهو فرع بالنسبة إلى ما هو من جنسه.
قلنا: إلا أن ذلك لا يمنع من تخصيص العموم بالقياس وإلا لما جاز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد لكونه فرعاً بالنسبة إلى ما هو من جنسه وهو ممتنع على ما سبق.
وما ذكروه من الترجيح الثاني فهو معارض بمثله فإن العام وإن كان ظاهراً فيحتمل الخصوص واحتمال ذلك في الشرع أغلب من احتمال الغلط من المجتهد المتبحر على ما لا يخفى.
ولهذا قيل إنه ما من عام إلا وهو مخصوص إلا في قوله تعالى: " والله بكل شيء عليم " البقرة 282 ولا كذلك القياس.
الباب الثاني
في الترجيحات الواقعة بين الحدود
الموصلة إلى المعاني المفردة التصورية
واعلم أن الحدود على اختلاف أنواعها منقسمة إلى عقلية وسمعية كانقسام الحجج.
غير أن ما هو متعلق غرضنا هاهنا إنما هو السمعية ومن السمعية ما كان ظنياً وعند تعارض الحدين السمعيين فقد يقع الترجيح بينهما من وجوه.
الأول أن يكون أحدهما مشتملاً على ألفاظ صريحة ناصة على الغرض المطلوب من غير تجوز ولا استعادة ولا اشتراك ولا غرابة ولا اضطراب ولا ملازمة بل بطريق المطابقة أو التضمن بخلاف الآخر فهو أولى لكونه أقرب إلى الفهم وأبعد عن الخلل والاضطراب.
الثاني أن يكون المعرف في أحدهما أعرف من المعرف في الآخر فهو أولى لكونه أفضى إلى التعريف.
الثالث أن يكون أحدهما معرفا بالأمور الذاتية والآخر بالأمور العرضية فالمعرف بالأمور الذاتية أولى لأنه مشارك للمعرف بالأمور العرضية في التمييز ومرجح عليه بتصوير معنى الحدود.
الرابع أن يكون أحد الحدين أعم من الآخر فقد يمكن أن يقال الأعم أولى لتناوله محدود الآخر وزيادة وما كان أكثر فائدة فقد يمكن أن يقال بأن الأخص أولى نظراً إلى أن مدلوله متفق عليه ومدلول الآخر من الزيادة مختلف فيه وما مدلوله متفق عليه أولى.
الخامس أن يكون أحدهما قد أتي فيه بجميع ذاتياته والآخر ببعضها مع التمييز فالأول يكون أولى لأنه أشد تعريفاً.(1/460)
السادس أن يكون أحدهما على وفق النقل السمعي والآخر على خلافه فالموافق يكون أولى لبعده عن الخلل ولأنه أغلب على الظن.
السابع أن يكون طريق اكتساب أحدهما أرجح من طريق اكتساب الآخر فهو أولى لأنه أغلب على الظن.
الثامن أن يكون أحدهما موافقاً للوضع اللغوي والآخر على خلافه أو أنه أقرب إلى موافقته والآخر أبعد فالموافق أو ما هو أكثر موافقةً للوضع اللغوي يكون أولى لأن الأصل إنما هو التقرير دون التغيير لكونه أقرب إلى الفهم وأسرع إلى الانقياد.
ولهذا كان التقرير هو الغالب وكان متفقا عليه بخلاف التغيير فكان أولى.
التاسع أن يكون أحدهما مما قد ذهب إلى العمل به أهل المدينة أو الخلفاء الراشدون أو جماعة من الأمة أو واحد من المشاهير بالاجتهاد والعدالة والثقة بما يقول بخلاف الآخر فهو أولى لكونه أغلب على الظن وأقرب إلى الانقياد.
العاشر أن يلزم من العمل بأحدهما تقرير حكم الحظر والآخر تقرير الوجوب أو الكراهة أو الندب فما يلزم منه تقرير الحظر أولى لما قدمناه في الحجج.
الحادي عشر أن يلزم من أحدهما تقرير حكم النفي والآخر الإثبات فالمقرر للنفي أولى لما سبق في الحجج.
الثاني عشر أن يلزم من أحدهما تقرير حكم معقول ومن الآخر حكم غير معقول فما يلزم منه تقرير حكم معقول أولى لما سبق في الحجج.
الثالث عشر أن يلزم من أحدهما درء الحد والعقوبة ومن الآخر إثباته فالدارىء للحد أولى لما سبق أيضاً.
الرابع عشر أن يكون أحدهما يلازمه الحرية أو الطلاق والآخر يلازمه الرق أو إبقاء النكاح فالحكم فيه ما سبق في الحجج.
وقد يتشعب من تقابل هذه الترجيحات ترجيحات أخرى كثيرة خارجة عن الحصر لا تخفى على متأملها.
وهذا آخر ما أردناه ونهاية ما رتبناه.اللهم! فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين !.(1/461)