القاعدة الأولى
في تحقيق مفهوم أصول الفقه
وتعريف موضوعه وغايته وما فيه من البحث عنه من مسائله وما منه استمداده وتصوير مباديه وما لا بد من سبق معرفته قبل الخوض فيه.
فنقول حق على كل من حاول تحصيل علم من العلوم أن يتصور معناه أولاً بالحد أو الرسم ليكون على بصيرة فيما يطلبه وأن يعرف موضوعه وهو الشيء الذي يبحث في ذلك العلم عن أحواله العارضة له تمييزاً له عن غيره وما هو الغاية المقصودة من تحصيله حتى لا يكون سعيه عبثاً وما عنه البحث فيه من الأحوال التي هي مسائله لتصور طلبها وما منه استمداده لصحة إسناده عند روم تحقيقه إليه وأن يتصور مباديه التي لا بد من سبق معرفتها فيه لإمكان البناء عليها.
أما مفهوم أصول الفقه فنقول: أعلم أن قول القائل أصول الفقه قول مؤلف من مضاف هو الأصول ومضاف إليه هو الفقه ولن نعرف المضاف قبل معرفة المضاف إليه فلا جرم أنه يجب تعريف معنى الفقه أولاً ثم معنى الأصول ثانياً أما الفقه: ففي اللغة عبارة عن الفهم ومنه قوله تعالى: " ما نفقه كثيراً مما تقول " أي: لا نفهم وقوله تعالى: " ولكن لا تفقهون تسبيحهم " أي لا تفهمون وتقول العرب: فقهت كلامك أي فهمته.
وقيل: هو العلم والأشبه أن الفهم مغاير للعلم إذ الفهم عبارة عن جودة الذهن من جهة تهيئه لاقتناص كل ما يرد عليه من المطالب وإن لم يكن المتصف به عالماً كالعامي الفطن وأما العلم فسيأتي تحقيقه عن قريب وعلى هذا فكل عالم فهم وليس كل فهم عالماً.
وفي عرف المتشرعين الفقه مخصوص بالعلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفروعية بالنظر والاستدلال فالعلم احتراز عن الظن بالأحكام الشرعية فإنه وإن تجوز بإطلاق اسم الفقه عليه في العرف العامي فليس فقهاً في العرف اللغوي والأصولي بل الفقه العلم بها أو العلم بالعمل بها بناء على الإدراك القطعي وإن كانت ظنية في نفسها وقولنا بجملة من الأحكام الشرعية احتراز عن العلم بالحكم الواحد أو الاثنين لا غير فإنه لا يسمى في عرفهم فقهاً.
وإنما لم نقل بالأحكام لأن ذلك يشعر بكون الفقه هو العلم بجملة الأحكام ويلزم منه أن لا يكون العلم بما دون ذلك فقهاً وليس كذلك وقولنا الشرعية احتراز عما ليس بشرعي كالأمور العقلية والحسية وقولنا الفروعية احتراز عن العلم بكون أنواع الأدلة حججاً فإنه ليس فقهاً في العرف الأصولي وإن كان المعلوم حكماً شرعياً نظرياً لكونه غير فروعي وقولنا بالنظر والاستدلال احتراز عن علم الله تعالى بذلك وعلم جبريل والنبي عليه السلام فيما علمه بالوحي فإن علمهم بذلك لا يكون فقهاً في العرف الأصولي إذ ليس طريق العلم في حقهم بذلك النظر والاستدلال.
وأما أصول الفقه فاعلم أن أصل كل شيء هو ما يستند تحقيق ذلك الشيء إليه فأصول الفقه: هي أدلة الفقه وجهات دلالاتها على الأحكام الشرعية وكيفية حال المستدل بها من جهة الجملة لا من جهة التفصيل بخلاف الأدلة الخاصة المستعملة في آحاد المسائل الخاصة.
وأما موضوع أصول الفقه فاعلم أن موضوع كل علم هو الشيء الذي يبحث في ذلك العلم عن أحواله العارضة لذاته ولما كانت مباحث الأصوليين في علم الأصول لا تخرج عن أحوال الأدلة الموصلة إلى الأحكام الشرعية المبحوث عنها فيه وأقسامها واختلاف مراتبها وكيفية استثمار الأحكام الشرعية عنها على وجه كلي كانت هي موضوع علم الأصول.
وأما غاية علم الأصول فالوصول إلى معرفة الأحكام الشرعية التي هي مناط السعادة الدنيوية والأخروية وأما مسائله فهي أحوال الأدلة المبحوث عنها فيه مما عرفناه وأما ما منه استمداده فعلم الكلام والعربية والأحكام الشرعية: أما علم الكلام فلتوقف العلم بكون أدلة الأحكام مفيدة لها شرعاً على معرفة الله تعالى وصفاته وصدق رسوله فيما جاء به وغير ذلك مما لا يعرف في غير علم الكلام وأما علم العربية فلتوقف معرفة دلالات الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة وأقوال أهل الحل والعقد من الأمة على معرفة موضوعاتها لغة من جهة الحقيقة والمجاز والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والحذف والإضمار والمنطوق والمفهوم والاقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء وغيره مما لا يعرف في غير علم العربية.(1/1)
وأما الأحكام الشرعية فمن جهة أن الناظر في هذا العلم إنما ينظر في أدلة الأحكام الشرعية فلا بد أن يكون عالماً بحقائق الأحكام ليتصور القصد إلى إثباتها ونفيها وأن يتمكن بذلك من إيضاح المسائل بضرب الأمثلة وكثرة الشواهد ويتأهل بالبحث فيها للنظر والاستدلال.
ولا نقول إن استمداده من وجود هذه الأحكام ونفيها في آحاد المسائل فإنها من هذه الجهة لأثبت لها بغير أدلتها فلو توقفت الأدلة على معرفتها من هذه الجهة كان دوراً ممتنعاً.
وأما مبادئه فاعلم أن مبادئ كل علم هي التصورات والتصديقات المسلمة في ذلك العلم وهي غير مبرهنة فيه لتوقف مسائل ذلك العلم عليها وسواء كانت مسلمة في نفسها كمبادئ العلم الأعلى أو غير مسلمة في نفسها بل مقبولة على سبيل المصادرة أو الوضع على أن تبرهن في علم أعلى من ذلك العلم وما هذه المبادئ في علم الأصول؟.
فنقول: قد عرف أن استمداد علم أصول الفقه إنما هو من علم الكلام والعربية والأحكام الشرعية فمبادئه غير خارجة عن هذه الأقسام الثلاثة فلنرسم في كل مبدأ قسماً:
القسم الأول
في المبادئ الكلامية
فنقول: اعلم أنه لما كانت أصول الفقه هي أدلة الفقه وكان الكلام فيها مما يحوج إلى معرفة الدليل وانقسامه إلى ما يفيد العلم أو الظن وكان ذلك مما لا يتم دون النظر دعت الحاجة إلى تعريف معنى الدليل والنظر والعلم والظن من جهة التحديد والتصوير لا غير.
أما الدليل فقد يطلق في اللغة بمعنى الدال وهو الناصب للدليل وقيل هو الذاكر للدليل وقد يطلق على ما فيه دلالة وإرشاد وهذا هو المسمى دليلاً في عرف الفقهاء وسواء كان موصلاً إلى علم أو ظن والأصوليون يفرقون بين ما أوصل إلى العلم وما أوصل إلى الظن فيخصون اسم الدليل بما أوصل إلى العلم واسم الأمارة بما أوصل إلى الظن.
وعلى هذا فحده على أصول الفقهاء: أنه الذي يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.
فالقيد الأول احتراز عما لم يتوصل به إلى المطلوب لعدم النظر فيه فإنه لا يخرج بذلك عن كونه دليلاً لما كان التوصل به ممكناً والقيد الثاني احتراز عما إذا كان الناظر في الدليل بنظر فاسد والثالث احتراز عن الحد الموصل إلى العلم التصوري وهو عام للقاطع والظني.
وأما حده على العرف الأصولي: فهو ما يمكن التوصل به إلى العلم بمطلوب خبري وهو منقسم إلى عقلي محض وسمعي محض ومركب من الأمرين.
فالأول كقولنا في الدلالة على حدوث العالم: العالم مؤلف وكل مؤلف حادث فيلزم عنه العالم حادث.
والثاني كالنصوص من الكتاب والسنة والإجماع والقياس كما يأتي تحقيقه.
والثالث كقولنا في الدلالة على تحريم النبيذ: النبيذ مسكر وكل مسكر حرام لقوله عليه السلام " كل مسكر حرام " فيلزم عنه النبيذ حرام.
وأما النظر فإنه قد يطلق في اللغة بمعنى الانتظار وبمعنى الرؤية بالعين والرأفة والرحمة والمقابلة والتفكر والاعتبار وهذا الاعتبار الأخير هو المسمى بالنظر في عرف المتكلمين.
وقد قال القاضي أبو بكر في حده: هو الفكر الذي يطلب به من قام به علماً أو ظناً.
وقد احترز بقوله يطلب به عن الحياة وسائر الصفات المشروطة بالحياة فإنها لا يطلب بها ذلك وإن كان من قامت به يطلبه وقصد بقوله علماً أو ظناً التعميم للعلم والظن ليكون الحد جامعاً وهو حسن غير أنه يمكن أن يعبر عنه بعبارة أخرى لا يتجه عليها من الإشكاليات ما قد يتجه على عبارة القاضي على ما بيناه في أبكار الأفكار وهو أن يقال: النظر عبارة عن التصرف بالعقل في الأمور السابقة بالعلم والظن للمناسبة للمطلوب بتأليف خاص قصداً لتحصيل ما ليس حاصلاً في العقل وهو عام للنظر المتضمن للتصور والتصديق والقاطع والظني وهو منقسم إلى ما وقف الناظر فيه على وجه دلالة الدليل على المطلوب فيكون صحيحاً وإلى ما ليس كذلك فيكون فاسداً وشرط وجوده مطلقاً وانتفاء أضداده من النوم والغفلة والموت وحصول العلم بالمطلوب وغير ذلك.
وأما العلم فقد اختلف المتكلمون في تحديده فمنهم من زعم أنه لا سبيل إلى تحديده لكن اختلف هؤلاء: فمنهم من قال: بيان طريق تعريفه إنما هو بالقسمة والمثال كإمام الحرمين والغزالي وهو غير سديد فإن القسمة إن لم تكن مفيدة لتمييزه عما سواه فليست معرفة له وإن كانت مميزة له عما سواه فلا معنى للتحديد بالرسم سوى هذا.(1/2)
ومنهم من زعم أن العلم بالعلم ضروري غير نظري لأن كل ما سوى العلم لا يعلم إلا بالعلم فلو علم بالغير كان دوراً ولأن كل أحد يعلم وجود نفسه ضرورة والعلم أحد تصورات هذا التصديق فكان ضرورياً وهو أيضاً غير سديد أما الوجه الأول فلأن جهة توقف غير العلم على العلم من جهة كون العلم إدراكاً له وتوقف العلم على الغير لا من جهة كون ذلك الغير إدراكاً للعمل بل من جهة كونه صفة مميزة له عما سواه ومع اختلاف جهة التوقف فلا دور وأما الوجه الثاني فهو مبني على أن تصورات القضية الضرورية لا بد وأن تكون ضرورية وليس كذلك لأن القضية الضرورية هي التي يصدق العقل بها بعد تصور مفرداتها من غير توقف بعد تصور المفردات على نظر واستدلال وسواء كانت التصورات ضرورية أو نظرية.
ومنهم من سلك في تعريفه التحديد وقد ذكر في ذلك حدود كثيرة أبطلناها في أبكار الأفكار والمختار في ذلك أن يقال: العلم عبارة عن صفة يحصل بها لنفس المتصف بها التميز بين حقائق المعاني الكلية حصولاً لا يتطرق إليه احتمال نقيضه.
فقولنا صفة كالجنس له ولغيره من الصفات وقولنا يحصل بها التميز احتراز عن الحياة وسائر الصفات المشروطة بالحياة وقولنا بين حقائق الكليات احتراز عن الإدراكات الجزئية فإنها إنما تميز بين المحسوسات الجزئية دون الأمور الكلية وإن سلكنا مذهب الشيخ أبي الحسن في أن الإدراكات نوع من العلم لم نحتج إلى التقييد بالكليات.
وهو منقسم إلى قديم لا أول لوجوده وإلى حادث بعد العدم والحادث ينقسم إلى ضروري وهو العلم الحادث الذي لا قدرة للمكلف على تحصيله بنظر واستدلال فقولنا العلم الحادث احتراز عن علم الله تعالى وقولنا لا قدرة للمكلف على تحصيله بنظر واستدلال احتراز عن العلم النظري والنظري هو العلم الذي تضمنه الصحيح.
وأما الظن فعبارة عن ترجح أحد الاحتمالين في النفس على الآخر من غير قطع.
القسم الثاني
في المبادئ اللغوية
كنا بينا فيما تقدم وجه استمداد الأصول من اللغة فلا بد من تعريف المبادئ المأخوذة منها ولنقدم على ذلك مقدمة فنقول: اعلم أنه لما كان نوع الإنسان أشرف موجود في عالم السفليات لكونه مخلوقاً لمعرفة الله تعالى التي هي أجل المطلوبات وأسنى المرغوبات بما خصه الله به من العقل الذي به إدراك المعقولات والمميز بين حقائق الموجودات على ما قال عليه السلام حكاية عن ربه " كنت كنزاً لم أعرف فخلقت خلقاً لأعرف به " .
ولما كان هذا المقصود لا يتم دون الاطلاع على المقدمات النظرية المستندة إلى القضايا الضرورية المتوسل بها إلى مطلوباته وتحقيق ما جاء به وكان كل واحد لا يستقل بتحصيل معارفه بنفسه وحده دون معين ومساعد له من نوعه دعت الحاجة إلى نصب دلائل يتوصل بها كل واحد إلى معرفة ما في ضمير الآخر من المعلومات المعينة له في تحقيق غرضه وأخف ما يكون من ذلك ما كان من الأفعال الاختيارية وأخف من ذلك ما كان منها لا يفتقر إلى الآلات والأدوات ولا فيه ضرر الازدحام ولا بقاء له مع الاستغناء عنه وهو مقدور عليه في كل الأوقات من غير مشقة ولا نصب وذلك هو ما يتركب من المقاطع الصوتية التي خص بها نوع الإنسان دون سائر أنواع الحيوان عناية من الله تعالى به.
ومن اختلاف تركيبات المقاطع الصوتية حدثت الدلائل الكلامية والعبارات اللغوية وهي إما أن لا تكون موضوعة لمعنى أو هي موضوعة.
والقسم الأول مهمل لا اعتبار به والثاني يستدعي النظر في أنواعه وابتداء وضعه وطريق معرفته فهذان أصلان لا بد من النظر فيهما.
؟الأصل الأول
في أنواعه
وهي نوعان وذلك لأنه إما أن يكون اللفظ الدال بالوضع مفرداً أو مركباً النوع الأول في المفرد وفيه ستة فصول.
الفصل الأول
في حقيقته(1/3)
أما حقيقته فهو ما دل بالوضع على معنى ولا جزء له يدل على شيء أصلاً كلفظ الإنسان فإن إذ من قولنا إنسان وإن دلت على الشرطية فليست إذ ذاك جزءاً من لفظ الإنسان وحيث كانت جزءاً من لفظ الإنسان لم تكن شرطية لأن دلالات الألفاظ ليست لذواتها بل هي تابعة لقصد المتكلم وإرادته ونعلم أن المتكلم حيث جعل إن شرطية لم يقصد جعلها غير شرطية وعلى هذا فعبد الله إن جعل علماً على شخص كان مفرداً وإن قصد به النسبة إلى الله تعالى بالعبودية كان مركباً لدلالة أجزائه على أجزاء معناه.
الفصل الثاني
في أقسام دلالته
وهو إما أن تكون دلالته لفظية أو غير لفظية واللفظية إما أن تعتبر بالنسبة إلى كمال المعنى الموضوع له اللفظ أو إلى بعضه: فالأول دلالة المطابقة كدلالة لفظ الإنسان على معناه والثاني دلالة التضمن كدلالة لفظ الإنسان على ما في معناه من الحيوان أو الناطق والمطابقة أعم من التضمن لجواز أن يكون المدلول بسيطاً لا جزء له.
وأما غير اللفظية فهي دلالة الالتزام وهي أن يكون اللفظ له معنى وذلك المعنى له لازم من خارج فعند فهم مدلول اللفظ من اللفظ ينتقل الذهن من مدلول اللفظ إلى لازمه ولو قدر عدم هذا الانتقال الذهني لما كان ذلك اللازم مفهوماً ودلالة الالتزام وإن شاركت دلالة التضمن في افتقارهما إلى نظر عقلي يعرف اللازم في الالتزام والجزء في دلالة التضمن غير أنه في التضمن لتعريف كون الجزء داخلاً في مدلول اللفظ وفي الالتزام لتعريف كونه خارجاً عن مدلول اللفظ فلذلك كانت دلالة التضمن لفظية بخلاف دلالة الالتزام ودلالة الالتزام مساوية لدلالة المطابقة ضرورة امتناع خلو مدلول اللفظ المطابق عن لازم وأعم من دلالة التضمن لجواز أن يكون اللازم لما لا جزء له.
الفصل الثالث
في أقسام المفرد
وهو إما أن يصح جعله أحد جزأي القضية الخبرية التي هي ذات جزأين فقط أو لا يصح.
فإن كان الأول فإما أن يصح تركب القضية الخبرية من جنسه أو لا يصح فإن كان الأول فهو الاسم وإن كان الثاني فهو الفعل وأما قسيم القسم الأول فهو الحرف.
ولا يلزم على ما ذكرناه الأسماء النواقص كالذي والتي والمضمرات كهو وهي حيث إنه لا يمكن جعلها أحد جزأي القضية الخبرية عند تجردها ولا تركب القضية الخبرية منها.
لأنها وإن تعذر ذلك فيها عند تجردها فالنواقص عند تعينها بالصلة لا يمتنع ذلك منها وكذلك المضمرات عند إضافتها إلى المظهرات بخلاف الحروف.
الفصل الرابع
في الاسم
وهو ما دل على معنى في نفسه ولا يلزم منه الزمان الخارج عن معناه لبنيته ثم لا يخلو إما أن يكون واحداً أو متعدداً: فإن كان واحداً فمسماه إما أن يكون واحداً أو متعدداً فإن كان واحداً فمفهومه منقسم على وجوه.
القسمة الأولى: أنه إما أن يكون بحيث يصح أن يشترك في مفهومه كثيرون أو لا يصح فإن كان الأول فهو كلي وسواء وقعت فيه الشركة بالفعل إما بين أشخاص متناهية كاسم الكوكب أو غير متناهية كاسم الإنسان أو لم تقع إما لمانع من خارج كاسم العالم والشمس والقمر أو بحكم الاتفاق كاسم عناق مغرب أو جبل من ذهب.
وهو إما أن يكون صفة أو لا يكون صفة والصفة كالعالم والقادر وما ليس بصفة إما أن يكون عينا كالإنسان والفرس وإما معنى كالعلم والجهل وما كان من هذه الأسماء لا اختلاف في مدلوله بشدة ولا ضعف ولا تقدم وتأخر فهو المتواطئ كلفظ الإنسان والفرس وإلا فمشكك كلفظ الوجود والأبيض.
وعلى كل تقدير إما أن يكون ذاتياً للمشتركات فيه أو عرضياً.
فإن كان ذاتياً فالمشتركات فيه إما أن تكون مختلفة بالذوات أو بالعرض: فإن كان الأول فإما أن يقال عليها في جواب ما هي فهو الجنس أو لا يقال كذلك فهو ذاتي مشترك إما جنس جنس أو فصل جنس وإن كانت مختلفة بالعرض فإما أن يقال عليها في جواب ما أو لا والأول هو النوع والثاني هو فصل النوع.
وإن كان عرضياً فإن كانت المشتركات مختلفة بالذوات فهو العرض العام وإلا فهو الخاصة.
وأما إن كان مفهومه غير صالح لاشتراك كثيرين فيه فهو الجزئي وهو إما أن لا يكون فيه تأليف أو فيه.
والأول إما أن لا يكون مرتجلاً أو هو مرتجل: فإن لم يكن مرتجلاً فإما أن لا يكون منقولاً كزيد وعمرو أو هو منقول والمنقول إما عن اسم أو فعل أو صوت.(1/4)
فإن كان الأول فإما عن اسم عين كأسد وعقاب أو اسم معنى كفضل أو اسم صفة كحاتم وإن كان الثاني فإما عن ماض كشمر أو مضارع كتغلب أو فعل أمر كاصمت وإن كان الثالث كببه وإن كان مرتجلاً وهو أن لا يكون بينه وبين ما نقل عنه مناسبة كحمدان.
وإن كان مؤلفاً فإما من اسمين مضافين كعبد الله أو غير مضافين وأحدهما عامل في الآخر أو غير عامل والأول كتسمية بعض الناس زيد منطلق والثاني كبعلبك وحضرموت وإما من فعلين كقام قعد وإما من حرفين كتسميته إنما وإما من اسم وفعل نحو تأبط شراً وإما من حرف واسم كتسميته بزيد وإما من فعل وحرف كتسميته قام علي.
وأما إن كان الاسم واحداً والمسمى مختلفاً فإما أن يكون موضوعاً على الكل حقيقة بالوضع الأول أو هو مستعار في بعضها.
فإن كان الأول فهو المشترك وسواء كانت المسميات متباينة كالجون: للسواد والبياض أو غير متباينة كما إذا أطلقنا اسم الأسود على شخص من الأشخاص بطريق العلمية وأطلقناه عليه بطريق الاشتقاق من السواد القائم به فإن مدلوله عند كونه علماً إنما هو ذات الشخص ومدلوله عند كونه مشتقاً الذات مع الصفة وهي السواد فالذات التي هي مدلول العلم جزء من مدلول اللفظ المشتق ومدلول اللفظ المشتق وصف لمدلول العلم وإن كان الثاني فهو المجازي.
وأما إن كان الاسم متعدداً فإما أن يكون المسمى متحداً أو متعدداً فإن كان متحداً فتلك هي الأسماء المترادفة كالبهتر والبحتر للقصير وإن كان المسمى متعدداً فتلك هي الأسماء المتباينة كالإنسان والفرس.
مسائل هذه القسمة ثلاث المسألة الأولى اختلف الناس في اللفظ المشترك هل له وجود في اللغة فأثبته قوم ونفاه آخرون والمختار جوازه ووقوعه.
أما الجواز العقلي فهو أنه لا يمتنع عقلاً أن يضع واحد من أهل اللغة لفظاً واحداً على معنيين مختلفين بالوضع الأول على طريق البدل ويوافقه عليه الباقون أو أن يتفق وضع إحدى القبيلتين للاسم على معنى حقيقة ووضع الأخرى له بازاء معنى آخر من غير شعور لكل واحدة بما وضعته الأخرى ثم يشتهر الوضعان ويخفى سببه وهو الأشبه ولو قدر ذلك لما لزم من فرض وقوعه محال عقلاً.
كيف وإن وضع اللفظ تابع لغرض الواضع والواضع كما أنه قد يقصد تعريف الشيء لغيره مفصلاً فقد يقصد تعريفه مجملاً غير مفصل إما لأنه علمه كذلك ولم يعلمه مفصلاً أو لمحذور يتعلق بالتفصيل دون الإجمال فلا يبعد لهذه الفائدة منهم وضع لفظ يدل عليه من غير تفصيل.
وأما بيان الوقوع فقد قال قوم إنه لو لم تكن الألفاظ المشتركة واقعة في اللغة مع أن المسميات غير متناهية والأسماء متناهية ضرورة تركبها من الحروف المتناهية لخلت أكثر المسميات عن الألفاظ الدالة عليها مع دعو الحاجة إليها وهو ممتنع وغير سديد من حيث إن الأسماء وإن كانت مركبة من الحروف المتناهية فلا يلزم أن تكون متناهية إلا أن يكون ما يحصل من تضاعيف التركيبات متناهية وهو غير مسلم وإن كانت الأسماء متناهية فلا نسلم أن المسميات المتضادة والمختلفة وهي التي يكون اللفظ مشتركاً بالنسبة إليها غير متناهية وإن كانت غير متناهية غير أن وضع الأسماء على مسمياتها مشروط بكون كل واحد من المسميات مقصوداً بالوضع وما لا نهاية له مما يستحيل فيه ذلك ولئن سلمنا أنه غير ممتنع ولكن لا يلزم من ذلك الوضع ولهذا فإن كثيراً من المعاني لم تضع العرب بازائها ألفاظاً تدل عليها لا بطريق الاشتراك ولا التفصيل كأنواع الروائح وكثير من الصفات وقال أبو الحسين البصري: أطلق أهل اللغة اسم القرء على الطهر والحيض وهما ضدان فدل على وقوع الاسم المشترك في اللغة.
ولقائل أن يقول: القول بكونه مشتركاً غير منقول عن أهل الوضع بل غاية المنقول اتحاد الاسم وتعدد المسمى ولعله أطلق عليهما باعتبار معنى واحد مشترك بينهما لا باعتبار اختلاف حقيقتهما أو أنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر وإن خفي موضع الحقيقة والمجاز وهذا هو الأولى.
أما بالنظر إلى الاحتمال الأول فلما فيه من نفي التجوز والاشتراك وأما بالنظر إلى الاحتمال الثاني فلأن التجوز أولى من الاشتراك كما يأتي في موضعه.(1/5)
والأقرب في ذلك أن يقال اتفق إجماع الكل على إطلاق اسم الموجود على القديم والحادث حقيقة ولو كان مجازاً في أحدهما لصح نفيه إذ هو أمارة المجاز وهو ممتنع وعند ذلك فإما أن يكون اسم الموجود دالاً على ذات الرب تعالى أو على صفة زائدة على ذاته: فإن كان الأول فلا يخفى أن ذات الرب تعالى مخالفة بذاتها لما سواها من الموجودات الحادثة وإلا لوجب الاشتراك بينها وبين ما شاركها في معناها في الوجوب ضرورة التساوي في مفهوم الذات وهو محال وإن كان مدلول اسم الوجود صفة زائدة على ذات الرب تعالى فإما أن يكون المفهوم منه هو المفهوم من اسم الوجود في الحوادث وإما خلافه والأول يلزم منه أن يكون مسمى الوجود في الممكن واجباً لذاته ضرورة أن وجود الباري تعالى واجب لذاته أو أن يكون وجود الرب ممكناً ضرورة إمكان وجود ما سوى الله تعالى وهو محال وإن كان الثاني لزم منه الاشتراك وهو المطلوب.
فإن قيل المقصود من وضع الألفاظ إنما هو التفاهم وذلك غير متحقق مع الاشتراك من حيث أن فهم المدلول منه ضرورة تساوي النسبة غير معلوم من اللفظ والقرائن فقد تظهر وقد تخفى وبتقدير خفائها يختل المقصود من الوضع وهو الفهم.
قلنا وإن اختل فهم التفصيل على ما ذكروه فلا يختل معه الفهم في جهة الجملة كما سبق تقريره وليس فهم التفصيل لغة من الضروريات بدليل وضع أسماء الأجناس فإنها لا تفيد تفاصيل ما تحتها وإن سلمنا أن الفائدة المطلوبة إنما هي فهم التفصيل فإنما يمنع ذلك من وضع الألفاظ المشتركة أن لو لم تكن مفيدة لجميع مدلولاتها بطريق العموم وليس كذلك على ما ذهب إليه القاضي والشافعي رضي الله عنه كما سيأتي تحقيقه.
وإذا عرف وقوع الاشتراك لغة فهو أيضاً واقع في كلام الله تعالى والدليل عليه قوله تعالى: " والليل إذا عسعس " فإنه مشترك بين إقبال الليل وإدباره وهما ضدان هكذا ذكره صاحب الصحاح.
وما يقوله المانع لذلك من أن المشترك إن كان المقصود منه الإفهام فإن وجد معه البيان فهو تطويل من غير فائدة وإن لم يوجد فقد فات المقصود وإن لم يكن المقصود منه الإفهام فهو عبث وهو قبيح فوجب صيانة كلام الله عنه فهو مبني على الحسن والقبح الذاتي العقلي وسيأتي إبطاله.
كيف وقد بينا أن مذهب الشافعي والقاضي أبي بكر أن المشترك نوع من أنواع العموم والعام غير ممتنع في كلام الله تعالى وبتقدير عدم عمومه فلا يمتنع أن يكون في الخطاب به فائدة لنيل الثواب بالاستعداد لامتثاله بتقدير بيانه بظهور دليل يدل على تعيين البعض وإبطال جميع الأقسام سوى الواحد منها.
المسألة الثانية قد ظن في أشياء أنها مشتركة وهي متواطئة وفي أشياء أنها متواطئة وهي مشتركة أما الأول فكقولنا مبدأ للنقطة والآن فإنه لما اختلف الموضوع المنسوب إليه وهو الزمان والخط ظن الاشتراك في اسم المبدأ وليس كذلك فإن إطلاق اسم المبدأ عليهما إنما كان بالنظر إلى أن كل واحد منهما أول لشيء لا من حيث هو أول للزمان أو الخط وهو من هذا الوجه متواطئ وليس بمشترك.
وأما الثاني فكقولنا خمري للون الشبيه بلون الخمر وللعنب باعتبار أنه يؤول إلى الخمر وللدواء إذا كان يسكر كالخمر أو أن الخمر جزء منه فإنه لما اتحد المنسوب إليه وهو الخمر ظن أنه متواطئ وليس كذلك فإن اسم الخمري وإن اتحد المنسوب إليه إنما كان بسبب النسب المختلفة إليه ومع الاختلاف فلا تواطؤ نعم لو أطلق اسم الخمري في هذه الصور باعتبار ما وقع به الاشتراك من عموم النسبة وقطع النظر عن خصوصياتها كان متواطئاً.
الثالثة ذهب شذوذ من الناس إلى امتناع وقوع الترادف في اللغة مصيراً منهم إلى أن الأصل عند تعدد الأسماء تعدد المسميات واختصاص كل اسم بمسمى غير مسمى الآخر(1/6)
وبيانه من أربعة أوجه: الأول: إنه يلزم من اتحاد المسمى تعطيل فائدة أحد اللفظين لحصولها باللفظ الآخر الثاني: إنه لو قيل باتحاد المسمى فهو نادر بالنسبة إلى المسمى المتعدد بتعدد الأسماء وغلبة استعمال الأسماء بازاء المسميات المتعددة تدل على أنه أقرب إلى تحصيل مقصود أهل الوضع من وضعهم فاستعمال الألفاظ المتعددة فيما هو على خلاف الغالب خلاف الأصل الثالث: إن المؤونة في حفظ الاسم الواحد أخف من حفظ الاسمين والأصل إنما هو التزام أعظم المشقتين لتحصيل أعظم الفائدتين الرابع: إنه إذا اتحد الاسم دعت حاجة الكل إلى معرفته مع خفة المؤونة في حفظه فعمت فائدة التخاطب به ولا كذلك إذا تعددت الأسماء فإن كل واحد على أمرين: بين أن يحفظ مجموع الأسماء أو البعض منها والأول شاق جداً وقلما يتفق ذلك والثاني فيلزم منه الإخلال بفائدة التخاطب لجواز اختصاص كل واحد بمعرفة اسم لا يعرفه الآخر.
وجوابه أن يقال لا سبيل إلى إنكار الجواز العقلي فإنه لا يمتنع عقلاً أن يضع واحد لفظين على مسمى واحد ثم يتفق الكل عليه أو أن تضع إحدى القبيلتين أحد الاسمين على مسمى وتضع الأخرى له اسماً آخر من غير شعور كل قبيلة بوضع الأخرى ثم يشيع الوضعان بعد بذلك كيف وإن ذلك جائز بل واقع بالنظر إلى لغتين ضرورة فكان جائزاً بالنظر إلى قبيلتين.
قولهم في الوجه الأول لا فائدة في أحد الاسمين ليس كذلك فإنه يلزم منه التوسعة في اللغة وتكثير الطرق المفيدة للمطلوب فيكون أقرب إلى الوصول إليه حيث إنه لا يلزم من تعذر حصول أحد الطريقين تعذر الآخر بخلاف ما إذا اتحد الطريق وقد يتعلق به فوائد أخر في النظم والنثر بمساعدة أحد اللفظين في الحرف الروي ووزن البيت والجناس والمطابقة والخفة في النطق به إلى غير ذلك من المقاصد المطلوبة لأرباب الأدب وأهل الفصاحة.
وما ذكروه في الوجه الثاني فغير مانع من وقوع الترادف بدليل الأسماء المشتركة والمجازية وما ذكروه في الوجه الثالث فإنما يلزم المحذور منه وهو زيادة مؤونة الحفظ إن لو وظف على كل واحد حفظ جميع المترادفات وليس كذلك بل هو مخير في حفظ الكل أو البعض مع ما فيه من الفائدة التي ذكرناها.
وعن الوجه الرابع أنه ملغى بالترادف في لغتين كيف وإنه يلزم من الإخلال بالترادف الإخلال بما ذكرناه من المقاصد أولاً وهو محذور ثم الدليل على وقوع الترادف في اللغة ما نقل عن العرب من قولهم الصهلب والشوذب من أسماء الطويل والبهتر والبحتر من أسماء القصير إلى غير ذلك ولا دليل على امتناع ذلك حتى يتبع ما يقوله من يتعسف في هذا الباب في بيان اختلاف المدلولات لكنه ربما خفي بعض الألفاظ المترادفة وظهر البعض فيجعل الأشهر بياناً للأخفى وهو الحد اللفظي.
وقد ظن بأسماء أنها مترادفة وهي متباينة وذلك عندما إذا كانت الأسماء لموضوع واحد باعتبار صفاته المختلفة كالسيف والصارم والهندي أو باعتبار صفته وصفة صفته كالناطق والفصيح وليس كذلك.
ويفارق المرادف المؤكد من جهة أن اللفظ المرادف لا يزيد مرادفه إيضاحاً ولا يشترط تقدم أحدهما على الآخر ولا يرادف الشيء بنفسه بخلاف المؤكد والتابع في اللفظ فمخالف لهما فإنه لا بد وأن يكون على وزن المتبوع وأنه قد لا يفيد معنى أصلاً كقولهم: حس بسن وشيطان ليطان ولهذا قال ابن دريد: سألت أبا حاتم عن معنى قولهم بسن فقال: ما أدري ما هو.
القسمة الثانية الاسم ينقسم إلى ظاهر ومضمر وما بينهما وذلك لأنه إما أن يقصد به البيان مع الاختصار أو لا مع الاختصار فالأول هو الظاهر.
والثاني إما أن لا يقصد معه التنبيه أو يقصد: فالأول هو المضمر والثاني ما بينهما.
فأما الاسم الظاهر: إما أن لا يكون آخره ألفاً ولا ياء قبلها كسرة أو يكون فالأول هو الاسم الصحيح فإن دخله حركة الجر مع التنوين فهو المنصرف كزيد وعمرو وإن لم يكن كذلك فهو غير منصرف كأحمد وإبراهيم.
والثاني هو المعتل فإن كان في آخره ياء قبلها كسرة فهو المنقوص كالقاضي والداعي وإن كان في آخره ألف فهو المقصور كالدنيا والأخرى وإن كان في آخره همزة قبلها ألف فهو الممدود كالرداء والكساء.
وأما المضمر فهو إما منفصل وإما متصل: والمنفصل نحو: أنا ونحن وهو وهي ونحوه والمتصل نحو: فعلت وفعلنا وما بينهما فهو اسم الإشارة.(1/7)
وهو إما أن يكون مفرداً ليس معه تنبيه ولا خطاب أو يكون: فالأول نحو: ذا وذان وذين وأولاء وأما إن كان غير مفرد فإن وجد معه التنبيه لا غير فنحو: هذا وهذان وإن وجد معه الخطاب فنحو: ذاك وذانك وإن اجتمعا معه فنحو هذاك وهاتيك.
ثم ما كان من الأسماء الظاهرة فلا يكون من أقل من ثلاثة أحرف أصول نفياً للإجحاف عنه مع قوته بالنسبة إلى الفعل والحرف إلا فيما شذ من قولهم: يد ودم وأب وأخ ونحوه مما حذف منه الحرف الثالث.
وما كان من الأسماء المضمرة متصلاً كان من حرف واحد كالتاء من فعلت وإن كان منفصلاً فلا يكون من أقل من حرفين يبتدأ بأحدهما ويوقف على الآخر: نحو هو وهي وكذلك ما كان من أسماء الإشارة فلا يكون من أقل من حرفين أيضاً نحو ذا وذي ونحوه وبالجملة فإما أن يدل على شيء بعينه أو لا بعينه.
فالأول هو المعرفة كأسماء الأعلام والمضمرات والمبهمات كأسماء الإشارة والموصولات وما دخل عليه لام التعريف وما أضيف إلى أحد هذه المعارف والثاني هو النكرة كإنسان وفرس.
وما ألحق بآخره من الأسماء ياء مشددة مكسور ما قبلها فهو المنسوب كالهاشمي والمكي ونحوه.
القسمة الثالثة الاسم ينقسم إلى ما هو حقيقة ومجاز أما الحقيقة فهي في اللغة مأخوذة من الحق والحق هو الثابت اللازم وهو نقيض الباطل ومنه يقال حق الشيء حقه ويقال حقيقة الشيء أي ذاته الثابتة اللازمة ومنه قوله تعالى " ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين " " الزمر 71 " أي وجبت وكذلك قوله تعالى " حقيق على أن لا أقول " " الأعراف 105 " أي واجب علي.
وأما في اصطلاح الأصوليين فاعلم أن الأسماء الحقيقية قد يطلقها الأصوليون على لغوية وشرعية.
واللغوية تنقسم إلى وضعية وعرفية والكلام إنما هو في الحقيقة الوضعية فلنعرفها ثم نعود إلى باقي الأقسام وقد ذكر فيها حدود واهية يستغنى عن تضييع الزمان بذكرها والحق في ذلك أن يقال هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا في اللغة كالأسد المستعمل في الحيوان الشجاع العريض الأعالي والإنسان في الحيوان الناطق.
وأما الحقيقة العرفية اللغوية فهي اللفظ المستعمل فيما وضع له بعرف الاستعمال اللغوي وهي قسمان: الأول أن يكون الاسم قد وضع لمعنى عام ثم يخصص بعرف استعمال أهل اللغة ببعض مسمياته كاختصاص لفظ الدابة بذوات الأربع عرفاً وإن كان في أصل اللغة لكل ما دب وذلك إما لسرعة دبيبه أو كثرة مشاهدته أو كثرة استعماله أو غير ذلك.
الثاني أن يكون الاسم في أصل اللغة بمعنى ثم يشتهر في عرف استعمالهم بالمجاز الخارج عن الموضوع اللغوي بحيث إنه لا يفهم من اللفظ عند إطلاقه غيره كاسم الغائط فإنه وإن كان في أصل اللغة للموضع المطمئن من الأرض غير أنه قد اشتهر في عرفهم بالخارج المستقدر من الإنسان حتى إنه لا يفهم من ذلك اللفظ عند إطلاقه غيره ويمكن أن يكون شهرة استعمال لفظ الغائط من الخارج المستقذر من الإنسان لكثرة مباشرته وغلبة التخاطب به مع الاستنكاف من ذكر الاسم الخاص به لنفرة الطباع عنه فكنوا عنه بلازمه أو لمعنى آخر.
وأما الحقيقة الشرعية فهي استعمال الاسم الشرعي فيما كان موضوعاً له أولاً في الشرع وسواء كان الاسم الشرعي ومسماه لا يعرفهما أهل اللغة أو هما معروفان لهم غير أنهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى أو عرفوا المعنى كاسم الصلاة والحج والزكاة ونحوه وكذلك اسم الإيمان والكفر لكن ربما خصت هذه بالأسماء الدينية.
وإن شئت أن تحد الحقيقة على وجه يعم جميع هذه الاعتبارات قلت: الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولاً في الاصطلاح الذي به التخاطب فإنه جامع مانع.
وأما المجاز فمأخوذ في اللغة من الجواز وهو الانتقال من حال إلى حال ومنه يقال جاز فلان من جهة كذا إلى جهة كذا.
وهو مخصوص في اصطلاح الأصوليين بانتقال اللفظ من جهة الحقيقة إلى غيرها وقبل النظر في تحديده يجب أن تعلم أن المجاز قد يكون لصرف اللفظ عن الحقيقة الوضعية وعن العرفية والشرعية إلى غيرها كما كانت الحقيقة منقسمة إلى وضعية وعرفية وشرعية.(1/8)
وعند هذا نقول: من اعتقد كون المجاز وضعياً قال في حد المجاز في اللغة الوضعية هو اللفظ المتواضع على استعماله في غير ما وضع له أولاً في اللغة لما بينهما من التعلق ومن لم يعتقد كونه وضعياً أبقى الحد بحاله وأبدل المتواضع عليه بالمستعمل وعلى هذا فلا يخفى حد التجوز عن الحقيقة العرفية والشرعية.
وإن أردت التحديد على وجه يعم الجميع قلت هو اللفظ المتواضع على استعماله أو المستعمل في غير ما وضع له أولاً في الاصطلاح الذي به المخاطبة لما بينهما من التعلق ونعني بالتعلق بين محل الحقيقة والمجاز أن يكون محل التجوز مشابهاً لمحل الحقيقة في شكله وصورته كإطلاق اسم الإنسان على المصور على الحائط أو في صفة ظاهرة في محل الحقيقة كإطلاق اسم الأسد على الإنسان لاشتراكهما في صفة الشجاعة لا في صفة البخر لخفائها أو لأنه كان حقيقة كإطلاق اسم العبد على المعتق أو لأنه يؤول إليه في الغالب كتسمية العصير خمراً أو أنه مجاور له في الغالب كقولهم: جرى النهر والميزاب ونحوه.
وجميع جهات التجوز وإن تعددت غير خارجة عما ذكرناه وإنما قيدنا الحد باللفظ لأن الكلام إنما هو في المجاز اللفظي لا مطلقاً وبقولنا المتواضع على استعماله أو المستعمل في غير ما وضع له أولاً تمييزاً له عن الحقيقة وبقولنا لما بينهما من التعلق لأنه لو لم يكن كذلك كان ذلك الاستعمال ابتداء وضع آخر وكان اللفظ مشتركاً لا مجازاً.
فإن قيل ما ذكرتموه من الحد غير جامع لأنه يخرج منه التجوز بتخصيص الاسم ببعض مدلولاته في اللغة كتخصيص لفظ الدابة بذوات الأربع فإنه مجاز وهو غير مستعمل في غير ما وضع له أولاً لدخول ذوات الأربع في المدلول الأصلي ويلزم منه أيضاً خروج التجوز بزيادة الكاف في قوله " ليس كمثله شيء " " الشورى 11 " فإنه مجاز وهو غير مستعمل في إفادة شيء أصلاً ويخرج أيضاً منه التجوز بلفظ الأسد عن الإنسان حالة قصد تعظيمه وإنما يحصل تعظيمه بتقدير كونه أسداً لا بمجرد إطلاق اسم الأسد عليه بدليل ما إذا جعل علماً له ومدلوله إذ ذاك لا يكون غير ما وضع له أولاً وتدخل فيه الحقيقة العرفية كلفظ الغائط وإن كان اللفظ مستعملاً في غير موضوعه أولاً والحقيقة من حيث هي حقيقة لا تكون مجازاً.
قلنا: أما الإشكال الأول فمندفع لأنه لا يخفى أن حقيقة المطلق مخالفة لحقيقة المقيد من حيث هما كذلك فإذا كان لفظ الدابة حقيقة في مطلق دابة فاستعماله في الدابة المقيدة على الخصوص يكون استعمالاً له في غير ما وضع له أولاً وأما الكاف في قوله تعالى " ليس كمثله شيء " فليست مستعملة للاسمية كوضعها في اللغة ولا للتشبيه وإلا كان معناها: ليس لمثله مثل وهو مثل لمثله فكان تناقضاً فكانت مستعملة لا فيما وضعت له في اللغة أولاً فكانت داخلة في الحد وأما التعبير بلفظ الأسد عن الإنسان تعظيماً له فليس لتقدير مسمى الأسد الحقيقي فيه بل لمشاركته له في صفته من الشجاعة والحقيقة العرفية وإن كانت حقيقة بالنظر إلى تواضع أهل العرف عليها فلا تخرج عن كونها مجازاً بالنسبة إلى استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولاً ولا تناقض وإذا عرف معنى الحقيقة والمجاز فمهما ورد لفظ في معنى وتردد بين القسمين فقد يعرف كونه حقيقة ومجازاً بالنقل عن أهل اللغة وإن لم يكن نقل فقد يعرف كونه مجازاً بصحة نفيه في نفس الأمر ويعرف كونه حقيقة بعدم ذلك ولهذا فإنه يصح أن يقال لمن سمي من الناس حماراً لبلادته أنه ليس بحمار ولا يصح أن يقال إنه ليس بإنسان في نفس الأمر لما كان حقيقة فيه.
ومنها أن يكون المدلول مما يتبادر إلى الفهم من إطلاق اللفظ من غير قرينة مع عدم العلم بكونه مجازاً بخلاف غيره من المدلولات فالمتبادر إلى الفهم هو الحقيقة وغيره هو المجاز.
فإن قيل هذا لا يطرد في المجاز المنقول حيث إنه يسبق إلى الفهم من اللفظ دون حقيقته فالأمر فيهما بالضد مما ذكرتموه وينتقض أيضاً باللفظ المشترك فإنه حقيقة في مدلولاته مع عدم تبادر شيء منها إلى الفهم عند إطلاقه.(1/9)
قلنا أما الأول فمندفع وذلك لأن اللفظ الوارد إذا تبادر مدلوله إلى الذهن عند إطلاقه فإن علم كونه مجازاً فهو غير وارد على ما ذكرناه وإن لم يعلم فالظاهر أنه يكون حقيقة فيه لاختصاص ذلك بالحقيقة في الغالب وإدراج النادر تحت الغالب أولى وأما اللفظ المشترك فإن قلنا إنه عام في جميع محامله فقد اندفع الإشكال وإن قلنا إنه لا يتناول إلا واحداً من مدلولاته على طريق البدل فهو حقيقة في الواحد على البدل لا في الواحد عيناً والذي هو حقيقة فيه فهو متبادر إلى الفهم عند إطلاقه وهو الواحد على البدل والذي لم يتبادر إلى الفهم وهو الواحد المعين غير حقيقة فيه وفيه دقة.
ومنها أن لا يكون اللفظ مطرداً في مدلوله مع عدم ورود المنع من أهل اللغة والشارع من الاطراد وذلك كتسمية الرجل الطويل نخلة إذ هو غير مطرد في كل طويل.
فإن قيل: عدم الاطراد لا يدل على التجوز فإن اسم السخي حقيقة في الكريم والفاضل حقيقة في العالم وهذان المدلولان موجودان في حق الله تعالى ولا يقال له سخي ولا فاضل وكذلك اسم القارورة حقيقة في الزجاجة المخصوصة لكونها مقراً للمائعات وهذا المعنى موجود في الجرة والكوز ولا يسمى قارورة وإن سلمنا ذلك ولكن الاطراد لا يدل على الحقيقة لجواز اطراد بعض المجازات وعدم الاطراد في بعضها كما ذكرتموه فلا يلزم منه التعميم.
قلنا: أما الإشكال الأول فقد اندفع بقولنا إذا لم يوجد مانع شرعي ولا لغوي وفيما أورد من الصور قد وجد المنع ولولاه لكان الاسم مطرداً فيها وأما الثاني فإنا لا ندعي أن الاطراد دليل الحقيقة ليلزم ما قيل بل المدعى أن عدم الاطراد دليل المجاز.
ومنها أن يكون الاسم قد اتفق على كونه حقيقة في غير المسمى المذكور وجمعه مخالف لجمع المسمى المذكور فنعلم أنه مجاز فيه وذلك كإطلاق اسم الأمر على القول المخصوص وعلى الفعل في قوله تعالى " وما أمرنا إلا واحدة " " القمر 50 " وقوله تعالى " وما أمر فرعون برشيد " " هود 97 " فإن جمعه في جهة الحقيقة أوامر وفي الفعل أمور ولا نقول إن المجاز لا يجمع والحقيقة تجمع كما ذكر بعضهم إذ الإجماع منعقد على التجوز بلفظ الحمار عن البليد مع صحة تثنيته وجمعه حيث يقال حماران وحمر.
فإن قيل اختلاف الجمع لا يدل على التجوز في المسمى المذكور لجواز أن يكون حقيقة فيه واختلاف الجمع بسبب اختلاف المسمى قلنا: الجمع إنما هو للاسم لا للمسمى فاختلافه لا يكون مؤثراً في اختلاف الجمع.
ومنها أن يكون الاسم موضوعاً لصفة ولا يصح أن يشتق لموضوعها منها اسم مع عدم ورود المنع من الاشتقاق فيدل على كونه مجازاً وذلك كإطلاق اسم الأمر على الفعل فإنه لا يشتق لمن قام به منه اسم الآمر بخلاف اسم القارورة فإنه لا يطلق على الكوز والجرة بطريق الاشتقاق من قرار المائع فيه مع كون اسم القرار فيه حقيقة كما اشتق في الزجاجة المخصوصة لورود المنع من أهل اللغة فيه.
فإن قيل: هذا ينتقض باسم الرائحة القائمة بالجسم فإنه حقيقة مع عدم الاشتقاق قلنا: لا نسلم عدم الاشتقاق فإنه يصح أن يقال للجسم الذي قامت به الرائحة متروح.
ومنها أن يكون الاسم مضافاً إلى شيء حقيقة وهو متعذر الإضافة إليه فيتعين أن يكون مجازاً في شيء آخر وذلك كقوله تعالى " واسأل القرية " يوسف 83 " .
فإن قيل: لا يدل ذلك على كونه مجازاً في الغير لجواز أن يكون مشتركاً وتعذر حمل اللفظ المشترك على بعض محامله لا يوجب جعله مجازاً في الباقي.
قلنا: هذا مبني على القول بالاشتراك وهو خلاف الأصل والمجاز وإن كان على خلاف الأصل إلا أن المحذور فيه أدنى من محذور الاشتراك على ما يأتي فكان أولى وعلى هذا نقول: مهما ثبت كون اللفظ حقيقة في بعض المعاني لزم أن يكون مجازاً فيما عداه إذا لم يكن بينهما معنى مشترك يصلح أن يكون مدلولاً للفظ بطريق التواطئ.
ومنها أن يكون قد ألف من أهل اللغة أنهم إذا استعملوا لفظاً بازاء معنى أطلقوه إطلاقاً وإذا استعملوه بازاء غيره قرنوا به قرينة فيدل ذلك على كونه حقيقة فيما أطلقوه مجازاً في الغير وذلك لأن وضع الكلام للمعنى إنما كان ليكتفي به في الدلالة والأصل أن يكون ذاك في الحقيقة دون المجاز لكونها أغلب في الاستعمال.(1/10)
ومنها أنه إذا كان اللفظ حقيقة في معنى ولذلك المعنى متعلق فإطلاقه بازاء ما ليس له ذلك المتعلق يدل على كونه مجازاً فيه كإطلاق اسم القدرة على الصفة المؤثرة في الإيجاد فإن لها مقدوراً وإطلاقها على المخلوقات في قولهم انظر إلى قدرة الله لا مقدور لها.
فإن: قيل التعلق ليس من توابع كون اللفظ حقيقياً بل من توابع المسمى ولا يلزم من اختلاف المسمى إذا كان الاسم في أحدهما حقيقة أن يكون مجازاً في الآخر لجواز الاشتراك فجوابه ما سبق.
ومنها أن يكون الاسم الموضوع لمعنى مما يتوقف إطلاقه عليه على تعلقه بمسمى ذلك الاسم في موضع آخر ولا كذلك بالعكس فيعلم أن المتوقف مجاز والآخر غير مجاز.
وتشترك الحقيقة والمجاز في امتناع اتصاف أسماء الأعلام بهما كزيد وعمرو وذلك لأن الحقيقة على ما تقدم إنما تكون عند استعمال اللفظ فيما وضع له أولاً والمجاز في غير ما وضع له أولاً وذلك يستدعي كون الاسم الحقيقي والمجازي في وضع اللغة موضوعاً لشيء قبل هذا الاستعمال في وضع اللغة وأسماء الأعلام ليست كذلك فإن مستعملها لم يستعملها فيما وضعه أهل اللغة له أولاً ولا في غيره لأنها لم تكن من وضعهم فلا تكون حقيقة ولا مجازاً وعلى هذا فالألفاظ الموضوعة أولاً في ابتداء الوضع في اللغة لا توصف بكونها حقيقة ولا مجازاً وإلا كانت موضوعة قبل ذلك الوضع وهو خلاف الفرض وكذلك كل وضع ابتدائي حتى الأسماء المخترعة ابتداء لأرباب الحرف والصناعات لأدواتهم وآلاتهم وإنما تصير حقيقة ومجازاً باستعمالها بعد ذلك وبهذا يعلم بطلان قول من قال إن كل مجاز له حقيقة ولا عكس وذلك لأن غاية المجاز أن يكون مستعملاً في غير ما وضع له أولاً وما وضع له اللفظ أولاً ليس حقيقة ولا مجازاً على ما عرف وبالنظر إلى ما حققناه في معنى الحقيقة والمجاز يعلم أن تسمية اللفظ المستعمل فيما وضع له أولاً حقيقة وإن كان حقيقة بالنظر إلى الأمر العرفي غير أنه مجاز بالنظر إلى كونه منقولاً من الوجوب والثبوت الذي هو مدلول الحقيقة أولاً في اللغة على ما سبق تحقيقه.
وتشترك الحقيقة والمجاز أيضاً أن كل ما كان من كلام العرب ما عدا الوضع الأول فإنه لا يخلو عن الحقيقة والمجاز معا بل لا بد من أحدهما فيه.
مسائل هذه القسمة خمس: المسألة الأولى في الأسماء الشرعية ولا شك في إمكانها إذ لا إحالة في وضع الشارع اسماً من أسماء أهل اللغة أو من غير أسمائهم على معنى يعرفونه أو لا يعرفونه لم يكن موضوعاً لأسمائهم فإن دلالات الأسماء على المعاني ليست لذواتها ولا الاسم واجب للمعنى بدليل انتفاء الاسم قبل التسمية وجواز إبدال اسم البياض بالسواد في ابتداء الوضع وكما في أسماء الأعلام والأسماء الموضوعة لأرباب الحرف والصناعات لأدواتهم وآلاتهم.
وإنما الخلاف نفياً وإثباتاً في الوقوع والحجاج هاهنا مفروض فيما استعمله الشارع من أسماء أهل اللغة كلفظ الصوم والصلاة هل خرج به عن وضعهم أم لا فمنع القاضي أبو بكر من ذلك وأثبته المعتزلة والخوارج والفقهاء.
احتج القاضي بمسلكين: الأول أن الشارع لو فعل ذلك لزمه تعريف الأمة بالتوقيف نقل تلك الأسامي وإلا كان مكلفاً لهم بفهم مراده من تلك الأسماء وهم لا يفهمونه وهو تكليف بما لا يطاق والتوقيف الوارد في مثل هذه الأمور لا بد وأن يكون متواتراً لعدم قيام الحجة بالآحاد فيها ولا تواتر وهذه الحجة غير مرضية أما أولاً فلأنها مبنية على امتناع التكليف بما لا يطاق وهو فاسد على ما عرف من أصول أصحابنا القائلين بخلافه في هذه المسألة وإن كان ذلك ممتنعاً عند المعتزلة وبتقدير امتناع التكليف بما لا يطاق إنما يكون هذا تكليفاً بما لا يطاق إذ لو كلفهم بفهمها قبل تفهيمهم وليس كذلك.
قوله التفهيم إنما يكون بالنقل لا نسلم وما المانع أن يكون تفهيمهم بالتكرير والقرائن المتضافرة مرة بعد مرة كما يفعل الوالدان بالولد الصغير والأخرس في تعريفه لما في ضميره لغيره بالإشارة.(1/11)
المسلك الثاني أن هذه الألفاظ قد اشتمل عليها القرآن فلو كانت مفيدة لغير مدلولاتها في اللغة لما كانت من لسان أهل اللغة كما لو قال أكرم العلماء وأراد به الجهال أو الفقراء وذلك لأن كون اللفظ عربياً ليس لذاته وصورته بل لدلالته على ما وضعه أهل اللغة بازائه وإلا كانت جميع ألفاظهم قبل التواضع عليها عربية وهو ممتنع ويلزم من ذلك أن لا يكون القرآن عربياً وهو على خلاف قوله تعالى " إنا جعلناه قرآناً عربياً " الزخرف 3 " وقوله تعالى " بلسان عربي مبين " " الشعراء 195 " وقوله تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " " إبراهيم 4 " وذلك ممتنع وهذا المسلك ضعيف أيضاً إذ لقائل أن يقول: لا أسلم أنه يلزم من ذلك خروج القرآن عن كونه عربياً فإن قيل لأنه إذا كان مشتملاً على ما ليس بعربي فما بعضه عربي وبعضه غير عربي لا يكون كله عربياً وفي ذلك مخالفة ظواهر النصوص المذكورة فيمكن أن يقال: لا نسلم دلالة النصوص على كون القرآن بكليته عربياً لأن القرآن قد يطلق على السورة الواحدة منه بل على الآية الواحدة كما يطلق على الكل ولهذا يصح أن يقال للسورة الواحدة: هذا قرآن والأصل في الإطلاق الحقيقة ولأن القرآن مأخوذ من الجمع ومنه يقال: قرأت الناقة لبنها في ضرعها إذا جمعته وقرأت الماء في الحوض أي جمعته والسورة الواحدة فيها معنى الجمع لتألفها من حروف وكلمات وآيات فصح إطلاق القرآن عليها غايته أنا خالفنا هذا في غير الكتاب العزيز فوجب العمل بمقتضى هذا الأصل في الكتاب وبعضه ولأنه لو حلف أنه لا يقرأ القرآن فقرأ سورة منه حنث ولو لم يكن قرآناً لما حنث وإذا كان كذلك فليس الحمل على الكل أولى من البعض وعند ذلك أمكن حمله على البعض الذي ليس فيه غير العربية.
فإن قيل: أجمعت الأمة على أن الله تعالى لم ينزل إلا قرآناً واحداً فلو كان البعض قرآناً والكل قرآناً لزمت التثنية في القرآن وهو خلاف الإجماع وإذا لم يكن القرآن إلا واحداً تعين أن يكون هو الكل ضرورة الإجماع على تسميته قرآناً.
قلنا: أجمعت الأمة على أن الله تعالى لم ينزل إلا قرآناً واحداً بمعنى أنه لم ينزل غير هذا القرآن أو بمعنى أن المجموع قرآن وبعضه ليس بقرآن الأول مسلم والثاني ممنوع.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الدليل على كون بعض القرآن قرآناً معارض بما يدل على أنه ليس بقرآن وهو صحة قول القائل عن السورة والآية: هذا بعض القرآن.
قلنا: المراد به إنما هو بعض الجملة المسماة بالقرآن وليس في ذلك ما يدل على أن البعض ليس بقرآن حقيقة فإن جزء الشيء إذا شارك كله في معناه كان مشاركاً له في اسمه ولهذا يقال إن بعض اللحم لحم وبعض العظم عظم وبعض الماء ماء لاشتراك الكل والبعض في المعنى المسمى بذلك الاسم وإنما يمتنع ذلك فيما كان البعض فيه غير مشارك للكل في المعنى المسمى بذلك الاسم ولهذا لا يقال: بعض العشرة عشرة وبعض المائة مائة وبعض الرغيف رغيف وبعض الدار دار إلى غير ذلك وعند ذلك فما لم يبينوا كون ما نحن فيه من القسم الثاني دون الأول فهو غير لازم وإن سلمنا التعارض من كل وجه فليس القول بالنفي أولى من القول بالإثبات وعلى المستدل الترجيح وإن سلمنا دلالة النصوص على كون القرآن بجملته عربياً لكن بجهة الحقيقة أو المجاز الأول ممنوع والثاني مسلم وذلك لأن ما الغالب منه العربية يسمى عربياً وإن كان فيه ما ليس بعربي كما يسمى الزنجي أسود وإن كان بعضه اليسير مبيضاً كأسنانه وشحمة عينيه والرومي أبيض وإن كان البعض اليسير منه أسود كالناظر من عينيه وكذل البيت من الشعر بالفارسية يسمى فارسياً وإن كان مشتملاً على كلمات يسيرة من العربية.(1/12)
ويدل على هذا التجوز ما اشتمل عليه القرآن من الحروف المعجمة في أوائل السور فإنها ليست من لغة العرب في شيء وأيضاً فإن القرآن قد اشتمل على عبادات غير معلومة للعرب فلا يتصور التعبير عنها في لغتهم فلا بد لها من أسماء تدل عليها غير عربية وأيضاً فإن القرآن مشتمل على قوله تعالى " وما كان الله ليضيع إيمانكم " " البقرة 143 " وأراد به صلاتكم وليس الإيمان في اللغة بمعنى الصلاة بل بمعنى التصديق وعلى قوله " أقيموا الصلاة " البقرة 43 " والصلاة في اللغة بمعنى الدعاء وفي الشرع عبارة عن الأفعال المخصوصة وعلى قوله تعالى " وآتوا الزكاة " " البقرة 43 " والزكاة في اللغة عبارة عن النماء والزيادة وفي الشرع عبارة عن وجوب أداء مال مخصوص وعلى قوله تعالى: " كتب عليكم الصيام " " البقرة 138 " والصوم في اللغة عبارة عن مطلق إمساك وفي الشرع عبارة عن إمساك مخصوص بل وقد يطلق الصوم في الشرع في حالة لا إمساك فيها كحالة الناسي أكلاً وعلى قوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت " " آل عمران 97 " والحج في اللغة عبارة عن مطلق قصد وفي الشرع عبارة عن القصد إلى مكان مخصوص.
وهذا كله يدل على اشتمال القرآن على ما ليس بعربي فكان إطلاق اسم العربي عليه مجازاً.
فإن قيل: أما الحروف المعجمة التي في أوائل السور فهي أسماؤها وأما العبادات الحادثة فمن حيث إنها أفعال محسوسة معلومة للعرب ومسماة بأسماء خاصة لها لغة غير أن الشرع اعتبرها في الثواب والعقاب عليها بتقدير الفعل أو الترك وليس في ذلك ما يدل على اشتمال القرآن على ما ليس بعربي وأما الآيات المذكورة فهي محمولة على مدلولاتها لغة أما قوله تعالى " وما كان الله ليضيع إيمانكم " " البقرة 143 " فالمراد به تصديقكم بالصلاة وقوله تعالى " أقيموا الصلاة " " البقرة 43 " فالمراد به الدعاء وكذلك قوله " وآتوا الزكاة " البقرة 43 " فالمراد به النمو والمراد من الصوم الإمساك ومن الحج القصد غير أن الشارع شرط في إجزائها وصحتها شرعاً ضم غيرها إليها وليس في ذلك ما يدل على تغيير الوضع اللغوي وإن سلمنا دخول هذه الشروط في مسمى هذه الأسماء لكن بطريق المجاز أما في الصلاة فمن جهة أن الدعاء جزؤها والشيء قد يسمى باسم جزئه ومنه قول الشاعر:
يناشدني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم
وأراد به القرآن فسماه باسم جزئه وكذلك الكلام في الصوم والزكاة والحج ويمكن أن يقال بأن تسمية الصوم الخاص وكذلك الزكاة والحج والإيمان من باب التصرف بتخصيص الاسم ببعض مسمياته لغة كما في لفظ الدابة والشارع له ولاية هذا التصرف كما لأهل اللغة ويخص الصلاة أن أفعالها إنما سميت صلاة لكونها مما يتبع بها فعل الإمام فإن التالي للسابق من الخيل يسمى مصلياً لكونه تابعاً ويخص الزكاة أن تسمية الواجب زكاة باسم سببه والتجوز باسم السبب عن المسبب جائز لغة والمجاز من اللغة لا من غيرها.
قلنا: أما الحروف فإنها إذا كانت أسماء لآحاد السور فهي أعلام لها وليست لغوية فقد اشتمل القرآن على ما ليس من لغة العرب وما ذكروه في العبادات الحادثة في الشرع فإنما يصح أن لو لم تكن قد أطلق عليها أسماء لم تكن العرب قد أطلقتها عليه ويدل على هذا الإطلاق ما ذكر من الآيات قولهم: إن هذه الأسماء محمولة على موضوعاتها لغة: غير أن الشارع شرط في إجزائها شروطاً لا تصح بدونها فإن مسمى الصلاة في اللغة هو الدعاء وقد يطلق اسم الصلاة على الأفعال التي لا دعاء فيها كصلاة الأخرس الذي لا يفهم الدعاء في الصلاة حتى يأتي به وبتقدير أن يكون الدعاء متحققاً فليس هو المسمى بالصلاة وحده ودليله أنه يصح أن يقال إنه في الصلاة حالة كونه غير داع ولم كان هو المسمى بالصلاة لا غير لصح عند فراغه من الدعاء أن يقال: خرج من الصلاة وإذا عاد إليه يقال: عاد إلى الصلاة وأن لا يسمى الشخص مصلياً حالة عدم الدعاء مع تلبسه بباقي الأفعال وكل ذلك خلاف الإجماع.
قولهم: تسمية هذه الأفعال بهذه الأسماء إنما هو بطريق المجاز قلنا: الأصل في الإطلاق الحقيقة قولهم: إن الدعاء جزء من هذه الأفعال والشيء قد يسمى باسم جزئه.
قلنا: كل جزء أو بعض الأجزاء: الأول ممنوع والثاني مسلم ولهذا فإن العشرة لا تسمى خمسة ولا الكل جزءاً وإن كان بعضه يسمى جزءاً إلى أمثلة كثيرة لا تحصى.(1/13)
وليس القول بأن ما نحن فيه من القبيل الجائز أولى من غيره وإن سلمنا صحة ذلك تجوزاً ولكن ليس القول بالتجوز في هذه الأسماء وإجراء لفظ القرآن على حقيقته أولى من العكس.
فإن قيل: بل ما ذكرناه أولى فإن ما ذكرتموه يلزم منه النقل وتغيير اللغة فيستدعي ثبوت أصل الوضع وإثبات وضع آخر والوضع اللغوي لا يفتقر إلى شيء آخر ولا يلزم منه تغيير فكان أولى وأيضاً فإن الغالب من الأوضاع البقاء لا التغيير وإدراج ما نحن فيه تحت الأغلب أغلب.
قلنا: بل جانب الخصم أولى لما فيه من ارتكاب مجاز واحد وما ذكرتموه ففيه ارتكاب مجازات كثيرة فكان أولى وعلى هذا فقد اندفع قولهم بالتجوز بجهة التخصيص أيضاً وما ذكروه من تسمية أفعال الصلاة لما فيها من المتابعة للإمام فيلزم منه أن لا تسمى صلاة الإمام والمنفرد صلاة لعدم هذا المعنى فيها وقولهم في الزكاة أن الواجب سمي زكاة باسم سببه تجوزاً فيلزم عليه أن لا تصح تسميته زكاة عند عدم النماء في المال وإن كان النماء حاصلاً فالتجوز باسم السبب عن المسبب جائز مطلقاً أو في بعض الأسباب: الأول ممنوع: والثاني مسلم ولهذا فإنه لا يصح تسمية الصيد شبكة وإن كان نصبها سبباً له ولا يسمى الابن أباً وإن كان الأب سبباً له وكذلك لا يسمى العالم إلهاً وإن كان الإله تعالى سبباً له إلى غير ذلك من النظائر وعند ذلك فليس القول بأن ما نحن فيه من قبيل التجوز به أولى من غيره.
وأما المعتزلة فقد احتجوا بما سبق من الآيات وبقولهم إن الإيمان في اللغة هو التصديق وفي الشرع يطلق على غير التصديق ويدل عليه السلام " الإيمان بضع وسبعون باباً أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " سمي إماطة الأذى إيماناً وليس بتصديق وأيضاً فإن الدين في الشرع عبارة عن فعل العبادات وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بدليل قوله تعالى " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " إلى آخر الآية ثم قال " وذلك دين القيمة " " البينة 5 " فكان راجعاً إلى كل المذكور والدين هو الإسلام لقوله تعالى " إن الدين عند الله الإسلام " " آل عمران 19 " والإسلام هو الإيمان فيكون الإيمان في الشرع هو فعل العبادات.
ودليل كون الإيمان هو الإسلام إنه لو كان الإيمان غير الإسلام لما كان مقبولاً من صاحبه لقوله تعالى " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه " " آل عمران 85 " وأيضاً فإنه استثنى المسلمين من المؤمنين في قوله تعالى " فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين " الذاريات 53 " والأصل أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه وأيضاً قوله تعالى " وما كان الله ليضيع إيمانكم " " البقرة 143 " وأراد به الصلاة إلى بيت المقدس وأيضاً فإن قاطع الطريق وإن كان مصدقاً فليس بمؤمن لأنه يدخل النار بقوله تعالى " ولهم في الآخرة عذاب عظيم " " البقرة 114 " والداخل في النار مخزي لقوله تعالى حكاية عن أهل النار " ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته " " آل عمران 192 " مع التقرير لهم على ذلك والمؤمن غير مخزي لقوله تعالى " يوم لا يخزي الله النبي والذين أمنوا معه " " التحريم 8 " وأيضاً فإن المكلف يوصف بكونه مؤمناً حالة كونه غافلاً عن التصديق بالنوم وغيره وأيضاً فإنه لو كان الإيمان في الشرع هو الإيمان اللغوي أي التصديق لسمي في الشرع المصدق بشريك الإله تعالى مؤمناً والمصدق بالله مع إنكار الرسالة مؤمناً إلى نظائره.
ولقائل أن يقول: أما الآيات السابق ذكرها فيمكن أن يقال في جوابها إن إطلاق اسم الصلاة والزكاة والصوم والحج إنما كان بطريق المجاز على ما سبق والمجاز غير خارج عن اللغة وتسمية إماطة الأذى عن الطريق إيمانا أمكن أن يكون لكونه دليلاً على الإيمان فعبر باسم المدلول عن الدال وهو أيضاً جهة من جهات التجوز.
فإن قيل: الأصل إنما هو الحقيقة قلنا: إلا أنه يلزم منه التغيير ومخالفة الوضع اللغوي فيتقابلان وليس أحدهما أولى من الآخر لما سبق.(1/14)
وقولهم إن الإيمان هو الإسلام بما ذكروه فهو معارض بقوله تعالى " قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا " " الحجرات 14 " ولو اتحدا لما صح هذا القول وليس أحدهما أولى من الآخر بل الترجيح للتغاير نظراً إلى أن الأصل عند تعدد الأسماء تعدد المسميات ولئلا يلزم منه التغيير في الوضع وبهذا يندفع ما ذكروه من الاستثناء وقوله تعالى " وما كان الله ليضيع إيمانكم " " البقرة 183 " فالمراد به التصديق بالصلاة لا نفس الصلاة فلا تغيير وإن كان المراد به الصلاة غير أن الصلاة لما كانت تدل على التصديق سميت باسم مدلولها وذلك مجاز من وضع اللغة.
وقوله تعالى: " يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه " " التحريم 8 " لا يتناول كل مؤمن بل من آمن مع النبي عليه السلام وهو صريح في ذلك وأولئك لم يصدر منهم ما دل صدر الآية عليه من الحراب لله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد الذي أوجب دخول النار في الآية ولا يلزم من نفي الخزي عمن آمن مع النبي نفيه عن غيره.
وقولهم إن المكلف يوصف بالإيمان حالة كونه غافلاً عن التصديق بالله تعالى إنما كان ذلك بطريق المجاز لكونه كان مصدقاً وأنه يؤول إلى التصديق وهو جهة من جهات التجوز.
وما يقال من أن الأصل الحقيقة فقد سبق جوابه كيف وإن ذلك لازم لهم في كل ما يفسرون الإيمان به ومع اتحاد المحذور فتقرير الوضع أولى.
والمصدق بشريك الإله تعالى ليس مؤمناً شرعاً لأن الإيمان في الشرع مطلق تصديق بل تصديق خاص وهو التصديق بالله وبما جاءت به رسله وهو من باب تخصيص الاسم ببعض مسمياته في اللغة فكان مجازاً لغوياً وبه يندفع ما قيل من التصديق بالله والكفر برسوله حيث أن مسمى الإيمان الشرعي لم يوجد وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين فالحق عندي في ذلك إنما هو إمكان كل واحد من المذهبين وأما ترجيح الواقع منهما فعسى أن يكون عند غيري تحقيقه.
المسألة الثانية اختلف الأصوليون في اشتمال اللغة على الأسماء المجازية: فنفاه الأستاذ أبو إسحاق ومن تابعه وأثبته الباقون وهو الحق.
حجة المثبتين أنه قد ثبت إطلاق أهل اللغة اسم الأسد على الإنسان الشجاع والحمار على الإنسان البليد وقولهم ظهر الطريق ومتنها وفلان على جناح السفر وشابت لمة الليل وقامت الحرب على ساق وكبد السماء إلى غير ذلك.
وإطلاق هذه الأسماء لغة مما لا ينكر إلا عن عناد وعند ذلك فإما أن يقال إن هذه الأسماء حقيقة في هذه الصور أو مجازية لاستحالة خلو الأسماء اللغوية عنهما ما سوى الوضع الأول كما سبق تحقيقه لا جائز أن يقال بكونها حقيقة فيها لأنها حقيقة فيما سواها بالاتفاق فإن لفظ الأسد حقيقة في السبع والحمار في البهيمة والظهر والمتن والساق والكبد في الأعضاء المخصوصة بالحيوان واللمة في الشعر إذا جاوز شحمة الأذن وعند ذلك فلو كانت هذه الأسماء حقيقية فيما ذكر من الصور لكان اللفظ مشتركاً ولو كان مشتركاً لما سبق إلى الفهم عند إطلاق هذه الألفاظ البعض دون البعض ضرورة التساوي في الدلالة الحقيقية ولا شك أن السابق إلى الفهم من إطلاق لفظ الأسد إنما هو السبع ومن إطلاق لفظ الحمار إنما هو البهيمة وكذلك في باقي الصور.
كيف وإن أهل الأعصار لم تزل تتناقل في أقوالها وكتبها عن أهل الوضع تسمية هذا حقيقة وهذا مجازاً.
فإن قيل: لو كان في لغة العرب لفظ مجازي فأما أن يفيد معناه بقرينة أو لا بقرينة فإن كان الأول فهو مع القرينة لا يحتمل غير ذلك المعنى فكان مع القرينة حقيقة في ذلك المعنى وإن كان الثاني فهو أيضاً حقيقة إذ لا معنى للحقيقة إلا ما يكون مستقلاً بالإفادة من غير قرينة.
وأيضاً فإنه ما من صورة من الصور إلا ويمكن أن يعبر عنها باللفظ الحقيقي الخاص بها فاستعمال اللفظ المجازي فيها مع افتقاره إلى القرينة من غير حاجة بعيد عن أهل الحكمة والبلاغة في وضعهم.
قلنا: جواب الأول أن المجاز لا يفيد عند عدم الشهرة إلا بقرينة ولا معنى للمجاز سوى هذا والنزاع في ذلك لفظي كيف وإن المجاز والحقيقة من صفات الألفاظ دون القرائن المعنوية فلا تكون الحقيقة صفة للمجموع.(1/15)
وجواب الثاني أن الفائدة في استعمال اللفظ المجازي دون الحقيقة قد تكون لاختصاصه بالخفة على اللسان أو لمساعدته في وزن الكلام نظماً ونثراً والمطابقة والمجانسة والسجع وقصد التعظيم والعدول عن الحقيقي للتحقير إلى غير ذلك من المقاصد المطلوبة في الكلام.
المسألة الثالثة اختلفوا في دخول الأسماء المجازية في كلام الله تعالى: فنفاه أهل الظاهر والرافضة وأثبته الباقون.
احتج المثبتون بقوله تعالى " ليس كمثله شيء " " الشورى 11 " وبقوله تعالى " واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها " " يوسف 82 " وبقوله تعالى " جداراً يريد أن ينقض " " الكهف 77 " .
والأول من باب التجوز بالزيادة ولهذا لو حذفت الكاف بقي الكلام مستقلاً والثاني من باب النقصان فإن المراد به أهل القرية لاستحالة سؤال القرية والعير وهي البهائم.
والثالث من باب الاستعارة لتعذر الإرادة من الجدار وإذا امتنع حمل هذه الألفاظ على ظواهرها في اللغة فما تكون محمولة عليه هو المجاز.
فإن قيل لا نسلم التجوز فيما ذكرتموه من الألفاظ أما قوله تعالى " ليس كمثله شيء " " الشورى 11 " فهو حقيقة في نفي التشبيه إذ الكاف للتشبيه.
وأما قوله تعالى " واسأل القرية " " يوسف 82 " فالمراد به مجتمع الناس فإن القرية مأخوذة من الجمع ومنه يقال قرأت الماء في الحوض أي جمعته وقرأت الناقة لبنها في ضرعها أي جمعته ويقال لمن صار معروفاً بالضيافة مقري ويقري لاجتماع الأضياف عنده وسمي القرآن قرآناً لذلك أيضاً لاشتماله على مجموع السور والآيات وأما العير فهي القافلة ومن فيها من الناس ثم وإن كان اسم القرية للجدران والعير للبهائم غير أن الله تعالى قادر على إنطاقها وزمن النبوة زمن خرق العوائد فلا يمتنع نطقها بسؤال النبي لها.
وقوله تعالى " جداراً يريد أن ينقض " " الكهف 77 " فمحمول أيضاً على حقيقته لأنه لا يتعذر على الله تعالى خلق الإرادة فيه.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على التجوز لكنه معارض بما يدل على عدمه وذلك لأن المجاز كذب ولذلك يصدق نفيه عند قول القائل للبليد حمار وللإنسان الشجاع أسد ونقيض النفي الصادق يكون كاذباً ولأن المجاز هو الركيك من الكلام وكلام الرب تعالى مما يصان عنه.
سلمنا أنه ليس بكذب غير أنه إنما يصار إليه عند العجز عن الحقيقة ويتعالى الرب عن ذلك.
سلمنا أنه غير متوقف على العجز عن الحقيقة غير أنه مما لا يفيد معناه بلفظه دون قرينة وربما تخفى فيقع الالتباس على المخاطب وهو قبيح من الحكيم.
سلمنا أنه لا يفضي إلى الالتباس غير أنه إذا خاطب بالمجاز وجب وصفه بكونه متجوزاً نظراً إلى الاشتقاق كما في الواحد منا وهو خلاف الإجماع.
سلمنا عدم اتصافه بذلك غير أن كلام الله تعالى حق فله حقيقة والحقيقة مقابلة للمجاز.
والجواب قولهم " ليس كمثله شيء " " الشورى 11 " لنفي التشبيه ليس كذلك فإنه لو كانت الكاف هاهنا للتشبيه لكان معنى النفي: ليس مثل مثله شيء وهو تناقض ضرورة أنه مثل لمثله فالمثل في الآية زائد والمراد من قولهم مثلك لا يقول هذا المشارك له في صفاته.
وقولهم: المراد من القرية الناس المجتمعون ليس كذلك لأن القرية هي المحل الذي يقع فيه الاجتماع لا نفس الاجتماع ومن ذلك سمي الزمان الذي فيه يجتمع دم الحيض قراً وكذلك يقال القاري لجامع القرآن والمقري لجامع الأضياف.
قولهم: إن العير هي القافلة المجتمعة من الناس قلنا من الناس والبهائم لا نفس الناس فقط ولهذا لا يقال لمجتمع الناس من غير أن يكون معهم بهائم قافلة قولهم لو سأل لوقع الجواب.(1/16)
قلنا: جواب الجدران والبهائم ثم غير واقع على وفق الاختيار في عموم الأوقات بل إن وقع فإنما يقع بتقدير تحدي النبي عليه السلام به ولم يكن كذلك فيما نحن فيه فلا يمكن الاعتماد عليه ثم وإن أمكن تخيل ما قالوه مع بعده فبماذا يعتذر عن قوله تعالى " تجري من تحتها الأنهار " والأنهار غير جارية وعن قوله تعالى " واشتعل الرأس شيباً " " مريم 4 " وهو غير مشتعل وعن قوله تعالى " واخفض لهما جناح الذل " " الإسراء 24 " والذل لا جناح له وقوله تعالى " الحج أشهر معلومات " " البقرة 197 " والأشهر ليست هي الحج وإنما هي طرف لأفعال الحج وقوله تعالى " لهدمت صوامع وبيع وصلوات " " الحج 40 " والصلوات لا تهدم وقوله " أو جاء أحد منكم من الغائط " " المائدة 6 " وقوله: " الله نور السماوات والأرض " " النور 35 " وقوله " فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " " البقرة 194 " والقصاص ليس بعدوان وقوله " وجزاء سيئة سيئة مثلها " " الشورى 40 " وقوله " الله يستهزئ بهم ويمكرون ويمكر الله " " الأنفال 30 " وقوله " كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله " " المائدة 64 " وقوله تعالى " أحاط بهم سرادقها " " الكهف 29 " إلى ما لا يحصى ذكره من المجازات.
وعن المعارضة الأولى بمنع كون المجاز كذباً فإنه إنما يكون كذباً أن لو أثبت ذلك حقيقة لا مجازاً كيف وإن الكذب مستقبح عند العقلاء بخلاف الاستعارة والتجوز فإنه عندهم من المستحسنات.
قولهم إنه من ركيك الكلام ليس كذلك بل ربما كان المجاز أفصح وأقرب إلى تحصيل مقاصد المتكلم البليغ على ما سبق وعن الثانية بمنع ما ذكروه من اشتراط المصير إلى المجاز بالعجز عن الحقيقة بل إنما يصار إليه مع القدرة على الحقيقة لما ذكرناه من المقاصد فيما تقدم.
وعن الثالثة أنها مبنية على القول بالتقبيح العقلي وقد أبطلناه كيف وهو لازم على الخصوم فيما ورد من الآيات المتشابهات فما هو الجواب في المتشابهات؟ هو الجواب لنا هاهنا.
وعن الرابعة أنه إنما لم يسم متجوزاً لأن ذلك مما يوهم التسمح في أقواله بالقبيح ولهذا يفهم منه ذلك عند قول القائل " فلان متجوز في مقاله " فيتوقف إطلاقه في حق الله تعالى على الإطلاق الشرعي ولم يرد.
وعن الخامسة أن كلام الله وإن كان له حقيقة فبمعنى كونه صدقاً لا بمعنى الحقيقة المقابلة للمجاز.
المسألة الرابعة اختلفوا في اشتمال القرآن على كلمة غير عربية فأثبته ابن عباس وعكرمة ونفاه الباقون.
احتج النافون بقوله تعالى " ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي " " فصلت 44 " فنفي أن يكون أعجمياً وقطع اعتراضهم بتنوعه بين أعجمي وعربي ولا ينتفي الاعتراض وفيه أعجمي وبقوله تعالى " بلسان عربي مبين " " الشعراء 195 " وبقوله " إنا أنزلناه قرآناً عربياً " " يوسف 2 " وظاهر ذلك ينافي أن يكون فيه ما ليس بعربي.
واحتج المثبتون لذلك بقولهم: القرآن مشتمل على المشكاة وهي هندية وإستبرق وسجيل بالفارسية وطه بالنبطية وقسطاس بالرومية والأب وهي كلمة لا تعرفها العرب ولذلك روي عن عمر أنه لما تلا هذه الآية قال: هذه الفاكهة فما الأب قالوا: ولأن النبي عليه السلام مبعوث إلى أهل كل لسان كافة على ما قال تعالى " كافة للناس بشيراً ونذيراً " " سبأ 28 " وقال عليه السلام بعثت إلى الأسود والأحمر فلا ينكر أن يكون كتابه جامعاً للغة الكل ليتحقق خطابه للكل إعجازاً وبياناً وأيضاً فإن النبي عليه السلام لم يدع أنه كلامه بل كلام الله تعالى رب العالمين المحيط بجميع اللغات فلا يكون تكلمه باللغات المختلفة منكراً غايته أنه لا يكون مفهوماً للعرب وليس ذلك بدعاً بدليل تضمنه للآيات المتشابهات والحروف المعجمة في أوائل السور.
أجاب النافون وقالوا: أما الكلمات المذكورة فلا نسلم أنها ليست عربية وغايته اشتراك اللغات المختلفة في بعض الكلمات وهو غير ممتنع كما في قولهم سروال بدل سراويل وفي قولهم تنور فإنه قد قيل إنه مما اتفق فيه جميع اللغات ولا يلزم من خفاء كلمة الأب على عمر أن لا يكون عربياً إذ ليس كل كلمات العربية مما أحاط بها كل واحد من آحاد العرب ولهذا قال ابن عباس: ما كنت أدري ما معنى " فاطر السماوات والأرض " " فاطر 1 " حتى سمعت امرأة من العرب تقول: أنا فطرته أي ابتدأته.(1/17)
وأما بعثته إلى الكل فلا يوجب ذلك اشتمال الكتاب على غير لغة العرب لما ذكروه وإلا لزم اشتماله على جميع اللغات ولما جاز الاقتصار من كل لغة على كلمة واحدة لتعذر البيان والإعجاز بها وما ذكروه فغايته أنه إذا كان كلام الله المحيط بجميع اللغات فلا يمتنع أن يكون مشتملاً على اللغات المختلفة ولكنه لا يوجبه فلا يقع ذلك في مقابلة النصوص الدالة على عدمه.
المسألة الخامسة اختلفوا في إطلاق الاسم على مسماه المجازي: هل يفتقر في كل صورة إلى كونه منقولاً عن العرب أو يكفي فيه ظهور العلاقة المعتبرة في التجوز كما عرفناه أولاً فمنهم من شرط في ذلك النقل مع العلاقة ومنهم من اكتفى بالعلاقة لا غير.
احتج الشارطون للنقل بأنه لو اكتفى بالعلاقة لجاز تسمية غير الإنسان نخلة لمشابهته لها في الطول كما جاز في الإنسان ولجاز تسمية الصيد شبكة والثمرة شجرة وظل الحائط حائطاً والابن أباً تعبيراً عن هذه الأشياء بأسماء أسبابها لما بينها وبين أسبابها من الملازمة في الغالب وهي من الجهات المصححة للتجوز وليس كذلك فدل على أنه لا بد من نقل الاستعمال.
ولقائل أن يقول: ما المانع أن يكون تحقق العلاقة بين محل الحقيقة ومحل التجوز كافياً في جواز إطلاق الاسم على جهة المجاز وحيث وجدت العلاقة المجوزة للإطلاق في بعض الصور وامتنع الإطلاق فإنما كان لوجود المنع من قبل أهل اللغة لا للتوقف على نقل استعمالهم للاسم فيها على الخصوص فإن قيل: لو لم يكن نقل استعمال أهل اللغة معتبراً في محل التجوز فتسميته باسم الحقيقة إما بالقياس عليه: أو أنه مخترع للواضع المتأخر الأول ممتنع لما يأتي والثاني فلا يكون من لغة العرب.
قلنا: لا يلزم من عدم التنصيص في آحاد الصور من أهل اللغة على التسمية أن يكون كما ذكروه بل ثم قسم ثالث: وهو أن تنص العرب نصاً كلياً على جواز إطلاق الاسم الحقيقي على كل ما كان بينه وبينه علاقة منصوص عليها من قبلهم كما بيناه ولا معنى للمجاز إلا هذا وهو غير خارج عن لغتهم.
فإن قيل: لو كان الأمر على ما ذكرتموه لكان المنع منهم متحققاً مع وجود المطلق وهو تعارض مخالف للأصل بخلاف ما ذكرناه.
قلنا: أمكن أن يكون المطلق ما ذكرناه مشروطاً بعدم ظهور المنع ومع ظهور المنع فلا مطلق وفيه عوص.
واحتج النافون بأن إطلاق المجاز مما لا يفتقر إلى بحث ونظر دقيق في الجهات المصححة في التجوز والأمر النقلي لا يكون كذلك وأيضاً فإنه لو كان نقلياً لما افتقر فيه إلى العلاقة بينه وبين محل الحقيقة بل لكان النقل فيه كافياً.
ولقائل أن يقول: أما الأول فالنظر ليس في النقل بل في العلاقة التي بين محل التجوز والحقيقة وأما الثاني فلأن الافتقار إلى العلاقة إنما كان لضرورة توقف المجاز من حيث هو مجاز عليها وإلا كان إطلاق الاسم عليه من باب الاشتراك لا من باب المجاز وإذا تقاومت الاحتمالات في هذه المسألة فعلى الناظر بالاجتهاد في الترجيح.
القسمة الرابعة الاسم لا يخلو إما أن يكون بحيث لا يصح أن يشترك في مفهومه كثيرون أو يصح فالأول اسم العلم كزيد وعمرو.
والثاني إما أن لا يكون صفة أو هو صفة والأول هو اسم الجنس وهو إما أن يكون عيناً كالإنسان والفرس أو غير عين كالعلم والجهل والصفة كالقائم والقاعد وهو الاسم المشتق والمشتق هو ما غير من أسماء المعاني عن شكله بزيادة أو نقصان في الحروف أو الحركات أو فيهما وجعل دالا على ذلك المعنى وعلى موضوع له غير معين كتسمية الجسم الذي قام به السواد أسود والبياض أبيض ونحوه ولا يتصور أن يكون المشتق إلا كذلك.
وهل يشترط قيام المشتق منها بما له الاشتقاق وهل يلزم الاشتقاق من الصفة المعنوية لما قامت به فذلك مما أوجبه أصحابنا ونفاه المعتزلة حيث إنهم جوزوا اشتقاق اسم المتكلم لله تعالى من كلام مخلوق له غير قائم بذاته ولم يوجبوا الاشتقاق منه للمحل الذي خلق فيه وقد عرفنا مأخذ الخلاف من الجانبين وما هو الصحيح منه في أبكار الأفكار فليلتمس.
مسائل هذه القسمة مسألتان: المسألة الأولى في أن بقاء الصفة المشتق منها هل يشترط في إطلاق اسم المشتق حقيقة أم لا فأثبته قوم ونفاه آخرون.(1/18)
وقد فصل بعضهم بين ما هو ممكن الحصول وما ليس ممكناً فاشترط ذلك في الممكن دون غيره احتج الشارطون بأنه لو كان إطلاق الضارب على شخص ما حقيقة بعد انقضائه صفة الضرب منه لما صح نفيه ويصح أن يقال إنه في الحال ليس بضارب.
ولقائل أن يقول: صحة سلب الضاربية عنه في الحال إنما يلزم منه سلبها عنه مطلقاً إذ لو لم يكن أعم من الضاربية في الحال وهو غير مسلم وعند ذلك فلا يلزم من صحة سلب الأخص سلب الأعم.
فإن قيل قول القائل هذا ضارب لا يفيد سوى كونه ضارباً في الحال فإذا سلم صحة سلبه في الحال فهو المطلوب.
قلنا: هذا بعينه إعادة دعوى محل النزاع بل الضارب هو من حصل له الضرب وهو أعم من حصول الضرب له في الحال فالضارب أعم من الضارب في الحال.
فإن قيل: وكما أن حصول الضرب أعم من حصول الضرب في الحال لانقسامه إلى الماضي والحال فهو أعم من المستقبل أيضاً لانقسامه إلى الحال والمستقبل فإن صدق اسم الضارب حقيقة باعتبار هذا المعنى الأعم فليكن اسم الضارب حقيقة قبل وجود الضرب منه كما كان حقيقة بعد زوال الضرب.
قلنا: الضارب حقيقة من حصل منه الضرب وهذا يصدق على من وجد منه الضرب في الماضي أو الحال بخلاف من سيوجد منه الضرب في المستقبل فإنه لا يصدق عليه أنه حصل منه الضرب وعند ذلك فلا يلزم من صدق الضارب حقيقة على من وجد منه الضرب صدقه حقيقة على من سيوجد منه الضرب ولم يوجد.
واحتج النافون بوجوه: الأول أن أهل اللغة قالوا: إذا كان اسم الفاعل بتقدير الماضي لا يعمل عمل الفعل فلا يقال ضارب زيداً أمس كما يقال بتقدير المستقبل بل يقال ضارب زيد أطلقوا عليه اسم الفاعل باعتبار ما صدر عنه من الفعل الماضي.
الثاني أنه لو كان وجود ما منه الاشتقاق شرطاً في صحة الاشتقاق حقيقة لما كان إطلاق اسم المتكلم والمخبر حقيقة أصلاً لأن ذلك لا يصح إلا بعد تحقق الكلام منه والخبر وهو إنما يتم بمجموع حروفه وأجزائه ولا وجود للحروف السابقة مع الحرف الأخير أصلاً ولا حقاً بامتناع كونه متكلماً حقيقة قبل وجود الكلام فلو لم يكن حقيقة عند آخر جزء من الكلام والخبر مع عدم وجود الكلام والخبر في تلك الحالة لما كان حقيقة أصلاً وهو ممتنع وإلا لصح أن يقال إنه ليس بمتكلم إذ هو لازم نفي الحقيقة ولما حنث من حلف أن فلاناً لم يتكلم حقيقة وإنني لا أكلم فلاناً حقيقة إذا كان قد تكلم أو كلمه.
الثالث إن الضارب من حصل منه الضرب ومن وجد منه الضرب في الماضي يصدق عليه أنه قد حصل منه الضرب فكان ضارباً حقيقة.
ولقائل أن يقول: أما الوجه الأول فإنه لا يلزم من إطلاق اسم الفاعل عليه أن يكون حقيقة ولهذا فإنهم قالوا: اسم الفاعل إذا كان بتقدير المستقبل عمل عمل الفعل فقيل ضارب زيداً غداً وليس ذلك حقيقة بالاتفاق وأما الوجه الثاني فغير لازم أيضاً إذ للخصم أن يقول شرط كون المشتق حقيقة إنما هو وجود ما منه الاشتقاق إن أمكن وإلا فوجود آخر جزء منه وذلك متحقق في الكلام والخبر بخلاف ما نحن فيه.
وأما الثالث فلا نسلم أن اسم الضارب حقيقة على من وجد منه الضرب مطلقاً بل من الضرب حاصل منه حالة تسميته ضارباً ثم يلزم تسمية أجلاء الصحابة كفرة لما وجد منهم من الكفر السابق والقائم قاعداً والقاعد قائماً لما وجد منه من القعود والقيام السابق وهو غير جائز بإجماع المسلمين وأهل اللسان هذا ما عندي في هذه المسألة وعليك بالنظر والاعتبار.
المسألة الثانية اختلفوا في الأسماء اللغوية: هل ثبتت قياساً أم لا فأثبته القاضي أبو بكر وابن سريج من أصحابنا وكثير من الفقهاء وأهل العربية وأنكره معظم أصحابنا والحنفية وجماعة من أهل الأدب مع اتفاقهم على امتناع جريان القياس في أسماء الأعلام وأسماء الصفات.
أما أسماء الأعلام فلكونها غير موضوعة لمعان موجبة لها والقياس لا بد فيه من معنى جامع إما معرف وإما داع وإذا قيل في حق الأشخاص في زماننا: هذا سيبويه وهذا جالينوس فليس بطريق القياس في التسمية بل معناه: هذا حافظ كتاب سيبويه وعلم جالينوس بطريق التجوز كما يقال: قرأت سيبويه والمراد به كتابه.(1/19)
وأما أسماء الصفات الموضوعة للفرق بين الصفات كالعالم والقادر فلأنها واجبة الاطراد نظراً إلى تحقق معنى الاسم فإن مسمى العالم من قام به العلم وهو متحقق في حق كل من قام به العلم فكان إطلاق اسم العالم عليه ثابتاً بالوضع لا بالقياس إذ ليس قياس أحد المسميين المتماثلين في المسمى على الآخر أولى من العكس وإنما الخلاف في الأسماء الموضوعة على مسمياتها مستلزمة لمعان في محالها وجوداً وعدماً وذلك كإطلاق اسم الخمر على النبيذ بواسطة مشاركته للمعتصر من العنب في الشدة المطربة المخمرة على العقل وكإطلاق اسم السارق على النباش بواسطة مشاركته للسارقين من الأحياء في أخذ المال على سبيل الخفية وكإطلاق اسم الزاني على اللائط بواسطة مشاركته للزاني في إيلاج الفرج المحرم والمختار أنه لا قياس وذلك لأنه إما أن ينقل عن العرب أنهم وضعوا اسم الخمر لكل مسكر أو للمعتصر من العنب خاصة أو لم ينقل شيء من ذلك.
فإن كان الأول فاسم الخمر ثابت للنبيذ بالتوقيف لا بالقياس وإن كان الثاني فالتعدية تكون على خلاف المنقول عنهم ولا يكون ذلك من لغتهم.
وإن كان الثالث فيحتمل أن يكون الوصف الجامع الذي به التعدية دليلاً على التعدية ويحتمل أن لا يكون دليلاً بدليل ما صرح بذلك وإذا احتمل احتمل فليس أحد الأمرين أولى من الآخر فالتعدية تكون ممتنعة.
فإن قيل الوصف الجامع وإن احتمل أن لا يكون دليلاً غير أن احتمال كونه دليلاً أظهر وبيانه من ثلاثة أوجه: الأول إن الاسم دار مع الوصف في الأصل وجوداً وعدماً والدوران دليل كون وجود الوصف أمارة على الاسم فيلزم من وجوده في الفرع وجود الاسم.
الثاني إن العرب إنما سمت باسم الفرس والإنسان الذي كان في زمانهم وكذلك وصفوا الفاعل في زمانهم بأنه رفع والمفعول نصب وإنما وصفوا بعض الفاعلين والمفعولين ومع ذلك فالاسم مطرد في زماننا بإجماع أهل اللغة في كل إنسان وفرس وفاعل ومفعول وليس ذلك إلا بطريق القياس.
الثالث قوله تعالى " فاعتبروا يا أولي الأبصار " " الحشر 2 " وهو عام في كل قياس ثم ما ذكرتموه باطل بالقياس الشرعي فإن كل ما ذكرتموه من الأقسام بعينه متحقق فيه ومع ذلك فالقياس صحيح متبع وهو أيضاً على خلاف مذهب الشافعي فإنه سمي النبيذ خمراً وأوجب الحد بشربه وأوجب الحد على اللائط قياساً على الزنى وأوجب الكفارة في يمين الغموس قياساً على اليمين في المستقبل وتأول حديث " الشفعة للجار " بحمله على الشريك في الممر وقال العرب تسمي الزوجة جاراً فالشريك أولى.
قلنا: جواب الأول: إن دوران الاسم مع الوصف في الأصل وجوداً وعدماً لا يدل على كونه علة للاسم بمعنى كونه داعياً إليه وباعثاً بل إن كان ولا بد فبمعنى كونه أمارة وكما دار مع اسم الخمر مع الشدة المطربة دار مع خصوص شدة المعتصر من العنب وذلك غير موجود في النبيذ فلا قياس ثم ما ذكروه منتقض بتسمية العرب للرجل الطويل نخلة والفرس الأسود أدهم والملون بالبياض والسواد أبلق والاسم فيه دائر مع الوصف في الأصل وجوداً وعدماً ومع ذلك لم يسموا الفرس والجمل لطوله نخلة ولا الإنسان المسود أدهم ولا المتلون من باقي الحيوانات بالسواد والبياض أبلق وكل ما هو جوابهم في هذه الصور جوابنا في موضع النزاع.
وجواب الثاني أن ما وقع الاستشهاد به لم يكن مستند التسمية فيه على الإطلاق القياس بل العرب وضعت تلك الأسماء للأجناس المذكورة بطريق العموم لا أنها وضعتها للمعين ثم طرد القياس في الباقي.
وجواب الثالث بمنع العموم في كل اعتبار وإن كان عاماً في المعتبر فلا يدخل فيه القياس في اللغة وأما النقض بالقياس الشرعي فغير متجه من جهة أن اجتماع الأمة من السلف عندنا أوجب الإلحاق عند ظن الاشتراك في علة حكم الأصل حتى إنه لو لم يكن إجماع لم يكن قياس ولا إجماع فيما نحن فيه من الأمة السابقة على الإلحاق فلا قياس.
وأما تسمية الشافعي رضي الله عنه النبيذ خمراً فلم يكن في ذلك مستنداً إلى القياس بل إلى قوله عليه السلام " إن من التمر خمراً " وهو توقيف لا قياس وإيجابه للحد في اللواط وفي النبش لم يكن لكون اللواط زنى ولا لكون النبش سرقة بل لمساواة اللواط للزنى والنبش للسرقة في المفسدة المناسبة للحد المعتبر في الشرع.(1/20)
وأما يمين الغموس فإنما سميت يميناً لا بالقياس بل بقوله صلى الله عليه وسلم " اليمن الغموس تدع الديار بلاقع " فكان ذلك بالتوقيف.
وأما تسمية الشافعي للشريك جاراً إنما كان بالتوقيف لا بالقياس على الزوجة وإنما ذكر الزوجة لقطع الاستبعاد في تسمية الشريك جاراً لزيادة قربه بالنسبة إلى الجار الملاصق فقال: الزوجة أقرب من الشريك وهي جار فلا يستبعد ذلك فيما هو أبعد منها وبتقدير أن يكون قائلاً بالقياس في اللغة إلا أن غيره مخالف له والحق من قوليهما أحق أن يتبع.
الفصل الخامس
في الفعل وأقسامه
والفعل ما دل على حدث مقترن بزمان محصل والحدث المصدر وهو اسم الفعل والزمان المحصل الماضي والحال والمستقبل وهو منقسم بحسب انقسام الزمان فالماضي منه كقام وقعد.
والحاضر والمستقبل في اللفظ واحد ويسمى المضارع وهو ما في أوله إحدى الزوائد الأربع وهي: الهمزة والتاء والنون والياء كقولك: أقوم وتقوم ونقوم ويقوم وتخليص المستقبل عن الحاضر بدخول السين أو سوف عليه كقولك: سيقوم وسوف يقوم وأما فعل الأمر فما نزع منه حرف المضارعة لا غير كقولك في يقوم قم ونحوه.
ويدخل في هذه الأقسام فعل ما لم يسم فاعله وأفعال القلوب والجوارح والأفعال الناقصة وأفعال المدح والذم والتعجب.
والفعل وإن كان كلمة مفردة عند النحاة مطلقاً فعند الحكماء المفرد منه إنما هو الماضي دون المضارع وذلك لأن حرف المضارعة في المضارع هو الدال على الموضوع معيناً كان أو غير معين والمفرد هو الدال الذي لا جزء له يدل على شيء أصلاً على ما سبق تحقيقه في حد المفرد وهو بخلاف الماضي فإنه وإن دل على الفعل وعلى موضوعه فليس فيه حرف يدل على الموضوع فكان مفرداً.
وقد ألحق بعضهم ما كان من المضارع الذي في أوله الياء بالماضي في الإفراد دون غيره لاشتراكهما في الدلالة على الفعل وعلى موضوع له غير معين وليس بحق فإنهما وإن اشتركا في هذا المعنى فمفترقان من جهة دلالة الياء على الموضوع الذي ليس معيناً بخلاف الماضي حيث إنه لم يوجد منه حرف يدل على الموضوع كما سبق.
الفصل السادس
في الحرف وأصنافه
الحرف ما دل على معنى في غيره وهو على أصناف: منها حرف الإضافة وهو ما يفضي بمعاني الأفعال إلى الأسماء وهو ثلاثة أقسام: الأول منه ما لا يكون إلا حرفاً كمن وإلى وحتى وفي والباء واللام ورب وواو القسم وتائه.
أما من فهي قد تكون لابتداء الغاية كقولك سرت من بغداد وللتبعيض كقولك أكلت من الخبز ولبيان الجنس كقولك خاتم من حديد وزائدة كقولك ما جاءني من أحد.
وأما إلى فهي قد تكون لانتهاء الغاية كقولك سرت إلى بغداد وبمعنى مع كقوله تعالى " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " " النساء 2 " وأما حتى ففي معنى إلى.
وأما في فللظرفية كقولك وزيد في الدار وقد ترد بمعنى على كقوله تعالى " ولأصلبنكم في جذوع النخل " " طه 71 " وقد يتجوز بها في قولهم نظرت في العلم الفلاني.
وأما الباء فللإلصاق كقولك به داء وقد تكون للاستعانة كقولك كتبت بالقلم والمصاحبة كقولك اشتريت الفرس بسرجه وقد ترد بمعنى على قال الله تعالى " ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك " " آل عمران 75 " أي على قنطار وعلى دينار وقد ترد بمعنى من أجل قال الله تعالى " ولم أكن بدعائك رب شقياً " " مريم 4 " أي لأجل دعائك وقيل بمعنى في دعائك وقد تكون زائدة كقوله تعالى " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " " البقرة 195 " .
وأما اللام فهي للاختصاص كقولك: المال لزيد وقد تكون زائدة كقوله ردف لكم.
وأما رب فهي للتقليل ولا تدخل إلا على النكرة كقولك رب رجل عالم.
وأما واو القسم فمبدلة عن باء الإلصاق في قولك أقسمت بالله والتاء مبدلة من الواو في تالله.
القسم الثاني: ما يكون حرفاً واسماً كعلي وعن والكاف ومذ ومنذ.
فأما على فهي للاستعلاء وهي إما حرف كقولك على زيد دين وإما اسم كقول الشاعر:
غدت من عليه بعد ما تم ظمئها ... تصل وعن قيض بزيزاء مجهل
وأما عن فللمباعدة: وهي إما حرف كقوله تعالى " فليحذر الذين يخالفون عن أمره " " النور 62 " وإما اسم كقولك جلست من عن يمينه.
وأما الكاف فقد تكون حرفاً للتشبيه كقولك زيد كعمرو وقد تكون اسماً كقول الشاعر:(1/21)
يضحكن عن كالبرد المنهم
وأما مذ ومنذ فحرفان لابتداء الغاية في الزمان تقول: ما رأيته مذ اليوم ومنذ يوم الجمعة وقد يكونان اسمين إذا رفعا ما بعدهما.
القسم الثالث: ما يكون حرفاً وفعلاً كحاشا وخلا وعدا فإنها تخفض ما بعدها بالحرفية وقد تنصبه بالفعلية.
ومنها الحرف المضارع للفعل وهو ينصب الاسم ويرفع الخبر مثل إن وأن ولكن وكأن وليت ولعل.
ومنها حروف العطف وهي عشرة: منها أربعة تشترك في جميع المعطوف والمعطوف عليه في حكم غير أنها تختلف في أمور أخرى وهذه هي الواو والفاء وثم وحتى.
أما الواو فقد اتفق جماهير أهل الأدب على أنها للجمع المطلق غير مقتضية ترتيباً ولا معية ونقل عن بعضهم أنها للترتيب مطلقاً ونقل عن الفراء أنها للترتيب حيث يستحيل الجمع كقوله " يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا " وقيل إنها ترد بمعنى أو كقوله تعالى " أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع " " فاطر 1 " قيل أراد مثنى أو ثلاث أو رباع وقد ترد للاستئناف كالواو في قوله تعالى " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمناً به " " آل عمران 7 " تقديره والراسخون يقولون آمنا به وقد ترد بمعنى مع في باب المفعول معه تقول جاء البرد والطيالسة وقد ترد بمعنى إذ قال الله تعالى " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً " إلى قوله " وطائفة قد أهمتهم أنفسهم " " آل عمران 154 " أي إذ طائفة قد أهمتهم أنفسهم احتج القائلون بالجمع المطلق من تسعة أوجه.
الأول: أنه لو كانت الواو في قول القائل رأيت زيداً وعمراً للترتيب لما صح قوله تعالى " ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة " " البقرة 58 " في آية وفي آية أخرى " وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً " " الأعراف 161 " مع اتحاد القضية لما فيه من جعل المتقدم متأخراً ومتقدماً.
الثاني: أنه لو كانت للترتيب لما حسن قول القائل تقاتل زيد وعمرو إذ لا ترتيب فيه.
الثالث: أنه كان يلزم أن يكون قول القائل جاء زيد وعمرو كاذباً عند مجيئهما معاً أو تقدم المتأخر وليس كذلك.
الرابع: أنه كان يلزم أن يكون قوله رأيت زيداً وعمراً بعده تكريراً وقبله تناقضاً.
الخامس: أنها لو كانت للترتيب لما حسن الاستفسار عن تقدم أحدهما وتأخر الآخر لكونه مفهوماً من ظاهر العطف.
السادس: أنه كان يجب على العبد الترتيب عند قول سيده له إيت بزيد وعمرو.
السابع: هو أن واو العطف في الأسماء المختلفة جارية مجرى واو الجمع وفي الأسماء المتماثلة مجرى ياء التثنية وهما لا يقتضيان الترتيب فكذلك ما هو جار مجراهما.
الثامن: أن الجمع المطلق معقول فلا بد له من حرف يفيده وليس ثم من الحروف ما يفيده سوى الواو بالإجماع فتعين أن يكون هو الواو.
التاسع: أنها لو أفادت الترتيب لدخلت في جواب الشرط كالفاء ولا يحسن أن يقال إذا دخل زيد الدار وأعطه درهماً كما يحسن أن يقال فأعطه درهماً.
ولقائل أن يقول: على الوجه الأول إذا كان من أصل المخالف أن الواو ظاهرة في الترتيب فلا يمنع ذلك من حملها على غير الترتيب تجوزاً وعلى هذا فحيث تعذر حملها على الترتيب في الآيتين المذكورتين لا يمنع من استعمالها في غير الترتيب بجهة التجوز وكذلك الكلام في قولهم تقاتل زيد وعمرو ولا يلزم من التجوز بالواو في غير الترتيب أن يتجوز عنه بالفاء وثم إذ هو غير لازم مع اختلاف الحروف.
وعلى الوجه الثالث: أنه لا يلزم أن يكون كاذباً بتقدير المعية أو تقدم المتأخر في اللفظ لإمكان التجوز بها عن الجمع المطلق كما لو قال رأيت أسداً وكان قد رأى إنساناً شجاعاً.
وعلى الرابع: أنه إذا قال: رأيت زيداً وعمراً بعده لا يكون تكريراً لأنه يكون مفيداً لامتناع حمله على الجمع المطلق لاحتمال توهمه بجهة التجوز وإذا قال رأيت زيداً وعمراً قبله لا يكون تناقضاً لكونه مفيداً لإرادة جهة التجوز.
وعلى الخامس: أنه إنما حسن الاستفسار لاحتمال اللفظ له تجوزاً.
وعلى السادس: أنه إنما لم يجب على العبد الترتيب نظراً إلى قرينة الحال المقتضية لإرادة جهة التجوز حتى إنه لو فرض عدم القرينة لقد كان ذلك موجباً للترتيب.
فإن قيل لو كانت الواو حقيقة في الترتيب فإفادتها للجمع المطلق عند تفسيرها به إن كان مجازاً فهو خلاف الأصل وإن كان حقيقة فليزم منه الاشتراك وهو أيضاً على خلاف الأصل.(1/22)
قلنا: ولو كانت حقيقة في الجمع المطلق فإفادتها للترتيب عند تفسيرها به وإن كان مجازاً فهو خلاف الأصل وإن كان حقيقة كان مشتركاً وهو خلاف الأصل وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
فإن قيل: بل ما ذكرناه أولى لأنها إذا كانت حقيقة في الترتيب خلا الجمع المطلق عن حرف يخصه ويدل عليه وإذا كانت حقيقة في الجمع المطلق لم يخل الترتيب عن حرف يدل عليه لدلالة الفاء وثم عليه.
قلنا: فنحن إنما نجعلها حقيقة في الترتيب المطلق المشترك بين الفاء وثم وذلك مما لا تدل عليه الفاء و ثم دلالة مطابقة بل إما بجهة التضمن أو الالتزام وكما أنها تدل على الترتيب المشترك بدلالة التضمن أو الالتزام فتدل على الجمع المطلق هذه الدلالة وعند ذلك فليس إخلاء الترتيب المشترك عن لفظ يطابقه أولى من إخلاء الجمع المطلق.
وعلى السابع: أن ما ذكروه إنما يلزم أن لو كانت الواو جارية مجرى واو الجمع وياء التثنية مطلقاً وليس كذلك لأنه لا مانع من كونها جارية مجراهما في مطلق الجمع مع كونها مختصة بالترتيب كما في الفاء وثم.
وعلى الثامن: أنه كما أن الجمع المطلق معقول ولا بد له من حرف يدل عليه فالترتيب المطلق أيضاً معقول ولا بد له من حرف يدل عليه وليس ما يفيده بالإجماع سوى الواو فتعين كيف وإن الجمع المطلق حاصل بقوله رأيت زيداً رأيت عمراً.
وعلى التاسع: أن ما ذكروه منتقض بثم وبعد وأما المثبتون للترتيب فقد احتجوا بالنقل والحكم والمعنى أما النقل فقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا " " الحج 87 " فإنه مقتض للترتيب وأيضاً ما روي أنه لما نزل قوله تعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله " " البقرة 158 " قال الصحابة للنبي عليه السلام بم نبدأ؟ قال " ابدؤوا بما بدأ الله به " ولولا أن الواو للترتيب لما كان كذلك وأيضاً ما روي أن واحداً قام بين يدي رسول الله وقال من أطاع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما فقد غوى فقال عليه السلام " بئس خطيب القوم أنت قل ومن عصى الله ورسوله فقد غوى " ولو كانت الواو للجمع المطلق لما وقع الفرق وأيضاً ما روي عن عمر أنه قال لشاعر قال كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك وكان عمر من أهل اللسان وذلك يدل على الترتيب وأيضاً ما روي أن الصحابة أنكروا على ابن عباس وقالوا له لم تأمرنا بالعمرة قبل الحج وقد قال الله " وأتموا الحج والعمرة لله " " البقرة 196 " وكانوا أيضاً من أهل اللسان وذلك يدل على الترتيب ولولا أن الواو للترتيب لما كان كذلك.
وأما الحكم فإنه لو قال الزوج لزوجته قبل الدخول بها أنت طالق وطالق وطالق وقع بها طلقة واحدة ولو كانت الواو للجمع المطلق لوقعت الثلاث كما لو قال لها: أنت طالق ثلاثاً.
وأما المعنى فهو أن الترتيب في اللفظ يستدعي سبباً والترتيب في الوجود صالح له فوجب الحمل عليه.
أجاب النافون عن النقل: أما الآية فلا نسلم أن الترتيب مستفاد منها بل من دليل آخر وهو أن النبي عليه السلام صلى ورتب الركوع قبل السجود وقال " صلوا كما رأيتموني أصلي " ولو كانت الواو للترتيب لما احتاج النبي عليه السلام إلى هذا البيان.
وأما قوله عليه السلام " ابدؤوا بما بدأ الله به " فهو دليل عليهم حيث سأله الصحابة عن ذلك مع أنهم من أهل اللسان ولو كانت الواو للترتيب لما احتاجوا إلى ذلك السؤال.
ولقائل أن يقول: ولو كانت للجمع المطلق لما احتاجوا إلى السؤال فيتعارضان ويبقى قوله عليه السلام " ابدؤوا بما بدأ الله به " وهو دليل الترتيب.
وأما قوله عليه السلام " قل ومن عصى الله ورسوله فقد غوى " إنما قصد به إفراد ذكر الله تعالى أولا مبالغة في تعظيمه لا أن الواو للترتيب ويدل عليه أن معصية الله ورسوله لا انفكاك لإحداهما عن الأخرى حتى يتصور فيهما الترتيب.
وأما قول عمر فمبني على قصد التعظيم بتقديم ذكر الأعظم على قصد الترتيب.
وأما قصة الصحابة مع ابن عباس فلم يكن مستند إنكارهم لأمره بتقديم العمرة على الحج كون الآية مقتضية لترتيب العمرة بعد الحج بل لأنها مقتضية للجمع المطلق وأمره بالترتيب مخالف لمقتضى الآية كيف وإن فهمهم لترتيب العمرة على الحج من الآية معارض بما فهمه ابن عباس وهو ترجمان القرآن.(1/23)
وأما الحكم فهو ممنوع على أصل من يعتقد أن الواو للجمع المطلق وبه قال أحمد بن حنبل وبعض أصحاب مالك والليث بن سعد وربيعة بن أبي ليلى وقد نقل عن الشافعي ما يدل عليه في القديم وإن سلم ذلك فالوجه في تخريجه أن يقال: إذا قال لها أنت طالق ثلاثاً فالأخير تفسير للأول والكلام يعتبر بجملته بخلاف قوله: أنت طالق وطالق وطالق.
وأما المعنى فهو منقوض بقوله: رأيت زيداً رأيت عمراً فإن تقديم أحد الاسمين في الذكر لا يستدعي تقديمه في نفس الأمر إجماعاً كيف وإنه يجوز أن يكون السبب في تقديمه ذكراً لزيادة حبه له واهتمامه بالإخبار عنه أو لأنه قصد الإخبار عنه لا غير ثم تجدد له قصد الإخبار عن الآخر عند إخباره عن الأول.
وبالجملة فالكلام في هذه المسألة متجاذب وإن كان الأرجح هو الأول في النفس وأما الفاء وثم وحتى فإنها تقتضي الترتيب وتختلف من جهات أخر.
فأما الفاء فمقتضاها إيجاب الثاني بعد الأول من غير مهلة هذا مما اتفق الأدباء على نقله عن أهل اللغة وقوله تعالى " وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا " " الأعراف 4 " وإن كان مجيء البأس لا يتأخر عن الهلاك فيجب تأويله بالحكم بمجيء البأس بعد هلاكها ضرورة موافقة للنقل وقوله تعالى " لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب " " طه 61 " وقوله تعالى " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة " " البقرة 283 " فإنه وإن كان الإسحات بالعذاب مما يتراخى عن الافتراء بالكذب وكذلك الرهن مما يتراخى عن المداينة غير أنه يجب تأويله بأن حكم الافتراء الإسحات وحكم المداينة الرهنية لما ذكرناه من موافقة النقل وقد ترد الفاء مورد الواو كقول الشاعر:
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وأما ثم فإنها توجب الثاني بعد الأول بمهلة وقوله تعالى " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى " " طه 82 " وإن كان الاهتداء يتراخى عن التوبة والإيمان والعمل الصالح فيجب حمله على دوام الاهتداء وثباته ضرورة موافقة النقل وقيل إنها قد ترد بمعنى الواو كقوله تعالى " فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون " " يونس 46 " لاستحالة كونه شاهداً بعد أن لم يكن شاهداً.
وأما حتى فموجبة لكون المعطوف جزءاً من المعطوف عليه نحو قولك: مات الناس حتى الأنبياء وقدم الحاج حتى المشاة فالأول أفضله والثاني دونه وثلاثة منها تشترك في تعليق الحكم بأحد المذكورين وهي أو وإما وأم.
إلا أن أو وإما يقعان في الخبر والأمر والاستفهام وأم لا تقع إلا في الاستفهام غير أن أو وإما في الخبر للشك تقول جاء زيد أو عمرو وجاء إما زيد وإما عمرو وفي الأمر للتخيير تقول: اضرب زيداً أو عمراً واضرب إما زيداً وإما عمراً وللإباحة تقول: جالس الحسن أو ابن سيرين وأو في الاستفهام مع الشك في وجود الأمرين وأم مع العلم بأحدهما والشك في تعيينه.
وثلاثة منها تشترك في أن المعطوف مخالف للمعطوف عليه في حكمه وهي: لا وبل ولكن تقول: جاءني زيد لا عمر بل عمرو وما جاءني زيد لكن عمرو ومنها حروف النفي وهي: ما ولا ولم ولما ولن وإن بالتخفيف.
فأما ما فلنفي الحال أو الماضي القريب من الحال كقولك ما تفعل ما فعل وأما لا فلنفي المستقبل إما خبراً كقولك لا رجل في الدار أو نهياً كقولك: لا تفعل أو دعاء كقولك لا رعاك الله وأما لم ولما فلقلب المضارع إلى الماضي تقول: لم يفعل ولما يفعل.
ولن لتأكيد المستقبل كقولك: لن أبرح اليوم مكاني تأكيداً كقولك: لا أبرح اليوم مكاني وإن لنفي الحال كقوله تعالى " إن كانت إلا صيحة واحدة " " يس 29 " .
ومنها حروف التنبيه وهي: ها وألا وأما تقول: ها أفعل كذا وألا زيد قائم وأما إنك خارج ومنها حروف النداء وهي: يا وأيا وهيا وأي والهمزة ووا والثلاثة الأول لنداء البعيد وأي والهمزة للقريب ووا للندبة.
ومنها حروف التصديق والإيجاب وهي نعم وبلى وأجل وجير وإي وإن فنعم مصدقة لما سبق من قول القائل: قام زيد ما قام زيد وبلى لإيجاب ما نفي كقولك: بلى لمن قال: ما قام زيد وأجل لتصديق الخبر لا غير كقولك: أجل لمن قال: جاء زيد.
وجير وإن وإي للتحقيق تقول: جير لأفعلن كذلك وإن الأمر كذا وإي والله ومنها حروف الاستثناء وهي إلا وحاشا وعدا وخلا.
والحرف المصدري وهو ما في قولك: أعجبني ما صنعت أي صنعك وأن في قولك: أريد أن تفعل كذا أي فعلك.(1/24)
وحروف التحضيض وهي: لولا ولوما وهلا وألا فعلت كذا إذا أردت الحث على الفعل.
وحرف تقريب الماضي من الحال وهو قد في قولك: قد قام زيد.
وحروف الاستفهام وهي: الهمزة وهل في قولك: أزيد قام؟ وهل زيد قائم؟.
وحروف الاستقبال وهي السين وسوف وأن ولا وإن في قولك: سيفعل وسوف يفعل وأريد أن تفعل ولا تفعل وإن تفعل.
وحروف الشرط وهي: إن ولو في قولك: إن جئتني ولو جئتني أكرمتك.
وحرف التعليل وهو كي في قولك: قصدت فلاناً كي يحسن إلي.
وحرف الردع وهو كلا في قولك جواباً لمن قال لك: إن الأمر كذا.
ومنها حروف اللامات وهي لام التعريف الداخلة على الاسم المنكر لتعريفه كالرجل ولام جواب القسم في قولك والله لأفعلن كذا والموطئة للقسم في قولك: والله لئن أكرمتني لأكرمنك ولام جواب لو ولولا في قولك: لو كان كذا لكان كذا ولولا كان كذا لكان كذا ولام الأمر في قولك ليفعل زيد ولام الابتداء في قولك لزيد منطلق ومنها تاء التأنيث الساكنة في قولك فعلت ومنها التنوين والنون المؤكدة في قولك: والله لأفعلن كذا وهذا آخر الكلام في النوع الأول.
النوع الثاني في تحقيق مفهوم المركب من مفردات الألفاظ وهو الكلام. اعلم أن اسم الكلام قد يطلق على العبارات الدالة بالوضع تارة وعلى مدلولها القائم بالنفس تارة على ما حققناه في كتبنا الكلامية والمقصود هاهنا إنما هو معنى الكلام اللساني دون النفساني.
والكلام اللساني قد يطلق تارة على ما ألف من الحروف والأصوات من غير دلالة على شيء ويسمى مهملاً وإلى ما يدل ولهذا يقال في اللغة: هذا كلام مهمل وهذا كلام غير مهمل وسواء كان إطلاق الكلام على المهمل حقيقة أو مجازاً والغرض هاهنا إنما هو بيان الكلام الذي ليس بمهمل لغة وقد اختلف فيه: فذهب أكثر الأصوليين إلى أن الكلمة الواحدة إذا كانت مركبة من حرفين فصاعداً كلام ولا جرم قالوا في حده هو ما انتظم من الحروف المسموعة المميزة المتواضع على استعمالها الصادرة عن مختار واحد وقصدوا بالقيد الأول الاحتراز عن الحرف الواحد كالزاي من زيد وبالقيد الثاني الاحتراز عن حروف الكتابة وبالقيد الثالث الاحتراز عن أصوات كثيرة من البهائم والمهملات من الألفاظ وبالقيد الرابع الاحتراز عن الاسم الواحد إذا صدرت حروفه كل حرف من شخص فإنه لا يسمى كلاماً.
ومنهم من قال: إن الكلمة الواحدة لا تسمى كلاماً لكن اختلفوا فيما اجتمع من كلمات وهو غير مفيد كقول القائل: زيد لا كلما ونحوه هل هو كلام فمنهم من قال: إنه كلام لأن آحاد كلماته وضعت للدلالة ومنهم من لم يسمه كلاماً والنزاع في إطلاق اسم الكلام في هذه الصور مائل إلى الاصطلاح الخارج عن وضع اللغة باتفاق من أهل الأدب وأما مأخذه في اصطلاح أهل اللغة قال الزمخشري: وهو ناقد بصير في هذه الصناعة الكلام هو المركب من كلمتين أسندت إحداهما إلى الأخرى فقوله المركب من كلمتين احتراز عن الكلمة الواحدة وقوله أسندت إحداهما إلى الأخرى احتراز عن قولك زيد عمرو وعن قولك: زيد على أو زيد في أو قام في فإن المجموع منهما مركب من كلمتين وليس بكلام لعدم إسناد إحداهما إلى الأخرى وأقل ما يكون ذلك من اسمين كقولك: زيد قائم أو اسم وفعل كقولك: زيد قام وتسمى الأولى جملة اسمية والثانية جملة فعلية ولا يتركب الكلام من الاسم والحرف فقط ولا من الأفعال وحدها ولا من الحروف ولا من الأفعال والحروف.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الحد منتقض بما تركب من كلمتين أسندت إحداهما إلى الأخرى وهما مهملتان فإنه لا يكون كلاماً وذلك كما لو أسندت مقلوب زيد إلى مقلوب رجل فقلت زيد هو لجر.
قلنا: المراد من الكلمة التي منها التأليف اللفظة الواحدة الدالة بالوضع على معنى مفرد ولا وجود لذلك فيما ذكروه غير أن ما ذكروه من الحد يدخل فيه قول القائل حيوان ناطق وإنسان عالم وغير ذلك من النسب التقييدية فإنه لا يعد كلاماً مفيداً وإن أسند فيه إحدى الكلمتين إلى الأخرى والوجب أن يقال: الكلام ما تألف من كلمتين تأليفا يحسن السكوت عليه.
الأصل الثاني
في مبدأ اللغات وطرق معرفتها(1/25)
أول ما يجب تقديمه أن ما وضع من الألفاظ الدالة على معانيها هل هو لمناسبة طبيعية بين اللفظ ومعناه أم لا فذهب أرباب علم التكسير وبعض المعتزلة إلى ذلك مصيراً منهم إلى أنه لو لم يكن بين اللفظ ومعناه مناسبة طبيعية لما كان اختصاص ذلك المعنى بذلك اللفظ أولى من غيره ولا وجه له فإنا نعلم أن الواضع في ابتداء الوضع لو وضع لفظ الوجود على العدم والعدم على الوجود واسم كل ضد على مقابله لما كان ممتنعاً كيف وقد وضع ذلك كما في اسم الجون والقرء ونحوه والاسم الواحد لا يكون مناسباً بطبعه لشيء ولعدمه وحيث خصص الواضع بعض الألفاظ ببعض المدلولات إنما كان ذلك نظراً إلى الإرادة المخصصة كان الواضع هو الله تعالى أو المخلوق إما لغرض أو لا لغرض وإذا بطلت المناسبة الطبيعية وظهر أن مستند تخصيص بعض الألفاظ ببعض المعاني إنما هو الوضع الاختياري فقد اختلف الأصوليون فيه فذهب الأشعري وأهل الظاهر وجماعة من الفقهاء إلى أن الواضع هو الله تعالى ووضعه متلقي لنا من جهة التوقيف الإلهي إما بالوحي أو بأن يخلق الله الأصوات والحروف ويسمعها لواحد أو لجماعة ويخلق له أو لهم العلم الضروري بأنها قصدت للدلالة على المعاني محتجين على ذلك بآيات منها قوله تعالى: " وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا " دل على أن آدم والملائكة لا يعلمون إلا بتعليم الله تعالى ومنها قوله تعالى: " ما فرطنا في الكتاب من شيء " وقوله تعالى: " تبياناً لكل شيء " وقوله تعالى: " اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم " واللغات داخلة في هذه المعلومات وقوله تعالى: " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان " ذمهم على تسمية بعض الأشياء من غير توقيف فدل على أن ما عداها توقيف وقوله تعالى: " ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم " والمراد به اللغات لا نفس اختلاف هيئات الجوارح من الألسنة لأن اختلاف اللغات أبلغ في مقصود الآية فكان أولى بالحمل عليه.
وذهبت البهشمية وجماعة من المتكلمين إلى أن ذلك من وضع أرباب اللغات واصطلاحهم وأن واحدا أو جماعة انبعثت داعيته أو دواعيهم إلى وضع هذه الألفاظ بازاء معانيها ثم حصل تعريف الباقين بالإشارة والتكرار كما يفعل الوالدان بالولد الرضيع وكما يعرف الأخرس ما في ضميره بالإشارة والتكرار مرة بعد أخرى محتجين على ذلك بقوله تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " وهذا دليل على تقدم اللغة على البعثة والتوقيف.
وذهب الأستاذ أبو إسحاق الأسفرائني إلى أن القدر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى التواضع بالتوقيف وإلا فلو كان بالاصطلاح فالاصطلاح عليه متوقف على ما يدعو به الإنسان غيره إلى الاصطلاح على ذلك الأمر فإن كان بالاصطلاح لزم التسلسل وهو ممتنع فلم يبق غير التوقيف وجوز حصول ما عدا ذلك بكل واحد من الطريقين.
وذهب القاضي أبو بكر وغيره من أهل التحقيق إلى أن كل واحد من هذه المذاهب ممكن بحيث لو فرض وقوعه لم يلزم عنه محال لذاته وأما وقوع البعض دون البعض فليس عليه دليل قاطع والظنون فمتعارضة يمتنع معها المصير إلى التعيين.
هذا ما قيل والحق أن يقال إن كان المطلوب في هذه المسألة يقين الوقوع لبعض هذه المذاهب فالحق ما قاله القاضي أبو بكر إذ لا يقين من شيء منها على ما يأتي تحقيقه.
وإن كان المقصود إنما هو الظن وهو الحق فالحق ما صار إليه الأشعري لما قيل من النصوص لظهورها في المطلوب فإن قيل لا نسلم ظهور النصوص المذكورة في المطلوب.
أما قوله تعالى: " وعلم آدم الأسماء كلها " فالمراد بالتعليم إنما هو إلهامه وبعث داعيته على الوضع وسمي بذلك معلماً لكونه الهادي إليه لا بمعنى أنه أفهمه ذلك بالخطاب على ما قال تعالى في حق داود: " وعلمناه صنعة لبوس لكم " معناه ألهمناه ذلك وقوله تعالى في حق سليمان: " ففهمناها سليمان " أي ألهمناه.(1/26)
سلمنا أن المراد به الإفهام بالخطاب والتوقيف ولكن أراد به كل الأسماء مطلقاً أو الأسماء التي كانت موجودة في زمانه الأول ممنوع والثاني مسلم سلمنا أنه أراد به جميع الأسماء مطلقاً غير أن ذلك يدل على أن علم آدم بها كان توقيفياً ولا يلزم أن يكون أصلها بالتوقيف لجواز أن يكون من مصطلح خلق سابق على آدم والباري تعالى علمه ما اصطلح عليه غيره.
سلمنا أن جميع الأسماء المعلومة لآدم بالتوقيف له ولكنه يحتمل أنه أنسيها ولم يوقف عليها من بعده واصطلح أولاده من بعده على هذه اللغات والكلام إنما هو في هذه اللغات.
وأما قول الملائكة " لا علم لنا إلا ما علمتنا " فلا يدل على أن أصل اللغات التوقيف لما عرف في حق آدم وقوله تعالى: " ما فرطنا في الكتاب من شيء " فالمراد به أن ما ورد في الكتاب لا تفريط فيه وإن كان المراد به أنه بين فيه كل شيء فلا منافاة بينه وبين كونه معرفاً للغات من تقدم.
وعلى هذا يخرج الجواب عن قوله تعالى: " تبياناً لكل شيء " وعن قوله " علم الإنسان ما لم يعلم " وأما آية الذم فالذم فيها إنما كان على إطلاقهم أسماء الأصنام مع اعتقادهم كونها آلهة وأما آية اختلاف الألسنة فهي غير محمولة على نفس الجارحة بالإجماع فلا بد من التأويل وليس تأويلها بالحمل على اللغات أولى من تأويلها بالحمل على الإقدار على اللغات كيف وأن التوقيف يتوقف على معرفة كون تلك الألفاظ دالة على تلك المعاني وذلك لا يعرف إلا بأمر خارج عن تلك الألفاظ والكلام فيه إن كان توقيفياً كالكلام في الأول وهو تسلسل ممتنع فلم يبق غير الاصطلاح.
ثم ما ذكرتموه معارض بقوله تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " وذلك يدل على سبق اللغات على البعثة والجواب: قولهم: المراد من تعليم آدم إلهامه بالوضع والاصطلاح مع نفسه وهو خلاف الظاهر من إطلاق لفظ التعليم ولهذا فإن من اخترع أمراً واصطلح عليه مع نفسه يصح أن يقال: إنه ما علمه أحد ذلك ولو كان إطلاق التعليم بمعنى الإلهام بما يفعله الإنسان مع نفسه حقيقة لما صح نفيه وحيث صح نفيه دل على كونه مجازاً والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا يلزم من التأويل فيما ذكروه من التعليم في حق داود وسليمان التأويل فيما نحن فيه إلا أن الاشتراك في دليل التأويل والأصل عدمه.
وقولهم: أراد به الأسماء الموجودة في زمانه إنما يصح أن لو لم يكن جميع الأسماء موجودة في زمانه وهو غير مسلم بل الباري تعالى علمه كل ما يمكن التخاطب به ويجب الحمل عليه عملا بعموم اللفظ.
قولهم: من الجائز أن يكون جميع الأسماء من مصطلح من كان قبل آدم قلنا: وإن كان ذلك محتملاً إلا أن الأصل عدمه فمن ادعاه يحتاج إلى دليل وبه يبطل أنه يحتمل أنه أنسيها إذ الأصل عدم النسيان وبقاء ما كان على ما كان وعلى هذا فقد خرج الجواب عما ذكروه من تأويل قول الملائكة " لا علم لنا إلا ما علمتنا " إذ هو مبني على ما قيل من التأويل في حق آدم وقد عرف جوابه.
قولهم: المراد من قوله تعالى: " ما فرطنا في الكتاب من شيء " أنه لا تفريط فيما في الكتاب ليس كذلك فإن ذلك معلوم لكل عاقل قطعاً فحمل اللفظ عليه لا يكون مفيداً.
قولهم: لا منافاة بينه وبين كونه معرفاً للغات من تقدم فقد سبق جوابه وبه يخرج الجواب عما ذكروه على قوله تعالى: " تبياناً لكل شيء " وعن قوله " علم الإنسان ما لم يعلم " .
قولهم في آية الذم إنما ذمهم على اعتقادهم كون الأصنام آلهة فهو خلاف الظاهر من إضافة الذم إلى التسمية ولا يقبل من غير دليل وما ذكروه على الآية الأخيرة فلا يخفى أن الترجيح بحمل اللفظ على اختلاف اللغات دون حمله على الإقدار على اللغات لكونه أقل في الإضمار إذ هو يفتقر إلى إضمار اللغات لا غير وما ذكروه يفتقر إلى إضمار القدرة على اللغات فلا يصار إليه.
قولهم في المعنى إنه يفضي إلى التسلسل ليس كذلك فإنه لا مانع أن يخلق الله تعالى العبارات ويخلق لمن يسمعها العلم الضروري بأن واضعاً وضعها لتلك المعاني كما سبق ثم ما ذكروه لازم عليهم في القول بالاصطلاح فإن ما يدعى به إلى الوضع والاصطلاح لا بد وأن يكون معلوماً فإن كان معلوماً بالاصطلاح لزم التسلسل وهو ممتنع فلم يبق غير التوقيف.(1/27)
وما ذكروه من المعارضة بالآية الأخيرة فإنما يلزم أن لو كان طريق التوقيف منحصراً في الرسالة وليس كذلك بل جاز أن يكون أصل التوقيف معلوما إما بالوحي من غير واسطة وإما بخلق اللغات وخلق العلم الضروري للسامعين بأن واضعاً وضعها لتلك المعاني على ما سبق.
وأما طرق معرفتها لنا فاعلم أن ما كان منها معلوماً بحيث لا يتشكك فيه مع التشكيك كعلمنا بتسمية الجوهر جوهراً والعرض عرضاً ونحوه من الأسامي فنعلم أن مدرك ذلك إنما هو التواتر القاطع وما لم يكن معلوماً لنا ولا تواتر فيه فطريق تحصيل الظن به إنما هو إخبار الآحاد ولعل الأكثر إنما هو الأول.
القسم الثالث
في المبادئ الفقهية والأحكام الشرعية
اعلم أن الحكم الشرعي يستدعي حاكماً ومحكوماً فيه ومحكوماً عليه فلنفرض في كل واحد أصلاً وهي أربعة أصول.
الأصل الأول
في الحاكم
اعلم أنه لا حاكم سوى الله تعالى ولا حكم إلا ما حكم به ويتفرع عليه أن العقل لا يحسن ولا يقبح ولا يوجب شكر المنعم وأنه لا حكم قبل ورود الشرع ولنرسم في كل واحد مسألة: المسألة الأولى مذهب أصحابنا وأكثر العقلاء أن الأفعال لا توصف بالحسن والقبح لذواتها وأن العقل لا يحسن ولا يقبح وإنما إطلاق اسم الحسن والقبح عندهم باعتبارات ثلاثة إضافية غير حقيقية.
أولها إطلاق اسم الحسن على ما وافق الغرض والقبيح على ما خالفه وليس ذلك ذاتياً لاختلافه وتبدله بالنسبة إلى اختلاف الأغراض بخلاف اتصاف المحل بالسواد والبياض وثانيها إطلاق اسم الحسن على ما أمر الشارع بالثناء على فاعله ويدخل فيه أفعال الله تعالى والواجبات والمندوبات دون المباحات وإطلاق اسم القبيح على ما أمر الشارع بذم فاعله ويدخل فيه الحرام دون المكروه والمباح وذلك أيضاً مما يختلف باختلاف ورود أمر الشارع في الأفعال.
وثالثها إطلاق اسم الحسن على ما لفاعله مع العلم به والقدرة عليه أن يفعله بمعنى نفي الحرج عنه في فعله وهو أعم من الاعتبار الأول لدخول المباح فيه والقبيح في مقابلته ولا يخفى أن ذلك أيضاً مما يختلف باختلاف الأحوال فلا يكون ذاتياً وعلى هذا فما كان من أفعال الله تعالى بعد ورود الشرع فحسن بالاعتبار الثاني والثالث وقبله بالاعتبار الثالث وما كان من أفعال العقلاء قبل ورود الشرع فحسنه وقبيحه بالاعتبار الأول والثالث وبعده بالاعتبارات الثلاثة.
وذهب المعتزلة والكرامية والخوارج والبراهمة وغيرهم إلى أن الأفعال منقسمة إلى حسنة وقبيحة لذواتها لكن منها ما يدرك حسنه وقبحه بضرورة العقل كحسن الإيمان وقبح الكفران أو بنظره كحسن الصدق المضر وقبح الكذب النافع أو بالسمع كحسن العبادات لكن اختلفوا: فزعمت الأوائل من المعتزلة أن الحسن والقبيح غير مختص بصفة موجبة لحسنه وقبحه ومنهم من أوجب ذلك كالجبائية ومنهم من فصل وأوجب ذلك في القبيح دون الحسن ونشأ بينهم بسبب هذا الاختلاف اختلاف في العبارات الدالة على معنى للحسن والقبيح أومأنا إليها وإلى مناقضتهم فيها في علم الكلام وقد احتج أصحابنا بحجج: الأولى أنه لو كان الكذب قبيحاً لذاته للزم منه أنه إذا قال: إن بقيت ساعة أخرى كذبت أن يكون الحسن منه في الساعة الأخرى الصدق أو الكذب: والأول ممتنع لما يلزمه من كذب الخبر الأول وهو قبيح وما لزم منه القبيح فهو قبيح فلم يبق غير الثاني وهو المطلوب.
الثانية لو كان قبح الخبر الكاذب ذاتياً فإذا قال القائل: زيد في الدار ولم يكن فيها فالمقتضي لقبحه إما نفس ذلك اللفظ وإما عدم المخبر عنه وإما مجموع الأمرين وإما أمر خارج: الأول يلزمه قبح ذلك الخبر وإن كان صادقاً والثاني يلزمه أن يكون العدم علة للأمر الثبوتي والثالث يلزمه أن يكون العدم جزء علة الأمر الثبوتي والكل محال وإن كان الرابع فذلك المقتضي الخارج إما لازم للخبر المفروض وإما غير لازم فإن كان الأول فإن كان لازماً لنفس اللفظ لزم قبحه وإن كان صادقاً وإن كان لازماً لعدم المخبر عنه أو لمجموع الأمرين كان العدم مؤثراً في الأمر الثبوتي وهو محال وإن كان لازماً لأمر خارج عاد التقسيم في ذلك الخارج وهو تسلسل وإن لم يكن ذلك المقتضي الخارج لازماً للخبر الكاذب أمكن مفارقته له فلا يكون الخبر الكاذب قبيحاً.(1/28)
الثالثة لو كان الخبر الكاذب قبيحاً لذاته فالمقتضي له لا بد وأن يكون ثبوتياً ضرورة اقتضائه للقبح الثبوتي وهو إن كان صفة لمجموع حروف الخبر فهو محال لاستحالة اجتماعها في الوجود وإن كان صفة لبعضها لزم أن تكون أجزاء الخبر الكاذب كاذبة ضرورة كون المقتضي لقبح الخبر الكاذب إنما هو الكذب وذلك محال.
الرابعة أنه لو كان قبح الكذب وصفاً حقيقياً لما اختلف باختلاف الأوضاع وقد اختلف حيث إن الخبر الكاذب قد يخرج عن كونه كذباً وقبيحاً بوضع الواضع له أمراً أو نهياً.
الخامسة لو كان الكذب قبيحاً لذاته لما كان واجباً ولا حسناً عندما إذا استفيد به عصمة دم نبي عن ظالم يقصد قتله السادسة لو كان الظلم قبيحاً لكونه ظلماً لكان المعلول متقدماً على علته لأن قبح الظلم الذي هو معلول للظلم متقدم على الظلم ولهذا ليس لفاعله أن يفعله وكان القبح مع كونه وصفاً ثبوتياً ضرورة اتصاف العدم بنقيضه معللاً بما العدم جزء منه وذلك لأن مفهوم الظلم أنه إضرار غير مستحق ولا استحقاق عدم وهو ممتنع.
السابعة أن أفعال العبد غير مختارة له وما يكون كذلك لا يكون حسناً ولا قبيحاً لذاته إجماعاً وبيان كونه غير مختار أن فعله إن كان لازماً له لا يسعه تركه فهو مضطر إليه لا مختار له وإن جاز تركه فإن افتقر في فعله إلى مرجح عاد التقسيم وهو تسلسل ممتنع وإلا فهو اتفاقي لا اختياري.
وهذه الحجج ضعيفة: أما الأولى فلأنه أمكن أن يقال بأن صدقه في الساعة الأخرى حسن ولا يلزم من ملازمة القبيح له قبحه وإن كان قبيحاً من جهة استلزامه للقبيح فلا يمتنع الحكم عليه بالحسن والقبح بالنظر إلى ما اختص به من الوجوه والاعتبارات الموجبة للحسن والقبح كما هو مذهب الجبائية وإن قدر امتناع ذلك فلا يمتنع الحكم بقبح صدقه لما ذكروه وقبح كذبه لكونه كذباً.
وأما الثانية فلأنه لا امتناع من القول بقبح الخبر مشروطاً بعدم زيد في الدار والشرط غير مؤثر وأما الثالثة فلما يلزمها من امتناع اتصاف الخبر بكونه كاذباً وهو محال وأما الرابعة فلأنه لا مانع من أن يكون قبح الخبر الكاذب مشروطاً بالوضع وعدم مطابقته للمخبر عنه مع علم المخبر به كما كان ذلك مشروطاً في كونه كذباً وأما الخامسة فلأن الكذب في الصورة المفروضة غير متعين لخلاص النبي لإمكان الإتيان بصورة الخبر من غير قصد له أو مع التعريض وقصد الإخبار عن الغير وإذا لم يكن متعيناً له كان قبيحاً وإن قدر تعيينه فالحسن والواجب ما لازمه من تخليص النبي لا نفي الكذب واللازم غير الملزوم وغايته أنه لا يأثم به مع قبحه ولا يحرم شرعاً لترجح المانع عليه.
وأما السادسة فلأنه أمكن منع تقدم قبح الظلم عليه ضرورة كونه صفة له بل المتقدم إنما هو الحكم على ما سيوجد من الظلم بكونه قبيحاً شرعاً وعرفاً وأمكن منع تعليل القبح بالعدم وعدم الاستحقاق وإن كان لازماً للظلم فلا يلزم أن يكون داخلاً في مفهومه فأمكن أن يكون الظلم علة القبح بما فيه من الأمر الوجودي والعدم شرطه.
وأما السابعة فلأنه يلزم أن يكون الرب تعالى مضطراً إلى أفعاله غير مختار فيها لتحقق عين ما ذكروه من القسمة في أفعاله وهو محال ويلزم أيضاً منها امتناع الحكم بالحسن والقبح الشرعي على الأفعال والجواب يكون مشتركاً.(1/29)
والمعتمد في ذلك أن يقال لو كان فعل من الأفعال حسناً أو قبيحاً لذاته فالمفهوم من كونه قبيحاً وحسناً ليس هو نفس ذات الفعل وإلا كان من علم حقيقة الفعل عالماً بحسنه وقبحه وليس كذلك لجواز أن يعلم حقيقة الفعل ويتوقف العلم بحسنه وقبحه على النظر كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع وإن كان مفهومه زائداً على مفهوم الفعل الموصوف به فهو صفة وجودية لأن نقيضه وهو لا حسن ولا قبح صفة للعدم المحض فكان عدمياً ويلزم من ذلك كون الحسن والقبح وجودياً وهو قائم بالفعل لكونه صفة له ويلزم من ذلك قيام العرض بالعرض وهو محال وذلك لأن العرض الذي هو محل العرض لا بد وأن يكون قائماً بالجوهر أو بما هو في آخر الأمر قائم بالجوهر قطعاً للتسلسل الممتنع وقيام العرض بالجوهر لا معنى له غير وجوده في حيث الجوهر تبعاً له فيه وقيام أحد العرضين بالآخر لا معنى له سوى أنه في حيث العرض الذي قيل إنه قائم به وحيث ذلك العرض هو حيث الجوهر فهما في حيث الجوهر وقائمان به ولا معنى لقيام أحدهما بالآخر وإن كان قيام أحدهما بالآخر مشروطاً بقيام العرض الآخر به.
فإن قيل: ما ذكرتموه يلزم منه امتناع اتصاف الفعل بكونه ممكناً ومعلوماً ومقدوراً ومذكوراً وهو محال ثم ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيض مدلوله وبيانه من جهة الاستدلال والإلزام: أما الاستدلال فمن وجهين: الأول اتفاق العقلاء على حسن الصدق النافع وقبح الكذب المضر وكذلك حسن الإيمان وقبح الكفران وغير ذلك مع قطع النظر عن كل حالة تقدر من عرف أو شريعة أو غير ذلك فكان ذاتياً والعلم به ضروري الثاني: إنا نعلم أن من استوى في تحصيل غرضه الصدق والكذب وقطع النظر في حقه عن الاعتقادات والشرائع وغير ذلك من الأحوال فإنه يميل إلى الصدق ويؤثره وليس ذلك إلا لحسنه في نفسه وكذلك نعلم أن من رأى شخصاً مشرفاً على الهلاك وهو قادر على إنقاذه فإنه يميل إليه وإن كان بحيث لا يتوقع في مقابلة ذلك حصول غرض دنياوي ولا أخروي بل ربما كان يتضرر بالتعب والتعني وليس ذلك إلا لحسنه في ذاته.
وأما من جهة الإلزام فهو أنه لو كان السمع وورود الأمر والنهي هو مدرك الحسن والقبح لما فرق العاقل بين من أحسن إليه وأساء ولما كان فعل الله حسناً قبل ورود السمع ولجاز من الله الأمر بالمعصية والنهي عن الطاعة ولجاز إظهار المعجزة على يد الكذاب ولا امتنع الحكم بقبح الكذب على الله تعالى قبل ورود السمع ولكان الوجوب أيضاً متوقفاً على السمع ويلزم من ذلك إفحام الرسل من حيث إن النبي إذا بعث وادعى الرسالة ودعا إلى النظر في معجزته فللمدعو أن يقول: لا أنظر في معجزتك ما لم يجب علي النظر ووجوب النظر متوقف على استقرار الشرع بالنظر في معجزتك وهو دور.
والجواب عن الأول: أن ما ذكروه من الصفات فأمور تقديرية فمفهوم نقائضها سلب التقدير والأمور المقدرة ليست من الصفات العرضية فلا يلزم منه قيام العرض بالعرض فإن قيل مثله في الحسن والقبح فقد خرج عن كونه من الصفات الثبوتية للذات وهو المطلوب وعن المعارضة الأولى بمنع إجماع العقلاء على الحسن والقبح فيما ذكروه فإن من العقلاء من لا يعتقد ذلك كبعض الملاحدة ونحن أيضاً لا نوافق على قبح إيلام البهائم من غير جرم ولا غرض وهو من صور النزاع وإن كان ذلك متفقاً عليه بين العقلاء فلا يلزم أن يكون العلم به ضرورياً وإلا لما خالف فيه أكثر العقلاء عادة وإن كان ذلك معلوماً ضرورة فلا يلزم من أن يكون ذاتياً إلا أن يكون مجرداً من أمر خارج وهو غير مسلم على ما يأتي وعن المعارضة الثانية أنه لا يخلو إما أن يقال بالتفاوت بين الصدق والكذب ولو بوجه أو لا يقال به والأول يلزمه إبطال الاستدلال والثاني يمنع معه إيثار أحد الأمرين دون الآخر وعلى هذا إن كان ميله إلى الإنقاذ لتحقق أمر خارج فالاستدلال باطل وإن لم يكن فالميل إلى الإنقاذ لا يكون مسلماً وإن سلم دلالة ما ذكرتموه في حق الشاهد فلا يلزم مثله في حق الغائب إلا بطريق قياسه على الشاهد وهو متعذر لما بيناه في علم الكلام ثم كيف يقاس والإجماع منعقد على التفرقة بتقبيح تمكين السيد لعبيده من الفواحش مع العلم بهم والقدرة على منعهم دون تقبيح ذلك بالنسبة إلى الله تعالى.(1/30)
فإن قيل: إنما لم يقبح من الله ذلك لعدم قدرته على منع الخلق من المعاصي وذلك لأن ما يقع من العبد من المعصية لا بد وأن يكون وقوعها معلوماً للرب وإلا كان جاهلاً بعواقب الأمور وهو محال ومنع الرب تعالى من وقوع ما هو معلوم الوقوع له لا يكون مقدوراً كما ذهب إليه النظام.
قلنا: فما قيل فهو بعينه لازم بالنسبة إلى السيد وأولى أن لا يكون السيد قادراً على المنع ومع ذلك فالفرق واقع والجواب: عن الإلزام الأول: أن مفهوم الحسن والقبح بمعنى موافقة الغرض ومخالفته وبمعنى ما للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله متحقق قبل ورود الشرع لا بالمعنى الذاتي وعن الثاني: أن فعل الله قبل ورود الشرع حسن بمعنى أن له فعله وعن الثالث: أنه لا معنى للطاعة عندنا إلا ما ورد الأمر به ولا معنى للمعصية إلا ما ورد النهي عنه وعلى هذا فلا يمتنع ورود الأمر بما كان منهياً والنهي بما كان مأموراً.
وعن الرابع: أنه إنما يلزم أن لو لم يكن لامتناع إظهار المعجزة على يد الكاذب مدرك سوى القبح الذاتي وليس كذلك وبه اندفاع الإلزام الخامس أيضاً وعن السادس: ما سيأتي في المسألة بعدها وإذا بطل معنى الحسن والقبح الذاتي لزم منه امتناع وجوب شكر المنعم عقلاً وامتناع حكم عقلي قبل ورود الشرع إذ هما مبنيان على ذلك غير أن عادة الأصوليين جارية لفرض الكلام في هاتين المسألتين إظهاراً لما يختص بكل واحد من الإشكالات والمناقضات.
المسألة الثانية مذهب أصحابنا وأهل السنة أن شكر المنعم واجب سمعاً لا عقلاً خلافاً للمعتزلة في الوجوب العقلي احتج أصحابنا على امتناع إيجاب العقل لذلك بأن قالوا لو كان العقل موجباً فلا بد وأن يوجب لفائدة وإلا كان إيجابه عبثاً وهو قبيح ويمتنع عود الفائدة إلى الله تعالى لتعاليه عنها وإن عادت إلى العبد فإما أن تعود إليه في الدنيا أو في الأخرى.
الأول محال فإن شكر الله تعالى عند الخصوم ليس هو معرفة الله تعالى لأن الشكر فرع المعرفة وإنما هو عبارة عن إتعاب النفس وإلزام المشقة لها بتكليفها تجنب المستقبحات العقلية وفعل المستحسنات العقلية وهو فرع التحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه فلم يبق سوى التعب والعناء المحض الذي لا حظ للنفس فيه.
والثاني محال لعدم استقلال العقل بمعرفة الفائدة الأخروية دون إخبار الشارع بها ولا إخبار وأيضاً فإنه لا معنى لكون الشيء واجباً سوى ترجح فعله على تركه وبالعقل يعرف الترجيح لا أنه مرجح فلا يكون موجباً إذ الموجب هو المرجح وإذا بطل الإيجاب العقلي تعين الإيجاب الشرعي ضرورة انعقاد الإجماع على حصر الوجوب في الشرع والعقل فإذا بطل أحد القسمين تعين الثاني منهما.
فإن قيل: شكر المنعم معلوم لكل أحد ضرورة فما ذكرتموه استدلال على إبطال أمر ضروري فلا يقبل وإن لم يكن كذلك فلم قلتم إن إيجاب العقل للشكر لا بد وأن يكون لفائدة قولكم حتى لا يكون عبثاً قبيحاً فهذا منكم لا يستقيم مع إنكار القبح العقلي كيف وإن تلك الفائدة إما أن تكون واجبة التحصيل وإما أن لا تكون كذلك: فإن كانت واجبة التحصيل استدعت فائدة أخرى وهو تسلسل ممتنع وإن لم تكن واجبة فما يوجبه العقل بها أولى أن لا يكون واجباً وإن كان لفائدة فما المانع أن تكون الفائدة في الشكر نفس الشكر لا أمراً خارجاً عنه كما أن تحصيل المصلحة ودفع المفسدة عن النفس مطلوب لنفسه لا لغيره وإن كان لا بد من فائدة خارجة عن كون الشكر شكراً فما المانع أن تكون الفائدة الأمن من احتمال العقاب بتقدير عدم الشكر على ما أنعم الله به عليه من النعم إذ هو محتمل ولا يخلو العاقل عن خطور هذا الاحتمال بباله وذلك من أعظم الفوائد وإن سلم دلالة ما ذكرتموه على امتناع الإيجاب العقلي لكنه بعينه دال على امتناع الإيجاب الشرعي.(1/31)
والجواب أن ذاك يكون مشتركاً وإن لم يكن كذلك ولكن ما ذكرتموه معارض بما يدل على جواز الإيجاب العقلي وذلك إنه لم يكن العقل موجباً لانحصرت مدارك الوجوب في الشرع لما ذكرتموه في الإجماع وذلك محال لما يلزم عنه من إفحام الرسل وإبطال مقصود البعثة وذلك أن النبي إذا ادعى الرسالة وتحدي بالمعجزة ودعا الناس إلى النظر فيها لظهور صدقه فللمدعو أن يقول: لا أنظر في معجزتك إلا أن يكون النظر واجباً علي شرعاً ووجوب النظر شرعاً متوقف على استقرار الشرع وذلك متوقف على وجوب النظر وهو دور ممتنع.
والجواب: لا نسلم أن العلم الضروري بما ذكروه عقلاً إذ هو دعوى محل النزاع وإن سلم ذلك لكن بالنسبة إلى من ينتفع بالشكر ويتضرر بعدمه وأما بالنسبة إلى الله تعالى مع استحالة ذلك في حقه فلا قولهم: لم قلتم برعاية الفائدة قلنا: لما ذكرناه.
قولهم: هذا منكم لا يستقيم قلنا: إنما ذكرنا ذلك بطريق الإلزام للخصم لكونه قائلاً به وبه يبطل ما ذكروه في إبطال رعاية الفائدة كيف وقد أمكن أن يقال بوجوب تحصيل الحكمة لحكمة هي نفسها كما ذكروه من جلب المصلحة ودفع المفسدة عن النفس ولا يمكن أن يقال مثل ذلك في فعل الشكر فإن نفس الفعل ليس هو الحكمة المطلوبة من إيجاده ولو أمكن ذلك لأمكن أن يقال مثله في جميع الأفعال وهو خلاف الإجماع وإذا لم تكن الفائدة المطلوبة من إيجاده بقي التقسيم بحالة.
قولهم: ما المانع أن تكون الفائدة هي الأمن على ما ذكروه فهو مبني على امتناع خلو العاقل عن خطور ما ذكروه من الاحتمال بباله وهو غير مسلم على ما هو معلوم من أكثر العقلاء شاهداً وبتقدير صحة ذلك فما ذكروه معارض باحتمال خطور العقاب بباله على شكر الله تعالى وإتعابه لنفسه وتصرفه فيها مع أنها مملوكة لله تعالى دون إذنه من غير منفعة ترجع إليه ولا إلى الله تعالى وليس أحدهما أولى من الآخر بل ربما كان هذا الاحتمال راجحاً وذلك من جهة أنه قد تقرر في العقول أن من أخذ في التقرب والخدمة إلى بعض الملوك العظماء بتحريك أنملته في كسر بيته وإظهار شكره بين العباد في البلاد على إعطائه لقمة من الخبز مع استغنائه واستغناء الملك عنها فإنه يعد مستهزئاً بذلك الملك مستحقاً للعقاب على صنعه.
ولا يخفى أن شكر الشاكرين بالنسبة إلى جلال الله تعالى دون تحريك الأنملة بالنسبة إلى جلال الملك وأن ما أنعم الله به على العبيد لعدم تناهي ملكه وتناهي ملك غيره دون تلك اللقمة فكان المتعاطي لخدمة الله وشكره على ما أنعم به عليه به أولى بالذم واستحقاق العقاب ولولا ورود الشرع بطلب ذلك من العبيد وحثهم عليه لما وقع الإقدام عليه.
وما يقال من حال المشتغل بالشكر والخدمة أرجى حالاً من المعرض عن ذلك عرفاً فكان أولى فهو مسلم في حق من ينتفع بالخدمة والشكر ويتضرر بعدمهما والباري تعالى منزه عن ذلك فلا يطرد ما ذكروه في حقه.
قولهم: ما ذكرتموه لازم عليكم في الإيجاب الشرعي ليس كذلك فإن الفائدة الأخروية وإن لم يستقل العاقل بمعرفتها فالله تعالى عالم بها كيف وإن ذلك إنما يلزم منا أن لو اعتبرنا الحكمة في الإيجاب الشرعي وليس ذلك على ما عرف من أصلنا.
وأما المعارضة بما ذكروه من إفحام الرسل فجوابه من وجهين: الأول منع توقف استقرار الشرع على نظر المدعو في المعجزة بل مهما ظهرت المعجزة في نفسها وكان صدق النبي فيما ادعاه ممكناً وكان المدعو عاقلاً متمكناً من النظر والمعرفة فقد استقر الشرع وثبت والمدعو مفرط في حق نفسه الثاني إن الدور لازم على القائل بالإيجاب العقلي لأن العقل بجوهره غير موجب دون النظر والاستدلال وإلا لما خلا عاقل عن ذلك وعند ذلك فللمدعو أن يقول لا أنظر في معجزتك حتى أعرف وجوب النظر ولا أعرف وجوب النظر حتى أنظر وهو دور مفحم والجواب إذ ذاك يكون واحداً وعلى كل تقدير فالمسألة ظنية لا قطعية.
المسألة الثالثة(1/32)
مذهب الأشاعرة وأهل الحق أنه لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود الشرع وأما المعتزلة فإنهم قسموا الأفعال الخارجة عن الأفعال الاضطرارية إلى ما حسنه العقل وإلى ما قبحه وإلى ما لم يقض العقل فيه بحسن ولا قبح فما حسنه العقل إن استوى فعله وتركه في النفع والضرر سموه مباحاً وإن ترجح فعله على تركه فإن لحق الذم بتركه سموه واجباً وسواء كان مقصوداً لنفسه كالإيمان أو لغيره كالنظر المفضي إلى معرفة الله تعالى وإن لم يلحق الذم بتركه سموه مندوباً وما قبحه العقل فإن التحق الذم بفعله سموه حراماً وإلا فمكروه وما لم يقض العقل فيه بحسن ولا قبح فقد اختلفوا فيه فمنهم من حظره ومنهم من أباحه ومنهم من وقف عن الأمرين.
احتجت الأشاعرة بالمنقول والمعقول: أما المنقول فقول الله تعالى: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " " الإسراء 15 " ووجه الدلالة منه أنه أمن من العذاب قبل بعثه الرسل وذلك يستلزم انتفاء الوجوب والحرمة قبل البعثة وإلا لما أمن من العذاب بتقدير ترك الواجب وفعل المحرم إذ هو لازم لهما وأيضاً قوله تعالى " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " " النساء 165 " ومفهومه يدل على الاحتجاج قبل البعثة ويلزم من ذلك نفي الموجب والمحرم.
وأما من جهة المعقول فلأن ثبوت الحكم إما بالشرع أو بالعقل بالإجماع ولا شرع قبل ورود الشرع والعقل غير موجب ولا محرم لما سبق في المسألة المتقدمة فلا حكم.
فإن قيل: أما الآية الأولى فلا حجة فيها فإنه ليس العذاب من لوازم ترك الواجب وفعل المحرم ولهذا يجوز انفكاكه عنهما بناء على عفو أو شفاعة فنفيه قبل ورود الشرع لا يلزم منه نفيهما سلمنا أنه لازم لهما لكن بعد ورود الشرع لا قبله وعلى هذا فلا يلزم نفيهما من نفيه قبل ورود الشرع سلمنا أنه لازم لهما لكنه لازم للواجب والمحرم شرعاً أو عقلاً: الأول مسلم والثاني ممنوع وعلى هذا فاللازم من نفيه قبل الشرع نفي الواجب والمحرم شرعاً لا عقلاً سلمنا ذلك ولكن ليس في الآية ما يدل على نفي الإباحة والوقف لعدم ملازمة العذاب لشيء من ذلك إجماعاً.
وأما الآية الأخرى " وإن سلمنا كون المفهوم حجة " فالاعتراض على الآية الأولى بعينه وارد هاهنا وأما ما ذكرتموه من المعقول فقد سبق ما فيه كيف وأن ما ذكرتموه من الدلالة على نفي الحكم حكم بنفي الحكم فكان متناقضاً.
والجواب عن السؤال الأول أن وقوع العذاب بالفعل وإن لم يكن لازماً من ترك الواجب وفعل المحرم فلازمه عدم الأمن من ذلك لعدم تحقق الواجب والمحرم دونه وهذا اللازم منتف قبل ورود الشرع على ما دلت عليه الآية فلا ملزوم وبه يندفع ما ذكروه من السؤال الثاني والثالث.
والتمسك بالآية إنما هو في نفي الوجوب والحرمة قبل لا غير ونفي ما سوى ذلك فإنما يستفاد من دليل آخر على ما سنبينه وبه اندفع السؤال الرابع.
وما ذكروه على الدليل العقلي فقد سبق أيضاً جوابه ونفي الحكم وإن كان حكماً غير أن المنفي ليس هو الحكم مطلقاً ليلزم التناقض بل نفي ما أثبتوه من الأحكام المذكورة فلا تناقض وأما القائلون بالإباحة إن فسروها بنفي الحرج عن الفعل والترك فلا نزاع في هذا المعنى وإنما النزاع في صحة إطلاق لفظ الإباحة بازائه ولهذا فإنه يمتنع إطلاق لفظ الإباحة على أفعال الله تعالى مع تحقق ذلك المعنى فيها وإن فسروها بتخيير الفاعل بين الفعل والترك فإما أن يكون ذلك التخيير للفاعل من نفسه وإما من غيره فإن كان الأول فيلزم منه تسمية أفعال الله مباحة لتحقق ذلك في حقه وهو ممتنع بالإجماع وإن كان الثاني فالمخير إما الشرع وإما العقل بالإجماع ولا شرع قبل ورود الشرع وتخيير العقل عندهم إنما يكون فيما استوى فعله وتركه من الأفعال الحسنة عقلاً أو فيما لم يقض العقل فيه بحسن ولا قبح وهو فرع الحسن والقبح العقلي وقد أبطلناه وإن فسروه بأمر آخر فلا بد من تصويره.
فإن قيل: المباح هو المأذون في فعله وقد ورد دليل الإذن من الله تعالى قبل ورود الشرع وإن لم ترد صورة الإذن وبيانه من وجهين:(1/33)
الأول هو أن الله تعالى خلق الطعوم من المأكولات والذوق فينا وأقدرنا عليها وعرفنا بالأدلة العقلية أنها نافعة لنا غير مضرة ولا ضرر عليه في الانتفاع بها وهو دليل الإذن منه لنا في ذلك وصار هذا كما لو قدم إنسان طعاماً بين يدي إنسان على هذه الصفات فإن العقلاء يقضون بكونه قد أذن له فيه.
الثاني أن خلقه للطعوم في الأجسام مع إمكان ألا يخلقها لا بد له من فائدة نفياً للعبث عنه وليست تلك الفائدة عائدة إلى الله تعالى لتعاليه عنها فلا بد من عودها إلى العبد وليست هي الإضرار ولا ما هو خارج عن الإضرار والانتفاع إذ هو خلاف الإجماع فكانت فائدتها الانتفاع بها وهو دليل الإذن في إدراكها وسواء كان الانتفاع بها بجهة الالتذاذ بها وتقوم البنية أو بجهة تجنبها لنيل الثواب أو الاستدلال بها على معرفة الله تعالى لتوقف ذلك كله على إدراكها واحتمال وجود مفسدة فيه مع عدم الاطلاع عليها لا يكون مانعاً من الإذن والحكم بالإباحة بدليل الاستضاءة بسراج الغير والاستظلال بحائطه.
قلنا: أما الوجه الأول فحاصله يرجع إلى قياس الغائب على الشاهد وقد أبطلناه وأما الثاني فمبني على وجوب رعاية الحكمة في أفعاله تعالى وهو ممنوع على ما عرف من أصلنا ثم إذا كان مأذوناً فيه من جهة الشارع فإباحته شرعية لا عقلية.
وأما القائلون بالوقف إن عنوا به توقف الحكم بهذه الأشياء على ورود السمع فحق وإن عنوا به الإحجام عن الحكم بالوجوب أو الحظر أو الإباحة لتعارض أدلتها ففاسد لما سبق.
الأصل الثاني
في حقيقة الحكم الشرعي وأقسامه
وما يتعلق به من المسائل.
ويشتمل على مقدمة وستة فصول أما المقدمة ففي بيان حقيقة الحكم الشرعي وأقسامه أما حقيقته فقد قال بعض الأصوليين: إنه عبارة عن خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين وقيل إنه عبارة عن خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد وهما فاسدان لأن قوله تعالى: " والله خلقكم وما تعملون " " الصافات 96 " وقوله تعالى: " خالق كل شيء " " الأنعام 62 " خطاب من الشارع وله تعلق بأفعال المكلفين والعباد وليس حكماً شرعياً بالاتفاق وقال آخرون: إنه عبارة عن خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير وهو غير جامع: فإن العلم بكون أنواع الأدلة حججاً وكذلك الحكم بالملك والعصمة ونحوه أحكام شرعية وليست على ما قيل.
والواجب أن نعرف معنى الخطاب أولاً ضرورة توقف معرفة الحكم الشرعي عليه فنقول: قد قيل فيه: هو الكلام الذي يفهم المستمع منه شيئاً وهو غير مانع فإنه يدخل فيه الكلام الذي لم يقصد التكلم به إفهام المستمع فإنه على ما ذكر من الحد وليس خطاباً والحق إنه اللفظ المتواضع عليه المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه.
فاللفظ احتراز عما وقعت المواضعة عليه من الحركات والإشارات المفهمة والمتواضع عليه احتراز عن الألفاظ المهملة والمقصود بها الإفهام احتراز عما ورد على الحد الأول وقولنا لمن هو متهيئ لفهمه احتراز عن الكلام لمن لا يفهم كالنائم والمغمى عليه ونحوه.
وإذا عرف معنى الخطاب فالأقرب أن يقال في حد الحكم الشرعي أنه خطاب الشارع المفيد فائدة شرعية.
فقولنا خطاب الشارع احتراز عن خطاب غيره والقيد الثاني احتراز عن خطابه بما لا يفيد فائدة شرعية كالإخبار عن المعقولات والمحسوسات ونحوها وهو مطرد منعكس لا غبار عليه.
وإذا عرف معنى الحكم الشرعي فهو إما أن يكون متعلقاً بخطاب الطلب والاقتضاء أو لا يكون: فإن كان الأول فالطلب إما للفعل أو للترك وكل واحد منهما إما جازم أو غير جازم فما تعلق بالطلب الجازم للفعل فهو الوجوب وما تعلق بغير الجازم منه فهو الندب وما تعلق بالطلب الجازم للترك فهو الحرمة وما تعلق بغير الجازم منه فهو الكراهة وإن لم يكن متعلقاً بخطاب الاقتضاء فإما أن يكون متعلقاً بخطاب التخيير أو غيره فإن كان الأول فهو الإباحة وإن كان الثاني فهو الحكم الوضعي كالصحة والبطلان ونصب الشيء سبباً أو مانعاً أو شرطاً وكون الفعل عبادة وقضاء وأداء وعزيمة ورخصة إلى غير ذلك فلنرسم في كل قسم منها فصلاً وهي ستة فصول: الفصل الأول في حقيقة الوجوب وما يتعلق به من المسائل(1/34)
أما حقيقة الوجوب فاعلم أن الوجوب في اللغة قد يطلق بمعنى السقوط ومنه يقال: وجبت الشمس إذا سقطت ووجب الحائط إذا سقط وقد يطلق بمعنى الثبوت والاستقرار ومنه قوله عليه السلام " إذا وجب المريض فلا تبكين باكية " أي استقر وزال عنه التزلزل والاضطراب.
وأما في العرف الشرعي فقد قيل: هو ما يستحق تاركه العقاب على تركه وهو إن أريد بالاستحقاق ما يستدعي مستحقاً عليه فباطل لعدم تحقق ذلك بالنسبة إلى الله تعالى على ما بيناه في علم الكلام وبالنسبة إلى أحد من المخلوقين بالإجماع وإن أريد به أنه لو عوقب لكان ذلك ملائماً لنظر الشارع فلا بأس به.
وقيل: هو ما توعد بالعقاب على تركه وهو باطل لأن التوعد بالعقاب على الترك خبر ولو ورد لتحقق العقاب بتقدير الترك لاستحالة الخلف في خبر الصادق وإن كان ذلك في حق غيره يعد كرماً وفضيلة لما يلزمه من المصلحة الراجحة وليس كذلك لجواز العفو عنه.
وقيل: هو الذي يخاف العقاب على تركه ويبطل بالمشكوك في وجوبه كيف وإن هذه الحدود ليست حداً للحكم الشرعي وهو الوجوب بل للفعل الذي هو متعلق الوجوب.
والحق في ذلك أن يقال: الوجوب الشرعي عبارة عن خطاب الشارع بما ينتهض تركه سبباً للذم شرعاً في حالة ما فالقيد الأول احتراز عن خطاب غير الشارع والثاني احتراز عن بقية الأحكام والثالث احتراز عن ترك الواجب الموسع أول الوقت فإنه سبب للذم بتقدير إخلاء جميع الوقت عنه وإخلاء أول الوقت من غير عزم على الفعل بعده وعن ترك الواجب المخير فإنه سبب للذم بتقدير ترك البدل وليس سبباً له بتقدير فعل البدل وعلى هذا إن قلنا إن الأذان وصلاة العيد فرض كفاية واتفق أهل بلدة على تركه قوتلوا وإن قلنا إنه سنة فلا.
وبالجملة فلا بد في الوجوب من ترجيح الفعل على الترك بما يتعلق به من الذم أو الثواب الخاص به فإنه لا تحقق للوجوب مع تساوي طرفي الفعل والترك في الغرض وربما أشار القاضي أبو بكر إلى خلافه وإذا عرف معنى الوجوب الشرعي فلا بد من الإشارة إلى ما يتعلق به من المسائل وهي سبع.
المسألة الأولى هل الفرض غير الواجب أو هو هو أما في اللغة فالواجب هو الساقط والثابت كما سبق تعريفه وأما الفرض فقد يطلق في اللغة بمعنى التقدير ومنه قولهم: فرضتا القوس للحزتين اللتين في سيتيه موضع الوتر وفرضة النهر وهو موضع اجتماع السفن ومنه قولهم: فرض الحاكم النفقة أي قدرها وقد يطلق بمعنى الإنزال ومنه قوله تعالى " إن الذي فرض عليك القرآن " " القصص 85 " أي أنزل وقد يطلق بمعنى الحل ومنه قوله تعالى: " ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له " " الأحزاب 38 " أي أحل له.
وأما في الشرع فلا فرق بين الفرض والواجب عند أصحابنا إذ الواجب في الشرع على ما ذكرناه عبارة عن خطاب الشارع بما ينتهض تركه سبباً للذم شرعاً في حالة ما وهذا المعنى بعينه متحقق في الفرض الشرعي وخص أصحاب أبي حنيفة اسم الفرض بما كان من ذلك مقطوعاً به واسم الواجب بما كان مظنوناً مصيراً منهم إلى أن الفرض هو التقدير والمظنون لم يعلم كونه مقدراً علينا بخلاف المقطوع فلذلك خص المقطوع باسم الفرض دون المظنون والأشبه ما ذكره أصحابنا من حيث إن الاختلاف في طريق إثبات الحكم حتى يكون هذا معلوماً وهذا مظنوناً غير موجب لاختلاف ما ثبت به.(1/35)
ولهذا فإن اختلاف طرق الواجبات في الظهور والخفاء والقوة والضعف بحيث إن المكلف يقتل بترك البعض منها دون البعض لا يوجب اختلاف الواجب في حقيقته من حيث هو واجب وكذا اختلاف طرق النوافل غير موجب لاختلاف حقائقها وكذلك اختلاف طرق الحرام بالقطع والظن غير موجب لاختلافه في نفسه من حيث هو حرام كيف وإن الشارع قد أطلق اسم الفرض على الواجب في قوله تعالى " فمن فرض فيهن الحج " " البقرة 197 " أي أوجب والأصل أن يكون مشعراً به حقيقة وأن لا يكون له مدلول سواه نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ والذي يؤيد إخراج قيد القطع عن مفهوم الفرض إجماع الأمة على إطلاق اسم الفرض على ما أدى من الصلوات المختلف في صحتها بين الأئمة بقولهم: أد فرض الله تعالى والأصل في الإطلاق الحقيقة وما ذكره الخصوم في تخصيص اسم الفرض المقطوع به فمن باب التحكم حيث إن الفرض في اللغة هو التقدير مطلقاً كان مقطوعاً به أو مظنوناً فتخصيص ذلك بأحد القسمين دون الآخر بغير دليل لا يكون مقبولاً وبالجملة فالمسألة لفظية.
المسألة الثانية لا فرق عند أصحابنا بين واجب العين والواجب على الكفاية من جهة الوجوب لشمول حد الواجب لهما خلافاً لبعض الناس مصيراً منه إلى أن واجب العين لا يسقط بفعل الغير بخلاف واجب الكفاية وغايته الاختلاف في طريق الإسقاط وذلك لا يوجب الاختلاف في الحقيقة كالاختلاف في طريق الثبوت كما سبق ولهذا فإن من ارتد وقتل فقتله بالردة وبالقتل واجب ومع ذلك فأحد الواجبين يسقط بالتوبة دون الواجب الآخر ولم يلزم من ذلك اختلافهما.
المسألة الثالثة اختلفوا في الواجب المخير كما في خصال الكفارة: فمذهب الأشاعرة والفقهاء أن الواجب منها واحد لا بعينه ويتعين بفعل المكلف وأطلق الجبائي وابنه القول بوجوب الجميع على التخيير.
حجة أصحابنا أنه لا يخلو إما أن يقال بوجوب الجميع أو بوجوب واحد والواحد إما معين وإما غير معين لا جائز أن يقال بالأول لخمسة أوجه: الأول أنه لو كان التخيير موجباً للجميع لكان الأمر بإيجاب عتق عبد من العبيد على طريق التخيير موجباً للجميع وهو محال.
الثاني أن ذلك مما يمنع من التخيير ولهذا فإنه لا يحسن أن يقول القائل لغيره أوجبت عليك صلاتين فصل أيهما شئت واترك أيهما شئت كما لا يحسن أن يقول: أوجبت عليك الصلاة وخيرتك في فعلها وتركها لما فيه من رفع الواجب وليس ذلك من لغة العرب في شيء.
الثالث أن الواجب ما لا يجوز تركه مع القدرة عليه والأمر فيما نحن فيه بخلافه.
الرابع أن الخصوم قد وافقوا على أنه لو أتى بالجميع أو ترك الجميع فإنه لا يثاب ولا يعاقب على الجميع.
الخامس أنه لو كان الجميع واجباً لنوي نية أداء الواجب في كل واحدة من الخصال عندما إذا فعل الجميع وهو خلاف الإجماع ولا جائز أن يقال بأن الواجب واحد معين إذ هو خلاف مقتضى التخيير ولأنه كان يلزم أن لا يحصل الإجزاء بتقدير أداء غيره مع القدرة عليه وهو خلاف الإجماع فلم يبق غير الإبهام.
غير أن أبا الحسين البصري قد تكلف رد الخلاف في هذه المسألة إلى اللفظ دون المعنى وذلك أنه قال: معنى إيجاب الجميع أن الله تعالى حرم ترك الجميع لا كل واحد واحد منها بتقدير فعل المكلف لواحد منها مع تفويض فعل أي واحد منها كان إلى المكلف وهذا هو بعينه مذهب الفقهاء غير أن ما ذكره في تفسير وجوب الجميع وإن كان رافعاً للخلاف غير أنه خلاف ما نقله الأئمة عن الجبائي وابنه من إطلاق القول بوجوب الجميع والدلائل المشعرة بذلك فلننسج في الحجاج على منوالهم.(1/36)
فإن قيل: ما ذكرتموه من الدليل إنما يلزم أن لو كانت آية التكفير وهي قوله تعالى: " فكفارته إطعام عشرة مساكين " " المائدة 89 " الآية دالة على تخيير كل واحد واحد من الأمة بين خصال الكفارة بجهة الإيجاب وما المانع أن يكون ذلك إخباراً عما يوجد من الكفارة وتقديره فما يوجد من الكفارة هو إطعام من حانث أو كسوة من حانث آخر أو عتق من حانث آخر سلمنا دلالتها على الإيجاب لكن لا أنها خطاب بالتخيير لكل واحد واحد من الأمة بل المراد بها إيجاب الإطعام على البعض والكسوة على البعض والعتق على البعض فكأنه قال: فكفارته إطعام عشرة مساكين لبعضهم أو الكسوة لبعض آخر أو العتق لبعض آخر سلمنا دلالة ما ذكرتموه لكنه معارض بما يدل على إبطال مدلوله وبيانه من أحد عشر وجهاً.
الأول أن الخصال المذكورة إما أن تكون مستوية فيما يرجع إلى الصفات المقتضية للوجوب أو أنها مختصة بالبعض دون البعض فإن كان الأول فيلزم التسوية في الوجوب بين الكل وإن كان الثاني كان ذلك البعض هو الواجب بعينه دون غيره.
الثاني أن الواجب ما تعلق به خطاب الشرع بالإيجاب وخطاب الشرع إنما يتعلق بالمعين دون المبهم ولهذا فإنه يمتنع تعلق الإيجاب بأحد شخصين لا بعينه فكذلك بفعل أحد أمرين لا يعينه وعند ذلك فيلزم تعلقه بالكل أو ببعض منه معين.
الثالث أن الإيجاب طلب والطلب يستدعي مطلوباً معيناً لما تحقق قبل والمعين إما الكل أو البعض.
الرابع أنه لو فعل العبد الجميع فإنه يثاب ثواب من فعل واجباً فسببه يجب أن يكون مقدوراً للمكلف معيناً لاستحالة الثواب على ما لا يكون من فعل العبد واستحالة إسناد المعين إلى غير معين والمبهم ليس كذلك فلزم أن يكون الثواب على الجملة أو بعض معين منها.
الخامس أنه لو ترك الجميع فإنه يعاقب عقاب من ترك واجباً منها وذلك يدل على أن الجميع واجب أو بعض منه معين كما سبق.
السادس أنه كان الواجب واحداً لا بعينه من الخصال لكان منها شيء لا بعينه غير واجب والتخيير بين الواجب وما ليس بواجب محال لما فيه من رفع حقيقة الواجب.
السابع أنه لو كان الواجب واحداً لا بعينه فعند التكفير بالجميع إما أن يسقط الفرض بمجموعها أو بكل واحد منها أو بواحد منها فإن كان الأول أو الثاني فالكل واجب وإن كان الثالث فذلك هو الفرض.
الثامن ويخص إيجاب الجميع أنه لو كان الواجب واحداً لنصب الله عليه دليلاً ولم يكله إلى تعيين العبد لعدم معرفته بما فيه المصلحة كما في سائر الواجبات فحيث لم يعين دل على أن الكل واجب.
التاسع أنه إذا كان الواجب واحداً لا بعينه ويتعين بفعل المكلف فالباري تعالى يعلم ما سيعينه العبد فيكون الواجب معيناً عند الله تعالى وإن لم يكن معيناً عند العبد قبل الفعل ويلزم من ذلك التخيير بين الواجب المعين وبين ما ليس واجباً وهو محال فثبت أن الجميع واجب.
العاشر أنه لو كان الواجب واحداً لا بعينه فكفر ثلاثة كل واحد بواحد من الخصال غير ما كفر به الآخر لكان الواحد منهم لا بعينه هو المكفر بالواجب دون الباقين وحيث وقع ما فعله كل واحد موقع الواجب كان الجميع واجباً.
الحادي عشر أن الوجوب قد يعم عدداً من المتعبدين ويسقط بفعل الواحد منهم كفرض الكفاية فلا يمتنع أن يعم الوجوب عدداً من العبادات ويسقط بفعل واحدة منها والجواب عن السؤال الأول: أن الإجماع من الأمة منعقد على أن المراد من الآية الوجوب لا نفس الإخبار.
وعن الثاني أن حمل الآية على ما ذكروه مع مخالفته لإجماع السلف مما يحوج إلى إضمارات كثيرة في الآية وهي ما قدروه من البعض في قولهم فكفارته إطعام عشرة مساكين لبعضهم وكذلك في الكسوة والعتق وهو على خلاف الأصل من غير حاجة كيف وإنه لو كان كما ذكروه لقال فكفارته إطعام عشرة مساكين وكسوتهم وتحرير رقبة لوجوب الخصال الثلاث على الجميع بالنسبة إلى الحانثين المذكورين.(1/37)
وعن المعارض الأول أنه مبني على وجوب رعاية المصلحة في أحكام الله تعالى وهو غير مسلم كيف وإنه يلزم منه أن يكون الأمر على ما ذكروه في عقد الإمامة لأحد الإمامين الصالحين وتزويج المرأة الطالبة للنكاح من أحد الكفؤين الخاطبين وفي إيجاب عتق عبد من العبيد وهو مخالف للإجماع وحيث تعذر الوجوب على أحد شخصين لا بعينه إنما كان لتوقف تحقق الوجوب على ارتباطه بالذم والعقاب على ما سبق في تحديده وذم أحد شخصين لا بعينه متعذر بخلاف الذم على أحد فعلين لا بعينه وبهذه الصور يكون اندفاع ما ذكروه من المعارض الثاني وما بعده إلى آخر التاسع.
وعن العاشر أن الواجب على كل واحد من المكفرين خصلة من الخصال الثلاث لا بعينها وقد أتي بما وجب عليه وسقط به الفرض عنه فكان ما أتى به كل واحد واجباً لا أن الواجب على الكل خصلة واحدة لا بعينها ليلزم ما قيل.
وعن الحادي عشر أنا لا نمنع سقوط الواجب دون أدائه ولكن لا يلزم من ذلك أن تكون خصال الكفارة كلها واجبة كما كان الوجوب ثابتاً على أعداد المكلفين في فرض الكفاية لأن الإجماع منعقد على تأثيم الكل بتقدير اتفاقهم على الترك ولا كذلك في خصال الكفارة وعلى هذه القاعدة لو قال لزوجتيه إحداكما طالق فالمطلقة منهما واحدة لا بعينها وإن وجب الكف عنهما والتخيير في التعيين إلى المطلق كما لو قيل في خصال الكفارة من غير فرق ولا يخفى وجه الحجاج من الطرفين.
المسألة الرابعة إذا كان وقت الواجب فاضلاً عنه كصلاة الظهر مثلاً فمذهب أصحابنا وأكثر الفقهاء وجماعة من المعتزلة كالجبائي وابنه وغيرهما أنه واجب موسع وأن جميع أجزاء ذلك الوقت وقت لأداء ذلك الواجب فيه فيما يرجع إلى سقوط الفرض به وحصول مصلحة الوجوب وهل للواجب في أول الوقت ووسطه بتقدير تأخير الواجب عنه إلى ما بعده بدل اختلف هؤلاء فيه فأثبته أصحابنا والجبائي وابنه وهو العزم على الفعل وأنكره بعض المعتزلة كأبي الحسين البصري وغيره وقال قوم: وقت الوجوب هو أول الوقت وفعل الواجب بعد ذلك يكون قضاء وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: وقت الوجوب هو آخر الوقت لكن اختلفوا في وقوع الفعل قبل ذلك: فمنهم من قال: هو نفل يسقط به الفرض ومنهم من قال كالكرخي: إن المكلف إذا بقي بنعت المكلفين إلى آخر الوقت كان ما فعله واجباً وإلا فنفل وحكي عنه أن الواجب يتعين بالفعل في أي وقت كان.
حجة القائلين بالوجوب الموسع أن الأمر بصلاة الظهر وهو قوله تعالى " أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل " " الإسراء 78 " عام لجميع أجزاء الوقت المذكور وليس المراد به تطبيق أول فعل الصلاة على أول الوقت وآخره على آخره ولا إقامة الصلاة في كل وقت من أوقاته حتى لا يخلو جزء منه عن صلاة إذ هو خلاف الإجماع ولا تعيين جزء منه لاختصاصه بوقوع الواجب فيه إذ لا دلالة للفظ عليه فلم يبق إلا أنه أراد به أن كل جزء منه صالح لوقوع الواجب فيه ويكون المكلف مخيراً في إيقاع الفعل في أي جزء شاء منه ضرورة امتناع قسم آخر وهو المطلوب ويدل على إرادة هذا الاحتمال حصول الإجزاء عن الواجب بأداء الصلاة في أي وقت قدر منه فإنه يدل على حصول مقصود الواجب من الكل وأن الفعل في كل وقت قائم مقامه في غيره من الأوقات فيكون واجباً وإلا فلو لم يكن محصلاً لمقصود الواجب فيلزم منه إما فوات مصلحة الواجب بتقدير فعل الصلاة في غير وقت الوجوب فتكون الصلاة حراماً لكونها مفوتة لمصلحة الواجب وهو محال وإما بقاء مصلحة الوجوب ويلزم منه وجوب فعل الصلاة لبقاء مقصودها الموجب لها بعد فعل الصلاة في الوقت المفروض وهو خلاف الإجماع.(1/38)
فإن قيل ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيض مطلوبكم وذلك أنه لو كان الفعل واجباً في أول الوقت أو وسطه لما جاز تركه مع القدرة عليه إذ هو حقيقة الواجب وإنما يتحقق ذلك بالنسبة إلى آخر الوقت لانعقاد الإجماع على لحوق الإثم بتركه فيه بتقدير عدم فعله قبله وأما قبل ذلك فالفعل فيه ندب لكونه مثاباً مع جواز تركه ويسقط الفرض به في آخر الوقت ولا يمتنع سقوط الفرض عن المكلف بفعل ما ليس بفرض كالزكاة المعجلة قبل الحول سلمنا أنه ليس بنفل ولكن ما المانع من القول بتعيين وقت الوجوب بالفعل أو تعيين الوقت الأول للوجوب وما بعده قضاء أو الحكم بكونه واجباً بتقدير بقائه بصفة المكلفين إلى آخر الوقت كما قيل من المذاهب السابقة.
والجواب عن جواز ترك الفعل في أول الوقت أنه لا يدل على عدم الوجوب مطلقاً بل على عدم الوجوب المضيق وأما الموسع فلا والفرق بين المندوب والواجب الموسع جواز ترك المندوب مطلقاً والموسع بشرط الفعل بعده في الوقت الموسع وحاصله راجع إلى أن الواجب على المكلف إيقاع الفعل في أي وقت شاء من أجزاء ذلك الوقت الموسع على طريق الإبهام والتعيين إلى المكلف كما سبق في خصال الكفارة أو بشرط العزم على الفعل بعده ثم لو كان نفلاً لما سقط به الفرض لما سبق والزكاة المعجلة واجبة مؤجلة بعد انعقاد سببها وهو ملك النصاب لا أنها نافلة ولكان ينبغي أن تصح الصلاة بنية النفل وليس كذلك فإن قيل: لو كان العزم بدلاً عن الفعل في أول الوقت لما وجب الفعل بعده ولما جاز المصير إليه مع القدرة على المبدل كسائر الأبدال مع مبدلاتها ولكان من أخر الصلاة عن أول الوقت مع الغفلة عن العزم يكون عاصياً لكونه تاركاً للأصل وبدله كيف وإن الأمر الوارد بإيجاب الصلاة في هذا الوقت ليس فيه تعرض للعزم فإيجابه يكون زيادة على مقتضى الأمر ثم جعل العزم بدلاً من صفة الفعل أو عن أصل الفعل مع أنه من أفعال القلوب بعيد إذ لا عهد لنا في الشرع بجعل أفعال القلوب أبدالاً عن الأفعال ولا يجعل صفة الفعل مبدلاً.
قلنا: لم يكن بدلاً عن أصل الفعل بل عن تقديم الفعل فلا يكون موجباً لسقوط الفعل مطلقاً ومعنى كونه بدلاً أنه مخير بينه وبين تقديم الفعل والمصير إلى أحد المخيرين غير مشروط بالعجز عن الآخر لا أنه من باب الوضوء من التيمم وإنما لم يعص مع تركه غافلاً لعدم تكليف الغافل والأمر وإن لم يكن متعرضاً للعزم فلا يلزم منه امتناع جعله بدلاً فإنه لا يلزم من انتفاء بعض المدارك انتفاء الكل.
وأما استبعاد كون العزم بدلاً عن صفة الفعل على ما ذكروه فغير مستحق للجواب ثم كيف يستبعد ذلك والفدية في حق الحامل عند خوفها على جنينها وكذلك المرضع على ولدها بدل عن تقديم الصوم في حقها وهو صفة الفعل وكذلك الندم توبة وهو من أعمال القلوب وقد جعل بدلاً عما فرط من أفعال الطاعات الواجبة حالة الكفر الأصلي.
والجواب عن القول بتعيين وقت الوجوب بالفعل أنه إن أريد به أنا نتبين سقوط الغرض بالفعل في ذلك الوقت فهو مسلم ولا منافاة بينه وبين ما ذكرناه وإن أرادوا به أنا نتبين أن غير ذلك الوقت لم يكن وقتاً للوجوب بمعنى أنه لو أدى فيه الفعل لم يقع الموقع فهو خلاف الإجماع وإن أريد به غير ذلك فلا بد من تصويره.
وعن القول بتعين الوقت الأول للوجوب وما بعده للقضاء فيما سبق كيف وأن الإجماع منعقد على أن ما يفعل بعد ذلك الوقت ليس بقضاء ولا يصح بنية القضاء.(1/39)
وعن الوقت أنه خلاف الإجماع من السلف على أن من فعل الصلاة في أول الوقت ومات فيه أثنائه أنه أدى فرض الله وأثبت ثواب الواجب وعلى ما حققناه من الوجوب الموسع لو أخر المكلف الصلاة عن أول الوقت بشرط العزم ومات لم يلق الله عاصياً ونظراً إلى إجماع السلف على ذلك وليس يلزم من ذلك إبطال معنى الوجوب حيث إنه لا يجوز تركه مطلقاً بل بشرط العزم على ما تقدم ولا يمكن أن يقال جواز التأخير مشروط بسلامة العاقبة لكونها منطوية عنه ولا بد من الحكم الجزم في هذه الحال إما بالبعضية وهو خلاف الإجماع وإما بنفيها ضرورة امتناع التوقف على ظهور العاقبة بالإجماع من سلف الأمة وإذا عرف معنى الواجب الموسع ففعله في وقته أول مرة يسمى أداء وسواء كان فعله على نوع من الخلل لعذر أو لا على نوع من الخلل وإن فعل على نوع من الخلل لعذر ثم فعل في ذلك الوقت مرة ثانية سمي إعادة وإن لم يفعل في وقته المقدر وسواء كان ذلك بعذر أو بغير عذر ثم فعل بعد خروج وقته سمي قضاء.
المسألة الخامسة اتفق الكل في الواجب الموسع على أن المكلف لو غلب على ظنه أنه يموت بتقدير التأخير عن أول الوقت فأخره أنه يعصي وإن لم يمت واختلفوا في فعله بعد ذلك في الوقت هل يكون قضاء أو أداء فذهب القاضي أبو بكر إلى كونه قضاء وخالفه غيره في ذلك.
حجة القاضي أن الوقت صار مقدراً بما غلب على ظن المكلف أنه لا يعيش أكثر منه ولذلك عصى بالتأخير عنه فإذا فعل الواجب بعد ذلك فقد فعله خارج وقته فكان قضاء كما في غيره من العبادات الفائتة في أوقاتها المقدرة المحدودة.
ولقائل أن يقول: غاية ظن المكلف أنه أوجب العصيان بالتأخير عن الوقت الذي ظن حياته فيه دون ما بعده فلا يلزم من ذلك تضييق الوقت بمعنى أنه إذا بقي بعد ذلك الوقت كان فعله للواجب فيه قضاء وذلك لأنه كان وقتاً للأداء والأصل بقاء ما كان على ما كان ولا يلزم من جعل ظن المكلف موجباً للعصيان بالتأخير مخالفة هذا الأصل أيضاً ولهذا فإنه لا يلزم من عصيان المكلف بتأخير الواجب الموسع عن أول الوقت من غير عزم على الفعل عند القاضي أن يكون فعل الواجب بعد ذلك في الوقت قضاء وهو في غاية الاتجاه.
المسألة السادسة اتفقوا على أن الواجب إذا لم يفعل في وقته المقدر وفعل بعده أنه يكون قضاء وسواء تركه في وقته عمداً أو سهواً.
واتفقوا على أن ما لم يجب ولم ينعقد سبب وجوبه في الأوقات المقدرة ففعله بعد ذلك لا يكون قضاء لا حقيقة ولا مجازاً كفوائت الصلوات في حالة الصبي والجنون.
واختلفوا فيما انعقد سبب وجوبه ولم يجب لمانع أو لفوات شرط من خارج وسواء كان المكلف قادراً على الإتيان بالواجب في وقته كالصوم في حق المريض والمسافر أو غير قادر عليه إما شرعاً كالصوم في حق الحائض وإما عقلاً كالنائم أنه هل يسمى قضاء حقيقة أو مجازاً فمنهم من مال إلى التجوز مصيراً منه إلى أن القضاء إنما يكون حقيقة عند فوات ما وجب في الوقت استدراكاً لمصلحة الواجب الفائت وذلك غير متحقق فيما نحن فيه ووجوبه بعد ذلك الوقت بأمر مجدد لا ارتباط له بالوقت الأول فكان إطلاق القضاء عليه تجوزاً ومنهم من مال إلى أنه قضاء حقيقة لما فيه من استدراك مصلحة ما انعقد سبب وجوبه ولم يجب للمعارض وإطلاق اسم القضاء في هذه الصور في محل الوفاق إنما كان باعتبار ما اشتركا فيه من استدراك مصلحة ما انعقد سبب وجوبه لا استدراك مصلحة ما وجب وهذا هو الأشبه لما فيه من نفي التجوز والاشتراك عن اسم القضاء.
المسألة السابعة ما لا يتم الواجب إلا به هل يوصف بالوجوب اختلفوا فيه ولا بد قبل الخوض في الحجاج من تلخيص محل النزاع فنقول: ما لا يتم الواجب إلا به إما أن يكون وجوبه مشروطاً بذلك الشيء أو لا يكون مشروطاً به.(1/40)
فإن كان الأول فهو كما لو قال الشارع أوجبت عليك الصلاة إن كنت متطهراً فلا خلاف في أن تحصيل الشرط ليس واجباً وإنما الواجب الصلاة إذا وجد الشرط وإن كان الثاني وهو أن يكون وجوبه مطلقاً غير مشروط الوجوب بذلك الغير بل مشروط الوقوع فذلك هو محل النزاع إن كان الشرط مقدوراً للمكلف وذلك كما لو وجبت الصلاة وتعذر وقوعها دون الطهارة أو وجب غسل الوجه ولم يكن إلا بغسل جزء من الرأس إلى غير ذلك وإن لم يكن الشرط مقدوراً للمكلف فلا إلا على رأي من يجوز تكليف ما لا يطاق وذلك كحضور الإمام الجمعة وحصول تمام العدد فيها فإن ذلك غير مقدور لآحاد المكلفين.
وإذا تلخص محل النزاع فنقول: اتفق أصحابنا والمعتزلة على أن ما لا يتم الواجب إلا به وهو مقدور للمكلف فهو واجب خلافاً لبعض الأصوليين قال أبو الحسين البصري: وإنما قلنا إن تحصيل الشرط واجب لأنه لو لم يجب بل كان تركه مباحاً لكان الآمر كأنه قال للمأمور: لك مباح ألا تأتي بالشرط وأوجب عليك الفعل مع عدم الإتيان بما لا يتم إلا به وذلك تكليف بما لا يطاق وهو محال وهذه الطريقة في غاية الفساد وذلك لأن وجوب المشروط إذا كان مطلقاً فلا يلزم من إباحة الشرط أن يكون التكليف بالمشروط حالة عدم الشرط فإن عدمه غير لازم من إباحته بل حالة عدم وجوب الشرط وفرق بين الأمرين فلا يكون التكليف بالمشروط تكليفاً بما لا يطاق ثم يقال له إن كان التكليف بالمشروط حالة عدم الشرط محالاً فالتكليف بالمشروط مشروط بوجود الشرط وكل ما وجوبه مشروط بشرط فالشرط لا يكون واجب التحصيل لما سبق ولا جواب عنه.
وإلا قرب في ذلك أن يقال: انعقد إجماع الأمة على إطلاق القول بوجوب تحصيل ما أوجبه الشارع وتحصيله إنما هو بتعاطي الأمور الممكنة من الإتيان به فإذا قيل يجب التحصيل بما لا يكون واجباً كان متناقضاً وبالجملة فالمسألة وعرة والطرق ضيقة فليقنع بمثل هذا في هذا المضيق.
فإن قيل: القول بوجوب الشرط زيادة على ما اقتضاه الأمر بالمشروط إذ لا دلالة عليه والزيادة على النص نسخ ونسخ مدلول النص لا يكون إلا بنص آخر ولا نص ثم لو كان واجباً لكان مقدوراً حذراً من التكليف بما لا يطاق وما يجب غسله من الرأس وإمساكه من الليل غير مقدور ولكان مثاباً عليه ومعاقباً على تركه والثواب والعقاب إنما هو على غسل الوجه وتركه وعلى صوم اليوم وتركه لا على مسح بعض الرأس وإمساك شيء من الليل ولهذا فإنه لو تصور الإتيان بالمشروط دون شرطه كان كذلك.
قلنا: جواب الأول أن النسخ إنما يلزم إن لو كان ما قيل بوجوبه رافعاً لمقتضى النص الوارد بالمشروط وليس كذلك فإن مقتضاه وجوبه ووجوبه باق بحاله.
وجواب الثاني أنه مبني على القول بأن كل واجب لا يقدر بقدر محدود فالزيادة على أقل ما ينطلق عليه الاسم هل توصف بالوجوب لكون نسبة الكل إلى الوجوب نسبة واحدة أو الواجب أقل ما ينطلق عليه الاسم والزيادة ندب فمن ذهب إلى القول الأول قال كل ما يأتي به من ذلك فهو واجب والأصح إنما هو القول الثاني وهو أن الواجب أقل ما ينطلق عليه الاسم إذ هو مكتفي به من غير لوم على ترك الزيادة من غير بدل وهو مقدور.
وجواب الثالث بمنع ما ذكروه وجواب الرابع بأن الوجوب إنما يتحقق بالنسبة إلى العاجز عن الإتيان بالمشروط دون الشرط لا القادر.
الفصل الثاني في المحظور وقد يطلق في اللغة على ما كثرت آفاته ومنه يقال لبن محظور أي كثير الآفة وقد يطلق بمعنى المنع والقطع ومنه قولهم: حظرت عليه كذا أي منعته منه ومنه الحظيرة للبقعة المنقطعة تأتي إليها المواشي.
وأما في الشرع فقد قيل فيه ضد ما قيل في الواجب من الحدود المزيفة السابق ذكرها ولا يخفى وجه الكلام عليها والحق فيه أن يقال: هو ما ينتهض فعله سبباً للذم شرعاً بوجه ما من حيث هو فعل له.
فالقيد الأول فاصل له عن الواجب والمندوب وسائر الأحكام والثاني فاصل له عن المخير كما ذكرناه في الواجب والثالث فاصل له عن المباح الذي يستلزم فعله ترك واجب فإنه يذم عليه لكن لا من جهة فعله بل لما لزمه من ترك الواجب والحظر: فهو خطاب الشارع بما فعله سبب للذم شرعاً بوجه ما من حيث هو فعله ومن أسمائه أنه محرم ومعصية وذنب وإذا عرف معنى المحظور فلا بد من ذكر ما يختص به من المسائل وهي ثلاث مسائل.
المسألة الأولى(1/41)
يجوز أن يكون المحرم أحد أمرين لا بعينه عندنا خلافاً للمعتزلة وذلك لأنه لا مانع من ورود النهي بقوله: لا تكلم زيداً أو عمراً وقد حرمت عليك كلام أحدهما لا بعينه ولست أحرم عليك الجميع ولا واحداً بعينه فهذا الورود كان معقولاً غير ممتنع ولا شك أنه إذا كان كذلك فليس المحرم مجموع كلاميهما ولا كلام أحدهما على التعيين لتصريحه بنقيضه فلم يبق إلا أن يكون المحرم أحدهما لا بعينه.
ومنهج الخصم في الاعتراض ومنهجنا في الجواب فكما سبق في الواجب المخير ولا يخفى وجهه ولكن ربما تشبث الخصوم هاهنا بقولهم إن حرف أو إذا ورد في النهي اقتضى الجمع دون التخيير ودليله قوله تعالى " ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً " " الإنسان 24 " فإن المراد به إنما هو النهي عن الطاعة لكل واحد منهما لا النهي عن أحدهما.
وجوابه أن يقال: مقتضى الآية إنما هو التخيير وتحريم أحد الأمرين لا بعينه والجمع في التحريم هاهنا إنما كان مستفاداً من دليل آخر ويجب أن يكون كذلك جمعاً بين الآية وما ذكرناه من الدليل.
المسألة الثانية اتفق العقلاء على استحالة الجمع بين الحظر والوجوب في فعل واحد من جهة واحدة لتقابل حديهما كما سبق تعريفه إلا على رأي من يجوز التكليف بالمحال وإنما الخلاف في أنه هل يجوز انقسام النوع الواحد من الأفعال إلى واجب وحرام كالسجود لله تعالى والسجود للصنم وأن يكون الفعل الواحد بالشخص واجباً حراماً من جهتين كوجوب الفعل المعين الواقع في الدار المغصوبة من حيث هو صلاة وتحريمه من حيث هو غصب شاغل لملك الغير فذلك مما جوزه أصحابنا مطلقاً وأكثر الفقهاء وخالف في الصورة الأولى بعض المعتزلة وقالوا: السجود نوع واحد وهو مأمور به لله تعالى فلا يكون حراماً ولا منهياً بالنسبة إلى الصنم من حيث هو سجود وإلا كان الشيء الواحد مأموراً منهياً وذلك محال وإنما المحرم المنهي قصد تعظيم الصنم وهو غير السجود.
وخالف في الصورة الثانية الجبائي وابنه وأحمد بن حنبل وأهل الظاهر والزيدية وقيل إنه رواية عن مالك وقالوا الصلاة في الدار المغصوبة غير واجبة ولا صحيحة ولا يسقط بها الفرض ولا عندها ووافقهم على ذلك القاضي أبو بكر إلا في سقوط الفرض فإنه قال: يسقط الفرض عندها لا بها مصيراً منهم إلى أن الوجوب والتحريم إنما يتعلق بفعل المكلف لا بما ليس من فعله والأفعال الموجودة من المصلي في الدار المغصوبة أفعال اختيارية محرمة عليه وهو عاص بها مأثوم بفعلها وليس له من الأفعال غير ما صدر عنه فلا يتصور أن تكون واجبة طاعة ولا مثاباً عليها متقرباً بها إلى الله تعالى لأن الحرام لا يكون واجباً والمعصية لا تكون طاعة ولا مثاباً عليها ولا متقرباً بها مع أن التقرب شرط في صحة الصلاة والحق في ذلك ما قاله الأصحاب.
أما في الصورة الأولى فلضرورة التغاير بالشخصية بين السجود لله تعالى والسجود للصنم ولا يلزم من تحريم أحد السجودين تحريم الآخر ولا من الوجوب الوجوب وما قيل من أن السجود مأمور به لله تعالى فإن أريد به السجود من حيث هو كذلك فهو غير مسلم بل السجود المقيد بقصد تعظيم الرب تعالى دون ما قصد به تعظيم الصنم ولهذا قال الله تعالى " لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله " " فصلت 37 " ولو كان كما ذكروه لكان عين المأمور به منهياً عنه وهو محال.
وأما في الصورة الثانية فلضرورة تغاير الفعل المحكوم عليه باعتبار اختلاف جهتيه من الغصب والصلاة وذلك لأن التغاير بين الشيئين كما أنه قد يقع بتعدد النوع تارة كالإنسان والفرس وبتعدد الشخص تارة كزيد وعمرو فقد يقع التغاير مع اتحاد الموضوع المحكوم عليه شخصاً بسبب اختلاف صفاته بأن يكون المحكوم عليه بأحد الحكمين المتقابلين هو الهيئة الاجتماعية من ذاته وإحدى صفتيه والمحكوم عليه بالحكم الآخر بالهيئة الاجتماعية والصفة الأخرى كالحكم على زيد بكونه مذموماً لفسقه ومشكوراً لكرمه وذلك مما لا يتحقق معه التقابل بين الحكمين والمنع منهما.
وقولهم: إن الفعل الموجود منه في الدار المغصوبة متحد وهو حرام فلا يكون واجباً.
قلنا: المحكوم عليه بالحرمة ذات الفعل من حيث هو فعل أو من جهة كونه غصبا الأول غير مسلم والثاني فلا يلزم منه امتناع الحكم عليه بالوجوب من جهة كونه صلاة ضرورة الاختلاف كما سبق.(1/42)
فإن قيل متعلق الوجوب إما أن يكون هو متعلق الحرمة أو هو مغاير له والأول يلزم منه التكليف بما لا يطاق والخصم لا يقول بذلك فيما نحن فيه سواء قيل بإحالته أو بجوازه والثاني إما أن يكون متعلق الوجوب والتحريم متلازمين أو غير متلازمين لا جائز أن يقال بالثاني فإن الغصب والصلاة وإن انفك أحدهما عن الآخر في غير مسألة النزاع فهما متلازمان في مسألة النزاع فلم يبق غير التلازم وعند ذلك فالواجب متوقف على فعل المحرم وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فالمحرم الذي ذكرتموه يكون واجباً وهو تكليف بما لا يطاق وأيضاً فإن الحركات المخصوصة في الصلاة والسكنات داخلة في مفهومها والحركات والسكنات تشغل الحيز إذ الحركة عبارة عن شغل الجوهر للحيز بعد أن كان في غيره والسكون شغل الجوهر للحيز أكثر من زمان واحد فشغل الحيز داخل في مفهوم الحركة والسكون الداخلين في مفهوم الصلاة فكان داخلاً في مفهوم الصلاة لأن جزء الجزء جزء وشغل الحيز فيما نحن فيه حرام فالصلاة التي جزأها حرام لا تكون واجبة لأن وجوبها إما أن يستلزم إيجاب جميع أجزائها أو لا يستلزم والأول يلزم منه إيجاب ما كان من أجزائها محرماً وهو تكليف بما لا يطاق والثاني يلزم منه أن يكون الواجب بعض أجزاء الصلاة لا نفس الصلاة لأن مفهوم الجزء مغاير لمفهوم الكل وذلك محال.
قلنا: أما الإشكال الأول فيلزم عليه ما لو قال السيد لعبده أوجبت عليك خياطة هذا الثوب وحرمت عليك السكن في هذا الدار فإن فعلت هذا أثبتك وإن فعلت هذا عاقبتك فإنه إذا سكن الدار وخاط الثوب فإنه يصح أن يقال فعل الواجب والمحرم ويحسن من السيد ثوابه له على الطاعة وعقابه له على المعصية إجماعاً وعند ذلك فكل ما أوردوه من التقسيم فهو بعينه وارد هاهنا وذلك أن يقال: متعلق الوجوب إن كان هو متعلق الحرمة فهو تكليف بما لا يطاق وليس كذلك فيما فرض من الصورة وإن تغايراً فهما في الصورة المفروضة متلازمان وإن جاز انفكاكهما حسبما قيل في الصلاة في الدار المغصوبة فالواجب متوقف على المحرم فيلزم أن يكون واجباً لا محرماً لما قيل وقد قيل بالجمع بين الواجب والمحرم فيها فما هو الجواب في هذه الصورة هو الجواب في صورة محل النزاع وعلى هذا فقد اندفع الإشكال الثاني أيضاً من حيث إن شغل الحيز داخل في مفهوم الحركات المخصوصة الداخلة في مفهوم الخياطة وشغل الحيز بالسكن محرم على ما قيل في صورة محل النزاع من غير فرق والجواب يكون مشتركاً: كيف وإن إجماع سلف الأمة وهلم جراً منعقد على الكف عن أمر الظلمة بقضاء الصلوات المؤدات في الدور المغصوبة مع كثرة وقوع ذلك منهم ولو لم تكن صحيحة مع وجوبها عليهم لبقي الوجوب مستمراً وامتنع على الأمة عدم الإنكار عادة وهو لازم على المعتزلة وأحمد بن حنبل حيث اعترفوا ببقاء الفرض وعدم سقوطه وأما القاضي أبو بكر فإنه قال إن الفرض يسقط عندها لا بها جمعاً بين الإجماع على عدم النكير على ترك القضاء وبين ما ظنه دليلاً على امتناع صحة الصلاة وقد بينا إبطال مستنده.
المسألة الثالثة مذهب الشافعي أن المحرم بوصفه مضاد لوجوب أصله خلافاً لأبي حنيفة وصورة المسألة ما إذا أوجب الصوم وحرم إيقاعه في يوم العيد وعلى هذا النحو فالشافعي اعتقد أن المحرم هو الصوم الواقع وألحقه بالمحرم باعتبار أصله فكان تحريمه مضاداً لوجوبه وأبو حنيفة اعتقد أن المحرم نفس الوقوع لا الواقع وهما غيران فلا تضاد إلحاقاً له بالمحرم باعتبار غيره وحيث قضى بتحريم صلاة المحدث وبطلانها إنما كان لفوات شرطها من الطهارة لا للنهي عن إيقاعها مع الحدث بخلاف الطواف حيث لا يقم الدليل عنده على اشتراط الطهارة فيه.
وبالجملة فالمسألة اجتهادية ظنية لا حظ لها من اليقين وإن كان الأشبه إنما هو مذهب الشافعي من حيث إن اللغوي لا يفرق عند سماعه لقول القائل حرمت عليك الصوم في هذا اليوم مع كونه موجباً لتحريم الصوم وبين قوله حرمت عليك إيقاع الصوم في هذا اليوم من جهة أنه لا معنى لإيقاع الصوم في اليوم سوى فعل الصوم في اليوم فإذا كان فعل الصوم فيه محرماً كان ذلك مضاداً لوجوبه لا محالة.(1/43)
فإن قيل: لو كان تحريم إيقاع الفعل في الوقت تحريماً للفعل الواقع لزم أن يكون تحريم إيقاع الطلاق في زمن الحيض تحريماً لنفس الطلاق ولو كان الطلاق نفسه محرماً لما كان معتبراً وكذلك وقوع الصلوات في الأوقات والأماكن المنهي عن إيقاعها فيها.
قلنا: أما الطلاق في زمن الحيض إنما قضى الشافعي بصحته لظهور صرف التحريم عنده عن أصل الطلاق وصفته إلى أمر خارج وهو ما يفضي إليه من تطويل العدة لدليل دل عليه وأما الصلوات في الأوقات والأماكن المنهي عنها فقد منع بعض أصحابنا صحتها في الأوقات دون الأماكن ومن عمم اعتقد صرف النهي فيها عن الصوم وصفته إلى أمر خارج لدليل دل عليه أيضاً بخلاف ما نحن فيه حتى لو قام الدليل فيه على ترك الظاهر لترك.
الفصل الثالث في تحقيق معنى المندوب وما يتعلق به من المسائل والمندوب في اللغة مأخوذ من الندب وهو الدعاء إلى أمر مهم ومنه قول الشاعر:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهاناً
وأما في الشرع فقد قيل: هو ما فعله خير من تركه ويبطل بالأكل قبل ورود الشرع فإنه خير من تركه لما فيه من اللذة واستبقاء المهجة وليس مندوباً.
وقيل: هو ما يمدح على فعله ولا يذم على تركه ويبطل بأفعال الله تعالى فإنها كذلك وليست مندوبة.
فالواجب أن يقال: هو المطلوب فعله شرعاً من غير ذم على تركه مطلقاً فالمطلوب فعله احتراز عن الحرام والمكروه والمباح وغيره من الأحكام الثابتة بخطاب الوضع والأخبار ونفي الذم احتراز عن الواجب المخير والموسع في أول الوقت وإذا عرف معنى المندوب ففيه مسألتان: المسألة الأولى ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من أصحابنا إلى أن المندوب مأمور به خلافاً للكرخي وأبي بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة احتج المثبتون بأن فعل المندوب يسمى طاعة بالاتفاق وليس ذلك لذات الفعل المندوب إليه وخصوص نفسه وإلا كان طاعة بتقدير ورود النهي عنه ولا لصفة من الصفات التي يشاركه فيها غيره من الحوادث وإلا كان كل حادث طاعة ولا لكونه مراداً لله تعالى وإلا كان كل مراد الوقوع طاعة وليس كذلك ولا لكونه مثاباً عليه فإنه لا يخرج عن كونه طاعة وإن لم يثب عليه ولا لكونه موعوداً بالثواب عليه لأنه لو ورد فيه وعد لتحقق لاستحالة الخلف في خبر الشارع والثواب غير لازم له بالإجماع والأصل عدم ما سوى ذلك فتعين أن يكون طاعة لما فيه من امتثال الأمر فإن امتثال الأمر يسمى طاعة ولهذا يقال: فلان مطاع الأمر ومنه قول الشاعر:
ولو كنت ذا أمر مطاع لما بدا ... توان من المأمور في كل أمركا
كيف وقد شاع وذاع إطلاق أهل الأدب قولهم بانقسام الأمر إلى أمر إيجاب وأمر ندب فإن قيل: أمكن أن يكون طاعة لكون مقتضى ومطلوباً ممن له الطلب والاقتضاء ولا يلزم أن يكون ذلك لكونه مأموراً ثم لو كان فعله طاعة لكونه مأموراً لكان تركه معصية لكونه مأموراً ولذلك يقال أمر فعصى ومنه قول الشاعر:
أمرتك أمراً جازماً فعصيتني
وليس كذلك بالإجماع ويدل على أنه غير مأمور قوله عليه السلام " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " وقوله عليه السلام لبريرة وقد عتقت تحت عبد لو راجعتيه فقالت: بأمرك يا رسول الله فقال لا " إنما أنا شافع " نفي الأمر في الصورتين مع أن الفعل فيهما مندوب فدل على أن المندوب ليس مأموراً.
قلنا: أما الاقتضاء والطلب فهو الأمر عندنا على ما يأتي فتسليمه تسليم لمحل النزاع قولهم لا يسمى تاركه عاصياً قلنا لأن العصيان اسم ذم مختص بمخالفة أمر الإيجاب ولا بمخالفة مطلق أمر ويجب أن يكون كذلك جمعاً بين ما ذكروه من الإطلاق وما ذكرناه من الدليل ولمثل هذا يجب حمل الحديثين على أمر الإيجاب دون الندب ويخص الحديث الأول أنه قيده بالمشقة وهي لا تكون في غير أمر الإيجاب وإذا ثبت كونه مأموراً فهو حسن بجميع الاعتبارات السابق ذكرها في مسألة التحسين والتقبيح وهل هو داخل في مسمى الواجب فالكلام فيه على ما سيأتي في الجائز نفياً وإثباتاً.
المسألة الثانية اختلف أصحابنا في المندوب هل هو من أحكام التكاليف؟ فأثبته الأستاذ أبو إسحاق ونفاه الأكثرون وهو الحق.(1/44)
وحجة ذلك أن التكليف إنما يكون بما فيه كلفة ومشقة والمندوب مساو للمباح في التخيير بين الفعل والترك من غير حرج مع زيادة الثواب على الفعل والمباح ليس من أحكام التكليف على ما يأتي فالمندوب أولى.
نعم إن قيل إنه تكليفي باعتبار وجوب اعتقاد كونه مندوباً فلا حرج فإن قيل المندوب لا يخلو عن كلفة ومشقة فإنه سبب للثواب فإن فعله رغبة في الثواب ففعله مشق كفعل الواجب وإن تركه شق عليه ما فاته من الثواب الجزيل بفعله وربما كان ذلك أشق عليه من الفعل بخلاف ترك المباح قلنا: يلزم عليه أن يكون حكم الشارع على الفعل بكونه سبباً للثواب حكماً تكليفياً لأنه إن أتى بالفعل رغبة في الثواب الذي هو مسببه فهو مشق وإن تركه شق عليه ما فاته من الثواب وهو خلاف الإجماع.
الفصل الرابع في المكروه المكروه في اللغة مأخوذ من الكريهة وهي الشدة في الحرب ومنه قولهم جمل كره أي شديد الرأس وفي معنى ذلك الكراهة والكراهية.
وأما في الشرع فقد يطلق ويراد به الحرام وقد يراد به ترك ما مصلحته راجحة وإن لم يكن منهياً عنه كترك المندوبات وقد يراد به ما نهي عنه نهي تنزيه لا تحريم كالصلاة في الأوقات والأماكن المخصوصة وقد يراد به ما في القلب منه حزازة وإن كان غالب الظن حله كأكل لحم الضبع.
وعلى هذا فمن نظر إلى الاعتبار الأول حده بحد الحرام كما سبق ومن نظر إلى الاعتبار الثاني حده بترك الأولى ومن نظر إلى الاعتبار الثالث جده بالمنهي الذي لا ذم على فعله ومن نظر إلى الاعتبار الرابع حده بأنه الذي فيه شبهة وتردد.
وإذا عرف معنى المكروه فالخلاف في كونه منهياً عنه وفي كونه من أحكام التكاليف فعلى نحو ما سبق في المندوب ولا يخفى وجه الكلام في الطرفين تزييفاً واختياراً.
الفصل الخامس في المباح وما يتعلق به من المسائل أما المباح فهو في اللغة مشتق من الإباحة وهي الإظهار والإعلان ومنه يقال باح بسره إذا أظهره وقد يرد أيضاً بمعنى الإطلاق والإذن ومنه يقال أبحته كذا أي أطلقته فيه وأذنت له.
وأما في الشرع فقد قال قوم هو ما خير المرء فيه بين فعله وتركه شرعاً وهو منقوض بخصال الكفارة المخيرة فإنه ما من خصلة منها إلا والمكفر مخير بين فعلها وتركها وبتقدير فعلها لا تكون مباحة بل واجبة وكذلك الصلاة في أول وقتها الموسع مخير بين فعلها وتركها مع العزم وليست مباحة بل واجبة وقال قوم هو ما استوى جانباه في عدم الثواب والعقاب وهو منتقض بأفعال الله تعالى فإنها كذلك وليست متصفة بكونها مباحة ومنهم من قال هو ما أعلم فاعله أو دل أنه لا ضرر عليه في فعله ولا تركه ولا نفع له في الآخرة وهو غير جامع لأنه يخرج منه الفعل الذي خير الشارع فيه بين الفعل والترك مع إعلام فاعله أو دلالة الدليل السمعي على استواء فعله في المصلحة والمفسدة دنيا وأخرى فإنه مباح وإن اشتمل فعله وتركه على الضرر.
والأقرب في ذلك أن يقال: هو ما دل الدليل السمعي على خطاب الشارع بالتخيير فيه بين الفعل والترك من غير بدل فالقيد الأول فاصل له عن فعل الله تعالى: والثاني عن الواجب الموسع في أول الوقت والواجب المخير وإذا عرف معنى المباح ففيه خمس مسائل.
المسألة الأولى اتفق المسلمون على أن الإباحة من الأحكام الشرعية خلافاً لبعض المعتزلة مصيراً منه إلى أن المباح لا معنى له سوى ما انتفى الحرج عن فعله وتركه وذلك ثابت قبل ورود الشرع وهو مستمر بعده فلا يكون حكماً شرعياً ونحن لا ننكر أن انتفاء الحرج عن الفعل والترك ليس بإباحة شرعية وإنما الإباحة الشرعية خطاب الشارع بالتخيير على ما قررناه وذلك غير ثابت قبل ورود الشرع ولا يخفى الفرق بين القسمين فإذا ما أثبتناه من الإباحة الشرعية لم يتعرض لنفيها وما نفي غير ما أثبتناه.
المسألة الثانية اتفق الفقهاء والأصوليون قاطبة على أن المباح غير مأمور به خلافاً للكعبي وأتباعه من المعتزلة في قولهم إنه لا مباح في الشرع بل كل فعل يفرض فهو واجب مأمور به.
احتج من قال إنه غير مأمور به أن الأمر طلب يستلزم ترجيح الفعل على الترك وهو غير متصور في المباح لما سبق في تحديده ولأن الأمة مجمعة على انقسام الأحكام إلى وجوب وندب وإباحة وغير ذلك فمنكر المباح يكون خارقاً للإجماع.(1/45)
وحجة الكعبي أنه ما من فعل يوصف بكونه مباحاً إلا ويتحقق بالتلبس به ترك حرام ما وترك الحرام واجب ولا يتم تركه دون التلبس بضد من أضداده وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب لما سبق ثم اعتذر عن الإجماع المحتج به بأن قال يجب حمله على ذات الفعل مع قطع النظر عن تعلق الأمر به لسبب توقف ترك الحرام عليه فإنه إذ ذاك لا يكون مأموراً به ضرورة الجمع بين الأدلة بأقصى الإمكان وقد اعترض عليه من لا يعلم عور كلامه بأنه وإن كان ترك الحرام واجباً فالمباح ليس هو نفس ترك الحرام بل شيء يترك به الحرام مع إمكان تحقق ترك الحرام بغيره فلا يلزم أن يكون واجباً وهو غير سديد فإنه إذا ثبت أن ترك الحرام واجب وأنه لا يتم بدون التلبس بضد من أضداده وقد تقرر أن ما لا يتم الواحب دونه فهو واجب فالتلبس بضد من أضداده واجب غايته أن الواجب من الأضداد غير معين قبل تعيين المكلف له ولكن لا خلاف في وجوبه بعد التعيين ولا خلاص عنه إلا بمنع وجوب ما لا يتم الواجب إلا به وفيه خرق القاعدة الممهدة على أصول الأصحاب وغاية ما ألزم عليه أنه لو كان الأمر على ما ذكرت لكان المندوب بل المحرم إذا ترك به محرم آخر أن يكون واجباً وكان يجب أن تكون الصلاة حراماً على هذه القاعدة عندما إذا ترك بها واجباً آخر وهو محال فكان جوابه أنه لا مانع من الحكم على الفعل الواحد بالوجوب والتحريم بالنظر إلى جهتين مختلفتين كما في الصلاة في الدار المغصوبة ونحوه.
وبالجملة وإن استبعده من استبعده فهو في غاية الغوص والإشكال وعسى أن يكون عند غيري حله.
المسألة الثالثة اختلفوا في المباح هل هو داخل في مسمى الواجب أم لا؟ وحجة من قال بالدخول أن المباح ما لا حرج على فعله وهذا المعنى متحقق في الواجب والزيادة التي اختص بها الواجب غير نافية للاشتراك فيما قيل.
وحجة من قال بالتباين أن المباح ما خير فيه بين الفعل والترك بالقيود المذكورة وهو غير متحقق في الواجب وهو الحق.
فإن قيل: العادة مطردة بإطلاق الجائز على الصلاة الواجبة والصوم الواجب في قولهم صلاة جائزة وصوم جائز ولو لم يكن مفهوم الجائز متحققاً في الواجب لزم منه إما الاشتراك وإما التجوز هو خلاف الأصل.
قلنا ولو كان إطلاقه عليه حقيقة فلا مشترك بينهما سوى نفي الحرج عن الفعل بدليل البحث والسير فلو كان ذلك هو المسمى حقيقة فالعادة أيضاً مطردة بإطلاق الجائز على ما انتفى الحرج عن تركه ولهذا يقال: المحرم جائز الترك وما هو مسمى الجائز أولاً غير متحقق هاهنا ويلزم من ذلك أن يكون إطلاق اسم الجائز على ترك المحرم مجازاً أو مشتركاً وهو خلاف الأصل وليس أحد الأمرين أولى من الآخر بل احتمال التجوز فيما ذكرناه أولى لما فيه من موافقة الإطلاق في قولهم هذا واجب وليس بجائز وعلى كل تقدير فالمسألة لفظية وهي في محل الاجتهاد.
المسألة الرابعة اختلفوا في المباح هل هو داخل تحت التكليف واتفاق جمهور من العلماء على النفي خلافاً للاستاذ أبي إسحاق الإسفرايني.
والحق أن الخلاف في هذه المسألة لفظي فإن النافي يقول إن التكليف إنما يكون بطلب ما فيه كلفة ومشقة ومنه قولهم: كلفتك عظيماً أي حملتك ما فيه كلفة ومشقة ولا طلب في المباح ولا كلفة لكونه مخيراً بين الفعل والترك ومن أثبت ذلك لم يثبته بالنسبة إلى أصل الفعل بل بالنسبة إلى وجوب اعتقاد كونه مباحاً والوجوب من خطاب التكليف فما التقيا على محز واحد.
المسألة الخامسة اختلفوا في المباح هل هو حسن أم لا والحق امتناع النفي والإثبات في ذلك مطلقاً بل الواجب أن يقال إنه حسن باعتبار أن لفاعله أن يفعله شرعاً أو باعتبار موافقته للغرض وليس حسناً باعتبار أنه مأمور بالثناء على فاعله على ما تقرر في مسألة التحسين والتقبيح.
الفصل السادس في الأحكام الثابتة بخطاب الوضع والأخبار وهي على أصناف:
الصنف الأول
الحكم على الوصف بكونه سبباً.(1/46)
والسبب في اللغة عبارة عما يمكن التوصل به إلى مقصود ما ومنه سمي الحبل سبباً والطريق سبباً لإمكان التوصل بهما إلى المقصود وإطلاقه في اصطلاح المتشرعين على بعض مسمياته في اللغة وهو كل وصف ظاهر منضبط دل الدليل السمعي على كونه معرفاً لحكم شرعي ولا يخفى ما فيه من الاحتراز وهو منقسم إلى ما لا يستلزم في تعريفة للحكم حكمة باعثة عليه كجعل زوال الشمس أمارة معرفة لوجوب الصلاة في قوله تعالى " أقم الصلاة لدلوك الشمس " " الإسراء 78 " وفي قوله عليه السلام " إذا زالت الشمس فصلوا " وكجعل طلوع هلال رمضان أمارة على وجوب صوم رمضان بقوله تعالى " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " " البقرة 185 " وقوله عليه السلام " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " ونحوه وإلى ما يستلزم حكمة باعثة للشرع على شرع الحكم المسبب كالشدة المطربة المعرفة لتحريم شرب النبيذ لا لتحريم شرب الخمر في الأصل المقيس عليه فإن تحريم شرب الخمر معروف بالنص أو الإجماع لا بالشدة المطربة ولأنها لو كانت معرفة له فهي لا يعرف كونها علة بالاستنباط إلا بعد معرفة الحكم في الأصل وذلك دور ممتنع وعلى هذا فالحكم الشرعي ليس هو نفس الوصف المحكوم عليه بالسببية بل حكم الشرع عليه بالسببية وعلى هذا فكل واقعة عرف الحكم فيها بالسبب لا بدليل آخر من الأدلة السمعية فلله تعالى فيها حكمان أحدهما الحكم المعرف بالسبب والآخر السببية المحكوم بها على الوصف المعرف للحكم وفائدة نصبه سبباً معرفاً للحكم عسر وقوف المكلفين على خطاب الشرع في كل واقعة من الوقائع بعد انقطاع الوحي حذراً من تعطيل أكثر الوقائع عن الأحكام الشرعية وسواء كان السبب مما يتكرر بتكرره الحكم كما ذكرناه من زوال الشمس وطلوع الهلال وغيره من أسباب الضمانات والعقوبات والمعاملات أو غير متكرر به كالاستطاعة في الحج ونحوه وسواء كان وصفاً وجودياً أو عدمياً شرعياً أو غير شرعي ما يأتي تحقيقه في القياس.
وإذا أطلق على السبب أنه موجب للحكم فليس معناه أنه يوجبه لذاته وصفة نفسه وإلا كان موجباً له قبل ورود الشرع وإنما معناه أنه معرف للحكم لا غير كما ذكرناه في تحديده.
فإن قيل لو كانت السببية حكماً شرعياً لافتقرت في معرفتها إلى سبب آخر يعرفها ويلزم من ذلك إما الدور إن افتقر كل واحد من السببين إلى الآخر وإما التسلسل وهو محال وأيضاً فإن الوصف المعرف للحكم إما يعرفه بنفسه أو بصفة زائدة.
فإن كان الأول لزم أن يكون معرفاً له قبل ورود الشرع وهو محال وإن كان بصفة زائدة عليه فالكلام في تلك الصفة كالكلام في الأول وهو تسلسل ممتنع وأيضاً فإن الطريق إلى معرفة كون الوصف سبباً للحكم إنما هو ما يستلزمه من الحكمة المستدعية للحكم من جلب مصلحة أو دفع مفسدة وذلك ممتنع لوجهين: الأول أنه لو كانت الحكمة معرفة لحكم السببية لأمكن تعريف الحكم المسبب بها من غير حاجة إلى توسط الوصف وليس كذلك بالإجماع.
الثاني أن الحكمة إما أن تكون قديمة أو حادثة فإن كان الأول لزم من قدمها قدم موجبها وهو معرفة السببية وإن كان الثاني فلا بد لها من معرف آخر لخفائها والتقسيم في ذلك المعرف عائد بعينه.
قلنا معرفة السببية مستندة إلى الخطاب أو إلى الحكمة الملازمة للوصف مع اقتران الحكم بها في صورة فلا تستدعي سبباً آخر يعرفها حتى يلزم الدور أو التسلسل وبما ذكرناه هاهنا يكون دفع إشكال الثاني أيضاً.
وأما الوجه الأول من الإشكال الثالث فالوجه في دفعه أن الحكمة المعرفة للسببية ليس مطلق حكمة بل الحكمة المضبوطة بالوصف المقترن بالحكم فلا تكون بمجردها معرفة للحكم فإنها إذا كانت خفية غير مضبوطة بنفسها ولا بملزومها من الوصف فلا يمكن تعريف الحكم بها لعدم الوقوف على ما به التعريف لاضطرابها واختلافها باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان وما هذا شأنه فدأب الشارع فيه رد الناس إلى المظان الظاهرة المنضبطة المستلزمة لاحتمال الحكمة دفعاً للعسر والحرج عنهم.(1/47)
وأما الوجه الثاني منه فالوجه في دفعه أن يقال الحكمة إذا كانت مضبوطة بالوصف فهي معروفة بنفسها غير مفتقرة إلى معرف آخر ولا يلزم من تقدمها على ورود الشرع أن تكون معرفة للسببية لتوقف ذلك على اعتبارها في الشرع ولا اعتبار لها قبل ورود الشرع وإذا عرف معنى السبب شرعاً فلو تخلف الحكم عنه في صورة من الصور فهل تبطل سببيته أم لا فسيأتي الكلام عليه في مسألة تخصيص العلة فيما بعد.
الصنف الثاني
الحكم على الوصف بكونه مانعاً
والمانع منقسم إلى مانع الحكم ومانع السبب أما مانع الحكم فهو كل وصف وجودي ظاهر منضبط مستلزم لحكمة مقتضاها بقاء نقيض حكم السبب مع بقاء حكمة السبب كالأبوة في باب القصاص مع القتل العمد العدوان وأما مانع السبب فهو كل وصف يخل وجوده بحكمة السبب يقيناً كالدين في باب الزكاة مع ملك النصاب.
الصنف الثالث
الشرط
والشرط ما كان عدمه مخلاً بحكمة السبب فهو شرط السبب كالقدرة على التسليم في باب البيع وما كان عدمه مشتملاً على حكمة مقتضاها نقيض حكم السبب مع بقاء حكمة السبب فهو شرط الحكم كعدم الطهارة في الصلاة مع الإتيان بمسمى الصلاة والحكم الشرعي في ذلك إنما هو قضاء الشارع على الوصف بكونه مانعاً أو شرطاً لا نفس الوصف المحكوم عليه وقد يرد هاهنا من الإشكالات ما وردت على السبب والوجه في دفعها ما سبق.
الصنف الرابع
الحكم بالصحة
وهي في اللغة مقابل للسقم وهو المرض وأما في الشرع فقد تطلق الصحة على العبادات تارة وعلى عقود المعاملات تارة أما في العبادات فعند المتكلم الصحة عبارة عن موافقة أمر الشارع وجب القضاء أو لم يجب وعند الفقهاء الصحة عبارة عن سقوط القضاء بالفعل فمن صلى وهو يظن أنه متطهر وتبين أنه لم يكن متطهراً فصلاته صحيحة عند المتكلم لموافقة أمر الشارع بالصلاة على حسب حاله وغير صحيحة عند الفقهاء لكونها غير مسقطة للقضاء وأما في عقود المعاملات فمعنى صحة العقد ترتب ثمرته المطلوبة منه عليه ولو قيل للعبادة صحيحة بهذا التفسير فلا حرج ومن فسر صحة العقد بإذن الشارع في الانتفاع بالمعقود عليه فهو فاسد فإن البيع بشرط الخيار صحيح بالإجماع وإن لم يتحقق إذن الشارع بالانتفاع بتقدير الفسخ قبل انقضاء المدة مع أنه لا يطرد هذا التفسير في صحة الصلاة وغيرها من العبادات وإن صح فالنزاع في أمر لفظي ولا بأس بتفسير كون العبادة مجزية بكونها مسقطة لوجوب القضاء وحيث لم تكن متصفة بكونها مجزية عند أدائها مع اختلال شرطها وسقوط القضاء بالموت إنما كان لأنه لم يسقط القضاء بفعلها بل بالموت.
الصنف الخامس
الحكم بالبطلان
وهو نقيض الصحة بكل اعتبار من الاعتبارات السابقة وأما الفاسد فمرادف للباطل عندنا وهو عند أبي حنيفة قسم ثالث مغاير للصحيح والباطل وهو ما كان مشروعاً بأصله ممنوعاً بوصفه كبيع مال الربا بجنسه متفاضلاً ونحوه وسيأتي تحقيق ذلك في المناهي.
الصنف السادس
العزيمة والرخصة
أما العزيمة ففي اللغة الرقية وهي مأخوذة من عقد القلب المؤكد على أمر ما ومنه قوله تعالى: " فنسي ولم نجد له عزماً " طه 115 " أي قصداً مؤكداً ومنه سمي بعض الرسل ألو العزم لتأكد قصدهم في إظهار الحق وأما في الشرع فعبارة عما لزم العباد بإلزام الله تعالى كالعبادات الخمس ونحوها.(1/48)
وأما الرخصة في اللغة بتسكين الخاء فعبارة عن التيسير والتسهيل ومنه يقال رخص السعر إذا تيسر وسهل وبفتح الخاء عبارة عن الأخذ بالرخص وأما في الشرع فقد قيل الرخصة ما أبيح فعله مع كونه حراماً وهو تناقض ظاهر وقيل ما رخص فيه مع كونه حراماً وهو مع ما فيه من تعريف الرخصة بالترخيص المشتق من الرخصة غير خارج عن الإباحة فكان في معنى الأول وقال أصحابنا: الرخصة ما جاز فعله لعذر مع قيام السبب المحرم وهو غير جامع فإن الرخصة كما قد تكون بالفعل قد تكون بترك الفعل كإسقاط وجوب صوم رمضان والركعتين من الرباعية في السفر فكان من الواجب أن يقال الرخصة ما شرع من الأحكام لعذر إلى آخر الحد المذكور حتى يعم النفي والإثبات ثم العذر المرخص لا يخلو إما أن يكون راجحاً على المحرم أو مساوياً أو مرجوحاً فإن كان الأول فموجبه لا يكون رخصة بل عزيمة وإلا كان كل حكم ثبت بدليل راجح مع وجود المعارض المرجوح رخصة وهو خلاف الإجماع وإن كان مساوياً فإن قلنا بتساقط الدليلين المتعارضين من كل وجه والرجوع إلى الأصل فلا يكون ذلك رخصة وإلا كان كل فعل يقيناً فيه على النفي الأصلي قبل ورود الشرع رخصة وهو ممتنع وإن لم نقل بالتساقط فالقائل قائلان: قائل يقول بالوقف عن الحكم بالجواز وعدمه إلى حين ظهور الترجيح وذلك عزيمة لا رخصة وقائل يقول بالتخيير بين الحكم بالجواز والحكم بالتحريم ويلزم من ذلك أن لا يكون أكل الميتة حالة الاضطرار رخصة ضرورة عدم التخيير بين جواز الأكل والتحريم لأن الأكل واجب جزماً وقد قيل بكونه رخصة فلم يبق إلا أن يكون الدليل المحرم راجحاً على المستبيح ويلزم من ذلك العلم بالمرجوح ومخالفة الراجح وهو في غاية الإشكال وإن كان هذا القسم هو الأشبه بالرخصة لما فيها من التيسير والتسهيل بالعمل بالمرجوح ومخالفة الراجح وعلى هذا فإباحة شرب الخمر والتلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه وإسقاط صوم رمضان والقصر في الرباعية في السفر والتيمم مع وجود الماء للجراحة أو لبعد الماء أو لبيعه بأكثر من ثمن المثل رخصة حقيقة وأكل الميتة حالة الاضطرار وإن كان عزيمة من حيث هو واجب استبقاء للمهجة فرخصة من جهة ما في الميتة من الخبث المحرم وما لم يوجبه الله علينا وإن كان واجباً على من قبلنا فليس رخصة حقيقة وإن سمي رخصة لعدم الدليل المحرم لتركه وكذلك كل حكم ثبت جوازه على خلاف العموم للمخصص لا يكون رخصة لأن المخصص بين لنا أن المتكلم لم يرد باللفظ العام لغة صورة التخصيص فلا يكون إثبات الحكم فيها على خلاف الدليل لأن العموم إنما يكون دليلاً على الحكم في آحاد الصور الداخلة تحت العموم لغة مع إرادة المتكلم لها ومع المخصص فلا إرادة.
الأصل الثالث
في المحكوم فيه
وهو الأفعال المكلف بها وفيه خمس مسائل: المسألة الأولى اختلف قول أبي الحسن الأشعري في جواز التكليف بما لا يطاق نفياً وإثباتاً وذلك كالجمع بين الضدين وقلب الأجناس وإيجاد القديم وإعدامه ونحوه وميله في أكثر أقواله إلى الجواز وهو لازم على أصله في اعتقاد وجوب مقارنة القدرة الحادثة للمقدور بها مع تقدم التكليف بالفعل على الفعل وأن القدرة الحادثة غير مؤثرة في مقدورها بل مقدورها مخلوق لله تعالى.
ولا يخفى أن التكليف بفعل الغير حالة عدم القدرة عليه تكليف بما لا يطاق وهذا هو مذهب أكثر أصحابه وبعض معتزلة بغداد حيث قالوا بجواز تكليف العبد بفعل في وقت علم الله تعالى أنه يكون ممنوعاً عنه والبكرية حيث زعموا أن الختم والطبع على الأفئدة مانعان من الإيمان مع التكليف به غير أن من قال بجواز ذلك من أصحابه اختلفوا في وقوعه نفياً وإثباتاً ووافقه على القول بالنفي بعض الأصحاب وهو مذهب البصريين من المعتزلة وأكثر البغداديين وأجمع الكل على جواز التكليف بما علم الله أنه لا يكون عقلاً وعلى وقوعه شرعاً كالتكليف بالإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن كأبي جهل خلافاً لبعض الثنوية.
والمختار إنما هو امتناع التكليف بالمستحيل لذاته كالجمع بين الضدين ونحوه وجوازه في المستحيل باعتبار غيره وإليه ميل الغزالي رحمه الله.(1/49)
ولنفرض الكلام في الطرفين أما الطرف الأول وهو امتناع التكليف بالمستحيل لذاته فيدل عليه أن التكليف طلب ما فيه كلفة والطلب يستدعي مطلوباً متصوراً في نفس الطالب فإن طلب ما لا تصور له في النفس محال والمستحيل لذاته كالجمع بين الضدين والنفي والإثبات معاً في شيء واحد ونحوه لا تصور له في النفس ولو تصور في النفس لما كان وقوعه في الخارج ممتنعاً لذاته وكما يمتنع التكليف بالجمع بين الضدين في طرف الوجود فكذلك يمتنع التكليف بالجمع بين الضدين طرف السلب إذا لم يكن بينهما واسطة كالتكليف بسلب الحركة والسكون معاً في شيء واحد لاستحالة ذلك لذاتيهما وعلى هذا فمن توسط مزرعة مغصوبة فلا يقال له: لا تمكث ولا تخرج كما ذهب إليه أبو هاشم وإن كان في كل واحد من المكث والخروج إفساد زرع الغير بل يتعين التكليف بالخروج لما فيه من تقليل الضرر وتكثيره في المكث كما يكلف المولج في الفرج الحرام بالنزع وإن كان به ماساً للفرج المحرم لأن ارتكاب أدنى الضررين يصير واجباً نظراً إلى رفع أعلاهما كإيجاب شرب الخمر من غص بلقمة ونحوه ووجوب الضمان عليه بما يفسده عند الخروج لا يدل على حرمة الخروج كما يجب الضمان على المضطر في المخمصة بما يتلفه بالأكل وإن كان الأكل واجباً وإن قدر انتفاء الترجيح بين الطرفين وذلك كما إذا سقط إنسان من شاهق على صدر صبي محفوف بصبيان وهو يعلم أنه إن استمر قتل من تحته وإن انتقل قتل من يليه فيمكن أن يقال بالتخيير بينهما أو يخلو مثل هذه الواقعة عن حكم الشارع وهو أولى من تكليفه طلب ما لا تصور له في نفس الطالب على ما حققناه.
وهذا بخلاف ما إذا كان محالاً باعتبار غيره فإنه يكون ممكناً باعتبار ذاته فكان متصوراً في نفس الطالب وهو واضح لا غبار عليه.
فإن قيل: ما ذكرتموه من إحالة طلب الجمع بين الضدين بناء على عدم تصوره في نفس الطالب غير صحيح وذلك لأنه لو لم يكن متصوراً في نفس الطالب لما علم إحالته فإن العلم بصفة الشيء فرع تصور ذلك الشيء واللازم ممتنع وإن سلم دلالة ما ذكرتموه إلا أنه معارض بما يدل على جواز التكليف بالجمع بين الضدين ووقوعه شرعاً وبيانه قوله تعالى لنوح " إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " " هود 36 " أخبر أنه لا يؤمن غير من لم يؤمن مع أنهم كانوا مكلفين بتصديقه فيما يخبر به ومن ضرورة ذلك تكليفهم بأن لا يصدقوه تصديقاً له في خبره أنهم لا يؤمنون وأيضاً فإن الله تعالى كلف أبا لهب بتصديق النبي عليه السلام في أخباره ومن أخبار النبي عليه السلام أن أبا لهب لا يصدقه لإخبار الله تعالى لنبيه بذلك فقد كلفه بتصديقه في إخباره بعدم تصديقه له وفي ذلك تكليفه بتصديقه وعدم تصديقه وهو تكليف بالجمع بين الضدين.
قلنا: أما الإشكال الأول فمندفع وذلك لأن الجمع المعلوم المتصور المحكوم بنفيه عن الضدين إنما هو الجمع المعلوم بين المختلفات التي ليست متضادة ولا يلزم من تصوره منفياً عن الضدين تصوره ثابتاً لهما وهو دقيق فليتأمل وما ذكروه من المعارضة فلا نسلم وجود الإخبار بعدم الإيمان في الآيتين مطلقاً.
أما في قصة أبي لهب فغاية ما ورد فيه قوله تعالى " سيصلى ناراً ذات لهب " " المسد 3 " وليس في ذلك ما يدل على الإخبار بعدم تصديقه للنبي مطلقاً فإنه لا يمتنع تعذيب المؤمن وبتقدير امتناع ذلك أمكن حمل قوله تعالى " سيصلى نارا ذات لهب " على تقدير عدم إيمانه وكذلك التأويل في قوله تعالى " إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " " هود 36 " أي بتقدير عدم هداية الله تعالى لهم إلى ذلك وذلك لا يدل على الإخبار بعدم الإيمان مطلقاً وإن سلمنا ذلك ولكن لا نسلم أنهم كلفوا بتصديق النبي عليه السلام فيما أخبر من عدم تصديقهم بتكذيبه وهذا مما اتفق عليه نفاة التكليف بالجمع بين الضدين.(1/50)
وأما الطرف الثاني وهو بيان جواز التكليف بالمستحيل لغيره فقد احتج الأصحاب عليه بالنص والمعقول: أما النص فقوله تعالى: " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " " البقرة 286 " سألوا دفع التكليف بما لا يطاق ولو كان ذلك ممتنعاً لكان مندفعاً بنفسه ولم يكن إلى سؤال دفعه عنهم حاجة فإن قيل إنما يمكن حمل الآية على سؤال دفع ما لا يطاق أن لو كان ذلك ممكناً وإلا لتعذر السؤال بدفع ما لا إمكان لوقوعه كما ذكرتموه وإمكانه متوقف على كون الآية ظاهرة فيه فيكون دوراً سلمنا كونها ظاهرة فيما ذكرتموه ولكن أمكن تأويلها بالحمل على سؤال دفع ما فيه مشقة على النفس وإن كان مما يطاق ويجب الحمل عليه لموافقته لما سنذكره من الدليل بعد هذا سلمنا إرادة دفع ما لا يطاق لكنه حكاية حال الداعين ولا حجة فيه سلمنا صحة الاحتجاج بقول الداعين لكن لا يخلو إما أن يقال بأن جميع التكاليف غير مطاقة أو البعض دون البعض الأول يوجب إبطال فائدة تخصيصهم بذكر ما لا يطاق بل كان الواجب أن يقال لا يكلفنا وإن كان الثاني فهو خلاف أصلكم سلمنا دلالة ما ذكرتموه لكنه معارض بقوله تعالى " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " " البقرة 286 " وهو صريح في الباب وقوله تعالى " وما جعل عليكم في الدين من حرج " " الحج 78 " ولا حرج أشد من التكليف بما لا يطاق.
والجواب عن السؤال الأول: أن الآية بوضعها ظاهرة فيما لا يطاق فيجب تقدير إمكان التكليف به ضرورة حمل الآية على ما هي ظاهرة فيه حذراً من التأويل من غير دليل وعن الثاني أنه ترك الظاهر من غير دليل.
وعن الثالث أن الآية إنما وردت في معرض التقرير لهم والحث على مثل هذه الدعوات فكان الاحتجاج بذلك لا بقولهم.
وعن الرابع أنه وإن كان كل تكليف عندنا تكليفاً بما لا يطاق غير أنه يجب تنزيل السؤال على ما لا يطاق وهو ما يتعذر الإتيان به مطلقاً في عرفهم دون ما لا يتعذر لما فيه من إجراء اللفظ على حقيقته وموافقة أهل العرف في عرفهم غايته إخراج ما لا يطاق مما هو مستحيل في نفسه لذاته من عموم الآية لما ذكرنا من استحالة التكليف به وامتناع سؤال الدفع للتكليف بما لا تكليف به ولا يخفى أنه تخصيص والتخصيص أولى من التأويل وعن المعارضة بالآيتين أن غايتهما الدلالة على نفي وقوع التكليف بما لا يطاق ولا يلزم من ذلك نفي الجواز المدلول عليه من جانبنا كيف وإن الترجيح لما ذكرناه من الآية لاعتضادها بالدليل العقلي على ما يأتي ومع ذلك فلا خروج لها عن الظن والتخمين وربما احتج بعض الأصحاب بقوله تعالى " يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون " " القلم 42 " وهو تكليف بالسجود مع عدم الاستطاعة وإنما يصح الاحتجاج به أن لو أمكن أن يكون الدعاء في الآخرة بمعنى التكليف وليس كذلك للإجماع على أن الدار الآخرة إنما هي دار مجازاة لا دار تكليف.
وأما من جهة المعقول فقد احتج فيه بعضهم بحجج واهية: الأولى منها: هو أن الفعل المكلف به إن كان مع استواء داعي العبد إلى الفعل والترك كان الفعل ممتنعاً لامتناع حصول الرجحان معه وإن كان مع الترجيح لأحد الطرفين كان الراجح واجباً والمرجوح ممتنعاً والتكليف بهما يكون محالاً.
الثانية: أن الفعل الصادر من العبد إما أن يكون العبد متمكناً من فعله وتركه أو لا يكون فإن لم يكن متمكناً منه فالتكليف له بالفعل يكون تكليفاً بما لا يطاق وإن كان متمكناً منه فإما أن لا يتوقف ترجح فعله على تركه على مرجح أو يتوقف الأول محال وإلا كان كل موجود حادثاً هكذا ويلزم منه سد باب إثبات واجب الوجود وإن توقف فذلك المرجح إن كان من فعل العبد عاد التقسيم وهو تسلسل ممتنع وإن كان من فعل غيره فإما أن يجب وقوع الفعل أو لا يجب وإذا لم يجب كان ممتنعاً أو جائزاً والأول محال وإلا كان المرجح مانعاً وإن كان الثاني عاد التقسيم بعينه وهو ممتنع فلم يبق سوى الوجوب والعبد إذ ذاك يكون مجبوراً لا مخيراً وهو عين التكليف بما لا يطاق.
الثالثة: أن قدرة العبد غير مؤثرة في فعله وإلا كانت مؤثرة فيه حال وجوده وفيه إيجاد الموجود أو قبل وجوده ويلزم من ذلك أن يكون تأثير القدرة في المقدور مغايراً له لتحقق التأثير في الزمن الأول دونه والكلام في ذلك التأثير وتأثير مؤثره فيه كالأول وهو تسلسل ممتنع والقدرة غير مؤثرة في الفعل وهو المطلوب.(1/51)
الرابعة: أن العبد مكلف بالفعل قبل وجود الفعل والقدرة غير موجودة قبل الفعل لأنها لو وجدت لكان لها متعلق ومتعلقها لا يكون عدماً لأنه نفي محض فلا يكون أثراً لها فكان وجوداً ولزم من ذلك أن تكون موجودة مع الفعل لا قبله.
الخامسة: أن العبد مأمور بالنظر لقوله تعالى " قل انظروا " " يونس 101 " والنظر متوقف على القضايا الضرورية قطعاً للتسلسل وهي متوقفة على تصور مفرداتها وهي غير مقدورة التحصيل لأنه إن كان عالماً بها فتحصيل الحاصل محال وإن لم يكن عالماً بها فطلبها محال فالنظر يكون ممتنع التحصيل وهذه الحجج ضعيفة جداً.
أما الحجة الأولى فلقائل أن يقول: ما المانع أن يكون وجود الفعل مع رجحان الداعي إلى الفعل قوله لأنه صار الفعل واجباً قلنا صار واجباً بالداعي إليه والاختيار له أو لذاته الأول مسلم والثاني ممنوع وعلى هذا خرج العبد عن كونه مكلفاً بما لا يطاق ثم يلزم عليه أن تكون أفعال الرب تعالى غير مقدورة بعين ما ذكروه وهو ممتنع فما هو الجواب عن أفعال الله يكون مشتركاً.
وأما الثانية فهي بعينها أيضاً لازمة على أفعال الله إذ أمكن أن يقال فعل الله إما أن لا يكون متمكناً منه أو يكون وهو إما أن يفتقر إلى مرجح أو لا وإن افتقر إلى مرجح فإن كان من فعله عاد التقسيم وإن لم يكن من فعله فإما أن يجب وقوع الفعل معه أو لا يجب وهلم جراً إلى آخره والجواب يكون مشتركاً وكذلك الثالثة أيضاً لازمة على أفعال الله مع أنها مقدورة له إجماعاً.
وأما الرابعة: فيلزم منها أن تكون قدرة الرب تعالى حادثة موجودة مع فعله لا قبله وهو مع إحالته فقائل هذه الطريقة غير قائل به وبيان ذلك أنه أمكن أن يقال لو وجدت قدرة الرب قبل وجود فعله لكان لها متعلق وليس متعلقها العدم فلم يبق غير الوجود ويلزم أن لا يكون قبل الفعل بعين ما ذكروه.
وأما الخامسة: فأشد ضعفاً مما قبلها إذ هي مبنية على امتناع اكتساب التصورات وقد أبطلناه في كتاب دقائق الحقائق إبطالاً لا ريبة فيه بما لا يحتمله هذا الكتاب فعلى الناظر بمراجعته وبتقدير أن لا تكون التصورات مكتسبة فالعلم بها يكون حاصلاً بالضرورة والتكليف بالنظر المستند إلى ما ينقطع التسلسل عنده من المعلومات الضرورية لا يكون تكليفاً بما لا يطاق وهو معلوم بالضرورة والمعتمد في ذلك مسلكان: المسلك الأول أن العبد غير خالق لفعله فكان مكلفاً بفعل غيره وهو تكليف بما لا يطاق وبيان أنه غير خالق لفعله أنه لو كان خالقاً لفعله فليس خالقا له بالذات والطبع إجماعاً بل بالاختيار والخالق بالاختيار لا بد وأن يكون مخصصاً لمخلوقه بالإرادة ويلزم من كونه مريداً له أن يكون عالماً به ضرورة والعبد غير عالم بجميع أجزاء حركاته في جميع حالاته ولا سيما في حالة إسراعه فلا يكون خالقاً لها.
المسلك الثاني إن إجماع السلف منعقد قبل وجود المخالفين من الثنوية على أن الله تعالى مكلف بالإيمان لمن علم أنه لا يؤمن كمن مات على كفره وهو تكليف بما يستحيل وقوعه لأنه لو وقع لزم أن يكون علم الباري تعالى جهلاً وهو محال.
فإن قيل: أما المسلك الأول وإن سلمنا أن العبد لا بد وأن يكون عالماً بما يخلقه من أفعاله لكن من جهة الجملة أو من جهة التفصيل الأول لا سبيل إلى نفيه والثاني ممنوع وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن العبد غير خالق لفعله لكنه معارض بما يدل على خلقه له ودليله المعقول والمنقول:(1/52)
أما المعقول فهو أن قدرة العبد ثابتة بالإجماع منا ومنكم على فعله فلو لم تكن هي المؤثرة فيه لانتفى الفرق بين المقدور وغيره وكان المؤثر فيه غير العبد ويلزم منه وجود مقدور بين قادرين ولما وقع الاختلاف بين القوي والضعيف ولجاز أن يكون متعلقه بالجواهر والألوان كما في العلم ولكان العبد مضطراً بما خلف فيه من الفعل لا مختاراً ولجاز أن يصدر عن العبد أفعال محكمة بديعة وهو لا يشعر بها ولما انقسم فعله إلى طاعة ومعصية لأنه ليس من فعله ولكان الرب تعالى أضر على العبد من إبليس حيث إنه خلق فيه الكفر وعاقبه عليه وإبليس داع لا غير ولما حسن شكر العبد ولا ذمه على أفعاله ولا أمره ولا نهيه ولا عقابه ولا ثوابه ولكان الرب تعالى آمراً للعبد بفعل نفسه وهو قبيح معدود عند العقلاء من الجهل والحمق ولكان الكفر والإيمان من قضاء الله تعالى وقدره وهو إما أن يكون حقاً أو باطلاً فإن كان حقاً فالكفر حق وإن كان باطلاً فالإيمان باطل ولكان الرب تعالى إما راضياً به أو غير راض والأول يلزم منه الرضى بالكفر والثاني يلزم منه عدم الرضى بالإيمان والكل محال مخالف للإجماع.
وأما النقل فقوله تعالى " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً " " طه 82 " وقوله تعالى " أم حسب الذين اجترحوا السيئات " " الجاثية 21 " وقول النبي عليه السلام " اعملوا وقاربوا وسددوا " وقوله عليه السلام: " نية المؤمن خير من عمله " إلى غير ذلك من النصوص الدالة على نسبة العمل إلى العبد والعقلاء متوافقون على إطلاق إضافة الفعل إلى العبد بقولهم: فلان فعل كذا وكذا والأصل في الإطلاق الحقيقة.
وأما المسلك الثاني فهو أن تعلق علم الباري تعالى بالفعل أو بعدمه إما أن يكون موجباً لوجود ما علم وجوده وامتناع وجود ما علم عدمه أو لا يكون كذلك فإن كان الأول فليزمه محالات وهو أن يكون العلم هو القدرة أو أن يستغنى به عن القدرة ولا يكون الرب قادراً على إيجاد شيء أو عدمه وأن لا يكون للرب اختيار ولا للعبد في وجود فعل من الأفعال لكونه واجباً بالعلم أو ممتنعاً وإن لم يكن موجباً للوجود ولا للعدم فقد بطل الاستدلال وإن سلم ذلك لكنه معارض بما سبق من الأدلة العقلية والنقلية.
والجواب عما ذكروه أولاً على المسلك الأول بأن الفعل المخلوق للعبد بتقدير خلقه له مخلوق بجميع أجزائه وكل جزء منه مخلوق له بانفراده فيجب أن يكون عالماً به لما سبق وهذا هو العلم بالتفصيل وهو غير عالم لما حققناه وعما ذكروه من لإلزام الأول بمنع عدم الفرق بين المقدور وغيره.
وعن الثاني: أنه إنما يمتنع وجود مقدور بين قادرين خالقين أو مكتسبين أما بين خالق مكتسب فهو غير مسلم.
وعن الثالث: بأن الاختلاف بين القوي والضعيف إنما هو واقع في كثرة ما يخلقه الله تعالى من القدر على المقدورات في أحد الشخصين دون الآخر لا في التأثير.
وعن الرابع أنه إنما يلزم أن لو كان تعلق العلم بالجواهر والأعراض من جهة كونه غير مؤثر فيها وهو غير مسلم.
وعن الخامس أنه إنما يلزم أن يكون العبد مضطراً أن لو لم يكن فعله مكتسباً له ومقدوراً ولا يلزم من عدم التأثير عدم الاكتساب.
وعن السادس أنه لا مانع من تلازم القدرة على الشيء والعلم به.
وعن السابع أنه لا معنى لانقسام فعل العبد إلى الطاعة والمعصية غير كونه مأموراً بهذا ومنهياً عن هذا لكسبه وهو كذلك.
وعن الثامن أنه لازم على أصلهم أيضاً فإن التمكن من الكفر بخلق القدرة عليه أضر من الدعاء إليه وقد فعل الله تعالى ذلك بالعبد فما هو جواب لهم هو جوابنا.
وعما ذكروه من الأمر والنهي والشكر والذم والثواب والعقاب والأمر للعبد بما هو من فعل الله تعالى بالمنع من تقبيح ذلك بتقدير أن يكون قادراً غير مؤثر كيف وإنه مبني على التحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه.
وعن الإلزام بالقضاء والقدر أن القضاء قد يطلق بمعنى الإعلام والأمر والاختراع وانقضاء الأجل وإلزام الحكم وتوفية الحقوق والإرادة لغة وعلى هذا فالإيمان من قضائه بجميع هذه الاعتبارات وهو حق وأما الكفر فليس من قضائه بمعنى كونه مأموراً بل بمعنى خلقه وإرادة وقوعه وهو حق من هذا الوجه أيضاً وعن الإلزام بالرضى أنه راض بالإيمان وغير راض بالكفر.(1/53)
وعن المنقول بأن ما ذكروه غايته إضافة إلى العبد حقيقية ونحن نقول به فإن الفاعل عندنا على الحقيقة هو من وقع الفعل مقدوراً له وهو أعم من الموجد.
والجواب عما ذكروه في المسلك الثاني بأن تعلق العلم بوجود الفعل بملازمة الوجود المقدور فإنه إنما يعلم وجوده مقدوراً لا غير مقدور وكذلك في العدم وعلى هذا فلا يلزم منه عدم القدرة في حق الله تعالى ولا سلب اختياره في فعله وكذلك العبيد فإنه إنما علم وقوع فعل العبد مقدوراً للعبد والمعارضات فقد سبق الجواب عنها.
المسألة الثانية مذهب الجمهور من أصحابنا ومن المعتزلة أنه لا يشترط في التكليف بالفعل أن يكون شرطه حاصلاً حالة التكليف بل لا مانع من ورود التكليف بالمشروط وتقديم شرطه عليه وهو جائز عقلاً وواقع سمعاً خلافاً لأكثر أصحاب الرأي وأبي حامد الأسفرائيني من أصحابنا وذلك كتكليف الكفار بفروع الإسلام حالة كفرهم.
ودليل الجواز العقلي أنه لو خاطب الشارع الكافر المتمكن من فهم الخطاب وقال له: أوجبت عليك العبادات الخمس المشروط صحتها بالإيمان وأوجبت عليك الإتيان بالإيمان مقدماً عليها لم يلزم منه لذاته محال عقلاً ولا معنى للجواز العقلي سوى هذا.
فإن قيل: التكليف بالفروع المشروطة بالإيمان إما أن تكون حالة وجود الإيمان أو حالة عدم فإن كان الأول فلا تكليف قبل الإيمان وهو المطلوب وإن كان حالة عدمه فهو تكليف بما هو غير جائز عقلاً وأيضاً فإن التكليف بالفروع غير ممكن الامتثال لاستحالة أدائها حالة الكفر وامتناع أدائها بعد الإيمان لكونه مسقطاً لها بالإجماع وما لا يمكن امتثاله فالتكليف به تكليف بما لا يطاق ولم يقل به قائل في هذه المسألة.
قلنا: أما الإشكال الأول فإنما يلزم منه التكليف بما لا يطاق بتقدير تكليفه بالفروع حالة الكفر إن لو كان تكليفه بمعنى إلزامه الإتيان بها مع الكفر وليس كذلك بل بمعنى أنه لو أصر على الكفر حتى مات ولم يأت بها مع الإيمان فإنه يعاقب في الدار الآخرة ولا إحالة فيه وبهذا الحرف يندفع ما ذكروه من الإشكال الثاني أيضاً كيف وإن الامتثال بعد الإسلام غير ممتنع غير أن الشارع أسقطه ترغيباً في الدخول في الإسلام بقوله عليه السلام " الإسلام يجب ما قبله " وهذا بخلاف المرتد حيث إنه أوجب عليه فعل ما فاته في حال ردته ليكون ذلك مانعاً من الردة.
وأما الوقوع شرعاً فيدل عليه النص والحكم أما النص فمن وجوه: الأول قوله تعالى " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين " " البينة 1 " إلى قوله تعالى " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة " " البينة 5 " والضمير في قوله وما أمروا عائد إلى المذكورين أولاً وهو صريح في الباب وأيضاً قوله تعالى " فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى " " القيامة " ذم على ترك الجميع ولو لم يكن مكلفاً بالكل لما ذم عليه وأيضاً قوله تعالى " والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاماً يضاعف له العذاب يوم القيمة " " الفرقان 68 " حكم بمضاعفة العذاب على مجموع المذكور والزنى من جملته ولولا أنه محرم عليه ومنهي عنه لما أثمه به وهذا حجة على من نفى التكليف بالأمر والنهي دون من جوز التكليف بالنهي دون الأمر وأيضاً قوله تعالى " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً " " آل عمران 97 " والكافر داخل فيه لكونه من الناس وأيضاً قوله تعالى: " فويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة " " فصلت 7 " لكن قال المفسرون: المراد بالزكاة في هذه الآية إنما هو قول " لا إله إلا الله " " الصافات 35 " وأيضاً قوله تعالى " ما سلككم في سقر " قالوا: لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين " " المدثر 42 - 43 " ولو لم يكونوا قد كلفوا بالصلاة لما عوقبوا عليها.(1/54)
فإن قيل: هذه حكاية قول الكفار ولا حجة فيها وإن كانت حجة لكن أمكن أن يكون المراد من قولهم " لم نك من المصلين " أي من المؤمنين ومنه قوله عليه السلام " نهيت عن قتل المصلين " وأراد به المؤمنين وإن كان المراد الصلاة الشرعية حقيقة غير أن العذاب إنما كان لتكذيبهم بيوم الدين غير أن غلظ بإضافة ترك الطاعات إليه وأنه كان ذلك مضافاً إلى الصلاة لكن لا إلى تركها بل إلى إخراجهم أنفسهم عن العلم بقبح تركها بترك الإيمان وإن كان ذلك على ترك الصلاة لكن أمكن أن يكون ذلك إخباراً عن جماعة من المرتدين تركوا الصلاة حالة ردتهم وذلك محل الوفاق.
والجواب عن قولهم إنه حكاية قول الكفار أن علماء الأمة من السلف وغيرهم أجمعوا على أن المراد بذلك إنما هو تصديقهم فيما قالوه والتحذير لغيرهم من ذلك ويدل على ذلك تعذيبهم بالتكذيب بيوم الدين وقد عطف على ما قبله والأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في أصل الحكم.
وعن حمل لفظ المصلين على المؤمنين أنه ترك للظاهر من غير دليل وإن أمكن تأويل لفظ الصلاة فبماذا نتأول قوله " ولم نك نطعم المسكين " " المدثر 43 " فإن المراد به إنما هو الإطعام الواجب لاستحالة التعذيب على ترك إطعام ليس بواجب.
وعن قولهم بتغليظ عذاب التكذيب بإضافة ترك الطاعات إليه إنها لو كانت مباحة لما غلظ العذاب بها.
وعن قولهم بالتعذيب بإخراج أنفسهم عن العلم بقبح ترك الصلاة أنه ترك للظاهر من غير دليل وأنه يوجب التسوية بين كافر ارتكب جميع المحرمات وبين من لم يباشر شيئاً منها لاستوائهما فيما قيل وهو خلاف الإجماع.
وعن الحمل على صلاة المرتدين أن الآية بلفظها عامة في كل المجرمين المذكورين في قوله " يتساءلون عن المجرمين " " المدثر 40 " وهو عام في المرتدين وغيرهم فلا يجوز تخصيصها من غير دليل.
هذا من جهة النصوص وأما من جهة الإلزام فهو أنه لو امتنع التكليف بالفعل مع عدم شرط الفعل لامتنع التكليف بالصلاة مع عدم الطهارة ولكان من ترك الطهارة والصلاة أبداً لا يعاقب ولا يذم إلا على ترك الطهارة بل ما لا تتم الطهارة إلا به وذلك خلاف إجماع الأمة.
المسألة الثالثة اتفق أكثر المتكلمين على أن التكليف لا يتعلق إلا بما هو من كسب العبد من الفعل وكف النفس عن الفعل فإنه فعل خلافاً لأبي هاشم في قوله: إن التكليف قد يكون بأن لا يفعل العبد مع قطع النظر عن التلبس بضد الفعل وذلك ليس بفعل.
احتج المتكلمون بأن ممتثل التكليف مطيع والطاعة حسنة والحسنة مستلزمة للثواب على ما قال تعالى " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " " الأنعام 160 " وقال تعالى: " ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى " " النجم 31 " ولا فعل عدم محض وليس بشيء وما ليس بشيء لا يكون من كسب العبد ولا متعلق القدرة وما لا يكون من كسب العبد لا يكون مثاباً عليه لقوله تعالى " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " " النجم 39 " .
فإن قيل: عدم الفعل وإن لم يكن أمراً وجودياً ولا ذاتاً ثابتة فإنما يمتنع التكليف به ويمتنع أن يكون الامتثال به طاعة وحسنة مثاباً عليها أن لو لم يكن مقدوراً للعبد ومكتسباً له وهو غير مسلم كما قاله القاضي أبو بكر في أحد قوليه قال المتكلمون عدم الفعل من حيث هو كذلك متحقق قبل قدرة العبد وهو غير مقدور للعبد قبل خلق قدرته وهو مستمر إلى ما بعد خلق القدرة فلا يكون مقدوراً للعبد ولا مكتسباً له ويلزم من ذلك امتناع التكليف به على ما تقرر إلا أن للخصم أن يقول: لا يلزم من كون عدم الفعل السابق على خلق القدرة غير مقدور أن يكون المقارن منه للقدرة غير مقدور.
المسألة الرابعة اتفق الناس على جواز التكليف بالفعل قبل حدوثه سوى شذوذ من أصحابنا وعلى امتناعه بعد حدوث الفعل واختلفوا في جواز تعلقه به في أول زمان حدوثه فأثبته أصحابنا ونفاه المعتزلة.
احتج أصحابنا بأن الفعل في أول زمان حدوثه مقدور بالاتفاق وسواء قيل بتقدم القدرة عليه كما هو مذهب المعتزلة أم بوجودها مع وجوده كما هو مذهب أصحابنا وإذا كان مقدوراً أمكن تعلق التكليف به.
فإن قيل: القول بجواز تعلق التكليف به في أول زمان حدوثه يلزم منه الأمر بإيجاد الموجود وهو محال.(1/55)
قلنا يلزم منه الأمر بإيجاد ما كان موجوداً أو بما لم يكن موجوداً الأول ممنوع والثاني فدعوى إحالته نفس محل النزاع ثم يلزمهم من ذلك أن لا يكون الفعل في أول زمان حدوثه أثراً للقدرة القديمة ولا للحادثة على اختلاف المذهبين ولا موجدة له لما فيه من إيجاد الموجود وهو محال فما هو جوابهم في إيجاد القدرة له فهو جوابنا في تعلق الأمر به.
المسألة الخامسة اختلف أصحابنا والمعتزلة في جواز دخول النيابة فيما كلف به من الأفعال البدنية: فأثبته أصحابنا ونفاه المعتزلة.
حجة أصحابنا على ذلك أنه لو قال القائل لغيره أوجبت عليك خياطة هذا الثوب فإن خطته أو استنبت في خياطته أثبتك وإن تركت الأمرين عاقبتك كان معقولاً غير مردود وما كان كذلك فوروده من الشارع لا يكون ممتنعاً ويدل على وقوعه ما روي عن النبي عليه السلام أنه رأى شخصاً يحرم بالحج عن شبرمة فقال له النبي عليه السلام " أحججت عن نفسك " فقال: لا فقال له " حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة " وهو صريح فيما نحن فيه.
فإن قيل: وجوب العبادات البدنية إنما كان ابتلاء وامتحاناً من الله تعالى للعبد فإنه مطلوب للشارع لما فيه من كسر النفس الأمارة بالسوء وقهرها لكونها عدوة لله تعالى على ما قال: عليه السلام حكاية عن ربه " عاد نفسك فإنها انتصبت لمعاداتي " تحصيلاً للثواب على ذلك وذلك مما لا مدخل للنيابة فيه كما لا مدخل لها في باقي الصفات من الآلام واللذات ونحوها.
قلنا: أما الابتلاء والامتحان بالتكليف لما ذكروه وإن كان مع تعيين المكلف لأداء ما كلف به أشق مما كلف به مع تسويغ النيابة فيه فليس في ذلك مما يرفع أصل الكلفة والامتحان فيما سوغ له فيه الاستنابة فإن المشقة لازمة له بتقدير الإتيان به بنفسه وهو الغالب وبما يبذله من العوض للنائب بتقدير النيابة ويلتزمه من المنة بتقدير عدم العوض وليس المراعي في باب التكاليف أشقها وأعلاها رتبة ولذلك كانت متفاوتة وأما الثواب والعقاب فليس مما يجب على الله تعالى في مقابلة الفعل بل إن أثاب فبفضله وإن عاقب فبعدله كما عرف من أصلنا بل له أن يثيب العاصي ويعاقب الطائع.
الأصل الرابع
في المحكوم عليه وهو المكلف
وفيه خمس مسائل: المسألة الأولى اتفق العقلاء على أن شرط المكلف أن يكون عاقلاً فاهماً للتكليف لأن التكليف خطاب وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال كالجماد والبهيمة ومن وجد له أصل الفهم لأصل الخطاب دون تفاصيله من كونه أمراً ونهياً ومقتضياً للثواب والعقاب ومن كون الآمر به هو الله تعالى وأنه واجب الطاعة وكون المأمور به على صفة كذا وكذا كالمجنون والصبي الذي لا يميز فهو بالنظر إلى فهم التفاصيل كالجماد والبهيمة بالنظر إلى فهم أصل الخطاب ويتعذر تكليفه أيضاً إلا على رأي من يجوز التكليف بما لا يطاق لأن المقصود من التكليف كما يتوقف على فهم أصل الخطاب فهو متوقف على فهم تفاصيله وأما الصبي المميز وإن كان يفهم ما لا يفهمه غير المميز غير أنه أيضاً غير فاهم على الكمال ما يعرفه كامل العقل من وجود الله تعالى وكونه متكلماً مخاطباً مكلفاً بالعبادة ومن وجود الرسول الصادق المبلغ عن الله تعالى وغير ذلك مما يتوقف عليه مقصود التكليف فنسبته إلى غير المميز كنسبة غير المميز إلى البهيمة فيما يتعلق بفوات شرط التكليف وإن كان مقارباً لحالة البلوغ بحيث لم يبق بينه وبين البلوغ سوى لحظة واحدة فإنه وإن كان فهمه كفهمه الموجب لتكليفه بعد لحظة غير أنه لما كان العقل والفهم فيه خفياً وظهوره فيه على التدريج ولم يكن له ضابط يعرف به جعل له الشارع ضابطاً وهو البلوغ وحط عنه التكليف قبله تخفيفاً عليه ودليله قوله عليه السلام " رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق " .
فإن قيل: إذا كان الصبي والمجنون غير مكلف فكيف وجبت عليهما الزكاة والنفقات والضمانات وكيف أمر الصبي المميز بالصلاة.
قلنا: هذه الواجبات ليست متعلقة بفعل الصبي والمجنون بل بماله أو بذمته فإنه أهل للذمة بإنسانيته المتهيئ بها لقبول فهم الخطاب عند البلوغ بخلاف البهيمة والمتولي لأدائها الولي عنهما أو هما بعد الإفاقة والبلوغ وليس ذلك من باب التكليف في شيء.(1/56)
وأما الأمر بصلاة المميز فليس من جهة الشارع وإنما هو من جهة الولي لقوله عليه السلام " مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع " وذلك لأنه يعرف الولي ويفهم خطابه بخلاف خطاب الشارع على ما تقدم.
وعلى هذا فالغافل عما كلف به والسكران المتخبط لا يكون خطابه وتكليفه في حالة غفلته وسكره أيضاً إذ هو في تلك الحالة أسوأ حالاً من الصبي المميز فيما يرجع إلى فهم خطاب الشارع وحصول مقصوده منه وما يجب عليه من الغرامات والضمانات بفعله في تلك الحال فتخريجه كما سبق في الصبي والمجنون ونفوذ طلاق السكران ففيه منع خطاب الوضع والإخبار وإن نفذ فليس من باب التكليف في شيء بل من باب ما ثبت بخطاب الوضع والإخبار يجعل تلفظه بالطلاق علامة على نفوذه كما جعل زوال الشمس وطلوع الهلال علامة على وجوب الصلاة والصوم وكذلك الحكم في وجوب الحد عليه بالقتل والزنا وغيره.
وقوله تعالى " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " " النساء 43 " وإن كان من باب خطاب التكليف بنهي السكران فليس المقصود منه النهي عن الصلاة حالة السكر بل النهي عن السكر في وقت إرادة الصلاة وتقديره: إذا أردتم الصلاة فلا تسكروا كما يقال لمن أراد التهجد: لا تقرب التهجد وأنت شبعان أي لا تشبع إذا أردت التهجد حتى لا يشتغل عليك التهجد وهو وإن دل بمفهومه على عدم النهي عن السكر في غير وقت الصلاة فغير مانع لورود النهي عن ذلك في ابتداء الإسلام حيت لم يكن الشرب حراماً وإن كان وروده بعد التحريم وفي حالة السكر لكن يجب حمل لفظ السكران في الآية على من دب الخمر في شؤونه وكان ثملاً نشواناً وأصل عقله ثابت لأن ذلك مما يؤول إلى السكر غالباً والتعبير عن الشيء باسم ما يؤول إليه يكون تجوزاً كما في قوله تعالى " إنك ميت وإنهم ميتون " " الزمر 30 " وقوله تعالى " حتى تعلموا ما تقولون " " النساء 43 " فيجب حمله على كمال التثبت على ما يقال إذ هو غير ثابت حالة الانتشاء وإن كان العقل والفهم حاصلاً وذلك كما يقال لمن أراد فعل أمر وهو غضبان: لا تفعل حتى تعلم ما تفعل أي حتى يزول عنك الغضب المانع من التثبت على ما تفعل وإن كان عقله وفهمه حاصلاً ويجب المصير إلى هذه التأويلات جمعاً بين هذه الآية وما ذكرناه من الدليل المانع من التكليف.
المسألة الثانية مذهب أصحابنا جواز تكليف المعدوم وربما أشكل فهم ذلك مع إحالتنا لتكليف الصبي والمجنون والغافل والسكران لعدم الفهم للتكاليف والمعدوم أسوأ حالاً من هؤلاء في هذا المعنى لوجود أصل الفهم في حقهم وعدمه بالكلية في حق المعدوم حتى أنكر ذلك جميع الطوائف وكشف الغطاء عن ذلك أنا لا نقول بكون المعدوم مكلفاً بالإتيان بالفعل حالة عدمه بل معنى كونه مكلفاً حالة العدم قيام الطلب القديم بذات الرب تعالى للفعل من المعدوم بتقدير وجوده وتهيئته لفهم الخطاب فإذا وجدوا مهيأ للتكليف صار مكلفاً بذلك الطلب والاقتضاء القديم فإن الوالد لو وصى عند موته لمن سيوجد بعده من أولاده بوصية فإن الولد بتقدير وجوده وفهمه يصير مكلفاً بوصية والده حتى أنه يوصف بالطاعة والعصيان بتقدير المخالفة والامتثال.
وأيضاً فإننا في وقتنا هذا نوصف بكوننا مأمورين بأمر النبي عليه السلام وإن كان أمره في الحال معدوماً وليس ذلك إلا بما وجد منه من الأمر حال وجوده ومثل هذا التكليف ثابت بالنسبة إلى الصبي والمجنون بتقدير فهمه أيضاً بل أولى من حيث إن المشترط في حقه الفهم لا غير وفي حق المعدوم الفهم والوجود وهل يسمى التكليف بهذا التفسير في الأزل خطاباً للمعدوم وأمراً له عرفاً.
الحق أنه يسمى أمراً ولا يسمى خطاباً ولهذا فإنه يحسن أن يقال للوالد إذا وصى بأمر لمن سيوجد من أولاده بفعل من الأفعال أنه أمر أولاده ولا يحسن أن يقال خاطبهم لكن تمام فهم هذه القاعدة موقوف على إثبات كلام النفس وتحقيق كون الأمر بمعنى الطلب والاقتضاء وقد حققنا ذلك في الكلاميات بما يجب على الأصولي تقليد المتكلم فيه.
المسألة الثالثة(1/57)
اختلفوا في الملجئ إلى الفعل بالإكراه بحيث لا يسعه تركه في جواز تكليفه بذلك الفعل إيجاداً وعدماً والحق أنه إذا خرج بالإكراه إلى حد الاضطرار وصار نسبة ما يصدر عنه من الفعل إليه نسبة حركة المرتعش إليه أن تكليفه به إيجاداً وعدماً غير جائز إلا على القول بتكليف ما لا يطاق وإن كان ذلك جائزاً عقلاً لكنه ممتنع الوقوع سمعاً لقوله عليه السلام: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " والمراد منه لا رفع المؤاخذة وهو مستلزم لرفع التكليف وما يلزمه من الغرامات فقد سبق جوابه غير مرة.
وأما إن لم ينته إلى حد الاضطرار فهو مختار وتكليفه جائز عقلاً وشرعاً وأما الخاطئ فغير مكلف إجماعاً فيما هو مخطئ ولقوله عليه السلام: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " الحديث.
المسألة الرابعة اختلفوا في تكليف الحائض بالصوم فنفاه أصحابنا وأثبته آخرون والحق في ذلك أنه إن أريد بكونها مكلفة به بتقدير زوال الحيض المانع فهو حق وإن أريد به أنها مكلفة بالإتيان بالصوم حال الحيض فهو ممتنع وذلك لأن فعلها للصوم في حالة الحيض حرام ومنهي عنه فيمتنع أن يكون واجباً ومأموراً به لما بينهما من التضاد الممتنع إلا على القول بجواز التكليف بما لا يطاق فإن قيل: فلو لم يكن الصوم واجباً عليها فلم وجب عليها قضاؤه.
قلنا: القضاء عندنا إنما يجب بأمر مجدد فلا يستدعي أمراً سابقاً وإنما سمي قضاء لما فيه من استدراك مصلحة ما انعقد سبب وجوبه من الصوم ولم يجب لمانع الحيض.
المسألة الخامسة في أن المكلف بالفعل أو الترك هل يعلم كونه مكلفاً قبل التمكن من الامتثال أم لا؟ والذي عليه إجماع الأصوليين أنه يعلم ذلك إذا كان المأمور والآمر له جاهلاً بعاقبة أمره وأنه يتمكن بما كلف به أم لا كأمر السيد لعبده بخياطة الثوب في الغد ومحل الخلاف فيما إذا كان الآمر عالماً بعاقبة الأمر دون المأمور كأمر الله تعالى بالصوم لزيد في الغد فأثبت ذلك القاضي أبو بكر والجم الغفير من الأصوليين ونفاه المعتزلة.
احتج المثبتون بأن الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي متحقق مع جهل المكلف بعاقبة الأمر فكان ذلك معلوماً ويدل على تحققه إجماع الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين على أن كل بالغ عاقل مأمور بالطاعات منهي عن المعاصي قبل التمكن مما أمر به ونهي عنه وأنه يعد متقرباً بالعزم على فعل الطاعة وترك المعصية وأنه يجب عليه الشروع في العبادات الخمس في أوقاتها بنية الفرض وإن المانع له من ذلك بالحبس والصد عن فعلها آثم عاص بصده عن امتثال أمر الشارع وذلك كله مع عدم النهي والأمر محال.
وأيضاً فإنه لو لم يكن الأمر معلوماً له في الحال لتعذر قصد الامتثال في الواجبات المضيقة لاستحالة العلم بتمام التمكن إلا بعد انقضاء الوقت وهو محال.
فإن قيل: لا خفاء بأن تعليق الأمر على شرط معلوم الوقوع وسواء كان وقوعه حالياً كما إذا قال: صم إن كان الله موجوداً أو مآلياً كما إذا قال: صم إن صعدت الشمس غداً أو معلوم الانتفاء كما إذا قال: صم إن اجتمع الضدان وهو محال بل الأول أمر جازم غير مشروط كيف وإنه يمتنع تعليق الأمر بشرط مستقبل لأن الشرط لا بد وأن يكون حاصلاً مع المشروط أو قبله والثاني وإن كان فيه صيغة افعل فليس بأمر لما فيه من التكليف بما لا يطاق والباري تعالى عالم بعواقب الأمور فإن كان عالماً بتمكن العبد مما كلف به وأنه سيأتي به فهو أمر جزم لا شرط فيه وإن كان عالماً بعدم تمكنه مما قيل له افعله أو لا تفعله فلا يكون ذلك أمراً ولا نهياً وإذا كان كذلك فالأمر والنهي قبل التمكن من الامتثال لا يكون معلوماً للعبد لتجويزه عدم الشرط وهو التمكن في علم الله تعالى وعلى هذا فيجب حمل الإجماع فيما ذكرتموه على ظن الأمر بناء على أن الغالب من المكلف بقاؤه وتمكنه لا على يقين الأمر والعلم به.(1/58)
قلنا: أما امتناع تعليق الأمر بشرط معلوم الوقوع أو الانتفاء عند المأمور فلا نزاع فيه إلا على رأي من يجوز تكليف ما لا يطاق وإنما النزاع إذا كان ذلك معلوماً للآمر دون المأمور فإنه لا يبعد أمر السيد لعبده بفعل شيء في الغد مع علمه برفع ذلك في الغد عنه استصلاحاً للعبد باستعداده في الحال للقيام بأمر سيده واشتغاله بذلك عن معاصيه أو امتحانه بما يظهر عليه من أمارات البشر والكراهة حتى يثيبه على هذا ويعاقبه على هذا لا لقصد الإتيان بما أمره به أم الانتهاء عما نهاه عنه ولا يكون ذلك من باب التكليف بما لا يطاق وإذا كان ذلك معقولاً مفيداً أمكن مثله في أمر الباري تعالى.
قولهم إن شرط الأمر لا يكون متأخراً عنه مسلم لما فيه من استحالة وجود المشروط بدون شرطه غير أن الشرط المتأخر عن الأمر وهو التمكن من الفعل ليس شرطاً في تحقق الأمر وقيامه بنفس الأمر حتى يقال بتأخير شرط وجوده عن وجوده بل هو شرط الامتثال والأمر عندنا لا يتوقف تحققه على الامتثال كما علم من أصلنا.
وعلى هذا فقد بطل قولهم إن الأمر والنهي قبل التمكن من الامتثال يمتنع أن يكون معلوماً للعبد ووجب حمل الإجماع فيما ذكروه من الأحكام على وجود الأمر حقيقة لا على ظن وجوده لأن احتمال الخطأ في الظن قائم وهو ممتنع في حق الإجماع وإذا عرف ما حققناه فمن أفسد صوم رمضان بالوقاع ثم مات أو جن بعد ذلك في أثناء النهار وجبت عليه الكفارة على أحد قولينا وعلى القول الآخر لا لأنها إنما تجب بإفساد صوم واجب لا يتعرض للانقطاع في اليوم لا لعدم قيام الأمر بالصوم ووجوبه وكذلك يجب على الحائض الشروع في صوم يوم علم الله أنها تحيض فيه وأنه لو قال إن شرعت في الصوم أو الصلاة الواجبين فزوجتي طالق ثم شرع ومات في أثنائها حنث ولزمه الطلاق ولا كذلك عند المعتزلة وعلى هذا كل ما يرد من هذا القبيل.
القاعدة الثانية
في بيان الدليل الشرعي وأقسامه
وما يتعلق به من أحكامه
ويشتمل على مقدمة وأصول:
المقدمة
في بيان الدليل الشرعي وأقسامه
فنقول: كما بينا في القاعدة الأولى حد الدليل وانقسامه إلى عقلي وشرعي وليس من غرضنا هاهنا تعريف الدليل العقلي بل الشرعي والمسمى بالدليل الشرعي منقسم إلى ما هو صحيح في نفسه ويجب العمل به وإلى ما ظن أنه دليل صحيح وليس هو كذلك.
أما القسم الأول فهو خمسة أنواع وذلك أنه إما أن يكون وارداً من جهة الرسول أو لا من جهته فإن كان الأول فلا يخلو إما أن يكون من قبيل ما يتلى أو لا من قبيل ما يتلى فإن كان من قبيل ما يتلى فهو الكتاب وإن كان من قبيل ما لا يتلى فهو السنة وإن لم يكن وارداً من جهة الرسول فلا يخلو إما أن يشترط فيه عصمة من صدر عنه أو لا يشترط ذلك فإن كان الأول فهو الإجماع وإن كان الثاني فلا يخلو إما أن تكون صورته بحمل معلوم على معلوم في حكم بناء على جامع أو لا يكون كذلك فإن كان الأول فهو القياس وإن كان الثاني فهو الاستدلال.
وكل واحد من هذه الأنواع فهو دليل لظهور الحكم الشرعي عندنا به والأصل فيها إنما هو الكتاب لأنه راجع إلى قول الله تعالى المشرع للأحكام والسنة مخبرة عن قوله تعالى وحكمه ومستند الإجماع فراجع إليهما وأما القياس والاستدلال فحاصله يرجع إلى التمسك بمعقول النص أو الإجماع فالنص والإجماع أصل والقياس والاستدلال فرع تابع لهما.
وأما القسم الثاني وهو ما ظن أنه دليل وليس بدليل فكشرع من قبلنا ومذهب الصحابي والاستحسان والمصلحة المرسلة على ما سيأتي تحقيق الكلام فيه.
القسم الأول
فيما يجب العمل به
مما يسمى دليلاً شرعياً
ولما بان أنه على خمسة أنواع فالنظر المتعلق بها منه ما هو مختص بكل واحد منها بخصوصه ومنها ما هو مشترك بينها فلنرسم في كل واحد منها أصلاً وهي ستة أصول:
الأصل الأول
في تحقيق معنى الكتاب
وما يتعلق به من المسائل لأنه الأول والأولى بتقديم النظر فيه(1/59)
أما حقيقة الكتاب فقد قيل فيه هو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف بالأحرف السبعة المشهورة نقلاً متواتراً وفيه نظر فإنه لا معنى للكتاب سوى القرآن المنزل علينا على لسان جبريل وذلك مما لا يخرج عن حقيقته بتقدير عدم نقله إلينا متواتراً بل ولا بعدم نقله إلينا بالكلية بل غايته جهلنا بوجود القرآن بتقدير عدم نقله إلينا وعدم علمنا بكونه قرآناً بتقدير عدم تواتره وعلمنا بوجوده غير مأخوذ في حقيقته فلا يمكن أخذه في تحديده والأقرب في ذلك أن يقال: الكتاب هو القرآن المنزل.
فقولنا القرآن احتراز عن سائر الكتب المنزلة من التوراة والإنجيل وغيرهما فإنها وإن كانت كتباً لله تعالى فليست هي الكتاب المعهود لنا المحتج به في شرعنا على الأحكام الشرعية الذي نحن بصدد تعريفه وفيه احتراز عن الكلام المنزل على النبي عليه السلام مما ليس بمتلو وقولنا المنزل احتراز عن كلام النفس فإنه ليس بكتاب بل الكتاب هو الكلام المعبر عن الكلام النفساني ولذلك لم نقل هو الكلام القديم ولم نقل هو المعجز لأن المعجز أعم من الكتاب ولم نقل هو الكلام المعجز لأنه يخرج منه الآية وبعض الآية مع أنها من الكتاب وإن لم تكن معجزة.
وإذا أتينا على تعريف حقيقة الكتاب فلا بد من النظر فيما يختص به من المسائل وهي خمس مسائل: المسألة الأولى اتفقوا على أن ما نقل إلينا من القرآن نقلاً متواتراً وعلمنا أنه من القرآن أنه حجة واختلفوا فيما نقل إلينا منه آحاداً كمصحف ابن مسعود وغيره أنه هل يكون حجة أم لا؟ فنفاه الشافعي وأثبته أبو حنيفة وبني عليه وجوب التتابع في صوم اليمين بما نقله ابن مسعود في مصحفه من قوله: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " " البقرة 196 " .
والمختار إنما هو مذهب الشافعي وحجته أن النبي عليه السلام كان مكلفاً بإلقاء ما أنزل عليه من القرآن على طائفة تقوم الحجة القاطعة بقولهم ومن تقوم الحجة القاطعة بقولهم لا يتصور عليهم التوافق على عدم نقل ما سمعوه منه فالراوي له إذا كان واحداً إن ذكره على أنه قرآن فهو خطأ وإن لم يذكره على أنه قرآن فقد تردد بين أن يكون خبراً عن النبي عليه السلام وبين أن يكون ذلك مذهباً له فلا يكون حجة وهذا بخلاف خبر الواحد عن النبي عليه السلام وعلى هذا منع من وجوب التتابع في صوم اليمين على أحد قوليه: فإن قيل: قولكم إن النبي عليه السلام كان يجب عليه إلقاء القرآن إلى عدد تقوم الحجة القاطعة بقولهم لا نسلم ذلك وكيف يمكن دعواه مع أن حفاظ القرآن في زمانه عليه السلام لم يبلغوا عدد التواتر لقلتهم وإن جمعه إنما كان بطريق تلقي آحاد آياته من الآحاد ولذلك اختلفت مصاحف الصحابة ولو كان قد ألقاه إلى جماعة تقوم الحجة بقولهم لما كان كذلك ولهذا أيضاً اختلفوا في البسملة أنها من القرآن وأنكر ابن مسعود كون الفاتحة والمعوذتين من القرآن سلمنا وجوب ذلك على النبي عليه السلام وأنه سمعه منه جمع تقوم الحجة بقولهم ولكن إنما يمتنع السكوت عن نقله على الكل لعصمتهم عن الخطأ ولا يمتنع ذلك بالنسبة إلى بضعهم وإذا كان ابن مسعود من جملتهم وقد روى ما رواه فلم يقع الاتفاق من الكل على الخطأ بالسكوت وعند ذلك فيتعين حمل روايته لذلك في مصحفه على أنه من القرآن لأن الظاهر من حاله الصدق ولم يوجد ما يعارضه غايته أنه غير مجمع على العمل به لعدم تواتره وإن لم يصرح بكونه قرآناً أمكن أن يكون من القرآن وأمكن أن لا يكون لكونه خبراً عن النبي عليه السلام وأمكن أن يكون لكونه مذهباً له كما ذكرتموه وهو حجة بتقدير كونه قرآناً وبتقدير كونه خبراً عن النبي عليه السلام وهما احتمالان وإنما لا يكون حجة بتقدير كونه مذهباً له وهو احتمال واحد ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد بعينه.
سلمنا أنه ليس بقرآن وأنه متردد بين الخبر وبين كونه مذهباً له إلا أن احتمال كونه خبراً راجح لأن روايته له موهم بالاحتجاج به ولو كان مذهباً له لصرح به نفياً للتلبيس عن السامع المعتقد كونه حجة مع الاختلاف في مذهب الصحابي هل هو حجة أم لا.(1/60)
والجواب: أما وجوب إلقائه على عدد تقوم الحجة بقولهم فذلك مما لم يخالف فيه أحد من المسلمين لأن القرآن هو المعجزة الدالة على صدقه عليه السلام قطعاً ومع عدم بلوغه إلى من لم يشاهده بخبر التواتر لا يكون حجة قاطعة بالنسبة إليه فلا يكون حجة عليه في تصديق النبي عليه السلام ولا يلزم من عدم بلوغ حفاظ القرآن في زمن النبي عليه السلام عدد التواتر أن يكون الحفاظ لآحاد آياته كذلك وأما التوقف في جمع آيات القرآن على أخبار الآحاد فلم يكن في كونها قرآناً بل في تقديمها وتأخيرها بالنسبة إلى غيرها وفي طولها وقصرها.
وأما ما اختلت به المصاحف فما كان من الآحاد فليس من القرآن وما كان متواتراً فهو منه وأما الاختلاف في التسمية إنما كان في وضعها في أول كل سورة لا في كونها من القرآن.
وأما إنكار ابن مسعود فلم يكن لإنزال هذه السور على النبي عليه السلام بل لإجرائها مجرى القرآن في حكمه قولهم إذا رواه ابن مسعود لم يتفق الكل على الخطأ.
قلنا: وإن كان كذلك إلا أن سكوت من سكت وإن لم يكن ممتنعاً إلا أنه حرام لوجوب نقله عليه وعند ذلك فلو قلنا إن ما نقله ابن مسعود قرآن لزم ارتكاب من عداه من الصحابة للحرام بالسكوت ولو قلنا إنه ليس بقرآن لم يلزم منه ذلك لا بالنسبة إلى الراوي ولا بالنسبة إلى من عداه من الساكتين وبتقدير ارتكاب ابن مسعود للحرام مع كونه واحداً أولى من ارتكاب الجماعة له وعلى هذا فقد بطل قولهم بظهور صدقه فيما نقله من غير معارض وتعين تردد نقله بين الخبر والمذهب قولهم حمله على الخبر راجح لا نسلم ذلك.
قولهم: لو كان مذهباً لصرح به نفياً للتلبيس قلنا: أجمع المسلمون على أن كل خبر لم يصرح بكونه خبراً عن النبي عليه السلام ليس بحجة وما نحن فيه كذلك ولا يخفى أن الحمل على المذهب مع أنه مختلف في الاحتجاج به أولى من حمله على الخبر الذي ما صرح فيه بالخبرية مع أنه ليس بحجة بالاتفاق كيف وفيه موافقة النفي الأصلي وبراءة الذمة من التتابع بخلاف مقابله فكان أولى.
المسألة الثانية اتفقوا على أن التسمية آية من القرآن في سورة النمل وإنما اختلفوا في كونها آية من القرآن في أول كل سورة فنقل عن الشافعي في ذلك قولان لكن من الأصحاب من حمل القولين على أنها من القرآن في أول كل سورة كتبت مع القرآن بخط القرآن أم لا ومنهم من حمل القولين على أنها هل هي آية برأسها في أول كل سورة أو هي مع أول آية من كل سورة آية وهو الأصح وذهب القاضي أبو بكر وجماعة من الأصوليين إلى أنها ليست آية من القرآن في غير سورة النمل وقضى بتخطئة من قال بأنها آية من القرآن في غير سورة النمل لكن من غير تكفير له لعدم ورود النص القاطع بإنكار ذلك والحجة لمذهب الشافعي من ثلاثة أوجه.
الأول أنها أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أول كل سورة ولذلك نقل عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله لا يعرف ختم سورة وابتداء أخرى حتى ينزل عليه جبريل ببسم الله الرحمن الرحيم وذلك يدل على أنها من القرآن حيث أنزلت.
الثاني أنها كانت تكتب بخط القرآن في أول كل سورة بأمر رسول الله وأنه لم ينكر أحد من الصحابة على من كتبها بخط القرآن في أول كل سورة مع تخشنهم في الدين وتحرزهم في صيانة القرآن عما ليس منه حتى أنهم أنكروا على من أثبت أوائل السور والتعشير والنقط وذلك كله يغلب على الظن أنها حيث كتبت مع القرآن بخط القرآن أنها منه.
الثالث ما روي عن ابن عباس أنه قال: سرق الشيطان من الناس آية من القرآن لما أن ترك بعضهم قراءة التسمية في أول السورة ولم ينكر عليه منكر فدل على كونها من القرآن في أول كل سورة.
فإن قيل: لو كانت التسمية آية من القرآن في أول كل سورة لم يخل إما أن يشترط القطع في إثباتها أو لا يشترط فإن كان الأول فما ذكرتموه من الوجوه الدالة غير قطعية بل ظنية فلا تصلح للإثبات وأيضاً فإنه كان يجب على النبي عليه السلام أن يبين كونها من القرآن حيث كتبت معه بياناً شافياً شائعاً قاطعاً للشك كما فعل في سائر الآيات وإن كان الثاني فليثبت التتابع في صوم اليمين بما نقله ابن مسعود في مصحفه.(1/61)
قلنا: الاختلاف فيما نحن فيه لم يقع في إثبات كون التسمية من القرآن في الجملة حتى يشترط القطع في طريق إثباتها وإنما وقع في وضعها آية في أوائل السور والقطع غير مشترط فيه ولهذا وقع الخلاف في ذلك من غير تكفير من أحد الخصمين للآخر كما وقع الخلاف في عدد الآيات ومقاديرها.
قولهم كان يجب على النبي عليه السلام بيان ذلك بياناً قاطعاً للشك قلنا: ولو لم تكن من القرآن لتبين ذلك أيضاً بياناً قاطعاً للشك كما فعل ذلك في التعوذ بل أولى من حيث إن التسمية مكتوبة بخط القرآن في أول كل سورة ومنزل على النبي عليه السلام مع أول كل سورة كما سبق بيانه وذلك مما يوهم أنها من القرآن مع علم النبي عليه السلام بذلك وقدرته على البيان بخلاف التعوذ.
فإن قيل: كل ما هو من القرآن فهو منحصر يمكن بيانه بخلاف ما ليس من القرآن فإنه غير منحصر فلا يمكن بيان أنه ليس من القرآن فلهذا قيل بوجوب بيان ما هو من القرآن دون ما ليس من القرآن.
قلنا: نحن لم نوجب بيان كل ما ليس من القرآن أنه ليس من القرآن بل إنما أوجبنا بيان ما يسبق إلى الأفهام أنه من القرآن بتقدير أن لا يكون منه كما في التسمية ولا يخفى أنه منحصر بل هو أقل من بيان ما هو من القرآن وعلى هذا فلا يلزم من وضع كون التسمية آية مع أول كل سورة بالاجتهاد والظن وقد ثبت كونها آية من القرآن في سورة النمل قطعاً أن يقال مثله في ثبوت قراءة ابن مسعود في التتابع مع أنها لم يثبت كونها من القرآن قطعاً ولا ظناً.
المسألة الثالثة القرآن مشتمل على آيات محكمة ومتشابهة على ما قال تعالى: " منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " " آل عمران 7 " أما المحكم فأصح ما قيل فيه قولان: الأول أن المحكم ما ظهر معناه وانكشف كشفاً يزيل الإشكال ويرفع الاحتمال وهو موجود في كلام الله تعالى والمتشابه المقابل له ما تعارض فيه الاحتمال إما بجهة التساوي كالألفاظ المجملة كما في قوله تعالى " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " " البقرة 228 " لاحتماله زمن الحيض والطهر على السوية وقوله تعالى: " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " " البقرة 237 " لتردده بين الزوج والولي وقوله: " أو لامستم النساء " " النساء 43 " لتردده بين اللمس باليد والوطئ أولاً على جهة التساوي كالأسماء المجازية وما ظاهره موهم للتشبيه وهو مفتقر إلى تأويل كقوله تعالى: " ويبقى وجه ربك " " الرحمن 27 " " ونفخت فيه من روحي " " الحجر 29 " " مما عملت أيدينا " " يس 71 " " الله يستهزئ بهم " " البقرة 15 " " ومكروا ومكر الله " " آل عمران 54 " " والسماوات مطويات بيمينه " " الزمر 67 " ونحوه من الكنايات والاستعارات المؤولة بتأويلات مناسبة لإفهام العرب وإنما سمي متشابهاً لاشتباه معناه على السامع وهذا أيضاً موجود في كلام الله تعالى.
القول الثاني إن المحكم ما انتظم وترتب على وجه يفيد إما من غير تأويل أو مع التأويل من غير تناقض واختلاف فيه وهذا أيضاً متحقق في كلام الله تعالى والمقابل له ما فسد نظمه واختل لفظه ويقال فاسد لا متشابه وهذا غير متصور الوجود في كلام الله تعالى.
وربما قيل: المحكم ما ثبت حكمه من الحلال والحرام والوعد والوعيد ونحوه والمتشابه ما كان من القصص والأمثال وهو بعيد عما يعرفه أهل اللغة وعن مناسبة اللفظ له لغة.
المسألة الرابعة القرآن لا يتصور اشتماله على ما لا معنى له في نفسه لكونه هذياناً ونقصاً يتعالى كلام الرب عنه خلافاً لمن لا يؤبه له في قوله كيف يقال ذلك وكلام الرب تعالى مشتمل على ما لا معنى له كحروف المعجم التي في أوائل السور إذ هي غير موضوعة في اللغة لمعنى وعلى التناقض الذي لا يفهم كقوله تعالى " فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان " " الرحمن 39 " وقوله " فوربك لنسألنهم أجمعين " " الحجر 92 " وعلى الزيادة التي لا فائدة فيها كقوله تعالى: " فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة " " البقرة 196 " وقوله: كاملة غير مفيد لمعنى وكذلك قوله تعالى: " فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة " " الحاقة 13 " وقوله تعالى: " لا تتخذوا إلهين اثنين " " النحل 51 " إلى غير ذلك.(1/62)
قلنا: أما حروف المعجم فلا نسلم أنه لا معنى لها بل هي أسامي السور ومعرفة لها وأما التناقض فغير صحيح إذ التناقض لا بد فيه من اتحاد جهة السلب والإيجاب والزمان وزمان إيجابه وسلبه غير متحد بل مختلف وأما الزيادات المذكورة فهي للتأكيد لا أنها غير معقولة المعنى.
فإن قيل وإن كان ليس في القرآن ما لا معنى له إلا أن فيه ما لا يفهم معناه وهو في معنى ما لا معنى له وذلك كقوله تعالى: " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به " " أل عمران 7 " والواو في قوله " والراسخون في العلم " ليست للعطف وإلا كان الضمير في قوله " يقولون آمنا به كل من عند ربنا " " آل عمران 7 " عائداً إلى جملة المذكور السابق من الله تعالى والراسخين في العلم وهو محال في حق الله تعالى فلم يبق إلا أن يكون للابتداء ويلزم من ذلك أن لا يكون ما علمه الرب تعالى معلوماً لهم.
وأيضاً فإن الآيات الدالة على اليد واليمين والوجه والروح ومكر الله والاستواء على العرش وغير ذلك غير محمول على ما هو مفهوم منه في اللغة وما هو المراد منه غير معلوم.
وأيضاً فإن الخطاب بالقرآن كما هو خطاب مع العرب فهو خطاب مع العجم ومعناه غير مفهوم لهم.
قلنا: من قال بجواز التكليف بما لا يطاق جوز أن يكون في القرآن ما له معنى وإن لم يكن معلوماً للمخاطب ولا له بيان ولا كذلك فيما لا معنى له أصلاً لكونه هذياناً ومن لم يجوز التكليف بما لا يطاق منع من ذلك لكونه تكليفاً بما لا يطاق ولما فيه من إخراج القرآن عن كونه بياناً للناس ضرورة كونه غير مفهوم وهو خلاف قوله تعالى: " هذا بيان للناس " " آل عمران 138 " ولأن ذلك مما يجر إلى عدم الوثوق بشيء من أخبار الله تعالى ورسوله ضرورة أنه ما من خبر إلا ويجوز أن يكون المراد به ما لم يظهر منه وذلك مبطل للشريعة مطلقاً.
وأجاب عن الآية الأولى بأن الواو فيها للعطف وأن الضمير في قوله: " يقولون آمنا به " " آل عمران 7 " وإن كان ظاهراً في العود إلى جملة المذكور غير أنه لا بعد في تخصيصه بإخراج الرب تعالى عنه بدليل العقل المحيل لعود الضمير إليه.
وأما باقي الآيات المذكورة فكلها كنايات وتجوزات مفهومة للعرب بأدلة صارفة إليها على ما بيناه في الكلاميات.
المسألة الخامسة اختلفوا في اشتمال القرآن على ألفاظ مجازية وكلمات غير عربية وقد استقصينا الكلام فيهما في القاعدة الأولى في المبادئ اللغوية.
الأصل الثاني
في السنة
وهي في اللغة عبارة عن الطريقة فسنة كل أحد ما عهدت منه المحافظة عليه والإكثار منه كان ذلك من الأمور الحميدة أو غيرها.
وأما في الشرع فقد تطلق على ما كان من العبادات نافلة منقولة عن النبي عليه السلام وقد تطلق على ما صدر عن الرسول من الأدلة الشرعية مما ليس بمتلو ولا هو معجز ولا داخل في المعجز وهذا النوع هو المقصود بالبيان هاهنا ويدخل في ذلك أقوال النبي عليه السلام وأفعاله وتقاريره أما الأقوال من الأمر والنهي والتخيير والخبر وجهات دلالتها فسيأتي إيضاحها في الأصل الرابع المخصوص ببيان ما تشترك فيه الأدلة المنقولة الشرعية.
وليكن البيان هاهنا مخصوصاً بما يخص النبي عليه السلام من الأفعال والتقارير ويشتمل على مقدمتين وخمس مسائل.
المقدمة الأولى في عصمة الأنبياء عليهم السلام وشرح الاختلاف في ذلك وما وقع الاتفاق من أهل الشرائع على عصمتهم عنه من المعاصي وما فيه الاختلاف أما قبل النبوة فقد ذهب القاضي أبو بكر وأكثر أصحابنا وكثير من المعتزلة إلى أنه لا يمتنع عليهم المعصية كبيرة كانت أو صغيرة بل ولا يمتنع عقلاً إرسال من أسلم وآمن بعد كفره وذهبت الروافض إلى امتناع ذلك كله منهم قبل النبوة لأن ذلك مما يوجب هضمهم في النفوس واحتقارهم والنفرة عن اتباعهم وهو خلاف مقتضى الحكمة من بعثة الرسل ووافقهم على ذلك أكثر المعتزلة إلا في الصغائر والحق ما ذكره القاضي لأنه لا سمع قبل البعثة يدل على عصمتهم عن ذلك والعقل دلالته مبنية على التحسين والتقبيح العقلي ووجوب رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وذلك كله مما أبطلناه في كتبنا الكلامية.(1/63)
وأما بعد النبوة فالاتفاق من أهل الشرائع قاطبة على عصمتهم عن تعمد كل ما يخل بصدقهم فيما دلت المعجزة القاطعة على صدقهم فيه من دعوى الرسالة والتبليغ عن الله تعالى واختلفوا في جواز ذلك عليهم بطريق الغلط والنسيان فمنع منه الأستاذ أبو إسحاق وكثير من الأئمة لما فيه من مناقضة دلالة المعجزة القاطعة وجوزه القاضي أبو بكر مصيراً منه إلى أن ما كان من النسيان وفلتات اللسان غير داخل تحت التصديق المقصود بالمعجزة وهو الأشبه.
وأما ما كان من المعاصي القولية والفعلية التي لا دلالة للمعجزة على عصمتهم عنها فما كان منها كفراً فلا نعرف خلافاً بين أرباب الشرائع في عصمتهم عنه إلا ما نقل عن الأزارقة من الخوارج أنهم قالوا بجواز بعثة نبي علم الله أنه يكفر بعد نبوته وما نقل عن الفضلية من الخوارج أنهم قضوا بأن كل ذنب يوجد فهو كفر مع تجويزهم صدور الذنوب عن الأنبياء فكانت كفراً وأما ما ليس بكفر فإما أن يكون من الكبائر أو ليس منها فإن كان من الكبائر فقد اتفقت الأمة سوى الحشوية ومن جوز الكفر على الأنبياء على عصمتهم عن تعمده من غير نسيان ولا تأويل وإن اختلفوا في أن مدرك العصمة السمع كما ذهب إليه القاضي أبو بكر والمحققون من أصحابنا أو العقل كما ذهب إليه المعتزلة.
وأما إن كان فعل الكبيرة عن نسيان أو تأويل خطأ فقد اتفق الكل على جوازه سوى الرافضة.
وأما ما ليس بكبيرة فإما أن يكون من قبيل ما يوجب الحكم على فاعله بالخسة ودناءة الهمة وسقوط المروءة كسرقة خبة أو كسرة فالحكم فيه كالحكم في الكبيرة وأما ما لا يكون من هذا القبيل كنظرة أو كلمة سفه نادرة في حالة غضب فقد اتفق أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة على جوازه عمداً وسهواً خلافاً للشيعة مطلقاً وخلافاً للجبائي والنظام وجعفر بن مبشر في العمد.
وبالجملة فالكلام فيما وقع فيه الاختلاف في هذه التفاصيل غير بالغ مبلغ القطع بل هو من باب الظنون والاعتماد فيه على ما يساعد فيه من الأدلة الظنية نفياً وإثباتاً وقد أتينا في كل موضع من المواضع المتفق عليها والمختلف فيها تزييفاً واختياراً بأبلغ بيان وأوضح برهان في كتبنا الكلامية فعلى الناظر الالتفات إليها.
المقدمة الثانية في معنى التأسي والمتابعة والموافقة والمخالفة إذ الحاجة داعية إلى معرفة ذلك فيما نرومه من النظر في مسائل الأفعال أما التأسي بالغير فقد يكون في الفعل والترك أما التأسي في الفعل فهو أن تفعل مثل فعله على وجهه من أجل فعله فقولنا مثل فعله لأنه لا تأسي مع اختلاف صورة الفعل كالقيام والقعود وقولنا على وجهه معناه المشاركة في غرض ذلك الفعل ونيته لأنه لا تأسي مع اختلاف الفعلين في كون أحدهما واجباً والآخر ليس بواجب وإن اتحدت الصورة وقولنا من أجل فعله لأنه لو اتفق فعل شخصين في الصورة والصفة ولم يكن أحدهما من أجل الآخر كاتفاق جماعة في صلاة الظهر مثلاً أو صوم رمضان اتباعاً لأمر الله تعالى فإنه لا يقال بتأسي البعض بالبعض وعلى هذا فلو وقع فعله في مكان أو زمان مخصوص فلا مدخل له في المتابعة والتأسي وسواء تكرر أو لم يتكرر إلا أن يدل الدليل على اختصاص العبادة به كاختصاص الحج بعرفات واختصاص الصلوات بأوقاتها وصوم رمضان.
وأما التأسي في الترك فهو ترك أحد الشخصين مثل ما ترك الآخر من الأفعال على وجهه وصفته من أجل أنه ترك ولا يخفى وجه ما فيه من القيود.
وأما المتابعة فقد تكون في القول وقد تكون في الفعل والترك فاتباع القول هو امتثاله على الوجه الذي اقتضاه القول والاتباع في الفعل هو التأسي بعينه.
وأما الموافقة فمشاركة أحد الشخصين للآخر في صورة قول أو فعل أو ترك أو اعتقاد أو غير ذلك وسواء كان ذلك من أجل ذلك الآخر أولاً من أجله.
وأما المخالفة فقد تكون في القول وقد تكون في الفعل والترك فالمخالفة في القول ترك امتثال ما اقتضاه القول وأما المخالفة في الفعل فهو العدول عن فعل مثل ما فعله الغير مع وجوبه ولهذا فإن من فعل فعلاً ولم يجب على غيره مثل فعله لا يقال له إنه مخالف في الفعل بتقدير الترك ولذلك لم تكن الحائض مخالفة بترك الصلاة لغيرها وعلى هذا فلا يخفى وجوه المخالفة في الترك.(1/64)
وإذ أتينا على ما أردناه من ذكر المقدمتين فلنرجع إلى المقصود من المسائل المتعلقة بأفعال الرسول عليه السلام.
المسألة الأولى اختلف الأصوليون في أفعال النبي عليه السلام هل هي دليل لشرع مثل ذلك الفعل بالنسبة إلينا أم لا؟ وقبل النظر في الحجاج لا بد من تلخيص محل النزاع فنقول: أما ما كان من الأفعال الجبلية كالقيام والقعود والأكل والشرب ونحوه فلا نزاع في كونه على الإباحة بالنسبة إليه وإلى أمته.
وأما ما سوى ذلك مما ثبت كونه من خواصه التي لا يشاركه فيها أحد فلا يدل ذلك على التشريك بيننا وبينه فيه إجماعاً وذلك كاختصاصه بوجوب الضحى والأضحى والوتر والتهجد بالليل والمشاورة والتخيير لنسائه وكاختصاصه بإباحة الوصال في الصوم وصفية المغنم والاستبداد بخمس الخمس ودخول مكة بغير إحرام والزيادة في النكاح على أربع نسوة إلى غير ذلك من خصائصه.
وأما ما عرف كون فعله بياناً لنا فهو دليل من غير خلاف وذلك إما بصريح مقاله كقوله " صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم " أو بقرائن الأحوال وذلك كما إذا ورد لفظ مجمل أو عام أريد به الخصوص أو مطلق أريد به التقييد ولم يبينه قبل الحاجة إليه ثم فعل عند الحاجة فعلاً صالحاً للبيان فإنه يكون بياناً حتى لا يكون مؤخراً للبيان عن وقت الحاجة وذلك كقطعه يد السارق من الكوع بياناً لقوله تعالى: " فاقطعوا أيديهما " " المائدة 38 " وكتيممه إلى المرفقين بياناً لقوله تعالى: " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم " " المائدة 6 " ونحوه والبيان تابع للمبين في الوجوب والندب والإباحة.
وأما ما لم يقترن به ما يدل على أنه للبيان لا نفياً ولا إثباتاً فإما أن يظهر فيه قصد القربة أو لم يظهر فإن ظهر فيه قصد القربة فقد اختلفوا فيه فمنهم من قال إن فعله عليه السلام محمول على الوجوب في حقه وفي حقنا كابن سريج والاصطخري وابن أبي هريرة وابن خيران والحنابلة وجماعة من المعتزلة ومنهم من صار إلى أنه للندب وقد قيل إنه قول الشافعي وهو اختيار إمام الحرمين ومنهم من قال إنه للإباحة وهو مذهب مالك ومنهم من قال بالوقف وهو مذهب جماعة من أصحاب الشافعي كالصيرفي والغزالي وجماعة من المعتزلة.
وأما ما لم يظهر فيه قصد القربة فقد اختلفوا أيضاً فيه على نحو اختلافهم فيما ظهر فيه قصد القربة غير أن القول بالوجوب والندب فيه أبعد مما ظهر فيه قصد القربة والوقف والإباحة أقرب وبعض من جوز على الأنبياء المعاصي قال إنها على الخطر.
والمختار أن كل فعل لم يقترن به دليل يدل على أنه قصد به بيان خطاب سابق فإن ظهر فيه قصد القربة إلى الله تعالى فهو دليل في حقه عليه السلام على القدر المشترك بين الواجب والمندوب: وهو ترجيح الفعل على الترك لا غير وأن الإباحة وهي استواء الفعل والترك في رفع الحرج خارجة عنه وكذلك في حق أمته.
وما لم يظهر فيه قصد القربة فهو دليل في حقه على القدر المشترك بين الواجب والمندوب والمباح وهو رفع الحرج عن الفعل لا غير وكذلك عن أمته.
وأما إذا ظهر من فعله قصد القربة فلأن القربة غير خارجة عن الواجب والمندوب والقدر المشترك بينهما إنما هو ترجيح الفعل على الترك والفعل دليل قاطع عليه.
وأما ما اختص به الواجب من الذم على الترك وما اختص به المندوب من عدم اللوم على الترك فمشكوك فيه وليس أحدهما أولى من الآخر.
وأما إذا لم يظهر من فعله قصد القربة فهو وإن جوزنا عليه فعل الصغيرة غير أن احتمال وقوعها من آحاد عدول المسلمين نادر فكيف من النبي عليه السلام بل الغالب من فعله أنه لا يكون معصية ولا منهياً عنه وعند ذلك فما من فعل من آحاد أفعاله إلا واحتمال دخوله تحت الغالب أغلب وإذا كان الغالب من فعله أنه لا يكون معصية ولا منهياً عنه فكل فعل لا يكون منهياً عنه لا يخرج عن الواجب والمندوب والمباح والقدر المشترك بين الكل إنما هو رفع الحرج عن الفعل دون الترك والفعل دليل قاطع عليه.
وأما ما اختص به الوجوب والندب عن المباح من ترجح الفعل على الترك وما اختص به المباح عنهما من استواء الطرفين فمشكوك فيه هذا بالنسبة إلى النبي عليه السلام.
وأما بالنسبة إلى أمته فلأنه وإن كان عليه السلام قد اختص عنهم بخصائص لا يشاركونه فيها غير أنها نادرة بل أندر من النادر بالنسبة إلى الأحكام المشترك فيها.(1/65)
وعند ذلك فما من واحد من آحاد الأفعال إلا واحتمال مشاركة الأمة للنبي عليه السلام فيه أغلب من احتمال عدم المشاركة إدراجاً للنادر تحت الأعم الأغلب فكانت المشاركة أظهر.
وإذ أتينا على تفصيل المذاهب وتقرير ما هو المختار فلا بد من ذكر شبه المخالفين ووجه الانفصال عنها وأما شبه القائلين بالوجوب فمن جهة النص والإجماع والمعقول أما من جهة النص فمن جهة الكتاب والسنة.
أما من جهة الكتاب فقوله تعالى: " فاتبعوه واتقوا " " الأنعام 155 " أمر بمتابعته ومتابعته امتثال القول والإتيان بمثل فعله والأمر ظاهر في الوجوب وأيضاً قوله تعالى: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره " " النور 63 " حذر من مخالفة أمره والتحذير دليل الوجوب واسم الأمر يطلق على الفعل كما سيأتي تقريره والأصل في الإطلاق الحقيقة وغايته أن يكون مشتركاً بينه وبين القول المخصوص وسيأتي أن الاسم المشترك من قبيل الأسماء العامة فكان متناولاً للفعل وأيضاً قوله تعالى: " وما آتاكم الرسول فخذوه " " الحشر 7 " وفعله من جملة ما يأتي به فكان الأخذ به واجباً وأيضاً قوله تعالى: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر " " الأحزاب 21 " وهذا زجر في طي أمر وتقديره: من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فله فيه أسوة حسنة ومن لم يتأس به فلا يكون مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر وهو دليل الوجوب وأيضاً قوله تعالى: " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني " " آل عمران 31 " ومحبة الله واجبة والآية دلت على أن متابعة النبي عليه السلام لازمة لمحبة الله الواجبة ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم وهو ممتنع وأيضاً قوله تعالى: " قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " " النور 54 " أمر بطاعة الرسول والأمر ظاهر في الوجوب ومن أتى بمثل فعل الغير على قصد إعظامه فهو مطيع له وأيضاً قوله تعالى: " فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً " " الأحزاب 37 " وذلك يدل على أن فعله تشريع وواجب الاتباع وإلا لما كان تزويجه مزيلاً عن المؤمنين الحرج في أزواج أدعيائهم.
وأما من جهة السنة فما روي أن الصحابة رضي الله عنهم خلعوا نعالهم في الصلاة لما خلع نعله ففهموا وجوب المتابعة له في فعله والنبي عليه السلام أقرهم على ذلك ثم بين لهم علة انفراده بذلك وأيضاً ما روي عنه أنه أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة ولم يفسخ فقالوا له مالك أمرتنا بفسخ الحج ولم تفسخ ففهموا أن حكمهم كحكمه والنبي عليه السلام لم ينكر عليهم ولم يقل لي حكمي ولكم حكمكم بل أبدى عذراً يختص به وأيضاً ما روي عنه عليه السلام أنه نهى الصحابة عن الوصال في الصوم وواصل فقالوا له نهيتنا عن الوصال وواصلت فقال: لست كأحدكم إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني فأقرهم على ما فهموه من مشاركتهم له في الحكم واعتذر بعذر يختص به وأيضاً ما روي عنه أنه لما سألته أم سلمة عن قبلة الصائم فقال لها: " لم لم تقولي لهم إني أقبل وأنا صائم " ولو لم يكن متبعاً في أفعاله لما كان لذلك معنى وأيضاً ما روي عنه أنه لما سألته أم سلمة عن بل الشعر في الاغتسال قال " أما أنا فيكفيني أن أحثو على رأسي ثلاث حثيات من ماء " وكان ذلك جواباً لها ولولا أنه متبع في فعله لما كان جواباً لها وأيضاً ما روي عنه أنه أمر الصحابة بالتحلل بالحلق والذبح فتوقفوا فشكا ذلك إلى أم سلمة فأشارت إليه بأن يخرج وينحر ويحلق ففعل ذلك فذبحوا وحلقوا ولولا أن فعله متبع لما كان كذلك.
وأما من جهة الإجماع فما روي عن الصحابة أنهم لما اختلفوا في الغسل من غير إنزال أنفذ عمر إلى عائشة رضي الله عنها وسألها عن ذلك فقالت: فعلته أنا ورسول الله واغتسلنا فأخذ عمر والناس بذلك ولولا أن فعله متبع لما ساغ ذلك وأيضاً ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقبل الحجر الأسود ويقول إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أنني رأيت رسول الله يقبلك لما قبلتك وكان ذلك شائعاً فيما بين الصحابة من غير نكير فكان إجماعاً على اتباعه في فعله وأما من جهة المعقول فمن خمسة أوجه:(1/66)
الأول هو أن فعله احتمل أن يكون موجباً للفعل علينا واحتمل أن لا يكون موجباً والحمل على الإيجاب أولى لما فيه من الأمن والتحرز عن ترك الواجب ولذلك فإنه لو نسي صلاة من خمس صلوات من يوم فإنه يجب عليه إعادة الكل حذراً من الإخلال بالواجب وكذلك من طلق واحدة من نسائه ثم نسيها فإنه يحرم عليه جميعهن نظراً إلى الاحتياط.
الثاني أن النبوة من الرتب العلية والأوصاف السنية ولا يخفى أن متابعة العظيم في أفعاله من أتم الأمور في تعظيمه وإجلاله وأن عدم متابعته في أفعاله بأن صلى وهم جلوس أو قام يطوف وهم يتسامرون من أعظم الأمور في إسقاط حرمته والإخلال بعظمته وهو حرام ممتنع.
الثالث أن أفعاله عليه السلام قائمة مقام أقواله في بيان المجمل وتخصيص العموم وتقييد المطلق من الكتاب والسنة فكان فعله محمولاً على الوجوب كالقول.
الرابع أن ما فعله النبي عليه السلام يجب أن يكون حقاً وصواباً وترك الحق والصواب يكون خطأ وباطلاً وهو ممتنع.
الخامس أن فعله احتمل أن يكون واجباً واحتمل أن لا يكون واجباً واحتمال كونه واجباً أظهر من احتمال كونه ليس بواجب لأن الظاهر من النبي عليه السلام أنه لا يختار لنفسه سوى الأكمل والأفضل والواجب أكمل مما ليس بواجب وإذا كان واجباً فيجب اعتقاد مشاركة الأمة له فيه لما قررتموه في طريقتكم وأما شبه القائلين بالندب فنقلية وعقلية أيضاً.
أما النقلية فقوله تعالى: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " " الحشر 7 " جعل التأسي به حسنة وأدنى درجات الحسنة المندوب فكان محمولاً عليه وما زاد فهو مشكوك فيه.
وأما العقلية فهو أن فعله وإن احتمل أن يكون معصية إلا أنه خلاف الظاهر والظاهر من فعله أنه لا يكون إلا حسنة والحسنة لا تخرج عن الواجب والمندوب وحمله على فعل المندوب أولى لوجهين.
الأول أن غالب أفعال النبي عليه السلام كانت هي المندوبات.
الثاني أن كل واجب مندوب وزيادة وليس كل مندوب واجباً فكان فعل المندوب لعمومه أغلب ويلزم من ذلك مشاركة أمته له فيه لما ذكرتموه في طريقتكم.
وأما شبه القائلين بالإباحة فهي أن الأصل في الأفعال كلها إنما هو الإباحة ورفع الحرج عن الفعل والترك إلا ما دل الدليل على تغييره والأصل عدم المغير.
وأما شبه القائلين بالوقف فإنهم قالوا: فعله عليه السلام متردد بين أن يكون خاصاً به وبين أن لا يكون خاصاً به وما ليس خاصاً به متردد بين الواجب والمندوب والمباح والفعل لا صيغة له ليدل على البعض دون البعض وليس البعض أولى من البعض فلزم الوقف إلى أن يقوم الدليل على التعيين.
والجواب عن شبه القائلين بالوجوب: أما عن الآية الأولى فلا نسلم أن قوله فاتبعوه يدل على الوجوب وإن سلمنا ذلك ولكن قوله فاتبعوه صريح في ابتاع شخص النبي عليه السلام وهو غير مراد فلا بد من إضمار المتابعة في أقواله وأفعاله والإضمار على خلاف الأصل فتمتنع الزيادة فيه من غير حاجة وقد أمكن دفع الضرورة بإضمار أحد الأمرين وليس إضمار المتابعة في الفعل أولى من القول بل إضمار المتابعة في القول أولى لكونه متفقاً عليه ومختلفاً في الفعل كيف وأن المتابعة في الفعل إنما يتحقق وجوبها أن لو علم كون الفعل المتبع واجباً وإلا فبتقدير أن يكون غير واجب فمتابعة ما ليس بواجب لا تكون واجبة ولم يتحقق كون فعله واجباً فلا تكون متابعته واجبة.
وعن الآية الثانية أن يقال اسم الأمر وإن أطلق على الفعل والقول المخصوص لكنه يجب اعتقاد كونه حقيقة في أمر مشترك بينهما وهو الشأن والصفة نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ لكونهما على خلاف الأصل وعند ذلك فلفظ الأمر المحذر من مخالفته يكون مطلقاً والمطلق إذا عمل به في صورة فقد خرج عن كونه حجة ضرورة توفية العمل بدلالته وقد عمل به في القول المخصوص فلا يبقى حجة في الفعل سلمنا أنه غير متواطئ ولكنه مجمع على كونه حقيقة في القول المخصوص ومختلف في الفعل فكان حمله على المتفق عليه دون المختلف فيه(1/67)
أولاً سلمنا أنه حقيقة في الفعل لكنه يكون مشتركاً وعند ذلك إن قيل بأن اللفظ المشترك يمتنع حمله على جميع مدلولاته فليس حمله على التحذير من مخالفة الأمر بمعنى الفعل أولى من القول وإن قيل بحمل اللفظ المشترك على جميع محامله فالتحذير عن مخالفة الأمر يتوقف على كون المحذر منه واجباً لاستحالة التحذير من ترك ما ليس واجباً وعند ذلك فالقول بالتحذير من مخالفة الفعل يستدعي وجوب ذلك الفعل ووجوبه إذا كان لا يعرف إلا من التحذير كان دوراً كيف وإنه قد تقدم في الآية ذكر دعاء الرسول بقوله: " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً " " النور 63 " والمراد بالدعاء إنما هو القول فكان الأمر المذكور بعده عائداً إلى قوله ثم قد أمكن عود الضمير في أمره إلى الله تعالى إذ هو أقرب مذكور حيث قال بعد ذكر الرسول: " قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا " " النور 63 " فكان عوده إليه أولى.
وعن الآية الثالثة بمنع دلالة الأمر على الوجوب وإن سلمنا ذلك ولكن إنما يكون أخذ ما أتانا به واجباً إذا كان ما أتى به واجباً وأما إذا لم يكن واجباً فأخذه لا يكون واجباً فإن القول بوجوب فعل لا يكون واجباً تناقض في اللفظ والمعنى وعند ذلك فيتوقف دلالة الآية على الوجوب على كون الفعل المأتي به واجباً ووجوبه إذا توقف على دلالة الآية على وجوبه كان دوراً كيف وإن في الآية ما يدل على أن المراد بوجوب أخذه إنما هو الأمر بمعنى القول حيث إنه قابله بالنهي بقوله " وما نهاكم عنه فانتهوا " " الحشر 7 " والنهي لا يكون إلا بالقول وكذلك الأمر المقابل له.
وعن الآية الرابعة من وجهين: الأول: إنا نقول المراد بالتأسي به في فعله أن نستخير لأنفسنا ما استخاره لنفسه وأن لا نعترض عليه فيما يفعله أو معنى آخر الأول مسلم ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون ما استخاره لنفسه واجباً حتى يكون ما نستخيره نحن لأنفسنا واجباً والثاني ممنوع.
الوجه الثاني: أن المراد بالتأسي به في فعله أن نوقع الفعل على الوجه الذي أوقعه هو عليه السلام حتى أنه لو صلى واجباً وصلينا متنفلين أو بالعكس فإن ذلك لا يكون تأسياً به ولم يثبت كون ما فعله واجباً حتى يكون ما نفعله نحن واجباً.
وعلى هذين الجوابين يخرج الجواب عن الآية الخامسة وعن الآية السادسة أن المراد من الطاعة إنما هو امتثال أمره ومتابعته في فعله على الوجه الذي فعله إن كان واجباً فواجباً وإن كان ندباً فندباً ونحن نقول به ولم يثبت أن ما فعله واجب حتى تكون متابعتنا له فيه واجبة.
وعن الآية السابعة إن غايتها الدلالة على أن حكم أمته مساو لحكمه في الوجوب والندب والإباحة ولا يلزم من ذلك أن يكون كل ما فعله واجباً ليكون فعلنا له واجباً.
وعن الخبر الأول من السنة من وجهين: الأول أن ذلك لا يدل على أنهم فعلوا ذلك بجهة الوجوب بل لعلهم رأوا متابعته في خلع النعل مبالغة في موافقته والذي يدل على أن الخلع بطريق المتابعة له لم يكن واجباً إنكاره عليهم ذلك وقوله لم خلعتم نعالكم ولو كانت متابعته في فعله واجبة على الإطلاق لما أنكر ذلك الوجه الثاني أنه وإن ظنوا وجوب المتابعة لكن لا من الفعل بل لقيام دليل أوجب عليهم ذلك وبيانه من وجهين الأول أنه عليه السلام كان قد قال لهم: " صلوا كما رأيتموني أصلي " ففهموا أن صلاته بيان لصلاتهم فلما رأوه قد خلع نعله تابعوه فيه لظنهم أن ذلك من هيئات الصلاة الثاني أنهم كانوا مأمورين بأخذ زينتهم عند كل مسجد بقوله تعالى: " خذوا زينتكم عند كل مسجد " " الأعراف 31 " فلما رأوه قد خلع نعله ظنوا وجوبه وأنه لا يترك الأمر المسنون المأمور إلا لواجب ونحن لا ننكر وجوب المتابعة عند قيام الدليل.
وعن الخبر الثاني أن فهمهم لوجوب متابعته في أفعال الحج إنما كان مستنداً إلى قوله عليه السلام " خذوا عني مناسككم " لا إلى فعله.
وعن الخبر الثالث أن الوصال للنبي عليه السلام لم يكن واجباً عليه بل غايته أنه كان مباحاً له ووجوب المتابعة فيما أصله غير واجب ممتنع كما سبق بل ظنهم إنما كان مشاركته في إباحة الوصال ونحن نقول به وهذا هو الجواب عن الخبر الرابع.
وعن الخبر الخامس أنه لا دلالة له على وجوب بل الشعر في حقه عليه السلام ولا حق غيره(1/68)
ولعله أراد بذلك الكفاية في الكمال لا في الوجوب بل وجوب البل إنما هو مستفاد من قوله عليه السلام " بلوا الشعر وانقوا البشرة " .
وعن الخبر السادس من وجهين: الأول أن فعله وقع بياناً لقوله عليه السلام " خذوا عني مناسككم " ولا نزاع في وجوب اتباع فعله إذا ورد بياناً لخطاب سابق بل وهو أبلغ من دلالة القول المجرد عن الفعل لكون الفعل ينبئ عن المقصود عياناً بخلاف القول فإنه لا يدل عليه عياناً الثاني أن وجوب التحلل وقع مستفاداً من أمر النبي عليه السلام لهم بذلك غير أنهم كانوا يرتقبون إنجاز ما وعدهم الله به من الفتح والظهور على قريش في تلك السنة وأن ينسخ الله عنهم الأمر بالتحلل وأداء ما كانوا فيه من الحج فلما تحلل عليه السلام آيسوا من ذلك فتحللوا وعن الاحتجاج بالإجماع الأول لا نسلم أن وجوب الغسل من التقاء الختانين كان مستفاداً من فعل رسول الله بل من قوله عليه السلام " إذا التقى الختانان وجب الغسل " وسؤال عمر لعائشة إنما كان ليعلم أن فعل النبي هل وقع موافقاً لأمره أم لا وعن الثاني أن تقبيل عمر الحجر إنما كان مستفاداً من فعل رسول الله المبين لقوله: " خذوا عني مناسككم " كيف وأن تقبيل الحجر غير واجب على النبي عليه السلام ولا على غيره بل غايته أن فعل النبي عليه السلام يدل على ترجيح فعله على تركه من غير وجوب وذلك مما لا ننكره ولا ننكر مشاركة الأمة له في ذلك.
وعن الشبهة الأولى من المعقول فقد قيل في دفعها إن الاحتياط إنما يمكن أن يقال به إذا خلا عن احتمال الضرر قطعاً وفيما نحن فيه يحتمل أن يكون الفعل حراماً على الأمة وهو غير صحيح فإنه لو غم الهلال ليلة الثلاثين من رمضان فإنه يحتمل أن يكون يوم الثلاثين منه يوم العيد واحتمل أن لا يكون يوم اليعد ومع ذلك يجب صومه احتياطاً للواجب وإن احتمل أن يكون حراماً لكونه من يوم العيد.
والحق في ذلك أن يقال إنما يكون الاحتياط أولى لما ثبت وجوبه كالصلاة الفائتة من صلوات يوم وليلة أو كان الأصل وجوبه كما في صوم يوم الثلاثين من رمضان إذا كانت ليلته مغيمة وأما ما عساه أن يكون واجباً وغير واجب فلا وما نحن فيه كذلك حيث لم يتحقق وجوب الفعل ولا الأصل وجوبه.
وعن الشبهة الثانية لا نسلم أن الإتيان بمثل ما يفعله العظيم يكون تعظيماً له وأن تركه يكون إهانة له وحطاً من قدره بل ربما كان تعاطي الأدنى لمساواته الأعلى فعله حطاً من منزلته وغضاً من منصبه ولهذا يقبح من العبد الجلوس على سرير سيده في مرتبته والركوب على مركبه ولو فعل ذلك استحق اللوم والتوبيخ ثم لو كانت متابعة النبي في أفعاله موجبة لتعظيمه وترك المتابعة موجبة لإهانته لوجب متابعته عندما إذا ترك بعض ما تعبدنا به من العبادات ولم يعلم سبب تركه وهو خلاف الإجماع.
وعن الشبهة الثالثة إنه لا يلزم من كون الفعل بياناً للقول أن يكون موجباً لما يوجبه القول فإن الخطاب القولي يستدعي وجوب الجواب ولا كذلك الفعل.
وعن الشبهة الرابعة أن فعل النبي عليه السلام وإن كان حقاً وصواباً بالنسبة إليه فلا يلزم أن يكون حقاً وصواباً بالنسبة إلى أمته إلا أن يكون فعله مما يوجب مشاركتهم له في ذلك الفعل وهو محل النزاع.
وعن الشبهة الخامسة إنه وإن كان فعل الواجب أفضل مما ليس بواجب فلا يلزم أن يكون كل ما يفعله النبي عليه السلام واجباً ولهذا فإن فعله للمندوبات كان أغلب من فعله للواجبات بل فعله للمباحات كان أغلب من فعله للمندوبات وعند ذلك فليس حمل فعله على النادر من أفعاله أولى من حمله على الغالب منها وعن شبه القائلين بالندب.
أما الآية فجوابها مثل ما سبق في الاحتجاج بها على الوجوب وأما الشبهة العقلية فلا نسلم أن غالب فعله المندوبات بل المباح ولا نسلم أن المندوب داخل في الواجب على ما سبق تقريره.
وأما شبهة الإباحة فنحن قائلون بها في كل فعل لم يظهر من النبي عليه السلام قصد التقرب به وأما ما ظهر معه قصد التقرب به فيمتنع أن يكون مباحاً بمعنى نفي الحرج عن فعله وتركه فإن مثل ذلك لا يتقرب به وذلك مما يجب حمله على ترجيح جانب الفعل على الترك على ما قررناه.(1/69)
وأما الواقفية فإن أرادوا بالوقف أنا لا نحكم بإيجاب ولا ندب إلا أن يقوم الدليل على ذلك فهو الحق وهو عين ما قررناه وإن أرادوا به أن الثابت أحد هذه الأمور لكنا لا نعرفه بعينه فخطأ فإن ذلك يستدعي دليلاً وقد بينا أنه لا دلالة للفعل على شيء سوى ترجيح الفعل على الترك عندما إذا ظهر من النبي عليه السلام قصد التقرب بفعله أو نفي الحرج مطلقاً عندما إذا لم يظهر منه قصد القربة والأصل عدم دليل سوى الفعل والله أعلم.
المسألة الثانية إذا فعل النبي عليه السلام فعلاً ولم يكن بياناً لخطاب سابق ولا قام الدليل على أنه من خواصه وعلمت لنا صفته من الوجوب أو الندب أو الإباحة إما بنصه عليه السلام على ذلك وتعريفه لنا أو بغير ذلك من الأدلة فمعظم الأئمة من الفقهاء والمتكلمين متفقون على أننا متعبدون بالتأسي به في فعله واجباً كان أو مندوباً أو مباحاً ومنهم من منع من ذلك مطلقاً ومنهم من فصل كأبي علي بن خلاد وقال بالتأسي في العبادات دون غيرها والمختار إنما هو المذهب الجمهوري ودليله النص والإجماع.
أما النص فقوله تعالى " فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً " " الأحزاب 37 " ولولا أنه متأسي به في فعله ومتبعاً لما كان للآية معنى وهذا من أقوى ما يستدل به هاهنا.
وأيضاً قوله تعالى: " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني " " آل عمران 31 " ووجه الاستدلال به أنه جعل المتابعة له لازمة من محبة الله الواجبة فلو لم تكن المتابعة له لازمة لزم من عدمها عدم المحبة الواجبة وذلك حرام بالإجماع وأيضاً قوله تعالى: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر " " الحشر 7 " ووجه الاحتجاج به أنه جعل التأسي بالنبي عليه السلام من لوازم رجاء الله تعالى واليوم الآخر ويلزم من عدم التأسي عدم الملزوم وهو الرجاء لله واليوم الآخر وذلك كفر والمتابعة والتأسي في الفعل على ما بيناه في المقدمة هو أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل من أجل أنه فعل.
وأما الإجماع فهو أن الصحابة كانوا مجمعين على الرجوع إلى أفعاله كرجوعهم إلى تزويجه لميمونة وهو حرام وفي تقبيله عليه السلام للحجر الأسود وجواز تقبيله وهو صائم إلى غير ذلك من الوقائع الكثيرة التي لا تحصى.
فإن قيل أما الآية الأولى وإن دلت على التأسي به والمتابعة في التزويج من إزواج الأدعياء إذا قضوا منهن وطراً فليس فيها ما يدل على التأسي والمتابعة في كل فعل وأما الأخيرتان فلا نسلم عموم دلالتها على المتابعة والتأسي في كل شيء إذ لا عموم لهما في ذلك ولهذا فإنه يحسن أن يقال لك في فلان أسوة في كل شيء ويقال لك في فلان أسوة حسنة في هذا الشيء دون غيره ولو كان لفظ الأسوة عاماً في كل شيء لكان قوله في كل شيء تكراراً وقوله: في هذا الشيء دون غيره مناقضة بل غايتها الدلالة على المتابعة والتأسي في بعض الأشياء ونحن قائلون بذلك في اتباع أقواله والتأسي بما دل الدليل القولي على التأسي به في أفعاله كقوله " صلوا كما رأيتموني أصلي " و " خذوا عني مناسككم " ونحوه.
وأما ما ذكرتموه من الإجماع فلا نسلم أن المستند فيما كانوا يفعلونه التأسي بالنبي في فعله وإنما كان مستندهم في ذلك غيره أما فيما كان مباحاً فالبقاء على الأصل أما فيما كان واجباً أو مندوباً فالأقوال الدالة على ذلك.
والجواب: عن الاعتراض على الآية الأولى أن الآية ليس فيها دلالة على خصوص متابعة المؤمنين للنبي عليه السلام في ذلك ولولا أن التأسي بالنبي عليه السلام في جميع أفعاله لازم لما فهم المؤمنون من إباحة ذلك للنبي عليه السلام إباحة ذلك لهم ولا يمكن أن يقال بأن فهم الإباحة إنما كان مستنداً إلى الإباحة الأصلية وإلا لما كان لتعليل تزويج النبي عليه السلام بنفي الحرج عن المؤمنين معنى لكونه مدفوعاً بغيره.(1/70)
وعن الاعتراض الثاني على الآيتين الأخريين أن مقصودهما إنما هو بيان كون النبي عليه السلام أسوة لنا ومتبعاً إظهاراً لشرفه وإبانة لخطره وذلك إنما يكون في شيء واحد أو في جميع الأشياء فإن كان في شيء واحد فإما أن يكون معيناً أو مبهماً: القول بالتعيين ممتنع لعدم دلالة اللفظ عليه والقول بالإبهام ممتنع لأنه على خلاف الغالب من خطاب الشرع ولكونه أبعد إظهار شرف النبي عليه السلام فلم يبق إلا أن يكون في جميع الأشياء وإذا قال لك أسوة في فلان في جميع الأشياء فهو مفيد للتأكيد ولي تكراراً خلياً عن الفائدة وإذا قال لك أسوة في فلان في هذا الشيء دون غيره فلا يكون مناقضة لأن العموم إنما هو مستفاد من التأسي والمتابعة المطلقة وهذا ليس بمطلق بل الكل جملة واحدة مفيدة لشيء معين.
وأما ما ذكروه على الإجماع فهو خلاف المشهور المأثور عنهم عند اتفاقهم بعد اختلافهم في التمسك بأفعال النبي عليه السلام والرجوع إليها وسؤال زوجاته والبحث عن أفعاله في ذلك وسكون أنفسهم إليها والاعتماد عليها واحتجاج بعضهم على بعض بها ولو كان ثم دليل يدل على المتابعة والتأسي غير النظر إلى أفعاله لبادروا إليه من غير توقف على البحث عن فعله عليه السلام وعلى ما ذكرناه في فعله يكون الحكم في تركه.
المسألة الثالثة إذا فعل واحد بين يدي النبي عليه السلام فعلاً أو في عصره وهو عالم به قادر على إنكاره فسكت عنه وقرره عليه من غير نكير عليه فلا يخلو إما أن يكون النبي عليه السلام قد عرف قبح ذلك الفعل وتحريمه من قبل أو لم يكن كذلك فإن كان الأول فإما أن يكون قد علم إصرار ذلك الفاعل على فعله وعلم من النبي عليه السلام الإصرار على قبح ذلك الفعل وتحريمه كاختلاف أهل الذمة إلى كنائسهم أو لم يكن كذلك فإن كان الأول فالسكوت عنه لا يدل على جوازه وإباحته إجماعاً ولا يوهم كونه منسوخاً وإن كان الثاني فالسكوت عنه وتقريره له من غير إنكار يدل على نسخه عن ذلك الشخص وإلا لما ساغ السكوت حتى لا يتوهم أنه منسوخ عنه فيقع في المحذور وفيه تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو غير جائز بالإجماع إلا على رأي من يجوز التكليف بما لا يطاق.
وأما إن لم يكن النبي عليه السلام قد سبق منه النهي عن ذلك الفعل ولا عرف تحريمه فسكوته عن فاعله وتقريره له عليه ولا سيما إن وجد منه استبشار وثناء على الفاعل فإنه يدل على جوازه ورفع الحرج عنه وذلك لأنه لو لم يكن فعله جائزاً لكان تقريره له عليه مع القدرة على إنكاره وكان استبشاره وثناؤه عليه حراماً على النبي عليه السلام وهو وإن كان من الصغائر الجائزة على النبي عليه السلام عند قوم إلا أنه في غاية البعد لا سيما فيما يتعلق ببيان الأحكام الشرعية وإذا كان كذلك فالإنكار هو الغالب فحيث لم يوجد ذلك منه دل على الجواز غالباً.
فإن قيل: يحتمل أنه لم ينكر عليه: إما لعلمه بأنه لم يبلغه التحريم فلم يكن الفعل عليه حراماً إذ ذاك أو لأنه علم بلوغ التحريم إليه ولم ينجع فيه وأصر على ما هو عليه أو لأنه منعه مانع من الإنكار.
قلنا: عدم بلوغ التحريم إليه غير مانع من الإنكار والإعلام بأن ذلك الفعل حرام بل الإعلام بالتحريم واجب حتى لا يعود إليه ثانياً وإلا كان السكوت مما يوهم: إما عدم دخوله في عموم التحريم أو النسخ وأما إذا علم ذلك الشخص التحريم وأصر على فعله مع كونه مسلماً متبعاً للنبي عليه السلام فلا بد من تجديد الإنكار حتى لا يتوهم نسخه ولا يلزم على هذا تجديد الإنكار على اختلاف أهل الذمة إلى كنائسهم إذ هم غير متبعين له ولا يعتقدون تحريم ذلك حتى يقال: يتوهم نسخ ذلك بسكوت النبي عليه السلام عن الإنكار عليهم.
وما ذكروه من احتمال المانع وإن كان قائماً عقلاً غير أن الأصل عدمه وهو في غاية البعد ولا سيما بعد ظهور شوكته واستيلائه وقهره لمن سواه.
المسألة الرابعة لا يتصور التعارض بين أفعال رسول الله بحيث يكون البعض منها ناسخاً للآخر أو مخصصاً له وذلك لأنهما إما من قبيل المتماثلين كفعل صلاة الظهر مثلا في وقتين متماثلين أو في وقتين مختلفين وإما من قبيل المختلفين.(1/71)
والفعلان المختلفان إما أن يتصور اجتماعهما كالصوم والصلاة أو لا يتصور اجتماعهما: وما لا يتصور اجتماعهما إما أن لا تتناقض أحكامهما كصلاة الظهر والعصر مثلاً أو تتناقض كما لو صام في وقت معين وأكل في مثل ذلك الوقت.
فإن كان من القسم الأول أو الثاني أو الثالث فلا خفاء بعدم التعارض بينهما لإمكان الجمع.
وإن كان من القسم الرابع فلا تعارض أيضاً إذ أمكن أن يكون الفعل في وقت واجباً أو مندوباً أو جائزاً وفي وقت آخر بخلافه ولا يكون أحدهما رافعاً ولا مبطلاً لحكم الآخر إذا لا عموم للفعلين ولا لأحدهما.
نعم إن دل الدليل على أن ما فعله النبي عليه السلام من الصوم كان يجب تكريره عليه في مثل الوقت أو دل الدليل على لزوم وجوب تأسي أمته به في ذلك الوقت فإذا ترك ذلك الفعل في مثل ذلك الوقت بالتلبس بضده كالأكل مع الذكر للصوم والقدرة عليه فإن أكله يدل على نسخ حكم ذلك الدليل الدال على تكرار الصوم في حقه لا نسخ حكم ذلك الصوم المتقدم لعدم اقتضائه للتكرار ورفع حكم وجد محال أو أنه رأى بعض الأمة في مثل ذلك الوقت يأكل فأقره عليه ولم ينكر مع الذكر للصوم والقدرة على الإنكار فإن ذلك يدل على نسخ حكم ذلك الدليل المقتضي لتعميم الصوم على الأمة في حق ذلك الشخص أو تخصيصه لا نسخ حكم فعل الرسول ولا تخصيصه وإن قيل بنسخ فعل الرسول وتخصيصه فلا يكون إلا بمعنى أنه قد زال التعبد بمثله عن الرسول أو الواحد من الأمة وذلك من باب التجوز والتوسع لا أنه حقيقة.
المسألة الخامسة إذا تعارض فعل النبي وقوله فإما أن يكون فعله لم يدل الدليل على تكرره في حقه ولا على تأسي الأمة به فيه أو دل فإن كان الأول فقوله إما أن يكون خاصاً به أو بنا أو هو عام له ولنا.
فإن كان خاصاً به فإما أن يعلم تقدم أحدهما أو يجهل التاريخ فإن علم تقدم أحدهما وتأخر الآخر فإما أن يكون المتقدم هو الفعل أو القول فإن كان المتقدم هو الفعل مثل أن يفعل فعلاً في وقت ويقول بعده إما على الفور أو التراخي: لا يجوز لي مثل هذا الفعل في مثل هذا الوقت فلا تعارض بينهما لأن القول لم يرفع حكم ما تقدم من الفعل في الماضي ولا في المستقبل لأن الفعل غير مقتض للتكرار على ما وقع به الغرض وقد أمكن الجمع بين حكم القول والفعل وإن كان المتقدم هو القول مثل أن يقول: الفعل الفلاني واجب علي في الوقت الفلاني ثم يتلبس بضده في ذلك الوقت فمن جوز نسخ الحكم قبل التمكن من الامتثال قال: إن الفعل ناسخ لحكم القول ومن لم يجوز ذلك منع كون الفعل رافعاً لحكم القول وقال: لا يتصور وجود مثل ذلك الفعل مع العمد إن لم نجوز على النبي عليه السلام وإلا فهو معصية.
وأما إن كان قوله خاصاً بنا فلا تعارض أيضاً لعدم اجتماعهما في محل واحد من جهة واحدة.
وأما إن كان قوله عاماً لنا وله فإن كان الفعل متقدماً فلا معارضة أيضاً بين قوله وفعله أما بالنسبة إليه عليه السلام فلما تقدم فيما إذا كان قوله خاصاً به وأما إلينا فلأن فعله غير متعلق بنا على ما وقع به الغرض وإن كان القول هو المتقدم فالحكم في التعارض بين قوله وفعله بالنسبة إليه كما تقدم أيضاً فيما إذا كان قوله خاصاً به ولا معارضة بالنسبة إلينا لعدم توارد قوله وفعله علينا على ما وقع به الغرض هذا كله فيما إذا لم يدل الدليل على تكرر ذلك الفعل في حقه ولا تأسي الأمة به وأما إن دل الدليل على تكرره في حقه وعلى تأسي الأمة به أو على تكرره في حقه دون تأسي الأمة به أو على تأسي الأمة به دون تكرره في حقه فالحكم مختلف في هذه الصور.
فإن دل الدليل على تكرره في حقه وعلى تأسي الأمة به فلا يخلو قوله إما أن يكون خاصاً به أو بنا أو هو عام له ولنا: فإن كان قوله خاصاً به فإما أن يعلم تقدم الفعل أو القول أو يجهل التاريخ: فإن علم تقدم فالقول المتأخر يكون ناسخاً لحكم الفعل في حقه في المستقبل دون أمته لعدم تناول القول لهم وإن كان القول هو المتقدم ففعله يكون ناسخاً لحكم القول في حقه إن كان بعد التمكن من الامتثال أو قبله على رأي من يجوزه وموجباً للفعل على أمته وأما إن جهل التاريخ فلا معارضة بين فعله وقوله بالنسبة إلى الأمة لعدم تناول قوله لهم.(1/72)
وأما بالنسبة إليه فقد اختلف فيه: فمنهم من قال بوجوب العمل بالقول ومنهم من قال بالعكس ومنهم من أوجب المعارضة والوقف إلى حين قيام دليل التاريخ والمختار إنما هو العمل بالقول لوجوه أربعة: الأول أن القول يدل بنفسه من غير واسطة والفعل إنما يدل على الجواز بواسطة أن النبي عليه السلام لا يفعل المحرم وذلك مما يتوقف على الدلائل الغامضة البعيدة.
الثاني أن القول مما يمكن التعبير به عما ليس بمحسوس كالمعقولات الصرفة وعن المحسوس والفعل لا ينبئ عن غير محسوس فكانت دلالة القول أقوى وأتم.
الثالث أن القول قابل للتأكيد بقبول آخر ولا كذلك الفعل فكان القول لذلك أولى.
الرابع أن العمل بالقول هاهنا مما يفضي إلى نسخ مقتضى الفعل في حق النبي عليه السلام دون الأمة والعمل بالفعل يفضي إلى إبطال مقتضى القول بالكلية فكان الجمع بينهما ولو من وجه أولى.
فإن قيل: بل الفعل آكد في الدلالة فإنه يبين به القول والمبين للشيء آكد في الدلالة من ذلك الشيء وبيانه أن جبريل عليه السلام بين للنبي عليه السلام كيفية الصلاة المأمور بها وبين مواقيتها حيث صلى به في اليومين وقال يا محمد الوقت ما بين هذين والنبي عليه السلام بين الصلاة للأمة بفعله حيث قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي " وبين المراد من قوله تعالى " ولله على الناس حج البيت " " آل عمران 97 " بفعله حيث قال: " خذوا عني مناسككم " وقال للذي سأله عن مواقيت الصلاة " صل معنا " وبين الشهر بأصابعه حيث قال " إنما الشهر هكذا وهكذا " وأيضاً فإن كل من رام تعليم غيره إذا أراد المبالغة في إيصال معنى ما يقوله إلى فهمه استعان في ذلك بالإشارة بيده والتخطيط وتشكيل الأشكال ولولا أن الفعل أدل لما كان كذلك.
قلنا: غاية ما ذكرتموه وجود البيان بالفعل وكما وجد البيان بالفعل فقد وجد بالقول أغلب من البيان بالفعل فإن أكثر الأحكام مستندها إنما هو الأقوال دون الأفعال وغايته أنهما يتساويان في ذلك ويبقى ما ذكرناه من الترجيحات الأولى بحالها هذا كله إذا كان قوله خاصاً به.
وأما إن كان قوله خاصاً بنا دونه فإما أن يعلم تقدم الفعل أو القول أو بجهل التاريخ فإن علم تقدم الفعل فالقول المتأخر يكون ناسخاً للحكم في حقنا دونه وإن كان القول هو المتقدم فالحكم في كون الفعل ناسخاً لحكم القول في حقنا دون النبي فكما ذكرناه فيما إذا كان القول خاصاً به وأما إن جهل التاريخ فالخلاف كالخلاف فيما إذا كان القول خاصاً به والمختار إنما هو العمل بالقول لما علم.
وأما إن كان القول عاماً له ولنا فأيهما تأخر كان ناسخاً لحكم المتقدم في حقه وحقنا على ما ذكرناه من التفصيل في التعقيب والتراخي وإن جهل التاريخ فالخلاف كالخلاف والمختار كالمختار وهذا كله فيما إذا دل الدليل على تكرر الفعل في حقه وعلى تأسي الأمة به.
وأما إن دل الدليل على تكرره في حقه دون تأسي الأمة به فالقول إن كان خاصاً بالأمة فلا تعارض لعدم المزاحمة بينهما وإن كان خاصاً بالنبي أو هو عام له وللأمة فالتعارض بين القول والفعل إنما يتحقق بالنسبة إليه دون أمته لعدم قيام الدليل على تأسي الأمة به في فعله ولا يخفى الحكم سواء تقدم الفعل أو تأخر أو جهل التاريخ وأما إن دل الدليل على تأسي الأمة به في فعله دون تكرره في حقه فالقول إن كان خاصاً به فإن كان متأخراً عن الفعل فلا معارضة لا في حقه ولا في حق أمته وإن كان متقدماً فالفعل المتأخر عنه يكون ناسخاً لحكم القول في حقه على ما ذكرناه من التفصيل دون أمته وإن جهل التاريخ فالخلاف على ما تقدم.
وإن كان القول خاصاً بأمته فلا معارضة بين القول والفعل بالنسبة إلى النبي عليه السلام لعدم المزاحمة وأما إن تحققت المعارضة بين القول والفعل بالنسبة إلى الأمة فأيهما كان متأخراً فهو الناسخ وإن جهل التاريخ فالخلاف على ما سبق وكذلك المختار.
وإن كان القول عاماً له ولأمته فإن تقدم الفعل فالقول المتأخر لا معارضة بينه وبين الفعل في حق النبي عليه السلام وإنما هو ناسخ لحكم الفعل في حق الأمة وإن تقدم القول فالفعل ناسخ لحكم القول في حق النبي والأمة وإن جهل التاريخ فالخلاف كالخلاف والمختار كالمختار والله أعلم.
الأصل الثالث
في الإجماع
ويشتمل على مقدمة ومسائل:(1/73)
أما المقدمة ففي تعريف الإجماع وهو في اللغة باعتبارين: أحدهما العزم على الشيء والتصميم عليه ومنه يقال: أجمع فلان على كذا إذا عزم عليه وإليه الإشارة بقوله تعالى " فأجمعوا أمركم " " يونس 71 " أي اعزموا وبقوله عليه السلام: " لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل " أي يعزم وعلى هذا فيصح إطلاق اسم الإجماع على عزم الواحد.
الثاني الاتفاق ومنه يقال: أجمع القوم على كذا إذا اتفقوا عليه وعلى هذا فاتفاق كل طائفة على أمر من الأمور دينياً كان أو دنيوياً يسمى إجماعاً حتى اتفاق اليهود والنصارى.
وأما في اصطلاح الأصوليين فقد قال النظام: هو كل قول قامت حجته حتى قول الواحد وقصد بذلك الجمع بين إنكاره كون إجماع أهل الحل والعقد حجة وبين موافقته لما اشتهر بين العلماء من تحريم مخالفة الإجماع والنزاع معه في إطلاق اسم الإجماع على ذلك مع كونه مخالفاً للوضع اللغوي والعرف الأصولي آيل إلى اللفظ.
وقال الغزالي: الإجماع عبارة عن اتفاق أمة محمد خاصة على أمر من الأمور الدينية وهو مدخول من ثلاثة أوجه: الأول أن ما ذكره يشعر بعدم انعقاد الإجماع إلى يوم القيامة فإن أمة محمد جملة من اتبعه إلى يوم القيامة ومن وجد في بعض الأعصار منهم إنما يعم بعض الأمة لا كلها وليس ذلك مذهباً له ولا لمن اعترف بوجود الإجماع.
الثاني أنه وإن صدق على الموجودين منهم في بعض الأعصار أنهم أمة محمد غير أنه يلزم مما ذكره أنه لو خلا عصر من الأعصار عن أهل الحل والعقد وكان كل من فيه عامياً واتفقوا على أمر ديني أن يكون إجماعاً شرعياً وليس كذلك.
الثالث أنه يلزم من تقييده للإجماع بالاتفاق على أمر من الأمور الدينية أن لا يكون إجماع الأمة على قضية عقلية أو عرفية حجة شرعية وليس كذلك لما يأتي بيانه.
والحق في ذلك أن يقال: الإجماع عبارة عن اتفاق جملة أهل الحل والعقد من أمة محمد في عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقائع هذا إن قلنا إن العامي لا يعتبر في الإجماع وإلا فالواجب أن يقال الإجماع عبارة عن اتفاق المكلفين من أمة محمد إلى آخر الحد المذكور.
فقولنا اتفاق يعم الأقوال والأفعال والسكوت والتقرير وقولنا جملة أهل الحل والعقد احتراز عن اتفاق بعضهم وعن اتفاق العامة وقولنا من أمة محمد احتراز عن اتفاق أهل الحل والعقد من أرباب الشرائع السالفة وقولنا في عصر من الأعصار حتى يندرج فيه إجماع أهل كل عصر وإلا أوهم ذلك أن الإجماع لا يتم إلا باتفاق أهل الحل والعقد في جميع الأعصار إلى يوم القيامة وقولنا على حكم واقعة ليعم الإثبات والنفي والأحكام العقلية والشرعية وإذا عرف معنى الإجماع فلنرجع إلى المسائل المتعلقة به.
المسألة الأولى اختلفوا في تصور اتفاق أهل الحل والعقد على حكم واحد غير معلوم بالضرورة: فأثبته الأكثرون ونفاه الأقلون مصيراً منهم إلى أن اتفاقهم على ذلك الحكم إما أن يكون عن دليل قاطع لا يحتمل التأويل أو عن دليل ظني لا جائز أن يقال بالأول وإلا لكانت العادة محيلة لعدم نقله وتواطي الجمع الكثير على إخفائه فحيث لم ينقل دل على عدمه كيف وأنه لو نقل لكان كافياً في الدلالة عن إجماعهم ولا جائز أن يقال بالثاني لأنهم مع كثرتهم واختلاف أذهانهم ودواعيهم في الاعتراف بالحق والعناد فالعادة أيضاً تحيل اتفاقهم على الحكم الواحد كما أنها تحيل اتفاقهم على أكل طعام واحد معين في يوم واحد وهو باطل فأنه إن كان إجماعهم عن دليل قاطع فإنما يمتنع عدم نقله أن لو دعت الحاجة إليه وإنما تدعو الحاجة إليه أن لو لم يكن الإجماع على ذلك الحكم كافياً عنه وهو محل النزاع.(1/74)
وإن كان ذلك عن دليل ظني فلا يمتنع معه اتفاق الجمع الكبير على حكمه بدليل اتفاق أهل الشبه على أحكامها مع الأدلة القاطعة على مناقضتها كاتفاق اليهود والنصارى على إنكار بعثة محمد صلى الله عليه وسلم واتفاق الفلاسفة على قدم العالم والمجوس على التثنية مع كثرة عددهم كثرة لا تحصى فالاتفاق على الدليل الظني الخالي عن معارضة القاطع له أولى أن لا يمتنع عادة وخرج عليه امتناع اتفاق الجمع الكثير على أكل طعام معين في وقت واحد في العادة لعدم الصارف إليه كيف وأن جميع ما ذكروه منتقض بما وجد من اتفاق جميع المسلمين فضلاً عن اتفاق أهل الحل والعقد مع خروج عددهم عن الحصر على وجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان ووجوب الزكاة والحج وغير ذلك من الأحكام التي لم يكن طريق العلم بها الضرورة والوقوع دليل التصور وزيادة.
المسألة الثانية المتفقون على تصور انعقاد الإجماع اختلفوا في إمكان معرفته والاطلاع عليه: فأثبته الأكثرون أيضاً ونفاه الأقلون ومنهم أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ولهذا نقل عنه أنه قال: من ادعى وجود الإجماع فهو كاذب اعتماداً منهم على أن معرفة اتفاقهم على اعتقاد الحكم الواحد متوقف على سماع الإخبار بذلك من كل واحد من أهل الحل والعقد أو مشاهدة فعل أو ترك منه يدل عليه وذلك كله يتوقف على معرفة كل واحد منهم وذلك مع كثرتهم وتفرقهم في البلاد النائية والأماكن البعيدة متعذر عادة وبتقدير المعرفة بكل واحد منهم فمعرفة معتقده إنما تكون بالوصول إليه والاجتماع به وهو أيضاً متعذر وبتقدير الاجتماع به وسماع قوله ورؤية فعله أو تركه قد لا يفيد ذلك اليقين بأنه معتقده لجواز أن يكون إخباره وما يشاهد من فعله أو تركه على خلاف معتقده لغرض من الأغراض وبتقدير حصول العلم بمعتقده فلعله يرجع عنه قبل الوصول إلى الباقين وحصول العلم بمعتقدهم ومع الاختلاف فلا إجماع.
وطريق الرد عليهم أن يقال: جميع ما ذكرتموه باطل بالواقع ودليل الوقوع ما علمناه علماً لا مراء فيه من أن مذهب جميع الشافعية امتناع قتل المسلم بالذمي وبطلان النكاح بلا ولي وأن مذهب جميع الحنفية نقيض ذلك مع وجود جميع ما ذكروه من التشكيكات والوقوع في هذه الصور دليل الجواز العادي وزيادة.
فإن قيل إنما علمنا أن مذهب أصحاب الشافعي وأبي حنيفة ذلك لأنا علمنا قول الشافعي وقول أبي حنيفة في ذلك وهو قول واحد يمكن الاطلاع عليه فعلمنا أن مذهب كل من يتبعه وهو مقلد له ذلك ولا كذلك في الإجماع لأنه لم يظهر لنا نص عن الله والرسول يكون مستند إجماعهم ولو عرف ذلك لكان هو الحجة.
قلنا: هذا وإن استمر لكم هاهنا فلا يستمر فيما نقله قطعاً من اعتقاد النصارى واليهود من إنكار بعثة النبي عليه السلام فإن ذلك لم يظهر لنا فيه أنه قول موسى ولا عيسى ولا قول واحد معين حتى يكون اعتقادهم ذلك لاتباعهم له فما هو الجواب هاهنا فهو الجواب في محل النزاع.
المسألة الثالثة اتفق أكثر المسلمين على أن الإجماع حجة شرعية يجب العمل به على كل مسلم خلافاً للشيعة والخوارج والنظام من المعتزلة وقد احتج أهل الحق في ذلك بالكتاب والسنة والمعقول.
أما الكتاب فخمس آيات: الآية الأولى وهي أقواها وبها تمسك الشافعي رضي الله عنه وهي قوله تعالى " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً " " النساء 115 " ووجه الاحتجاج بالآية أنه تعالى توعد على متابعة غير سبيل المؤمنين ولو لم يكن ذلك محرماً لما توعد عليه ولما حسن الجمع بينه وبين المحرم من مشاقة الرسول عليه السلام في التوعد كما لا يحسن التوعد على الجمع بين الكفر وأكل الخبز المباح.(1/75)
فإن قيل لا نسلم أن من للعموم على ما سيأتي في مسائل العموم حتى يتناول كل من اتبع غير سبيل المؤمنين سلمنا أنها للعموم غير أن التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين إنما وقع مشروطاً بمشاقة الرسول والمشروط على العدم عند عدم الشرط سلمنا لحوق الذم باتباع غير سبيل المؤمنين على انفراده لكنه متردد بين أن يراد به عدم متابعة سبيل المؤمنين وتكون غير بمعنى إلا وبين أن يراد به متابعة سبيل غير المؤمنين وتكون غير هاهنا صفة لسبيل غير المؤمنين وليس أحد الأمرين أولى من الآخر وبتقدير أن تكون غير صفة لسبيل غير المؤمنين فسبيل غير المؤمنين هو الكفر ونحن نسلم أن من شاقق الرسول وكفر فإنه يكون متوعداً بالعقاب وذلك لا يدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين سلمنا أن سبيل غير المؤمنين ليس هو الكفر ولكن ذلك لا يدل على التوعد على عدم اتباع سبيل المؤمنين بل غاية ما يلزم من تخصيص اتباع سبيل غير المؤمنين بالتوعد عدم التوعد على اتباع سبيل المؤمنين بمفهومه ولا نسلم أن المفهوم حجة وإن سلمنا أنه حجة لكن في عدم التوعد على متابعة سبيل المؤمنين ونحن نقول به ولا يلزم من ذلك وجوب اتباعهم سلمنا أن المراد به عدم اتباع سبيل المؤمنين لكنه يتناول سبيل جميع المؤمنين وجميع المؤمنين كل من آمن بالله ورسوله إلى يوم القيامة وذلك لا يدل على أن ما وجد من الإجماع في بعض الأعصار حجة سلمنا أن المراد منه سبيل المؤمنين في كل عصر لكنه عام في كل مؤمن عالم وجاهل والجهال غير داخلين في الإجماع المتبع وما دون ذلك فالآية غير دالة عليه سلمنا أن المراد بالمؤمنين أهل الحل والعقد في أي عصر اتفق لكن لفظ السبيل مفرد لا عموم فيه فلا يقتضي اتباع كل سبيل سلمنا عمومه لكنه مما يمتنع حمله على متابعة كل سبيل وإلا لوجب متابعة أهل الإجماع فيما فعلوه من المباحات لأنهم فعلوه ولا يجب لحكمهم عليه بالإباحة ولوجب اتباعهم في إجماعهم قبل الاتفاق على حكم من الأحكام على جواز الاجتهاد فيه لكل أحد واتباعهم في امتناع الاجتهاد فيه بعد اتفاقهم عليه وذلك تناقض محض وعند ذلك فيحتمل أنه أراد به متابعة سبيلهم في متابعتهم للنبي عليه السلام وترك مشاقته ويحتمل أنه أراد به اتباع سبيلهم في الإيمان واعتقاد دين الإسلام ويحتمل أنه أراد اتباع سبيلهم في الاجتهاد دون التقليد ونحن نقول بذلك كله كيف ويجب الحمل على ذلك لما فيه من العمل باللفظ في زمن النبي وفيما بعده ولو كان محمولاً على متابعتهم فيما اتفقوا عليه من الأحكام الشرعية لكان ذلك خاصاً بما بعد وفاة النبي عليه السلام لاستحالة الاحتجاج بالإجماع في زمانه سلمنا أن المراد به متابعتهم فيما أجمعوا عليه من الأحكام الشرعية لكنه مشروط بسابقة تبين الهدى بدليل قوله تعالى " من بعد ما تبين له الهدى " " النساء 115 " والهدى مذكور بالألف واللام المستغرقة فيدخل فيه كل هدى حتى إجماعهم على الحكم الشرعي وإنما يتبين الهدى بدليله وإذا كان الإجماع من جملة الهدى فلا بد من تقدم بيانه بدليله ودليل كون الإجماع هدى لا يكون هو نفس الإجماع بل هو غيره وعند ذلك فظهور ذلك الدليل كاف في اتباعه عن اتباع الإجماع سلمنا وجوب اتباع سبيل المؤمنين مطلقاً لكن المراد بالمؤمنين الأئمة المعصومون لأن سبيلهم لا يكون إلا حقاً أو المؤمنين إذا كان فيهم الإمام المعصوم لأن سبيلهم سبيله وسبيل المعصوم لا يكون إلا حقاً فكان واجب الاتباع والثاني ممنوع سلمنا وجوب إتباع سبيل المؤمنين وإن لم يكن فيهم الإمام المعصوم ولكن إذا علم كونهم مؤمنين والإيمان هو التصديق وهو باطن لا سبيل إلى معرفته وإذا لم يعلم كونهم مؤمنين فالاتباع لا يكون واجباً لفوات شرطه سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كون الإجماع حجة ولكنه معارض بالكتاب والسنة والمعقول.(1/76)
أما الكتاب فقوله تعالى: " ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء " " النحل 89 " وذلك يدل على عدم الحاجة إلى الإجماع وقوله تعالى " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " " النساء 59 " اقتصر على الكتاب والسنة وذلك يدل على عدم الحاجة إلى الإجماع وقوله تعالى " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " " البقرة 188 " وقوله " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " " البقرة 161 " نهى كل الأمة عن هاتين المعصيتين وذلك يدل على تصورهما منهم ومن تتصور منه المعصية لا يكون قوله ولا فعله موجباً للقطع.
وأما السنة فهو أن النبي عليه السلام أقر معاذاً لما سأله عن الأدلة المعمول بها على إهماله لذكر الإجماع ولو كان الإجماع دليلاً لما ساغ ذلك مع الحاجة إليه وأيضاً فإنه قد ورد عن النبي عليه السلام ما يدل على جواز خلو العصر عمن تقوم الحجة بقوله فمن ذلك قوله عليه السلام: " بدئ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ " وأيضاً قوله: " لا ترجعوا بعدي كفاراً " نهى الكل عن الكفر وهو دليل جواز وقوعه منهم وقوله: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ولكن بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " وقوله: " تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها أول ما ينسى " وقوله عليه السلام " لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة " وقوله " خير القرون القرن الذي أنا فيه ثم الذي يليه ثم الذي يليه ثم تبقى حثالة كحثالة التمر لا يعبأ الله بهم " .
وأما المعقول فما ذكرناه في المسألتين الأوليين وأيضاً فإن أمة محمد أمة من الأمم فلا يكون إجماعهم حجة كغيرهم من الأمم وأيضاً فإن الأحكام الشرعية لا يصح إثباتها إلا بدليل فلا يكون إجماع الأمة دليلاً عليها كالتوحيد وسائر المسائل العقلية.
والجواب: قولهم لا نسلم أن من للعموم سيأتي بيان ذلك في مسائل العموم قولهم إن التوعد إنما وقع على الجمع بين المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين فقد أجاب عنه بعض أصحابنا بأن التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين إن لم يكن مشروطاً بمشاقة الرسول فهو المطلوب وإن كان مشروطاً به فيكون اتباع غير سبيل المؤمنين غير متوعد عليه عند عدم المشاقة مطلقاً وذلك باطل لأن مخالفة الإجماع وإن لم تكن خطأ لكن لا يلزم أن تكون صواباً مطلقاً وما لا يكون صواباً مطلقاً لا يكون جائزاً مطلقاً وليس بحق لأنه إذا سلم أن مخالفة الإجماع عند عدم المشاقة ليست خطأ فقوله لا يلزم أن تكون صواباً مطلقاً قلنا إن لم تكن صواباً فإما أن يكون عدم الصواب خطأ أو لا يكون خطأ: فإن كان الأول فقد ناقض وإن كان الثاني فما لا يكون خطأ لا يلزم التوعد عليه وقال أبو الحسين البصري: هذا يقتضي أن من شاق الرسول يجب عليه اتباع سبيل المؤمنين مع مشاقته للرسول ومشاقة الرسول ليست معصية فقط وإنما هي معصية على سبيل الرد عليه لأن من صدق النبي عليه السلام وفعل بعض المعاصي لا يقال إنه مشاق للرسول ومن كذب النبي عليه السلام لا يصح أن يعلم صحة الإجماع بالسمع ومن لا يصح عليه ذلك لا يصح أن يكون مأموراً باتباعه في تلك الحال وهو غير سديد.
فإن لقائل أن يقول: وإن سلمنا أن المفهوم من المشاقة للنبي تكذيبه وأن من كذب النبي لا يعلم بالسمع صحة الإجماع ولكن القول بأنه لا يكون مأموراً باتباع الإجماع مبني على أن الكفار غير مخاطبين بفروع الإسلام وهو باطل بما سبق تقريره وقيل في جوابه أيضاً إن الوعيد إذا علق على أمرين اقتضى ذلك التوعد بكل واحد من الأمرين جملة وإفراداً ويدل عليه قوله تعالى: " والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً " " الفرقان 68 " فإنه يقتضي لحوق المأثم بكل واحد من هذه الأمور جملة وبكل واحد على انفراده.(1/77)
ولقائل أن يقول: لا نسلم ثبوت الإثم في كل واحد من هذه الأمور على انفراده بهذه الآية وإنما كان ذلك مستفاداً من الأدلة الخاصة الدالة على لزوم المأثم بكل واحد من هذه الأمور بخصوصه ولهذا فإنه لما لم يدل الدليل الخاص على مضاعفة العذاب بكل واحد من هذه الأمور لم تكن الآية مقتضية لتضاعف العذاب على كل واحد بتقدير الانفراد إجماعاً ولو كانت مقتضية لذلك لكان نفي المتضاعف بقوله " يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً " " الفرقان 69 " على خلاف الدليل ولهذا فإنه لو قال لزوجته: " إن كلمت زيداً وعمراً أو إن كلمت زيداً ودخلت الدار فأنت طالق " فإنه لا يقع الطلاق بوجود أحد الأمرين ولولا أن الحكم المعلق على أمرين على العدم عند عدم أحدهما لكان انتفاء الحكم في هذه الصورة على خلاف الدليل وهو ممتنع والأقرب في ذلك أن يقال: لا خلاف في التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين عند المشاقة وعند ذلك إما أن يكون لمفسدة متعلقة أو لا لمفسدة لا جائز أن يقال بالثاني فإن ما لا مفسدة فيه لا توعد عليه من غير خلاف وإن كان الأول فالمفسدة في اتباع غير سبيل المؤمنين إما أن تكون من جهة مشاقة الرسول أو لا من جهة مشاقته فإن كان الأول فذكر المشاقة كاف في التوعد كما قيل ولا حاجة إلى قوله " ويتبع غير سبيل المؤمنين " وإن كان الثاني لزم التوعد لتحقق المفسدة سواء وجدت المشاقة أو لم توجد.
قولهم إن غير مترددة بين أن تكون بمعنى إلا أو بمعنى الصفة قلنا: لا يمكن أن تكون غير هاهنا صفة لأنه يلزم من ذلك تحريم متابعة سبيل غير المؤمنين ويلزم من ذلك أن الأمة إذا أجمعت على إباحة فعل من الأفعال أن يحرم على المكلف أن يقول بحظره أو وجوبه والمخالف لا يقول بذلك وبتقدير أن يكون المراد منه تحريم اتباع سبيل غير المؤمنين فذلك يعم تحريم كل سبيل هو غير سبيل المؤمنين لأنه سبيل غير المؤمنين ولهذا فإن من اختار لنفسه حالة وتمسك بها وكان معروفاً بها يقال إنها سبيله سواء تعددت الأحوال أو اتحدت وإذا قيل: فلان سلك سبيل التجار فهم منه أنه يفعل أفعالهم ويتزي بزيهم ويتخلق بأخلاقهم ويجر على عاداتهم وعلى هذا فيمتنع تخصيص السبيل المتوعد على اتباعه إذا كان غير سبيل المؤمنين بشيء معين من كفر أو غيره بل يعم ذلك ما كان مخالفاً لطريق الأمة وسبيلهم كيف وإنا لو لم نعتقد ذلك لزم منه أن يكون لفظ السبيل مبهماً وهو خلاف الأصل على ما سبق.
قولهم إنه إنما يدل على عدم التوعد على متابعة سبيل المؤمنين بمفهومه قلنا إذا سلم أنه يحرم اتباع كل سبيل سوى سبيل المؤمنين فلا نريد بكون الإجماع حجة سوى هذا.
قولهم: المراد من سبيل المؤمنين كل من آمن به إلى يوم القيامة لا يصح لوجهين الأول أن الأصل تنزيل اللفظ على حقيقته ولفظ المؤمنين حقيقة يكون لمن هو متصف بالإيمان والاتصاف بالإيمان مشروط بالوجود والحياة ومن لا حياة له ممن مات أو لم يوجد بعد لا يكون مؤمناً حقيقة فلفظ المؤمنين حقيقة إنما يصدق على أهل كل عصر دون من تقدم أو تأخر وهذا وإن منع من الاحتجاج بإجماع أهل العصر على من بعدهم فلا يمنع من الاحتجاج به على من في عصرهم وهو خلاف مذهب الخصوم الثاني أن المقصود من الآية إنما هو الزجر عن مخالفة المؤمنين والحث على متابعتهم وذلك غير متصور عند حمل المؤمنين على كل من آمن إلى يوم القيامة إذ لا زجر ولا حث في يوم القيامة.
قولهم: الآية وإن دلت على وجوب اتباع سبيل المؤمنين في أي عصر كان غير أنها عامة في العالم والجاهل والجاهل غير مراد بالاتفاق ولا نسلم ذلك على ما يأتي وإن سلمنا ذلك غير أن الآية حجة في اتباع جملة المؤمنين إلا ما خصه الدليل فتبقى الآية حجة في الباقي.
قولهم لفظ السبيل مفرد لا عموم فيه عنه جوابان: الأول أنه يجب اعتقاد عمومه لما سبق تقريره الثاني أنه إما أن يكون عاماً بلفظه أو لا يكون عاماً بلفظه فإن كان الأول فهو المطلوب وإن كان الثاني فهو إن لم يكن عاماً بلفظه فهو عام بمعناه وإيمائه ذلك لأن اتباع سبيل المؤمنين أي سبيل كان مناسب لكونه مصلحياً وقد رتب الحكم على وفقه في كلام الشارع فكان علة لوجوب الاتباع مهما تحقق.
قولهم: يلزم من ذلك وجوب متابعة أهل الإجماع فيما فعلوه وحكموا بكونه مباحاً وهو تناقض(1/78)
قلنا: الآية وإن دلت على وجوب اتباع المؤمنين في كل سبيل لهم ففعلهم للمباح سبيل وحكمهم بجواز الترك سبيل ولا يلزم من مخالفة الآية في إيجاب الفعل اتباعاً لفعلهم له مخالفتها في اتباعهم في اعتقاد جواز تركه.
قولهم: يلزم من ذلك وجوب متابعة أهل الإجماع في جواز الاجتهاد وتحريمه قلنا: سنبين أنه مهما انعقد إجماع الأمة على حكم أنه يستحيل انعقاد إجماعهم على مخالفته.
قولهم: يحتمل أنه أراد متابعتهم في متابعتهم للنبي عليه السلام وترك مشاقته أو اتباعهم في الإيمان أو في الاجتهاد قلنا: اللفظ يعم كل سبيل على ما قررناه وما ذكروه تخصيص لعموم الاتباع من غير دليل فلا يقبل قولهم إنه مشروط بسابقة تبين الهدى إلى آخره فجوابه من ثلاثة أوجه: الأول أن تبين الهدى إنما هو مشروط في الوعيد على المشاقة لا في الوعيد على اتباع غير سبيل المؤمنين وذلك لأن المشاقة لا تكون إلا بعد تبين الهدى ومعرفته بدليله ومن لم يعرف ذلك لا يوصف بالمشاقة.
الثاني أن تبين الأحكام الفروعية ليس شرطاً في مشاقة الرسول بدليل أن من تبين صدق النبي وحاد عنه ورد عليه فإنه يوصف بالمشاقة وإن كان جاهلاً بالفروع غير متبين لها وإذا لم تكن معرفة أحكام الفروع شرطاً في المشاقة فلا تكون مشترطة في لحوق الوعيد باتباع غير سبيل المؤمنين فيها.
الثالث هو أن الآية إنما خرجت مخرج التعظيم والتبجيل للمؤمنين بإلحاق الذم باتباع غير سبيلهم فلو كان ذلك مشروطاً بتبين كونه هدى ولم يكن اتباعهم في سبيلهم لأجل أنه سبيل لهم بل لمشاركتهم فيما ذهبوا إليه لتبين كونه هدى لبطلت فائدة تعظيم الأمة الإسلامية وتميزهم بذلك فإن كل من ظهر الهدى في قوله واعتقاده فالوعيد حاصل بمخالفته وإن لم يكن من المسلمين وذلك كالوعيد على عدم مشاركة اليهود فيما ظهر كون معتقدهم فيه هدى كإثبات الصانع واعتقاد كون موسى رسولاً كريماً.
قولهم المراد من المؤمنين الأئمة المعصومون أو من كان فيهم الإمام المعصوم عنه جوابان: الأول أنه مبني على وجود الإمام المعصوم وهو باطل بما حققناه في علم الكلام الثاني أن الآية عامة فتخصيصها بالأئمة وبالمؤمنين الذين فيهم الإمام المعصوم من غير دليل غير مقبول كيف وأن الآية دالة على الوعيد باتباع غير سبيل المؤمنين وعندهم التوعد إنما هو بسبب اتباع غير سبيل الإمام وحده دون غيره وهو خلاف الظاهر.
قولهم سلمنا وجوب اتباع سبيل المؤمنين لكن إذا علم أنهم مؤمنون قلنا: المقصود من الآية إنما هو الحث على متابعة سبيل المؤمنين والزجر عن مخالفته فإن كان سبيلهم معلوماً فلا إشكال وإن لم يكن معلوماً فالتكليف باتباع ما لا يكون معلوماً إما أن لا يكتفي فيه بالظن أو يكتفي فيه بالظن فإن كان الأول فهو تكليف بما لا يطاق وهو خلاف الأصل وإن كان الثاني فهو المطلوب وأما ما ذكروه من المعارضة بالآية الأولى فليس في بيان كون الإجماع حجة متبعة بالآية التي ذكرها ما ينافي كون الكتاب تبياناً لكل شيء وأصلاً له وأما الآية الثانية فهي دليل عليهم لأنها دليل على وجوب الرد إلى الله والرسول في كل متنازع فيه وكون الإجماع حجة متبعة مما وقع النزاع فيه وقد رددناه إلى الله تعالى حيث أثبتناه بالقرآن وهم مخالفون في ذلك وأما الآية الثالثة والرابعة فلا نسلم أن النهي فيهما راجع إلى اجتماع الأمة على ما نهوا عنه بل هو راجع إلى كل واحد على انفراده ولا يلزم من جواز المعصية على كل واحد جوازها على الجملة سلمنا أن النهي لجملة الأمة عن الاجتماع على المعصية ولكن غاية ذلك جواز وقوعها منهم عقلاً ولا يلزم من الجواز الوقوع ولهذا فإن النبي عليه السلام قد نهي عن أن يكون من الجاهلين بقوله تعالى " فلا تكونن من الجاهلين " " الأنعام 35 " وقال تعالى لنبيه: " لئن أشركت ليحبطن عملك " " الزمر 65 " إذ ورد ذلك في معرض النهي مع العلم بكونه معصوماً من ذلك وأيضاً فإنا نعلم أن كل أحد منهي عن الزنى وشرب الخمر وقتل النفس بغير حق إلى غير ذلك من المعاصي ومع ذلك فإن من مات ولم يصدر عنه بعض المعاصي نعلم أن الله قد علم منه أنه لا يأتي بتلك المعصية فكان معصوماً عنها ضرورة تعلق علم الله بأنه لا يأتي بها ومع ذلك فهو منهي عنها.(1/79)
وأما خبر معاذ فإنما لم يذكر فيه الإجماع لأنه ليس بحجة في زمن النبي عليه السلام فلم يكن مؤخراً لبيانه مع الحاجة إليه وقوله عليه السلام " بدئ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ " لا يدل على أنه لا يبقى من تقوم الحجة بقوله بل غايته أن أهل الإسلام هم الأقلون وقوله: " لا ترجعوا بعدي كفاراً " فيحتمل أنه خطاب مع جماعة معينين وإن كان خطاباً مع الكل فجوابه ما سبق في آيات المناهي للأمة.
وقوله " حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً " الحديث إلى آخره غايته الدلالة على جواز انقراض العلماء ونحن لا ننكر امتناع وجود الإجماع مع انقراض العلماء وإنما الكلام في اجتماع من كان من العلماء وعلى هذا يكون الجواب عن باقي الأحاديث الدالة على خلو الزمان من العلماء كيف وإن ما ذكروه معارض بما يدل على امتناع خلو عصر من الأعصار عمن تقوم الحجة بقوله وهو قوله عليه السلام: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله وحتى يظهر الدجال " وأيضاً ما روي أنه قال: " واشوقاه إلى إخواني قالوا يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ فقال أنتم أصحابي إخواني قوم يأتون من بعدي يهربون بدينهم من شاهق إلى شاهق ويصلحون إذا فسد الناس " .
وما ذكروه من المعقول في المسألتين السابقتين فقد سبق جوابه قولهم: إنها أمة من الأمم فلا يكون إجماعهم حجة كغيرهم من الأمم فقد ذهب أبو إسحاق الأسفرايني وغيره من أصحابنا وجماعة من العلماء إلى أن إجماع علماء من تقدم من الملل أيضاً حجة قبل النسخ وإن سلمنا أنه ليس بحجة فلأنه لم يرد في حقهم من الدلالة الدالة على الاحتجاج بإجماعهم ما ورد في علماء هذه الأمة فافترقا وأما الحجة الأخيرة فلا نسلم أنه إذا كان الحكم ثبت بالدليل لا يجوز إثباته بالإجماع.
وأما التوحيد فلا نسلم أن الإجماع فيه ليس بحجة وإن سلمنا أنه لا يكون حجة فيه بل في الأحكام الشرعية لا غير غير أن الفرق بينهما أن التوحيد لا يجوز فيه تقليد العامي للعالم وإنما يرجع إلى أدلة يشترك فيها الكل وهي أدلة العقل بخلاف الأحكام الشرعية فإنه يجب على العامي الأخذ بقول العالم فيها وإذا جاز أو وجب الأخذ بقول الواحد كان الأخذ بقول الجماعة أولى.
الآية الثانية قوله تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً " " البقرة 143 " وصف الأمة بكونهم وسطاً والوسط هو العدل ويدل عليه النص واللغة أما النص فقوله تعالى: " قال أوسطهم ألم أقل لكم " " القلم 28 " أعدلهم وقال عليه السلام خير الأمور أوساطها وأما اللغة فقول الشاعر:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم(1/80)
أي عدول ووجه الاحتجاج بالآية أنه عدلهم وجعلهم حجة على الناس في قبول أقوالهم كما جعل الرسول حجة علينا في قبول قوله علينا ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى كون أقوالهم حجة على غيرهم فإن قيل إنما وصفهم بالعدالة ليكونوا شهداء في الآخرة على الناس بتبليغ الأنبياء إليهم الرسالة وذلك يقتضي عدالتهم وقبول شهادتهم في يوم القيامة حالة ما يشهدون دون حالة التحمل في الدنيا سلمنا أنه وصفهم بذلك في الدنيا ولكن ليس في قوله: " لتكونوا شهداء على الناس " " البقرة 143 " لفظ عموم يدل على قبول شهادتهم في كل شيء بل هو مطلق في المشهود به وهو غير معين فكانت الآية مجملة ولا حجة في المجمل سلمنا أنها ليست مجملة ولكنا قد عملنا بها في قبول شهادتهم على من بعدهم بإيجاب النبي عليه السلام العبادات عليهم وتكليفهم بما كلفهم به فلا يبقى حجة في غيره لتوفية العمل بدلالة الآية سلمنا قبول شهادتهم في كل شيء غير أن الآية تدل على عدالة كل واحد من الأمة وقبول شهادته وهو مخصص بالإجماع بالفساق والنساء والصبيان والمجانين والعام بعد التخصيص لا يبقى حجة على ما سيأتي لكن ليس في ذلك ما يدل سلمنا أنها تبقى حجة بعد التخصيص على عدالتهم وعصمتهم عن الخطأ باطناً بل ظاهراً فإن ذلك كان في قبول الشهادة سلمنا أن ذلك يدل على عصمتهم عن الخطأ مطلقاً لكن فيما يشهدون به لا فيما يحكمون به من الأحكام الشرعية بطريق الاجتهاد فإن ذلك ليس من باب الشهادة في شيء وهو محل النزاع سلمنا قبول قولهم مطلقاً غير أن الخطاب إما أن يكون مع جميع أمة محمد إلى يوم القيامة وإما مع الموجودين في وقت الخطاب فإن كان الأول فلا حجة في إجماع كل عصر إذ ليسوا كل الأمة وإن كان الثاني فلا يكون إجماع من بعدهم حجة وإجماع الموجودين في زمن الوحي ليس بحجة في زمن الوحي بالإجماع وإنما يكون حجة بعد النبي عليه السلام وذلك يتوقف على بقاء كل من كان من المخاطبين بذلك في زمن النبي بعد النبي وأن يعرف مقاله كل واحد فيما ذهب إليه وهو متعذر جداً.
والجواب عن السؤال الأول أن وصف أمة محمد بالعدالة إنما كان في معرض الامتنان والإنعام عليهم وتعظيم شأنهم وذلك إما أن يكون في الدنيا أو في الأخرى أو فيهما لا جائز أن يكون في الأخرى لا غير لوجهين: الأول أن جميع الأمم عدول يوم القيامة بل معصومون عن الخطأ لاستحالة ذلك منهم وفيه إبطال فائدة التخصيص الثاني أنه لو كان كذلك لقال: سنجعلكم عدولاً لا أن يقول جعلناكم وإن كان القسم الثاني والثالث فهو المطلوب.
وعن الثاني من وجهين: الأول أنه يجب اعتقاد العموم في قبول الشهادة نفياً للإجمال عن الكلام الثاني إن الاحتجاج ليس في قوله " لتكونوا شهداء على الناس " " البقرة 143 " بل في وصفهم بالعدالة ومهما كانوا عدولاً وجب قبول قولهم في كل شيء وبه يخرج الجواب عن السؤال الثالث.
وأما الرابع فجوابه أن الآية تدل على وصف جملة الأمة بالعدالة ومقتضى ذلك عدالتهم فيما يقولونه جملة وآحاداً غير أنا خالفناه في بعض الآحاد فتبقى الآية حجة في عدالتهم فيما يقولونه جملة وهو المطلوب قولهم العام بعد التخصيص لا يبقى حجة سنبطله فيما يأتي.
وأما السؤال الخامس فجوابه أن الله تعالى أخبر عنهم بكونهم عدولاً والأصل أن يكون كذلك حقيقة في نفس الأمر لكونه عالماً بالخفيات فإن الحكيم إذا علم من حال شخص أنه غير عدل في نفس الأمر لا يخبر عنه بأنه عدل.
وجواب السادس أنه إذا ثبت وصفهم بالعدالة في نفس الأمر فيما يخبرون به مما يرونه من الأحكام الشرعية يجب صدقهم فيه وإلا لما كانوا عدولاً في نفس الأمر وإذا كانوا صادقين فيه فهو صواب لكونه حسناً فهو حسن عند الله لقوله عليه السلام: " ما رآه المسلمون حسناً فهو حسن عند الله " وإذا كان صواباً كان خلافة خطأ وهو المطلوب.
وجواب السابع أنه لا سبيل إلى حمل لفظ الأمة على كل من آمن بالرسول إلى يوم القيامة لما سبق في الآية الأولى ولا على من كان موجوداً في زمن النبي عليه السلام لا غير لأن أقوالهم غير محتج بها في زمنه ولا وجود لهم بعد وفاته فإن كثيراً منهم مات بعد الخطاب بهذه الآية قبل وفاة النبي عليه السلام فلا يبقى لقوله تعالى: " لتكونوا شهداء على الناس " " البقرة 143 " فائدة فيجب حمله على أهل كل عصر عصر تحقيقاً لفائدة كونهم شهداء.(1/81)
الآية الثالثة قوله تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " " آل عمران 110 " والألف واللام إذا دخلت على اسم الجنس عمت على ما سيأتي ومقتضى صدق الخبر بذلك أمرهم بكل معروف ونهيهم عن كل منكر فإذا أمروا بشيء إما أن يكون معروفاً أو منكراً لا جائز أن يكون منكراً وإلا لكانوا ناهين عنه ضرورة العمل بالعموم الذي ذكرناه لا أمرين به وإن كان معروفاً فخلافه يكون منكراً وهو المطلوب وإذا نهوا عن شيء فإما أن يكون منكراً أو معروفاً لا جائز أن يكون معروفاً وإلا لكانوا أمرين به ضرورة ما ذكرناه من العموم لا ناهين عنه وإن كان منكراً فخلافه يكون معروفاً وهو المطلوب فإن قيل: لا نسلم أن الألف واللام الداخلة على اسم الجنس للاستغراق على ما سيأتي وعلى هذا فلا تكون الآية عامة في الأمر بكل معروف ولا النهي عن كل منكر سلمنا أنها للعموم لكن قوله كنتم يدل على كونهم متصفين بهذه الصفة في الماضي ولا يلزم من ذلك اتصافهم بذلك في الحال بل ربما دل على عدم اتصافهم بذلك في الحال نظراً إلى قاعدة المفهوم وعلى هذا فما وجد من أمرهم ونهيهم لا نعلم أنه كان قبل نزول الآية فيكون حجة أو بعدها فلا يكون حجة سلمنا اتصافهم بذلك في الماضي والحال ولكن ليس فيه ما يدل على استدامتهم لذلك في المستقبل وعلى هذا فما وجد من أمرهم ونهيهم مما لا يعلم أنه كان في حالة كونه حجة أو في غيرها سلمنا دلالة الآية على ذلك في جميع الأزمان لكنه خطاب مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام ولا يلزم مثله في حق من بعدهم سلمنا أنه خطاب مع الكل لكن ذلك يستدعي كون كل واحد منهم على هذه الصفة ونحن نعلم خلاف ذلك ضرورة وإذا كان المراد بالآية بعض الأمة فذلك البعض غير معين ولا معلوم فلا يكون قوله حجة.
والجواب عن السؤال الأول ما سيأتي في العمومات كيف وأن الآية إنما وردت في معرض التعظيم لهذه الأمة وتمييزها على غيرها من الأمم فلو كانت الآية محمولة على البعض دون البعض لبطلت فائدة التخصيص فإنه ما من أمة إلا وقد أمرت بالمعروف كاتباع أنبيائهم وشرائعهم ونهت عن المنكر كنهيهم عن الإلحاد وتكذيب أنبيائهم.
وعن الثاني أنه إما أن تكون كان هاهنا زائدة أو تامة أو زمانية فإن كانت زائدة كما في قول الفرزدق:
فكيف إذا مررت بدار قوم ... وجيران لنا كانوا كراما
فإنه جعل كراماً نعتاً للجيران وألغى كان فهي دالة على اتصافهم بذلك حالاً لا في الماضي وإن أفادت نصب خير أمة كما في قوله تعالى: " كيف نكلم من كان في المهد صبياً " " مريم 19 " .
وإن كانت تامة وهي التي تكون بمعنى الوقوع والحدوث ويكتفى فيها باسم واحد لا خبر فيه كما في قوله تعالى: " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " " البقرة 280 " معناه حضر أو وقع ذو عسرة وكقول الشاعر:
إذا كان الشتاء فأدفئوني ... فإن الشيخ يهدمه الشتاء
فيكون معنى قوله: " كنتم خير أمة " " آل عمران 110 " أي وجدتم ويكون قوله: " خير أمة " نصباً على الحال فيكون ذلك دليلاً على اتصافهم بذلك في الحال لا في الماضي.
وإن كانت زمانية وهي الناقصة التي تحتاج إلى اسم وخبر فكان وإن دلت على الماضي فقوله: " تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " " آل عمران 110 " يقتضي كونهم كذلك في كل حال لورود ذلك في معرض التعظيم لهذه الأمة على ما سبق تقريره في جواب السؤال الذي قبله.
وعن الثالث أن قوله: " تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " " آل عمران 110 " فعل مضارع صالح للحال والاستقبال ويجب أن يكون حقيقة فيهما على العموم نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ.
وعن الرابع أنه إذا سلم كون الآية حجة في إجماع الصحابة فهو كاف إذ هو من جملة صور النزاع.
وعن الخامس إن الخطاب إذا كان مع الأمة كان ذلك حجة في ما وجد من أمرهم ونهيهم جملة وذلك هو المطلوب وإن لم يكن ذلك حجة في الأفراد.(1/82)
الآية الرابعة قوله تعالى: " واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا " " آل عمران 103 " ووجه الاحتجاج بها أنه تعالى نهى عن التفرق ومخالفة الإجماع تفرق فكان منهياً عنه ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى النهي عن مخالفته فإن قيل: لا نسلم وجود صيغة النهي وإن سلمناها ولكن لا نسلم أن النهي يدل على التحريم كما سيأتي تقريره في النواهي سلمنا دلالة النهي على التحريم ولكن لا نسلم عموم النهي عن التفرق في كل شيء بل التفرق في الاعتصام بحبل الله إذ هو المفهوم من الآية ولهذا فإنه لو قال القائل لعبيده: ادخلوا البلد أجمعين ولا تتفرقوا فإنه يفهم منه النهي عن التفرق في دخول البلد وما لم يعلم أن ما أجمع عليه أهل العصر اعتصام بحبل الله فلا يكون التفرق منهياً عنه سلمنا أن النهي عام في كل تفرق ولكنه مخصوص بما قبل الإجماع فإن كل واحد من المجتهدين مأمور باتباع ما أوجبه ظنه وإذا كانت الظنون والآراء مختلفة كان التفرق مأمورا به لا منهياً عنه والعام بعد التخصيص لا يبقى حجة على ما سيأتي سلمنا صحة الاحتجاج به لكنه خطاب مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام فلا يكون متناولاً لمن بعدهم وإجماع الموجودين في زمن النبي غير محج به في زمانه إجماعاً ولا تحقق لوجودهم بجملتهم بعد وفاته حتى يكون إجماعهم حجة على ما سبق تقريره. والجواب عن السؤال الأول والثاني ما سيأتي في النواهي.
وعن الثالث: أن قوله: " واعتصموا بحبل الله جميعاً " " آل عمران 103 " أمر بالاعتصام بحبل الله وقوله: " ولا تفرقوا " " آل عمران 103 " نهي عن التفرق في كل شيء ويجب الحمل عليه وإلا كان النهي عن التفرق في الاعتصام بحبل الله مفيداً لما أفاده الأمر بالاعتصام به فكان تأكيداً والأصل في الكلام التأسيس دون التأكيد.
وعن الرابع: بيان كون العام حجة بعد التخصيص كما يأتي في العمومات وعلى هذا فيبقى حجة في امتناع التفرق بعد الإجماع وفي امتناع مخالفة من وجد بعد أهل الإجماع لهم وهو المطلوب.
وعن الخامس: بأن الأمر والنهي إنما هو مع أهل كل عصر بتقدير وجودهم وفهمهم على ما سيأتي تقريره في الأوامر.
الآية الخامسة قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " " النساء 59 " ووجه الاحتجاج بالآية أنه شرط التنازع في وجوب الرد إلى الكتاب والسنة والمشروط على العدم عند عدم الشرط وذلك يدل على أنه إذا لم يوجد التنازع فالاتفاق على الحكم كاف عن الكتاب والسنة: ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى هذا.
فإن قيل: سقوط وجوب الرد إلى الكتاب والسنة عند الاتفاق على الحكم بناء على الكتاب والسنة أو من غير بناء عليهما فإن كان الأول فالكتاب والسنة كافيان في الحكم ولا حاجة إلى الإجماع وإن كان الثاني ففيه تجويز وقوع الإجماع من غير دليل وذلك محال مانع من صحة الإجماع كيف وإنا لا نسلم انتفاء الشرط فإن الكلام إنما هو مفروض فيما إذا وجد التنازع ممن تأخر من المجتهدين لإجماع المتقدمين.
قلنا: وإن كان الإجماع لا بد له من دليل فلا نسلم انحصار دليله في الكتاب والسنة ليصح ما ذكروه لجواز أن يكون مستندهم في ذلك إنما هو القياس والاستنباط على ما يأتي بيانه وإن سلمنا انحصار دليل الإجماع في الكتاب والسنة ولكن ليس في ذلك ما يدل على عدم اكتفاء من وجد بعد أهل الإجماع أو اكتفاء من وجد في عصرهم من المقلدة بإجماعهم عن معرفة الكتاب والسنة.
وأما السؤال الثاني فمشكل جداً واعلم أن التمسك بهذه الآيات وإن كانت مفيدة للظن فغير مفيدة للقطع ومن زعم أن المسألة قطعية فاحتجاجه فيها بأمر ظني غير مفيد للمطلوب وإنما يصح ذلك على رأي من يزعم أنها اجتهادية ظنية.(1/83)
هذا ما يتعلق بالكتاب وأما السنة وهي أقرب الطرق في إثبات كون الإجماع حجة قاطعة فمن ذلك ما روى أجلاء الصحابة كعمر وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وابن عمر وأبي هريرة وحذيفة بن اليمان وغيرهم بروايات مختلفة الألفاظ متفقة المعنى في الدلالة على عصمة هذه الأمة عن الخطأ والضلالة كقوله عليه السلام: " أمتي لا تجتمع على الخطأ أمتي لا تجتمع على الضلالة ولم يكن الله بالذي يجمع أمتي على الضلالة لم يكن الله ليجمع أمتي على الخطأ وسألت الله أن لا يجمع أمتي على الضلالة فأعطانيه " وقوله " ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن " " يد الله على الجماعة " ولا يبالي بشذود من شذ ومن سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن دعوتهم لتحيط من ورائهم " وإن الشيطان مع الفذ وهو من الاثنين أبعد " " ولا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يظهر أمر الله ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم خلاف من خالفهم " " ومن خرج عن الجماعة وفارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " " ومن فارق الجماعة ومات فميتته جاهلية عليكم بالسواد الأعظم " وقوله " تفترق أمتي نيفاً وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة " قيل يا رسول الله ومن تلك الفرقة قال " هي الجماعة " إلى غير ذلك من الأحاديث التي لا تحصى كثيرة ولم تزل ظاهرة مشهورة بين الصحابة معمولاً بها لم ينكرها منكر ولا دفعها دفع.
فإن قيل هذه كلها أخبار آحاد تبلغ مبلغ التواتر ولا تفيد اليقين وإن سلمنا التواتر ولكن يحتمل أنه أراد به الخطأ والضلالة عن الأمة عصمة جميعهم عن الكفر لا بتأويل ولا شبهة ويحتمل أنه أراد بهم عصمتهم عن الخطأ في الشهادة في الآخرة أو فيما يوافق النص المتواتر أو دليل العقل دون ما يكون بالاجتهاد سلمنا دلالة هذه الأخبار على عصمتهم عن كل خطأ وضلال لكن يحتمل أنه أراد بالأمة كل من آمن به إلى يوم القيامة وأهل كل عصر ليسوا كل الأمة فلا يلزم امتناع الخطأ والضلال عليهم سلمنا انتفاء الخطأ والضلال عن الإجماع في كل واحد من الأعصار ولكن لم قلتم إنه يكون حجة على المجتهدين وأنه لا تجوز مخالفته مع أن كل مجتهد في الفرعيات مصيب على ما يأتي تحقيقه ولا يجب على أحد المصيبين اتباع المصيب الآخر سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كون الإجماع حجة ولكنه معارض بما يدل على أنه ليس بحجة ودليله ما سبق من الآيات والأخبار والمعقول في الآية الأولى.
والجواب عن السؤال الأول من وجهين: الأول أن كل واحد من هذه الأخبار وإن كان خبر واحد يجوز تطرق الكذب إليه إلا أن كل عاقل يجد من نفسه العلم الضروري من جملتها قصد رسول الله عليه السلام تعظيم هذه الأمة وعصمتها عن الخطأ كما علم بالضرورة سخاء حاتم وشجاعة علي وفقه الشافعي ومالك وأبي حنيفة رضي الله عنهم وميل رسول الله إلى عائشة دون باقي نسائه بالأخبار التي آحادها آحاد غير أنها نازلة منزلة التواتر.
الوجه الثاني: أن هذه الأحاديث لم تزل ظاهرة مشهورة بين الصحابة ومن بعدهم متمسكاً بها فيما بينهم في إثبات الإجماع من غير خلاف فيها ولا نكير إلى زمان وجود المخالفين والعادة جارية بإحالة اجتماع الخلق الكثير والجم الغفير مع تكرر الأزمان واختلاف هممهم ودواعيهم ومذاهبهم على الاحتجاج بما لا أصل له في إثبات أصل من أصول الشريعة وهو الإجماع المحكوم به على الكتاب والسنة من غير أن ينبه أحد على فساده وإبطاله وإظهار النكير فيه.
فإن قيل من المحتمل أن أحداً أنكر هذه الأخبار ولم ينقل إلينا ومع هذا الاحتمال فلا قطع قولكم إن الصحابة والتابعين استدلوا بها على الإجماع لا نسلم ذلك وما المانع أن يكون استدلالهم على الإجماع لا بهذه الأحاديث بل بغيرها سلمنا استدلالهم بها على ذلك لكنه دور لما فيه من الاستدلال بالأحاديث على الإجماع والاستدلال على صحة الأحاديث بالإجماع ثم ما ذكرتموه في الدلالة على صحتها من عدم النكير معارض بما يدل على عدم صحتها وذلك أنها لو كانت معلومة الصحة مع أن الحاجة داعية إلى معرفتها لبناء هذا الأصل العظيم عليها لإحالة العادة أن لا تعرف الصحابة للتابعين طريق صحتها قطعاً للشك والارتياب.(1/84)
قلنا جواب الأول: أن الإجماع من أعظم أصول الدين فلو وجد فيما يستدل به عليه نكير لاشتهر ذلك فيما بينهم وعظم الخلاف فيه كاشتهار خلافهم فيما هو دونه من مسائل الفروع كاختلافهم في دية الجنين وقوله أنت علي حرام وحد الشرب ومسائل الجد والأخوة إلى غير ذلك ولو كان كذلك لكانت العادة تحيل عدم نقله بل كان نقله أولى من نقل ما خولف فيه من مسائل الفروع بل أولى من نقل خلاف النظام في ذلك مع خفائه وقلة الاعتبار بقوله.
وجواب الثاني: ما ظهر واشتهر من تمسك الصحابة والتابعين والاحتجاج بهذه الأخبار في معرض التهديد لمخالف الجماعة والزجر عن الخروج عنهم ظهوراً لا ريب فيه.
وجواب الثالث: أن الاستدلال على صحة الأخبار لم يكن بالإجماع بل بالعادة المحيلة لعدم الإنكار على الاستدلال بما لا صحة له فيما هو من أعظم أصول الأحكام والاستدلال بالعادة غير الاستدلال بالإجماع وذلك كالاستدلال بالعادة على إحالة دعوى وجود معارض للقرآن واندراسه ووجود دليل يدل على إيجاب صلاة الضحى وصوم شوال ونحوه.
وجواب الرابع: أنه يحتمل أن تكون الصحابة قد علمت صحة الأخبار المذكورة وكونها مفيدة للعلم بعصمة الأمة لا بصريح مقال بل بقرائن أحوال وأمارات دالة على ذلك لا سبيل إلى نقلها ولو نقلت لتطرق إليها التأويل والاحتمال واكتفوا بما يعلمه التابعون من أن العادة تحيل الاعتماد على ما لا أصل له فيما هو من أعظم الأصول قولهم: يحتمل أنه نفى عنهم الضلال والخطأ بمعنى الكفر.
قلنا: هذه الأخبار نعلم أنها إنما وردت تعظيماً لشأن هذه الأمة في معرض الامتنان والإنعام عليهم وفي حملها على نفي الكفر عنهم خاصة إبطال فائدة اختصاصهم بذلك لمشاركة بعض آحاد الناس للأمة في ذلك وإنما يصح ذلك أن لو أراد بها العصمة عما لا يعصم عنه الآحاد من أنواع الخطأ والكذب ونحوه وما ذكروه من باقي التأويلات فباطل فإن فائدة هذه الأخبار إنما وردت لإيجاب متابعة الأمة والحث عليه والزجر عن مخالفته ولو لم يكن ذلك محمولاً على جميع أنواع الخطأ بل على بعض غير معلوم من ألفاظ الأخبار لامتنع إيجاب متابعتهم فيه لكنه غير معلوم ولبطلت فائدة تخصيص الأمة بما ظهر منه قصد تعظيمها لمشاركة آحاد الناس لهم في نفي بعض أنواع الخطأ عنهم على ما سبق تعريفه وعن السؤال الثالث: ما سبق في المسائل المتقدمة.
وعن الرابع: أنه إذا ثبت انتقاء الخطأ عن الإجماع فيما ذهبوا إليه قطعاً فمخالفه يكون مخطئاً قطعاً والمخطئ قطعاً في أمور الدين إذا كان عالماً به لا يخرج عن التبديع والتفسيق ولا معنى لكون الإجماع حجة على الغير سوى ذلك كيف وإنه إذا ثبت انتفاء الخطأ عن أهل الإجماع فيما ذهبوا إليه فقد أجمعوا على وجوب اتباعهم فيما ذهبوا إليه فكان واجباً نفياً للخطأ عنهم وعن المعارضات النقلية ما سبق في أول المسألة.
وأما المعقول فهو أن الخلق الكثير وهم أهل كل عصر إذا اتفقوا على حكم قضية وجزموا به جزماً قاطعاً فالعادة تحيل على مثلهم الحكم الجزم بذلك والقطع به وليس له مستند قاطع بحيث لا يتنبه واحد منهم إلى الخطأ في القطع بما ليس بقاطع ولهذا وجدنا أهل كل عصر قاطعين بتخطئة مخالف ما تقدم من إجماع من قبلهم ولولا أن يكون ذلك عن دليل قاطع لاستحال في العادة اتفاقهم على القطع بتخطئة المخالف ولا يقف واحد منهم على وجه الحق في ذلك ومن سلك هذه الطريقة المعنوية لم ير انعقاد الإجماع عندما إذا كان عدد المجمعين ينقص عن عدد التواتر ويلزمه أن لا يكون الإجماع المحتج به خصيصاً بإجماع أهل الحل والعقد من المسلمين بل هو عام في إجماع كل من بلغ عددهم عدد التواتر وإن لم يكونوا مسلمين فضلاً عن أهل الحل والعقد وقد احتج الشيعة على صحة الإجماع بأن ما من عصر إلا ولا بد فيه من إمام معصوم على ما قررناه من قاعدتهم في ذلك في أبكار الأفكار فإذا أجمع أهل الحل والعقد من أهل العصر على حكم حادثة فلا بد وأن يكون فيهم الإمام المعصوم لكونه سيد العلماء وإلا لما كان الاتفاق من جميع أهل الحل والعقد وهو خلاف الفرض وإذا كان كذلك فالإمام المعصوم لا يقول إلا حقاً مقطوعاً به وما وافقه من قول باقي الأمة أيضاً يكون مقطوعاً به لكونه موافقاً للمقطوع به ومخالف القاطع مخط لا محالة.(1/85)
ولقائل أن يقول: أما الحجة الأولى فالعادة لا تحيل الخطأ على الخلق الكثير بظنهم ما ليس قاطعاً قاطعاً ولهذا فإن اليهود والنصارى مع كثرتهم كثرة تخرج عن حد التواتر قد أجمعوا على تكذيب محمد عليه السلام وإنكار رسالته وليس ذلك إلا لخطئهم في ظن ما ليس قاطعاً قاطعاً وبالجملة فإما أن يقال باستحالة الخطأ عليهم فيما ذهبوا إليه أو لا يقال باستحالته فإن كان الأول لزم أن لا يكون محمد نبياً حقاً لإجماعهم على تكذيبه وإن كان الثاني فهو المطلوب.
فإن قيل: ما ذكرتموه في إبطال التمسك هاهنا بالعادة لازم عليكم فيما ذكرتموه في الاحتجاج بالسنة على كون الإجماع حجة فإن حاصله آئل إلى الاحتجاج بالعادة وفيه إبطال ما قررتموه.
قلنا: الذي تمسكنا به من العادة إحالة اتفاق الأمة على إسناد المقطوع إلى الأخبار التي مستند العلم بها وبمدلولها السماع المحسوس أو قرائن الأحوال والذي لا نحيله في العادة هاهنا إنما هو الغلط بظن ما ليس مقطوعاً مقطوعاً به فيما هو نظري وطرقه مختلفة وهو غير محسوس ولا مستند العلم به قرائن الأحوال فافترق البابان وأما حجة الشيعة فمبنية على وجود الإمام المعصوم في كل عصر وقد أبطلنا ذلك بالاعتراضات القادحة والإشكالات المشكلة على جهة الوفاء والاستقصاء في موضعه اللائق به من الإمامة في علم الكلام فعليك بمراجعته.
المسألة الرابعة اتفق القائلون بكون الإجماع حجة على أنه لا اعتبار بموافقة من هو خارج عن الملة ولا بمخالفته وأنه لا يشترط فيه اتفاق كل أهل الملة إلى يوم القيامة.
أما الأول فلأن الإجماع إنما عرف كونه حجة بالأدلة السمعية على ما سبق وهي مع اختلاف ألفاظها لا إشعار لها بإدراج من ليس من أهل الملة في الإجماع ولا دلالة لها إلا على عصمة أهل الملة ولأن الكافر غير مقبول القول فلا يكون قوله معتبراً في إثبات حجة شرعية ولا إبطالها وإذا تم الإجماع دونه فلا اعتبار بمخالفته.
وأما الثاني فلأن الإجماع حجة شرعية يستدل به على الأحكام الشرعية فلو اعتبر فيه إجماع كل أهل الملة إلى يوم القيامة لما أمكن الاحتجاج به: أما قبل يوم القيامة فلعدم كمال المجمعين وأما يوم القيامة فلأنه لا تكليف ولا استدلال.
المسألة الخامسة ذهب الأكثرون إلى أنه لا اعتبار بموافقة العامي من أهل الملة في انعقاد الإجماع ولا بمخالفته واعتبره الأقلون وإليه ميل القاضي أبي بكر وهو المختار وذلك لأن قول الأمة إنما كان حجة لعصمتها عن الخطأ بما دلت عليه الدلائل السمعية من قبل ولا يمتنع أن تكون العصمة من صفات الهيئة الاجتماعية من الخاصة والعامة وإذا كان كذلك فلا يلزم أن تكون العصمة الثابتة للكل ثابتة للبعض لأن الحكم الثابت للجملة لا يلزم أن يكون ثابتاً للأفراد.
فإن قيل يجب تخصيص ما ورد من النصوص الدالة على عصمة الأمة بأهل الحل والعقد منهم دون غيرهم لستة أوجه: الأول: إن العامي يلزمه المصير إلى أقوال العلماء بالإجماع فلا تكون مخالفته معتبرة فيما يجب عليه التقليد فيه.
الثاني: أن الأمة إنما كان قولها حجة إذا كان ذلك مستنداً إلى الاستدلال لأن إثبات الأحكام من غير دليل محال والعامي ليس أهلاً للاستدلال والنظر فلا يكون قوله معتبراً كالصبي والمجنون.
الثالث: أن قول العامي في الدين من غير دليل خطأ مقطوع به والمقطوع بخطئه لا تأثير لموافقته ولا لمخالفته.
الرابع: أن أهل العصر الأول من الصحابة علماؤهم وعوامهم أجمعوا على أنه لا عبرة بموافقة العامي ولا بمخالفته.
الخامس: أن الأمة إنما عصمت عن الخطأ في استدلالها لأن إثبات الأحكام الشرعية من غير استدلال ودليل خطأ والعامي ليس هو من أهل الاستدلال فلا يتصور ثبوت عصمة الاستدلال في حقه.
السادس: هو أن العامي لا يتصور منه الإصابة إذا كان قائلاً بالحكم من غير دليل فلا يتصور عصمته لأن العصمة مستلزمة للإصابة.
والجواب عن الوجه الأول: أنه وإن كان يجب على العامي الرجوع إلى أقوال العلماء فليس في ذلك ما يدل على أن أقوال العلماء دونه حجة قاطعة على غيرهم من المجتهدين من بعدهم لجواز أن يكون الاحتجاج بأقوالهم على من بعدهم مشروطاً بموافقة العامة لهم وإن لم يكن ذلك شرطاً في وجوب اتباع العامة فيما لهم يفتون به.(1/86)
وعن الثاني: أنه وإن كان لا بد في الإجماع من الاستدلال لكن من أهل الاستدلال أو مطلقاً: الأول مسلم والثاني ممنوع وعلى هذا فلا يمتنع أن تكون موافقة العامة للعلماء المستدلين شرطاً في جعل الإجماع حجة وإن لم يكن العامي مستدلاً ولا يلزم من عدم اشتراط موافقة الصبيان والمجانين عدم اشتراط موافقة العامة لما بينهما من التفاوت في قرب وإنما المؤثر في حق العامة الموجب للتكليف وبعده في حق الصبيان والمجانين المانع من التكليف.
وعن الثالث: أنه وإن كان قول العامي في الدين من غير دليل خطأ فلا يمنع ذلك من كون موافقته للعلماء في أقوالهم شرطاً في الاحتجاج بها على غيرهم.
وعن الرابع: أنه دعوى لم يقم عليها دليل.
وعن الخامس أن العامي وإن لم يكن من أهل الاجتهاد فلا يمتنع أن تكون موافقته من غير استدلال شرطاً في كون الإجماع حجة.
وعن السادس: أنه وإن كان العامي إذا انفرد بالحكم لا يتصور منه الإصابة فما المانع من تصويبه مع الجماعة بتقدير موافقته لهم في أقوالهم ولا شك أن العامي مصيب في موافقته للعلماء وعلى هذا جاز أن تكون موافقته شرطاً في جعل الإجماع حجة على ما سبق تقريره.
وبالجملة فهذه المسألة اجتهادية غير أن الاحتجاج بالإجماع عند دخول العوام فيه يكون قطعياً وبدونهم يكون ظنياً وعلى هذا فمن قال بإدخال العوام في الإجماع قال بإدخال الفقيه الحافظ لأحكام الفروع فيه وإن لم يكن أصولياً وبإدخال الأصولي الذي ليس بفقيه بطريق الأولى لما بينهما وبين العامة من التفاوت في الأهلية وصحة النظر هذا في الأحكام وهذا في الأصول.
ومن قال بأنه لا مدخل للعوام في الإجماع اختلفوا في الفقيه والأصولي نفياً وإثباتاً: فمن أثبت نظر إلى ما اشتملا عليه من الأهلية التي لا وجود لها في العامي ودخولهما في عموم لفظ الأمة في الأحاديث السابق ذكرها ومن نفى نظر إلى عدم الأهلية المعتبرة في أئمة أهل الحل والعقد من المجتهدين كالشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم ومنهم من فصل بين الفقيه والأصولي وهؤلاء اختلفوا: فمنهم من اعتبر قول الفقيه الذي ليس بأصولي وألغى قول الأصولي الذي ليس بفقيه ومنهم من عكس الحال واعتبر قول الأصولي دون الفقيه لكونه أقرب إلى مقصود الاجتهاد لعمله بمدارك الأحكام على اختلاف أقسامها وكيفية دلالاتها وكيفية تلقي الأحكام من منطوقها ومفهومها ومعقولها بخلاف الفقيه ومن اعتبر قول الأصولي والفقيه اعتبر قول من بلغ رتبة الاجتهاد وإن لم يكن مشتهراً بالفتوى بطريق الأولى وذلك كواصل بن عطاء ونحوه وفيه خلاف والمتبع في ذلك كله ما غلب على ظن المجتهد.
المسألة السادسة المجتهد المطلق إذا كان مبتدعاً لا يخلو إما أن لا يكفر ببدعته أو يكفر فإن كان الأول فقد اختلفوا في انعقاد الإجماع مع مخالفته نفياً وإثباتاً ومنهم من قال: الإجماع لا ينعقد عليه بل على غيره فيجوز له مخالفة إجماع من عداه ولا يجوز ذلك لغيره والمختار أنه لا ينعقد الإجماع دونه لكونه من أهل الحل والعقد وداخلاً في مفهوم لفظ الأمة المشهود لهم بالعصمة وغايته أن يكون فاسقاً وفسقه غير مخل بأهلية الاجتهاد والظاهر من حاله فيما يخبر به عن اجتهاده الصدق كإخبار غيره من المجتهدين كيف وإنه قد يعلم صدق الفاسق بقرائن أحواله في مباحثاته وفلتات لسانه وإذا علم صدقه وهو مجتهد كان كغيره من المجتهدين.
فإن قيل: إذا كان فاسقاً فالفاسق غير مقبول القول إجماعاً فيما يخبر به فكان كالكافر والصبي ولأنه لا يجوز تقليده فيما يفتي به فلا يعتبر خلافه كالصبي.
قلنا: إنما لا يقبل قوله فيما يخبر به إذا لم يكن متأولاً وكان عالماً بفسقه وأما إذا لم يكن كذلك فلا وعلى هذا فلا نسلم امتناع قبول فتواه بالنسبة إلى من ظهر صدقه عنده وأما الصبي فإنما لم يعتبر قوله لعدم أهليته بخلاف ما نحن فيه.(1/87)
وإن كان الثاني فلا خلاف في أنه غير داخل في الإجماع لعدم دخوله في مسمى الأمة المشهود لهم بالعصمة وإن لم يعلم هو كفر نفسه وعلى هذا فلو خالف في مسألة فرعية وبقي مصراً على المخالفة حتى تاب عن بدعته فلا أثر لمخالفته لانعقاد إجماع جميع الأمة الإسلامية قبل إسلامه كما لو أسلم ثم خالف إلا على رأي من يشترط في الإجماع انقراض عصر المجمعين ولو ترك بعض الفقهاء العمل بالإجماع بخلاف هذا المبتدع المكفر فهو معذور إن لم يعلم ببدعته ولا يؤاخذ بالمخالفة كما إذا عمل الحاكم بشهادة شاهد الزور من غير علم بتزويره وإن علم ببدعته وخالف الإجماع لجهله بأن تلك البدعة مكفرة فهو غير معذور لتقصيره عن البحث والسؤال عن ذلك لعلماء الأصول العارفين بأدلة الإيمان والتكفير حتى يحصل له العلم بذلك بدليله إن كانت له أهلية فهمه وإلا قلدهم فيما يخبرون به من التكفير وأما ماذا يكفر به من البدع فقد استقصينا الكلام فيه في حكايات مذاهب أهل الملل والنحل في أبكار الأفكار فعليك بمراجعته.
المسألة السابعة ذهب الأكثرون من القائلين بالإجماع إلى أن الإجماع المحتج به غير مختص بإجماع الصحابة بل إجماع أهل كل عصر حجة خلافاً لداود وشيعته من أهل الظاهر ولأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه.
والأول هو المختار ويدل عليه أن حجة كون الإجماع حجة غير خارجة كما ذكرناه من الكتاب والسنة والمعقول وكل واحد منها لا يفرق بين أهل عصر وعصر بل هو متناول لأهل كل عصر حسب تناوله لأهل عصر الصحابة فكان إجماع أهل كل عصر حجة.
فإن قيل: حجة كون الإجماع حجة غير خارجة عن الآيات والأخبار السابق ذكرها وقوله تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس " " آل عمران 110 " وقوله: " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً " " البقرة 143 " خطاب مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام فلا يكون متناولاً لغيرهم وقوله تعالى: " ويتبع غير سبيل المؤمنين " " النساء 115 " والأخبار الدالة على عصمة الأمة خاصة بالصحابة الموجودين في زمن النبي عليه السلام إذا هم كل المؤمنين وكل الأمة فإن من لم يوجد بعد لا يكون موصوفاً بالإيمان وبكونه من الأمة وأما التابعون وكذلك من بعدهم إذا أجمعوا على حكم فليس هم كل المؤمنين ولا كل الأمة فلا يكون الخطاب متناولاً لهم وحدهم بل مع من تقدم من المؤمنين قبلهم ضرورة اتصافهم بذلك حالة وجودهم وبموتهم لم يخرجوا عن كونهم من المؤمنين ومن الأمة وكذلك فإنه لو ذهب واحد من الصحابة إلى حكم واتفق التابعون على خلافه لم يكن إجماعهم منعقداً ولو خرج بموته عن الأمة والمؤمنين لما كان كذلك وإذا لم يكن التابعون كل الأمة ولا كل المؤمنين فما اتفقوا عليه لا يكون هو قول كل الأمة ولا كل المؤمنين فلا يكون حجة وسواء وجد لمن تقدم قول أو لم يوجد فمخالفهم لا يكون مخالفاً لكل الأمة ولا لكل المؤمنين فلا يكون بذلك مستحقاً للذم والتوعد سلمنا دلالة الآيات والأخبار على انعقاد إجماع من بعد الصحابة حجة لكنه معارض بما بدل على عدمه وبيانه من ستة أوجه: الأول: أن إجماع التابعين لا بد له من دليل وذلك الدليل إما أن يكون نصاً أو إجماعاً أو قياساً.
فإن كان إجماع من تقدم فالحكم ثابت بإجماع الصحابة لا بإجماع التابعين وإن كان قياساً فيستدعي أن يكون متفقاً عليه بين جميع التابعين ليكون مناط إجماعهم وليس كذلك لوقوع الخلاف فيه فيما بينهم.
وإن كان نصاً فلا بد وأن تكون الصحابة عالمة به ضرورة أنه لا طريق إلى معرفة التابعين به إلا من جهة الصحابة ولو كان ذلك دليلاً يمكن التمسك به في إثبات الحكم لما تصور تواطئ الصحابة على تركه وإهماله.
الثاني: هو أن الأصل أن لا يرجع إلى قول أحد سوى الصادق المؤيد بالمعجزة لتطرق الخطأ والكذب إلى من عداه غير أنه لما ورد الثناء من النبي عليه السلام على الصحابة بقوله: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وقوله: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " والذم لأهل الأعصار المتأخرة بقوله عليه السلام: " ثم يفشو الكذب وأن الرجل يصبح مؤمناً ويمسي كافراً " وأن الواحد منهم يحلف على ما لا يعلم ويشهد قبل أن يستشهد وأن الناس يكونون كالذئاب إلى غير ذلك من أنواع الذم التي سبق ذكرها أوجب قصر الاحتجاج على إجماع الصحابة دون غيرهم.(1/88)
الثالث: أن الاحتجاج بالإجماع إنما يمكن بعد الاطلاع على قول كل واحد من أهل الحل والعقد ومعرفته في نفسه وذلك إنما يتصور في حق الصحابة لأن أهل الحل والعقد منهم كانوا معروفين مشهورين محصورين لقلتهم وانحصارهم في قطر واحد بخلاف التابعين ومن بعدهم لكثرتهم وتشتتهم في البلاد المتباعدة.
الرابع: أن الإجماع من الصحابة واقع على أن كل مسألة لا تكون مجمعاً عليها ولا فيها نص قاطع أنه يجوز الاجتهاد فيها فإذا لم يكن إجماع من الصحابة ولا ثم نص قاطع وإلا لما ساغ من الصحابة تركه وإهماله فتكون المسألة مجمعاً على جواز الاجتهاد فيها منهم فلو أجمع التابعون على حكم تلك المسألة فإن منعنا من اجتهاد غيرهم فيها فقد خرقنا إجماع الصحابة وإن جوزنا فإجماع التابعين لا يكون حجة وهو المطلوب.
الخامس: أنه لو كان في الأمة من هو غائب فإنه وإن لم يكن له في المسألة قول بنفي ولا إثبات لا ينعقد الإجماع دونه في تلك المسألة لكونه لو كان حاضراً لكان له فيها قول فكذلك الميت من الصحابة قبل التابعين.
السادس: أنه لو كان قد خالف واحد من الصحابة فإن إجماع التابعين بعده لا ينعقد وإذا لم ينقل خلاف من تقدم لا ينعقد الإجماع لاحتمال أن أحداً ممن تقدم خالف ولم ينقل خلافه وإذا احتمل واحتمل فالإجماع لا يكون متيقناً.
والجواب عن السؤال الأول: قولهم في الآيات إنها خطاب مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام يلزمهم عليه أن لا ينعقد إجماع الصحابة بعد موت من كان موجوداً عند نزول هذه الآيات لأن إجماعهم ليس إجماع جميع المخاطبين وقت نزولها وأن لا يعتد بخلاف من أسلم بعد نزولها لكونه خارجاً عن المخاطبين وقد أجمعنا على أن إجماع من بقي من الصحابة بعد رسول الله يكون حجة قولهم: التابعون ليس هم كل الأمة ولا كل المؤمنين يلزم عليه أن لا ينعقد إجماع من بقي من الصحابة بعد موت رسول الله لأن من مات من الصحابة أو استشهد في حياة رسول الله داخل في مسمى المؤمنين والأمة وهو خلاف المجمع عليه بين القائلين بالإجماع وليس ذلك إلا لأن الماضي إذا لم يكن له قول غير معتبر كما أن المستقبل غير منتظر وعلى هذا فنقول: إنه إذا ذهب واحد من الصحابة إلى حكم في مسألة ثم مات وأجمع التابعون على خلافه في تلك المسألة فقد قال بعض الأصوليين إنه ينعقد إجماع التابعين ولا اعتبار بقول الماضي وليس بحق لأنه يلزم منه أنه إذا أجمعت الصحابة على حكم ثم ماتوا وأجمع التابعون على خلاف إجماع الماضين أنه ينعقد وهو محال مخالف لإجماع القائلين بالإجماع وإنما الحق في ذلك أن يقال: إذا حكم الواحد من الصحابة بحكم ثم حكم التابعون بخلافه فحكم التابعين ليس هو حكم جميع الأمة المعتبرين في تلك المسألة التي وقع الخوض فيها وإن كان حكمهم في مسألة لم يتقدم فيها خلاف بعض الصحابة فهو حكم كل الأمة المعتبرين وهذا كما لو أفتى الصحابي بحكم ثم مات وأجمع باقي الصحابة على خلافه فإنه لا ينعقد إجماعهم وإن انعقد إجماعهم إذا مات من غير مخالفة لأن حكمهم في الأول ليس هو حكم كل الأمة المعتبرين بخلاف حكمهم في الثاني.
والجواب عن المعارضة الأولى أنه وإن كان دليل التابعين معلوماً للصحابة غير أنه لا يمتنع أن تكون واقعة الحكم لم تقع في زمن الصحابة فلم يتعرضوا لحكمها وإنما وقعت في زمن التابعين فتعرضوا لإثبات حكمها بناء على ما وجدوه من الدليل الذي كان معلوماً للصحابة.
وعن الثانية أن الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة لا تفرق بين أهل عصر وعصر وقوله عليه السلام: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " لا يدل على عدم الاهتداء بغيرهم إلا بطريق مفهوم اللقب والمفهوم ليس بحجة فضلاً عن مفهوم اللقب على ما سيأتي في مسائل المفهوم.
وكذلك الكلام في قوله: " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر " كيف وأن ذلك مما يوجب كون إجماع أبي بكر وعمر مع مخالفة باقي الصحابة لهم حجة قاطعة وهو خلاف الإجماع من الصحابة.
قولهم إنه ذم أهل الأعصار المتأخرة قلنا غاية ما في ذلك غلبة ظهور الفساد والكذب وليس فيه ما يدل على خلو كل عصر ممن تقوم الحجة بقوله وأنه إذا اتفق أهل ذلك العصر على حكم لا يكونون معصومين عن الخطأ فيه.
وعن الثالثة ما سبق في مسألة تصور الاطلاع على إجماعهم ومعرفتهم.(1/89)
وعن الرابعة أنه إن أجمع الصحابة على تجوير الخلاف مطلقاً فلا يتصور انعقاد إجماع التابعين على الحكم في تلك المسألة لما فيه من التعارض بين الإجماعين القاطعين وإن أجمعوا على تسويغ الاجتهاد مشروطاً بعدم الإجماع فلا تناقض.
وعن الخامسة أنها منتقضة بالواحد من الصحابة فإنه لو مات انعقد الإجماع من باقي الصحابة دونه ولو كان غائباً لم ينعقد وإنما كان كذلك لأن الغائب في الحال له أهلية القول والحكم والموافقة والمخالفة بخلاف الميت.
وعن السادسة أنها باطلة بالميت الأول من الصحابة فإنه يحتمل أنه خالف ولم ينقل خلافه ومع ذلك فإن إجماع باقي الصحابة بعده يكون منعقداً كيف وأن النظر إلى مثل هذه الاحتمالات البعيدة مما لا التفات إليه وإلا لما انعقد إجماع الصحابة لاحتمال أن يكون واحد منهم قد أظهر الموافقة وأبطن المخالفة لأمر من الأمور كما نقل عن ابن عباس في موافقته لعمر في مسألة العول وإظهار النكير بعده.
المسألة الثامنة اختلفوا في انعقاد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل فذهب الأكثرون إلى أنه لا ينعقد وذهب محمد بن جرير الطبري وأبو بكر الرازي وأبو الحسين الخياط من المعتزلة وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه إلى انعقاده وذهب قوم إلى أن عدد الأقل إن بلغ التواتر لم يعتد بالإجماع دونه وإلا كان معتداً به وقال أبو عبد الله الجرجاني: إن سوغت الجماعة الاجتهاد في مذهب المخالف كان خلافه معتداً به كخلاف ابن عباس في مسألة العول وإن أنكرت الجماعة عليه ذلك كخلاف ابن عباس في المتعة والمنع من تحريم ربا الفضل لم يكن خلافه معتداً به ومنهم من قال أن قول الأكثر يكون حجة وليس بإجماع ومنهم من قال أن اتباع الأكثر أولى وإن جاز خلافه.
والمختار مذهب الأكثرين ويدل عليه أمران: الأول أن التمسك في إثبات الإجماع حجة إنما هو بالأخبار الواردة في السنة الدالة على عصمة الأمة على ما سبق تقريره وعند ذلك فلفظ الأمة في الأخبار يحتمل أنه أراد به كل الموجودين من المسلمين في أي عصر كان ويحتمل أنه أراد به الأكثر كما يقال بنو تميم يحمون الجار ويكرمون الضيف والمراد به الأكثر منهم: غير أن حمله على الجميع مما يوجب العمل بالإجماع قطعاً لدخول العدد الأكثر في الكل ولا كذلك إذا حمل على الأكثر فإنه لا يكون الإجماع مقطوعاً به لاحتمال إرادة الكل والأكثر ليس هو الكل.
الثاني أنه قد جرى مثل ذلك في زمن الصحابة ولم ينكر أحد منهم على خلاف الواحد بل سوغوا له الاجتهاد فيما ذهب إليه مع مخالفة الأكثر ولو كان إجماع الأكثر حجة ملزمة للغير الأخذ به لما كان كذلك فمن ذلك اتفاق أكثر الصحابة على امتناع قتال ما نعي الزكاة مع خلاف أبي بكر لهم وكذلك خلاف أكثر الصحابة لما انفرد به ابن عباس في مسألة العول وتحليل المتعة وأنه لا ربا إلا في النسيئة وكذلك خلافهم لابن مسعود فيما انفرد به في مسائل الفرائض ولزيد بن أرقم في مسألة العينة ولأبي موسى في قوله: النوم لا ينقض الوضوء ولأبي طلحة في قوله بأن أكل البرد لا يفطر إلى غير ذلك.
ولو كان إجماع الأكثر حجة لبادروا بالإنكار والتخطئة وما وجد منهم من الإنكار في هذه الصور لم يكن إنكار تخطئة بل إنكار مناظرة في المأخذ كما جرت عادة المجتهدين بعضهم مع بعض ولذلك بقي الخلاف الذي ذهب إليه الأقلون جائزاً إلى وقتنا هذا وربما كان ما ذهب إليه الأقل هو المعول عليه الآن كقتال مانعي الزكاة ولو كان ذلك مخالفاً للإجماع المقطوع به لما كان ذلك سائغاً وقد تمسك بعضهم هاهنا بطريقة أخرى فقال إنه لو انعقد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل فإما أن ينعقد الإجماع عليه فيلزم منه ترك ما علمه بالدليل والرجوع إلى التقليد وذلك في حق المجتهد ممتنع وإن لم ينعقد الإجماع عليه فلا يكون الإجماع حجة مقطوعاً بها فإنه لو كان مقطوعاً به لما ساغت مخالفته بالاجتهاد.(1/90)
ولقائل أن يقول: إذا فرضنا أن انعقاد الإجماع من الأكثر دون الأقل حجة قاطعة فالقول برجوع المجتهد الواحد إليه وإن كان على خلاف ما أوجبه اجتهاده لا يكون منكراً لما فيه من ترك الاجتهاد بالرجوع إلى الإجماع القاطع ولهذا فإنه لو أجمعت الأمة على حكم ثم جاء من بعدهم مجتهد يرى في اجتهاده ما يخالف إجماع الأمة السابقة لم يجز له الحكم به بل وجب عليه الرجوع إلى الأمة احتج المخالفون بالنصوص والإجماع والمعقول: أما من جهة النصوص فمنها ما ورد من الأخبار الدالة على عصمة الأمة عن الخطأ ولفظ الأمة يصح إطلاقه على أهل العصر وإن شذ منهم الواحد والاثنان كما يقال بنو تميم يحمون الجار ويكرمون الضيف والمراد به الأكثر فكان إجماعهم حجة لدلالة النصوص عليه ومنها قوله عليه السلام: " عليكم بالسواد الأعظم عليكم بالجماعة " " يد الله مع الجماعة " " إياكم والشذوذ " والواحد والاثنان بالنسبة إلى الخلق الكثير شذوذ " الشيطان مع الواحد وهو عن الاثنين أبعد " ونحو ذلك من الأخبار.
وأما الإجماع فهو أن الأمة اعتمدت في خلافة أبي بكر على انعقاد الإجماع عليه لما اتفق عليه الأكثرون وإن خالف في ذلك جماعة كعلي وسعد بن عبادة ولولا أن إجماع الأكثر حجة مع مخالفة الأقل لما كانت إمامة أبي بكر ثابتة بالإجماع.
وأما من جهة المعقول فمن خمسة أوجه: الأول: أن خبر الواحد بأمر لا يفيد العلم وخبر الجماعة إذا بلغ عددهم عدد التواتر يفيد العلم فليكن مثله في باب الاجتهاد والإجماع.
الثاني: أن الكثرة يحصل بها الترجيح في رواية الخبر فليكن مثله في الاجتهاد.
الثالث: أنه لو اعتبرت مخالفة الواحد والاثنين لما انعقد الإجماع أصلاً لأنه ما من إجماع إلا ويمكن مخالفة الواحد والاثنين فيه إما سراً وإما علانية.
الرابع: أن الإجماع حجة في العصر الذي هم فيه وفيما بعد وذلك يقتضي أن يكون فيهم مخالف حتى يكون حجة عليه.
الخامس: أن الصحابة أنكرت على ابن عباس خلافه في ربا الفضل في النقود وتحليل المتعة والعول ولولا أن اتفاق الأكثر حجة لما أنكروا عليه فإنه ليس للمجتهد الإنكار على المجتهد.
والجواب: قولهم: لفظ الأمة يصح إطلاقه على الأكثر.
قلنا بطريق المجاز ولهذا يصح أن يقال: إذا شذ عن الجماعة واحد ليس هم كل الأمة ولا كل المؤمنين بخلاف ما إذا لم يشذ منهم أحد وعلى هذا فيجب حمل لفظ الأمة على الكل لكون الحجة فيه قطعية لما بيناه في حجتنا وعلى هذا فيجب حمل قوله عليه السلام: " عليكم بالسواد الأعظم " على جميع أهل العصر لأنه لا أعظم منه.
فإن قيل: فظاهر هذا الخبر يقتضي أن يكون السواد الأعظم حجة على من ليس من السواد الأعظم وذلك لا يتم إلا بأن يكون في عصرهم مخالف لهم.
قلنا: هو حجة على من يأتي بعدهم أقل عدداً منهم وعلى هذا يكون الجواب عن قوله: " عليكم بالجماعة يد الله على الجماعة " وحيث قال عليه السلام: " الاثنان فما فوقهما جماعة " إنما أراد به انعقاد جماعة الصلاة بهما وقوله: " إياكم والشذوذ " قلنا: الشاذ هو المخالف بعد الموافقة لا من خالف قبل الموافقة وقوله: " الشيطان مع الواحد وهو عن الاثنين أبعد " أراد به الحث على طلب الرفيق في الطريق ولهذا قال: " والثلاثة ركب " .
وما ذكروه في عقد الإمامة لأبي بكر فلا نسلم أن الإجماع معتبر في انعقاد الإمامة بل البيعة بمحضر من عدلين كافية كيف وإنا لا نسلم عدم انعقاد إجماع الكل على بيعة أبي بكر فإن كل من تأخر عن البيعة إنما تأخر لعذر وطرؤ أمر مع ظهور الموافقة منه بعد ذلك وقد استقصينا الكلام في هذا المعنى في الإمامة من علم الكلام.
والجواب: عن الحجة الأولى من المعقول أنه إن كان صدق الأكثر فيما يخبرون به عن أمر محسوس مفيد للعلم فلا يلزم مثله في الإجماع الصادر عن الاجتهاد مع أن الاحتجاج فيه إنما هو بقول الأمة والأكثر ليس هم كل الأمة على ما سبق ثم لو كان كل من أفاد خبره اليقين يكون قوله إجماعاً محتجاً به لوجب أن يكون إجماع كل أهل بلد محتجاً به مع مخالفة أهل البلد الآخر لهم لأن خبر أهل كل بلد يفيد العلم.(1/91)
وعن الثانية أنه لا يلزم من الترجيح بالكثرة في الرواية التي يطلب منها غلبة الظن دون اليقين مثله في الإجماع مع كونه يقينياً كيف وإنه لو اعتبر في الإجماع ما يعتبر في الرواية لكان مصير الواحد إلى الحكم وحده إجماعاً كما أن روايته وحده مقبولة وليس كذلك.
وعن الثالثة أن الاحتجاج بالإجماع إنما يكون حيث علم الاتفاق من الكل إما بصريح المقال أو قرائن الأحوال وذلك ممكن حسب إمكان العلم باتفاق الأكثر وأما حيث لا يعلم فلا وإن قيل إن ذلك غير ممكن فمثله أيضاً جار في الأكثر ويلزم من ذلك أن لا ينعقد الإجماع أصلاً وهو خلاف الأصلين.
وعن الرابعة أنه يكون حجة على من خالف منهم بعد الوفاق في زمنهم وعلى من يوجد بعدهم ثم إن كان الإجماع لا يكون حجة إلا مع الخلاف فليزم منه أنه إذا لم يكن خلاف لا يكون إجماع وهو ظاهر الإحالة.
وعن الخامسة أن إنكار الصحابة على ابن عباس فيما ذهب إليه لم يكن بناء على إجماعهم واجتهادهم بل بناء على مخالفة ما رووه له من الأخبار الدالة على تحريم ربا الفضل ونسخ المتعة على ما جرت به عادة المجتهدين في مناظراتهم والإنكار على مخالفة ما ظهر لهم من الدليل حتى يبين لهم المأخذ من جانب الخصم وذلك كما قال ابن عباس: من شاء باهلني باهلته والذي أحصى رمل عالج عدداً ما جعل الله في الفريضة نصفاً ونصفاً وثلثاً هذان نصفان ذهبا بالمال فأين موضع الثلث وقال آخر: ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا وليس ذلك لأن العود إلى قوله واجب على من خالفه بل بمعنى طلب الكشف عن مأخذ المخالفة وإذا عرف أنه لا يكون اتفاق الأكثر إجماعاً فيمتنع أن يكون حجة لخروجه عن الأدلة المتفق عليها وهي النص من الكتاب والسنة وإجماع الأمة والقياس وعدم دليل يدل على صحة الاحتجاج به ولذلك لا يكون أولى بالاتباع لأن الترجيح بالكثرة وإن كان حقاً في باب رواية الأخبار لما فيه من ظهور أحد الظنين على الآخر فلا يلزم مثله في باب الاجتهاد لما فيه من ترك ما ظهر له من الدليل لما لم يظهر له فيه دليل أو ظهر غير أنه مرجوح في نظره.
المسألة التاسعة اختلفوا في التابعي إذا كان من أهل الاجتهاد في عصر الصحابة هل ينعقد إجماع الصحابة مع مخالفته أم لا فمنهم من قال: لا ينعقد بإجماعهم مع مخالفته ثم اختلف هؤلاء.
فمن لم يشترط انقراض العصر قال إن كان من أهل الاجتهاد قبل انعقاد إجماع الصحابة فلا يعتد بإجماعهم مع مخالفته وإن بلغ رتبة الاجتهاد بعد انعقاد إجماع الصحابة لا يعتد بخلافه وهذا هو مذهب أصحاب الشافعي وأكثر المتكلمين وأصحاب أبي حنيفة ومذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه.
ومن شرط انقراض العصر قال لا ينعقد إجماع الصحابة مع مخالفته سواء كان من أهل الاجتهاد حالة إجماعهم أو صار مجتهداً بعد إجماعهم لكن في عصرهم.
وذهب قوم إلى أنه لا عبرة بمخالفته أصلاً وهو مذهب بعض المتكلمين وأحمد بن حنبل في رواية.
والمختار أنه إن كان من أهل الاجتهاد حالة إجماع الصحابة لا ينعقد إجماعهم دون موافقته وقد استدل كثير من أصحابنا بقولهم إن الصحابة سوغت للتابعين المعاصرين لهم الاجتهاد معهم في الوقائع الحادثة في عصرهم كسعيد بن المسيب وشريح القاضي والحسن البصري ومسروق وأبي وائل والشعبي وسعيد بن جبير وغيرهم حتى إن عمر وعلياً وليا شريحاً القضاء ولم يعترضا عليه فيما خالفهما فيه وحكم على علي في خصومة عرضت له عنده على خلاف رأي علي ولم ينكر عليه.
وروي عن ابن عمر أنه سئل عن فريضة فقال: اسألوا سعيد بن جبير فإنه أعلم بها مني وسئل الحسين بن علي كرم الله وجهه عن مسألة فقال: اسألوا الحسن البصري وسئل ابن عباس عن نذر ذبح الولد فقال: اسألوا مسروقاً فلما أتاه السائل بجوابه اتبعه.
وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: تذاكرت أنا وابن عباس وأبو هريرة في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها فقال ابن عباس: عدتها أبعد الأجلين وقلت أنا: عدتها أن تضع حملها وقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي فسوغ ابن عباس لأبي سلمة أن يخالفه مع أبي هريرة إلى غير ذلك من الوقائع.(1/92)
ولو كان قول التابعي باطلاً لما ساغ للصحابة تجويزه والرجوع إليه وفي هذه الحجة نظر فإن لقائل أن يقول: إنما كان الاجتهاد مسوغاً للتابعي عند اختلاف الصحابة ولا يلزم من الاعتداد بقوله مع الاختلاف الاعتداد بقوله مع الاتفاق وهو محل النزاع ولهذا فإن قول التابعي معتبر بعد انقراض عصر الصحابة إذا لم يكن منهم اتفاق وغير معتبر إذا كان على خلاف اتفاقهم.
والمعتمد في ذلك أن يقال: الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة إنما هي الأخبار الدالة على عصمة الأمة عن الخطأ على ما سبق وهذا الاسم لا يصدق عليهم مع خروج التابعين المجتهدين عنهم فإنه لا يقال إجماع جميع الأمة بل إجماع بعضهم فلا يكون حجة احتج الخصوم بالنص والمعقول والآثار: أما النص فقوله عليه السلام: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " وقوله: " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر " وقوله: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " .
وأما المعقول فهو أن الصحابة لهم مزية الصحبة وشهادة التنزيل وسماع التأويل وأنهم مرضي عنهم على ما قال تعالى: " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " وقد قال النبي في حقهم: " لو أنفق غيرهم ملء الأرض ذهباً لما بلغ مد أحدهم " وذلك يدل على أن الحق معهم لا مع مخالفهم.
وأما الآثار فمنها أن علياً عليه السلام نقض على شريح حكمه في ابني عم أحدهما أخ لأم لما جعل المال كله للأخ ومنها ما روي عن عائشة أنها أنكرت على أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مجاراته للصحابة وكلامه فيما بينهم وزجرته عن ذلك وقالت: فروج يصيح مع الديكة.
والجواب عن النصوص ما سبق في مسألة انعقاد إجماع غير الصحابة.
وعن المعقول: قولهم إن الصحابة لهم مزية الصحبة والفضيلة والدرجة الرفيعة قلنا: لو كان ذلك مما يوجب اختصاص الإجماع بهم لما اعتبر قول الأنصار مع المهاجرين ولا قول المهاجرين مع قول العشرة ولا قول باقي العشرة مع قول الخلفاء الأربعة ولا قول عثمان وعلي مع قول أبي بكر وعمر ولا قول غير الأهل مع الأهل ولا قول غير الزوجات مع الزوجات لوقوع التفاوت والتفاضل ولم يقل به قائل.
وعن الآثار أما نقض علي على شريح حكمه فليس لأن قوله غير معتبر ولهذا فإنه لما حكم عليه في مخاصمته بخلاف رأيه لم ينكر عليه وإنما نقض حكمه بمعنى أنه رد عليه بطريق الاستدلال والاعتراض كما يقال نقض فلان كتاب فلان وكلامه إذا اعترض عليه ويحتمل أنه نقضه بنص اطلع عليه أوجب نقض حكمه.
وأما إنكار عائشة على أبي سلمة فيحتمل أنه كان ذلك بخلافه فيما سبق فيه إجماع الصحابة أو لأنه لم يكن قد بلغ رتبة الاجتهاد أو بطريق التأديب مع الصحابة أو لأنها رأت ذلك مذهباً لها فلا حجة فيه.
المسألة العاشرة اتفق الأكثرون على أن إجماع أهل المدينة وحدهم لا يكون حجة على من خالفهم في حالة انعقاد إجماعهم خلافاً لمالك فإنه قال: يكون حجة ومن أصحابه من قال: إنما أراد بذلك ترجيح روايتهم على رواية غيرهم ومنهم من قال أراد به أن يكون إجماعهم أولى ولا تمتنع مخالفته ومنهم من قال: أراد بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمختار مذهب الأكثرين وذلك أن الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة متناولة لأهل المدينة والخارج عن أهلها وبدونه لا يكونون كل الأمة ولا كل المؤمنين فلا يكون إجماعهم حجة على ما عرف في المسائل المتقدمة احتج من نصر مذهب مالك بالنص والمعقول: أما النص فقوله عليه السلام " إن المدينة طيبة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد " والخطأ من الخبث فكان منفياً عنها وقال عليه السلام: " إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها " وقال عليه السلام: " لا يكايد أحد أهل المدينة إلا انماع كما ينماع الملح في الماء " .
وأما المعقول فمن ثلاثة أوجه: الأول: هو أن المدينة دار هجرة النبي عليه السلام وموضع قبره ومهبط الوحي ومستقر الإسلام ومجمع الصحابة فلا يجوز أن يخرج الحق عن قول أهلها.
الثاني أن أهل المدينة شاهدوا التنزيل وسمعوا التأويل وكانوا أعرف بأحوال الرسول من غيرهم فوجب أن لا يخرج الحق عنهم.
الثالث: أن رواية أهل المدينة مقدمة على رواية غيرهم فكان إجماعهم حجة على غيرهم.(1/93)
والجواب عن النص الأول أنه وإن دل على خلوص المدينة عن الخبث فليس فيه ما يدل على أن من كان خارجاً عنها لا يكون خالصاً عن الخبث ولا على كون إجماع أهل المدينة دونه حجة وتخصيصه للمدينة بالذكر إنما كان إظهاراً لشرفها وإبانة لخطرها وتمييزاً لها عن غيرها لما اشتملت عليه من الصفات المذكورة في الوجه الأول من المعقول وهو الجواب عن باقي النصوص.
وعن الوجه الأول من المعقول أن غايته اشتمال المدينة على صفات موجبة لفضلها وليس في ذلك ما يدل على انتفاء الفضيلة عن غيرها ولا على الاحتجاج بإجماع أهلها ولهذا فإن مكة أيضاً مشتملة على أمور موجبة لفضلها كالبيت المحترم والمقام وزمزم والحجر المستلم والصفا والمروة ومواضع المناسك وهي مولد النبي عليه السلام ومبعثه ومولد إسماعيل ومنزل إبراهيم ولم يدل ذلك على الاحتجاج بإجماع أهلها على مخالفيهم إذ لا قائل به وإنما الاعتبار بعلم العلماء واجتهاد المجتهدين ولا أثر للبقاع في ذلك.
وعن الوجه الثاني أن ذلك لا يدل على انحصار أهل العلم فيها والمعتبرين من أهل الحل والعقد ومن تقوم الحجة بقولهم فإنهم كانوا منتشرين في البلاد متفرقين في الأمصار وكلهم فيما يرجع إلى النظر والاعتبار سواء ولهذا قال عليه السلام: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ولم يخصص ذلك بموضع دون موضع لعدم تأثير المواضع في ذلك.
وعن الوجه الثالث أنه تمثيل من غير دليل موجب للجمع بين الرواية والدراية كيف وإن الفرق حاصل وذلك من جهة الإجمال والتفصيل: أما الإجمال فهو أن الرواية يرجح فيها بكثرة الرواة حتى إنه يجب على كل مجتهد الأخذ بقول الأكثر بعد التساوي في جميع الصفات المعتبرة في قبول الرواية ولا كذلك في الاجتهاد فإنه لا يجب على أحد من المجتهدين الأخذ بقول الأكثر من المجتهدين ولا بقول الواحد أيضاً.
وأما من جهة التفصيل فهو أن الرواية مستندها السماع ووقوع الحوادث المروية في زمن النبي عليه السلام وبحضرته ولما كان أهل المدينة أعرف بذلك وأقرب إلى معرفة المروي كانت روايتهم أرجح.
وأما الاجتهاد فإن طريقه النظر والبحث بالقلب والاستدلال على الحكم وذلك مما لا يختلف بالقرب والبعد ولا يختلف باختلاف الأماكن وعلى ما ذكرناه فلا يكون إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة والمصرين الكوفة والبصرة حجة على مخالفيهم وإن خالف فيه قوم لما ذكرناه من الدليل.
المسألة الحادية عشرة لا يكفي في انعقاد الإجماع اتفاق أهل البيت مع مخالفة غيرهم لهم خلافاً للشيعة للدليل السابق في المسائل المتقدمة احتج المثبتون بالكتاب والسنة والمعقول: أما الكتاب فقوله تعالى: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً " " الأحزاب 33 " أخبر بذهاب الرجس عن أهل البيت بإنما وهي للحصر فيهم وأهل البيت علي وفاطمة والحسن والحسين ويدل على هذا أنه لما نزلت هذه الآية أدار النبي عليه السلام الكساء على هؤلاء وقال: " هؤلاء أهل بيتي " والخطأ والضلال من الرجس فكان منتفياً عنهم.
وأما السنة فقوله عليه السلام: " إني تارك فيكم الثقلين فإن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي " حصر التمسك بهما فلا تقف الحجة على غيرهما.
وأما المعقول فهو أن أهل البيت اختصوا بالشرف والنسب وأنهم أهل بيت الرسالة ومعدن النبوة والوقوف على أسباب التنزيل ومعرفة التأويل وأفعال الرسول وأقواله لكثرة مخالطتهم له عليه السلام وأنهم معصومون عن الخطأ على ما عرف في موضعه من الإمامة والآية المذكورة أولاً فكانت أقوالهم وأفعالهم حجة على غيرهم بل قول الواحد منهم ضرورة عصمته عن الخطأ كما في أقوال النبي عليه السلام وأفعاله.(1/94)
والجواب عن التمسك بالآية أنها إنما نزلت في زوجات النبي عليه السلام لقصد دفع التهمة عنهن وامتداد الأعين بالنظر إليهن ويدل على ذلك أول الآية وآخرها وهو قوله تعالى: " يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً " " الأحزاب 32 " إلى قوله " وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت " " الأحزاب 33 " وقوله عليه السلام: " هؤلاء أهل بيتي " لا ينافي كون الزوجات من أهل البيت ويدل عليه الآية المخاطبة لهم بأهل البيت.
والخبر وهو ما روي عن أم سلمة أنها قالت للنبي عليه السلام: " ألست من أهل البيت " قال: " بلى إن شاء الله " .
فإن قيل: لو كان المراد بقوله: " ليذهب عنكم الرجس أهل البيت " الزوجات لقال عنكن.
قلنا: إنما قال عنكم لأن أول الآية وإن كان خطاباً مع الزوجات غير أنه لما خاطبهن بأهل البيت أدخل معهن غيرهن من الذكور كعلي والحسن والحسين فجاء بخطاب التذكير لأن الجمع إذا اشتمل على مذكر ومؤنث غلب جمع التذكير وصار كما في قوله تعالى في حق زوجه إبراهيم: " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب قالوا: أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت " " هود 71 - 72 " فكان ذلك عائداً إليها وإلى من حواه بيت إبراهيم من ذكر وأنثى.
وعن الخبر أنه من باب الآحاد وعندهم أنه ليس بحجة وإن كان حجة ولكن لا نسلم أن المراد بالثقلين الكتاب والعترة بل الكتاب والسنة على ما روي أنه قال: " كتاب الله وسنتي " وإن كان كما ذكروه غير أنه أمكن حمله على الرواية عنه عليه السلام وروايتهم حجة ويجب الحمل على ذلك جمعاً بين الأدلة وإنما خصهم بذلك لأنهم أخبر بحاله من أقواله وأفعاله.
ثم ما ذكروه معارض بقوله عليه السلام: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " وبقوله: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " وبقوله: " خذوا شطر دينكم عن الحميراء " وليس العمل بما ذكرتموه أولى مما ذكرناه.
وعن المعقول أما اختصاصهم بالشرف والنسب فلا أثر له في الاجتهاد واستنباط الأحكام من مداركها بل المعول في ذلك إنما هو على الأهلية للنظر والاستدلال ومعرفة المدارك الشرعية وكيفية استثمار الأحكام منها وذلك مما لا يؤثر فيه الشرف ولا قرب القرابة.
وأما كثرة المخالطة للنبي عليه السلام فذلك مما يشارك العترة فيه الزوجات ومن كان يصحبه من الصحابة في السفر والحضر من خدمه وغيرهم وأما العصمة فلا يمكن التمسك بها لما بيناه في الكتب الكلامية.
وأما الآية فقد بينا أن المراد بنفي الرجس إنما هو نفي الظنة والتهمة عن زوجات النبي عليه السلام وذلك بمعزل عن الخطأ والضلال في الاجتهاد والنظر في الأحكام الشرعية وعلى هذا فقد بطل أن يكون قول الواحد منهم أيضاً حجة ويؤيد ذلك أن عليا عليه السلام لم ينكر على أحد ممن خالفه فيما ذهب إليه من الأحكام ولم يقل له إن الحجة فيما أقول مع كثرة مخالفيه ولو كان ذلك منكراً فقد كان متمكناً من الإنكار فيما خولف فيه في زمن ولايته وظهور شوكته فتركه لذلك يكون خطأ منه ويخرج بذلك عن العصمة وعن وجوب اتباعه فيما ذهب إليه.
المسألة الثانية عشرة لا ينعقد إجماع الأئمة الأربعة مع وجود المخالف لهم من الصحابة عند الأكثرين خلافاً لأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه وللقاضي أبي حازم من أصحاب أبي حنيفة وكذلك لا ينعقد إجماع الشيخين أبي بكر وعمر مع مخالفة غيرهما لهما خلافاً لبعض الناس ودليل ذلك ما سبق في المسائل المتقدمة.
حجة من قال بانعقاد إجماع الأئمة الأربعة قوله عليه السلام: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " أوجب اتباع سنتهم كما أوجب اتباع سنته والمخالف لسنته لا يعتد بقوله فكذلك المخالف لسنتهم.
وحجة من قال بانعقاد إجماع الشيخين قوله عليه السلام: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " .(1/95)
والجواب عن الخبر الأول أنه عام في كل الخلفاء الراشدين ولا دلالة فيه على الحصر في الأئمة الأربعة وإن دل على الحصر فهو معارض بقوله عليه السلام: " أصابي كالنجوم " الحديث وليس العمل بأحد الخبرين أولى من الآخر وإذا تعارض الخبران سلم لنا ما ذكرناه وبهذا يبطل الاستدلال بالخبر الآخر أيضاً.
المسألة الثالثة عشرة اختلفوا في اشتراط عدد التواتر في الإجماع فمن استدل على كون الإجماع حجة بدلالة العقل وهو أن الجمع الكثير لا يتصور تواطئهم على الخطأ كإمام الحرمين وغيره فلا بد من اشتراط ذلك عنده لتصور الخطأ على من دون عدد التواتر وأما من احتج على ذلك بالأدلة السمعية فقد اختلفوا: فمنهم من شرطه ومنهم من لم يشترطه والحق أنه غير مشترط لما بيناه من أن إثبات الإجماع بطريق العقل غير متصور وأنه لا طريق إليه سوى الأدلة السمعية من الكتاب والسنة وعلى هذا فمهما كان عدد الإجماع أنقص من عدد التواتر صدق عليهم لفظ الأمة والمؤمنين وكانت الأدلة السمعية موجبة لعصمتهم عن الخطأ عليهم ووجب اتباعهم.
فإن قيل: ما ذكرتموه إنما يصح بتقدير عود عدد المسلمين إلى ما دون عدد التواتر وذلك غير متصور مهما دام التكليف من الله تعالى بدين الإسلام وذلك لأن التكليف به إنما يكون مع قيام الحجة على ذلك والحجة على ذلك إنما تكون بالنقل المفيد لوجود محمد وتحديه بالرسالة وما ورد على لسانه من معجز الكتاب والسنة وأدلة الأحكام يقيناً ولا يفيد ذلك غير التواتر من أخبار المسلمين لعدم نقل غيرهم لذلك ومبالغتهم في محو ذلك وإعدامه.
سلمنا إمكان انتفاء التكليف مع عود عدد المجمعين إلى ما دون عدد التواتر ولكن ما دون عدد التواتر مما لا يعلم إسلامهم وإيمانهم بأقوالهم ومن لا يعلم إيمانه لا يعلم صدقه في الخبر عن الدين.
سلمنا إمكان حصول العلم بأقوال من عددهم دون عدد التواتر فلو لم يبق من الأمة سوى واحد هل تقوم الحجة بقوله أم لا؟ والجواب عن الأول أنا إن قلنا إن أهل الإجماع هم أهل الحل والعقد فلا يلزم من نقصان عددهم عن عدد التواتر انقطاع الحجة بالتكليف لإمكان حصول المعرفة بذلك من أخبار المجتهدين والعامة جميعاً فإنه ليس من شرط التواتر أن يكون ناقله مجتهداً وإن قلنا إن العوام داخلة في الإجماع ومع ذلك فعدد الجميع دون عدد التواتر فلا يلزم أيضاً انقطاع ذلك لإمكان إدامة الله ذلك بأخبار المسلمين وأخبار الكفار معهم وإن كانوا لا يعترفون بنبوة محمد عليه السلام وبخبر العدد القليل لاحتفاف القرائن المفيدة للعلم بأخبارهم ويدل على ذلك قوله عليه السلام: " لا تزال طائفة من أمتي تقوم بالحق حتى يأتي أمر الله " وبتقدير عدم ذلك كله فانقطاع التكليف وانتهاء الإسلام غير ممتنع عقلاً ولا شرعاً ولذلك قال عليه السلام: " أول ما يفقد من دينكم الأمانة وآخر ما يفقد الصلاة " وقال عليه السلام: " إن الله لا ينزع العلم من صدور الرجال ولكن ينزع العلم بقبض العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فإذا سئلوا أفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " .
وعن السؤال الثاني أنه لا بعد في حصول العلم بخبرهم بما يحتف به من القرائن بل ولا بعد في ذلك وأن كان المخبر واحداً وأن يخلق الله لنا العلم الضروري بذلك.
وعن السؤال الثالث أن ذلك مما اختلف فيه جواب الأصحاب فمنهم من قال إن قوله يكون حجة متبعة لأنه إذا لم يوجد من الأمة سواه صدق عليه إطلاق لفظ الأمة ودليله قوله تعالى: " إن إبراهيم كان أمة قانتاً " " النحل 120 " أطلق لفظ الأمة عليه وهو واحد والأصل في الإطلاق الحقيقة وإذا كان أمة كانت النصوص السابق ذكرها متناولة له حسب تناولها للجمع الكثير ومنهم من أنكر ذلك مصيراً منه إلى أن لفظ الإجماع مشعر بالاجتماع وأقل ما يكون ذلك من اثنين فصاعداً.
المسألة الرابعة عشرة اختلفوا فيما إذا ذهب واحد من أهل الحل والعقد إلى حكم وعرف به أهل عصره ولم ينكر عليه منكر: هل يكون ذلك إجماعاً؟(1/96)
فذهب أحمد بن حنبل وأكثر أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي والجبائي إلى أنه إجماع وحجة لكن من هؤلاء من شرط في ذلك انقراض العصر كالجبائي وذهب الشافعي إلى نفي الأمرين وهو منقول عن داود وبعض أصحاب أبي حنيفة وذهب أبو هاشم إلى أنه حجة وليس بإجماع وذهب أبو علي بن أبي هريرة من أصحاب الشافعي إلى أنه إن كان ذلك حكماً من حاكم لم يكن إجماعاً وإن كان فتياً كان إجماعاً وقد احتج النافون لكونه إجماعاً بأن سكوت من سكت يحتمل أن يكون لأنه موافق ويحتمل أنه لم يجتهد بعد في حكم الواقعة ويحتمل أنه اجتهد لكن لم يؤده اجتهاده إلى شيء وإن أدى اجتهاده إلى شيء فيحتمل أن يكون ذلك الشيء مخالفاً للقول الذي ظهر لكنه لم يظهره: إما للتروي والتفكر في ارتياد وقت يتمكن من إظهاره وإما لاعتقاده أن القائل بذلك مجتهد ولم ير الإنكار على المجتهد لاعتقاده أن كل مجتهد مصيب أو لأنه سكت خشية ومهابة وخوف ثوران فتنة كما نقل عن ابن عباس أنه وافق عمر في مسألة العول وأظهر النكير بعده وقال هبته وكان رجلاً مهيباً وإما لظنه أن غيره قد كفاه مؤنة الإنكار وهو مخطئ فيه ومع هذه الاحتمالات فلا يكون سكوتهم مع انتشار قول المجتهد فيما بينهم إجماعاً ولا حجة.
وأما حجة ابن أبي هريرة أن العادة جارية بأن الحاضر مجالس الحكام يحضر على بصيرة من خلافهم له فيما ذهب إليه من غير إنكار لما في الإنكار من الافتيات عليهم ولأن حكم الحاكم يقطع الخلاف ويسقط الاعتراض بخلاف قول المفتي فإن فتواه غير لازمة ولا مانعة من الاجتهاد وفي هاتين الحجتين نظر: أما الأولى فما ذكر فيها من الاحتمالات وإن كانت منقدحة عقلاً فهي خلاف الظاهر من أحوال أرباب الدين وأهل الحل والعقد أما احتمال عدم الاجتهاد في الواقعة فبعيد من الخلق الكثير والجم الغفير لما فيه من إهمال حكم الله تعالى فيما حدث مع وجوبه عليهم وإلزامهم به وامتناع تقليدهم لغيرهم مع كونهم من المجتهدين فإنه معصية والظاهر عدم ارتكابها من المتدين المسلم وأما احتمال عدم تأدية الاجتهاد إلى شيء من الأحكام فبعيد أيضاً لأن الظاهر أنه ما من حكم إلا ولله تعالى عليه دلائل وإمارات تدل عليه والظاهر ممن له أهلية الاجتهاد إنما هو الاطلاع عليها والظفر بها.
وأما احتمال تأخير الإنكار للتروي والتفكر وإن كان جائزاً غير أن العادة تحيل ذلك في حق الجميع ولا سيما إذا مضت عليهم أزمنة كثيرة حتى انقرض العمر من غير نكير.
وأما احتمال السكوت عنه لكونه مجتهداً فذلك مما لا يمنع من مباحثته ومناظرته وطلب الكشف عن مأخذه لا بطريق كالعادة الجارية من زمن الصحابة إلى زمننا هذا بمناظرة المجتهدين وأئمة الدين فيما بينهم لتحقيق الحق وإبطال الباطل كمناظرتهم في مسائل الجد والأخوة وقوله: أنت علي حرام والعول ودية الجنين ونحو ذلك من المسائل.
وأما احتمال التقية فبعيد أيضاً وذلك لأن التقية إنما يكون فيما يحتمل المخافة ظاهراً وليس كذلك لوجهين: الأول أن مباحث المجتهدين غير مستلزمة لذلك وذلك لأن الغالب من حال المجتهد وهو من سادات أرباب الدين أن مباحثته فيما ذهب إليه لا توجب خيفة على نفسه ولا حقداً في صدره تخاف عاقبته إذ هو خلاف مقتضى الدين.
الثاني أنه إما أن يكون خاملاً غير مخوف فلا تقية بالنسبة إليه وإن كان ذا شوكة وقوة كالإمام الأعظم فمحاباته في ذلك تكون غشاً في الدين والكلام معه فيه يعد نصحاً والغالب إنما هو سلوك طريق النصح وترك الغش من أرباب الدين كما نقل عن علي في رده على عمر في عزمه على إعادة الجلد على أحد الشهود على المغيرة بقوله: إن جلدته فأرجم صاحبك ورد معاذ عليه في عزمه على جلد الحامل بقوله: إن جعل الله لك على ظهرها سبيلاً فما جعل لك على ما في بطنها سبيلاً حتى قال عمر: لولا معاذ لهلك عمر ومن ذلك رد المرأة على عمر لما نهى عن المغالاة في مهور النساء بقولها أيعطينا الله تعالى بقوله: " وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً " " النساء 20 " ويمنعنا عمر حتى قال عمر: امرأة خاصمت عمر فخصمته ومن ذلك قول عبيدة السلماني لعلي عليه السلام لما ذكر أنه قد تجدد له رأي في بيع أمهات الأولاد: رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك إلى غير ذلك من الوقائع.(1/97)
وأما حجة ابن أبي هريرة فإنما تصح بعد استقرار المذاهب وأما قبل ذلك فلا نسلم أن السكوت لا يكون إلا عن رضى.
وعلى هذا فالإجماع السكوتي ظني والاحتجاج به ظاهر لا قطعي.
المسألة الخامسة عشرة إذا ذهب واحد من أهل الحل والعقد إلى حكم في مسألة ولم ينتشر بين أهل عصره لكنه يعرف له مخالف هل يكون إجماعاً؟ اختلفوا فيه والأكثر على أنه ليس بإجماع وهو المختار وذلك لأنه إنما يتخيل كونه إجماعاً من أهل العصر إذا علموا بقوله وسكتوا عن الإنكار على ما تقدم في المسألة التي قبلها وأما إذا لم يعلموا به فيمتنع رضاهم به أو سخطهم ومع ذلك فيحتمل أن لا يكون لهم في تلك المسألة قول لعدم خطورها ببالهم وإن كان لهم فيها قول احتمل أن يكون موافقاً للمنقول إلينا واحتمل أن يكون مخالفاً له احتمالاً على السواء ومن لا قول له في نفس الأمر في المسألة أو له قول لكنه متردد بين الموافقة والمخالفة فلا تتحقق منه الموافقة والإجماع وإذا لم يكن ذلك إجماعاً فهل يكون ما نقل إلينا من قول الصحابي حجة متبعة أو لا فسيأتي الكلام فيه فيما بعد.
المسألة السادسة عشرة اختلفوا في انقراض العصر: هل هو شرط في انعقاد الإجماع أو لا؟ فذهب أكثر أصحاب الشافعي وأبي حنيفة والأشاعرة والمعتزلة إلى أنه ليس بشرط.
وذهب أحمد بن حنبل والأستاذ أبو بكر بن فورك إلى اعتباره شرطاً ومن الناس من فصل وقال: إن كان قد اتفقوا بأقوالهم أو أفعالهم أو بهما لا يكون انقراض العصر شرطاً وإن كان الإجماع بذهاب واحد من أهل الحل والعقد إلى حكم وسكت الباقون عن الإنكار مع اشتهاره فيما بينهم فهو شرط وهذا هو المختار.
لكن قد احتج القائلون بعدم الاشتراط بمسلكين ضعيفين لا بد من الإشارة إليهما ووجه ضعفهما ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
المسلك الأول: أنهم قالوا: وقع الإجماع على كون الإجماع حجة بعد انقراض العصر إذا لم يوجد لهم مخالف فالحجة إما أن تكون في نفس الاتفاق أو نفس انقراض العصر أو مجموع الأمرين لا جائز أن يقال بالثاني وإلا كان انقراض العصر دون الاتفاق حجة وهو محال ولا جائز أن يقال بالثالث وإلا كان موتهم مؤثراً في جعل أقوالهم حجة وهو محال كما في موت النبي عليه السلام فلم يبق سوى الأول وهو ثابت قبل انقراض العصر وذلك هو المطلوب.
ولقائل أن يقول: ما المانع أن تكون الحجة في اتفاقهم مشروطاً بعدم المخالف لهم في عصرهم ولا يخفى أن دعوى إحالة ذلك غير محل النزاع ولا يلزم من عدم اشتراط عدم مخالفة النبي عليه السلام في صحة الاحتجاج بقوله عدم اشتراط ذلك فيما نحن فيه إذ هو تمثيل من غير جامع صحيح كيف والفرق حاصل من جهة أن قول النبي مستند إلى الوحي على ما قال تعالى: " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " " النجم 3 " وقول غيره ليس عن وحي حتى يقع في مقابلة قوله وأما قول غيره فمستند إلى الاجتهاد وقول المخالف له أيضاً مستند إلى الاجتهاد وليس أحدهما أولى من الآخر فافترقا.
المسك الثاني: هو أن القول باشتراط انقراض العصر يفضي إلى عدم تحقق الإجماع مطلقاً مع كونه حجة متبعة وكل شرط أفضى إلى إبطال المشروط المتفق على تحقيقه كان باطلاً.
وبيان ذلك أن من اشترط انقراض العصر جوز لمن حدث من التابعين لأهل ذلك العصر إذا كان من أهل الاجتهاد مخالفتهم وشرط في صحة إجماعهم موافقته لهم وإذا صار التابعي من أهل الإجماع فقد لا ينقرض عصرهم حتى يحدث تابع التابعي والكلام فيه كالكلام في الأول وهلم جراً إلى يوم القيامة ومع ذلك فلا يكون الإجماع متحققاً في عصر من الأعصار.
ولقائل أن يقول: القائلون باشتراط انقراض العصر اختلفوا في إدخال من أدرك المجمعين من التابعين لهم في إجماعهم: فذهب أحمد بن حنبل إلى أنه لا مدخل للتابعي في إجماع أهل ذلك العصر في إحدى الروايتين عنه مع أنه يشترط انقراض العصر وفائدة اشتراطه لذلك إمكان رجوع المجمعين أو بعضهم عما حكموا به أولاً لا لجواز وجود مجتهد آخر وعلى هذا فالإشكال يكون مندفعاً وبتقدير تسليم دخول التابع لهم في إجماعهم فلا يمتنع أن يكون الشرط هو انقراض عصر المجمعين عند حدوث الحادثة واعتبار موافقة من أدرك ذلك العصر من المجتهدين لا عصر من أدرك عصرهم وعلى هذا فالإشكال لا يكون متجهاً.(1/98)
والمعتمد في ذلك أن يقال: إذا اتفق إجماع أمة عصر من الأعصار على حكم حادثة فهم كل الأمة بالنسبة إلى تلك المسألة وتجب عصمتهم في ذلك عن الخطأ على ما سبق من النصوص في مسألة إثبات كون الإجماع حجة وذلك غير متوقف على انقراض عصرهم هذا فيما إذا اتفقوا على الحكم بأقوالهم أو أفعالهم أو بهما.
وأما إن حكم واحد بحكم وانتشر حكمه فيما بينهم وسكتوا عن الإنكار وإن كان الظاهر الموافقة على ما سبق تقريره فذلك مما لا يمنع من إظهار بعضهم المخالفة في وقت آخر لاحتمال أن يكون في مهلة النظر وقد ظهر له الدليل عند ذلك ويدل على ظهور هذا الاحتمال إظهاره للمخالفة فإنه لو كان سكوته عن موافقة ودليل لكان الظاهر عدم مخالفته لذلك الدليل وأما إن حدث تابعي مخالف مع إصرار الباقين على السكوت فالظاهر أنه لا يعتد بمخالفته في مقابلة الإجماع الظاهر.
احتج المخالفون بالنص والآثار والمعقول: أما النص فقوله تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس " " البقرة 143 " ووجه الدلالة أنه جعلهم حجة على الناس ومن جعل إجماعهم مانعاً لهم من الرجوع فقد جعلهم حجة على أنفسهم.
وأما الآثار فمنها ما روي عن علي عليه السلام أنه قال اتفق رأيي ورأي عمر على أن لا تباع أمهات الأولاد والآن فقد رأيت بيعهن أظهر الخلاف بعد الوفاق ودليله قول عبيدة السلماني: رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك وقول عبيدة دليل سبق الإجماع ومنها أن عمر خالف ما كان عليه أبو بكر والصحابة في زمانه من التسوية في القسم وأقره الصحابة أيضاً على ذلك ومنها أن عمر حد الشارب ثمانين وخالف ما كان أبو بكر والصحابة عليه من الحد أربعين.
وأما المعقول فمن أربعة أوجه: الأول أن إجماعهم ربما كان عن اجتهاد وظن ولا حجر على المجتهد إذا تغير اجتهاده وإلا كان الاجتهاد مانعاً من الاجتهاد وهو ممتنع وذلك لأن العادة جارية بأن الرأي والنظر عند المراجعة وتكرر النظر يكون أوضح وأصح ويدل عليه قوله تعالى: " وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي " " هود 27 " جعلوا بادي الرأي ذماً وطعناً فلا يجوز أن يكون محكماً على الرأي الثاني.
الوجه الثاني أنه لو لم تعتبر المخالفة في عصرهم لبطل مذهب المخالف لهم في عصرهم بموته لأن من بقي بعده كل الأمة وذلك خلاف الإجماع.
الوجه الثالث أن قول الجماعة لا يزيد على قول النبي عليه السلام ووفاة النبي شرط في استقرار الحجة فيما يقوله فاشتراط ذاك في استقرار قول الجماعة أولى.
الوجه الرابع أنه لو لم يشترط انقراض العصر وإلا فبتقدير أن يتذكر واحد منهم أو جماعة منهم أو جملتهم حديثاً عن رسول الله على خلاف إجماعهم فإن جاز رجوعهم إليه كان الإجماع الأول خطأ وإن لم يجز الرجوع كان استمرارهم على الحكم مع ظهور دليل يناقضه وهو أيضاً خطأ ولا مخلص منه إلا باشتراط انقراض العصر والجواب عن الآية من وجهين: الأول أنه لا يلزم من وصفهم بأنهم شهداء على الناس وحجة على غيرهم امتناع كون أقوالهم حجة على أنفسهم إلا بطريق المفهوم ولا حجة فيه على ما يأتي بل ربما كان قبول قولهم على أنفسهم أولى من قبوله على غيرهم لعدم التهمة وتكون فائدة التخصيص التنبيه بالأدنى على الأعلى ولهذا فإنه قد يقبل إقرار المرء على نفسه وإن كان لا تقبل شهادته على غيره.
الثاني أن المراد بجعلهم شهداء على الناس في يوم القيامة بإبلاغ الأنبياء إليهم فلا يكون ذلك حجة فيما نحن فيه.
وعن الآثار: أما قول علي فليس فيه ما يدل على اتفاق الأمة وإلا قال: رأيي ورأي الأمة والذي يدل على ذلك أنه قد نقل أن جابر بن عبد الله كان يرى جواز بيعهن في زمن عمر ومع مخالفته فلا إجماع وقول السلماني ليس فيه أيضاً ما يدل على اتفاق الجماعة على ذلك لأنه يحتمل أنه أراد به رأيك مع رأي الجماعة ويحتمل أنه أراد به رأيك في زمن الجماعة والألفة والطاعة للإمام أحب إلينا من رأيك في زمن الفتنة وتشتيت الكلمة نفياً للتهمة عن علي في تطرقها إليه في مخالفة الشيخين وبتقدير أن يكون علي قد خالف بعد انعقاد الإجماع فلعله كان ممن يرى اشتراط انقراض العصر ولا حجة في قول المجتهد الواحد في محل النزاع.(1/99)
وأما قضية التسوية فلا نسلم أن عمر خالف فيها بعد الوفاق فإنه روي أنه خالف أبا بكر في ذلك في زمانه وقال له: أتجعل من جاهد في سبيل الله بنفسه وماله كمن دخل في الإسلام كرهاً؟ فقال أبو بكر: إنما عملوا لله وإنما أجرهم على الله وإنما الدنيا بلاغ ولم يرو أن عمر رجع إلى قول أبي بكر وإنما فضل في زمانه وعود الأمر إليه لأنه كان مصراً على المخالفة.
وأما حده للشارب ثمانين فغايته أنه خالف الإجماع السكوتي ونحن نقول بجواز ذلك لكونه كان من جملة الساكتين على ما بيناه في المسألة المتقدمة.
وعن الحجة الأولى من المعقول أنه وإن كان مصير كل واحد من المجتهدين إلى الحكم عن اجتهاد وظن ولكن بعد اتفاقهم على الحكم إنما يجوز الرجوع عنه بالاجتهاد أن لو لم يصر الحكم بإجماعهم قطعياً وأما إذا صار قطعياً فيمتنع العود عنه وتركه بالاجتهاد الظني وهذا بخلاف العود عن الاجتهاد الظني بالاجتهاد الظني.
وعن الثانية أنه قد ذهب بعض من نص هذا المذهب إلى إبطال مذهب المخالف بموته وقال بانعقاد إجماع من بقي ومنهم من قال إنما لم يبطل مذهبه ولا ينعقد الإجماع بعده لأن من بعده ليس هم كل الأمة بالنسبة إلى هذه المسألة التي خالف فيها الميت فإن فتواه لا تبطل بموته وهو الحق.
وعن الثالثة بالفرق بين النبي عليه السلام والأمة أن قوله إنما لم يستقر قبل موته لإمكان نسخه من الله تعالى وهو مرتقب وذلك إنما هو بالوحي القاطع ورفع القاطع بالقاطع على طريق النسخ غير ممتنع بخلاف رفع حكم الإجماع القاطع بطريق الاجتهاد.
وعن الرابعة أن ما فرضوه من تذكر الخبر المخالف لإجماعهم فهو فرض محال بل الله تعالى يعصم الأمة عن الإجماع على خلاف الخبر وذلك يوجب إما عدم الخبر المخالف أو أن يعصم الراوي له عن النسيان إلى تمام انعقاد الإجماع وعلى هذا يكون الحكم فيما يقال من اطلاع التابعين على خبر مخالف للإجماع السابق.
المسألة السابعة عشرة اتفق الكل على أن الأمة لا تجتمع على الحكم إلا عن مأخذ ومستند يوجب اجتماعها خلافاً لطائفة شاذة فإنهم قالوا بجواز انعقاد الإجماع عن توفيق لا توقيف بأن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب من غير مستند وقد احتج النافون لذلك بمسالك: المسلك الأول إنهم قالوا مع فقد الدليل والمستند لا يجب الوصول إلى الحق أي لا يلزم ولقائل أن يقول: متى لا يلزم ذلك إذا لم تجمع الأمة على الحكم أو إذا أجمعت؟ الأول مسلم والثاني دعوى محل النزاع فإنه ما المانع أنهم إذا اتفق إجماعهم أن يوفقهم الله تعالى للصواب ضرورة استحالة إجماعهم على الخطأ لما سبق في المسالك السمعية والكلام إنما هو في جواز ذلك لا في وقوعه.
المسلك الثاني إن الصحابة ليسوا بآكد حالاً من النبي عليه السلام ومعلوم أنه لا يقول ولا يحكم إلا عن وحي على ما نطق به النص فالأمة أولى أن لا تقول إلا عن دليل ولقائل أن يقول: إذا دل الدليل على امتناع الخطأ على الرسول فيما يقول وكذلك الأمة فلو قال الرسول قولاً وحكم بحكم عن غير دليل لما كان إلا حقاً ضرورة استحالة الخطأ عليه غير أنه امتنع منه الحكم والقول من غير دليل لقوله تعالى: " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " " النجم 3 " وأما الأمة فقد دل الدليل على استحالة الخطأ عليهم فيما أجمعوا عليه ولم يدل على أنهم لا يحكمون إلا عن دليل فافترقا.
المسلك الثالث إنه لو جاز أن يحكموا من غير مستند لجاز ذلك لكل واحد منهم فإنهم إنما يجمعون على الحكم بأن يقول كل واحد به ولو جاز ذلك لآحادهم لم يكن للجمع في ذلك مزية على الآحاد.
ولقائل أن يقول: المزية للجمع على الآحاد من وجهين: الأول أن إجماعهم يكون حجة بخلاف قول كل واحد من الآحاد الثاني أن جواز ذلك للآحاد مشروط بضم قول الباقي إليه لا أنه جائز من غير ضم ولا كذلك قول الجميع فإنه جائز على الإطلاق.
المسلك الرابع إن القول في الدين من غير دلالة ولا أمارة خطأ فلو اتفقوا عليه كانوا مجمعين على الخطأ وذلك محال قادح في الإجماع ولقائل أن يقول: متى يكون ذلك خطأ إذا لم تجمع الأمة عليه أو إذا أجمعت؟ الأول مسلم والثاني دعوى محل النزاع.(1/100)
المسلك الخامس إن المقالة إذا لم تستند إلى دليل لا يعلم انتسابها إلى وضع الشارع وما يكون كذلك لا يجوز الأخذ به ولقائل أن يقول: إما أن يراد بأنه لا يعرف انتسابها إلى وضع الشارع أنه لا يعرف ذلك عن دليل شرعي أو أنه لا يعلم كونها مصيبة لحكم الشارع أو معنى آخر: الأول مسلم وهذا هو عين صورة الواقع المختلف فيه والثاني دعوى محل النزاع والثالث فلا بد من تصويره والدلالة عليه.
المسلك السادس أنه لو جاز انعقاد الإجماع من غير دليل لم يكن لاشتراط الاجتهاد في قول المجمعين معنى وهو محال لأن اشتراط الاجتهاد مجمع عليه ولقائل أن يقول: الاجتهاد مشترط لا حالة الإجماع أو حالة الإجماع الأول مسلم والثاني دعوى محل النزاع فإن الخصم إذا قال بجواز الإصابة وامتناع الخطأ على الإجماع من غير دليل كيف يسلم اشتراط الاجتهاد في مثل هذه الصورة فهذه جملة ما ظفرت به من مسالك النافين وليس شيء منها موجباً لاستبعاد مقالة المخالف والحكم ببعده عن الصواب وأما المثبتون فقد احتجوا بمسلكين: الأول أن الإجماع حجة فلو افتقر في جعله حجة إلى دليل لكان ذلك الدليل هو الحجة في إثبات الحكم المجمع عليه ولم يكن في إثبات كون الإجماع حجة فائدة وهو باطل من ثلاثة أوجه.
الأول أنه أمكن أن يقال فائدة كون الإجماع حجة جواز الأخذ به وإسقاط البحث عن ذلك الدليل وحرمة المخالفة الجائزة قبل الاتفاق.
الثاني أن ما ذكروه يوجب عدم انعقاد الإجماع عن الدليل ولم يقولوا به.
الثالث أنه ينتقض بقول الرسول فإنه حجة بالاتفاق مع أنه لا يقول ما يقوله إلا عن دليل وهو ما يوحى به إليه على ما نطق به النص.
المسلك الثاني استدلالهم بالواقع وهو أنهم قالوا: قد انعقد الإجماع من غير دليل كإجماعهم على أجرة الحمام وناصب الحباب على الطريق وأجرة الحلاق وأخذ الخراج ونحوه.
ولقائل أن يقول: لا نسلم وقوع شيء من الإجماعات إلا عن دليل غايته أنه لم ينقل الاكتفاء بالإجماع عنه وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين فالواجب أن يقال: إنهم إن أجمعوا عن غير دليل فلا يكون إجماعهم إلا حقاً ضرورة استحالة الخطأ عليهم وأما أن يقال إنه لا يتصور إجماعهم إلا عن دليل أو يتصور فذلك مما قد ظهر ضعف المأخذ فيه من الجانبين.
المسألة الثامنة عشرة القائلون بأنه لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند اختلفوا في جواز انعقاده عن الاجتهاد والقياس فجوزه الأكثرون لكن اختلفوا في الوقوع نفياً وإثباتاً والقائلون بثبوته اختلفوا فمنهم من قال إن الإجماع مع ذلك يكون حجة تحرم مخالفته وهم الأكثرون ومنهم من قال لا تحرم مخالفته لأن القول بالاجتهاد في ذلك يفتح باب الاجتهاد ولا يحرمه وذهبت الشيعة وداود الظاهري وابن جرير الطبري إلى المنع من ذلك ومن الناس من قال بجواز ذلك بالقياس الجلي دون الخفي.
والمختار جوازه ووقوعه وأنه حجة تمتنع مخالفته.
أما دليل الجواز العقلي فهو أنا قد وجدنا الخلق الكثير الزائد على عدد التواتر مجمعين على أحكام باطلة لا تستند إلى دليل قطعي ولا دليل ظني كما ذكرناه في مسألة تصور انعقاد الإجماع فجواز انعقاد الإجماع عن الدليل الظني الظاهر أولى كيف وأنا لو قدرنا وقوع ذلك لما لزم عنه لذاته محال عقلاً ولا معنى للجائز سوى هذا.
وأما دليل الوقوع فهو أن الصحابة أجمعت على إمامة أبي بكر من طريق الاجتهاد والرأي حتى قال جماعة منهم رضيه رسول الله لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟ وقال بعضهم إن تولوها أبا بكر تجدوه قوياً في أمر الله ضعيفاً في بدنه وأيضاً فإنهم اتفقوا على قتال مانعي الزكاة بطريق الاجتهاد حتى قال أبو بكر: والله لا فرقت بين ما جمع الله قال الله " أقيموا الصلاة وآتو الزكاة "(1/101)
وأجمعوا على تحريم شحم الخنزير قياساً على تحريم لحمه وأجمعوا على إراقة الشيرج والدبس السيال إذا وقعت فيه فأرة وماتت قياساً على فأرة السمن وعلى تأمير خالد بن الوليد في موضع كانوا فيه باجتهادهم وأجمعوا في زمن عمر على حد شارب الخمر ثمانين بالاجتهاد حتى قال علي عليه السلام إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فأرى أن يقام عليه حد المفترين وقال عبد الرحمن بن عوف: هذا حد وأقل الحدود ثمانون وأجمعوا أيضاً بطريق الاجتهاد على جزاء الصيد ومقدار أرش الجناية ومقدار نفقة القريب وعدالة الأئمة والقضاة ونحو ذلك.
وإذا ثبت الجواز والوقوع وجب أن يكون حجة متبعة لما ثبت في مسألة كون الإجماع حجة.
فإن قيل: ما ذكرتموه من دليل الجواز معارض بما يدل على عدمه وبيانه من خمسة أوجه: الأول أنه ما من عصر إلا وفيه جماعة من نفاة القياس وذلك مما يمنع من انعقاد الإجماع مستنداً إلى القياس.
الثاني أن القياس أمر ظني وقوى الناس وأفهامهم مختلفة في إدراك الوقوف عليه وذلك مما يحيل اتفاقهم على إثبات الحكم به عادة كما يستحيل اتفاقهم على أكل طعام واحد في وقت واحد لاختلاف أمزجتهم.
الثالث أن الإجماع دليل مقطوع به حتى إن مخالفه يبدع ويفسق والدليل المظنون الثابت بالاجتهاد على ضده وذلك مما يمنع إسناد الإجماع إليه.
الرابع أن الإجماع أصل من أصول الأدلة وهو معصوم عن الخطأ والقياس فرع وعرضة للخطأ واستناد الأصل وما هو معصوم عن الخطأ إلى الفرع وما هو عرضة للخطأ ممتنع.
الخامس أن الإجماع منعقد على جواز مخالفة المجتهد فلو انعقد الإجماع عن اجتهاد أو قياس لحرمت المخالفة الجائزة بالإجماع وذلك تناقض.
وأما ما ذكرتموه من دليل الوقوع فلا نسلم أن إجماعهم في جميع صور الإجماع كان عن القياس والاجتهاد بل إنما كان ذلك عن نصوص ظهرت للمجمعين منها ما ظهر لنا وذلك كتمسك أبي بكر في قتال مانعي الزكاة بقوله تعالى: " أقيموا الصلاة " " البقرة 43 " " وآتوا الزكاة " " آل عمران 5 " وباستثناء النبي عليه السلام وهو قوله إلا بحقها من قوله: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " وكاستدلال الصحابة على تقديم أبي بكر بفعل النبي عليه السلام حيث قالوا: أيكم يطيب نفساً أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله ومنها ما لم يظهر لنا للاكتفاء بالإجماع عن نقله.
والجواب: عن الوجه الأول أنا لا نسلم وقوع الخلاف في القياس في العصر الأول ليصح ما ذكروه ووجدوه الخلاف بعده في القياس غايته المنع من وقوع انعقاد الإجماع على القياس بعد ظهور الخلاف فيه ولا يمنع من ذلك مطلقاً كيف وهو منقوض بخبر الواحد فإنه مختلف فيه وفي أسباب تزكيته ومع ذلك فقد وافقوا على انعقاد الإجماع بناء عليه.
وعن الثاني أن القياس إذا ظهر وعدم الميل والهوى فلا يبعد اتفاق العقلاء عليه ويكون داعياً إلى الحكم به وإن تعذر ذلك في وقت معين لتفاوت أفهامهم وجدهم في النظر والاجتهاد فلا يتعذر ذلك في أزمنة متطاولة كما لا يتعذر اتفاقهم على العمل بخبر الواحد مع أن عدالته مظنونة بما يظهر من الإمارات الدالة عليها والأسباب الموجبة لتزكيته وهذا بخلاف اتفاق الكافة على أكل طعام واحد فإن اختلاف أمزجتهم موجب لاختلاف أغراضهم وشهواتهم ولا داعي لهم إلى الاجتماع عليه كما وجد الداعي لهم عند ظهور القياس إلى الحكم بمقتضاه.
وعن الثالث من وجهين: الأول أن الأمة إذا اتفقت على ثبوت حكم القياس فإجماعهم على ذلك يسبقه إجماعهم على صحة ذلك القياس وبذلك يخرج عن كونه ظنياً فإذا استناد الإجماع القطعي إنما هو إلى قطعي لا إلى ظني الثاني أن ما ذكروه ينتقض بما وافقوا عليه من انعقاد الإجماع بناء على خبر الواحد مع كونه ظنياً والإجماع المستند إليه قطعي فما هو الجواب في صورة الإلزام يكون جواباً في محل النزاع.
وعن الرابع أن القياس الذي هو مستند الإجماع ليس هو فرعاً للإجماع بل لغيره من الكتاب والسنة وذلك لا يتحقق معه بناء الإجماع على فرعه قولهم إن القياس عرضة للخطأ بخلاف بالإجماع فجوابه ما سبق في جواب الوجه الذي قبله.
وعن الخامس أن الإجماع إنما انعقد على جواز مخالفة المجتهد المنفرد باجتهاده كالواحد والاثنين دون اجتهاد الأمة.(1/102)
قولهم الأمة في الصورة المذكورة إنما أجمعت على نصوص قلنا وإن أمكن التشبث بما أوردوه من النصوص في بعض الصور فما العذر فيما لا يظهر فيه نص مع تصريحهم بالقياس وإلحاق صورة بصورة فيما ذكرناه ولو كان لهم فيها نص لما عدلوا عنه إلى التصريح بالقياس وإذا ثبت جواز انعقاد الإجماع عن القياس وعن غيره من الأدلة الظنية فلو ظهر دليل من الأدلة الظنية ورأينا الأمة قد حكمت بمقتضاه وإن غلب على الظن كونه هو المستند فلا يجب تعينه لجواز أن المستند غيره لتكثر الأدلة في نفس الأمر خلافاً لأبي عبد الله البصري.
المسألة التاسعة عشرة إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين هل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث؟ اختلفوا فيه: فذهب الجمهور إلى المنع من ذلك خلافاً لبعض الشيعة وبعض الحنفية وبعض أهل الظاهر وذلك كما لو قال بعض أهل العصر إن الجارية الثيب إذا وطئها المشتري ثم وجد بها عيباً يمنع الرد وقال بعضهم بالرد مع العقر فالقول بالرد مجانا قول ثالث وكذلك لو قال بعضهم: الجد يرث جميع المال مع الأخ وقال بعضهم بالمقاسمة فالقول بأنه لا يرث شيئاً قول ثالث وكذلك إذا قال بعضهم: النية معتبرة في جميع الطهارات وقال البعض النية معتبرة في البعض دون البعض فالقول بأنها لا تعتبر في شيء من الطهارات قول ثالث.
وفي معنى هذا ما لو قال بعضهم: بجواز فسخ النكاح بالعيوب الخمسة وقال البعض لا يجوز الفسخ بشيء منها فالقول بالفسخ بالبعض دون البعض قول ثالث وكذلك إذا قال بعضهم في زوج وأبوين أو زوجة وأبوين للأم ثلث الأصل في المسألتين وقال بعضهم لها ثلث ما يبقي بعد نصيب الزوج والزوجة فالقول بأن لها ثلث الأصل في إحدى المسألتين وثلث ما يبقى في المسألة الأخرى قول ثالث.
احتج الغزالي على امتناع القول الثالث بأنه لو جاز القول الثالث فإما أن لا يكون له دليل أو له دليل.
فإن كان الأول فالقول به ممتنع وإن كان الثاني يلزم منه نسبته الخطأ إلى الأمة بنسبتهم إلى تضييعه والغفلة عنه وهو محال وهو ضعيف فإنه إنما يلزم من ذلك نسبة الأمة إلى الخطأ أن لو كان الحق في المسألة معيناً وهو ليس كذلك على ما سيأتي وإذا كان كل مجتهد مصيباً فالتخطئة تكون ممتنعة.
واحتج القاضي عبد الجبار على ذلك بأن الأمة إذا اختلفت على قولين فقد أجمعت من جهة المعنى على المنع من إحداث قول ثالث لأن كل طائفة توجب الأخذ بقولها أو بقول مخالفها ويحرم الأخذ بغير ذلك وهو ضعيف أيضاً وذلك لأن الخصم إنما يسلم إيجاب كل واحدة من الطائفتين الأخذ بقولها أو قول مخالفها بتقدير أن لا يكون اجتهاد الغير قد يفضي إلى القول الثالث.
والمختار في ذلك إنما هو التفصيل وهو أنه إن كان القول الثالث مما يرفع ما اتفق عليه القولان فهو ممتنع لما فيه من مخالفة الإجماع وذلك كما في مسألة الجارية المشتراة فإنه إذا اتفقت الأمة فيها على قولين وهما امتناع الرد والرد مع العقر فالقولان متفقان على امتناع الرد مجاناً فالقول به يكون خرقاً للإجماع السابق وكذلك في مسألة الجد فإنه إذا اتفقت الأمة على قولين وهما استقلاله بالميراث ومقاسمته للأخ فقد اتفق الفريقان على أن للجد قسطاً من المال فالقول الحادث أنه لا يرث شيئاً يكون خرقاً للإجماع وكذلك في مسألة النية في الطهارة إذا اتفقت الأمة فيها على قولين وهما اعتبار النية في جميع الطهارات وعلى اعتبارها في البعض دون البعض فقد اتفق القولان على اعتبارها في البعض فالقول المحدث النافي لاعتبارها مطلقاً يكون خرقاً للإجماع السابق.(1/103)
وأما إن كان القول الثالث لا يرفع ما اتفق عليه القولان بل وافق كل واحد من القولين من وجه وخالفه من وجه فهو جائز إذ ليس فيه خرق الإجماع وذلك كما لو قال بعضهم باعتبار النية في جميع الطهارات وقال البعض بنفي اعتبارها في جميع الطهارات فالقول الثالث وهو اعتبارها في البعض دون البعض لا يكون خرقاً للإجماع لأن خرق الإجماع إنما هو القول بما يخالف ما اتفق عليه أهل الإجماع وهاهنا ليس كذلك فإن القائل بالنفي في البعض والإثبات في البعض قد وافق في كل صورة مذهب ذي مذهب فلم يكن مخالفاً للإجماع لا في صورة اعتبار النية لكونه موافقاً لقول من قال باعتبارها في الكل ولا في صورة النفي لكونه موافقاً لمن قال بنفي الاعتبار في الكل وكذلك لو قال بعضهم بأنه لا يقتل المسلم بالذمي ولا يصح بيع الغائب وقال بعضهم بجواز قتل المسلم بالذمي وبصحة بيع الغائب فمن قال بجواز قتل المسلم بالذمي وبنفي صحة بيع الغائب أو بالعكس لم يكن خارقاً للإجماع من غير خلاف وكان ذلك جائزاً له وعلى هذا يكون الحكم في مسألة فسخ النكاح بالعيوب الخمسة.
فإن قيل: فمن قال بالإثبات مطلقاً لم يقل بالتفصيل وكذلك من قال بالنفي مطلقاً فالقول بالتفصيل قول لم يقل به قائل.
قلنا: وعدم القائل به مما لا يمنع من القول به وإلا لما جاز أن يحكم واقعة متجددة بحكم إذا لم يكن قد سبق فيها لأحد قول وهو خلاف الإجماع.
فإن قيل: فكل من القائلين بالنفي والإثبات مطلقاً قائل بنفي التفصيل فالقول بالتفصيل يكون خرقاً للإجماع.
قلنا: لا نسلم ذلك فإن قول كل واحد منهما بنفي التفصيل إما أن يعرف من صريح مقاله أو من قوله بالنفي أو الإثبات مطلقاً: الأول ممنوع حتى أن كل واحد من الفريقين لو صرح بنفي التفصيل لما ساغ القول بالتفصيل والثاني غير مستلزم للقول بنفي التفصيل وإلا لامتنع القول بالتفصيل فيما ذكرناه من مسألة المسلم بالذمي وبيع الغائب وهو ممتنع.
فإن قيل: القول بالتفصيل فيه تخطئة كل واحد من الفريقين في بعض ما ذهب إليه وتخطئة الفريقين تخطئة للأمة وذلك محال.
قلنا: المحال إنما هو تخطئة الأمة فيما اتفقوا عليه وأما تخطئة كل بعض فيما لم يتفق عليه لا يكون محالاً وعلى هذا يجوز انقسام الأمة إلى قسمين وكل قسم مخطئ في مسألة لما ذكرناه وإن خالف فيه الأكثرون.
شبه المخالفين الأولى أن اختلاف الأمة على قولين دليل تسويغ الاجتهاد والقول الثالث حادث عن الاجتهاد فكان جائزاً.
الثانية أنهم قالوا: أجمعنا على أن الصحابة لو انقرض عصرهم وكانوا قد استدلوا في مسألة من المسائل بدليلين فإنه يجوز للتابعي الاستدلال بدليل ثالث فكذلك القول الثالث.
الثالثة أنهم قالوا: دليل جواز إحداث قول ثالث الوقوع من غير إنكار من الأمة فمن ذلك أن الصحابة اختلفوا في مسألة زوج وأبوين وزوجة وأبوين فقال ابن عباس للأم ثلث الأصل بعد فرض الزوج والزوجة وقال الباقون للأم ثلث الباقي بعد فرض الزوج والزوجة وقد أحدث التابعون قولاً ثالثاً فقال ابن سيرين بقول ابن عباس في زوج وأبوين دون الزوجة والأبوين وقال تابعي آخر بالعكس ومن ذلك أن الصحابة اختلفوا في قوله " أنت علي حرام " على ستة أوجه فأحدث مسروق وهو من التابعين مذهباً سابعاً وهو أنه لا يتعلق بقوله حكم.
والجواب عن الشبهة الأولى أن ذلك يدل على تسويغ الاجتهاد منهم أو من غيرهم؟ الأول مسلم والثاني ممنوع.
وعن الثانية بالفرق وبيانه من وجهين: الأول أن الاستدلال بدليل ثالث يؤكد ما صارت إليه الأمة من الحكم ولا يبطله بخلاف القول الثالث على ما حققناه الثاني أن اتفاقهم على دليل واحد لا يمنع من دليل آخر ومع ذلك فإن اتفاقهم على حكم واحد مانع من إبداع حكم آخر مخالف له فافترقا.(1/104)
وعن الثالثة: أما مسألة الزوج والزوجة مع الأبوين فهي من قبيل ما لا يرفع ما اتفق عليه الفريقان بل قول ابن سيرين وغيره من التابعين فيما ذهبا إليه غير مخالف للإجماع بل هو قائل في كل صورة بمذهب ذي مذهب كما قررناه وبتقدير أن يكون رافعاً لما اتفق عليه الفريقان فلا يخلو إما أن يكون لم يستقر قول جميع الصحابة على القولين بل قول البعض أو قد استقر عليهما قول جميع الصحابة فإن كان الأول فليس فيه مخالفة الإجماع بل مخالفة البعض وإن كان الثاني فإما أن يكون قد خالفهم في وقت اتفاقهم على القولين أو بعد ذلك فإن كان الأول فهو من أهل الإجماع وقد خالفهم حالة اتفاقهم على القولين فلا يكون بذلك خارقاً للإجماع وإن قدر إحداث قوله بعد ذلك فهو مردود غير مقبول وعدم نقل الإنكار لا يدل على عدمه في نفسه وعلى هذا يكون الجواب في مسألة " أنت علي حرام " .
المسألة العشرون إذا استدل أهل العصر في مسألة بدليل أو تأولوا تأويلاً فهل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل أو تأويل آخر؟ لا يخلو إما أن يكون أهل ذلك العصر قد نصوا على إبطال ذلك الدليل وذلك التأويل أو على صحته أو سكتوا عن الأمرين.
فإن كان الأول لم يجز إحداثه لما فيه من تخطئة الأمة فيما أجمعوا عليه وإن كان الثاني جاز إحداثه إذ لا تخطئة فيه وإن كان الثالث فقد ذهب الجمهور إلى جوازه ومنع منه الأقلون.
والمختار جوازه إلا إذا لزم من ذلك القدح فيما أجمع عليه أهل العصر ودليل ذلك أنه إذا لم يلزم منه القدح فيما أجمعوا عليه كان ذلك جائزاً كما لو لم يسبقه تأويل أو دليل آخر ولهذا فإن الناس في كل عصر لم يزالوا يستخرجون الأدلة والتأويلات المغايرة لأدلة من تقدم وتأويلاته ولم ينكر عليهم أحد فكان ذلك إجماعاً.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بالكتاب والسنة والمعقول أما الكتاب فقوله تعالى: " ويتبع غير سبيل المؤمنين " " النساء 115 " والدليل والتأويل الثاني ليس هو سبيل المؤمنين وأيضاً قوله تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف " " آل عمران 110 " دل على أنهم يأمرون بكل معروف لأنه ذكر المعروف بالألف واللام المستغرقة للجنس ولو كان الدليل والتأويل الثاني معروفاً لأمروا به وحيث لم يأمروا به لم يكن معروفاً فكان منكراً.
وأما السنة فقوله عليه السلام: " أمتي لا تجتمع على الخطأ " وقد ذهبوا عن الدليل والتأويل الثاني فلا يكون ذهابهم عنه خطأ ولو كان دليلاً صحيحاً أو تأويلاً صحيحاً لكان الذهاب عنه خطأ وهو محال.
وأما المعقول فهو أنه لو جاز أن يذهب على أهل العصر الأول الدليل الثاني لجاز أن يوحي الله تعالى إلى النبي عليه السلام بدليلين على حكم واحد والنبي عليه السلام يشرع الحكم لأحد الدليلين ويذهب عن الآخر وهو ممتنع.
والجواب عن الآية الأولى أن الذم فيها إما أن يكون على ترك العمل بما اتفقوا عليه من إثبات أو نفي وإما بسلوك ما لم يتعرضوا له بنفي ولا إثبات الأول مسلم غير أنه لا تحقق له فيما نحن فيه فإن المحدث للدليل والتأويل الثاني غير تارك لدليل أهل العصر الأول ولا لتأويلهم بل غايته ضم دليل إلى دليل وتأويل إلى تأويل ولا هو تارك لما نهوا عنه من الدليل والتأويل الثاني إذ الكلام فيما إذا لم يكن قد نهوا عنه والثاني مما لا سبيل إلى حمل الآية عليه لما فيه من إلحاق الذم بما لا تعرض فيه لإبطال الإجماع لا بنفي ولا إثبات.
وعن الآية الثانية أنها مشتركة الدلالة وذلك لأن قوله " وتنهون عن المنكر " يقتضي كونهم ناهين عن كل منكر لما ذكروه من لام الاستغراق ولو كان الدليل والتأويل الثاني منكراً لنهوا عنه: ولم ينهوا عنه فلا يكون منكراً.
وعن السنة أن ذهابهم عن الدليل والتأويل الثاني مع صحته إنما يكون خطأ أن لو لم يستغنوا عنه بدليلهم وتأويلهم.
وعن المعقول أنه قياس من غير جامع صحيح فلا يقبل كيف وإنه لا يخلو إما أن يكون مع تعريفه الحكم الواحد بدليلين قد كلف إثبات الحكم بهما أو بأحدهما فإن كان الثاني فلا مانع من إثباته للحكم بأحدهما دون الآخر وإن كان الأول فلا يلزم من امتناع إثباته للحكم بأحد الدليلين مع تكليفه إثبات الحكم بهما امتناع إثبات الأمة للحكم بأحد الدليلين دون الآخر إلا أن يكونوا قد كلفوا بذلك وهو غير مسلم.
المسألة الحادية والعشرون(1/105)
إذا اختلف أهل عصر من الأعصار في مسألة من المسائل على قولين واستقر خلافهم في ذلك ولم يوجد له نكير: فهل يتصور انعقاد إجماع من بعدهم على أحد القولين بحيث يمتنع على المجتهد المصير إلى القول الآخر أم لا؟ ذهب أبو بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو الحسن الأشعري وإمام الحرمين والغزالي وجماعة من الأصوليين إلى امتناعه وذهب المعتزلة وكثير من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة إلى جوازه.
والأول هو المختار وذلك لأن الأمة إذا اختلفت على القولين واستقر خلافهم في ذلك بعد تمام النظر والاجتهاد فقد انعقد إجماعهم على تسويغ الأخذ بكل واحد من القولين باجتهاد أو تقليد وهم معصومون من الخطأ فيما أجمعوا عليه على ما سبق من الأدلة السمعية فلو أجمع من بعدهم على أحد القولين على وجه يمتنع على المجتهد المصير إلى القول الآخر مع أن الأمة في العصر الأول مجمعة على جواز الأخذ به ففيه تخطئة أهل العصر الأول فيما ذهبوا إليه ويستحيل أن يكون الحق في جواز الأخذ بذلك القول والمنع من الأخذ به معاً فلا بد وأن يكون أحد الأمرين خطأ أو يلزمه تخطئة أحد الإجماعين القاطعين وهو محال فثبت أن إجماع التابعين على أحد قولي أهل العصر الأول يفضي إلى أمر ممتنع فكان ممتنعاً لكن ليس هذا الامتناع عقلياً بل سمعياً.
فإن قيل: اتفاق أهل العصر على قولين لا يلزم منه اتفاقهم على تجويز الأخذ بكل واحد منهما لأن أحد القولين لا بد وأن يكون خطأ لقوله عليه السلام: " إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران " وإجماع الأمة على تجويز الأخذ بالخطأ خطأ وإن سلمنا إجماعهم على ذلك ولكن ما المانع أن يقال بأن أهل العصر الأول إنما اتفقوا على تسويغ الاجتهاد والأخذ بكل واحد من القولين بشرط أن لا يظهر إجماع كاتفاقهم على أن فرض العادم للماء هو التيمم مشروطاً بعدم الماء فإذا وجد الماء زال حكم ذلك الإجماع.
سلمنا أن إجماعهم على ذلك غير مشروط ولكن إجماعهم على ذلك يدل على جواز الأخذ بأحد القولين فإذا أجمع أهل العصر الثاني على أحد القولين فإجماعهم عليه موافق لإجماع أهل العصر الأول على جواز الأخذ به إلا أنه مخالف لإجماعهم وما يكون موافقاً للإجماع لا يكون ممتنعاً سمعاً.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على الامتناع لكنه معارض بما يدل على جوازه وبيانه بالوقوع وذلك أن الصحابة اتفقوا على دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة بعد اختلافهم في موضع دفنه واتفقوا على إمامة أبي بكر بعد اختلافهم في من يكون إماماً واتفقوا على قتال مانعي الزكاة بعد اختلافهم في ذلك واتفق التابعون على منع بيع أمهات الأولاد بعد اختلاف الصحابة في ذلك ولو كان الاتفاق بعد الخلاف ممتنعا لما كان ذلك واقعاً.
والجواب عن السؤال الأول: لا نسلم أن أحد القولين لا بد وأن يكون خطأ بل كل مجتهد في مسائل الاجتهاد مصيب على ما يأتي تحقيقه وما ذكروه من الخبر فسيأتي تأويله كيف وإنه يجب اعتقاد الإصابة نظراً إلى إجماع الأمة على جواز الأخذ بكل واحد من أقوال المجتهدين ولو لم يكن صواباً وإلا كان إجماعهم على تجويز الأخذ بالخطأ وهو محال.
وعن السؤال الثاني: أنه لو جوز مثل هذا الاشتراط في إجماعهم على مثل هذا الحكم مع أن الأمة أطلقوا ولم يشترطوا لساغ مثل ذلك في كل إجماع ولساغ أن تتفق الأمة على قول واحد ومن بعدهم على خلافه لجواز أن يكون إجماعهم مشروطاً بأن لا يظهر إجماع مخالف له بل ولجاز للواحد من المجتهدين من بعدهم المخالفة لما قيل من الشرط وهو محال لأن الإجماع منعقد على أن كل من خالف الإجماع المطلق الذي لم يظهر فيه ما ذكروه من الشرط فهو مخطئ آثم وبه إبطال ما صار إليه أبو عبد الله البصري من جواز انعقاد الإجماع على خلاف الإجماع السابق.
وعن السؤال الثالث أن إجماع أهل العصر الثاني لم يكن محالاً لنفس إجماعهم على أحد القولين بل لما يستلزمه من امتناع الأخذ بالقول الآخر.(1/106)
وعن السؤال الرابع أن الاتفاق فيما ذكروه من مسألة الدفن والإمامة وقتال مانعي الزكاة لم يكن بعد استقرار الخلاف فيما بينهم واستمرار كل واحد من المجتهدين على الجزم بما ذهب إليه بل إنما كان ذلك الخلاف على طريق المشورة كما جرت به العادة في حالة البحث عما ينبغي أن يعمل بين العقلاء بخلاف ما وقع النزاع فيه سلمنا أنه كان ذلك الاتفاق بعد استقرار الخلاف غير أنه اتفاق من المختلفين بأعيانهم ومن شرط في الإجماع انقراض عصر المجتهدين لم يمنع من رجوعهم أو رجوع بعضهم عما أجمعوا عليه والخلاف معه إنما يتصور في المجمعين على خلافهم بعد انقراض عصر الأولين غير أن الجواب الأول هو المختار.
وأما مسألة أمهات الأولاد وإن كان خلاف الصحابة قد استقر واستمر إلى انقراض عصرهم فلا نسلم إجماع التابعين قاطبة على امتناع بيعهن فإن مذهب علي في جواز بيعهن لم يزل بل جميع الشيعة وكل من هو من أهل الحل والعقد على مذهبه قائل به وإلى الآن وهو مذهب الشافعي في أحد قوليه.
المسألة الثانية والعشرون إذا اختلف الصحابة أو أهل أي عصر كان في المسألة على قولين فهل يجوز اتفاقهم بعد استقرار خلافهم على أحد القولين والمنع من جواز المصير إلى القول الآخر.
اختلفوا فيه: فمن اعتبر انقراض العصر في الإجماع قطع بجوازه ومن لم يعتبر انقراض العصر اختلفوا: فمنهم من جوزه بشرط أن يكون مستند اتفاقهم على الخلاف القياس والاجتهاد لا دليلاً قاطعاً ومنهم من منع ذلك مطلقاً ولم يجوز انعقاد إجماعهم على أحد أقوالهم وهو المختار وذلك لأنا بينا أن اتفاق الأمة على الحكم ولو في لحظة واحدة كان ذلك مستند إلى دليل ظني أو قطعي أنه يكون حجة قاطعة مانعة من مخالفته وقد بينا في المسألة المتقدمة أن الأمة إذا استقر خلافهم في المسألة على قولين فهو إجماع منهم على تجويز الأخذ بكل واحد من القولين فلو تصور إجماعهم على أحد القولين بعد ذلك لزم منه المحال الذي بيناه في تقرير المسألة التي قبلها.
وكل ما ورد في المسألة المتقدمة من الاعتراض والانفصال فهو بعينه متوجه هاهنا فعليك باعتباره ونقله إلى هاهنا.
غير أن هذه المسألة تختص بسؤال آخر وهو أن يقال إذا اتفق جميع الصحابة أو أهل أي عصر كان على حكم وخالفهم واحد منهم فإنه لا يمتنع أن يظهر لذلك الواحد ما ظهر لباقي الأمة ومع ظهور ذلك له إن منعناه من المصير إلى مقتضاه فقد منعناه من الحكم بالدليل الذي ظهر له ولباقي الأمة معه وأوجبنا عليه الحكم بما يخالف ذلك ويقطع ببطلانه وهو محال وإن لم نمنعه من العمل به فقد حصل الوفاق منهم بعد الخلاف وهو المطلوب.
قلنا: لو ظهر له ما ظهر للأمة فنحن لا نحيل عليه الرجوع إليه ولكنا نقول باستحالة ظهوره عليه لا من جهة العقل بل من جهة السمع وهو ما يفضي إليه من تعارض الإجماعين ولزوم الخطأ في أحدهما كما بيناه في المسألة المتقدمة ولا فارق بينهما إلا من جهة أن أهل الإجماع في هذه المسألة هم الراجعون بأعيانهم عما أجمعوا عليه والمخالفون لأنفسهم بخلاف المسألة الأولى وأن المخالف في المسألة الأولى قد يتوهم أن بعض الأمة الخائضين في تلك المسألة التي اتفقوا عليها وفي هذه المسألة المجمعون هم كل الأمة ولذلك كان الإشكال في هذه المسألة أعظم منه في الأولى.
وعلى هذا نقول إنه إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين ثم مات أحد القسمين وبقي القسم الآخر فإنه لا يكون قولهم إجماعاً مانعاً من الأخذ بالقول الآخر والوجه في تقريره ما سبق وإن خالف فيه قوم.
المسألة الثالثة والعشرون هل يمكن وجود خبر أو دليل ولا معارض له وتشترك الأمة في عدم العلم به؟ اختلفوا فيه: فمنهم من جوزه مصيراً منه إلى أنهم غير مكلفين بالعمل بما لم يظهر لهم ولم يبلغهم فاشتراكهم في عدم العلم به لا يكون خطأ فإن عدم العلم ليس من فعلهم وخطأ المكلف من أوصاف فعله ومنهم من أحاله مصيراً منه إلى أنهم لو اشتركوا في عدم العلم به لكان ذلك سبيلاً لهم ولوجب على غيرهم اتباعه وامتنع تحصيل العلم به لقوله تعالى: " ويتبع غير سبيل المؤمنين " " النساء 115 " الآية.(1/107)
والمختار أنه لا مانع من اشتراكهم في عدم العلم به وإن كان عملهم موافقاً لمقتضاه لعدم تكليفهم بمعرفة ما لم يبلغهم ولم يظهر لهم وأما الآية فلا حجة فيها هاهنا لأن سبيل كل طائفة ما كان من الأفعال المقصودة لهم المتداولة فيما بينهم باتفاق منهم على ما هو المتبادر إلى الفهم من قول القائل سبيل فلان كذا وسبيل فلان كذا وعدم العلم ليس من فعل الأمة فلا يكون سبيلاً لهم كيف وإنا نعلم أن المقصود من الآية إنما هو الحث على متابعة سبيل المؤمنين ولو كان عدم العلم بالدليل سبيلاً لهم لكانت الآية حاثة على متابعته والشارع لا يحث على الجهل بأدلته الشرعية إجماعاً وأما إن كان عملهم على خلافه فهو محال لما فيه من إجماع الأمة على الخطأ المنفي بالأدلة السمعية.
المسألة الرابعة والعشرون اختلفوا في تصور ارتداد أمة محمد عليه السلام في عصر من الأعصار نفياً وإثباتاً ولا شك في تصور ذلك عقلاً وإنما الخلاف في امتناعه سمعاً.
والمختار امتناعه لقوله عليه السلام: " أمتي لا تجتمع على ضلالة أمتي لا تجتمع على الخطأ " إلى غير ذلك من الأحاديث السابقة الدالة على عصمة الأمة عن فعل الخطأ والضلال.
فإن قيل: حال ارتدادهم ليس هم من أمته عليه السلام فلا تكون الأخبار متناولة لهم.
قلنا: الأخبار دالة على أن أمة محمد لا يصدق عليهم الاتفاق على الخطأ وإذا ارتدت الأمة صدق قول القائل إن أمة محمد قد اتفقت على الردة والردة عين الخطأ وذلك ممتنع.
المسألة الخامسة والعشرون اختلف العلماء في دية اليهودي: فمنهم من قال إنها مثل دية المسلم ومنهم من قال إنها على النصف منها ومنهم من قال إنها على الثلث.
فمن حصرها في الثلث كالشافعي رحمة الله عليه اختلفوا فيه فظن بعض الفقهاء أنه متمسك في ذلك بالإجماع وليس كذلك بل الحصر في الثلث مشتمل على وجوب الثلث ونفي الزيادة فوجوب الثلث مجمع عليه ولا خلاف فيه وأما نفي الزيادة فغير مجمع عليه لوقوع الخلاف فيه بل نفيه عند من نفى إنما هو مستند إما إلى ظهور دليل في نظره بنفيه من وجود مانع أو فوات شرط أو عدم المدارك والاعتماد على استصحاب النفي الأصلي وليس ذلك من الإجماع في شيء.
المسألة السادسة والعشرون اختلفوا في ثبوت الإجماع بخبر الواحد فأجازه جماعة من أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله والحنابلة وأنكره جماعة من أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحابنا كالغزالي مع اتفاق الكل على أن ما ثبت بخبر الواحد لا يكون إلا ظنياً في سنده وإن كان قطعياً في متنه وحجة من قال بجوازه النص والقياس: أما النص فقوله عليه السلام: " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " ذكر الظاهر بالألف واللام المستغرقة فدخل فيه الإجماع الثابت بخبر الواحد لكونه ظاهراً ظنياً.
وأما القياس فهو أن خبر الواحد عن الإجماع مفيد للظن فكان حجة كخبره عن نص الرسول.
وحجة المانعين من ذلك أن كون الإجماع المنقول على لسان الآحاد أصل من أصول الفقه كالقياس وخبر الواحد عن الرسول وذلك مما لم يرد من الأمة فيه إجماع قاطع يدل على جواز الاحتجاج به ولا نص قاطع من كتاب أو سنة وما عدا ذلك من الظواهر فغير محتج بها في الأصول وإن احتج بها في الفروع وبالجملة فالمسألة دائرة على اشتراط كون دليل الأصل مقطوعاً به وعلى عدم اشتراطه فمن اشترط القطع منع أن يكون خبر الواحد مفيداً في نقل الإجماع ومن لم يشترط ذلك كان الإجماع المنقول على لسان الآحاد عنده حجة والظهور في هذه المسألة للمعترض من الجانبين دون المستدل فيها.
المسألة السابعة والعشرون اختلفوا في تكفير جاحد الحكم المجمع عليه فأثبته بعض الفقهاء وأنكره الباقون مع اتفاقهم على أن إنكار حكم الإجماع الظني غير موجب للتكفير.
والمختار إنما هو التفصيل وهو أن حكم الإجماع إما أن يكون داخلاً في مفهوم اسم الإسلام كالعبادات الخمس ووجوب اعتقاد التوحيد والرسالة أو لا يكون كذلك كالحكم بحل البيع وصحة الإجازة ونحوه فإن كان الأول فجاحده كافر لمزايلة حقيقة الإسلام له وإن كان الثاني فلا.
خاتمة فيما يكون الإجماع حجة فيه وما لا يكون وأن الإجماع في الأديان السالفة كان حجة أم لا.(1/108)
أما الأول فهو أن المجمع عليه لا يخلو إما أن تكون صحة الإجماع متوقفة عليه أو لا يكون كذلك فإن كان الأول فالاحتجاج بالإجماع على ذلك الشيء يكون ممتنعاً لتوقف صحة كل واحد منهما على الآخر وهو دور وذلك كالاستدلال على وجود الرب تعالى وصحة رسالة النبي عليه السلام من حيث إن صحة الإجماع متوقفة على النصوص الدالة على عصمة الأمة عن الخطأ كما سبق تقريره وصحة النصوص متوقفة على وجود الرب المرسل وكون محمد رسولاً فإذا توقفت معرفة وجود الرب ورسالة رسوله محمد على صحة الإجماع كان دوراً.
وإن كان من القسم الثاني فالمجمع عليه إما أن يكون من أمور الدين أو الدنيا فإن كان من أمور الدين فهو حجة مانعة من المخالفة إن كان قطعياً من غير خلاف عند القائلين بالإجماع وسواء كان ذلك المتفق عليه عقلياً كرؤية الرب لا في جهة ونفي الشريك لله تعالى أو شرعياً كوجوب الصلاة والزكاة ونحوه.
وأما إن كان المجمع عليه من أمور الدنيا كالإجماع على ما يتفق من الآراء في الحروب وترتيب الجيوش وتدبير أمور الرعية فقد اختلف فيه قول القاضي عبد الجبار بالنفي والإثبات: فقال تارة بامتناع مخالفته وتارة بالجواز وتابعه على كل واحد من القولين جماعة.
والمختار إنما هو المنع من المخالفة وإنه حجة لازمة لأن العمومات الدالة على عصمة الأمة عن الخطأ ووجوب اتباعهم فيما أجمعوا عليه عامة في كل ما أجمعوا عليه.
وأما أن الإجماع في الأديان السالفة كان حجة أم لا فقد اختلف فيه الأصوليون والحق في ذلك أن إثبات ذلك أو نفيه مع الاستغناء عنه لم يدل عليه عقل ولا نقل فالحكم بنفيه أو إثباته متعذر وهذا آخر في الكلام الإجماع.
بسم الله الرحمن الرحيم
الأصل الرابع
فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع
وهو نوعان يتعلق أحدهما بالنظر في السند والآخر بالنظر في المتن النوع الأول النظر في السند وهو الإخبار عن المتن ويشتمل على ثلاثة أبواب:
الباب الأول
في حقيقة الخبر وأقسامه
أما حقيقة الخبر فاعلم أولاً أن اسم الخبر قد يطلق على الإشارات الحالية والدلائل المعنوية كما في قولهم عيناك تخبرني بكذا والغراب يخبر بكذا ومنه قول الشاعر:
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبر أن المانوية تكذب
وقد يطلق على قول مخصوص لكنه مجاز في الأول وحقيقة في الثاني بدليل تبادره إلى الفهم من إطلاق لفظ الخبر.
والغالب إنما هو اشتهار استعمال اللفظ في حقيقته دون مجازه ثم القول المخصوص قد يطلق على الصيغة كقول القائل قام زيد وقعد عمرو وقد يطلق على المعنى القائم بالنفس المعبر عنه بالصيغة كما قررناه في الكلاميات.
والأشبه أنه في اللغة حقيقة في الصيغة لتبادرها إلى الفهم من إطلاق لفظ الخبر وإذا عرف مسمى الخبر حقيقة فما حده؟ اختلفوا فيه: فمن أصحابنا من قال: لا سبيل إلى تحديده بل معناه معلوم بضرورة العقل ودل على ذلك بأمرين.
الأول أن كل أحد يعلم بالضرورة أنه موجود وأنه ليس بمعدوم وأن الشيء الواحد لا يكون موجوداً معدوماً ومطلق الخبر جزء من معنى الخبر الخاص والعلم بالكل موقوف على العلم بالجزء فلو كان تصور ماهية مطلق الخبر موقوفاً على الاكتساب لكان تصور الخبر الخاص أولى أن يكون كذلك.
الثاني أن كل أحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر عن الموضع الذي يحسن فيه الأمر ولولا أن هذه الحقائق متصورة لما كان كذلك وهو ضعيف.
أما قوله إنه معلوم بالضرورة فدعوى مجردة وهي مقابلة بنقيضها وما ذكره من الدلالة على ذلك فهو دليل على أن العلم به غير ضروري لأن الضروري هو الذي لا يفتقر في العلم به إلى نظر ودليل يوصل إليه وما يفتقر إلى ذلك فهو نظري لا ضروري.
فإن قيل: ما ذكرناه إنما هو بطريق التنبيه لا بطريق الدلالة لأن من الضروريات ما يفتقر إلى نوع تذكير وتنبيه على ما علم في مواضعه فهو باطل من وجهين: الأول أنه لو قيل ذلك لأمكن دعوى الضرورة في كل علم نظري وأن ما ذكروه من الدليل إنما هو بطريق التنبيه دون الدلالة وهو محال.
الثاني أن ما ذكره في معرض التنبيه غير مفيد أما الوجه الأول فهو باطل من وجهين:(1/109)
الأول أن علم الإنسان بوجود نفسه وإن كان ضرورياً وكذلك العلم باستحالة كون الشيء الواحد موجوداً معدوماً معاً فغايته أنه علم ضروري بنسبة خاصة أو بسلب نسبة خاصة ولا يلزم منه أن يكون ذلك علماً بحقيقة الخبر من حيث هو خبر وهو محل النزاع.
فإن قيل: إذا كانت تلك النسبة الخاصة معلومة بالضرورة فلا معنى لكون ذلك المعلوم خبراً سوى تلك النسبة الخاصة فهو عود إلى التحديد وترك لما قيل.
الثاني إنا وإن سلمنا أن مثل هذه الأخبار الخاصة معلومة بالضرورة فلا يلزم أن يكون الخبر المطلق من حيث هو خبر كذلك قوله لأن الخبر المطلق جزء من الخبر الخاص ليس كذلك لأن الخبر المطلق أعم من الخبر الخاص فلو كان جزءاً من معنى الخبر الخاص لكان الأعم منحصراً في الأخص وهو محال.
فإن قيل: الأعم لا بد وأن يكون مشتركاً فيه بين الأمور الخاصة التي تحته ولا معنى لاشتراكها فيه سوى كونه جزءاً من معناها.
قلنا: أما أولاً فإنه لا معنى لكون الأعم مشتركاً فيه أنه موجود في الأنواع أو الأشخاص التي هي أخص منه بل بمعنى لحد أن حد الطبيعة التي عرض لها إن كانت كلية مطلقة مطابق طبائع الأمور الخاصة تحتها وأما ثانياً فلأنه ليس كل عام يكون جزءاً من معنى الخاص ومقوماً له بجواز أن يكون من الأعراض العامة الخارجة عن مفهوم المعنى الخاص كالأسود والأبيض بالنسبة إلى ما تحتهما من معنى الإنسان والفرس ونحوه.
وأما الوجه الثاني فباطل أيضاً من جهة أن العلم الضروري إنما هو واقع بالتفرقة بين ما يحسن فيه بيان الأمر وبيان ما يحسن فيه الخبر بعد معرفة الأمر والخبر أما قبل ذلك فهو غير مسلم نعم غاية ما في ذلك أنه يعلم التفرقة بين ما يجده في نفسه من طلب الفعل والنسبة بين أمرين على وجه خاص وليس هو العلم بحقيقة الأمر والخبر فإن قيل إنه لا معنى للأمر والخبر سوى ذلك المعلوم الخاص فهو أيضاً عود إلى التحديد كيف وإن ما ذكره يوجب أن يكون الأمر أيضاً مستغنياً عن التحديد كاستغناء الخبر وهذا القائل بعينه قد عرف الأمر بالتحديد حيث قال: الأمر هو طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء وأيضاً فإن الكلام إنما هو واقع في مفهوم الخبر اللفظي وحقائق أنواع الألفاظ وانقسامها إلى أمر ونهى وخبر وغير ذلك مما لا سبيل إلى القول بكونه معلوماً بالضرورة لكونه مبنياً على الوضع والاصطلاح.
ولهذا فإن العرب لو أطلقوا اسم الأمر على المفهوم من الخبر الآن واسم الخبر على مفهوم الأمر لما كان ممتنعاً وما يتبدل ويختلف باختلاف الاصطلاحات فالعلم بمعناه لا يكون ضرورياً وإذا عرف ذلك فقد أجمع الباقون على أن العلم بمفهوم الخبر إنما يعرف بالحد والنظر لكن اختلفوا في حده فقالت المعتزلة كالجبائي وابنه وأبي عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار وغيرهم: إن الخبر هو الكلام الذي يدخله الصدق والكذب وقد أورد عليه إشكالات أربعة: الأول أنه منتقض بقول القائل: محمد ومسيلمة صادقان في دعوى النبوة ولا يدخله الصدق وإلا كان مسيلمة صادقاً ولا الكذب وإلا كان محمد كاذباً وهو خبر وكذلك فإن من كذب في جميع أخباره فقال: جميع أخباري كذب فإن قوله هذا خبر ولا يدخله الصدق وإلا كانت جميع أخباره كذباً وهو من جملة أخباره ولا يدخله الكذب وإلا كانت جميع أخباره مع هذا الخبر كذباً وصدق في قوله جميع أخباري كذب.
الثاني أن تعريف الخبر بما يدخله الصدق والكذب يقضي إلى الدور لأن تعريف الصدق والكذب متوقف على معرفة الخبر من حيث إن الصدق هو الخبر الموافق للمخبر والكذب بضده وهو ممتنع.
الثالث إن الصدق والكذب متقابلان ولا يتصور اجتماعهما في خبر واحد ويلزم من ذلك إما امتناع وجود الخبر مطلقاً وهو محال وإما وجود الخبر مع امتناع اجتماع دخول الصدق والكذب فيه فيكون المحدود متحققاً دون ما قيل بكونه حداً له وهو أيضاً محال.
الرابع أن الباري تعالى له خبر ولا يتصور دخول الكذب فيه.(1/110)
وقد أجاب الجبائي عن قول القائل محمد ومسيلمة صادقان بأن هذا الكلام يفيد صدق أحدهما في حال صدق الآخر فكأنه قال أحدهما صادق حال صدق الآخر ولو قال ذلك كان قوله كاذباً فكذلك إذا قال هما صادقان وهو إنما يصح أن لو كان معنى هذا الكلام ما قيل وليس كذلك بل قوله هما صادقان أعم من كون أحدهما صادقاً حال صدق الآخر وقبله وبعده والأعم غير مشعر بالأخص ولا يلزم من كذب الأخص كذب الأعم.
وأجاب أبو هاشم بأن هذا الخبر جار مجرى خبرين: أحدهما خبر بصدق الرسول والآخر خبر بصدق مسيلمة والخبران لا يوصفان بالصدق ولا بالكذب فكذلك هاهنا وإنما الذي يوصف بالصدق والكذب الخبر الواحد من حيث هو خبر وليس بحق أيضاً فإنه إنما ينزل منزلة الخبر من حيث إنه أفاد حكما واحداً لشخصين وهو غير مانع من وصفه بالصدق والكذب بدليل الكذب في قول القائل: كل موجود حادث وإن كان يفيد حكماً واحداً لأشخاص متعددة.
وأجاب عنه القاضي عبد الجبار بأن قال: المراد من قولنا: ما دخله الصدق والكذب أن اللغة لا تحرم أن يقال للمتكلم به: صدقت أو كذبت وهو أيضاً غير صحيح فإن حاصله يرجع إلى التصديق والتكذيب وهو غير الصدق والكذب في نفس الخبر.
وأجاب عنه أبو عبد الله البصري بأنه كذب لأنه يفيد إضافة الصدق إليهما معاً وهو الحق وإن كان كما ذكر غير أنه إذا كان كاذباً فلا يدخله الصدق وقد قيل الخبر ما يدخله الصدق والكذب والحق في الجواب أن يقال حاصل هذا وإن كانت صورته صورة خبر واحد يرجع إلى خبرين أحدهما صادق وهو إضافة الصدق إلى محمد والثاني كاذب وهو إضافته إلى مسيلمة.
وأما الإلزام الثاني فلا يخلو الخبر فيه إما أن يكون مطابقاً للمخبر عنه أو غير مطابق فإن كان الأول فهو صدق وإن كان الثاني فهو كذب لاستحالة الجمع بين المتناقضين في السلب أو الإيجاب.
وأما الإشكال الثاني فقد أجاب عنه القاضي عبد الجبار بأن الخبر معلوم لنا وما ذكرناه لم نقصد به تعريف الخبر بل فصله وتمييزه عن غيره فإذا عرفنا الصدق والكذب بالخبر فلا يكون دوراً وهو غير صحيح لأنه إذا كان تمييز الخبر عن غيره إنما يكون بالنظر إلى الصدق والكذب فتمييز الصدق والكذب بالخبر يوجب توقف كل واحد من الأمرين في تمييزه عن غيره على الآخر وهو عين الدور بل لو قيل إن الصدق والكذب وإن كان داخلاً في حد الخبر ومميزاً له فلا نسلم أن الصدق والكذب مفتقر في معرفته إلى الخبر بل الصدق والكذب معلوم لنا بالضرورة لكان أولى.
وأما الإشكال الثالث فقد قيل في جوابه إن المحدود إنما هو جنس الخبر وهو قابل لدخول الصدق والكذب فيه كاجتماع السواد والبياض في جنس اللون وهو غير صحيح فإن الحد وإن كان لجنس الخبر فلا بد وأن يكون الحد موجوداً في كل واحد من آحاد الأخبار وإلا لزم منه وجود الخبر دون حد الخبر وهو ممتنع ولا يخفى أن آحاد الأخبار الشخصية مما لا يجتمع فيه الصدق والكذب والحق في ذلك أن الواو وإن كانت ظاهرة في الجمع المطلق غير أن المراد بها الترديد بين القسمين تجوزاً.
وأما الإشكال الرابع فقد قيل في جوابه مثل جواب الإشكال الذي قبله وقد عرف ما فيه.
ومن الناس من قال: الخبر ما دخله الصدق أو الكذب ويرد عليه الإشكالان الأولان من الإشكالات الواردة على الحد الأول دون الأخيرين وقد عرف ما فيهما ويرد عليه إشكال آخر خاص به وهو أن الحد معروف للمحدود وحرف أو للترديد وهو مناف للتعريف ويمكن أن يقال في جوابه: إن الحكم بقبول الخبر لأحد هذين الأمرين من غير تعيين جازم لا تردد فيه وهو المأخوذ في التحديد وإنما التردد في اتصافه بأحدهما عيناً وهو غير داخل في الحد ومنهم من قال: هو ما يدخله التصديق والتكذيب وقيل ما يدخله التصديق أو التكذيب.
ويرد عليهما تعريف الخبر بالتصديق والتكذيب المتوقف على معرفة الصدق والكذب المتوقف على معرفة الخبر والترديد وقد عرف ما في كل واحد منهما.
وقال أبو الحسين البصري: الخبر كلام يفيد بنفسه إضافة أمر إلى أمر نفياً أو إثباتاً واحترز بقوله بنفسه عن الأمر فإنه يستدعي كون الفعل المأمور به واجباً لكن لا بنفسه بل بواسطة ما استدعاه الأمر بنفسه من طلب الفعل الصادر من الحكم وهو منتقض بالنسب التقييدية كقول القائل: حيوان ناطق فإنه أفاد بنفسه إثبات النطق للحيوان وليس بخبر.(1/111)
فإن قال: إن ذلك ليس بكلام ونحن فقد قيدنا الحد بالكلام قلنا: هذا منه لا يصح فإن حد الكلام بما انتظم من الحروف المسموعة المميزة من غير اعتبار قيد آخر وحد الكلام بهذا الاعتبار متحقق فيما نحن فيه فكان على أصله كلاماً.
والمختار فيه أن يقال: الخبر عبارة عن اللفظ الدال بالوضع على نسبة معلوم إلى معلوم أو سلبها على وجه يحسن السكوت عليه من غير حاجة إلى تمام مع قصد المتكلم به الدلالة على النسبة أو سلبها.
أما قولنا اللفظ فهو كالجنس للخبر وغيره من أقسام الكلام ويمكن أن يحترز به عن الخبر المجازي مما ذكرناه أولاً وقولنا الدال احتراز عن اللفظ المهمل وقولنا بالوضع احتراز عن اللفظ الدال بجهة الملازمة وقولنا على نسبة احتراز عن أسماء الأعلام وعن كل ما ليس له دلالة على نسبة وقولنا معلوم إلى معلوم حتى يدخل فيه الموجود والمعدوم وقولنا سلباً أو إيجاباً حتى يعم ما مثل قولنا: زيد في الدار ليس في الدار وقولنا يحسن السكوت عليه من غير حاجة إلى تمام احتراز عن اللفظ الدال على النسب التقييدية وقولنا مع قصد المتكلم به الدلالة على النسبة أو سلبها احتراز عن صيغة الخبر إذا وردت ولا تكون خبراً كالواردة على لسان النائم والساهي والحاكي لها أو لقصد الأمر مجازاً كقوله تعالى: " والجروح قصاص " " المائدة 45 " وقوله " والوالدات يرضعن أولادهن " " البقرة 233 " " والمطلقات يتربصن " " البقرة 228 " " ومن دخله كان آمناً " " آل عمران 97 " ونحوه حيث إنه لم يقصد بها الدلالة على النسبة ولا سلبها وإذا عرف معنى الخبر فهو ينقسم ثلاث قسم.
القسمة الأولى: إن الخبر ينقسم إلى صادق وكاذب لأنه لا يخلو إما أن يكون مطابقاً للمخبر به أو غير مطابق فإن كان الأول فهو الصادق وإن كان الثاني فهو الكاذب.
وقال الجاحظ الخبر ينقسم ثلاثة أقسام: صادق وكاذب وما ليس بصادق ولا كاذب وقد احتج على ذلك بالنص والمعقول.
أما النص فحكاية القرآن عن الكفار قولهم عن النبي عليه السلام " افترى على الله كذباً أم به جنة " " سبأ 8 " حصروا دعواه النبوة في الكذب والجنة وليس إخباره بالنبوة حالة جنونه كذباً لأنهم جعلوها في مقابلة الكذب ولا صدقاً لأنهم لم يعتقدوا صدقه على كل تقدير فإخباره حالة جنة ليس بصدق ولا كذب وأما المعقول فمن وجهين.
الأول أنه ليس الصادق هو الخبر المطابق للمخبر فإن من أخبر بأن زيداً في الدار على اعتقاد أنه ليس فيها وكان فيها فإنه لا يوصف بكونه صادقاً ولا يستحق المدح على ذلك وإن كان خبره مطابقاً للمخبر ولا يوصف بكونه كاذباً لمطابقة خبره للمخبر وكذلك ليس الكذب هو عدم مطابقة الخبر للمخبر لوجهين: الأول أنه كان يلزم منه الكذب في كلام الله تعالى بتخصيص عموم خبره وتقييد مطلقه لعدم المطابقة وهو محال الثاني أنه لو أخبر مخبر أن زيداً في الدار على اعتقاد كونه فيها ولم يكن فيها فإنه لا يوصف بكونه كاذباً ولا يستحق الذم على ذلك ولا يوصف بكونه صادقاً لعدم مطابقة الخبر للمخبر وإنما الصادق ما طابق المخبر مع اعتقاد المخبر أنه كذلك والكذب ما لم يطابق المخبر مع اعتقاده أنه كذلك الثاني أنه إذا جاز أن يفرض في الاعتقاد واسطة بين كونه علماً أو جهلاً لا يوصف بكونه علماً ولا جهلاً مركباً كاعتقاد العامي المقلد وجود الإله تعالى جاز أن يفرض بين الصادق والكاذب خبر ليس بصادق ولا كاذب.
والجواب عن الآية أنهم إنما حصروا أمره بين الكذب والجنة لأن قصد الدلالة به على مدلوله شرط في كونه خبراً والمجنون ليس له قصد صحيح فصار كالنائم والساهي إذا صدرت منه صيغة الخبر فإنه لا يكون خبراً وحيث لم يعتقدوا صدقه لم يبق إلا أن يكون كاذباً أو لا يكون ما أتى به خبراً وإن كانت صورته صورة الخبر أما أن يكون خبراً وليس صادقاً فيه ولا كاذباً فلا.(1/112)
وعن الوجه الأول من المعقول: أنا لا نسلم أن من أخبر عن كون زيد في الدار على اعتقاد أنه ليس فيها وهو فيها أن خبره لا يكون صادقاً وإن كان لا يستحق المدح على الصدق وكذلك لا نسلم أن من أخبر بأن زيداً في الدار على اعتقاد كونه فيها ولم يكن فيها أنه ليس كاذباً وإن كان لا يستحق الذم على كذبه لأن المدح والذم ليس على نفس الصدق والكذب لا غير بل على الصدق مع قصده والكذب مع قصده ولهذا فإن الأمة حاكمة بأن الكافر الذي علم منه اعتقاد بطلان رسالة محمد عليه السلام صادق بإخباره بنبوة محمد لما كان خبره مطابقاً للمخبر وإن لم يكن معتقداً لذلك ولا قاصداً للصدق وحاكمة بكذبه في إخباره أنه ليس برسول وإن كان معتقداً لما أخبر به لما كان خبره غير مطابق للمخبر وأما تخصيص عموم خبر القرآن وتقييد مطلقه فإنما لم يكن كذباً وإن لم يكن الخبر محمولاً على ظاهره من العموم والإطلاق لأنه مصروف عن حقيقته إلى مجازه وصرف اللفظ عن أحد مدلوليه إلى الآخر لا يكون كذباً وسواء كان ذلك اللفظ من قبيل الألفاظ المشتركة أو المجازية ولهذا فإن من أخبر بلفظ مشترك وأراد به بعض مدلولاته دون البعض كما لو قال رأيت عيناً وأراد به العين الجارية دون الباصرة وبالعكس فإنه لا يعد كاذباً وكذلك من أخبر بلفظ هو حقيقة في شيء ومجاز في شيء وأراد جهة المجاز دون الحقيقة فإنه لا يعد كاذباً وذلك كما لو قال رأيت أسداً وأراد به المحمل المجازي دون الحقيقي وهو الإنسان.
وعن الوجه الثاني أنه لا يلزم من انقسام الاعتقاد إلى علم وجهل مركب وحالة متوسطة ليست علماً ولا جهلاً مركباً انقسام الخبر إلى صدق وكذب وما ليس بصدق ولا كذب إذ هو قياس تمثيلي من غير جامع ولو كان ذلك كافياً لوجب أن يقال إنه أيضاً يلزم من ذلك أن يكون بين النفي والإثبات واسطة وهو محال.
وبالجملة فالنزاع في هذه المسألة لفظي حيث إن أحد الخصمين يطلق اسم الصدق والكذب على ما لا يطلقه الآخر إلا بشرط زائد.
القسمة الثانية إن الخبر ينقسم إلى ما يعلم صدقه وإلى ما يعلم كذبه وإلى ما لا يعلم صدقه ولا كذبه.
فأما ما يعلم صدقه فمنه ما يعلم صدقه بمجرد الخبر كخبر التواتر وما يعلم صدقه لا بنفس الخبر بل بدليل يدل على كونه صادقاً كخبر الله وخبر الرسول فيما يخبر به عن الله تعالى وخبر أهل الإجماع وخبر من أخبر الله تعالى عنه أو رسوله أو أهل الإجماع أنه صادق وخبر من وافق خبره خبر الصادق أو دليل العقل وأما ما وراء ذلك مما ادعي أنه معلوم الصدق ففيه اختلاف وتفصيل يأتي ذكره في أخبار الآحاد.
وأما ما يعلم كذبه فما كان مخالفاً لضرورة العقل أو النظر أو الحس أو أخبار التواتر أو النص القاطع أو الإجماع القاطع أو ما صرح الجمع الذين لا يتصور تواطؤهم على الكذب بتكذيبه ومن ذلك قول من لم يكذب قط فيما أخبر به أنا كاذب فخبره ذلك كاذب لأن المخبر عنه ليس هو نفس هذا الخبر لأن الخبر يجب أن يكون غير المخبر عنه ولا ما لم يوجد من أخباره فإنها لا توصف بصدق ولا كذب فلم يبق غير الأخبار السالفة وقد كان صادقاً فيها فخبره عنها بأنه كاذب فيها يكون كذباً وقد اختلف في أخبار قيل إنها معلومة الكذب وسيأتي الكلام فيها بعد هذا في أخبار الآحاد.
وأما ما لا يعلم صدقه ولا كذبه فمنه ما يظن صدقه ككثير من الأخبار الواردة في أحكام الشرائع والعادات ممن هو مشهور بالعدالة والصدق ومنه ما يظن كذبه كخبر من اشتهر بالكذب ومنه ما هو غير مظنون الصدق ولا الكذب بل مشكوك فيه كخبر من لم يعلم حاله ولم يشتهر أمره بصدق ولا كذب.
فإن قيل كل خبر لم يقم الدليل على صدقه قطعاً فهو كاذب لأنه لو كان صادقاً لما أخلانا الله تعالى عن نصب دليل يدل عليه ولهذا فإن المتحدي بالنبوة إذا لم تظهر على يده معجزة تدل على صدقه فإنا نقطع بكذبه قلنا: جوابه من ثلاثة أوجه: الأول: لا نسلم امتناع الخلو من نصب دليل يدل على صدقه بتقدير أن يكون صادقاً في نفس الأمر ومن أوجب ذلك فإنما بناه على وجوب رعاية الصلاح أو الأصلح وقد أبطلناه في علم الكلام.
الثاني أنه مقابل بمثله وهو أن يقال: ولو كان كاذباً لما أخلانا الله تعالى عن نصب دليل يدل على كذبه.(1/113)
الثالث أنه يلزم مما ذكروه أن يقطع بكذب كل شاهد لم يقم الدليل القاطع على صدقه وكفر كل مسلم وفسقه إذا لم يقم دليل قاطع على إيمانه وعدالته وهو محال.
وأما المتحدي بالرسالة إذا لم تظهر المعجزة الدالة على صدقه إنما قطعنا بكذبه بالنظر إلى العادة لا بالنظر إلى العقل وذلك لأن الرسالة عن الله تعالى على خلاف العادة والعادة تقضي بكذب من يدعي ما يخالف العادة من غير دليل ولا كذلك الصدق في الأخبار عن الأمور المحسوسة لأنه غير مخالف للعادة.
القسمة الثالثة إن الخبر ينقسم إلى متواتر وآحاد ولما كان النظر في كل واحد من هذين القسمين هو المقصود الأعظم من هذا النوع وجب رسم الباب الثاني في المتواتر والباب الثالث في الآحاد.
الباب الثاني
في المتواتر
ويشتمل على مقدمة ومسائل أما المقدمة ففي بيان معنى التواتر والمتواتر.
أما التواتر في اللغة فعبارة عن تتابع أشياء واحداً بعد واحد بينهما مهلة ومنه قوله تعالى: " ثم أرسلنا رسلنا تترى " " المؤمنون 44 " أي واحداً بعد واحد بمهلة.
وأما في اصطلاح الأصوليين فقد قال بعض أصحابنا إنه عبارة عن خبر جماعة بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم وهو غلط فإن ما ذكره إنما هو حد الخبر المتواتر لا حد نفس التواتر وفرق بين التواتر والمتواتر وإنما التواتر في اصطلاح المتشرعة عبارة عن تتابع الخبر عن جماعة مفيد للعلم بمخبره.
وأما المتواتر فقد قال بعض أصحابنا أيضاً إنه الخبر المفيد للعلم اليقيني بمخبره وهو غير مانع لدخول خبر الواحد الصادق فيه كيف وفيه زيادة لا حاجة إليها وهي قوله العلم اليقيني فإن أحدهما كاف عن الآخر.
والحق أن المتواتر في اصطلاح المتشرعة عبارة عن خبر جماعة مفيد بنفسه للعلم بمخبره فقولنا خبر كالجنس للمتواتر والآحاد وقولنا جماعة احتراز عن خبر الواحد وقولنا مفيد للعلم احتراز عن خبر جماعة لا يفيد العلم فإنه لا يكون متواتراً وقولنا بنفسه احتراز عن خبر جماعة وافق دليل العقل أو دل قول الصادق على صدقهم كما سبق وقولنا بمخبره احتراز عن خبر جماعة أفاد العلم بخبرهم لا بمخبره فإنه لا يسمى متواتراً.
وإذ أتينا على بيان المقدمة فلا بد من ذكر المسائل المتعلقة بخبر التواتر وهي ست مسائل.
المسألة الأولى اتفق الكل على أن خبر التواتر مفيد للعلم بمخبره خلافاً للسمنية والبراهمة في قولهم: لا علم في غير الضروريات إلا بالحواس دون الأخبار وغيرها ودليل ذلك ما يجده كل عاقل من نفسه من العلم الضروري بالبلاد النائية والأمم السالفة والقرون الخالية والملوك والأنبياء والأئمة والفضلاء المشهورين والوقائع الجارية بين السلف الماضين بما يرد علينا من الأخبار حسب وجداننا كالعلم بالمحسوسات عند إدراكنا لها بالحواس ومن أنكر ذلك فقد سقطت مكالمته وظهر جنونه أو مجاحدته.
فإن قيل ما ذكرتموه فرع تصور اجتماع الخلق الكثير والجم الغفير على الإخبار بخبر واحد وذلك غير مسلم مع اختلافهم في الأمزجة والآراء والأغراض وقصد الصدق والكذب كما لا يتصور اتفاق أهل بلد من البلاد على حب طعام واحد معين وحب الخير أو الشر وإن سلمنا تصور اتفاق الخلق الكثير على الإخبار بشيء واحد إلا أن كل واحد منهم يجوز أن يكون كاذباً في خبره بتقدير انفراده كما يجوز عليه الصدق فلو امتنع ذلك عليه حالة الاجتماع لانقلب الجائز ممتنعاً وهو محال وإذا جاز ذلك على كل واحد واحد والجملة لا تخرج عن الآحاد كان خبر الجملة جائز الكذب وما يجوز أن يكون كاذباً لا يكون العلم بما يخبر به واقعاً وإن سلمنا أنه لا يلزم أن ما ثبت للآحاد يكون ثابتاً للجملة غير أن القول بحصول العلم بخبر التواتر يلزم منه أمر ممتنع فيمتنع وبيانه من ستة أوجه: الأول أنه لو جاز أن تخبر جماعة بما يفيد العلم لجاز على مثلهم الخبر بنقيض خبرهم كما لو أخبر الأولون بأن زيداً كان في وقت كذا ميتاً ونقل الآخرون حياته في ذلك الوقت بعينه فإن حصل العلم بالخبرين لزم اجتماع العلم الضروري بموته وحياته في وقت واحد معين وهو محال وإن حصل العلم بأحد الخبرين دون الآخر فلا أولوية مع فرض تساوي المخبرين في الكمية والكيفية.(1/114)
الثاني أنه لو حصل العلم بخبر الجماعة الكثيرة لحصل العلم بما ينقله اليهود عن موسى والنصارى عن عيسى من الأمور المكذبة لرسالة نبينا التي دلت المعجزة القاطعة على صدقه فيها ووجوب علمنا بها واجتماع علمين متناقضين محال.
الثالث أنه لو حصل العلم الضروري بخبر التواتر لما خالف في نبوة نبينا أحد لأن ما علم بالضرورة لا يخالف وحيث وقع الخلاف في ذلك من الخلق الكثير علمنا أن خبر التواتر لا يفيد العلم.
الرابع أنه لو كان العلم الضروري حاصلاً بخبر التواتر لما وقع التفاوت بين علمنا بما أخبر به أهل التواتر من وجود بعض الملوك وعلمنا بأنه لا واسطة بين النفي والإثبات واستحالة اجتماع الضدين وأن الجسم الواحد لا يكون في آن واحد في مكانين لأن الضروريات لا تختلف ولا يخفى وجه الاختلاف في سكون النفس إليهما.
الخامس هو أن ما يحصل من الاعتقاد الجازم بما يخبر به أهل التواتر لا يزيد على الاعتقاد الجازم بأن ما شاهدناه بالأمس من وجود الأفلاك الدائرة والكواكب السيارة والجبال الشامخة أنه الذي نشاهده اليوم مع جواز أن يكون الله تعالى قد أعدم ذلك وما نشاهده الآن قد خلقه الله تعالى على مثاله فإذا لم يكن هذا يقينياً فما لا يزيد عليه في الجزم والاعتقاد أيضاً لا يكون يقينياً.
السادس أنه لو كان العلم الضروري حاصلاً من خبر التواتر لما خالفناكم فيه لأن الضروري لا يخالف والجواب من جهة الإجمال والتفصيل.
أما الإجمال فهو أن ما ذكروه تشكيك على ما علم بالضرورة فلا يكون مقبولاً وأما التفصيل.
فأما السؤال الأول فجوابه بما سبق في بيان تصور الإجماع فيما تقدم.
وأما السؤال الثاني فلأنه لا يلزم أن ما كان ثابتاً لآحاد الجملة وجائزاً عليها أن يكون ثابتاً للجملة وجائزاً عليها ولهذا فإنه ما من واحد من معلومات الله إلا وهو متناه وجملة معلوماته غير متناهية وكذلك كل واحد من آحاد الجملة فإنه جزء من الجملة والجملة ليست جزءاً من الجملة وكذلك كل لبنة أو خشبة داخلة في مسمى الدار وهي جزء منها وليست داراً والمجتمع من الكل دار وكذلك العشرة مركبة من خمسة وخمسة وكل واحدة من الخمستين ليست عشرة والمجموع منهما عشرة ونحوه.
وأما ما ذكروه في السؤال الثالث من الإلزام الأول فهو فرض محال فإنه مهما أخبر جمع بما يحصل منه العلم بالمخبر فيمتنع إخبار مثلهم في الكمية والكيفية وقرائن الأحوال بما يناقض ذلك.
وأما الإلزام الثاني فإنما يصح أن لو قلنا إن العلم يحصل من خبر كل جماعة وإن خبر كل جماعة تواتر وليس كذلك وإنما دعوانا أن العلم قد يحصل من خبر الجماعة ولا يلزم أن يكون خبر كل جماعة محصلاً للعلم.
وأما الإلزام الثالث فغير صحيح لأن التواتر إنما يفيد العلم في الإخبار عن المحسوسات والمشاهدات والنبوة حكم فلذلك لم يثبت بخبر التواتر كيف وإنا لا ندعي أن كل تواتر يجب حصول العلم بمخبره مطلقاً لكل أحد لتفاوت الناس في السماع وقوة الفهم والاطلاع على القرائن المقترنة بالأخبار المفيدة للعلم فمخالفة من يخالف غير قادحة فيما ندعيه من حصول العلم به لبعض الناس.
وأما الإلزام الرابع والخامس فإنما يصح أن لو ادعينا أن ما يحصل من العلم بخبر التواتر من الأمور البديهية وليس كذلك بل إنما ندعي العلم العادي وعلى هذا فلا يخرج عن كونه علماً بتقاصره عن العلوم البديهية ولا بمساواته لما قيل من العلوم العادية.
وأما الإلزام السادس فحاصله يرجع إلى المكابرة والمجاحدة وذلك غير متصور في العادة في خلق لا يتصور عليهم التواطؤ على الخطأ ثم لو كان الخلاف مما يمنع من كونه علماً ضرورياً لكان خلاف السوفسطائية في حصول العلم بالمحسوسات مما يخرجه عن كونه علماً ضرورياً وهو خلاف مذهب السمنية وما هو اعتذارهم في خلاف السوفسطائية في العلم بالمحسوسات يكون عذراً لنا في خلافهم لنا في المتواترات.
المسألة الثانية(1/115)
اتفق الجمهور من الفقهاء والمتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة على أن العلم الحاصل عن خبر التواتر ضروري وقال الكعبي وأبو الحسين البصري من المعتزلة والدقاق من أصحاب الشافعي أنه نظري وقال الغزالي إنه ضروري بمعنى أنه لا يحتاج في حصوله إلى الشعور بتوسط واسطة مفضية إليه مع أن الواسطة حاضرة في الذهن وليس ضرورياً بمعنى أنه حاصل من غير واسطة كقولنا: القديم لا يكون محدثاً والموجود لا يكون معدوماً فإنه لا بد فيه من حصول مقدمتين في النفس إحداهما أن هؤلاء مع كثرتهم واختلاف أحوالهم لا يجمعهم على الكذب جامع الثانية أنهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة ولكنه لا يفتقر إلى ترتيب المقدمتين بلفظ منظوم ولا إلى الشعور بتوسطهما وإفضائهما إليه ومنهم من توقف في ذلك كالشريف المرتضى من الشيعة.
وإذ أتينا على تفصيل المذاهب فلا بد من ذكر حججها والتنبيه على ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
أما حجج القائلين بالضرورة فأولها وهي الأقوى أنه لو كان حصول العلم بخبر التواتر بطريق الاستدلال والنظر لما وقع ذلك لمن ليس له أهلية النظر والاستدلال كالصبيان والعوام وهو واقع لهم لا محالة ولقائل أن يقول: لا نسلم أن الصبيان والعوام الذين يحصل لهم العلم بخبر التواتر ليس لهم أهلية النظر في مثل هذا العلم وإن لم يكونوا من أهل النظر فيما عداه من المسائل الغامضة كحدوث العالم ووجود الصانع ونحوه وذلك لأن العلم النظري منقسم إلى ما مقدماته المفضية إليه نظرية فيكون خفياً وإلى ما مقدماته المفضية إليه نظرية فيكون خفياً وإلى ما مقدماته المفضية إليه ضرورية غير نظرية وعند ذلك فلا يمتنع أن يكون العلم بخبر التواتر من القبيل الثاني دون الأول وعلى هذا فلا يمتنع أن يكون العلم بأحوال المخبرين التي يتوقف عليها العلم بمخبرهم حاصلة بالضرورة للصبيان والعوام ويكون العلم بالنتيجة اللازمة عنها ضرورياً وإنما تتم الحجة المذكورة أن لو بين أن العلم بمخبرهم من قبيل ما مقدماته نظرية لا ضرورية وذلك مما لا سبيل إلى بيانه.
الحجة الثانية أن كل عاقل يجد من نفسه العلم بوجود مكة وبغداد والبلاد النائية عند خبر التواتر بها مع أنه لا يجد من نفسه سابقة فكر ولا نظر فيما يناسبه من العلوم المتقدمة عليه ولا في ترتيبها المفضي إليه ولو كان نظرياً لما كان كذلك ولقائل أن يقول إنما يحتاج ذلك إلى الفكر والنظر في المقدمات وترتيبها إن لو لم يكن العلم بتلك الأمور حاصلاً بالضرورة على ما بيناه في إبطال الحجة الأولى وأما إذا كان حاصلاً بالضرورة فلا.
الحجة الثالثة أن العلم بخبر التواتر لا ينتفي بالشبهة وهذه هي أمارة الضرورة ولقائل أن يقول: المنفي بالشبهة العلم النظري الذي مقدماته نظرية أو الذي مقدماته ضرورية الأول مسلم والثاني ممنوع.
الحجة الرابعة أنه لو كان نظرياً لأمكن الإضراب عنه كما في سائر النظريات وحيث لم يمكن ذلك دل على كونه ضرورياً ولقائل أن يقول: الذي يمكن الإضراب عنه من العلوم النظرية إنما هو العلم المفتقر إلى المقدمات النظرية وأما ما لزمه من مقدمات حاصلة بالضرورة فلا.
الحجة الخامسة أنه لو كان نظرياً لوقع الخلاف فيه بين العقلاء وحيث لم يقع إلا من معاند كما سبق كان ضرورياً كالعلم بالمحسات ونحوه.
ولقائل أن يقول: تسويغ الخلاف عقلاً إنما يكون في العلوم النظرية التي مقدماتها نظرية وأما مقدماتها ضرورية فلا كما في المحسات.
وأما حجج القائلين بالنظر فأولها وهي ما استدل بها أبو الحسين البصري أن قال الاستدلال ترتيب علوم يتوصل بها إلى علم آخر فكلما وقف وجوده عل ترتيب فهو نظري والعلم الواقع بخبر التواتر كذلك فكان نظرياً وذلك لأنا إنما نعلم ذلك إذا علمنا أن المخبر لم يخبر عن رواية بل عن أمر محسوس لا لبس فيه وأنه لا داعي له إلى الكذب فيعلم أنه لا يكون كذباً وإذا لم يكن كذباً تعين كونه صدقاً ومهما اختل شيء من هذه الأمور لم نعلم صحة الخبر ولا معنى لكونه نظرياً سوى ذلك.
ولقائل أن يقول: سلمنا أن النظر عبارة عما ذكر لكن لا نسلم تحققه فيما نحن فيه وما المانع أن يكون اتفاقهم على الكذب لا لغرض مع كونه مقدوراً لهم فإن قال بأن العادة تحيل اتفاق الجمع الكثير على الكذب لا لغرض ومقصود.(1/116)
قلنا: والعادة أيضاً تحيل اتفاقهم على الصدق لا لغرض ومقصود فلم قلت بعدم الغرض في الصدق دون الكذب وإذا لم يكن غرض فليس الصدق أولى من الكذب فإن قلنا: الغرض في الصدق كونه صدقاً لكونه حسناً ولا كذلك الكذب لكونه قبيحاً فهو مبني على التحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه.
فإن قال: المراد إنما هو التحسين والتقبيح العرفي دون العقلي ولا شك أن أهل العرف يعدون الكذب قبيحاً والصدق حسناً قلنا: التحسين والتقبيح العرفي راجع إلى موافقة الغرض ومخالفته وعلى هذا فلعل الكذب من حيث هو كذب فيما أخبروا به موافق لأغراضهم دون الصدق فكان حسناً كما في اتفاقهم على الصدق في بعض ما أخبروا به سلمنا أنهم لا يجمعون على الكذب إلا لغرض ولكن ما المانع منه؟ فإنا قد نجد الجمع الكثير متفقين على وضع الأحاديث والأخبار لحكمة عائدة إليهم وذلك كأهل مدينة أو جيش عظيم اتفقوا على وضع خبر لا أصل له إما لدفع مفسدة عنهم لا سبيل إلى دفعها إلا به وإما لجلب مصلحة لا تحصل إلا به وهذا مما يغلب مثله في كل عصر وزمان حتى إن أكثر الأخبار العامة الشائعة الواقعة في المعتاد كذلك.
فإن قال بأن ذلك وإن كان واقعاً إلا أن العادة تحيل دوامه وتوجب انكشافه عن قرب من الزمان قلنا: فإذا آل الأمر إلى التمسك بالعادة في استحالة اتفاقهم على الكذب دائماً فما المانع أن يقال بأن العادة موجبة لصدق المخبرين إذا كانوا جمعاً كثيراً وحصول العلم بخبرهم وليس القول بأن العادة تحيل اتفاقهم على الكذب ويلزم من ذلك الصدق أولى من أن يقال العادة توجب اتفاقهم على الصدق ويلزم من ذلك امتناع اتفاقهم على الكذب وعند ذلك فيخرج العلم بخبر التواتر عن كونه نظرياً سلمنا أنه لا بد في حصول العلم بخبر التواتر من حصول العلم بامتناع الكذب على المخبرين ولكن لا نسلم أن ذلك يكون كافياً في كون العلم الحاصل من التواتر نظرياً إلا أن يكون العلم بالمقدمات قد علم معه أنها مرتبطة بالعلم الحاصل بخبر التواتر وأنها الواسطة المفضية إليه وذلك غير مسلم الوجود فيما نحن فيه كما ذهب إليه الغزالي.
الحجة الثانية أنه لو كان العلم بخبر التواتر ضرورياً لنا لكنا عالمين بذلك العلم على ما هو عليه كما في سائر العلوم الضرورية وذلك لأن حصول علم للإنسان وهو لا يشعر به محال فإذا كان ذلك العلم ضرورياً وجب أن يعلم كونه ضرورياً وليس كذلك.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه إذا كان ضرورياً لا بد وأن يعلم أنه ضروري بل جاز أن يكون أصل العلم بالمخبر بالضرورة والعلم بصفته وهي الضرورة غير ضروري كيف وأنه معارض بأنه لو كان نظرياً لعلمناه على صفته نظرياً على ما قرروه وليس كذلك وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
الحجة الثالثة أنه لو كان العلم بخبر التواتر ضرورياً لما اختلف العقلاء فيه كما في غيره من الضروريات.
ولقائل أن يقول: الاختلاف فيه لا يدل على أنه غير ضروري وإلا كان خلاف السوفسطانية في حصول العلم بالضروريات مانعاً من كونها ضرورية وليس كذلك بالاتفاق من الخصمين هاهنا بل ولكان خلاف السمنية في حصول أصل العلم بخبر التواتر مانعاً منه وليس كذلك.
الحجة الرابعة أن خبر التواتر لا يزيد في القوة على خبر الله تعالى وخبر رسوله بل هو مماثل أو أدنى والعلم بخبر الله ورسوله غير حاصل بالضرورة بل بالاستدلال فما هو مثله كذلك والأدنى أولى.
ولقائل أن يقول: حاصل ما ذكر راجع إلى التمثيل وهو غير مفيد لليقين كما عرفناه في مواضعه كيف وإن العلم بخبر التواتر من حيث هو علم وإن كان لا يقع التفاوت بينه وبين العلم الحاصل من خبر الله والرسول فكذلك لا تفاوت بين العلوم الضرورية المتفق على ضروريتها كالعلم بأن لا واسطة بين النفي والإثبات والعلم بأن الواحد أقل من الاثنين ونحوه وبين العلم الحاصل بخبر الله وخبر رسوله من حيث إن كل واحد منهما علم ومع ذلك ما لزم من كون العلوم الضرورية ضرورية أن يكون العلم الحاصل من خبر الله وخبر رسوله ضرورياً ولا من كون خبر الله ورسوله غير ضروري أن تكون العلوم الضرورية غير ضرورية وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين وتفاوت الكلام بين الطرفين فقد ظهر أن الواجب إنما هو الوقف عن الجزم بأحد الأمرين.
المسألة الثالثة(1/117)
اتفقت الأشاعرة والمعتزلة وجميع الفقهاء على أن خبر التواتر لا يولد العلم خلافاً لبعض الناس وقد اعتمد القائلون بامتناع ذلك على مسلكين ضعيفين: الأول أنهم قالوا: لو كان خبر التواتر مولداً للعلم فالعلم إما أن يكون متولداً من الخبر الأخير أو منه ومن جملة الأخبار المتقضية: فإن كان الأول فهو محال وإلا لتولد منه بتقدير انفراده وإن كان الثاني فهو ممتنع لأن الأخبار متعددة والمسبب الواحد لا يصدر عن سببين كما لا يكون مخلوق بين خالقين.
ولقائل أن يقول: ما المانع أن يكون متولداً عن الخبر الأخير مشروطاً بتقدم ما وجد من الأخبار قبله وعدمت وإن كان متولداً عن الجميع فما المانع أن يكون متولداً عن الهيئة الاجتماعية وهي شيء واحد لا أنه متولد عن كل واحد واحد من تلك الأخبار وهذا مما مدفع له.
نعم لو قيل إن تولده من جميع الأخبار ممتنع ضرورة أن ما تقضي من الأخبار معدوم ولا تولد عن المعدوم كان متجهاً.
المسلك الثاني أنهم قالوا قد استقر من مذهب القائلين بالتولد أن كل ما هو طالب لجهة من الجهات فإنه يجوز أن يتولد عنه شيء في غير محله كالاعتمادات والحركات وما ليس كذلك لا يتولد عنه شيء في غير محله والقول والخبر ليس له جهة فلا يتولد عنه العلم لأنه لو تولد عنه العلم لتولد في غير محله وهو ممتنع وذلك مما لا اتجاه له مهما عرف من مذاهب الخصوم أن إرعاب الإنسان لغيره مما يولد فيه الوجل المولد للاصفرار بعد الاحمرار وأن تهجينه له مما يولد فيه الخجل المولد للاحمرار بعد الاصفرار وإن كان ما تولد عن القول المرهب والمهجن في غير محله.
والمعتمد في إبطال ذلك ليس إلا ما حققناه في أبكار الأفكار من الدليل الدال على امتناع موجود غير الله تعالى وأن كل موجود ممكن فوجوده ليس إلا بالله تعالى فعليك باعتباره ونقله إلى هاهنا.
فإن قيل: اختياركم في المسألة المتقدمة إنما هو الوقف عن الجزم بكون الحاصل عن خبر التواتر ضرورياً أو نظرياً وما ذكرتموه هاهنا من كونه مخلوقاً لله تعالى يوجب كونه اضطرارياً للعبد وهو تناقض كيف وإنه لو كان مخلوقاً لله تعالى لأمكن حصوله عن خبر الجماعة المفروضين بسبب خلق الله تعالى له وأمكن أن لا يحصل بسبب عدم خلقه فلما كان ذلك واجب الحصول بخبر التواتر علم أنه غير موجود بالاختيار مباشرة بل بالتولد عما هو مباشر بالقدرة.
قلنا: أما التناقض فمندفع فإنا سواء قلنا إن العلم مكتسب للعبد أو هو حاصل له ضرورياً فلا يخرج بذلك عن كونه مخلوقاً لله تعالى على ما عرف من أصلنا.
قولهم: لو كان مخلوقاً لله تعالى لأمكن أن يحصل وأن لا يحصل قلنا: ذلك ممكن عقلاً غير أن الله تعالى قد أجرى العادة بخلقه للعلم عند خبر التواتر كما أجرى العادة بالشبع عند أكل الخبز والري عند شرب الماء ونحوه.
المسألة الرابعة اتفق القائلون بحصول العلم عن الخبر المتواتر على شروط واختلفوا في شروط فأما المتفق عليه فمنها ما يرجع إلى المخبر ومنها ما يرجع إلى المستمعين فأما ما يرجع إلى المخبرين فأربعة شروط: الأول أن يكونوا قد انتهوا في الكثرة إلى حد يمتنع معه تواطؤهم على الكذب.
الثاني أن يكونوا عالمين بما أخبروا به لا ظانين.
الثالث أن يكون علمهم مستنداً إلى الحس لا إلى دليل العقل.
الرابع أن يستوي طرفا الخبر ووسطه في هذه الشروط لأن خبر أهل كل عصر مستقل بنفسه فكانت هذه الشروط معتبرة فيه.
وأما ما يرجع إلى المستمعين فأن يكون المستمع متأهلاً لقبول العلم بما أخبر به غير عالم به قبل ذلك وإلا كان فيه تحصيل الحاصل غير أن من زعم أن حصول العلم بخبر التواتر نظري شرط تقدم العلم بهذه الأمور على حصول العلم بخبر التواتر ومن زعم أنه ضروري لم يشترط سبق العلم بهذه الأمور لأن العلم عنده حاصل عند خبر التواتر بخلق الله تعالى فإن خلق العلم له علم أن الخبر مشتمل على هذه الشروط وإن لم يخلق له العلم علم اختلال هذه الشروط أو بعضها فضابط العلم بتكامل هذه الشروط حصول العلم بخبر التواتر عنده لا أن ضابط حصول العلم بخبر التواتر سابقة حصول العلم بهذه الشروط.(1/118)
ثم اختلف هؤلاء في أقل عدد يحصل معه العلم: فقال بعضهم هو خمسة لأن ما دون ذلك كالأربعة بينة شرعية يجوز للقاضي عرضها على المزكين بالإجماع لتحصيل غلبة الظن ولو كان العلم حاصلاً بقول الأربعة لما كان كذلك وقد قطع القاضي أبو بكر بأن الأربعة عدد ناقص وتشكك في الخمسة ومنهم من قال: أقل ذلك اثنا عشر بعدد النقباء من بني إسرائيل على ما قال تعالى: " وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً " " المائدة 12 " وإنما خصهم بذلك العدد لحصول العلم بخبرهم ومنهم من قال أقله عشرون تمسكاً بقوله تعالى " إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين " " الأنفال 65 " وإنما خصهم بذلك لحصول العلم بما يخبرون به.
ومنهم من قال: أقل ذلك أربعون أخذاً من عدد أهل الجمعة ومنهم من قال: أقلهم سبعون تمسكاً بقوله تعالى: " واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا " " الأعراف 155 " وإنما خصهم بذلك لحصول العلم بما يخبرون به ومنهم من قال: أقله ثلاثمائة وثلاثة عشر نظراً إلى عدد أهل بدر إنما خصوا بذلك ليعلم ما يخبرون به للمشركين ومنهم من قال: أقل عدد يحصل به العلم معلوم لله تعالى غير معلوم لنا وهذا هو المختار وذلك لأنا لا نجد من أنفسنا معرفة العدد الذي حصل علمنا بوجود مكة وبغداد وغير ذلك من المتواترات عنده ولو كلفنا أنفسنا معرفة ذلك عند توارد المخبرين بأمر من الأمور بترقب الحالة التي يكمل علمنا فيها بعد تزايد ظننا بخبر واحد بعد واحد لم نجد إليه سبيلاً عادة كما لم نجد من أنفسنا العلم بالحالة التي يحصل فيها كمال عقولنا بعد نقصها بالتدريج الخفي لقصور القوة البشرية عن الوقوف على ذلك بل يحصل لنا العلم بخبر التواتر وإن كنا لا نقف على أقل عدد أفاده كما نعلم حصول الشبع بأكل الخبز والري بشرب الماء وإن كنا لا نقف على المقدار الذي حصل به الشبع والري وما قيل من الأقاويل في ضبط عدد التواتر فهي مع اختلافها وتعارضها وعدم مناسبتها وملائمتها للمطلوب مضطربة فإنه ما من عدد يفرض حصول العلم به لقوم إلا وقد يمكن فرض خبرهم بعينه غير مفيد للعلم بالنظر إلى آخرين بل ولو أخبروا بأعيانهم بواقعة أخرى لم يحصل بها العلم لمن حصل له العلم بخبرهم الأول ولو كان ذلك العدد هو الضابط لحصول العلم لما اختلف وإنما وقع الاختلاف بسبب الاختلاف في القرائن المقترنة بالخبر وقوة سماع المستمع وفهمه وإدراكه للقرائن.
وبالجملة فضابط التواتر ما حصل العلم عنده من أقوال المخبرين لا أن العلم مضبوط بعدد مخصوص وعلى هذا فما من عدد يفرض كان أربعة أو ما زاد إلا ويمكن أن يحصل به العلم ويمكن أن لا يحصل ويختلف ذلك باختلاف القرائن وما ذكر في كل صورة من أن تعيين ذلك العدد فيها إنما كان لحصول العلم بخبرهم تحكم لا دليل عليه بل أمكن أن يكون لأغراض أخر غير ذلك أو أن ذلك واقع بحكم الاتفاق وعلى قولنا بأن ضابط التواتر حصول العلم عنده يمتنع الاستدلال بالتواتر على من لم يحصل له العلم منه وإنما المرجع فيه إلى الوجدان هذا ما يرجع إلى الشرائط المعتبرة المتفق عليها وأما الشروط المختلف فيها فستة: الأول: ذهب قوم إلى أن شرط عدد التواتر أن لا يحويهم بلد ولا يحصرهم عدد ومذهب الباقين خلافه وهو الحق وذلك لأنه قد يحصل العلم بخبر أهل بلد من البلاد بل بخبر الحجيج أو أهل الجامع بواقعة وقعت وحادثة حدثت مع أنهم محصورون.
الثاني: ذهب قوم إلى اشتراط اختلاف أنساب المخبرين وأوطانهم وأديانهم وهو فاسد لأنا لو قدرنا أهل بلد اتفقت أديانهم وأنسابهم وأخبروا بقضية شاهدوها لم يمتنع حصول العلم بخبرهم.(1/119)
الثالث: ذهب بعضهم إلى أن شرط المخبرين أن يكونوا مسلمين عدولاً لأن الكفر عرضة للكذب والتحريف والإسلام والعدالة ضابط الصدق والتحقيق في القول ولهذه العلة اختص المسلمون بدلالة إجماعهم على القطع ولأنه لو وقع العلم بتواتر خبر الكفار لوقع العلم بما أخبر به النصارى مع كثرة عددهم عن قتل المسيح وصلبه وما نقلوه عنه من كلمة التثليث وهو باطل فإنا نجد من أنفسنا العلم بأخبار العدد الكثير وإن كانوا كفاراً كما لو أخبر أهل قسطنطينية بقتل ملكهم وليس ذلك إلا لأن الكثرة مانعة من التواطيء على الكذب وإن لم يكن ذلك ممتنعاً فيما كان دون تلك الكثرة وأما الإجماع فإنما اختص علماء الإسلام بالاحتجاج به للأدلة السمعية دون الأدلة العقلية كما سبق بخلاف التواتر وأما أنه لم يحصل لنا العلم بما أخبر به النصارى من قتل المسيح وصلبه وكلمة التثليث فيجب أن يكون ذلك محالاً على عدم شرط من شروط التواتر وهو إما اختلال استواء طرفي الخبر ووسطه فيما ذكرناه من الشروط قبل أو لأنهم ما سمعوا كلمة التثليث صريحاً بل سمعوا كلمة موهمة لذلك فنقلوا التثليث ويجب اعتقاد ذلك نفياً للكفر عن المسيح على ما قال تعالى " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " " المائدة 73 " أو لأن المسيح شبه لهم فنقلوا قتله وصلبه ولا بعد في ذلك وإن كان الغلط فيه غير معتاد إذا وقع في زمان خرق العوائد وهو زمان النبوة وإن كان بعيداً في غير زمانه ويجب اعتقاد ذلك عملاً بقوله تعالى: " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " " النساء 157 " .
فإن قيل: فخرق العوائد جائز في غير زمان النبوة بكرامات الأولياء فليجز في كل ما أخبر به أهل ذلك العصر عن المحسات ووقوع الغلط فيه.
قلنا: إن حصل لنا العلم بخبرهم علمنا استحالة الغلط عليهم وإن لم يحصل لنا العلم به علمنا أنه قد اختل شرط من شرائط التواتر وإن لم يكن ذلك الشرط معيناً عندنا.
الرابع: ذهب قوم إلى أن شرطه أن لا يكونوا محمولين على أخبارهم بالسيف وهو باطل فإنهم إن حملوا على الصدق لم يمتنع حصول العلم بقولهم كما لو لم يحملوا عليه ولهذا فإنه لو حمل الملك أهل مدينة عظيمة على الإخبار عن أمر محس وجدنا أنفسنا عالمة بخبرهم حسب علمنا بخبرهم من غير حمل وإن حملوا على الكذب فيمتنع حصول العلم بخبرهم لفوات شرط وهو إخبارهم عن معلوم محس.
الخامس: شرطت الشيعة وابن الراوندي وجود المعصوم في خبر التواتر حتى لا يتفقوا على الكذب وهو باطل أيضاً لما بيناه من أنه لو اتفق أهل بلد من بلاد الكفار على الأخبار عن قتل ملكهم أو أخذ مدينة فإن العلم يحصل بخبرهم مع كونهم كفاراً فضلاً عن كون الإمام المعصوم ليس فيهم ثم لو كان كذلك فالعلم يكون حاصلاً بقول الإمام المعصوم بالنسبة إلى من سمعه لا بخبر التواتر.
السادس: شرطت اليهود في خبر التواتر أن يكون مشتملاً على أخبار أهل الذلة والمسكنة لأنه إذا لم يكن فيهم مثل هؤلاء فلا يؤمن تواطيهم على الكذب لغرض من الأغراض بخلاف ما إذا كانوا أهل ذلة ومسكنة فإن خوف مؤاخذتهم بالكذب يمنعهم من الكذب ولو صح لهم هذا الشرط لثبت غرضهم من إبطال العلم بخبر التواتر بمعجزات عيسى ونبينا عليه السلام حيث أنهم لم يدخلوا في الأخبار بها وهم أهل الذلة والمسكنة لكنه باطل بما نجده من أنفسنا من العلم بأخبار الأكابر والشرفاء العظماء إذا أخبروا بأمر محس وكانوا خلقاً كثيراً بل ربما كان حصول العلم من خبرهم أسرع من حصول العلم بخبر أهل المسكنة والذلة لترفع هؤلاء عن رذيلة الكذب لشرفهم وقلة مبالاة هؤلاء به لخستهم.
وبالجملة لا يمتنع أن يكون شيء من هذه الشروط إذا تحقق كان حصول العلم بخبر التواتر معه أسرع من غيره أما أن يكون ذلك شرطاً ينتفي العلم بخبر التواتر عند انتفائه فلا.
المسألة الخامسة(1/120)
ذهب القاضي أبو بكر وأبو الحسين البصري إلى أن كل عدد وقع العلم بخبره في واقعة لشخص لا بد وأن يكون مفيداً للعلم بغير تلك الواقعة لغير ذلك الشخص إذا سمعه وهذا إنما يصح على إطلاقه إذا كان العلم قد حصل من نفس خبر ذلك العدد مجرداً عما احتف به من القرائن العائدة إلى أخبار المخبرين وأحوالهم واستواء السامعين في قوة السماع للخبر والفهم لمدلوله مع فرض التساوي في القرائن مع أن القرائن قد تفيد آحادها الظن وبتضافرها واجتماعها العلم كما سنبينه فلا يمتنع أن يحصل العلم بمثل ذلك العدد في بعض الوقائع للمستمع دون البعض لما اختص به من القرائن التي لا وجود لها في غيره وبتقدير اتحاد الواقعة وقرانها لا يلزم من حصول العلم بذلك العدد لبعض الأشخاص حصوله لشخص آخر لتفاوتهما في قوة الإدراك والفهم للقرائن إذ التفاوت فيما بين الناس في ذلك ظاهر جداً حتى أن منهم من له قوة فهم أدق المعاني وأغمضها في أدنى دقيقة من غير كد ولا تعب ومنهم من انتهى في البلادة إلى حد لا قدرة له على فهم أظهر ما يكون من المعاني مع الجد والاجتهاد في ذلك ومنهم من حاله متوسطة بين الدرجتين وهذا أمر واضح لا مراء فيه ومع التفاوت في هذه الأمور يظهر أن ما ذكره القاضي وأبو الحسين البصري مما لا سبيل إلى تصحيحه على إطلاقه.
المسألة السادسة إذا عرف أن التواتر يفيد العلم بالخبر الواحد كالإخبار عن قتل ملك أو هجوم بلد كما ذكرناه فلو بلغ عدد المخبرين إلى حد التواتر لكن اختلفت أخبارهم والوقائع التي أخبروا عنها مع اشتراك جميع أخبارهم في معنى كلي مشترك بين مخبراتهم فالكل مخبرون عن ذلك المعنى المشترك ضرورة إخبارهم عن جريانه إما بجهة التضمن أو الالتزام فكان معلوماً من أخبارهم وذلك كالأخبار التي وردت خارجة عن الحصر عن وقائع عنتر في حروبه ووقائع حاتم في هباته وضيافاته وإن اختلفت وقائع هذه الأخبار فكلها دالة على القدر المشترك من شجاعة هذا وكرم هذا غير أنه ربما كان حصول العلم بها مثل التواتر الأول لاتحاد لفظه ومعناه أسرع حصولاً من الثاني لاختلاف ألفاظه وما طابقها من المعاني وإن اتحد مدلولها من جهة التضمن أو الالتزام وهذا آخر باب التواتر.
الباب الثالث
في أخبار الآحاد
ويشتمل على أربعة أقسام: أولها: النظر في حقيقة خبر الواحد وما يتعلق به من المسائل.
وثانيها: النظر في شرائط وجوب العمل بخبر الواحد وما يتعلق به من المسائل.
وثالثها: النظر في مستند الراوي وكيفية روايته وما يتعلق به من المسائل.
ورابعها: النظر فيما اختلف في رد خبر الواحد به ومسائله.
القسم الأول
في حقيقة خبر الواحد
ويشتمل على مقدمة ومسائل أما المقدمة ففي حقيقة خبر الواحد وشرح معناه قال بعض أصحابنا: خبر الواحد ما أفاد الظن وهو غير مطرد ولا منعكس.
أما أنه غير مطرد فلأن القياس مفيد للظن وليس هو خبر واحد فقد وجد الحد ولا محدود.
وأما أنه غير منعكس فهو أن الواحد إذا أخبر بخبر ولم يفد الظن فإنه خبر واحد وإن لم يفد الظن فقد وجد المحدود ولا حد كيف وإن التعريف بما أفاد الظن تعريف بلفظ متردد بين العلم كما في قول الله تعالى: " الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم " " البقرة 46 " أي يعلمون وبين ترجح أحد الاحتمالين على الآخر في النفس من غير قطع والحدود مما يجب صيانتها عن الألفاظ المشتركة لإخلالها بالتفاهم وافتقارها إلى القرينة.
والأقرب في ذلك أن يقال: خبر الآحاد ما كان من الأخبار غير منته إلى حد التواتر وهو منقسم إلى ما لا يفيد الظن أصلاً وهو ما تقابلت فيه الاحتمالات على السواء وإلى ما يفيد الظن وهو: ترجح أحد الاحتمالين الممكنين على الآخر في النفس من غير قطع فإن نقله جماعة تزيد على الثلاثة والأربعة سمي مستفيضاً مشهوراً وإذا عرف ذلك فلنذكر ما يتعلق به من المسائل وهي سبع: المسألة الأولى اختلفوا في الواحد العدل إذا أخبر بخبر هل يفيد خبره العلم؟ فذهب قوم إلى أنه يفيد العلم ثم اختلف هؤلاء: فمنهم من قال إنه يفيد العلم بمعنى الظن لا بمعنى اليقين فإن العلم قد يطلق ويراد به الظن كما في قوله تعالى " فإن علمتموهن مؤمنات " " الممتحنة 10 " أي ظننتموهن.(1/121)
ومنهم من قال إنه يفيد العلم اليقيني من غير قرينة لكن من هؤلاء من قال: ذلك مطرد في خبر كل واحد كبعض أهل الظاهر وهو مذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ومنهم من قال إنما يوجد ذلك في بعض أخبار الآحاد لا في الكل وإليه ذهب بعض أصحاب الحديث ومنهم من قال إنه يفيد العلم إذا اقترنت به قرينة كالنظام ومن تابعه في مقالته.
وذهب الباقون إلى أنه لا يفيد العلم اليقيني مطلقاً لا بقرينة ولا بغير قرينة والمختار حصول العلم بخبره إذا احتفت به القرائن ويمتنع ذلك عادة دون القرائن وإن كان لا يمتنع خرق العادة بأن يخلق الله تعالى لنا العلم بخبره من غير قرينة.
أما أنه لا يفيد العلم بمجرده فقد احتج القائلون بذلك بحجج واهية لا بد من التنبيه عليها والإشارة بعد ذلك إلى ما هو المعتمد في ذلك.
الحجة الأولى: من الحجج الواهية قولهم: لو كان خبر الواحد مفيداً للعلم لأفاد كل خبر واحد كما أن خبر التواتر لما كان موجباً كان كل خبر متواتر كذلك.
ولقائل أن يقول: هذا قياس تمثيلي وهو غير مفيد للعلم كيف وإن خبر التواتر قبل العلم به ضروري غير مكتسب فلا يمتنع أن يخلقه الله تعالى عند كل تواتر لعلمه بما يشتمل عليه من مصلحة مختصة به أو لا لمصلحة كما يشاء ويختار ومثل ذلك غير لازم في أخبار الآحاد.
وإن قيل إنه نظري مكتسب فلا مانع من استواء جميع أخبار التواتر فيما لا بد منه في حصول العلم ولا يلزم من ذلك استواء جميع أخبار الآحاد في ذلك.
الحجة الثانية: أن تأثيرات الأدلة في النفوس بحسب المؤثر ولا نجد من أنفسنا من خبر الواحد وإن بلغ الغاية في العدالة سوى ترجح صدقه على كذبه من غير قطع وذلك غير موجب للعلم.
وهذه الحجة في غاية الضعف لأن حاصلها يرجع إلى محض الدعوى في موضع الخلاف من غير دلالة ومع ذلك فهي مقابلة بمثلها وهو أن يقول الخصم: وأنا أجد في نفسي العلم بذلك وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
الحجة الثالثة: أنه لو كان خبر الواحد يوجب العلم لما روعي فيه شرط الإسلام والعدالة كما في خبر التواتر.
وحاصل هذه الحجة أيضاً يرجع إلى التمثيل وهو غير مفيد لليقين ثم ما المانع أن يكون حصول العلم بخبر التواتر لأن الله تعالى أجرى العادة بخلق العلم عنده.
إن قيل إن العلم بخبر التواتر ضروري وذلك غير لازم في خلقه عند خبر من ليس بمسلم ولا عدل أو أن يكون التواتر من حيث هو تواتر مشتمل على ما يوجب العلم إن قيل بأن العلم بخبر التواتر كسبي وخبر من ليس بمسلم ولا عدل غير مشتمل على ذلك والمعتمد في ذلك أربع حجج: الحجة الأولى: أنه لو كان خبر الواحد الثقة مفيداً للعلم بمجرده فلو أخبر ثقة آخر بضد خبره فإن قلنا خبر كل واحد يكون مفيداً للعلم لزم اجتماع العلم بالشيء وبنقيضه وهو محال وإن قلنا خبر أحدهما يفيد العلم دون الآخر فإما أن يكون معيناً أو غير معين فإن كان الأول فليس أحدهما أولى من الآخر ضرورة تساويهما في العدالة والخبر وإن لم يكن معيناً فلم يحصل العلم بخبر واحد منهما على التعيين بل كل واحد منهما إذا جردنا النظر إليه كان خبره غير مفيد للعلم لجواز أن يكون المفيد للعلم هو خبر الآخر كيف وأنه لا مزية لأحدهما على الآخر حتى يقال بحصول العلم بخبره دون خبر الآخر.
الحجة الثانية: إن كل عاقل يجد من نفسه عند ما إذا أخبره واحد بعد واحد بمخبر واحد يزيد اعتقاده بذلك المخبر ولو كان الخبر الأول والثاني مفيداً للعلم فالعلم غير قابل للتزيد والنقصان.
فإن قيل: كيف يقال بأن العلم غير قابل للزيادة والنقصان مع أن بعض العلوم قد يكون أجلى من بعض وأظهر كالعلم الضروري فإنه أقوى من العلم المكتسب والعلم بالعيان أقوى من العلم بالخبر.
قلنا: لا نسلم تصور التفاوت بين العلوم من حيث هي علوم بزيادة ولا نقصان لانتفاء احتمال النقيض عنها قطعاً ولو لم يكن كذلك لما كانت علوماً بل ظنوناً والتفاوت الواقع بين العلم النظري والعلم الضروري ليس في نفس العلم بالمعلوم بل من جهة أن أحدهما مفتقر في حصوله إلى النظر دون الآخر أو أن أحدهما أسرع حصولاً من الآخر لتوقفه على النظر والتفاوت الواقع بين العلم بالخبر والعلم بالنظر غير متصور فيما تعلقاً به وإنما التفاوت بينهما من جهة أن ما لا يدرك بالخبر يكون مدركاً بالعيان والنظر.(1/122)
الحجة الثالثة: أنه لو كان الخبر الواحد بمجرده موجباً للعلم لكان العلم حاصلاً بنبوة من أخبر بكونه نبياً من غير حاجة إلى معجزة دالة على صدقه ولوجب أن يحصل للحاكم العلم بشهادة الشاهد الواحد وأن لا يفتقر معه إلى شاهد آخر ولا إلى تزكيته لما فيه من طلب تحصيل الحاصل إذ العلم غير قابل للزيادة والنقصان كما سبق تقريره.
الحجة الرابعة: أنه لو حصل العلم بخبر الواحد بمجرده لوجب تخطئة مخالفه بالاجتهاد وتفسيقه وتبديعه إن كان ذلك فيما يبدع بمخالفته ويفسق ولكان مما يصح معارضته بخبر التواتر وأن يمتنع التشكيك بما يعارضه كما في خبر التواتر وكل ذلك خلاف الإجماع.
فإن قيل ما ذكرتموه معارض بالنص والمعقول والأثر: أما النص فقوله تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم " " الإسراء 36 " نهى عن اتباع غير العلم وقد أجمعنا على جواز اتباع خبر الواحد في أحكام الشرع ولزوم العلم به فلو لم يكن خبر الواحد مفيداً للعلم لكان الإجماع منعقداً على مخالفة النص وهو ممتنع وأيضاً فإن الله تعالى قد ذم على اتباع الظن بقوله تعالى: " إن يتبعون إلا الظن " " النجم 28 " وقوله تعالى " وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً " " يونس 36 " فلو لم يكن خبر الواحد مفيداً للعلم بل للظن لكنا مذمومين على اتباعه وهو خلاف الإجماع.
وأما من جهة المعقول فمن وجهين: الأول أنه لو لم يكن خبر الواحد مفيداً للعلم لما أوجبه وإن كثر العدد إلى حد التواتر لأن ما جاز على الأول جاز على من بعده الثاني أنه لو لم يكن خبره موجباً للعلم لما أبيح قتل المقر بالقتل على نفسه ولا بشهادة اثنين عليه ولا وجبت الحدود بأخبار الآحاد لكون ذلك قاضياً على دليل العقل وبراءة الذمة.
وأما من جهة الأثر ونخص مذهب من فرق بين خبر وخبر كبعض المحدثين فهو أن علياً كرم الله وجه قال ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته سوى أبي بكر صدق أبا بكر وقطع بصدقه وهو واحد.
قلنا: أما الآيات فالجواب عنها من وجهين: الأول أن وجوب العمل بخبر الواحد واتباعه في الشرعيات إنما كان بناء على انعقاد الإجماع على ذلك والإجماع قاطع فاتباعه لا يكون اتباعاً لما ليس بعلم ولا اتباعاً للظن الثاني أنه يحتمل أن يكون المراد من الآيات إنما هو المنع من اتباع غير العلم فيما المطلوب منه العلم كالاعتقادات في أصول الدين من اعتقاد وجود الله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز ويجب الحمل على ذلك عملاً بما ذكرناه من الأدلة.
وأما ما ذكروه من الوجه الأول من جهة المعقول فغير لازم لأن حكم الجملة قد يغاير حكم الآحاد على ما سبق مراراً وأما الوجه الثاني فمبني على أن أحكام الشرع لا تبنى على غير العلم وهو غير مسلم وعلى خلاف إجماع السلف قبل وجود المخالفين.
وما ذكروه من الأثر فغايته أن يدل على أن علياً صدق أبا بكر رضي الله عنهما من غير يمين لحصول ظنه بخبره من غير يمين دون خبر غيره لكون ما اختص به من زيادة الرتبة وعلو الشأن في العدالة والثقة في مقابلة يمين غيره والتصديق بناء على غلبة الظن جائز في باب الظنون وإن لم يكن الصدق معلوماً.
وأما جواز وقوع العلم بخبر الواحد إذا احتفت به القرائن فيدل عليه أن القرينة قد تفيد الظن مجردة عن الخبر وذلك كما إذا رأينا إنساناً يكثر من النظر إلى شخص مستحسن فإنا نظن حبه له فإذا اقترن بذلك ملازمته له زاد ذلك الظن ولا يزال في التزايد بزيادة خدمته له وبذل ما له وتغير حاله إلى غير ذلك من القرائن حتى يحصل العلم بحبه له كما في تزايد الظن بأخبار الآحاد حتى يصير تواتراً وكذلك علمنا بخجل من هجن ووجل من خوف باحمرار هذا واصفرار هذا وبهذا الطريق نعلم عند ارتضاع الطفل وصول اللبن إلى جوفه بكثرة امتصاصه وازدراده وحركة حلقه مع كون المرأة شابة نفساء وبسكون الصبي بعد بكائه إلى غير ذلك من القرائن.
وإذا كانت القرائن المتضافرة بمجردها مفيدة للعلم فلا يبعد أن تقترن بالخبر المفيد للظن قرينة مفيدة للظن قائمة مقام اقتران خبر آخر به ثم لا يزال التزايد في الظن بزيادة اقتران القرائن إلى أن يحصل العلم كما في خبر التواتر.(1/123)
وإذا ثبت الجواز فبيان الوقوع أنه لو أخبر واحد أن ولد الملك قد مات واقترن بذلك علمنا بمرضه وأنه لا مريض في دار الملك سواه وما شاهدناه من الصراخ العالي في داره والنحيب الخارج عن العادة وخروج الجنازة محتفة بالخدم والجواري حاسرات مبرحات يلطمن خدودهن وينقضن شعورهن والملك ممزق الثوب حاسر الرأس يلطم وجهه وهو مضطرب البال مشوش الحال على خلاف ما كان من عادته من التزام الوقار والهيبة والمحافظة على أسباب المروءة فإن كل عاقل سمع ذلك الخبر وشاهد هذه القرائن يعلم صدق ذلك المخبر ويحصل له العلم بمخبره كما يعلم صدق خبر التواتر ووقوع مخبره.
وكذلك إذا أخبر واحد مع كمال عقله وحسه بحياة نفسه وكراهته للألم وهو في أرغد عيشة نافذ الأمر قائم الجاه أنه قتل من يكافئه عمداً عدواناً بآلة يقتل مثلها غالباً من غير شبهة له في قتله ولا مانع له من القصاص كان خبره مع هذه القرائن موجباً للعلم بصدقه عادة.
وكذلك إذا كان في جوار إنسان امرأة حامل وقد انتهت مدة حملها فسمع الطلق من وراء الجدار وضجة النسوان حول تلك الحامل ثم سمع صراخ الطفل وخرج نسوة يقلن إنها قد ولدت فإنه لا يستريب في ذلك ويحصل له العلم به قطعاً وإنكار ذلك مما يخرج المناظرة إلى المكابرة.
فإن قيل العلم الحاصل بموت ولد الملك في الصورة المفروضة إما أن يكون حاصلاً من نفس الخبر أو من نفس القرائن أو من الخبر مشروطاً بالقرائن أو بالقرائن مشروطاً بالخبر الأول أو من الأمرين معاً لا جائز أن يكون من مجرد الخبر لما ذكرتموه أولاً ولا جائز أن يكون من الخبر مشروطاً بالقرائن ولا من القرائن بشرط الخبر ولا من الخبر والقرائن معاً لاستقلال تلك القرائن المذكورة بإفادة العلم بالموت سواء وجد الخبر أو لم يوجد فلم يبق إلا أن يكون حاصلاً من نفس القرائن ولا أثر للخبر.
ثم ما ذكرتموه معارض بما ذكرتموه من الحجج الدالة على امتناع وقوع العلم بخبر الواحد مجرداً عن القرائن فإنها متجهة بعينها هاهنا.
والجواب عن السؤال الأول أنه لا يمتنع أن يكون سبب ما وجد من القرائن موت غير ولد الملك فجأة فإذا انضم إليها الخبر بموت ذلك المريض بعينه كان اعتقاد موته آكد من اعتقاد موته مع القرائن دون الخبر وعن المعارضات أنها غير لازمة فيما نحن فيه.
أما الحجة الأولى فلأنا إذا فرضنا حصول العلم بخبر من احتفت بخبره القرائن فيمتنع تصور اقتران مثل تلك القرائن أو ما يقوم مقامها بالخبر المناقض له وإن كان نفس الخبر مناقضاً بخلاف ما إذا كان الخبر بمجرده مفيداً للعلم فإن ذلك غير مانع من خبر آخر مناقض له على ما هو معلوم في الشاهد.
وأما الحجة الثانية فلأن ما نجده من التزيد عند أخبار الآحاد إنما يكون فيما لم يحصل العلم فيه بخبر الأول والثاني وأما متى كان العلم قد حصل بخبر الأول فالتزيد من ذلك يكون ممتنعاً ولا كذلك فيما إذا أخبر واحد بخبر فإنا إذا جردنا النظر إلى خبره من غير قرينة وجدنا أنفسنا مما يزيد فيها الظن بما أخبر به باقتران خبر غيره بخبره.
وأما الحجة الثالثة فلأنا إذا قلنا إن خبر الواحد يفيد العلم بمخبره لزم تصديق مدعي النبوة في خبره ولا كذلك إذا قلنا إن الخبر لا يفيد العلم إلا بالقرائن فخبر الواحد بنبوته لا يكون مفيداً للعلم بصدقه دون اقتران القرائن بقوله والمعجزة من القرائن.
وأما الحجة الرابعة فغايتها أنها تدل على أنه لم يوجد خبر من أخبار الآحاد في الشرعيات موجباً للعلم بمجرده ولا يلزم منه انتفاء ذلك مطلقاً.
المسألة الثانية إذا أخبر واحد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر ولم ينكر عليه هل يعلم كونه صادقاً فيه؟(1/124)
منهم من قال بأن ذلك دليل العلم بصدقه فيما أخبر به فإنه لو كان كاذباً لأنكر النبي عليه السلام عليه وإلا كان مقراً له على الكذب مع كونه محرماً وذلك محال في حق النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير صحيح فإنه من الجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم غير سامع له بل هو ذاهل عنه وإن غلب على الظن السماع وعدم الغفلة وبتقدير أن يعلم سماعه له وعدم غفلته عنه فمن الجائز أن لا يكون فاهماً لما يقول وإن غلب على الظن فهمه له وبتقدير أن يكون فاهماً له فلا يخلو إما أن يكون ما أخبر به متعلقاً بالدين أو الدنيا فإن كان متعلقاً بالدين وقدر كونه كاذباً فيه فيحتمل أن يكون قد بينه له وعلم أن إنكاره عليه ثانياً غير منجع فيه فلم ير في الإنكار عليه فائدة ورأى المصلحة في إهماله إلى وقت آخر وبتقدير عدم ذلك كله احتمل أن يكون كذبه في ذلك صغيرة وعدم الإنكار عليه في ذلك غايته أن يكون صغيرة في حق النبي صلى الله عليه وسلم وانتفاء الصغائر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير مقطوع به على ما بيناه في كتبنا الكلامية.
هذا إن كان إخباره بأمر ديني وأما إن كان إخباره بأمر دنيوي فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم بكونه كاذباً فيما أخبر به وإن ظن علمه به وبتقدير أن يكون عالماً بكذبه فيحتمل أنه امتنع من الإنكار لمانع أو لعلمه بأنه لا فائدة في إنكاره وبتقدير عدم ذلك كله فيحتمل أن يكون ذلك من الصغائر والصغائر غير ممتنعة على الأنبياء كما علم وعلى هذا فعدم الإنكار لا يدل على صدقه قطعاً وإن دل عليه ظناً.
المسألة الثالثة إذا أخبر واحد بخبر عن أمر محس بين يدي جماعة عظيمة وسكتوا عن تكذيبه قال قوم: علم من ذلك صدقه لأنه يمتنع عادة أن لا يطلع واحد منهم على كذبه وبتقدير الاطلاع يمتنع عادة سكوت الجمع العظيم عن التكذيب مع اختلاف أمزجتهم وطباعهم واختلاف دواعيهم فحيث سكتوا عن التكذيب دل على صدقه وليس بحق لأنه من الجائز أن لا يكون لهم اطلاع على ما أخبر به ولا يعلمون كونه صادقاً ولا كاذباً ولا واحد منهم ولا العادة مما تحيل اطلاع بعض الناس على أمر لم يطلع عليه غيره وبتقدير أن يعلم واحد منهم أو اثنان كذبه فالعادة لا تحيل سكوت الواحد والاثنين عن تكذيبه وبتقدير أن يعلم الكل بكذبه فيحتمل أن مانعاً منعهم من تكذيبه ومع هذه الاحتمالات يمتنع القطع بتصديقه وإن كان صدقه مظنوناً.
المسألة الرابعة إذا روى واحد خبراً ورأينا الأمة مجمعة على العمل بمقتضاه قال جماعة من المعتزلة كأبي هاشم وأبي عبد الله البصري وغيرهما إن ذلك يدل على صدقه قطعاً وإلا كان عملهم بمقتضاه خطأ والأمة لا تجتمع على الخطأ وهو باطل وذلك لأنه من المحتمل أنهم لم يعملوا به بل بغيره من الأدلة أو بعضهم به وبعضهم بغيره وبتقدير عمل الكل به فلا يدل ذلك على صدقه قطعاً لأنه إذا كان مظنون الصدق فالأمة مكلفة بالعمل بموجبه وعملهم بموجبه مع تكليفهم بذلك لا يكون خطأ لأن خطأهم إنما يكون بتركهم لما كلفوا به أو العمل بما نهوا عنه ومع هذه الاحتمالات فصدقه لا يكون مقطوعاً وإن كان مظنوناً وعلى هذا لو روى واحد خبراً واتفق أهل الإجماع فيه على قولين فطائفة عملت بمقتضاه وطائفة اشتغلت بتأويله فلا يدل ذلك على صدقه قطعاً وذلك لأن الطائفة التي عملت بمقتضاه لعلها لم تعمل به بل بغيره كما سبق وبتقدير أن تكون عاملة به فاتفاقهم على قبوله لا يوجب كونه صادقاً قطعاً لما ذكرناه من تكليفهم باتباع الظني.
المسألة الخامسة(1/125)
اختلفوا فيما لو وجد شيء بمشهد من الخلق الكثير لتوفرت الدواعي على نقله إذا انفرد الواحد بروايته عن باقي الخلق كما إذا أخبر بأن الخليفة ببغداد قتل في وسط الجامع يوم الجمعة بمشهد من الخلق ولم يخبر بذلك أحد سواه فذهب الكل إلى أن ذلك يدل على كذبه خلافاً للشيعة وهو الحق وذلك لأن الله تعالى قد ركز في طباع الخلق من توفير الدواعي على نقل ما علموه والتحدث بما عرفوه حتى إن العادة لتحيل كتمان ما لا يؤبه له مما جرى من صغار الأمور على الجمع القليل فكيف على الجمع الكثير فيما هو من عظائم الأمور ومهماتها والنفوس مشرئبة إلى معرفته وفي نقله صلاح للخلق بل السكوت عن نقل ذلك وإشاعته في إحالة العادة له أشد من إحالة العادة لسكوتهم وتواطيهم على عدم نقل وجود مكة وبغداد فلو جاز كتمان ذلك لجاز أن يوجد مثل مصر وبغداد ولم يخبر أحد عنهما وذلك محال عادة وبمثل هذا عرفنا كذب من ادعى معارضة القرآن والتنصيص على إمام بعينه من حيث إنه لو وجد ذلك لشاع وتوفرت الدواعي على نقله.
فإن قيل: العادة إنما تحيل اتفاق الجمع الكثير على كتمان ما جرى بمشهد منهم من الأمور العظيمة إذا لم يتحقق الداعي إلى الكتمان معارضا لداعي الإظهار ولا بعد في ذلك إما لغرض واحد يعم الكل نظراً إلى مصلحة تتعلق بالكل في أمر الولاية وإصلاح المعيشة أو خوف ورهبة من عدو غالب وملك قاهر أو لأغراض متعددة كل غرض لواحد ويدل على ذلك الوقوع وهو أن النصارى مع كثرتهم كثرة تخرج عن الحصر لم ينقلوا كلام المسيح في المهد مع أنه من أعجب حادث حدث في الأرض ومن أعظم ما تتوفر الدواعي على نقله وإشاعته ونقلوا ما دون ذلك من معجزاته وأيضاً فإن الناس نقلوا أعلام الرسل ولم ينقلوا أعلام شعيب وغيره من الرسل وأيضاً فإن آحاد المسلمين قد انفردوا بنقل ما تتوفر الدواعي على نقله مع شيوعه فيما بين الصحابة والجمع الكثير كنقل ما عدا القرآن من معجزاته كانشقاق القمر وتسبيح الحصا في يده ونبع الماء من بين أصابعه وحنين الجذع إليه وتسليم الغزالة عليه وكدخول مكة عنوة أو صلحاً وتثنية الإقامة وإفرادها وإفراده في الحج وقرانه ونكاحه لميمونة وهو حرام وقبوله لشهادة الأعرابي وحده في هلال رمضان ورفع اليدين في الصلاة والجهر بالتسمية إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى.
قلنا: قد بينا أن العادة تحيل اتفاق الجمع الكثير على كتمان ما يجري بينهم من الوقائع العظيمة.
قولهم ذلك إنما يصح أن لو لم يوجد الداعي إلى الكتمان قلنا: والكلام فيه وذلك أن العادة أيضاً تحيل اشتراك الخلق الكثير في الداعي إلى الكتمان كما يستحيل اشتراكهم في الداعي إلى الكذب وإلى أكل طعام واحد في يوم واحد وما ذكروه من صور الاستشهاد.
أما كلام عيسى في المهد فإنما تولى نقله الآحاد لأنه لم يتكلم إلا بحضرة نفر يسير حيث لم يكن أمره قد ظهر ولا شأنه قد اشتهر ولا عرف برسالة ولا نبوة وذلك بخلاف إحياء الميت وإبراء الأكمه والأبرص فإنه كان وقت اشتهاره ودعواه الرسالة مستدلاً بذلك على صدقه وتطلع الناس إليه وامتداد الأعين إلى ما يدعيه فلذلك لم يقع اتفاقهم على كتمانه.
وأما أعلام شعيب وغيره من الأنبياء فإنما لم ينقل لأنهم لم يدعوا الرسالة حتى يستدلوا عليها بالمعجزات ولا كان لهم شريعة انفردوا بها بل كانوا يدعون إلى شريعة من قبلهم من الرسل كدعوى غيرهم من الأئمة وآحاد العلماء.
وأما نقل باقي معجزات الرسول غير القرآن فإنما تولاه الآحاد لأنه لم يوجد شيء من ذلك بمشهد من الخلق العظيم بل إنما جرى ما جرى منهم بحضور طائفة يسيرة ولا سيما انشقاق القمر فإنه كان من الآيات الليلية وقعت والناس بين نائم وغافل في لمح البصر ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعاهم إلى رؤيته ولا نبههم على ذلك سوى من رآه من النفر اليسير ولهذا فإنه كم من أمر مهول يقع في الليل من زلزلة أو صاعقة أو ريح عاصف أو انقضاض شهاب عظيم ولا يشعر به سوى الآحاد وهذا بخلاف القرآن فإنه كان صلى الله عليه وسلم يردده بين الخلق في جميع عمره فلم يبق أحد من الجمع العظيم في زمانه إلا وقد علمه وشاهده فلذلك استحال تواطؤهم على عدم نقله.(1/126)
وأما دخول مكة فقد نقله الجمع الكثير وهو مستفيض مشهور أنه دخلها عنوة متسلحاً بالألوية والأعلام على سبيل القهر والغلبة مع بذل الأمان لمن ألقى سلاحه واعتصم بالكعبة ودار أبي سفيان وإنما خالف بعض الفقهاء لما اشتبه عليه ذلك بأداء دية من قتله خالد بن الوليد ولا يبعد ظن ذلك من الآحاد.
وأما تثنية الإقامة وإفرادها فإنما اختلفوا فيه لاحتمال أن المؤذن كان يفرد تارة ويثني أخرى فنقل كل بعض ما سمعه وأهمل الباقي لعلمه بأنه من الفروع المتسامح فيها وهو الجواب عن الجهر بالتسمية ورفع اليدين في الصلاة.
وأما إفراد النبي وقرانه في الحج فإنما نقله الآحاد لأن ذلك مما يتعلق بالنية وليس ذلك مما يجب ظهوره ومناداة النبي صلى الله عليه وسلم به.
وأما نكاحه ميمونة وهو حرام فليس ذلك أيضاً مما يجب إظهاره بل جاز أن يكون قد وقع ذلك بمحضر جماعة يسيرة فلذلك انفرد به الآحاد وهو الجواب عن قبول شهادة الأعرابي وحده.
المسألة السادسة مذهب الأكثرين جواز التعبد بخبر الواحد العدل عقلاً خلافاً للجبائي وجماعة من المتكلمين ودليل جوازه عقلاً أنا لو فرضنا ورود الشارع بالتعبد بالعمل بخبر الواحد إذا غلب على الظن صدقه لم يلزم عنه لذاته محال في العقل ولا معنى للجائز العقلي سوى ذلك وغاية ما يقدر في اتباعه احتمال كونه كاذباً أو مخطئاً وذلك لا يمنع من التعبد به بدليل اتفاقنا على التعبد بالعمل بقول المفتي والعمل بقول الشاهدين مع احتمال الكذب والخطأ على المفتي والشاهد فيما أخبرا به.
فإن قيل: وإن سلمنا أنه لو ورد الشرع بذلك لم يلزم عنه لذاته محال وأنه ليس محالاً لذاته عقلاً لكنه محال عقلاً باعتبار أمر خارج عن ذاته وذلك لأن التكاليف مبنية على المصالح ودفع المفاسد فلو تعبدنا باتباع خبر الواحد والعمل به فإذا أخبر بخبر عن رسول الله بسفك دم واستحلال بضع محرم مع احتمال كونه كاذباً فلا يكون في العمل بمقتضى قوله مصلحة بل محض مفسدة وهو خلاف وضع الشرع ولهذا امتنع ورود التعبد بالعمل بخبر الفاسق والصبي فيما يتعلق بالأحكام الشرعية إجماعاً وأما ما ذكرتموه من التعبد بالعمل بقول الشاهدين فالفرق بين الشهادة والخبر من ثلاثة أوجه: الأول أن الشهادة إنما تقبل فيما يجوز فيه الصلح ولا كذلك الخبر عن الله تعالى والرسول فكانت المفسدة في الشهادة أبعد.
الثاني أن الخبر يقتضي إثبات شرع بخلاف الشهادة.
الثالث هو أن الحكم عند الشهادة إنما يثبت بدليل قاطع وهو الإجماع والشهادة شرط لا مثبت بخلاف خبر الواحد فإنه عندكم دليل مثبت للحكم الشرعي.
ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على جواز التعبد بخبر الواحد إلا أنه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من جهة المنقول والمعقول.
أما المنقول فقوله تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم " " الإسراء 36 " وقوله تعالى: " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " " البقرة 169 " وقوله تعالى: " وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً " " يونس 36 " وأما المعقول فمن أربعة أوجه: الأول أنه لو جاز ورود التعبد بقبول خبر الواحد في الأحكام الشرعية عن الرسول عند ظننا بصدقه لاحتمال كونه مصلحة لجاز ورود التعبد بقبول خبر الواحد عن الله تعالى بالأحكام الشرعية وذلك دون اقتران المعجزة بقوله محال.
الثاني أنه لو جاز ورود التعبد بخبر الواحد في الفروع لجاز ورود التعبد به في الأصول وليس كذلك.
الثالث أنه لو جاز التعبد بقبول خبر الواحد لجاز التعبد به في نقل القرآن وهو محال.
الرابع أن أخبار الآحاد قد تتعارض فلو ورد التعبد بالعمل بها لكان وارداً بالعمل بما لا يكن العمل به ضرورة التعارض وهو ممتنع على الشارع.
والجواب عن السؤال الأول من وجهين: الأول أنه مبني على وجوب رعاية المصالح في أحكام الشرع وأفعاله وهو غير مسلم على ما عرفناه في الكلاميات الثاني أن ما ذكروه منتقض بورود التعبد بقبول شهادة الشهود وقول المفتي وما ذكروه من الفروق فباطلة.
أما الفرق الأول فمن وجهين: الأول أنه لا يطرد في الأخبار المتعلقة بأنواع المعاملات الثاني أنه ينتقض بالشهادة فيما لا يجري فيه الصلح كالدماء والفروج.
وأما الفرق الثاني فمن جهة أن الخبر كما يستلزم إثبات أمر شرعي كالشهادة على القتل والسرقة وغير ذلك يستلزم إثبات أمر شرعي وهو وجوب القتل والقطع.(1/127)
وأما الثالث فمن جهة أنه لا فرق بين الخبر والشهادة من حيث إنه لا بد عند الشهادة من دليل يوجب العمل بها كما في العمل بالخبر.
وأما المعارضة بالآيات فجوابها من وجهين: الأول أنا نقول بموجبها وذلك أن العمل بخبر الواحد ووجوب اتباعه إنما هو بدليل مقطوع به مفيد للعلم بذلك وهو الإجماع الثاني أنه لازم على الخصوم في اعتقادهم امتناع التعبد بخبر الواحد إذ هو غير معلوم بدليل قاطع بل غايته أن يكون مظنوناً لهم فالآيات مشتركة الدلالة فكما تدل على امتناع اتباع خبر الواحد تدل على امتناع القول بعدم اتباعه وإذا تعارضت جهات الدلالة فيها امتنع العمل بها وسلم لنا ما ذكرناه وعلى هذا نقول بجواز ورود التعبد بقبول خبر الفاسق والصبي عقلاً إذا غلب على الظن صدقه وإن كان ذلك غير واقع.
وما ذكروه من المعارضات العقلية فجوابها من وجهين: أحدهما عام للكل والثاني خاص بكل واحد منها.
أما العام فهو أن ما ذكروه إلزاماً علينا في خبر الواحد فهو لازم عليهم في ورود التعبد بقبول قول الشاهدين والمفتي فما هو جوابهم عنه يكون جواباً لنا في خبر الواحد.
وأما ما يخص كل معارضة: أما الأولى فالجواب عنها من وجهين: الأول هو أن دعوى الواحد للرسالة ونزول الوحي إليه من أندر الأشياء فإذا لم يقترن بدعواه ما يوجب القطع بصدقه فلا يتصور حصول الظن بصدقه بل الذي يجزم به إنما هو كذبه ونحن وإن قلنا بجواز ورود التعبد بخبر من يغلب على الظن صدقه فقد لا نسلم جواز ورود التعبد بقول من غلب على الظن كذبه الثاني هو أنا إذا جوزنا ورود التعبد بخبر الواحد فوجوب العمل به لا بد وأن يستند إلى دليل قاطع من كتاب أو سنة أو إجماع ولا كذلك المدعي للرسالة إذا لم تقترن بقوله معجزة تدل على وجوب العمل بقوله.
فإن قيل فلو بعث رسول وظهرت المعجزة القاطعة الدالة على صدقه ثم قال مهما أخبركم إنسان بأن الله تعالى أرسله بشريعة وظننتم صدقه فاعملوا بقوله فقد استند وجوب العمل بقوله إلى دليل قاطع وهو قول النبي الصادق ومع ذلك فإنه لا يجوز.
قلنا: لا نسلم مع فرض هذا التقدير أنه لا يجوز الأخذ بقوله ثم الفرق بين الأمرين هو أن المفسدة اللازمة من قبول قول المدعي للرسالة من غير معجزة أعظم من مفسدة قبول خبر الواحد في الأحكام الشرعية وذلك لأن رئاسة النبوة أعظم من كل رئاسة ورتبتها أعلى من كل رتبة فلو ورد التعبد باتباع كل مدع للرسالة إذا غلب على الظن صدقه من غير معجزة دالة على صدقه فما من أحد من الناس إلا وقد يسلك المسالك المغلبة على الظن صدقه ويتوخى من الأفعال والأقوال ما تظهر به عدالته طمعا في نيل مثل هذه الرئاسة العظمى بمجرد دعواه وذلك يفضي إلى أن كل واحد يدعي نسخ شريعة الآخر ورفعها على قرب من الزمان ولا يخفى ما في ذلك من المفسدة التي لا تحقق لمثلها في خبر الواحد.
وأما المعارضة الثانية فجوابها أن المعتبر في الأصول القطع واليقين ولا قطع في خبر الواحد بخلاف الفروع فإنها مبنية على الظنون.
وأما المعارضة الثالثة فجوابها أن القرآن معجزة الرسول الدالة على صدقه ولا بد وأن يكون طريق إثباته قاطعاً وخبر الواحد ليس بقاطع بخلاف أحكام الشرع فإن ما يثبت منها بخبر الواحد ظنية غير قطعية.
وأما المعارضة الرابعة فجوابها أن التعارض بين الخبرين لا يمنع من العمل بما يرجح منها وبتقدير عدم الترجيح مطلقاً فقد يمكن أن يقال التخيير بينهما على ما هو مذهب الشافعي وبتقدير امتناع التخيير فغايته امتناع ورود التعبد بمثل الأخبار التي لا يمكن العمل بها ولا يلزم منه امتناع ورود التعبد بما أمكن العمل بمقتضاه.
المسألة السابعة الذين قالوا بجواز التعبد بخبر الواحد عقلاً اختلفوا في وجوب العمل به: فمنهم من نفاه كالقاساني والرافضة وابن داود ومنهم من أثبته.
والقائلون بثبوته اتفقوا على أن أدلة السمع دلت عليه واختلفوا في وجوب وقوعه بدليل العقل: فأثبته أحمد بن حنبل والقفال وابن سريج من أصحاب الشافعي وأبو الحسين البصري من المعتزلة وجماعة كثيرة ونفاه الباقون وفصل أبو عبد الله البصري بين الخبر الدال على ما يسقط بالشبهة وما لا يسقط بها فمنع منه في الأول وجوزه في الثاني.(1/128)
فأما من قال بكونه حجة فقد احتجوا بحجج ضعيفة لا بد من ذكرها والتنبيه على ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
الحجة الأولى: من جهة المعقول وهي ما اعتمد عليها أبو الحسين البصري وجماعة من المعتزلة وهي أنهم قالوا: العقلاء يعلمون وجوب العلم بخبر الواحد في العقليات ولا يجوز أن يعلموا وجوب ذلك إلا وقد علموا علة وجوبه ولا علة لذلك سوى أنهم ظنوا بخبر الواحد تفصيل جملة معلومة بالعقل وبيان ذلك أنه قد علم بالعقل وجوب التحرز من المضار وحسن اجتلاب المنافع فإذا ظننا صدق من أخبرنا بمضرة يلزمنا أن لا نشرب الدواء الفلاني وأن لا نفصد وأن لا نقوم من تحت حائط مستهدم فقد ظننا تفصيلا لما علمناه جملة من وجوب التحرز عن المضار.
وبيان أن العلة للوجوب ما ذكره دورانها معها وجوداً وعدماً وذلك بعينه موجود في خبر الواحد في الشرعيات فوجب العمل به وذلك لأنا قد علمنا في الجملة وجوب الانقياد للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يخبرنا به من مصالحنا ودفع المضار عنا فإذا ظننا بخبر الواحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعانا إلى الانقياد له في فعل أخبر أنه مصلحة وخلافه مضرة فقد ظننا تفصيل ما علمناه في الجملة فوجب العمل به.
ولقائل أن يقول: أما أولاً: فلا نسلم وجوب العمل بخبر الواحد في العقليات بل غايته إذا ظننا صدقه أن يكون العمل بخبره أولى من تركه وكون الفعل أولى من الترك أمر أعم من الواجب لشموله للمندوب فلا يلزم منه الوجوب سلمنا أن العمل بخبره واجب في العقليات ولكن لا نسلم أن علة الوجوب ما ذكرتموه وما ذكرتموه من الدوران فلا يدل على أن المدار علة للدائر لجواز أن تكون علة الوجوب غير ما ذكرتموه من ظن تفصيل جملة معلومة بالعقل وذلك بأن تكون العلة معنى ملازماً لما ذكرتموه لا نفس ما ذكرتموه ولا يلزم من التلازم بينهما في العقليات التلازم بينهما في الشرعيات بجواز أن يكون ذلك التلازم في العقليات اتفاقياً وإن سلمنا أن علة الوجوب ما ذكرتموه لكن لا يلزم أن يكون ذلك علة في الشرعيات لجواز أن يكون خصوص ما ظن تفصيل جملته في العقليات داخلاً في التعليل وتلك الخصوصية غير محققة في الشرعيات سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أنه علة بجهة عمومه لكن قطعاً أو ظناً الأول ممنوع والثاني مسلم غير أنه منقوض بخبر الفاسق والصبي إذا غلب على الظن صدقه فإن ما ذكرتموه من الوصف الجامع متحقق فيه وقد انعقد الإجماع على أنه لا يجب العمل به في الشرعيات سلمنا عدم الانتقاض لكن غاية ما ذكرتموه أنه استعمال لقياس ظني في إفادة كون خبر الواحد حجة في الشرعيات مع كونه أصلاً من أصول الفقه وإنما يصح ذلك أن لو لم يكن التعبد في إثبات مثل ذلك بالطرق اليقينية وهو غير مسلم.
الحجة الثانية أنهم قالوا: صدق الواحد في خبره ممكن فلو لم يعمل به لكنا تاركين لأمر الله تعالى وأمر رسوله وهو خلاف ما يقتضيه الاحتياط.
ولقائل أن يقول: صدق الراوي وإن كان ممكناً وراجحاً فلم قلتم بوجوب العمل به والاحتياط بالأخذ بقوله وإن كان مناسباً ولكن لا بد له من شاهد بالاعتبار ولا شاهد له سوى خبر التواتر وقول الواحد في الفتوى والشهادة ولا يمكن القياس على الأول لأن ذلك مفيد للعلم ولا يلزم من إفادته للوجوب إفادة الخبر الظني له ولا يمكن قياسه على الثاني وذلك لأن براءة الذمة معلومة وهي الأصل وغاية قول الشاهد والمفتي إذا غلب على الظن صدقه مخالفة البراءة الأصلية بالنظر إلى شخص واحد ولا يلزم من العمل بخبر الشاهد والمفتي مع مخالفته للبراءة الأصلية بالنظر إلى شخص واحد العمل بخبر الواحد المخالف لبراءة الذمة بالنظر إلى جميع الناس وإن سلمنا صحة القياس فغايته أنه مفيد لظن الإلحاق وهو غير معتبر في إثبات الأصول كما تقدم في الحجة التي قبلها كيف وأنه منقوض بخبر الفاسق والصبي إذا غلب على الظن صدقه.
الحجة الثالثة: أنهم قالوا إذا وقعت واقعة ولم يجد المفتي سوى خبر الواحد فلو لم يحكم به لتعطلت الواقعة عن حكم الشارع وذلك ممتنع.(1/129)
ولقائل أن يقول: خلو الواقعة عن الحكم الشرعي إنما يمتنع مع وجود دليله وأما مع عدم الدليل فلا ولهذا فإنه لو لم يظفر المفتي في الواقعة بدليل ولا خبر الواحد فإنه لا يمتنع خلو الواقعة عن الحكم الشرعي والمصير إلى البراءة الأصلية وعلى هذا فامتناع خلو الواقعة عن الحكم الشرعي عند الظفر بخبر الواحد يتوقف على كون خبر الواحد حجة ودليلاً وكونه حجة يتوقف على امتناع خلو الواقعة مع وجوده عن الحكم وهو دور ممتنع كيف وإنا لا نسلم خلو الواقعة عن الحكم الشرعي فإن حكم الله تعالى في حق المكلف عند عدم الأدلة المقتضية لإثبات الحكم الشرعي نفى ذلك الحكم ومدركه شرعي فإن انتفاء مدارك الشرع بعد ورود الشرع مدرك شرعي لنفي الحكم.
الحجة الرابعة: أنه لو لم يكن خبر الواحد واجب القبول لتعذر تحقيق بعثة الرسول إلى كل أهل عصره وذلك ممتنع وبيان ذلك أنه لا طريق إلى تعريف أهل عصره إلا بالمشافهة أو الرسل ولا سبيل له إلى المشافهة للكل لتعذره والرسالة منحصرة في عدد التواتر والآحاد والتواتر إلى كل أحد متعذر فلو لم يكن خبر الواحد مقبولاً لما تحقق معنى التبليغ والرسالة إلى جميع الخلق فيما أرسل به وهو محال مخالف لقوله تعالى: " لتبين للناس ما نزل إليهم " " النحل 44 " .
ولقائل أن يقول: إنما يمتنع ذلك أن لو كان التبليغ إلى كل من في عصره واجباً وأن كل من في عصره مكلف بما بعث به وليس كذلك بل إنما هو مكلف بالتبليغ إلى من يقدر على إبلاغه إما بالمشافهة أو بخبر التواتر وكذلك كل واحد من الأمة إنما كلف بما أرسل به الرسول إذا علمه وإما مع عدم علمه به فلا ولهذا فإن من كان في زمن الرسول في البلاد النائية والجزائر المنقطعة ولا سبيل إلى إعلامه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مكلفاً بتبليغه ولا ذلك الشخص كان مكلفاً بما أرسل به.
الحجة الخامسة: قالوا قد ثبت أن مخالفة أمر الرسول سبب لاستحقاق العقاب فإذا أخبر الواحد بذلك عن الرسول وغلب على الظن صدقه فإما أن يجب العمل بالاحتمال الراجح والمرجوح معاً أو تركهما معاً أو العمل بالمرجوح دون الراجح أو بالعكس: لا سبيل إلى الأول والثاني والثالث لأنه محال فلم يبق سوى الرابع وهو المطلوب.
ولقائل أن يقول: ما المانع من القول بأنه لا يجب العمل بقوله ولا يجب تركه بل هو جائز الترك؟ والقول بأن مخالفة أمر الرسول موجبة لاستحقاق العقاب مسلم فيما علم فيه أمر الرسول وأما مع عدم العلم به فهو محل النزاع هذا ما قيل من الحجج العقلية.
وأما ما قيل من الحجج النقلية الواهية فمنها قوله تعالى: " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " " التوبة 122 " ووجه الاحتجاج بها أن الله تعالى أوجب الإنذار على كل طائفة من فرقة خرجت للتفقه في الدين عند رجوعهم إلى قومهم بقوله تعالى: " ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم " " التوبة 122 " أمر بالإنذار والإنذار هو الإخبار والأمر للوجوب وإنما أمر بالإنذار طلباً للحذر بدليل قوله تعالى: " لعلهم يحذرون " " التوبة 122 " ولعل ظاهرة في الترجي وهو مستحيل في حق الله تعالى فتعين حمل ذلك على ما هو ملازم للترجي وهو الطلب فكان الأمر بالإنذار طلباً للتحذير فكان أمراً بالتحذير فكان الحذر واجباً وإذا ثبت أن إخبار كل طائفة موجب للحذر فالمراد من لفظ الطائفة إنما هو العدد الذي لا ينتهي إلى حد التواتر وبيانه من ثلاثة أوجه: الأول أن لفظ الطائفة قد يطلق على عدد لا ينتهي إلى حد التواتر كالاثنين والثلاثة وعلى العدد المنتهي إلى حد التواتر والأصل في الإطلاق الحقيقة ويجب اعتقاد اتحاد المسمى نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ والقدر المشترك لا يخرج عن العدد القليل وما لازمه فكان هو المسمى.
الثاني أن الثلاثة فرقة فالطائفة الخارجة منها إما واحد أو اثنان.(1/130)
الثالث أنه لا يخلو إما أن يكون المراد من لفظ الطائفة التي وجب عليها الخروج للتفقه والإنذار العدد الذي ينتهي إلى حد التواتر أو ما دونه لا جائز أن يقال بالأول وإلا لوجب على كل طائفة وأهل بلدة إذا كان ما دونهم لا ينتهون إلى حد التواتر أن يخرجوا بأجمعهم للتفقه والإنذار وذلك لا قائل به في عصر النبي ولا في عصر من بعده فلم يبق غير الثاني وإذا ثبت أن إخبار العدد الذي لا ينتهي إلى حد التواتر حجة موجبة في هذه الصورة لزم أن يكون حجة في غيرها ضرورة أن لا قائل بالفرق وذلك هو المطلوب ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه أوجب الإنذار على كل طائفة كما ذكرتموه وصيغة قوله لينذروا لا نسلم أنها للأمر وإن كانت للأمر فلا نسلم للوجوب على ما يأتي سلمنا أنها للوجوب ولكن لا نسلم أن الإنذار هو الإخبار بل أمكن أن يكون المراد به التخويف من فعل شيء أو تركه بناء على العلم بما فيه من المصلحة أو المفسدة والتخويف خارج عن الإخبار سلمنا أن المراد به الإخبار ولكن أمكن أن يكون ذلك بطريق الفتوى في الفروع والأصول ونحن نقول به سلمنا أن المراد به الإخبار عن الرسول بما سمع عنه ومنه ولكن لا نسلم أنه يلزم من إيجاب الإخبار بذلك إيجاب الحذر على من أخبر.
قولكم يجب حمل قوله تعالى " لعل " على طلب الحذر لكونه ملازماً للترجي قلنا: الطلب الملازم للترجي الطلب الذي هو بمعنى ميل النفس أو بمعنى الأمر الأول مسلم ولكنه مستحيل في حق الله تعالى والثاني ممنوع وإذا لم يكن الحذر مأموراً به لا يكون واجباً ومع تطرق هذه الاحتمالات فالاستدلال بالآية على كون خبر الواحد حجة في الشرعيات غير خارج عن باب الظنون فيما هو من جملة الأصول والخصم مانع لصحته.
ومنها قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " " الحجرات 6 " ووجه الاحتجاج بهذه الآية من وجهين: الأول أنه علق وجوب التثبت على خبر الفاسق فدل على أن خبر غير الفاسق بخلافه وذلك إما أن يكون بالجزم برده أو بقبوله لا جائز أن يقال الأول وإلا كان خبر العدل أنزل درجة من خبر الفاسق وهو محال فلم يبق غير الثاني وهو المطلوب الثاني أن سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط ساعياً إلى قوم فعاد وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذين بعثه إليهم قد ارتدوا وأرادوا قتله فأجمع النبي صلى الله عليه وسلم على غزوهم وقتلهم وذلك حكم شرعي وكان النبي قد أراد العمل فيه بخبر الواحد ولو لم يكن جائزاً لما أراده ولا نكره الله تعالى عليه.
وهذه الحجة أيضاً ضعيفة: أما الوجه الأول فلأن الاستدلال بهذه الآية غير خارج عن مفهوم المخالفة وسنبين أنه ليس بحجة وإن كان حجة لكنه حجة ظنية فلا يصح الاستدلال به في باب الأصول.
وأما الوجه الثاني فمن وجهين الأول لا نسلم أن النبي أجمع على قتلهم وقتالهم بخبر الوليد بن عقبة فإنه قد روي أنه بعث خالد بن الوليد وأمره بالتثبت في أمرهم فانطلق حتى أتاهم ليلاً فبعث عيونه فعادوا إليه وأخبروه بأنهم على الإسلام وأنهم سمعوا أذانهم وصلاتهم فلما أصبحوا أتاهم خالد بن الوليد ورأى ما يعجبه منهم فرجع إلى النبي وأخبره بذلك.
الثاني أن ما ذكروه من سبب النزول من أخبار الآحاد فلا يكون حجة في الأصول ومنها قوله تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس " " البقرة 143 " ووجه الحجة من ذلك أن المخبر بخبر لنا عن الرسول شاهد على الناس ولا يجوز أن يجعله الله شاهداً على الناس وهو غير مقبول القول.
ولقائل أن يقول: الآية خطاب مع الأمة لا مع الآحاد فلا تكون حجة في محل النزاع ومنها قوله تعالى: " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى " " البقرة 159 " الآية ووجه الحجة بها أن الله تعالى توعد على كتمان الهدى وذلك يدل على إيجاب إظهار الهدى وما يسمعه الواحد من النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الهدى فيجب عليه إظهاره فلو لم يجب علينا قبوله لكان الإظهار كعدمه فلا يجب.(1/131)
ولقائل أن يقول: يحتمل أن يكون المراد من قوله: " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى " " البقرة 159 " العدد الذي تقوم به الحجة ويحتمل أنه أراد به ما دون ذلك وبتقدير إرادة ما دون ذلك فيحتمل أن يكون المراد بما أنزل من البينات والهدى الكتاب العزيز وهو الظاهر المتبادر إلى الفهم منه عند الإطلاق وبتقدير أن يكون المراد به كل ما أنزل على الرسول حتى السنة فغاية التهديد على كتمان ذلك الدلالة على وجوب إظهار ما سمع من الرسول على من سمعه وليس في ذلك ما يدل على وجوب قبوله على من بلغه على لسان الآحاد ولهذا فإنه بمقتضى الآية يجب على الفاسق إظهار ما سمعه وإن كان لا يجب على سامعه قبوله وذلك لأنه من المحتمل أن يكون وجوب الإظهار على كل واحد واحد حتى يتألف من خبر المجموع التواتر المفيد للعلم ومع ذلك كله فدلالة الآية على وجوب قبول خبر الواحد ظنية فلا تكون حجة في الأصول لما سبق.
ومنها قوله تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " " النحل 43 " أمر بسؤال أهل الذكر والأمر للوجوب ولم يفرق بين المجتهد وغيره وسؤال المجتهد لغيره منحصر في طلب الأخبار بما سمعه دون الفتوى ولو لم يكن القبول واجباً لما كان السؤال واجباً.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أن قوله " فاسألوا " صيغة أمر وإن كانت أمرا فلا نسلم أنها للوجوب كما يأتي وإن كانت للوجوب فيحتمل أن يكون المراد من أهل الذكر أهل العلم وأن يكون المراد من المسؤول عنه الفتوى وبتقدير أن يكون المراد السؤال عن الخبر فيحتمل أن يكون المراد من السؤال العلم بالمخبر عنه وهو الظاهر وذلك لأنه أوجب السؤال عند عدم العلم فلو لم يكن المطلوب حصول العلم بالسؤال لكان السؤال واجباً بعد حصول خبر الواحد لعدم حصول العلم بخبره فإنه لا يفيد غير الظن وذلك يدل على أن العمل بخبر الواحد غير واجب لأنه لا قائل بوجوب العمل بخبره مع وجوب السؤال عن غيره وإذا كان المطلوب إنما هو حصول العلم من السؤال فذلك إنما يتم بخبر التواتر لا بما دونه وإن سلمنا أن السؤال واجب على الإطلاق فلا يلزم أن يكون العمل بخبر الواحد واجباً بدليل ما ذكرناه في الحجة المتقدمة وبتقدير دلالة ذلك على وجوب القبول لكنها دلالة ظنية فلا يحتج بها في الأصول.
ومنها قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " " النساء 135 " أمر بالقيام بالقسط والشهادة لله والأمر للوجوب ومن أخبر عن الرسول بما سمعه منه فقد قام بالقسط وشهد لله فكان ذلك واجباً عليه وإنما يكون ذلك واجباً إن لو كان القبول واجباً وإلا كان وجود الشهادة كعدمها وهو ممتنع.
ولقائل أن يقول: لا أسلم دلالة الآية على وجوب القيام بالقسط والشهادة لله على ما يأتي وإن سلمنا دلالتها على وجوب ذلك غير أنا نقول بموجب الآية فإن الشهادة لله والقيام بالقسط إنما يكون فيما يجوز العمل به وأما ما لا يجوز العمل به فلا يكون قياماً بالقسط ولا شهادة لله وعند ذلك فيتوقف العمل بالآية في وجوب قبول خبر الواحد على أنه قام بالقسط وأنه شاهد لله وقيامه بالقسط وشهادته لله متوقف عل قبول خبره وجواز العمل به وهو دور ممتنع وإن سلمنا أنه شهد لله وقام بالقسط ولكن لا نسلم أنه واجب القبول ودليله ما سبق وبتقدير دلالة الآية على وجوب القبول ولكن لجهة الظن فلا يصح.
ومنها ما اشتهر واستفاض بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينفذ آحاد الصحابة إلى النواحي والقبائل والبلاد بالدعاء إلى الإسلام وتبليغ الأخبار والأحكام وفصل الخصومات وقبض الزكوات ونحو ذلك مع علمنا بتكليف المبعوث إليه بالطاعة والانقياد لقبول قول المبعوث إليهم والعمل بمقتضى ما يقول مع كون المنفذ من الآحاد ولو لم يكن خبر الواحد حجة لما كان كذلك.(1/132)
ولقائل أن يقول: وإن سلمنا تنفيذ الآحاد بطريق الرسالة والقضاء وأخذ الزكوات والفتوى وتعليم الأحكام فلا نسلم وقوع تنفيذ الآحاد بالأخبار التي هي مدارك الأحكام الشرعية ليجتهدوا فيها وذلك محل النزاع سلمنا صحة التنفيذ بالأخبار الدالة على الأحكام الشرعية وتعريفهم إياها ولكن لا نسلم أن ذلك يدل على كون خبر الواحد في ذلك حجة بل جاز أن يكون ذلك لفائدة حصول العلم للمبعوث إليهم بما تواتر بضم خبر غير ذلك الواحد إليه ومع هذه الاحتمالات فلا يثبت كون خبر الواحد حجة فيما نحن فيه.
وقد أورد على هذه الحجة سؤالان آخران لا وجه لهما الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم كما أنه كان ينفذ الآحاد لتبليغ الأخبار كان ينفذهم لتعريف وحدانية الله تعالى وتعريف الرسالة فلو كان خبر الواحد حجة في الإخبار بالأحكام الشرعية لكان حجة في تعريف التوحيد والرسالة وهو خلاف الإجماع.
الثاني أن من الجائز أن يكون تنفيذ الآحاد بالإخبار عن أحكام شرعية كانت معلومة للمبعوث لهم قبل إرسال ذلك الواحد بها كما أنهم علموا وجوب العمل بخبر الواحد قبل إرسال ذلك الواحد إليهم على أصلكم.
والجواب: عن الأول أن إنفاذ الآحاد لتعريف التوحيد والرسالة لم يكن واجب القبول لكونه خبر واحد بل إنما كان واجب القبول من جهة ما يخبرهم به من الأدلة العقلية ويعرفهم من الدلائل اليقينية التي تشهد بصحتها عقولهم ولا كذلك فيما يخبر به من الأخبار الدالة على الأحكام الشرعية.
وعن الثاني أنهم لو كانوا عالمين بالأحكام الشرعية التي دل عليها خبر الواحد لما احتيج إلى إرساله لتعريفهم لما قد عرفوه لما فيه من تحصيل الحاصل كيف وإن تعريف المعلوم بالخبر المظنون محال وهذا بخلاف ما إذا علم كون خبر الواحد مما يجب العمل به في الجملة فإن تنفيذ الواحد لا يعرف وجوب العمل بقوله بل إنما يعرف المخبر به على ما هو عليه وذلك لم يكن معروفاً قبل خبره فكان تنفيذه لتعريف ذلك مفيداً.
والأقرب في هذه المسألة إنما هو التمسك بإجماع الصحابة ويدل على ذلك ما نقل عن الصحابة من الوقائع المختلفة الخارجة عن العد والحصر المتفقة على العمل بخبر الواحد ووجوب العمل به فمن ذلك ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه عمل بخبر المغيرة ومحمد بن مسلمة في ميراث الجدة أن النبي أطعمها السدس فجعل لها السدس ومن ذلك عمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بخبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " وعمل أيضاً بخبر حمل ابن مالك في الجنين وهو قوله كنت بين جاريتين لي يعني ضرتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنيناً ميتاً فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة فقال عمر: لو لم نسمع بهذا لقضينا فيه بغير هذا وروي عنه أنه قال: كدنا نقضي فيه برأينا وأيضاً فإنه كان لا يرى توريث المرأة من دية زوجها فأخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته فرجع إليه وأيضاً فإنه كان يرى في الأصابع نصف الدية ويفاضل بينها فيجعل في الخنصر ستة وفي البنصر تسعة وفي الوسطى والسبابة عشرة عشرة وفي الأبهام خمسة عشرة ثم رجع إلى خبر عمرو بن جزم أن في كل إصبع عشرة.
ومن ذلك عمل عثمان وعلي رضي الله عنهما بخبر فريعة بنت مالك في اعتداد المتوفي عنها زوجها في منزل زوجها وهو أنها قالت: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة زوجي أستأذنه في موضع العدة فقال صلى الله عليه وسلم: امكثي حتى تنقضي عدتك.
ومن ذلك ما اشتهر من عمل علي عليه السلام بخبر الواحد وقوله: كنت إذا سمعت من رسول الله حديثاً نفعني الله بما شاء منه وإذا حدثني غيره حلفته فإذا حلف صدقته.
ومن ذلك عمل ابن عباس بخبر أبي سعيد الخدري في الربا في النقد بعد أن كان لا يحكم بالربا في غير النسيئة.
ومن ذلك عمل زيد بن ثابت بخبر امرأة من الأنصار أن الحائض تنفر بلا وداع ومن ذلك ما روي عن أنس بن مالك أنه قال: كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة وأبي بن كعب شراباً من فضيخ التمر إذ أتانا آت فقال: إن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها قال فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت.(1/133)
ومن ذلك عمل أهل قبا في التحول من القبلة بخبر الواحد أن القبلة قد نسخت فالتفتوا إلى الكعبة بخبره ومن ذلك ما روي عن ابن عباس أنه بلغه عن رجل أنه قال إن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل فقال ابن عباس: كذب عدو الله أخبرني أبي بن كعب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى بني إسرائيل صاحب الخضر فعمل بخبر أبي حتى كذب الرجل وسماه عدواً لله ومن ذلك ما روي أنه لما باع معاوية شيئاً من أواني ذهب وورق بأكثر من وزنه أنه قال له أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك فقال له معاوية: لا أرى بذلك بأساً فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أبداً ومن ذلك عمل جميع الصحابة بما رواه أبو بكر الصديق من قوله: الأئمة من قريش ومن قوله الأنبياء يدفنون حيث يموتون ومن قوله نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة وعملهم بأجمعهم في الرجوع عن سقوط فرض الغسل بالتقاء الختانين بقول عائشة فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلنا وعمل جميعهم بخبر رافع بن خديج في المخابرة وذلك ما روي عن ابن عمر أنه قال: كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأساً حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فانتهينا وإلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى عدداً وكان ذلك شائعاً ذائعاً فيما بينهم من غير نكير وعلى هذا جرت سنة التابعين كعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجبير بن مطعم ونافع ابن جبير وخارجة بن زيد وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار وطاوس وعطاء بن مجاهد وسعيد بن المسيب وفقهاء الحرمين والمصرين يعني الكوفة والبصرة إلى حين ظهور المخالفين.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الأخبار في إثبات كون خبر الواحد حجة أخبار آحاد وذلك يتوقف على كونها حجة وهو دور ممتنع سلمنا عدم الدور ولكن لا نسلم أن الصحابة عملوا بها بل من الجائز أنهم عملوا بنصوص متواترة أو بها مع ما اقترن بها من المقاييس أو قرائن الأحوال أو غير ذلك من الأسباب سلمنا أنهم عملوا بها لا غير لكن كل الصحابة أو بعضهم الأول ممنوع ولا سبيل إلى الدلالة عليه والثاني مسلم لكن لا حجة فيه.
قولكم لم يوجد له نكير لا نسلم ذلك وبيانه من وجوه منها رد أبي بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى انضم إليه خبر محمد بن مسلمة ومنها رد أبي بكر وعمر خبر عثمان في إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رد الحكم بن أبي العاص ومنها رد عمر خبر أبي موسى الأشعري في الاستيذان وهو قوله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا استأذن أحدكم على صاحبه ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف " حتى روى معه أبو سعيد الخدري ومنها رد علي رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعي في المفوضة وأنه كان لا يقبل خبر أحد حتى يحلفه سوى أبي بكر ومنها رد عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه.
سلمنا عدم الرد والإنكار ظاهراً غير أن سكوت الباقين عن الإنكار لا يدل على الموافقة لما سبق في مسائل الإجماع سلمنا دلالة ذلك على الموافقة فيما تلقوه بالقبول وعملوا بموجبه أو مطلقاً في كل خبر الأول مسلم وذلك لأن اتفاقهم عليه يدل على صحته قطعاً نفياً للخطأ عن الإجماع والثاني ممنوع وعلى هذا فيمتنع الاستدلال بكل خبر لم يقبلوه سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كون خبر الواحد حجة لكنه معارض بما يدل على أنه ليس بحجة وبيانه من جهة المعقول والمنقول: أما المنقول فمن جهة الكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم " " الإسراء 36 " وقوله تعالى: " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " " البقرة 169 " وقوله تعالى: " إن يتبعون إلا الظن " " النجم 28 " ذكر ذلك في معرض الذم والعمل بخبر الواحد عمل بغير علم وبالظن فكان ممتنعاً.
وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توقف في خبر ذي اليدين حين سلم النبي صلى الله عليه وسلم عن اثنتين وهو قوله: " أقصرت الصلاة أم نسيت " حتى أخبر أبو بكر وعمر ومن كان في الصف بصدقه فأتم وسجد للسهو وأما المعقول فمن وجوه.
الأول أنه لو جاز التعبد بخبر الواحد إذا ظن صدقه في الفروع لجاز ذلك في الرسالة والأصول وهو ممتنع.(1/134)
الثاني أن الأصل براءة الذمة من الحقوق والعبادات وتحمل المشاق وهو مقطوع به فلا تجوز مخالفته بخبر الواحد مع كونه مظنوناً.
الثالث أن العمل بخبر الواحد يفضي إلى ترك العمل بخبر الواحد لأنه ما من خبر إلا ويجوز أن يكون معه خبر آخر مقابل له.
الرابع أن قبول خبر الواحد تقليد لذلك الواحد فلا يجوز للمجتهد ذلك كما لا يجوز تقليده لمجتهد آخر.
والجواب عن السؤال الأول أن ما ذكرناه من الأخبار وإن كانت آحادها آحاداً فهي متواترة من جهة الجملة كالأخبار الواردة بسخاء حاتم وشجاعة عنترة.
وعن الثاني أنهم لو عملوا بغير الأخبار المروية لكانت العادة تحيل تواطؤهم على عدم نقله ولا سيما في موضع الإشكال وظهور استنادهم في العمل إلى ما ظهر من الأخبار كيف والمنقول عنهم خلاف ذلك حيث قال عمر لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا وقول ابن عمر حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فانتهينا وكذلك ما ظهر منهم من رجوعهم إلى خبر عائشة في التقاء الختانين إلى غير ذلك وجدهم في طلب الأخبار والسؤال عنها عند وقوع الوقائع دليل العمل بها.
وعن الثالث أن عمل بعض الصحابة بل الأكثر من المجتهدين منهم بأخبار الآحاد مع سكوت الباقين عن النكير دليل الإجماع على ذلك كما سبق تقريره في مسائل الإجماع وما رووه من الأخبار أو توقفوا فيه إنما كان لأمور اقتضت ذلك من وجود معارض أو فوات شرط لا لعدم الاحتجاج بها في جنسها مع كونهم متفقين على العمل بها ولهذا أجمعنا على أن ظواهر الكتاب والسنة حجة وإن جاز تركها والتوقف فيها لأمور خارجة عنها.
وعن الرابع أن اتفاقهم على العمل بخبر الواحد إنما يوجب العلم بصدقه أن لو لم يكونوا متعبدين باتباع الظن وليس كذلك بدليل تعبدهم باتباع ظواهر الكتاب والسنة المتواترة والعمل بالقياس على ما يأتي وإذا كان اتباعهم لخبر الواحد لكونه ظنياً مضبوطاً بالعدالة كان خبر الواحد من تلك الجهة حجة معمولاً بها ضرورة بالاتفاق عليه من تلك الجهة وذلك يعم خبر كل عدل.
وأما المعارضة بالآيات فجوابها ما سبق في بيان جواز التعبد بخبر الواحد عقلاً.
وعن السنة أنه عليه السلام إنما توقف في خبر ذي اليدين لتوهمه غلطه لبعد انفراده بمعرفة ذلك دون من حضره من الجمع الكثير ومع ظهور أمارة الوهم في خبر الواحد يجب التوقف فيه فحيث وافقه الباقون على ذلك ارتفع حكم الأمارة الدالة على وهم ذي اليدين وعمل بموجب خبره كيف وإن عمل النبي صلى الله عليه وسلم بخبر أبي بكر وعمر وغيرهما مع خبر ذي اليدين عمل بخبر لم ينته إلى حد التواتر وهو موضع النزاع وفي تسليمه تسليم المطلوب.
وعن المعارضة الأولى من المعقول أنها منتقضة بخبر الواحد في الفتوى والشهادة كيف والفرق حاصل وذلك أن المشترط في إثبات الرسالة والأصول الدليل القطعي فلم يكن الدليل الظني معتبراً فيها بخلاف الفروع وعن الثانية من وجهين: الأول أن براءة الذمة غير مقطوع بها بعد الوجود والتكليف في نفس الأمر بل الشغل محتمل وإن لم يظهر لنا سبب الشغل فمخالفة براءة الذمة بخبر الواحد لا يكون رفع مقطوع بمظنون الثاني أنه منتقض بالشهادة والفتوى.
وعن الثالث أن تجويز وجود خبر معارض للخبر الذي ظهر لا يمنع من الاحتجاج به وإلا لما ساغ التمسك بدليل من ظواهر الكتاب والسنة المتواترة لأنه ما من واحد منها إلا ويجوز ورود ناسخ له أو مخصص له بل ولما جاز التمسك بدليل مستنبط معارض له ولما ساغ أيضاً للقاضي الحكم بشهادة الشاهدين ولا للعامي الأخذ بفتوى المجتهد له لجواز وجود ما يعارضه وذلك خلاف الإجماع.
وعن الرابع أنه إنما لم يجز تقليد العالم للعالم لاستوائهما في درجة الاجتهاد وليس تقليد أحدهما للآخر أولى من العكس ولا كذلك المجتهد مع الراوي فإنهما لم يستويا في معرفة ما استبد بمعرفته الراوي من الخبر فلذلك وجب عليه تقليده فيما رواه.
وبالجملة فالاحتجاج بمسلك الإجماع في هذه المسألة غير خارج عن مسالك الظنون وإن كان التمسك به أقرب مما سبق من المسالك.
وعلى هذا فمن اعتقد كون المسألة قطعية فقد تعذر عليه النفي والإثبات لعدم مساعدة الدليل القاطع على ذلك ومن اعتقد كونها ظنية فليتمسك بما شاء من المسالك المتقدمة والله أعلم بالصواب.
القسم الثاني(1/135)
في شرائط وجوب العمل بخبر الواحد
وما يتشعب عنها من المسائل
أما الشروط فمنها ما لا بد منها ومنها ما ظن أنها شروط وليست كذلك أما الشروط المعتبرة فهي أربعة.
الشرط الأول أن يكون الراوي مكلفاً.
وذلك لأن من لا يكون مكلفاً إما أن يكون بحيث لا يقدر على الضبط والاحتراز فيما يتحمله ويؤديه كالمجنون والصبي غير المميز فلا تقبل روايته لتمكن الخلل فيها وإما أن يكون بحيث يقدر على الضبط والمعرفة كالصبي المميز والمراهق الذي لم يبق بينه وبين البلوغ سوى الزمان اليسير فلا تقبل روايته لا لعدم ضبطه فإنه قادر عليه متمكن منه ولا لما قيل من أنه لا يقبل إقراره على نفسه فلا يقبل قوله على غيره بطريق الأولى لأنه منتقض بالعبد وبالمحجور عليه فإنه لا يقبل إقراره على نفسه وروايته مقبولة بالإجماع بل لأنا أجمعنا على عدم قبول رواية الفاسق لاحتمال كذبه مع أنه يخاف الله تعالى لكونه مكلفاً فاحتمال الكذب من الصبي مع أنه لا يخاف الله تعالى لعدم تكليفه يكون أظهر من احتمال الكذب في حق الفاسق فكان أولى بالرد ولا يلزم من قبول قوله في إخباره أنه متطهر حتى إنه يصح الاقتداء به في الصلاة مع أن الظن بكونه متطهراً شرط في صحة الاقتداء به وقبول روايته لأن الاحتياط والتحفظ في الرواية أشد منه في الاقتداء به في الصلاة ولهذا صح الاقتداء بالفاسق عند ظن طهارته ولا تقبل روايته وإن ظن صدقه ومن قال بقبول شهادة الصبيان فيما يجري بينهم من الجنايات.
فإنما كان اعتماده في ذلك على أن الجنايات فيما بينهم مما تكثر وأن الحاجة ماسة إلى معرفة ذلك بالقرائن وهي شهادتهم مع كثرتهم قبل تفرقهم وليس ذلك جارياً على منهاج الشهادة ولا الرواية وهذا بخلاف ما إذا تحمل الرواية قبل البلوغ وكان ضابطاً لها وأداها بعد البلوغ وظهور رشده في دينه فإنها تكون مقبولة لأنه لا خلل في تحمله ولا في أدائه ويدل على قبول روايته الإجماع والمعقول أما الإجماع فمن وجهين: الأول أن الصحابة أجمعت على قبول رواية ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهم من أحداث الصحابة مطلقاً من غير فرق بين ما تحملوه في حالة الصغر وبعد البلوغ.
الثاني إجماع السلف والخلف على إحضار الصبيان مجالس الحديث وقبول روايتهم لما تحملوه في حالة الصبا بعد البلوغ.
وأما المعقول فهو أن التحرز في أمر الشهادة أكثر منه في الرواية ولهذا اختلف في قبول شهادة العبد والأكثر على ردها ولم يختلف في قبول رواية العبد واعتبر العدد في الشهادة بالإجماع واختلف في اعتباره في الرواية وقد أجمعنا على أن ما تحمله الصبي من الشهادة قبل البلوغ إذا شهد به بعد البلوغ قبلت شهادته فالرواية أولى بالقبول.
الشرط الثاني: أن يكون مسلماً.
وذلك لأن الكافر إما أن لا يكون منتمياً إلى الملة الإسلامية كاليهودي والنصراني ونحوه أو هو منتم إليها كالمجسم.
فإن كان الأول فلا خلاف في امتناع قبول روايته لا لما قيل من أن الكفر أعظم أنواع الفسق والفاسق غير مقبول الرواية فالكافر أولى وذلك لأن الفاسق إنما لم تقبل روايته لما علم من جرأته على فعل المحرمات مع اعتقاد تحريمها وهذا المعنى غير متحقق في حق الكافر إذا كان مترهباً عدلاً في دينه معتقداً لتحريم الكذب ممتنعاً منه حسب امتناع العدل المسلم وإنما الاعتماد في امتناع قبول روايته على إجماع الأمة الإسلامية على ردها سلباً لأهلية هذا المنصب الشريف عنه لخسته.
وإن كان الثاني فقد اختلفوا فيه فمذهب أكثر أصحابنا كالقاضي أبي بكر والغزالي والقاضي عبد الجبار من المعتزلة أنه مردود الرواية وقال أبو الحسين البصري: إن كان ذلك فيمن اشتهر بالكذب والتدين به لنصرة مذهبه فلا تقبل روايته لعدم الوثوق بصدقه وإن كان متحرجاً في مذهبه متحرزاً عن الكذب حسب احتراز العدل عنه فهو مقبول الرواية لأن صدقه ظاهر مظنون والمختار رده لا لما قيل من إجماع الأمة على رده ولا لقياسه على الكافر الخارج عن الملة بواسطة اشتراكهما في الكفر المناسب لسلب أهلية هذا المنصب عنه إذلالاً له.(1/136)
أما الأول فلأن للخصم منع اتفاق الأمة على رد قول الكافر مطلقاً ولا سبيل إلى الدلالة عليه والقياس على الكافر الخارج عن الملة متعذر من جهة أن كفره أشد وأغلظ وأظهر من كفر من هو من أهل القبلة لكثرة مخالفته للقاعدة الإسلامية أصولاً وفروعاً بالنسبة إلى مخالفة المتأول لها.
فكان إذلاله بسلب هذا المنصب عنه أولى ومع هذه الأولوية فلا قياس بل الواجب الاعتماد في ذلك على قوله تعالى: " إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة " " الحجرات 6 " أمر بالتثبت عند إخبار الفاسق والكافر فاسق لأن الكفر أعلى درجات الفسق وإذا كان فاسقاً فالآية إن كانت عامة بلفظها في كل فاسق فالكافر داخل تحتها وإن لم تكن عامة بلفظها في كل فاسق فهي عامة بالنظر إلى المعنى المومي إليه وهو الفسق من حيث إنه رتب رد الخبر على كون الآتي به فاسقاً مطلقاً في كلام الشارع مع مناسبته له فكان ذلك علة للرد وهو متحقق فيما نحن فيه.
فإن قيل المرتب عليه رد الأخبار إنما هو مسمى الفاسق وهو في عرف الشرع خاص بمن هو مسلم صدرت منه كبيرة أو واظب على صغيرة فلا يكون متناولاً للكافر وإن سلمنا تناوله للكافر غير أنه معارض بقوله صلى الله عليه وسلم " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " والكافر المتأول إذا كان متحرزاً عن الكذب فقد ظهر صدقه فوجب العمل به للخبر.
والجواب عن السؤال الأول بمنع اختصاص اسم الفاسق في الشرع بالمسلم وإن كان ذلك عرفاً للمتأخرين من الفقهاء وكلام الشارع إنما ينزل على عرفه لا على ما صار عرفاً للفقهاء كيف وإن حمل الآية على الفاسق المسلم مما يوهم قبول خبر الفاسق الكافر على الإطلاق نظراً إلى قضية المفهوم وهو خلاف الإجماع ولا يخفى أن حمل اللفظ على ما يلزم منه مخالفة دليل أو ما اختلف في كونه دليلاً على خلاف الأصل.
وعن السؤال الثاني أن العمل بما ذكرناه أولى لتواتره وخصوصه بالفاسق وأنه غير متفق على تخصيصه ومخالفته وما ذكروه آحاد وهو متناول للكافر بعموم كون خبره ظاهراً أو هو مخالف لخبر الكافر الخارج عن الملة والفاسق إذا ظن صدقه فإن خبره لا يكون مقبولاً بالإجماع.
الشرط الثالث: أن يكون ضبطه لما يسمعه أرجح من عدم ضبطه وذكره له أرجح من سهوه لحصول غلبة الظن بصدقه فيما يرويه.
وإلا فبتقدير رجحان مقابل كل واحد من الأمرين عليه أو معادلته له فروايته لا تكون مقبولة لعدم حصول الظن بصدقه أما على أحد التقديرين فلكون صدقه مرجوحاً وأما على التقدير الآخر فلضرورة التساوي وإن جهل حال الراوي في ذلك كان الاعتماد على ما هو الأغلب من حال الرواة وإن لم يعلم الأغلب من ذلك فلا بد من الاختبار والامتحان.
فإن قيل إنه وإن غلب السهو على الذكر أو تعادلاً فالراوي عدل والظاهر منه أنه لا يروي إلا ما يثق من نفسه بذكره له وضبطه ولهذا فإن الصحابة أنكرت على أبي هريرة كثرة روايته حتى قالت عائشة رضي الله عنها رحم الله أبا هريرة لقد كان رجلاً مهزاراً في حديث المهراس ومع ذلك قبلوا أخباره لما كان الظاهر من حاله أنه لا يروي إلا ما يثق من نفسه بضبطه وذكره وأيضا فإن الخبر دليل والأصل فيه الصحة فتساوي الضبط والاختلال والذكر والنسيان غايته أنه موجب للشك في الصحة والشك في ذلك لا يقدح في الأصل كما إذا كان متطهراً ثم شك بعد ذلك أنه محدث أو طاهر فإن الأصل هاهنا لا يترك بهذا الشك.
قلنا: إذا كان الغرض إنما هو غلبة السهو أو التعادل فالراوي وإن كان الغالب من حاله أنه لا يروي إلا ما يظن أنه ذاكر له فذلك لا يوجب حصول الظن بصحة روايته لأن من شأنه النسيان يظن أنه ما نسي وإن كان ناسياً وأما إنكار الصحابة على أبي هريرة كثرة الرواية فلم يكن ذلك لاختلال ضبطه وغلبة النسيان عليه بل لأن الإكثار مما لا يؤمن معه اختلال الضبط الذي لا يعرض لمن قلت روايته وإن كان ذلك بعيداً.(1/137)
وما قيل من أن الخبر دليل والأصل فيه الصحة فلا يترك بالشك قلنا إنما يكون دليلاً والأصل فيه الصحة إذا كان مغلباً على الظن ومع عدم ترجيح ذكر الراوي على نسيانه لا يكون مغلباً على الظن فلا يكون دليلاً لوقوع التردد في كونه دليلاً لا في أمر خارج عنه ولا كذلك فيما إذا شك في الحديث ثم تيقن سابقة الطهارة فإن تيقن الطهارة السابقة لا يقدح فيه الشك الطارئ وبالنظر إليه يترجح إليه أحد الاحتمالين فلا يبقى معه الشك في الدوام حتى إنه لو بقي الشك مع النظر إلى الأصل لما حكم بالطهارة.
الشرط الرابع: أن يكون الراوي متصفاً بصفة العدالة وذلك يتوقف على معرفة العدل لغة وشرعاً.
أما العدل في اللغة فهو عبارة عن المتوسط في الأمور من غير إفراط في طرفي الزيادة والنقصان ومنه قوله تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً " " البقرة 143 " أي عدلاً فالوسط والعدل بمعنى واحد وقد يطلق في اللغة ويراد به المصدر المقابل للجور وهو اتصاف الغير بفعل ما يجب له وترك ما لا يجب والجور في مقابلته وقد يطلق ويراد به ما كان من الأفعال الحسنة يتعدى الفاعل إلى غيره ومنه يقال للملك المحسن إلى رعيته: عادل.
وأما في لسان المتشرعة فقد يطلق ويراد به أهلية قبول الشهادة والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال الغزالي في معنى هذه الأهلية إنها عبارة عن استقامة السيرة والدين وحاصلها يرجع إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه.
وذلك إنما يتحقق باجتناب الكبائر وبعض الصغائر وبعض المباحات أما الكبائر فقد روى ابن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الكبائر تسع: الشرك بالله تعالى وقتل النفس المؤمنة وقذف المحصنة والزنا والفرار من الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين المسلمين والإلحاد بالبيت الحرام " .
وروى أبو هريرة مع ذلك: أكل الربا والانقلاب إلى الأعراب بعد هجرة وروي عن علي عليه السلام أنه أضاف إلى ذلك السرقة وشرب الخمر.
وأما بعض الصغائر فما يدل فعله على نقض الدين وعدم الترفع عن الكذب وذلك كسرقة لقمة والتطفيف بحبة واشتراط أخذ الأجرة على إسماع الحديث ونحوه.
وأما بعض المباحات فما يدل على نقص المروءة ودناءة الهمة كالأكل في السوق والبول في الشوارع وصحبة الأراذل والإفراط في المزح ونحو ذلك مما يدل على سرعة الإقدام على الكذب وعدم الاكتراث به.
ولا خلاف في اعتبار اجتناب هذه الأمور في العدالة المعتبرة في قبول الشهادة والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن من لا يجتنب هذه الأمور أحرى أن لا يجتنب الكذب فلا يكون موثوقاً بقوله ولا خلاف أيضاً في اشتراط هذه الأمور الأربعة في الشهادة.
وتختص الشهادة بشروط أخر: كالحرية والذكورة والعدد والبصر وعدم القرابة والعداوة.
وإذ أتينا على تحقيق شروط الرواية فلا بد من الإشارة إلى ذكر مسائل متشعبة عن شروط العدالة جرت العادة بذكرها وهي ثمان مسائل: المسألة الأولى مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر أهل العلم أن مجهول الحال غير مقبول الرواية بل لا بد من خبرة باطنة بحاله ومعرفة سيرته وكشف سريرته أو تزكية من عرفت عدالته وتعديله له.
وقال أبو حنيفة وأتباعه: يكتفى في قبول الرواية بظهور الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهراً. وقد احتج النافون بحجج الأولى: أن الدليل بنفي قبول خبر الفاسق وهو قوله تعالى: " إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " " الحجرات 6 " غير أنا خالفناه فيمن ظهرت عدالته بالاختبار بمعنى لا وجود له في محل النزاع وهو ما اختص به من زيادة ظهور الثقة بقوله فوجب أن لا يقبل ولقائل أن يقول: الآية إنما دلت على امتناع قبول خبر الفاسق ومن ظهر إسلامه وسلم من الفسق ظاهراً لا نسلم أنه فاسق حتى يندرج تحت عموم الآية واحتمال وجود الفسق فيه لا يوجب كونه فاسقاً بدليل العدل المتفق على عدالته.(1/138)
الحجة الثانية: أنه مجهول الحال فلا يقبل إخباره في الرواية دفعاً لاحتمال مفسدة الكذب كالشهادة في العقوبات ولقائل أن يقول: وإن كان احتمال الكذب قائماً ظاهراً غير أن احتمال الصدق مع ظهور الإسلام والسلامة من الفسق ظاهراً أظهر من احتمال الكذب ومع ذلك فاحتمال القبول يكون أولى من احتمال الرد ولا يمكن القياس على الشهادة لأن الاحتياط في باب الشهادة أتم منه في باب الرواية ولهذا كان العدد والحرية مشترطاً في الشهادة دون الرواية ومتعبداً فيها بألفاظ خاصة غير معتبرة في الرواية حتى إنه لو قال أعلم بدل قوله أشهد لم يكن مقبولاً وعلى هذا فلا يلزم من اشتراط ظهور العدالة في الشهادة بالخبرة الباطنة اشتراط ذلك في الرواية.
الحجة الثالثة قالوا: أجمعنا على أن العدالة شرط في قبول الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أن بلوغ رتبة الاجتهاد في الفقه شرط في قبول الفتوى فإذا لم يظهر حال الراوي بالاختبار فلا تقبل أخباره دفعاً للمفسدة اللازمة من فوات الشرط كما إذا لم يظهر بالاختبار بلوغ المفتي رتبة الاجتهاد فإنه لا يجب على المقلد اتباعه إجماعاً.
ولقائل أن يقول: المجمع على اشتراطه في الرواية العدالة بمعنى ظهور الإسلام والسلامة من الفسق ظاهراً أو بمعنى آخر والأول مسلم غير أن ما هو الشرط متحقق فيما نحن فيه والثاني ممنوع كيف وإن ما ذكرتموه من الوصف الجامع غير مناسب لما سبق في الحجة المتقدمة وبتقدير ظهور مناسبة الوصف الجامع فالاعتبار بالمفتي غير ممكن وذلك لأن بلوغ رتبة الاجتهاد أبعد في الحصول من حصول صفة العدالة ولهذا كانت العدالة أغلب وقوعاً من رتبة الاجتهاد في الأحكام الشرعية وعند ذلك فاحتمال عدم صفة الاجتهاد يكون أغلب من عدم صفة العدالة فلا يلزم من عدم قبول قول المفتي مع الجهل بحاله القول بعدم قبول الراوي مع الجهل بحاله.
الحجة الرابعة أن عدم الفسق شرط في قبول الرواية فاعتبر فيه الخبرة الباطنية مبالغة في دفع الضرر كما في عدم الصبي والرق والكفر في قبول الشهادة.
ولقائل أن يقول ما ذكرتموه من الوصف الجامع غير مناسب لما سبق تقريره في الحجة الثانية وبتقدير مناسبته فالقياس على الشهادة غير ممكن لما تقدم.
الحجة الخامسة قالوا: رد عمر رواية فاطمة بنت قيس لما كانت مجهولة الحال وعلي عليه السلام رد قول الأشجعي في المفوضة واشتهر ذلك فيما بين الصحابة ولم ينكره منكر فكان إجماعاً.
ولقائل أن يقول: أما رد عمر لخبر فاطمة إنما كان لأنه لم يظهر صدقها ولهذا قال: كيف نقبل قول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت وما نحن فيه ليس كذلك فإن من ظهر إسلامه وسلامته من الفسق ظاهراً فاحتمال صدقه لا محالة أظهر من احتمال كذبه وأما رد علي عليه السلام لخبر الأشجعي فإنما كان أيضاً لعدم ظهور صدقه عنده ولهذا وصفه بكونه بوالاً على عقبيه أي غير محترز في أمور دينه ويجب أن يكون كذلك وإلا كان مخالفاً لقوله صلى الله عليه وسلم " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " .
والمعتمد في المسألة أنا نقول: القول بوجوب قبول رواية مجهول الحال يستدعي دليلاً والأصل عدم ذلك الدليل والمسألة اجتهادية ظنية فكان ذلك كافياً فيها فإن قيل بيان وجود الدليل من جهة النص والإجماع والمعقول: أما النص فمن جهة الكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله تعالى: " إن جاءكم فاسق بنبأ فتثبتوا " " الحجرات 6 " أمر بالتثبت مشروطاً بالفسق فما لم يظهر الفسق لا يجب التثبت فيه.
وأما السنة فمن وجهين: الأول قوله عليه السلام: " إنما أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " وما نحن فيه فالظاهر من حاله الصدق فكان داخلاً تحت عموم الخبر الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه الأعرابي وقال أشهد أن لا إله إلا الله وشهد برؤية الهلال عنده قبل شهادته وأمر بالنداء بالصوم لما ثبت عنده إسلامه ولم يعلم منه ما يوجب فسقاً فالرواية أولى.
وأما الإجماع فهو أن الصحابة كانوا متفقين على قبول أقوال العبيد والنسوان والأعراب المجاهيل لما ظهر إسلامهم وسلامتهم من الفسق ظاهراً.(1/139)
وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن الراوي مسلم لم يظهر منه فسق فكان خبره مقبولاً كإخباره بكون اللحم لحم مذكي وكون الماء طاهراً أو نجساً وكون الجارية المبيعة رقيقة وكونه متطهراً عن الحدثين حتى يصح الاقتداء به ونحوه والثاني أنه لو أسلم كافر وروى عقيب إسلامه خبراً من غير مهلة فمع ظهور إسلامه وعدم وجود ما يوجب فسقه بعد إسلامه يمتنع رد روايته وإذا قبلت روايته حال إسلامه فطول مدته في الإسلام أولى أن لا توجب رده.
والجواب عن الآية أن العمل بموجبها نفياً وإثباتاً متوقف على معرفة كونه فاسقاً أو ليس فاسقاً لا على عدم علمنا بفسقه وذلك لا يتم دون البحث والكشف عن حاله وعن الخبر الأول من ثلاثة أوجه: الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف الحكم بالظاهر إلى نفسه ولا يلزم مثله في حق غيره إلا بطريق القياس عليه لا بنفس النص المذكور والقياس عليه ممتنع لأن ما للنبي صلى الله عليه وسلم من الاطلاع والمعرفة بأحوال المخبر لصفاء جوهر نفسه واختصاصه عن الخلق بمعرفة ما لا يعرفه أحد منهم من الأمور الغيبية غير متحقق في حق غيره.
الثاني أنه رتب الحكم على الظاهر وذلك وإن كان يدل على كونه علة لقبوله والعمل به فتخلف الحكم عنه في الشهادة على العقوبات والفتوى يدل على أنه ليس بعلة.
الثالث المعارضة بقوله تعالى: " إن الظن لا يغني من الحق شيئاً " " يونس " وليس العمل بعموم أحد النصين وتأويل الآخر أولى من الآخر بل العمل بالآية أولى لأنها متواترة وما ذكروه آحاد.
وعن الخبر الثاني: لا نسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم من حال الأعرابي سوى الإسلام.
وعن الإجماع لا نسلم أن الصحابة قبلوا رواية أحد من المجاهيل فيما يتعلق بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا ردوا رواية من جهلوه كرد عمر شهادة فاطمة بنت قيس ورد علي شهادة الأعرابي.
وعن الوجه الأول من المعقول بالفرق بين صور الاستشهاد ومحل النزاع وذلك من وجهين: الأول أن الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أعلى رتبة وأشرف منصباً من الإخبار فيما ذكروه من الصور فلا يلزم من القبول مع الجهل بحال الراوي فيما هو أدنى الرتبتين قبوله في أعلاهما الثاني أن الإخبار فيما ذكروه من الصور مقبول مع ظهور الفسق ولا كذلك فيما نحن فيه.
وعن الوجه الثاني من المعقول بمنع قبول روايته دون الخبرة بحاله لاحتمال أن يكون كذوباً وهو باق على طبعه وإن قلنا: روايته في مبدأ إسلامه فلا يلزم ذلك في حالة دوامه لما بين ابتداء الإسلام ودوامه من رقة القلب وشدة الأخذ بموجباته والحرص على امتثال مأموراته واجتناب منهياته على ما يشهد به العرف والعادة في حق كل من دخل في أمر محبوب والتزمه فإن غرامه به في الابتداء يكون أشد منه في دوامه.
المسألة الثانية الفاسق المتأول الذي لا يعلم فسق نفسه لا يخلو إما أن يكون فسقه مظنوناً أو مقطوعاً به.
فإن كان مظنوناً كفسق الحنفي إذا شرب النبيذ فالأظهر قبول روايته وشهادته وقد قال الشافعي رضي الله عنه: إذا شرب الحنفي النبيذ أحده وأقبل شهادته.
وإن كان فسقه مقطوعاً به فإما أن يكون ممن يرى الكذب ويتدين به أو لا يكون كذلك: فإن كان الأول فلا نعرف خلافاً في امتناع قبول شهادته كالخطائية من الرافضة لأنهم يرون شهادة الزور لموافقهم في المذهب وإن كان الثاني كفسق الخوارج الذين استباحوا الدار وقتلوا الأطفال والنسوان فهو موضع الخلاف: فمذهب الشافعي وأتباعه وأكثر الفقهاء أن روايته وشهادته مقبولة وهو اختيار الغزالي وأبي الحسين البصري وكثير من الأصوليين وذهب القاضي أبو بكر والجبائي وأبو هاشم وجماعة من الأصوليين إلى امتناع قبول شهادته وروايته وهو المختار.
وقد احتج النافون بحجة ضعيفة وذلك أنهم قالوا: أجمعنا على أن الفاسق المفروض لو كان عالماً بفسقه لم يقبل خبره فإذا كان جاهلاً بفسقه معتقداً أنه ليس بفاسق فقد انضم إلى فسقه فسق آخر وخطيئة أخرى وهو اعتقاده في الفسق أنه ليس بفسق فكان أولى أن لا يقبل خبره.(1/140)
ولقائل أن يقول: إذا لم يعتقد أنه فاسق وكان متحرجاً محترزاً في دينه عن الكذب وارتكاب المعصية فكان إخباره مغلباً على الظن صدقه بخلاف ما إذا علم أن ما يأتي به فسقاً فذلك يدل على قلة مبالاته بالمعصية وعدم تحرزه عن الكذب فافترقا والمعتمد في ذلك النص والمعقول: أما النص فقوله تعالى: " إن جاءكم فاسق بنبأ فتثبتوا " " الحجرات 6 " أمر برد نبأ الفاسق والخلاف إنما هو فيمن قطع بفسقه فكان مندرجاً تحت عموم الآية غير أنا خالفناه فيمن كان فسقه مظنوناً وما نحن فيه مقطوع بفسقه فلا يكون في معنى صورة المخالفة وأيضا قوله تعالى: " إن الظن لا يغني من الحق شيئاً " " يونس 36 " غير أنا خالفناه في خبر من ظهرت عدالته وفيمن كان فسقه مظنوناً فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل.
وأما المعقول فهو أن القول بقبول خبره يستدعي دليلاً والأصل عدمه فإن قيل: بيان وجود الدليل النص والإجماع والقياس: أما النص فقوله صلى الله عليه وسلم " إنما أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " والفاسق فيما نحن فيه محترز عن الكذب متدين بتحريمه فكان صدقه في خبره ظاهراً فكان مندرجاً تحت عموم الخبر.
وأما الإجماع فهو أن علياً عليه السلام والصحابة قبلوا أقوال قتلة عثمان والخوارج مع فسقهم ولم ينكر ذلك منكر فكان ذلك إجماعاً.
وأما القياس فهو أن الظن بصدقه موجود فكان واجب القبول مبالغة في تحصيل مقصوده قياساً على العدل والمظنون فسقه والجواب: عن الخبر ما سبق في المسألة التي قبلها.
وعن الإجماع: أنا لا نسلم أن كل من قبل شهادة الخوارج وقتلة عثمان كانوا يعتقدون فسقهم فإن الخوارج من جملة المسلمين والصحابة ولم يكونوا معتقدين فسق أنفسهم ومع عدم اعتقاد الجميع لفسقهم وإن قبلوا شهادتهم فلا يتحقق انعقاد الإجماع على قبول خبر الفاسق.
وعن القياس بالفرق في الأصول المستشهد بها أما في العدل فلظهور عدالته واستحقاقه لمنصب الشهادة والرواية وذلك يناسب قبوله إعظاماً له وإجلالاً بخلاف الفاسق وأما في مظنون الفسق فلأن حاله في استحقاق منصب الشهادة والرواية أقرب من حال من كان فسقه مقطوعاً به فلا يلزم من القبول ثم القبول هاهنا.
المسألة الثالثة اختلفوا في الجرح والتعديل: هل يثبت بقول الواحد أو لا؟ فذهب قوم إلى أنه لا بد في التعديل والجرح من اعتبار العدد في الرواية والشهادة وذهب آخرون إلى الاكتفاء بالواحد فيهما وهو اختيار القاضي أبي بكر.
والذي عليه الأكثر إنما هو الاكتفاء بالواحد في باب الرواية دون الشهادة وهو الأشبه وذلك لأنه لا نص ولا إجماع في هذه المسألة يدل على تعيين أحد هذه المذاهب فلم يبق غير التشبيه والقياس.
ولا يخفى أن العدالة شرط في قبول الشهادة والرواية والشرط لا يزيد في إثباته على مشروطه فكان إلحاق الشرط بالمشروط في طريق إثباته أولى من إلحاقه بغيره وقد اعتبر العدد في قبول الشهادة دون قبول الرواية فكان الحكم في شرط كل واحد منهما ما هو الحكم في مشروطه.
فإن قيل: التزكية والتعديل شهادة فكان العدد معتبراً فيهما كالشهادة على الحقوق قلنا: ليس ذلك أولى من قول القائل بأنها إخبار فلا يعتبر العدد في قبولها كنفس الرواية فإن قيل: إلا أن ما ذكرناه أولى لما فيه من زيادة الاحتياط.
قلنا: بل ما يقوله الخصم أولى حذراً من تضييع أوامر الله تعالى ونواهيه كيف وأن اعتبار قول الواحد في الجرح والتعديل أصل متفق عليه واعتبار ضم قول غيره إليه يستدعي دليلاً والأصل عدمه ولا يخفى أن ما يلزم منه موافقة النفي الأصلي أولى مما يلزم منه مخالفته.
المسألة الرابعة اختلفوا في قبول الجرح والتعديل دون ذكر سببهما: فقال قوم: لا بد من ذكر السبب فيهما أما في الجرح فلاختلاف الناس فيما يجرح به فلعله اعتقده جارحاً وغيره لا يراه جارحاً وأما في العدالة فلأن مطلق التعديل لا يكون محصلاً للثقة بالعدالة لجري العادة بتسارع الناس إلى ذلك بناء على الظاهر.
وقال قوم: لا حاجة إلى ذلك فيهما اكتفاء ببصيرة المزكي والجارح وهو اختيار القاضي أبي بكر.
وقال الشافعي رضي الله عنه لا بد من ذكر سبب الجرح لاختلاف الناس فيما يجرح به بخلاف العدالة فإن سببها واحد لا اختلاف فيه ومنهم من عكس الحال واعتبر ذكر سبب العدالة دون الجرح.(1/141)
والمختار إنما هو مذهب القاضي أبي بكر وذلك لأنه إما أن يكون المزكي والجارح عدلاً بصيراً بما يجرح به ويعدل أو لا يكون كذلك فإن لم يكن عدلاً أو كان عدلاً وليس بصيراً فلا اعتبار بقوله وإن كان عدلاً بصيراً وجب الاكتفاء بمطلق جرحه وتعديله إذا الغالب مع كونه عدلاً بصيراً أنه ما أخبر بالعدالة والجرح إلا وهو صادق في مقاله فلا معنى لاشتراط إظهار السبب مع ذلك.
والقول بأن الناس قد اختلفوا فيما يجرح به وإن كان حقاً إلا أن الظاهر من حال العدل البصير بجهات الجرح والتعديل أنه أيضاً يكون عارفاً بمواقع الخلاف في ذلك والظاهر أنه لا يطلق الجرح إلا في صورة علم الوفاق عليها وإلا كان مدلساً ملبساً بما يوهم الجرح على من لا يعتقده وهو خلاف مقتضى العدالة والدين وبمثل هذا يظهر أنه ما أطلق التعديل إلا بعد الخبرة الباطنة والإحاطة بسريرة المخبر عنه ومعرفة اشتماله على سبب العدالة دون البناء على ظاهر الحال.
المسألة الخامسة إذا تعارض الجرح والتعديل فلا يخلو إما أن يكون الجارح قد عين السبب أو لم يعينه: فإن لم يعينه فقول الجارح يكون مقدماً لاطلاعه على ما لم يعرفه العدل ولا نفاه لامتناع الشهادة على النفي وإن عين السبب بأن يقول تقديراً: رأيته وقد قتل فلاناً فلا يخلو إما أن لا يتعرض المعدل لنفي ذلك أو يتعرض لنفيه.
فإن كان الأول فقول الجارح يكون مقدماً لما سبق وإن تعرض لنفيه بأن قال: رأيت فلاناً المدعي قتله حياً بعد ذلك فهاهنا يتعارضان ويصح ترجيح أحدهما على الآخر بكثرة العدد وشدة الورع والتحفظ وزيادة البصيرة إلى غير ذلك مما ترجح به إحدى الروايتين على الأخرى كما سيأتي تحقيقه.
المسألة السادسة في طرق الجرح والتعديل. أما طرق التعديل فمتفاوتة في القوة والضعف وذلك لأنه لا يخلو إما أن يصرح المزكي بالتعديل قولاً أو لا يصرح به فإن صرح به بأن يقول هو عدل رضاً فإما أن يذكر مع ذلك السبب بأن يقول لأني عرفت منه كذا وكذا أو لا يذكر السبب فإن كان الأول فهو تعديل متفق عليه وإن كان الثاني فمختلف فيه والأظهر منه التعديل كما سبق في المسألة المتقدمة فهذا الطريق مرجوح بالنسبة إلى الأول للاختلاف فيه ولنقصان البيان فيه بخلاف الأول.
وأما إن لم يصرح بالتعديل قولاً لكن حكم بشهادته أو عمل بروايته أو روى عنه خبراً.
فإن حكم بشهادته فهو أيضاً تعديل متفق عليه وإلا كان الحاكم فاسقاً بشهادة من ليس بعدل عنده وهذه الطريق أعلى من التزكية بالقول من غير ذكر سبب لتفاوتهما في الاتفاق والاختلاف اللهم إلا أن يكون الحاكم ممن يرى الحكم بشهادة الفاسق وأما بالنسبة إلى التزكية بالقول مع ذكر السبب فالأشبه التعادل بينهما لاستوائهما في الاتفاق عليهما والأول وإن اختص بذكر السبب فهذا مختص بإلزام الغير بقبول الشاهد بخلاف الأول.
وأما إن عمل بروايته على وجه علم أنه لا مستند له في العمل سواها ولا يكون ذلك من باب الاحتياط فهو أيضاً تعديل متفق عليه وإلا كان عمله برواية من ليس بعدل فسقاً وهذا الطريق وإن احتمل أن يكون العمل فيه مستنداً إلى ظهور الإسلام والسلامة من الفسق ظاهراً كما في التعديل بالقول من غير ذكر السبب فهو راجح على التعديل بالقول من غير ذكر السبب للاتفاق عليه والاختلاف في ذلك ومرجوح بالنسبة إلى التزكية بالقول مع ذكر السبب وبالنسبة إلى الحكم بالشهادة لأن باب الشهادة أعلى من باب الرواية ولذلك اشترط فيه ما لم يشترط في باب الرواية كما سيأتي تعريفه فكان الاحتياط والاحتراز فيها أتم وأوفى وأما إن روى عنه فهذا مما اختلف فيه هل هو تعديل أو لا.
ومنهم من فصل وقال: إن عرف من قول المزكي أو عادته أنه لا يروي إلا عن العدل فهو تعديل وإلا فلا وهو المختار وذلك لأن العادة جارية بالرواية عمن لو سئل عن عدالته لتوقف فيها ولا يلزم من روايته عنه مع عدم معرفته بعدالته أن يكون ملبساً مدلساً في الدين كما قيل لأنه إنما يكون كذلك إن لو أوجبت روايته عنه على الغير العمل بها وليس كذلك بل غايته أنه قال سمعته يقول كذا فعلى السامع بالكشف عن حال المروي عنه إن رام العمل بمقتضى روايته وإلا كان مقصراً وهذا الطريق يشبه أن يكون مرجوحاً بالنسبة إلى باقي الطرق.(1/142)
أما بالنسبة إلى التصريح بالتعديل فظاهر ولا سيما إن اقترن بذكر السبب للاتفاق عليه والاختلاف في هذا الطريق ولهذا يكون مرجوحاً بالنسبة إلى الحكم بالشهادة للاتفاق عليه ولاختصاص الشهادة بما ذكرناه قبل.
وأما بالنسبة إلى العمل بالرواية فلاشتراكهما في أصل الرواية واختصاص أحدهما بالعمل بها.
وأما طرق الجرح فهو أن يصرح بكونه مجروحاً ويذكر مع ذلك سبب الجرح وإن لم يذكر معه سبب الجرح فهو جرح كما سبق في المسألة المتقدمة لكنه دون الأول للاختلاف فيه وللاتفاق على الأول وليس من الجرح ترك العمل بروايته والحكم بشهادته لجواز أن يكون ذلك بسبب غير الجرح وذلك إما لمعارض وإما لأنه غير ضابط أو لغلبة النسيان والغفلة عليه ونحوه ولا الشهادة بالزنا وكل ما يوجب الحد على المشهود عليه إذا لم يكمل نصاب الشهادة لأنه لم يأت بصريح القذف وإنما جاء ذلك محيي الشهادة ولا بما يسوغ فيه الاجتهاد وقد قال به بعض الأئمة المجتهدين كاللعب بالشطرنج وشرب النبيذ ونحوه ولا بالتدليس وذلك كقول من لم يعاصر الزهري مثلاً ولكنه روى عمن لقيه قولاً يوهم أنه لقيه ولقوله: حدثنا فلان وراء النهر موهماً أنه يريد جيحان وإنما يشير به إلى نهر عيسى مثلاً لأنه ليس بكذب وإنما هو من المعاريض المغنية عن الكذب.
المسألة السابعة اتفق الجمهور من الأئمة على عدالة الصحابة وقال قوم إن حكمهم في العدالة حكم من بعدهم في لزوم البحث عن عدالتهم عند الرواية ومنهم من قال إنهم لم يزالوا عدولاً إلى حين ما وقع من الاختلاف والفتن فيما بينهم وبعد ذلك فلا بد من البحث في العدالة عن الراوي أو الشاهد منهم إذا لم يكن ظاهر العدالة ومنهم من قال بأن كل من قاتل علياً عالماً منهم فهو فاسق مردود الرواية والشهادة لخروجهم عن الإمام الحق ومنهم من قال برد رواية الكل وشهادتهم لأن أحد الفريقين فاسق وهو غير معلوم ولا معين ومنهم من قال بقبول رواية كل واحد منهم وشهادته إذا انفرد لأن الأصل فيه العدالة وقد شككنا في فسقه ولا يقبل ذلك منه مع مخالفة التحقق فسق أحدهما من غير تعيين.
والمختار إنما هو مذهب الجمهور من الأئمة وذلك بما تحقق من الأدلة الدالة على عدالتهم ونزاهتهم وتخييرهم على من بعدهم فمن ذلك قوله تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً " " البقرة 143 " أي عدولاً وقوله تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس " " آل عمران 110 " وهو خطاب مع الصحابة الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " والاهتداء بغير عدل محال وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله اختار لي أصحاباً وأصهاراً وأنصاراً " واختيار الله تعالى لا يكون لمن ليس بعدل ومنها ما ظهر واشتهر بالنقل المتواتر الذي لا مراء فيه من مناصرتهم للرسول والهجرة إليه والجهاد بين يديه والمحافظة على أمور الدين وإقامة القوانين والتشدد في امتثال أوامر الشرع ونواهيه والقيام بحدوده ومراسيمه حتى إنهم قتلوا الأهل والأولاد حتى قام الدين واستقام ولا أدل على العدالة أكثر من ذلك.
وعند ذلك فالواجب أن يحمل كل ما جرى بينهم من الفتن على أحسن حال وإن كان ذلك إنما لما أدى إليه اجتهاد كل فريق من اعتقاده أن الواجب ما صار إليه وأنه أوفق للدين وأصلح للمسلمين وعلى هذا فإما أن يكون كل مجتهد مصيباً أو أن المصيب واحد والآخر مخطئ في اجتهاده وعلى كلا التقديرين فالشهادة والرواية من الفريقين لا تكون مردودة أما بتقدير الإصابة فظاهر وأما بتقدير الخطأ مع الاجتهاد فبالإجماع وإذ أتينا على ما أردناه من بيان عدالة الصحابة فلا بد من الإشارة إلى بيان من يقع عليه اسم الصحابي.
المسألة الثامنة اختلفوا في مسمى الصحابي: فذهب أكثر أصحابنا وأحمد بن حنبل إلى أن الصحابي من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يختص به اختصاص المصحوب ولا روى عنه ولا طالت مدة صحبته وذهب آخرون إلى أن الصحابي إنما يطلق على من رأى النبي صلى الله عليه وسلم واختص به اختصاص المصحوب وطالت مدة صحبته وإن لم يرو عنه وذهب عمر بن يحيى إلى أن هذا الاسم إنما يسمى به من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه العلم.
والخلاف في هذه المسألة وإن كان آيلاً إلى النزاع في الإطلاق اللفظي فالأشبه إنما هو الأول(1/143)
ويدل على ذلك ثلاثة أمور.
الأول أن الصاحب اسم مشتق من الصحبة والصحبة تعم القليل والكثير ومنه يقال صحبته ساعة وصحبته يوماً وشهراً وأكثر من ذلك كما يقال: فلان كلمني وحدثني وزارني وإن كان لم يكلمه ولم يحدثه ولم يزره سوى مرة واحدة.
الثاني أنه لو حلف أنه لا يصحب فلاناً في السفر أو ليصحبنه فإنه يبر ويحنث بصحبته ساعة.
الثالث أنه لو قال قائل: صحبت فلاناً فيصح أن يقال: صحبته ساعة أو يوماً أو أكثر من ذلك وهل أخذت عنه العلم ورويت عنه أو لا ولولا أن الصحبة شاملة لجميع هذه الصور ولم تكن مختصة بحالة منها لما احتيج إلى الاستفهام.
فإن قيل: إن الصاحب في العرف إنما يطلق على المكاثر الملازم ومنه يقال: أصحاب القرية وأصحاب الكهف والرقيم وأصحاب الرسول وأصحاب الجنة للملازمين لذلك وأصحاب الحديث للملازمين لدراسته وملازمته دون غيرهم ويدل على ذلك أيضاً أنه يصح أن يقال فلان لم يصحب فلاناً لكنه وفد عليه أو رآه أو عامله.
والأصل في النفي أن يكون محمولاً على حقيقته بل ولا يكفي ذلك بل لا بد مع طول المدة من أخذ العلم والرواية عنه ولهذا يصح أن يقال المزني صاحب الشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحباً أبي حنيفة ولا يصح أن يقال لمن رآهما وعاشرهما طويلاً ولم يأخذ عنهما أنه صاحب لهما.
والجواب عن الشبهة الأولى أنا لا نسلم أن اسم الصاحب لا يطلق إلا على المكاثر الملازم ولا يلزم من صحة إطلاق اسم الصاحب على الملازم المكاثر كما في الصور المستشهد بها امتناع إطلاقه على غيره بل يجب أن يقال بصحة إطلاق ذلك على المكاثر وغيره حقيقة نظراً إلى ما وقع به الاشتراك نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ وصحة النفي إنما كان لأن الصاحب في أصل الوضع وإن كان لمن قلت صحبته أو كثرت غير أنه في عرف الاستعمال لمن طالت صحبته فإن أريد نفي الصحبة بالمعنى العرفي فحق وإن أريد نفيها بالمعنى الأصلي فلا يصح.
وهذا هو الجواب عما قيل من اشتراط أخذ العلم والرواية عنه أيضاً.
وإذا عرف ذلك فلو قال من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم أنا صحابي مع إسلامه وعدالته فالظاهر صدقه ويحتمل أن لا يصدق في ذلك لكونه متهما بدعوى رتبة يثبتها لنفسه كما لو قال: أنا عدل أو شهد لنفسه بحق.
هذا ما أردناه من الشروط المعتبرة وأما الشروط التي ظن أنها شروط وليست كذلك فشروط منها أنه ليس من شرط قبول الخبر العدد بل يكفي في القبول خبر العدل الواحد خلافاً للجبائي فإنه قال: لا يقبل إلا أن يضاف إليه خبر عدل آخر أو موافقة ظاهراً وإن يكون منتشراً فيما بين الصحابة أو عمل به بعض الصحابة ونقل عنه أيضاً أنه لا يقبل الخبر في الزنا إلا من أربعة والوجه في الاحتجاج والانفصال ما سبق في مسألة وجوب التعبد بخبر الواحد وأيضاً فليس من شرطه الذكورة لما اشتهر من أخذ الصحابة بأخبار النساء كما سبق بيانه ولا البصر بل يجوز قبول رواية الضرير إذا كان حافظاً لما يسمعه وله آلة إدائه ولهذا كانت الصحابة تروي عن عائشة ما تسمعه من صوتها مع أنهم لا يرون شخصها ولا عدم القرابة بل تجوز رواية الولد عن الوالد وبالعكس لاتفاق الصحابة على ذلك ولا عدم العداوة لأن حكم الرواية عام فلا يختص بواحد معين حتى تكون العداوة مؤثرة فيه ولا الحرية بل هذه الأمور إنما تشترط في الشهادة ولا يشترط أيضاً في الراوي أن يكون مكثراً من سماع الأحاديث مشهور النسب لاتفاق الصحابة على قبول رواية من لم يرو سوى خبر واحد وعلى قبول رواية من لا يعرف نسبه إذا كان مشتملاً على الشرائط المعتبرة ولا يشترط أيضاً أن يكون فقيهاً عالماً بالعربية وبمعنى الخبر وسواء كانت روايته موافقة للقياس أو مخالفة خلافاً لأبي حنيفة فيما يخالف القياس لقوله صلى الله عليه وسلم: " نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها " إلى قوله " فرب حامل فقه ليس بفقيه " دعا له وأقره على الرواية ولو لم يكن مقبول القول لما كان كذلك ولأن الصحابة سمعوا أخبار آحاد لم يكونوا فقهاء كما ذكرناه فيما تقدم ولأن الاعتماد على خبر النبي صلى الله عليه وسلم والظاهر من الراوي إذا كان عدلاً متديناً أنه لا يروي إلا ما يتحققه على الوجه الذي سمعه.
القسم الثالث
في مستندات الراوي وكيفية روايته(1/144)
الراوي لا يخلو إما أن يكون صحابياً أو غير صحابي فإن كان صحابياً فقد اتفقوا على أنه إذا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا أو أخبرني أو حدثني أو شافهني رسول الله بكذا فهو خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم واجب القبول واختلفوا في مسائل.
المسألة الأولى إذا قال الصحابي: قال رسول الله كذا اختلفوا فيه فذهب الأكثرون إلى أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فيكون حجة من غير خلاف وقال القاضي أبو بكر: لا يحكم بذلك بل هو متردد بين أن يكون قد سمعه من النبي عليه السلام وبين أن يكون قد سمعه من غيره وبتقدير أن يكون قد سمعه من غير النبي صلى الله عليه وسلم فمن قال بعدالة جميع الصحابة فحكمه حكم ما لو سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ومن قال بأن حكم الراوي من الصحابة حكم غيرهم في وجوب الكشف عن حال الراوي منهم فحكمه حكم مراسيل تابع التابعين وسيأتي تفصيل القول فيه.
والظاهر أن ذلك محمول على سماعه من غير واسطة مع إمكان سماعه من الواسطة لأن قوله قال يوهم السماع من النبي صلى الله عليه وسلم من غير واسطة إيهاماً ظاهراً والظاهر من حال الصحابي العدل العارف بأوضاع اللغة أنه لا يأتي بلفظ يوهم معنى ويريد غيره.
المسألة الثانية إذا قال الصحابي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بكذا أو ينهى عن كذا اختلفوا في كونه حجة فذهب قوم إلى أنه ليس بحجة لأن الاحتجاج إنما هو بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم وقول الصحابي سمعته يأمر وينهي لا يدل على وجود الأمر والنهي من النبي صلى الله عليه وسلم لاختلاف الناس في صيغ الأمر والنهي فلعله سمع صيغة اعتقد أنها أمر أو نهي وليست كذلك عند غيره ويحتمل أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بشيء أو ينهى عن شيء وهو ممن يعتقد أن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده وأن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده فنقل الأمر والنهي وليس بأمر ولا نهي عند غيره.
والذي عليه اعتماد الأكثرين أنه حجة وهو الأظهر وذلك لأن الظاهر من حال الصحابي مع عدالته ومعرفته بأوضاع اللغة أن يكون عارفاً بمواقع الخلاف والوفاق وعند ذلك فالظاهر من حاله أنه لا ينقل إلا ما تحقق أنه أمر أو نهي من غير خلاف نفياً للتدليس والتلبيس عنه بنقل ما يوجب على سامعه اعتقاد الأمر والنهي فيما لا يعتقده أمراً ولا نهياً.
المسألة الثالثة إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا وأوجب علينا كذا وحرم علينا كذا أو أبيح لنا كذا فمذهب الشافعي وأكثر الأئمة أنه يجب إضافة ذلك إلى النبي عليه السلام وذهب جماعة من الأصوليين والكرخي من أصحاب أبي حنيفة إلى المنع من ذلك مصيراً منهم إلى أن ذلك متردد بين كونه مضافاً إلى النبي عليه السلام وبين كونه مضافاً إلى أمر الكتاب أو الأمة أو بعض الأئمة وبين أن يكون قد قال ذلك عن الاستنباط والقياس وأضافه إلى صاحب الشرع بناء على أن موجب القياس مأمور باتباعه من الشارع.
وإذا احتمل واحتمل لا يكون مضافاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا يكون حجة والظاهر مذهب الشافعي وذلك لأن من كان مقدماً على جماعة وهم بصدد امتثال أوامره ونواهيه فإذا قال الواحد منهم: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا فالظاهر أنه يريد أمر ذلك المقدم ونهيه والصحابة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على هذا النحو فإذا قال الصحابي منهم: أمرنا أو نهينا: كان الظاهر منه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ونهيه ولا يمكن حمله على أمر الكتاب ونهيه لأنه لو كان كذلك لكان ظاهراً للكل فلا يختص بمعرفته الواحد منهم ولا على أمر الأمة ونهيها لأن قول الصحابي: أمرنا ونهينا قول الأمة وهم لا يأمرون وينهون أنفسهم ولا على أمر الواحد من الصحابة إذ ليس أمر البعض للبعض أولى من العكس كيف وإن الظاهر من الصحابي أنه إنما يقصد بذلك تعريف الشرع وذلك لا يكون ثابتاً بأمر الواحد من الصحابة ونهيه ولا أن يكون ذلك بناء على ما قيل من القياس والاستنباط لوجهين: الأول أن قول الصحابي: أمرنا ونهينا خطاب مع الجماعة وما ظهر لبعض المجتهدين من القياس وإن كان مأموراً باتباع حكمه فذلك غير موجب للأمر باتباع من لم يظهر له ذلك القياس.
الثاني أن قوله: أمرنا ونهينا بكذا عن كذا إنما يفهم منه مطلق الأمر والنهي لا الأمر باتباع حكم القياس.(1/145)
المسألة الرابعة اختلفوا في قول الصحابي: من السنة كذا فذهب الأكثرون إلى أن ذلك محمول على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافاً لأبي الحسن الكرخي من أصحاب أبي حنيفة والمختار مذهب الأكثرين وذلك لما ذكرناه في المسألة المتقدمة.
فإن قيل: اسم السنة متردد بين سنة النبي وسنة الخلفاء الراشدين على ما قال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " وإذا كان اللفظ متردداً بين احتمالين فلا يكون صرفه إلى أحدهما دون الآخر أولى من العكس.
قلنا: وإن سلمنا صحة إطلاق السنة على ما ذكروه غير أن احتمال إرادة سنة النبي صلى الله عليه وسلم أولى لوجهين: الأول أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أصل وسنة الخلفاء الراشدين تبع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ومقصود الصحابي إنما هو بيان الشرعية ولا يخفى أن إسناد ما قصد بيانه إلى الأصل أولى من إسناده إلى التابع.
الثاني أن ذلك هو المتبادر إلى الفهم من إطلاق لفظ السنة في كلام الصحابي لما ذكرناه في المسألة المتقدمة فكان الحمل عليه أولى.
المسألة الخامسة إذا قال الصحابي: كنا نفعل كذا وكانوا يفعلون كذا وذلك كقول عائشة كانوا لا يقطعون في الشيء التافه وكقول إبراهيم النخعي: كانوا يحذفون التكبير حذفاً فهو عند الأكثرين محمول على فعل الجماعة دون بعضهم خلافاً لبعض الأصوليين ويدل على مذهب الأكثرين أن الظاهر من الصحابي أنه إنما أورد ذلك في معرض الاحتجاج وإنما يكون ذلك حجة إن لو كان ما نقله مستنداً إلى فعل الجميع لأن فعل البعض لا يكون حجة على البعض الآخر ولا على غيرهم.
فإن قيل لو كان ذلك مستنداً إلى فعل الجميع لكان إجماعاً ولما ساغ مخالفته بطريق الاجتهاد فيه وحيث سوغتم ذلك دل على عوده إلى البعض دون الكل.
قلنا: تسويغ الاجتهاد فيه إنما كان لأن إضافة ذلك إلى الجميع وقع ظناً لا قطعاً وذلك كما يسوغ الاجتهاد فيما يرويه الواحد من الألفاظ القاطعة في الدلالة عن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان طريق اتباعه ظنياً وإن كان لا يسوغ فيه الاجتهاد عندما إذا ثبت بطريق قاطع.
وأما إن كان الراوي غير صحابي فمستنده في الرواية إما قراءة الشيخ لما يرويه عنه أو القراءة على الشيخ أو إجازة الشيخ له أو أن يكتب له كتاباً بما يرويه عنه أو يناوله الكتاب الذي يرويه عنه أو أن يرى خطاً يظنه خط الشيخ بأني سمعت عن فلان كذا.
فإن كان مستنده في الرواية قراءة الشيخ فإما أن يكون الشيخ قد قصد إسماعه بالقراءة أو لم يقصد إسماعه بطريق من الطرق فإن قصد إسماعه بالقراءة أو مع غيره فهذا هو أعلى الرتب في الرواية وللراوي عنه أن يقول: حدثنا وأخبرنا وقال فلان وسمعته يقول كذا وإن لم يقصد إسماعه فليس له أن يقول: حدثنا وأخبرنا لأنه يكون كاذباً في ذلك بل له أن يقول: قال فلان كذا وسمعته يقول كذا ويحدث بكذا ويخبر بكذا.
وأما القراءة على الشيخ مع سكوت الشيخ من غير ما يوجب السكوت عن الإنكار من إكراه أو غفلة أو غير ذلك فقد اتفقوا على وجوب العمل به خلافاً لبعض أهل الظاهر لأنه لو لم تكن روايته صحيحة لكان سكوته عن الإنكار مع القدرة عليه فسقاً لما فيه من إيهام صحة ما ليس بصحيح وذلك بعيد عن العدل المتدين ثم اتفق القائلون بالصحة على تسليط الراوي على قوله: أخبرنا وحدثنا فلان قراءة عليه واختلفوا في جواز قوله حدثنا وأخبرنا مطلقاً والأظهر امتناعه لأن ذلك يشعر بنطق الشيخ وذلك من غير نطق منه كذب.(1/146)
وأما إجازة الشيخ وذلك بأن يقول: أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني أو ما صح عندك من مسموعاتي فقد اختلفوا في جواز الرواية بالإجازة: فجوزه أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر المحدثين واتفق هؤلاء على تسليط الراوي على قوله: أجازني فلان كذا وحدثني وأخبرني إجازة واختلفوا في قوله: حدثني وأخبرني مطلقاً والذي عليه الأكثر وهو الأظهر أنه لا يجوز لأن ذلك يشعر بنطق الشيخ بذلك وهو كذب وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا تجوز الرواية بالإجازة مطلقاً وقال أبو بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة إنه إن كان المجيز والمجاز له قد علماً ما في الكتاب الذي أجاز روايته جازت روايته بقوله: أخبرني وحدثني وذلك كما لو كتب إنسان صكاً والشهود يرونه ثم قال لهم اشهدوا علي بجميع ما في هذا الصك فإنه يجوز لهم إقامة الشهادة عليه بما في ذلك الكتاب وإلا فلا والمختار إنما هو جواز الرواية بالإجازة وذلك لأن المجيز عدل ثقة والظاهر أنه لم يجز إلا ما علم صحته وإلا كان بإجازته رواية ما لم يروه فاسقاً وهو بعيد عن العدل وإذا علمت الرواية أو ظنت بإجازته جازت الرواية عنه كما لو كان هو القارئ أو قرئ عليه وهو ساكت.
فإن قيل إنه لم يوجد من المحدث فعل الحديث ولا ما يجري مجرى فعله فلم يجز أن يقول الراوي عنه: أخبرني ولا حدثني لأنه يكون كذباً ولأنه قادر على أن يحدث به فحيث لم يحدث به دل على أنه غير صحيح عنده.
قلنا: هذا باطل بما إذا كان الراوي عن الشيخ هو القارئ فإنه لم يوجد من الشيخ فعل الحديث ولا ما يجري مجراه وهو قادر على القراءة بنفسه ومع ذلك فإنه يجوز للراوي أن يقول: أخبرني وحدثني حيث كانت قراءته عليه مع السكوت دليل صحة الحديث وعلى ما ذكرناه من الخلاف في الإجازة والخريف والمختار يكون الكلام فيما إذا ناوله كتاباً فيه حديث هو سماعه وقال له قد أجزت لك أن تروي عني ما فيه وله أن يقول: ناولني فلان كذا وأخبرني وحدثني مناولة وكذلك الحكم أيضاً إذا كتب إليه بحديث وقال: أجزت لك روايته عني فإنه يدل على صحته ويسلط الراوي على أن يقول كاتبني بكذا وحدثني أو أخبرني بكذا كتابة ولو اقتصر على المناولة أو الكتابة دون لفظ الإجازة لم تجز له الرواية إذ ليس في الكتابة والمناولة ما يدل على تسويغ الرواية عنه ولا على صحة الحديث في نفسه.
وأما رؤية خط الشيخ بأني سمعت من فلان كذا فلا يجوز مع ذلك الرواية عنه وسواء قال: هذا خطي أو لم يقل لأنه قد يكتب ما سمعه ثم يشكك فيه فلا بد من التسليط من قبل الشيخ على الرواية عنه بطريقة إذ ليس لأحد رواية ما شك في روايته إجماعاً وعلى هذا فلو روى كتاباً عن بعض المحدثين وشك في حديث واحد منه غير معين لم تجز له رواية شيء منه لأنه ما من واحد ومن تلك الأحاديث إلا ويجوز أن يكون هو المشكوك فيه وكذلك لو روى عن جماعة حديثاً وشك في روايته عن بعضهم من غير تعيين فليس له الرواية عن واحد منهم لأنه ما من واحد إلا ويجوز أن يكون هو المشكوك في الرواية عنه والرواية مع الشك ممتنعة نعم لو غلب على ظنه رواية الحديث عن بعض المشايخ وسماعه منه فهذا مما اختلف فيه فقال أبو حنيفة: لا تجوز روايته ولا العمل به لأنه حكم على المروي عنه بأنه حدثه به فلا يجوز مع عدم العلم كما في الشهادة وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن: تجوز له الرواية والعمل به لأن ذلك مما يغلب على الظن صحته ولهذا فإن آحاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يحملون كتب الرسول إلى أطراف البلاد في أمور الصدقات وغيرها وكان يجب على كل أحد الأخذ بها بإخبار حاملها أنها من كتب الرسول وإن لم يكن ما فيها مما سمعه الحامل ولا المحمول إليه لكونها مغلبة على الظن ولا كذلك في الشهادة لأنه قد اعتبر فيها من الاحتياط ما لم يعتبر مثله في الرواية كما ذكرناه فيما تقدم وعلى هذا فلو قال عدل من عدول المحدثين عن كتاب من كتب الحديث إنه صحيح فالحكم في جواز الأخذ به والخلاف فيه كما سبق فيما إذا ظن أنه يرويه مع الاتفاق على أنه لا تجوز روايته عنه بخلاف ما إذا ظن الرواية عنه.
القسم الرابع
فيما اختلف في رد خبر الواحد به
وفيه عشر مسائل: المسألة الأولى(1/147)
اختلفوا في نقل حديث النبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى دون اللفظ والذي عليه اتفاق الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل والحسن البصري وأكثر الأئمة أنه يحرم ذلك على الناقل إذا كان غير عارف بدلالات الألفاظ واختلاف مواقعها وإن كان عالماً بذلك فالأولى له النقل بنفس اللفظ إذ هو أبعد عن التغيير والتبديل وسوء التأويل وإن نقله بالمعنى من غير زيادة في المعنى ولا نقصان منه فهو جائز.
ونقل عن ابن سيرين وجماعة من السلف وجوب نقل اللفظ على صورته وهو اختيار أبي بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة.
ومنهم من فصل وقال بجواز إبدال اللفظ بما يرادفه ولا يشتبه الحال فيه ولا يجوز بما عدا ذلك والمختار مذهب الجمهور ويدل عليه النص والإجماع والأثر والمعقول.
أما النص فما روي ابن مسعود أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله تحدثنا بحديث لا نقدر أن نسوقه كما سمعناه فقال صلى الله عليه وسلم " إذا أصاب أحدكم المعنى فليحدث " وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مقرراً لآحاد رسله إلى البلاد في إبلاغ أوامره ونواهيه بلغة المبعوث إليهم دون لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وهو دليل الجواز.
وأما الإجماع فما روي عن ابن مسعود أنه كان إذا حدث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أو نحوه ولم ينكر عليه منكر فكان إجماعاً.
وأما الأثر فما روي عن مكحول أنه قال: دخلنا على واثلة بن الأسقع فقلنا حدثنا حديثاً ليس فيه تقديم ولا تأخير فغضب وقال لا بأس إذا قدمت وأخرت إذا أصبت المعنى.
وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن الإجماع منعقد على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم وإذا جاز الإبدال بغير العربية في تفهيم المعنى فالعربية أولى الثاني هو أنا نعلم أن اللفظ غير مقصود لذاته ونفسه ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر المعنى في الكرات المتعددة بألفاظ مختلفة بل المقصود إنما هو المعنى ومع حصول المعنى فلا أثر لاختلاف اللفظ.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بالنص والمعقول: أما النص فقوله صلى الله عليه وسلم: " نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها فرب حامل فقه إلى غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " .
وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن العلماء بالعربية وأهل الاجتهاد قد يختلفون في معنى اللفظ الوارد مع اتحاده حتى إن كل واحد منهم قد يتنبه منه على ما لا يتنبه عليه الآخر وعند ذلك فالراوي وإن كان عالماً بالعربية واختلاف دلالات الألفاظ فقد يحمل اللفظ على معنى فهمه من الحديث مع الغفلة عن غير ذلك فإذا أتى بلفظ يؤدي المعنى الذي فهمه من اللفظ النبوي دون غيره مع احتمال أن يكون ما أخل به هو المقصود أو بعض المقصود فلا يكون وافياً بالغرض من اللفظ وربما اختل المقصود من اللفظ بالكلية بتقدير تعدد النقلة بأن ينقل كل واحد ما سمعه من الراوي الذي قبله بألفاظ غير ألفاظه على حسب ما يعقله من لفظه مع التفاوت اليسير في المعنى حتى ينتهي المعنى الأخير إلى مخالفة المعنى المقصود باللفظ النبوي بالكلية وهو ممتنع.
الثاني أن خبر النبي صلى الله عليه وسلم قول تعبدنا باتباعه فلا يجوز تبديله بغيره كالقرآن وكلمات الأذان والتشهد والتكبير والجواب عن النص من وجهين: الأول القول بموجبه وذلك لأن من نقل معنى اللفظ من غير زيادة ولا نقصان يصح أن يقال أدى ما سمع كما سمع ولهذا يقال لمن ترجم لغة إلى لغة ولم يغير المعنى أدى ما سمع كما سمع ويدل على أن المراد من الخبر إنما هو نقل المعنى دون اللفظ ما ذكره من التعليل وهو اختلاف الناس في الفقه إذ هو المؤثر في اختلاف المعنى وأما الألفاظ التي لا يختلف اجتهاد الناس في قيام بعضها مقام بعض فذلك مما يستوي فيه الفقيه والأفقه ومن ليس بفقيه ولا يكون مؤثراً في تغيير المعنى.
الثاني أن هذا الخبر بعينه يدل على جواز نقل الخبر بالمعنى دون اللفظ وذلك لأن الظاهر أن الخبر المروي حديث واحد والأصل عدم تكرره من النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فقد روي بألفاظ مختلفة فإنه قد روي نضر الله امرأ ورحم الله امرأ ورب حامل فقه غير فقيه وروي لا فقه له.(1/148)
وعن المعنى الأول من المعقول أن الكلام إنما هو مفروض في نقل المعنى من غير زيادة ولا نقصان حتى إنه لو ظهرت فيه الزيادة والنقصان لم يكن جائزاً وعن الثاني بالفرق بين ما نحن فيه وما ذكروه من الأصول المقيس عليها.
أما القرآن فلأن المقصود من ألفاظه الإعجاز فتغييره مما يخرجه عن الإعجاز فلا يجوز ولا كذلك الخبر فإن المقصود منه المعنى دون اللفظ ولهذا فإنه لا يجوز التقديم والتأخير في القرآن وإن لم يختلف المعنى كما لو قال بدل اسجدي واركعي اركعي واسجدي ولا كذلك في الخبر.
وأما كلمات الآذان والتشهد والتكبير فالمقصود منها إنما هو التعبد بها وذلك لا يحصل بمعناها والمقصود من الخبر هو المعنى دون اللفظ كيف وأنه ليس قياس الخبر على ما ذكروه أولى من قياسه على الشهادة حيث تجوز الشهادة على شهادة الغير مع اتحاد المعنى وإن كان اللفظ مختلفاً.
المسألة الثانية إذا أنكر الشيخ رواية الفرع عنه فلا يخلو إما أن يكون إنكاره لذلك إنكار جحود وتكذيب للفرع أو إنكار نسيان وتوقف.
فإن كان الأول فلا خلاف في امتناع العمل بالخبر لأن كل واحد منهما مكذب للآخر فيما يدعيه ولا بد من كذب أحدهما وهو موجب للقدح في الحديث غير أن ذلك لا يوجب جرح واحد منهما على التعيين لأن كل واحد منهما عدل وقد وقع الشك في كذبه والأصل العدالة فلا تترك بالشك وتظهر فائدة ذلك في قبول رواية كل واحد منهما في غير ذلك الخبر.
وأما إن كان الثاني فقد اختلفوا في قبول ذلك الخبر والعمل به: فذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل في أصح الروايتين عنه وأكثر المتكلمين إلى وجوب العمل به خلافاً للكرخي وجماعة من أصحاب أبي حنيفة ولأحمد بن حنبل في الرواية الأخرى عنه ودليله الإجماع والمعقول.
أما الإجماع فما روي أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن روى عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى باليمين مع الشاهد ثم نسيه سهيل فكان يقول حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويرويه هكذا ولم ينكر عليه أحد من التابعين ذلك فكان إجماعاً منهم على جوازه.
وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن الفرع عدل وهو جازم بروايته عن الأصل والأصل غير مكذب له وهما عدلان فوجب قبول الرواية والعمل بها الثاني أن نسيان الأصل للرواية لا تزيد على موته وجنونه ولو مات أو جن كانت رواية الفرع عنه مقبولة ويجب العمل بها إجماعاً فكذلك إذا نسي.
فإن قيل: أما الاستدلال بقضية ربيعة فلا حجة فيه لاحتمال أن سهيلاً ذكر الرواية برواية ربيعة عنه ومع الذكر فالرواية تكون مقبولة ثم هو معارض بما روي أن عمار بن ياسر قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أما تذكر يا أمير المؤمنين لما كنا في الأبل فأجنبت فتمعكت في التراب ثم سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إنما يكفيك أن تضرب بيديك " فلم يقبل عمر من عمار ما رواه مع كونه عدلاً عنده لما كان ناسياً له.
وأما ما ذكرتموه من المعقول فالأصل وإن لم يكن مكذباً للفرع غير أن نسيانه لما نسب إليه يجب أن يكون مانعاً من العمل به كما لو ادعى مدع أن الحاكم حكم له بشيء فقال الحاكم: لا أذكر ذلك فأقام المدعي شاهدين شهداً بذلك فإنه لا يقبل وكذلك إذا أنكر شاهد الأصل شهادة الفرع عليه على سبيل النسيان فإن الشهادة لا تقبل.
والجواب عن قولهم إن سهيلاً ذكر الرواية قلنا: لو كان كذلك لانطوى ذكر ربيعة وكان يروي عن شيخه كما لو نسي ثم تذكر بنفسه وأما رد عمر لرواية عمار عند نسيانه فليس نظيراً لما نحن فيه فإن عماراً لم يكن راوياً عن عمر بل عن النبي صلى الله عليه وسلم وحيث لم يعمل عمر بروايته فلعله كان شاكاً في روايته أو كأن ذلك كان مذهباً له فلا يكون حجة على غيره من المجتهدين على ما سيأتي تقريره.
وأما الحاكم إذا نسي ما حكم به وشهد شاهدان بحكمه فقد قال مالك وأبو يوسف: يلزمه الحكم بشهادتهما وعندنا وإن لم يجب عليه ذلك فهو واجب على غيره من القضاة.(1/149)
وأما القياس على الشهادة فلا يصح لأن باب الشهادة أضيق من باب الرواية وقد اعتبر فيها من الشروط والقيود ما لم يعتبر في الرواية وذلك كاعتبار العدد والحرية والذكورة ولا يقبل فيها العنعنة ولا تصح الشهادة على الشهادة من وراء حجاب ولو قال أعلم بدل قوله أشهد لا يصح ولا كذلك في الرواية فامتنع القياس.
المسألة الثالثة إذا روى جماعة من الثقات حديثاً وانفرد واحد منهم بزيادة في الحديث لا تخالف المزيد عليه كما لو روى جماعة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت وانفرد واحد منهم بزيادة فقال: دخل البيت وصلى فلا يخلو إما أن يكون مجلس الرواية مختلفاً بأن يكون المنفرد بالزيادة روايته عن مجلس غير مجلس الباقين أو أن مجلس الرواية متحد أو يجهل الأمران.
فإن كان المجلس مختلفاً فلا نعرف خلافاً في قبول الزيادة لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل الزيادة في أحد المجلسين دون الآخر والراوي عدل ثقة ولم يوجد ما يقدح في روايته فكانت روايته مقبولة ولهذا فإنه لو روى حديثاً لم ينقله غيره مع عدم حضوره لم يقدح ذلك في روايته وكذلك لو شهد اثنان على شخص بألفي درهم لزيد في مجلس وشهدت بينة أخرى عليه في مجلس آخر بألف لا يكون ذلك قادحاً في الألف الزائدة مع أن باب الشهادة أضيق من باب الرواية كما قررنا.
وأما إن اتحد المجلس فإن كان من لم يرو الزيادة قد انتهوا إلى عدد لا يتصور في العادة غفلة مثلهم عن سماع تلك الزيادة وفهمها فلا يخفى أن تطرق الغلط والسهو إلى الواحد فيما نقله من الزيادة يكون أولى من تطرق ذلك إلى العدد المفروض فيجب ردها وإن لم ينتهوا إلى هذا الحد فقد اتفق جماعة الفقهاء والمتكلمين على وجوب قبول الزيادة خلافاً لجماعة من المحدثين ولأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ودليل ذلك أن الراوي عدل ثقة وقد جزم بالرواية وعدم نقل الغير لها فلاحتمال أن يكون من لم ينقل الزيادة قد دخل في أثناء المجلس وسمع بعض الحديث أو خرج في أثناء المجلس لطارئ أوجب له الخروج قبل سماع الزيادة وبتقدير أن يكون حاضراً من أول المجلس إلى آخره فلاحتمال أن يكون قد طرأ ما شغله عن سماع الزيادة وفهمها من سهو أو ألم أو جوع أو عطش مفرط أو فكرة في أمر مهم أو اشتغال بحديث مع غيره والتفات إليه أو أنه نسيها بعد ما سمعها ومع تطرق هذه الاحتمالات وجزم العدل بالرواية لا يكون عدم نقل غيره للزيادة قادحاً في روايته.
فإن قيل: هذه الاحتمالات وإن كانت منقدحة في حق من لم يرو الزيادة فاحتمال الغلط والسهو على الناقل للزيادة أيضاً منقدح وذلك بأن يتوهم أنه سمع تلك الزيادة ولم يكن قد سمعها أو أنه سمعها من غير الرسول وتوهم سماعها من الرسول أو أنه ذكرها على سبيل التفسير والتأويل فظن السامع أنها زيادة في الحديث المروي وذلك كما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى قال ابن عباس: ولا أحسب غير الطعام إلا كالطعام فأدرجه بعض الرواة في الحديث وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " فإذا زادت الإبل على مائة وعشرين استؤنفت الفريضة " فظن الراوي أن الاستئناف إعادة للفرض الأول في المائة الأولى فقال: في كل خمس شاة وأدرج ذلك في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومع تعارض الاحتمالات فليس العمل بالزيادة أولى من تركها بل الترجيح بجانب الترك لوجهين: الأول أن احتمال تطرق الغلط والسهو على الواحد أكثر من احتمال تطرقه إلى الجماعة الثاني أن الترك على وفق النفي الأصلي والإثبات على خلافه فكان أولى ولهذا فإنه لو اجتمع المقومون على قيمة متلف وخالفهم واحد بزيادة في تقويمه في القيمة فإن الزيادة تلغي بالإجماع.
والجواب عما عارضوا به من السهو في حق راوي الزيادة أنه وإن كان منقدحاً غير أن ما ذكرناه من الاحتمالات في حق من لم يرو الزيادة أكثر ولأن سهو الإنسان عما سمعه يكون أكثر من سهوه فيما لم يسمعه أنه سمعه.(1/150)
وما ذكروه من الزيادة بناء على احتمال التفسير والتأويل وإن كان قائماً غير أنه في غاية البعد إذ الظاهر من حال العدل الثقة أنه لا يدرج في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس فيه لما فيه من التدليس والتلبيس ولو جوز مثل ذلك فما من حديث إلا ويمكن أن يتطرق إليه هذا الاحتمال ويلزم من ذلك إبطال جميع الأحاديث.
وما ذكروه من الترجيح الأول فغير مطرد فيما إذا كان عدد الناقل للزيادة مساوياً لعدد الآخرين وهو من جملة صور النزاع وبتقدير أن يكون أكثر فقد بينا أن الترجيح بجانب الواحد.
وما ذكروه من الترجيح الثاني فهو معارض بما إذا كانت الزيادة مقتضية لنفي حكم لولاها لثبت.
وأما التقويم فحاصله يرجع إلى ظن وتخمين بطريق الاجتهاد ولا يخفى أن تطرق الخطأ في ذلك إلى الواحد أكثر من تطرقه إلى الجمع بخلاف الرواية فإنها لا تكون إلا بنقل ما هو محسوس بالسمع وتطرق الخطأ إليه بعيد.
وأما إن جهل الحال في أن الرواية عن مجلس واحد أو مجالس مختلفة فالحكم على ما سبق فيما إذا اتحد المجلس وقبول الزيادة فيه أولى نظراً إلى احتمال اختلاف مجلس الرواية هذا كله فيما إذا لم تكن الزيادة مخالفة للمزيد عليه.
وأما إن كانت مخالفة له بحيث لا يمكن الجمع بينهما فالظاهر التعارض خلافاً لبعض المعتزلة.
وعلى هذا لو روى الواحد الزيادة مرة وأهملها مرة في حديث واحد فالتفصيل والحكم على ما تقدم فيما إذا تعددت الرواة فعليك بالاعتبار.
وكذلك الخلاف فيما إذا أسند الخبر واحد وأرسله الباقون أو رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأوقفه الباقون على بعض الصحابة.
المسألة الرابعة إذا سمع الراوي خبراً وأراد نقل بعضه وحذف بعضه فلا يخلو إما أن يكون الخبر متضمناً لأحكام لا يتعلق بعضها ببعض أو يتعلق بعضها ببعض.
فإن كان الأول كقوله المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم فلا نعرف خلافاً في جواز نقل البعض وترك البعض فإن ذلك بمنزلة أخبار متعددة ومن سمع أخباراً متعددة فله رواية البعض دون البعض وإن كان الأولى إنما هو نقل الخبر بتمامه لقوله صلى الله عليه وسلم " نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها " .
وإن كان الثاني وذلك بأن يكون الخبر مشتملاً على ذكر غاية كنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى تحوزه التجار إلى رحالهم وكنهيه عن بيع الثمار حتى تزهى أو شرط: كقوله: " من قاء أو رعف أو أمذى فليتوضأ وضوءه للصلاة " أو استثناء: كقوله " لا تبيعوا البر بالبر إلى قوله إلا سواء بسواء " مثلاً بمثل فإذا ذكر بعض الخبر وقطعه عن الغاية أو الشرط أو الاستثناء فهو غير جائز لما فيه من تغيير الحكم وتبديل الشرع.
المسألة الخامسة خبر الواحد إذا ورد موجباً للعمل فيما تعم به البلوى كخبر ابن مسعود في نقض الوضوء بمس الذكر وخبر أبي هريرة في غسل اليدين عند القيام من نوم الليل وخبره في رفع اليدين في الركوع والأكل في الصوم ناسياً ونحوه مقبول عند الأكثرين خلافا للكرخي وبعض أصحاب أبي حنيفة ودليل ذلك النص والإجماع والمعقول والإلزام: أما النص فقوله تعالى: " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " " التوبة 122 " أوجب الإنذار على كل طائفة خرجت للتفقه في الدين وإن كانت آحادا وهو مطلق فيما تعم به البلوى وما لا تعم ولولا أنه واجب القبول لما كان لوجوبه فائدة وتقريره كما سبق.
وأما الإجماع فهو أن الصحابة اتفقت على العمل بخبر الواحد فيما تعم به البلوى فمن ذلك ما روي عن ابن عمر أنه قال كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأساً حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فانتهينا ومن ذلك رجوع الصحابة بعد اختلافهم في وجوب الغسل بالتقاء الختانين من غير إنزال إلى خبر عائشة وهو قولها إذا التقى الختانان وجب الغسل أنزل أو لم ينزل فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلنا ومن ذلك رجوع أبي بكر وعمر في سدس الجدة لما قال لها لا أجد لك في كتاب الله شيئاً إلى خبر المغيرة وهو قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم أطعمها السدس وصار ذلك إجماعاً.(1/151)
وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن الراوي عدل ثقة وهو جازم بالرواية فيما يمكن فيه صدقه وذلك يغلب على الظن صدقه فوجب تصديقه كخبره فيما لا تعم به البلوى الثاني أنه يغلب على الظن فكان واجب الاتباع كالقياس والمسألة ظنية فكان الظن فيها حجة.
وأما الإلزام فهو أن الوتر وحكم الفصد والحجامة والقهقهة في الصلاة ووجوب الغسل من غسل الميت وإفراد الإقامة وتثنيتها فمن قبيل ما تعم به البلوى ومع ذلك فقد أثبتها الخصوم بأخبار الآحاد.
فإن قيل لا نسلم إجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد فيما تعم به البلوى فإن أبا بكر رد خبر المغيرة في الجدة.
وما ذكرتموه من المعقول فمبني على أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى مظنون وليس كذلك وبيانه من وجهين.
الأول أن ما تعم به البلوى كخروج الخارج من السبيلين ومس الذكر مما يتكرر في كل وقت فلو كانت الطهارة مما تنتقض به لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم إشاعته وأن لا يقتصر على مخاطبة الآحاد به بل يلقيه على عدد التواتر مبالغة في إشاعته حتى لا يفضي ذلك إلى إبطال صلاة أكثر الخلق وهم لا يشعرون فحيث لم ينقله سوى الواحد دل على كذبه.
الثاني أن ذلك مما يكثر السؤال عنه والجواب والدواعي متوفرة على نقله فحيث انفرد به الواحد دل على كذبه كانفراد الواحد بنقل قتل أمير البلد في السوق بمشهد من الخلق وطروء حادثة منعت الناس من صلاة الجمعة وإن الخطيب سب الله ورسوله على رأس المنبر إلى غير ذلك من الوقائع ولهذا فإنه لما كان القرآن مما تعم به البلوى بمعرفته امتنع إثباته بخبر الواحد.
وأما ما ذكرتموه من الإلزامات فغير مساوية في عموم البلوى لمس الذكر فلا تكون في معناه.
والجواب عن رد أبي بكر بخبر المغيرة في الجدة أنه لم يكن مطلقاً ولهذا عمل به لما تابعه على ذلك محمد بن مسلمة وخبرهما غير خارج عن الآحاد وما ذكروه في الوجه الأول من التكذيب فإنما يصح أن لو كان النبي صلى الله عليه وسلم مكلفاً بالإشاعة على لسان أهل التواتر وهو غير مسلم قولهم إنه يلزم من عدم ذلك إبطال صلاة أكثر الخلق لا نسلم فإن من لم يبلغه ذلك فالنقض غير ثابت في حقه ولا تكليف بمعرفة ما لم يقم عليه دليل.
وما ذكروه في الوجه الثاني فإنما يلزم توفر الدواعي على نقله إن لو كان لا طريق إلى إثباته سوى النقل المتواتر وأما إذا كان طريق معرفة ذلك إنما هو الظن فخبر الواحد كاف فيه ولهذا جاز إثباته بالقياس إجماعاً وما استشهدوا به من الوقائع فغير مناظرة لما نحن فيه إذ الطباع مما تتوفر على نقلها وإشاعتها عادة فانفراد الواحد يدل على كذبه.
ثم ما ذكروه من الوجهين منتقض عليهم حيث عملوا بأخبار الآحاد فيما ذكرناه من صور الإلزام ومس الذكر وإن كان أعم في الوقوع من تلك الصور فذلك لا يخرج تلك الصورة عن كونها واقعة في عموم البلوى.
وأما القرآن فإنما امتنع إثباته بخبر الواحد لا لأنه مما تعم به البلوى بل لأنه المعجز في إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وطريق معرفته متوقف على القطع ولذلك وجب على النبي إشاعته وإلغاؤه على عدد التواتر ولا كذلك ما نحن فيه فإن الظن كاف فيه ولذلك يجوز إثباته بالقياس وما عدا القرآن مما أشيع إشاعة اشترك فيها الخاص والعام كالعبادات الخمس وأصول المعاملات كالبيع والنكاح والطلاق والعتاق وغير ذلك من الأحكام مما كان يجوز أن لا يشيع فذلك إما بحكم الاتفاق وإما لأنه صلى الله عليه وسلم كان متعبداً بإشاعته والله أعلم.
المسألة السادسة إذا روى الصحابي خبراً فلا يخلو إما أن يكون مجملاً أو ظاهراً أو نصاً قاطعاً في متنه.(1/152)
فإن كان مجملاً مشتركاً بين محامل على السوية كلفظ القروء ونحوه فإن حمله الراوي على بعض محامله فإن قلنا إن اللفظ المشترك ظاهر العموم في جميع محامله كما سيأتي تقريره فهو القسم الثاني وسيأتي الكلام فيه وإن قلنا بامتناع حمله على جميع محامله فلا نعرف خلافاً في وجوب حمل الخبر على ما حمله الراوي عليه لأن الظاهر من حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا ينطق باللفظ المجمل لقصد التشريع وتعريف الأحكام ويخليه عن قرينة حالية أو مقالية تعين المقصود من الكلام والصحابي الراوي المشاهد للحال أعرف بذلك من غيره فوجب الحمل عليه ولا يبعد أن يقال بأن تعيينه لا يكون حجة على غيره من المجتهدين حتى ينظر فإن انقدح له وجه يوجب تعيين غير ذلك الاحتمال وجب عليه اتباعه وإلا فتعيين الراوي صالح للترجيح فيجب اتباعه.
وأما إن كان اللفظ ظاهراً في معنى وحمله الراوي على غيره فمذهب الشافعي وأبي الحسين الكرخي وأكثر الفقهاء أنه يجب الحمل على ظاهر الخبر دون تأويل الراوي ولهذا قال الشافعي كيف أترك الخبر لأقوال أقوام لو عاصرتهم لحاججتهم بالحديث؟ وذهب بعض أصحاب أبي حنيفة وغيرهم إلى وجوب العمل بمذهب الراوي وقال القاضي عبد الجبار إن لم يكن لمذهب الراوي وتأويله وجه سوى علمه بقصد النبي صلى الله عليه وسلم لذلك التأويل وجب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز أن يكون قد صار إليه لدليل ظهر له من نص أو قياس وجب النظر إلى ذلك الدليل فإن كان مقتضياً لما ذهب إليه وجب المصير إليه وإلا فلا وهذا اختيار أبي الحسين البصري.
والمختار أنه إن علم مأخذه في المخالفة وكان ذلك مما يوجب حمل الخبر على ما ذهب إليه الراوي وجب اتباع ذلك الدليل لا لأن الراوي عمل به فإنه ليس عمل أحد المجتهدين حجة على الآخر وإن جهل مأخذه فالواجب العمل بظاهر اللفظ وذلك لأن الراوي عدل وقد جزم بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأصل في وجوب العمل بالخبر ومخالفة الراوي له فيحتمل أنه كان لنسيان طرأ عليه ويحتمل أنه كان لدليل اجتهد فيه وهو مخطئ فيه أو هو مما يقول به دون غيره من المجتهدين كما عرف من مخالفة مالك لخبر خيار المجلس بما رآه من إجماع أهل المدينة على خلافه ويحتمل أنه علم ذلك علماً لا مراء فيه من قصد النبي له وإذا تردد بين هذه الاحتمالات فالظاهر لا يترك بالشك والاحتمال وعلى كل تقدير فبمخالفته للخبر لا يكون فاسقاً حتى يمتنع العمل بروايته وبهذا يندفع قول الخصم إنه إن أحسن الظن بالراوي وجب حمل الخبر على ما حمله عليه وإن أسيء به الظن امتنع العمل بروايته.
وأما إن كان الخبر نصاً في دلالته غير محتمل للتأويل والمخالفة فلا وجه لمخالفة الراوي له سوى احتمال اطلاعه على ناسخ ولعله يكون ناسخاً في نظره ولا يكون ناسخاً عند غيره من المجتهدين وما ظهر في نظره لا يكون حجة على غيره وإذا كان ذلك محتملاً فلا يترك النص الذي لا احتمال فيه لأمر يحتمل.
المسألة السابعة خبر الواحد العدل إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم عمل بخلافه فلا يرد له الخبر إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم داخلاً تحت عمومه أو كان داخلاً تحت عمومه لكنه قام الدليل على أن ما فعله من خواصه التي لا يشاركه فيها أحد وإن لم يكن من خواصه فيجب العمل بالراجح من الفعل أو الخبر إن تعذر تخصيص أحدهما بالآخر وإن عمل بخلافه أكثر الأمة فهم بعض الأمة فلا يرد الخبر بذلك إجماعاً وإن خالف باقي الحفاظ للراوي فيما نقله.
فالمختار الوقف في ذلك نظراً إلى أن تطرق السهو والخطأ إلى الجماعة وإن كان أبعد من تطرقه إلى الواحد غير أن تطرق السهو إلى ما لم يسمع أنه سمع أبعد من تطرق السهو إلى ما سمع أنه لم يسمع.
المسألة الثامنة(1/153)
اتفقت الشافعية والحنابلة وأبو يوسف وأبو بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة وأكثر الناس على قبول خبر الواحد فيما يوجب الحد وفي كل ما يسقط بالشبهة خلافاً لأبي عبد الله البصري والكرخي ودليل ذلك أنه يغلب على الظن فوجب قبوله لقوله صلى الله عليه وسلم: " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " ولأنه حكم يجوز إثباته بالظن بدليل ثبوته بالشهادة وبظاهر الكتاب فجاز إثباته بخبر الواحد كسائر الأحكام الظنية والمسألة ظنية فكان الظن كافياً فيها وسقوطه بالشبهة لو كان لكان مانعاً من الأعمال والأصل عدم ذلك وعلى من يدعيه بيانه.
فإن قيل: خبر الواحد مما يدخله احتمال الكذب فكان ذلك شبهة في درء الحد لقوله صلى الله عليه وسلم: " ادرؤوا الحدود بالشبهات " فهو باطل بإثباته بالشهادة فإنها محتملة للكذب ومع ذلك يثبت بها.
المسألة التاسعة خبر الواحد إذا خالف القياس فإما أن يتعارضا من كل وجه بأن يكون أحدهما مثبتاً لما نفاه الآخر أو من وجه دون وجه بأن يكون أحدهما مخصصاً للآخر.
فإن كان الأول فقد قال الشافعي رضي الله عنه وأحمد بن حنبل والكرخي وكثير من الفقهاء أن الخبر مقدم على القياس وقال أصحاب مالك: يقدم القياس وقال عيسى بن أبان: إن كان الراوي ضابطاً عالماً غير متساهل فيما يرويه قدم خبره على القياس وإلا فهو موضع اجتهاد.
وفضل أبو الحسين البصري فقال: علة القياس الجامعة أن تكون منصوصة أو مستنبطة: فإن كانت منصوصة فالنص عليها إما أن يكون مقطوعاً به أو غير مقطوع: فإن كان مقطوعاً به وتعذر الجمع بينهما وجب العمل بالعلة لأن النص على العلة كالنص على حكمها وهو مقطوع به وخبر الواحد مظنون فكانت مقدمة.
وإن لم يكن النص على العلة مقطوعاً به ولا حكمها في الأصل مقطوعاً به فيجب الرجوع إلى خبر الواحد لاستواء النصين في الظن واختصاص خبر الواحد بالدلالة على الحكم بصريحه من غير واسطة بخلاف النص الدال على العلة فإنه إنما يدل على الحكم بواسطة العلة وإن كان حكمها ثابتاً قطعاً فذلك موضع الاجتهاد.
وإن كانت العلة مستنبطة فحكم الأصل إما أن يكون ثابتاً بخبر واحد أو بدليل مقطوع به فإن كان ثابتاً بخبر واحد فالأخذ بالخبر أولى وإن كان ثابتاً قطعاً قال فينبغي أن يكون هذا موضع الاختلاف بين الناس ومختاره أنه مجتهد فيه وقال القاضي أبو بكر بالوقف.
والمختار في ذلك أن يقال: إما أن يكون متن خبر الواحد قطعياً أو ظنياً فإن كان متنه قطعياً فعلة القياس إما أن تكون منصوصة أو مستنبطة فإن كانت منصوصة وقلنا إن التنصيص على علة القياس لا يخرجه عن القياس فالنص الدال عليها إما أن يكون مساوياً في الدلالة لخبر الواحد أو راجحاً عليه أو مرجوحاً: فإن كان مساوياً فخبر الواحد أولى لدلالته على الحكم من غير واسطة ودلالة نص العلة على حكمها بواسطة.
وإن كان مرجوحاً فخبر الواحد أولى مع دلالته على الحكم من غير واسطة وإن كان راجحاً على خبر الواحد فوجود العلة في الفزع إما أن يكون مقطوعاً به أو مظنوناً فإن كان مقطوعاً فالمصير إلى القياس أولى وإن كان وجودها فيه مظنوناً فالظاهر الوقف لأن نص العلة وإن كان في دلالته على العلة راجحاً غير أنه إنما يدل على الحكم بواسطة العلة وخبر الواحد لا بواسطة فاعتدلا.
وأما إن كانت العلة مستنبطة فالخبر مقدم على القياس مطلقاً ودليله النص والإجماع والمعقول.
أما النص فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ حيث بعثه إلى اليمن قاضياً بم تحكم؟ قال: بكتاب الله قال فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله قال: فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيي ولا آلو أخر العمل بالقياس عن السنة من غير تفصيل بين المتواتر والآحاد والنبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه الله ورسوله.(1/154)
وإما الإجماع فهو أن عمر رضي الله عنه ترك القياس في الجنين لخبر حمل ابن مالك وقال لولا هذا لقضينا فيه برأينا وأيضاً ما روي عنه أنه ترك القياس في تفريق دية الأصابع على قدر منافعها بخبر الواحد الذي روى في كل إصبع عشر من الإبل وترك اجتهاده وأيضاً فإنه ترك اجتهاده في منع ميراث المرأة من دية زوجها بخبر الواحد وقال أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا وكان ذلك مشهوراً فيما بين الصحابة ولم ينكر عليه منكر فصار إجماعاً.
وأما المعقول فهو أن خبر الواحد راجح على القياس وأغلب على الظن فكان مقدماً عليه وبيان ذلك أن الاجتهاد في الخبر واحتمال الخطأ فيه أقل من القياس لأن خبر الواحد لا يخرج الاجتهاد فيه عن عدالة الراوي وعن دلالته على الحكم وعن كونه حجة معمولاً بها فهذه ثلاثة أمور.
وأما القياس فإنه إن كان حكم أصله ثابتاً بخبر الواحد فهو مفتقر إلى الاجتهاد في الأمور الثلاثة وبتقدير أن يكون ثابتاً بدليل مقطوع به فيفتقر إلى الاجتهاد في كون الحكم في الأصل مما يمكن تعليله أو لا وبتقدير إمكان تعليله فيفتقر إلى الاجتهاد في إظهار وصف صالح للتعليل وبتقدير ظهور وصف صالح يفتقر إلى الاجتهاد في نفي المعارض له في الأصل وبتقدير سلامته عن ذلك يفتقر إلى الاجتهاد في وجوده في الفرع وبتقدير وجوده فيه يفتقر إلى الاجتهاد في نفي المعارض في الفرع من وجود مانع أو فوات شرط وبتقدير انتفاء ذلك يحتاج إلى النظر في كونه حجة.
فهذه سبعة أمور لا بد من النظر فيها وما يفتقر في دلالته إلى بيان ثلاثة أمور لا غير فاحتمال الخطأ فيه يكون أقل احتمالاً من احتمال الخطأ فيما يفتقر في بيانه إلى سبعة أمور فكان خبر الواحد أولى.
وربما قيل في ترجيح خبر الواحد هاهنا وجوه أخر واهية آثرنا الإعراض عن ذكرها لظهور فسادها بأول نظر.
فإن قيل: أما ما ذكرتموه من خبر معاذ فقد خالفتموه فيما إذا كانت العلة الجامعة في القياس مقطوعاً بعليتها وبوجودها في الفرع كما تقدم.
وما ذكرتموه من الإجماع على تقديم خبر الواحد على القياس فغير مسلم فإن ابن عباس قد خالف في ذلك حيث إنه لم يقبل خبر أبي هريرة فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله " إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً " لكونه مخالفاً للقياس وأيضاً فإنه رد خبر أبي هريرة في التوضي مما مست النار بالقياس وقال ألسنا نتوضأ بماء الحميم فكيف نتوضأ بما عنه نتوضأ؟.
وأما ما ذكرتموه من الترجيح فهو معارض لما يتطرق إلى الخبر من احتمال كذب الراوي وأن يكون في نفسه كافراً أو فاسقاً أو مخطئاً واحتمال الإجمال في دلالة الخبر والتجوز والإضمار والنسخ وكل ذلك غير متطرق إلى القياس وأيضاً فإن القياس يجوز به تخصيص عموم الكتاب وهو أقوى من خبر الواحد فكان ترك خبر الواحد بالقياس أولى وأيضاً فإن الظن بالقياس يحصل للمجتهد من جهة نفسه واجتهاده والظن الحاصل من خبر الواحد يحصل له من جهة غيره وثقة الإنسان بنفسه أتم من ثقته بغيره وأيضاً فإن خبر الواحد بتقدير إكذاب المخبر لنفسه يخرج الخبر عن كونه شرعياً ولا كذلك القياس.
والجواب: قولهم إنكم خالفتم خبر معاذ قلنا: غايته أنا خصصناه في صورة لمعنى لم يوجد فيما نحن فيه فبقينا عاملين بعمومه فيما عدا تلك الصورة.
قولهم إن ابن عباس قد رد خبر أبي هريرة بالقياس فيما ذكروه ليس كذلك أما رده لخبر غسل اليدين فإنما يمكن الاحتجاج به أن لو كان قد رده لمخالفة القياس المقتضي لجواز غسل اليدين من ذلك الإناء وليس كذلك.
أما أولاً فلأنا لا نسلم وجود القياس المقتضي لذلك وبتقدير تسليمه فهو إنما رده لا للقياس بل لأنه لا يمكن الأخذ به ولهذا قال ابن عباس فماذا تصنع بالمهراس والمهراس كان حجراً عظيماً يصب فيه الماء لأجل الوضوء فاستبعد الأخذ بالخبر لاستبعاده صب الماء من المهراس على اليد وقد وافق ابن عباس على ما تخيله من الاستبعاد عائشة حيث قالت: رحم الله أبا هريرة لقد كان رجلاً مهذاراً فماذا يصنع بالمهراس؟.(1/155)
وأما تركه لخبر التوضي مما مست النار فلم يكن بالقياس بل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل كتف شاة مصلية وصلى ولم يتوضأ ثم ذكر القياس بعد معارضته بالخبر وأما ما ذكروه من ترجيحات القياس على خبر الواحد فمندفعة.
أما تطرق احتمال الكذب والكفر والفسق والخطأ إلى الراوي وإن كان منقدحاً فمثله متطرق إلى دليل حكم الأصل إذا كان ثابتاً بخبر الواحد وهو من جملة صور النزاع وبتقدير ثبوته بدليل مقطوع به فلا يخفى أن تطرق ذلك إلى من ظهرت عدالته وإسلامه أبعد من تطرق الخطأ إلى القياس في اجتهاده فيما ذكرناه من احتمالات الخطأ في القياس لكونه معاقباً على الكذب والكفر والفسق بخلاف الخطأ في الاجتهاد فإنه غير معاقب عليه بل مثاب.
وما ذكروه من تطرق التجوز والاشتراك والنسخ إلى خبر الواحد فذلك مما لا يوجب ترجيح القياس عليه بدليل الظاهر من الكتاب والسنة المتواترة فإن جميع ذلك متطرق إليه وهو مقدم على القياس.
قولهم إن القياس يجوز تخصيص عموم الكتاب به قلنا وكذلك خبر الواحد فلا ترجيح من هذه الجهة كيف وإنه لا يلزم من تخصيص الكتاب بالقياس مع أنه غير معطل للكتاب أن يكون معطلاً لخبر الواحد بالكلية إذ الكلام مفروض فيما إذا تعارضا وتعذر الجمع بينهما.
وقولهم إن الظن من القياس يحصل له من جهة نفسه بخلاف خبر الواحد قلنا: إلا أن تطرق الخطأ إليه أقرب من تطرقه إلى خبر الواحد لما سبق تقريره.
وقولهم إن الخبر يخرج عن كونه شرعياً بإكذاب المخبر لنفسه بخلاف القياس قلنا: وبتقدير الخطأ في القياس يخرج عن كونه قياسياً شرعياً فاستويا كيف وإن الترجيح للخبر من جهات أخرى غير ما ذكرناها أولا وهو أنه مستند إلى كلام المعصوم بخلاف القياس فإنه مستند إلى اجتهاد المجتهد وهو غير معصوم وأيضاً فإن القياس مفتقر إلى جنس النص في إثبات حكم الأصل وفي كونه حجة وخبر الواحد يصير قطعياً بما يعتضد به من جنسه حتى يصير متواتراً ولا كذلك القياس فإنه لا ينتهي إلى القطع بما يعتضد به من جنس الأقيسة أصلاً فكان أولى هذا كله فيما إذا تعارضا وتعذر الجمع بينهما.
وأما إن كان أحدهما أعم من الآخر فإن كان الخبر هو الأعم جاز أن يكون القياس مخصصاً له على ما سيأتي في تخصيص العموم وإن كان القياس أعم من خبر الواحد فإن قلنا إن العلة لا تبطل بتقدير تخصيصها وجب العمل بخبر الواحد فيما دل عليه وبالقياس فيما عدا ذلك جمعاً بينهما وإن قلنا بأن العلة تبطل بتقدير تخصيصها فالحكم فيها على ما عرف فيما إذا تعذر الجمع بين القياس وخبر الواحد.
المسألة العاشرة اختلفوا في قبول الخبر المرسل وصورته ما إذا قال من لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم وكان عدلا قال رسول الله.
فقبله أبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل في أشهر الروايتين عنه وجماهير المعتزلة كأبي هاشم وفصل عيسى بن أبان فقبل مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ومن هو من أئمة النقل مطلقاً دون من عدا هؤلاء وأما الشافعي رضي الله عنه فإنه قال: إن كان المرسل من مراسيل الصحابة أو مرسلاً قد أسنده غير مرسله أو أرسله راو آخر يروي عن غير شيوخ الأول أو عضده قول صحابي أو قول أكثر أهل العلم أو أن يكون المرسل قد عرف من حاله أنه لا يرسل عمن فيه علة من جهالة أو غيرها كمراسيل ابن المسيب فهو مقبول وإلا فلا ووافقه على ذلك أكثر أصحابه والقاضي أبو بكر وجماعة من الفقهاء والمختار قبول مراسيل العدل مطلقاً ودليله الإجماع والمعقول.(1/156)
أما الإجماع فهو أن الصحابة والتابعين أجمعوا على قبول المراسيل من العدل: أما الصحابة فإنهم قبلوا أخبار عبد الله بن عباس مع كثرة روايته وقد قيل إنه لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى أربعة أحاديث لصغر سنه ولما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما الربا في النسيئة وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى حجر العقبة قال في الخبر الأول لما روجع فيه أخبرني به أسامة بن زيد وقال في الخبر الثاني أخبرني به أخي الفضل بن عباس وأيضاً ما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من صلى على جنازة فله قيراط " وأسنده بعد ذلك إلى أبي هريرة وأيضاً ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أصبح جنباً في رمضان فلا صوم له " وقال: ما أنا قلته ورب الكعبة ولكن محمد قاله فلما روجع فيه قال حدثني به الفضل بن عباس وأيضاً ما روي عن البراء بن عازب أنه قال: ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن سمعنا بعضه وحدثنا أصحابنا ببعضه.
وأما التابعون فقد كان من عادتهم إرسال الأخبار ويدل على ذلك ما روي عن الأعمش أنه قال: قلت لإبراهيم النخعي إذا حدثتني فأسند فقال: إذا قلت لك حدثني فلان عن عبد الله فهو الذي حدثني وإذا قلت لك حدثني عبد الله فقد حدثني جماعة عنه وأيضاً ما روي عن الحسن أنه روى حديثاً فلما روجع فيه قال: أخبرني به سبعون بدرياً ويدل على ذلك ما اشتهر من إرسال ابن المسيب والشعبي وغيرهما ولم يزل ذلك مشهوراً فيما بين الصحابة والتابعين من غير نكير فكان إجماعاً.
وأما المعقول فهو أن العدل الثقة إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا مظهراً للجزم بذلك فالظاهر من حاله أنه لا يستجيز ذلك إلا وهو عالم أو ظان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك فإنه لو كان ظاناً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله أو كان شاكاً فيه لما استجاز في دينه النقل الجازم عنه لما فيه من الكذب والتدليس على المستمعين وذلك يستلزم تعديل من روى عنه وإلا لما كان عالماً ولا ظاناً بصدقه في خبره فإن قيل: لا نسلم الإجماع ودليله من جهة الإجمال والتفصيل: أما الإجمال فهو أن المسألة اجتهادية والإجماع قاطع فلا يساعد في مسائل الاجتهاد وأما من جهة التفصيل فهو أن غاية ما ذكر مصير بعض الصحابة أو التابعين إلى الإرسال وليس في ذلك ما يدل على إجماع الكل.
قولكم: لم ينكر ذلك منكر لا نسلم ذلك ولهذا باحثوا ابن عباس وابن عمر وأبا هريرة في ذلك حتى أسند كل واحد ما أخبر به وقال ابن سيرين: لا نأخذ بمراسيل الحسن وأبي العالية وإن سلمنا عدم النكير فغايته أنهم سكتوا والسكوت لا يدل على الموافقة لما سبق تقريره في مسائل الإجماع سلمنا الموافقة غير أن الإرسال المحتج بوقوعه إنما وقع من الصحابة والتابعين ونحن نقول بذلك لأن الصحابي والتابعي إنما يروي عن الصحابي والصحابة عدول على ما سبق تحقيقه.
وأما ما ذكرتموه من المعقول فلا نسلم أن قول الراوي قال رسول الله تعديل للمروي عنه وذلك لأنه قد يروي الشخص عمن لو سئل عنه لجرحه أو توقف فيه فالراوي ساكت عن التعديل والجرح والسكوت عن الجرح لا يكون تعديلاً وإلا كان السكوت عن التعديل جرحاً ولهذا فإن شاهد الفرع لو أرسل شهادة الأصل فإنه لا يكون تعديلا لشاهد الأصل لما ذكرناه.
قولكم: لو لم يكن ظاناً لعدالة المروي عنه أو عالماً بها لما جاز له أن يجزم بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: قد بينا إمكان الرواية عن الكاذب والجزم بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم مع تجويز كذب الراوي وذلك قادح في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا تعذر الجزم فليس حمل قوله قال على معنى أظن أنه قال أولى من حمله على أني سمعت أنه قال ولو حمل على أني سمعت أنه قال لم يكن ذلك تعديلاً وعلى هذا فلا يكون بروايته مدلساً ولا ملبساً.
سلمنا أن الإرسال تعديل للمروي عنه ولكن لا نسلم أن مطلق التعديل مع قطع النظر عن ذكر أسباب العدالة كاف في التعديل كما سبق.(1/157)
سلمنا أن مطلق التعديل كاف لكن إذا عين المروي عنه ولم يعرف بفسق وأما إذا لم يعينه فلعله اعتقده عدلاً في نظره ولو عينه لعرفنا فيه فسقاً لم يطلع المعدل عليه ولهذا لم يقبل تعديل شاهد الفرع لشاهد الأصل مع عدم تعيينه.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على التعديل لكنه معارض بما يدل على عدم التعديل وبيانه من ستة أوجه.
الأول أن الجهالة بعين الراوي آكد من الجهل بصفته وذلك لأن من جهلت ذاته فقد جهلت صفته ولا كذلك بالعكس ولو كان معلوم العين مجهول الصفة لم يكن خبره مقبولاً فإذا كان مجهول العين والصفة أولى أن لا يكون خبره مقبولاً.
الثاني أن من شرط قبول الرواية المعرفة بعدالة الراوي والمرسل لا يعرف عدالة الراوي له فلا يكون خبره مقبولاً لفوات الشرط.
الثالث هو أن الخبر كالشهادة في اعتبار العدالة وقد ثبت أن الإرسال في الشهادة مانع من قبولها فكذلك الخبر.
الرابع أنه لو جاز العمل بالمراسيل لم يكن لذكر أسماء الرواة والبحث عن عدالتهم معنى.
الخامس أنه لو وجب العمل بالمراسيل لزم في عصرنا هذا أن يعمل بقول الإنسان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا وإن لم يذكر الرواة وهو ممتنع.
السادس أن الخبر خبران: تواتر وآحاد ولو قال الراوي: أخبرني من لا أحصيهم عدداً لا يقبل قوله في التواتر فكذلك في الآحاد.
والجواب قولهم: الإجماع لا يساعد في مسائل الاجتهاد قلنا: الذي لا يساعد إنما هو الإجماع القاطع في متنه وسنده وما ذكرناه من الإجماع السكوتي فظني فلا يمتنع التمسك به في مسائل الاجتهاد كالظاهر من الكتاب والسنة قولهم: لا نسلم عدم الإنكار قلنا: الأصل عدمه.
قولهم: إنهم باحثوا ابن عباس وابن عمر وأبا هريرة قلنا: المراجعة في ذلك لا تدل على إنكار الإرسال بل غايته طلب زيادة علم لم تكن حاصلة بالإرسال وقول ابن سيرين ليس إنكاراً للإرسال مطلقاً بل إرسال الحسن وأبي العالية لا غير لظنه أنهما لم يلتزما في ذلك تعديل المروي عنه ولهذا قال فإنهما لا يباليان عمن أخذا الحديث منه لا على الإرسال.
قولهم: السكوت لا يدل على الموافقة قلنا: وإن لم يدل عليها قطعاً فهو دليل عليها ظناً كما سبق تقريره في الإجماع.
قولهم: نحن لا ننكر أن إرسال الصحابة والتابعين حجة قلنا إنما يصح ذلك أن لو كانوا لا يروون إلا عن الصحابي العدل وليس كذلك ولهذا قال الزهري بعد الإرسال حدثني به رجل على باب عبد الملك وقال عروة بن الزبير فيما أرسله: حدثني به بعض الحرسية.
قولهم: لا نسلم أن قول الراوي قال رسول الله تعديل للمروي عنه قلنا: دليله ما سبق.
قولهم إن الراوي قد يروي عمن لو سئل عنه لجرحه أو عدله قلنا: ذلك إنما يكون فيما إذا كان قد عين الراوي ووكل النظر فيه إلى المجتهدين ولم يجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا بل غايته أنه قال: قال فلان إن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وأما إذا لم يعين فالظاهر أنه لا يجزم بقوله: قال النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد علم أو ظن عدالة الراوي على ما سبق.
وأما إرسال الشهادة فلا يلزم من عدم قبولها عدم قبول الإرسال في الرواية لأن الشهادة قد اعتبر فيها من الاحتياط ما لم يعتبر في الرواية كما سبق تقريره.
قولهم: إن الجزم مع تجويز كذب من روي عنه كذب قلنا إنما يكون كذباً إن لو ظن أو علم أنه كاذب وأما إذا قال ذلك مع ظن الصدق فلا يكون كاذباً وإن احتمل في نفس الأمر أن يكون المروي عنه كاذباً كما لو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العنعنة.
قولهم: سلمنا أن الإرسال من الراوي تعديل للمروي عنه لكنه تعديل مطلق فلا يكون حجة موجبة للعمل به على الغير قلنا: قد بينا أن التعديل المطلق دون تعيين سببه كاف فيما تقدم.
قولهم: لعله اعتقده عدلاً ولو عينه لعرفنا فيه فسقاً لم يعرفه المعدل قلنا: وإن كان ذلك محتملاً غير أن الظاهر عدمه ولا سيما مع تعديل العدل العالم بأحوال الجرح والتعديل وعدم الظفر بما يوجب الجرح وأما اعتبار الرواية بالشهادة فقد عرف وجه الفارق فيهما.
وما ذكروه من المعارضة الأولى فإنما يصح أن لو كان يلزم من الجهل بعين الراوي الجهل بصفته مطلقاً وليس كذلك مما بيناه من أن الإرسال يدل على تعديله من جهة الجملة وإن جهلت عينه وبهذا يبطل ما ذكروه من المعارضة الثانية.(1/158)
وأما المعارضة الثالثة فقد عرف جوابها بالفرق بين الرواية والشهادة.
وأما المعارضة الرابعة فجوابها ببيان فائدة ذكر الراوي وذلك من وجهين: الأول أن الراوي قد يشتبه عليه حال المروي عنه فيعينه ليكل النظر في أمره إلى المجتهد بخلاف ما إذا أرسل.
الثاني أنه إذا عين الراوي فالظن الحاصل للمجتهد بفحصه بنفسه عن حاله يكون أقوى من الظن الحاصل له بفحص غيره.
وأما المعارضة الخامسة فمندفعة أيضاً فإنه مهما كان المرسل للخبر في زماننا عدلاً ولم يكذبه الحفاظ فهو حجة.
وأما المعارضة السادسة فإنما لم يصر الخبر بقول الواحد متواتراً لأن المتواتر يشترط فيه استواء طرفيه ووسطه والواحد ليس كذلك فلا يحصل بخبره التواتر.
وإذا عرف أن المرسل مقبول من العدل فمن لم يقل به كالشافعي فقد قيل إنه لا معنى لقوله إنه يكون مقبولاً إذا أسنده غير المرسل أو أسنده المرسل مرة لأن الاعتماد في ذلك إنما هو على الإسناد لا على الإرسال ولا معنى لقوله إنه يكون مقبولاً إذا أرسله اثنان وكانت مشايخها مختلفة لأن ضم الباطل إلى الباطل غير موجب للقبول وليس بحق لأن الظن الحاصل بصدق الراوي من الإرسال مع هذه الأمور أقوى منه عند عدمها.
وعلى هذا فلا يلزم من عدم الاحتجاج بأضعف الظنين عدم الاحتجاج بأقواهما.
وإذا عرف الخبر المقبول وغير المقبول فإذا تعارض خبران مقبولان فالعمل بأحدهما متوقف على الترجيح وسيأتي في قاعدة الترجيحات بأقصى الممكن إن شاء الله تعالى.
النوع الثاني فيما يتعلق بالنظر في المتن وفيه بابان: أولهما: فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع وثانيهما: فيما يشترك فيه الكتاب والسنة دون ما عداهما من الأدلة.
الباب الأول
فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع
وكل واحد من هذه الأصول الثلاثة إما أن يدل على المطلوب بمنظومه أو لا بمنظومه فلنفرض في كل واحد منها قسماً.
القسم الأول في دلالات المنظوم وهي تسعة أصناف. الصنف الأول في الأمر وفيه أربعة أبحاث: أولها فيما يدل اسم الأمر عليه حقيقة وثانيها في حد الأمر الحقيقي وثالثها في صيغة الأمر الدالة عليه ورابعها في مقتضاه.
البحث الأول: فيما يطلق عليه اسم الأمر حقيقة. فنقول اتفق الأصوليون على أن اسم الأمر حقيقة في القول المخصوص وهو قسم من أقسام الكلام ولذلك قسمت العرب الكلام إلى أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد ونداء وسواء قلنا إن الكلام هو المعنى القائم بالنفس أو العبارة الدالة بالوضع والاصطلاح على اختلاف المذاهب والكلام القديم النفساني عندنا وإن كان صفة واحدة لا تعدد فيه في ذاته غير أنه يسمى أمراً ونهياً وخبراً إلى غير ذلك من أقسام الكلام بسبب اختلاف تعلقاته ومتعلقاته كما سبق تقريره في أبكار الأفكار فلا يمتنع أن يكون الأمر قسماً من أقسامه بهذا التفسير وإنما وقع الخلاف بينهم في إطلاق اسم الأمر على الفعل هل هو حقيقة أولاً؟ والأكثرون على أنه مجاز واختيار أبي الحسين البصري أنه مشترك بين الشيء والصفة وبين جملة الشأن والطرائق ووافق على أنه ليس حقيقة في نفس الفعل من حيث هو فعل بل من حيث هو شيء.
وها نحن نذكر حجج كل فريق وننبه على ما فيها ونذكر بعد ذلك ما هو المختار.
أما حجة أبي الحسين البصري على ما ذهب إليه أن الإنسان إذا قال هذا أمر لم يدر السامع مراده من قوله إلا بقرينة وهو غير صحيح لكونه مصادراً بدعوى التردد في إطلاق اسم الأمر ولا يخفى ظهور المنع من مدعي الحقيقة في القول المخصوص وأنه مهما أطلق اسم الأمر عنده كان المتبادر إلى فهمه القول المخصوص وأنه لا ينصرف إلى غيره إلا بقرينة ولا يخفى امتناع تقرير التردد مع هذا المنع.
وأما حجج القائلين بكونه مجازاً في الفعل فكثيرة الأولى منها أنه لو كان حقيقة في الفعل مع كونه حقيقة في القول لزم منه الاشتراك في اللفظ وهو خلاف الأصل لكونه مخلاً بالتفاهم لاحتياجه في فهم المدلول المعين منه إلى قرينة وعلى تقدير خفائها لا يحصل المقصود من الكلام.(1/159)
الثانية أنه لو كان حقيقة في الفعل لاطرد في كل فعل إذ هو لازم الحقيقة ولهذا فإنه لما كان إطلاق اسم العالم على من قام به العلم حقيقة اطرد في كل من قام به العلم ولما كان قوله: " واسأل القرية " " يوسف 82 " مجازاً عن أهلها لما بينهما من المجاورة لم يصح التجوز بلفظ السؤال للبساط والكوز عن صاحبه وإن كانت الملازمة بينهما أشد وهو غير مطرد إذ لا يقال للأكل والشرب أمر.
الثالثة أنه لو كان حقيقة في الفعل لاشتق لمن قام به منه اسم الآمر كما في القول المخصوص إذ هو الأصل إلا أن يمنع مانع من جهة أهل اللغة كما اشتقوا اسم القارورة للزجاجة المخصوصة من قرار المائع فيها ومنعوا من ذلك في الجرة والكوز ولم يرد مثله فيما نحن فيه.
الرابعة أن جمع الأمر الحقيقي في القول المخصوص بأوامر وهو لازم له لنفس الأمر لا للمسمى وهو غير متحقق في الفعل بل إن جمع فإنما يجمع بأمور.
الخامسة أن الأمر الحقيقي له متعلق وهو المأمور وهو غير متحقق في الفعل فإنه وإن سمي أمراً فلا يقال له مأمور ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم.
السادسة أن من لوازم الأمر الحقيقي وصفه بكونه مطاعاً أو مخالفاً ولا كذلك الفعل.
وفي هذه الحجج نظر: أما الأولى فلقائل أن يقول: لا نسلم أنه يلزم من كونه حقيقة في الفعل أن يكون مشتركاً إذا أمكن أن يكون حقيقة فيهما باعتبار معنى مشترك بين القول المخصوص والفعل فيكون متواطئاً فإن قيل: الأصل عدم ذلك المسمى المشترك فلا تواطئ قيل: لا خفاء باشتراكهما في صفات وافتراقهما في صفات فأمكن أن يكون بعض الصفات المشتركة هو المسمى كيف وإن الأصل أن لا يكون اللفظ مشتركاً ولا مجازاً لما فيه من الافتقار إلى القرينة المخلة بالتفاهم وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
فإن قيل: ما وقع به الاشتراك لا يخرج عن الموجود والصفة والشيئية وغير ذلك وأي أمر قدر الاشتراك فيه فهو متحقق في النهي وسائر أقسام الكلام ولا يسمى أمراً والقول بأنه متواطئ ممتنع كيف وإن القائل قائلان: قائل إنه مشترك وقائل إنه مجاز في الفعل فإحداث قول ثالث يكون خرقاً للإجماع وهو ممتنع.
قلنا: أما الأول فغير صحيح وذلك أن مسمى اسم الأمر إنما هو الشأن والصفة وكل ما صدق عليه ذلك كان نهياً أو غيره؟ فإنه يسمى أمراً حقيقة وعلى هذا فقد اندفع ما ذكروه من خرق الإجماع فإن ما ذكرناه من جعل الشأن والصفة مدلولاً لاسم الأمر فمن جملة ما قيل وإن سلمنا أن ذلك يفضي إلى الاشتراك ولكن لم قيل بامتناعه والقول بأنه مجاز بالتفاهم لافتقاره إلى القرينة وإنما يصح أن لو لم يكن اللفظ المشترك عند إطلاقه محمولاً على جميع محامله وليس كذلك على ما سيأتي تقديره في مذهب الشافعي والقاضي أبي بكر سلمنا أنه خلاف الأصل غير أن التجوز أيضاً خلاف الأصل وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
فإن قيل: إلا أن محذور الاشتراك أعظم من محذور التجوز فكان المجاز أولى وبيانه من جهة الإجمال والتفصيل: أما الإجمال فهو أن المجاز أغلب في لغة العرب من الاشتراك ولولا أنه أوفى بتحصيل مقصود الوضع لما كذلك.
وأما التفصيل فمن وجهين: الأول أن المحذور اللازم من الاشتراك بافتقاره إلى القرينة لازم له أبداً بخلاف المجاز فإن المحذور إنما يلزمه بتقدير إرادة جهة المجاز وهو احتمال نادر إذ الغالب إنما هو إرادة جهة الحقيقة.
الثاني أن المحذور لازم في المشترك في كل محمل من محامله لافتقاره إلى القرينة في كل واحد منها بخلاف المجاز فإنه إنما يفتقر إلى القرينة بتقدير إرادة جهة المجاز لا بتقدير إرادة جهة الحقيقة.
قيل هذا معارض من عشرة أوجه: الأول أن المشترك لكونه حقيقة في كل واحد من مسمياته مما يطرد بخلاف المجاز كما سبق وما يطرد أولى لقلة اضطرابه.
الثاني أنه يصح منه الاشتقاق لكونه حقيقة بخلاف المجاز فكان أوسع في اللغة وأكثر فائدة.
الثالث أنه لكونه حقيقياً مما يصح التجوز به في غير محله الحقيقي بخلاف المجاز فكان أولى لكثرة فائدته.
الرابع أنه وإن افتقر إلى قرينة لكن يكفي أن يكون أدنى ما يغلب على الظن بخلاف المجاز لافتقاره إلى قرينة مغلبة على الظن وأن تكون راجحة على جهة ظهور اللفظ في حقيقته فكان تمكن الخلل منه لذلك أكثر.(1/160)
الخامس أن المجاز لا بد فيه من علاقة بينه وبين محل الحقيقة تكون مصححة للتجوز باللفظ على ما سلف بخلاف المشترك.
السادس أن المجاز لا يتم فهمه دون فهم محل الحقيقة ضرورة كونه مستعاراً منه وفهم كل واحد من مدلولات اللفظ المشترك غير متوقف على فهم غيره فكان أولى.
السابع أن المجاز متوقف على تصرف من قبلنا في تحقيق العلاقة التي هي شرط في التجوز وربما وقع الخطأ فيه بخلاف اللفظ المشترك.
الثامن أنه يلزم من العمل باللفظ في جهة المجاز مخالفة الظهور في جهة الحقيقة بخلاف اللفظ المشترك إذ لا يلزم من العمل به في أحد مدلوليه مخالفة ظاهر أصلاً التاسع أن المجاز تابع للحقيقة ولا عكس فكان المشترك أولى.
العاشر أن السامع للمجاز بتقدير عدم معرفته بالقرينة الصارفة إلى المجاز إذا كان هو مراد المتكلم فقد يبادر إلى العمل بالحقيقة ويلزم منه ترك المراد وفعل ما ليس بمراد بخلاف المشترك فإنه بتقدير عدم ظهور القرينة مطلقاً لا يفعل شيئاً فلا يلزم سوى عدم المقصود.
فإن قيل: إلا أن المجاز يتعلق به فوائد فإنه ربما كان أبلغ وأوجز وأوقف في بديع الكلام ونظمه ونثره للسجع والمطابقة والمجانسة واتحاد الروي في الشعر إلى غير ذلك.
قلنا: ومثل هذا الاحتمال أيضاً منقدح في اللفظ المشترك مع كونه حقيقة فكان اللفظ المشترك أولى وإن لم يكن أولى فلا أقل من المساواة وهي كافية في مقام المعارضة.
وأما الحجة الثانية فلا نسلم امتناع إطلاق الأمر على الأكل والشرب وإن سلم ذلك فعدم اطراده في كل وقت مما يمنع من كونه حقيقة في القول المخصوص وهو غير مطرد في كل قول على ما لا يخفى وإن كان لا يمنع من ذلك في القول فكذلك في الفعل.
فإن قيل: إنما يجب إطراد الاسم في المعنى الذي كان الاسم حقيقة فيه لا في غيره والأمر إنما كان حقيقة في القول المخصوص لا في مطلق قول وذلك مطرد في ذلك القول فمثله لازم في الأفعال إذ للخصم أن يقول: إنما هو حقيقة في بعض الأفعال لا في كل فعل.
أما الحجة الثالثة أنه لو كان الأصل في الحقائق الاشتقاق لكان المنع من اشتقاق اسم القارورة للجرة والكوز من قرار المائع فيها على خلاف الأصل.
فإن قيل: ولو لم يكن على وفق الأصل لكان الاشتقاق في صور الاشتقاق على خلاف الأصل والمحذور اللازم منه أكثر لأن صور الاشتقاق أغلب وأكثر من صور عدم الاشتقاق قيل: لا يلزم من عدم الأصالة في الاشتقاق أن يكون الاشتقاق على خلاف الأصل لجواز أن يكون الاشتقاق وعدمه لا على وفق أصل فيقتضيه بل هما تابعان للنقل والوضع.
كيف وإنه إذا جاز أن يكون الاشتقاق من توابع الحقيقة جاز أن يكون من توابع بعض المسميات وليس أحد الأمرين أولى من الآخر وعلى هذا فلا يلزم من الاشتقاق في بعض المسميات الاشتقاق في غيره لعدم الاشتراك في ذلك المسمى وبهذا يندفع ما ذكروه من الحجة الرابعة والخامسة والسادسة.
كيف وقد قيل في الحجة الرابعة إن أوامر ليست جمع أمر بل جمع إمرة وأما القائلون بكونه مشتركاً بين القول المخصوص والفعل فقد احتجوا بثلاث حجج.
الأولى أن المسمى في نفسه مختلف وكما قد أطلق اسم الأمر على القول المخصوص فقد أطلق على الفعل والأصل في الإطلاق الحقيقة ويدل على الإطلاق قول العرب: أمر فلان بكذا مستقيم أي عمله وإليه الإشارة بقوله تعالى: " وما أمرنا إلا واحدة " " القمر 50 " أي فعلنا " وما أمر فرعون برشيد " " هود 97 " .
الحجة الثانية: أن اسم الأمر في الفعل قد جمع بأمور والجمع علامة الحقيقة.
والحجة الثالثة: أنه لو كان اسم الأمر في الفعل مجازاً لم يخل إما أن يكون مجازاً بالزيادة أو بالنقصان أو لمشابهته لمحل الحقيقة أو لمجاوز له أو لأنه كان عليه أو سيؤل إليه ولم يتحقق شيء من ذلك في الفعل وإذا لم يكن مجازاً كان حقيقة وهذه الحجج ضعيفة أيضاً.
أما الحجة الأولى: فلقائل أن يقول لا نسلم صحة إطلاق اسم الأمر على الفعل وقولهم أمر فلان مستقيم ليس مسماه الفعل بل شأنه وصفته وهو المراد من قوله تعالى: " وما أمرنا إلا واحدة " " القمر 50 " ومن قوله: " وما أمر فرعون برشيد " " هود 97 " .(1/161)
وأما الحجة الثانية: فلا نسلم أن الجمع دليل الحقيقة بدليل قولهم في جمع من سمي حماراً لبلادته حمر وهو مجاز وإن سلمنا بأن الجمع يدل على الحقيقة ولكن لا نسلم أن أمور جمع أمر بل الأمر والأمور كل واحد منهما يقع موقع الآخر وليس أحدهما جمعاً للآخر ولهذا يقال: أمر فلان مستقيم فيفهم منه ما يفهم من قولهم: أمور فلان مستقيمة.
وأما الحجة الثالثة: فهو أنه لا يلزم من كون الأمر ليس مجازاً في الفعل أن يكون حقيقة فيه من حيث هو فعل وإنما هو حقيقة فيه من جهة ما اشتمل عليه من معنى الشأن والصفة كما سبق.
وعلى هذا فالمختار إنما هو كون الاسم اسم الأمر متواطئاً في القول المخصوص والفعل لا أنه مشترك ولا مجاز في أحدهما.
البحث الثاني: في حد الأمر وقد اختلفت المعتزلة فيه بناء على إنكارهم لكلام النفس: فذهب البلخي وأكثر المعتزلة إلى أن الأمر هو قول القائل لمن دونه افعل أو ما يقوم مقامه وأراد بقوله: يقوم مقامه أي في الدلالة على مدلوله وقصد بذلك إدراج صيغة الأمر من غير العربي في الحد وهو فاسد من ثلاثة أوجه.
الأول: أن مثل ذلك قد يوجد فيما ليس بأمر بالاتفاق كالتهديد في قوله تعالى: " اعملوا ما شئتم " فصلت 40 " والإباحة في قوله: " وإذا حللتم فاصطادوا " " المائدة 2 " والإرشاد في قوله: " فاستشهدوا " " النساء 15 " والامتنان كقوله: " كلوا مما رزقكم الله " " الأنعام 142 " والإكرام كقوله: " ادخلوها بسلام آمنين " " الحجر 46 " والتسخير والتعجيز إلى غير ذلك من المحامل التي يأتي ذكرها.
الثاني: أنه يلزم من ذلك أن تكون صيغة افعل الواردة من النبي صلى الله عليه وسلم نحونا أمراً حقيقة لتحقق ما ذكروه من شروط الأمر فيها ويلزم من ذلك أن يكون هو الآمر لنا بها ويخرج بذلك عن كونه رسولاً لأنه لا معنى للرسول غير المبلغ لكلام المرسل لا أن يكون هو الآمر والناهي كالسيد إذا أمر عبده وسواء كانت صيغته مخلوقة له كما هو مذهبهم أو لله تعالى كما هو مذهبنا.
الثالث: أنه قد يرد مثل هذه الصيغة من الأعلى نحو الأدنى ولا يكون أمراً بأن يكون ذلك على سبيل التضرع والخضوع وقد يرد من الأدنى نحو الأعلى ويكون أمراً إذا كانت على سبيل الاستعلاء لا على سبيل الخضوع والتذلل ولذلك يوصف قائلها بالجهل والحمق بأمره لمن هو أعلى رتبة منه.
ومنهم من قال: الأمر صيغة افعل على تجردها من القرائن الصارفة لها عن جهة الأمر إلى التهديد وما عداه من المحامل.
وهو أيضاً فاسد من حيث إنه أخذ الأمر في تعريف الأمر وتعريف الشيء بنفسه محال وإن اقتصروا في التحديد على القول بأن الأمر صيغة افعل المجردة عن القرائن لا غير وزعموا أن صيغة افعل فيما ليس بأمر لا تكون مجردة عن القرائن فليس ما ذكروه أولى من قول القائل: التهديد عبارة عن صيغة افعل المجردة عن القرائن إلا أن يدل عليه دليل من جهة السمع وهو غير متحقق.
ومنهم من قال: الأمر صيغة افعل بشرط إرادات ثلاث إرادة إحداث الصيغة وإرادة الدلالة بها على الأمر وإرادة الامتثال: فإرادة إحداث الصيغة احتراز عن النائم إذا وجدت هذه الصيغة منه وإرادة الدلالة بها على الأمر احتراز عما إذا أريد بها التهديد أو ما سواه من المحامل وإرادة الامتثال احتراز عن الرسول الحاكي المبلغ فإنه وإن أراد إحداث الصيغة والدلالة بها على الأمر فقد لا يريد بها الامتثال وهو أيضاً فاسد من وجهين: الأول: أنه أخذ الأمر في حد الأمر وتعريف الشيء بنفسه محال ممتنع الثاني: هو أن الأمر الذي هو مدلول الصيغة إما أن يكون هو الصيغة أو غير الصيغة فإن كان هو نفس الصيغة كان الكلام متهافتاً من حيث إن حاصله يرجع إلى أن الصيغة دالة على الصيغة والدال غير المدلول وإن كان هو غير الصيغة فيمتنع أن يكون الأمر هو الصيغة وقد قال بأن الأمر هو صيغة افعل بشرط الدلالة على الأمر فإن الشرط غير المشروط وإذا كان الأمر غير الصيغة فلا بد من تعريفه والكشف عنه إذ هو المقصود في هذا المقام.(1/162)
ولما انحسمت عليهم طرق التعريف قال قائلون منهم: الأمر هو إرادة الفعل وقد احتج الأصحاب على إبطاله بأن السيد المعاتب من جهة السلطان على ضرب عبده إذا اعتذر عن ذلك قصد إظهار أمره وأمره بين يدي السلطان قصداً لإظهار مخالفته لبسط عذره والخلاص من عقاب السلطان له فإنه يعد آمراً والعبد مأموراً ومطيعاً بتقدير الامتثال وعاصياً بتقدير المخالفة مع علمنا بأنه لا يريد منه الامتثال لما فيه من ظهور كذبه وتحقيق عقاب السلطان له والعاقل لا يقصد ذلك غير أن مثل هذا لازم على أصحابنا إن كان صحيحاً في تفسيرهم الأمر بطلب الفعل من جهة أن السيد أيضاً آمر في مثل هذه الصورة لعبده مع علمنا بأنه يستحيل منه طلب الفعل من عبده لما فيه من تحقيق عقابه وكذبه والعاقل لا يطلب ما فيه مضرته وإظهار كذبه وعند ذلك فما هو جواب أصحابنا في تفسير الأمر بالطلب يكون جواباً للخصم في تفسيره بالإرادة.
وإن زعم بعض أصحابنا أن الأمر ليس هو الطلب بل الإخبار باستحقاق الثواب على الفعل فيلزمه أن يكون الآمر لعبده مما يصح تصديقه وتكذيبه في أمره لعبده ضرورة كون الأمر خبراً وهو ممتنع كيف وإنه على خلاف تقسيم أهل اللغة الكلام إلى أمر وخبر والحق في ذلك أن يقال أجمع المسلمون من غير مخالفة من الخصوم على أن من علم الله تعالى أنه يموت على كفره أنه مأمور بالإيمان وليس الإيمان منه مراد الله تعالى لأنه لا معنى لكونه مراداً لله تعالى سوى تعلق الإرادة به ولا معنى لتعلق الإرادة بالفعل سوى تخصيصها له بحالة حدوثه فلا يعقل تعلقها به دون تخصيصها له بحالة حدوثه وما لم يوجد لم تكن الإرادة مخصصة له بحالة حدوثه فلا تكون متعلقة به وليقنع بهذا هاهنا عما استقصيناه من الوجوه الكثيرة في علم الكلام.
وأما أصحابنا فمنهم من قال: الأمر عبارة عن الخبر على الثواب على الفعل تارة والعقاب على الترك تارة وهو فاسد لما سبق من امتناع تصديق الآمر وتكذيبه ولأنه يلزم منه لزوم الثواب على فعل ما أمر به والعقاب على تركه من جهة الشارع حذراً من الخلف في خبر الصادق وليس كذلك بالإجماع أما الثواب فلجواز إحباط العمل بالردة وأما العقاب فلجواز العفو والشفاعة ويمكن أن يحترز عن هذا الإشكال بأن يقال: هو الإخبار باستحقاق الثواب والعقاب غير أنه يبقى عليه الإشكال الأول من غير دافع.
ومنهم من قال: وهم الأكثرون كالقاضي أبي بكر وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم: الأمر هو القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به فقولهم: القول كالجنس للأمر وغيره من أقسام الكلام وقولهم: المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به للفصل بين الأمر وغيره من أقسام الكلام ولفصل الأمر عن الدعاء والسؤال.
ومنهم من زاد في الحد بنفسه احترازاً عن الصيغة فإنها لا تقتضي الطاعة بنفسها بل بالتوقيف والاصطلاح وعلى كل تقدير فهو باطل لما فيه من تعريف الأمر بالمأمور والمأمور به وهما مشتقان من الأمر والمشتق من الشيء أخفى من ذلك الشيء وتعريف الشيء بما لا يعرف إلا بعد معرفة ذلك الشيء محال.
ومنهم من قال: الأمر هو طلب الفعل على وجه يعد فاعله مطيعاً وهو أيضاً باطل لما فيه من تعريف الأمر بالطاعة المتعلقة بالفعل والطاعة المتعلقة بالفعل لا تعرف إلا بموافقة الأمر وهو دور ممتنع كيف وإن فعل الرب تعالى لما طلبه العبد منه بالسؤال يقال له باعتبار موافقة طلب للعبد مطيعاً بدليل قوله عليه السلام: " إن أطعت الله أطاعك " أي إن فعلت ما أراد فعل ما تريد وليس طلب العبد من الله تعالى بجهة السؤال لله أمراً إذ الأمر لله قبيح شرعاً بخلاف السؤال ويمكن الاحتراز عنه بما يعد فاعله مطيعاً في العرف العام والباري تعالى ليس كذلك.
والأقرب في ذلك إنما هو القول الجاري على قاعدة الأصحاب وهو أن يقال: الأمر طلب الفعل على جهة الاستعلاء.
فقولنا: طلب الفعل احتراز عن النهي وغيره من أقسام الكلام وقولنا على جهة الاستعلاء احتراز عن الطلب بجهة الدعاء والالتماس.
فإن قيل قولكم: الأمر هو طلب الفعل إن أردتم به الإرادة فهو مذهب المعتزلة وليس مذهباً لكم وإن أردتم غيره فلا بد من تصويره وإلا كان فيه تعريف الأمر بما هو أخفى من الأمر.(1/163)
قلنا: إجماع العقلاء منعقد على أن الأمر قسم من أقسام الكلام وأنه واقع موجود لا ريب فيه وقد بينا امتناع تفسيره بالصيغة والإرادة بما سبق فما وراء ذلك هو المعني بالطلب والنزاع في تسميته بالطلب بعد الموافقة على وجوده فآيل إلى خلاف لفظي.
؟البحث الثالث: في الصيغة الدالة على الأمر وقد اختلف القائلون بكلام النفس: هل للأمر صيغة تخصه وتدل عليه دون غيره في اللغة أم لا؟ فذهب الشيخ أبو الحسن رحمه الله ومن تابعه إلى النفي وذهب من عداهم إلى الإثبات.
قال إمام الحرمين والغزالي: والذي نراه أن هذه الترجمة عن الأشعري خطأ فإن قول القائل لغيره: أمرتك وأنت مأمور صيغة خاصة بالأمر من غير منازعة وإنما الخلاف في أن صيغة افعل هل هي خاصة بالأمر أو لا لكونها مترددة في اللغة بين محامل كثيرة يأتي ذكرها.
واعلم أنه لا وجه لاستبعاد هذا الخلاف وقول القائل: أمرتك وأنت مأمور لا يرفع هذا الخلاف إذ الخلاف إنما هو في صيغة الأمر الموضوعة للإنشاء وما مثل هذه الصيغ أمكن أن يقال إنها إخبارات عن الأمر لا إنشاآت وإن كان الظاهر صحة استعمالها للإنشاء فإنه لا مانع من استعمال صيغة الخبر للإنشاء كما في قوله طلقت وبعت واشتريت ونحوه.
وبيانه أنه إذا قال لزوجته: طلقتك فإن الطلاق يقع عليه إجماعاً ولو كان إخباراً لكان إخباراً عن الماضي أو الحال لعدم صلاحية هذه الصيغة للاستقبال ولو كان كذلك لم يخل إما أن يكون قد وجد منه الطلاق أو لم يوجد: فإن كان الأول امتنع تعليقه بالشرط في قوله: إن دخلت الدار لأن تعليق وجود ما وجد على وجود ما لم يوجد محال وإن كان الثاني وجب أن يعد كاذباً وأن لا يقع الطلاق عليه وهو خلاف الإجماع.
وإن قدر أنه إخبار عن المستقبل مع الإحالة فيجب أيضاً أن لا يقع به الطلاق كما لو صرح بذلك وقال لها: ستصيرين طالقاً في المستقبل فإنه لا يقع به الطلاق مع أنه صريح إخبار عن وقوع الطلاق في المستقبل فما ليس بصريح أولى.
وإذا بطل كونه إخباراً تعين أن يكون إنشاء إذ الإجماع منعقد على امتناع الخلو منهما فإذا بطل أحدهما تعين الآخر.
البحث الرابع: في مقتضى صيغة الأمر وفيه اثنتا عشرة مسألة.
المسألة الأولى فيما ذا صيغة الأمر حقيقة فيه إذا وردت مطلقة عرية عن القرائن وقد اتفق الأصوليون على إطلاقها بازاء خمسة عشر اعتبار الوجوب كقوله " أقم الصلاة " " الإسراء 78 " والندب كقوله: " فكاتبوهم " " النور 33 " والإرشاد كقوله تعالى: " فاستشهدوا " " النساء 15 " وهو قريب من الندب لاشتراكهما في طلب تحصيل المصلحة غير أن الندب لمصلحة أخروية والإرشاد لمصلحة دنيوية والإباحة كقوله " فاصطادوا " " المائدة 2 " والتأديب وهو داخل في الندب كقوله: " كل مما يليك " والامتنان كقوله: " كلوا مما رزقكم الله " " الأنعام 142 " والإكرام كقوله: " ادخلوها بسلام " " الحجر 46 " والتهديد كقوله: " اعملوا ما شئتم " " فصلت 40 " والإنذار كقوله: " تمتعوا " " إبراهيم 30 " وهو في معنى التهديد والتسخير كقوله: " كونوا قردة خاسئين " " البقرة 65 " والتعجيز كقوله: " كونوا حجارة " " الإسراء 50 " والإهانة كقوله تعالى: " ذق إنك أنت العزيز " " الدخان 49 " والتسوية كقوله: " فاصبروا أو لا تصبروا " " الطور 16 " والدعاء كقوله: " اغفر لي " " نوح 28 " والتمني كقول الشاعر:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى
وكمال القدرة كقوله: " كن فيكون " " يس 82 " .
وقد اتفقوا على أنها مجاز فيما سوى الطلب والتهديد والإباحة غير أنهم اختلفوا: فمنهم من قال إنها مشتركة كاشتراك لفظ القرء بين الطلب للفعل وبين للتهديد المستدعي لترك الفعل وبين الإباحة المخيرة بين الفعل والترك ومنهم من قال إنها حقيقة في الإباحة مجاز فيما سواها.
ومنهم من قال إنها حقيقة في الطلب ومجاز فيما سواه وهذا هو الأصح وذلك لأنا إذا سمعنا أن أحداً قال لغيره: افعل كذا وتجرد ذلك عن جميع القرائن وفرضناه كذلك فإنه يسبق إلى الإفهام منه طلب الفعل واقتضاؤه من غير توقف على أمر خارج دون التهديد المستدعي لترك الفعل والإباحة المخيرة بين الفعل والترك ولو كان مشتركاً أو ظاهراً في الإباحة لما كان كذلك وإذا كان الطلب هو السابق إلى الفهم عند عدم القرائن مطلقاً دل ذلك على كون صيغة افعل ظاهرة فيه.(1/164)
فإن قيل: يحتمل أن يكون ذلك بناء عل عرف طارئ على الوضع اللغوي كما في لفظ الغائط والدابة وإن سلم دلالة ما ذكرتموه على الظهور في الطلب غير أنه معارض بما يدل على ظهوره في الإباحة لكونها أقل الدرجات فكانت مستيقنة.
قلنا: جواب الأول أن الأصل عدم العرف الطارئ وبقاء الوضع الأصلي بحاله وجواب الثاني لا نسلم أن الإباحة متيقنة إذ هي مقابلة للطلب والتهديد لكونها غير مستدعية للفعل ولا للترك والطلب مستدع للفعل والتهديد مستدع لترك الفعل فلا تيقن لواحد منهما.
المسألة الثانية إذا ثبت أن صيغة افعل ظاهرة في الطلب والاقتضاء فالفعل المطلوب لا بد وأن يكون فعله راجحاً على تركه فإن كان ممتنع الترك كان واجباً وإن لم يكن ممتنع الترك فإما أن يكون ترجحه لمصلحة أخروية فهو المندوب وإما لمصلحة دنيوية فهو الإرشاد.
وقد اختلف الأصوليون: فمنهم من قال إنه مشترك بين الكل وهو مذهب الشيعة ومنهم من قال إنه لا دلالة له على الوجوب والندب بخصوصه وإنما هو حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو ترجيح الفعل على الترك ومنهم من قال إنه حقيقة في الوجوب مجاز فيما عداه وهذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه والفقهاء وجماعة من المتكلمين كأبي الحسين البصري وهو قول الجباشي في أحد قوليه ومنهم من قال إنه حقيقة من الندب وهو مذهب أبي هاشم وكثير من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم وجماعة من الفقهاء وهو أيضاً منقول عن الشافعي رحمه الله تعالى.
ومنهم من توقف وهو مذهب الأشعري رحمه الله ومن تابعه من أصحابه كالقاضي أبي بكر والغزالي وغيرهما وهو الأصح وذلك لأن وضعه مشتركاً أو حقيقة في البعض مجازاً في البعض إما أن يكون مدركه عقلياً أو نقلياً: الأول محال إذ العقول لا مدخل لها في المنقول لا ضرورة ولا نظراً والثاني فإما أن يكون قطعياً أو ظنياً: والقطعي غير متحقق فيما نحن فيه والظني إنما ينفع أن لو كان إثبات مثل هذه المسألة مما يقنع فيه بالظن وهو غير مسلم فلم يبق غير التوقف.
فإن قيل: ما ذكرتموه مبني على أن مدار مثل هذه المسألة على القطع وهو غير مسلم ولا في شيء من اللغات وإن سلمنا ذلك لكن ما المانع أن يكون المدرك لا عقلياً محضاً ولا نقلياً محضاً بل هو مركب منهما كما يأتي تحقيقه وإن سلمنا الحصر فيما ذكرتموه غير أنه لازم عليكم في القول بالوقف أيضاً فإن العقل لا يقتضيه والنقل القطعي غير متحقق فيه والظن إنما يكتفى به أن لو كانت المسألة ظنية فما هو جوابكم عنه في القول بالوقف يكون جواباً لخصومكم فيما ذهبوا إليه على اختلاف مذاهبهم قلت: أما إنكار القطع في اللغات على الإطلاق فمما يفضي إلى إنكار القطع في جميع الأحكام الشرعية لأن مبناها على الخطاب بالألفاظ اللغوية ومعقولها وذلك كفر صراح والقول بأن ما ذكرتموه مبني على أن مدار ما نحن فيه على القطع.
قلنا: نحن في هذه المسألة غير متعرضين لنفي ولا إثبات بل نحن متوقفون فمن رام إثبات اللغة فيما نحن فيه بطريق ظني أمكن أن يقال له متى يكتفى بذلك فيما نحن فيه أإذا كان شرط إثباته القطع أم لا؟ ولا بد عند توجه التقسيم من تنزيل الكلام على الممنوع أو المسلم وكل واحد منهما متعذر لما سبق.
قولهم: ما المانع من كونه مركباً من العقل والنقل؟ قلنا: لأن ما ذكرناه من التقسيم في النقلي ثابت هاهنا كان مستقلاً أو غير مستقل والقطع لا سبيل إليه وإن كان ظنياً فالمركب منه ومن العقلي يكون ظنياً سواء كان العقلي ظنياً أو قطعياً.
قولهم: ما ذكرتموه لازم عليكم في الوقف قلنا: ليس كذلك لأن الواقف غير حاكم بل هو ساكت عن الحكم والساكت عن الحكم لا يفتقر إلى دليل فلا يكون ما ذكروه لازماً علينا شبه القائلين بالوجوب.
وقد ذكر أبو الحسين البصري في ذلك ما يناهز ثلاثين شبهة دائرة بين غث وثمين وها نحن نلخص حاصلها ونأتي على المعتمد من جملتها مع حذف الزيادات العرية عن الفائدة ونشير إلى جهة الانفصال عنها ثم نذكر بعد ذلك شبه القائلين بالندب وطرق تخريجها إن شاء الله تعالى فإما شبه القائلين بالوجوب فشرعية ولغوية وعقلية.
أما الشرعية فمنها ما يرجع إلى الكتاب ومنها ما يرجع إلى السنة ومنها ما يرجع إلى الإجماع.(1/165)
أما الكتاب فقوله تعالى: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " " النور 54 " ثم هدد عليه بقوله: " فإن توليتم فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم " " النور 54 " والتهديد على المخالفة دليل الوجوب وأيضاً قوله تعالى: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " " النور 63 " ووجه الاستدلال به ما سبق في الآية التي قبلها وأيضاً قوله تعالى لإبليس: " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " " الأعراف 12 " أو رد ذلك في معرض الذم بالمخالفة لا في معرض الاستفهام اتفاقاً وهو دليل الوجوب وأيضاً قوله تعالى: " وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون " " المرسلات 48 " ذمهم على المخالفة وهو دليل الوجوب وأيضاً قوله تعالى: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم " " الأحزاب 36 " والمراد من قوله قضي أي ألزم ومن قوله أمراً أي مأموراً وما لا خيرة فيه من المأمورات لا يكون إلا واجباً وأيضاً قوله تعالى: " أفعصيت أمري " " طه 93 " وقوله: " لا يعصون الله ما أمرهم " " التحريم 6 " وقوله: " لا أعصي لك أمراً " " الكهف 69 " وصف مخالف الأمر بالعصيان وهو اسم ذم وذلك لا يكون في غير الوجوب وأيضاً قوله تعالى: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت " " النساء 65 " أي أمرت ولولا أن الأمر للوجوب لما كان كذلك.
وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم لبريرة وقد عتقت تحت عبد وكرهته لو راجعتيه فقالت: بأمرك يا رسول الله فقال: لا إنما أنا شافع فقالت: لا حاجة لي فيه فقد عقلت أنه لو كان أمراً لكان واجباً والنبي صلى الله عليه وسلم قررها عليه وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " وهو دليل الوجوب وإلا فلو كان الأمر للندب فالسواك مندوب وأيضاً قوله لأبي سعيد الخدري حيث لم يجب دعاءه وهو في الصلاة أما سمعت الله تعالى يقول: " استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " " الأنفال 24 " وبخه على مخالفة أمره وهو دليل الوجوب وأيضاً فإنه لما سأله الأقرع بن حابس: أحجنا هذا لعامنا أم للأبد قال صلى الله عليه وسلم: " بل للأبد ولو قلت نعم لوجب " وذلك دليل على أن أوامره للوجوب.
وأما الإجماع فهو أن الأمة في كل عصر لم تزل راجعة في إيجاب العبادات إلى الأوامر من قوله تعالى: " أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " " البقرة 110 " إلى غير ذلك من غير توقف وما كانوا يعدلون إلى غير الوجوب إلا لمعارض وأيضاً فإن أبا بكر رضي الله عنه استدل على وجوب الزكاة على أهل الردة بقوله " وآتوا الزكاة " " البقرة 110 " ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فكان ذلك إجماعاً.
وأما من جهة اللغة فمن وجوه: الأول وصف أهل اللغة من خالف الأمر بكونه عاصياً ومنه قولهم أمرتك فعصيتني وقوله تعالى: " أفعصيت أمري " " طه 93 " وقول الشاعر:
أمرتك أمراً حازماً فعصيتني
والعصيان اسم ذم وذلك في غير الوجوب ممتنع وأيضاً فإن السيد إذا أمر عبده بأمر فخالفه حسن الحكم من أهل اللغة بذمه واستحقاقه للعقاب ولولا أن الأمر للوجوب لما كان كذلك.(1/166)
وأما من جهة العقل فمن وجوه: الأول أن الإيجاب من المهمات في مخاطبة أهل اللغة فلو لم يكن الأمر للوجوب لخلا الوجوب عن لفظ يدل عليه وهو ممتنع مع دعو الحاجة إليه وأيضاً فإنه قد ثبت أن الطلب لا يخرج عن الوجوب والندب ويمتنع أن يكون حقيقة في الندب لا بجهة الاشتراك ولا التعيين ولا بطريق التخيير لأن حمل الطلب على الندب معناه: افعل إن شئت وهذا الشرط غير مذكور في الطلب فيمتنع حمل الطلب عليه بوجه من هذه الوجوه ويلزم من ذلك أن يكون حقيقة في الوجوب وأيضاً فإن الأمر مقابل للنهي والنهي يقتضي ترك الفعل والامتناع من الفعل جزماً فالأمر يجب أن يكون مقتضياً للفعل ومانعاً من الترك جزماً وأيضاً فإن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده والنهي عن أضداده مما يمنع من فعلها وذلك غير متصور دون فعل المأمور به فكان واجباً وأيضاً فإن حمل الأمر على الوجوب أحوط للمكلف لأنه إن كان للوجوب فقد حصل المقصود الراجح وأمنا من ضرر تركه وإن كان للندب فحمله على الوجوب يكون أيضاً نافعاً غير مضر ولو حملناه على الندب لم نأمن من الضرر بتقدير كونه واجباً لفوات المقصود الراجح وأيضاً فإن المندوب داخل في الواجب من غير عكس فحمل الأمر على الوجوب لا يفوت معه المقصود من الندب بخلاف الحمل على الندب فكان حمله على الوجوب أولى وأيضاً فإن الأمر موضوع لإفادة معنى وهو إيجاد الفعل فكان مانعاً من نقيضه كالخبر وأيضاً فإن الأمر بالفعل يفيد رجحان وجود الفعل على عدمه وإلا كان مرجوحاً أو مساوياً ولو كان مرجوحاً لما أمر به لما فيه من الإخلال بالمصلحة الزائدة في الترك والتزام المفسدة الراجحة في الفعل وهو قبيح ولو كان مساوياً لم يكن الأمر به أولى من النهي عنه وذلك أيضاً قبيح وإذا كان راجحاً فلو جاز تركه لزم منه الإخلال بأرجح المقصودين وهو قبيح فلا يرد به الشرع فتعين الامتناع من الترك وهو معنى الوجوب.
والجواب من جهة الإجمال والتفصيل.
أما الإجمال فهو أن جميع ما ذكروه لا خروج له عن الظن وإنما يكون مفيداً فيما يطلب فيه الظن فقط وهو غير مسلم فيما نحن فيه وقوله صلى الله عليه وسلم: " نحن نحكم بالظاهر " فظني والكلام في صحة الاحتجاج به فيما نحن فيه فعلى ما تقدم وأما من جهة التفصيل فإنا نخص كل شبهة بجواب.
أما قوله تعالى: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " " النور 54 " فهو أمر والخلاف في اقتضائه للوجوب بحاله وقوله: " فإن توليتم فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم " " النور 54 " فإما أن لا يكون للتهديد بل للإخبار بأن الرسول عليه ما حمل من التبليغ وعليكم ما حملتم من القبول وليس في ذلك ما يدل على كون الأمر للوجوب وإن كان للتهديد فهو دليل على الوجوب فيما هدد على تركه ومخالفته من الأوامر وليس فيه ما يدل على أن كل أمر مهدد بمخالفته بدليل أمر الندب فإن المندوب مأمور به على ما سيأتي وليس مهدداً على مخالفته وإذا انقسم الأمر إلى مهدد عليه وغير مهدد وجب اعتقاد الوجوب فيما هدد عليه دون غيره وبه يخرج الجواب عن كل صيغة أمر هدد على مخالفتها وحذر منها ووصف مخالفها بكونه عاصياً وبه دفع أكثر ما ذكروه من الآيات.
ويخص قوله تعالى: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره " " النور 63 " بأنه غير عام في كل أمر بصيغته وإن قيل بالتعميم بالنظر إلى معقوله من جهة أنه مناسب رتب التحذير على مخالفته فإنما يصح أن لو لم يتخلف الحكم عنه في أمر الندب وقد تخلف فلا يكون حجة وأيضاً فإن غايته أنه حذر من مخالفة أمره ومخالفة أمره أن لا يعتقد موجبه وأن لا يفعل على ما هو عليه من إيجاب أو ندب ونحن نقول به وليس فيه ما يدل على أن كل أمر للوجوب.
ويخص قوله لإبليس: " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " " الأعراف 12 " بأنه غير عام في كل أمر.
ويخص قوله تعالى: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة " " الأحزاب 36 " الآية بأن المراد من قوله أن تكون لهم الخيرة من أمرهم أي في اعتقاد وجوب المأمور به أو ندبه وفعله على ما هو عليه إن كان واجباً فواجب وإن كان ندباً فندب.
ويخص قوله تعالى: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك " " النساء 65 " الآية بأنه لا حجة فيها وقوله: " ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت " " النساء 65 " أي حكمت به من الوجوب والندب والإباحة والتحريم ونحوه وليس فيه ما يدل على أن كل ما يقضي به يكون واجباً.(1/167)
وأما حديث بريرة فلا حجة فيه فإنها إنما سألت عن الأمر طلباً للثواب بطاعته والثواب والطاعة قد يكون بفعل المندوب وليس في ذلك ما يدل على أنها فهمت من الأمر الوجوب فحيث لم يكن أمراً لمصلحة أخروية لا بجهة الوجوب ولا بجهة الندب قالت: لا حاجة لي فيه.
فإن قيل: فإجابة شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم مندوب إليها فإذا لم يكن مأموراً بها تعين أن يكون الأمر للوجوب.
قلنا: إذا سلم أن الشفاعة في صورة بريرة غير مأمور بإجابتها فلا نسلم أنها كانت في تلك الصورة مندوبة ضرورة أن المندوب عندنا لا بد وأن يكون مأموراً به.
وأما خبر السواك ففيه ما يدل على أنه أراد بالأمر أمر الوجوب بدليل أنه قرن به المشقة والمشقة لا تكون إلا في فعل الواجب لكونه متحتماً بخلاف المندوب لكونه في محل الخيرة بين الفعل والترك ولا يمتنع صرف الأمر إلى الوجوب بقرينة ودخول حرف لولا على مطلق الأمر لا يمنع من هذا التأويل.
وأما خبر أبي سعيد الخدري فلا حجة فيه أيضاً فإن قوله تعالى: " استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " " الأنفال 24 " إنما كان محمولاً على وجوب إجابة النداء تعظيماً لله تعالى ولرسوله في إجابة دعائه ونفياً للإهانة عنه والتحقير له بالإعراض عن إجابة دعائه لما فيه من هضمه في النفوس وإفضاء ذلك إلى الإخلال بمقصود البعثة ولا يمتنع صرف الأمر إلى الوجوب بقرينة.
وأما خبر الحج فلا دلالة فيه وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ولو قلت نعم لوجب " ليس أمراً ليكون للوجوب بل لأنه يكون بياناً لقوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت " " آل عمران 97 " فإنه مقتض للوجوب غير أنه متردد بين التكرار والمرة الواحدة فقوله: لو قلت نعم لوجب أي تكرره لأنه يكون بياناً لما أوجبه الله تعالى لا أنه يكون موجباً.
وأما ما ذكروه من الإجماع فإن أريد به أن الأمة كانت ترجع في الوجوب إلى مطلق الأوامر فهو غير مسلم وليس هو أولى من قول القائل: إنهم كانوا يرجعون في الندب إلى مطلق الأوامر مع أن أكثر الأوامر للمندوبات وإن أريد به أنهم كانوا يرجعون في الوجوب إلى الأوامر المقترنة بالقرائن فلا حجة فيه.
وأما قصة أبي بكر فلا حجة في احتجاجه بقوله تعالى: " أقيموا الصلاة وأتوا الزكاة " " البقرة 110 " على أن الأمر بمطلقه للوجوب وذلك لأنهم لم يكونوا منكرين لأصل الوجوب حتى يستدل على الوجوب بالآية بل إنما أنكروا التكرار والاستدلال على تكرار ما وجب لا يكون استدلالاً على نفس اقتضاء الأمر بمطلقه للوجوب.
وأما قولهم: إن أهل اللغة يصفون من خالف الأمر المطلق بالعصيان ويحكمون عليه باستحقاق الذم والتوبيخ ليس كذلك فإنه ليس القول بملازمة هذه الأمور للأمر المطلق وملازمة انتفائها للأمر المقيد بالقرينة في المندوبات أولى من العكس.
فإن قيل: بل تقييد المندوب بالقرينة أولى من تقييد الواجب بها فإنها بتقدير خفائها تحمل على الوجوب وهو نافع غير مضر وبتقدير تقييد الواجب بها يلزم الإضرار بترك الواجب بتقدير خفائها لفوات المقصود الأعظم منه فهو معارض بأن الأوامر الواردة في المندوبات أكثر منها في الواجبات فإنه ما من واجب إلا ويتبعه مندوبات والواجب غير لازم للمندوب ولا يخفى أن المحذور في تقييد الأعم بالقرينة لاحتمال خفائها أعظم من محذور ذلك في الأخص وأما الشبه العقلية قولهم: إن الوجوب من المهمات.
قلنا والندب من المهمات وليس إخلاء أحد الأمرين من لفظ يدل عليه أولى من الآخر وإن قيل بأن المندوب له لفظ يدل عليه وهو قول القائل: ندبت ورغبت فللوجوب أيضاً لفظ يدل عليه وهو قوله: أوجبت وألزمت وحتمت.
قولهم أنه يمتنع أن يكون الأمر حقيقة في الندب لما ذكروه فهو مقابل بمثله فإن حمل الطلب على الوجوب معناه: افعل وأنت ممنوع من الترك وهو غير مذكور في الطلب فلا يكون حمله على أحدهما أولى من الآخر.
قولهم إن النهي يقتضي المنع من الفعل فيجب أن يكون الأمر مقتضياً للمنع من الترك.
قلنا: لا نسلم أن مطلق النهي يقتضي المنع من الفعل إلا أن يدل عليه دليل كما ذكرناه في الأمر وإن صح ذلك في النهي فحاصل ما ذكروه راجع إلى القياس في اللغة وهو باطل بما سبق.(1/168)
قولهم إن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده غير مسلم كما يأتي وإن سلم ولكن إنما يمكن القول بأن النهي عن أضداد المأمور به مما يمنع من فعلها إن لو كان الأمر للوجوب وإلا فبتقدير أن يكون للندب فالنهي عن أضداده يكون نهي تنزيه فلا يمنع من فعلها وعند ذلك فيلزم منه توقف الوجوب على كون النهي عن أضداده مانعاً من فعلها وذلك متوقف على كون الأمر للوجوب وهو دور ممتنع.
قولهم إن حمل الطلب على الوجوب أحوط للمكلف على ما ذكروه فهو معارض بما يلزم من حمله على الوجوب من الإضرار اللازم من الفعل الشاق بتقدير فعله والعقاب بتقدير تركه ولما فيه من مخالفة النفي الأصلي بما اختص به الوجوب من زيادة الذم والوصف بالعصيان بخلاف المندوب كيف وإن المكلف إذا نظر وظهر له أن الأمر للندب فقد أمن من الضرر وحصل مقصود الأمر.
قولهم إن المندوب داخل في الواجب ليس كذلك على ما سبق تقريره.
قولهم إن الأمر موضوع لمعنى فكان مانعاً من نقيضه دعوى محل النزاع والقياس على الخبر من باب القياس في اللغات وهو باطل بما سبق ثم إنه منقوض بالأمر بالمندوب فإنه مأمور به على ما سبق.
فإن قيل: لا يلزم من مخالفة الدليل في المندوب المخالفة مطلقاً قلنا يجب أن نعتقد أن ما ذكروه ليس بدليل حتى لا يلزم منه المخالفة في المندوب.
وما ذكروه من الشبهة الأخيرة فهي منتقضة بالمندوب وأما شبه القائلين بالندب فمنها نقلية وعقلية.
أما النقلية فقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذ نهيتكم عن شيء فانتهوا " فوض الأمر إلى استطاعتنا ومشيئتنا وهو دليل الندبية.
وأما العقلية فهو أن المندوب ما فعله خير من تركه وهو داخل في الواجب فكل واجب مندوب وليس كل مندوب واجباً لأن الواجب ما يلام على تركه والمندوب ليس كذلك فوجب جعل الأمر حقيقة فيه لكونه متيقناً.
وجوابهما من جهة الإجمال فما سبق في جواب شبه القائلين بالوجوب ومن جهة التفصيل: عن الأولى أنه لا يلزم من قوله: ما استطعتم تفويض الأمر إلى مشيئتنا فإنه لم يقل فافعلوا ما شئتم بل قال: ما استطعتم وليس ذلك خاصية للندب فإن كل واجب كذلك.
وعن الثانية ما سبق من امتناع وجود المندوب في الواجب ثم لو كان تنزيل لفظ الأمر على المتيقن لازماً لكان جعله حقيقة في رفع الحرج عن الفعل أولى لكونه متيقناً بخلاف المندوب فإنه متميز بكون الفعل مترجحاً على الترك وهو غير متيقن.
المسألة الثالثة اختلف الأصوليون في الأمر العري عن القرائن: فذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني وجماعة من الفقهاء والمتكلمين إلى أنه مقتض للتكرار المستوعب لزمان العمر مع الإمكان وذهب آخرون إلى أنه للمرة الواحدة ومحتمل للتكرار ومنهم من نفى احتمال التكرار وهو اختيار أبي الحسين البصري وكثير من الأصوليين ومنهم من توقف في الزيادة ولم يقض فيها بنفي ولا إثبات وإليه ميل إمام الحرمين والواقفية.
والمختار أن المرة الواحدة لا بد منها في الامتثال وهو معلوم قطعاً والتكرار محتمل فإن اقترن به قرينة أشعرت بإرادة المتكلم التكرار حمل عليه وإلا كان الاقتصار على المرة الواحدة كافياً والدليل على ذلك أنه إذا قال له: صل أو صم فقد أمره بإيقاع فعل الصلاة والصوم وهو مصدر افعل والمصدر محتمل للاستغراق والعدد ولهذا يصح تفسيره به فإنه لو قال لزوجته أنت طالق ثلاثاً وقع به لما كان تفسيراً للمصدر وهو الطلاق ولو اقتصر على قوله أنت طالق لم يقع سوى طلقة واحدة مع احتمال اللفظ للثلاث فإذا قال: صل فقد أمره بإيقاع المصدر وهو الصلاة والمصدر محتمل للعدد فإن اقترن به قرينة مشعرة بإرادة العدد حمل عليه وإلا فالمرة الواحدة تكون كافية ولهذا فإنه لو أمر عبده أن يتصدق صدقة أو يشتري خبزاً أو لحماً فإنه يكتفي منه بصدقة واحدة وشراء واحد ولو زاد على ذلك فإنه يستحق اللوم والتوبيخ لعدم القرينة الصارفة إليه وإن كان اللفظ محتملاً له وإنما كان كذلك لأن حال الآمر متردد بين إرادة العدد وعدم إرادته وإنما يجب العدد مع ظهور الإرادة ولا ظهور إذ الفرض فيما إذا عدمت القرائن المشعرة به فقد بطل القول بعدم إشعار اللفظ بالعدد مطلقاً وبطل القول بظهوره فيه وبالوقف أيضاً والاعتراض هاهنا يختلف باختلاف مذاهب الخصوم فمن اعتقد ظهوره في التكرار اعترض بشبه.(1/169)
الأولى: منها أن أوامر الشارع في الصوم والصلاة محمولة على التكرار فدل على إشعار الأمر به.
الثانية: أن قوله تعالى: " اقتلوا المشركين " يعم كل مشرك فقوله: صم وصل ينبغي أن يعم جميع الأزمان لأن نسبة اللفظ إلى الأزمان كنسبته إلى الأشخاص.
الثالثة: أن قوله صم كقوله لا تصم ومقتضى النهي الترك أبداً فوجب أن يكون الأمر مقتضياً للفعل أبداً لاشتراكهما في الاقتضاء والطلب.
الرابعة: أن الأمر اقتضى فعل الصوم واقتضى اعتقاد وجوبه والعزم عليه أبدا فكذلك الموجب الآخر.
الخامسة: أن الأمر لا اختصاص له بزمان دون زمان فليس حمله على البعض أولى من البعض فوجب التعميم.
السادسة: أنه لو لم يكن الأمر للتكرار لما صح الاستثناء منه لاستحالة الاستثناء من المرة الواحدة ولا تطرق النسخ إليه لأن ذلك يدل على البدا وهو محال على الله تعالى ولا حسن الاستفهام من الآمر أنك أردت المرة الواحدة أو التكرار ولكان قول الآمر لغيره صل مرة واحدة غير مفيد وكان قوله صل مراراً تناقضاً ولكان إذا لم يفعل المأمور ما أمر به في أول الوقت محتاجاً في فعله ثانياً إلى دليل وهو ممتنع.
السابعة: أن الحمل على التكرار أحوط للمكلف لأنه إن كان للتكرار فقد حصل المقصود ولا ضرر وإن لم يكن للتكرار لم يكن فعله مضراً.
الثامنة: إن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده والنهي عن أضداده يقتضي استغراق الزمان وذلك يستلزم استدامة فعل المأمور به.
التاسعة: قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " أي فأتوا بما أمرتكم به ما استطعتم وذلك يقتضي وجوب التكرار.
العاشرة: أن عمر بن الخطاب سأل النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه قد جمع بطهارة واحدة بين صلوات عام الفتح وقال: أعمداً فعلت هذا يا رسول الله؟ فقال: " نعم " ولولا أنه فهم تكرار الطهارة من قوله تعالى: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم " " المائدة 6 " لما كان للسؤال معنى.
الحادية عشرة: أنه إذا قال الرجل لغيره: أحسن عشرة فلان فإنه يفهم منه التكرار والدوام.
وأما شبه القائلين بامتناع احتمال التكرار فأولها أن من قال لغيره ادخل الدار يعد ممتثلاً بالدخول مرة واحدة كما أنه يصير ممتثلاً لقوله اضرب رجلاً بضرب رجل واحد ولذلك فإنه لا يلام بترك التكرار بل يلام من لامه عليه.
وثانيها: أنه لو قال القائل صام زيد صدق على المرة الواحدة من غير إدامة فليكن مثله في الأمر.
وثالثها: أنه لو حلف أنه ليصلين أو ليصومن برت يمينه بصلاة واحدة وصوم يوم واحد وعد آتياً بما التزمه فكذلك في الالتزام بالأمر.
ورابعها: أنه لو قال الرجل لوكيله طلق زوجتي لم يملك أكثر من تطليقة واحدة.
وخامسها: أنه لو كان الأمر للتكرار لكان قوله صل مراراً غير مفيد وكان قوله صل مرة واحدة نقصاً وليس كذلك.
وسادسها: أنه لو كان مطلق الأمر للتكرار لكان الأمر بعبادتين مختلفتين لا يمكن الجمع بينهما إما تكليفاً بما لا يطاق أو أن يكون الأمر بكل واحدة مناقضاً للأمر بالأخرى وهو ممتنع.
وأما شبه القائلين بالوقف فأولها أن الأمر بمطلقه غير ظاهر في المرة الواحدة ولا في التكرار ولهذا فإنه يحسن أن يستفهم من الآمر عند قوله اضرب ويقال له مرة واحدة أو مراراً ولو كان ظاهراً في أحد الأمرين لما حسن الاستفهام.
وثانيها: أنه لو كان ظاهراً في المرة الواحدة لكان قول الآمر اضرب مرة واحدة تكراراً أو مراراً تناقضاً وكذلك لو كان ظاهراً في التكرار.
والجواب عن الشبهة الأولى للقائلين بالتكرار هو أن حمل بعض الأوامر وإن كانت متكررة على التكرار لا يدل على استفادة ذلك من ظاهرها وإلا كان ما حمل من الأوامر على المرة الواحدة كالحج ونحوه مستفاداً من ظاهر الأمر ويلزم من ذلك إما التناقض أو اعتقاد الظهور في أحد الأمرين دون الآخر من غير أولوية وهو محال.
فإن قيل: اعتقاد الظهور في التكرار أولى لأن ما حمل من الأوامر على التكرار أكثر من المحمول على المرة الواحدة وعند ذلك فلو جعلناه ظاهراً في المرة الواحدة لكان المحذور اللازم من مخالفته في الحمل على التكرار أقل من المحذور اللازم من جعله ظاهراً في التكرار عند حمله على المرة الواحدة.(1/170)
قلنا: هذا إنما يلزم أن لو قلنا إن الأمر ظاهر في أحد الأمرين وليس كذلك بل الأمر عندنا إنما يقتضي إيقاع مصدر الفعل والمرة الواحدة من ضروراته لا أن الأمر ظاهر فيها وكذلك في التكرار فحمل الأمر على أحدهما بالقرينة لا يوجب مخالفة الظاهر في الآخر لعدم تحققه فيه.
وعن الثانية: وإن سلمنا أن العموم في قوله تعالى: " اقتلوا المشركين " " التوبة 5 " أنه يتناول كل مشرك فليس ذلك إلا لعموم اللفظ ولا يلزم مثله فيما نحن فيه لعدم العموم في قوله صم بالنسبة إلى جميع الأزمان بل لو قال صم في جميع الأزمان كان نظيراً لقوله اقتلوا المشركين.
وعن الثالثة: لا نسلم أن النهي المطلق للدوام وإنما يقتضيه عند التصريح بالدوام أو ظهور قرينة تدل عليه كما في الأمر وإن سلمنا اقتضاءه للدوام لكن ما ذكروه من إلحاق الأمر بالنهي بواسطة الاشتراك بينهما في الاقتضاء فرع صحة القياس في اللغات وقد أبطلناه وإن سلمنا صحة ذلك غير أنا نفرق وبيانه من وجهين: الأول أن من أمر غيره أن يضرب فقد أمره بإيقاع مصدره وهو الضرب فإذا ضرب مرة واحدة يصح أن يقال: وجد الضرب وإذا قال له لا تضرب فمقتضاه عدم إيقام الضرب فإذا انتهى في بعض الأوقات دون البعض يصح أن يقال: لم يعدم الضرب.
الثاني: إن حمل الأمر على التكرار مما يفضي إلى تعطيل الحوائج المهمة وامتناع الإتيان بالمأمورات التي لا يمكن اجتماعها بخلاف الانتهاء عن المنهي مطلقاً.
وعن الرابعة: أنها غير متجهة وذلك لأن دوام اعتقاد الوجوب عند قيام دليل الوجوب ليس مستفاداً من نفس الأمر وإنما هو من أحكام الإيمان فتركه يكون كفراً والكفر منهي عنه دائماً ولهذا كان اعتقاد الوجوب دائماً في الأوامر المقيدة.
وأما العزم فلا نسلم وجوبه ولهذا فإن من دخل عليه الوقت وهو نائم لا يجب على من حضره إنباهه ولو كان العزم واجباً في ذلك الوقت لوجب عليه كما لو ضاق وقت العبادة وهو نائم وإن سلمنا وجوب العزم لكن لا نسلم وجوبه دائماً بل هو تبع لوجوب المأمور به وإن سلمنا وجوبه دائماً فلا نسلم كونه مستفاداً من نفس الأمر ليلزم ما قيل بل إنما هو مستفاد من دليل اقتضى دوامه غير الأمر الوارد بالعبادة ولهذا وجب في الأوامر بالفعل مرة واحدة.
وعن الخامسة: أنها باطلة من جهة أن الأمر غير مشعر بالزمان وإنما الزمان من ضرورات وقوع الفعل المأمور به ولا يلزم من عدم اختصاصه ببعض الأزمنة دون البعض التعميم كالمكان.
وعن السادسة: وهي قولهم لو كان الأمر للمرة الواحدة لما دخله النسخ ليس كذلك عندنا فإنه لو أمر بالحج في السنة المستقبلة جاز نسخه عندنا قبل التمكن من الامتثال على ما يأتي وإنما ذلك لازم على المعتزلة وأما دخول الاستثناء فمن أوجب الفعل على الفور يمنع منه ومن أوجبه على التراخي فلا يمنع من استثناء بعض الأوقات التي المكلف مخير في إيقاع الواجب فيها وأما حسن الاستفهام فإنما كان لتحصيل اليقين فيما اللفظ محتمل له تأكيداً فإنه محتمل لإرادة التكرار وإرادة المرة الواحدة وبه يخرج الجواب عن قوله صل مرة وحدة وقوله صل مراراً غير متناقض بل غايته دلالة الدليل على إرادة التكرار المحتمل وإذا لم يفعل ما أمر به في أول الوقت فمن قال بالتراخي لا يحتاج إلى دليل آخر لأن مقتضى الأمر المطلق عنده تخيير المأمور في إيقاع الفعل في أي وقت شاء من ذلك الوقت ومن قال بالفور فلا بد له من دليل في ثاني الحال.
وعن السابعة: ما سبق في الواجب والمندوب.
وعن الثامنة: لا نسلم أن الأمر بالشيء نهي عن أضداده وإن سلم ذلك ولكن اقتضاء النهي للأضداد بصفة الدوام فرع كون الأمر مقتضياً للفعل على الدوام وهو محل النزاع.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر " الحديث إنما يلزم أن لو كان ما زاد على المرة الواحدة مأموراً به وليس كذلك.
وأما حديث عمر فلا يدل على أنه فهم أن الأمر بالطهارة يقتضي تكرارها بتكرر الصلاة بل لعله أشكل عليه أنه للتكرار فسأل النبي عن عمده وسهوه في ذلك لإزاحة الإشكال بمعرفة كونه للتكرار إن كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم سهواً أو لا للتكرار إن كان فعله عمداً كيف وإن فهم عمر لذلك مقابل بإعراض النبي صلى الله عليه وسلم عن التكرار ولو كان للتكرار لما أعرض عنه وله الترجيح.(1/171)
وأما الشبهة الأخيرة فإنما عم الأمر فيها بالإكرام وحسن العشرة للأزمان لأن ذلك إنما يقصد به التعظيم وذلك يستدعي استحقاق المأمور بإكرامه للإكرام وهو سبب الأمر فمهما لم يعلم زوال ذلك السبب وجب دوام المسبب فكان الدوام مستفاداً من هذه القرينة لا من مطلق الأمر.
والجواب عن الشبهة الأولى للقائلين بامتناع احتمال الأمر المطلق للتكرار أن ذلك يدل على أن الأمر غير ظاهر في التكرار ولا يلزم منه امتناع احتماله له ولهذا فإنه لو قال ادخل الدار مراراً بطريق التفسير فإنه يصح ويلزم ولو عدم الاحتمال لما صح التفسير.
وعن الثانية: أن ذلك قياس في اللغات فلا يصح وبه دفع الشبهة الثالثة وإذا قال لوكيله طلق زوجتي إنما لم يملك ما زاد على الطلقة الواحدة لعدم ظهور الأمر فيها لا لعدم الاحتمال لغة ولهذا لو قال طلقها ثلاثاً على التفسير صح.
وعن الخامسة: ما سبق.
وعن السادسة: أنها باطلة وذلك لأن زيادة المشقة من حمل الأمر على التكرار إما أن لا يكون منافياً له أو يكون منافياً: فإن كان الأول فلا اتجاه لما ذكروه وإن كان الثاني فغايته تعذر العمل بالأمر في التكرار عند لزوم الحرج فيلون ذلك قرينة مانعة من صرف الأمر إليه ولا يلزم من ذلك امتناع احتماله له لغة وجواب شبهة القائلين بالوقف ما سبق في جواب من تقدم والله أعلم.
المسألة الرابعة الأمر المعلق بشرط كقوله: " إذا زالت الشمس فصلوا " أو صفة كقوله: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " " النور 2 " هل يقتضي تكرار المأمور به بتكرر الشرط والصفة أم لا؟ فمن قال إن الأمر المطلق يقتضي التكرار فهو هاهنا أولى ومن قال إن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار اختلفوا هاهنا فمنهم من أوجبه ومنهم من نفاه.
وقبل الخوض في الحجاج لا بد من تلخيص محل النزاع فنقول ما علق به المأمور من الشرط أو الصفة إما أن يكون قد ثبت كونه علة في نفس الأمر لوجوب الفعل المأمور به كالزنا أو لا يكون كذلك بل الحكم متوقف عليه من غير تأثير له فيه كالإحصان الذي يتوقف عليه الرجم في الزنا فإن كان الأول فالاتفاق واقع على تكرر الفعل بتكرره نظراً إلى تكرر العلة ووقوع الاتفاق على التعبد باتباع العلة مهم وجدت فالتكرار مستند إلى تكرار العلة لا إلى الأمر وإن كان الثاني فهو محل الخلاف والمختار أنه لا تكرار.
وقد احتج القائلون بهذا المذهب بحجج واهية لا بد من التنبيه عليها وعلى ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
الحجة الأولى أنهم قالوا: أجمعنا على أن الخبر المعلق بالشرط أو الصفة لا يقتضي تكرار المخبر عنه كما لو قال: إن جاء زيد جاء عمرو فإنه لا يلزم تكرر مجيء عمرو في تكرر مجيء زيد فكذلك في الأمر وهي باطلة فإن حاصلها يرجع إلى القياس في اللغة وقد أبطلناه.
الثانية أنه لو قال لزوجته: إذا دخلت الدار فأنت طالق فإنه لا يتكرر الطلاق بتكرار الدخول فكذلك في قوله إذا " زالت الشمس فصلوا " وهو أيضاً من جنس ما تقدم لما فيه من قياس الأمر على إنشاء الطلاق الذي ليس بأمر.(1/172)
الثالثة أن اللفظ لا دلالة فيه إلا على تعليق شيء بشيء وهو أعم من تعليقه عليه في كل صورة أو في صورة واحدة والمشعر بالأعم لا يلزم أن يكون مشعراً بالأخص وحاصل هذه الحجة أيضاً يرجع إلى محض الدعوى بأن الأمر المضاف إلى الشرط أو الصفة لا يفهم منه اقتضاء التكرار بتكرر الشرط أو الصفة وهو عين محل النزاع وإنما الواجب أن يقال إنه مشعر بالأعم والأصل عدم إشعاره بالأخص والمعتمد في ذلك أن يقال: لو وجب التكرار لم يخل إما أن يكون المقتضي له نفس الأمر أو الشرط أو مجموع الأمرين: لا جائز أن يقال بالأول لما سبق في المسألة المتقدمة ولا بالثاني لأن الشرط غير مؤثر في المشروط بحيث يلزم من وجوده وجوده بل إنما تأثيره في انتفاء المشروط عند انتفائه وحيث قيل بملازمة المشروط لوجود الشرط في قوله لزوجته إن دخلت الدار فأنت طالق إنما كان لضرورة وجود الموجب وهو قوله: أنت طالق لا لنفس دخول الدار وإلا كان دخول الدار موجباً للطلاق مطلقاً وهو محال ولا جائز أن يقال بالثالث لأنا أجمعنا على أنه لو قال لعبده: إذا دخلت السوق فاشتر لحماً أنه لا يقتضي التكرار وذلك إما أن يكون مع تحقق الموجب للتكرار أو لا مع تحققه لا جائز أن يقال بالأول وإلا فانتفاء التكرار إما لمعارض أو لا لمعارض: والأول ممتنع لما فيه من المعارضة وتعطيل الدليل عن أعماله وهو خلاف الأصل والثاني أيضاً باطل لما فيه من مخالفة الدليل من غير معارض فلم يبق سوى الثاني وهو المطلوب فإن قيل: ما ذكرتموه معارض من وجوه: الأول: أنه قد وجد في كتاب الله تعالى أوامر متعلقة بشروط وصفات وهي متكررة بتكررها كقوله تعالى: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا " " المائدة 6 " الآية وقوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " " المائدة 38 " " والزانية والزاني " " النور 2 " الآية ولو لم يكن ذلك مقتضياً للتكرار لما كان متكرراً.
الثاني: أن العلة يتكرر الحكم بتكررها إجماعاً والشرط أقوى من العلة لانتفاء الحكم بانتفائه بخلاف العلة فكان اقتضاؤه للتكرار أولى.
الثالث: أن نسبة الحكم إلى إعداد الشرط المعلق عليه نسبة واحدة ولا اختصاص له بالموجود الأول منها دون ما بعده وعند ذلك فإما أن يلزم من انتفاء الحكم مع وجود الشرط ثانياً وثالثاً انتفاؤه مع وجود الشرط الأول أو من وجوده مع الأول الوجود مع الثاني وما بعده ضرورة التسوية: والأول خلاف الإجماع والثاني هو المطلوب.
الرابع: أنه لو لم يكن الأمر مقتضياً لتعليق الحكم بجميع الشروط بل بالأول منها فليزم أن يكون فعل العبادة مع الشرط الثاني دون الأول قضاء وكانت مفتقرة إلى دليل آخر وهو ممتنع.
الخامس: أن النهي المعلق بالشرط مفيد للتكرار كما إذا قال: إن دخل زيد الدار فلا تعطه درهماً والأمر ضد النهي فكان مشاركاً له في حكمه ضرورة اشتراكهما في الطلب والاقتضاء.
السادس: أن تعليق الأمر على الشرط الدائم موجب لدوام المأمور به بدوامه كما لو قال: إذا وجد شهر رمضان فصمه فإن الصوم يكون دائماً بدوام الشهر وتعليق الأمر على الشرط المتكرر في معناه فكان دائماً.
والجواب عن الأول أنه إذا ثبت بما ذكرناه أن الأمر المعلق بالشرط والصفة غير مقتض للتكرار فحيث قضي بالتكرار إما أن يكون الشرط والصفة علة للحكم المكرر في نفس الأمر كما في الزنا والسرقة أو لا يكون علة له: فإن كان الأول فالتكرار إنما كان لتكرر العلة الموجبة للحكم ولا كلام فيه وإن كان الثاني فيجب اعتقاد كونه متكرراً لدليل اقتضاه غير الأمر المعلق بالشرط والصفة لما ذكرناه من عدم اقتضائه كيف وإنه كما قد يتكرر الفعل المأمور به بتكرر الشرط فقد لا يتكرر كالأمر بالحج فإنه مشروط بالاستطاعة وهو غير متكرر بتكررها.
وعن الثاني: أنه لا يلزم من تكرر الحكم بتكرر العلة لكونها موجبة للحكم تكرره بتكرر الشرط مع أنه غير موجب للحكم كما تقرر.(1/173)
وعن الثالث: أنه إنما يلزم القائلين بالوجوب على الفور وليس كذلك عندنا بل الأمر مقتض للامتثال مع استواء التقديم والتأخير فيه إذا علم تجدد الشرط وغلب على الظن بقاء المأمور ويكون الأمر قد اقتضى تعلق المأمور به على الشروط كلها على طريق البدل من غير اختصاص له ببعضها دون بعض وأما إن لم يغلب على الظن تجدد الشرط ولا بقاء المأمور إلى حالة وجود الشرط الثاني فقد تعين اختصاص المأمور بالشرط الأول لعدم تحقق ما سواه.
وعلى هذا فقد خرج الجواب عن الرابع أيضاً.
وعن الخامس: أن حاصله يرجع إلى قياس الأمر على النهي في اللغة وهو باطل بما سبق كيف وإنا لا نسلم أن النهي المضاف إلى الشرط يتكرر بتكرر الشرط بل ما اقتضاه النهي إنما هو دوام المنع عند تحقق الشرط الأول سواء تجدد الشرط ثانياً أو لم يتجدد.
وعن السادس: أن الشرط المستشهد به وإن كان له دوام في زمان معين والحكم موجود معه فهو واحد والمشروط به غير متكرر بتكرره وعند ذلك فلا يلزم من لزوم وجود المشروط عند تحقق شرطه من غير تكرر لزوم التكرر بتكرر الشرط في محل النزاع.
المسألة الخامسة اختلفوا في الأمر المطلق هل يقتضي تعجيل فعل المأمور به؟ فذهبت الحنفية والحنابلة وكل من قال بحمل الأمر على التكرار إلى وجوب التعجيل وذهبت الشافعية والقاضي أبو بكر وجماعة من الأشاعرة والجبائي وابنه وأبو الحسين البصري إلى التراخي وجواز التأخير عن أول وقت الإمكان وأما الواقفية فقد توقفوا: لكن منهم من قال: التوقف إنما هو في المؤخر هل هو ممتثل أو لا؟ وأما المبادر فإنه ممتثل قطعاً لكن هل يأثم بالتأخير؟ اختلفوا فيه: فمنهم من قال بالتأثيم وهو اختيار إمام الحرمين ومنهم من لم يؤثمه ومنهم من توقف في المبادر أيضاً وخالف في ذلك إجماع السلف.
والمختار أنه مهما فعل كان مقدماً أو مؤخراً كان ممتثلاً للأمر ولا إثم عليه بالتأخير والدليل على ذلك أن الأمر حقيقة في طلب الفعل لا غير فمهما أتى بالفعل في أي زمان كان مقدماً أو مؤخراً كان آتياً بمدلول الأمر فيكون ممتثلاً للأمر ولا إثم عليه بالتأخير لكونه آتياً بما أمر به على الوجه الذي أمر به وبيان أن مدلول الأمر طلب الفعل لا غير وجهان: الأول: أنه دليل على طلب الفعل بالإجماع والأصل عدم دلالته على أمر خارج والزمان وإن كان لا بد منه من ضرورة وقوع الفعل المأمور به ولا يلزم أن يكون داخلاً في مدلول الأمر فإن اللازم من الشيء أعم من الداخل في معناه ولا أن يكون متعيناً كما لا تتعين الآلة في الضرب ولا الشخص المضروب وإن كان ذلك من ضرورات امتثال الأمر بالضرب.
الوجه الثاني: أنه يجوز ورود الأمر بالفعل على الفور وعلى التراخي ويصح مع ذلك أن يقال بوجود الأمر في الصورتين والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا مشترك بين الصورتين سوى طلب الفعل لأن الأصل عدم ما سواه فيجب أن يكون هو مدلول الأمر في الصورتين دون ما به الاقتران من الزمان وغيره نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ.
فإن قيل: ما ذكرتموه في بيان امتناع خروج الوقت عن الدخول في مقتضى الأمر معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من خمسة وجوه: الأول: أنه إذا قال السيد لعبده: اسقني ماء فإنه يفهم منه تعجيل السقي حتى أنه يحسن لوم العبد وذمه في نظر العقلاء بتقدير التأخير ولولا أنه من مقتضيات الأمر لما كان كذلك إذ الأصل عدم القرينة.
الثاني: هو أن مدلول الأمر وهو الفعل المأمور به لا يقع إلا في وقت وزمان فوجب أن يكون الأمر مقتضياً للفعل في أقرب زمان كالمكان وكما لو قال لزوجته أنت طالق ولعبده أنت حر فإن مدلول لفظه يقع على الفور في أقرب زمان.
الثالث: أن الأمر مشارك للنهي في مطلق الطلب والنهي مقتض للامتثال على الفور فوجب أن يكون الأمر كذلك.
الرابع: أن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده والنهي عن أضداد المأمور به مقتض للانتهاء عنها على الفور وذلك متوقف على فعل المأمور به على الفور فكان الأمر مقتضياً له على الفور.
الخامس: أنه تعالى عاتب إبليس ووبخه على مخالفة الأمر بالسجود لآدم في الحال بقوله: " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " " الأعراف 12 " ولو لم يكن الأمر بالسجود مقتضياً له في الحال لما حسن توبيخه عليه ولكان تلك عذراً لإبليس في تأخيره.(1/174)
سلمنا عدم دلالة الأمر على وجوب الفعل على الفور لفظاً لكن لم قلتم إنه لا يكون مستلزماً له بواسطة دلالته على أصل الوجوب؟ وبيان ذلك من وجوه أربعة: الأول: أن الأمر إذا دل على وجوب الفعل فقد أجمعنا على وجوب اعتقاده على الفور مع أن ذلك لم يكن مقتضى للأمر بل هو من لوازم مقتضاه فكان مقتضاه على الفور أولى لإصالته.
الثاني: أن إجماع السلف منعقد على أن المبادر يخرج عن عهدة الأمر ولا إجماع في المؤخر فكان القول بالتعجيل أحوط وأولى.
الثالث: أن الفعل واجب بالاتفاق فلو جاز تأخيره إما أن يجوز إلى غاية معينة أو لا إلى غاية.
فإن جاز تأخيره إلى غاية معينة فإما أن تكون معلومة للمأمور أو لا تكون معلومة له فإن كانت معلومة له فإما أن تكون مذكورة بأن يقال له: إلى عشرة أيام مثلاً أو موصوفة الأول خلاف الفرض إذ الفرض فيما إذا كان أمراً مطلقاً غير مقيد بوقت في الذكر وإن كان الثاني فالوقت الموصوف لا يخرج بالإجماع عن الوقت الذي إذا انتهى إليه غلب على ظنه أنه لو أخر المأمور به عنه لفات وذلك لا يكون إلا بأمارة تدل عليه وهي الإجماع غير خارجة عن المرض المرجو وعلو السن وكل واحد من الأمرين مضطرب مختلف فإنه قد يموت قبل ذلك أو يعيش بعده فلا يعتمد عليه وإن كانت الغاية غير معلومة له مع أنه لا يجوز له التأخير عنها كان ذلك تكليفاً بما لا يطاق وهو ممتنع وهذا كله فيما إذا جاز التأخير إلى غاية.
وإن كان التأخير لا إلى غاية فإما أن يجوز ذلك ببدل أو لا ببدل: فإن كان ببدل فذلك البدل إما أن يكون واجباً أو غير واجب: لا جائز أن لا يكون واجباً وإلا لما كان بدلاً عن الواجب بالإجماع وإن كان واجباً فهو ممتنع لوجوه أربعة: الأول أنه لو كان واجباً لوجب أنباه المأمور حالة ورود الأمر نحوه على من حضره حذراً من فوات الواجب الذي هو البدل كما لو ضاق عليه الوقت وكان نائماً الثاني هو أن الأمر لا تعرض فيه لوجوب البدل والأصل عدم دليل آخر ويمتنع القول بوجوب ما لا دليل عليه الثالث أن البدل لو كان واجباً لكان قائماً مقام المبدل ومحصلاً لمقصوده وإلا لما كان بدلاً لما فيه من فوات مقصود الأصل ويلزم من ذلك سقوط المأمور به بالكلية بتقدير الإتيان بالبدل ضرورة حصول مقصوده وهو محال الرابع أنه لو كان البدل واجباً لم يخل إما أن يجوز تأخيره عن الوقت الثاني من ورود الأمر أو لا يجوز: فإن كان الأول فالكلام فيه كالكلام في أصل المأمور به وهو تسلسل ممتنع وإن كان الثاني فهو أيضاً ممتنع لأن البدل لا يزيد على نفس المبدل ووقت المبدل غير معين فكذلك البدل وإن جاز التأخير أبداً لا ببدل ففيه إخراج الواجب عن حقيقته وهو محال.
الرابع: من الوجوه الأول أن امتثال المأمور به من الخيرات وهو سبب الثواب فوجب تعجيله لقوله تعالى: " فاستبقوا الخيرات " " البقرة 148 " وقوله تعالى: " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض " " آل عمران 133 " أمر بالمسارعة والمسابقة وهي التعجيل والأمر للوجوب.
والجواب عن الوجه الأول أنه إنما فهم التعجيل من أمر السيد بسقي الماء من الظن الحاصل بحاجة السيد إليه في الحال إذ الظاهر أنه لا يطلب سقي الماء من غير حاجة إليه حتى أنه لو لم يعلم أو يظن أن حاجته إليه داعية في الحال لما فهم من أمره التعجيل ولا حسن ذم العبد بالتأخير.
فإن قيل: أهل العرف إنما يذمون العبد بمخالفة مطلق الأمر ويقولون في معرض الذم خالف أمر سيده وذلك يدل على أن مطلق الأمر هو المقتضي للتعجيل دون غيره.
قلنا: إنما نسلم صحة ذلك في الأمر المقيد بالقرينة دون المطلق والأمر فيما نحن فيه مقيد ثم هو معارض عند مطلق الأمر بصحة عذر العبد بقوله إنما أخرت لعدم علمي وظني بدعو حاجته إليه في الحال وليس أحد الأمرين أولى من الآخر وعن الثاني من وجهين: الأول: لا نسلم تعين أقرب الأماكن ولا نسلم أن قوله: أنت طالق وأنت حر يفيد صحة الطلاق والعتق بوضعه له لغة بل ذلك لسبب جعل الشرع له علامة على ذلك الحكم الخالي ولا يلزم من ذلك أن يكون الأمر موضوعاً للفور.
الثاني: أن حاصله يرجع إلى القياس في اللغة وهو ممتنع كما سبق.
وعن الثالث والرابع: ما سبق في المسألة المتقدمة.(1/175)
وعن الخامس: أن توبيخه لإبليس إنما كان ذلك لإبائه واستكباره ويدل عليه قوله تعالى: " إلا إبليس أبى واستكبر " " البقرة 34 " ولتخيره على آدم بقوله: " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " " ص 76 " ولا يمكن إضافة التوبيخ إلى مطلق الأمر من حيث هو أمر لأنه منقسم إلى أمر إيجاب واستحباب كما سبق تقريره ولا توبيخ على مخالفة أمر الاستحباب إجماعاً ولو كان التوبيخ على مطلق الأمر لكان أمر الاستحباب موبخاً على مخالفته فلم يبق إلا أن يكون التوبيخ على أمر الإيجاب وهو منقسم إلى أمر إيجاب على الفور وأمر إيجاب على التراخي كما إذا قال: أوجبت عليك متراخياً ولا يلزم منه أن يكون مطلق الأمر للإيجاب حالاً وإن سلمنا أنه وبخه على مخالفة الأمر في الحال ولكن لا نسلم أن الأمر بالسجود كان مطلقاً بل هو مقترن بقرينة لفظية موجبة لحمله على الفور وهي قوله تعالى: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " رتب السجود على هذه الأوصاف بفاء التعقيب وهي مقتضية للسجود عقبها على الفور من غير مهلة.
قولهم: لم قلتم بأنه لا يكون مستلزماً للفور بواسطة دلالته على وجوب الفعل؟ قلنا: الأصل عدم ذلك.
قولهم إنه يجب تعجيل اعتقاد وجوب الفعل قلنا ولم يلزم منه تعجيل وجوب الفعل.
قولهم إنه من لوازم وجوب الفعل قلنا من لوازم وجوب تقديم الفعل أو من لوازم وجوب الفعل الأول ممنوع والثاني مسلم ولكن لا يلزم منه وجوب تقديم الفعل بدليل ما لو أوجب الفعل مصرحاً بتأخيره فإنه يجب تعجيل اعتقاد وجوبه وإن لم يكن وجوب الفعل على الفور.
قولهم القول بالتعجيل أحوط للمكلف قلنا الاحتياط إنما هو باتباع المكلف ما أوجبه ظنه: فإن ظن الفور وجب عليه اتباعه وإن ظن التراخي وجب عليه اتباعه وإلا فبتقدير أن يكون قد غلب على ظنه التراخي فالقول بوجوب التعجيل على خلاف ظنه يكون حراماً وارتكاب المحرم يكون إضراراً فلا يكون احتياطاً.
قولهم: لو جاز التأخير إما أن يكون إلى غاية أو لا إلى غاية إلى آخره فهو منقوض بما لو صرح الآمر بجواز التأخير فإن كل ما ذكروه من الأقسام متحقق فيه مع جواز تأخيره وما ذكروه من الآيتين الأخيرتين فهو غير دال على وجوب تعجيل الفعل المأمور به فإنهما بمنطوقهما يدلان على المسارعة إلى الخيرات والمغفرة والمراد به إنما هو المسارعة إلى سبب ذلك ودلالتهما على السبب إنما هي بجهة الاقتضاء والاقتضاء لا عموم له على ما يأتي تقريره فلا دلالة لهما على المسارعة إلى كل سبب للخيرات والمغفرة فيختص ذلك بما اتفق على وجوب تعجيله من الأفعال المأمور بها ولا يعم كل فعل مأمور به.
المسألة السادسة الأمر بالشيء على التعيين هل هو نهي عن أضداده؟ اختلفوا فيه وتفصيل المذاهب: أما أصحابنا فالأمر عندهم هو الطلب القائم بالنفس وقد اختلفوا: فمنهم من قال الأمر بالشيء بعينه نهي عن أضداده وإن طلب الفعل بعينه طلب ترك أضداده وهو قول القاضي أبي بكر في أول أقواله ومنهم من قال: هو نهي عن أضداده بمعنى أنه يستلزم النهي عن الأضداد لا أن الأمر هو عين المنهي وهو آخر ما اختاره القاضي في أخر أقواله ومنهم من منع من ذلك مطلقاً وإليه ذهب إمام الحرمين والغزالي.
وأما المعتزلة فالأمر عندهم نفس صيغة افعل وقد اتفقوا على أن عين صيغة افعل لا تكون نهياً لأن صيغة النهي لا تفعل وليس إحداهما عين الأخرى وإنما اختلفوا في أن الآمر بالشيء هل يكون نهياً عن أضداده من جهة المعنى: فذهب القدماء من مشايخ المعتزلة إلى منعه ومن المعتزلة من صار إليه كالعارضي وأبي الحسين البصري وغيرهما من المعتبرين منهم ومعنى كونه نهياً عن الأضداد من جهة المعنى عندهم أن صيغة الأمر تقتضي إيجاد الفعل والمنع من كل ما يمنع منه ومنهم من فصل بين أمر الإيجاب والندب وحكم بأن أمر الإيجاب يكون نهياً عن أضداده ومقبحاً لها لكونها مانعة من فعل الواجب بخلاف المندوب ولهذا فإن أضداد المندوب من الأفعال المباحة غير منهي عنها لا نهي تحريم ولا نهي تنزيه.(1/176)
والمختار إنما هو التفصيل وهو إما أن نقول بجواز التكليف بما لا يطاق أو لا يقول به: فإن قلنا بجوازه على ما هو مذهب الشيخ أبي الحسن رحمة الله عليه كما سبق تقريره فالأمر بالفعل لا يكون بعينه نهياً عن أضداده ولا مستلزماً للنهي عنها بل جائز أن نؤمر بالفعل وبضده في الحالة الواحدة فضلاً عن كونه لا يكون منهياً عنه وإن منعنا ذلك فالمختار أن الأمر بالشيء يكون مستلزماً للنهي عن أضداده لا أن يكون عين الأمر هو عين النهي عن الضد وسواء كان الأمر أمر إيجاب أو ندب أما أنه مستلزم للنهي عن الأضداد فلأن فعل المأمور به لا يتصور إلا بترك أضداده وما لا يتم فعل المأمور به دون تركه فهو واجب الترك إن كان الأمر للإيجاب ومندوب إلى تركه إن كان الأمر للندب على ما سبق تقريره وهو معنى كونه منهياً عنه غير أن النهي عن أضداد الواجب يكون نهي تحريم وعن أضداد المندوب نهي كراهة وتنزيه وأما أنه لا يكون عين الأمر هو عين النهي.
فإذا قلنا إن الأمر هو صيغة افعل فظاهر على ما سبق وأما على قولنا إن الأمر هو الطلب القائم بالنفس فلأنا إذا فرضنا الكلام في الطلب النفساني القديم فهو وإن اتحد على أصلنا فإنما يكون أمراً بسبب تعلقه بإيجاد الفعل وهو من هذه الجهة لا يكون نهياً لأنه إنما يكون نهياً بسبب تعلقه بترك الفعل وهما بسبب التغاير في التعلق والمتعلق متغايران وإن فرضنا الكلام في الطلب القائم بالمخلوق فهو وإن تعدد فالأمر منه أيضاً إنما هو الطلب المتعلق بإيجاد الفعل والنهي منه هو الطلب المتعلق بتركه وهما غيران.
فإن قيل: لو كان الأمر بالفعل مستلزماً للنهي عن أضداده لكان الأمر بالعبادة مستلزماً للنهي عن جميع المباحات المضادة لها ويلزم من ذلك أن تكون حراماً إن كان النهي نهي تحريم أو مكروهة إن كان النهي نهي تنزيه وخرج المباح عن كونه مباحاً كما ذهب إليه الكعبي من المعتزلة بل ويلزم منه أن يكون ما عدا العبادة المأمور بها من العبادات المضادة لها منهياً عنها ومحرمة أو مكروهة وهو محال كيف وإن الآمر بالفعل قد يكون غافلاً عن أضداده والغافل عن الشيء لا يكون ناهياً عنه لأن النهي عن الشيء يستدعي العلم به والعلم بالشيء مع الذهول عنه محال سلمنا أنه مستلزم للنهي عن أضداده لكن يمتنع أن يكون النهي عن الأضداد غير الأمر بل يجب أن يكون هو هو بعينه كما قاله القاضي أبو بكر في أحد قوليه ومأخذه أنه إذا وقع الاتفاق على أنه يلزم من الأمر بالفعل النهي عن أضداده فذلك النهي إن كان هو غير الأمر فإما أن يكون ضداً له أو مثلاً أو خلافاً: لا جائز أن يقال بالمضادة وإلا لما اجتمعا وقد اجتمعا ولا جائز أن يكون مثلاً لأن المتماثلات أضداد على ما عرف في الكلاميات ولا جائز أن يكون خلافاً وإلا جاز وجود أحدهما دون الآخر كما في العلم والإرادة ونحوهما ولجاز أن يوجد أحدهما مع ضد الآخر كما يوجد العلم بالشيء مع الكراهة المضادة لإرادته ويلزم من ذلك أنه إذا أمر بالحركة المضادة للسكون إذا كان النهي عن السكون مخالفاً للأمر بالحركة أن يجتمع الأمر بالحركة والأمر بالسكون المضاد المنهي عنه وفيه الأمر بالضدين معاً وهو ممتنع على ما وقع به الفرض وإذا بطلت المغايرة تعين الاتحاد وعلى هذا فالحركة عين ترك السكون وشغل الجوهر بحيز هو عين تفريغه لغيره وعين القرب من المشرق بالفعل الواحد هو عين البعد من المغرب فطلب أحدهما بعينه طلب الآخر لاتحاد المطلوب.
والجواب: عن السؤال الأول أنا لا نمنع من كون المباحات بل الواجبات المضادة المأمور بها منهياً عنها من جهة كونها مانعة من فعل المأمور به لا في ذاتها كما نقول في فعل الصلاة في الدار المغصوبة فإنه في ذاته غير منهي عنه وإن كان منهياً عنه من جهة ما يتعلق به من شغل ملك الغير كما سبق ذكره ولا التفات إلى ما يهول به من خروج المباحات عن كونها مباحة فإن ذلك إنما يلزم إن لو قيل بكونها منهياً عنها في ذواتها وأما إذا قيل بكونها منهياً عنها من جهة كونها مانعة من فعل المأمور به فلا.(1/177)
قولهم إنه قد يأمر بالفعل من هو غافل عن أضداده قلنا لا نسلم أن الآمر بالشيء عند كونه آمراً به يتصور أن يكون غافلاً عن طلب ترك ما يمنع من فعل المأمور به من جهة الجملة وإن كان غافلاً عن تفصيله ونحن إنما نريد بقولنا إن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن الأضداد من جهة الجملة لا من جهة التفصيل.
قولهم إنه يمتنع أن يكون النهي عن الأضداد غير الأمر قلنا: دليله ما سبق.
وما ذكره القاضي أبو بكر من الدليل فالمختار منه إنما هو قسم التخالف ولا يلزم من ذلك جواز انفكاك أحدهما عن الآخر لجواز أن يكونا من قبيل المختلفات المتلازمة كما في المتضايفات وكل متلازمين من الطرفين وبه يمتنع الجمع بين وجود أحدهما وضد الآخر ولا يلزم من جواز ذلك في بعض المختلفات جوازه في الباقي وإذا بطل ما ذكره من دليل الاتحاد بطل ما هو مبني عليه.
المسألة السابعة مذهب أصحابنا والفقهاء وأكثر المعتزلة أن الإتيان بالمأمور به يدل على الإجزاء خلافاً للقاضي عبد الجبار من المعتزلة ومتبعيه فإنه قال لا يدل على الإجزاء.
وقبل الخوض في الحجاج لا بد من تحقيق معنى الإجزاء ليكون التوارد بالنفي والإثبات على محز واحد فنقول: كون الفعل مجزئاً قد يطلق بمعنى أنه امتثل به الأمر عندما إذا أتي به على الوجه الذي أمر به وقد يطلق بمعنى أنه مسقط للقضاء وإذا علم معنى كون الفعل مجزئاً فقد اتفق الكل على أن الإتيان بالمأمور به على الوجه الذي أمر به يكون مجزئاً بمعنى كونه امتثالاً للأمر وذلك مما لا خلاف فيه وإنما خالف القاضي عبد الجبار في كونه مجزئاً بالاعتبار الآخر وهو أنه لا يسقط القضاء ولا يمتنع مع فعله من الأمر بالقضاء وهو مصرح به في عمده.
وعلى هذا فكل من استدل من أصحابنا كإمام الحرمين وغيره من القائلين بالإجزاء على كون الفعل امتثالاً وخروجاً عن عهدة الأمر الأول فقد استدل على محل الوفاق وحاد عن موضع النزاع لكن قد أورد أبو الحسين البصري إشكالاً على تفسير أجزاء الفعل بكونه مسقطاً للقضاء وقال لو أمر بالصلاة مع الطهارة فأتى بها من غير طهارة ومات عقيب الصلاة فإنه لا يكون فعله مجزئاً وإن كان القضاء ساقطاً وربما زاد عليه بعض الأصحاب وقال يمتنع تفسير الإجزاء بسقوط القضاء لأنا نعلل وجوب القضاء بكون الفعل الأول لم يكن مجزئاً والعلة لا بد وأن تكون مغايرة للمعلول.
والوجه في إبطالهما أن يقال: أما الأول فلأن الإجزاء ليس هو نفس سقوط القضاء مطلقاً ليلزم ما قيل بل سقوط القضاء بالفعل في حق من يتصور في حقه وجوب القضاء وذلك غير متصور في حق الميت.
وأما الثاني: فلأن علة صحة وجوب القضاء إنما هو استدراك ما فات من مصلحة أصل العبادة أو صفتها أو مصلحة ما انعقد سبب وجوبه ولم يجب لمانع لا ما قيل.
وإذا تنقح محل النزاع فنعود إلى المقصود فنقول: الفعل المأمور به لا يخلو إما أن يكون قد أتى به المأمور على نحو ما أمر به من غير خلل ولا نقص في صفته وشرطه أو أتى به على نوع من الخلل.
والقسم الثاني: أنه لا نزاع في كونه غير مجزئ ولا مسقط للقضاء وإنما النزاع في القسم الأول وليس النزاع فيه أيضاً من جهة أنه يمتنع ورود أمر مجدد بعد خروج الوقت بفعل مثل ما أمر به أولاً وإنما النزاع في ورود الأمر بالفعل متصفاً بصفة القضاء والحق نفيه لأن القضاء عبارة عن استدراك ما فات من مصلحة الأداء أو مصلحة صفته أو شرطه وإذا كان المأمور به قد فعل على جهة الكمال والتمام من غير نقص ولا خلل فوجوب القضاء استدراكاً لما قد حصل تحصيل للحاصل وهو محال ومن ينفي القضاء إنما ينفيه بهذا التفسير وهذا مما يتعذر مع تحقيقه المنازعة فيه وإن كان لا ينكر إمكان ورود الأمر خارج الوقت بمثل ما فعل أولاً غير أنه لا يسميه قضاء ومن سماه قضاء فحاصل النزاع معه آيل إلى اللفظ دون المعنى.
شبه الخصوم: الأولى أن من صلى وهو يظن أنه متطهر ولم يكن متطهراً مأمور بالصلاة فإن كان مأموراً بها مع الطهارة حقيقة فهو عاص آثم بصلاته حيث لم يكن متطهراً وإن كان مأموراً بالصلاة على حسب حاله فقد أتى بما أمر به على الوجه الذي أمر به ومع ذلك يجب عليه القضاء إذ لم يكن متطهراً وكذلك المفسد للحج مأمور بمضيه في حجة الفاسد ويجب عليه القضاء.(1/178)
الثانية: أن الأمر لا يدل على غير طلب الفعل ولا دلالة له على امتناع التكليف بمثل فعل ما أمر به فلا يكون مقتضياً له.
الثالثة: أن الأمر مثل النهي في الطلب والنهي لا دلالة فيه على فساد المنهي عنه فالأمر لا يدل على كون المأمور به مجزئاً.
وجواب الأولى: أنا لا نسلم وجوب القضاء فيما إذا صلى على ظن الطهارة ثم علم أنه لم يكن متطهراً على قول لنا وإن سلمنا وجوب القضاء لكنه ليس واجباً عما أمر به من الصلاة المظنون طهارتها ولا عما أمر به من المضي في الحج الفاسد لأنه قد أتى بما أمر به على النحو الذي أمر به وإنما القضاء استدراك لمصلحة ما أمر به أولاً من الصلاة مع الطهارة والحج العري عن الفساد.
وعن الثانية: أنا لا نمنع من ورود أمر يدل على مثل ما فعل أولاً وإنما المدعي أنه إذا أتى المأمور بفعل المأمور به على نحو ما أمر به امتنع وجوب القضاء بما ذكرناه من التفسير.
وعن الثالثة: أنه قياس في اللغة وقد أبطلناه وإن سلم صحته غير أنا لا نقول بأن الأمر يدل على الإجزاء بمعنى امتناع وجوب القضاء بل امتثال الأمر هو المانع من وجوب القضاء على ما تقرر وفرق بين الأمرين.
المسألة الثامنة إذا وردت صيغة افعل بعد الحظر فمن قال إنها للوجوب قبل الحظر اختلفوا فمنهم من أجراها على الوجوب ولم يجعل لسبق الحظر تأثيراً كالمعتزلة ومنهم من قال بأنها للإباحة ورفع الحجر لا غير وهم أكثر الفقهاء ومنهم من توقف كإمام الحرمين وغيره.
والمختار أنها وإن كانت ظاهرة في الطلب والاقتضاء وموقوفة بالنسبة إلى الوجوب والندب على ما سبق تقرير كل واحد من الأمرين إلا أنها محتملة للإباحة والإذن في الفعل كما تقدم فإذا وردت بعد الحظر احتمل أن تكون مصروفة إلى الإباحة ورفع الحجر كما في قوله تعالى: " وإذا حللتم فاصطادوا " " المائدة 2 " " وإذا طعمتم فانتشروا " " الأحزاب 53 " " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا " " الجمعة 10 " وقوله صلى الله عليه وسلم: " كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فادخروا " واحتمل أن تكون مصروفة إلى الوجوب كما لو قيل للحائض والنفساء: إذا زال عنك الحيض فصلي وصومي.
وعند هذا فإما أن يقال بتساوي الاحتمالين أو بترجيح أحدهما على الآخر.
فإن قيل بالتساوي امتنع الجزم بأحدهما ووجب التوقف وإن قيل بوجوب الترجيح وامتناع التعارض من كل وجه فليس اختصاص الوجوب به أولى من الإباحة إلا أن يقوم الدليل على التخصيص والأصل عدمه وعلى هذا أيضاً فيجب التوقف كيف وأن احتمال الحمل على الإباحة أرجح نظراً إلى غلبة ورود مثل ذلك للإباحة دون الوجوب وعلى كل تقدير فيمتنع الصرف إلى الوجوب.
وبالجملة فهذه المسألة مستمدة من مسألة أن صيغة افعل إذا وردت مطلقة هل هي ظاهرة في الوجوب أو الندب أو موقوفة وقد تقرر مأخذ كل فريق وما هو المختار فيه والله أعلم.
المسألة التاسعة إذا ورد الأمر بعبادة في وقت مقدر فلم تفعل فيه لعذر أو لغير عذر أو فعلت فيه على نوع من الخلل اختلفوا في وجوب قضائها بعد ذلك الوقت هل هو بالأمر الأول أو بأمر مجدد: الأول هو مذهب الحنابلة وكثير من الفقهاء والثاني هو مذهب المحققين من أصحابنا والمعتزلة.
ونقل عن أبي زيد الدبوسي أنه قال بوجوب القضاء بقياس الشرع.
وإن ورد مطلقاً غير مقيد بوقت فمن قال بحمله على الفور اختلفوا فيما إذا وقع الإخلال به في أول وقت الإمكان هل يجب قضاؤه بنفس ذلك الأمر أو بأمر مجدد.
والمختار أنه مهما قيد الأمر بوقت فالقضاء بعده لا يكون إلا بأمر مجدد وبيانه من وجوه.
الأول أنه لو كان الأمر الأول مقتضياً للقضاء لكان مشعراً به وهو غير مشعر به فإنه إذا قال صم في يوم الخميس أو صل في وقت الزوال فإنه لا إشعار له بإيقاع الفعل في غير ذلك الوقت لغة.
الثاني: أنه إذا علق الفعل بوقت معين فلا بد وأن يكون ذلك لحكمة ترجع إلى المكلف إذ هو الأصل في شرع الأحكام.
وسواء ظهرت الحكمة أم لم تظهر وتلك الحكمة إما أن تكون حاصلة من الفعل في غير ذلك الوقت أو غير حاصلة وليست حاصلة لثلاثة أوجه: الأول أنه يحتمل أن يكون ويحتمل أن لا يكون والأصل العدم.(1/179)
الثاني: أنها لو كانت حاصلة فإما أن تكون مثلاً لها في الوقت الأول أو أزيد لا جائز أن تكون أزيد وإلا كان الحث على إيجاد الفعل بعد فوات وقته أولى من فعله في الوقت وهو محال وإن كانت مثلاً فهو ممتنع وإلا لما كان تخصيص أحد الوقتين بالذكر أولى من الآخر.
الثالث: أن الفعل في الوقت موصوف بكونه أداء وقد قال عليه السلام: " لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم " .
وإذا لم تكن حاصلة في الوقت الثاني حسب حصولها في الوقت الأول فلا يلزم من اقتضاء الأمر للفعل في الوقت الأول أن يكون مقتضياً له فيما بعده وصار هذا كما لو أمر الطبيب بشرب الدواء في وقت فإنه لا يكون متناولاً لغير ذلك الوقت.
وكذلك إذا علق الأمر بشرط معين كاستقبال جهة معينة أو بمكان معين كالأمر بالوقوف بعرفة فإنه لا يكون متناولاً لغيره.
الوجه الثالث من الوجوه الأول أن العبادات المأمور بها منقسمة إلى ما يجب قضاؤه كالصوم والصلاة وإلى ما لا يجب كالجمعة والجهاد فلو كان الأمر الأول مقتضياً للقضاء لكان القول بعدم القضاء فيما فرض من الصور على خلاف الدليل وهو ممتنع.
الرابع قوله صلى الله عليه وسلم: " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " أمر بالقضاء ولو كان مأموراً به بالأمر الأول لكانت فائدة الخبر التأكيد ولو لم يكن مأموراً به لكانت فائدته التأسيس وهو أولى لعظم فائدته.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض من خمسة أوجه: الأول قوله: صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " ومن فاته الوقت الأول فهو مستطيع للفعل في الوقت الثاني.
الثاني: أن الأمر إنما يدل على طلب الفعل وهو مقتضاه لا غير وأما الزمان فلا يكون مطلوباً بالأمر إذ ليس هو من فعل المكلف وإنما وقع ذلك ضرورة كونه ظرفاً للفعل فاختلاله لا يؤثر في مقتضى الأمر وهو الفعل.
الثالث: أن الغالب من المأمورات في الشرع إنما هو القضاء بتقدير فوات أوقاتها المعينة ولا بد لذلك من مقتض والأصل عدم كل ما سوى الأمر السابق فكان هو المقتضي.
الرابع: أنه لو وجب القضاء بأمر مجدد لكان أداء كما في الأمر الأول ولما كان لتسميته قضاء معنى.
الخامس: أن العبادة حق لله تعالى والوقت المفروض كالأجل لها ففوات أجلها لا يوجب سقوطها كما في الدين للآدمي ولأنه لو سقط وجوب الفعل بفوات الوقت لسقط المأثم لأنه من أحكام وجوب الفعل ولأن الأصل بقاء الوجوب فالقول بالسقوط بفوات الأجل على خلاف مقتضى الأصل.
والجواب: عن المعارضة الأولى أن الخبر دليل وجوب الإتيان بما أستطيع من المأمور به وإنما يفيد أن لو كان الفعل في الوقت الثاني داخلاً تحت الأمر الأول وهو محل النزاع.
وعن الثاني: أن الأمر اقتضى مطلق الفعل أو فعلاً مخصوصاً بصفة وقوعه في وقت معين؟ الأول ممنوع والثاني مسلم.
وعن الثالث: أن القضاء فيما قيل بقضائه إنما كان بناء على أدلة أخرى لا بالأمر الأول.
قولهم الأصل عدم ما سوى الأمر الأول قلنا: والأصل عدم دلالة الأمر الأول عليه كيف وقد بينا عدم دلالته.
وعن الرابع أنه إنما سمي قضاء لكونه مستدركاً لما فات من مصلحة الفعل المأمور به أولاً أو مصلحة وصفه كما تقدم تحقيقه.
وعن الخامس: بمنع كون الوقت أجلاً للفعل المأمور به إذ الأجل عبارة عن وقت مهلة وتأخير المطالبة بالواجب من أوله إلى آخره كما في الحول بالنسبة إلى وجوب الزكاة ولذلك لا يأثم بإخراج وقت الأجل عن قضاء الدين وإخراج الحول عن أداء الزكاة فيه ولا كذلك الوقت المقدر للصلاة بل هو صفة الفعل الواجب ومن وجب عليه فعل بصفة لا يكون مؤدياً له دون تلك الصفة.
وعلى هذا فلا يخفى الكلام في الأمر المطلق إذا كان محمولاً على الفور ولم يؤت بالمأمور به في أول وقت الإمكان.
المسألة العاشرة الأمر المتعلق بأمر المكلف لغيره بفعل من الأفعال لا يكون أمراً لذلك الغير بذلك الفعل وبيانه من وجهين:(1/180)
الأول أنه لو كان أمراً لذلك الغير لكان ذلك مقتضاه لغة ولو كان كذلك لكان أمره صلى الله عليه وسلم لأولياء الصبيان بقوله: " مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع " أمراً للصبيان بالصلاة من الشارع وليس كذلك لوجهين: الأول أن الأمر الموجه نحو الأولياء أمر تكليف ولذلك يذم الولي بتركه شرعاً فلو كان ذلك أيضاً أمراً للصبيان لكانوا مكلفين بأمر الشارع وخاصة ذلك لحوق الذم بالمخالفة شرعاً وهو غير متصور في حق الصبيان لعدم فهمهم لخطاب الشارع ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ " الخبر ويمكن أن يقال فيه: الأمر للولي والصبي وإن كان واحداً غير أن نسبته إليهما مختلفة فلا يمتنع اختلافهما في الذم بسبب ذلك.
الثاني: أنه لو كان أمراً للصبي لم يخل إما أن يكون أهلاً لفهم خطاب الشارع أو لا يكون أهلاً له فإن كان الأول فلا حاجة إلى أمر الولي له أو أن يكون أحد الأمرين تأكيداً والأصل في إفادة الألفاظ لمعانيها إنما هو التأسيس وإن لم يكن أهلاً له فأمره وخطابه ممتنع بالإجماع وإذا لم يكن أمر الولي بأمر الصبيان أمراً للصبيان فإما أن يكون ذلك لعدم اقتضائه لذلك لغة أو لمعارض والمعارضة يلزم منها تعطيل أحد الدليلين عن إعماله وهو خلاف الأصل فلم يبق إلا أن يكون ذلك لعدم اقتضائه له لغة وهو المطلوب.
الثاني: من الوجهين الأولين أنه يحسن أن يقول السيد لعبده سالم مر غانماً بكذا ويقول لغانم: لا تطعه ولا يعد ذلك مناقضة في كلامه ولو كان ذلك أمراً لغانم لكان كأنه قال: أوجبت عليك طاعتي ولا تطعني وهو تناقض.
وعلى هذا لو أوجب الآمر على المأمور أن يأخذ من غيره مالاً لا يكون ذلك إيجاباً للإعطاء على ذلك الغير كما في قوله تعالى لنبيه: " خذ من أموالهم صدقة " " التوبة 103 " فإن ذلك لا يدل على إيجاب إعطاء الصدقة على الأمة بنفس ذلك الإيجاب بل إن وجب فإنما يجب بدليل آخر موجب لطاعة الرسول فيما يحكم به تعظيماً له ونفياً لما يلزم من مخالفته من تحقيره وهضمه في أعين الناس المبعوث إليهم المفضي إلى الإخلال بمقصود البعثة وإلا فلا يبعد أن يقول السيد لأحد عبديه أوجبت عليك أن تأخذ من العبد الآخر كذا ويقول للآخر: حرمت عليك موافقته من غير مناقضة فيما أوجبه ولو كان إيجاب ذلك على أحد العبدين إيجاباً على العبد الآخر لكان تناقضاً فإن قيل: وجوب الأخذ إنما يتم بالإعطاء وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
قلنا: إن كان الوجوب متعلقاً بنفس الطلب فهو غير متوقف على الإعطاء وإن كان متعلقاً بنفس الأخذ وإن كان لا يتم ذلك دون الإعطاء فليس كل ما يتوقف عليه الواجب يكون واجباً إلا أن يكون ذلك مقدوراً لمن وجب عليه الأخذ وإعطاء الغير غير مقدور لمن وجب عليه الأخذ فلا يكون واجباً.
المسألة الحادية عشرة إذا أمر بفعل من الأفعال مطلقاً غير مقيد في اللفظ بقيد خاص قال بعض أصحابنا: الأمر إنما تعلق بالماهية الكلية المشتركة ولا تعلق له بشيء من جزئياتها وذلك كالأمر بالبيع فإنه لا يكون أمراً بالبيع بالغبن الفاحش ولا بثمن المثل إذ هما متفقان في مسمى البيع ومختلفان بصفتهما والأمر إنما تعلق بالقدر المشترك وهو غير مستلزم لما تخصص به كل واحد من الأمرين فلا يكون الأمر المتعلق بالأعم متعلقاً بالأخص اللهم إلا أن تدل القرينة على إرادة أحد الأمرين.
قال: ولذلك قلنا إن الوكيل في البيع المطلق لا يملك البيع بالغبن الفاحش وهو غير صحيح وذلك لأن ما به الاشتراك بين الجزئيات معنى كلي لا تصور لوجوده في الأعيان وإلا كان موجوداً في جزئياته ويلزم من ذلك انحصار ما يصلح اشتراك كثيرين فيه فيما لا يصلح لذلك وهو محال.(1/181)
وعلى هذا فليس معنى اشتراك الجزئيات في المعنى الكلي هو أن الحد المطابق للطبيعة الموصوفة بالكلية مطابق للطبيعة الجزئية بل إن تصور وجوده فليس في غير الأذهان وإذا كان كذلك فالأمر: طلب إيقاع الفعل على ما تقدم وطلب الشيء يستدعي كونه متصوراً في نفس الطالب على ما تقدم تقريره وإيقاع المعنى الكلي في الأعيان غير متصور في نفسه فلا يكون متصوراً في نفس الطالب فلا يكون أمراً به ولأنه يلزم منه التكليف بما لا يطاق ومن أمر بالفعل مطلقاً لا يقال إنه مكلف بما لا يطاق فإذا الأمر لا يكون بغير الجزئيات الواقعة في الأعيان لا بالمعنى الكلي وبطل ما ذكره.
ثم وإن سلم أن الأمر متعلق بالمعنى الكلي المشترك وهو المسمى بالبيع فإذا أتى المأمور ببعض الجزئيات كالبيع بالغبن الفاحش فقد أتى بما هو مسمى البيع المأمور به الموكل فيه فوجب أن يصح نظراً إلى مقتضى صيغة الأمر المطلق بالبيع وإن قيل بالبطلان فلا يكون ذلك لعدم دلالة الأمر به بل لدليل معارض.
المسألة الثانية عشرة الأمران المتعاقبان إما أن لا يكون الثاني معطوفاً على الأول أو يكون معطوفاً: فإن كان الأول فإما أن يختلف المأمور به أو يتماثل: فإن اختلف فلا خلاف في اقتضاء المأمورين على اختلاف المذاهب في الوجوب والندب والوقف وسواء أمكن الجمع بينهما كالصلاة مع الصوم أم لا يمكن الجمع كالصلاة في مكانين أو الصلاة مع أداء الزكاة وإن تماثل فإما أن يكون المأمور به قابلاً للتكرار أو لا يكون قابلاً له: فإن لم يكن قابلاً له كقوله: صم يوم الجمعة صم يوم الجمعة فإنه للتأكيد المحض وإن كان قابلاً للتكرار فإن كانت العادة مما تمنع من تكرره كقول السيد لعبده: اسقني ماء اسقني ماء أو كان الثاني منهما معرفاً كقوله: أعط زيداً درهماً أعط زيداً الدرهم فلا خلاف أيضاً في كون الثاني مؤكداً للأول.
وإنما الخلاف فيما لم تكن العادة مانعة من التكرار والثاني غير معرف كقوله: صل ركعتين صل ركعتين فقال القاضي عبد الجبار: إن الثاني يفيد غير ما أفاده الأول ويلزم الإتيان بأربع ركعات مصيراً منه إلى أن الأمر الثاني لو انفرد أفاد اقتضاء الركعتين فكذلك إذا تقدمه أمر آخر لأن الاقتضاء لا يختلف وخالفه أبو الحسين البصري بالذهاب إلى الوقف والتردد بين حمل الأمر الثاني على الوجوب أو التأكيد للأول والأظهر أنه إذا لم تكون العادة مانعة من التكرار ولا الثاني معرف أن مقتضى الثاني غير مقتضى الأول.
وسواء قلنا إن مقتضى الأمر الوجوب أم الندب أم هو موقوف بين الوجوب والندب كما سبق لأنه لو كان مقتضياً عين ما اقتضاه الأول لكانت فائدته التأكيد ولو كان مقتضياً غير ما اقتضاه الأول لكانت فائدته التأسيس والتأسيس أصل والتأكيد فرع وحمل اللفظ على الفائدة الأصلية أولى.
فإن قيل إلا أنه يلزم منه تكثير مخالفة النفي الأصلي ودليل براءة الذمة من القدر الزائد وليس أحد الأمرين أولى من الآخر فهو معارض بما يلزم من التأكيد من مخالفة ظاهر الأمر فإنه إما أن يكون ظاهراً في الوجوب أو الندب أو هو متردد بينهما على وجه لا خروج له عنهما على اختلاف المذاهب وحمله على التأكيد خلاف ما هو الظاهر من الأمر وإذا تعارض الترجيحان سلم لنا ما ذكرناه أولاً كيف وإنه يحتمل أن يكون للوجوب في نفس الأمر وفي تركه محذور فوات المقصود من الواجب وتحصيل مقصود التأكيد ولا يخفى أن تفويت مقصود التأكيد وتحصيل مقصود الواجب أولى.(1/182)
وأما إن كان الأمر الثاني معطوفاً على الأول فإن كان المأمور به مختلفاً فلا نزاع أيضاً في اقتضائهما للمأمورين أمكن الجمع بينهما أو لم يمكن وإن تماثلاً فالمأمور به إن لم يقبل التكرار فالأمر الثاني للتأكيد من غير خلاف كقوله: صم يوم الجمعة وصم يوم الجمعة وإن كان قابلاً للتكرار فإن لم تكن العادة مانعة من التكرار ولا الثاني معرف فالحكم على ما تقدم فيما إذا لم يكن حرف عطف ويزيد ترجيح آخر وهو موافقة الظاهر من حروف العطف وذلك كقوله: صل ركعتين وصل ركعتين وأما إن كانت العادة تمنع من التكرار أو كان الثاني معرفاً كقوله: اسقني ماء واسقني ماء وكقوله: صل ركعتين وصل ركعتين فقد تعارض الظاهر من حروف العطف مع اللام المعرف أو مع منع العادة من التكرار ويبقى الأمر على ما ذكرنا فيما إذا لم يكن حرف عطف ولا ثم تعريف ولا عادة مانعة من التكرار وقد عرف ما فيه.
وأما إن اجتمع التعريف والعادة المانعة من التكرار في معارضة حرف العطف كقوله: اسقني ماء واسقني الماء فالظاهر الوقف لأن حرف العطف مع ما ذكرناه من الترجيح السابق الموجب لحمل الأمر الثاني على التأسيس واقع في مقابلة العادة المانعة من التكرار ولام التعريف ولا يبعد ترجيح أحد الأمرين بما يقترن به من ترجيحات أخر.
الصنف الثاني في النهي: أعلم أنه لما كان النهي مقابلاً للأمر فكل ما قيل في حد الأمر على أصولنا وأصول المعتزلة من المزيف والمختار فقد قيل مقابله في حد النهي ولا يخفى وجه الكلام فيه.
والكلام في أن النهي على أصول أصحابنا هل له صيغة تخصه وتدل عليه؟ فعلى ما سبق في الأمر أيضاً وأن صيغة لا تفعل وإن ترددت بين سبعة محامل وهي التحريم والكراهة والتحقير كقوله تعالى: " ولا تمدن عينيك " " طه 131 " وبيان العاقبة كقوله: " ولا تحسبن الله غافلاً " " إبراهيم 42 " والدعاء كقوله: " لا تكلنا إلى أنفسنا " واليأس كقوله: " لا تعتذروا اليوم " " التحريم 7 " والإرشاد كقوله: " لا تسألوا عن أشياء " فهي حقيقة في طلب الترك واقتضائه ومجاز فيما عداه وأنها هل هي حقية في التحريم أو الكراهة أو مشتركة بينهما أو موقوفة؟ فعلى ما سبق في الأمر من الزيف والمختار والخلاف في أكثر مسائله فعلى وزان الخلاف في مقابلاتها من مسائل الأمر ومأخذها كمأخذها فعلى الناظر بالنقل والاعتبار.
غير أنه لا بد من الإشارة إلى ما تدعو الحاجة إلى معرفته من المسائل الخاصة بالنهي لاختصاصها بمأخذ لا تحقق له في مقابلاتها من مسائل الأمر وهي ثلاث مسائل.
المسألة الأولى اختلفوا في أن النهي عن التصرفات والعقود المفيدة لأحكامها كالبيع والنكاح ونحوهما هل يقتضي فسادها أو لا؟ فذهب جماهير الفقهاء من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة والحنابلة وجميع أهل الظاهر وجماعة من المتكلمين إلى فسادها لكن اختلفوا في جهة الفساد: فمنهم من قال إن ذلك من جهة اللغة ومنهم من قال إنه من جهة الشرع دون اللغة ومنهم من لم يقل بالفساد وهو اختيار المحققين من أصحابنا كالقفال وإمام الحرمين والغزالي وكثير من الحنفية وبه قال جماعة من المعتزلة كأبي عبد الله البصري وأبي الحسين الكرخي والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وكثير من مشايخهم ولا نعرف خلافاً في أن ما نهى عنه لغيره أنه لا يفسد كالنهي عن البيع في وقت النداء يوم الجمعة إلا ما نقل عن مذهب مالك وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه.
والمختار أن ما نهي عنه لعينه فالنهي لا يدل على فساده من جهة اللغة بل من جهة المعنى.
أما أنه لا يدل على الفساد من جهة اللغة فلأنه لا معنى لكون التصرف فاسداً سوى انتفاء أحكامه وثمراته المقصودة منه وخروجه عن كونه سبباً مفيداً لها والنهي هو طلب ترك الفعل ولا إشعار له بسلب أحكامه وثمراته وإخراجه عن كونه سبباً مفيداً لها.
ولهذا فإنه لو قال: نهيتك عن ذبح شاة الغير بغير إذنه لعينه ولكن إن فعلت حلت الذبيحة وكان ذلك سبباً للحل ونهيتك عن استيلاد جارية الابن لعينه وإن فعلت ملكتها ونهيتك عن بيع مال الربا بجنسه متفاضلاً لعينه وإن فعلت ثبت الملك وكان البيع سببا له فإنه لا يكون متناقضاً ولو كان النهي عن التصرف لعينه مقتضياً لفساده لكان ذلك متناقضاً.(1/183)
وأما أنه يدل على الفساد من جهة المعنى فذلك لأن النهي طلب ترك الفعل وهو إما أن يكون لمقصود دعا الشارع إلى طلب ترك الفعل أو لا لمقصود: لا جائز أن يقال إنه لا لمقصود.
أما على أصول المعتزلة فلأنه عبث والعبث قبيح والقبيح لا يصدر من الشارع.
وأما على أصولنا فإنا وإن جوزنا خلو أفعال الله تعالى عن الحكم والمقاصد غير أنا نعتقد أن الأحكام المشروعة لا تخلو عن حكمة ومقصود راجع إلى العبد لكن لا بطريق الوجوب بل بحكم الوقوع فالإجماع إذاً منعقد على امتناع خلو الأحكام الشرعية عن الحكم وسواء ظهرت لنا أم لم تظهر وبتقدير تسليم خلو بعض الأحكام عن الحكمة إلا أنه نادر والغالب عدم الخلو وعند ذلك فإدراج ما وقع فيه النزاع تحت الغالب يكون أغلب.
وإذا بطل أن يكون ذلك لا لمقصود تعين أن يكون لمقصود وإذا كان لمقصود فلو صح التصرف وكان سبباً لحكمه المطلوب منه فإما أن يكون مقصود النهي راجحاً على مقصود الصحة أو مساوياً أو مرجوحاً لا جائز أن يكون مرجوحاً إذ المرجوح لا يكون مقصوداً مطلوباً في نظر العقلاء والغالب من الشارع إنما هو التقرير لا التغيير.
وما لا يكون مقصوداً فلا يرد طلب الترك لأجله وإلا كان الطلب خلياً عن الحكمة وهو ممتنع لما سبق.
وبمثل ذلك يتبين أنه لا يكون مساوياً فلم يبق إلا أن يكون راجحاً على مقصود الصحة ويلزم من ذلك امتناع الصحة وامتناع انعقاد التصرف لإفادة أحكامه وإلا كان الحكم بالصحة خلياً عن حكمة ومقصود ضرورة كون مقصودها مرجوحاً على ما تقدم تقريره وإثبات الحكم خلياً عن الحكمة في نفس الأمر ممتنع لما فيه من مخالفة الإجماع وهو المطلوب.
فإن قيل: ما ذكرتموه من كون النهي لا يدل على الفساد لغة معارض بما يدل عليه وبيانه من جهة النص والإجماع والمعنى.
أما من جهة النص فقوله صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " وفي رواية " أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد " والمردود ما ليس بصحيح ولا مقبول ولا يخفى أن المنهي ليس بمأمور ولا هو من الدين فكان مردوداً.
وأما الإجماع فهو أن الصحابة استدلوا على فساد العقود بالنهي فمن ذلك احتجاج ابن عمر على فساد نكاح المشركات بقوله تعالى: " ولا تنكحوا المشركات " " البقرة 221 " ولم ينكر عليه منكر فكان إجماعاً ومنها احتجاج الصحابة على فساد عقود الربا بقوله تعالى: " وذروا ما بقي من الربا " " البقرة 278 " وبقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق " الحديث إلى آخره.
وأما المعنى فمن وجهين: الأول أنا أجمعنا على حمل بعض المناهي على الفساد كالنهي عن بيع الجزء المجهول ولو لم يكن ذلك مقتضى النهي ويلزم منه الفساد حيث وجد وإلا كان فيه نفي المدلول مع تحقق دليله وهو ممتنع مخالف للأصل.
الثاني النهي مشارك للأمر في الطلب والاقتضاء ومخالف له في طلب الترك والأمر دليل الصحة فليكن النهي دليل الفساد المقابل للصحة ضرورة كون النهي مقابلاً للأمر وأنه يجب أن يكون حكم أحد المتقابلين مقابلاً لحكم الآخر.
ثم ما ذكرتموه منقوض بالنهي عن العبادة لعينها فإنا أجمعنا على أنها لا تصح ولو صرح الناهي بالصحة لكان متناقضاً وإن سلمنا أن النهي لا يدل على الفساد لغة ولكن لا نسلم دلالته على الفساد من جهة المعنى وما ذكرتموه من وجوب ترجيح مقصود النهي على مقصود الصحة فغايته أنه يناسب نفي الصحة وليس يلزم من ذلك نفي الصحة إلا أن يتبين له شاهد بالاعتبار ولو بينتم له شاهداً بالاعتبار كان الفساد لازماً من القياس لا من نفس النهي ولا من معناه.
والجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: " من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد " من ثلاثة أوجه: الأول: لا نسلم أن الفعل المأتي به من حيث إنه سبب لترتب أحكامه عليه ليس من الدين حتى يكون مروداً.
الثاني: أنه أراد به الفاعل وتقديره: من أدخل في ديننا ما ليس منه فالفاعل رد أي مردود ومعنى كونه مردوداً أنه غير مثاب عليه ونحن نقول به فإن قيل: عود الضمير إلى الفعل أولى إذ هو أقرب مذكور قلنا إلا أنه يلزم منه المعارضة بينه وبين ما ذكرناه من الدليل ولا كذلك فيما إذا عاد إلى نفس الفاعل فكان عوده إلى الفاعل أولى.(1/184)
الثالث: أنه وإن عاد إلى نفس الفعل المنهي عنه إلا أن معنى كونه رداً أنه مردود بمعنى أنه غير مقبول وما لا يكون مقبولاً هو الذي لا يكون مثاباً عليه ولا يلزم من كونه غير مثاب عليه أن لا يكون سبباً لترتب أحكامه الخاصة به عليه وهو عين محل النزاع.
وعن الحديث الآخر ما ذكرناه من الوجه الثاني والثالث ثم وإن سلمنا دلالتهما على الفساد فليس في ذلك ما يدل على أن الفساد من مقتضيات النهي بل من دليل آخر وهو قوله فهو رد ونحن لا ننكر ذلك.
وعن الإجماع لا نسلم صحة احتجاجهم بدلالة النهي لغة على الفساد بل إن صح ذلك فإنما يصح بالنظر إلى دلالة الالتزام على ما قررنا ويجب الحمل عليه جمعاً بينه وبين ما ذكرناه من الدليل وبه يخرج الجواب عن الوجه الأول من المعنى.
وعن الثاني: من المعنى أن النهي وإن كان مقابلاً للأمر فلا نسلم أن الأمر مقتض للصحة حتى يكون النهي مقتضياً للفساد وإن سلمنا اقتضاء الأمر للصحة وأن النهي مقابل له فلا نسلم لزوم اختلاف حكميها لجواز اشتراك المتقابلات في لازم واحد وإن سلم أنه يلزم من ذلك تقابل حكميهما فيلزم أن لا يكون النهي مقتضياً للصحة أما أن يكون مقتضياً للفساد فلا وأما النقض بالنهي عن العبادة فمندفع لأنه مهما كان النهي عن الفعل لعينه فلا يتصور أن يكون عبادة مأموراً بها وما لم يكن عبادة فلا يتصور صحته عبادة وإن قيل بفساده من جهة خروجه عن كونه سبباً لترتيب الأحكام الخاصة به عليه فهو محل النزاع.
وعن الاعتراض الأخير أنا لا نقضي بالفساد لوجود مناسب الفساد ليفتقر إلى شاهد بالاعتبار وإنما قضينا بالفساد لعدم المناسب المعتبر بما بيناه من استلزام النهي لذلك.
المسألة الثانية اتفق أصحابنا على أن النهي عن الفعل لا يدل على صحته ونقل أبو زيد عن محمد بن الحسن وأبي حنيفة أنهما قالا: يدل على صحته والمختار مذهب أصحابنا لوجهين: الأول: أن النهي لو دل على الصحة فإما أن يدل عليها بلفظه أو بمعناه إذ الأصل عدم ما سوى ذلك واللازم ممتنع.
وبيان امتناع دلالته على الصحة بلفظه أن صحة الفعل لا معنى لها سوى ترتب أحكامه الخاصة به عليه والنهي لغة لا يزيد على طلب ترك الفعل ولا إشعار له بغير ذلك نفياً ولا إثباتاً.
وبيان امتناع دلالته على الصحة بمعناه ما بيناه من أن النهي بمعناه يدل على الفساد في المسألة المتقدمة فلا يكون ذلك مفيداً لنقيضه وهو الصحة.
الوجه الثاني: أنا أجمعنا على وجود النهي حيث لا صحة كالنهي عن بيع الملاقيح والمضامين وبيع حبل الحبلة وكالنهي عن الصلاة في أيام الحيض بقوله صلى الله عليه وسلم: " دعي الصلاة أيام إقرائك " والنهي عن نكاح ما نكح الأباء بقوله تعالى: " ولا تنحكوا ما نكح آباؤكم من النساء " " النساء 22 " ولو كان النهي مقتضياً للصحة لكان تخلف الصحة مع وجود النهي على خلاف الدليل وهو خلاف الأصل وسواء كان لمعارض أو لا لمعارض.
فإن قيل: إذا نهى الشرع عن صوم يوم النحر وعن الصلاة في الأوقات والأماكن المكروهة وعن بيع الربا فالأصل تنزيل لفظ الصلاة والصوم والبيع على عرف الشارع وعرف الشارع في ذلك إنما هو الفعل المعتبر في حكمه شرعاً فلو لم يكن التصرف المنهي عنه كذلك لما كان هو التصرف الشرعي وهو ممتنع.
قلنا: أولاً لا نسلم وجود عرف الشرع في هذه الأسماء لما سبق وإن سلمنا أن له عرفاً لكن في طرف الأوامر أو النواهي؟ الأول مسلم والثاني ممنوع وعلى هذا فالنهي إنما هو عن التصرف اللغوي دون الشرعي وإن سلمنا عرف الشارع في هذه الأسماء ولكن لا نسلم أن عرفه فيها ما ذكروه بل ما هو بحال يصح ويمكن صحته ويجب الحمل على ذلك جمعاً بين الأدلة ولا يلزم من كون التصرف ممكن الصحة وقوع الصحة كيف وإن ما ذكروه منتقض بما ذكرناه من المناهي مع انتفاء الصحة عن منهياتها.
المسألة الثالثة اتفق العقلاء على أن النهي عن الفعل يقتضي الانتهاء عنه دائماً خلافاً لبعض الشاذين ودليل ذلك أنه لو قال السيد لعبده: لا تفعل كذا وقدرنا نهيه مجرداً عن جميع القرائن فإن العبد لو فعل ذلك في أي وقت قدر يعد مخالفاً لنهي سيده ومستحقاً للذم في عرف العقلاء وأهل اللغة ولو لم يكن النهي مقتضياً للتكرار والدوام لما كان كذلك.(1/185)
فإن قيل: لا خفاء بأن النهي قد يرد ويراد به الدوام كما في النهي عن الربا وشرب الخمر ونحوه وقد يرد ولا يراد به الدوام كما في نهي الحائض عن الصوم والصلاة ونحوه والصورتان مشتركتان في طلب ترك الفعل لا غير ومفترقتان في دوامه في إحدى الصورتين وعدم دوامه في الأخرى والأصل أن يكون اللفظ حقيقة فيهما من غير اشتراك ولا تجوز والدال على القدر المشترك لا يكون دالاً على ما اختص بكل واحد من الطرفين المختلفين وأيضاً فإنه لو كان النهي مقتضياً للدوام لكان عدم الدوام في بعض صور النهي على خلاف الدليل وهو ممتنع.
قلنا: النهي حيث ورد غير مراد به الدوام يجب أن يكون ذلك لقرينة نظراً إلى ما ذكرناه من الدليل وما قيل: إن ذلك يلزم منه الاشتراك أو التجوز قلنا: وإن لزم منه التجوز وهو على خلاف الدليل لافتقاره إلى القرينة الصارفة غير أن جعله حقيقة في المرة الواحدة مما يوجب جعله مجازاً في الدوام والتكرار لاختلاف حقيقيتهما وليس القول بجعله مجازاً في التكرار وحقيقة في المرة الواحدة أولى من العكس بل جعله حقيقة في التكرار أولى لإمكان التجوز به عن البعض لكونه مستلزماً له ولو جعلناه حقيقة في البعض لما أمكن التجوز به عن التكرار لعدم استلزامه له وبه يندفع ما ذكروه من الوجه الثاني أيضاً.
الصنف الثالث في معنى العام والخاص ويشتمل على مقدمة ومسائل أما المقدمة ففي بيان معنى العام والخاص وصيغ العموم أما العام فقد قال أبو الحسين البصري: العام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له ووافقه على ذلك بعض أصحابنا وهو فاسد من وجهين: الأول أنه عرف العام بالمستغرق وهما لفظان مترادفان وليس المقصود هاهنا من التحديد شرح اسم العام حتى يكون الحد لفظياً بل شرح المسمى إما بالحد الحقيقي أو الرسمي وما ذكره خارج عن القسمين.
الثاني: أنه غير مانع لأنه يدخل فيه قول القائل ضرب زيد عمراً فإنه لفظ مستغرق لجميع ما هو صالح له وليس بعام.
وقال الغزالي إنه اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعداً وهو غير جامع فإن لفظ المعدوم والمستحيل من الألفاظ العامة ولا دلالة له على شيئين فصاعداً إذ المعدوم ليس بشيء عنده وعند أهل الحق من أصحابنا والمستحيل بالإجماع وإن كان جامعاً إلا أنه غير مانع فإن قولنا عشرة ومائة ليس من الألفاظ العامة وإن كان مع اتحاده دالاً على شيئين فصاعداً وهي الآحاد الداخلة فيها والحق في ذلك أن يقال العام: هو اللفظ الواحد الدال على مسميين فصاعداً مطلقاً معاً.
فقولنا اللفظ وإن كان كالجنس للعام والخاص ففيه فائدة تقييد العموم بالألفاظ لكونه من العوارض الحقيقية لها دون غيرها عند أصحابنا وجمهور الأئمة كما يأتي تعريفه وقولنا الواحد احتراز عن قولنا ضرب زيد عمراً وقولنا الدال على مسميين ليندرج فيه الموجود والمعدوم وفيه أيضاً احتراز عن الألفاظ المطلقة كقولنا رجل ودرهم وإن كانت صالحة لكل واحد من آحاد الرجال وآحاد الدراهم فلا يتناولها مقابل على سبيل البدل وقولنا فصاعداً احتراز عن لفظ اثنين وقولنا مطلقاً احتراز عن قولنا عشرة ومائة ونحوه من الأعداد المقيدة ولا حاجة بنا إلى قولنا من جهة واحدة احتراز عن الألفاظ المشتركة والمجازية.
أما عند من يعتقد كونها من الألفاظ العامة كما يأتي تحقيقه فالحد لا يكون مع أخذ هذا القيد جامعاً وأما عند من لا يقول بالتعميم فلا حاجة به إلى هذا القيد أيضاً إذ اللفظ المشترك غير دال على مسمياته معاً بل على طريق البدل وكذلك الحكم في اللفظ الدال على جهة الحقيقة والمجاز وفي الحد المذكور ما يدرأ النقض بذلك وهو قولنا الدال على مسميين معاً.
وأما الخاص فقد قيل فيه: هو كل ما ليس بعام وهو غير مانع لدخول الألفاظ المهملة فيه فإنها لعدم دلالتها لا توصف بعموم ولا بخصوص ثم فيه تعريف الخاص بسلب العام عنه ولا يخلو إما أن يكون بينهما واسطة أو لا فإن كان الأول فلا يلزم من سلب العام تعين الخاص وإن كان الثاني فليس تعريف أحدهما بسلب حقيقة الآخر عنه أولى من العكس وأيضاً فإن اللفظ قد يكون خاصاً كلفظ الإنسان فإنه خاص بالنسبة إلى لفظ الحيوان وما خرج عن كونه عاماً بالنسبة إلى ما تحته.
وإن قيل إنه ليس بعام من جهة ما هو خاص ففيه تعريف الخاص بالخاص وهو ممتنع.(1/186)
والحق في ذلك أن يقال: الخاص قد يطلق باعتبارين: الأول وهو اللفظ الواحد الذي لا يصلح مدلوله لاشتراك كثيرين فيه كأسماء الأعلام من زيد وعمرو ونحوه الثاني ما خصوصيته بالنسبة إلى ما هو أعم منه وحده أنه اللفظ الذي يقال على مدلوله وعلى غير مدلوله لفظ آخر من جهة واحدة كلفظ الإنسان فإنه خاص ويقال على مدلوله وعلى غيره كالفرس والحمار لفظ الحيوان من جهة واحدة.
وإذا تحقق معنى العام والخاص فاعلم أن اللفظ الدال ينقسم إلى عام لا أعم منه كالمذكور فإنه يتناول الموجود والمعدوم والمعلوم والمجهول وإلى خاص لا أخص منه كأسماء الأعلام وإلى ما هو عام بالنسبة وخاص بالنسبة كلفظ الحيوان فإنه عام بالنسبة إلى ما تحته من الإنسان والفرس وخاص بالنسبة إلى ما فوقه كلفظ الجوهر والجسم وأما صيغ العموم عند القائلين بها فهي: إما أن تكون عامة فيمن يعقل وما لا يعقل جمعاً وأفراداً مثل أي في الجزاء والاستفهام وأسماء الجموع المعرفة إذا لم يكن عهد سواء كان جمع سلامة أو جمع تكسير كالمسلمين والرجال والمنكرة كرجال ومسلمين والأسماء المؤكدة لها مثل كل وجميع واسم الجنس إذا دخله الألف واللام من غير عهد كالرجل والدرهم والنكرة المنفية كقولك لا رجل في الدار وما في الدار من رجل والإضافة كقولك ضربت عبيدي وأنفقت دراهمي.
وإما عامة فيمن يعقل دون غيره كمن في الجزاء والاستفهام تقول من عندك ومن جاءني أكرمته.
وإما عامة فيما لا يعقل إما مطلقاً من غير اختصاص بجنس مثل ما في الجزاء كقوله: على اليد ما أخذت حتى ترد والاستفهام تقول ماذا صنعت؟ وإما لا مطلقاً بل مختصة ببعض أجناس ما لا يعقل مثل متى في الزمان جزاء واستفهاماً وأين وحيث في المكان جزاء واستفهاماً تقول: متى جاء القوم ومتى جئتني أكرمتك وأين كنت وأينما كنت أكرمتك.
وإذ أتينا على ما أردناه من بيان المقدمة فلنشرع الآن في المسائل وهي خمس وعشرون مسألة.
المسألة الأولى اتفق العلماء على أن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة واختلفوا في عروضه حقيقة للمعاني: فنفاه الجمهور وأثبته الأقلون.
وقد احتج المثبتون بقولهم: الإطلاق شائع ذائع في لسان أهل اللغة بقولهم: عم الملك الناس بالعطاء والإنعام وعمهم المطر والخصب والخير وعمهم القحط وهذه الأمور من المعاني لا من الألفاظ والأصل في الإطلاق الحقيقة.
أجاب النافون بأن الإطلاق في مثل هذه المعاني مجاز لوجهين: الأول: أنه لو كان حقيقة في المعاني لاطرد في كل معنى إذ هو لازم الحقيقة وهو غير مطرد ولهذا فإنه لا يوصف شيء من الخاصة الواقعة في امتداد الإشارة إليها كزيد وعمرو بكونه عاماً لا حقيقة ولا مجازاً.
الثاني: أن من لوازم العام أن يكون متحداً ومع اتحاده متناولاً لأمور متعددة من جهة واحدة والعطاء والإنعام الخاص بكل واحد من الناس غير الخاص بالآخر وكذلك المطر فإن كل جزء اختص منه بجزء من الأرض لا وجود له بالنسبة إلى الجزء الآخر منها وكذلك الكلام في الخصب والقحط فلم يوجد من ذلك ما هو مع اتحاده يتناول أشياء من جهة واحدة فلم يكن عاماً حقيقة بخلاف اللفظ الواحد كلفظ الإنسان والفرس.
أجاب المثبتون عن الأول بأن العموم وإن لم يكن مطرداً في كل معنى فهو غير مطرد في كل لفظ فإن أسماء الأعلام كزيد وعمرو ونحوه لا يتصور عروض العموم لها لا حقيقة ولا مجازاً فإن كان عدم اطراده في المعاني مما يبطل عروضه للمعاني حقيقة فكذلك في الألفاظ وإن كان ذلك لا يمنع في الألفاظ فكذلك في المعاني ضرورة عدم الفرق.
وعن الوجه الثاني أنه: وإن تعذر عروض العموم للمعاني الجزئية الواقعة في امتداد الإشارة إليها حقيقة فليس في ذلك ما يدل على امتناع عروضه للمعاني الكلية المتصورة في الأذهان كالمتصور من معنى الإنسان المجرد عن الأمور الموجبة لتشخيصه وتعيينه فإنه مع اتحاده فمطابق لمعناه وطبيعته لمعاني الجزئيات الداخلة تحته من زيد وعمرو من جهة واحدة كمطابقة اللفظ الواحد العام لمدلولاته وإذا كان عروض العموم للفظ حقيقة إنما كان لمطابقته مع اتحاده للمعاني الداخلة تحته من جهة واحدة فهذا المعنى بعينه متحقق في المعاني الكلية بالنسبة إلى جزئياتها فكان العموم من عوارضها حقيقة.
المسألة الثانية(1/187)
اختلف العلماء في معنى العموم: هل له في اللغة صيغة موضوعة له خاصة به تدل عليه أم لا؟ فذهبت المرجئة إلى أن العموم لا صيغة له في لغة العرب وذهب الشافعي وجماهير المعتزلة وكثير من الفقهاء إلى أن ما سبق ذكره من الصيغ حقيقة في العموم مجاز فيما عداه ومنهم من خالف في الجميع المنكر والمعروف واسم الجنس إذا دخله الألف واللام كما يأتي تعريفه وهو مذهب أبي هاشم وذهب أرباب الخصوص إلى أن هذه الصيغ حقيقة في الخصوص ومجاز فيما عداه وقد نقل عن الأشعري قولان: أحدهما القول بالاشتراك بين العموم والخصوص والآخر الوقف وهو عدم الحكم بشيء مما قيل في الحقيقة في العموم أو الخصوص أو الاشتراك ووافقه على الوقف القاضي أبو بكر وعلى كل واحد من القولين جماعة من الأصوليين ومن الواقفية من فصل بين الإخبار والوعد والوعيد والأمر والنهي فقال بالوقف في الإخبار والوعد والوعيد دون الأمر والنهي.
والمختار إنما هو صحة الاحتجاج بهذه الألفاظ في الخصوص لكونه مراداً من اللفظ يقيناً سواء أريد به الكل أو البعض والوقف فيما زاد على ذلك ومنهاج الكلام فعلى ما عرف في التوقف في الأمر بين الوجوب والندب فعليك بنقله إلى هاهنا وإنما يتحقق هذا المقصود بذكر شبه المخالفين والانفصال عنها.
ولنبدأ من ذلك بشبه أرباب العموم وهي نصية وإجماعية ومعنوية.
أما النصية فمنها قول الله تعالى: " ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق " " هود 45 " تمسكاً منه بقوله تعالى: " إنا منجوك وأهلك " " العنكبوت 33 " وأقره الباري تعالى على ذلك وأجابه بما دل على أنه ليس من أهله ولولا أن إضافة الأهل إلى نوح للعموم لما صح ذلك ومنها أنه لما نزل قوله تعالى: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " " الأنبياء 98 " قال ابن الزبعري: لأخصمن محمداً ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: " وقد عبدت الملائكة والمسيح أفتراهم يدخلون النار " واستدل بعموم ما ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بل نزل قوله تعالى غير منكر لقوله بل مخصصاً له بقوله تعالى: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " " الأنبياء 101 " ومنها قوله تعالى: " ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال: إن فيها لوطاً قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين " " العنكبوت 31 - 32 " ووجه الاحتجاج بذلك أن إبراهيم فهم من أهل هذه القرية العموم حيث ذكر لوطاً والملائكة أقروه على ذلك وأجابوه بتخصيص لوط وأهله بالاستثناء واستثناء امرأته من الناجين وذلك كله يدل على العموم.
وأما الإجماعية فمنها احتجاج عمر على أبي بكر في قتال مانعي الزكاة بقوله: كيف تقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم " ولم ينكر عليه أحد من الصحابة احتجاجه بذلك بل عدل أبو بكر إلى التعليق بالاستثناء وهو قوله صلى الله عليه وسلم " إلا بحقها " فدل على أن لفظ الجمع المعرف للعموم ومنها احتجاج فاطمة على أبي بكر في توريثها من أبيها فدك والعوالي بقوله تعالى: " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " " النساء 11 " ولم ينكر عليها أحد من الصحابة بل عدل أبو بكر رضي الله عنه إلى ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى دليل التخصيص وهو قوله عليه السلام: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " ومنها احتجاج عثمان على علي رضي الله عنه في جواز الجمع بين الأختين بقوله تعالى: " إلا على أزواجهم " " المعارج 30 " واحتجاج علي بقوله تعالى: " وأن تجمعوا بين الأختين " " النساء 23 " ولم ينكر على أحد منهما صحة ما احتج به وإنما يصح ذلك أن لو كانت الأزواج المضافة والأختان على العموم ومنها أن عثمان لما سمع قول الشاعر:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل(1/188)
قال له: كذبت فإن نعيم أهل الجنة لا يزول ولم ينكر عليه منكر ولولا أن كل للعموم لما كان كذلك ومنها احتجاج أبي بكر على الأنصار بقوله صلى الله عليه وسلم " الأئمة من قريش " ووافقه الكل على صحة هذا الاحتجاج من غير نكير ولو لم يكن لفظ الأئمة عاماً لما صح الاحتجاج ومنها إجماع الصحابة على إجراء قوله تعالى " " الزانية والزاني " " النور 2 " " والسارق والسارقة " " المائدة 38 " " ومن قتل مظلوماً " " الإسراء 33 " " وذروا ما بقي من الربا " " البقرة 278 " " ولا تقتلوا أنفسكم " " النساء 29 " " ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " " المائدة 95 " وقوله صلى الله عليه وسلم " لا وصية لوارث " " ولا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها ومن ألقى سلاحه فهو آمن " إلى غير ذلك على العموم.
وأما الشبه المعنوية فمنها أن العموم من الأمور الظاهرة الجلية والحاجة مشتدة إلى معرفته في التخاطب وذلك مما تحيل العادة مع توالي الأعصار على أهل اللغة إهماله وعدم تواضعهم على لفظ يدل عليه مع أنه لا يتقاصر في دعو الحاجة إلى معرفته عن معرفة الواحد والاثنين وسائر الأعداد والخبر والاستخبار والترجي والتمني والنداء وغير ذلك من المعاني التي وضعت لها الأسماء وربما وضعوا لكثير من المسميات ألفاظاً مترادفة مع الاستغناء عنها ومنها ما يخص كل واحد واحد من الألفاظ المذكورة من قبل.
أما من الاستفهامية كقول القائل: من جاءك؟ فلا يخلو إما أن تكون حقيقة في الخصوص أو العموم أو مشتركة بينهما أو موقوفة أو ليست موضوعة لأحد الأمرين لا حقيقة ولا تجوزاً والأول محال وإلا لما حسن أن يجاب بجملة العقلاء لكونه جواباً عن غير ما سأل عنه ولا جائز أن تكون مشتركة أو موقوفة وإلا لما حسن الجواب بشيء إلا بعد الاستفهام عن مراد المسائل وليس كذلك ولا جائز أن يقال بالأخير للاتفاق على إبطاله فلم يبق إلا أن تكون حقيقة في العموم.
وأما الشرطية وهي عندما إذا قال السيد لعبده من دخل داري فأكرمه فإنه إذا أكرم كل داخل لا يحسن من السيد الاعتراض عليه ولو أخل بإكرام بعض الداخلين فإنه يحسن لومه وتوبيخه في العرف وأيضاً فإنه يحسن الاستثناء من ذلك بقوله إلا أن يكون فاسقاً والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لكان داخلاً فيه ولولا أن من للعموم لما صح ذلك.
وعلى هذا يكون الكلام في جميع الحروف المستعملة للشرط والاستفهام مثل: ما وأي ومتى وأين وكم وكيف ونحوه ومؤكداتها مثل: كل وجميع فإنها للعموم وبيانه من وجوه: الأول: أنه إذا قال القائل لعبده أكرم كل من رأيته فإنه يسقط عنه اللوم بإكرام كل واحد ولا يسقط بتقدير إخلاله بإكرام البعض وأنه يحسن الاستثناء بقوله إلا الفساق وذلك دليل العموم كما سبق.
الثاني: أنه لو قال رأيت كل من في البلد فإنه يعد كاذباً بتقدير عدم رؤيته لبعضهم.
الثالث: أنه إذا قال القائل كل الناس علماء كذبه قول القائل كل الناس ليسوا علماء ولو لم يكن اسم كل للعموم لما كان كل واحد مكذباً للآخر لجواز أن يتناول كل واحد غير ما تناوله الآخر.
الرابع: أنا ندرك التفرقة بين كل وبعض ولو كان كل غير مفيد للعموم لما تحقق الفرق لكونه مساوياً في الإفادة للبعض.
الخامس: أنه لو كان قول القائل كل الناس يفيد العموم ولكنه يعبر عنه تارة عن البعض وتارة عن العموم حقيقة لكان قول القائل كلهم بياناً لأحد الأمرين فيما دخل عليه لا تأكيداً له كما لو قال رأيت عيناً باصرة.
وأما الجمع المعرف فهو للعموم لوجهين: الأول: أن كثرة الجمع المعرف تزيد على كثرة الجمع المنكر ولهذا يقال: رجال من الرجال ولا عكس وعند ذلك فالجمع المعرف إما أن يكون مفيداً للاستغراق أو للعدد غير مستغرق لا جائز أن يقال بالثاني لأن ما من عدد يفرض من ذلك إلا ويصح نسبته إلى المعرفة بأنه منه والأول هو المطلوب.
الثاني: أنه يصح تأكيده بما هو مفيد للاستغراق والتأكيد إنما يفيد تقوية المؤكد لا أمراً جديداً فلو لم يكن المؤكد يفيد الاستغراق لما كان المؤكد مفيداً له أو كان مفيداً لأمر جديد وهو ممتنع.(1/189)
وأما النكرة المنفية كقوله لا رجل في الدار أو في سياق النفي كقوله ما في الدار من رجل فإن القائل لذلك يعد كاذباً بتقدير رؤيته لرجل ما وأنه يحسن الاستثناء بقوله إلا زيد وأنه يصح تكذيبه بأنك رأيت رجلاً كما ورد قوله تعالى: " قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى " " الأنعام 91 " تكذيباً لمن قال: " ما أنزل الله على بشر من شيء " " الأنعام 91 " وكل ذلك يدل على كونها للعموم ولأنها لو لم تكن للعموم لما كان قولنا لا إله إلا الله توحيداً لعدم دلالته على نفي كل إله سوى الله تعالى.
وأما الإضافة كقوله: أعتقت عبيدي وإمائي فإنه يدل على العموم بدليل لزوم العتق في الكل وأنه يجوز لمن سمعه أن يزوج من أي العبيد شاء وأن يتزوج من الإماء من شاء دون رضى الورثة وكذلك لو قال العبيد الذين هم في يدي لفلان صح الإقرار بالنسبة إلى الجميع ولولا أن ذلك للعموم لما كان كذلك.
وأما الجنس إذا دخله الألف واللام ولا عهد فإنه للعموم لأربعة أوجه: الأول: أنه إذا قال القائل رأيت إنساناً أفاد رؤية واحد معين فإذا دخلت عليه الألف واللام فلو لم تكن الألف واللام مفيدة للاستغراق لكانت معطلة لتعذر حملها على تعريف الجنس لكونه معلوماً دونها وهو ممتنع.
الثاني: أنه يصح نعته بالجمع المعرف وقد ثبت أن الجمع المعرف للعموم فكذلك المنعوت به وذلك في قولهم أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض وأنه يصح الاستثناء منه كما في قوله تعالى: " إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا " " العصر 2 - 3 " وهو دليل العموم.
الثالث: أن القائل قائلان: قائل يقول إن الألف واللام الداخلة على الاسم المفرد والجمع تفيد العموم وقائل بالنفي مطلقاً وقد ثبت أنها مفيدة للعموم في الجمع فالتفرقة تكون قولاً بتفصيل لم يقل به قائل.
الرابع: أنه إذا كانت الألف واللام لتعريف المعهود عائدة إلى جميعه لعدم أولوية عودها إلى البعض منه دون البعض فكذلك إذا كانت لتعريف الجنس.
وأما الجمع المنكر فيدل على أنه للعموم ثلاثة أوجه: الأول: أن قول القائل: رجال يطلق على كل جمع على الحقيقة حتى الجمع المستغرق فإذا حمل الاستغراق كان حملاً له على جميع حقائقه فكان أولى.
الثاني: أنه لو أراد المتكلم بلفظ الجمع المنكر البعض لعينه وإلا كان مراده مبهماً فحيث لم يعينه دل على أنه للاستغراق.
الثالث: أنه يصح دخول الاستثناء عليه بكل واحد من آحاد الجنس فكان للعموم.
ومن شبههم أن العرب فرقت بين تأكيد العموم والخصوص في أصل الوضع فقالوا في الخصوص رأيت زيداً عينه نفسه ولا يقولون رأيت زيداً كلهم أجمعين وقالوا في العموم رأيت الرجال كلهم أجمعين ولا يقولون رأيت الرجال عينه نفسه واختلاف التأكيد يدل على اختلاف المؤكد لأن التأكيد مطابق للمؤكد.
ومنها أنهم قالوا: وقع الإجماع على أن الباري تعالى قد كلفنا أحكاماً تعم جميع المكلفين فلو لم يكن للعموم صيغة تفيده لما وقع التكليف به لعدم ما يدل عليه أو كان التكليف به تكليفاً بما لا يطاق وهو محال.
وأما شبه أرباب الخصوص فأولها: أن تناول اللفظ للخصوص متيقن وتناوله للعموم محتمل فجعله حقيقة في المتيقن أولى.
وثانيها: أن أكثر استعمال هذه الصيغ في الخصوص دون العموم ومنه يقال: جمع السلطان التجار والصناع وكل صاحب حرفة وأنفقت دراهمي وصرمت نخيلي ونحوه فكان جعلها حقيقة فيما استعمالها فيه أغلب أولى.
وثالثها: أنه إذا قال السيد لعبده أكرم الرجال ومن دخل داري فأعطه درهماً ومتى جاءك فقير فتصدق عليه ومتى جاء زيد فأكرمه وأين كان وحيث حل فإنه لا يحسن الاستفسار عن إرادة البعض ويحسن الاستفسار عما وراء ذلك فكان جعل هذه الصيغ حقيقة فيما لا يحسن الاستفسار عنه دون ما يحسن.
ورابعها: أنه لو كان قول القائل رأيت الرجال للعموم لكان إذا أريد به الخصوص كان المخبر كاذباً كما لو قال رأيت عشرين ولم ير غير عشرة بخلاف ما إذا كانت للخصوص وأريد به العموم.
وخامسها: لو كانت للعموم لكان تأكيدها غير مفيد لغير ما أفادته فكان عبثاً وكان الاستثناء منها نقضاً.(1/190)
وسادسها: ويخص من أنها لو كانت للعموم لما جمعت لأن الجمع لا بد وأن يفيد ما لا يفيده المجموع وليس بعد العموم والاستغراق كثرة فلا يجمع وقد جمعت في باب حكاية النكرات عند الاستفهام فإنه إذا قال القائل جاءني رجال قلت: منون؟ في حالة الوقف دون الوصل ومنه قول الشاعر:
أتوا ناري فقلت: منون أنتم؟ ... فقالوا: الجن قلت: عموا ظلاماً
فقد قال سيبويه: أنه شاذ غير معمول به.
وأما شبه أرباب الاشتراك فأولها أن هذه الألفاظ والصيغ قد تطلق للعموم تارة وللخصوص تارة والأصل في الإطلاق الحقيقة وحقيقة الخصوص غير حقيقة العموم فكان اللفظ المتحد الدال عليهما حقيقة مشتركا كلفظ العين والقرء ونحوه.
وثانيها: أنه يحسن عند إطلاق هذه الصيغ الاستفهام من مطلقها أنك أردت البعض أو الكل وحسن الاستفهام عن كل واحد منهما دليل الاشتراك فإنه لو كان حقيقة في أحد الأمرين دون الآخر لما حسن الاستفهام عن جهة الحقيقة.
وأما شبه من قال بالتعميم في الأوامر والنواهي دون الأخبار فهو أن الإجماع منعقد على التكاليف بأوامر عامة لجميع المكلفين وبنواه عامة لهم فلو لم يكن الأمر والنهي للعموم لما كان التكليف عاماً أو كان تكليفاً بما لا يطاق وهو محال وهذا بخلاف الإخبار فإنه ليس بتكليف ولأن الخبر يجوز وروده بالمجهول ولا بيان له أصلاً كقوله تعالى: " وكم أهلكنا قبلهم من قرن " " مريم 74 " " وقروناً بين ذلك كثير " " الفرقان 38 " بخلاف الأمر فإنه وإن ورد بالمجمل كقوله: " وآتوا حقه يوم حصاده " " الأنعام 141 " وقوله " أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " " النور 56 " فإنه لا يخلو عن بيان متقدم أو متأخر أو مقارن.
والجواب من جهة الإجمال عن جملة هذه الشبه ما أسلفناه في مسألة أن الأمر للوجوب أو الندب فعليك بنقله إلى هاهنا.
وأما من جهة التفصيل أما ما ذكره أرباب العموم من الآيات أما قصة نوح فلا حجة فيها وذلك لأن إضافة الأهل قد تطلق تارة للعموم وتارة للخصوص كما في قولهم جمع السلطان أهل البلد وإن كان لم يجمع النساء والصبيان والمرضى وعند ذلك فليس القول بحمل ذلك على الخصوص بقرينة أولى من القول بحمله على العموم بقرينة ونحن لا ننكر صحة الحمل على العموم بالقرينة وإنما الخلاف في كونه حقيقة أم لا.
وأما قصة ابن الزبعري فلا حجة فيها أيضاً لأن سؤاله وقع فاسداً حيث ظن أن ما عامة فيمن يعقل وليس كذلك ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم منكراً عليه ما أجهلك بلغة قومك أما علمت أن ما لما لا يعقل وهي وإن أطلقت على من يعقل كما في قوله تعالى " والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها " " الشمس 5 - 6 - 7 - 8 " فليس حقيقة بل مجازاً ويجب القول بذلك جمعاً بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم " أما علمت أن ما لما لا يعقل " ولما فيه من موافقة المنقول عن أهل اللغة في ذلك وأما قصة إبراهيم فجوابها بما سبق في قصة نوح.
وأما الاحتجاج بقصة عمر مع أبي بكر فلا حجة فيها أيضاً لأنه إنما فهم العصمة من العلة الموجبة لها في الأموال والدماء وهي قول لا إله إلا الله فإنها مناسبة لذلك والحكم مرتب عليها في كلام النبي صلى الله عليه وسلم فكان ذلك إيماء إليها بالتعليل أما أن يكون ذلك مأخوذاً من عموم دمائهم وأموالهم فلا ومعارضة أبي بكر إنما كانت لما فهمه عمر من التعليل المقتضي للتعميم لا لغيره.
وأما قصة فاطمة مع أبي بكر فالكلام في اعتقاد العموم في قوله تعالى: " يوصيكم الله في أولادكم " " النساء 11 " ما سبق في قصة نوح وهو الجواب أيضاً عن احتجاج عثمان على جواز الجمع بين الأختين ثم قد أمكن أن يضاف ذلك إلى ما فهم من العلة الموجبة لرفع الحرج وهي الزوجية لا إلى عموم اللفظ وكذلك احتجاج علي بقوله: " وأن تجمعوا بين الأختين " " النساء 23 " لم يكن لعموم اللفظ بل بما أومى إليه اللفظ من العلة المانعة من الجمع وهي الأخوة فإنها مناسبة لذلك دفعاً للإضرار الواقع بين الأختين من المزاحمة على الزوج الواحد وإنما يصح الاحتجاج باللفظ بمجرده إن لو كان للعموم وهو محل النزاع وإن صح الاحتجاج في هذه الصور بنفس اللفظ فلا يمتنع أن يكون ذلك بما اقترن به من قرينة العلة الرافعة للحرج في احتجاج عثمان والعلة المانعة من الجمع في احتجاج علي رضي الله عنه.(1/191)
وأما تكذيب عثمان للشاعر في قوله " وكل نعيم لا محالة زائل " فإنما كان لما فهمه من قرينة حال الشاعر الدالة على قصد تعظيم الرب ببقائه وبطلان كل ما سواه أما أن يكون ذلك مستفاداً من ذلك مستفاداً من مجرد قوله كل فلا.
وأما استدلال أبي بكر بقوله صلى الله عليه وسلم: " الأئمة من قريش " إنما فهم منه التعميم لما ظهر له من قصد النبي صلى الله عليه وسلم لتعظيم قريش وميزتهم على غيرهم من القبائل فلو لم يكن ذلك يدل على الخصوص فيهم والاستغراق لما حصلت هذه الفائدة.
وأما إجماع الصحابة على إجراء ما ذكروه من الآيات والأخبار على التعميم في كل سارق وزان وغير ذلك فإنما كان ذلك بناء على ما اقترن بها من العلل المومى إليها الموجبة للتعميم وهي السرقة والزنا وقتل الظالم إلى غير ذلك أما أن يكون اعتقاد تعميم تلك الأحكام مستنداً إلى عموم تلك الألفاظ فلا.
وأما ما ذكر من الشبهة الأولى المعنوية فالجواب عنها: أنا وإن سلمنا أن العموم ظاهر وأن الحاجة داعية إلى وضع لفظ يدل عليه ولكن لا نسلم إحالة الإخلال به على الواضعين ولهذا قد أخلوا بالألفاظ الدالة على كثير من المعاني الظاهرة التي تدعو الحاجة إلى تعريفها بوضع اللفظ عليها وذلك كالفعل الحالي ورائحة المسك والعود وغير ذلك من أنواع الروائح والطعوم الخاصة بمحالها.
فإن قيل: لا نسلم أنهم أخلوا بشيء من ذلك فإنهم يقولون: رائحة المسك ورائحة العود وطعم العسل وطعم السكر إلى غير ذلك والإضافة من جملة الأوضاع المعرفة ولهذا فإن الباري تعالى قد عرف نفسه بالإضافة في قوله " ذو العرش ذو الطول " إلى غير ذلك.
قلنا: وعلى هذا لا نسلم أن العرب أخلت بما يعرف العموم فإن الأسماء المجازية والمشتركة أيضاً من الأسماء المعرفة كما سيأتي بيانه وما وقع فيه الخلاف من ألفاظ العموم فهي غير خارجة في نفس الأمر عن كونها حقيقة في العموم دون غيره أو مجازاً فيه وحقيقة فيه وفي غيره فتكون مشتركة وعلى كل تقدير فما خلا العموم في وضعهم عن معرف ولا خلاف في ذلك وإنما الخلاف في جهة دلالته عليه هل هي حقيقة أو مجاز وخفاء جهة الدلالة والوقوف في تعيينها لا يبطل أصل الوضع والتعريف.
وأما الشبهة الثانية وقولهم إن من إذا كانت استفهامية لا تخلو عن الأقسام المذكورة في نفس الأمر مسلم ولكن لم قالوا بوجوب تعيين بعضها مع عدم الدليل القاطع على ذلك قولهم: لو كانت للخصوص لما حسن الجواب بكل العقلاء.
قلنا: ولو كانت للعموم لما حسن الجواب بالبعض الخاص لما قرروه وليس أحد الأمرين أولى من الآخر كيف وإن الجواب بالكل بتقدير أن يكون للخصوص يكون جواباً عن المسؤول عنه وزيادة والجواب بالخصوص بتقدير أن يكون للعموم لا يكون جواباً عن المسؤول عنه ولذلك كان الجواب بالكل مستحسناً ثم ما المانع أن تكون مشتركة.
قولهم: لأنه لا يحسن الجواب إلا بعد الاستفهام قلنا: إذا كانت مشتركة وهي استفهامية فالاستفهام إنما هو عن مدلولها ومدلولها عند الاستفهام إنما هو أحد المدلولين لا بعينه فإذا أجاب بأحد الأمرين فقد أجاب عما سئل عنه فلا حاجة بالمسؤول إلى الاستفهام.
قولهم في الشرطية إن المفهوم من قول السيد لعبده من دخل داري فأكرمه العموم لما قرروه.
قلنا: ليس ذلك مفهوماً من نفس اللفظ بل من قرينة إكرام الزائر حتى أنا لو قدرنا أنه لا قرينة أصلاً ولا تحقق لما سوى اللفظ المذكور فإنا لا نسلم فهم العموم منه ولا جواز التعميم دون الاستفهام أو ظهور دليل يدل عليه بناء على قولنا بالوقف ويدل على ذلك أنه يحسن الاستفهام من العبد ولو كان على أي صفة قدر وحسن ذلك يدل على الترديد ولولا الترديد لما حسن الاستفهام.
قولهم إنه يحسن الاستثناء منه مسلم ولكن لا نسلم أنه لا بد من دخول ما استثني تحت المستثنى منه فإن الاستثناء من غير الجنس صحيح وإن لم يكن المستثنى داخلاً تحت المستثنى منه ولا له عليه دلالة ويدل على صحة ذلك قوله تعالى: " ما لهم به من علم إلا اتباع الظن " " النساء 157 " والظن هاهنا غير داخل تحت لفظ العلم وقول الشاعر:
وقفت فيها أصيلالا أسائلها ... عيت جواباً وما بالربع من أحد
إلا أواري لأياً ما أبينها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد
فإن قيل: نحن إنما ندعي ذلك فيما كان من الجنس لا في غيره.(1/192)
قلنا: وإذا كان من الجنس فالاستثناء يدل على وجوب دخول ما استثني تحت المستثنى منه أو على صلاحيته للدخول تحته: الأول ممنوع والثاني مسلم ويدل على ذلك صحة استثناء كل واحد من آحاد الجنس من جموع القلة وهي ما يتناول العشرة فما دونها وهي: أفعل نحو أفلس وأفعال نحو أصنام وأفعلة نحو أرغفة وفعلة نحو صبية مع أن آحاد الجنس غير واجبة الدخول تحت المستثنى منه والاستثناء من جمع السلامة إذا لم تدخله الألف واللام فإنه من جموع القلة بنص سيبويه.
فإن قيل: نحن إنما ندعي ذلك فيما يصح استثناء العدد الكثير والقليل منه واستثناء العدد الكثير وهو ما زاد على العشرة لا يصح من جمع القلة.
قلنا: فيلزم عليه استثناء ما لا يصح من جمع القلة قلنا فيلزم عليه استثناء ما زاد على العشرة من الجمع المنكر فإنه يصح وإن كان كل واحد من المستثنيات غير واجب الدخول تحت الجمع المنكر بل ممكن الدخول.
فإن قيل: لو صح الاستثناء لإخراج ما يصح دخوله لا ما يجب دخوله لصح أن يقول القائل رأيت رجلاً إلا زيداً لصلاحية دخوله تحت لفظ رجل وهو غير صحيح وأيضاً فإن الاستثناء يدخل في الأعداد كقول القائل له علي عشرة دراهم إلا درهماً وهو واجب الدخول وأيضاً فإن أهل اللغة قالوا بأن الاستثناء إخراج جزء من كل والجزء واجب الدخول في كله.
قلنا: أما الأول فلأن قوله رأيت رجلاً لا يكون إلا معيناً في نفس الأمر ضرورة وقوع الرؤية عليه وإن لم يكن معيناً عند المستمع والمعين لا يصح الاستثناء منه إجماعاً.
وأما الثاني فبعيد عن التحقيق من حيث إن وجوب دخول الواحد في العشرة لا يمنع من صحة دخوله فيها بمعنى أنه لا يمتنع دخوله فيها وما ليس بممتنع أعم من الواجب وعند ذلك فلا يلزم أن يكون الاستثناء لوجوب الدخول بل لصحة الدخول وهو الجواب عن الوجه الثالث أيضاً كيف وإن استثناء واجب الدخول لا يمنع من استثناء ممكن الدخول وعلى ما قررناه في إبطال الاستدلال على عموم من استفهامية وجزائية يكون بعينه جواباً عما ذكروه من الوجه الأول في عموم كل وجميع.
قولهم في الوجه الثاني إنه لو قال: رأيت كل من في البلد يعد كاذباً بتقدير عدم رؤية بعضهم لا نسلم لزوم ذلك مطلقاً فإنه لو قال القائل جمع السلطان كل التجار وكل الصناع وجاء كل العسكر فإنه لا يعد في العرف كاذباً بتقدير تخلف آحاد الناس والعرف بذلك شائع ذائع وليس حوالة ذلك على القرينة أولى من حوالة صورة التكذيب على القرينة.
قولهم في الوجه الثالث إن قول القائل: كل الناس علماء يكذبه قول الآخر كل الناس ليس علماء ليس كذلك مطلقاً فإنه لو فسر كلامه بالغالب عنده كان تفسيره صحيحاً مقبولاً ومهما أمكن حمل كلامه على ذلك فلا تكاذب نعم إنما يصح التكاذب بتقدير ظهور الدليل الدال على إرادة الكل بحيث لا يشذ منهم واحد وذلك مما لا ينكر وإنما النزاع في اقتضاء اللفظ لذلك بمطلقه.
قولهم في الوجه الرابع: إنا ندرك التفرقة بين بعض وكل مسلم لكن من جهة أن بعضاً لا يصلح للاستغراق وكلا صالح له ولما دونه ولا يلزم من ذلك ظهور كل في العموم.
قولهم في الوجه الخامس: إنه يلزم أن يكون قوله كلهم بياناً لا تأكيداً قلنا: وإن بين به مراده من لفظه لا يخرجه ذلك عن كونه تأكيداً لما أراده من العموم فإن لفظه صالح له.
قولهم في الجمع المعرف إن كثرة الجمع المعرف تزيد على كثرة المنكر قلنا: متى إذا أريد به الاستغراق أو إذا لم يرد به ذلك الأول مسلم والثاني ممنوع ولا يلزم من كونه صالحاً للاستغراق أن يكون متعيناً له بل غايته أنه إذا قال رأيت رجالاً من الرجال كان ذلك قرينة صارفة للجمع المعرف إلى الاستغراق.
قولهم إنه يصح تأكيده بما يفيد الاستغراق قلنا: ذلك يستدعي كون المؤكد صالحاً للعموم والدلالة على العموم عند التأكيد ولا يدل على كونه بوضعه للعموم.
قولهم في تعميم النكرة المنفية: لو قال لا رجل في الدار فإنه يعد كاذباً بتقدير رؤيته لرجل ما قلنا إنما عد كاذباً بذلك لأن قوله لا رجل في الدار إنما ينفي حقيقة رجل في الدار فإذا وجد رجل في الدار كان كاذباً ولا يلزم من ذلك العموم في طرف النفي إذ هو نفي ما ليس بعام.
قولهم إنه يحسن الاستثناء سبق جوابه قولهم: إنه يصح تكذيبه بأنك رأيت رجلاً قلنا: سبق جوابه أيضاً.(1/193)
قولهم: لو لم يكن للعموم لما كان قول القائل: لا إله إلا الله توحيداً قلنا: وإن لم يكن حقيقة في العموم فلا يمتنع إرادة العموم بها وعلى هذا فمهما لم يرد المتكلم بها العموم فلا يكون قوله توحيداً وإن أراد ذلك كان توحيداً لكن لا يكون العموم من مقتضيات اللفظ بل من قرينة حال المتكلم الدالة على إرادة التوحيد وعلى هذا يكون الحكم أيضاً فيما إذا قال: ما في الدار من رجل وقول أهل الأدب إنها للعموم يمكن حمله على عموم الصلاحية دون الوجوب.
قولهم في الإضافة إذا قال: أعتقت عبيدي وإمائي ثم مات جاز لمن سمعه أن يزوج من شاء من العبيد دون رضى الورثة قلنا: ولو قال أنفقت دراهمي وصرمت نخيلي وضرب عبيدي فإنه لا يعد كاذباً بتقدير عدم إنفاق بعض دراهمه وعدم صرم بعض نخيله وعدم ضرب بعض عبيده ولو كان ذلك للعموم لكان كاذباً وليس صرف ذلك إلى القرينة أولى من صرف ما ذكروه إلى القرينة وهو الجواب عن قوله العبيد الذين في يدي لفلان وما ذكروه في الدلالة على تعميم اسم الجنس إذا دخله الألف واللام.
أما الوجه الأول منه قولهم إنه لا بد للألف واللام من فائدة قلنا: يمكن أن تكون فائدتها تعريف المعهود وإن لم يكن ثم معهود فالتردد بين العموم والخصوص على السوية بخلاف ما قبل دخولها.
وأما الوجه الثاني: فقد قيل إنه من النقل الشاذ الذي لا اعتماد عليه وهو مع ذلك مجاز ولهذا فإنه لم يطرد في كل اسم فرد فإنه لا يقال جاءني الرجل العلماء والرجل المسلمون ثم وإن أمكن نعته بالجمع فإنما كان كذلك لأن المراد من قولهم إنما هو جنس الدينار وجنس الدرهم لا جملة الدنانير وجملة الدراهم وحيث كان الهلاك بجنس الدينار والدرهم لأمر متحقق في كل واحد من ذلك الجنس جاز نعته بالجمع نظراً إلى اقتضاء المعنى للجمع لا نظراً إلى اقتضاء لفظ الدينار.
وأما الاستثناء في الآية فهو مجاز ولهذا لم يطرد فإنه لا يحسن أن يقال: رأيت الرجل إلا العلماء وعلى هذا النحو ثم لو كان ذلك صالحاً للاستغراق لأمكن مع اتحاده أن يؤكد بكل وجميع كما في من في قولك من دخل داري أكرمته وهو غير جائز فإنه لا يحسن أن يقال: جاءني الرجل كلهم أجمعون ويمكن أن يقال: إن مثل هذا قياس في اللغة وهو غير جائز.
وأما الوجه الثالث: فدفعه بمنع الحصر فيما قيل بل القائل ثلاثة والثالث هو القائل بالتفصيل.
وأما الوجه الرابع: فحاصله يرجع إلى القياس في اللغة وقد أبطلناه وأما ما ذكروه في تعميم الجمع المنكر أما الوجه الأول منه فعنه جوابان: الأول: أن قول القائل رجال حقيقة في كل عدد على خصوصه ممنوع وإن أراد به أنه حقيقة في الجمع المشترك بين جميع الأعداد فمسلم ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون دالاً على ما هو الأخص لا حقيقة ولا مجازاً وعلى هذا فقد بطل القول بإنا إذا حملناه على الاستغراق كان حملاً له على جميع حقائقه ضرورة اتحاد مدلوله.
الثاني وإن سلمنا أنه حقيقة في كل عدد بخصوصه غير أنه ليس حمله على الاستغراق مع احتمال عدم الإرادة أولى من حمله على الأقل مع كونه مستيقناً.
وأما الوجه الثاني فإنما يلزم المتكلم به بيان إرادة البعض عيناً أن لو كان اللفظ موضوعا له وأما إذا كان موضوعاً لبعض مطلق فلا وأما الاستثناء فقد عرف جوابه كيف وإن أهل اللغة اتفقوا على تسميته نكرة ولو كان للاستغراق لكان معروفاً كله فلا يكون منكراً مختلطاً بغيره.
قولهم: إن العرب فرقت بين تأكيد الواحد والعموم بما ذكروه إنما يصح إن لو كان كلهم أجمعون تأكيداً للعموم وليس كذلك بل هو تأكيد للفظ الذي يجوز أن يراد به العموم وغير العموم.
قولهم: لو لم يكن للعموم صيغة تدل عليه لكان التكليف بالأمور العامة تكليفاً بما لا يطاق قلنا: إنما يكون كذلك إن لو لم يكن ثم ما يدل على التعميم وليس كذلك ولا يلزم من عدم صيغة تدل عليه بوضعها دون قرينة التكليف بالمحال مع وجود صيغة تدل عليه مع القرينة.
وأما شبه أرباب الخصوص: قولهم في الشبهة الأولى أن الخصوص متيقن قلنا: ذلك لا يدل على كونه مجازاً في الزيادة فإن الثلاثة مستيقنة في العشرة ولا يدل على كونه لفظ العشرة(1/194)
حقيقة في الثلاثة مجازاً في الزيادة فإن قيل إلا أن الزيادة في العشرة على الثلاثة أيضاً مستيقنة قيل ليس كذلك وإلا لما صح استثناؤها بقوله علي عشرة إلا ثلاثة كيف وإن ما ذكروه من الترجيح معارض بما يدل على كونه حقيقة في العموم وذلك لأنه من المحتمل أن يكون مراد المتكلم العموم فلو حمل لفظه على الخصوص لم يحصل مراده وبتقدير أن يكون مراده الخصوص لا يمتنع حصول مقصوده منه بتقدير الحمل على العموم بل المقصود حاصل وزيادة وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
قولهم في الشبهة الثانية: إن أكثر استعمال هذه الصيغ في الخصوص لا نسلم ذلك وإن سلم إلا أن ذلك لا يدل على كون هذه الصيغ حقيقة في الخصوص ومجازاً في العموم ويدل عليه أن استعمال لفظ الغائط والعذرة غالب في الخارج المستقذر من الإنسان وإن كان مجازاً فيه وحقيقة في الموضع المطمئن من الأرض وفناء الدار وكذلك لفظ الشجاع حقيقة في الحية المخصوصة وإن كان غالب الاستعمال في الرجل المقدام.
قولهم في الثالثة إنه لا يحسن الاستفهام عن إرادة البعض بخلاف العموم قلنا: حسن الاستفهام عن إرادة العموم لا يخرج الصيغة عن كونها حقيقة في العموم ودليل ذلك أنه لو قال القائل: دخل السلطان البلد ولقيت بحراً وناطحت جبلاً ورأيت حماراً فإنه يحسن استفهامه هل أردت بالسلطان نفسه أو عسكره؟ وهل أردت بالجبل الجبل الحقيقي أو الرجل العظيم وهل أردت بالحمار الحمار الحقيقي أو البليد؟ وأردت بالبحر البحر الحقيقي أو رجلاً كريماً؟ وعدم حسن الاستفهام عن البعض لتيقنه لا يوجب كون الصيغة حقيقية فيه بدليل الثلاثة من العشرة.
قولهم في الرابعة: لو كان قوله رأيت الرجال للعموم لكان كاذباً بتقدير إرادة الخصوص قلنا: إنما يكون كاذباً مع كون لفظه حقيقة في العموم إن لو لم يكن لفظه صالحاً لإرادة البعض تجوزا ولهذا فإنه لو قال: رأيت أسداً وحماراً أو بحراً وكان قد رأى إنساناً شجاعاً وإنساناً بليداً وإنساناً كريماً لم يكن كاذباً وإن كان لفظه حقيقة في غيره وهذا بخلاف ما إذا قال: رأيت عشرة رجال ولم يكن رأى غير خمسة فإن لفظ العشرة مما لا يصلح للخمسة لا حقيقة ولا تجوزاً.
قولهم في الخامسة: إنه لو كانت هذه الصيغ للعموم لكان تأكيدها عبثاً ليس كذلك فإنه يكون أبعد عن مجازفة المتكلم وأبعد عن قبول التخصيص وأغلب على الظن كيف وإنه يلزم على ما ذكروه صحة تأكيد الخاص بقولهم جاء زيد عينه نفسه وتأكيد عقود الأعداد كقوله تعالى: " تلك عشرة كاملة " " البقرة 196 " وما هو الجواب هاهنا عن التأكيد يكون جواباً في العموم.
قولهم: وكان الاستثناء منها نقضاً يلزم عليه الاستثناء من الأعداد المقيدة كقوله له: علي عشرة إلا خمسة فإنه صحيح بالاتفاق مع أن لفظ العشرة صريح فيها وجوابه في الأعداد جوابه في العموم.
قولهم في السادسة: إن من لو كانت للعموم لما جمعت قلنا: قد قيل إن ذلك ليس بجمع وإنما هو إلحاق زيادة الواو وإشباع الحركة وبتقدير أن يكون جمعاً فقد قال سيبويه: إنه لا عمل عليه لما فيه من جمع من حالة الوصل وإنما تجمع عندما إذا حكى بها الجمع المنكر حالة الوقف وإذا ذاك فلا تكون العموم.
وأما شبه أرباب الاشتراك: قولهم في الشبهة الأولى إن هذه الصيغ قد تطلق تارة للعموم وتارة للخصوص والأصل في الإطلاق الحقيقة قلنا: الأصل في الإطلاق الحقيقة بصفة الاشتراك أو لا بصفة الاشتراك الأول ممنوع والثاني مسلم وذلك لأنه إذا كان مشتركاً افتقر في فهم كل واحد من مدلولاته إلى قرينة تعينه ضرورة تساوي نسبة اللفظ فيه إلى الكل والقرينة قد تظهر وقد تخفى وذلك يفضي إلى الإخلال بمقصود الوضع وهو التفاهم وهذا بخلاف ما إذا كان اللفظ حقيقة في مدلول واحد فإنه يحمل عليه عند إطلاقه من غير افتقار إلى قرينة مخلة بالفهم.(1/195)
قولهم في الثانية: إنه يحسن الاستفهام قلنا: ذلك لا يدل على كون اللفظ مشتركاً فإنه يحسن مع كون اللفظ متحد المدلول كما لو قال القائل: خاصمت السلطان فيقال أخاصمته؟ مع كون اللفظ حقيقة في شيء ومجازاً في غيره كما سبق تمثيله من قول القائل صدمت جبلاً ورأيت بحراً ولقيت حماراً فإنه يحسن استفهامه أنك أردت بذلك المدلولات الحقيقية أو المجازية من الرجل العظيم والكريم والبليد وذلك لفائدة زيادة الأمن من المجازفة في الكلام وزيادة غلبة الظن وتأكده بما اللفظ ظاهر فيه وللمبالغة في دفع المعارض كما سبق في التأكيد.
وأما طريق الرد على من فرق من الواقفية بين الأوامر والأخبار فهو أن كل ما يذكرونه في الدلالة على وجوب التوقف في الأخبار فهو بعينه مطرد في الأوامر.
قولهم أولا إن الأمر تكليف قلنا: ومن الأخبار العامة ما كلفنا بمعرفتها كقوله تعالى: " الله خالق كل شيء " " الزمر 62 " " وهو بكل شيء عليم " " الحديد 3 " وكذلك عمومات الوعد والوعيد فإنا مكلفون بمعرفتها لأن بذلك يتحقق الانزجار عن المعاصي والانقياد إلى الطاعات ومع التساوي في التكليف فلا معنى للفرق وإن سلمنا أن ذلك يفضي إلى التكليف بما لا يطاق فهو غير ممتنع عندنا على ما سبق تقريره.
قولهم ثانياً: إن من الأخبار ما يرد بالمجهول من غير بيان بخلاف الأمر قلنا: لا نسلم امتناع ورود الأمر بالمجهول كيف وإن هذا الفرق وإن دل على عدم الحاجة فيما كان من الأخبار لم نكلف بمعرفتها إلى وضع اللفظ العام بازائه فغير مطرد فيما كلفنا بمعرفته كما سبق وهم غير قائلين بالتفصيل بين خبر وخبر.
المسألة الثالثة اختلف العلماء في أقل الجمع: هل هو اثنان أو ثلاثة؟ وليس محل الخلاف ما هو المفهوم من لفظ الجمع لغة وهو ضم شيء إلى شيء فإن ذلك في الاثنين والثلاثة وما زاد من غير خلاف وإنما محل النزاع في اللفظ المسمى بالجمع في اللغة فنقول مذهب عمر وزيد بن ثابت ومالك وداود والقاضي أبي بكر والأستاذ أبي إسحاق وجماعة من أصحاب الشافعي رضي الله عنه كالغزالي وغيره أنه اثنان ومذهب ابن عباس والشافعي وأبي حنيفة ومشايخ المعتزلة وجماعة من أصحاب الشافعي أنه ثلاثة وذهب إمام الحرمين إلى أنه لا يمتنع رد لفظ الجمع إلى الواحد.
احتج الأولون بحجج من جهة الكتاب والسنة وإشعار اللغة والإطلاق.
أما من جهة الكتاب فقوله تعالى: " إنا معكم مستمعون " " الشعراء 15 " وأراد به موسى وهارون وقوله تعالى: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا " " الحجرات 9 " وقوله تعالى: " وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا: لا تخف خصمان بغي بعضنا على بعض " " ص 21 " وقوله تعالى: " فإن كان له أخوة فلأمه السدس " " النساء 11 " وأراد به الأخوين وقوله تعالى: " عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً " " يوسف 83 " وأراد به يوسف وأخاه وقوله تعالى: " وكنا لحكمهم شاهدين " " الأنبياء 78 " وأراد به داود وسليمان وقوله تعالى: " هذان خصمان اختصموا " " الحج 19 " وقوله تعالى: " إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما " " التحريم 4 " .
وأما من جهة السنة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الاثنان فما فوقهما جماعة " .
وأما من جهة الإشعار اللغوي فهو أن اسم الجماعة مشتق من الاجتماع وهو ضم شيء إلى شيء وهو متحقق في الاثنين حسب تحققه في الثلاثة وما زاد عليها ولذلك تتصرف العرب وتقول: جمعت بين زيد وعمرو فاجتمعا وهما مجتمعان كما يقال ذلك في الثلاثة فكان إطلاق اسم الجماعة على الاثنين حقيقة.
وأما من جهة الإطلاق فمن وجهين: الأول: أن الاثنين يخبران عن أنفسهما بلفظ الجمع فيقولان: قمنا وقعدنا وأكلنا وشربنا كما تقول الثلاثة.
الثاني: أنه يصح أن يقول القائل إذا أقبل عليه رجلان في مخافة: أقبل الرجال وذلك كله يدل على أن لفظ الجمع حقيقة في الاثنين إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة قال النافون لذلك:(1/196)
أما قوله تعالى: " إنا معكم مستمعون " " الشعراء 15 " فالمراد به موسى وهارون وفرعون وقومه وهم جمع: وقوله تعالى: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا " " الحجرات 9 " فكل طائفة جمع وأما قصة داود فلا حجة فيها فإن الخصم قد يطلق على الواحد وعلى الجماعة فيقال هذا خصمي وهؤلاء خصمي وليس في الآية ما يدل على أن كل واحد من الخصمين كان واحداً وقوله تعالى: " فإن كان له أخوة فلأمه السدس " " النساء 11 " فالمراد به الثلاثة وحيث ورثناها السدس مع الأخوين لم يكن ذلك مخالفاً لمنطوق اللفظ بل لمفهومه بدليل آخر وهو انعقاد الإجماع على ذلك والمراد من قوله تعالى: " عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً " " يوسف 83 " يوسف وأخوه وشمعون الذي قال: لن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي والمراد من قوله تعالى: وكنا لحكمهم شاهدين " " الأنبياء 78 " داود وسليمان والمحكوم له وهم جماعة وقوله تعالى: " هذان خصمان اختصموا " " الحج 19 " فالجواب عنه ما تقدم في قصة داود وقوله تعالى: " إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما " " التحريم 4 " فهو أشبه مما يحتج به هاهنا ويمكن أن يجاب عنه بأن الخطاب وإن كان مع اثنين وأنه ليس لكل واحد منهما في الحقيقة سوى قلب واحد غير أنه قد يطلق اسم القلوب على ما يوجد للقلب الواحد من الترددات المختلفة إلى الجهات المختلفة مجازاً ومن ذلك قولهم لمن مال قلبه إلى جهتين أو تردد بينهما: إنه ذو قلبين وعند ذلك فيجب حمل قوله قلوبكما على جهة لفظ الجمع على الاثنين حقيقة ويمكن أن يقال إنما قال قلوبكما تجوزاً حذراً من استثقال الجمع بين تثنيتين وقوله صلى الله عليه وسلم الاثنان فما فوقهما جماعة إنما أراد به أن حكمهما حكم الجماعة في انعقاد صلاة الجماعة بهما وإدراك فضيلة الجماعة ويجب الحمل عليه لأن الغالب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرفنا الأحكام الشرعية لا الأمور اللغوية لكونها معلومة للمخاطب ولما سيأتي من الأدلة.
وأما ما ذكروه من الإشعار اللغوي فجوابه أن يقال: وإن كان ما منه اشتقاق لفظ الجماعة في الثلاثة موجوداً في الاثنين فلا يلزم إطلاق اسم الجماعة عليهما إذ هو من باب القياس في اللغة وقد أبطلناه ولهذا فإن المعنى الذي صح منه اشتقاق اسم القارورة للزجاجة المخصوصة وهو قرار المائع فيها متحقق في الجرة والكوز ولا يصح تسميتهما قارورة كيف وإن ذلك لا يطرد في اسم الرجال والمؤمنين وغيرهما من أسماء الجموع إذ هو غير مشتق من الجمع والخلاف واقع في إطلاقه على الاثنين حقيقة.
وجواب الإطلاق الأول أن ذلك لا يدل على أن الاثنين جمع بدليل صحة قول الواحد لذلك مع أنه ليس بجماعة ولهذا فإنه لا يصح إخبار غيرهما عنهما بذلك فلا يقال عن الاثنين قاموا وقعدوا بل قاما وقعدا.
وجواب الإطلاق الثاني أن ذلك أيضاً لا يدل على أن الاثنين جماعة بدليل صحة قوله: جاء الرجال عند ما إذا أقبل عليه الواحد في حال المخافة والواحد ليس بجمع بالاتفاق وأما حجج القائلين بأن أقل الجمع ثلاثة فست.
الأولى: ما روي عن ابن عباس أنه قال لعثمان حين رد الأم من الثلث إلى السدس بأخوين قال الله تعالى: " فإن كان له أخوة فلأمه السدس " " النساء 11 " وليس الأخوان أخوة في لسان قومك فقال عثمان: لا أستطيع أن أنقض أمراً كان قبلي وتوارثه الناس ولولا أن ذلك مقتضى اللغة لما احتج به ابن عباس على عثمان وأقره عليه عثمان وهما من أهل اللغة وفصحاء العرب.
الثانية: أن أهل اللغة فرقوا بين رجلين ورجال فإطلاق اسم الرجال على الرجلين رفع لهذا الفرق.
الثالثة: أنه لو صح إطلاق الرجال على الرجلين لصح نعتهما بما ينعت به الرجال ولا يصح أن يقال: جاءني رجلان ثلاثة كما يقال: جاءني رجال ثلاثة ولصح أن يقال: رأيت اثنين رجالاً كما يقال رأيت ثلاثة رجال.
الرابعة: أن أهل اللغة فرقوا بين ضمير التثنية والجمع فقالوا في الاثنين: فعلاً وفي الجميع فعلوا.
الخامسة: أنه يصح أن يقال: ما رأيت رجالاً بل رجلين ولو كان اسم الرجال للرجلين حقيقة لما صح نفيه.
السادسة: أنه لو قال: لفلان علي دراهم فإنه لا يقبل تفسيره بأقل من ثلاثة وكذلك في النذر والوصية.
وهذه الحجج ضعيفة: أما الحجة الأولى فهي معارضة بما روي عن زيد بن ثابت أنه قال: الأخوان أخوة وروي عنه أنه قال: أقل الجمع اثنان وليس العمل بأحدهما أولى من الآخر.(1/197)
وأما الثانية: فهو أن التفرقة بين الرجلين والرجال أن اسم الرجلين جمع خاص بالاثنين والرجال جمع عام للاثنين وما زاد عليهما.
وأما الثالثة: فهو أن الثلاثة نعت للجمع العام وهو الرجال ولا يلزم أن يكون نعتاً للجمع الخاص وهو رجلان وبه يعرف الجواب عن امتناع قولهم: رأيت اثنين رجالاً من حيث إن رجالاً اسم للجمع العام وهو الثلاثة وما زاد عليها فلا يلزم أن يكون اسماً لما دون ذلك وبه يخرج الجواب عن الفرق بين ضمير التثنية وضمير الجمع: فإن ضمير فعلا لجمع خاص وهو الاثنان وفعلوا ضمير ما زاد على ذلك.
وأما الخامسة: فإنه إذا رأى رجلين لا نسلم أنه يصح قوله: ما رأيت رجالاً إلا أن يريد به ما زاد على الاثنين وأما الأحكام فممنوعة على أصل من يرى أن أقل الجمع اثنين.
وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين فعلى الناظر بالاجتهاد في الترجيح وإلا فالوقف لازم.
المسألة الرابعة اختلف القائلون بالعموم في العام بعد التخصيص هل هو حقيقة في الباقي أو مجاز على ثمانية مذاهب.
فمنهم من قال إنه يبقى حقيقة مطلقاً على أي وجه كان المخصص وهو مذهب الحنابلة وكثير من أصحابنا.
ومنهم من قال إنه يبقى مجازاً كيف ما كان المخصص وهو مذهب كثير من أصحابنا وإليه ميل الغزالي وكثير من المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة كعيسى بن أبان وغيره.
ومن أصحاب أبي حنيفة من قال: إن كان الباقي جمعاً فهو حقيقة وإلا فلا وهو اختيار أبي بكر الرازي.
ومنهم من قال إن خص بدليل لفظي فهو حقيقة كيف ما كان المخصص متصلاً أو منفصلاً وإلا فهو مجاز.
ومنهم من قال إن خص بدليل متصل من شرط كقوله: من دخل داري وأكرمني أكرمته أو استثناء كقوله: من دخل داري أكرمته سوى بني تميم فحقيقة وإلا فمجاز وهو اختيار القاضي أبي بكر.
وقال القاضي عبد الجبار من المعتزلة إن كان مخصصه شرطاً كما سبق تمثيله أو تقييداً بصفة كقوله: من دخل داري عالماً أكرمته فهو حقيقة وإلا فهو مجاز حتى في الاستثناء.
وقال أبو الحسين البصري: إن كانت القرينة المخصصة مستقلة بنفسها وسواء كانت عقلية كالدلالة الدالة على أن غير القادر غير مراد بالخطاب في العبادات أو لفظية كقول المتكلم بالعموم: أردت به البعض الفلاني فهو مجاز وإلا فهو حقيقة وسواء كانت القرينة شرطاً أو صفة مقيدة أو استثناء ومن الناس من قال إنه حقيقة في تناول اللفظ له مجاز في الاقتصار عليه.
والمختار تفريعاً على القول بالعموم أنه يكون مجازاً في المستبقى واحداً كان أو جماعة وسواء كان المخصص متصلاً أو منفصلاً عقلياً أو لفظياً باستثناء أو شرط أو تقييد بصفة.
ودليل ذلك أنه إذا كان اللفظ حقيقة في الاستغرق والهيئة الاجتماعية من كل الجنس فصرفه إلى البعض بالقرينة كيف ما كانت القرينة.
إما أن يكون لدلالة اللفظ عليه حقيقة أو مجازاً لا جائز أن يقال بكونه حقيقة فيه وإلا كان اللفظ مشتركاً بينه وبين الاستغراق ضرورة اختلاف معنييهما بالبعضية والكلية وعدم اشتراكهما في معنى جامع يكون مدلولاً للفظ والمشترك لا يكون ظاهراً بلفظه في بعض مدلولاته دون البعض وهو خلاف مذهب القائلين بالعموم فلم يبق إلا أن يكون مجازاً.(1/198)
فإن قيل: ما المانع أن يكون حقيقة فيهما باعتبار اشتراكهما في الجنسية على وجه لا يكون مشتركاً ولا مجازاً في أحدهما والذي يدل على كونه حقيقة في البعض المستبقي أن اللفظ كان متناولاً له حقيقة قبل التخصيص فخروج غيره عن عموم اللفظ لا يكون مؤثراً فيه سلمنا أنه ليس حقيقة في الجنس المشترك ولكن ما المانع من كون اللفظ بمطلقه حقيقة في الاستغراق ومع القرينة يكون حقيقة في البعض سلمنا امتناع بقائه حقيقة فيه ولكن متى إذا كان دليل التخصيص لفظياً متصلاً أو منفصلاً الأول ممنوع والثاني مسلم وذلك لأنه إذا كان الدليل المخصص لفظياً متصلاً وسواء كان شرطاً أو تقييداً بصفة أو استثناء فإن الكلام يصير بسبب الزيادة المتصلة به كلاماً آخر مستقلاً موضوعاً للبعض فإنه إذا قال من دخل داري أكرمته كان له معنى فإذا زاد شرطاً أو صفة أو استثناء كقوله من دخل داري وأكرمني أكرمته ومن دخل داري عالماً أكرمته أو من دخل داري أكرمته إلا بني تميم تغير ذلك المعنى الأول وصار معنى الشرط الداخل المكرم ومعنى الصفة الداخل العالم ومعنى الاستثناء الداخل ممن ليس من بني تميم فكان اللفظ والمعنى مختلفاً وكل واحد من اللفظين حقيقة في معناه وصار هذا بمنزلة قول القائل: مسلم فإنه له معنى فإذا زاد فيه الألف واللام فقال: المسلم أو زاد فيه الواو والنون فقال: مسلمون فإن اللفظ بإلحاق الزيادة فيه صار دالاً على معنى زائد بجهة الحقيقة لا بجهة التجوز فكذلك فيما نحن فيه.
وعلى هذا نقول: إن قوله تعالى: " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً " " العنكبوت 14 " إن مجموع هذا القول دل على المستبقي بجهة الحقيقة وهو قائم مقام قوله: فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عاماً.
هذا كله فيما إذا كان الاستثناء والمستثنى في كلام متكلم واحد وأما لو قال الله تعالى: " اقتلوا المشركين " " التوبة 5 " فقال الرسول عقيبه: إلا زيداً فهذا مما اختلف فيه أنه كالمتصل الذي لا يجعل لفظ المشركين مجازاً أم لا فمن قال بكونه متصلاً نظر إلى أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون في تشريع الأحكام يغير الوحي فكان في البيان كما لو كان ذلك بكلام الله تعالى ومنهم من أجراه مجرى الدليل المنفصل دون المتصل ولهذا فإنه لو قال الباري تعالى: زيد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قام " لا يكون خبراً صادراً من الله تعالى لأن نظم الكلام إنما يكون من متكلم واحد ولعل هذا هو الأظهر.
سلمنا أنه يكون مجازاً في جميع الصور إلا في الشرط وذلك لأنه إذا قال أكرم بني تميم إن دخلوا داري فإن الشرط لم يخرج شيئاً مما تناوله اللفظ من أعيان الأشخاص بل هو باق بحاله وإنما أخرج حالاً من الأحوال وهي حالة عدم دخول الدار بخلاف الاستثناء وغيره فلا يكون مجازاً.
سلمنا التجوز مطلقاً لكن متى إذا كان المستبقي جمعاً غير منحصر أو إذا لم يكن؟ الأول ممنوع والثاني مسلم.
والجواب عن السؤال الأول أن البعض وإن كان من جنس الكل إلا أن اللفظ العام حقيقة في استغراق الجنس من حيث هو كذلك لا في الجنس مطلقاً ولهذا تعذر حمله على البعض وإن كان من الجنس إلا بقرينة باتفاق القائلين بالعموم ومعنى الاستغراق غير متحقق في المستبقى فلا يكون حقيقة فيه.
قولهم إن اللفظ كان متناولاً له حقيقة قبل التخصيص قلنا بانفراده أو مع المخصص الخارج؟ الأول ممنوع والثاني مسلم وعلى هذا فلا يلزم مع التخصيص أن يبقى حقيقة فيه كيف ويلزم عليه الواحد فإن اللفظ كان متناولاً له حقيقة قبل التخصيص وبعد التخصيص فهو مجاز فيه بالاتفاق.
وعن السؤال الثاني جوابان: الأول أن ذلك مما يرفع جميع المجازات عن الكلام فإنه ما من مجاز إلا ويمكن أن يقال أنه مع القرينة حقيقة في مدلوله وبدون القرينة حقيقة في غيره.
الثاني: أنه لو كان كما ذكروه لكان استعمال ذلك اللفظ في الاستغراق مع اقترانه بالقرينة المخصصة له بالبعض استعمالاً له في غير الحقيقة وصارفاً له عن الحقيقة وهو خلاف إجماع القائلين بالعموم.(1/199)
وعن السؤال الثالث: أن دلالة اللفظ عند اقترانه بالدليل اللفظي المتصل لا يخرج عن حقيقته وصورته بما اقترن به وإلا كان كل مقترن بشيء خارجاً عن حقيقته ويلزم من ذلك خروج الجسم عن حقيقته من حيث هو جسم عند اتصافه بالسواد والبياض وكذلك في كل موصوف بصفة وهو محال وإذا كان باقياً على حقيقته فمعناه لا يكون مختلفاً بل غايته أن يصير مصروفاً عن معناه بالقرينة المقترنة به وهو التجوز بعينه وعلى هذا فألفاظ الآية المذكورة في قصة نوح الألف للألف والخمسون للخمسين وإلا للرفع ومعرفة ما بقي حاصلة بالحساب وخرج عن هذا زيادة الألف واللام في المسلم والواو والنون في المسلمين فإنها لا معنى لها في نفسها دون المزيد عليه ولا سبيل إلى إهمالها فلذلك كانت موجبة للتعيين في الوضع.
فإن قيل: لو قال: لا إله فإنه بمطلقه يكون كفراً ولو اقترن به الاستثناء وهو قوله: إلا الله كان إيماناً وكذلك لو قال لزوجته: أنت طالق كان بمطلقه تنجيزاً للطلاق ولو اقترن به الشرط وهو قوله: إن دخلت الدار كان تعليقاً مع أن الاستثناء والشرط له معنى ولولا تغير الدلالة والوضع لما كان كذلك.
قلنا: لا نسلم التغير في الوضع بل غايته صرف اللفظ عما اقتضاه في جهة إطلاقه إلى غيره بالقرينة كيف وإنه لو صح ما ذكروه لم يكن ذلك من باب تخصيص العموم الذي نحن فيه. وعن السؤال الرابع من وجهين: الأول: أنه مهما أخرج الشرط بعض الأحوال فيلزم منه إخراج بعض الأعيان وذلك أنه إذا قال: أكرم بني تميم إن دخلوا داري فقد أخرج من لم يدخل الدار الثاني أنه: وإن لم يخرج شيئاً من الأعيان ولكن لا نسلم انحصار التجوز في إخراج الأعيان وما المانع من القول بالتجوز في إخراج بعض الأحوال مع عموم اللفظ بالنسبة إليها؟ وعن السؤال الخامس: لا نسلم أن المستبقي وإن كان جمعاً غير منحصر أنه يكون عاماً إذا لم يكن مستغرقاً للجنس وإن سلمنا عمومه غير أنه بعض مدلول اللفظ العام المخصص وإذا كان بعضاً منه لزم أن يكون صرف اللفظ إليه مجازاً لما ذكرناه من الدليل.
المسألة الخامسة اختلف القائلون بالعموم في صحة الاحتجاج به بعد التخصيص في ما بقي فأثبته الفقهاء مطلقاً وأنكره عيسى بن أبان وأبو ثور مطلقاً ومنهم من فصل: ثم اختلف القائلون بالتفصيل: فقال البلخي إن خص بدليل متصل كالشرط والصفة والاستثناء فهو حجة وإن خص بدليل منفصل فليس بحجة.
وقال أبو عبد الله البصري: إن كان المخصص قد منع من تعلق الحكم بالاسم العام وأوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه الظاهر لم يجز التعلق به كما في قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " " المائدة 38 " فإن قيام الدلالة على اعتبار الحرز ومقدار المسروق مانع من تعلق الحكم بعموم اسم السارق وموجب لتعلقه بشرط لا ينبئ عنه ظاهر اللفظ وإن كان المخصص لم يمنع من تعلق الحكم الاسم العام فهو حجة كقوله تعالى: " فاقتلوا المشركين " " التوبة 5 " فإن قيام الدلالة على المنع من قتل الذمي غير مانع من تعلق الحكم باسم المشركين.
وقال القاضي عبد الجبار: إن كان العام المخصوص لو تركنا وظاهره من دون التخصيص كنا نمتثل ما أريد منا ونضم إليه ما لم يرد منا صح الاحتجاج به وذلك كقوله تعالى: " فاقتلوا المشركين " " التوبة 5 " المخصص بأهل الذمة وإن كان العام بحيث لو تركنا وظاهره من غير تخصيص لم يمكنا امتثال ما أريد منا دون بيان فلا يكون حجة وذلك كقوله تعالى: " أقيموا الصلاة " " البقرة 110 " فإنا لو تركنا والآية لم يمكنا امتثال ما أريد منا من الصلاة الشرعية قبل تخصيصه بالحائض فكذلك بعد التخصيص.
ومن الناس من قال إنه يكون حجة في أقل الجمع ولا يكون حجة فيما زاد على ذلك واتفق الكل على أن العام لو خص تخصيصاً مجملاً فإنه لا يبقى حجة كما لو قال: اقتلوا المشركين إلا بعضهم والمختار صحة الاحتجاج به فيما وراء صور التخصيص.
وقد احتج بعض الأصحاب على ذلك بأن قال: اللفظ العام كان متناولاً للكل بالإجماع فكونه حجة في كل قسم من أقسام ذلك الكل إما أن يكون موقوفاً على كونه حجة في القسم الآخر أو على كونه حجة في الكل أو لا يتوقف على واحد منهما:(1/200)
فإن كان الأول فهو باطل لأنه إن كان كونه حجة في كل واحد من الأقسام مشروطاً بكونه حجة في القسم الآخر فهو دور ممتنع وإن كان كونه حجة في بعض الأقسام مشروطاً بكونه حجة في قسم آخر ولا عكس فكونه حجة في ذلك القسم الآخر يبقى بدون كونه حجة في القسم المشروط وليس بعض الأقسام بذلك أولى من البعض مع تساوي نسبة اللفظ العام إلى كل أقسامه.
وإن كان الثاني فهو أيضاً باطل لأن كونه حجة في الكل يتوقف على كونه حجة في كل واحد من تلك الأقسام لأن الكل لا يتحقق إلا عند تحقق جميع الأفراد وذلك أيضاً دور ممتنع وإذا بطل القسمان ثبت كونه حجة في كل واحد من الأقسام من غير توقف على كونه حجة في القسم الآخر ولا على الكل ثبت كونه حجة في البعض المستبقى وإن لم يبق حجة في غيره وهذه الحجة مع طولها ضعيفة جداً إذ لقائل أن يقول ما المانع من صحة توقف الاحتجاج به في كل واحد من الأقسام على الآخر أو على الكل مع التعاكس.
قوله إنه دور ممتنع متى يكون ذلك ممتنعاً إذا كان التوقف توقف معية أو توقف تقدم؟ الأول ممنوع والثاني مسلم ولكن لم قلت بأن التوقف هاهنا بجهة التقدم ولا يخفى أن بيان ذلك مما لا سبيل إليه والمعتمد في ذلك الإجماع والمعقول.
أما الإجماع فهو أن فاطمة رضي الله عنها احتجت على أبي بكر في ميراثها من أبيها بعموم قوله تعالى: " يوصيكم الله في أولادكم " " النساء 11 " الآية مع أنه مخصص بالكافر والقاتل ولم ينكر أحد من الصحابة صحة احتجاجها مع ظهوره وشهرته بل عدل أبو بكر في حرمانها إلى الاحتجاج بقوله صلى الله عليه وسلم: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " وأيضاً فإن علياً عليه السلام احتج على جواز الجمع بين الأختين في الملك بقوله تعالى: " أو ما ملكت أيمانكم " " النساء 3 " مع كونه مخصصاً بالأخوات والبنات وكان ذلك مشهوراً فيما بين الصحابة ولم يوجد له نكير فكان إجماعاً وأيضاً فإن ابن عباس احتج على تحريم نكاح المرضعة بعموم قوله تعالى: " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم " " النساء 23 " وقال قضاء الله أولى من قضاء ابن الزبير مع أنه مخصوص لكون الرضاع المحرم متوقفاً على شروط وقيود فليس كل مرضعة محرمة ولم ينكر عليه منكر صحة احتجاجه به فكان إجماعاً.
وأما المعقول فهو أن العام قبل التخصيص حجة في كل واحد من أقسامه إجماعاً والأصل بقاء ما كان قبل التخصيص بعده إلا أن يوجد له معارض والأصل عدمه فإن قيل: لو كان حجة في الباقي بعد التخصيص لم يخل إما أن يدل عليه حقيقة أو تجوزاً لا جائز أن يقال بالأول إذ يلزم منه أن يكون اللفظ مشتركاً بينه وبين الاستغراق ضرورة اتفاق القائلين بالعموم على كونه حقيقة في الاستغراق والاشتراك على خلاف الأصل وإن كان مجازاً فيمتنع الاحتجاج به لثلاثة أوجه.
الأول: أن المجاز فيما وراء صورة التخصيص ويمتنع الحمل على الكل لما فيه من تكثير جهات التجوز وليس حمله على أحد المجازين أولى من الآخر لعدم دلالة اللفظ عليه فكان مجملاً.
الثاني: أن المجاز ليس بظاهر وما لا يكون ظاهراً لا يكون حجة.
الثالث: أن العام بعد التخصيص ينزل منزلة قوله: اقتلوا المشركين إلا بعضهم والمشبه به ليس بحجة فكذلك المشبه سلمنا أنه حجة لكن في أقل الجمع أو فيما عدا صورة التخصيص؟ الأول مسلم والثاني ممنوع وذلك لأن الحمل على أقل الجمع متيقن بخلاف الحمل على ما زاد عليه فإنه مشكوك فيه فكان حجة في المتيقن والجواب عن السؤال الأول من جهة الإجمال والتفصيل: أما الإجمال فهو أن اللفظ العام حجة في كل واحد من أقسامه قبل التخصيص إجماعاً وهو إما أن يكون دالاً عليه حقيقة أو مجازاً ضرورة وكل ما ذكروه من الإشكالات تكون لازمة ومع ذلك فهو حجة والعذر يكون متحداً.
وأما التفصيل فنقول: ما المانع أن يكون مشتركاً؟ قولهم: الاشتراك على خلاف الأصل قلنا إنما يكون خلاف الأصل أن لو لم يكن من قبيل الأسماء العامة وليس كذلك على ما يأتي عن قرب إن شاء الله تعالى وإن سلمنا أنه ليس مشتركاً فما المانع من التجوز؟(1/201)
قولهم: إنه مجمل لتردده بين جهات التجوز قلنا: يجب اعتقاد ظهوره في بعضها نفياً للإجمال عن الكلام إذ هو خلاف الأصل ثم متى يكون كذلك إذا كان حمله على ما عدا صورة التخصيص مشهوراً أو إذا لم يكن الأول ممنوع والثاني مسلم وبيان اشتهاره ما نقل عن الصحابة من علمهم بالعمومات المخصصة فيما وراء صورة التخصيص نقلاً شائعاً ذائعاً سلمنا أنه غير مشهور فيه ولكن يجب حمل اللفظ بعد التخصيص عليه لأنه أولى من حمله على أقل الجمع لثلاثة أوجه الأول: لكونه معيناً وكون أقل الجمع مبهماً في الجنس.
والثاني: إن حمله عليه بتقدير أن يكون المراد من اللفظ أقل الجمع غير مخل بمراد المتكلم وحمله على أقل الجميع بتقدير أن يكون المراد من اللفظ ما عدا صورة التخصيص مخل بمراد المتكلم فكان الحمل عليه أولى.
والثالث: إنه أقرب إلى الحقيقة فكان أولى.
قولهم: المجاز ليس بظاهر إن أرادوا به أنه ليس حقيقة فمسلم ولكن لا يدل ذلك على أنه لا يكون حجة إلا أن تكون الحجة منحصرة في الحقيقة وهو محل النزاع وإن أرادوا به أنه لا يكون حجة فهو محل النزاع.
قولهم: إنه ينزل منزلة قوله اقتلوا المشركين إلا بعضهم ليس كذلك فإن الخارج عن العموم إذا كان مجهولاً تعذر العمل بالعموم مطلقاً لأن العمل به في أي واحد قدر لا يؤمن معه أن يكون هو المستثنى بخلاف ما إذا كان الخارج معيناً وعن السؤال الثاني بما ذكرناه من الترجيحات السابقة.
المسألة السادسة إذا ورد خطاب جواباً لسؤال سائل داع إلى الجواب فالجواب إما أن يكون غير مستقل بنفسه دون السؤال أو هو مستقل: فإن كان الأول فهو تابع للسؤال في عمومه وخصوصه: أما في عمومه فمن غير خلاف وذلك كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن بيع الرطب التمر فقال: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم قال: فلا إذا.
وأما في خصوصه فكما لو سأله سائل وقال: توضأت بماء البحر فقال له: يجزئك فهذا وأمثاله وإن ترك فيه الاستفصال مع تعارض الأحوال لا يدل على التعميم في حق الغير كما قاله الشافعي رضي الله عنه إذ اللفظ لا عموم له ولعل الحكم على ذلك الشخص كان لمعنى يختص به كتخصيص أبي بردة في الأضحية بجذعة من المعز وقوله له تجزئك ولا تجزئ أحداً بعدك وتخصيصه خزيمة بقبول شهادته وحده وبتقدير تعميم المعنى الجالب للحكم فالحكم في حق غيره إن ثبت فبالعلة المتعدية لا بالنص.
وأما إن كان الجواب مستقلاً بنفسه دون السؤال فإما أن يكون مساوياً للسؤال أو أعم منه أو أخص.
فإن كان مساوياً له فالحكم في عمومه وخصوصه عند كون السؤال عاماً أو خاصاً فكما لو لم يكن مستقلاً ومثاله عند كون السؤال خاصاً سؤال الأعرابي عن وطئه في نهار رمضان وقوله صلى الله عليه وسلم: " اعتق رقبة " ومثاله عند كون السؤال عاماً ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل فقيل له: إنا نركب البحر على أرماث لنا وليس معنا من الماء العذب ما يكفينا أفنتوضأ بما البحر فقال صلى الله عليه وسلم: " البحر هو الطهور ماؤه " .
وأما إن كان الجواب أخص من السؤال فالجواب يكون خاصاً ولا يجوز تعديه الحكم من محل التنصيص إلى غيره إلا بدليل خارج عن اللفظ إذ اللفظ لا عموم له كما سبق تقريره بل وفي هذه الصورة الحكم بالخصوص أولى من القول به فيما إذا كان السؤال خاصاً والجواب مساوياً له حيث إنه هاهنا عدل عن مطابقة سؤال السائل بالجواب مع دعو الحاجة إليه بخلاف تلك الصورة فإنه طابق بجوابه سؤال السائل.
وأما إن كان الجواب أعم من السؤال فإما أن يكون أعم من السؤال في ذلك الحكم لا غير كسؤاله صلى الله عليه وسلم عن ماء بئر بضاعة فقال: " خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه " أو أنه أعم من السؤال في غير ذلك الحكم كسؤاله صلى الله عليه وسلم عن التوضؤ بماء البحر فقال: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " فإن كان من القسم الثاني فلا خلاف في عمومه في حل ميتته لأنه عام مبتدأ به لا في معرض الجواب إذ هو غير مسؤول عنه وكل عام ورد مبتدأ بطريق الاستقلال فلا خلاف في عمومه عند القائلين بالعموم وأما إن كان من القسم الأول فمذهب أبي حنيفة والجم الغفير أنه عام وأنه لا يسقط عمومه بالسبب الذي ورد عليه والمنقول عن الشافعي رضي الله عنه ومالك والمزني وأبي ثور خلافه.(1/202)
وعلى هذا يكون الحكم فيما إذا ورد العام على سبب خاص لا تعلق له بالسؤال كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر بشاة ميمونة وهي ميتة فقال صلى الله عليه وسلم: " أيما إهاب دبغ فقد طهر " .
والمختار إنما هو القول بالتعميم إلى أن يدل الدليل على التخصيص ودليله أنه لو عري اللفظ الوارد عن السبب كان عاماً وليس ذلك إلا لاقتضائه للعموم بلفظه لا لعدم السبب فإن عدم السبب لا مدخل له في الدلالات اللفظية ودلالة العموم لفظية وإذا كانت دلالته على العموم مستفادة من لفظه فاللفظ وارد مع وجوب السبب حسب وروده مع عدم السبب فكان مقتضياً للعموم ووجود السبب لو كان لكان مانعاً من اقتضائه للعموم وهو ممتنع لثلاثة أوجه: الأول: أن الأصل عدم المانعية فمدعيها يحتاج إلى البيان.
الثاني: أنه لو كان مانعاً من الاقتضاء للعموم لكان تصريح الشارع بوجوب العمل بعمومه مع وجود السبب إما إثبات حكم العموم مع انتفاء العموم أو إبطال الدليل المخصص وهو خلاف الأصل.
الثالث: أن أكثر العمومات وردت على أسباب خاصة فآية السرقة نزلت في سرقة المجن أو رداء صفوان وآية الظهار نزلت في حق سلمة بن صخر وآية اللعان نزلت في حق هلال بن أمية إلى غير ذلك والصحابة عمموا أحكام هذه الآيات من غير نكير فدل على أن السبب غير مسقط للعموم ولو كان مسقطاً للعموم لكان إجماع الأمة على التعميم خلاف الدليل ولم يقل أحد بذلك.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بما يدل على اختصاص العموم بالسبب وبيانه من ستة أوجه: الأول: أنه لو لم يكن المراد بيان حكم السبب لا غير بل بيان القاعدة العامة لما أخر البيان إلى حالة وقوع تلك الواقعة واللازم ممتنع وإذا كان المقصود إنما هو بيان حكم السبب الخاص وجب الاقتصار عليه.
الثاني: أنه لو كان الخطاب عاماً لكان جواباً وابتداء وقصد الجواب والابتداء متنافيان.
الثالث: أنه لو كان الخطاب مع السبب عاماً لجاز إخراج السبب عن العموم بالاجتهاد كما في غيره من الصور الداخلة تحت العموم ضرورة تساوي نسبة العموم إلى الكل وهو خلاف الإجماع.
الرابع: أنه لو لم يكن للسبب مدخل في التأثير لما نقله الراوي لعدم فائدته.
الخامس: أنه لو قال القائل لغيره: تغدى عندي فقال: لا والله لا تغديت فإنه وإن كان جواباً عاماً فمقصور على سببه حتى إنه لا يحنث بغدائه عند غيره ولولا أن السبب يقتضي التخصيص لما كان كذلك.
السادس: أنه إذا كان السؤال خاصاً فلو كان الجواب عاما لم يكن مطابقاً للسؤال والأصل المطابقة لكون الزيادة عديمة التأثير فيما تعلق به غرض السائل.
والجواب عن المعارضة الأولى أنها مبنية على وجوب رعاية الغرض والحكمة في أفعال الله وهو غير مسلم وإن كان ذلك مسلماً لكن لا مانع من اختصاص إظهار الحكم عند وجود السبب لحكمة استأثر الرب تعالى بالعلم بها دون غيره ثم يلزم مما ذكروه أن تكون العمومات الواردة على الأسباب الخاصة مما ذكرناه مختصة بأسبابها وهو خلاف الإجماع.
وعن الثانية: أنه إن أريد بالتنافي بين الجواب والابتداء امتناع ذكره لحكم السبب مع غيره فهو محل النزاع وإن أرادوا غير ذلك فلا بد من تصويره.
وعن الثالثة: أنه لا خلاف في كون الخطاب ورد بياناً لحكم السبب فكان مقطوعاً به فيه فلذلك امتنع تخصيصه بالاجتهاد بخلاف غيره فإن تناوله له ظني وهو ظاهر فيه فلذلك جاز إخراجه عن عموم اللفظ بالاجتهاد وما نقل عن أبي حنيفة من أنه كان يجوز إخراج السبب عن عموم اللفظ بالاجتهاد حتى أنه أخرج الأمة المستفرشة عن عموم قوله عليه السلام: " الولد للفراش " ولم يلحق ولدها بمولاها مع وروده في وليد زمعة وقد قال عبد الله بن زمعة: هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فلعله فعل ذلك لعدم اطلاعه على ورود الخبر على ذلك السبب.
وعن الرابعة: أن فائدة نقل السبب امتناع إخراجه عن العموم بطريق الاجتهاد ومعرفة أسباب التنزيل.
وعن الخامسة: أن الموجب للتخصيص بالسبب في الصورة المستشهد بها عادة أهل العرف بعضهم مع بعض ولا كذلك في الأسباب الخاصة بالنسبة إلى خطاب الشارع بالأحكام الشرعية.(1/203)
وعن السادسة: إن أرادوا بمطابقة الجواب للسؤال الكشف عنه وبيان حكمه فقد وجد وإن أرادوا بذلك أن لا يكون بياناً لغير ما سئل عنه فلا نسلم أنه الأصل ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن التوضؤ بماء البحر فقال هو الطهور ماؤه الحل ميتته تعرض لحل الميتة ولم يكن مسؤولاً عنها ولو كان الاقتصار على نفس المسؤول عنه هو الأصل لكان بيان النبي صلى الله عليه وسلم لحل الميتة على خلاف الأصل وهو بعيد.
المسألة السابعة اختلف العلماء في اللفظ الواحد من متكلم واحد في وقت واحد إذا كان مشتركاً بين معنيين كالقرء للطهر والحيض أو حقيقة في أحدهما مجازاً في الآخر كالنكاح المطلق على العقد والوطيء ولم تكن الفائدة فيهما واحدة هل يجوز أن يراد به كلا المعنيين معاً أو لا؟ فذهب الشافعي والقاضي أبو بكر وجماعة من أصحابنا وجماعة من مشايخ المعتزلة كالجبائي والقاضي عبد الجبار وغيرهم إلى جوازه بشرط أن لا يمتنع الجمع بينهما وذلك كاستعمال صيغة افعل في الأمر بالشيء والتهديد عليه غير أن مذهب الشافعي أنه مهما تجرد ذلك اللفظ عن القرينة الصارفة له إلى أحد معنييه وجب حمله على المعنيين ولا كذلك عند من جوز ذلك من مشايخ المعتزلة.
وذهب جماعة من أصحابنا وجماعة من المعتزلة كأبي هاشم وأبي عبد الله البصري وغيرهما إلى المنع من جواز ذلك مطلقاً.
وفصل أبو الحسين البصري والغزالي فقالا: يجوز ذلك بالنظر إلى الإرادة دون اللغة.
وعلى هذا النحو من الخلاف في اللفظ المفرد اختلفوا في جمعه كالأقراء التي هي جمع قرء هل يجوز حمله على الحيض والإطهار معاً وسواء كان إثباتاً كما لو قيل للمرأة: اعتدي بالأقراء أو نفياً كما لو قيل لها: لا تعتدي بالأقراء وذلك لأن جمع الاسم يفيد جمع ما اقتضاه الاسم فإن كان الاسم متناولاً لمعنييه كان الجمع كذلك وإن كان لا يفيد سوى أحد المعنيين فكذلك أيضاً جمعه والحجاج فيه متفرع على الحجاج في المفرد وربما قال بالتعميم في طرف النفي كان فرداً أو جمعاً بعض من قال بنفيه في طرف الإثبات ولهذا قال أبو الحسين البصري وفيه بعض الاشتباه إذ يجوز أن يقال بنفي الاعتداد بالحيض والطهر معاً والحق أن النفي لما اقتضاه الإثبات فإن كان مقتضى الإثبات الجمع فكذلك النفي وإن كان مقتضاه أحد الأمرين فكذلك النفي.
وإذ أتينا على بيان اختلاف المذاهب بالتفصيل فلنعد إلى طرف الحجاج وقد احتج القائلون بجواز التعميم.
أما في إمكان إرادة الأمرين باللفظ الواحد فهو أنا لو قدرنا عدم التكلم بلفظ القرء لم يمنع الجمع بين إرادة الاعتداد بالحيض وإرادة الاعتداد بالطهر فوجود اللفظ لا يحيل ما كان جائزاً وكذلك الكلام في إرادة الجمع بين الحقيقة والمجاز.
وأما بالنظر عند الوقوع لغة فقوله تعالى: " إن الله وملائكته يصلون على النبي " " الأحزاب 56 " والصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الدعاء والاستغفار وهما معنيان مختلفان وقد أريدا بلفظ واحد وأيضاً قوله تعالى: " ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر " " الحج 18 " إلى آخر الآية وسجود الناس غير سجود غير الناس وقد أريدا بلفظ واحد.
واحتجوا أيضاً بأن سيبويه قال: قول القائل لغيره الويل لك خبر ودعاء فقد جعله مع اتحاده مفيداً لكلا الأمرين.
اعترض النافون أما على إرادة إنكار الجمع بين المسميين فهو أن المتكلم إذا استعمل الكلمة الواحدة في حقيقتها ومجازها معاً كان مريداً لاستعمالها فيما وضعت له ومريداً للعدول بها عما وضعت له وهو محال وأيضاً فإن المستعمل للكلمة فيما هي مجاز فيه لا بد وأن يضمر فيها كاف التشبيه والمستعمل لها في حقيقتها لا بد وأن لا يضمر فيها ذلك والجمع بين الإضمار وعدمه في الكلمة الواحدة محال.(1/204)
هذا ما يخص الاسم المجازي وأما ما يخص الاسم المشترك فهو أن اللفظ المشترك موضوع في اللغة لأحد أمرين مختلفين على سبيل البدل ولا يلزم من ذلك أن يكون موضوعاً لهما على الجمع إذ المغايرة بين المجموع وبين كل واحد من أفراده واقعة بالضرورة والمساواة بينهما في جميع الأحكام غير لازمة وعلى هذا فلا يلزم من كون كل واحد من المفردين مسمى باسم تسمية المجموع به وعند ذلك فالواضع إذا وضع لفظا لأحد مفهومين على سبيل البدل فإن لم يكن قد وضعه لمجموعهما فاستعماله في المجموع استعمال اللفظ في غير ما وضع له وهو ممتنع وإن كان قد وضعه له فإما أن يستعمل اللفظ لإفادة المجموع وحده أو لإفادته مع إفادة الأفراد.
فإن كان الأول لم يكن اللفظ مفيداً لأحد مفهوماته لأن الواضع إن كان قد وضعه بازاء أمور ثلاثة على البدل واحدها ذلك المجموع فاستعمال اللفظ فيه وحده لا يكون استعمالاً للفظ في جميع مفهوماته وإن استعمله في إفادة المجموع والأفراد على الجمع فهو محال لأن إفادة الجموع معناها أن الاكتفاء لا يحصل إلا به وإفادته للمفرد معناها أنه يحصل الاكتفاء بكل واحد منها وهو جمع بين النقيضين وهو محال فلا يكون اللفظ المشترك من حيث هو مشترك ممكن الاستعمال في إفادة مفهوماته جملة.
وأما على دليل الوقوع لغة أما النص الأول فقد قال الغزالي فيه إن لفظ الصلاة المطلق على صلاة الله تعالى والملائكة إنما هو باعتبار اشتراكهما في معنى العناية بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم إظهاراً لشرفه وحرمته فهو لفظ متواطئ لا مشترك وكذلك لفظ السجود في الآية الأخرى فإن مسماه إنما هو القدر المشترك من معنى الخضوع لله تعالى والدخول تحت تسخيره وإرادته وقال أبو هاشم: وإن سلم اختلاف المسمى وإرادتهما بلفظ واحد فلا يبعد أن يقال إن ذلك من قبيل ما نقلته الشريعة من الأسماء اللغوية إلى غير معانيها في اللغة.
فأما قول سيبويه فإنه وإن دل على أن العرب وضعت قوله الويل لك للخبر والدعاء معاً فليس فيه ما يدل على أن كل الألفاظ المشتركة أو الألفاظ التي هي حقيقة في شيء ومجاز في شيء موضوعة للجمع كيف وإن قول سيبويه لا يدل على كون ذلك القول مستعملاً في الخبر والدعاء معاً بل جاز أن يكون موضوعاً للخبر وهو مستعمل في الدعاء مجازاً لا معاً.
أجاب المثبتون عن الاعتراض الأول على الإمكان بمنع أن المستعمل للفظة في حقيقتها ومجازها مريد لاستعمالها فيما وضعت له ومريد للعدول بها عما وضعت له بل هو مريد لما وضعت له حقيقة ولما لم توضع له حقيقة.
وعن الثاني أن إضمار التشبيه وعدمه في الكلمة الواحدة إنما يمتنع بالنسبة إلى شيء واحد وأما بالنسبة إلى شيئين فلا كيف وإن ذلك لا يطرد في كل مجاز.
وعن الثالث أنه مبني على أن الاسم المشترك موضوع لأحد مسمياته على سبيل البدل حقيقة وليس كذلك عند الشافعي والقاضي أبي بكر بل هو حقيقة في المجموع كسائر الألفاظ العامة ولهذا فإنه إذا تجرد عن القرينة عندهما وجب حمله على الجميع وإنما فارق باقي الألفاظ العامة من جهة تناوله لأشياء لا تشترك في معنى واحد يصلح أن يكون مدلولاً للفظ بخلاف باقي العمومات فنسبه اللفظ المشترك في دلالته إلى جملة مدلولاتها وإلى أفرادها كنسبة غيره من الألفاظ العامة إلى مدلولاتها جملة وأفراداً.
وعلى هذا فقد بطل كل ما قيل من التقسيم المبني على أن اللفظ المشترك موضوع لأحد مسمياته على طريق البدل حقيقة ضرورة كونه مبنياً عليه وإنما هو لازم على مشايخ المعتزلة المعتقدين كون اللفظ المشترك موضوعاً لأحد مسمياته حقيقة على طريق البدل.
فإن قيل: وإن كان اللفظ المشترك حقيقة في الجمع فلا خفاء بجواز استعماله في آحاد مدلولاته عند ظهور القرينة عند الشافعي والقاضي أبي بكر وسواء كان ذلك حقيقة أو مجازاً وعند ذلك فاستعماله في المجموع وإن كان على وجه لا يدخل فيه الأفراد فإن كان اللفظ حقيقة في الأفراد فاللفظ يكون مشتركاً ولم يدخل فيه جميع مسمياته وإن كان مجازاً فلم تدخل فيه الحقيقة والمجاز معاً وهو خلاف مذهبكم وإن كان على وجه يدخل فيه الأفراد فهو محال لأن إفادته للمجموع معناها أن الاكتفاء لا يحصل إلا به وإفادته للإفراد معناها أنه يحصل الإكتفاء بكل واحد منها وهو جمع بين النقيضين كما سبق.(1/205)
قلنا: استعماله في الأفراد متى يكون معناه الاكتفاء بها إذا كانت داخلة في المجموع أو إذا لم تكن داخلة فيه والأول ممنوع بل معنى استعماله فيها أنه لا بد منها والثاني مسلم ولا يلزم منه التناقض على كلا التقديرين أما على تقدير العمل باللفظ في آحاد أفراده مع الاقتصار عند ظهور القرينة فلأن الجملة غير مشترطة في الاكتفاء وأما عند كون الأفراد داخلة في مسمى الجملة فلأنها لا بد منها لا بمعنى أنه يكتفى بها.
فإن قيل: وإذا كانت الأفراد داخلة في مسمى الجملة فليس للفظ عليها دلالة بجهة الحقيقة ولا بجهة التجوز بل بطريق الملازمة الذهنية وليست دلالة لفظية ليلزم ما قيل.
قلنا: لا خفاء بدخول الأفراد في الجملة فتكون مفهومة من اللفظ الدال على الجملة فله عليها دلالة وهي إما أن تكون بجهة الحقيقة أو التجوز لما سبق.
وعن الاعتراض الأول على النصوص أنه لو كان مسمى الصلاة هو القدر المشترك من الاعتناء ومسمى السجود القدر المشترك من الخضوع والانقياد لاطرد الاسم باطرادهما وليس كذلك فإنه لا يسمى كل اعتناء بأمر صلاة ولا كل خضوع وانقياد سجوداً وإن كان المسمى باسم الصلاة اعتناء خاصاً فلا بد من تصويره وبيان الاشتراك فيه.
فإن قيل: يجب اعتقاده نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ فهو مبني على أن التجوز والاشتراك على خلاف الأصل وإنما يكون كذلك إن لو تعذر الجمع وهو محل النزاع.
وعن اعتراض أبي هاشم أنه مبني على تحقيق الأسماء الشرعية ونقلها من موضوعاتها في اللغة وهو باطل على ما سبق من مذهب القاضي أبي بكر.
وعن الاعتراض على قول سيبويه: أما الأول فلأنه إنما يلزم أن لو كان الاستدلال بقول سيبويه على أن كل لفظ مشترك أو مجاز يجب أن يكون موضوعاً لمجموع مسمياته وليس كذلك بل إنما قصد به بيان الوقوع لا غير.
وأما الثاني فلأنه لا انفكاك في قوله الويل لك عن الخبر والدعاء واللفظ واحد ولا معنى لاستعماله فيهما سوى فهمهما منه عند إطلاقه.
المسألة الثامنة نفي المساواة بين الشيئين كما في قوله تعالى: " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة " " الحشر 20 " يقتضي نفي الاستواء في جميع الأمور عند أصحابنا القائلين بالعموم خلافاً لأبي حنيفة فإنه قال: إذا وقع التفاوت ولو من وجه واحد فقد وفى بالعمل بدلالة اللفظ.
حجة أصحابنا أنه إذا قال القائل: لا مساواة بين زيد وعمرو فالنفي داخل على مسمى المساواة فلو وجدت المساواة من وجه لما كان مسمى المساواة منتفياً وهو خلاف مقتضى اللفظ.
فإن قيل الاستواء ينقسم إلى الاستواء من كل وجه وإلى الاستواء من بعض الوجوه ولهذا يصدق قول القائل: استوى زيد وعمرو عند تحقق كل واحد من الأمرين والاستواء مطلقاً أعم من الاستواء من كل وجه ومن وجه دون وجه والنفي إنما دخل على الاستواء الأعم فلا يكون مشعراً بأحد القسمين الخاصين وأيضاً فإنه لا يكفي في إطلاق لفظ المساواة الاستواء من بعض الوجوه وإلا لوجب إطلاق لفظ المتساويين على جميع الأشياء لأنه ما من شيئين إلا ولا بد من استوائهما في أمر ما ولو في نفي ما سواهما عنهما ولو صدق ذلك وجب أن يكذب عليه غير المساوي لتناقضهما عرفاً ولهذا فإن من قال: هذا مساو لهذا فمن أراد تكذيبه قال: لا يساويه والمتناقضان لا يصدقان معاً ويلزم من ذلك أن لا يصدق على شيئين أنهما غير متساويين وذلك باطل فعلم أنه لا بد في اعتبار المساواة من التساوي من كل وجه وعند ذلك فيكفي في نفي المساواة نفي الاستواء من بعض الوجوه لأن نقيض الكلي الموجب جزئي سالب فثبت أن نفي المساواة لا يقتضي نفي المساواة من كل وجه وأيضاً فإنه لو كان نفي المساواة يقتضي نفي المساواة من كل وجه لما صدق نفي المساواة حقيقة على شيئين أصلاً لأنه ما من شيئين إلا وقد استويا في أمر ما كما سبق وهو على خلاف الأصل إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة دون المجاز.
والجواب عن الأول أن ذكر الأعم متى لا يكون مشعراً بالأخص إذا كان ذلك في طرف الإثبات أو النفي؟ الأول مسلم والثاني ممنوع ولهذا فإنه لو قال القائل: " ما رأيت حيواناً وكان قد رأى إنساناً أو غيره من أنواع الحيوان فإنه يعد كاذباً.
وعن الثاني لا نسلم أنه لا يكفي في إطلاق لفظ المساواة التساوي من بعض الوجوه.(1/206)
قولهم: لو كفى ذلك لوجب إطلاق لفظ المتساويين على جميع الأشياء لما قرر مسلم.
قولهم: يلزم من ذلك أن يكذب عليه غير المساوي وهو باطل بما قرر فهو مقابل بمثله وهو أن يقال لا يكفي في إطلاق نفي المساواة نفي المساواة من بعض الوجوه وإلا لوجب إطلاق نفي المساواة على كل شيئين لأنه ما من شيئين إلا وقد تفاوتا من وجه ضرورة تعينهما ولو صدق ذلك لوجب أن يكذب عليه المساوي لتناقضهما عرفاً ولهذا فإن من قال: هذا غير مساو لهذا فمن أراد تكذيبه قال: إنه مساو له والمتناقضان لا يصدقان معاً ويلزم من ذلك أن لا يصدق على شيئين أنهما متساويان وذلك باطل فإنه ما من شيئين إلا ولا بد من استوائهما ولو في نفي ما سواهما عنهما فعلم أنه لا بد في اعتبار نفي المساواة من نفي المساواة من كل وجه وعند ذلك فيكفي في إثبات المساواة المساواة من بعض الوجوه لأن نقيض الكلي السالب جزئي موجب وفيه إبطال ما ذكر من عدم الاكتفاء في إطلاق لفظ المساواة بالمساواة من وجه وإذا تقابل الأمران سلم لنا ما ذكرناه أولاً.
وعن الثالث لا نسلم صدق نفي المساواة مطلقاً على ما وقع التساوي بينهما من وجه.
قولهم: الأصل في الإطلاق الحقيقة قلنا: إلا أن يدل الدليل على مخالفته ودليله ما ذكرناه وفي معنى نفي المساواة قوله تعالى: " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً " " النساء 141 " .
المسألة التاسعة المقتضي وهو ما أضمر ضرورة صدق المتكلم لا عموم له وذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " فإنه أخبر عن رفع الخطأ والنسيان ويتعذر حمله على حقيقته لإفضائه إلى الكذب في كلام الرسول ضرورة تحقق الخطأ والنسيان في حق الأمة فلا بد من إضمار حكم يمكن نفيه من الأحكام الدنيوية أو الأخروية ضرورة صدقه في كلامه وإذا كانت أحكام الخطأ والنسيان متعددة فيمتنع إضمار الجميع إذ الإضمار على خلاف الأصل والمقصود حاصل بإضمار البعض فوجب الاكتفاء به ضرورة تقليل مخالفة الأصل.
فإن قيل: ما ذكرتموه إنما يصح أن لو لم يكن لفظ الرفع دالاً على رفع جميع أحكام الخطأ والنسيان وليس كذلك وبيانه أن قوله: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان يدل على رفعهما مستلزماً لرفع أحكامهما فإذا تعذر العمل به في نفي الحقيقة تعين العمل به في نفي الأحكام سلمنا أنه لا دلالة عليها وضعاً ولكن لم قلتم بأنه لا يدل عليها بعرف الاستعمال؟ ولهذا يقال ليس للبلد سلطان وليس له ناظر ولا مدبر والمراد به نفي الصفات سلمنا أنه لا يدل عليها بعرف الاستعمال غير أن اللفظ دال على رفع الخطأ والنسيان فإذا تعذر ذلك وجب إضمار جميع الأحكام لوجهين الأول أنه يجعل وجود الخطأ والنسيان كعدمه والثاني أنه لا يخلو إما أن يقال بإضمار الكل أو البعض أو لا بإضمار شيء أصلاً والقول بعدم الإضمار خلاف الإجماع وليس إضمار البعض أولى من البعض ضرورة تساوي نسبة اللفظ إلى الكل فلم يبق سوى إضمار الجميع.
والجواب: عن الأول أن اللفظ إنما يستلزم نفي الأحكام بواسطة نفي حقيقة الخطأ والنسيان فإذا لم يكن الخطأ والنسيان متيقناً فلا يكون مستلزماً لنفي الأحكام.
وعن الثاني أن الأصل إنما هو العمل بالوضع الأصلي وعدم العرف الطارئ فمن ادعاه يحتاج إلى بيانه وما ذكروه من الاستشهاد بالصور فلا نسلم صحة حملها على جميع الصفات وإلا لما كان السلطان موجوداً ولا عالماً ولا قادراً ونحو ذلك من الصفات وهو محال.
وعن الثالث قولهم: إضمار جميع الأحكام يكون أقرب إلى المقصود من نفي الحقيقة قلنا: إلا أنه يلزم منه تكثير مخالفة الدليل المقتضي للأحكام وهو وجود الخطأ والنسيان.
قولهم ليس إضمار البعض أولى من البعض إنما يصح أن لو قلنا بإضمار حكم معين وليس كذلك بل بإضمار حكم ما والتعيين إلى الشارع فإن قيل فيلزم من ذلك الإجمال في مراد الشارع وهو على خلاف الأصل قلنا: لو قيل بإضمار الكل لزم منه زيادة الإضمار وتكثير مخالفة الدليل كما سبق وكل واحد منهم على خلاف الأصل.
ثم ما ذكرناه من الأصول إما أن تكون راجحة على ما ذكروه أو مساوية له أو مرجوحة فإن كانت راجحة لزم العمل بها.(1/207)
وإن كانت مساوية فهو كاف لنا في هذا المقام في نفي زيادة الإضمار وهما تقديران وما ذكروه إنما يمكن التمسك به على تقدير كونه راجحاً ولا يخفى أن ما يتم التمسك به على تقديرين أرجح مما لا يمكن التمسك به إلا على تقدير واحد.
المسألة العاشرة الفعل المتعدي إلى مفعول كقوله: والله لا آكل أو إن أكلت فأنت طالق هل يجري مجرى العموم بالنسبة إلى مفعولاته أم لا؟ اختلفوا فيه: فأثبته أصحابنا والقاضي أبو يوسف ونفاه أبو حنيفة.
وتظهر فائدة الخلاف في أنه لو نوى به مأكولاً معيناً قبل عند أصحابنا حتى إنه لا يحنث بأكل غيره بناء على عموم لفظه له وقبول العام للتخصيص ببعض مدلولاته ولا يقبل عند أبي حنيفة تخصيصه به لأن التخصيص من توابع العموم ولا عموم.
حجة أصحابنا أما في طرف النفي وذلك عند ما إذا قال: والله لا أكلت أن قوله: أكلت فعل يتعدى إلى المأكول ويدل عليه بوضعه وصيغته فإذا قال: لا أكلت فهو ناف لحقيقة الأكل من حيث هو أكل ويلزم من ذلك نفيه بالنسبة إلى كل مأكول وإلا لما كان نافياً لحقيقة الأكل من حيث هو أكل وهو خلاف دلالة لفظه وإذا كان لفظه دالاً على نفي حقيقة الأكل بالنسبة إلى كل مأكول فقد ثبت عموم لفظه بالنسبة إلى كل مأكول فكان قابلاً للتخصيص.
وأما في طرف الإثبات وهو ما إذا قال: إن أكلت فأنت طالق فلا يخفى أن وقوع الأكل المطلق يستدعي مأكولاً مطلقاً لكونه متعدياً إليه والمطلق ما كان شائعاً في جنس المقيدات الداخلة تحته فكان صالحاً لتفسيره وتقييده بأي منها كان ولهذا لو قال الشارع: أعتق رقبة صح تقييدها بالرقبة المؤمنة ولو لم يكن للمطلق على المقيد دلالة لما صح تفسيره به.
فإن قيل: يلزم على ما ذكرتموه الزمان والمكان فإن حقيقة الأكل لا تتم نفياً ولا إثباتاً إلا بالنسبة إليهما ومع ذلك لو نوى بلفظه مكاناً معيناً أو زماناً معيناً فإنه لا يقبل.
قلنا لا نسلم ذلك وإن سلمنا فالفرق حاصل وذلك لأن الفعل وهو قوله أكلت غير متعد إلى الزمان والمكان بل هو من ضرورات الفعل فلم يكن اللفظ دالاً عليه بوضعه فلذلك لم يقبل تخصيص لفظه به لأن التخصيص عبارة عن حمل اللفظ على بعض مدلولاته لا على غير مدلولاته بخلاف المأكول على ما سبق.
فإن قيل: إذا قال: إن أكلت فأنت طالق فالأكل الذي هو مدلول لفظه كلي مطلق والمطلق لا إشعار له بالمخصص فلا يصح تفسيره به.
قلنا: المحلوف عليه ليس هو المفهوم من الأكل الكلي الذي لا وجود له إلا في الأذهان وإلا لما حنث بالأكل الخاص إذ هو غير المحلوف عليه وهو خلاف الإجماع فلم يبق إلا أن يكون المراد به أكلاً مقيداً من جملة الأكلات المقيدة التي يمكن وقوعها في الأعيان أياً منها كان وإذا كان لفظه لا إشعار له بغير المقيد صح تفسيره به كما إذا قال: أعتق رقبة وفسره بالرقبة المؤمنة كما سبق.
المسألة الحادية عشرة الفعل وإن انقسم إلى أقسام وجهات فالواقع منه لا يقع إلا على وجه واحد منها فلا يكون عاماً لجميعها بحيث يحمل وقوعه على جميع جهاته وذلك كما روي عنه عليه السلام أنه صلى داخل الكعبة فصلاته الواقعة يحتمل أنها كانت فرضاً ويحتمل أنها كانت نفلاً ولا يتصور وقوعها فرضاً نفلاً فيمتنع الاستدلال بذلك على جواز الفرض والنفل في داخل الكعبة جميعاً إذ لا عموم للفعل الواقع بالنسبة إليهما ولا يمكن تعيين أحد القسمين إلا بدليل.
وأما ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى بعد غيبوبة الشفق فالشفق اسم مشترك بين الحمرة والبياض فصلاته يحتمل أنها وقعت بعد الحمرة ويحتمل أنها وقعت بعد البياض فلا يمكن حمل ذلك على وقوع فعل الصلاة بعدهما على رأي من لا يرى حمل اللفظ المشترك على جميع محامله وإنما يمكن ذلك على رأي من يرى ذلك كما سبق تحقيقه فإن قول الراوي صلى بعد غيبوبة الشفق ينزل منزلة قوله: صلى بعد الشفقين.(1/208)
وفي هذا المعنى أيضاً قول الراوي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين في السفر فإنه يحتمل وقوع ذلك في وقت الأولى ويحتمل وقوعه في وقت الثانية وليس في نفس وقوع الفعل ما يدل على وقوعه فيهما بل في أحدهما والتعين متوقف على الدليل وأما وقوع ذلك منه صلى الله عليه وسلم متكرراً على وجه يعم سفر النسك وغيره فليس أيضاً في نفس وقوع الفعل ما يدل عليه بل إن كان ولا بد فاستفادة ذلك إنما هي من قول الراوي كان يجمع بين الصلاتين.
ولهذا فإنه إذا قيل: كان فلان يكرم الضيف يفهم منه التكرار دون القصور على المرة الواحدة.
وعلى هذا أيضاً يجب أن يعلم أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم واجباً كان عليه أو جائزاً له لا عموم له بالإضافة إلى غيره بل هو خاص في حقه إلا أن يدل دليل من خارج على المساواة بينه وبين غيره في ذلك الفعل كما لو صلى وقال: " صلوا كما رأيتموني أصلي " أو غير ذلك.
فإن قيل: فقد أجمعت الأمة على تعميم سجود السهو في كل سهو بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه سها في الصلاة فسجد وكذلك اتفقوا على تعميم ما نقل عن عائشة أنها قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة في حق كل أحد حتى إن الشافعي استدل بذلك على طهارة مني الآدمي واستدل به أبو حنيفة على جواز الاقتصار على الفرك في حق غير النبي مع حكمه بنجاسته.
وكذلك إجماعهم على وجوب الغسل من التقاء الختانين بقول عائشة: فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلنا وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل عن حكم أجاب بما يخصه وأحال معرفة ذلك على فعل نفسه فمن ذلك لما سألته أم سلمة عن الاغتسال قال: أما أنا فأفيض الماء على رأسي ومن ذلك أنه لما سئل عن قبلة الصائم قال أنا أفعل ذلك ولولا أن للفعل عموماً لما كان ذلك.
قلنا: أما تعميم سجود السهو فإنه إنما كان لعموم العلة وهي السهو من حيث إنه رتب السجود على السهو بفاء التعقيب وهو دليل العلة كما يأتي ذكره لا لعموم الفعل وكذلك الحكم في قوله: زنى ماعز فرجم وفي قوله: رضخ يهودي رأس جارية فرضخ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه.
وأما العمل بخبر عائشة في فرك المني ووجوب الغسل من التقاء الختانين وإفاضة الماء على الرأس وقبلة الصائم فكل ذلك مستند إلى القياس لا إلى عموم الفعل لتعذره كما سبق والله أعلم.
المسألة الثانية عشرة قول الصحابي: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر وقوله: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجار ونحوه اختلفوا في تعميمه لكل غرر وكل جار.
والذي عليه معول أكثر الأصوليين أنه لا عموم له لأنه حكاية الراوي ولعله رأى النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن فعل خاص لا عموم له فيه غرر وقضى لجار مخصوص بالشفعة فنقل صيغة العموم لظنه عموم الحكم ويحتمل أنه سمع صيغة ظنها عامة وليست عامة ويحتمل أنه سمع صيغة عامة وإذا تعارضت الاحتمالات لم يثبت العموم والاحتجاج إنما هو بالمحكي لا بنفس الحكاية.
ولقائل أن يقول: وإن كانت هذه الاحتمالات منقدحة غير أن الصحابي الراوي من أهل العدالة والمعرفة باللغة فالظاهر أنه لم ينقل صيغة العموم إلا وقد سمع صيغة لا يشك في عمومها لما هو مشتمل عليه من الداعي الديني والعقلي المانع له من إيقاع الناس في ورطة الالتباس واتباع ما لا يجوز اتباعه وبتقدير أن لا يكون قاطعاً بالعموم فلا يكون نقله للعموم إلا وقد ظهر له العموم والغالب إصابته فيما ظنه ظاهراً فكان صدقه فيما نقله غالباً على الظن ومهما ظن صدق الراوي فيما نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب اتباعه.
المسألة الثالثة عشرة مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه إذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم بحكم في واقعة خاصة وذكر علته أنه يعم من وجدت في حقه تلك العلة خلافاً للقاضي أبي بكر.
وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم في حق أعرابي محرم وقصت به ناقته " لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيباً فإنه يحشر يوم القيامة ملبياً " وكقوله صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد: " زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً " وكما لو قال الشارع: حرمت المسكر لكونه حلواً عم التحريم كل حلو.(1/209)
والحق في ذلك أنه إن ادعى عموم الحكم نظراً إلى الصيغة الواردة فهو باطل قطعاً كيف وإنه لو كان التنصيص على إثبات الحكم المعلل يقتضي بعمومه الحكم في كل محل وجدت فيه العلة لكان للوكيل إذا قال له الموكل اعتق عبدي سالماً لكونه أسود أن يعتق كل عبد أسود له كما لو قال اعتق عبيدي السودان وليس كذلك بالإجماع.
وإن قيل بالعموم نظراً إلى الاشتراك في العلة فهو الحق ولا يلزم من التعميم في الحكم بالعلة المشتركة شرعاً مثله فيما إذا قال لوكيله اعتق عبدي سالماً لكونه أسود إذ الوكيل إنما يتصرف بأمر الموكل لا بالقياس على ما أمره به وعلى هذا فالفائدة في ذكر العلة معرفة كون الحكم معللاً إلا أن يكون اللفظ الدال على الحكم عاما لغير محل التنصيص.
وما يقوله القاضي أبو بكر من أنه يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علل ذلك في حق الأعرابي بما علمه من موته مسلماً مخلصاً في عبادته محشوراً ملبياً وقصت به ناقته لا بمجرد إحرامه وفي قتلى أحد بعلو درجتهم في الجهاد وتحقق شهادتهم لا بمجرد الجهاد وفي تحريم المسكر لكونه حلواً مسكراً وذلك كله غير معلوم في حق الغير وإن كان ما ذكروه منقدحاً غير أنه على خلاف ما ظهر من تعليله عليه السلام بمجرد الإحرام والجهاد وترك ما ظهر من التعليل لمجرد الاحتمال ممتنع.
المسألة الرابعة عشرة اختلفوا في دلالة المفهوم تفريعاً على القول به: هل لها عموم أو لا؟ وكشف الغطاء عن ذلك أن نقول: المفهوم ينقسم إلى مفهوم الموافقة وهو ما كان حكم السكوت عنه موافقاً لحكم المنطوق كما يأتي تحقيقه فإن كان من قبيل مفهوم الموافقة كما في تحريم ضرب الوالدين من تنصيصه على تحريم التأفيف لهما فحكم التحريم وإن كان شاملاً للصورتين لكن مع اختلاف جهة الدلالة فثبوته في صورة النطق بالمنطوق وفي صورة السكوت بالمفهوم فلا المنطوق عام بالنسبة إلى الصورتين ولا المفهوم من غير خلاف وإنما الخلاف في عموم المفهوم بالنسبة إلى صورة السكوت ولا شك أن حاصل النزاع فيه آيل إلى اللفظ.
فإن من قال بكونه عاماً بالنسبة إليهما إنما يريد به ثبوت الحكم به في جميعها لا بالدلالة اللفظية وذلك مما لا خلاف فيه بين القائلين بالمفهوم.
ومن نفي العموم كالغزالي فلم يرد به أن الحكم لم يثبت به في جميع صور السكوت إذ هو خلاف الفرض وإنما أراد نفي ثبوته مستنداً إلى الدلالة اللفظية وذلك مما لا يخالف فيه القائل بعموم المفهوم.
وأما مفهوم المخالفة كما في نفي الزكاة عن المعلوفة من تنصيصه صلى الله عليه وسلم على وجوب الزكاة في الغنم السائمة فلا شك أيضاً بأن اللفظ فيه غير عام بمنطوقه للصورتين ولا بمفهومه وإنما النزاع في عمومه بالنسبة إلى جميع صور السكوت وحاصل النزاع أيضاً فيه آيل إلى اللفظ كما سبق في مفهوم الموافقة.
المسألة الخامسة عشرة العطف على العام هل يوجب العموم في المعطوف اختلفوا فيه فمنع أصحابنا من ذلك وأوجبه أصحاب أبي حنيفة رحمه الله.
ومثاله استدلال أصحابنا على أن المسلم لا يقتل بالذمي بقوله صلى الله عليه وسلم " لا يقتل مسلم بكافر " وهو عام بالنسبة إلى كل كافر حربياً كان أو ذمياً.
فقال أصحاب أبي حنيفة: لو كان ذلك عاماً للذمي لكان المعطوف عليه كذلك وهو قوله: ولا ذو عهد في عهده ضرورة الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم وصفته وليس كذلك فإن الكافر الذي لا يقتل به المعاهد إنما هو الكافر الحربي دون الذمي احتج أصحابنا بثلاثة أمور: الأول أن المعطوف لا يستقل بنفسه في إفادة حكمه واللفظ الدال على حكم المعطوف عليه لا دلالة له على حكم المعطوف بصريحه وإنما أضمر حكم المعطوف عليه في المعطوف ضرورة الإفادة وحذراً من التعطيل والإضمار على خلاف الأصل فيجب الاقتصار فيه على ما تندفع به الضرورة وهو التشريك في أصل الحكم دون تفصيله من صفة العموم وغيره تقليلاً لمخالفة الدليل.(1/210)
الثاني: أنه قد ورد عطف الخاص على العام في قوله تعالى: " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " " البقرة 228 " فإنه عام في الرجعية والبائن وقوله: " وبعولتهن أحق بردهن " " البقرة 228 " خاص وورد عطف الواجب على المندوب في قوله تعالى: " فكاتبوهم " " النور 33 " فإنه للندب وقوله: " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " " النور 33 " للإيجاب وورد عطف الواجب على المباح في قوله تعالى: " كلوا من ثمره إذا أثمر " " الأنعام 141 " فإنه للإباحة وقوله: " وآتوا حقه " " الأنعام 141 " للإيجاب ولو كان الأصل هو الاشتراك في أصل الحكم وتفصيله لكان العطف في جميع هذه المواضع على خلاف الأصل وهو ممتنع.
الثالث: أن الاشتراك في أصل الحكم متيقن وفي صفته محتمل فجعل العطف أصلاً في المتيقن دون المحتمل أولى.
فإن قيل ما ذكرتموه معارض بما يدل على وجوب التشريك بينهما في أصل الحكم وتفصيله وبيانه من وجهين.
الأول: أن حرف العطف يوجب جعل المعطوف والمعطوف عليه في حكم جملة واحدة فالحكم على أحدهما يكون حكماً على الأخرى.
الثاني: أن المعطوف إذا لم يكن مستقلاً بنفسه فلا بد من إضمار حكم المعطوف عليه فيه لتحقق الإفادة وعند ذلك لا يخلو إما أن يقال بإضمار كل ما ثبت للمعطوف عليه للمعطوف أو بعضه لا جائز أن يقال بالثاني لأن الإضمار إما لبعض معين أو غير معين: القول بالتعيين ممتنع إذ هو غير واقع من نفس العطف كيف وإنه ليس البعض أولى من البعض الآخر والقول بعدم التعيين موجب للإبهام والإجمال في الكلام وهو خلاف الأصل فلم يبق سوى القسم الأول وهو المطلوب.
قلنا: جواب الأول أن العطف يوجب جعل المعطوف والمعطوف عليه في حكم جملة واحدة فيما فيه العطف أو في غيره؟ الأول مسلم والثاني ممنوع فلم قلتم إن ما زاد على أصل الحكم معتبر في العطف إذ هو محل النزاع.
وجواب الثاني أن نقول بالتشريك في أصل الحكم المذكور دون صفته وهو مدلول اللفظ من غير إبهام ولا إجمال.
المسألة السادسة عشرة إذا ورد خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: " يا أيها المزمل قم الليل " " المزمل 1 " " يا أيها المدثر قم فأنذر " " المدثر 1 " " يا أيها النبي اتق الله لئن أشركت ليحبطن عملك " لا يعم الأمة ذلك الخطاب عند أصحابنا خلافاً لأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأصحابهما في قولهم إنه يكون خطاباً للأمة إلا ما دل الدليل فيه على الفرق.
ودليلنا في ذلك أن الخطاب الوارد نحو الواحد موضوع في أصل اللغة لذلك الواحد فلا يكون متناولاً لغيره بوضعه ولهذا فإن السيد إذا أمر بعض عبيده بخطاب يخصه لا يكون أمراً للباقين وكذلك في النهي والإخبار وسائر أنواع الخطاب كيف وإنه من المحتمل أن يكون الأمر للواحد المعين مصلحة له وهو مفسدة في حق غيره وذلك كما في أمر الطبيب لبعض الناس بشرب بعض الأدوية فإنه لا يكون ذلك أمراً لغيره لاحتمال التفاوت بين الناس في الأمزجة الأحوال المقتضية لذلك الأمر ولهذا خص النبي صلى الله عليه وسلم بأحكام لم يشاركه فيها أحد من أمته من الواجبات والمندوبات والمحظورات والمباحات ومع امتناع اتحاد الخطاب وجواز الاختلاف في الحكمة والمقصود يمتنع التشريك في الحكم اللهم إلا أن يقوم دليل من خارج يدل على الاشتراك في العلة الداعية إلى ذلك الحكم فالاشتراك في الحكم يكون مستنداً إلى نفس القياس لا إلى نفس الخطاب الخاص بمحل التنصيص أو دليل آخر.(1/211)
فإن قيل: نحن لا ننكر أن الخطاب الخاص بالواحد لا يكون خطاباً لغيره مطلقاً بل المدعي أن من كان مقدماً على قوم وقد عقدت له الولاية والإمارة عليهم وجعل له منصب الاقتداء به فإنه إذا قيل له: اركب لمناجزة العدو وشن الغارة عليه وعلى بلاده فإن أهل اللغة يعدون ذلك أمراً لأتباعه وأصحابه وكذلك إذا أخبر عنه بأنه قد فتح البلد الفلاني وكسر العدو فإنه يكون إخباراً عن أتباعه أيضاً والنبي صلى الله عليه وسلم ممن قد ثبت كونه قدوة للأمة ومتبعاً لهم فأمره ونهيه يكون أمراً ونهياً لأمته إلا ما دل الدليل فيه على الفرق ويدل على صحة ما ذكرناه قوله تعالى: " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن " " الطلاق 1 " ولم يقل إذا طلقت النساء فطلقهن وذلك يدل على أن خطابه خطاب لأمته وأيضاً قوله تعالى: " فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً " " الأحزاب 37 " أخبره أنه إنما أباحه ذلك ليكون ذلك مباحاً للأمة ولو كانت الإباحة خاصة به لما انتفى الحرج عن الأمة وأيضاً فإنه قد ورد الخطاب بتخصيصه عليه السلام بأحكام دون أمته كقوله تعالى: " وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي " " الأحزاب 35 " إلى قوله: " خالصة لك من دون المؤمنين " " الأحزاب 35 " وكقوله تعالى: " ومن الليل فتهجد به نافلة لك " " الإسراء 1 " ولو لم يكن الخطاب المطلق له خطاباً لأمته بل خاصاً به لما احتيج إلى بيان التخصيص به هاهنا.
وما ذكرتموه من احتمال التفاوت في المصلحة والمفسدة فغير قادح مع ظهور المشاركة في الخطاب كما تقرر ولهذا جاز تكليف الكل مع هذا الاحتمال لظهور الخطاب وجاز تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع عند ظن الاشتراك في الداعي مع احتمال التفاوت بين الأصل والفرع في المصلحة والمفسدة.
والجواب لا نسلم أن أمر المقدم يكون أمراً لاتباعه لغة ولهذا فإنه يصح أن يقال: أمر المقدم ولم يأمر الأتباع وأنه لو حلف أنه لم يأمر الأتباع لم يحنث بالإجماع ولو كان أمره للمقدم أمراً لاتباعه لحنث نعم غايته أنه يفهم عند أمر المقدم بالركوب وشن الغار لزوم توقف مقصود الأمر على اتباع أصحابه له فكان ذلك من باب الاستلزام لا من باب دلالة اللفظ مطابقة ولا ضمناً ولا يلزم مثله في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من العبادات أو بتحريم شيء من الأفعال أو إباحتها من حيث إنه لا يتوقف المقصود من ذلك على مشاركة الأمة له في ذلك.
وقوله تعالى: " إذا طلقتم النساء " " الطلاق 1 " فخطاب عام مع الكل على وجه يدخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأمة وتخصيص النبي في أول الآية بالنداء جرى مجرى التشريف والتكريم له كيف وإن في الآية ما يدل على أن خطاب النبي لا يكون خطاباً للأمة فإنه لو كان كذلك لما احتيج إلى قوله: " طلقتم النساء فطلقوهن " لأن قوله: " إذا طلقت النساء فطلقهن " كاف في خطاب الأمة مع اتساقه مع أول الآية.
وقوله تعالى: " فلما قضى زيد منها وطراً " " الأحزاب 37 " لا حجة فيه على المقصود وقوله: " لكي لا يكون على المؤمنين حرج " ليس فيه ما يدل على أن نفي الحرج عن المؤمنين في أزواج أدعيائهم مدلول لقوله: " زوجناكها " بل غايته أن رفع الحرج عن النبي صلى الله عليه وسلم كان لمقصود رفع الحرج عن المؤمنين وذلك حاصل بقياسهم عليه بواسطة دفع الحاجة وحصول المصلحة وعموم الخطاب غير متعين لذلك.
وما ذكروه من الآيات الدالة على خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكروه لا يدل على أن مطلق الخطاب له عام لأمته بل إنما كان ذلك لقطع إلحاق غيره به في تلك الأحكام بطريق القياس ولو لم يرد التخصيص لأمكن الإلحاق بطريق القياس.
المسألة السابعة عشرة اختلفوا في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لأحد من أمته: هل هو خطاب للباقين أم لا؟ فنفاه أصحابنا وأثبته الحنابلة وجماعة من الناس ودليلنا ما سبق في المسألة التي قبلها.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بالنص والإجماع والمعنى أما النص فقوله تعالى: " وما أرسلناك إلا كافة للناس " " سبأ 28 " وقوله صلى الله عليه وسلم: " بعثت إلى الناس كافة وبعثت إلى الأحمر والأسود " وقوله: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " .(1/212)
وأما الإجماع فاتفاق الصحابة على رجوعهم في أحكام الحوادث إلى ما حكم به النبي عليه السلام على آحاد الأمة فمن ذلك رجوعهم في حد الزنا إلى ما حكم به على ماعز ورجوعهم في المفوضة إلى قصة بروع بنت واشق ورجوعهم في ضرب الجزية على المجوس إلى ضربه عليه السلام الجزية على مجوس هجر ولولا أن حكمه على الواحد حكم على الجماعة لما كان كذلك.
وأما المعنى فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم خصص بعض الصحابة بأحكام دون غيره فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة في التضحية بعناق " تجزئك ولا تجزئ أحداً بعدك " وقوله لأبي بكرة لما دخل الصف راكعاً زادك الله حرصاً ولا تعد " وقوله لأعرابي زوجه بما معه من القرآن هذا لك وليس لأحد بعدك وتخصيصه لخزيمة بقبول شهادته وحده وتخصيصه لعبد الرحمن بن عوف بلبس الحرير ولولا أن الحكم بإطلاقه على الواحد حكم على الأمة لما احتاج إلى التنصيص بالتخصيص.
والجواب عن الآية وعن قوله " بعثت إلى الناس كافة وإلى الأحمر والأسود " أنه وإن كان مبعوثاً إلى الناس كافة فبمعنى أنه يعرف كل واحد ما يختص به من الأحكام كأحكام المريض والصحيح والمقيم والمسافر والحر والعبد والحائض والطاهر وغير ذلك ولا يلزم من ذلك اشتراك الكل فيما أثبت للبعض منهم.
وعن قوله: " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " أنه يجب تأويله على أن المراد به أنه حكم على الجماعة من جهة المعنى والقياس لا من جهة اللفظ لثلاثة أوجه.
الأول: أن الحكم هو الخطاب وقد بينا في المسألة المتقدمة أن خطاب الواحد ليس هو بعينه خطاباً للباقين.
الثاني: أنه لو كان بعينه خطاباً للباقين لزم منه التخصيص بإخراج من لم يكن موافقاً لذلك الواحد في السبب الموجب للحكم عليه.
الثالث: أنه لو كان خطابه المطلق للواحد خطاباً للجماعة لما احتاج إلى قوله: " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " أو كانت فائدته التأكيد والأصل في الدلالات اللفظية إنما هو التأسيس ثم وإن كان حكمه على الواحد حكماً على الجماعة فلا يلزم اطراده في حكمه للواحد أن يكون حكماً للجماعة فإنه فرق بين حكمه للواحد وحكمه عليه والخلاف واقع في الكل.
وأما ما ذكروه من رجوع الصحابة في أحكام الوقائع إلى حكمه على الآحاد فلا يخلو إما أن يقال بذلك مع معرفتهم بالتساوي في السبب الموجب أو لا مع معرفتهم بذلك الثاني خلاف الإجماع وإن كان الأول فمستند التشريك في الحكم إنما كان الاشتراك في السبب لا في الخطاب وأما المعنى فقد سبق الجواب عنه في المسألة المتقدمة.
المسألة الثامنة عشرة اتفق العلماء على أن كل واحد من المذكر والمؤنث لا يدخل في الجمع الخاص بالآخر كالرجال والنساء وعلى دخولهما في الجمع الذي لم تظهر فيه علامة تذكير ولا تأنيث كالناس وإنما وقع الخلاف بينهم في الجمع الذي ظهرت فيه علامة التذكير كالمسلمين والمؤمنين هل هو ظاهر في دخول الإناث فيه أو لا؟ فذهبت الشافعية والأشاعرة والجمع الكثير من الحنفية والمعتزلة إلى نفيه وذهبت الحنابلة وابن داود وشذوذ من الناس إلى إثباته احتج النافون بالكتاب والسنة والمعقول: أما الكتاب فقوله تعالى: " إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات " " الأحزاب 35 " عطف جمع التأنيث على جمع المسلمين والمؤمنين ولو كان داخلاً فيه لما حسن عطفه عليه لعدم فائدته.
وأما السنة فما روي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله إن النساء قلن: ما نرى الله ذكر إلا الرجال فأنزل الله: " إن المسلمين والمسلمات " الآية ولو كن قد دخلن في جمع التذكير لكن مذكورات وامتنعت صحة السؤال والتقرير عليه وأيضاً ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " " ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضؤون " فقالت عائشة: هذا للرجال فما للنساء؟ ولولا خروجهن من جمع الذكور لما صح السؤال ولا التقرير من النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما المعقول فهو أن الجمع تضعيف الواحد فقولنا: قام لا يتناول المؤنث بالإجماع فالجمع الذي هو تضعيفه كقولنا: قاموا لا يكون متناولاً له.
فإن قيل: أما الآية فالعطف فيها لا يدل على عدم دخول الإناث في جمع التذكير قولكم: لا فائدة فيه ليس كذلك إذ المقصود منه إنما هو الإتيان بلفظ يخصهن تأكيداً فلا يكون عرياً عن الفائدة.(1/213)
وأما سؤال أم سلمة وعائشة فلم يكن لعدم دخول النساء في جمع الذكور بل لعدم تخصيصهن بلفظ صريح فيهن كما ورد في المذكر.
وأما قولكم إن الجمع تضعيف الواحد فمسلم ولكن لم قلتم بامتناع دخول المؤنث فيه مع أنه محل النزاع والذي يدل على دخول المؤنث في جمع التذكير ثلاثة أمور: الأول: أن المألوف من عادة العرب أنه إذا اجتمع التذكير والتأنيث غلبوا جانب التذكير ولهذا فإنه يقال للنساء إذا تمحضن: أدخلن وإن كان معهن رجل قيل: ادخلوا قال الله تعالى لآدم وحواء وإبليس: " قلنا اهبطوا منها جميعاً " " البقرة 38 " كما ألف منهم تغليب جمع من يعقل إذا كان معه من لا يعقل ومنه قوله تعالى: " والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه " " النور 45 " بل أبلغ من ذلك أنهم إذا وصفوا ما لا يعقل بصفة من يعقل غلبوا فيه من يعقل ومنه قوله تعالى: " أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين " " يوسف 4 " جمعهم جمع من يعقل لوصفهم بالسجود الذي هو صفة من يعقل وكتغليبهم الكثرة على القلة حتى إنهم يصفون بالكرم والبخل جمعاً أكثرهم متصف بالكرم أو البخل وكتغليبهم في التثنية أحد الاسمين على الآخر كقولهم: الأسودان للتمر والماء والعمران لأبي بكر وعمر والقمران للشمس والقمر.
الثاني: أنه يستهجن من العربي أن يقول لأهل حلة أو قرية أنتم آمنون ونساؤكم آمنات لحصول الأمن للنساء بقوله أنتم آمنون ولولا دخولهن في قوله أنتم آمنون لما كان كذلك وكذلك لا يحسن منه أن يقول لجماعة فيهم رجال ونساء قوموا وقمن بل لو قال قوموا كان ذلك كافياً في الأمر للنساء بالقيام ولولا دخولهن في جمع التذكير لما كان كذلك.
الثالث: أن أكثر أوامر الشرع بخطاب المذكر مع انعقاد الإجماع على أن النساء يشاركن الرجال في أحكام تلك الأوامر ولو لم يدخلن في ذلك الخطاب لما كان كذلك.
والجواب: قولهم في الآية فائدة التخصيص بلفظ يخصهن التأكيد قلنا: لو اعتقدنا عدم دخولهن في جمع التذكير كانت فائدة تخصيصهن بالذكر التأسيس ولا يخفى أن فائدة التأسيس أولى في كلام الشارع.
قولهم: سؤال أم سلمة وعائشة إنما كان لعدم تخصيص النساء بلفظ يخصهن لا لعدم دخول النساء في جمع التذكير ليس كذلك أما سؤال أم سلمة فهو صريح في عدم الذكر مطلقاً لا في عدم ذكر ما يخصهن بحيث قالت: ما نرى الله ذكر إلا الرجال ولو ذكر النساء ولو بطريق الضمن لما صح هذا الإخبار على إطلاقه وأما حديث عائشة فلأنها قالت هذا للرجال ولو كان الحكم عاماً لما صح منها تخصيص ذلك بالرجال.
قولهم: المألوف من عادة العرب تغليب جانب التذكير مسلم ونحن لا ننازع في أن العربي إذا أراد أن يعبر عن جمع فيهم ذكور وإناث أنه يغلب جانب التذكير ويعبر بلفظ التذكير ويكون ذلك من باب التجوز وإنما النزاع في أن جمع التذكير إذا أطلق هل يكون ظاهراً في دخول المؤنث ومستلزماً له أو لا؟ وليس فيما قيل ما يدل على ذلك وهذا كما أنه يصح التجوز بلفظ الأسد عن الإنسان ولا يلزم أن يكون ظاهرا فيه مهما أطلق.
فإن قيل: إذا صح دخول المؤنث في جمع المذكر فالأصل أن يكون مشعراً به حقيقة لا تجوزاً.
قلنا: ولو كان جمع التذكير حقيقة للذكور والإناث مع انعقاد الإجماع على أنه حقيقة في تمحض الذكور كان اللفظ مشتركاً وهو خلاف الأصل.
فإن قيل: ولو كان مجازاً لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد لدخول المسمى الحقيقي فيه وهم الذكور وهو ممتنع.
قلنا: ليس كذلك فإنه لا يكون حقيقة في الذكور إلا مع الاقتصار وأما إذا كان جزءاً من المذكور لا مع الاقتصار فلا كيف وإنا لا نسلم امتناع الجمع بين الحقيقة والمجاز كما سبق تقريره.
وأما الوجه الثاني: فإنما استهجن من العربي أن يقول: أنتم آمنون ونساؤكم آمنات لأن تأمين الرجال يستلزم الأمن من جميع المخاوف المتعلقة بأنفسهم وأموالهم ونسائهم فلو لم تكن النساء آمنات لما حصل أمن الرجال مطلقاً وهو تناقض أما أن ذلك يدل على ظهور دخول النساء في الخطاب فلا وبه يظهر لزوم أمن النساء من الاقتصار على قوله للرجال: أنتم آمنون.(1/214)
وأما الوجه الثالث: فغير لازم وذلك أن النساء وإن شاركن الرجال في كثير من أحكام التذكير فيفارقن للرجال في كثير من الأحكام الثابتة بخطاب التذكير كأحكام الجهاد في قوله تعالى: " وجاهدوا في الله حق جهاده " " الحج 78 " وأحكام الجمعة في قوله تعالى: " إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع " " الجمعة 9 " إلى غير ذلك من الأحكام ولو كان جمع التذكير مقتضياً لدخول الإناث فيه لكان خروجهن عن هذه الأوامر على خلاف الدليل وهو ممتنع فحيث وقع الاشتراك تارة والافتراق تارة علم أن ذلك إنما هو مستند إلى دليل خارج لا إلى نفس اقتضاء اللفظ لذلك.
المسألة التاسعة عشرة إذا ورد لفظ عام لم تظهر فيه علامة تذكير ولا تأنيث سوى لفظ الجمع مثل من في الشرط والجزاء هل يعم المذكر والمؤنث؟ اختلفوا فيه فأثبته الأكثرون ونفاه الأقلون.
والمختار تفريعاً على القول بالعموم دخول المؤنث فيه ودليله أنه لو قال القائل لعبده من دخل داري فأكرمه فإن العبد يلام بإخراج الداخل من المؤنثات عن الإكرام ويلام السيد بلوم العبد بإكرامهن وكذلك الحكم في النذر والوصية والأصل في كل ما فهم من اللفظ أن يكون حقيقة فيه لا مجازاً.
فإن قيل: التعميم فيما ذكرتموه إنما فهم من قرينة الحال وهي ما جرت به العادة من مقابلة الداخل إلى دار الإنسان والحلول في منزله بالإكرام فكان ذلك من باب المجاز لا أنه من مقتضيات اللفظ حقيقة.
قلنا: هذا باطل بما لو قال: من دخل داري فأهنه فإنه يفهم منه العموم وإن كان على خلاف القرينة المذكورة وكذا لو قال له: من قال لك ألف فقل له ب فإنه لا قرينة أصلاً والعموم مفهوم منه فدل على كونه حقيقة فيه.
المسألة العشرون اختلفوا في دخول العبد تحت خطاب التكاليف بالألفاظ العامة المطلقة كلفظ الناس والمؤمنين فأثبته الأكثرون ونفاه الأقلون إلا بقرينة ودليل يخصه ومنهم من قال بدخوله في العمومات المثبتة لحقوق الله دون حقوق الآدميين وهو منسوب إلى أبي بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة.
والمختار إنما هو الدخول وذلك لأن الخطاب إذا كان بلفظ الناس أو المؤمنين فهو خطاب لكل من هو من الناس والمؤمنين والعبد من الناس والمؤمنين حقيقة فكان داخلاً في عمومات الخطاب بوضعه لغة إلا أن يدل دليل على إخراجه منه.
فإن قيل: العبد من حيث هو عبد مال لسيده ولذلك يتمكن من التصرف فيه حسب تصرفه في سائر الأموال وإذا كان مالاً كان بمنزلة البهائم فلا يكون داخلاً تحت عموم خطاب الشارع سلمنا أنه ليس كالبهائم إلا أن أفعاله التي يتعلق بها التكليف ويحصل بها الامتثال مملوكة لسيده ويجب صرفها إلى منافعه بخطاب الشرع فلا يكون الخطاب متعلقاً بصرفها إلى غير منافع السيد لما فيه من التناقض سلمنا عدم التناقض غير أن الإجماع منعقد على إخراج العبد عن مطلق الخطاب العام بالجهاد والحج والعمرة والجمعة والعمومات الواردة بصحة التبرع والإقرار بالحقوق البدنية والمالية ولو كان داخلاً تحت عموم الخطاب بمطلقه لكان خروجه عنها في هذه الصور على خلاف الدليل سلمنا إمكان دخوله تحت مطلق الخطاب لغة إلا أن الرق مقتض لإخراجه عن عمومات الخطاب بطريق التخصيص وبيانه أنه صالح لذلك من حيث إنه مكلف بشغل جميع أوقاته بخدمة سيده بخطاب الشرع وحق السيد مقدم على حق الله تعالى لوجهين: الأول: أن السيد متمكن من منع العبد من التطوع بالنوافل مع أنها حق لله تعالى ولولا أن حق السيد مرجح لما كان كذلك.
الثاني: أن حق الله تعالى مبني على المسامحة والمساهلة لأنه لا يتضرر بفوات حقوقه ولا ينتفع بحصولها وحق الآدمي مبني على الشح والمضايقة لأنه ينتفع بحصوله ويتضرر بفواته.
والجواب عن السؤال الأول: أن كون العبد مالاً مملوكاً لا يخرجه عن جنس المكلفين إلى جنس البهائم وإلا لما توجه نحو التكليف بالخطاب الخاص بالصلاة والصوم ونحوه وهو خلاف الإجماع.
وعن السؤال الثاني: لا نسلم أن السيد مالك لصرف منافع العبد إليه في جميع الأوقات حتى في وقت تضايق وقت العبادة المأمور بها بل في غيره وعلى هذا فلا تناقض.(1/215)
وعن الثالث: أن ذلك لا يدل على إخراج العبد عن كون العمومات متناولة له لغة لما بيناه بل غايته أنه خص بدليل والتخصيص غير مانع من العموم لغة ولا يخفى أن القول بالتخصيص أولى من القول برفع العموم لغة مع تحققه وصار كما في تخصيص المريض والحائض والمسافر عن العمومات الواردة بالصوم والصلاة والجمعة والجهاد.
وعن الرابع: بمنع تعلق حق السيد بمنافعه المصروفة إلى العبادات المأمور بها عند ضيق أوقاتها كما سبق والرق وإن اقتضى ذلك لمناسبته واعتباره فلا يقع في مقابلة الدلالة النصية على العبادة في ذلك الوقت لقوة دلالة النصوص على دلالة ما الحجة به مستندة إليها والنصوص وإن كانت متناولة للعبد بعمومها إلا أنها متناولة للعبادة في وقتها المعين بخصوصها والرق وإن كان مقتضياً لحق السيد بخصوصه إلا أن اقتضاءه لذلك الحق في وقت العبادة بعمومه فيتقابلان ويسلم الترجيح بالتنصيص كما سبق.
قولهم: حق الآدمي مرجح على حق الله تعالى لا نسلم ذلك مطلقاً ولهذا فإن حق الله تعالى مرجح على حق السيد فيما وجب على العبد بالخطاب الخاص به إجماعاً وبه يندفع ما ذكروه من الترجيح الأول.
قولهم في الترجيح الثاني إن السيد يتمكن من منع العبد من التنفل قلنا وإن أوجب ذلك ترجح جانب حق السيد على حقوق الله تعالى في النوافل فغير موجب لترجحه عليه في الفرائض.
المسألة الحادية والعشرون ورود الخطاب على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: " يا أيها الذين آمنوا يا أيها الناس يا عبادي " " يدخل الرسول في عمومه عندنا وعند أكثر العلماء خلافاً لطائفة من الفقهاء والمتكلمين ومنهم من قال: كل خطاب ورد مطلقاً ولم يكن الرسول مأموراً في أوله بأمر الأمة به كهذه الآيات فهو داخل فيه وإليه ذهب أبو بكر الصيرفي والحليمي من أصحاب الشافعي حجة من قال: يدخل في العموم وهو المختار حجتان.
الأولى: أن هذه الصيغ عامة لكل إنسان وكل مؤمن وكل عبد والنبي صلى الله عليه وسلم سيد الناس والمؤمنين والعبادة والنبوة غير مخرجة له عن إطلاق هذه الأسماء عليه فلا تكون مخرجة له عن هذه العمومات.
الحجة الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر الصحابة بأمر وتخلف عنه ولم يفعله فإنهم كانوا يسألونه ما بالك لم تفعله؟ ولو لم يعقلوا دخوله فيما أمرهم به لما سألوه عن ذلك وذلك كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة ولم يفسخ فقالوا له: أمرتنا بالفسخ ولم تفسخ ولم ينكر عليهم ما فهموه من دخوله في ذلك الأمر بل عدل إلى الاعتذار وهو قوله: إني قلدت هديا وروي عنه أنه قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة.
فإن قيل: يمنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم داخلاً تحت عموم هذه الأوامر ثلاثة أوجه: الأول: أنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم آمراً لأمته بهذه الأوامر فلو كان مأموراً بها لزم من ذلك أن يكون بخطاب واحد آمراً ومأموراً وهو ممتنع ولأنه يلزم أن يكون آمراً لنفسه وأمر الإنسان لنفسه ممتنع لوجهين: الأول: أن الأمر طلب الأعلى من الأدنى والواحد لا يكون أعلى من نفسه وأدنى منها.
الثاني: أنه وقع الاتفاق على أن أمر الإنسان لنفسه على الخصوص ممتنع فكذلك أمره لنفسه على العموم.
الثاني: من الوجوه الثلاثة أنه يلزم من ذلك أن يكون بخطاب واحد مبلغاً ومبلغاً إليه وهو محال.
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اختص بأحكام لم تشاركه فيها الأمة كوجوب ركعتي الفجر والضحى والأضحى وتحريم الزكاة عليه وأبيح له النكاح بغير ولي ولا مهر ولا شهود والصفي من المغنم ونحوه من الخصائص وذلك يدل على مزيته وانفراده عن الأمة في الأحكام التكليفية فلا يكون داخلاً تحت الخطاب المتناول لهم.
قلنا: جواب الأول أن ما ذكروه مبني على كون الرسول آمراً وليس كذلك بل هو مبلغ لأمر الله وفرق بين الآمر والمبلغ للأمر ولهذا أعاد صيغ الأوامر له بالتبليغ كقوله: " قل أوحي إلي " " الجن 1 " " واتل ما أوحي إليك " " الكهف 27 " ونحوه.
وجواب الثاني: أنه مبلغ للأمة بما ورد على لسانه وليس مبلغاً لنفسه بذلك الخطاب بل بما سمعه من جبريل عليه السلام.
وجواب الثالث: أن اختصاصه ببعض الأحكام غير موجب لخروجه عن عمومات الخطاب(1/216)
ولهذا فإن الحائض والمريض والمسافر والمرأة كل واحد قد اختص بأحكام لا يشاركه غيره فيها ولم يخرج بذلك عن الدخول في عمومات الخطاب والله أعلم بالصواب.
المسألة الثانية والعشرون الخطاب الوارد شفاهاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والأوامر العامة كقوله تعالى: " يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا " ونحوه هل يخص الموجودين في زمنه أو هو عام لهم ولمن بعدهم؟ اختلفوا فيه: فذهب أكثر أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة والمعتزلة إلى اختصاصه بالموجودين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يثبت حكمه في حق من بعدهم إلا بدليل آخر وذهبت الحنابلة وطائفة من السالفين والفقهاء إلى تناول ذلك لمن وجد بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم حجة النافين من وجهين: الأول: أن المخاطبة شفاها بقوله تعالى: " يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا " تستدعي كون المخاطب موجوداً أهلاً للخطاب إنساناً مؤمناً ومن لم يكن موجوداً في وقت الخطاب لم يكن متصفاً بشيء من هذه الصفات فلا يكون الخطاب متناولاً له.
الثاني: أن خطاب المجنون والصبي الذي لا يميز ممتنع حتى إن من شافهه بالخطاب استهجن كلامه وسفه في رأيه مع أن حالهما لوجودهما واتصافهما بصفة الإنسانية وأصل الفهم وقبولهما للتأديب بالضرب وغيره أقرب إلى الخطاب لهما ممن لا وجود له احتج الخصوم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة والمعقول.
أما الكتاب فقوله تعالى: " وما أرسلناك إلا كافة للناس " " سبأ 28 " وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: " بعثت إلى الأحمر والأسود " ولو لم يكن خطابه متناولاً لمن بعده لم يكن رسولاً إليه ولا مبلغاً إليه شرع الله تعالى وهو خلاف الإجماع وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " ولفظ الجماعة يستغرق كل من بعده فلو لم يكن حكمه على من في زمانه حكماً على غيرهم كان على خلاف الظاهر.
وأما الإجماع فهو أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين وإلى زماننا هذا ما زالوا يحتجون في المسائل الشرعية على من وجد بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات والأخبار الواردة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ولولا عموم تلك الدلائل اللفظية لمن وجد بعد ذلك لما كان التمسك بها صحيحاً وكان الاسترواح إليها خطأ وهو بعيد عن أهل الإجماع.
وأما المعقول فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد التخصيص ببعض الأمة نص عليه كما ذكرناه في مسألة خطاب النبي صلى الله عليه وسلم للواحد هل هو خطاب للباقين؟ ولولا أن الخطاب المطلق العام يكون خطاباً للكل لما احتاج إلى التخصيص.
والجواب على النصوص الدالة على كون النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم مبعوثاً إلى الناس كافة أنها إنما تلزم أن لو توقف مفهوم الرسالة والبعثة إلى كل الناس على المخاطبة للكل بالأحكام الشرعية شفاهاً وليس كذلك بل ذلك يتحقق بتعريف البعض بالمشافهة وتعريف البعض بنصب الدلائل والأمارات وقياس بعض الوقائع على بعض ويدل على ذلك أن أكثر الأحكام الشرعية لم يثبت بالخطاب شفاهاً لقلة النصوص وندرتها وكثرة الوقائع وما لزم من ذلك أن لا يكون النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً ولا مبلغاً بالنسبة إلى الأحكام التي لم تثبت بالخطاب شفاهاً.
فإن قيل: والدلائل التي يمكن الاحتجاج بها في الأحكام الشرعية على من وجد بعد النبي صلى الله عليه وسلم غير الخطاب فيما ذكرتموه إنما يعلم كونها حجة بالدلائل الخطابية فإذا كان الخطاب الموجود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتناول من بعده فقد تعذر الاحتجاج به عليه.
قلنا: أمكن معرفة كونها حجة بالنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حكم بكونها حجة على من بعده أو بالإجماع المنقول عن الصحابة على ذلك.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " فالكلام في اختصاصه بالموجودين في زمنه كالكلام في الأول.
وأما انعقاد الإجماع على صحة الاستدلال بالآيات والأخبار الواردة على لسانه صلى الله عليه وسلم على من وجد بعده وهو أشبه حجج الخصوم فجوابه أنا بينا امتناع المخاطبة لمن ليس بموجود بما لا مراء فيه وعند ذلك فيجب اعتقاد استناد أهل الإجماع إلى النصوص من جهة معقولها لا من جهة ألفاظها جمعاً بين الأدلة.(1/217)
وأما ما ذكروه من المعنى فقد سبق جوابه في مسألة خطاب النبي للواحد من الأمة.
المسألة الثالثة والعشرون اختلفوا في المخاطب: هل يمكن دخوله في عموم خطابه لغة أو لا؟ والمختار دخوله وعليه اعتماد الأكثرين وسواء كان خطابه العام أمراً أو نهياً أو خبراً.
أما الخبر فكما في قوله تعالى: " وهو بكل شيء عليم " " الحديد 3 " فإن اللفظ بعمومه يقتضي كون كل شيء معلوماً لله تعالى وذاته وصفاته أشياء فكانت داخلة تحت عموم الخطاب.
والأمر فكما لو قال السيد لعبده من أحسن إليك فأكرمه فإن خطابه لغة يقتضي إكرام كل من أحسن إلى العبد فإذا أحسن السيد إليه صدق عليه أنه من جملة المحسنين إلى العبد فكان إكرامه على العبد لازماً بمقتضى عموم خطاب السيد.
وكذلك في النهي كما إذا قال له: من أحسن إليك فلا تسيء إليه وهذا في الوضوح غير محتاج إلى الإطناب فيه.
فإن قيل: ما ذكرتموه يمتنع العمل به للنص والمعنى: أما النص فقوله تعالى: " الله خالق كل شيء " " الزمر 62 " وذاته وصفاته أشياء وهو غير خالق لها ولو كان داخلاً في عموم خبره لكان خالقاً لها وهو محال.
وأما المعنى فإن السيد إذا قال لعبده: من دخل داري فتصدق عليه بدرهم ولو دخل السيد فإنه يصدق عليه أنه من الداخلين إلى الدار ومع ذلك لا يحسن أن يتصدق عليه العبد بدرهم ولو كان داخلاً تحت عموم أمره لكان ذلك حسناً.
قلنا: أما الآية فإنها بالنظر إلى عموم اللفظ تقتضي كون الرب تعالى خالقاً لذاته وصفاته غير أنه لما كان ممتنعاً في نفس الأمر عقلاً كان مخصصاً لعموم الآية ولا منافاة بين دخوله في العموم بمقتضى اللفظ وخروجه عنه بالتخصيص وكذلك الحكم فيما ذكروه من المثال فإنه بعمومه مقتض للتصدق على السيد عند دخوله غير أنه بالنظر إلى القرينة الحالية والدليل المخصص امتنع ثبوت حكم العموم في حقه ولا منافاة كما سبق.
المسألة الرابعة والعشرون اختلف العلماء في قوله تعالى: " خذ من أموالهم صدقة " " التوبة 103 " هل يقتضي أخذ الصدقة من كل نوع من أنواع مال كل مالك أو أخذ صدقة واحدة من نوع واحد؟ والأول مذهب الأكثرين والثاني مذهب الكرخي.
احتج القائلون بتعميم كل نوع بأنه تعالى أضاف الصدقة إلى جميع الأموال بقوله: " من أموالهم " والجمع المضاف من ألفاظ العموم على ما عرف من مذهب أربابه فنزل ذلك منزلة قوله: خذ من كل نوع من أموالهم صدقة فكانت الصدقة متعددة بتعدد أنواع الأموال.
وللنافي أن يقول المأمور به صدقة منكرة مضافة إلى جملة الأموال فمهما أخذ من نوع واحد منها من المالك صدقة صدق قول القائل أخذ من أمواله صدقة لأن المال الواحد جزء من جملة الأموال فإذا أخذت الصدقة من جزء المال صدق أخذها من المال.
ولهذا وقع الإجماع على أن كل درهم ودينار من دراهم المالك ودنانيره موصوف بأنه من ماله ومع ذلك فإنه لا يجب أخذ الصدقة من خصوص كل دينار ودرهم له والأصل أن يكون ذلك لعدم دلالة اللفظ عليه لا للمعارض وبالجملة فالمسألة محتملة ومأخذ الكرخي دقيق.
المسألة الخامسة والعشرون اللفظ العام إذا قصد به المخاطب الذم أو المدح كقوله تعالى: " إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم " " الانفطار 14 " وكقوله: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم " " التوبة 34 " .
نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه منع من عمومه حتى أنه منع من التمسك به في وجوب زكاة الحلي مصيراً منه إلى أن العموم لم يقع مقصوداً في الكلام وإنما سيق لقصد الذم والمدح مبالغة في الحث على الفعل أو الزجر عنه.
وخالفه الأكثرون وهو الحق من حيث إن قصد الذم أو المدح وإن كان مطلوباً للمتكلم فلا يمنع ذلك من قصد العموم معه إذ لا منافاة بين الأمرين وقد أتى بالصيغة الدالة على العموم فكان الجمع بين المقصودين أولى ومن العمل بأحدهما وتعطيل الآخر والله أعلم.
الصنف الرابع في تخصيص العموم ويشتمل على مقدمة ومسألتين أما المقدمة ففي بيان معنى التخصيص وما يجوز تخصيصه وما لا يجوز أما التخصيص فقد قال أبو الحسين البصري: هو إخراج بعض ما تناوله الخطاب عنه وذلك مما لا يمكن حمله على ظاهره على كل مذهب.
أما على مذهب أرباب الخصوص فلأن الخطاب عندهم منزل على أقل ما يحتمله اللفظ فلا يتصور إخراج شيء منه.(1/218)
وأما على مذهب أرباب الاشتراك فمن جهة أن العمل باللفظ المشترك في بعض محامله لا يكون إخراجاً لبعض ما تناوله الخطاب عنه بل غايته استعمال اللفظ في بعض محامله دون البعض.
وأما على مذهب أرباب الوقف فظاهر إذ اللفظ عندهم موقوف لا يعلم كونه للخصوص أو للعموم وهو صالح لاستعماله في كل واحد منهما فإن قام الدليل على أنه أريد به العموم وجب حمله عليه وامتنع إخراج شيء منه وإن قام الدليل على أنه للخصوص لم يكن اللفظ إذ ذاك دليلاً على العموم ولا متناولاً له فلا يتحقق بالحمل على الخاص إخراج بعض ما تناوله اللفظ على بعض محامله الصالح لها.
وأما على مذهب أرباب العموم فغايته أن اللفظ عندهم حقيقة في الاستغراق ومجاز في الخصوص وعلى هذا فإن لم يقم الدليل على مخالفة الحقيقة وجب إجراء اللفظ على جميع محامله من غير إخراج شي منها وإن قام الدليل على مخالفة الحقيقة وامتناع العمل باللفظ في الاستغراق وجب صرفه إلى محمله المجازي وهو الخصوص وعند حمل اللفظ على المجاز لا يكون اللفظ متناولاً للحقيقة وهي الاستغراق فلا تحقق لإخراج بعض ما تناوله الخطاب عنه إذ هو حالة كونه مستعملاً في المجاز لا يكون مستعملاً في الحقيقة وعلى هذا فإطلاق القول بتخصيص العام أو أن هذا عام مخصص لا يكون حقيقة.
وإذا عرف ذلك فالتخصيص على ما يناسب مذهب أرباب العموم هو تعريف أن المراد باللفظ الموضوع للعموم حقيقة إنما هو الخصوص وعلى ما يناسب مذهب أرباب الاشتراك تعريف أن المراد باللفظ الصالح للعموم والخصوص إنما هو الخصوص والمعرف لذلك بأي طريق كان يسمى مخصصاً واللفظ المصروف عن جهة العموم إلى الخصوص مخصصاً.
وإذا عرف معنى تخصيص العموم فاعلم أن كل خطاب لا يتصور فيه معنى الشمول كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة " تجزئك ولا تجزيء أحداً بعدك " فلا يتصور تخصيصه لأن التخصيص على ما عرف صرف اللفظ عن جهة العموم إلى جهة الخصوص وما لا عموم له لا يتصور فيه هذا الصرف وأما ما يتصور فيه الشمول والعموم فيتصور فيه التخصيص وسواء كان خطاباً أو لم يكن خطاباً كالعلة الشاملة لإمكان صرفه عن جهة عمومه إلى خصوصه هذا إتمام المقدمة.
وأما المسائل فمسألتان: المسألة الأولى اتفق القائلون بالعموم على جواز تخصيصه على أي حال كان من الأخبار والأمر وغيره خلافاً لشذوذ لا يؤبه لهم في تخصيصه الخبر ويدل على جواز ذلك الشرع والمعقول: أما الشرع فوقوع ذلك في كتاب الله تعالى كقوله تعالى: " الله خالق كل شيء وهو على كل شيء قدير " " الزمر 62 " وليس خالقاً لذاته ولا قادراً عليها وهي شيء وقوله تعالى: " ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم " " الذاريات 42 " وقد أتت على الأرض والجبال ولم تجعلها رميماً وقوله تعالى: " تدمر كل شيء " " الأحقاف 25 " " وأوتيت من كل شيء " " النحل 23 " إلى غير ذلك من الآيات الخبرية المخصصة حتى إنه قد قيل لم يرد عام إلا وهو مخصص إلا في قوله تعالى: " وهو بكل شيء عليم " " الحديد 3 " ولو لم يكن ذلك جائزاً لما وقع في الكتاب.
وأما المعقول فهو أنه لا معنى لتخصص العموم سوى صرف اللفظ عن جهة العموم الذي هو حقيقة فيه إلى جهة الخصوص بطريق المجاز كما سبق تقريره والتجوز غير ممتنع في ذاته ولهذا لو قدرنا وقوعه لم يلزم المحال عنه لذاته ولا بالنظر إلى وضع اللغة ولهذا يصح من اللغوي أن يقول: جاءني كل أهل البلد وإن تخلف عنه بعضهم ولا بالنظر إلى الداعي إلى ذلك.
والأصل عدم كل مانع سوى ذلك ويدل على جواز تخصيص الأوامر العامة وإن لم نعرف فيها خلافاً قوله تعالى: " فاقتلوا المشركين " مع خروج أهل الذمة عنه وقوله تعالى: " السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " " المائدة 38 " " والزانية والزاني فاجدلوا كل واحد منهما مائة جلدة " " النور 2 " مع أنه ليس كل سارق يقطع ولا كل زان يجلد وقوله تعالى: " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " " النساء 11 " مع خروج الكافر والرقيق والقاتل عنه.
فإن قيل: القول بجواز تخصيص الخبر مما يوجب الكذب في الخبر لما فيه من مخالفة المخبر للخبر وهو غير جائز على الشارع كما في نسخ الخبر.(1/219)
قلنا: لا نسلم لزوم الكذب ولا وهم الكذب بتقدير إرادة جهة المجاز وقيام الدليل على ذلك وإلا كان القائل إذا قال: رأيت أسداً وأراد به الإنسان أن يكون كاذباً إذا تبينا أنه لم يرد الأسد الحقيقي وليس كذلك بالإجماع وعلى هذا فلا نسلم امتناع نسخ الخبر كما سيأتي تقريره.
المسألة الثانية اختلف القائلون بالعموم وتخصيصه في الغاية التي يقع انتهاء التخصيص إليها: فمنهم من قال بجواز انتهاء التخصيص في جميع ألفاظ العموم إلى الواحد ومنهم من أجاز ذلك في من خاصة دون ما عداها من أسماء الجموع كالرجال والمسلمين وجعل نهاية التخصيص فيها أن يبقى تحتها ثلاثة وهذا هو مذهب القفال من أصحاب الشافعي ومنهم من جعل نهاية التخصيص في جميع الألفاظ العامة جمعاً كثيراً يعرف من مدلول اللفظ وإن لم يكن محدوداً وهو مذهب أبي الحسين البصري وإليه ميل إمام الحرمين وأكثر أصحابنا احتج من جوز الانتهاء في التخصيص إلى الواحد بالنص والإطلاق والمعنى.
وأما النص فقوله تعالى: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " " الحجر 9 " وأراد به نفسه وحده.
وأما الإطلاق فقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسعد بن أبي وقاص وقد أنفذ إليه القعقاع مع ألف فارس قد أنفذت إليك ألفي رجل أطلق اسم الألف الأخرى وأراد بها القعقاع.
وأما المعنى فمن وجهين: الأول أنه لو امتنع الانتهاء في التخصيص إلى الواحد فإما أن يكون لأن الخطاب صار مجازاً أو لأنه إذا استعمل اللفظ فيه لم يكن مستعملاً فيما هو حقيقة فيه من الاستغراق وكل واحد من الأمرين لو قيل بكونه مانعاً لزم امتناع تخصيص العام مطلقاً ولا بعدد ما لأنه يكون مجازاً في ذلك العدد وغير مستعمل فيما هو حقيقة فيه وذلك خلاف الإجماع.
الثاني: أن استعمال اللفظ في الواحد من حيث إنه بعض من الكل يكون مجازاً كما في استعماله في الكثرة فإذا جاز التجوز باللفظ العام عن الكثرة فكذا في الواحد.
ولقائل أن يقول: أما الآية فهي محمولة على تعظيم المتكلم وهو بمعزل عن التخصيص بالواحد.
وأما الإطلاق العمري فمحمول على قصد بيان أن ذلك الواحد قائم مقام الألف وهو غير معنى التخصيص.
وأما المعنى الأول فلا نسلم الحصر فيما قيل من القسمين بل المنع من ذلك إنما كان لعدم استعماله لغة.
وأما المعنى الثاني فمبني على جواز إطلاق اللفظ العام وإرادة الواحد مجازاً وهو محل النزاع.
وأما حجة أبي الحسين البصري فإنه قال: لو قال القائل: قتلت كل من في البلد وأكلت كل رمانة في الدار وكان فيها تقدير ألف رمانة وكان قد قتل شخصاً واحداً أو ثلاثة وأكل رمانة واحدة أو ثلاث رمانات فإن كلامه يعد مستقبحاً مستهجناً عند أهل اللغة وكذلك إذا قال لعبده: من دخل داري فأكرمه أو قال لغيره: من عندك وقال: أردت به زيداً وحده أو ثلاثة أشخاص معينة أو غير معينة كان قبيحاً مستهجناً ولا كذلك فيما إذا حمل على الكثرة القريبة من مدلول اللفظ فإنه يعد موافقاً مطابقاً لوضع أهل اللغة.
وهذه الحجة وإن كانت قريبة من السداد وقد قلده فيها جماعة كثيرة إلا أن لقائل أن يقول: متى يكون ذلك مستهجناً منه إذا كان مريداً للواحد من جنس ذلك العدد الذي هو مدلول اللفظ وقد اقترن به قرينة أو إذا لم يكن الأول ممنوع والثاني مسلم وبيان ذلك النص وصحة الإطلاق.
أما النص فقوله تعالى: " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم " " آل عمران 173 " وأراد بالناس القائلين نعيم بن مسعود الأشجعي بعينه ولم يعد ذلك مستهجناً لاقترانه بالدليل.
وأما الإطلاق فصحة قول القائل: أكلت الخبز واللحم وشربت الماء والمراد به واحد من جنس مدلولات اللفظ العام ولم يكن ذلك مستقبحاً لاقترانه بالدليل.
نعم إذا أطلق اللفظ العام وكان الظاهر منه إرادة الكل وما يقاربه في الكثرة وهو مريد للواحد البعيد من ظاهر اللفظ من غير اقتران دليل به يدل عليه فإنه يكون مستهجناً وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين فعليك بالاجتهاد في الترجيح.
الصنف الخامس في أدلة تخصيص العموم وهي قسمان متصلة ومنفصلة القسم الأول في الأدلة المتصلة وهي أربعة أنواع: الاستثناء والشرط والصفة والغاية النوع الأول: الاستثناء(1/220)
وفيه مقدمة ومسائل أما المقدمة ففي معنى الاستثناء وصيغه وأقسامه أما الاستثناء فقال الغزالي: هو قول ذو صيغ مخصوصة محصورة دال على أن المذكور به لم يرد بالقول الأول وهو باطل من وجهين: الأول: أنه ينتقض بآحاد الاستثناءات كقولنا: جاء القوم إلا زيداً فإنه استثناء حقيقة وليس بذي صيغ بل صيغة واحدة وهي إلا زيداً.
الثاني: أنه يبطل بالأقوال الموجبة لتخصيص العموم الخارجة عن الاستثناء فإنها صيغ مخصوصة وهي محصورة لاستحالة القول بعدم النهاية في الألفاظ الدالة وهي دالة على أن المذكور بها لم يرد بالقول الأول وليست من الاستثناء في شيء وذلك كما لو قال القائل: رأيت أهل البلد ولم أر زيداً واقتلوا المشركين ولا تقتلوا أهل الذمة ومن دخل داري فأكرمه والفاسق منهم أهنه وأهل البلد كلهم علماء وزيد جاهل إلى غير ذلك.
وقال بعض المتبحرين من النحاة: الاستثناء إخراج بعض الجملة عن الجملة بلفظ إلا أو ما يقوم مقامه وهو منتقض بقول القائل: رأيت أهل البلد ولم أر زيداً فإنه قائم مقام قوله: إلا زيداً في إخراج بعض الجملة عن الجملة وليس باستثناء.
وقيل: إنه عبارة عما لا يدخل في الكلام إلا لإخراج بعضه بلفظ إلا ولا يستقل بنفسه وهو أيضاً مدخول من وجهين: الأول: أن الاستثناء لا لإخراج بعض الكلام وإنما يكون إخراجاً لبعض ما دل عليه الكلام الأول وفرق بين الأمرين.
الثاني: أنه لو قال القائل: جاء القوم غير زيد فإنه استثناء مع أن لفظة غير قد وجد فيها جميع ما ذكروه من القيود سوى قوله: لا يدخل في الكلام إلا لإخراج بعضه فإن غير قد يدخل في الكلام لغرض النعتية إذا لم يجز في موضعها إلا كقولك: عندي درهم غير جيد فإنه لا يحسن أن تقول في موضعها عندي درهم إلا جيداً فلا جرم كانت نعتاً للدرهم وتابعة له في إعرابه وهذا بخلاف ما إذا قلت عندي درهم غير قيراط فإن غير تكون استثنائية منصوبة لإمكان دخول إلا في موضعها ويمكن أن يقال هاهنا إن النعتية ليست استثنائية فلا ترد على الحد.
والمختار في ذلك أن يقال: الاستثناء عبارة عن لفظ متصل بجملة لا يستقل بنفسه دال بحرف إلا أو أخواتها على أن مدلوله غير مراد مما اتصل به ليس بشرط ولا صفة ولا غاية.
فقولنا: لفظ احتراز عن الدلالات العقلية والحسية الموجبة للتخصيص وقولنا: متصل بجملة احتراز عن الدلائل المنفصلة وقولنا: ولا يستقل بنفسه احتراز عن مثل قولنا: قام القوم وزيد لم يقم وقولنا: دال احتراز عن الصيغ المهملة وقولنا: على أن مدلوله غير مراد مما اتصل به احتراز عن الأسماء المؤكدة والنعتية كقول القائل جاءني القوم العلماء كلهم وقولنا بحرف إلا أو أخواتها احتراز عن قولنا قام القوم دون زيد وفيه احتراز عن أكثر الإلزامات السابق ذكرها وقولنا: ليس بشرط احتراز عن قول القائل لعبده: من دخل داري فأكرمه إن كان مسلماً وقولنا ليس بصفة احتراز من قول القائل: جاءني بنو تميم الطوال وقولنا: ليس بغاية احتراز عن قول القائل لعبده: أكرم بني تميم أبداً إلى أن يدخلوا الدار وهذا الحد مطرد منعكس لا غبار عليه.
وإذا عرف معنى الاستثناء فصيغه كثيرة وهي: إلا وغير وسوى وخلا وحاشا وعدا وما عدا وما خلا وليس ولا يكون ونحوه وأم الباب في هذه الصيغ إلا لكونها حرفاً مطلقا ولوقوعها في جميع أبواب الاستثناء لا غير ولها أحكام مختلفة في الإعراب مستقصاة في كتب أهل الأدب لا مناسبة لذكرها فيما نحن فيه كما قد فعله من غلب عليه حب العربية.
وهو منقسم إلى الاستثناء من الجنس ومن غير الجنس كما يأتي تحقيقه عن قريب إن شاء الله تعالى ويجوز أن يكون متأخراً عن المستثنى منه كما ذكرناه من الأمثلة وأن يكون متقدماً عليه مع الاتصال كقولك خرج إلا زيداً القوم ومنه قول الكميت:
فما لي إلا أحمد شيعة ... وما لي إلا مذهب الحق مذهب
ويجوز الاستثناء من الاستثناء من غير خلاف كقول القائل: له علي عشرة دراهم إلا أربعة إلا اثنين ويدل عليه قوله تعالى: " إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين " " الحجر 58 " إلى قوله: " إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته " " الحجر 59 " استثنى آل لوط من أهل القرية واستثنى المرأة من الآل المنجين من الهلاك وهذا ما أردنا ذكره من المقدمة وأما المسائل فخمس: المسألة الأولى(1/221)
شرط صحة الاستثناء عند أصحابنا وعند الأكثرين أن يكون متصلاً بالمستثنى منه حقيقة من غير تخلل فاصل بينهما أو في حكم المتصل وهو ما لا يعد المتكلم به آتياً به بعد فراغه من كلامه الأول عرفاً وإن تخلل بينهما فاصل بانقطاع النفس أو سعال مانع من الاتصال حقيقة ونقل عن ابن عباس أنه كان يقول بصحة الاستثناء المنفصل وإن طال الزمان شهراً.
وذهب بعض أصحاب مالك إلى جواز تأخير الاستثناء لفظاً لكن مع إضمار الاستثناء متصلاً بالمستثنى منه ويكون المتكلم به مديناً فيما بينه وبين الله تعالى ولعله مذهب ابن عباس.
وذهب بعض الفقهاء إلى صحة الاستثناء المنفصل في كتاب الله تعالى دون غيره حجة القائلين بالاتصال من ثلاثة أوجه.
الأول: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من حلف على شيء فرأى غيره خيراً منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " وروي " فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير " ولو كان الاستثناء المنفصل صحيحاً لأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليه لكونه طريقاً مخلصاً للحالف عند تأمل الخير في البر وعدم الحنث لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يقصد التيسير والتسهيل ولا يخفى أن الاستثناء أيسر وأسهل من التكفير فحيث لم يرشد إليه دل على عدم صحته.
الثاني: أن أهل اللغة لا يعدون ذلك كلاماً منتظماً ولا معدوداً من كلام العرب ولهذا فإنه لو قال: لفلان علي عشرة دراهم ثم قال بعد شهر أو سنة إلا درهماً أو قال: رأيت بني تميم ثم قال بعد شهر: إلا زيداً فإنه لا يعد استثناء ولا كلاماً صحيحاً كما لو قال رأيت زيداً ثم قال بعد شهر: قائماً فإنهم لا يعدونه بذلك مخبراً عن زيد بشيء وكذلك لو قال السيد لعبده: أكرم زيداً ثم قال بعد شهر: إن دخل داري فإنهم لا يعدون ذلك شرطاً.
الثالث: أنه لو قيل بصحة الاستثناء المنفصل لما علم صدق صادق ولا كذب كاذب ولا حصل وثوق بيمين ولا وعد ولا وعيد ولا حصل الجزم بصحة عقد نكاح وبيع وإجارة ولا لزوم معاملة أصلاً لإمكان الاستثناء المنفصل ولو بعد حين ولا يخفى ما في ذلك من التلاعب وإبطال التصرفات الشرعية وهو محال.
احتج الخصوم بأربعة أمور: الأول ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " والله لأغزون قريشاً ثم سكت وقال بعده إن شاء الله " ولولا صحة الاستثناء بعد السكوت لما فعله لكونه مقتدى به وأيضاً ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه سألته اليهود عن عدة أهل الكهف وعن مدة لبثهم فيه فقال: " غداً أجيبكم " ولم يقل إن شاء الله فتأخر عنه الوحي مدة بضعة عشر يوماً ثم نزل عليه: " ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً " " الكهف 22 " إلى قوله: " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت " " الكهف 23 " فقال: إن شاء الله بطريق الإلحاق بخبره الأول ولو لم يكن ذلك صحيحاً لما فعله.
الثاني: أن ابن عباس ترجمان القرآن ومن أفصح فصحاء العرب وقد قال بصحة الاستثناء المنفصل وذلك يدل على صحته.
الثالث: أن الاستثناء بيان وتخصيص للكلام الأول فجاز تأخيره كالنسخ والأدلة المنفصلة المخصصة للعموم.
الرابع: أن الاستثناء رافع لحكم اليمين فجاز تأخيره كالكفارة.
والجواب عن الخبر الأول أن سكوته قبل الاستثناء يحتمل أنه من السكوت الذي لا يخل بالاتصال الحكمي كما أسلفناه ويجب الحمل عليه موافقة لما ذكرناه من الأدلة.
وعن الخبر الثاني أن قوله صلى الله عليه وسلم: " إن شاء الله " ليس عائداً إلى خبر الأول بل إلى ذكر ربه إذا نسي تقديره أذكر ربي إذا نسيت إن شاء الله وذلك كما إذا قال القائل لغيره: افعل كذا فقال: إن شاء الله أي أفعل إن شاء الله.
وعن المنقول عن ابن عباس إن صح ذلك فلعله كان يعتقد صحة إضمار الاستثناء ويدين المكلف بذلك فيما بينه وبين الله تعالى وإن تأخر الاستثناء لفظاً وهو غير ما نحن فيه وإن لم يكن كذلك فهو أيضاً مخصوم بما ذكرناه من الأدلة واتفاق أهل اللغة على إبطاله ممن سواه.
وعن الوجه الثالث أنه قياس في اللغة فلا يصح لما سبق ثم هو منقوض بالخبر والشرط كما سبق كيف والفرق بين التخصيص والاستثناء واقع من جهة الجملة من حيث إن التخصيص قد يكون بدليل العقل والحس ولا كذلك الاستثناء وبينه وبين النسخ أن النسخ مما يمتنع اتصاله بالمنسوخ بخلاف الاستثناء.(1/222)
وعن الوجه الرابع بالفرق وهو أن الكفارة رافعة لإثم الحنث لا لنفس الحنث والاستثناء مانع من الحنث فما التقيا في الحكم حتى يصح قياس أحدهما على الآخر كيف وإن الخلاف إنما وقع في صحة الاستثناء المنفصل من جهة اللغة لا من جهة الشرع ولا قياس في اللغة على ما سبق.
المسألة الثانية اختلف العلماء في صحة الاستثناء من غير الجنس: فجوزه أصحاب أبي حنيفة ومالك والقاضي أبو بكر وجماعة من المتكلمين والنحاة ومنع منه الأكثرون.
وأما أصحابنا فمنهم من قال بالنفي ومنهم من قال بالإثبات احتج من قال بالبطلان بأن الاستثناء استفعال مأخوذ من الثني ومنه تقول: ثنيت الشيء إذا عطفت بعضه على بعض وثنيت فلاناً عن رأيه وثنيت عنان الفرس وحقيقته أنه استخراج بعض ما تناوله اللفظ وذلك غير متحقق في مثل قول القائل: رأيت الناس إلا الحمر لأن الحمر المستثناة غير داخلة في مدلول المستثنى منه حتى يقال بإخراجها وثنيها عنه بل الجملة الأولى باقية بحالها لم تتغير ولا تعلق للثاني بالأول أصلاً ومع ذلك فلا تحقق للاستثناء من اللفظ ولا يمكن أن يقال بصحة الاستثناء بناء على ما وقع به الاشتراك من المعنى بين المستثنى منه وإلا لصح استثناء كل شيء من كل شيء ضرورة أنه ما من شيئين إلا وهما مشتركان في معنى عام لهما وليس كذلك كيف وأنه لو قال القائل: جاء العلماء إلا الكلاب وقدم الحاج إلا الحمير كان مستهجناً لغة وعقلاً وما هذا شأنه لا يكون وضعه مضافاً إلى أهل اللغة.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أن الاستثناء مأخوذ من الثني بل من التثنية وكأن الكلام كان واحداً فثني وليس أحد الأمرين أولى من الآخر فإن قيل: لو كان الاستثناء مأخوذاً من التثنية لكان كل ما وجد فيه معنى التثنية من الكلام استثناء وليس كذلك.
قلنا: ولو كان مأخوذاً من الثني لكان كل ما وجد فيه الثني والعطف استثناء وليس كذلك ولهذا لا يقال لمن عطف الثوب بعضه على بعض أو عطف عنان الفرس إنه استثناء.
قولكم إن الاستثناء استخراج بعض ما تناوله اللفظ دعوى في محل النزاع وكيف يدعى ذلك مع قول الخصم بصحة الاستثناء من غير الجنس ولا دخول المستثنى تحت المستثنى منه وما ذكرتموه من الاستقباح لا يدل على امتناع صحته في اللغة ولهذا فإنه لو قال القائل في دعائه: يا رب الكلاب والحمير وخالقهم ارزقني وأعطني كان مستهجناً وإن كان صحيحاً من جهة اللغة والمعنى.
ثم وإن سلمنا امتناع صحة الاستثناء من نفس الملفوظ به مطابقة فما المانع من صحته نظراً إلى ما وقع به الاشتراك بين المستثنى والمستثنى منه في المعنى اللازم المدلول للفظ مطابقه كما قال الشافعي إنه لو قال القائل لفلان علي مائة درهم إلا ثوباً فإنه يصح ويكون معناه إلا قيمة ثوب لاشتراكهما في ثبوت صفة القيمة لهما وكما قاله أبو حنيفة في استثناء المكيل من الموزون وبالعكس لاشتراكهما في علة الربا.
قولكم: لو صح ذلك لصح استثناء كل شيء من كل شيء ليس كذلك وما المانع أن تكون صحة الاستثناء مشروطة بمناسبة بين المستثنى والمستثنى منه كما إذا قال القائل: ليس لي نخل إلا شجر ولا إبل إلا بقر ولا بنت إلا ذكر ولا كذلك فيما إذا قال: ليس لفلان بنت إلا أنه باع داره وأما القائلون بالصحة فقد احتجوا بالمنقول والمعقول: أما المنقول فمن جهة القرآن والشعر والنثر.
أما القرآن فقوله تعالى: " وإذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم " " البقرة 34 " " فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين " " الأعراف 11 " وإبليس لم يكن من جنس الملائكة لقوله تعالى في آية أخرى: " إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه " " الكهف 50 " والجن ليسوا من جنس الملائكة ولأنه كان مخلوقاً من نار على ما قال: " خلقتني من نار " " الأعراف 12 " والملائكة من نور ولأن إبليس له ذرية على ما قال تعالى: " أفتتخذونه وذريته أولياء " " الكهف 50 " ولا ذرية للملائكة فلا يكون من جنسهم وهو مستثنى منهم وقوله تعالى: " أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين " " الشعراء 75 " استثنى الباري تعالى من جملة ما كانوا يعبدون من الأصنام وغيرها والباري تعالى ليس من جنس شيء من المخلوقات(1/223)
وقوله تعالى: " وما لهم به من علم إلا أتباع الظن " " النساء 157 " استثنى الظن من العلم وليس من جنسه وقوله تعالى: " لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً " " الواقعة 26 - 27 " استثنى السلام من اللغو وليس من جنسه وقوله تعالى: " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " " النساء 29 " والتجارة ليست من جنس الباطل وقد استثناها منه وقوله تعالى: " فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا " " يس 43 " استثنى الرحمة من نفي الصريخ والإنقاذ وليست من جنسه وقوله تعالى: " لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم " " هود 43 " ومن رحم ليس بعاصم بل معصوم وليس المعصوم من جنس العاصم وقوله تعالى: " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ " " النساء 92 " استثنى الخطأ من القتل وليس من جنسه.
وأما الشعر فمن ذلك قول القائل منهم:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
والعيس ليست من جنس الأنيس وقال النابغة الذبياني:
وقفت فيها أصيلالا أسائلها ... عيت جواباً وما بالربع من أحد
إلا أواري لأياً ما أبينها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد
والأواري ليست من جنس الأحد وقال:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفنا ... بهن فلول من قراع الكتائب
وليس فلول السيوف عيباً لأربابها بل فخراً لهم وقد استثناها من العيوب وليست من جنسها.
وأما النثر فقول العرب: ما زاد إلا ما نقص وما بالدار أحد إلا الوتد وما جاءني زيد إلا عمرو استثنوا النقص من الزيادة والوتد من أحد وعمراً من زيد وليس من جنسه.
وأما المعقول فهو أن الاستثناء لا يرفع جميع المستثنى منه فصح كاستثناء الدراهم من الدنانير وبالعكس.
ولقائل أن يقول: أما الآية الأولى فلا نسلم أن إبليس لم يكن من جنس الملائكة قولكم إنه كان من الجن قلنا: لا منافاة بين الأمرين: فإنه قد قال ابن عباس وغيره من المفسرين إن إبليس كان من الملائكة من قبيل يقال لهم الجن لأنهم كانوا خزان الجنان وكان إبليس رئيسهم وتسميته جنياً لنسبته إلى الجنة كما يقال بغدادي ومكي ويحتمل أنه سمي بذلك لاجتنانه واختفائه ويدل على كونه من الملائكة أمران: الأول أن الله تعالى استثناه من الملائكة والأصل أن يكون من جنسهم للاتفاق على صحة الاستثناء من الجنس ووقع الخلاف في غيره الثاني أن الأمر بالسجود لآدم إنما كان للملائكة بدليل قوله تعالى: " وإذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم " " البقرة 34 " ولو لم يكن إبليس من الملائكة لما كان عاصياً للأمر المتوجه إلى الملائكة لكونه ليس منهم إذ الأصل عدم أمر وراء ذلك الأمر ودليل عصيانه قوله تعالى: " إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين " " البقرة 34 " .
قولكم إن إبليس له ذرية ليس في ذلك ما ينافي كونه من جنس الملائكة فلئن قلتم بأن التوالد لا يكون إلا من ذكر وأنثى والملائكة لا إناث فيهم بدليل قوله تعالى: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً " " الزخرف 19 " ذكر ذلك في معرض الإنكار والتوعد على قول ذلك.
قلنا إنما يلزم من ذلك الإناث في الملائكة أن لو امتنع حصول الذرية إلا من جنسين وهو غير مسلم.
قولكم: إن إبليس مخلوق من نار والملائكة من نور لا منافاة أيضاً بين ذلك وبين كونه من الملائكة.
وأما الآية الثانية فاستثناء الرب تعالى فيها من المعبودين وذلك قوله: " ما كنتم تعبدون " " الشعراء 75 " وهم كانوا ممن يعبد الله مع الأصنام لأنهم كانوا مشركين لا جاحدين لله تعالى فلا يكون الاستثناء من غير الجنس.
وأما الآية الثالثة فجوابها من وجهين: الأول أن قوله تعالى: " وما لهم به من علم إلا اتباع الظن " " النساء 157 " عام في كل ما يسمى علماً والظن يسمى علماً ودليله قوله تعالى: " فإن علمتموهن مؤمنات " " الممتحنة 10 " وأراد إن ظننتموهن لاستحالة اليقين بذلك وذلك إن كان من الأسماء المتواطئة فلا يكون الاستثناء من غير الجنس وإن كان من الأسماء المشتركة أو المجازية فهو من جملة الأسماء العامة كما سبق.
الثاني أن إلا فيها ليست للاستثناء بل هي بمعنى لكن وكذلك الحكم فيما بعدها من الآيات.(1/224)
وأما استثناء اليعافير والعيس من الأنيس فليس استثناء من غير الجنس لأنها مما يؤنس بها فهي من جنس الأنيس وإن لم تكن من جنس الأنس بل وقد يحصل الأنس بالآثار والأبنية والأشجار فضلاً عن الحيوان.
وأما استثناء الأواري من أحد فإنما كان لأنه كما يطلق الأحد على الآدمي فقد يطلق على غيره من الحيوانات والجمادات ولذلك يقال: رأيت أحد الحمارين وركبت أحد الفرسين ورميت أحد الحجرين وأحد السهمين فلم يكن الاستثناء من غير الجنس من حيث إن الأواري مما يصدق عليها لفظة أحد وبتقدير أن لا يكون من الجنس فإلا ليست استثنائية حقيقة بل بمعنى لكن كما سبق.
وأما فلول السيوف فهو عيب في السيوف وإن كان يسبب فلولها فخراً ومدحة لأربابها فهو في الجملة استثناء من الجنس.
وقول العرب: ما زاد إلا ما نقص تقديره: ما زاد شيء إلا الذي نقص أي ينقص وهو استثناء من الجنس.
وقولهم: ما في الدار أحد إلا الوتد فجوابه كما سبق في الأواري من أحد وقوله ما جاءني زيد إلا عمرو فإلا بمعنى لكن.
وما ذكروه من المعقول قولهم: إن الاستثناء لا يرفع جميع المستثنى منه فشيء لا إشعار له بصحة الاستثناء من غير الجنس.
وأما استثناء الدراهم من الدنانير ) وبالعكس فهو أيضاً محل النزاع عند القائلين بعدم صحة الاستثناء من غير الجنس وإن تكلف بيان صحة الاستثناء من جهة اشتراكهما في النقدية وجوهرية الثمنية فآئل إلى الاستثناء من الجنس.
المسألة الثالثة اتفقوا على امتناع الاستثناء المستغرق كقوله له علي عشرة إلا عشرة وإنما اختلفوا في استثناء النصف والأكثر فذهب أصحابنا وأكثر الفقهاء والمتكلمين إلى صحة استثناء الأكثر حتى إنه لو قال: له علي عشرة إلا تسعة لم يلزمه سوى درهم واحد وذهب القاضي أبو بكر في آخر أقواله والحنابلة وابن درستويه النحوي إلى المنع من ذلك وزاد القاضي أبو بكر والحنابلة القول بالمنع من استثناء المساوي وقد نقل عن بعض أهل اللغة استقباح استثناء عقد صحيح فلا يقول: له علي مائة إلا عشرة بل خمسة أو غير ذلك احتج من قال بصحة استثناء الأكثر والمساوي بالمنقول والمعقول والحكم أما المنقول فمن جهة القرآن والشعر.
أما القرآن فقوله تعالى: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين " " الحجر 42 " وقال: " لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين " " ص 83 " فإن استووا فقد استثنى المساوي وإن تفاوتوا فأيهما كان أكثر فقد استثناه كيف وإن الغاوين أكثر بدليل قوله تعالى: " وقليل من عبادي الشكور " " سبأ 13 " .
وقوله تعالى: " ولا تجد أكثرهم شاكرين " " الأعراف 17 " وقوله تعالى: " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " " يوسف 103 " ولكن أكثرهم " لا يعقلون " " القصص 13 " ولا يؤمنون.
وأما الشعر فقوله:
أدوا التي نقصت تسعين من مائة ... ثم ابعثوا حكماً بالحق قوالا
وأما المعقول فهو أن الاستثناء لفظ يخرج من الجملة ما لولاه لدخل فيها فجاز إخراج الأكثر به كالتخصيص بالدليل المنفصل كاستثناء الأقل.
هذا ما يخص الأكثر وأما المساوي فدليله قوله تعالى: " يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه " " المزمل 1 " استثنى النصف وليس بأقل.
وأما الحكم فعام للأكثر والمساوي وهو أنه لو قال: له علي عشرة واستثنى منها خمسة أو تسعة فإنه يلزمه في الأول خمسة وفي الثاني درهم باتفاق الفقهاء ولولا صحة الاستثناء لما كان كذلك.
وفي هذه الحجج ضعف إذ لقائل أن يقول أما الآية فالغاوون فيها وإن كانوا أكثر من العباد المخلصين بدليل النصوص المذكورة فلا نسلم أن إلا في قوله: " إلا من اتبعك من الغاوين " " الحجر 42 " للاستثناء بل هي بمعنى لكن وإن سلمنا أنها للاستثناء ولكن نحن إنما نمنع من استثناء الأكثر إذا كان عدد المستثنى والمستثنى منه مصرحاً به كما إذا قال: له علي مائة إلا تسعة وتسعين درهماً وأما إذا لم يكن العدد مصرحاً به كما إذا قال له: خذ ما في الكيس من الدراهم سوى الزيوف منها فإنه يصح وإن كانت الزيوف في نفس الأمر أكثر في العدد وكما إذا قال: جاءني بنو تميم سوى الأوباش منهم فإنه يصح من غير استقباح وإن كان عدد الأوباش منهم أكثر.
وأما الشعر فلا استثناء فيه بل معناه: أدوا المائة التي سقط منها تسعون ولا يلزم أن يكون سقوطها بطريق الاستثناء.(1/225)
وما ذكروه من المعقول فحاصله يرجع إلى القياس في اللغة وهو فاسد كما سبق كيف والفرق بين الأصل والفرع واقع من جهة الإجمال أما التخصيص فمن جهة أنه قد يكون بدليل منفصل وبغير دليل لفظي كما يأتي.
وأما استثناء الأقل فلكونه غير مستقبح كما إذا قال: له علي عشرة إلا درهماً ولا كذلك قوله: له علي مائة إلا تسعة وتسعين.
وأما قوله تعالى: " يا أيها المزمل " " المزمل 1 " فلا دلالة فيه على جواز استثناء النصف إذ النصف غير مستثنى وإنما هو ظرف للقيام فيه وتقديره قم الليل ونصفه إلا قليلاً.
وأما الحكم فدعوى الاتفاق عليه خطأ فإن من لا يرى صحة استثناء الأكثر والمساوي فهو عنده بمنزلة الاستثناء المستغرق ولو قال: له علي عشرة إلا عشرة لزمه العشرة وإنما ذهب إلى ذلك الفقهاء القائلون بصحة استثناء الأكثر والمساوي.
وأما من قال بامتناع صحة استثناء الأكثر والمساوي فقد احتج بأن الاستثناء على خلاف الأصل لكونه إنكاراً بعد إقرار وجحداً بعد اعتراف غير أنا خالفناه في استثناء الأقل لمعنى لم يوجد في المساوي والأكثر فوجب أن لا يقال بصحته فيه وبيان ذلك من وجهين: الأول: أن المقر ربما أقر بمال وقد وفى بعضه غير أنه نسيه لقلته وعند إقراره ربما تذكره فاستثناه فلو لم يصح استثناؤه لتضرر ولا كذلك في الأكثر والنصف لأنه قلما يتفق الذهول عنه.
والثاني: أنه إذا قال: له علي مائة إلا درهماً لم يكن مستقبحاً وإذا قال له علي مائة إلا تسعة وتسعين كان مستقبحاً والمستقبح في لغة العرب لا يكون من لغتهم.
وهذه الحجة ضعيفة أيضاً إذ لقائل أن يقول: لا نسلم أن الاستثناء على خلاف الأصل والقول بأنه إنكار بعد إقرار إنما يصح ذلك أن لو لم يكن المستثنى والمستثنى منه جملة واحدة وإلا فلا وإن سلمنا عدم الاتحاد ولكن لا نسلم مخالفة ذلك الأصل بل الأصل قبوله لإمكان صدق المتكلم به ودفعاً للضرر عنه ويجب اعتقاد ذلك حتى لا يكون قبول ذلك في استثناء الأقل على خلاف الأصل والقول بأن ذلك مستقبح ركيك في لغة العرب ليس فيه ما يمنع مع ذلك من استعماله ولهذا فإنه لو قال: له علي عشرة إلا درهماً كان مستحسناً ولو قال: له علي عشرة إلا دانقاً ودانقاً إلى تمام عشرين مرة كان في غاية الاستقباح وما منع ذلك من صحته واستعماله لغة.
المسألة الرابعة الجمل المتعاقبة بالواو إذا تعقبها الاستثناء رجع إلى جميعها عند أصحاب الشافعي رضي الله عنه وإلى الجملة الأخيرة عند أصحاب أبي حنيفة.
وقال القاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري وجماعة من المعتزلة: إن كان الشروع في الجملة الثانية إضراباً عن الأولى ولا يضمر فيها شيء مما في الأولى فالاستثناء مختص بالجملة الأخيرة لأن الظاهر أنه لم ينتقل عن الجملة الأولى مع استقلالها بنفسها إلى غيرها إلا وقد تم مقصوده منها وذلك على أقسام أربعة: القسم الأول: أن تختلف الجملتان نوعا كما لو قال أكرم بني تميم والنحاة البصريون إلا البغاددة إذ الجملة الأولى أمر والثانية خبر.
القسم الثاني: أن تتحدا نوعاً وتختلفا اسماً وحكماً كما لو قال: أكرم بني تميم واضرب ربيعة إلا الطوال إذ هما أمران.
القسم الثالث: أن تتحدا نوعاً وتشتركا حكماً لا اسماً كما لو قال: سلم على بني تميم وسلم على بني ربيعة إلا الطوال.
القسم الرابع: أن تتحدا نوعاً وتشتركا اسماً لا حكماً ولا يشترك الحكمان في غرض من الأغراض كما لو قال: سلم على بني تميم واستأجر بني تميم إلا الطوال.
وأقوى هذه الأقسام في اقتضاء اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة القسم الأول ثم الثاني ثم الثالث والرابع.
وأما إن لم تكن الجملة الأخيرة مضربة عن الأولى بل لها بها نوع تعلق فالاستثناء راجع إلى الكل وذلك أربعة أقسام.
القسم الأول: أن تتحد الجملتان نوعاً واسماً لا حكماً غير أن الحكمين قد اشتركا في غرض واحد كما لو قال: أكرم بني تميم وسلم على بني تميم إلا الطوال لاشتراكهما في غرض الإعظام.
القسم الثاني: أن تتحد الجملتان نوعاً وتختلفا حكماً واسم الأولى مضمر في الثانية كما لو قال أكرم بني تميم واستأجرهم وربيعة إلا الطوال.
القسم الثالث: بالعكس من الذي قبله كما لو قال: أكرم بني تميم وربيعة إلا الطوال.(1/226)
القسم الرابع: أن يختلف نوع الجمل المتعاقبة إلا انه قد أضمر في الجملة الأخيرة ما تقدم أو كان غرض الأحكام المختلفة فيها واحدا كما في آية القذف فإن جملها مختلفة النوع من حيث إن قوله تعالى: " فاجلدوهم ثمانين جلدة " " النور 4 " أمر وقوله: " ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً " " النور 4 " نهي وقوله " وأولئك هم الفاسقون " " النور 4 " خبر غير أنها داخلة تحت القسم الأول من هذه الأقسام الأربعة لاشتراك أحكام هذه الجمل في غرض الانتقام والإهانة وداخلة تحت القسم الثاني من جهة إضمار الاسم المتقدم فيها.
وذهب المرتضى من الشيعة إلى القول بالاشتراك وذهب القاضي أبو بكر والغزالي وجماعة من الأصحاب إلى الوقف.
والمختار انه مهما ظهر كون الواو للابتداء فالاستثناء يكون مختصاً بالجملة الأخيرة كما في القسم الأول من الأقسام الثانية المذكورة لعدم تعلق إحدى الجملتين بالأخرى وهو ظاهر وحيث أمكن أن تكون الواو للعطف أو الابتداء كما في باقي الأقسام السبعة فالواجب إنما هو الوقف.
وتحقيق ذلك متوقف على ذكر حجج المخالفين وإبطالها ولنبدأ من ذلك بحجج القائلين بالعود إلى الجميع: الحجة الأولى: أن الجمل المعطوف بعضها على بعض بمنزلة الجملة الواحدة ولهذا فإنه لا فرق في اللغة بين قوله: اضرب الجماعة التي منها قتلة وسراق وزناة إلا من تاب وبين قوله: اضرب من قتل وسرق وزنا إلا من تاب فوجب اشتراكهما في عود الاستثناء إلى الجميع وهي غير صحيحة وذلك لأنه إن قيل إنه لا فارق بين الجملة والجملتين في أمر ما لزم أن يكون المتكثر واحدا والواحد متكثراً وهو محال وإن قيل بالفرق فلا بد من جامع موجب للاشتراك في الحكم ومع ذلك فحاصله يرجع إلى القياس في اللغة ولا سبيل إليه لما تقدم.
الحجة الثانية: أن الإجماع منعقد على أنه لو قال: والله لا أكلت الطعام ولا دخلت الدار ولا كلمت زيداً واستثنى بقوله: إن شاء الله أنه يعود إلى الجميع وهذه الحجة أيضاً باطلة فإن العلماء وإن أطلقوا لفظ الاستثناء على التعليق على المشيئة فمجاز وليس باستثناء حقيقة بل ذلك شرط كما في قوله: إن دخلت الدار ويدل على كونه شرطاً لا استثناء أنه يجوز دخوله على الواحد مع أن الواحد لا يدخله الاستثناء وذلك كقوله: أنت طالق إن شاء الله ولو قال: أنت طالق طلقة إلا طلقة لم يصح ووقع به طلقة وكذلك إذا قال له: علي درهم إلا درهماً وإذا كان شرطاً فلا يلزم من عوده إلى الجميع عود الاستثناء إلا بطريق القياس ولا بد من جامع مؤثر ومع ذلك يكون قياساً في اللغة وهو باطل بما سبق وبهذا يبطل إلحاقهم الاستثناء بالشرط وهو قولهم الاستثناء غير مستقل بنفسه فكان عائداً إلى الكل كالشرط وهو ما إذا قال أكرم بني تميم وبني ربيعة إن دخلوا الدار ولو صرح بذلك كان صحيحاً ولا كذلك في الاستثناء ولهذا فإنه لو قال: إلا أن يتوبوا اضرب بني تميم وبني ربيعة لا يكون صحيحاً.
الحجة الثالثة: أن الحاجة قد تدعو إلى الاستثناء من جميع الجمل وأهل اللغة مطبقون على أن تكرار الاستثناء في كل جملة مستقبح ركيك مستثقل وذلك كما لو قال: إن دخل زيد الدار فاضربه إلا أن يتوب وإن زنا فاضربه إلا أن يتوب فلم يبق سوى تعقب الاستثناء للجملة الأخيرة.
ولقائل أن يقول: وإن كان ذلك مطولاً غير أنه يعرف شمول الاستثناء للكل بيقين فلا يكون مستقبحاً وإن كان مستقبحاً فإنما يمتنع أن لو كان وضع اللغة مشروطاً بالمستحسن وهو غير مسلم ودليله أنه لو وقع الاستثناء كذلك فإنه يصح لغة ويثبت حكمه ولولا أنه من وضع اللغة لما كان كذلك.
الحجة الرابعة: إن الاستثناء صالح أن يعود إلى كل واحدة من الجمل وليس البعض أولى من البعض فوجب العود إلى الجميع كالعام.
ولقائل أن يقول: كونه صالحاً للعود إلى الجميع غير موجب لذلك ولهذا فإن اللفظ إذا كان حقيقة في شيء ومجازاً في شيء فهو صالح للحمل على المجاز ولا يجب حمله على المجاز.
وما ذكروه من الإلحاق بالعموم فغير صحيح لما علم مراراً.
الحجة الخامسة: أنه لو قال علي خمسة وخمسة إلا ستة فإنه يصح ولو كان مختصاً بالجملة الأخيرة لما صح لكونه مستغرقاً لها.(1/227)
قلنا: لا نسلم صحة الاستثناء على رأي لنا وإن سلمنا فإنما عاد إلى الجميع لقيام الدليل عليه وذلك لأنه لا بد من إعمال لفظه مع الإمكان وقد تعذر استثناء الستة من الجملة الأخيرة لكونه مستغرقاً لها وهو صالح للعود إلى الجميع فحمل عليه ومع قيام الدليل على ذلك فلا نزاع وإنما النزاع فيما إذا ورد الاستثناء مقارناً للجملة الأخيرة من غير دليل يوجب عوده إلى ما تقدم.
الحجة السادسة: أنه لو قال القائل: بنو تميم وربيعة أكرموهم إلا الطوال فإن الاستثناء يعود إلى الجميع فكذلك إذا تقدم الأمر بالإكرام ضرورة اتحاد المعنى.
ولقائل أن يقول: حاصل ما ذكروه يرجع إلى القياس في اللغة وهو باطل لما علم كيف والفرق ظاهر لأنه إذا تأخر الأمر عن الجمل فقد اقترن باسم الجميع وهو قوله أكرموهم بخلاف الأمر المتقدم فإنه لم يتصل باسم الفريقين بل باسم الفريق الأول.
الحجة السابعة: أنه إذا قال القائل: اضربوا بني تميم وبني ربيعة إلا من دخل الدار فمعناه من دخل من الفريقين ولقائل أن يقول ليس تقدير هذا المعنى أولى من تقدير إلا من دخل من ربيعة.
وأما حجج القائلين بعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فمن جهة النص والمعقول.
أما النص فقوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا " " النور 4 " فإنه راجع إلى قوله وأولئك هم الفاسقون ولم يرجع إلى الجلد بالاتفاق وأيضاً قوله تعالى: " فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله " " النساء 92 " وقوله " إلا أن يصدقوا " " النساء 92 " راجع إلى الدية دون الإعتاق بالاتفاق.
قلنا: أما الآية الأولى فلا نسلم اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة منها بل هو عائد إلى جميع الجمل عدا الجلد لدليل دل عليه وهو المحافظة على حق الآدمي.
أما الآية الأخرى فإنما امتنع عود الاستثناء إلى الإعتاق لأنه حق الله تعالى وتصدق الولي لا يكون مسقطاً لحق الله تعالى: وأما من جهة المعقول فحجج: الحجة الأولى أن الاستثناء من الجملة إذا تعقبه استثناء كان الاستثناء الثاني عائداً إلى الجملة الاستثنائية لا إلى الجملة الأولى فدل على اختصاص الاستثناء بالجملة المقارنة دون المتقدمة وإلا كان عدم عوده إلى المتقدمة على خلاف الأصل وذلك كما لو قال له علي عشرة إلا أربعة إلا اثنين فإن الاستثناء الثاني يختص بالأربعة دون العشرة.
ولقائل أن يقول: الاستثناء الثاني إما أن يكون بحرف عطف أو لا بحرف عطف فإن كان الأول فهو راجع إلى الجملة المستثني منها كقوله: له علي عشرة إلا ثلاثة وإلا اثنين فيكون المقر به خمسة وإن كان الثاني كقوله: له علي عشرة إلا أربعة إلا اثنين فإنما امتنع عوده إلى الجملة المستثني منها لدليل لا لعدم اقتضائه لذلك لغة وذلك أن الاستثناء الثاني لو عاد إلى الجملة المستثني منها فإما أن يعود إليها لا غير أو إليها وإلى الاستثناء: الأول ممتنع لأن الإجماع منعقد على دخول الاستثناء الأول تحت الاستثناء الثاني فقطعه عنه ورده إلى الجملة المستثنى منها لا غير يكون على خلاف الإجماع وإن كان عائداً إلى الاستثناء والمستثنى منه فالمستثنى منه إثبات فالاستثناء منه يكون نفياً لأن الاستثناء من الإثبات نفي والاستثناء من الاستثناء يكون إثباتاً لأن الاستثناء من النفي إثبات على ما يأتي تقريره عن قريب وذلك ممتنع لوجهين: الوجه الأول: أنه يلزم منه أن يكون قد أثبت لعوده إلى أحدهما مثل ما نفاه عن الآخر ويكون جابراً للنفي بالإثبات ويبقى ما كان متحققاً قبل الاستثناء الثاني بحاله وفيه إلغاء الاستثناء الثاني وخروجه عن التأثير وهو خلاف الإجماع.
الوجه الثاني: أنه يلزم منه أن يكون بعوده إلى الجملة الأولى قد نفي عنها مثل ما أثبته لها بعوده إلى الاستثناء الثاني فيكون الاستثناء الواحد مقتضياً لنفي شيء وإثباته بالنسبة إلى شيء واحد وهو محال.
الحجة الثانية: أن الجملة الأخيرة حائلة بين الاستثناء والجملة الأولى فكان ذلك مانعاً من العود إليها كالسكوت.
ولقائل أن يقول: إنما يصح ذلك أن لو لم يكون الكلام كله بمنزلة جملة واحدة وأما إذا كان كالجملة الواحدة فلا.(1/228)
الحجة الثالثة: أنه استثناء تعقب جملتين فلا يكون بظاهره عائداً إليهما كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً وثلاثاً إلا أربعة فأنه لا يعود إلى الجميع وإلا لوقع به طلقتان لا ثلاث طلقات.
قلنا: لا نسلم امتناع عوده إلى الجميع بل هو عائد إلى الجميع والواقع طلقتان على رأي لنا وإن سلمنا امتناع عوده إلى الجميع فلأن المعتبر من قوله ثلاثاً وثلاثاً إنما هو الجملة الأولى دون الثانية فلو عاد الاستثناء إليها لكان مستغرقاً وهو باطل.
الحجة الرابعة: أن دخول الجملة الأولى تحت لفظه معلوم ودخولها تحت الاستثناء مشكوك فيه والشك لا يرفع اليقين.
قلنا: لا نسلم تيقن دخوله مع اتصال الاستثناء بالكلام ثم وإن كان ذلك مما يمنع من عود الاستثناء إلى الجمل المتقدمة فهو مانع من اختصاصه بالجملة الأخيرة لجواز عوده بالدليل إلى الجملة المتقدمة دون المتأخرة ثم يلزم منه أن لا يعود الشرط والصفة على باقي الجمل لما ذكروه وهو عائد عند أكثر القائلين باختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة.
الحجة الخامسة: أنه لما كان الاستثناء مما تدعو الحاجة إليه ولا يستقل بنفسه دعت الحاجة إلى عوده إلى غيره وهذه الحاجة والضرورة مندفعة بعوده إلى ما يليه فلا حاجة إلى عوده إلى غيره إذ هو خارج عن محل الحاجة وإنما وجب اختصاصه بما يليه دون غيره لوجهين.
الأول: أنه إذا ثبت اختصاصه بجملة واحدة وجب عوده إلى ما يليه لامتناع عوده إلى غيره بالإجماع.
الثاني: أنه قريب منه والقرب مرجح ولهذا وجب عود الضمير في قولهم: جاء زيد وعمرو أبوه منطلق إلى عمرو لكونه أقرب مذكور فكان ما يلي الفعل من الاسمين اللذين لا يظهر فيهما الإعراب بالفاعلية أولى كقولهم: ضربت سلمى سعدى وهذه الحجة أيضاً مدخولة إذ لقائل أن يقول ما ذكرتموه إنما يصح أن لو لم تكن الحاجة ماسة إلى عود الاستثناء إلى كل ما تقدم وذلك غير مسلم وإذا كانت الحاجة ماسة إلى عوده إلى كل ما تقدم فلا تكون الحاجة مندفعة بعوده إلى ما يليه فقط.
ثم ما ذكرتموه منتقض بالشرط والصفة وإن سلمنا أنه لا ضرورة ولكن لم قلتم بامتناع عوده إلى ما تقدم وإن لم تكن ثم ضرورة ولهذا فإنه لو قام دليل على إرادة عوده إلى الجميع فإنه يكون عائداً إليه إجماعاً وإنما الخلاف في كونه حقيقة في الكلام أم لا.
الحجة السادسة: ذكرها القلانسي وهي أن قال: نصب ما بعد الاستثناء في الإثبات إنما كان بالفعل المتقدم بإعانة إلا على ما هو مذهب أكابر البصريين فلو قيل إن الاستثناء يرجع إلى جميع الجمل لكان ما بعد إلا منتصباً بالأفعال المقدرة في كل جملة ويلزم منه اجتماع عاملين على معمول واحد وذلك لا يجوز لأنه بتقدير مضادة أحد العاملين في عمله للعامل الآخر يلزم منه أن يكون المعمول الواحد مرفوعاً منصوباً معاً وذلك كما لو قلت: ما زيد بذاهب ولا قام عمرو وهو محال ولأنه إما أن يكون كل واحد مستقلاً بالأعمال أولاً كل واحد منهما مستقل أو المستقل البعض دون البعض فإن كان الأول لزم من ذلك عدم استقلال كل واحد ضرورة أنه لا معنى لكون كل واحد مستقلاً إلا أن الحكم ثبت به دون غيره وإن كان الثاني فهو خلاف الفرض وإن كان الثالث فليس البعض أولى من البعض.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه إذا قال: قام القوم إلا زيداً أن زيداً منصوب بقام وإن سلمنا أنه منصوب بقام لكن بالفعل المحقق أو المقدر في كل جملة الأول مسلم والثاني ممنوع والفعل المحقق غير زائد على واحد وأم حجج القائلين بالاشتراك فثلاث: الحجة الأولى: أنه يحسن الاستفهام من المتكلم عن إرادة عود الاستثناء إلى ما يليه أو إلى الكل ولو كان حقيقة في أحد هذه المحامل دون غيره لما حسن ذلك وذلك يدل على الاشتراك وهذه الحجة مدخولة لجواز أن يكون الاستفهام لعدم المعرفة بالمدلول الحقيقي والمجازي أصلاً كما تقوله الواقفية أو لأنه حقيقة في البعض مجاز في البعض والاستفهام للحصول على اليقين ودفع الاحتمال البعيد كما بيناه فيما تقدم.
الحجة الثانية: أنه يصح إطلاق الاستثناء وإرادة عوده إلى ما يليه وإلى الجمل كلها وإلى بعض الجمل المتقدمة دون البعض بإجماع أهل اللغة والأصل في الإطلاق الحقيقة والمعاني مختلفة فكان مشتركاً.(1/229)
ولقائل أن يقول: متى يكون الأصل في الإطلاق الحقيقة إذا أفضى إلى الاشتراك المخل بمقصود أهل الوضع من وضعهم أو إذا لم يفض؟ الأول ممنوع والثاني مسلم ثم وإن كان ذلك هو الأصل مطلقاً غير أنه أمر ظني ولم قلتم بإمكان التمسك به فيما نحن فيه على ما هو معلوم من قاعدة الواقفية.
الحجة الثالثة: أن الاستثناء فضلة لا تستقل بنفسها فكان احتمال عوده إلى ما يليه وإلى جميع الجمل مساوياً كالحال وظرف الزمان والمكان في قوله: ضربت زيداً وعمراً قائماً في الدار يوم الجمعة.
ولقائل أن يقول: لا نسلم صحة ما ذكره في الحال والظرف بل هو عائد إلى الكل أو ما يليه على اختلاف المذهبين وإن سلم ذلك غير أنه آئل إلى القياس في اللغة وهو باطل كما سبق.
المسألة الخامسة مذهب أصحابنا أن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات خلافاً لأبي حنيفة.
ودليلنا في ذلك أن القائل إذا قال: لا إله إلا الله كان موحداً مثبتاً للألوهية لله سبحانه وتعالى ونافياً لها عما سواه ولو كان نافياً للألوهية عما سوى الرب تعالى غير مثبت لها بالنسبة إلى الرب تعالى لما كان ذلك توحيداً لله تعالى لعدم إشعار لفظه بإثبات الألوهية لله تعالى وذلك خلاف الإجماع.
وأيضاً فإنه إذا قال القائل: لا عالم في البلد إلا زيد كان ذلك من أدل الألفاظ على علم زيد وفضيلته وكان ذلك متبادراً إلى فهم كل سامع لغوي ولو كان نافياً للعلم عما سوى زيد غير مثبت للعلم لزيد لما كان كذلك وعلى هذا النحو في كل ما هو من هذا القبيل.
فإن قيل: لو كان الاستثناء من النفي إثباتاً لكان قوله صلى الله عليه وسلم " لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بولي ولا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء " مقتضياً تحقق الصلاة عند وجود الطهور والنكاح عند وجود الولي والبيع عند المساواة ولما لم يكن كذلك علم أن المراد بالاستثناء إخراج المستثنى عن دخوله في المستثنى منه وأنه غير متعرض لنفيه ولا إثباته.
قلنا: الطهور والولي والمساواة لا يصدق عليه اسم ما استثني منه فكان استثناء من غير الجنس وهو باطل بما تقدم وإنما سبق ذلك لبيان اشتراط الطهور في الصلاة والولي في النكاح والمساواة في صحة بيع البر بالبر والشرط وإن لزم من فواته فوات المشروط فلا يلزم من وجوده وجود المشروط لجواز انتفاء المقتضي أو فوات شرط آخر أو وجود مانع والله أعلم.
النوع الثاني التخصيص بالشرط والنظر في حده وأقسامه وصيغ الشرط اللغوي وأحكامه أما حده قال الغزالي: هو ما لا يوجد المشروط دونه ولا يلزم أن يوجد عند وجوده وهو فاسد من وجهين: الأول أن فيه تعريف الشرط بالمشروط والمشروط مشتق من الشرط فكان أخفى من الشرط وتعريف الشيء بما هو أخفى منه ممتنع.
الثاني: أنه يلزم عليه جزء السبب إذا اتحد فإنه لا يوجد الحكم دونه ولا يلزم من وجود الحكم عند وجوده وليس بشرط.
وقال بعض أصحابنا: الشرط هو الذي يتوقف عليه تأثير المؤثر في تأثيره لا في ذاته وهو فاسد أيضاً فإن الحياة القديمة شرط في وجود علم الباري تعالى وكونه عالماً ولا تأثير ولا مؤثر.
والحق في ذلك أن يقال: الشرط هو ما يلزم من نفيه نفي أمر ما على وجه لا يكون سبباً لوجوده ولا داخلاً في السبب.
ويدخل في هذا الحد شرط الحكم وهو ظاهر وشرط السبب من حيث إنه يلزم من نفي شرط السبب انتفاء السبب وليس هو سبب السبب ولا جزؤه وفيه احتراز عن انتفاء الحكم لانتفاء مداركه وعن انتفاء المدرك المعين وجزئه وهو منقسم إلى شرط عقلي كالحياة للعلم والإرادة وإلى شرعي كالطهارة للصلاة والإحصان للرجم وإلى لغوي وصيغه كثيرة وهي: إن الخفيفة وإذا ومن ومهما وحيثما وأينما وإذ ما.
وأم هذه الصيغ إن الشرطية لأنها حرف وما عداها من أدوات الشرط أسماء والأصل في إفادة المعاني للأسماء إنما هو الحروف ولأنها تستعمل في جميع صور الشرط بخلاف أخواتها فإن كل واحدة منها تختص بمعنى لا تجري في غيره: فمن لمن يعقل وما لما لا يعقل وإذا لما لا بد من وقوعه كقولك: إذا احمر البسر فأتنا ونحو ذلك.
وأما أحكامه فمنها أنه يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فيه وذلك ضربان:(1/230)
الأول: أن يخرج منه ما علمنا خروجه بدليل آخر كقوله: أكرم بني تميم إن دخلوا الدار فإنه يخرج من الكلام حالة عدم الاستطاعة وإن كان ذلك معلوما دون قوله فيكون قوله مؤكداً.
الثاني: أنه يخرج منه ما لا يعلم خروجه دونه كقوله: أكرم بني تميم إن دخلوا الدار فإنه يخرج منه حالة عدم دخول الدار ولولا الشرط لعم الإكرام جميع الأحوال ولم يكن العلم بعدم الإكرام حالة عدم دخول الدار حاصلاً لنا فكان مخصصاً للعموم.
وعلى كل تقدير لا يخلو إما أن يتحد الشرط والمشروط أو يتعدد المشروط أو بالعكس أو يتعددان معاً فإن اتحد الشرط والمشروط فمثاله ما سبق.
وأما إن اتحد الشرط وتعدد المشروط فإما أن تكون المشروطات على الجمع أو على البدل: فإن كانت على الجمع كقوله: إن دخل زيد الدار فأعطه ديناراً ودرهماً وإن كانت على البدل كقوله إن دخل زيد الدار فأعطه ديناراً أو درهماً فالحكم كما لو اتحد المشروط.
وأما إن تعدد الشرط واتحد المشروط فإما أن تكون الشروط على الجمع أو البدل: فإن كان الأول فكقوله: أكرم بني تميم أبداً إن دخلوا الدار والسوق فمقتضى ذلك توقف الإكرام على اجتماع الشرطين واختلاله باختلال أحدهما وإن كان على البدل كقوله: أكرم بني تميم إن دخلوا السوق أو الدار فمقتضى ذلك توقف الإكرام على تحقق أحد الشرطين واختلاله عند اختلالهما جميعاً.
وأما إن تعدد الشرط والمشروط فإما أن يكون الشرط والمشروط على الجمع أو البدل أو الشرط على الجمع والمشروطات على البدل أو بالعكس: فإن كان القسم الأول كقوله: إن دخل زيد الدار والسوق فأعطه درهماً وديناراً فالإعطاء متوقف على اجتماع الشرطين ومختل باختلالهما أو باختلال أحدهما وإن كان القسم الثاني فكقوله: إن دخل زيد الدار أو السوق فأعطه درهماً أو ديناراً فإعطاء أحد الأمرين متوقف على تحقق أحد الشرطين واختلاله باختلال مجموع الأمرين.
وإن كان القسم الثالث كقوله: إن دخل زيد الدار والسوق فأعطه درهماً أو ديناراً فإعطاء أحد الأمرين متوقف على اجتماع الشرطين واختلاله باختلال أحدهما.
وإن كان الرابع كقوله: إن دخل زيد الدار أو السوق فأعطه درهماً وديناراً فإعطاء الأمرين متوقف على أحد الشرطين ومختل باختلالهما معاً وسواء كان حصول الشرط دفعة أو لا دفعة بل شيئاً فشيئاً.
ومن أحكامه أنه لا بد من اتصاله بالمشروط لما تقدم في الاستثناء وأنه يجوز تقديمه على المشروط وتأخيره وإن كان الوضع الطبيعي له إنما هو صدر الكلام والتقدم على المشروط لفظاً لكونه متقدماً عليه في الوجود طبعاً ولو تعقب الشرط للجمل المتعاقبة فقد اتفق الشافعي وأبو حنيفة على عوده إلى جميعها خلافاً لبعض النحاة في اعتقاده اختصاصه بالجملة التي تليه كانت متقدمة أو متأخرة والكلام في الطرفين فعلى ما سبق في الاستثناء والمختار كالمختار ولا يخفى وجهه.
النوع الثالث تخصيص العام بالصفة وهي لا تخلو إما أن تكون مذكورة عقب جملة واحدة أو جمل: فإن كان الأول كقوله أكرم بني تميم الطوال فإنه يقتضي اختصاص الإكرام بالطوال منهم ولولا ذلك لعم الطوال والقصار فكانت الصفة مخرجة لبعض ما كان داخلاً تحت اللفظ لولا الصفة.
وإن كان الثاني كقوله أكرم بني تميم وبني ربيعة الطوال فالكلام في عود الصفة إلى ما يليها أو إلى الجميع كالكلام في الاستثناء.
النوع الرابع التخصيص بالغاية وصيغها إلى وحتى ولا بد وأن يكون حكم ما بعدها مخالفاً لما قبلها وإلا كانت الغاية وسطاً وخرجت عن كونها غاية ولزم من ذلك إلغاء دلالة إلى وحتى وهي لا تخلو أيضاً إما أن تكون مذكورة عقب جملة واحدة أو جمل متعددة فإن كان الأول فإما أن تكون الغاية واحدة أو متعددة.
فإن كانت واحدة كقوله: أكرم بني تميم أبداً إلى أن يدخلوا الدار فإن دخول الدار يقتضي اختصاص الإكرام بما قبل الدخول وإخراج ما بعد الدخول عن عموم اللفظ ولولا ذلك لعم الإكرام حالة ما بعد الدخول.(1/231)
وإن كانت متعددة فلا يخلو إما أن تكون على الجمع أو على البدل: فالأول كقوله أكرم بني تميم أبداً إلى أن يدخلوا الدار ويأكلوا الطعام فمقتضى ذلك استمرار الإكرام إلى تمام الغايتين دون ما بعدهما والثاني كقوله أكرم بني تميم إلى أن يدخلوا الدار أو السوق فمقتضى ذلك استمرار الإكرام إلى انتهاء إحدى الغايتين أيهما كانت دون ما بعدها.
وأما إن كانت الغاية مذكورة عقب جمل متعددة فالكلام في اختصاصها بما يليها وفي عودها إلى جميع الجمل كالكلام في الاستثناء وسواء كانت الغاية واحدة أو متعددة على الجمع أو البدل ولا تخفى أمثلتها ووجه الكلام فيها وسواء كانت الغاية معلومة الوقوع في وقتها كقوله إلى أن تطلع الشمس أو غير معلومة الوقت كقوله إلى دخول الدار.
القسم الثاني في التخصيص بالأدلة المنفصلة وفيه أربع عشرة مسألة.
المسألة الأولى مذهب الجمهور من العلماء جواز تخصيص العموم بالدليل العقلي خلافاً لطائفة شاذة من المتكلمين.
ودليل ذلك أن قوله تعالى: " الله خالق كل شيء " " الزمر 62 " وقوله: " وهو على كل شيء قدير " " هود 4 " متناول بعموم لفظه لغة كل شيء مع أن ذاته وصفاته أشياء حقيقة وليس خالقاً لها ولا هي مقدورة له لاستحالة خلق القديم الواجب لذاته واستحالة كونه مقدوراً بضرورة العقل فقد خرجت ذاته وصفاته بدلالة ضرورة العقل عن عموم اللفظ وذلك مما لا خلاف فيه بين العقلاء ولا نعني بالتخصيص سوى ذلك فمن خالف في كون دليل العقل مخصصاً مع ذلك فهو موافق على معنى التخصيص ومخالف في التسمية وكذلك قوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " " آل عمران 97 " فإن الصبي والمجنون من الناس حقيقة وهما غير مزادين من العموم بدلالة نظر العقل على امتناع تكليف من لا يفهم ولا معنى للتخصيص سوى ذلك.
فإن قيل نحن لا ننكر أن ذات الباري تعالى وصفاته وأن الصبي والمجنون مما لم يرد باللفظ وإنما ننكر كون دليل العقل مخصصاً لثلاثة أوجه.
الأول: أن التخصيص إخراج بعض ما تناوله اللفظ عنه وهو غير متصور فيما ذكرتموه وبيانه أن دلالات الألفاظ على المعاني ليست لذواتها وإلا كانت دالة عليها قبل المواضعة وإنما دلالتها تابعة لمقصد المتكلم وإرادته ونحن نعلم بالضرورة أن المتكلم لا يريد بلفظه الدلالة على ما هو مخالف لصريح العقل فلا يكون لفظه دالاً عليه لغة ومع عدم الدلالة اللغوية على الصورة المخرجة لا يكون تخصيصاً.
الثاني: أن التخصيص بيان والمخصص مبين والبيان إنما يكون بعد سابقة الإشكال فيجب أن يكون البيان متأخراً عن المبين ودليل العقل سابق فلا يكون مبيناً ولا مخصصاً كالاستثناء المقدم.
الثالث: أن التخصيص بيان فلا يجوز بالعقل كالنسخ ثم وإن سلمنا دلالة اللفظ لغة على ما ذكرتموه وجواز كون المخصص متقدماً ولكن ما المانع أن تكون صحة الاحتجاج بالدليل العقلي مشروطة بعدم معارضة عموم الكتاب له وبتقدير الاشتراط بذلك لا يكون حجة في التمسك به على الكتاب وإن سلمنا صحة التخصيص في الآيتين المذكورتين أولاً ولكن لا نسلم صحة تخصيص الصبي والمجنون عن عموم آية الحج فإن ما ذكرتموه مبني على امتناع خطابهما وكيف يمكن دعوى ذلك مع دخولهما تحت الخطاب بأروش الجنايات وقيم المتلفات وإجماع الفقهاء على صحة صلاة الصبي واختلافهم في صحة إسلامه ولولا إمكان دخوله تحت الخطاب لما كان كذلك.
والجواب عن الأول: قولهم إن دلالات الألفاظ ليست لذواتها مسلم وأنه لا بد في دلالتها من قصد الواضع لها دالة على المعنى.
قولهم: العاقل لا يقصد بلفظة الدلالة على ما هو ممتنع بصريح العقل قلنا: ذلك ممتنع بالنظر إلى ما وضع اللفظ عليه لغة أو بالنظر إلى إرادته من اللفظ؟ الأول ممنوع والثاني مسلم وعند ذلك فلا منافاة بين كون اللفظ دالاً على المعنى لغة وبين كونه غير مراد من اللفظ.(1/232)
قولهم إن حق المخصص أن يكون متأخراً عما خصصه قلنا: يجب أن يكون متأخراً بالنظر إلى ذاته أو بالنظر إلى صفته وهو كونه مبيناً ومخصصاً الأول ممنوع والثاني مسلم وذلك لأن دليل العقل وإن كان متقدماً في ذاته على الخطاب المفروض غير أنه لا يوصف قبل ذلك بكونه مخصصاً لما يوجد وإنما يصير مخصصاً ومبيناً بعد وجود الخطاب وأما الاستثناء فإنما لم يجز تقديمه لأن المتكلم به لا يعد متكلماً بكلام أهل اللغة كما إذا قال إلا زيداً ثم قال بعد ذلك قام القوم وهذا بخلاف التخصيص فإنه إذا قال: " الله خالق كل شيء " وقام الدليل العقلي على أنه لم يرد بكلامه ذات الباري تعالى فإنه لا يخرج بذلك الكلام عن كونه متكلماً بكلام العرب.
وأما امتناع النسخ بالعقل فإنما كان من جهة أن الناسخ معرف لبيان مدة الحكم المقصودة في نظر الشارع وذلك ما لا سبيل إلى الاطلاع عليه بمجرد العقل بخلاف معرفة استحالة كون ذات الرب تعالى مخلوقة مقدورة.
قولهم: ما المانع أن يكون التمسك بدليل العقل مشروطاً بعدم معارضة الكتاب له قلنا: إذا وقع التعارض بينهما وأحدهما مقتض للإثبات والآخر للنفي فلا سبيل إلى الجمع بين موجبيهما لما فيه من التناقض ولا إلى نفيهما لما فيه من وجود واسطة بين النفي والإثبات فلم يبق إلا العمل بأحدهما والعمل بعموم اللفظ مما يبطل دلالة صريح العقل بالكلية وهو محال والعمل بدليل العقل لا يبطل عموم الكتاب بالكلية بل غايته إخراج بعض ما تناوله اللفظ من جهة اللغة عن كونه مراداً للمتكلم وهو غير ممتنع فكان العمل بدليل العقل متعيناً.
قولهم: إن الصبي والمجنون داخلان تحت الخطاب بأروش الجنايات وقيم المتلفات ليس كذلك فإنا إن نظرنا إلى تعلق الحق بمالهما فهو ثابت بخطاب الوضع والأخبار وهو غير متعلق بالصبي والمجنون وإن نظرنا إلى وجوب الأداء الثابت بخطاب التكليف فهو متعلق بفعل وليهما لا بفعلهما.
وأما صحة صلاة الصبي واختلاف الناس في صحة إسلامه فلا يدل ذلك على كونه داخلاً تحت خطاب التكليف بالصلاة والإسلام.
أما صحة الصلاة فمعناها انعقادها سبباً لثوابه وسقوط الخطاب عنه بها إذا صلى في أول الوقت وبلغ في آخره لا بمعنى أنه امتثل أمر الشارع حتى يكون داخلاً تحت خطاب التكليف من الشارع بل إن كان ولا بد فهو داخل تحت خطاب الولي لفهمه بخطابه دون خطاب الشرع وعلى هذا يكون الجواب عن صحة إسلامه عند من يقول بذلك وبتقدير امتناع تخصيص الصبي بدليل العقل مع تسليم جواز التخصيص به في الجملة كما تقدم بيانه فغير مضر ولا قادح فإنه ليس المقصود تحقيق ذلك في آحاد الصور.
وكما أن دليل العقل قد يكون مخصصاً للعموم فكذلك دليل الحس وذلك كما في قوله تعالى: " تدمر كل شيء " " الأحقاف 25 " مع خروج السماوات والأرض عن ذلك حساً وكذلك قوله تعالى: " ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم " " الذاريات 42 " وقد أتت على الأرض والجبال ولم تجعلها رميماً بدلالة الحس فكان الحس هو الدال على أن ما خرج عن عموم اللفظ لم يكن مراداً للمتكلم فكان مخصصاً.
المسألة الثانية اتفق العلماء على جواز تخصيص الكتاب بالكتاب خلافاً لبعض الطوائف ودليله المنقول والمعقول.
وأما المنقول فهو أن قوله: " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " " الطلاق 4 " ورد مخصصاً لقوله تعالى: " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً " " البقرة 234 " وقوله تعالى: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " " المائدة 5 " ورد مخصصاً لقوله تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " " البقرة 221 " والوقوع دليل الجواز.
وأما المعقول فهو أنه إذا اجتمع نصان من الكتاب أحدهما عام والآخر خاص وتعذر الجمع بين حكميهما فإما أن يعمل بالعام أو الخاص: فإن عمل بالعام لزم منه إبطال الدليل الخاص مطلقاً ولو عمل بالخاص لا يلزم منه إبطال العام مطلقاً لإمكان العمل به فيما خرج عنه كما سبق فكان العمل بالخاص أولى ولأن الخاص أقوى في دلالته وأغلب على الظن لبعده عن احتمال التخصيص بخلاف العام فكان أولى بالعمل.
وعند ذلك فإما أن يكون الدليل الخاص المعمول به ناسخاً لحكم العام في الصورة الخارجة عنه أو مخصصاً له والتخصيص أولى من النسخ لثلاثة أوجه:(1/233)
الأول: أن النسخ يستدعي ثبوت أصل الحكم في الصورة الخاصة ورفعه بعد ثبوته والتخصيص ليس فيه سوى دلالته على عدم إرادة المتكلم للصور المفروضة بلفظة العام فكان ما يتوقف عليه النسخ أكثر مما يتوقف عليه التخصيص فكان التخصيص أولى.
الثاني: أن النسخ رفع بعد الإثبات والتخصيص منع من الإثبات والدفع أسهل من الرفع.
الثالث: أن وقوع التخصيص في الشرع أغلب من النسخ فكان الحمل على التخصيص أولى إدراجاً له تحت الأغلب وسواء جهل التاريخ أو علم وسواء كان الخاص متقدماً أو متأخراً.
فإن قيل: لو كان الكتاب مبيناً للكتاب لخرج النبي صلى الله عليه وسلم عن كونه مبيناً للكتاب وهو خلاف قوله تعالى: " لتبين للناس ما نزل إليهم " " النحل 44 " وهو ممتنع.
قلنا: إضافة البيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه ما يمنع من كونه مبيناً للكتاب بالكتاب إذ الكل وارد على لسانه فذكره الآية المخصصة يكون بياناً منه ويجب حمل وصفه بكونه مبيناً على أن البيان وارد على لسانه كان الوارد على لسانه الكتاب أو السنة لما فيه من موافقة عموم قوله تعالى: " ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء " فإن مقتضاه أن يكون الكتاب مبيناً لكل ما هو من الكتاب لكونه شيئاً غير أنا خالفناه في البعض فيجب بالبعض الآخر تقليلاً لمخالفة الدليل العام.
فإن قيل: ما ذكرتموه وإن صح فيما إذا كان الخاص متأخراً ولا يصح فيما إذا جهل التاريخ وذلك لأنه يحتمل أن يكون الخاص مقدماً فيكون العام بعده ناسخاً له ويحتمل أن يكون العام متقدماً فيكون الخاص مخصصاً له ولم يترجح أحدهما على الآخر فوجب التعارض والتساقط والرجوع إلى دليل آخر كما ذهب إليه أبو حنيفة والقاضي أبو بكر والإمام أبو المعالي.
وإن سلمنا كون الخاص مخصصاً مع الجهل بالتاريخ فلا يصح فيما إذا كان العام متأخراً عن الخاص فإنه يتعين أن يكون ناسخاً لمدلول الخاص لا أن يكون الخاص مخصصاً للعام على ما ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة وبعض المعتزلة وبيانه من أربعة أوجه: الأول: أنه إذا قال: اقتلوا المشركين فهو جار مجرى قوله اقتلوا زيداً المشرك وعمراً المشرك وخالداً وهلم جرا فإذا الخاص كقوله اقتلوا زيداً المشرك إذا ورد العام بعده بنفي القتل عن الجميع فهو ناص على زيد ولو قال اقتلوا زيداً لا تقتلوا زيداً كان نسخاً.
الثاني: أن الخاص المتقدم يمكن نسخه والعام الوارد بعده مما يمكن أن يكون ناسخاً فكان ناسخاً.
الثالث: هو أن الخاص المتقدم متردد بين كونه منسوخاً ومخصصاً لما بعده وذلك مما يمنع من كونه مخصصاً لأن البيان لا يكون ملتبساً.
الرابع: قول ابن عباس كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث والعام المتأخر أحدث فوجب الأخذ به.
قلنا: أما الجواب عن التعارض عند الجهل بالتاريخ فيما ذكرناه من الأدلة السابقة على الترجيح.
وأما الجواب عن حجج أصحاب أبي حنيفة: أما عن الأول فيمتنع كون العام في تناوله لما تحته من الأشخاص جار مجرى الألفاظ الخاصة إذ الألفاظ الخاصة بكل واحد واحد غير قابلة للتخصيص بخلاف اللفظ العام.
وعن الثاني: أنه لا يلزم من إمكان نسخه للخاص الوقوع ولو لزم من الإمكان الوقوع للزم أن يكون الخاص مخصصاً للعام لإمكان كونه مخصصاً له ويلزم من ذلك أن يكون الخاص منسوخاً ومخصصاً لناسخه وهو محال.
وعن الثالث: أنهم إن أرادوا بتردد الخاص بين كونه منسوخاً ومخصصاً أن احتمال التخصيص مساو لاحتمال النسخ فهو ممنوع لما تقدم وإن أرادوا بذلك تطرق الاحتمالين إليه في الجملة فذلك لا يمنع من كونه مخصصاً ولو منع ذلك من كونه مخصصاً لمنع تطرق احتمال كون العام مخصصاً بالخاص إليه من كونه ناسخاً.
وعن الرابع: أنه قول واحد من الصحابة فيجب حمله على ما إذا كان الأحدث هو الخاص جمعاً بين الأدلة.
المسألة الثالثة تخصيص السنة بالسنة جائز عند الأكثرين ودليله المعقول والمنقول أما المعقول فما ذكرناه في تخصيص الكتاب بالكتاب.(1/234)
وأما المنقول فهو أن قوله صلى الله عليه وسلم: " لا زكاة فيما دون خمسة أوسق " ورد مخصصاً لعموم قوله صلى الله عليه وسلم " فيما سقت السماء العشر " فإنه عام في النصاب وما دونه وقوله تعالى: " لتبين للناس ما نزل إليهم " " النحل 44 " مما لا يمنع من كونه مبيناً لما ورد على لسانه من السنة بسنة أخرى كما ذكرناه في تخصيص الكتاب بالكتاب.
المسألة الرابعة يجوز تخصيص عموم السنة بخصوص القرآن عندنا وعند أكثر الفقهاء والمتكلمين ومنهم من منع من ذلك ودليله العقل والنقل.
أما النقل فقوله تعالى: " وأنزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء " " النحل 89 " وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأشياء فكانت داخلة تحت العموم إلا انه قد خص في البعض فيلزم العمل به في الباقي وأما المعقول فما ذكرناه في تخصيص الكتاب بالكتاب.
فإن قيل: الآية معارضة بقوله تعالى: " لتبين للناس ما نزل إليهم " " النحل 44 " ووجه الاحتجاج به أنه جعل النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً للكتاب المنزل وذلك إنما يكون بسنته فلو كان الكتاب مبيناً للسنة لكان المبين بالسنة مبيناً لها وهو ممتنع وأيضاً فإن المبين أصل والبيان تبع له ومقصود من أجله فلو كان القرآن مبينا للسنة لكانت السنة أصلاً والقرآن تبعاً وهو محال.
وجواب الآية أنه لا يلزم من وصف النبي صلى الله عليه وسلم بكونه مبيناً لما أنزل امتناع كونه مبيناً للسنة بما يرد على لسانه من القرآن إذ السنة أيضاً منزلة على ما قال تعالى: " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " " النجم 3 " غير أن الوحي منه ما يتلى فيسمى كتاباً ومنه ما لا يتلى فيسمى سنة وبيان أحد المنزلين بالآخر غير ممتنع.
وما ذكروه من المعنى فغير صحيح فإن القرآن لا بد وأن يكون مبيناً لشيء ضرورة قوله تعالى: " تبياناً لكل شيء " " النحل 89 " وأي شيء قدر كون القرآن مبيناً له فليس القرآن تبعاً له ولا ذلك الشيء متبوعاً وأيضاً فإن الدليل القطعي قد يبين به مراد الدليل الظني وليس منحطاً عن رتبة الظني.
المسألة الخامسة يجوز تخصيص عموم القرآن بالسنة أما إذا كانت السنة متواترة فلم أعرف فيه خلافاً ويدل على جواز ذلك ما مر من الدليل العقلي.
وأما إذا كانت السنة من أخبار الآحاد فمذهب الأئمة الأربعة جوازه ومن الناس من منع ذلك مطلقاً ومنهم من فصل وهؤلاء اختلفوا فذهب عيسى بن أبان إلى أنه إن كان قد خص بدليل مقطوع به جاز تخصيصه بخبر الواحد وإلا فلا وذهب الكرخي إلى أنه إن كان قد خص بدليل منفصل لا متصل جاز تخصيصه بخبر الواحد وإلا فلا وذهب القاضي أبو بكر إلى الوقف والمختار مذهب الأئمة ودليله العقل والنقل.
أما النقل فهو أن الصحابة خصوا قوله تعالى: " وأحل لكم ما وراء ذلكم " " النساء 24 " بما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: " لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها " وخصوا قوله تعالى: " يوصيكم الله في أولادكم " " النساء 11 " الآية بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يرث القاتل ولا يرث الكافر من المسلم ولا المسلم من الكافر " وبما رواه أبو بكر من قوله صلى الله عليه وسلم: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " وخصوا قوله تعالى: " فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك " " النساء 11 " بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل للجدة السدس وخصوا قوله تعالى: " وأحل الله البيع " " البقرة 275 " بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الدرهم بالدرهمين وخصوا قوله تعالى: " والسارق والسارقة " " المائدة 38 " وأخرجوا منه ما دون النصاب بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً " وخصوا قوله تعالى: " اقتلوا المشركين " " التوبة 5 " بإخراج المجوس منه بما روي عنه عليه السلام أنه قال " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " إلى غير ذلك من الصور المتعددة ولم يوجد لما فعلوه نكير فكان ذلك إجماعاً والوقوع دليل الجواز وزيادة وأما المعقول فما ذكرناه فيما تقدم في تخصيص الكتاب بالكتاب.
فإن قيل: ما ذكرتموه من التخصيص في الصور المذكورة لا نسلم أن تخصيصها كان بخبر الواحد ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم " إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فاقبلوه وما خالفه فردوه " والخبر فيما نحن فيه مخالف للكتاب فكان مردوداً.(1/235)
قولهم إن الصحابة أجمعوا على ذلك إن لم يصح فليس بحجة وإن صح فالتخصيص بإجماعهم عليه لا بخبر الواحد كيف وأنه لا إجماع على ذلك ويدل عليه ما روي عن عمر بن الخطاب أنه كذب فاطمة بنت قيس فيما روته عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة لما كان ذلك مخصصاً لعموم قوله تعالى: " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم " " الطلاق 6 " وقال: كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة.
وإن سلمنا الإجماع على أن التخصيص كان بخبر الواحد لكن ليس في ذلك ما يدل على أن قول الواحد بمجرده مخصص بل ربما قامت الحجة عندهم على صدقه وصحة قوله بقرائن وأدلة اقترنت بقوله فلا يكون مجرد إخباره حجة.
وأما ما ذكرتموه من المعقول فنقول: خبر الواحد وإن كان نصاً في مدلوله نظراً إلى متنه غير أن سنده مظنون محتمل للكذب بخلاف القرآن المتواتر فإنه قطعي السند وقطعي في دلالته على كل واحد من الآحاد الداخلة فيه لما بيناه في المسألة المتقدمة ولا يكون خبر الواحد واقعاً في معارضته كما في النسخ.
وإن سلمنا أن العموم ظني الدلالة بالنسبة إلى آحاده لكن متى إذا خص بدليل مقطوع على ما قاله عيسى بن إبان أو بدليل منفصل على ما قاله الكرخي أو قبل التخصيص الأول مسلم لكونه صار مجازاً ظنياً والثاني ممنوع لبقائه على حقيقته وعند ذلك فيمتنع التخصيص بخبر الواحد مطلقاً لترجيح العام عليه قبل التخصيص بكونه قاطعاً في متنه وسنده.
وإن سلمنا أن دلالة العام بالنظر إلى متنه ظنية مطلقاً غير أنه قطعي السند والخبر وإن كان قاطعاً في متنه فظني في سنده فقد تقابلا وتعارضا ووجب التوقف على دليل خارج لعدم أولوية أحدهما كما قال القاضي أبو بكر.
والجواب: قد بينا أن الصحابة أجمعوا على تخصيص العمومات بأخبار الآحاد حيث إنهم أضافوا التخصيص إليها من غير نكير فكان إجماعاً.
وما ذكروه من الخبر فإنما يمنع من تخصيص عموم القرآن بالخبر أن لو كان الخبر المخصص مخالفاً للقرآن وهو غير مسلم بل هو مبين للمراد منه فكان مقرراً لا مخالفاً ويجب اعتقاد ذلك حتى لا يفضي إلى تخصيص ما ذكروه من الخبر بالخبر المتواتر من السنة فإنه مخصص للقرآن من غير خلاف.
قولهم إن صح إجماع الصحابة فالتخصيص بإجماعهم لا بالخبر ليس كذلك فإن إجماعهم لم يكن على تخصيص تلك العمومات مطلقاً بل على تخصيصها بأخبار الآحاد ومهما كان التخصيص بأخبار الآحاد مجمعاً عليه فهو المطلوب.
وأما ما ذكروه من تكذيب عمر لفاطمة بنت قيس فلم يكن ذلك لأن خبر الواحد في تخصيص العموم مردود عنده بل لتردده في صدقها ولهذا قال: كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت ولو كان خبر الواحد في ذلك مردوداً مطلقاً لما احتاج إلى هذا التعليل.
قولهم: لم يكن إجماعهم على ذلك لمجرد خبر الواحد قلنا: ونحن لا نقول بأن مجرد خبر الواحد يكون مقبولاً بل إنما يقبل إذا كان مغلباً على الظن صدقه ومع ذلك فالأصل عدم اعتبار ما سواه في القول.
قولهم إن سند الخبر ظني مسلم ولكن لا نسلم أن دلالة العموم على الآحاد الداخلة فيه قطعية لاحتماله للتخصيص بالنسبة إلى أي واحد منها قدر وسواء كان قد خص أو لم يكن على ما سبق بيانه.
وأما النسخ فلا نسلم امتناعه بخبر الواحد وبتقدير التسليم فلأن النسخ رفع للحكم بعد إثباته بخلاف التخصيص لأنه بيان لا رفع فلا يلزم مع ذلك من امتناع النسخ به امتناع التخصيص.
وما ذكروه من السؤال الأخير في جهة التعارض فجوابه أن احتمال الضعف في خبر الواحد من جهة كذبه وفي العام من جهة جواز تخصيصه ولا يخفى أن احتمال الكذب في حق من ظهرت عدالته أبعد من احتمال التخصيص العام ولهذا كانت أكثر العمومات مخصصة وليس أكثر أخبار العدول كاذبة فكان العمل بالخبر أولى ولأنه لو عمل بعموم العام لزم إبطال العمل بالخبر مطلقاً ولو عمل بالخبر لم يلزم منه إبطال العمل بالعام مطلقاً لإمكان العمل به فيما سوى صورة التخصيص والجمع بين الدليلين ولو من وجه أولى من تعطيل أحدهما ولأن العمل بالعام إبطال للخاص والعمل بالخاص بيان للعام لا إبطال له ولا يخفى أن البيان أولى من الإبطال.
المسألة السادسة(1/236)
لا أعرف خلافاً في تخصيص القرآن والسنة بالإجماع ودليله المنقول والمعقول: أما المنقول فهو أن إجماع الأمة خصص آية القذف بتنصيف الجلد في حق العبد كالأمة.
وأما المعقول فهو أن الإجماع دليل قاطع والعام غير قاطع في آحاد مسمياته كما سبق تعريفه فإذا رأينا أهل الإجماع قاضين بما يخالف العموم في بعض الصور علمنا أنهم ما قضوا به إلا وقد اطلعوا على دليل مخصص له نفيا للخطأ عنهم وعلى هذا فمعنى إطلاقنا أن الإجماع مخصص للنص أنه معرف للدليل المخصص لا أنه في نفسه هو المخصص.
وبالنظر إلى هذا المعنى أيضاً نقول: إنا إذا رأينا عمل الصحابة وأهل الإجماع بما يخالف النص الخاص لا يكون ذلك إلا لاطلاعهم على ناسخ للنص فيكون الإجماع معرفاً للناسخ لا أنه ناسخ وإنما قلنا إن الإجماع نفسه لا يكون ناسخاً لأن النسخ لا يكون بغير خطاب الشارع والإجماع ليس خطاباً للشرع وإن كان دليلاً على الخطاب الناسخ.
المسألة السابعة لا نعرف خلافاً بين القائلين بالعموم والمفهوم أنه يجوز تخصيص العموم بالمفهوم وسواء كان من قبيل مفهوم الموافقة أو من قبيل مفهوم المخالفة حتى إنه لو قال السيد لعبده كل من دخل داري فاضربه ثم قال: إن دخل زيد داري فلا تقل له: أف فإن ذلك يدل على تحريم ضرب زيد وإخراجه عن العموم نظراً إلى مفهوم الموافقة وما سيق له الكلام من كف الأذى عن زيد وسواء قيل إن تحريم الضرب مستفاد من دلالة اللفظ أو من القياس الجلي على اختلاف المذاهب في ذلك كما يأتي وكذا لو ورد نص عام يدل على وجوب الزكاة في الأنعام كلها ثم ورد قوله صلى الله عليه وسلم " في الغنم السائمة زكاة " فإنه يكون مخصصاً للعموم بإخراج معلوفة الغنم عن وجوب الزكاة بمفهومه وإنما كان كذلك لأن كل واحد من المفهومين دليل شرعي وهو خاص في مورده فوجب أن يكون مخصصاً للعموم لترجح دلالة الخاص على دلالة العام كما سبق تقريره.
فإن قيل: المفهوم وإن كان خاصاً وأقوى في الدلالة من العموم إلا أن العام منطوق به والمنطوق أقوى في دلالته من المفهوم لافتقار المفهوم في دلالته إلى المنطوق وعدم افتقار المنطوق في دلالته إلى المفهوم.
قلنا: إلا أن العمل بالمفهوم لا يلزم منه إبطال العمل بالعموم مطلقاً ولا كذلك بالعكس ولا يخفى أن الجمع بين الدليلين ولو من وجه أولى من العمل بظاهر أحدهما وإبطال أصل الآخر.
المسألة الثامنة في تخصيص العموم بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقد اختلف القائلون بكون فعل الرسول حجة على غيره هل يجوز تخصيصه للعموم أم لا؟ فأثبته الأكثرون كالشافعية والحنفية والحنابلة ونفاه الأقلون كالكرخي.
وتحقيق الحق من ذلك يتوقف على التفصيل وهو أن نقول: العام الوارد إما أن يكون عاماً للأمة والرسول كما لو قال صلى الله عليه وسلم " الوصال أو استقبال القبلة في قضاء الحاجة أو كشف الفخذ حرام على كل مسلم " وإما أن يكون عاماً للأمة دون الرسول كما لو قال صلى الله عليه وسلم: " نهيتكم عن الوصال أو استقبال القبلة في قضاء الحاجة أو كشف الفخذ " فإن كان الأول فإذا رأيناه قد واصل أو استقبل القبلة في قضاء الحاجة أو كشف فخذه فلا خلاف في أن فعله يدل على إباحة ذلك الفعل في حقه ويكون مخرجاً له عن العموم ومخصصاً.
وأما بالنسبة إلى غيره فإما أن نقول بأن اتباعه في فعله والتأسي به واجب على كل من سواه أو لا نقول ذلك.
فإن قيل بالأول فيلزم منه رفع حكم العموم مطلقاً في حقه بفعله وفي حق غيره بوجوب التأسي به فلا يكون ذلك تخصيصاً بل نسخا لحكم العموم مطلقاً بالنسبة إليه وإلى غيره وإن قيل بالثاني كان ذلك تخصيصاً له عن العموم دون أمته.(1/237)
وأما إن كان عاماً للأمة دون الرسول ففعله لا يكون مخصصاً لنفسه عن العموم لعدم دخوله فيه وأما بالنسبة إلى الأمة فإن قيل أيضاً بوجوب اتباع الأمة له في فعله كان ذلك أيضاً نسخاً عنهم لا تخصيصا كما سبق وإن لم يكن ذلك واجباً عليهم فلا يكون فعله مخصصاً للعموم أصلا لا بالنسبة إليه لعدم دخوله في العموم ولا بالنسبة إلى الأمة وعلى هذا التفصيل فلا أرى للخلاف على هذا التخصيص بفعل النبي وجهاً: أما إذا كان هو المخصص عن العموم وحده فلعدم الخلاف فيه وأما في باقي الأقسام فلعدم تحقق التخصيص بل إن وقع الخلاف في باقي الأقسام هل فعله يكون ناسخاً لحكم العموم فيها فخارج عن الخوض في باب التخصيص والأظهر في ذلك إنما هو الوقف من جهة أن دليل وجوب التأسي واتباع النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو بدليل عام للأمة وهو مساو للعموم الآخر في عمومه وليس العمل بأحدهما وإبطال الآخر أولى من العكس.
فإن قيل: بل العمل بالفعل أولى لأنه خاص والخاص مقدم على العام قلنا: الفعل لم يكن دليلاً على لزوم الحكم في حق باقي الأمة بنفسه بل لأدلة عامة موجبة على الأمة لزوم الاتباع.
فإن قيل: إلا أن الفعل الخاص مع العمومات الموجبة للتأسي أخص من اللفظ العام مطلقاً ولأنه متأخر عن العام والمتأخر أولى بالعمل.
قلنا: أما الفعل فلا نسلم أن له دلالة على وجوب تأسي الأمة بالنبي بوجه من الوجوه بل الموجب شيء آخر وهو مساو للعام الآخر في عمومه وسواء كان الفعل خاصاً أو عاماً وذلك الموجب للتأسي غير متأخر عن العام بل محتمل للتقدم والتأخر من غير ترجيح حتى إنه لو علم التاريخ وجب العمل بالمتأخر منهما كيف وإن القول بوجوب التأسي متوقف على وجود الفعل وعلى الدليل الدال على التأسي ولا كذلك العام الآخر وما يتوقف العمل به على أمرين يكون أبعد مما لا يتوقف العمل به إلا على شيء واحد.
المسألة التاسعة تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لما يفعله الواحد من أمته بين يديه مخالفاً للعموم وعدم إنكاره عليه مع علمه به وعدم الغفلة والذهول عنه مخصص لذلك العام عند الأكثرين خلافاً لطائفة شاذة.
ودليل ذلك أن تقريره له عليه دليل على جواز ذلك الفعل له وإلا كان فعله منكراً ولو كان كذلك لاستحال من النبي صلى الله عليه وسلم السكوت عنه وعدم النكير عليه وإذا كان التقرير دليل الجواز وإن أمكن نسخ ذلك الحكم مطلقاً أو نسخه عن ذلك الواحد بعينه لكنه بعيد واحتمال تخصيصه من العموم أولى وأقرب لما قررناه فيما تقدم وعند ذلك فإن أمكن تعقل معنى أوجب جواز مخالفة ذلك الواحد للعموم فكل من كان مشاركاً له في ذلك المعنى فهو مشارك له في تخصيصه عن ذلك العام بالقياس عليه عند من يرى جواز تخصيص العام بالقياس على محل التخصيص وأما إن لم يظهر المعنى الجامع فلا.
فإن قيل: التقرير لا صيغة له فلا يقع في مقابلة ما له صيغة فلا يكون مخصصاً للعموم وبتقدير أن يكون مخصصاً فلا بد وأن يكون غير ذلك الواحد مشاركاً له في حكمه وإلا فلو لم يكن غير ذلك الواحد مشاركاً له في حكمه لصرح النبي صلى الله عليه وسلم بتخصيصه بذلك الحكم دون غيره دفعاً لمحذور التلبيس على الأمة باعتقادهم المشاركة لذلك الواحد في حكمه لقوله صلى الله عليه وسلم " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " .
قلنا: وإن كان التقرير لا صيغة له غير أنه حجة قاطعة في جواز الفعل نفياً للخطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف العام فإنه ظني محتمل للتخصيص فكان موجباً لتخصيصه وما ذكروه من وجوب المشاركة فبعيد وذلك لأن حكم ذلك الواحد لا يخلو: إما أن يكون له أو عليه فإن كان له فقوله: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة لا يكون مرتبطاً به وإن كان عليه فقوله حكمي على الواحد حكمي على الجماعة إنما يكون حجة موهمة لمشاركة الجماعة لذلك الواحد إن لو كان قوله حكمي عاماً في كل حكم وهو غير مسلم وإذا لم يكن ذلك حجة عامة فلا تدليس ولا تلبيس وبتقدير مشاركة الأمة لذلك الواحد في ذلك الحكم يكون نسخاً ولا يكون تخصيصاً كما ظن بعضهم.
المسألة العاشرة(1/238)
مذهب الشافعي في القول الجديد ومذهب أكثر الفقهاء والأصوليين أن مذهب الصحابي إذا كان على خلاف ظاهر العموم وسواء كان هو الراوي أو لم يكن لا يكون مخصصاً للعموم خلافاً لأصحاب أبي حنيفة والحنابلة وعيسى بن أبان وجماعة من الفقهاء.
ودليله أن ظاهر العموم حجة شرعية يجب العمل بها باتفاق القائلين بالعموم ومذهب الصحابي ليس بحجة على ما سنبينه فلا يجوز ترك العموم به.
فإن قيل: إذا خالف مذهب الصحابي العموم فلا يخلو إما أن يكون ذلك لدليل أو لا لدليل لا جائز أن يكون لا لدليل وإلا وجب تفسيقه والحكم بخروجه عن العدالة وهو خلاف الإجماع وإن كان ذلك لدليل وجب تخصيص العموم به جمعاً بين الدليلين إذ هو أولى من تعطيل أحدهما كما علم غير مرة.
قلنا: مخالفة الصحابي للعموم إنما كانت لدليل عن له في نطره وسواء كان في نفس الأمر مخطئاً فيه أو مصيباً فلذلك لم نقض بتفسيقه لكونه مأخوذاً باتباع اجتهاده وما أوجبه ظنه ومع ذلك فلا يكون ما عن له في نظره حجة متبعة بالنسبة إلى غيره بدليل جواز مخالفة صحابي آخر له من غير تفسيق ولا تبديع وإذا لم يكن ما صار إليه حجة واجبة الاتباع بالنسبة إلى الغير فلا يكون مخصصاً لظاهر العموم المتفق على صحة الاحتجاج به مطلقاً.
المسألة الحادية عشرة إذا كان من عادة المخاطبين تناول طعام خاص فورد خطاب عام بتحريم الطعام كقوله: حرمت عليكم الطعام فقد اتفق الجمهور من العلماء على إجراء اللفظ على عمومه في تحريم كل طعام على وجه يدخل فيه المعتاد وغيره وأن العادة لا تكون منزلة للعموم على تحريم المعتاد دون غيره خلافاً لأبي حنيفة وذلك لأن الحجة إنما هي في اللفظ الوارد وهو مستغرق لكل مطعوم بلفظه ولا ارتباط له بالعوائد وهو حاكم على العوائد فلا تكون العوائد حاكمة عليه.
فإن قيل: إذا منعتم من تجويز تخصيص العموم بالعادة وتنزيل لفظ الطعام على ما هو المعتاد المتعارف عند المخاطبين فما الفرق بينه وبين تخصيص اللفظ ببعض مسمياته في اللغة بالعادة وذلك كتخصيص اسم الدابة بذوات الأربع وإن كان لفظ الدابة عاماً في كل ما يدب وكتخصيص اسم الثمن في البيع بالنقد الغالب في البلد حتى إنه لا يفهم من إطلاق لفظ الدابة والثمن غير ذوات الأربع والنقد الغالب في البلد.
قلنا: الفرق بين الأمرين أن العادة في محل النزاع إنما هي مطردة في اعتياد أكل ذلك الطعام المخصوص لا في تخصيص اسم الطعام بذلك الطعام الخاص فلا يكون ذلك قاضياً على ما اقتضاه عموم لفظ الطعام مع بقائه على الوضع الأصلي وهذا بخلاف لفظ الدابة فإنه صار بعرف الاستعمال ظاهراً في ذوات الأربع وضعاً حتى إنه لا يفهم من إطلاق لفظ الدابة غير ذوات الأربع فكان قاضياً على الاستعمال الأصلي حتى إنه لو كانت العادة في الطعام المعتاد أكله قد خصصت بعرف الاستعمال اسم الطعام بذلك الطعام لكان لفظ الطعام منزلاً عليه دون غيره ضرورة تنزيل مخاطبة الشارع للعرب على ما هو المفهوم لهم من لغتهم وفيه دقة مع وضوحه.
المسألة الثانية عشرة اتفق الجمهور على أنه إذا ورد لفظ عام ولفظ خاص يدل على بعض ما يدل عليه العام لا يكون الخاص مخصصاً للعام بجنس مدلول الخاص ومخرجاً عنه ما سواه خلافاً لأبي ثور من أصحاب الشافعي وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم " أيما إهاب دبغ فقد طهر " فإنه عام في كل إهاب وقوله صلى الله عليه وسلم في شاة ميمونة " دباغها طهورها " وإنما لم يكن مخصصاً له لأنه لا تنافي بين العمل بالخاص وإجراء العام على عمومه ومع إمكان إجراء كل واحد على ظاهره لا حاجة إلى العمل بأحدهما ومخالفة الآخر.
فإن قيل: فقد اخترتم أن المفهوم يكون مخصصاً للعموم عند القائل به وتخصيص جلد الشاة بالذكر يدل بمفهومه على نفي الحكم عما سوى الشاة من جلود باقي الحيوانات فكان مخصصاً للعموم الوارد بتطهيرها.(1/239)
قلنا: أما من نفي كون المفهوم حجة وأبطل دلالته كما يأتي تحقيقه فلا أثر لإلزامه به هاهنا ومن قال بالمفهوم المخصص للعموم إنما قال به في مفهوم الموافقة ومفهوم الصفة المشتقة كما سبق في المسألة المتقدمة لا في مفهوم اللقب وتخصيص جلد الشاة بالذكر لا يدل على نفي الطهارة بالدباغ عن باقي جلود الحيوانات كالإبل والبقرة وغيرها إلا بطريق مفهوم اللقب وليس بحجة على ما يأتي تحقيقه ولهذا فإنه لو قال: عيسى رسول الله فإنه لا يدل على أن محمداً ليس برسول الله وكذلك إذا قال: الحادث موجود لا يدل على أن القديم ليس بموجود وإلا كان ذلك كفراً.
المسألة الثالثة عشرة اللفظ العام إذا عقب بما فيه ضمير عائد إلى بعض العام المتقدم لا إلى كله هل يكون خصوص المتأخر مخصصاً للعام المتقدم بما الضمير عائد إليه أو لا؟ اختلفوا فيه: فذهب بعض أصحابنا وبعض المعتزلة كالقاضي عبد الجبار وغيره إلى امتناع التخصيص بذلك ومنهم من جوزه ومنهم من توقف كإمام الحرمين وأبي الحسين البصري وذلك كما في قوله تعالى: " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قرؤ " " البقرة 228 " فإنه عام في كل الحرائر المطلقات بوائن كن أو رجعيات ثم قال: " وبعولتهن أحق بردهن " " البقرة 228 " فإن الضمير فيه إنما يرجع إلى الرجعيات دون البوائن وعلى هذا النحو.
والمختار بقاء اللفظ الأول على عمومه وامتناع تخصيصه بما تعقبه وذلك لأن مقتضى اللفظ إجراؤه على ظاهره من العموم ومقتضى اللفظ الثاني عود الضمير إلى جميع ما دل عليه اللفظ المتقدم إذ لا أولوية لاختصاص بعض المذكور السابق به دون البعض فإذا قام الدليل على تخصيص الضمير ببعض المذكور السابق وخولف ظاهره لم يلزم منه مخالفة الظاهر الأخير بل يجب إجراؤه على ظاهره إلى أن يقوم الدليل على تخصيصه.
فإن قيل: إنما يلزم مخالفة ظاهر ما اقتضاه الضمير من العود إلى كل المذكور السابق إذا أجرينا اللفظ السابق على عمومه وليس القول بإجرائه على عمومه ومخالفة ظاهر الضمير أولى من إجراء ظاهر الضمير على مقتضاه وتخصيص المذكور السابق وإذا لم يترجح أحدهما وجب الوقف.
قلنا: بل إجراء اللفظ المتقدم على عمومه وتخصيص المتأخر أولى من العكس لأن دلالة الأول ظاهرة ودلالة الثاني غير ظاهرة ولا يخفى أن دلالة المظهر أقوى من دلالة المضمر فكان راجحاً.
المسألة الرابعة عشرة القائلون بكون العموم والقياس حجة اختلفوا في جواز تخصيص العموم بالقياس: فذهب الأئمة الأربعة والأشعري وجماعة من المعتزلة كأبي هاشم وأبي الحسين البصري إلى جوازه مطلقاً وذهب الجبائي وجماعة من المعتزلة إلى تقديم العام على القياس وذهب ابن سريج وغيره من أصحاب الشافعي إلى جواز التخصيص بجلي القياس دون خفيه وذهب عيسى بن أبان والكرخي إلى جواز التخصيص بالقياس للعام المخصص دون غيره غير أن الكرخي اشترط أن يكون العام مخصصاً بدليل منفصل وأطلق عيسى بن أبان ومنهم من جوز التخصيص بالقياس إذا كان أصل القياس من الصور التي خصت عن العموم دون غيره وذهب القاضي أبو بكر وإمام الحرمين إلى الوقف.
والمختار أنه إذا كانت العلة الجامعة في القياس ثابتة بالتأثير أي بنص أو إجماع جاز تخصيص العموم به وإلا فلا.
أما إذا كانت العلة مؤثرة فلأنها نازلة منزلة النص الخاص فكانت مخصصة للعموم كتخصيصه بالنص كما سبق تعريفه.
وأما إذا كانت العلة مستنبطة غير مؤثرة فإنما قلنا بامتناع التخصيص بها للإجمال والتفصيل: أما الإجمال فهو أن العام في محل التخصيص: إما أن يكون راجحاً على القياس المخالف له أو مرجوحاً أو مساوياً فإن كان راجحاً امتنع تخصيصه بالمرجوح وإن كان مساوياً فليس العمل بأحدهما أولى من الآخر وإنما يمكن التخصيص بتقدير أن يكون القياس في محل المعارضة راجحاً ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد بعينه وأما التفصيل فهو أن العموم ظاهر في كل صورة من آحاد الصور الداخلة تحته وجهة ضعفه غير خارجة عن احتمال تخصيصه أو كذب الراوي إن كان العام من أخبار الآحاد.
وأما احتمالات ضعف القياس فكثيرة جداً وذلك لأنه وإن كان متناولاً لمحل المعارضة بخصوصه إلا أنه يحتمل أن يكون دليل حكم الأصل من أخبار الآحاد التي يتطرق إليها الكذب(1/240)
وبتقدير أن يكون طريق إثباته قطعياً فيحتمل أن يكون المستنبط القياس ليس أهلا له وبتقدير أن يكون أهلاً فيحتمل أن لا يكون الحكم في نفس الأمر معللا بعلة ظاهرة وبتقدير أن يكون معللاً بعلة ظاهرة فلعلها غير ما ظنه القائس علة ولم يظهر عليها أو أنه أخطأ في طريق إثبات العلة فأثبتها بما لا يصلح للإثبات وبتقدير أن تكون العلة ما ظنه فلعله ظن وجودها في الفرع ولا وجود لها فيه وبتقدير أن تكون موجودة فيه يحتمل أن يكون قد وجد في الفرع مانع السبب أو مانع الحكم أو فات شرط السبب فيه أو شرط الحكم فكان العموم لذلك راجحاً كيف وأن العموم من جنس النصوص والنص غير مفتقر في العمل به في جنسه إلى القياس والقياس متوقف في العمل به على النص لأنه إن ثبت كونه حجة بالنص فظاهر وإن كان بالإجماع فالإجماع متوقف على النص فكان القياس متوقفاً على النص فكان جنس النص لذلك راجحاً ولذلك وقع القياس مؤخراً في حديث معاذ في العمل به عن العمل بالكتاب والسنة حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قاضياً " بم تحكم؟ قال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي فقال صلى الله عليه وسلم: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله " ومقتضى ذلك أن لا تتقدم السنة على الكتاب غير أنا خالفناه في تقديم خاص السنة على عام الكتاب فوجب العمل به فيما عداه.
وهذه الاحتمالات كلها إن لم توجب الترجيح فلا أقل من المساواة وعلى كلا التقديرين فيمتنع تخصيص العام بالقياس.
فإن قيل: القول بالوقف خلاف الإجماع قبل وجود الواقفية إذ الأمة مجمعة على تقديم أحدهما وإن اختلفوا في التعيين ولأن القول بالوقف مما يفضي إلى تعطيل الدليلين عن العمل بهما والمحذور فيه فوق المحذور في العمل بأحدهما فالعمل بالقياس أولى لأنا لو عملنا بالعموم لزم منه إبطال العمل بالقياس مطلقاً ولو عملنا بالقياس لم يلزم منه إبطال العموم مطلقاً لإمكان العمل به فيما عدا صورة التخصيص ولا يخفى أن الجمع بين الدليلين ولو من وجه أولى من العمل بأحدهما وتعطيل الآخر.
قلنا: نحن لا نقول بالوقف لما بيناه من ترجيح العمل بالعموم على العمل بالقياس وبتقدير القول بالوقف لا نسلم إجماع الأمة على إبطاله بل غايته أن كل واحد رأى ترجيحاً فيما ذهب إليه وذلك لا يدل على إجماعهم على إبطال الوقف إلا أن يوجد منهم التصريح بذلك وهو غير مسلم ولهذا فإن كل واحد من المجتهدين لا يقطع بإبطال مذهب مخالفه مع مصيره إلى نفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه فلأن لا يكون قاطعاً بإبطاله عند توقفه في نفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه أولى.
قولهم إن العمل بالقياس غير مبطل للعمل بالعموم قلنا: في محل المعارضة أو في غيرها؟ الأول ممنوع والثاني مسلم والنزاع إنما وقع في الترجيح في محل المعارضة دون غيره.
وبالجملة فلا يمتنع على المجتهد في هذه المسألة الحكم بالوقف أو الترجيح على حسب ما يظهر في نظره في آحاد الوقائع من القرائن والترجيحات الموجبة للتفاوت أو التساوي من غير تخطئة إذ الأدلة فيها نفياً وإثباتاً ظنية غير قطعية فكانت ملحقة بالمسائل الاجتهادية دون القطعية خلافاً للقاضي أبي بكر ويجب أن نختم الكلام في أدلة التخصيص بالفرق بين التخصيص والاستثناء.
أما على رأي من يزعم أن الاستثناء والمستثنى منه كالكلمة الواحدة كما سبق فلا خفاء بأن الاستثناء لا يكون تخصيصاً بل هو مباين له وأما من يرى أن الاستثناء تخصيص فهو نوع من التخصيص عنده فكل استثناء تخصيص وليس كل تخصيص استثناء وذلك لأن الاستثناء لا بد وأن يكون متصلاً بالمستثنى منه على ما تقدم تقريره وأنه لا يثبت بقرائن الأحوال بخلاف غيره من أنواع التخصيص وعلى هذا يكون الحكم في التخصيص بذكر الشرط والغاية أيضاً.
/بسم الله الرحمن الرحيم الصنف السادس في المطلق والمقيد أما المطلق فعبارة عن النكرة في سياق الإثبات.
فقولنا نكرة احتراز عن أسماء المعارف وما مدلوله واحد معين أو عام مستغرق.(1/241)
وقولنا في سياق الإثبات احتراز عن النكرة في سياق النفي فإنها تعم جميع ما هو من جنسها وتخرج بذلك عن التنكير لدلالة اللفظ على الاستغراق وذلك كقولك في معرض الأمر اعتق رقبة أو مصدر الأمر كقوله: " فتحرير رقبة " المجادلة 3 أو الإخبار عن المستقبل كقوله سأعتق رقبة ولا يتصور الإطلاق في معرض الخبر المتعلق بالماضي كقوله رأيت رجلا ضرورة تعينه من إسناد الرؤية إليه.
وإن شئت قلت هو اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه فقولنا لفظ كالجنس للمطلق وغيره وقولنا دال احتراز عن الألفاظ المهملة وقولنا على مدلول ليعم الوجود والعدم وقولنا شائع في جنسه احتراز عن أسماء الأعلام وما مدلوله معين أو مستغرق.
وأما المقيد فإنه يطلق باعتبارين: الأول ما كان من الألفاظ الدالة على مدلول معين كزيد وعمرو وهذا الرجل ونحوه الثاني ما كان من الألفاظ دالاً على وصف مدلوله المطلق بصفة زائدة عليه كقولك دينار مصري ودرهم مكي وهذا النوع من المقيد وإن كان مطلقا في جنسه من حيث هو دينار مصري ودرهم مكي غير أنه مقيد بالنسبة إلى مطلق الدينار والدرهم فهو مطلق من وجه ومقيد من وجه.
وإذا عرف معنى المطلق والمقيد فكل ما ذكرناه في مخصصات العموم من المتفق عليه والمختلف فيه والمزيف والمختار فهو بعينه جار في تقييد المطلق فعليك باعتباره ونقله إلى هاهنا.
ونزيد مسألةً أخرى وهي أنه إذا ورد مطلق ومقيد فلا يخلو إما أن يختلف حكمهما أو لا يختلف: فإن اختلف حكمهما فلا خلاف في امتناع حمل أحدهما على الآخر وسواء كانا مأمورين أو منهيين أو أحدهما مأموراً والآخر منهياً وسواء اتحد سببهما أو اختلف لعدم المنافاة في الجمع بينهما إلا في صورة واحدة.
وهي ما إذا قال مثلاً في كفارة الظهار أعتقوا رقبة ثم قال لا تعتقوا رقبة كافرة فإنه لا خلاف في مثل هذه الصورة أن المقيد يوجب تقييد الرقبة المطلقة بالرقبة المسلمة وعليك باعتبار أمثلة هذه الأقسام فإنها سهلة.
وأما إن لم يختلف حكمهما فلا يخلو إما أن يتحد سببهما أو لا يتحد: فإن اتحد سببهما فإما أن يكون اللفظ دالاً على إثباتهما أو نفيهما فإن كان الأول كما لو قال في الظهار اعتقوا رقبة ثم قال اعتقوا رقبة مسلمة فلا نعرف خلافاً في حمل المطلق على المقيد هاهنا وإنما كان كذلك لأن من عمل بالمقيد فقد وفى بالعمل بدلالة المطلق ومن عمل بالمطلق لم يف بالعمل بدلالة المقيد فكان الجمع هو الواجب والأولى.
فإن قيل بطريقه الشبهة إذا كان حكم المطلق إمكان الخروج عن عهدته بما شاء المكلف من ذلك الجنس فالعمل بالمقيد مما ينافي مقتضى المطلق وليس مخالفة المطلق وإجراء المقيد على ظاهره أولى من تأويل المقيد بحمله على الندب وإجراء المطلق على إطلاقه.
قلنا: بل التقييد أولى من التأويل لثلاثة أوجه: الأول: أنه يلزم منه الخروج عن العهدة بيقين ولا كذلك في التأويل.
الثاني: أن المطلق إذا حمل على المقيد فالعمل به فيه لا يخرج عن كونه موفياً للعمل باللفظ المطلق في حقيقته ولهذا لو أداه قبل ورود التقييد كان قد عمل باللفظ في حقيقته ولا كذلك في تأويل المقيد وصرفه عن جهة حقيقته إلى مجازه.
الثالث: أن الخروج عن العهدة بفعل أي واحد كان من الآحاد الداخلة تحت اللفظ المطلق لم يكن اللفظ دالا عليه بوضعه لغة بخلاف ما دل عليه المقيد من صفة التقييد.
ولا يخفى أن المحذور في صرف اللفظ عما دل عليه اللفظ لغة أعظم من صرفه عما لم يدل عليه بلفظه لغةً.
وأما إن كان دالاً على نفيهما أو نهى عنهما كما لو قال مثلاً في كفارة الظهار لا تعتق مكاتباً كافراً فهذا أيضاً مما لا خلاف في العمل بمدلولهما والجمع بينهما في النفي إذ لا تعذر فيه.
وأما إن كان سببهما مختلفاً كقوله تعالى في كفارة الظهار: " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة " المجادلة 3 وقوله تعالى في القتل الخطأ: " ومن يقتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " فهذا مما اختلف فيه: فنقل عن الشافعي رضي الله عنه تنزيل المطلق على المقيد في هذه الصورة لكن اختلف الأصحاب في تأويله: فمنهم من حمله على التقييد مطلقاً من غير حاجة إلى دليل آخر ومنهم من حمله على ما إذا وجد بينهما علة جامعة مقتضية للإلحاق وهو الأظهر من مذهبه وأما أصحاب أبي حنيفة فإنهم منعوا من ذلك مطلقاً.(1/242)
ولنذكر حجة كل فريق ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
أما حجة من قال بالتقييد من غير دليل فهي أن كلام الله تعالى متحد في ذاته لا تعدد فيه فإذا نص على اشتراط الإيمان في كفارة القتل كان ذلك تنصيصاً على اشتراطه في كفارة الظهار ولهذا حمل قوله تعالى: " والذاكرات " الأحزاب 35 على قوله في أول الآية: " والذاكرين الله كثيراً " الأحزاب 35 من غير دليل خارج.
وهذا مما لا اتجاه له فإن كلام الله تعالى إما أن يراد به المعنى القائم بالنفس أو العبارات الدالة عليه.
والأول وإن كان واحداً لا تعدد فيه غير أن تعلقه بالمتعلقات مختلف باختلاف المتعلق ولا يلزم من تعلقه بأحد المختلفين بالإطلاق والتقييد أو العموم والخصوص أو غير ذلك أن يكون متعلقاً بالآخر وإلا كان أمره ونهيه ببعض المختلفات أمراً ونهياً بباقي المختلفات وهو محال متناقض بل وكان يلزم من تعلقه بالصوم المقيد في الحج بالتفريق حيث قال تعالى: " فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم " البقرة 196 وبالتتابع في الظهار حيث قال: " فصيام شهرين متتابعين " النساء 92 أن يتقيد الصوم المطلق في اليمين إما بالتتابع أو التفريق وهو محال أو بأحدهما دون الآخر ولا أولوية.
كيف وإنه يلزم من تقييده بأحدهما دون الآخر إبطال ما ذكروه من أن التنصيص على أحد المختلفين يكون تنصيصاً على الآخر.
وإن أريد به العبارة الدالة فهي متعددة غير متحدة ولا يلزم من دلالة بعضها على بعض الأشياء المختلفة دلالته على غيره وإلا لزم من ذلك المحال الذي قدمنا لزومه في الكلام النفساني.
وأما ما ذكروه من حمل الذاكرات على الذاكرين الله كثيراً فلا نسلم أن ذلك من غير دليل ودليله أن قوله تعالى: " والذاكرات " معطوف على قوله: " والذاكرين الله كثيراً " الأحزاب 35 ولا استقلال له بنفسه فوجب رده إلى ما هو معطوف عليه ومشارك له في حكمه.
وأما حجة أصحاب أبي حنيفة فإنهم قالوا: إذا امتنع التقييد من غير دليل لما سبق فلا بد من دليل ولا نص من كتاب أو سنة يدل على ذلك والقياس يلزم منه رفع ما اقتضاه المطلق من الخروج عن العهدة بأي شيء كان مما هو داخل تحت اللفظ المطلق كما سبق تقريره فيكون نسخاً ونسخ النص لا يكون بالقياس.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه يلزم من القياس نسخ النص المطلق بل تقييده ببعض مسمياته وذلك لا يدل على تخصيص العام بالقياس عندكم فكذلك التقييد.
كيف وإن لفظ الرقبة مطلق بالنسبة إلى السليمة والمعيبة وقد كان مقتضى ذلك أيضاً الخروج عن العهدة بالمعيبة وقد شرطتم صفة السلامة ولم يدل عليه نص من كتاب أو سنة وإن كان بالقياس فإما أن يكون نسخاً أو لا يكون نسخاً فإن كان الأول فقد بطل قولكم إن النسخ لا يكون بالقياس وإن لم يكن نسخاً فقد بطل قولكم إن رفع حكم المطلق بالقياس يكون نسخاً.
وأما حجة من قال بالتقييد بناء على القياس فالوجه في ضعفه ما سبق في تخصيص العام بالقياس فعليك بنقله إلى هاهنا.
والمختار أنه إن كان الوصف الجامع بين المطلق والمقيد مؤثرا أي ثابتا بنص أو إجماع وجب القضاء بالتقييد بناء عليه وإن كان مستنبطا من الحكم المقيد فلا كما ذكرناه في تخصيص العموم.
الصنف السابع في المجمل ويشتمل على مقدمة ومسائل : أما المقدمة ففي معنى المجمل وهو في اللغة مأخوذ من الجمع ومنه يقال أجمل الحساب إذا جمعه ورفع تفاصيله وقيل هو المحصل ومنه يقال جملت الشيء إذا حصلته هكذا ذكره صاحب المجمل في اللغة.
وأما في اصطلاح الأصوليين فقال بعض أصحابنا: هو اللفظ الذي لا يفهم منه عند الإطلاق شيء وهو فاسد فإنه ليس بمانع ولا جامع.
أما أنه ليس بمانع فلأنه يدخل فيه اللفظ المهمل فإنه لا يفهم منه شيء عند إطلاقه وليس بمجمل لأن الإجمال والبيان من صفات الألفاظ الدالة والمهمل لا دلالة له ويدخل فيه قولنا مستحيل فإنه ليس بمجمل مع أنه لا يفهم منه شيء عند إطلاقه لأن مدلوله ليس بشيء بالاتفاق.
وأما أنه ليس بجامع فلأن اللفظ المجمل المتردد بين محامل قد يفهم منه شيء وهو انحصار المراد منه في بعضها وإن لم يكن معيناً.
وكذلك ما هو مجمل من وجه ومبين من وجه كقوله تعالى: " وآتوا حقه يوم حصاده " الأنعام 141 فإنه مجمل وإن كان يفهم منه شيء.(1/243)
فإن قيل: المراد منه أنه الذي لا يفهم منه شيء عند إطلاقه من جهة ما هو مجمل ففيه تعريف المجمل بالمجمل وتعريف الشيء بنفسه ممتنع.
كيف وإن الإجمال كما أنه قد يكون في دلالة الألفاظ فقد يكون في دلالة الأفعال وذلك كما لو قام النبي صلى الله عليه وسلم من الركعة الثانية ولم يجلس جلسة التشهد الوسط فإنه متردد بين السهو الذي لا دلالة له على جواز ترك الجلسة وبين التعمد الدال على جواز تركها.
وإذا كان الإجمال قد يعم الأقوال والأفعال فتقييد حد المجمل باللفظ يخرجه عن كونه جامعاً وبهذا يبطل ما ذكره الغزالي في حد المجمل من أنه اللفظ الصالح لأحد معنيين الذي لا يتعين معناه لا بوضع اللغة ولا بعرف الاستعمال.
وذكر أبو الحسين البصري فيه حدين آخرين: الأول أنه الذي لا يمكن معرفة المراد منه ويبطل بالألفاظ المهملة وباللفظ الذي هو حقيقة في شيء فإنه إذا أريد به جهة مجازه فإنه لا يفهم المراد منه وليس بمجمل.
الثاني قال: المجمل هو ما أفاد شيئاً من جملة أشياء هو متعين في نفسه واللفظ لا بعينه قال وهذا بخلاف قولك اضرب رجلاً فإن مدلوله واحد غير معين في نفسه وأي رجل ضربته جاز ولا كذلك لفظ القرء فإن مدلوله واحد متعين في نفسه من الطهر أو الحيض وفيه إشعار بتقييد الحد باللفظ حيث قال: واللفظ لا بعينه فلا يكون جامعاً بخروج الإجمال في دلالة الفعل عنه كما حققناه وإنما يصح التقييد باللفظ لو أريد تحديد المجمل اللفظي خاصةً.
والحق في ذلك أن يقال: المجمل هو ما له دلالة على أحد أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه.
فقولنا ما له دلالة ليعم الأقوال والأفعال وغير ذلك من الأدلة المجملة وقولنا على أحد أمرين احتراز عما لا دلالة له إلا على معنى واحد وقولنا لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه احتراز عن اللفظ الذي هو ظاهر في معنىً وبعيد في غيره كاللفظ الذي هو حقيقة في شيء ومجاز في شيء على ما عرف فيما تقدم.
وقد يكون ذلك في لفظ مفرد مشترك عند القائلين بامتناع تعميمه وذلك إما بين مختلفين كالعين للذهب والشمس والمختار للفاعل والمفعول أو ضدين كالقرؤ للطهر والحيض.
وقد يكون في لفظ مركب كقوله تعالى: " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " البقرة فإن هذه متردة بين الزوج والولي.
وقد يكون ذلك بسبب التردد في عود الضمير إلى ما تقدمه كقولك: كل ما علمه الفقيه فهو كما علمه فإن الضمير في هو متردد بين العود إلى الفقيه وإلى معلوم الفقيه والمعنى يكون مختلفاً حتى أنه إذا قيل بعوده إلى الفقيه كان معناه: فالفقيه كمعلومه وإن عاد إلى معلومه كان معناه: فمعلومه على الوجه الذي علم.
وقد يكون ذلك بسبب تردد اللفظ بين جمع الأجزاء وجمع الصفات كقولك: الخمسة زوج وفرد والمعنى مختلف حتى أنه إن أريد به جمع الأجزاء كان صادقاً وإن أريد به جمع الصفات كان كاذباً.
وقد يكون ذلك بسببه الوقف والابتداء كما في قوله تعالى: " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " آل عمران 7 فالواو في قوله: " والراسخون مترددة بين العطف والابتداء والمعنى يكون مختلفاً.
وقد يكون ذلك بسبب تردد الصفة وذلك كما لو كان زيد طبيباً غير ماهر في الطب وهو ماهر في غيره فقلت زيد طبيب ماهر فإن قولك ماهر متردد بين أن يراد به كونه ماهراً في الطب فيكون كاذباً وبين أن يراد به غيره فيكون صادقاً.
وقد يكون ذلك بسبب تردد اللفظ بين مجازاته المتعددة عند تعذر حمله على حقيقته وقد يكون بسببه تخصيص العموم بصور مجهولة كما لو قال: اقتلوا المشركين ثم قال بعد ذلك بعضهم غير مراد لي من لفظي فإن قوله: " اقتلوا المشركين " بعد ذلك يكون مجملاً غير معلوم أو بصفة مجهولة كقوله تعالى: " وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين " النساء 24 فإن تقييد الحل بالإحصان مع الجهل بما هو الإحصان يوجب الإجمال فيما أحل أو باستثناء مجهول كقوله: " أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم " المائدة 1 فإنه مهما كان المستثنى مجملاً فالمستثنى منه كذلك وكذلك الكلام في تقييد المطلق.(1/244)
وقد يكون ذلك بسبب إخراج اللفظ في عرف الشرع عما وضع له في اللغة عند القائلين بذلك قبل بيانه لنا كقوله: " أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " البقرة 43 " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً " آل عمران 5 فإنه يكون مجملاً لعدم إشعار اللفظ بما هو المراد منه بعينه من الأفعال المخصوصة لأنه مجمل بالنسبة إلى الوجوب.
هذا كله في الأقوال وقد يكون ذلك في الأفعال كما ذكرناه أولاً.
وتمام كشف الغطاء عن ذلك بمسائل وهي ثمان : المسألة الأولى في أن التحليل والتحريم المضافين إلى الأعيان لا إجمال فيهما الذي صار إليه أصحابنا وجماعة من المعتزلة كالقاضي عبد الجبار والجبائي وأبي هاشم وأبي الحسين البصري أن التحليل والتحريم المضافين إلى الأعيان كقوله تعالى: " حرمت عليكم أمهاتكم النساء 23 " وحرمت عليكم الميتة " المائدة 3 لا إجمال فيه خلافاً للكرخي وأبي عبد الله البصري.
احتج القائلون بالإجمال بأن التحليل والتحريم إنما يتعلق بالأفعال المقدورة والأعيان التي أضيف إليها التحليل والتحريم غير مقدورة لنا فلا تكون هي متعلق التحليل والتحريم فلا بد من إضمار فعل يكون هو متعلق ذلك حذراً من إهمال الخطاب بالكلية ويجب أن يكون ذلك بقدر ما تندفع به الضرورة تقليلاً للإضمار المخالف للأصل.
وعلى هذا فيمتنع إضمار كل ما يمكن تعلقه بالعين من الأفعال وليس إضمار البعض أولى من البعض لعدم دلالة الدليل على تعيينه ولأنه لو دل على تعيين بعض الأفعال لكان ذلك متعينا من تعلق التحريم بأي عين كانت وهو محال.
قال النافون: وإن سلمنا امتناع تعلق التحليل والتحريم بنفس العين ولكن متى يحتاج إلى الإضمار إذا كان اللفظ ظاهراً بعرف الاستعمال في الفعل المقصود من تلك العين أو إذا لم يكن ؟الأول ممنوع والثاني مسلم.
وبيانه أن كل من اطلع على عرف أهل اللغة ومارس ألفاظ العرب لا يتبادر إلى فهمه عند قول القائل لغيره: حرمت عليك الطعام والشراب وحرمت عليك النساء سوى تحريم الأكل والشرب من الطعام والشراب وتحريم وطء النساء.
والأصل في كل ما يتبادر إلى الفهم أن يكون حقيقةً إما بالوضع الأصلي أو بعرف الاستعمال والإجمال منتف بكل واحد منهما ولهذا كان الإجمال منتفياً عند قول القائل: رأيت دابةً لما كان المتبادر إلى الفهم ذوات الأربع بعرف الاستعمال وإن كان على خلاف الوضع الأصلي وعلى هذا فقد خرج الجواب عما ذكروه من الوجه الثاني أيضاً.
سلمنا أنه لا بد من الإضمار ولكن ما المانع من إضمار جميع التصرفات المتعلقة بالعين المضاف إليها التحليل والتحريم.
قولهم إن زيادة الإضمار على خلاف الأصل قلنا: فإضمار البعض إما أن يفضي إلى الإجمال أو لا يفضي إليه فإن كان الثاني فقد بطل مذهبكم وإن كان يفضي إلى الإجمال فلا بد من إضمار الكل حذراً من تعطيل دلالة اللفظ.
فلئن قالوا: إضمار البعض وإن أفضى إلى الإجمال فليس في ذلك ما يفضي إلى تعطيل دلالة اللفظ مطلقاً لإمكان معرفة تعيين مدلوله بدليل آخر.
وأما محذور إضمار كل التصرفات فلازم مطلقاً ولا يخفى أن التزام المحذور الدائم أعظم من التزام المحذور الذي لا يدوم.
قلنا: بل التزام محذوره إضمار جميع الأفعال أولى من التزام محذور الإجمال في اللفظ لثلاثة أوجه: الأول: أن الإضمار في اللغة أكثر استعمالاً من استعمال الألفاظ المجملة ولولا أن المحذور في الإضمار أقل لما كان استعماله أكثر.
الثاني: أنه انعقد الإجماع على وجود الإضمار في اللغة والقرآن واختلف في وجود الإجمال فيهما وذلك يدل على أن محذور الإضمار أقل.
الثالث: أنه قال صلى الله عليه وسلم لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها وذلك يدل على إضمار جميع التصرفات المتعلقة بالشحوم وإلا لما لحقهم اللعن ببيعها ولو كان الإجمال أولى من إضمار الكل لكان ذلك على خلاف الأولى.
المسألة الثانية ؟؟ذهب بعض الحنيفة إلى أن قوله تعالى:وامسحوا برؤسكم مجمل ذهب بعض الحنفية إلى أن قوله تعالى: " وامسحوا برؤوسكم " المائدة 6 مجمل لأنه يحتمل مسح جميع الرأس ويحتمل مسح بعضه وليس أحدهما أولى من الآخر فكان مجملاً.
قالوا: وما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه مسح بناصيته فهو بيان لمجمل الآية.(1/245)
واتفق النافون على نفي الإجمال لكن منهم من قال إنه بحكم وضع اللغة ظاهر في مسح جميع الرأس وهو مذهب مالك والقاضي عبد الجبار وابن جني مصيراً منهم إلى أن الباء في اللغة أصل في الإلصاق كما سبق تعريفه وقد دخلت على المسح وقرنته بالرأس واسم الرأس حقيقة في كله لا بعضه ولهذا ولا يقال لبعض الرأس رأس فكان ذلك مقتضياً لمسح جميعه لغةً.
وهذا وإن كان هو الحق بالنظر إلى أصل وضع اللغة غير أن عرف استعمال أهل اللغة الطارىء على الوضع الأصلي حاكم عليه والعرف من أهل اللغة في اطراد الاعتياد جار باقتضاء إلصاق المسح بالرأس فقط مع قطع النظر عن الكل والبعض.
ولهذا فإنه إذا قال القائل لغيره: امسح يدك بالمنديل لا يفهم منه أحد من أهل اللغة أنه أوجب عليه إلصاق يده بجميع المنديل بل بالمنديل إن شاء بكله وإن شاء ببعضه ولهذا فإنه يخرج عن العهدة بكل واحد منهما.
وكذلك إذا قال: مسحت يدي بالمنديل فالسامعون يجوزون أنه مسح بكله وببعضه غير فاهمين لزوم وقوع المسح بالكل أو البعض بل بالقدر المشترك بين الكل والبعض وهو مطلق مسح ويجب أن يكون كذلك نفياً للتجوز والاشتراك في العرف.
وهذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه واختيار القاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري.
وعلى كل تقدير فلا وجه للقول بالإجمال لا بالنظر إلى الوضع اللغوي الأصلي ولا بالنظر إلى عرف الاستعمال.
المسألة الثالثة مذهب الجمهور أنه لا إجمال في قوله صلى الله عليه وسلم: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " وقال أبو الحسين البصري وأبو عبد الله البصري وغيرهما إنه مجمل مصيراً منهم إلى أن اللفظ بوضعه لغة يقتضي رفع الخطإ والنسيان في نفسه وهو محال مع فرض وقوعه فيجل منصب النبي عن نفيه.
وعند ذلك فإما أن يضمر نفي جميع أحكامه أو بعضها لا سبيل إلى الأول لأن الإضمار على خلاف الأصل وإنما يصار إليه لدفع الضرورة اللازمة من تعطيل العمل باللفظ فيجب الاقتصار فيه على أقل ما تندفع به الضرورة وهو بعض الأحكام.
كيف وأنه يمتنع إضمار نفي جميع الأحكام لأن من جملتها لزوم الضمان وقضاء العبادة وهو غير منفي بالإجماع ثم ذلك الحكم المضمر لا يمكن القول بتعيينه لعدم دلالة اللفظ عليه فلم يبق إلا أن يكون غير معين ويلزم منه الإجمال.
قال النافون للإجمال: وإن تعذر حمل اللفظ على رفع عين الخطإ والنسيان فإنما يلزم الإضمار إن لو لم يكن اللفظ ظاهراً بعرف استعمال أهل اللغة في نفي المؤاخذة والعقاب قبل ورود الشرع وليس كذلك.
ولهذا فإن كل من عرف عرف أهل اللغة لا يتشكك ولا يتردد عند سماعه قول السيد لعبده: رفعت عنك الخطأ والنسيان في أن مراده من ذلك رفع المؤاخذة والعقاب.
والأصل أن كل ما يتبادر إلى الفهم من اللفظ أن يكون حقيقة فيه إما بالوضع الأصلي أو العرف الاستعمالي وذلك لا إجمال فيه ولا تردد.
فإن قيل: لو كان عرف الاستعمال كما ذكرتموه لارتفع عنه الضمان لكونه من جملة المؤاخذات والعقوبات.
قلنا: عنه جوابان: الأول: أنا نسلم أن الضمان من حيث هو ضمان عقوبة ولهذا يجب في مال الصبي والمجنون وليسا أهلاً للعقوبة وكذلك يجب على المضطر في المخمصة إذا أكل مال غيره مع أن الأكل واجب عليه حفظاً لنفسه والواجب لا عقوبة على فعله وكذلك يجب الضمان على من رمى إلى صف الكفار فأصاب مسلماً مع أنه مأمور بالرمي وهو مثاب عليه.
الثاني: وإن سلمنا أنه عقاب لكن غايته لزوم تخصيص عموم اللفظ الدال على نفي كل عقاب وذلك أسهل من القول بالإجمال.
المسألة الرابعة اختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم " لا صلاة إلا بطهور " فمذهب الكل إنه لا اجمال فيه اختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم " لا صلاة إلا بطهور ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ولا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " ونحوه.
فمذهب الكل أنه لا إجمال فيه خلافاً للقاضي أبي بكر وأبي عبد الله البصري فإنهما قالا بإجماله لأن حرف النفي دخل على هذه المسميات مع تحققها فلا بد من إضمار حكم يلحق وتمام تقريره كما مر في المسألة المتقدمة.
والمختار أنه لا إجمال في هذه الصور لأنه لا يخلو إما أن يقال بأن الشارع له في هذه الأسماء عرف أو لا عرف له فيها بل هي منزلة على الوضع اللغوي.(1/246)
فإن قيل بالأول: فيجب تنزيل كلام الشارع على عرفه إذ الغالب منه أنه إنما يناطقنا فيما له فيه عرف بعرفه فيكون لفظه منزلاً على نفي الحقيقة الشرعية من هذه الأمور ونفي الحقيقة الشرعية ممكن.
والأصل حمل الكلام على ما هو حقيقة فيه وعلى هذا فلا إجمال وإن كان مسمى هذه الأمور بالوضع اللغوي غير منفي.
وإن قيل بالثاني: فالإجمال أيضاً إنما يتحقق إن لو لم يكن اللفظ ظاهراً بعرف استعمال أهل اللغة قبل ورود الشرع في مثل هذه الألفاظ في نفي الفائدة والجدوى وليس كذلك.
وبيانه أن المتبادر إلى الفهم من نفي كل فعل كان متحقق الوجود إنما هو نفي فائدته وجدواه ومنه قولهم لا علم إلا ما نفع ولا كلام إلا ما أفاد ولا حكم إلا لله ولا طاعة إلا له ولا بلد إلا بسلطان إلى غير ذلك.
وإذا كان النفي محمولاً على نفي الفائدة والجدوى فلا إجمال فيه وإن سلمنا أنه لا عرف للشارع ولا لأهل اللغة في ذلك وأنه لا بد من الإضمار غير أن الاتفاق واقع على أنه لا خروج للمضمر هاهنا عن الصحة والكمال وعند ذلك فيجب اعتقاد ظهوره في نفي الصحة والكمال لوجهين: الأول: أنه أقرب إلى موافقة دلالة اللفظ على النفي لأنه إذا قال: لا صلاة لا صوم إلا بكذا فقد دل على نفي أصل الفعل بدلالة المطابقة وعلى صفاته بدلالة الالتزام فإذا تعذر العمل بدلالة المطابقة تعين العمل بدلالة الالتزام تقليلا لمخالفة الدليل.
الثاني: أنه إذا كان اللفظ قد دل على نفي العمل وعدمه فيجب عند تعذر حمل اللفظ على حقيقته حمله على أقرب المجازات الشبيهة به ولا يخفى أن مشابهة الفعل الذي ليس بصحيح ولا كامل للفعل المعدوم أكثر من مشابهة الفعل الذي نفي عنه أحد الأمرين دون الآخر فكان الحمل عليه أولى.
فإن قيل ما ذكرتموه معارض من وجهين: الأول أنه يلزم منه الزيادة في الإضمار والتجوز المخالف للأصل الثاني أن حمله على نفي الكمال دون الصحة مستيقن من حيث إنه يلزم من نفي الصحة نفي الكمال ولا عكس وإذا تقابلت الاحتمالات لزم الإجمال.
قلنا: بل الترجيح لما ذكرناه لأنه لا يلزم منه تعطيل دلالة اللفظ بخلاف ما ذكرتموه ولأنه على وفق النفي الأصلي وما ذكرتموه على خلافه فكان ما ذكرناه أولى.
وعلى هذا فقوله صلى الله عليه وسلم: " لا عمل إلا بنية وإنما الأعمال بالنيات " وإن لم يكن للشارع فيه عرف كما في الصلاة والصوم ونحوهما فعرف أهل اللغة في نفيه نفي الفائدة والجدوى كما قررناه فيما تقدم فلا إجمال فيه أيضاً خلافاً لأبي الحسين البصري وأبي عبد الله البصري وغيرهما من المعتزلة.
المسألة الخامسة اختلفوا في قوله تعالى: فاقطعوا أيديهما هل هو مجمل أم لا ؟ اختلفوا في قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " المائدة 38 فقال بعض الأصوليين إن لفظ القطع واليد مجمل.
أما الإجمال في القطع فلأنه يصدق إطلاقه على بينونة العضو من العضو وعلى شق الجلد الظاهر من العضو بالجرح من غير إبانة للعضو.
ولذلك يقال عندما إذا جرح يده في بعض الأعمال كبرى القلم وغيره قطع يده وأما الإجمال في اليد فلأن لفظ اليد يطلق على جملتها إلى المنكب وعليها إلى المرفق وعليها إلى الكوع وليس أحد هذه الاحتمالات أظهر من الآخر فكان لفظ اليد والقطع مجملاً.
وذهب الباقون إلى خلافه متمسكين في ذلك بالإجمال والتفصيل : أما الإجمال فهو أن إطلاق لفظ اليد على ما ذكر من المحامل وكذلك إطلاق لفظ القطع إما أن يكون حقيقةً في الكل أو هو حقيقة في البعض مجاز في البعض فإن كان حقيقة في الكل فإما أن يكون مشتركاً أو متواطئاً: القول بالاشتراك يلزم منه الإجمال في الكلام وهو على خلاف الأصل وإن كان الثاني والثالث فليس بمجمل.
كيف وإنه وإن كان الاشتراك على وفق الأصل إلا أن الاحتمالات ثلاثة كما ذكرناه ولا إجمال فيه على تقديرين منها وهما حالة التواطؤ والتجوز في أحدهما وإنما يتحقق الإجمال على تقدير الاشتراك وهو متحد ووقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد بعينه.
وإذا كان حقيقة في أحدهما دون الآخر فيجب اعتقاد كونه ظاهراً في كل العضو ضرورة الاتفاق على عدم ظهوره فيما سواه أما عند الخصم فلدعواه الإجمال وأما عندنا فلمصيرنا إلى نفي الظهور عنه وانحصاره في جملة مسمى العضو.(1/247)
وأما التفصيل فهو أن لفظ اليد وإن أطلق على ما ذكروه من الاحتمالات إلا أنه حقيقة في جملة العضو إلى المنكب ومجاز فيما عداه.
ودليله أنه يصح أن يقال إذا أبينت اليد من المرفق أو من الكوع هذا بعض اليد لا كلها وذلك يدل على أنه ليس حقيقة من وجهين: الأول: أن مسمى اليد حقيقة لا يصدق عليه أنه بعض اليد والثاني صحة القول بأنه ليس كل اليد ولو كان مسمى اليد حقيقة لما صح نفيه.
وأما لفظ القطع فحقيقة في إبانة الشيء عما كان متصلاً به فإذا أضيف القطع إلى اليد وكان مسمى اليد حقيقةً في جملتها إلى الكوع وجب حمله على إبانة مسمى اليد وهو جملتها وحيث أطلق قطع اليد عن إبانة بعض أجزائها عن بعض لا يكون حقيقة بل تجوزاً.
فإن قيل: لو كان الأمر على ما ذكرتموه لما وجب الاقتصار في قطع يد السارق على قطعه من الكوع لما فيه من مخالفة الظاهر.
قلنا: وإن لزم منه مخالفة الظاهر إلا إنه أولى من القول بالإجمال في كلام الشارع فكان إدراج ما نحن فيه تحت الأغلب أغلب.
الثاني: أن القول بالإجمال مما يفضي إلى تعطيل اللفظ عن الأعمال في الحال إلى حين قيام الدليل المرجح ولا كذلك في الحمل على المجاز: فإنه إن لم يظهر دليل التجوز عمل باللفظ في حقيقته وإن ظهر عمل به في مجازه من غير تعطيل اللفظ في الحال ولا في ثاني الحال.
المسألة السادسة اللفظ الوارد إذا أمكن حمله على ما يفيد معنى واحدا وعلى ما يفيد معنيين قال الغزالي وجماعة من الأصوليين: هو مجمل لتردده بين هذين الاحتمالين من غير ترجيح.
والذي عليه الأكثر أنه ليس بمجمل بل هو ظاهر فيما يفيد معنيين وهذا هو المختار.
وقبل الخوض في الحجاج لا بد من تلخيص محل النزاع فنقول: اللفظ الوارد إما أن يظهر كونه حقيقةً فيما قيل من المحملين مع اختلافهما أو كونه حقيقةً في أحدهما مجازاً في الآخر أو لم يظهر أحد الأمرين: فإن كان من القسم الأول أو الثاني فلا معنى للخلاف فيه أما الأول فلتحقق إجماله وأما الثاني فلتحقق الظهور في أحد المحملين: وإنما النزاع في القسم الثالث: ويجب اعتقاد نفي الإجمال فيه للإجمال والتفصيل: أما الإجمال فما تقدم في المسألة المتقدمة.
وأما التفصيل فهو أن الكلام إنما وضع للإفادة ولا سيما كلام الشارع ولا يخفى أن ما يفيد معنيين أكثر في الفائدة فيجب اعتقاد كون اللفظ ظاهراً فيه.
فإن قيل: هذا الترجيح معارض بترجيح آخر وهو إن الغالب من الألفاظ الواردة هي المفيدة لمعنى واحد بخلاف المفيد لمعنيين وعند ذلك فاعتقاد أدراج ما نحن فيه تحت الأعم الأغلب أغلب.
قلنا: يجب اعتقاد الترجيح فيما ذكرناه وذلك لأنه لا يخلو إما أن يقال بالتساوي بين الاحتمالين أو التفاوت.
القول بالتساوي يلزم منه تعطيل دلالة اللفظ وامتناع العمل به مطلقا إلى حين قيام الدليل وذلك على خلاف الأصل.
وإن قبل بالتفاوت والترجيح فإما أن يكون فيما يفيد معنىً واحداً أو فيما يفيد معنيين: لا سبيل إلى الأول إذ القائل قائلان: قائل يقول بالإجمال ففيه نفي الترجيح عن المعنيين وقائل يقول بأنه ظاهر راجح فيما يفيد معنيين دون ما يفيد معنى واحداً فقد وقع الاتفاق على نفي الترجيح فيما يفيد معنى واحداً فتعين الترجيح لما يفيد معنيين.
المسألة السابعة اختلفوا في اللفظ إذا أمكن حمله على حكم شرعي مجدد وعلى الموضوع اللغوي هل هو مجمل أم لا ؟ اللفظ الوارد من جهة الشارع إذا أمكن حمله على حكم شرعي مجدد وأمكن حمله على الموضوع اللغوي: اختلفوا فيه.
فذهب الغزالي إلى أنه مجمل لتردده بين الاحتمالين من غير مزية وذهب غيره إلى أنه ظاهر في الحكم الشرعي وهو المختار.
وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " الطواف بالبيت صلاة " فإنه يحتمل أنه أراد به أنه كالصلاة حكماً في الافتقار إلى الطهارة ويحتمل أنه أراد به أنه مشتمل على الدعاء الذي هو صلاة لغةً وكقوله صلى الله عليه وسلم الاثنان فما فوقهما جماعة فإنه يحتمل أنه أراد به أنهما جماعة حقيقةً ويحتمل أنه أراد به انعقاد الجماعة بهما وحصول فضيلتها وإنما قلنا بكونه ظاهراً في الحكم الشرعي للإجمال والتفصيل: أما الإجمال فما ذكرناه فيما تقدم.(1/248)
وأما التفصيل فهو أنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث لتعريف الأحكام الشرعية التي لا تعرف إلا من جهته لا لتعريف ما هو معروف لأهل اللغة فوجب حمل اللفظ عليه لما فيه من موافقة مقصود البعثة.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الترجيح مقابل بمثله وبيانه أن حمل اللفظ على الحكم الشرعي المجدد مخالف للنفي الأصلي بخلاف الحمل على الموضوع الأصلي.
قلنا: إلا أنا لو حملناه على تعريف الموضوع اللغوي كانت فائدة لفظ الشارع التأكيد بتعريف ما هو معروف لنا ولو حملناه على تعريف الحكم الشرعي.
كانت فائدته التأسيس وتعريف ما ليس معروفاً لنا وفائدة التأسيس أصل وفائدة التأكيد تبع فكان حمله على التأسيس أولى.
المسألة الثامنة إذا ورد لفظ الشارع وله مسمى لغوي ومسمى شرعي فهو مجمل عند القاضي أبي بكر إذا ورد لفظ الشارع وله مسمى لغوي ومسمى شرعي عند المعترف بالأسماء الشرعية قال القاضي أبو بكر: تفريعاً على القول بالأسماء الشرعية إنه مجمل.
وقال بعض أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة إنه محمول على المسمى الشرعي وفصل الغزالي وقال: ما ورد في الإثبات فهو للحكم الشرعي وما ورد في النهي فهو مجمل ومثال ذلك في طرف الإثبات قوله صلى الله عليه وسلم حين دخل على عائشة فقال لها: " أعندك شيء ؟فقالت: لا قال إني إذا أصوم " فهو إن حمل على الصوم الشرعي دل على صحة الصوم بنية من النهار بخلاف حمله على الصوم اللغوي ومثاله في طرف النهي نهيه عليه السلام عن صوم يوم النحر فإنه إن حمل على الصوم الشرعي دل على تصور وقوعه لاستحالة النهي عما لا تصور لوقوعه بخلاف ما إذا حمل على الصوم اللغوي.
والمختار ظهوره في المسمى الشرعي في طرف الإثبات وظهوره في المسمى اللغوي في طرف الترك: أما الأول: فبيانه بما تقدم في المسألة التي قبلها ويزيد ها هنا وجه آخر في الترجيح وهو أن الشارع مهما ثبت له عرف وإن كانت مناطقته لنا بالأمور اللغوية غالبا غير أن مناطقته لنا بعرفه في موضع له فيه عرف أغلب.
وأما إذا ورد في طرف الترك كقوله صلى الله عليه وسلم: " دعي الصلاة أيام أقرائك " وكنهيه عن بيع الحر والخمر وحبل الحبلة والملاقيح والمضامين فإنه لو كان اللفظ ظاهراً في الصلاة الشرعية والبيع الشرعي لزم أن يكون ذلك متصوراً لاستحالة النهي عما لا تصور له وهو خلاف الإجماع وأن يكون الشارع قد نهى عن التصرف الشرعي وذلك ممتنع لما فيه من إهمال المصلحة المعتبرة المرعية في التصرف الشرعي أو أن يقال مع ظهوره في المسمى الشرعي بتأويله وصرفه إلى المسمى اللغوي وهو على خلاف الأصل.
ولا يلزم من اطراده عرف الشرع في هذه المسميات في طرف الإثبات مثله في طرف النهي أو النفي وعلى ما حققناه من تقديم عرف الشرع في خطابه على وضع اللغة.
فيقدم ما اشتهر من المجاز الذي صار لا يفهم من اللفظ غيره على الوضع الأصلي الحقيقي وسواء كان ذلك التجوز بطريق نقل الكلام من محل الحقيقة إلى ما هو خارج عنه كلفظ الغائط أو بطريق تخصيصه ببعض مسمياته في الحقيقة كلفظ الدابة لأن العرف الطارىء غالب للوضع الأصلي ولا إجمال فيه.
الصنف الثامن في البيان والمبين ويشتمل على مقدمة ومسائل أما المقدمة ففي تحقيق معنى البيان والمبين واختلاف الناس في العبارات الدالة عليهما وما هو المختار في ذلك.
أما البيان فاعلم أنه لما كان متعلقاً بالتعريف والإعلام بما ليس بمعروف ولا معلوم وكان ذلك مما يتوقف على الدليل والدليل مرشد إلى المطلوب وهو العلم أو الظن الحاصل عن الدليل لم يخرج البيان عن التعريف والدليل والمطلوب الحاصل من الدليل لعدم معنى رابع يفسر به البيان فلا جرم اختلف الناس.
فقال أبو بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي وغيره إن البيان هو التعريف وعبر عنه بأنه إخراج الشيء عن حيز الإشكال إلى حيز الوضوح والتجلي.
وذهب أبو عبد الله البصري وغيره إلى أن البيان هو العلم الحاصل من الدليل.
وذهب القاضي أبو بكر والغزالي وأكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة كالجبائي وأبي هاشم وأبي الحسين البصري وغيرهم إلى أن البيان هو الدليل وهو المختار.
ويدل على صحة تفسيره بذلك أن من ذكر دليلاً لغيره وأوضحه غاية الإيضاح يصح لغةً وعرفاً أن يقال تم بيانه وهو بيان حسن إشارة إلى الدليل المذكور.(1/249)
وإن لم يحصل منه المعرفة بالمطلوب للسامع ولا حصل به تعريفه ولا إخراج المطلوب من حيز الإشكال إلى حيز الوضوح والتجلي والأصل في الإطلاق الحقيقة والذي يخص كل واحد من التعريفين الآخرين.
أما الأول: فلأنه غير جامع لأن ما يدل على الحكم بدياً من غير سابقة إجمال بيان وهو غير داخل في الحد وشرط الحد أن يكون جامعاً مانعاً كيف وفيه تجوز وزيادة أما التجوز ففي لفظ الحيز فإنه حقيقة في الجوهر دون غيره.
وأما الزيادة فما فيه من الجمع بين الوضوح والتجلي وأحدهما كاف عن الآخر والحد مما يجب صيانته عن التجوز والزيادة.
وأما التعريف الثاني فلأن حصول العلم عن الدليل يسمى تبيناً والأصل في الإطلاق الحقيقة فلو كان هو البيان أيضاً حقيقة لزم منه الترادف والأصل عند تعدده الأسماء تعدد المسميات تكثيراً للفائدة ولأن الحاصل عن الدليل قد يكون علماً وقد يكون ظناً.
وعند ذلك فتخصيص اسم البيان بالعلم دون الظن لا معنى له مع أن اسم البيان يعم الحالتين وإذا كان النزاع إنما هو في إطلاق أمر لفظي فأولى ما اتبع ما كان موافقاً للإطلاق اللغوي وأبعد عن الاضطراب ومخالفة الأصول.
وإذا عرف أن البيان هو الدليل المذكور فحد البيان ما هو حد الدليل على ما سبق في تحريره ويعم ذلك كل ما يقال له دليل كان مفيداً للقطع أو الظن وسواء كان عقلياً أو حسياً أو شرعياً أو عرفياً أو قولاً أو سكوتاً أو فعلاً أو ترك فعل إلى غير ذلك.
وأما المبين فقد يطلق ويراد به ما كان من الخطاب المبتدإ المستغنى بنفسه عن بيان وقد يراد به ما كان محتاجاً إلى البيان وقد ورد عليه بيانه وذلك كاللفظ المجمل إذا بين المراد منه والعام بعد التخصيص والمطلق بعد التقييد والفعل إذا اقترن به ما يدل على الوجه الذي قصد منه إلى غير ذلك.
وأما المسائل فثمان: المسألة الأولى مذهب الأكثرين أن الفعل يكون بياناً خلافاً لطائفة شاذة ويدل على ذلك النقل والعقل: أما النقل فما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه عرف الصلاة والحج بفعله حيث قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم " .
وأما العقل فهو أن الإجماع منعقد على كون القول بياناً والإتيان بأفعال الصلاة والحج لكونها مشاهدةً أدل على معرفة تفصيلها من الإخبار عنها بالقول فإنه ليس الخبر كالمعاينة ولهذا كانت مشاهدة زيد في الدار أدل على معرفة كونه فيها من الإخبار عنه بذلك وإذا كان القول بياناً مع قصوره في الدلالة عن الفعل المشاهد فكون الفعل بياناً أولى.
فإن قيل: أما النقل فالبيان فيه إنما وقع بالقول لا بالفعل وهو قوله: " صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم " وأما المعقول فهو أن الفعل وإن كان مشاهداً غير أن زمان البيان به مما يطول ويلزم من ذلك تأخير البيان مع إمكانه بما هو أفضى إليه وهو القول وذلك ممتنع.
قلنا: أما القول بأن البيان إنما حصل بالقول ليس كذلك فإنه لم يتضمن تعريف شيء من أفعال الصلاة والحج بل غايته تعريف أن الفعل هو البيان لذلك.
وأما القول بأن البيان بالفعل مما يفضي إلى تأخير البيان مع إمكان تقدمه بالقول فهو غير مسلم بل التعريف بالقول وذكر كل فعل بصفته وهيئته وما يتعلق به أبعد عن التشبث بالذهن من الفعل المشاهد وربما احتيج في ذلك إلى تكرير في أزمنة تزيد على زمان وقوع الفعل بأزمنة كثيرة على ما يشهد به العرف والعادة.
وإن سلمنا أن زمان التعريف بالفعل يكون أطول فليس في ذلك ما يدل على كونه غير صالح للبيان والتعريف والخلاف إنما هو في ذلك وقد بينا أنه مع صلاحيته للتعريف أدل من القول.
قولهم إنه يفضي إلى تأخير البيان مع إمكان تقديمه بالقول قلنا: لا يخلو إما أن لا تكون الحاجة قد دعت إلى البيان في الحال أودعت إليه: فإن كان الأول فلا محذور في التأخير مع حصول البيان بما هو أدل من القول وإن كان الثاني فلا نسلم امتناع التأخير على قولنا بجواز التكليف بما لا يطاق على ما قررناه.
وبتقدير امتناعه فإنما نسلم ذلك فيما إذا كان التأخير لا لفائدة وأما إذا كان لفائدة فلا وقد بينا الفائدة في البيان بالفعل من جهة كونه أدل على المقصود.
المسألة الثانية إذا ورد بعد اللفظ المجمل قول وفعل وكل واحد منهما صالح للبيان فالبيان بماذا منهما ؟(1/250)
والحق في ذلك أنه لا يخلو إما أن يتوافقا في البيان أو يختلفا: فإن توافقا فإن علم تقدم أحدهما فهو البيان لحصول المقصود به والثاني يكون تأكيداً إلا إذا كان دون الأول في الدلالة لاستحالة تأكيد الشيء بما هو دونه في الدلالة.
وإن جهل ذلك فلا يخلو إما أن يكونا متساويين في الدلالة أو أحدهما أرجح من الآخر على حسب اختلاف الوقائع والأقوال والأفعال: فإن كان الأول فأحدهما هو البيان والآخر مؤكد من غير تعيين وإن كان الثاني فالأشبه أن المرجوح هو المتقدم لأنا فرضنا تأخر المرجوح امتنع أن يكون مؤكداً للراجح إذ الشيء لا يؤكد بما هو دونه في الدلالة والبيان حاصل دونه فكان الإتيان به غير مفيد ومنصب الشارع منزه عن الإتيان بما لا يفيد.
ولا كذلك فيما إذا جعلنا المرجوح مقدما فإن الإتيان بالراجح بعده يكون مفيداً للتأكيد ولا يكون معطلاً.
وأما إن لم يتوافقا في البيان كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه بعد آية الحج قال: " من قرن حجاً إلى عمرة فليطف طوافاً واحداً ويسعى سعياً واحداً " وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه " قرن فطاف طوافين وسعى سعيين " فلا يخلو إما أن يعرف تقدم أحدهما أو يجهل.
فإن علم التقدم قال أبو الحسين البصري: المتقدم هو البيان فإن تقدم الفعل كان الطواف الثاني واجباً وإن تقدم القول كان الطواف الثاني غير واجب وليس بحق بل الحق أن يقال: إن كان القول متقدماً فالطواف الثاني غير واجب وفعل النبي صلى الله عليه وسلم له يجب أن يحمل على كونه مندوباً وإلا فلو كان فعله له دليل الوجوب كان ناسخاً لما دل عليه القول.
ولا يخفى أن الجمع أولى من التعطيل وفعله للطواف الأول يكون تأكيداً للقول وإن كان الفعل متقدماً فهو وإن دل على وجوب الطواف الثاني إلا أن القول بعده يدل على عدم وجوبه والقول بإهمال دلالة القول ممتنع فلم يبق إلا أن يكون ناسخاً لوجوب الطواف الثاني.
الذي دل عليه الفعل أو أن يحمل فعله على بيان وجوب الطواف الثاني في حقه دون أمته وأن يحمل قوله على بيان وجوب الأول دون الثاني في حق أمته دونه والأشبه إنما هو الاحتمال الثاني دون الأول لما فيه من الجمع بين البيانين من غير نسخ ولا تعطيل.
وأما إن جهل المتقدم منهما فالأولى إنما هو تقدير تقدم القول وجعله بياناً لوجهين: الأول: أنه مستقل بنفسه في الدلالة بخلاف الفعل فإنه لا يتم كونه بياناً دون اقتران العلم الضروري بقصد النبي صلى الله عليه وسلم البيان به أو قول منه يدل على ذلك وذلك مما لا ضرورة تدعو إليه.
الثاني: أنا إذا قدرنا تقدم القول أمكن حمل الفعل بعده على ندبية الطواف الثاني كما تقدم تعريفه ولو قدرنا تقدم الفعل يلزم منه إما إهمال دلالة القول أو كونه ناسخاً لحكم الفعل أو أن يكون الفعل بياناً لوجوب الطواف الثاني في حق النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته والقول دليل عدم وجوبه في حق أمته دونه والإهمال والنسخ على خلاف الأصل والافتراق بين النبي صلى الله عليه وسلم والأمة في وجوب الطواف الثاني مرجوح بالنظر إلى ما ذكرناه من التشريك لكون التشريك هو الغالب دون الافتراق.
المسألة الثالثة هل يجب أن يكون البيان مساوياً للمبين في القوة أو يجوز أن يكون أدنى منه قال الكرخي: لا بد من المساواة وقال أبو الحسين البصري: يجوز أن يكون أدنى منه.
وهل يجب أن يكون مساويا للمبين في الحكم؟ فمنهم من قال به ومنهم من نفاه.
والمختار في ذلك أن يقال: أما المساواة في القوة فالواجب أن يقال: إن كان المبين مجملاً كفى في تعيين أحده احتماليه أدنى ما يفيد الترجيح وإن كان عاماً أو مطلقاً فلا بد وأن يكون المخصص والمقيد في دلالته أقوى من دلالة العام على صورة التخصيص.
ودلالة المطلق على صورة التقييد وإلا فلو كان مساوياً لزم الوقف ولو كان مرجوحا لزم منه إلغاء الراجح بالمرجوح وهو ممتنع.
وأما المساواة بينهما في الحكم فغير واجب وذلك لأنه لو كان ما دل عليه البيان من الحكم هو ما دل عليه المبين لم يكن أحدهما بياناً للآخر.
وإنما يكون أحد الأمرين بياناً للآخر إذا كان دالاً على صفة مدلول الآخر لا على مدلوله ومع ذلك فلا اتحاد في الحكم.(1/251)
فإن قيل: المراد من الاتحاد في الحكم أنه إن كان حكم المبين واجباً كان بيانه واجباً وإن لم يكن واجباً لم يكن البيان واجباً.
قلنا: لا يخلو إما أن لا تكون الحاجة داعيةً إلى البيان في الحال أو هي داعية: فإن كان الأول فالبيان غير واجب على ما سيأتي وسواء كان حكم المبين واجباً أو لم يكن وإن كان الثاني فعلى قولنا بجواز التكليف بما لا يطاق على ما تقرر فالبيان أيضاً لا يكون واجباً وإن كان الحكم المبين واجباً.
وأما إذا قلنا بامتناع التكليف بما لا يطاق فالحق ما قالوه وذلك لأنه إذا كان المبين واجباً فلو لم يكن البيان واجباً لجاز تركه ويلزم من ذلك التكليف بما لا يطاق وهو خلاف الفرض.
وإذا كان المبين غير واجب فالقول بعدم إيجاب البيان لا يفضي إلى التكليف بما لا يطاق إذ لا تكليف فيما ليس بواجب لأن ما لا يكون واجب الفعل ولا واجب الترك فهو إما مندوب أو مباح أو مكروه وكل واحد من هذه الأقسام الثلاثة لا تكليف فيه على ما تقدم.
ولا يلزم من القول بالوجوب حذراً من تكليف ما لا يطاق الوجوب مع عدم التكليف أصلاً اللهم إلا أن ينظر إلى التكليف بوجوب اعتقاده على ما هو عليه من إباحة أو ندب أو كراهة فيكون من القسم الأول.
المسألة الرابعة في جواز تأخير البيان أما عن وقت الحاجة فقد اتفق الكل على امتناعه سوى القائلين بجواز التكليف بما لا يطاق ومدار الكلام من الجانبين فقد عرف فيما تقدم.
وأما تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة ففيه مذاهب: فذهب أكثر أصحابنا وجماعة من أصحاب أبي حنيفة إلى جوازه وذهب بعض أصحابنا كأبي إسحاق المروزي وأبي بكر الصيرفي وبعض أصحاب أبي حنيفة والظاهرية إلى امتناعه وذهب الكرخي وجماعة من الفقهاء إلى جواز تأخير بيان المجمل دون غيره.
وذهب بعضهم إلى جواز تأخير بيان الأمر دون الخبر وذهب الجبائي وابنه والقاضي عبد الجبار إلى جواز تأخير بيان النسخ دون غيره وذهب أبو الحسين البصري إلى جواز تأخير بيان ما ليس له ظاهر كالمجمل وأما ما له ظاهر وقد استعمل في غير ظاهره كالعام والمطلق والمنسوخ ونحوه فقال يجوز تأخير بيانه التفصيلي ولا يجوز تأخير بيانه الإجمالي وهو أن يقول وقت الخطاب: هذا العموم مخصوص وهذا المطلق مقيد وهذا الحكم سينسخ.
وإذا عرف تفصيل المذاهب فقد احتج أصحابنا القائلون بجواز التأخير مطلقاً بحجج نقلية وعقلية.
إما النقلية فالحجة الأولى منها قوله تعالى: " إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه " القيامة 18 ووجه الاحتجاج به أنه قال: " فإذا قرأناه " معناه أنزلناه ويدل على ذلك قوله تعالى: " فاتبع قرآنه " أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع بفاء التعقيب لقوله " فإذا قرأناه " ولا يتصور ذلك قبل الإنزال لعدم معرفته به وإنما يكون بعد الإنزال.
وإذا كان المراد بقوله: " قرأناه " الإنزال فقوله " ثم إن علينا بيانه " يدل على تأخير البيان عن وقت الإنزال لأن ثم للمهلة والتراخي على ما سبق تقريره.
ولقائل أن يقول: وإن كان المراد من قوله تعالى: " فإذا قرأناه " الإنزال ولكن لا نسلم أن المراد من قوله: " ثم إن علينا بيانه " القيامة 19بيان مجمله وخصوصه وتقييده ومنسوخه بل المراد منه إظهاره وإشهاره وهو على وفق الظاهر لأن البيان هو الإظهار في اللغة ومنه يقال: بان لنا الكوكب الفلاني وبان لنا سور المدينة إذا ظهر ويقال بين فلان الأمر الفلاني إذا أظهره وعند ذلك فليس حمله على ما ذكر من بيان المراد من المجمل والعام والمطلق أولى مما ذكرناه.
كيف وإن الترجيح لهذا المعنى من جهة أن المراد من قوله تعالى: " إن علينا جمعه وقرآنه " إنما هو جميع القرآن فإنه ليس اختصاص بعضه بذلك أولى من بعض وأيضا فإنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع بقوله: " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " القيامة 18 والأمر بذلك غير خاص ببعض القرآن دون البعض إجماعاً ولأنه لا أولوية للبعض دون البعض ولأنه لو حمل ذلك على البعض دون البعض مع كونه غير معين في اللفظ كان مجملاً وتكليفاً له بما ليس بمعلوم له وهو خلاف الأصل.(1/252)
وإذا ثبت أن المراد من قوله من أول الآية إنما هو جميع القرآن فالظاهر أن يكون الضمير في قوله تعالى: " ثم إن علينا بيانه " القيامة 19 عائد إلى جميع المذكور السابق وهو جملة القرآن لا إلى بعضه لعدم الأولوية.
وإنما يمكن ذلك بحمل البيان على ما ذكرناه لا على ما ذكروه لاستحالة افتقار كل القرآن إلى البيان بالمعنى الذي ذكروه فإنه ليس كل القرآن مجملاً ولا ظاهراً في معنى وقد استعمل في غيره فكان ما ذكرناه أولى.
وهذا إشكال مشكل وفي تحريره وتقريره على هذا الوجه يتبين للناظر المتبحر فيه إبطال كل ما يخبط به بعض المخبطين.
وإن سلمنا أن المراد به إنما هو بيان المراد من الظاهر الذي استعمل في غير ما هو الظاهر منه لكن ما المانع أن يكون المراد به البيان التفصيلي كما قاله أبو الحسين البصري؟ فإن قيل: لا يمكن ذلك لأن لفظ البيان مطلق فحمله على البيان التفصيلي يكون تقييداً له وتقييد المطلق من غير دليل ممتنع.
قلنا: وإذا كان مطلقاً فالمطلق لا يمكن حمله على جميع صوره وإلا كان عاماً لا مطلقاً بل غايته أنه إذا عمل به في صورة فقد وفى بالعمل بدلالته.
وعند ذلك فلا يخفى أن تنزيل البيان في الآية على الإجمالي دون التفصيلي يكون تقييدا للمطلق وهو ممتنع من غير دليل وإن لم يقل بتنزيله عليه فلا حجة فيه.
وإن سلمنا أن المراد به البيان الإجمالي والتفصيلي غير أنه قد تعذر العمل بظاهر ثم من حيث إنها تدل على وجوب تأخير بيان كل القرآن ضرورة عود الضمير إلى الكل على ما سبق وذلك خلاف الإجماع.
وإذا تعذر العمل بظاهرها وجب العمل بها في مجازها وهو حملها على معنى الواو كما في قوله تعالى: " فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون " يونس 46 فإن ثم هاهنا بمعنى الواو ولاستحالة كون الرب شاهداً بعد أن لم يكن شاهداً.
الحجة الثانية قوله تعالى: " الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت " هود 1 و ثم للتأخير.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أن المراد من التفصيل بيان المراد من المجمل والظاهر والمستعمل في غير ما هو ظاهر فيه بل المراد من قوله: أحكمت أي في اللوح المحفوظ وفصلت في الإنزال.
الحجة الثالثة قوله تعالى: " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه " طه 114 وأراد به بيانه للناس.
ولقائل أن يقول: ظاهر ذلك للمنع من تعجيل نفس القرآن لا بيان ما هو المراد منه لما فيه من الإضمار المخالف للأصل وإنما منعه من تعجيل القرآن أي من تعجيل أدائه عقيب سماعه حتى لا يختلط عليه السماع بالأداء وإلا فلو أراد به البيان لما منعه عنه بالنهي للاتفاق على أن تعجيل البيان بعد الأداء غير منهي عنه.
الحجة الرابعة: أنه تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة معينة غير منكرة بقوله تعالى: " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " البقرة 67 ولم يعينها إلا بعد سؤالهم.
ودليل كون المأمور به معيناً أمران الأول أنهم سألوا تعيينها بقولهم له: " ادع لنا ربك يبين لنا ما هي " البقرة 68 وما لونها ولو كانت منكرة لما احتيج إلى ذلك للخروج عن العهدة بأي بقرة كانت.
الثاني أن قوله تعالى: " إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر " البقرة 68 و إنها بقرة صفراء و إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث " والضمير في هذه الكنايات يجب صرفه إلى ما أمروا به أولا.
وبيانه من وجهين: الأول أنه لو لم يكن كذلك لكان تكليفاً بأمور مجددة غير ما أمروا به أولاً ولو كان كذلك لكان الواجب من تلك الصفات المذكورة آخراً دون ما ذكر أولا وهو خلاف الإجماع على أن المأمور به كان متصفاً بجميع الصفات المذكورة الثاني أنه لو لم يكن كذلك للزم منه أن لا يكون الجواب مطابقاً للسؤال وهو خلاف الأصل.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أن البقرة المأمور بها كانت معينةً في نفس الأمر بل منكرة مطلقاً فلا تكون محتاجة إلى البيان لإمكان الخروج عن العهدة بذبح أي بقرة اتفقت ولا يكون ذلك من صور النزاع.
قولهم إنهم سألوا عن تعيينها ولو أمروا بمنكر لما سألوا عن تعيينه قلنا ظاهر الأمر يدل على التنكير حيث قال: " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " .
والقول بالتعيين مخالف للتنكير المفهوم من اللفظ وليس الحمل على التعيين ضرورة تصحيح سؤالهم ومخالفة ظاهر النص أولى من العكس بل موافقة ظاهر لنص أولى.(1/253)
قولكم في الوجه الثاني: إن الضمير في جميع الكنايات عائد إلى المأمور به أولاً لا نسلم ذلك.
قولهم لو لم يكن كذلك لكان ذلك تكليفاً بأمور مجددة مسلم وما المانع منه؟ قولكم: لو كان كذلك لكان الواجب من تلك الصفات المذكورة آخراً دون ما ذكر أولا لا نسلم ذلك وما المانع أن يكون قد أوجب عليهم بعد السؤال الأول ذبح بقرة متصفة بالصفات المذكورة أولاً ثم أوجب بعد ذلك اعتبار الصفات المذكورة ثانياً ولا منافاة بين الحالتين.
قولكم: لو كان كذلك لما كان الجواب مطابقاً للسؤال وهو خلاف الأصل فهو معارض بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لو ذبحوا أية بقرة أرادوا لأجزأتهم لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم.
وهذا يدل على أن ذلك كان ابتداء إيجاب لا بياناً لأن البيان ليس بتشديد بل تعيين ما هو الواجب ولا يخفى أن موافقة ظاهر النص الدال على تنكير البقرة وظاهر قول ابن عباس أولى من موافقة ما ذكروه من لزوم مطابقة الجواب للسؤال لما فيه من موافقة أصلين ومخالفة أصل واحد وما ذكروه بالعكس.
ثم وإن سلمنا أن المأمور به كان بقرة معينة في نفس الأمر غير أنهم سألوا البيان الإجمالي أو التفصيلي؟ الأول ممنوع والثاني مسلم.
ولا يلزم من جواز تأخير البيان التفصيلي تأخير البيان الإجمالي كما هو مذهب أبي الحسين البصري وليس تقييد سؤالهم بطلب البيان مع إطلاقه بالإجمالي أولى من التفصيلي ولا محيص عنه.
وربما أورد على هذا الاحتجاج ما لا اتجاه له كقولهم: ما المانع أن يكون البيان مقارناً للمبين غير أنهم لم يتبينوا أن الأمر بالذبح كان ناجزاً وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع أما أولا فلأنه لو كان البيان حاصلاً لفهموه ظاهراً ولما سألوا عنه.
وأما ثانياً فلأن الأمر بالذبح كان مطلقاً والأمر المطلق على التراخي عند صاحب هذه الحجة على ما سبق تقريره ولو كان على الفور فتأخير بيانه عنه أيضاً غير ممتنع على أصله لكونه قائلاً بجواز التكليف بما لا يطلق كما سبق تحقيقه.
الحجة الخامسة: أنه لما نزل قوله تعالى: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " الأنبياء 98 قال عبد الله بن الزبعري: فقد عبدت الملائكة والمسيح أفتراهم يعذبون والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه بل سكت إلى حين ما نزل بيان ذلك بعد حين وهو قوله: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " الأنبياء 101 وذلك يدل على جواز التأخير.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أن الآية لم تكن بينة حتى أنها تحتاج إلى بيان فإن الملائكة والمسيح إنما يمكن القول بدخولهم في عموم الآية إذ لو كانت ما تتناول من يعلم ويعقل وهو غير مسلم وإذا لم تكن متناولة لهم فلا حاجة إلى إخراج ما لا دخول له في الآية عنها.
فإن قيل: دليل تناول ما لمن يعلم ويعقل النص والإطلاق والمعنى.
أما النص فقوله تعالى: " وما خلق الذكر والأنثى " الليل 3 وقوله تعالى: " والسماء وما بناها " الشمس 5 وقوله تعالى: " ولا أنتم عابدون ما أعبد " الكافرون 3 وأما الإطلاق فمن وجهين: الأول أن ما قد تطلق بمعنى الذي باتفاق أهل اللغة و الذي يصح إطلاقها على من يعقل بدليل قولهم الذي جاء زيد فما كذلك الثاني أنه يصح أن يقال ما في داري من العبيد أحرار.
وأما المعنى فمن وجهين: الأول هو أن ابن الزبعرى كان من فصحاء العرب وقد فهم تناول ما لمن يعقل والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه ذلك.
الثاني أن ما لو كانت مختصة بمن لا يعلم لما احتيج إلى قوله: " من دون الله " وحيث كانت بعمومها متناولة لله تعالى احتاج إلى التقييد بقوله: من دون الله.
قلنا: أما ما ذكروه من النصوص والإطلاقات فغايتها جواز إطلاق ما على من يعقل ويعلم ولا يلزم من ذلك أن تكون ظاهرة فيه بل هي ظاهرة فيمن لا يعقل.
ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن الزبعري لما ذكر ما ذكر راداً عليه بقوله: ما أجهلك بلغة قومك أما علمت أن ما لما لا يعقل و من لمن يعقل.
ولا يخفى أن الجمع بين الأمرين والتوفيق بين الأدلة أولى من تعطيل قول النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بما ذكروه وإذا كانت ما ظاهرةً في من لا يعقل دون من يعقل وجب تنزيلها على ما هي ظاهرة فيه.(1/254)
وما ذكروه من الوجه الأول في المعنى فهو باطل بما ذكرناه من إنكار النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخفى أن اتباع قول النبي أولى من اتباع ما ظنه ابن الزبعري.
وما ذكروه في الوجه الثاني من عدم الاحتياج إلى قوله: من دون الله إنما يصح أن لو لم يكن فيه فائدة وفائدته التأكيد وحمل الكلام على فائدة التأسيس وإن كان هو الأصل غير أنه يلزم من حمله على فائدة التأسيس مخالفة ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم والجمع أولى من التعطيل.
وإن سلمنا أن ما حقيقةً في من يعقل غير أنا لا نسلم أن بيان التخصيص لم يكن مقارناً للآية وبيان المقارنة أن دليل العقل صالح للتخصيص على ما سبق.
والعقل قد دل على امتناع تعذيب أحد بجرم صادر من غيره اللهم إلا أن يكون راضياً بجرم ذلك الغير واحد من العقلاء لم يخطر بباله رضا الملائكة والمسيح بعبادة من عبدهم و ما مثل هذا الدليل العقلي فلا نسلم عدم مقارنته للآية.
وأما نزول قوله تعالى: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى " الأنبياء 101 الآية فإنما ورد تأكيدا بضم الدليل الشرعي إلى الدليل العقلي مع الاستغناء عن أصله أما أن يكون هو المستقل بالبيان فلا.
الحجة السادسة قول الملائكة لإبراهيم: " إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين " العنكبوت 31 ولم يبينوا إخراج لوط ومن معه من المؤمنين عن الهلاك بقولهم: " نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله " العنكبوت 32 إلا بعد سؤال إبراهيم وقوله: إن فيها لوطاً.
ولقائل أن يقول: لا نسلم تأخر البيان عن هذه الآية بل هو مقترن بها ودليله قول الملائكة في تعليل الهلاك: إن أهلها كانوا ظالمين وذلك لا يدخل فيها إلا من كان ظالماً كيف وإنه لم يتخلل بين قول الملائكة غير سؤال إبراهيم وهو قوله: " إن فيها لوطاً " العنكبوت 32 وما مثل هذا لا يعد تأخيراً للبيان فإن مثل ذلك قد يجري إما بسبب انقطاع نفسه أو سعال فيما بين البيان والمبين ولا يعد ذلك من المبين تأخيراً.
ومبادرة إبراهيم إلى السؤال ومنعهم من اقتران البيان بالمبين نازل منزلة انقطاع النفس والسعال حتى أنه لو لم يبادر بالسؤال لبادروا بالبيان.
الحجة السابعة أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ معاذاً إلى اليمن ليعلمهم الزكاة وغيرها فسألوه عن الوقص فقال: ما سمعت فيه شيئاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرجع إليه فاسأله وذلك دليل على أن بيانه لم يتقدم.
ولقائل أن يقول كون معاذ لم يسمع البيان ولم يعرفه لا يدل على عدم مقارنة البيان للمبين كيف ويمكن أن يقال الأصل عدم وجوب الزكاة في الأوقاص وغيرها غير أن الشارع أوجب فيما أوجب وبقي الباقي على حكم العقل وذلك صالح للبيان والتخصيص.
هذا ما يتعلق بالمنقول وأما الحجج العقلية فأولها أنه لو كان تأخير البيان ممتنعاً فإما أن يكون امتناعه لذاته أو لغيره وذلك إما أن يعرف بضرورة العقل أو نظره وكل واحد من الأمرين منتف فلا امتناع.
ولقائل أن يقول: ولو كان جائزاً فإما أن يعرف بضرورة العقل أو نظره وكل واحد من الأمرين منتف فلا جواز وليس أحد الأمرين أولى من الآخر وكل ما هو جواب له هاهنا فهو جوابه فيما ذكر.
الحجة الثانية: أنه لو امتنع تأخير البيان لامتنع تأخيره في الزمن القصير وامتنع عطف الجمل المتعددة إذا كان بيان الأولى متأخراً عن الجمل المعطوف عليها ولما جاز البيان بالكلام الطويل واللازم ممتنع.
ولقائل أن يقول: إنما يجوز تأخير البيان في الزمان القصير إذا كان مع قصره لا يعد المتكلم معرضاً عن كلامه الأول فإن كلامه الثاني مع الأول معدود كالجملة الواحدة وذلك لا يعد تأخيراً للبيان.
وهذا بخلاف ما إذا تطاول الزمان تطاولاً يعد به المتكلم بالكلام الأول معرضاً عن كلامه ولهذا فإنه يجوز لغةً وعرفاً أن يتكلم الإنسان بكلام يقصر فهم السامع عنه ويبينه بعد الزمان القصير من غير استهجان بخلاف ما إذا بينه بعد الزمان المتطاول فلا يلزم من التأخير ثم التأخير هاهنا وأما الجمل المعطوفة فنازلة منزلة الجملة الواحدة فالبيان المتعقب للجمل المعطوفة ينزله منزلة تعقبه للجملة الواحدة.
وأما البيان بالكلام الطويل فإنما يجوزه الخصم إذا لم يكن حصول البيان إلا به أو كانت المصلحة فيه أتم من الكلام القصير وإلا فلا.(1/255)
الحجة الثالثة: أنه لو قبح تأخير البيان لكان ذلك لعدم تبين المكلف وذلك يقتضي قبح الخطاب إذا بين له ولم يتبين فإنه لا فرق في ذلك بين ما امتنع بأمر يرجع إلى نفسه أو إلى غيره ولهذا يسقط تكليف الإنسان إذا مات سواء قتل هو نفسه أو قتله غيره واللازم ممتنع.
ولقائل أن يقول: مسلم أن قبح تأخير البيان لما فيه من فقد التبين المنسوب إلى المخاطب ولا يلزم من ذلك قبحه عند عدم تبين المكلف إذا بين له لكونه منسوباً إلى تقصير المكلف لا إلى المخاطب وسقوط التكليف عن الميت إنما كان لعدم تمكنه المشروط في التكليف وذلك لا يفترق بأن يكون قد فات بفعله أو بفعل غيره.
والمختار في ذلك: أما من جهة النقل فقوله تعالى: " واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه " الأنفال 41 إلى قوله: " ولذي القربى " الأنفال 41 ثم بين بعد ذلك أن السلب للقاتل وأن المراد بذوي القربى بنو هاشم وبنو المطلب دون بني أمية وبني نوفل بمنعه لهم من ذلك حتى أنه لما سئل عن ذلك قال إنا وبنو هاشم والمطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام ولم نزل هكذا وشبك بين أصابعه.
فإن قيل: المتأخر إنما هو البيان المفصل ونحن لا نمنع من ذلك وإنما نمنع من تأخير البيان المجمل ولا دلالة لما ذكرتموه على تأخيره.
قلنا: إذا سلم عدم اقتران البيان التفصيلي بهذه الآية فهو حجة على من نازع فيه وهي حجة على من نازع في تأخير البيان الإجمالي حيث إنها ظاهرة في العموم لكل ذوي القربى ولم ينقل أحد من أهل النقل وأرباب الأخبار ما يشير إلى البيان الإجمالي أيضا مع أن الأصل عدمه ولو كان لما أهمل نقله غالباً وأيضاً ما روي أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم اقرأ قال: وما أقرأ؟ كرر عليه ذلك ثلاث مرات ثم قال له: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " العلق 1 أخر بيان ما أمره به أولاً من إجماله إلى ما بعد ثلاث مرات من أمر جبريل وسؤال النبي مع إمكان بيانه أولاً وذلك دليل جواز التأخير.
فإن قيل: أمره له بالقراءة مطلق وذلك إما أن يكون مقتضاه الوجوب على الفور أو التراخي: فإن كان الأول فقد أخر البيان عن وقت الحاجة وإن كان الثاني فلا شك في إفادته جواز الفعل في الزمن الثاني من وقت الأمر وتأخير البيان عنه تأخير له عن وقت الحاجة وذلك ممتنع بالإجماع.
فترك الظاهر لازم لنا ولكم والخلاف إنما وقع في تأخير البيان إلى وقت الحاجة وليس فيما ذكرتموه دلالة عليه.
قلنا: أما أن الأمر ليس مقتضاه الوجوب على الفور فقد تقدم وإذا كان على التراخي فلا نسلم لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة.
قولكم إنه يفيد جواز الفعل في الزمان الثاني من وقت الأمر قلنا: متى إذا كان الفعل المأمور به مبينا أو إذا لم يكن مبيناً؟ الأول مسلم والثاني ممنوع.
وإن سلمنا ذلك لكن لا نسلم أن الحاجة داعية إلى معرفته مع قطع النظر عن وجوبه وعدم المؤاخذة بتركه بدليل ما قبل الأمر.
وأيضاً فإنه لما نزل قوله تعالى: " أقيموا الصلاة " مع أنه لم يرد بها مطلق الدعاء إجماعا لم يتقرن بها البيان بل أخر بيان أفعال الصلاة وأوقاتها إلى أن بين ذلك جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لغيره بعد بيان جبريل له.
وكذلك نزل قوله تعالى: " وآتوا الزكاة " البقرة 110 مطلقاً ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مقدار الواجب وصفته في النقود والمواشي وغيرها من أموال الزكاة شيئاً فشيئاً.
وكذلك نزل قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " المائدة 32 ثم بين بعد ذلك ما يجب القطع بسرقته في مقداره وصفته على التدريج وكذلك نزل قوله تعالى: " وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم " التوبة 41 ثم نزل تخصيصه بقوله تعالى : " ليس على الضعفاء ولا على المرضى " إلى غير ذلك من الأوامر العامة التي لم تبين تفاصيلها إلا بعد مدد.
فإن قيل: المؤخر في جميع هذه الأوامر إنما هو البيان التفصيلي وليس فيها ما يدل على تأخير البيان الإجمالي كيف وإن الأمر إما أن يكون على الفور أو التراخي وتمام الإشكال ما سبق.(1/256)
قلنا: وجواب الإشكالين أيضاً ما سبق وأيضاً فإن العمومات الواردة في البيع والنكاح والإرث وردت مطلقة والنبي صلى الله عليه وسلم بين بعد ذلك على التدريج ما يصح بيعه وما لا يصح ومن يحل نكاحها ومن لا يحل وصفات العقود وشروطها ومن يرث ومن لا يرث ومقادير المواريث شيئاً فشيئاً.
ومن نظر في جميع عمومات القرآن والسنة وجدها كذلك وأيضاً فإنه لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزابنة وشكا الأنصار إليه بعد ذلك رخص لهم في العرايا وهي نوع من المزابنة مع أنه لم ينقل أنه اقترن بنهيه عن ذلك بيان مجمل ولا مفصل وهو لا يخلو إما أن يكون ذلك نسخاً أو تخصيصاً: وعلى كلا التقديرين فهو حجة على المخالف فيه.
وأما من جهة المعقول فهو أنه لو امتنع تأخير البيان لم يخل إما أن يكون ذلك ممتنعاً لذاته أو لأمر من خارج لا جائز أن يكون لذاته فإنا لو فرضناه واقعاً لا يلزم عنه المحال لذاته.
وإن كان لأمر خارج فلا يخفى أنه لا فارق بين حالة وجود البيان وعدمه سوى علم المكلف بالمراد من الكلام حالة وجود البيان وجهله به حالة عدمه.
فلو امتنع تأخير البيان لكان لما قارنه من جهل المكلف بالمراد ولو كان كذلك لامتنع تأخير بيان النسخ لما فيه من الجهل بمراد الكلام الدال بوضعه على تكرر الفعل على الدوام واللازم ممتنع فالملزوم ممتنع.
وهذه الطريقة لازمة على كل من منع من تأخير بيان المجمل والعام والمقيد وكل ما أريد به غير ما هو ظاهر فيه وجوزه في النسخ كالجبائي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار وغيرهم.
اعترض القاضي عبد الجبار وقال الفرق بين تأخير بيان النسخ وتأخير بيان المجمل هو أن تأخير بيان النسخ مما لا يخل بالتمكن من الفعل في وقته بخلاف تأخير بيان صفة العبادة فإنه لا يتأتى معه فعل العبادة في وقتها للجهل بصفتها والفرق بين تأخير بيان تخصيص العموم وتأخير بيان النسخ من وجهين.
الأول: أن الخطاب المطلق الذي أريد نسخه معلوم أن حكمه مرتفع لعلمنا بانقطاع التكليف ولا كذلك المخصوص.
الثاني: أن تأخير بيان تخصيص العموم مع تجويز إخراج بعض الأشخاص منه من غير تعيين مما يوجب الشك في كل واحد من أشخاص المكلفين هل هو مراد بالخطاب أم لا ولا كذلك في تأخير بيان النسخ.
وجواب الفرق بين الإجمال والنسخ أن وقت العبادة إنما هو وقت دعو الحاجة إليها لا قبل ذلك ووقت الحاجة إليها فالبيان لا يكون متأخراً عنه فلا يلزم من تأخير بيان صفة العبادة عنها في غير وقتها ووجوده في وقتها تعذر الإتيان بالعبادة في وقتها.
وجواب الفرق الأول بين العموم والنسخ هو أن حكم الخطاب المطلق وإن علم ارتفاعه بانقطاع التكليف فذلك مما يعم التخصيص والنسخ لعلمنا بانقطاع التكليف بالموت في الحالتين.
وإنما الخلاف فيما قبل حالة الموت مع وجود الدليل الظاهر المتناول لكل الأشخاص واللفظ الظاهر المتناول لجميع أوقات الحياة.
وعند ذلك إذا جاز رفع حكم الخطاب الظاهر المتناول لجميع الأوقات مع فرض الحياة والتمكن منه من غير دليل مبين في الحال جاز تخصيص بعض من تناوله اللفظ بظهوره مع التمكن من غير دليل مبين في الحال أيضاً لتعذر الفرق بين الحالتين.
وجواب الفرق الثاني أن تأخير بيان التخصيص وإن أوجب التردد في كل واحد من أشخاص المكلفين أنه داخل تحت الخطاب أم لا فتأخير بيان النسخ عندما إذا أمر بعبادة متكررة في كل يوم مما يوجب التردد في أن العبادة في كل يوم عدا اليوم الأول هل هي داخلة تحت الخطاب العام لجميع الأيام أم لا.
وإذا جاز ذلك في أحد الطرفين جاز في الطرف الآخر ضرورة تعذر الفرق وكذلك أيضاً فإنه إذا أمر بعبادة في وقت مستقبل أمراً عاماً فإن من شخص إلا ويحتمل احترامه قبل دخول ذلك الوقت ويخرج بذلك عن دخوله تحت الخطاب العام.
وذلك مما يوجب التردد في كل واحد واحد من الأشخاص هل هو داخل تحت ذلك الخطاب إذا لم يرده البيان به ومع ذلك فإنه غير ممتنع إجماعاً.
شبه المخالفين منها ما يختص بتأخير بيان المجمل ومنها ما يختص بتأخير بيان ماله ظاهر أريد به غير ما هو ظاهر فيه.
أما الشبه الخاصة بالمجمل فشبهتان:(1/257)
الأولى: أنه لا فرق بين الخطاب باللفظ المجمل الذي لا يعرف له مدلول من غير بيان وبين الخطاب بلغة يضعها المخاطب مع نفسه من غير بيان وعند ذلك فإما أن يقال بحسن المخاطبة بهما أو بأحدهما دون الآخر أو لا بواحد منهما:الأول يلزم منه حسن المخاطبة بما وضعه مع نفسه من غير بيان وهو في غاية الجهالة والثاني أيضاً ممتنع لعدم الأولوية والثالث هو المطلوب.
الشبهة الثانية: أن المقصود من الخطاب إنما هو التفاهم والمجمل الذي لا يعرف مدلوله من غير بيان له في الحال لا يحصل منه التفاهم فلا يكون مفيداً وما لا فائدة فيه لا تحسن المخاطبة به لكونه لغواً وهو قبيح من الشارع كما لو خاطب بكلمات مهملة لم توضع في لغة من اللغات لمعنى على أن يبين المراد منها بعد ذلك.
وأما الشبه الخاصة بما استعمل من الظواهر في غير ما هو ظاهر فيه فثلاث شبه: الأولى إنه إن جاز الخطاب بمثل ذلك من غير بيان له في الحال فإما أن يقال بجواز تأخير بيانه إلى مدة معينة فهو تحكم لم يقل به قائل.
وإن كان ذلك إلى غير نهاية فيلزم منه بقاء المكلف عاملاً أبدا بعموم قد أريد به الخصوص وهو في غاية التجهيل.
الثانية: أنه إذا خاطب الشارع بما يريد به غير ظاهره فإما أن لا يكون مخاطباً لنا في الحال أو يكون مخاطباً لنا به حالاً: الأول خلاف الإجماع وإن كان الثاني فلا بد وأن يكون قاصداً لتفهيمنا بخطابه حالاً وإلا خرج عن كونه مخاطباً لنا حالا وهو خلاف الفرض وبيان لزوم ذلك أن المعقول من قول القائل: خاطب فلان فلاناً أنه قصد تفهيمه بكلامه له.
وإذا كان قاصداً للتفهيم في الحال فإن قصد تفهيم ما هو الظاهر من كلامه فقد قصد تجهيلنا وهو قبيح وإن قصد تفهيم ما هو المراد منه فقد قصد ما لا سبيل لنا إليه دون البيان وهو أيضاً قبيح.
الثالثة: أنه لو جاز أن يخاطبنا بالعموم ويريد به الخصوص من غير بيان له في الحال لتعذر معرفة المراد من كلامه مطلقاً وذلك لأن ما من لفظ يبين به المراد إلا ويجوز أن يكون قد أراد به غير ما هو الظاهر منه ولم يبينه لنا وذلك مما يخل بمقصود الخطاب مطلقاً وهو ممتنع.
والجواب عن الشبهة الأولى بالفرق وهو أن اللفظ المجمل وإن لم يعلم منه المراد بعينه فقد علم المكلف أنه مخاطب بأحد مدلولاته المعينة المفهومة له وبذلك يتحقق اعتقاده للوجوب والعزم على الفعل بتقدير البيان والتعيين فكان مفيداً بخلاف الخطاب بما لا يفهم منه شيء أصلاً كما فرضوه.
وبهذا يكون جواب الشبهة الثانية.
وعن الشبهة الثالثة: أن تأخير البيان إنما يجوز إلى الوقت الذي تدعو الحاجة فيه إلى البيان وذلك لا يكون إلا معيناً في علم الله تعالى: ويجوز أن يكون معلوماً للرسول بإعلام الله تعالى له وعند ذلك فأي وقت وجب على المكلف العمل بمدلول اللفظ فيه فذلك هو وقت الحاجة إلى البيان والبيان لا يكون إذ ذاك متأخراً لما فيه من تأخير البيان عن وقت الحاجة وقبل وقت الوجوب فلا عمل للمكلف حتى يقال بأنه عامل بعموم أريد به الخصوص بل غايته أنه يعتقد ذلك ولا امتناع فيه كما لو أمر بعبادة متكررة كل يوم فإنه لا يمتنع اعتقاده لعموم ذلك في جميع الأيام مع جواز نسخها في المستقبل وإن لم يرد بذلك بيان وكل ما يعتذر به في النسخ فهو عذر لنا هاهنا.
وعن الشبهة الرابعة من وجهين: الأول: أنه وإن لزم من كونه مخاطباً لنا أن يكون قاصداً لتفهيمنا في الحال لكن لا لنفس ما هو الظاهر من كلامه فقط ولا لنفس مراده من كلامه فقط بل يفهم ما هو الظاهر من كلامه مع تجويز تخصيصه وليس في ذلك تجهيل ولا إحالة وذلك مما لا يمنع ورود المخصص بعد ذلك وإلا لما كان مجوز التخصيص وهو خلاف الفرض.
الثاني: أنه يلزم على ما ذكروه الخطاب بما علم الله أنه سينسخه فإن جميع ما ذكر من الأقسام بعينها متحققة فيه ومع ذلك جاز الخطاب به مع تأخير بيانه.
وعن الخامسة من وجهين: الأول: أنه لا يمتنع أن يكون البيان: إما بدليل قاطع لا يسوغ فيه احتمال التأويل أو ظني اقترن به من القرائن ما أوجب العلم بمدلول كلامه.
الثاني: أنه يلزم على ما ذكروه الخطاب الوارد الذي علم الله نسخ حكمه مع تأخير البيان عنه والجواب يكون متحداً.
المسألة الخامسة اختلفوا في جواز تأخير ما أوحى به إلى النبي (ص)(1/258)
الذين منعوا من تأخير بيان المراد من الخطاب عن وقت الخطاب اختلفوا في جواز تأخير تبليغ ما أوحى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام والعبادات إلى وقت الحاجة إليه وأكثر المحققين على جوازه وهو الحق لأنه لو امتنع لم يخل: إما أن يمتنع لذاته أو لمعنى من خارج: الأول محال فإنه لا يلزمه من فرض وقوعه لذاته محال وإن كان ذلك لأمر من خارج فالأصل عدمه كيف وإن تأخيره يحتمل أن يكون فيه مصلحة في علم الله تقتضى التأخير.
ولهذا لو صرح الشارع بذلك لما كان ممتنعاً ويحتمل أن يكون فيه مفسدة مانعة من التأخير وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
فإن قيل: الامتناع من التأخير إنما هو لمعنى خارج عن ذاته وهو قوله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك " المائدة 67 وظاهر الأمر للوجوب.
قولكم: يحتمل وجود مفسدة في التقديم ومصلحة في التأخير وليس أحد الأمرين أولى من الآخر قلنا: فهذا كما لا يمكن معه الجزم بامتناع التأخير فلا يمكن معه الجزم بجواز التأخير الذي هو مذهبكم.
وجواب الأول: أنا وإن سلمنا أن قوله تعالى: بلغ أمر ولكن لا نسلم أنه للوجوب وإن سلمنا أنه للوجوب ولكن لا نسلم أن مطلق الأمر يقتضي الفور على ما تقدم تقريره.
وإن سلمنا أنه على الفور غير أنا لا نسلم أنه يتناول تبليغ الأحكام التي وقع الخلاف فيها وإنما هو دال على تبليغ ما أنزل من لفظ القرآن إذ هو المفهوم من لفظ المنزل.
وجواب الثاني أنه إذا وقع التردد بين المصلحة والمفسدة تساقطاً وبقينا على أصل الجواز العقلي.
المسألة السادسة الذين اتفقوا على امتناع تأخير البيان إلى وقت الحاجة اختلفوا في جواز إسماع الله للمكلف العام دون إسماعه للدليل المخصص له.
فذهب الجبائي وأبو الهذيل إلى امتناع ذلك في الدليل المخصص السمعي وأجازا أن يسمعه العام المخصص بدليل العقل وإن لم يعلم السامع دلالته على التخصيص وذهب أبو هاشم والنظام وأبو الحسين البصري إلى جواز إسماع العام من لم يعرف الدليل المخصص له وسواء كان المخصص سمعياً أو عقلياً وهو الحق لوجهين: الأول: إنا قد بينا جواز تأخير المخصص عن الخطاب إذا كان سمعياً مع أن عدم سماعه لعدمه في نفسه أتم من عدم سماعه مع وجوده في نفسه فإذا جاز تأخير المخصص فجواز تأخير إسماعه مع وجوده أولى.
الثاني: هو أن وقوع ذلك يدل على جوازه ودليله إسماع فاطمة قوله تعالى: " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " النساء 11 مع أنها لم تسمع بقوله: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " إلا بعد حين.
وكذلك أسمعت الصحابة قوله تعالى: " اقتلوا المشركين " التوبة 5 ولم يسمع أكثرهم الدليل المخصص للمجوس وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " إلا بعد حين إلى وقائع كثيرة غير محصورة.
وكل ما يتشبث به الخصوم في المنع من ذلك فغير خارج عما ذكرناه لهم من الشبه في المسألة المتقدمة وجوابها ما سبق مع أنه منتقض بجواز إسماعه العام مع عدم معرفته بالدليل المخصص إذا كان عقلياً.
المسألة السابعة اختلفوا في جواز التدريج في البيان اختلف المجوزون لتأخير البيان عن وقت الخطاب العام في جواز التدريج في البيان: فمنع منه قوم مصيراً منهم إلى أن تخصيص البعض بالتنصيص على إخراجه دون غيره يوهم وجوب استعمال اللفظ في الباقي وامتناع التخصيص بشيء آخر وهو تجهيل للمكلف وإنما ينتفي هذا التجهيل بالتنصيص على كل ما هو خارج عن العموم.
ومذهب المحققين منهم خلاف ذلك ودليل جوازه وقوعه وبيان وقوعه قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " المائدة 38 فإنه عام في كل سارق.
ومع ذلك فإن تخصيصه بما خصص به من ذكر نصاب السرقة أولاً وعدم الشبهة ثانياً وقع على التدريج وكذلك قوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً " آل عمران 97 خصص أولاً بتفسير الاستطاعة بذكر الزاد والراحلة ثم بذكر الأمن في الطريق والسلامة من طلب الخفارة ثانياً.
وكذلك قوله تعالى: " اقتلوا المشركين " أخرج منه أهل الذمة أولاً ثم العسيف والمرأة ثانياً وكذلك آية الميراث أخرج منها ميراث النبي صلى الله عليه وسلم والقاتل والكافر وكل ذلك على التدريج إلى غير ذلك من العمومات المخصصة ولولا جوازه لما وقع.(1/259)
والقول بأن تخصيص البعض بالذكر يوهم نفي تخصيصه بشيء آخر ليس كذلك فإن الاقتصار على الخطاب العام دون ذكر المخصص مع كونه ظاهراً في التعميم بلفظه إذا لم يوهم المنع من التخصيص فإخراج بعض ما تناوله اللفظ عنه مع أنه لا دلالة له على إثبات غير ذلك البعض بلفظه أولى أن لا يكون موهماً لمنع التخصيص.
المسألة الثامنة إذا ورد لفظ عام بعبادة أو غيرها قبل دخول وقت العمل به يجب اعتقاد عمومه إذا ورد لفظ عام بعبادة أو بغيرها قبل دخول وقت العمل به قال أبو بكر الصيرفي: يجب اعتقاد عمومه جزماً قبل ظهور المخصص وإذا ظهر المخصص تغير ذلك الاعتقاد وهو خطأ: فإن احتمال إرادة الخصوص به قائم ولهذا لو ظهر المخصص لما كان ذلك ممتنعاً ووجب اعتقاد الخصوص.
وما هذا شأنه فاعتقاد عمومه جزماً قبل الاستقصاء في البحث عن مخصصه وعدم الظفر به على وجه تركن النفس إلى عدمه يكون ممتنعاً فإذا لا بد في الجزم باعتقاد عمومه من اعتقاد انتفاء مخصصه بطريقه ومع ذلك لا نعرف خلافاً بين الأصوليين في امتناع العمل بموجب اللفظ العام قبل البحث عن المخصص وعدم الظفر به لكن اختلفوا: فذهب القاضي أبو بكر وجماعة من الأصوليين إلى امتناع العمل به واعتقاد عمومه إلا بعد القطع بانتفاء المخصص وإلا فالجزم بعمومه والعمل به مع احتمال وجود المعارض ممتنع.
قال: ومعرفة انتفاء المخصص بطريق القطع ممكن وذلك بأن تكون المسألة المتمسك بالعموم فيها مما كثر الخلاف فيها بين العلماء وطال النزاع فيما بينهم فيها ولم يطلع أحد منهم على موجب للتخصيص مع كثرة بحثهم واستقصائهم.
ولو كان ثم شيء لاستحال أن لا يعرف عادةً ولأنه لو كان المراد بالعموم الخصوص لاستحال أن لا ينصب الله تعالى عليه دليلاً ويبلغه للمكلفين.
وذهب ابن سريج وإمام الحرمين والغزالي وأكثر الأصوليين إلى امتناع اشتراط القطع في ذلك وهو المختار وذلك لأنه لا طريق إلى معرفة ذلك بغير البحث والسبر وهو غير يقيني والقول بأنه لو كان ثم مخصص لاطلع عليه العلماء غير يقيني لجواز وجوده مع عدم اطلاع أحد من العلماء عليه.
وبتقدير اطلاع بعضهم عليه فنقله له أيضاً غير قاطع بل غايته أن يكون ظنياً كيف وإنه ليس كل ما ورد فيه العام مما كثر خوض العلماء فيه وبحثهم عنه ليصح ما قيل.
والقول بأنه لو كان المراد بالعام الخصوص لنصب الله تعالى عليه دليلاً غير مسلم وبتقدير نصبه للدليل لا نسلم لزوم اطلاع المكلفين عليه.
وبتقدير ذلك لا نسلم لزوم نقلهم له وإذا لم يكن إلى القطع بذلك طريق فلو شرط ذلك في العمل بالعموم لتعطلت العمومات بأسرها وإذا عرف أنه لا بد من الظن بانتفاء المخصص فالحد الذي يجب العمل بالعموم عنده أن يبحث عن المخصص بحثاً غلب على ظنه عدمه وأنه لو بحث عنه ثانياً وثالثاً كان بحثه غير مفيد وعلى هذا يكون الكلام في العمل بكل دليل مع معارضه.
الصنف التاسع في الظاهر وتأويله ويشتمل على مقدمة ومسائل: أما المقدمة ففي تحقيق معنى الظاهر والتأويل.
أما الظاهر فهو في اللغة عبارة عن الواضح ومنه يقال: ظهر الأمر الفلاني إذا اتضح وانكشف وفي لسان المتشرعة قال الغزالي: اللفظ الظاهر هو الذي يغلب على الظن فهم معنىً منه من غير قطع وهو غير جامع مع اشتماله على زيادة مستغنى عنها.
أما أنه غير جامع فلأنه يخرج منه ما فيه أصل الظن دون غلبة الظن مع كونه ظاهراً ولهذا يفرق بين قول القائل: ظن وغلبة ظن ولأن غلبة الظن ما فيه أصل الظن وزيادة.
وأما اشتماله على الزيادة المستغنى عنها فهي قوله: من غير قطع فإن من ضرورة كونه مفيداً للظن أن لا يكون قطعياً.
والحق في ذلك أن يقال: اللفظ الظاهر ما دل على معنى بالوضع الأصلي أو العرفي ويحتمل غيره احتمالاً مرجوحاً.
وإنما قلنا ما دل على معنى بالوضع الأصلي أو العرفي احترازاً عن دلالته على المعنى الثاني إذا لم يصر عرفياً كلفظ الأسد في الإنسان وغيره.
وقولنا ويحتمل غيره احتراز عن القاطع الذي لا يحتمل التأويل وقولنا احتمالاً مرجوحاً احتراز عن الألفاظ المشتركة.
وهو منقسم إلى ما هو ظاهر بحكم الوضع الأصلي كإطلاق لفظ الأسد بإزاء الحيوان المخصوص وإلى ما هو ظاهر بحكم عرف الاستعمال كإطلاق لفظ الغائط بإزاء الخارج المخصوص من الإنسان.(1/260)
وأما التأويل ففي اللغة مأخوذ من آل يؤول أي رجع ومنه قوله تعالى: " ابتغاء تأويله " آل عمران 7 أي ما يؤول إليه ومنه يقال: تأول فلان الآية الفلانية أي نظر إلى ما يؤول إليه معناها.
وأما في اصطلاح المتشرعة قال الغزالي: التأويل عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر وهو غير صحيح: أما أولاً فلأن التأويل ليس هو نفس الاحتمال الذي حمل اللفظ عليه بل هو نفس حمل اللفظ عليه وفرق بين الأمرين وأما ثانياً فلأنه غير جامع فإنه يخرج منه التأويل بصرف اللفظ عما هو ظاهر فيه إلى غيره بدليل قاطع غير ظني حيث قال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر وأما ثالثاً فلأنه أخذ في حد التأويل من حيث هو تأويل وهو أعم من التأويل بدليل ولهذا يقال: تأويل بدليل وتأويل من غير دليل.
فتعريف التأويل على وجه يوجد معه الاعتضاد بالدليل لا يكون تعريفاً للتأويل المطلق اللهم إلا أن يقال: إنما أراد تعريف التأويل الصحيح دون غيره.
والحق في ذلك أن يقال أما التأويل من حيث هو تأويل مع قطع النظر عن الصحة والبطلان هو حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع احتماله له.
وأما التأويل المقبول الصحيح فهو حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع احتماله له بدليل يعضده.
وإنما قلنا حمل اللفظ على غير مدلوله احترازاً عن حمله على نفس مدلوله وقولنا الظاهر منه احتراز عن صرف اللفظ المشترك من أحد مدلوليه إلى الآخر فإنه لا يسمى تأويلاً.
وقولنا مع احتماله له احتراز عما إذا صرف اللفظ عن مدلوله الظاهر إلى ما لا يحتمله أصلاً فإنه لا يكون تأويلاً صحيحاً.
وقولنا بدليل يعضده احتراز عن التأويل من غير دليل فإنه لا يكون تأويلاً صحيحاً أيضاً وقولنا بدليل يعم القاطع والظني وعلى هذا فالتأويل لا يتطرق إلى النص ولا إلى المجمل وإنما يتطرق إلى ما كان ظاهراً لا غير.
وإذا عرف معنى التأويل فهو مقبول معمول به إذا تحقق بشروطه ولم يزل علماء الأمصار في كل عصر من عهد الصحابة إلى زمننا عاملين به من غير نكير.
وشروطه أن يكون الناظر المتأول أهلاً لذلك وأن يكون اللفظ قابلاً للأقاويل بأن يكون اللفظ ظاهراً فيما صرف عنه محتملاً لما صرف إليه وأن يكون الدليل الصارف للفظ عن مدلوله الظاهر راجحاً على ظهور اللفظ في مدلوله ليتحقق صرفه عنه إلى غيره.
وإلا فبتقدير أن يكون مرجوحاً لا يكون صارفاً ولا معمولاً به اتفاقاً وإن كان مساوياً لظهور اللفظ في الدلالة من غير ترجيح فغايته إيجاب التردد بين الاحتمالين على السوية ولا يكون ذلك تأويلا غير أنه يكتفى بذلك من المعترض إذا كان قصده إيقاف دلالة المستدل ولا يكتفى به من المتسدل دون ظهوره وعلى حسب قوة الظهور وضعفه وتوسطه يجب أن يكون التأويل وتمام كشف ذلك بمسائل ثمان: المسألة الأولى قوله صلى الله عليه وسلم لغيلان وقد أسلم علىعشر نسوة " أمسك أربعاً وفارق سائرهن " وقوله لفيروز الديلمي وقد أسلم على أختين " أمسك أيتهما شئت وفارق الأخرى " أمر بالإمساك وهو ظاهر في استصحاب النكاح وقد تأوله أصحاب أبي حنيفة بثلاث تأويلات: الأول أنهم قالوا: يحتمل أنه أراد بالإمساك ابتداء النكاح ويكون معنى قوله " أمسك أربعاً " أي انكح منهن أربعاً وأراد بقوله وفارق سائرهن لا تنكحهن.
الثاني أنهم قالوا: يحتمل أن النكاح في الصورتين كان واقعاً في ابتداء الإسلام قبل حصر عدد النساء في أربع وتحريم نكاح الأختين فكان ذلك واقعاً على وجه الصحة والباطل من أنكحة الكفار ليس إلا ما كان مخالفا لما ورد به الشرع حال وقوعها.
الثالث أنهم قالوا: يحتمل أنه أمر الزوج باختيار أوائل النساء وهذه التأويلات وإن كانت منقدحة عقلاً غير أن ما اقترن بلفظ الإمساك من القرائن دارئة لها.
أما التأويل الأول فمن وجوه: الأول أن المتبادر إلى الفهم من لفظ الإمساك إنما هو الاستدامة دون التجديد الثاني أنه فوض الإمساك والفراق إلى خيرة الزوج وهما غير واقعين بخيرته عندهم لوقوع الفراق بنفس الإسلام وتوقف النكاح على رضا الزوجة.(1/261)
الثالث أنه لم يذكر شروط النكاح مع دعو الحاجة إلى معرفة ذلك لقرب عهدهم بالإسلام الرابع أنه أمر الزوج بإمساك أربع من العشر وواحدة من الأختين وبمفارقة الباقي والأمر إما للوجوب أو الندب ظاهراً على ما تقدم وحصر التزويج في العشرة وفي الأختين ليس واجباً ولا مندوباً والمفارقة ليست من فعل الزوج حتى يكون الأمر متعلقاً بها.
الخامس هو أن الظاهر من الزوج المأمور إنما هو امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإمساك ولم ينقل أحد من الرواة تجديد النكاح في الصور المذكورة.
السادس هو أن الزوج إنما سأل عن الإمساك بمنى الاستدامة لا بمعنى تجديد النكاح وعن الفراق بمعنى انقطاع النكاح والأصل في جواب الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون مطابقاً للسؤال.
وأما التأويل الثاني: فبعيد أيضاً لأنه لو لم يكن الحصر ثابتاً في ابتداء الإسلام لما خلا ابتداء الإسلام عن الزيادة على الأربع عادةً وعن الجمع بين الأختين ولم ينقل عن أحد من الصحابة ذلك في ابتداء الإسلام ولو وقع لنقل.
وقوله تعالى: " وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف " النساء 23 قال أهل التفسير: المراد به ما سلف في الجاهلية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا قال إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً.
وأما التأويل الثالث: فيدرؤه قوله صلى الله عليه وسلم لزوج الأختين أمسك أيتهما شئت وفارق الأخرى وقوله لواحد كان قد أسلم على خمس نسوة إختر منهن أربعاً وفارق واحدة قال المأمور بذلك فعمدت إلى أقدمهن عندي ففارقتها.
المسألة الثانية ومن جملة التأويلات البعيدة ما يقوله أصحاب أبي حنيفة في قوله صلى الله عليه وسلم: " في أربعين شاةً شاة " من أن المراد به مقدار قيمة الشاة وذلك لأن قوله: " في أربعين شاةً شاة " قوي الظهور في وجوب الشاة عيناً حيث إنه خصصها بالذكر ولا بد في ذلك من إضمار حكم وهو إما الندب أو الوجوب وإضمار الندب ممتنع لعدم اختصاص الشاة الواحدة من النصاب به فلم يبق غير الواجب.
ولا يخفى أنه يلزم من تأويل ذلك بالحمل على وجوب مقدار قيمة الشاة بناء على أن المقصود إنما هو دفع حاجات الفقراء وسد خلاتهم جواز دفع القيمة وفيه رفع الحكم وهو وجوب الشاة بما استنبط منه من العلة وهي دفع حاجات الفقراء واستنباط العلة من الحكم إذا كانت موجبةً لرفعه كانت باطلةً.
ومما يلتحق من التأويلات بهذا التأويل ما يقوله بعض الناس في قوله تعالى: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " التوبة 60 الآية من جواز الاقتصار على البعض نظراً إلى أن المقصود من الآية إنما هو دفع الحاجة في جهة من الجهات المذكورة لا دفع الحاجة عن الكل لأن الآية ظاهرة في استحقاق جميع الأصناف المذكورة للصدقة حيث إنه أضافها إليهم بلام التمليك في عطف البعض على البعض بواو التشريك وما استنبط من هذا الحكم من العلة يكون رافعاً لحكم المستنبط منه فلا يكون صحيحاً.
وما يقال من أن مقصود الآية إنما هو بيان مصارف الزكاة وشروط الاستحقاق فنحن وإن سلمنا كون ذلك مقصوداً من الآية فلا نسلم أنه لا مقصود منها سواه ولا منافاة بين كون ذلك مقصوداً وكون الاستحقاق بصفة التشريك مقصوداً وهو الأولى موافقة لظاهر الإضافة بلام التمليك والعطف بواو التشريك.
ويقرب من هذا التأويل أيضاً ما يقوله أصحاب أبي حنيفة في قوله تعالى: " فإطعام ستين مسكيناً " من أن المراد به إطعام طعام ستين مسكيناً مصيراً منهم إلى أن المقصود إنما هو دفع الحاجة ولا فرق في ذلك بين دفع حاجة ستين مسكينا ودفع حاجة مسكين واحد في ستين يوماً وهو بعيد أيضاً وذلك لأن قوله تعالى: " فإطعام " فعل لا بد له من مفعول يتعدى إليه.
وقوله: " ستين مسكيناً " صالح أن يكون مفعول الإطعام وهو مما يمكن الاستغناء به مع ظهوره والطعام وإن كان صالحاً أن يكون هو مفعول الإطعام إلا أنه غير ظاهر ومسكوت عنه فتقدير حذف المظهر وإظهار المفعول المسكوت عنه بعيد في اللغة والواجب عكسه.
وإذا كان ذلك ظاهراً في وجوب رعاية العدد دفعاً لحاجة ستين مسكيناً نظراً للمكفر بما يناله من دعائهم له واغتنامه لبركتهم وقلما يخلو جمع من المسلمين عن ولي من أولياء الله تعالى يكون مستجاب الدعوة مغتنم الهمة وذلك في الواحد المعين مما يندر.
المسألة الثالثة(1/262)
قوله صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل " صدر الكلام بأي وما في معرض الشرط والجزاء وذلك من أبلغ أدوات العموم عند القائلين به وأكده بالبطلان مرةً بعد مرة ثلاث مرات وهو من أبلغ ما يدل به الفصيح المصقع على التعميم والبطلان.
وقد طرق إليه أصحاب أبي حنيفة ثلاث تأويلات الأول أنه يحتمل أنه أراد بالمرأة الصغيرة الثاني أنه وإن أراد بها الكبيرة فيحتمل أنه أراد بها الأمة والمكاتبة الثالث أنه يحتمل أنه أراد ببطلان النكاح مصيره إلى البطلان غالبا بتقدير اعتراض الأولياء عليها إذا زوجت نفسها من غير كفوء.
وهذه التأويلات مما لا يمكن المصير إليها في صرف هذا العموم القوي المقارب للقطع عن ظاهره.
أما الحمل على الصغيرة فمن جهة أنها لا تسمى امرأة في وضع اللسان ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بالبطلان ونكاح الصغيرة لنفسها دون إذن وليها صحيح عندهم موقوف على إجازة الولي.
وأما الحمل على الأمة فيدرأه قوله صلى الله عليه وسلم فإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها ومهر الأمة ليس لها بل لسيدها.
وأما الحمل على المكاتبة فبعيد أيضاً من جهة أنها بالنسبة إلى جنس النساء نادرة واللفظ المذكور من أقوى مراتب العموم وليس من الكلام العربي إطلاق ما هذا شأنه وإرادة ما هو في غاية الندرة والشذوذ ولهذا فإنه لو قال السيد لعبده: أيما امرأة لقيتها اليوم فأعطها درهماً وقال: إنما أردت به المكاتبة كان منسوباً إلى الإلغاز في القول وهجر الكلام.
وعلى هذا فلا نسلم صحة الاستثناء بحيث لا يبقى غير الأقل النادر من المستثنى منه كما سبق تقريره ولا فرق بين البابين.
وأما حمل بطلان النكاح على مصيره إلى البطلان فبعيد من وجهين: الأول: أن مصير العقد إلى البطلان من أندر ما يقع والتعبير باسم الشيء عما يؤول إليه إنما يصح فيما إذا كان المآل إليه قطعاً كما في قوله تعالى: " إنك ميت وإنهم ميتون " الزمر 30 أو غالباً كما في تسمية العصير خمراً في قوله تعالى: " أراني أعصر خمرا " يوسف 36.
الثاني قوله: فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها ولو كان العقد واقعاً صحيحاً لكان المهر لها بالعقد لا بالاستحلال.
المسألة الرابعة ومن التأويلات البعيدة قول أصحاب أبي حنيفة في قوله صلى الله عليه وسلم " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " إن المراد به صوم القضاء والنذر من حيث إن الصوم نكرة وقد دخل عليه حرف النفي فكان ظاهره العموم في كل صوم والمتبادر إلى الفهم من لفظ الصوم إنما هو الصوم الأصلي المتخاطب به في اللغات وهو الفرض والتطوع دون ما وجوبه بعارض ووقوعه نادر وهو القضاء والنذر.
ولا يخفى أن إطلاق ما هو قوي في العموم وإرادة ما هو العارض البعيد النادر وإخراج الأصل الغالب منه إلغاز في القول.
ولهذا فإنه لو قال السيد لعبده: من دخل داري من أقاربي أكرمه وقال: إنما أردت قرابة السبب دون النسب أو ذوات الأرحام البعيدة دون العصبات القريبة كان قوله منكراً مستبعداً لكنه مع ذلك لا ينتهض في البعد إلى بعد التأويل في حمل الخبر السابق على الأمة والمكاتبة.
المسألة الخامسة ومن التأويلات البعيدة أيضا تأويل قوله صلى الله عليه وسلم " من ملك ذا رحم محرم عتق عليه " فإن ظهور وروده لتأسيس قاعدة وتمهيد أصل في سياق الشرط والجزاء والتنبيه على حرمة الرحم المحرم وصلته قوي الظهور في قصد التعميم لكل ذي رحم محرم وذلك مما يمتنع معه التأويل بالحمل على الأصول والفصول دون غيرهم لأنهم قد امتازوا بكونهم على عمود النسب عن غيرهم ممن هو على حواشيه من الأرحام وذلك موجب لاختصاصهم بالتنصيص عليهم إظهاراً لشرف قربهم ونسابتهم فلو كان القصد متعلقاً بهم دون غيرهم بالذكر لما عدل عن التنصيص عليهم إلى ما يعم لما فيه من إسقاط حرمتهم وإهمال خاصيتهم ولذلك فإنه لو قال السيد لعبده: أكرم الناس قاصداً لإكرام أبويه لا غير كان ذلك من الأقوال المهجورة المستبعدة.
المسألة السادسة ومن التأويلات البعيدة تأويل أبي حنيفة في قوله تعالى: " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى " الأنفال 41(1/263)
حيث إنه قال باعتبار الحاجة مع القرابة وحرمان من ليس بمحتاج من ذوي القربى وهو بعيد جداً لأن الآية ظاهرة في إضافة الخمس إلى كل ذوي القربى بلام التمليك والاستحقاق مومئة إلى أن مناط الاستحقاق هو القرابة فإنها مناسبة للاستحقاق إظهاراً لشرفها وإبانةً لخطرها وحيث رتب الاستحقاق على ذكرها في الآية كان ذلك إيماء إلى التعليل بها فالمصير بعد ذلك إلى اعتبار الحاجة يكون تخصيصاً للعموم وتركاً لما ظهر كونه علةً مومى إليها في الآية وهو صفة القرابة وتعليلاً بالحاجة المسكوت عنها وهو في غاية البعد.
فإن قيل: ما ذكرتموه بعينه لازم على قول الشافعي باعتبار الحاجة مع اليتم في سياق الآية.
قلنا: المختار من قول الشافعي إنما هو عدم اعتبار الحاجة مع اليتم وبتقدير القول بذلك فاعتبار الحاجة إنما كان لأن لفظ اليتم مع قرينة إعطاء المال مشعر بها فاعتبارها يكون اعتباراً لما دل عليه لفظ الآية لا أنه إلغاء له واليتم بمجرده عن اقتران الحاجة به غير صالح للتعليل بخلاف القرابة فإن القرابة بمجردها مناسبة للإكرام باستحقاق خمس الخمس كما ذكرناه فاعتبار الحاجة معها يكون تركاً للعمل بما ظهر كونه علةً وعمل بغيره وهو مناقضة لا تأويل.
المسألة السابعة ومن التأويلات البعيدة أيضاً مصير قوم إلى أن قوله صلى الله عليه وسلم " فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بنضح أو دالية نصف العشر " ليس بحجة في إيجاب العشر ونصف العشر في الخضروات لأن المقصود الذي سيق الكلام لأجله إنما هو الفرق بين العشر ونصف العشر لا بيان ما يجب فيه العشر ونصف العشر وهو بعيد أيضاً لأن اللفظ عام في كل ما سقت السماء وسقي بنضح أو دالية بوضع اللغة عند القائلين به وكون ذلك مما يقصد به الفرق بين العشر ونصف العشر غير مانع من قصد التعميم إذ لا منافاة بينهما اللهم إلا أن يبين أن الخبر لم يرد إلا لقصد الفرق وذلك مما لا سبيل إليه.
المسألة الثامنة ومن أبعد التأويلات ما يقوله القائلون بوجوب غسل الرجلين في الوضوء في قوله تعالى: " وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين " المائدة 6 من أن المراد به الغسل وهو في غاية البعد لما فيه من ترك العمل بما اقتضاه ظاهر العطف من التشريك بين الرؤوس والأرجل في المسح من غير ضرورة.
فإن قيل: العطف إنما هو على الوجوه واليدين في أول الآية وذلك موجب للتشريك في الغسل وبيان ذلك من وجهين: الأول قوله تعالى: " إلى الكعبين " قدر المأمور به إلى الكعبين كما قدر غسل اليدين إلى المرفقين ولو كان الواجب هو المسح لما كان مقدراً كمسح الرأس.
الثاني: ما ورد القراءة بالنصب من قوله تعالى: " وأرجلكم " وذلك يدل على العطف على الأيدي دون الرؤوس.
وأما الكسر فإنما كان بسبب المجاورة فإنها موجبة لاستتباع المجاور ومنه قول امرىء القيس: كأن ثبيراً في عرانين وبله كبير أناس في بجاد مزمل كسر مزمل استتباعاً لما قبله وإلا فحقه أن يكون مرفوعاً لكونه وصف كبير وإن سلمنا أن الأرجل معطوفة على الرؤوس غير أنه ليس من شرط العطف الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في تفاصيل حكم المعطوف عليه بل في أصله كما سبق تقريره وذلك مما قد وقع الاشتراك فيه فإن الغسل والمسح قد اشتركا في أن كل واحد منهما فيه إمساس العضو بالماء وإن افترقا في خصوص المسح والغسل وذلك كاف في صحة العطف ودليله قول الشاعر: ولقد رأيتك في الوغى متقلداً سيفاً ورمحا عطف الرمح على التقلد بالسيف وإن كان الرمح لا يتقلد وإنما يعتقل به لاشتراكهما في أصل الحمل وكذلك عطف الشاعر الماء على التبن في قوله: وعلفتها تبناً وماءً بارداً.
والماء لا يعلف لاشتراكهما في أصل التناول.
والجواب قولهم إن العطف إنما هو على الأيدي فأبعد من كل بعيد لما فيه من ترك العطف على ما يلي المعطوف إلى ما لا يليه.
وأما التقدير بالكعبين فمما لا يمنع من العطف على الرؤوس الممسوحة وإن لم يكن مسح الرؤوس مقدراً في الآية كما عطف الأيدي على الوجوه في حكم الغسل وإن كان غسل اليدين مقدراً وغسل الوجوه غير مقدر.
وأما القرآءة بالنصب فإنما كان ذلك عطفاً على الموضع وذلك لأن الرؤوس في موضع النصب بوقوع الفعل عليها غير أنه لما دخل الخافض على الرؤوس أوجب الكسر ومنه قول الشاعر:(1/264)
معاوي إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا عطف الحديد على موضع الجبال إذ هي في موضع نصب غير أنها خفضت بدخول الجار عليها.
قولهم إن الكسر بسبب المجاورة إنما يصح إذا لم يكن بين المتجاورين فاصل كما ذكروه من الشعر وأما إذا فصل بينهما حرف العطف فلا.
وإن سلمنا جوازه غير أنه مما لا يتحمل إلا لضرورة الشعر فلا ينتهض موجباً لاتباعه وترك ما أوجبه العطف.
ومثل ذلك وإن ورد في النثر كما في قولهم جحر ضب خرب وماء شن بارد فمن النوادر الشاذة التي لا يقاس عليها.
قولهم: إن العطف وإن وقع على الرؤوس فذلك غير موجب للاشتراك في تفاصيل حكم المعطوف عليه.
قلنا: هذا هو الأصل وإنما يصار إلى خلافه لدليل ولا دليل وإنما ذكرنا هذه النبذة من مسائل التأويلات لتدرب المبتدئين بالنظر في أمثالها.
وبالجملة فالمتبع في ذلك إنما هو نظر المجتهد في كل مسألة فعليه اتباع ما أوجبه ظنه.
القسم الثاني
في دلالة غير المنظوم
وهو ما دلالته لا بصريح صيغته ووضعه وذلك لا يخلو إما أن يكون مدلوله مقصوداً للمتكلم أو غير مقصود: فإن كان مقصوداً فلا يخلو إما أن يتوقف صدق المتكلم أو صحة الملفوظ به عليه أو لا يتوقف: فإن توقف فدلالة اللفظ عليه تسمى دلالة الاقتضاء وإن لم يتوقف فلا يخلو إما أن يكون مفهوماً في محل تناوله اللفظ نطقاً أو لا فيه فإن كان الأول فتسمى دلالته دلالة التنبيه والإيماء وإن كان الثاني فتسمى دلالته دلالة المفهوم وأما إن كان مدلوله غير مقصود للمتكلم فدلالة اللفظ عليه تسمى دلالة الإشارة.
فهذه أربعة أنواع:
النوع الأول
دلالة الاقتضاء
وهي ما كان المدلول فيه مضمراً إما لضرورة صدق المتكلم وإما لصحة وقوع الملفوظ به فإن كان الأول فهو كقوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وقوله عليه السلام: " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " وقوله عليه السلام: " لا عمل إلا بنية " فإن رفع الصوم والخطإ والعمل مع تحققه ممتنع فلا بد من إضمار نفي حكم يمكن نفيه كنفي المؤاخذة والعقاب في الخبر الأول ونفي الصحة أو الكمال في الخبر الثاني ونفي الفائدة والجدوى في الخبر الثالث ضرورة صدق الخبر.
وإما إن كان لصحة الملفوظ به فإما أن تتوقف صحته عليه عقلاً أو شرعاً.
فإن كان الأول فكقوله تعالى: " واسأل القرية " يوسف 82 فإنه لا بد من إضمار أهل القرية لصحة الملفوظ به عقلاً.
وإن كان الثاني فكقول القائل لغيره: أعتق عبدك عني على ألف فإنه يستدعي تقدير سابقة انتقال الملك إليه ضرورة توقف العتق الشرعي عليه.
النوع الثاني
دلالة التنبيه والإيماء
وهي خمسة أصناف وسيأتي ذكرها في القياس
النوع الثالث
دلالة الإشارة
وذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم في " حق النساء النساء ناقصات عقل ودين " فقيل له: يا رسول الله ما نقصان دينهن؟ قال: تمكث إحداهن في قعر بيتها شطر دهرها لا تصلي ولا تصوم " فهذا الخبر إنما سيق لبيان نقصان دينهن لا لبيان أكثر الحيض وأقل الطهر ومع ذلك لزم منه أن يكون أكثر الحيض خمسة عشر يوماً وأقل الطهر كذلك لأنه ذكر شطر الدهر مبالغة في بيان نقصان دينهن ولو كان الحيض يزيد على خمسة عشر يوما وأقل الطهر لذكره وكذلك دلالة مجموع قوله تعالى: " وحمله وفصاله ثلاثون شهراً " الأحقاف 15 وقوله تعالى: " وفصاله في عامين " لقمان 14 على أن أقل مدة ستة أشهر وإن لم يكن ذلك مقصوداً من اللفظ وكذلك قوله تعالى: " فالآن باشروهن " البقرة 187 أباح المباشرة ممتدة إلى طلوع الفجر بقوله: " حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود " البقرة 187 وكان بيان ذلك هو المقصود ومع ذلك لزم منه أن من جامع في ليل رمضان وأصبح جنباً لم يفسد صومه لأن من جامع في آخر الليل لا بد من تأخر غسله إلى النهار فلو كان ذلك مما يفسد الصوم لما أبيح الجماع في آخر جزء من الليل ومع ذلك فإنه لم يقع مقصوداً من الكلام إلى نظائره.
النوع الرابع
المفهوم
ولا بد من النظر في معناه وأصنافه قبل الحجاج في نفيه وإثباته.
أما معناه فاعلم أن المفهوم مقابل للمنطوق والمنطوق أصل للمفهوم فلا بد من تحقيقه أولاً ثم العود إلى تحقيق معنى المفهوم ثانياً.(1/265)
فنقول أما المنطوق فقد قال بعضهم هو ما فهم من اللفظ في محل النطق وليس بصحيح فإن الأحكام المضمرة في دلالة الاقتضاء مفهومة من اللفظ في محل النطق ولا يقال لشيء من ذلك منطوق اللفظ فالواجب أن يقال: المنطوق ما فهم من دلالة اللفظ قطعاً في محل النطق وذلك كما في وجوب الزكاة المفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم في الغنم السائمة زكاة وكتحريم التأفيف للوالدين من قوله تعالى: " ولا تقل لهما أف " الإسراء 23 إلى نظائره.
وأما المفهوم فهو ما فهم من اللفظ في غيره محل النطق والمنطوق وإن كان مفهوماً من اللفظ غير أنه لما كان مفهوماً من دلالة اللفظ نطقا خص باسم المنطوق وبقي ما عداه معرفاً بالمعنى العام المشترك تمييزاً بين الأمرين.
وإذا عرف معنى المفهوم فهو ينقسم إلى ما يسمى مفهوم الموافقة وإلى ما يسمى مفهوم المخالفة.
أما مفهوم الموافقة فما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت موافقاً لمدلوله في محل النطق ويسمى أيضا فحوى الخطاب ولحن الخطاب والمراد به معنى الخطاب ومنه قوله تعالى: " ولتعرفنهم في لحن القول " محمد 30 أي في معناه.
وقد يطلق اللحن ويراد به اللغة ومنه يقال: لحن فلان بلحنه إذا تكلم بلغته وقد يطلق ويراد به الفطنة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ولعل بعضكم الحن بحجته من بعض أي أفطن وقد يطلق ويراد به الخروج عن ناحية الصواب ويدخل فيه إزالة الإعراب عن جهة الصواب ومثاله تحريم شتم الوالدين وضربهما من دلالة قوله تعالى: " ولا تقل لهما أف " فإن الحكم المفهوم من اللفظ في محل السكوت موافق للحكم المفهوم في محل النطق وكذلك دلالة قوله تعالى: " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً " النساء 10 على تحريم إتلاف أموالهم وكدلالة قوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " الزلزلة 7 - 8 على المقابلة فيما زاد على ذلك وكدلالة قوله تعالى: " ومنهم من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك " آل عمران 75 على تأدية ما دون القنطار وعدم تأدية ما فوق الدينار إلى غير ذلك من النظائر.
والدلالة في جميع هذه الأقسام لا تخرج من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى وبالأعلى على الأدنى ويكون الحكم في محل السكوت أولى منه في محل النطق وإنما يكون كذلك إن لو عرف المقصود من الحكم في محل النطق من سياق الكلام وعرف أنه أشد مناسبة واقتضاء للحكم في محل السكوت من اقتضائه له في محل النطق وذلك كما عرفنا من سياق الآية المحرمة للتأفيف أن المقصود إنما هو كف الأذى عن الوالدين وأن الأذى في الشتم والضرب أشد من التأفيف فكان بالتحريم أولى.
وإلا فلو قطعنا النظر عن ذلك لما لزم من تحريم التأفيف تحريم الضرب العنيف ولهذا فإنه يتنظم من الملك أن يأمر الجلاد بقتل والده إذا استيقن منازعته له في ملكه وينهاه عن التأفيف حيث كان المقصود من الأمر بالقتل إنما هو دفع محذور المنازعة في الملك وإن كان القتل أشد في دفعه من التأفيف ولذلك لم يلزم من إباحة أعلى المحذورين إباحة أدناهما ولا من تحريم أدناهما تحريم أعلاهما.
وهذا مما اتفق أهل العلم على صحة الاحتجاج به إلا ما نقل عن داود الظاهري أنه قال إنه ليس بحجة ودليل كونه حجةً أنه إذا قال السيد لعبده لا تعط زيداً حبة ولا تقل له أف ولا تظلمه بذرة ولا تعبس في وجهه فإنه يتبادر إلى الفهم من ذلك امتناع إعطاء ما فوق الحبة وامتناع الشتم والضرب وامتناع الظلم بالدينار وما زاد وامتناع أذيته بما فوق التعبيس من هجر الكلام وغيره ولذلك كان المفهوم من قول النبي صلى الله عليه وسلم احفظ عفاصها ووكاءها حفظ ما التقط من الدنانير ومن قوله صلى الله عليه وسلم في الغنيمة أدوا الخيط والمخيط أداء الرحال والنقود وغيرها ومن قوله من سرق عصى مسلم فعليه ردها رد ما زاد على ذلك.
وكذلك لو حلف أنه لا يأكل لفلان لقمةً ولا يشرب من مائه جرعةً كان ذلك موجباً لامتناعه من أكل ما زاد على اللقمة كالرغيف وشرب ما زاد على الجرعة إلى نظائره.
غير أن الخلاف واقع في أن مستند الحكم في محل السكوت هل هو فحوى الدلالة اللفظية أو الدلالة القياسية.
وقد احتج القائلون بالفحوى بأن العرب إنما وضعت هذه الألفاظ للمبالغة في التأكيد للحكم في محل السكوت وأنها أفصح من التصريح بالحكم في محل السكوت.(1/266)
ولهذا فإنهم إذا قصدوا المبالغة في كون أحد الفرسين سابقاً للآخر قالوا هذا الفرس لا يلحق غبار هذا الفرس وكان ذلك عندهم أبلغ من قولهم هذا الفرس سابق لهذا الفرس وكذلك إذا قالوا فلان يأسف بشم رائحة مطبخه فإنه أفصح عندهم وأبلغ من قولهم فلان لا يطعم ولا يسقي.
واحتج القائلون بكونه قياساً أنا لو قطعنا النظر عن المعنى الذي سيق له الكلام من كف الأذى عن الوالدين وعن كونه في الشتم والضرب أشد منه في التأفيف لما قضى بتحريم الشتم والضرب إجماعاً ولما سبق من جواز أمر الملك للجلاد بقتل والده والنهي عن التأفيف له فالتأفيف أصل والشتم والضرب فرع ودفع الأذى علة والتحريم حكم ولا معنى للقياس إلا هذا.
وسموا ذلك قياساً جلياً نظراً إلى أن الوصف الجامع بين الأصل والفرع ثابت بالتأثير والأشبه إنما هو المذهب الأول وهو الإسناد إلى فحوى الدلالة اللفظية.
وما قيل من أنه لا بد من فهم المعنى وكونه في محل السكوت أولى بالحكم في محل النطق فهو شرط تحقق الفحوى ولا مناقضة بينه وبين الفحوى ويدل على أنه ثابت بالفحوى لا بالقياس أمران: الأول: أن القياس لا يشترط فيه أن يكون المعنى المناسب للحكم في الفرع أشد مناسبة له من حكم الأصل إجماعاً وهذا النوع من الاستدلال لا يتم دونه فلا يكون قياساً.
الثاني: أن الأصل في القياس لا يكون مندرجاً في الفرع وجزءاً منه إجماعاً وهذا النوع من الاستدلال قد يكون ما تخيل أصلاً فيه جزءاً مما تخيل فرعاً وذلك كما قال السيد لعبده لا تعط لفلان حبة فإنه يدل على امتناع إعطاء الدينار وما زاد عليه والحبة المنصوصة تكون داخلةً فيه وكذلك قوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " الزلزلة 7 - 8 فإنه يدل على روية ما زاد على الذرة والذرة تكون داخلةً فيه إلى نظائره.
ولهذا فإن كل من خالف في القياس مطلقاً وافق على هذا النوع من الدلالة سوى أهل الظاهر ولو كان قياسا لما كان كذلك وعلى كل تقدير فهو منقسم إلى قطعي وظني.
أما القطعي فكما ذكرنا من آية التأفيف حيث إنا علمنا من سياق الآية أن حكمة تحريم التأفيف إنما هو دفع الأذى عن الوالدين وأن الأذى في الشتم والضرب أشد.
وأما الظني فكما في قوله تعالى: " ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " النساء 92 فإنه وإن دل على وجوب الكفارة في القتل العمد لكونه أولى بالمؤاخذة كما يقوله الشافعي غير أنه ليس بقطعي لإمكان أن لا تكون الكفارة في القتل الخطإ موجبة بطريق المؤاخذة لقوله صلى الله عليه وسلم: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " والمراد به رفع المؤاخذة بل نظراً للخاطىء بإيجاب ما يكفر ذنبه في تقصيره ومن ذلك سميت كفارةً وجناية المتعمد فوق جناية الخاطىء وعند ذلك فلا يلزم من كون الكفارة رافعة لإثم أدنى الجنايتين أن تكون رافعةً لإثم أعلاهما.
وأما مفهوم المخالفة فهو ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت مخالفاً لمدلوله في محل النطق ويسمى دليل الخطاب أيضاً وهو عند القائلين به منقسم إلى عشرة أصناف متفاوتة في القوة والضعف.
الصنف الأول :منها ذكر الاسم العام مقترناً بصفة خاصة كقوله صلى الله عليه وسلم: في الغنم السائمة زكاة.
الصنف الثاني: مفهوم الشرط والجزاء كقوله تعالى: " وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن " الطلاق 6 وقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه " الصنف الثالث: مفهوم الغاية كقوله تعالى: " فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " البقرة 230 وقوله تعالى: " ولا تقربوهن حتى يطهرن " البقرة 222 " وحتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " التوبة 29 الصنف الرابع: مفهوم إنما كقوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات وإنما الربا في النسيئة وإنما الولاء لمن أعتق وإنما الشفعة فيما لم يقسم " إلى نظائره.
الصنف الخامس: التخصيص بالأوصاف التي تطرأ وتزول بالذكر كقوله صلى الله عليه وسلم: الثيب أحق بنفسها من وليها وقوله عليه الصلاة والسلام في السائمة زكاة.
الصنف السادس: مفهوم اللقب وذلك كتخصيص الأشياء الستة في الذكر بتحريم الربا.
الصنف السابع: مفهوم الاسم المتشق الدال على الجنس كقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تبيعوا الطعام بالطعام " وهو قريب من مفهوم اللقب لكون الطعام لقباً لجنس.(1/267)
الصنف الثامن: مفهوم الاستثناء كقوله تعالى: " لا إله إلا الله " الصافات 35 وقول القائل: لا عالم في البلد إلا زيد.
الصنف التاسع: تعليق الحكم بعدد خاص كتخصيص حد القذف بثمانين.
الصنف العاشر: مفهوم حصر المبتدإ في الخبر كقوله: العالم زيد وصديقي عمرو.
وإذا عرف المفهوم بحده وأصنافه فيجب أن تعلم قبل الخوض في الحجاج في هذه الأصناف أن مستند فهم الحكم في محل السكوت عند القائلين به إنما هو النظر إلى فائدة تخصيص محل النطق بالذكر دون غيره وسواء كان ذلك من قبيل مفهوم الموافقة أو المخالفة وإن افترقا من جهة أن فائدة التخصيص بالذكر في مفهوم الموافقة إنما هو تأكيد مثل حكم المنطوق في محل المسكوت عنه وفائدة التخصيص بالذكره في مفهوم المخالفة إنما هو نفي مثل حكم المنطوق في محل السكوت وذلك مما لا يعلم من مجرد تخصيص محل النطق بالذكر دون نظر عقلي يتحقق به أن التخصيص للتأكيد أو النفي وذلك بأن ينظر إلى حكمة الحكم المنطوق به.
فإن عرفت وعرف تحققها في المحل المسكوت عنه وأنها أولى باقتضائها الحكم فيه من الحكم في محل النطق علم أن فائدة التخصيص التأكيد وأن المفهوم مفهوم الموافقة وإن لم يعلم حكمة الحكم المنطوق به أو علمت غير أنها لم تكن متحققةً في محل السكوت أو كانت متحققة فيه لكنها ليست أولى باقتضاء الحكم فيه علم أن فائدة التخصيص إنما هي النفي وأن المفهوم مفهوم المخالفة.
وإذا أتينا على تحقيق المفهوم وأصنافه فلنرجع إلى المقصود من الحجاج في نفيه وإثباته وما هو المختار في كل واحد من أصنافه فنقول: أما مفهوم الموافقة فقد اتفق الكل على صحة الاحتجاج به سوى الظاهرية وإن اختلفوا في دلالته هل هي لفظية أو قياسية على ما سبق.
والمتفقون على صحة مفهوم الموافقة اختلفوا في صحة الاحتجاج بمفهوم المخالفة فيجب الخوض فيما يتعلق به من المسائل وهي تسع مسائل.
المسألة الأولى اختلفوا في الخطاب الدال على حكم مرتبط باسم عام مقيد بصفة خاصة كقوله صلى الله عليه وسلم: " في الغنم السائمة زكاة " هل يدل على نفي الزكاة عن غير السائمة أو لا ؟فأثبته الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل والأشعري وجماعة من الفقهاء والمتكلمين وأبو عبيد وجماعة من أهل العربية ونفاه أبو حنيفة وأصحابه والقاضي أبو بكر وابن سريج والقفال والشاشي وجماهير المعتزلة.
وفرق أبو عبد الله البصري من المعتزلة وقال: الخطاب المتعلق بالصفة دال على النفي عما عداها في أحد أحوال ثلاث وهي: أن يكون الخطاب قد ورد للبيان كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " في الغنم السائمة زكاة " أو التعليم كما في خبر التحالف عند التخالف والسلعة قائمة أو يكون ما عدا الصفة داخلاً تحتها كالحكم بالشاهدين فإنه يدل على نفيه عن الشاهد الواحد لدخوله في الشاهدين ولا يدل على النفي فيما سوى ذلك.
وإذ أتينا على تفصيل المذاهب من الجانبين فلا بد من ذكر حجج الفريقين والتنبيه على ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
أما القائلون بالإثبات فقد احتجوا بحجج نقلية وعقلية.
أما الحجج النقلية فست حجج.
الحجة الأولى: أنهم قالوا إن أبا عبيد القاسم بن سلام من أهل اللغة وقد قال بدليل الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " حيث قال إنه أراد به أن من ليس بواجد لا يحل عرضه وعقوبته والواجد هو الغني وليه مطله ومعنى إحلال عرضه مطالبته وعقوبته حبسه.
وقال في قوله صلى الله عليه وسلم: " لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلىء شعراً " وقد قيل إن: النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد الهجاء من الشعراء أو هجا الرسول فقال: لو كان ذلك هو المراد لم يكن لتعليق ذلك بالكثرة وامتلاء الجوف منه معنى لأن ما دون ملء الجوف من ذلك ككثيره ووجه الاحتجاج به أنه فهم أن تعليق الذم على امتلاء الجوف من ذلك مخالف لما دونه.(1/268)
ولقائل أن يقول: حكم أبي عبيد بذلك إن ادعيتم أنه كان نقلاً عن العرب فهو غير مسلم وليس في لفظه ما يدل على النقل وإن قلتم إن ذلك كان بناء على مذهبه واجتهاده فغايته أنه مجتهد فيه فلا يكون ذلك حجةً على غيره من المجتهدين المخالفين له في ذلك كيف وإنه لو ذكر ذلك نقلاً فلا نسلم كونه حجةً في مثل هذه القاعدة اللغوية لكونه من أخبار الآحاد ثم هو معارض بمذهب الأخفش فإنه من أهل اللغة ولم يقل بدليل الخطاب على ما نقل عنه على أنه يمكن أن يكون حكمه بذلك مستنداً إلى النفي الأصلي وعدم دلالة الدليل على مخالفته وهو أولى جمعاً بين المذاهب.
الحجة الثانية: ما روى قتادة أنه قال: لما نزل قوله تعالى: " استغفر لهم أو لا تستغفر لم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم " التوبة 80 قال النبي صلى الله عليه وسلم: قد خيرني ربي فوالله لأزيدن على السبعين فعقل أن ما زاد على السبعين بخلافه.
لقائل أن يقول: ما ذكرتموه من أخبار الآحاد لا نسلم كونه حجةً في مثل هذه القاعدة وإن سلمنا أنه حجة ولكن يمتنع التمسك به لوجهين: الأول: أن زيادة النبي صلى الله عليه وسلم على السبعين في الاستغفار ليس فيه ما يدل على فهمه وقوع المغفرة لهم باستغفاره زيادةً على السبعين وليس في لفظه ما يدل عليه فيحتمل أنه قصد بذلك استمالة قلوب الأحياء منهم ترغيباً لهم في الدين لا لوقوع المغفرة وليس أحد الأمرين أولى من الآخر بل ربما كان احتمال الاستمالة أولى من فهمه وقوع المغفرة بالزيادة على السبعين في الاستغفار من الآية لما فيه من دفع التعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى: " سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم " المنافقون 6 الوجه الثاني: أن تخصيص نفي المغفرة بالسبعين يدل على انتفاء المغفرة بالسبعين قطعاً ضرورة صدق الله تعالى في خبره.
ومن قال بدليل الخطاب فهو قائل بأنه يدل على نقيض حكم المنطوق في محل السكوت وعند ذلك فلو دل اختصاص السبعين بنفي المغفرة قطعاً على نقيضه في محل السكوت لكان دالا على وقوع المغفرة بعد السبعين وذلك إما أن يكون قطعاً أو ظناً: الأول خلاف الإجماع وخلاف ما ذكرناه من الآية الدالة على امتناع المغفرة بعد السبعين والثاني فليس نقيضا لنفي المغفرة قطعاً بل هو مقابل والمقابل أعم من النقيض فلا يكون ذلك من باب دليل الخطاب وفيه دقة فليتأمل.
الحجة الثالثة: مصير ابن عباس رضي الله عنهما إلى منع توريث الأخت مع البنت استدلالاً بقوله تعالى: " إنه امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك " النساء 176 حيث إنه فهم من توريث الأخت مع عدم الولد امتناع توريثها مع البنت لأنها ولد وهو من فصحاء العرب وترجمان القرآن.
وجواب هذه الحجة ما سبق في دفع الحجة التي قبلها كيف وإنه يحتمل أنه ورث الأخت عند عدم الولد بالآية وعند وجود البنت لم يورثها بناء على استصحاب النفي الأصلي لا بناء على دليل الخطاب وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
الحجة الرابعة: أن الصحابة اتفقوا على أن قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل " ناسخ لقوله صلى الله عليه وسلم: " الماء من الماء " ولولا أن قوله: " الماء من الماء " يدل على نفي الغسل من غير إنزال لما كان نسخاً له.
ولقائل أن يقول: لا نسلم صحة الاحتجاج بخبر الواحد في اللغات وإن سلمنا ولكن لا نسلم أن جملة الصحابة اتفقوا على ذلك.
وقول البعض لا يكون حجةً على غيره وإن سلمنا اتفاق الصحابة على ذلك ولكن إنما حكموا بكونه ناسخاً لا لمدلول دليل الخطاب بل يحتمل أنهم فهموا من قوله صلى الله عليه وسلم الماء من الماء كل غسل من إنزال الماء ويدل على تأكد هذا الاحتمال قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ماء إلا من الماء " فكان قوله: " إذا التقى الختانان وجب الغسل " ناسخاً لمدلول عموم الأول لا لمدلول دليل الخطاب وليس أحد الأمرين أولى من الآخر بل حمله على ما ذكرناه أولى لكونه متفقاً عليه ومختلفا فيما ذكروه.(1/269)
الحجة الخامسة ما روي أن يعلى بن أمية قال لعمر: ما بالنا نقصر وقد أمنا وقد قال الله تعالى: " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم " النساء 101 ووجه الاحتجاج به أنه فهم من تخصيص القصر بحالة الخوف عدم القصر عند عدم الخوف ولم ينكر عليه عمر بل قال: لقد عجبت مما عجبت منه فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال لي: " هي صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " ويعلى بن أمية وعمر من فصحاء العرب وقد فهما ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم أقرهما عليه.
ولقائل أن يقول: لا نسلم صحة الاحتجاج بخبر الواحد هاهنا وإن سلمنا لكن يحتمل أن يعلى وعمر بنيا عدم القصر على استصحاب الحال في حالة الأمن لا على دليل الخطاب وليس أحد الأمرين أولى من الآخر بل البناء على الاستصحاب أولى دفعاً للتعارض بين الدليل المجوز للقصر حالة الأمن والدليل النافي له.
الحجة السادسة: أنه إذا قال العربي لوكيله: اشتر لي عبداً أسود فهم منه عدم الشراء للأبيض حتى إنه لو اشترى أبيض لم يكن ممتثلاً وكذلك إذا.
قال الرجل لزوجته: أنت طالق إن دخلت الدار فهم منه انتفاء الطلاق عند عدم الدخول.
ولقائل أن يقول: ليس ذلك مفهوماً من دليل الخطاب بل عدم شراء الأبيض وعدم وقوع الطلاق قبل دخول الدار إنما كان مستنداً إلى النفي الأصلي ولهذا فإنه لو قال له لا تشتر لي عبداً أسود وقال لزوجته: إن دخلت الدار فلست طالقاً فإنه لا يصح شراؤه لعبد غير أسود ولا يقع بالزوجة الطلاق بتقدير عدم دخول الدار لبقاء ذلك على النفي الأصلي ولو كان نفي الحكم في محل السكوت مما يدل عليه ذكر الحكم في محل النطق لصح شراء عبد ليس بأسود وطلقت الزوجة بتقدير عدم دخول الدار.
وعلى هذا فكل خطاب ورد في الشرع أو اللغة بحكم مخصص بصفة وهو منفى عما عدا تلك الصفة فهو مبني على استصحاب الحال لا على دليل الخطاب.
وأما الحجج العقلية فخمس حجج.
الحجة الأولى: أنه لو كان حكم السائمة والمعلوفة سواء في وجوب الزكاة لما كان لتخصيص السائمة بالذكر فائدة بل كان ملغزاً بذكر ما يوهم في الزكاة في المعلوفة ومقصراً في البيان مع دعو الحاجة إليه.
وذلك على خلاف الأصل وحيث امتنع ذلك دل على أن فائدة التخصيص بذكر السائمة نفي الزكاة عن المعلوفة.
ولقائل أن يقول: ما ذكرتموه في إثبات دليل الخطاب يرجع إلى إثبات الوضع بما فيه من الفائدة ولا نسلم إمكان إثبات الوضع بذلك سلمنا إمكان ذلك ولكن لا نسلم أنه لا فائدة في تخصيص الصفة بالذكر سوى نفي الحكم المعلق بها عند عدمها وبيانه من وجهين: الأول: أنه لو لم يكن له فائدة سوى نفي الحكم في محل السكوت لامتنع ورود نص خاص يدل على إثبات الحكم في محل السكوت لما فيه من إبطال فائدة التخصيص بالذكر لمحل النطق لما يلزم من اللغو في كلام الحكيم وهو ممتنع.
فإن قيل: فإذا أثبت مثل ذلك الحكم في محل السكوت لم يكن مخصصاً للصفة بالحكم حتى يقال بأن التخصيص يكون لغواً.
قلنا: فإذا مجرد تخصيص الصفة بالذكر لا يكون دليلا على نفي الحكم عند عدمها دون البحث عما يدل على إثبات الحكم في محل السكوت مع عدم الظفر به وليس كذلك عندكم لكن نفس التخصيص دليل ووجود ما يدل على إثبات الحكم في صورة السكوت يكون معارضاً له بل أمكن وجود فائدة أخرى دعت إلى التخصيص بالذكر وهي إما عموم وقوع المذكور كما في قوله تعالى: " وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " النساء 23 وإما لسؤال سائل سأل عن ذلك أو لحدوث واقعة وقعت كذلك.(1/270)
وإن لم يكن شيء من ذلك فأمكن أن يكون ذلك لرفع وهم من توهم أن حكم الصفة بتقدير تعميم اللفظ يكون مخالفاً لحكم العموم ويكون بذلك منبهاً على إثبات الحكم فيما عدا الصفة بطريق الأولى وذلك كما لو قال: ضحوا بشاة فإنه قد يتوهم متوهم أنه لا يجوز التضحية بشاة عوراء فإذا قال: ضحوا بشاة عوراء كان ذلك أدل على التضحية بما ليست عوراء وكذلك لو قال: ولا تقتلوا أولادكم على العموم فقد يتوهم أنه لم يرد النهي عن قتلهم عند خشية الإملاق فإذا قال: " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق " الإسراء 31 كان أدل على النهي في غير حالة الخشية وإن لم يكن كذلك أمكن أن يكون لفائدة تعريف حكم المنطوق والمسكوت بنصين مختلفين إذ هو أدل على المقصود من التعميم لوقوع الخلاف فيه وإمكان تطرق التخصيص بالاجتهاد إلى محل الصفة وغيرها وليس مراداً للتخصيص وإن لم يكن كذلك أمكن أن يكون ذلك لفائدة التوصل إلى معرفة الحكم في المسكوت عنه بطريق الاجتهاد لينال المكلف ثواب الاجتهاد حين توفر دواعي المجتهدين على النظر والاستدلال والبحث عن الأحكام الشرعية فتبقى غضة طرية كما هي في سائر الأصول المنصوص عليها مع وقوعها في الأقيسة وإن لم يكن كذلك أمكن أن يكون حكم الصفة جارياً على حكم العقل الأصلي وتكون المصلحة في نظر الشارع تعريف ذلك الحكم عند وجود الصفة بالنص وعند عدمها بالبقاء على الحكم الأصلي كما لو قال: لا زكاة في الغنم السائمة وإن لم يكن كذلك وكان الحكم في محل السكوت مخالفاً للحكم في محل النطق فأمكن أن يكون ثبوت الحكم على خلاف حكم العقل كما في إيجاب الزكاة وتكون فائدة التنصيص على محل الصفة اختصاصه بالحكم فإنه لولا النص لما ثبت ويكون الحكم في محل السكوت منتفياً بناءً على حكم العقل الأصلي.
فإن قيل: فإذا سلمتم انتفاء الحكم في محل السكوت فقد وافقتم على المطلوب.
قلنا: ليس كذلك فإن النزاع إنما وقع في إسناد النفي في محل السكوت إلى دليل الخطاب لا إلى النفي الأصلي وإن سلمنا أنه لا فائدة في التخصيص سوى ما ذكرتموه لكن يلزم على ما ذكرتموه مفهوم اللقب الذي لم يقل به محصل على ما يأتي تقريره فكل ما هو جواب لكم ثم فهو جواب لنا هاهنا.
الحجة الثانية: إن أهل اللغة فرقوا بين الخطاب المطلق والمقيد بالصفة كما فرقوا بين الخطاب المرسل وبين المقيد بالاستثناء والاستثناء يدل على أن حكم المستثنى على خلاف حكم المستثنى منه فكذلك الصفة.
ولقائل أن يقول: نحن لا ننكر الفرق بين حكم الخطاب المطلق وبين حكم الخطاب المقيد بالصفة فإن حكم المطلق العلم أو الظن بثبوت حكمه مطلقاً وحكم الخطاب المقيد بالصفة ثبوته في محل التنصيص قطعاً أو ظناً وفي غير محل الصفة مشكوك في إثباته ونفيه فقد افترقا كما وقع الافتراق بين الخطاب المطلق والخطاب المستثنى منه غير أن المطلق يقتضي إثبات الحكم أو نفيه مطلقاً والخطاب المستثنى منه يقتضي نفي الحكم في صورة الاستثناء جزماً.
وعلى هذا فإن قيل بأن الفرق سوى بينهما من كل وجه فهو ممتنع وإن قيل بوجوب التسوية بينهما من جهة أنه لا بد من الافتراق بين المطلق والمقيد بالصفة في الجملة كما وقع الافتراق بين المطلق والمستثنى منه في الجملة فهو واقع لا محالة.
الحجة الثالثة: أنه إذا كان التخصيص بذكر الصفة يدل على الحكم في محل التنصيص وعلى نفيه في محل السكوت كانت الفائدة فيه أكثر مما إذا لم يدل فوجب جعله دليلاً عليه.
ولقائل أن يقول: ما ذكرتموه وإن كان من جملة الفوائد غير أن إثبات الحكم أو نفيه مأخوذاً من دليله فرع دلالة ذلك الدليل عليه.
فلو قيل بكونه دليلاً عليه لكون الحكم يكون داخلاً فيه كان دوراً كيف وإنه ليس القول بكون التخصيص دالاً على نفي الحكم في محل السكوت تكثيرا للفائدة وإبطال ما ذكرناه من الفوائد التي سبقت أولى من العكس.
الحجة الرابعة: أن التعليق بالصفة كالتعليق بالعلة والتعليق بالعلة يوجب نفي الحكم لانتفاء العلة فكذلك الصفة.
ولقائل أن يقول: لا نسلم لزوم انتفاء الحكم مع انتفاء العلة حتى يقال مثله في الصفة اللهم إلا أن يقال باتحاد العلة فإنه يلزم من نفيها نفي الحكم ولكن لا نسلم أنه يلزم مثله في الصفة ضرورة أنه يلزم من تعدد أصناف النوع وأشخاصه تعدد صفاته وإلا لما تعدد بل كان متحداً من كل وجه.(1/271)
الحجة الخامسة: أنه قال: صلى الله عليه وسلم " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعاً " فلو لم يدل على عدم الطهارة فيما دون السبع وإلا لما طهر بالسبع لأن السابعة تكون واردة على محل طاهر فلا يكون طهوره بالسبع ويلزم من ذلك إبطال دلالة المنطوق.
وكذلك إذا قال: " يحرم من الرضاع خمس رضعات " لو لم يدل على أن ما دون ذلك لا يحرم لما كانت الخمس رضعات محرمة لما عرف في الغسلات.
ولقائل أن يقول: لا يلزم من كون الغسلات السبع غير دالة على نفي الطهارة فيما دون السبع ومن كونه الرضعات الخمس غير دالة على نفي الحرمة فيما دونها أن يكون المحل قبل السابعة طاهراً ولا أن يكون ما دون الخمس من الرضعات محرماً لجواز ثبوت النجاسة قبل السبع بدليل آخر غير دليل الخطاب وكذلك جاز أن يكون ما دون الرضعات الخمس غير محرمة بدليل غير دليل الخطاب.
وإذ أتينا على حجج القائلين بدليل الخطاب وتتبع ما فيها فلا بد من ذكر حجج عول عليها القائلون بإبطال دليل الخطاب والتنبيه على ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
الحجة الأولى: أن تقييد الحكم بالصفة لو دل على نفيه عند نفيها إما أن يعرف ذلك بالعقل أو النقل والعقل لا مجال له في اللغات والنقل إما متواتر وآحاد ولا سبيل إلى التواتر والآحاد لا تفيد غير الظن وهو غير معتبر في إثبات اللغات لأن الحكم على لغة ينزل عليها كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بقول الآحاد مع جواز الخطإ والغلط عليه يكون ممتنعاً.
ولقائل أن يقول: إن سلمنا أن ذلك لا يعرف إلا بالنقل ولكن لا نسلم امتناع إثبات ذلك بالآحاد إذ المسألة عندنا غير قطعية بل ظنية مجتهد فيها بنفي أو إثبات بل غلبة ظن تجري فيها التخطئة الظنية دون القطعية كما في سائر مسائل الفروع الاجتهادية.
كيف وإن اشتراط التواتر في إثبات اللغات إما أن يكون في كل كلمة ترد عن أهل اللغة أو في البعض دون البعض القول بالتفصيل تحكم غير معقول كيف وأنه لا قائل به.
وإن كان ذلك شرطاً في الكل فذلك مما يفضي إلى تعطيل التمسك بأكثر اللغة لتعذر التواتر فيها ويلزم من ذلك تعطيل العمل بأكثر ألفاظ الكتاب والسنة والأحكام الشرعية والمحذور في ذلك فوق المحذور في قبول خبر الواحد المعروف بالعدالة والضبط والمعرفة وهو تطرق الكذب أو الخطإ عليه مع أن الغالب صدقه وصحه نقله.
ولهذا كان العلماء في كل عصر وإلى زمننا هذا يكتفون في إثبات الأحكام الشرعية المستندة إلى الألفاظ اللغوية بنقل الآحاد المعروفين بالثقة والمعرفة كالأصمعي والخليل وأبي عبيدة وأمثالهم.
الحجة الثانية: أنه لو كان تقييد الحكم بالصفة يدل على نفيه عند عدمها لما حسن الاستفهام عن الحكم في حال نفيها لا عن نفيه ولا عن إثباته لكونه استفهاماً عما دل عليه اللفظ كما لو قال: له لا تقل لزيد أف فإنه دل على امتناع ضربه فإنه لا يحسن أن يقال: فهل أضربه ولا شك في حسنه لو قال: أد الزكاة عن غنمك السائمة فإنه يحسن أن يقال وهل أؤديها عن المعلوفة ؟ ولقائل أن يقول: حسن الاستفهام إنما كان لطلب الأجلى والأوضح لكون دلالة الخطاب ظاهرةً ظنيةً غير قطعية ولهذا فإنهم لم يستقبحوا الاستفهام ممن قال: رأيت أسداً أو بحراً أو دخل السلطان البلد بأن يقال هل رأيت الحيوان المخصوص أو إنساناً شجاعاً وهل رأيت البحر الذي هو الماء المخصوص أو إنساناً كريماً ؟وهل رأيت السلطان نفسه أو عسكره؟ مع أن لفظه ظاهر في أحد المعنيين دون الآخر.
الحجة الثالثة: لو كان تعليق الحكم على الصفة يدل على نفيه عن غير المتصف بها لكان في الخبر كذلك ضرورة اشتراك الأمر والخبر في التخصيص بالصفة واللازم ممتنع.
ولهذا فإنه لو قال: رأيت الغنم السائمة ترعى فإنه لا يدل على عدم رؤية المعلوفة منها.
ولقائل أن يقول:الاستشهاد بالخبر وإن كان كثيراً ما يستروح إليه المنكرون لدليل الخطاب إلا أنه ممنوع عند القائلين بدليل الخطاب ولا فرق عندهم في تعليق الحكم بالصفة بين الأمر والخبر.
ولهذا فإنه لو قال القائل: الفقهاء الشافعية فضلاء أئمة فإن سامعه من فقهاء الحنفية وغيرهم تشمئز نفسه من ذلك وتكبر عن سماعه لا لوصفه لهم بذلك بل لما فيه من الإشعار بسلب ذلك عمن ليس بشافعي.(1/272)
وهذا الشعور مما لا يختلف فيه الأمر والخبر عندهم وإن سلم امتناع ذلك في الخبر فحاصل ما ذكروه يرجع إلى القياس في اللغة وهو ممتنع لما سبق.
وبتقدير صحة القياس في اللغة فالفرق بين الخبر والأمر ظاهر وذلك أنه إذا أخبر وقال: رأيت خبزاً سميداً ولحماً طرياً ورطباً جنياً إنما يخبر عما شاهده وعلمه ولا يلزم من مشاهدته لذلك أن لا يكون قد شاهد ما ليس على هذه الصفة.
وإذا قال لعبده: اشتر خبزاً سميذاً ولحماً طرياً ورطباً جنياً مع علمه بأن الخبز الخشكار واللحم والرطب البايت مما يباع في السوق فقوله ذلك إنما يقصد به البيان وتمييز ما يشترى عما لا يشترى فكان النفي ملازماً للإثبات.
الحجة الرابعة: أن أهل اللغة فرقوا بين العطف والنقض فقالوا: قول القائل: اضرب الرجال الطوال والقصار فالقصار عطف وليس بنقض للأول ولو كان قوله: اضرب الرجال الطوال مقتضياً لنفي الضرب عن القصار لكان نقضاً لا عطفاً وهي بعيدة عن التحقيق.
وذلك أن قول القائل: اضرب الرجال الطوال إنما يدل على امتناع ضرب القصار بتقدير اختصاص الطوال بالذكر وإذا عطف عليه القصار فلا يكون مخصصاً للطوال بالذكر فلا يدل على نفي الضرب عن القصار ثم هو منتقض بالتخصيص بالغاية كما لو قال القائل لغيره: صم إلى غروب الشمس فإنه يدل على أن حكم ما بعد الغاية مخالف لما قبلها ومع ذلك فإنه لو قال له: صم إلى غروب الشمس وإلى نصف الليل فإنه لا يكون نقضاً.
الحجة الخامسة: أنه لو كان تعليق الحكم بالصفة دالاً على نفيه عن غير الموصوف بها لما حسن الجمع بين قوله: أد زكاة السائمة وبين قوله: والمعلوفة لما بينهما من التناقض كما لا يحسن أن يقول له: لا تقل لزيد أف واضربه.
ولقائل أن يقول: إنما لا يحسن ذلك أن لو قيل بالمناقضة وليس كذلك على ما سبق في الحجة التي قبلها هذا إذا كان بطريق العطف وأما إن قال بعد ذلك أد زكاة المعلوفة فإنما لم يمتنع لأن غايته أن صريح قوله: أد زكاة الغنم المعلوفة وقع معارضاً لدليل الخطاب والمعارضة غير ممتنعة.
ولا يلزم من عدم جواز مثل ذلك في فحوى الخطاب امتناعه في دليل الخطاب إذ هو قياس في اللغة وهو ممتنع لما سبق.
وبتقدير صحة القياس في اللغة فالفرق ظاهر وذلك لأن امتناع ذلك في فحوى الخطاب إنما كان فيما علم لا فيما ظن على ما سبق ودليل الخطاب فمظنون ولا يلزم من امتناع معارضه المقطوع امتناع معارضة المظنون ثم يلزم عليه التخصيص بالغاية كما سبق.
الحجة السادسة: ذكرها أبو عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار وهي أن المقصود من الصفة إنما هو تمييز الموصوف بها عما سواه.
وكذلك المقصود من الاسم إنما هو تمييز المسمى عن غيره وتعليق الحكم بالاسم كما لو قال: زيد عالم لا يدل على نفي العلم عمن لم يسم باسم زيد فكذلك تعليق الحكم بالصفة.
ولقائل أن يقول: قياس التخصيص بالصفة على التخصيص بالاسم قياس في اللغة فلا يصح وإن صح فلا نسلم أن تعليق الحكم بالاسم لا يدل على نفي الحكم عما سواه كما يأتي.
وإن سلم عدم دلالته على ذلك فإنما يلزم مشاركة التعليق بالصفة له في ذلك أن لو بين أن مناط عدم دلالة التعليق بالاسم كونه موضوعاً للتمييز وهو غير مسلم ثم الفرق بينهما أن شعور المتكلم بالاسم العام المقيد بالصفة الخاصة بما ليس له تلك الصفة أتم من شعور المتكلم باسم أحد الجنسين بالجنس الآخر.
وعند ذلك فلا يلزم من عدم دلالة التخصيص بالاسم مثله في الصفة كيف وهو منقوض بالتخصيص بالغاية فإنها مقصودة للتمييز ومع ذلك فهو دال على أن حكم ما بعد الغاية مخالف لما قبلها.
الحجة السابعة: أن تعليق الحكم بالصفة لا يدل على نفيه عن غير الموصوف بها لأنه يصح أن يقال: في الغنم السائمة زكاة ولا زكاة في المعلوفة منها ولو كان قوله: في الغنم السائمة زكاة يدل على نفيها عن المعلوفة لما احتيج إلى العبارة الأخرى لعدم فائدتها.
ولقائل أن يقول: كون الحكم في محل السكوت مستفاداً من دليل الخطاب لا يمنع من وضع عبارة خاصة إذ هو أبلغ في الدلالة وأقرب إلى حصول المقصود كما لا يمتنع ذلك في التقييد بالغاية كما تقدم ذكره.(1/273)
الحجة الثامنة: أن القول في الغنم السائمة زكاة له دلالة بمنطوقه على وجوب السائمة فلو كان له دلالة مفهوم لجاز أن يبطل حكم المنطوق ويبقى حكم دلالة المفهوم كما يجوز أن يبطل حكم دليل الخطاب ويبقى حكم صريح الخطاب وهو ممتنع.
ولقائل أن يقول: دليل الخطاب إنما هو متفرع من تخصيص الحكم بالصفة فإذا بطل حكم الصفة فلا تخصيص ومع عدم التخصيص فلا دلالة لدليل الخطاب ثم هو منقوض بالتخصيص بالغاية.
الحجة التاسعة: أنه ليس في لغة العرب كلمة تدل على المتضادين معاً فلو كان قوله في الغنم السائمة زكاة دالاً على نفي الزكاة عن المعلوفة لكان اللفظ الواحد دالاً على الضدين معا وهو ممتنع.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه ليس في اللغة لفظ يدل على المتضادين معا بدليل ما ذكرناه من دلالة الأسماء المشتركة على المسميات المتعددة معا كانت أضداداً أو لم تكن.
سلمنا امتناع ذلك ولكن إنما يمتنع ذلك بالنظر إلى جهة واحدة من دلالة اللفظ.
وأما من جهتين فلا نسلم ذلك وهاهنا الدال على وجوب الزكاة في السائمة صريح الخطاب والدال على نفي الزكاة عن المعلوفة دليل الخطاب وهما غيران ثم ما ذكرتموه منتقض بالتخصيص بالغاية.
الحجة العاشرة: أن صورة الغنم السائمة مخالفة لصورة الغنم التي ليست بسائمة وعند اختلاف الصورتين لا يلزم من ثبوت الحكم في أحديهما ثبوته في الأخرى ولا عدمه لجواز اشتراك الصور المختلفة في أحكام وافتراقها في أحكام.
وإذا لم يكن ذلك لازماً لم يلزم من الإخبار عن حكم في إحدى الصورتين الإخبار عنه في الصورة الأخرى لا وجوداً ولا عدماً.
ولقائل أن يقول: متى لا يلزم من ثبوت الحكم في إحدى الصورتين نفيه في الصورة الأخرى إذا كان ذلك الحكم قد علق ثبوته بالاسم العام الموصوف بصفة خاصة أو إذا لم يكن الأول ممنوع ودعواه دعوى محل النزاع والثاني مسلم.
وعلى هذا فالقول بأنه لا يلزم من الإخبار عن حكم إحدى الصورتين المختلفتين الإخبار عن الصورة الأخرى مطلقاً لا يكون صحيحاً ثم إنه منتقض بفحوى الخطاب فإن صورة المنطوق بالحكم فيها مخالفة للصورة المسكوت عنها ومع ذلك فإن الحكم الثابت في صورة النطق لازم ثبوته في صورة السكوت والإخبار عنه في إحداهما إخبار عنه في الصورة الأخرى.
وإذ أتينا على ما أردناه من التنبيه على إبطال الحجج الواهية فلا بد من الإشارة إلى ما هو المختار في ذلك وأقرب ما يقال فيه مسلكان: المسلك الأول إنه لو كان تعليق الحكم على الصفة موجباً لنفيه عند عدمها لما كان ثابتاً عند عدمها لما يلزمه من مخالفة الدليل.
وهو على خلاف الأصل لكنه ثابت مع عدمها ودليله قوله تعالى: " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق " الإسراء 31 فإن النهي عن قتل الأولاد وقع معلقاً على تحريم القتل حالة الإملاق وكان التنصيص أولى من التحريم حالة خشية عدم خشية الإملاق بخشية الإملاق وهو منهي عنه أيضاً في حالة عدم خشية الإملاق.
فإن قيل: تعليق الحكم بالصفة عندنا إنما يكون دليلاً على نفيه حالة عدم الصفة إذا لم يكن حالة عدم الصفة أولى بإثبات حكم الصفة كما ذكرناه من حكم زكاة السائمة والمعلوفة.
وأما إذا كان الحكم في حالة عدم الصفة أولى بالإثبات من حالة وجود الصفة فلا وها هنا تحريم القتل حالة عدم خشية الإملاق أولى من التحريم حالة خشية الإملاق فكان التنصيص على تحريم القتل حالة خشية الإملاق محرماً له حالة عدم الخشية بطريق الأولى وكان ذلك من باب فحوى الخطاب لا من باب دليل الخطاب.
قلنا: هذا وإن استمر لكم في هذه الصورة فلا يستمر في قوله تعالى: " لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفةً " آل عمران 130 وفي قوله: " ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا " وفي قوله تعالى: " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً " النور 33 فإن النهي في جميع هذه الصور ليس هو أولى من صور السكوت فإن النهي.
عن أكل قليل الربا ليس أولى من كثيره ولا النهي عن أكل مال اليتيم من غير إسراف أولى من الإسراف ولا النهي عن الإكراه على الزنى حالة إرادة التحصن أولى من حالة إرادة الزنى ومع ذلك فالحكم في الكل مشترك.(1/274)
فإن قيل مخالفة دليل الخطاب في هذه الصور إنما كانت لمعارض ولا يلزم مخالفته عند عدم المعارض قلنا: وإن كان ثبوت الحكم في صورة السكوت على نحو ثبوته في صورة النطق لدليل ولكن يجب أن يعتقد أنه من غير مخالفة دليل لما فيه من دفع محذور المعارضة ولو كان دليل الخطاب دليلا لزم من ذلك التعارض وهو خلاف الأصل.
المسلك الثاني إن تعليق الحكم بالصفة لو كان مما يستفاد منه نفي الحكم عند عدم الصفة لم يخل إما أن يكون ذلك مستفاداً من صريح الخطاب أو من جهة أن تعليق الحكم بالصفة يستدعي فائدة ولا فائدة سوى نفي الحكم عند عدم الصفة أو من جهة أخرى الأول محال فإن صريح الخطاب بوجوب الزكاة في السائمة غير صريح بوجوبها في المعلوفة كيف وإن ذلك مما لا قائل به.
والثاني أيضاً ممتنع لما ذكرناه من الوجوه الكثيرة في إبطال الحجة الأولى من المعقول للقائلين بدليل الخطاب.
والثالث فالأصل عدمه وعلى مدعيه بيانه ويلتحق بهذه المسألة تخصيص الأوصاف التي تطرأ وتزول كقوله: السائمة تجب فيها الزكاة والحكم كالحكم نفيا وإثباتا والمأخذ من الطرفين فعلى ما عرف والمختار فيها كالمختار ثم.
المسألة الثانية اختلفوا في الحكم المعلق على شيء بكلمة إن هل الحكم على العدم عند عدم ذلك الشيء أولا ؟ فذهب ابن سريج والهراسي من أصحاب الشافعي والكرخي وأبو الحسين البصري إلى أن الحكم على العدم مع عدم ذلك الشرط وذهب القاضي أبو بكر والقاضي عبد الجبار وأبو عبد الله البصري إلى أن الحكم لا يكون على العدم عند عدم الشرط وهو المختار.
وبيانه أن ما علق عليه الحكم بكلمة إن إما أن لا يكون شرطاً للحكم أو يكون شرطاً: فإن كان الأول فلا يلزم من نفيه نفي الحكم وإن كان شرطاً فلا يخلو إما أن يكون من لوازم الشرط انتفاء الحكم المعلق عليه مطلقاً عند انتفائه أو لا يكون لازماً له الأول محال وإلا لامتنع وجود القصر المعلق على الخوف بكلمة إن في قوله تعالى: " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " النساء 101 وهو خلاف الإجماع وإن كان الثاني فهو المطلوب.
فإن قيل: هو من لوازمه بتقدير عدم المعارض وليس من لوازمه بتقدير المعارض ثم ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه أن كلمة إن مسماة في اصطلاح أهل اللغة بالشرط والأصل في الإطلاق الحقيقة ولأن قول القائل لغيره: إن دخل زيد الدار فأكرمه في معنى قوله دخول زيد الدار شرط في إكرامه فكان ما دخلت عليه كلمة إن شرطاً في الحكم وإذا كان شرطاً لزم من عدمه عدم المشروط ويدل عليه ثلاثة أمور: الأول: أن يعلى بن أمية فهم من تعليق القصر على الخوف بكلمة إن عدم القصر عند عدم الخوف حيث سأل عمر قال ما بالنا نقصر وقد أمنا وقد قال تعالى: " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم " النساء 101 وأقره عمر على ذلك وقال له: لقد عجبت مما عجبت منه فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.وفهم عمر ويعلى ذلك مع تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لهما على ما فهماه دليل ظاهر على العدم عند العدم.
الثاني: أن الأمة متفقة على أن الحياة شرط لوجود العلم والقدرة والإرادة ونحو ذلك وإن الحول شرط لوجوب الزكاة وحكموا بانتفاء العلم والقدرة عند عدم الحياة وبانتفاء وجوب الزكاة عند عدم الحول ولولا أن ذلك مقتضى الشرط لما كان كذلك.
الثالث: أنه إذا كان الشرط مما لا يثبت الحكم مع عدمه على كل حال وهو لا يلزم من وجوده وجود الحكم فيلزم أن يكون كل أمرين مختلفين لا يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ولا من عدمه عدمه شرطاً وهو محال متفق عليه.
والجواب: قولهم انه من لوازمه بتقدير عدم المعارض قلنا: يجب أن لا يكون مقتضياً لذلك حذراً من التعارض بتقدير وجود المعارض وما ذكروه ثانياً إنا وإن سلمنا أن ما دخلت عليه كلمة إن شرط ولكن لا نسلم أنه يلزم من عدمه عدم المشروط.
وأما الاستدلال بقضية يعلى بن أمية فليس فيه ما يدل على أن عدم الخوف مانع من ثبوت القصر دونه بل لعله فهم أن الأصل عدم القصر وحيث ورد القصر حالة الخوف بقوله: " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم " ولم يوجد ما يدل على القصر حالة عدم الخوف فيبقى على حكم الأصل.(1/275)
فإن قيل: ما ذكرتموه من الاحتمال إنما يصح أن لو كان الأصل في الصلاة الإتمام وليس كذلك بل الأصل في الصلاة عدم الإتمام ودليله ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت الصلاة في السفر والحضر ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر فلم يبق للتعجب وجه سوى دلالة اشتراط الخوف وعدم القصر عند عدمه.
قلنا: الصلاة المشروعة بدياً ركعتين لا تسمى مقصورة كصلاة الصبح ولا فعلها قصراً وإنما المقصورة اسم لما جوز الاقتصار عليه من ركعتين في الرباعية ولفظ القصر لنفس الاقتصار على الركعتين من الرباعية فإطلاق لفظ القصر في الآية مشعر بسابقة وجوب الإتمام لا محالة.
وإذا كان الإتمام هو الأصل السابق على القصر فقد بطل ما ذكروه كيف وإن ما ذكرناه من الاحتمال هو الأولى وإلا فلو كان اشتراط الخوف في القصر مانعاً من القصر مع عدمه لما جاز القصر مع عدم الخوف أو كان القصر على خلاف الدليل وهو ممتنع من غير ضرورة.
وأما عدم العلم والقدرة وعدم وجوب الزكاة عند عدم الحياة وعدم الحول فليس في ذلك ما يدل على أن عدم الشرط مانع من وجود الحكم مع عدمه ولا بد بل غايته أن الحكم قد ينتفي في بعض صور نفي الشرط ولا نزاع فيه وإنما النزاع في لزوم انتفائه من انتفاء شرطه ولا بد.
وأما الوجه الثالث فالوجه في جوابه أن يقال: لا يلزم من كونه الشرط لا يلزم من ثبوته ثبوت الحكم ولا من نفيه نفيه إذا كان غير الشرط مشاركاً له في هذه الصفة أن يكون شرطاً لأنه لا يمتنع اشتراك المختلفات في عارض عام لها كيف وإن معنى كون الشيء شرطاً لغيره أنه مؤكد لحال المشروط بمعنى أنه تحقق الشرط لا يجوز نفي المشروط عند تحقق مقتضيه دفعاً لوهم من توهم أن الخطاب لو ورد مطلقاً لجاز أن لا يكون المشروط بذلك الشرط مراداً.
وذلك كما لو قال القائل: ضح بالشاة وإن كانت عوراء فإنه لو قال: ضحوا بالشاة مطلقا لجاز أن يتوهم متوهم أنه لا يجوز التضحية بالعوراء فكان ذكر الشرط لدفع هذا الوهم.
وعلى هذا فلا يلزم أن يكون كل شيء شرطا لكل شيء كما قالوه إلا أن يكون الشرط على هذا النحو الذي ذكرناه وليس كذلك.
وإن سلمنا أن الشرط يمنع من وجود المشروط دونه ولكن متى إذا أمكن قيام شرط مقام ذلك الشرط أو إذا لم يقم مقامه شرط آخر؟ الأول ممنوع والثاني مسلم.
وهذا هو مذهب القاضي عبد الجبار وأبي عبد الله البصري وعلى هذا فكونه شرطاً يتحقق بانتفاء الحكم عند انتفائه إذا لم يقم غيره مقامه وإن لم يثبت إذا قام غيره مقامه فلم قلتم إن غيره لم يقم مقامه في الشرطية مع أن لفظ الاشتراط لا يدل على وجود شرط آخر ولا على عدمه.
فإن قيل: إذا قال القائل لغيره: إن دخل زيد الدار فأعطه درهماً معناه أن الشرط هو دخول الدار في عطيتك له وذلك يقتضي أن يكون كمال الشرط هو دخول الدار لأن لام الجنس تقتضي العموم ولأن قوله إن دخل الدار فأعطه درهما يقتضي عدم الإعطاء عند عدم الدخول فلو قام شرط آخر مقامه لزم منه جواز الإعطاء مع عدم الدخول فيقتضي الشرط الأول امتناع وجود شرط آخر يقوم مقامه لما فيه من إخراج الشرط الأول عن كونه شرطاً.
قلنا: جواب الأول أنا لا نسلم أن معنى قوله: إن دخل الدار هو الشرط بل هو شرط وذلك لا يمنع من شرط آخر.وتقدير لام الجنس هاهنا زيادة لم يدل عليها دليل فلا يصار إليها.
وجواب الثاني أنا نسلم أن قوله: إن دخل الدار يقتضي عدم الإعطاء عند عدم الدخول مطلقاً بل إذا لم يقم غيره مقامه لكن قد يمكن أن يقال هاهنا إذا سلم أنه إذا لم يقم غيره مقامه إن عدمه يقتضي العدم فالأصل عدم قيام غيره مقامه فاقتضى عدمه العدم.
وربما احتج القاضي عبد الجبار وأبو عبد الله البصري بأنه لو منع الشرط من ثبوت الحكم عند عدمه لكان قوله تعالى: " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً " النور 33 يمنع من تحريم الإكراه على الزنى عند عدم إرادة التحصن وهو محال مخالف للإجماع.
ولقائل أن يقول: ذكر إرادة التحصن إنما كان لكونه شرطاً في الإكراه لاستحالة تحقق الإكراه على الزنى في حق من هو مريد له غير مريد للتحصن لا لأنه شرط في تحريم الإكراه على الزنى والله أعلم.
المسألة الثالثة اختلفوا في الخطاب إذا قيد الحكم بغايته هل يدل على نفي الحكم فيما بعد الغاية أم لا؟(1/276)
اختلفوا في الخطاب إذا قيد الحكم بغاية كما في قوله تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " البقرة 187 وقوله تعالى: " ولا تقربوهن حتى يطهرن " البقرة 222 وقوله: " فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " البقرة 230 وقوله: " حتى يعطوا الجزية " التوبة 29 فذهب أكثر الفقهاء وجماعة من المتكلمين كالقاضي أبي بكر والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وغيرهم إلى أن ذلك يدل على نفي الحكم فيما بعد الغاية وخالف في ذلك أصحاب أبي حنيفة وجماعة من الفقهاء والمتكلمين وهو المختار وذلك لأنه لو دل تقييدالحكم بالغاية المحدودة على نفي الحكم فيما بعد الغاية لم يخل إما أن يدل عليه بصريح لفظه أو بأنه لو لم يكن دالاً على نفي الحكم فيما بعد الغاية لما كان التقييد بالغاية مفيداً أو من جهة أخرى الأول محال لأن اللفظ بصريحه لم يدل على نفي الحكم بعد الغاية والثاني إنما يلزم أن لو لم يكن للتقييد فائدة سوى ما ذكروه وليس كذلك بل جاز أن تكون فائدة التقييد تعريف بقاء ما بعد الغاية على ما كان قبل الخطاب أي أنه غير متعرض فيه لإثبات الحكم ولا نفيه.
وإن كان الثالث فالأصل عدمه وعلى مدعيه بيانه وأيضاً فإنه لا مانع من ورود الخطاب فيما بعد الغاية بمثل الحكم السابق قبل الغاية بالإجماع.
وعند ذلك إما أن يكون تقييد الحكم بالغاية نافياً للحكم فيما بعدها أو لا يكون والأول يلزم منه إثبات الحكم مع تحقق ما ينفيه وهو خلاف الأصل وإن كان الثاني فهو المطلوب.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه أن كلمة حتى و إلى لانتهاء الغاية وهي جارية مجرى قوله: صوموا صوماً أخره الليل ولو قال ذلك لمنع من وجوب الصوم بعد مجيء الليل لأنه لو وجب الصوم بعد ذلك لصارت الغاية وسطاً وهو محال.
ولهذا فإنه لو قال القائل لعبده: لا تعط زيدا درهماً حتى يقوم واضرب عمراً حتى يتوب فإنه لا يحسن الاستفهام بعد ذلك وأن يقال: فهل أعطيه إذا قام وهل أضربه إذا تاب؟ ولولا أن التقييد بالغاية يدل على عدم الحكم بعدها لما كان كذلك.
قلنا: لا ننكر أن حتى و إلى لانتهاء الغاية وأنها جارية مجرى قوله: صوموا صياماً آخره الليل غير أن الخلاف إنما هو في أن تقييد الحكم بالغاية هل يدل على نفي الحكم فيما بعد الغاية وذلك غير لازم من التقييد بالغاية.
بل غايته أن دلالة التقييد بالغاية على أن ما بعدها غير متعرض فيه بالخطاب الأول لا بنفي ولا إثبات ولا يلزم من وجود صوم بعد الغاية أن تصير الغاية وسطاً بل هي غاية للصوم المأمور به أولا وإنما تصير وسطاً أن لو كان الصوم فيما بعد الغاية مستنداً إلى الخطاب الذي قبل الغاية وليس كذلك.
وأما أنه لا يحسن الاستفهام عند قوله: لا تعط زيدا درهماً حتى يقوم واضرب عمراً حتى يتوب لأن ما بعد الغاية مسكوت عنه غير متعرض له بنفي ولا إثبات فلا يحسن الاستفهام فيما لا دلالة للفظ عليه كما قبل الأمر بالإعطاء والضرب.
المسألة الرابعة اختلفوا في تقييد الحكم بعدد مخصوص هل يدل على أن ما عدا ذلك العدد بخلافه أو لا والحق في ذلك إنما هو التفصيل وهو أن الحكم إذا قيد بعدد مخصوص فمنه ما يدل على ثبوت ذلك الحكم فيما زاد على ذلك العدد بطريق الأولى وذلك كما لو حرم الله جلد الزاني مائةً وقال إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً فإنه يدل على تحريم ما زاد على المائة وإن ما زاد على القلتين لا يحمل خبثا بطريق الأولى ولأن ما زاد على المائة وعلى القلتين ففيه المائة والقلتان وزيادة.
وهل يدل ذلك على أن الحكم فيما دون المائة ودون القلتين على خلاف الحكم في المائة والقلتين؟ هذا موضع الخلاف.
ومنه ما لا يدل على ثبوت الحكم فيما زاد على العدد المخصوص بطريق الأولى وذلك كما إذا أوجب جلد الزاني مائةً أو أباحه فإنه لا يدل على الوجوب والإباحة فيما زاد على ذلك بطريق الأولى بل هو مسكوت عنه ومختلف في دلالته على نفي الوجوب والإباحة فيما زاد ومتفق على أن حكم ما نقص كحكم المائة لدخوله تحتها لكن لا يمنع من الاقتصار عليه.
والمختار فيما كان مسكوتاً عنه ولم يكن الحكم فيه ثابتا بطريق الأولى من هذه الصور أن تخصيص الحكم بالعدد لا يدل على انتفاء الحكم فيه لما ذكرناه في المسائل المتقدمة.(1/277)
ومن نازع في ذلك فلا يخرج في احتجاجه على مذهبه عما ذكرناه فيما تقدم وقد عرف ما فيه.
المسألة الخامسة اتفق الكل على أن مفهوم اللقب ليس بحجة خلافاً للدقاق وأصحاب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وصورته أن يعلق الحكم إما باسم جنس كالتنصيص على الأشياء الستة بتحريم الربا أو باسم علم كقول القائل زيد قائم أو قام.
والمختار إنما هو مذهب الجمهور لكن قد احتج بعض القائلين بإبطاله بحجج لا بد من الإشارة إليها والتنبيه على ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
الحجة الأولى: لو كان مفهوم اللقب حجةً لبطل القياس وذلك ممتنع وبيان لزوم ذلك أن القياس لا بد فيه من أصل وحكم الأصل إما أن يكون منصوصاً أو مجمعاً عليه فلو كان النص على الحكم في الأصل أو الإجماع عليه يدل على نفي الحكم عن الفرع فالحكم في الفرع إن ثبت بالنص أو الإجماع فلا قياس وإن ثبت بالقياس على الأصل فهو ممتنع لما فيه من مخالفة النص أو الإجماع الدال على نفي الحكم في الفرع.
ولقائل أن يقول: النص الوارد في الأصل وإن دل على نفي الحكم في الفرع فليس بصريحه بل بمفهومه وذلك مما لا يمنع عند القائلين به من إثبات الحكم بمعقول النص وهو القياس فلا يفضي إلى إبطال القياس وغايته التعارض لا الإبطال.
الحجة الثانية: أنه لو كان مفهوم اللقب حجةً ودليلاً لكان القائل إذا قال: عيسى رسول الله فكأنه قال: محمد ليس برسول الله وكذلك إذا قال: زيد موجود فكأنه قال: الإله ليس بموجود وهو كفر صراح ولم يقل بذلك قائل.
ولقائل أن يقول: من الخصوم إنما لا يكون المتكلم بذلك كافراً إذا لم يكن متنبهاً لدلالة اللفظ أو كان متنبهاً لها غير أنه لم يرد بلفظه ما دل عليه مفهومه وأما إذا كان متنبهاً لدلالة لفظه وهو مريد لمدلولها فإنه يكون كافراً.
الحجة الثالثة أنهم قالوا: إذا قال القائل: زيد يأكل لا يفهم منه أن عمراً لا يأكل ولقائل أن يقول: لا يفهم منه ذلك من يعتقد دلالة مفهوم اللقب أو من لا يعتقده؟ الأول ممنوع والثاني مسلم وعدم فهم ذلك بالنسبة إلى من لا يعتقد دلالته لا يدل على عدم دلالته في نفسه.
الحجة الرابعة: أنه لو كان مفهوم اللقب دليلاً لما حسن من الإنسان أن يخبر أن زيداً يأكل إلا بعد علمه أن غيره لم يأكل وإلا كان مخبراً بما يعلم أنه كاذب فيه أو بما لا يأمن فيه من الكذب وحيث استحسن العقلاء ذلك مع عدم علمه بذلك دل على عدم دلالته على نفي الأكل عن غير زيد.
ولقائل أن يقول: إذا أخبر بذلك فلا يخلو إما أن يكون عالماً بأن غير زيد يأكل أو غير عالم بذلك وعلى كلا التقديرين إنما لم يستقبح منه ذلك لظهور القرينة الدالة على أنه لم يرد سوى مدلول صريح لفظه دون مفهومه لعدم علمه بذلك في إحدى الحالتين وعلمه بوقوع الأكل من غير زيد في الحالة الأخرى فإن الظاهر من حال العاقل أنه لا يخبر عن نفي ما لم يعلمه ولا نفي ما علم وقوعه حتى إنه لو ظهر منه ما يدل على إرادته لنفي ما دل عليه لفظه عند القائلين به لكان مستقبحاً.
والمختار في إبطال ما سبق في المسائل المتقدمة.
وأما حجج الخصوم وجوابها فعلى ما سبق في مفهوم التقييد بالصفة.
وربما احتجوا في خصوص هذه المسألة بحجج أخرى وهو أنه لو تخاصم شخصان فقال أحدهما للآخر أما أنا فليس لي أم ولا أخت ولا امرأة زانية فإنه يتبادر إلى الفهم نسبة الزنى منه إلى زوجة خصمه وأمه وأخته ولهذا قال أصحاب أحمد بن حنبل ومالك بوجوب حد القذف عليه.
وجوابه أن ذلك إن فهم منه فإنما يفهم من قرينة حاله لا من دلالة مقاله بدليل ما أسلفناه ولذلك لم يكن حد القذف عندنا واجباً بذلك وعلى هذا يكون الحكم في مفهوم الاسم العام المشتق كقوله لا تبيعوا الطعام بالطعام.
المسألة السادسة اختلفوا في تقييد الحكم بإنما هل يدل على الحصر أو لا؟ اختلفوا في تقييد الحكم بإنما كقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الشفعة فيما لم يقسم وإنما الأعمال بالنيات وإنما الولاء لمن أعتق وإنما الربا في النسيئة " هل يدل على الحصر أو لا ؟ فذهب القاضي أبو بكر والغزالي والهراسي وجماعة من الفقهاء إلى أنه ظاهر في الحصر محتمل للتأكيد وذهب أصحاب أبي حنيفة وجماعة ممن أنكر دليل الخطاب إلى أنه لتأكيد الإثبات ولا دلالة له على الحصر وهو المختار.(1/278)
وذلك لأن كلمة إنما قد ترد ولا حصر كقوله إنما الربا في النسيئة وهو غير منحصر في النسيئة لانعقاد الإجماع على تحريم ربا الفضل فإنه لم يخالف فيه سوى ابن عباس ثم رجع عنه وقد ترد والمراد بها الحصر كقوله تعالى: " إنما أنا بشر مثلكم " فصلت 6 وعند ذلك فيجب اعتقاد كونها حقيقةً في القدر المشترك بين الصورتين وهو تأكيد إثبات الخبر للمبتدإ نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ لكونه على خلاف الأصل ولأن كلمة إنما لو كانت للحصر لكان ورودها في غير الحصر على خلاف الأصل.
فإن قيل: ولو لم تكن للحصر لكان فهم الحصر في صورة الحصر من غير دليل وهو خلاف الأصل: قلنا إنما يكون فهم ذلك من غير دليل أن لو كان دليل الحصر منحصراً في كلمة إنما وليس كذلك.
المسألة السابعة اختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنيات وفي قول القائل: العالم زيد: وصديقي زيد هل يدل على حصر الأعمال فيما كان منوياً وعلى حصر العالم والصديق في زيد.
فذهبت الحنيفة والقاضي أبو بكر وجماعة من المتكلمين إلى أنه لا يدل على الحصر وذهب الغزالي والهراسي وجماعة من الفقهاء إلى أنه يدل على الحصر.
والمختار أنه لا يدل لما سبق في المسائل المتقدمة.
فإن قيل: لو لم يكن ذلك دالا على حصر الأعمال في المنوي والعالم والصديق في زيد لكان المبتدأ أعم من خبره وكان ذلك كذباً كما لو قال: الحيوان إنسان والإنسان زيد.
قلنا: إنما يلزم الكذب أن لو كانت الألف واللام في الأعمال للعموم فإنها تنزل منزلة قوله كل عمل منوى وهو كاذب كما في قوله: كل حيوان إنسان وليس كذلك بل هي ظاهرة في البعض فكأنه قال: بعض الأعمال بالنيات وذلك صادق غير كاذب.
وكذلك الحكم في قوله: العالم زيد وكذلك قوله: صديقي زيد ليس عاماً في كل صديق بل كأنه قال بعض أصدقائي زيد حتى إنه لو ثبت أن الألف واللام إذا دخلت على اسم الجنس تكون عامة وكان المتكلم مريداً للتعميم فإنه يكون كاذباً بتقدير ظهور عالم آخر وصديق آخر له وكان قوله دالاً على الحصر لا محالة.
وربما قيل في إبطال القول بالحصر إنه لو كان قوله: العالم زيد وصديقي زيد يدل على حصر العالم والصديق في زيد لكان إذا قال: العالم زيد وعمرو وصديقي زيد وعمرو متناقضاً وليس كذلك باتفاق أهل اللغة وليس بحق فإن للخصم أن يقول إنما يكون ذلك مناقضاً بشرط أن يتجرد قوله الأول عما يغيره.
وأما إذ عطف عليه قوله: وعمرو صار الكل كالجملة الواحدة وكان قوله: العالم زيد مع الإنفراد مغايراً في دلالته لقوله: العالم زيد وعمرو وهذا كما لو قال: له علي عشرة ثم بعد حين قال: إلا خمسة فإنه لا يقبل لما فيه من مناقضة لفظه الأول: ولو قال: له علي عشرة إلا خمسة على الاتصال كان مقبولاً لعدم تناقضه ولولا اختلاف الدلالة لما اختلف الحال بل كان الواجب أن لا يقبل استثناؤه في الصورتين أو يقبل فيهما وهو محال.
المسألة الثامنة اختلفوا في قوله لا عالم في البلد إلا زيد فالذي عليه الجمهور وأكثر منكرين المفهوم أنه يدل على نفي كل عالم سوى زيد وإثبات كون زيد عالماً وذهب بعض منكرين المفهوم إلى أن ذلك لا يدل على كون زيد عالماً بل هو نطق بالمستثنى منه وسكوت عن المستثنى.
ومعنى خروج المستثنى عن المستثنى منه أنه لم يدخل في عموم المستثنى منه وأنه لم يتعرض فيه لكون زيد عالماً لا نفياً ولا إثباتاً.
والحق إنما هو المذهب الجمهوري ودليله ما بيناه فيما تقدم من أن الاستثناء من النفي إثبات وأن قول القائل: لا إله إلا الله ناف للألوهية عن غير الله تعالى ومثبت لصفة الألوهية لله تعالى وقررناه أحسن تقرير وحققنا وجه الانفصال عن كل ما ورد عليه من الإشكالات فعليك بالالتفات إليه ونقله إلى هاهنا.
المسألة التاسعة اتفق القائلون على أن كل خطاب خصص محل النطق بالذكر لا مفهوم له(1/279)
اتفق القائلون بالمفهوم على أن كل خطاب خصص محل النطق بالذكر لخروجه مخرج الأعم بالأغلب لا مفهوم له وذلك كقوله تعالى: " وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " النساء 23 وقوله: " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها " النساء 35 وقوله صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة نكحت نفسها بغير أذن وليها فنكاحها باطل " وقوله صلى الله عليه وسلم: " فليستنج بثلاثة أحجار " فإن تخصيصه بالذكر لمحل النطق في جميع هذه الصور إنما كان لأنه الغالب إذ الغالب أن الربيبة إنما تكون في الحجر وإن الخلع لا يكون إلا مع الشقاق وإن المرأة لا تزوج نفسها إلا عند عدم إذن الولي لها وإبائه من تزويجها وإن الاستنجاء لا يكون إلا بالحجارة وكذلك الحكم في كل ما ظهر سبب تخصيصه بالذكر كسؤال سائل أو حدوث حادثة أو غير ذلك مما سبق ذكره من أسباب التخصيص.
وعلى هذا فلو لم يظهر سبب يوجب تخصيص محل النطق بالذكر دون محل السكوت بل كانت الحاجة إليهما وإلى ذكرهما مع العلم بهما مستويةً ولم يكن الحكم في محل السكوت أولى بالثبوت وبالجملة لو لم يظهر سبب من الأسباب الموجبة للتخصيص سوى نفي الحكم في محل السكوت فهل يجب القول بنفي الحكم في محل السكوت تحقيقاً لفائدة التخصيص أو لا يجب: إن قلنا إنه لا يجب كان التخصيص بالذكر عبثاً خلياً عن الفائدة وذلك مما ينزه عنه منصب آحاد البلغاء فضلاً عن كلام الله تعالى ورسوله وإن قلنا بوجوب نفي الحكم لزم القول بدلالة المفهوم في هذه الصورة.
والوجه في حله أن يقال: إذا لم يظهر السبب المخصص فلا يخلو إما أن يكون مع عدم ظهوره محتمل الوجود والعدم على السواء أو أن عدمه أظهر من وجوده: فإن كان الأول فليس القول بالنفي أولى من القول بالإثبات وعلى هذا فلا مفهوم وإن كان الثاني فإنما يلزم من ذلك نفي الحكم في محل السكوت أن لو كان نفي الحكم فيه من جملة الفوائد الموجبة لتخصيص محل النطق بالذكر وليس كذلك.
وذلك لأن نفي الحكم في محل السكوت عند القائلين بمفهوم المخالفة إنما هو فرع دلالة اللفظ في محل النطق عليه فلو كانت دلالة اللفظ في محل النطق عل نفي الحكم في محل السكوت متوقفة عليه بوجه من الوجوه كان دوراً ممتنعاً.
وإلى هاهنا تم الكلام في أصناف دلالة غير المنظوم هذا ما يتعلق بالنظر فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع.
الباب الثاني
فيما يشترك فيه الكتاب والسنة
دون غيرهما من الأدلة
وأما ما يتعلق بالنظر فيما يشترك فيه الكتاب والسنة دون غيرهما من الأدلة فهو النظر في النسخ ويشتمل على مقدمة ومسائل.
أما المقدمة فتشتمل على أربعة فصول:
الفصل الأول
في تعريف النسخ والناسخ والمنسوخ
أما النسخ فهو في اللغة قد يطلق بمعنى الإزالة ومنه يقال نسخت الشمس الظل أي أزالته ونسخت الريح أثر المشي أي أزالته ونسخ الشيب الشباب إذا أزاله ومنه تناسخ القرون والأزمنة.
والإزالة هي الإعدام ولهذا يقال: زال عنه المرض والألم وزالت النعمة عن فلان ويراد به الانعدام في هذه الأشياء كلها.
وقد يطلق بمعنى نقل الشيء وتحويله من حالة إلى حالة مع بقائه في نفسه قال السجستاني من أهل اللغة: والنسخ أن تحول ما في الخلية من النحل والعسل إلى أخرى ومنه تناسخ المواريث بانتقالها من قوم إلى قوم وتناسخ الأنفس بانتقالها من بدن إلى غيره عند القائلين بذلك.
ومنه نسخ الكتاب بما فيه من مشابهة النقل وإليه الإشارة بقوله تعالى: " إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " الجاثية 29 والمراد به نقل الأعمال إلى الصحف أو من الصحف إلى غيرها لكن اختلف الأصوليون: فذهب القاضي أبو بكر ومن تابعه كالغزالي وغيره إلى أن اسم النسخ مشترك بين هذين المعنيين وذهب أبو الحسين البصري وغيره إلى أنه حقيقة في الإزالة مجاز في النقل وذهب القفال من أصحاب الشافعي إلى أنه حقيقة في النقل والتحويل وقد احتج أبو الحسين البصري بأن إطلاق اسم النسخ على النقل في قولهم: نسخت الكتاب مجاز لأن ما في الكتاب لم ينقل حقيقةً.
وإذا كان اسم النسخ مجاز في النقل لزم أن يكون حقيقة في الإزالة لأنه غير مستعمل فيما سواهما.(1/280)
وإذا بطل كونه حقيقةً في أحدهما تعين أن يكون حقيقةً في الآخر وقد قرر ذلك بعضهم من وجه آخر فقال: إطلاق اسم النسخ بمنى الإزالة والإعدام واقع كما سبق والأصل في الإطلاق الحقيقة ويلزم أن لا يكون حقيقةً في النقل دفعا للاشتراك عن اللفظ.
ولقائل أن يقول على الوجه الأول إن إطلاق اسم النسخ على الكتاب إما أن يكون حقيقةً أو تجوزاً: فإن كان حقيقةً فهو المطلوب وبطل ما ذكروه وإن كان مجازاً ضرورة أن ما في الكتاب لم ينقل على الحقيقة فيمتنع أن يكون التجوز به مستعاراً من الإزالة فإنه غير مزال ولا يشبه الإزالة فلا بد من استعارته من معنى آخر والإجماع منعقد على امتناع إطلاق اسم النسخ حقيقةً في الإزالة والنقل فإذا تعذرت استعارته من الإزالة تعين أن يكون مستعاراً من النقل.
ووجه استعارته منه أن تحصيل ما في أحد الكتابين في الآخر تجري مجرى نقله وتحويله إليه فكان منه بسبب من أسباب التجوز وإذا كان مستعاراً من النقل وجب أن يكون اسم النسخ حقيقة في النقل إذ المجاز لا يتجوز به في غيره بإجماع أهل اللغة.
ثم وإن كان ذلك مجازاً في نسخ الكتاب فما الاعتذار عن اطلاق اسم التناسخ في المواريث مع كونها منتقلةً حقيقةً وإطلاق اسم النسخ على تحويل النحل والعسل من خلية إلى أخرى فإن ما ذكروه في تقرير التجوز في نسخ الكتاب غير متصور هاهنا.
وأما الوجه الثاني فمقابل بمثله وهو أن يقال: اسم النسخ قد أطلق بمعنى النقل على ما سبق والأصل في الإطلاق الحقيقة ويلزم من كونه حقيقةً فيه أن لا يكون حقيقةً في الإزالة دفعاً للاشتراك عن اللفظ وليس أحد الأمرين أولى من الآخر فإن قبل الترجيح لكونه حقيقة في الإزالة وذلك لأن الإزالة مطلق إعدام والنقل أخص من الإزالة لأنه يستلزم إعدام الصفة وحدوث أخرى والإعدام المستلزم حدوث شيء آخر أخص من الإعدام الذي لا يستلزم ذلك وإذا كانت الإزالة أعم فجعل النسخ حقيقةً فيها أولى نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ.
قلنا: لا نسلم أن الإزالة أعم من النقل والتحويل وإن كان يستلزم إعدام صفة وتجدد أخرى فكل إزالة هكذا لأن الإزالة على ما قيل هي الإعدام والإعدام يستلزم زوال الصفة وهي الوجود وتجدد أخرى وهي صفة العدم وهما صفتان متقابلتان مهما انتفت إحداهما تحققت الأخرى وإذا تساويا عموماً وخصوصاً فليس جعل اسم النسخ حقيقةً في أحدهما أولى من الآخر.
وإذا تعذر ترجيح أحد الأمرين مع صحة الإطلاق فيهما كان القول بالاشتراك أشبه اللهم إلا أن يوجد في حقيقة النقل خصوص تبدل الصفة الوجودية بصفة وجودية فيكون النقل أخص.
ومع هذا كله فالنزاع في هذا لفظي لا معنوي وأما معناه في اصطلاح الأصوليين فقد اختلف فيه: فقال أبو الحسين البصري: هو إزالة مثل الحكم الثابت بقول منقول عن الله تعالى أو عن رسوله مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتاً وهو فاسد من وجهين: الأول: هو أن إزالة المثل إما أن تكون قبل وجود ذلك المثل أو بعد عدمه أو في حالة وجوده: الأول محال فإن ما لم يوجد لا يقال إنه أزيل والثاني أيضاً محال فإن إزالة ما عدم بعد وجوده ممتنع والثالث أيضاً محال لأن الإزالة هي الإعدام وإعدام الشيء حال وجوده محال.
الوجه الثاني: أنه غير مانع إذ يدخل فيه إزالة مثل ما كان ثابتاً من الأحكام العقلية قبل ورود الشرع بخطاب الشارع المتراخي على وجه لولا خطاب الشارع المغير لكان ذلك الحكم مستمراً وليس بنسخ في مصطلح المتشرعين إجماعاً.
ومنهم من قال: هو إزالة الحكم بعد استقراره ويبطل بالوجهين السابقين وبما لو زال الحكم بعد استقرار بمرض أو جنون أو موت فإنه داخل فيما قيل وليس بنسخ إجماعاً.
ومنهم من قال: هو نقل الحكم إلى خلافه ويبطل بما بطل به الحد الذي قبله وبما لو نقل الحكم إلى خلافه بالغاية كما في قوله تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " البقرة 187 فإن الحكم فيما قبل الغاية قد قلب إلى خلافه فيما بعد الغاية وليس بنسخ وبه يبطل قول من قال في حده إنه بيان مدة الحكم.(1/281)
وقال القاضي أبو بكر: إنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه وهو اختيار الغزالي أيضاً وقصد بالقيد الأول تعميم كل خطاب كان من باب المنظوم أو غيره والاحتراز عن الموت والمرض والجنون وجميع الأعذار الدالة على ارتفاع الأحكام الزائلة بها مع تراخيها ولولاها لكانت الأحكام الزائلة بها مستمرة وبالقيد الثاني وهو الخطاب المتقدم الاحتراز عن الخطاب الدال على ارتفاع الأحكام العقلية قبل ورود الشرع وبالقيد الثالث وهو على وجه لولاه لكان مستمرا الإحتراز عما إذا ورد الخطاب بحكم موقت ثم ورد الخطاب عند تصرم ذلك الوقت بحكم مناقض للأول كما لو ورد قوله: عند غروب الشمس كلوا بعد قوله: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " فإنه لا يكون نسخاً لحكم الخطاب الأول حيث إنا لو قدرنا عدم الخطاب الثاني لم يكن حكم الخطاب الأول مستمراً بل منتهياً بالغروب وبالقيد الرابع الاحتراز عن الخطاب المتصل كالاستثناء والتقييد بالشرط والغاية فإن يكون بياناً لا نسخاً.
ويرد عليه إشكالات: الإشكال الأول أن الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت هو الناسخ والنسخ هو نفس الارتفاع فلا يكون الناسخ هو النسخ.
الثاني: وهو ما أورده أبو الحسين البصري أنه قال إنه ليس بجامع ولا مانع: أما أنه ليس بجامع فلأنه يخرج منه النسخ بفعل الرسول مع أنه ليس بخطاب ويخرج منه نسخ ما ثبت بفعل الرسول وليس فيه ارتفاع حكم ثبت بالخطاب.
وأما أنه ليس بمانع فلأنه لو اختلفت الأمة في الواقعة على قولين وأجمعوا بخطابهم على تسويغ الأخذ بكل واحد من القولين للمقلد ثم أجمعوا بأقوالهم على أخذ القولين فإن حكم خطاب الإجماع الثاني دل على ارتفاع حكم خطاب الإجماع الأول وليس بنسخ إذ الإجماع لا ينسخ به.
الثالث: هو أن تحديد النسخ بارتفاع الحكم الثاني تحديد له بما ليس بمتصور لوجوه يأتي ذكرها في مسألة إثبات النسخ.
الرابع: أن فيه زيادةً لا حاجة إليها وهي قوله متراخ عنه وقوله: على وجه لولاه لكان مستمراً ثابتاً فإن ذكر التراخي إنما وقع احترازاً عن الخطاب المتصل كالاستثناء والتقييد بالشرط والغاية وفي الحد ما يدرأ النقض بذلك وهو ارتفاع الحكم والخطاب المتصل بالخطاب الأول في هذه الصور ليس رافعاً لحكم الخطاب المتقدم في الذكر بل هو مبين أن الخطاب المتقدم لم يرد الحكم فيما استثنى وفيما خرج عن الشرط والغاية وبالتقييد بالرفع يدرأ النقض بالخطاب الوارد بما يخالف حكم الخطاب المتقدم إذا كان حكمه موقتا من حيث إن الخطاب الثاني لا يدل على ارتفاع حكم الخطاب الأول لانتهائه بانتهاء وقته.
والجواب عن الإشكال الأول: لا نسلم أن النسخ هو ارتفاع الحكم بل النسخ نفس الرفع المستلزم للارتفاع والرفع هو الخطاب الدال على الارتفاع وذلك لأن النسخ يستدعى ناسخاً ومنسوخاً والناسخ هو الرافع أي الفاعل والمنسوخ هو المرفوع أي المفعول.
والرافع والمرفوع أي الفاعل والمفعول يستدعي رفعاً وارتفاعاً أي فعلاً وانفعالاً والرافع هو الله تعالى على الحقيقة.
وإن سمي الخطاب ناسخاً فإنما هو بطريق التجوز كما يأتي تحقيقه والمرفوع هو الحكم والرفع الذي هو الفعل صفة الرافع وذلك هو الخطاب والارتفاع الذي هو نفس الانفعال صفة المرفوع المفعول.
وذلك على نحو فسخ العقد فإن الفاسخ هو العاقد والمفسوخ هو العقد والفسخ صفة العاقد وهو قوله: فسخت والانفساخ صفة العقد وهو انحلاله بعد انبرامه.
وأما النسخ بفعل الرسول فلا نسلم أن فعل الرسول ناسخ حقيقةً إذ ليس للرسول ولاية إثبات الأحكام الشرعية ورفعها من تلقاء نفسه وإنما هو رسول ومبلغ عن الله تعالى ما يشرعه من الأحكام ويرفعه ففعله إن كان ولا بد فإنما هو دليل على الخطاب الدال على ارتفاع الحكم لا أن نفس الفعل هو الدال على الارتفاع.
وأما الإشكال بالإجماع ففيه جوابان: الأول: أنه مهما اجتمعت الأمة على تسويغ الخلاف في حكم مسألة معينة وكان إجماعهم قاطعاً فلا نسلم تصور إجماعهم على مناقضة ما أجمعوا عليه أولاً ليصح ما قيل.(1/282)
الثاني: أنه وإن صح ذلك فلا نسلم أن الحكم نفياً وإثباتاً مستند إلى قول أهل الإجماع وإنما هو مستند إلى الدليل السمعي الموجب لإجماعهم على ذلك الحكم وعلى هذا فيكون إجماعهم دليلاً على وجود الخطاب الذي هو النسخ لا أن خطابهم نسخ.
وما وعدوا به في الوجه الثالث فسيأتي الجواب عنه أيضاً.
وأما ما ذكروه من الزيادات فهي غير مخلة بصحة الحد وفائدتها الميز بين النسخ والصور المذكورة مبالغة في تحصيل الفائدة.
ومع ذلك فالمختار في تحديده أن يقال: النسخ عبارة عن خطاب الشارع المانع من استمرار ما ثبت من حكم خطاب شرعي سابق.
ولا يخفى ما فيه من الاحتراز من غير حاجة إلى التقييد بالتراخي ولا بقولنا: لولاه لكان مستمراً ثابتاً لما سبق تقريره.
وأما الناسخ فإنه قد يطلق على الله تعالى فيقال: نسخ فهو ناسخ ومنه قوله تعالى: " ما ننسخ من آية " البقرة 106 وقوله تعالى: " فينسخ الله ما يلقى الشيطان " الحج 52 وقد يطلق على الآية أنها ناسخةً فيقال: آية السيف نسخت كذا فهي ناسخة.
وكذلك على كل طريق يعرف به نسخ الحكم من خبر الرسول وفعله وتقريره وإجماع الأمة.
وعلى الحكم فيقال وجوب صوم رمضان نسخ وجوب صوم عاشوراء فهو ناسخ وعلى المعتقد لنسخ الحكم فيقال: فلان ينسخ القرآن بالسنة أي يعتقد ذلك فهو ناسخ.
غير أن الإجماع منعقد على أن إطلاق اسم الناسخ على الحكم وعلى المعتقد للنسخ مجاز وإنما الخلاف بيننا وبين المعتزلة في أنه حقيقة في الله تعالى أو في الطريق المعرف لارتفاع الحكم فعندهم الناسخ في الحقيقة هو الطريق حتى قالوا في حده: إن الناسخ هو قول صادر عن الله تعالى أو عن رسوله أو فعل منقول عن رسوله يفيد إزالة مثل الحكم الثابت بنص صادر عن الله تعالى أو بنص أو فعل منقول عن رسوله مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتاً.
وأما نحن فمعتقدنا أن الناسخ في الحقيقة إنما هو الله تعالى وأن خطابه الدال على ارتفاع الحكم هو النسخ وإن سمي ناسخاً فمجاز وحاصل النزاع في ذلك آيل إلى اللفظ.
وأما المنسوخ فهو الحكم المرتفع كالمرتفع من وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم وحكم الوصية للوالدين والأقربين وحكم التربص حولاً كاملاً عن المتوفى عنها زوجها إلى غير ذلك.
الفصل الثاني
في الفرق بين النسخ والبداء
واعلم أن البداء عبارة عن الظهور بعد الخفاء ومنه يقال: بدا لنا سور المدينة بعد خفائه وبدا لنا الأمر الفلاني أي ظهر بعد خفائه وإليه الإشارة بقوله تعالى: " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " الزمر 47 " بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل " الأنعام 28 " وبدا لهم سيئات ما عملوا " الجاثية 33 وحيث كان فإن النسخ يتضمن الأمر بما نهى عنه والنهي عما أمر به على حده وظن أن الفعل لا يخرج عن كونه مستلزماً لمصلحة أو مفسدة فإن كان مستلزما لمصحلة فالأمر به بعد النهي عنه على الحد الذي نهى عنه إنما يكون لظهور ما كان قد خفي من المصلحة وإن كان مستلزماً لمفسدة فالنهي عنه بعد الأمر به على الحد الذي أمر به إنما يكون لظهور ما كان قد خفي من المفسدة وذلك عين البداء.
ولما خفي الفرق بين البدآء والنسخ على اليهود والرافضة منعت اليهود من النسخ في حق الله تعالى وجوزت الروافض البداء عليه لاعتقادهم جواز النسخ على الله تعالى مع تعذر الفرق عليهم بين النسخ والبدآء واعتضدوا في ذلك بما نقلوه عن علي رضي الله عنه أنه قال: لولا البدا لحدثتكم بما هو كائن إلى يوم القيامة.
ونقلوا عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: ما بدا لله تعالى في شيء كما بدا له في إسماعيل أي في أمره بذبحه ونقلوا عن موسى بن جعفر: أنه قال البدآء ديننا ودين آبائنا في الجاهلية.
وتمسكوا أيضا بقوله تعالى: " يمحو الله ما يشاء ويثبت " الرعد 39 وفي ذلك قال شاعرهم: ولولا البدا سميته غير هائب وذكر البدا نعت لمن يتقلب ولولا البدا ما كان فيه تصرف وكان كنار دهره يتلهب وكان كضوء بطبيعة وبالله عن ذكر الطبائع يرغب(1/283)
فلزم اليهود على ذلك إنكار تبدل الشرائع ولزم الروافض على ذلك وصف الباري تعالى بالجهل مع النصوص القطعية والأدلة العقلية الدالة على استحالة ذلك في حقه وانه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
أما النصوص الكتابية فكقوله تعالى: " وهو بكل شيء عليم " البقرة 29 وقوله تعالى: " عالم الغيب والشهادة " المؤمنون 92 وقوله: " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " الأنعام 59 وقوله: " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها " الحديد 22 إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الأدلة العقلية فما استقصيناه في كتبنا الكلامية.
وما نقلوه عن علي وعن أهل بيته فمن الأحاديث التي انتحلها الكذاب الثقفي على أهل البيت فإنه كان يدعي العصمة لنفسه ويخبر بأشياء فإذا ظهر كذبه فيها قال إن الله وعدني بذلك غير أنه بدا له منه وأسند ذلك إلى أهل البيت مبالغة في ترويج أكاذيبه.
وأما الآية فالمراد بها إنما هو محو المنسوخ وإثبات الناسخ ومحو السيئات بالحسنات كما قال تعالى: " إن الحسنات يذهبن السيئات " هود 114 ومحو الحسنات بالردة على ما قال تعالى: " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم " البقرة 217 أو محو المباحات وإثبات الطاعات على ما قاله أهل التفسير أو محو ما يشاء من الآجال أو الأرزاق وإثبات غيرها ويجب الحمل على ذلك جمعا بينه وبين الأدلة القاطعة الدالة على امتناع الجهل في حق الله تعالى.
وكشف الغطاء عن ذلك يتحقق بالفرق بين النسخ والبداء فنقول: إذا عرف معنى البدآء وأنه مستلزم للعلم بعد الجهل والظهور بعد الخفاء وأن ذلك مستحيل في حق الله تعالى على ما بيناه في كتبنا الكلامية فالنسخ ليس كذلك فإنه لا يبعد أن يعلم الله تعالى في الأزل استلزام الأمر بفعل من الأفعال للمصلحة في وقت معين واستلزام نسخه للمصلحة في وقت آخر فإذا نسخه في الوقت الذي علم نسخه فيه فلا يلزم من ذلك أن يكون قد ظهر له ما كان خفياً عنه ولا أن يكون قد أمر بما فيه مفسدة ولا نهى عما فيه مصلحة وذلك كإباحته الأكل في الليل من رمضان وتحريمه في نهاره.
فإن قيل: لا يخلو إما أن يكون الباري تعالى قد علم استمرار أمره بالفعل المعين أبداً أو إلى وقت معين وعلم أنه لا يكون مأموراً بعد ذلك الوقت: فإن كان الأول استحال نسخه لما فيه من انقلاب علمه جهلاً وإن كان الثاني فالحكم يكون منتهياً بنفسه في ذلك الوقت فلا يتصور بقاؤه بعده وإلا لانقلب علم الباري جهلاً وإذا كان منتهياً بنفسه فالنسخ لا يكون مؤثراً فيه لا في حالة علم الله تعالى أنه يكون الفعل مأموراً فيها ولا في حالة علم الله أنه لا يكون مأموراً فيها لما فيه من انقلاب علمه إلى الجهل وإذا لم يكن الناسخ مؤثراً فيه فلا يتصور نسخه.
قلنا: الأمر مطلق والباري علم أن الأمر بالفعل ينتهي بالناسخ في الوقت الذي علم أن النسخ يقع فيه لا أنه علم انتهاءه إلى ذلك الوقت مطلقاً بل علم انتهاءه بالنسخ فلو لم يكن منتهيا بالنسخ لانقلب علمه جهلاً وعلى هذا فلا يلزم من انتهاء الأمر في ذلك الوقت بالنسخ أن لا يكون الأمر منسوخاً
الفصل الثالث
في الفرق بين التخصيص والنسخ
نقول إن التخصيص والنسخ وإن اشتركا من جهة أن كل واحد منهما قد يوجب تخصيص الحكم ببعض ما تناوله اللفظ لغةً غير أنهما يفترقان من عشرة أوجه.
الأول: أن التخصيص يبين أن ما خرج عن العموم لم يكن المتكلم قد أراد بلفظه الدلالة عليه والنسخ يبين أن ما خرج لم يرد التكليف به وإن كان قد أراد بلفظه الدلالة عليه.
الثاني: أن التخصيص لا يرد على الأمر بمأمور واحد والنسخ قد يرد على الأمر بمأمور واحد.
الثالث: أن النسخ لا يكون في نفس الأمر إلا بخطاب من الشارع بخلاف التخصيص فإنه يجوز بالقياس وبغيره من الأدلة العقلية والسمعية.
الرابع: أن الناسخ لا بد وأن يكون متراخياً عن المنسوخ بخلاف المخصص فإنه يجوز أن يكون متقدماً على المخصص ومتأخراً عنه كما سبق تحقيقه.(1/284)
الخامس: أن التخصيص لا يخرج العام عن الاحتجاج به مطلقا في مستقبل الزمان فإنه يبقى معمولاً به فيما عدا صورة التخصيص بخلاف النسخ فإنه قد يخرج الدليل المنسوخ حكمه عن العمل به في مستقبل الزمان بالكلية وذلك عندما إذا ورد النسخ على الأمر بمأمور واحد.
السادس: أنه يجوز التخصيص بالقياس ولا يجوز به النسخ.
السابع: أن النسخ رفع الحكم بعد أن ثبت بخلاف التخصيص.
الثامن: أنه يجوز نسخ شريعة بشريعة ولا يجوز تخصيص شريعة بأخرى.
التاسع: أن العام يجوز نسخ حكمه حتى لا يبقى منه شيء بخلاف التخصيص.
العاشر: وهو ما ذكره بعض المعتزلة أن التخصيص أعم من النسخ وأن كل نسخ تخصيص وليس كل تخصيص نسخاً إذ النسخ لا يكون إلا بتخصيص الحكم ببعض الأزمان والتخصيص يعم تخصيص الحكم ببعض الأشخاص وبعض الأحوال وبعض الأزمان وفيه نظر وذلك أنه إن ثبت أن ما ذكر من صفات التخصيص الفارقة بينه وبين النسخ داخلة في مفهوم التخصيص أو ملازمة خارجة فلا وجود لها في النسخ فلا يكون التخصيص أعم من النسخ لأن الأعم لا بد وأن يصدق الحكم به مع جميع صفاته اللازمة لذاته على الأخص وذلك مما لا يصدق على النسخ فلا يكون النسخ تخصيصاً.
وإلا فلقائل أن يقول: ما ذكر من الصفات الفارقة بين التخصيص والنسخ إنما هي فروق بين أنواع التخصيص وليست من لوازم مفهوم التخصيص بل التخصيص أعم من النسخ ومن جميع الصور المذكورة وهو قادح لا غبار عليه اللهم إلا أن يرجع إلى الاصطلاح وإطلاق اسم التخصيص على بعض هذه الأنواع والنسخ على البعض الآخر فحاصل النزاع يرجع إلى الإطلاق اللفظي ولا منازعة فيه بعد فهم عوز المعنى.
الفصل الرابع
في شروط النسخ الشرعي
وهي منقسمة إلى متفق عليه ومختلف فيه.
أما المتفق عليه فأن يكون الحكم المنسوخ شرعياً وأن يكون الدليل الدال على ارتفاع الحكم شرعياً متراخياً عن الخطاب المنسوخ حكمه وأن لا يكون الخطاب المرفوع حكمه مقيدا بوقت معين.
وأما الشروط المختلف فيها فأن يكون قد ورد الخطاب الدال على ارتفاع الحكم بعد دخول وقت التمكن من الامتثال وأن يكون الخطاب المنسوخ حكمه مما لا يدخله الاستثناء والتخصيص وأن يكون نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة وأن يكون الناسخ والمنسوخ نصين قاطعين وأن يكون الناسخ مقابلاً للمنسوخ مقابلة الأمر بالنهي والمضيق بالموسع وأن يكون النسخ ببدل فإن ذلك كله مختلف فيه والحق أن هذه الأمور غير معتبرة كما يأتي.
وإذ أتينا على ما أردناه من المقدمة فلا بد من العود إلى المسائل المتشعبة عن النسخ وهي عشرون مسألةً.
المسألة الأولى
في إثبات النسخ على منكريه
وقد اتفق أهل الشرائع على جواز النسخ عقلاً وعلى وقوعه شرعاً ولم يخالف في ذلك من المسلمين سوى أبي مسلم الأصفهاني فإنه منع من ذلك شرعاً وجوزه عقلاً ومن أرباب الشرائع سوى اليهود فإنهم انقسموا ثلاث فرق: فذهبت الشمعنية إلى امتناعه عقلاً وذهبته العنانية منهم إلى امتناعه سمعاً لا عقلاً وذهبت العيسوية إلى جوازه عقلاً ووقوعه سمعاً واعترفوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لكن إلى العرب خاصةً لا إلى الأمم كافةً.
والدليل على الجواز العقلي العقل والسمع.
أما العقل فهو أن المخالف لا يخلو إما أن يكون ممن يوافق على أن الله تعالى له أن يفعل ما يشاء كما يشاء من غير نظر إلى حكمة وغرض وإما أن يكون ممن يعتبر الحكمة والغرض في أفعاله تعالى: فإن كان الأول فلا يمتنع عليه تعالى أن يأمر بالفعل في وقت وينهى عنه في وقت كما أمر بالصيام في نهار رمضان ونهى عنه في يوم العيد وإن كان الثاني فمع بطلانه على ما عرفناه في كتب الكلام فلا يمتنع أن يعلم الله استلزام الأمر بالفعل في وقت معين للمصلحة واستلزام النهي عنه للمصلحة في وقت آخر.
فإن المصالح مما يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال حتى إن مصلحة بعض الأشخاص في الغنى أو الصحة أو التكليف ومصلحة الآخر في نقيضه فكذلك جاز أن تختلف المصلحة باختلاف الأزمان حتى أن مصلحة بعض أهل الأزمان في المداراة والمساهلة ومصلحة أهل زمان آخر في الشدة والغلظة عليهم إلى غير ذلك من الأحوال.(1/285)
وإذا عرف جواز اختلاف المصلحة باختلاف الأزمان فلا يمتنع أن يأمر الله تعالى المكلف بالفعل في زمان لعلمه بمصلحته فيه وينهاه عنه في زمن آخر لعلمه بمصلحته فيه كما يفعل الطبيب بالمريض حيث يأمره باستعمال دواء خاص في بعض الأزمنة وينهاه عنه في زمن آخر بسبب اختلاف مصلحته عند اختلاف مزاجه وكما يفعل الوالد بولده من التأديب له وضربه في زمان واللين له والرفق به في زمان آخر على حسب ما يتراءى له من المصلحة.
ولهذا خص الشارع كل زمان بعبادة غير عبادة الزمن الآخر كأوقات الصلوات والحج والصيام ولولا اختلاف المصالح باختلاف الأزمنة لما كان كذلك ومع جواز اختلاف المصالح باختلاف الأزمنة لا يكون النسخ ممتنعاً.
هذا ما يدل على الجواز العقلي من جهة العقل وأما من جهة السمع فقوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير " البقرة 106 فهذه الآية تدل على جواز النسخ على الله تعالى شرعاً.
أما بالنسبة إلى من خالف في ذلك من المسلمين فظاهر لموافقته على أن الآية من كلام الله تعالى وأن كلامه صدق وأما بالنسبة إلى اليهود فلأنه إذا ثبت أن محمداً رسول الله بما أثبتناه من الأدلة القاطعة في علم الكلام وأنه صادق فيما يدعيه من الوحي إليه من الله تعالى فقد ادعى كون هذه الآية من كلام الله فكان صادقاً في ذلك وكانت الآية حجة على جواز النسخ.
وأما ما يدل على وقوع النسخ في الشرع إما بالنسبة إلى من خالف من المسلمين في ذلك فهو أن الصحابة والسلف أجمعوا على أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لجميع الشرائع السالفة وأجمعوا على نسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس باستقبال الكعبة وعلى نسخ الوصية للوالدين والأقربين بآية المواريث ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان ونسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب التربص حولاً كاملاً عن المتوفى عنها زوجها ووجوب ثبات الواحد للعشرة المستفاد من قوله تعالى: " إن يكن منكم عشرون صابرون " الأنفال 65 الآية بقوله : " الآن خفف الله عنكم " الأنفال 66 الآية إلى غير ذلك من الأحكام المتعددة.
وأما بالنسبة إلى منكر ذلك من اليهود فيدل عليه أنه ورد في التورية أن الله تعالى أمر آدم أن يزوج بناته من بنيه وقد حرم ذلك في شريعة من بعده.
وأيضاً فإن الله تعالى قال لنوح عند خروجه من الفلك إني جعلت لك كل دابة مأكلاً لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه وقد حرم كثيراً من الدواب على من بعده من أرباب الشرائع وهو عين النسخ.
فإن قيل: يحتمل أن أمر آدم والإباحة لنوح وذريته كان مقيداً بظهور شريعة من بعده فتحريم ذلك على من بعده لا يكون نسخاً لانتهاء مدة الحكم الأول لكونه كان مقيداً بظهور شريعة من بعده.
قلنا: الأمر لآدم والإباحة لنوح كان مطلقاً والأصل عدم التقييد.
وإن قيل إنه كان ذلك مقيداً في علم الله تعالى بظهور شريعة أخرى.
قلنا: فهذا هو عين النسخ فإن الله تعالى إذا أمر بالفعل مطلقاً فهو عالم بأنه سينسخه ويعلم وقت نسخه فتقييده في علمه لا يخرجه عن حقيقة النسخ.
وقد احتج عليهم بإلزامات أخر منها أن العمل كان مباحاً في يوم السبت ثم حرم على موسى وقومه ومنها أن الختان كان في شرع إبراهيم جائزاً بعد الكبر وقد أوجبه موسى يوم ولادة الطفل ومنها أن الجمع بين الأختين كان مباحاً في شريعة يعقوب وقد حرم ذلك في شريعة من بعده.
ولقائل أن يقول: العمل في يوم السبت وكذلك الختان في حالة الكبر وكذلك الجمع بين الأختين كان مباحاً بحكم الأصل ورفع ما كان ثابتاً بحكم الأصل العقلي لا يكون نسخاً كما علم فيما تقدم.
فإن قيل: لو كان النسخ جائزاً عقلاً لم يخل نسخ ما أمر به إما أن يكون لحكمة ظهرت لم تكن ظاهرة حالة الأمر أو لا يكون كذلك فإن لم يكن لحكمة ظهرت له كان عابثاً والعبث على الحكيم محال وإن كان الأول فقد بدا له ما لم يكن والبدآء على الله تعالى محال.
وأيضاً فإنه لو جاز نسخ الأحكام الشرعية لكون التكليف بها مصلحةً في وقت ومفسدة في وقت لجاز نسخ ما وجب من الاعتقادات في التوحيد وما يجوز على الله تعالى وما لا يجوز وهو محال.(1/286)
وأيضاً فإن الخطاب المنسوخ حكمه إما أن يكون موقتاً بوقت أو هو دال على التأبيد: فإن كان الأول فهو غير قابل للنسخ لانتهائه بانتهاء ذلك الوقت وإن كان الثاني فهو محال من أربعة أوجه: الأول: إنه من ذلك اعتقاد المكلف دوام الحكم وتأييده وهو جهل قبيح وما لزم منه القبيح فهو قبيح.
الثاني: أنه يلزم منه أن لا يبقى لنا طريق إلى معرفة التأبيد بتقدير إرادة التأبيد وذلك مما يوجب إعجاز الرب تعالى عن إعلامنا بالتأبيد وهو محال.
الثالث: أنه لو جاز النسخ مع أن اللفظ للتأبيد لما بقي لنا وثوق بوعد الله تعالى ووعيده ولا بشيء من الظواهر اللفظية ولا يخفى ما في ذلك من اختلاف الشرائع واتجاه قول الباطنية.
الرابع: أنه يلزمكم على هذا جواز نسخ شريعتكم ولم تقولوا به وأيضاً فإنه لو جاز رفع الحكم بعد وقوعه فإما أن يكون رفعه قبل وجوده أو بعد عدمه أو في حال وجوده: الأول محال لأن رفع ما لم يوجد غير متصور والثاني محال لأن رفع المعدوم ممتنع والثالث يلزم منه أن يكون الشيء حالة وجوده مرتفعاً وذلك أيضاً ممتنع.
وأيضاً فإن الفعل المأمور به إما أن يكون حسناً أو قبيحاً: فإن كان الأول فقد نهى عن الحسن وإن كان الثاني فقد أمر بالقبيح.
وأيضاً فإنه إما أن يكون طاعةً أو معصيةً: فإن كان طاعة فقد نهى عن الطاعة وإن كان معصية فقد أمر بالمعصية.
وأيضاً فإما أن يكون مراداً أو مكروهاً فإن كان مراداً فقد صار بالنهي مكروهاً وإن كان مكروهاً فقد صار بالأمر مراداً.
وأما ما ذكرتموه من الدليل السمعي على الجواز العقلي فلا وجه له.
أما قوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها " البقرة 106 فالمراد بالنسخ الإزالة ونسخ الآية بإزالتها عن اللوح المحفوظ.
وأما ما ذكرتموه على الوقوع الشرعي فلا نسلم أن شريعة محمد ناسخة لشرائع من تقدم على ما يأتي تقريره.
وأما وجوب استقبال بيت المقدس فإنه لم يزل بالكلية لجواز التوجه إليه عند الإشكال ومع العذر فكان ذلك تخصيصاً لا نسخاً.
وأما تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم فإنما زالت لزوال سببها وهو امتياز المنافقين من حيث إنهم لا يتصدقون على المؤمنين ووجوب التربص حولاً كاملاً لم يزل بالكلية لبقائه عندما إذا كانت مدة حملها سنة فكان ذلك أيضاً من باب التخصيص لا من باب النسخ.
سلمنا الجواز العقلي ولكن لا نسلم الجواز الشرعي وبيانه من وجهين: الأول: قوله تعالى في صفة القرآن: " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " فصلت 42 فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل وهذه حجة من منع جواز نسخ القرآن مطلقاً.
الثاني: أن موسى الكليم كان نبياً حقاً بالإجماع منا ومنكم وبالدلائل الدالة على صدقه في رسالته وقد نقل عنه نقلاً متواتراً أنه قال: هذه الشريعة مؤبدة عليكم ما دامت السموات والأرض وروي عنه أنه قال: الزموا يوم السبت أبدا فقد كذب بذلك من ادعى نسخ شريعته فلو قيل بجواز نسخ شريعته لزم منه أن يكون كاذباً وهو محال.
والجواب عن الإشكال الأول أن النسخ لم يكن لحكمة ظهرت له بعد أن لم تكن ظاهرةً بل إن قلنا برعاية الحكمة بحكمة كان عالماً بها على ما سبق في الفرق بين النسخ والبدآء.
وعن الإشكال الثاني أن اعتقاد التوحيد وكل ما مستند معرفته دليل العقل لا يخلو إما أن يقال بأن وجوبه ثابت بالعقل كما قاله المعتزلة أو بالشرع كما نقوله نحن: فإن كان الأول فلا يخفى إحالة نسخ ما ثبت وجوبه عقلاً لأن الشارع لا يأتي بما يخالف العقل وإن كان الثاني فالعقل يجوز أن لا يرد الشرع بوجوبه ابتداء فضلاً عن نسخه بعد وجوبه.
وعن الثالث قولهم إن الخطاب إن كان موقتاً فلا يكون قابلاً للنسخ لا نسلم ذلك فإنه لو قال في رمضان حجوا في هذه السنة ثم قال قبل يوم عرفة لا تحجوا فإنه يكون جائزاً عندنا على ما يأتي في جواز نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال.
قولهم: وإن كان دالا على التأبيد فهو محال لا نسلم ذلك.
قولهم في الوجه الأول إنه يلزم منه جهل المكلف باعتقاد التأبيد فقد أجاب عنه أبو الحسين البصري بأنه إنما يفضي إلى ذلك إن لو لم يكن قد اقترن بالخطاب المنسوخ ما يشعر بنسخه وليس كذلك: وقد بينا إبطال ما ذهب إليه في تأخير البيان إلى وقت الحاجة.(1/287)
والوجه في الجواب أن نقول: دلالة الخطاب على التأبيد لا يلزمها التأبيد مع القول بجواز النسخ فإذا اعتقد المكلف التأبيد فالجهل إنما جاءه من قبل نفسه لا من قبل ما اقتضاه الخطاب بل الواجب أن يعتقد التأبيد بشرط عدم الناسخ ثم وان أفضى ذلك إلى الجهل في حق العبد فالقول بقبح ذلك من الله تعالى مبني على التحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه فيما تقدم.
ثم متى يكون ذلك قبيحاً إذا استلزم مصلحة تربو على مفسدة جهله أو إذا لم يكن كذلك؟ الأول ممنوع والثاني مسلم.
وبيان لزوم المصلحة الزائدة هنا ما فيه من زيادة الثواب باعتقاده دوام ما أمر به والعزم على فعله والانقياد لقضاء الله وحكمه في الأمر والنهي كيف وإن ما ذكروه منتقض بما يحدثه الله تعالى للعبد من الغنى والصحة فإن ذلك مما يوجب اعتقاد دوامه له مع جواز إزالته بالفقر والمرض.
قولهم في الوجه الثاني إنه يفضي إلى تعجيز الرب تعالى عن إعلامنا بالتأبيد ليس كذلك لجواز أن يخلق لنا العلم الضروري بذلك.
وما ذكروه في الوجه الثالث فمندفع فإنه إن كان اللفظ الوارد في الخطاب مما لا يحتمل التأويل فالوثوق به حاصل لا محالة وإن كان مما يحتمل التأويل فيجب أن يكون الوثوق به على حسب ما اقتضاه الظاهر لا قطعاً وذلك غير مستحيل.
وما ذكروه في الوجه الرابع فغير صحيح فإنا لا نمنع من جواز نسخ شرعنا عقلاً وإنما نمنع منه شرعاً لورود خبر الصادق بذلك عندنا وهو قوله تعالى: " وخاتم النبيين " الأحزاب 40 وقوله صلى الله عليه وسلم: " ألا إنه لا نبي بعدي " والخلاف في خبر الصادق محال ومع ذلك فإنا لا نحيل عقلاً أن يكون ذلك الخبر مشروطاً بقيد.
قولهم: لو جاز رفع الحكم إما أن يكون قبل وقوعه فمندفع فإنا وإن أطلقنا لفظة الرفع في النسخ إنما نريد به امتناع استمرار المنسوخ وأنه لولا الخطاب الدال على الانقطاع لاستمر وذلك لا يلزم عليه شيء مما قيل.
قولهم: الفعل المأمور به إما أن يكون حسناً أو قبيحاً فهو مبني على التحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه.
قولهم: إما أن يكون طاعةً أو معصيةً قلنا هو طاعة حالة كونه مأموراً ومعصية حالة كونه منهياً فالطاعة والمعصية ليست من صفات الأفعال بل تابعة للأمر والنهي.
قولهم: إما أن يكون مراداً أو مكروهاً لا نسلم الحصر لجواز أن لا يكون مراداً ولا مكروهاً إذ الإرادة والكراهة عندنا غير لازمة للأمر والنهي وبتقدير أن يكون ما أمر به مراداً جاز أن يكون مراداً حالة الأمر دون حالة النهي.
قولهم: المراد من نسخ الآية إزالتها عن اللوح المحفوظ ليس كذلك فإنه قال تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " البقرة 106 والقرآن خير كله من غير تفاوت فيه فلو كان المراد من نسخ الآية إزالتها عن اللوح المحفوظ وكتابة أخرى بدلها لما تحقق هذا الوصف وإنما يتحقق الخيرية بالنسبة إلينا فيما يرجع إلى أحكام الآيات المرفوعة عنا والموضوعة علينا من حيث إن البعض قد يكون أخف من البعض فيما يرجع إلى تحمل المشقة أو أن ثواب البعض أجزل من ثواب البعض على اختلاف المذاهب فوجب حمل النسخ على نسخ أحكام الآيات لا على ما ذكروه.
وأما منع كون شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لشرع من تقدم فمخالف لإجماع السلف قاطبةً.
والكلام في هذا المقام إنما هو مع منكر النسخ من الإسلاميين وما يذكرونه في تقدير ذلك فسيأتي الجواب عنه أيضاً وأما ما ذكروه على باقي صور النسخ فهو أيضاً خلاف إجماع السلف كيف وإن ما ذكروه من التخريج لا وجه له.
قولهم إن التوجه إلى بيت المقدس لم يزل بالكلية قلنا: لا خلاف أنه كان يجب التوجه إليه حالة عدم الإشكال والعذر وقد زال ذلك بالكلية فكان نسخاً.
قولهم إن وجوب تقديم الصدقة إنما زال لزوال سببه قلنا: الأصل بقاء السبب وما ذكروه من السبب يلزم منه أن كل من لم يتصدق من الصحابة أن يكون منافقاً ولم يتصدق أحد منهم سوى علي عليه السلام على ما نقله الرواة وذلك ممتنع.
قولهم إن وجوب التربص لم يزل بالكلية قلنا: لا خلاف بين أهل الملة في أنه كان التربص حولاً كاملاً واجباً سواء كانت مدة الحمل سنةً أو لم تكن وذلك مما رفع بالكلية.(1/288)
وما ذكروه من امتناع نسخ القرآن بقوله: " لا يأتيه الباطل " فصلت 42 الآية فليس فيه ما يدل على امتناع النسخ إلا أن يكون النسخ إبطالاً له وليس كذلك.
وبيانه أن النسخ لا معنى له سوى قطع الحكم الذي دل عليه اللفظ مع كون المخاطب مريداً لقطعة على ما سبق وذلك لا يكون إبطالاً له بل تحقيقاً لمقصوده.
وما ذكروه من قول موسى فمختلق لم تثبت صحته عن موسى عليه السلام وقد قيل إن أول من وضع ذلك لهم ابن الراوندي ليعارض به دعوى الرسالة من محمد صلى الله عليه وسلم لما ظهر من تسمحه في الدين.
ويدل على ذلك أن أحبارهم ككعب الأحبار وابن سلام ووهب ابن منبه وغيرهم كانوا أعرف من غيرهم بما في التورية وقد أسلموا ولم يذكروا شيئاً من ذلك: ولو كان ذلك صحيحاً لكان من أقوى ما يتمسك به اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في معارضته.
ولم ينقل عنهم شيء من ذلك ثم أنهم مختلفون في نفس متن الحديث فإن منهم من قال الحديث إن أطعتموني لما أمرتكم به ونهيتكم عنه ثبت ملككم كما ثبتت السموات والأرض وليس في ذلك ما يدل على إحالة النسخ.
وإن سلمنا صحة ما نقلوه فيحتمل أنه أراد بالشريعة التوحيد ويحتمل أنه أراد بقوله: مؤبدة ما لم تنسخ بشريعة نبي آخر ومع احتمال هذه التأويلات فلا يعارض قوله ما ظهر على يد النبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات القاطعة الدالة على صدقه في دعواه الرسالة ونسخ شريعة من تقدم كيف وإن لفظ التأبيد قد ورد في التورية ولم يرد به الدوام كقوله: إن العبد يستخدم ست سنين ثم يعتق في السابعة فإن أبى العتق فلتثقب أذنه ويستخدم أبداً وكقوله في البقرة التي أمروا بذبحها هذه سنة لكم أبداً وكقوله قربوا كل يوم خروفين قرباناً دائماً.
وأما العيسوية فيمتنع عليهم بعد التسليم بصحة رسالته وصدقه في دعواه بما اقترن بها من المعجزة القاطعة تكذيبه فيما ورد به التواتر القاطع عنه بدعوى البعثة إلى الأمم كافةً ونزول القرآن بذلك وهو قوله تعالى: " يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً " الأعراف 158 وقوله تعالى: " وما أرسلناك إلا كافةً للناس " سبأ 28 وقال في وصف ما أنزل عليه هذا هدىً للناس ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " بعثت إلى الأحمر والأسود " وقوله: " بعثت إلى الناس كافةً " وقوله: " لو كان أخي موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي " ويدل على ذلك ما اشتهر عنه وتواتر من دعائه لطوائف الجبابرة والأكاسرة.
وتنفيذه إلى أقاصي البلاد وطلب الدخول في ملته والقتال لمن جاحده من العرب وغيرهم في نبوته والله أعلم.
المسألة الثانية اتفق القائلون بجواز النسخ على جواز نسخ حكم الفعل بعد خروج وقته واختلفوا في جواز ذلك قبل دخول الوقت وذلك كما لو قال الشارع في رمضان حجوا في هذه السنة ثم قال قبل يوم عرفة لا تحجوا.
فذهبت الأشاعرة وأكثر أصحاب الشافعي وأكثر الفقهاء إلى جوازه ومنع من ذلك جماهير المعتزلة وأبو بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي وبعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل والمختار جوازه وقد احتج الأصحاب بحجج ضعيفة.
الحجة الأولى قوله تعالى: " يمحو الله ما يشاء ويثبت " الرعد 39 دل على أنه يمحو كل ما يشاء محوه على كل وجه فيدخل فيه محو العبادة قبل دخول وقتها ولا دلالة فيه لأن الآية إنما تدل على محو كل ما يشاء محوه وليس فيها ما يدل على أنه يشاء محو العبادة قبل دخول وقتها مع كون ذلك ممتنعاً عند الخصم وإن بين إمكان مشيئة ذلك بغير الآية ففيه ترك الاستدلال بالآية كيف وإنه قد أمكن حمل المحو على ما هو حقيقة فيه وهو محو الكتابة مما يكتبه الملكان من المباحات وتبقيه المعاصي والطاعات.
ومنهم من احتج بقصة إبراهيم عليه السلام وأمر الله له بذبح ولده ونسخه عنه بذبح الفداء ودليل أمره بذلك انه قد روي انه تعالى قال لإبراهيم: اذبح ولدك وروي واحدك والقرآن دل عليه بقوله: " يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر " الصافات 102 وانه نسخ بذبح الفدا بقوله: " وفديناه بذبح عظيم " الصافات 107 وهذا أيضاً مما يضعف الاحتجاج به جداً غير أنه قد وجه الخصوم على هذه الحجة اعتراضات واهية لا بد من ذكرها والإشارة إلى الانفصال عنها تكثيراً للفائدة ثم نذكر بعد ذلك وجه الضعيف في الآية المذكورة.(1/289)
أما الأسئلة فأولها أنهم قالوا إن ذلك إنما كان مناماً لا أصل له فلا يثبت به الأمر ولهذا قال: إني أرى في المنام سلمنا أن منامه أصل يعتمد عليه ولكن لا نسلم أنه كان قد أمر.
وقول ولده: افعل ما تؤمر ليس فيه دلالة على أنه كان قد أمر ولهذا علقه على المستقبل ومعناه: افعل ما يتحقق من الأمر في المستقبل سلمنا أنه كان مأموراً.
لكن لا نسلم أنه كان مأموراً بالذبح حقيقةً بل بالعزم على الذبح امتحاناً له بالصبر على العزم وذلك بلاء عظيم والفداء إنما كان عما يتوقعه من الأمر بالذبح لا عن نفس وقوع الأمر بالذبح أو بمقدمات الذبح من إخراجه إلى الصحراء وأخذ المدية والحبل وتله للجبين فاستشعر إبراهيم أنه مأمور بالذبح ولذلك قال تعالى: " قد صدقت الرؤيا " الصافات 105 سلمنا أنه كان مأموراً بالذبح حقيقةً إلا أنه قد وجد منه فإن قد روي أنه كان كلما قطع جزءاً عاد ملتحماً إلى آخر الذبح ولهذا قال الله تعالى: " قد صدقت الرؤيا " الصافات 105 وإذا كان ما أمر به من الذبح قد وقع فالفداء لا يكون نسخاً.
سلمنا أن الذبح حقيقةً لم يوجد لكن قد روي أن الله تعالى منعه من الذبح بأن جعل على عنق ولده صفيحةً من نحاس أو حديد مانعةً من الذبح لا أن ذلك كان بطريق النسخ.
والجواب عن الأول أن منام الأنبياء فيما يتعلق بالأوامر والنواهي وحي معمول به وأكثر وحي الأنبياء كان بطريق المنام وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن وحيه كان ستة أشهر بالمنام ولهذا قال عليه السلام: " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزأ من النبوة " فكانت نسبة الستة أشهر من ثلاثة وعشرين سنةً من نبوته كذلك ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ما احتلم نبي قط يعني ما تشكل له الشيطان في المنام على الوجه الذي يتشكل لأهل الاحتلام كيف وإنه لو كان ذلك خيالاً لا وحياً لما جاز لأبراهيم العزم على الذبح المحرم بمنام لا أصل له ولما سماه بلاء مبيناً ولما احتاج إلى الفداء.
وعن الثاني أن قوله: افعل ما تؤمر " وإن لم يكن ظاهراً في الماضي لكنه قد يرد ويراد به الماضي.
ولهذا فإنه لو قال القائل: قد أمرني السلطان بكذا فإنه يصح أن يقال له: افعل ما تؤمر أي ما أمرت به وأنت مأمور ويجب الحمل عليه ضرورة حمل الولد على إخراجه إلى الصحراء وأخذ آلات الذبح وترويع الولد فإن ذلك كله مما يحرم من غير أمر ولا إذن في ذلك.
وعن الثالث أن حمل الأمر على العزم أو على مقدمات الذبح على خلاف قوله: " إني أرى في المنام أني أذبحك " الصافات 102 ثم لو كان مأموراً بالعزم على الذبح ومقدمات الذبح لا غير لما سماه بلاء مبيناً ولما احتاج إلى الفداء لكون المأمور به مما وقع ولما قال الذبيح: " ستجدني إن شاء الله من الصابرين " الصافات 102 فإن ذلك مما لا ضرر عليه فيه.
وقوله: " قد صدقت الرؤيا " معناه أنك عملت في المقدمات عمل مصدق للرؤيا بقلبه لكن لقائل أن يقول: إذا كان قد أمر بإخراج الولد إلى الصحراء وأخذ المدية والحبل وتله للجبين مع إبهام عاقبة الأمر عليه وعلى ولده فإنه يظهر من ذلك لهما أن عاقبة الأمر إنما هي الذبح وذلك عين البلاء به يتحقق قول الذبيح: " ستجدني إن شاء الله من الصابرين " الصافات 102 وأما تسمية الكبش فداء فإنما كان عن الأمر المتوقع لا عن الأمر الواقع غير أن هذا مما لا يستقيم على أصل أبي الحسين البصري لما فيه من توريط المكلف في الجهل حيث أوجب عليه ما يظهر منه الأمر بالذبح ولا أمر.
وعن الرابع أنه لو كان قد أتى بما أمر به من الذبح لما احتاج إلى الفداء ولا اشتهر ذلك وظهر لأنه من أكبر الآيات الباهرات وحيث لم ينقله سوى بعض الخصوم دل على ضعفه.
وعن الخامس أن ذلك من المعتزلة لا يصح لأنهم لا يرون التكليف بما لا يطاق وهذا تكليف بما لا يطاق كيف وإنه لو كان كما ذكروه لنقل أيضاً واشتهر لكونه من المعجزات العظيمة هذا ما في هذه الأسئلة والأجوبة.
وأما وجه الضعف في الاحتجاج بقصة إبراهيم فمن جهة أن لقائل أن يقول: وإن سلمنا أنه نسخ عنه الأمر بالذبح لكن لا نسلم أنه نسخ قبل التمكن من الامتثال بل إنما كان ذلك بعد التمكن من الامتثال والخلاف إنما هو فيما قبل التمكن لا بعده.
ولا سبيل إلى بيان أنه نسخ قبل التمكن من(1/290)
الامتثال إلا بعد بيان أن مطلق الأمر يقتضي الوجوب على الفور أو أن وقت الأمر كان مضيقاً لا يجوز التأخير عنه للنبي عليه السلام وأن النبي عليه السلام لا يجوز عليه صغائر المعاصي والكل ممنوع على ما عرف.
الحجة الثانية أن الله تعالى نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم قبل فعلها وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم صالح قريشاً يوم الحديبية على رد من هاجر إليه ثم نسخ ذلك قبل الرد بقوله تعالى: " فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار " الممتحنة 10 وأيضاً فإن الإجماع من الخصوم واقع على أن الله تعالى لو أمرنا بالمواصلة في الصوم سنة جاز أن ينسخه عنا بعد شهر منها وذلك نسخ للصوم فيما بقي من السنة قبل حضور وقته وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أحلت لي مكة ساعةً من نهار " ومع ذلك منع من القتال فيها وهو نسخ قبل وقت الفعل.
وهذه الحجج أيضاً ضعيفة.
أما الأولى فلأن لقائل أن يقول: لا نسلم أن نسخ تقديم الصدقة كان قبل التمكن من الوقت ويدل عليه أمران: الأول عتاب الله لهم بقوله: " أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقة فإن لم تفعلوا وتاب الله عليكم " المجادلة 13 الآية ولو لم يكن وقت الفعل قد حضر لما حسن ذلك الثاني أن علياً رضي الله عنه ناجى بعد تقديم الصدقة وذلك يدل على حضور وقت الفعل.
وأما الثانية فلأنه لا يمتنع أن يكون ذلك بعد مضي وقت تمكن المهاجرة فيه إليه مع ردهن ولا دليل على وقوع نسخ ذلك قبل دخول وقت الفعل فلا يكون حجةً.
وأما الثالثة فلأن النسخ ورد على بعض ما تناوله اللفظ فكان بياناً أن مراده من اللفظ إنما هو بعض السنة ويكون النهي متناولاً لغير ما تناوله الأمر وذلك غير ممتنع وهذا بخلاف ما إذا نسخ قبل دخول شيء من الوقت لأن النهي يكون متناولاً لغير ما تناوله الأمر ولا يلزم من جواز ذلك ثم جوازه هاهنا.
وأما الرابعة فلأن إباحة القتال في تلك الساعة لا يقتضي وقوع القتال ولا بد وعلى هذا فلا يمتنع أن يكون النهي عن القتال بعد مضي تلك الساعة ولا دليل يدل على وقوع النسخ قبل دخول الوقت كيف وأنه لا دلالة في قوله: أحلت لي مكة ساعةً على إباحة القتال بل لعله أراد بذلك إباحة قتل أناس معينين كابن خطل وغيره فالنهي عن القتال لا يكون نسخاً لإباحة القتال.
والأقرب في ذلك حجتان: الحجة الأولى التمسك بقصة الإسراء وهو ما صح بالرواية أن الله تعالى فرض ليلة الإسراء على نبيه وعلى أمته خمسين صلاةً فأشار عليه موسى بالرجوع وقال له: أمتك ضعفاء لا يطيقون ذلك فاستنقص الله ينقصك وأنه قبل ما أشار عليه وسأل الله في ذلك فنسخ الخمسين إلى أن بقي خمس صلوات وذلك نسخ لحكم الفعل قبل دخول وقته.
الحجة الثانية أنه يجوز أن يأمر الله تعالى زيداً بفعل في الغد ويمنعه منه بمانع عائق له عنه قبل الغد فيكون مأموراً بالفعل في الغد بشرط انتفاء المانع.
وإذا جاز الأمر بشرط انتفاء المانع مع تعقيبه بالمنع جاز الأمر بالفعل بشرط انتفاء الناسخ مع تعقيبه بالنسخ إذ الفعل لا يفرق بين الحالتين وهو إلزام ملزم.
فإن قيل أما قصة الإسراء فهي خبر واحد فلا يمكن إثبات مثل هذه المسألة به وإن كان حجةً إلا أنه يقتضي نسخ حكم الفعل قبل التمكن وقبل تمكن المكلف من العلم به لنسخه قبل الإنزال وذلك مما لا يحصل معه الثواب بالعزم على الادواء والاعتقاد لوجوبه ولم يقولوا به.
وأما الحجة الثانية فلا نسلم أنه يجوز أن يأمر زيداً في الغد ويمنعه منه قبل الغد لأنه لا يخلو إما أن يأمره مطلقاً ويريد منه الفعل أو بشرط زوال المنع فإن كان الأول فمنعه منه بعد ذلك يكون تكليفاً بما لا يطاق وهو محال.
وإن كان الثاني فالأمر بالشرط مما لا يجوز وقوعه من العالم بعواقب الأمور على ما سبق تقريره في الأوامر وهذا بخلاف ما إذا أمر جماعة بفعل في الغد فإنه يجوز أن يمنع بعضهم من الفعل لأن ذلك يدل على أنه لم يرد بخطابه من علم منعه وإذا لم يجز في المنع فكذلك في النسخ.
ثم ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من وجوه: الوجه الأول: أنه إذا نهى المكلف عن الفعل الذي أمر به قبل دخول وقته فالأمر والنهي قد تواردا على شيء واحد من جهة واحدة في وقت واحد وهو محال وذلك لأن الفعل في نفسه في ذلك الوقت إما أن يكون حسناً أو قبيحاً.(1/291)
وعند ذلك فلا يخلو الباري تعالى عند الأمر بالفعل إما أن يكون عالماً بما هو عليه الفعل من الحسن والقبح وكذلك في حالة النهي أو لا يكون عالماً به أصلاً أو هو عالم به في حالة النهي دون حالة الأمر أو في حالة الأمر دون حالة النهي: فإن كان الأول فإن كان الفعل حسناً فقد نهى عن الحسن مع علمه به وإن كان قبيحاً فقد أمر بالقبيح مع علمه به وهو قبيح وإن كان الثاني فهو محال لما يلزمه من الجهل في حق الله تعالى وكذلك إن كان الثالث أو الرابع.
كيف وإنه إذا ظهر له في حالة النهي ما لم يكن قد ظهر له في حالة الأمر فهو عين البدآء والبدآء على الله محال.
الوجه الثاني: أنه إذا أمر بالفعل في وقت معين ثم نهى عنه فقد بان أنه لم يرد إيقاعه ويكون قد أمر بما لم يرده ولو جاز ذلك لما بقي لنا وثوق بقول من أقوال الشارع لجواز أن يكون المراد بذلك القول ضد ما هو دال على إرادته وذلك محال.
الوجه الثالث أن ذلك مما يفضي إلى أن يكون الفعل الواحد مأموراً منهياً والأمر والنهي عندكم كلام الله وكلامه صفة واحدة فيكون الكلام الواحد أمراً نهياً بشيء واحد في وقت واحد وذلك محال.
والجواب قولهم في قصة الإسراء إنها خبر واحد قلنا والمسألة عندنا من مسائل الاجتهاد ولذلك لا يكفر المخالف فيها ولا يبدع.
قولهم إنه نسخ عن المكلفين قبل علمهم به قلنا: فقد نسخ عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد علمه وإن سلمنا أنه نسخ عن المكلفين قبل علمهم به ولكن لم قالوا بامتناعه.
قولهم إنه لا يتعلق به فائدة الثواب باعتقاد الوجوب والعزم على الفعل فهو مبني على رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وهو ممنوع على ما عرف من أصلنا.
قولهم على الحجة الثانية إنا لا نسلم الأمر مع المنع قلنا: قد سبق تقريره في الأوامر.
قولهم: إن أراد منه الفعل فهو تكليف بما لا يطاق قلنا: وإن كان كذلك فهو جائز عندنا على ما تقرر قبل.
قولهم: وإن لم يكن مريدا له فهو أمر بشرط عدم المنع من العالم بعواقب الأمور وذلك محال لما سبق قلنا: وقد سبق أيضا في الأوامر جواز ذلك وإبطال كل ما تخيلوه مانعاً.
قولهم في المعارضة الأولى إنه يلزم من ذلك أن يكون الرب تعالى آمراً وناهياً عن فعل واحد في وقت واحد وهو محال لا نسلم إحالته.
قولهم: إما أن يكون حسناً أو قبيحاً فهو مبني على الحسن والقبح العقلي وهو باطل لما سبق فلئن قالوا وإن لم يكن حسناً ولا قبيحاً فلا يخلو إما أن يكون مشتملاً على مصلحة أو مفسدة.
فإن كان الأول فقد نهى عما فيه مصلحة وإن كان الثاني فقد أمر بما فيه مفسدة قلنا: وهذا أيضاً مبني على رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وهو باطل لما عرف من أصلنا بل جاز أن يكون الأمر والنهي لا لمصلحة ولا لمفسدة.
وإن سلم عدم خلوه عن المصلحة والمفسدة ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك الأمر بالمفسدة والنهي عن المصلحة بل جاز أن يقال إنه مشتمل على المصلحة حالة الأمر ومشتمل على المفسدة حالة النهي ولا مفسدة حالة الأمر ولا مصلحة حالة النهي على ما تقرر قبل ولا يلزم من ذلك الجهل في حق الله تعالى ولا البدآء لعلمه حالة الأمر بما الفعل مشتمل عليه من المصلحة وانه سينسخه في ثاني الحال لما يلازمه من المفسدة المقتضية للنسخ حالة النسخ كما علم.
قولهم في المعارضة الثانية: إذا أمر بالفعل ثم نهى عنه فتبين أنه أمر بما لم يرد مسلم وعندنا ليس من شرط الأمر إرادة المأمور به كما سبق تعريفه.
قولهم يلزم من ذلك عدم الوثوق بجميع أقوال الشارع إن أرادوا بذلك أنه إذا خاطب بما يحتمل التأويل أنا لا نقطع بإرادته لما هو الظاهر من كلامه فمسلم ولكن لا نسلم امتناع ذلك وهذا هو أول المسألة وإن أرادوا به أنه لا يمكن الاعتماد على ظاهره مع احتمال إرادة غيره من الاحتمالات البعيدة فغير مسلم وإن أرادوا غير ذلك فلا نسلم تصوره.
قولهم في المعارضة الثالثة إنه يلزم منه أن يكون الفعل الواحد في وقت واحد مأموراً منهياً قلنا: مأمور منهي معاً أو لا معاً؟ الأول ممنوع والثاني مسلم.
قولهم إن كلام الله عندكم صفة واحدة لا نسلم ذلك إن سلكنا مذهب عبد الله بن سعد من أصحابنا وإن سلكنا مذهب الشيخ أبي الحسن فلم قالوا بالإحالة.(1/292)
قولهم يلزم منه أن تكون الصفة الواحدة أمراً نهياً قلنا: إنما تسمى الصفة الواحدة بهذه الأسماء بسبب اختلاف تعلقاتها ومتعلقاتها فإن تعلقت بالفعل سميت أمراً وإن تعلقت بالترك سميت نهياً وذلك إنما يمتنع أن لو اتحد زمان التعلق بالفعل والترك.
وأما إذا كان زمان التعلق مختلفاً فلا والمأمور والمنهي وإن كان زمانه متحداً لكن زمان تعلق الأمر به غير زمان تعلق النهي به ومع التغاير فلا امتناع.
المسألة الثالثة اتفق الجمهور على جواز نسخ حكم الخطاب إذا كان بلفظ التأبيد كقوله: صوموا أبداً خلافاً لشذوذ من الأصوليين ودليل جوازه أن الخطاب إذا كان بلفظ التأبيد غايته أن يكون دالاً على ثبوت الحكم في جميع الأزمان بعمومه ولا يمتنع مع ذلك أن يكون المخاطب مريداً لثبوت الحكم في بعض الأزمان دون البعض كما في الألفاظ العامة لجميع الأشخاص.
وإذا لم يكن ذلك ممتنعاً فلا يمتنع ورود الناسخ المعرف لإرادة المخاطب لذلك ولو فرضنا ذلك لما لزم عنه المحال وكان جائزاً.
فإن قيل: لفظ التأبيد جار مجرى التنصيص على كل وقت من أوقات الزمان بخصوصه والتنصيص على وجوب الفعل في الوقت المعين بخصوص لا يجوز نسخه فكذلك هذا.
وأيضاً فإنا لو أمرنا بالعبادة بلفظ يقتضي الاستمرار جاز النسخ فلو جاز ذلك مع التقييد بلفظ التأبيد لم يكن للتقييد معنىً.
وأيضاً فإنه لو جاز نسخ ما ورد بلفظ التأبيد لما بقي لنا طريق إلى العلم بدوام العبادة في زمان إرادة التكليف.
وأيضاً فإن المخاطب إذا أخبر بلفظ التأبيد لم يجز نسخه فكذلك في غير الخبر.
والجواب عن الأول: لا نسلم أن لفظ التأبيد ينزل منزلة التنصيص على كل وقت بعينه بل هو في العرف قد يطلق للمبالغة كما في قول القائل: لازم فلاناً أبداً وفلان أبدا يكرم الضيف وأدام الله ملك الأمير أبداً.
وإن سلمنا أنه ينزل منزلة التنصيص على الأوقات المعينة فعندنا لا يمتنع نسخ حكم الخطاب إذا كان مقيداً بوقت معين كما إذا قال: صل وقت زوال الشمس ركعتين فإنه يجوز نسخه بعد دخول الوقت وقبله على ما عرف من أصلنا.
وعن الثاني أن فائدة التأبيد تأكيد الاستمرار فإذا ورد النسخ كانت فائدته تأكيد المبالغة في الاستمرار لا نفس الاستمرار.
ثم يلزمهم على ما ذكروه ما إذا أتى بلفظ عام كما لو قال كل من دخل داري فأكرمه فإنه يجوز تخصيصه مع تأكيده بكل وجميع فما هو جوابهم في التخصيص فهو جواب لنا في النسخ.
عن الثالث أن ما ذكروه إنما يصح إن لو كان لفظ التأبيد يفيد العلم ولا طريق يفيده سواه والأمران ممنوعان: أما الأول فلما سبق وأما الثاني فلجواز أن يخلق الله تعالى العلم الضرروي بذلك أو بما يقترن باللفظ من القرائن المفيدة لليقين كما في القرائن المقترنة بخبر التواتر ثم ما ذكروه لازم عليهم في تخصيص العام المؤكد فإنه جائز مع توجه ما ذكروه في النسخ بعينه عليه والجواب أن ذلك يكون متحداً.
وعن الرابع بمنع ذلك في الخبر أيضاً.
المسألة الرابعة مذهب الجميع جواز نسخ حكم الخطاب لا إلى بدل خلافاً لبعض الشذوذ ودليله أمران الأول ما يدل على الجواز العقلي وهو أنا لو فرضنا وقوع ذلك لم يلزم عنه لذاته محال في العقل ولا معنى للجائز عقلاً سوى هذا ولأنه لا يخلو إما أن لا يقال برعاية الحكمة في أفعال الله تعالى أو يقال بذلك: فإن كان الأول فرفع حكم الخطاب بعد ثبوته لا يكون ممتنعاً لأن الله تعالى له أن يفعل ما يشاء وإن كان الثاني فلا يمتنع في العقل أن تكون المصلحة في نسخ الحكم دون بدله.
الثاني ما يدل على الجواز الشرعي وهو أن ذلك مما وقع في الشرع كنسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم ونسخ الاعتداد بحول كامل في حق المتوفى عنها زوجها ونسخ وجوب ثبات الرجل لعشرة ونسخ وجوب الإمساك بعد الفطر في الليل ونسخ تحريم ادخار لحوم الأضاحي وكل ذلك من غير بدل إلى غير ذلك من الأحكام التي نسخت لا إلى بدل والوقوع في الشرع أدل الدلائل على الجواز الشرعي.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه وهو قوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " أخبر أنه لا ينسخ إلا ببدل والخلف في خبر الصادق محال.(1/293)
قلنا: ما ذكروه إنما هو دليل لزوم البدل في نسخ لفظ الآية وليس فيه دلالة على نسخ حكمها وذلك هو موضع الخلاف سلمنا دلالة ما ذكروه على نسخ الحكم لكن لا نسلم العموم في كل حكم وإن سلمنا ولكنه مخصص بما ذكرناه من الصور سلمنا أنه غير مخصص لكن ما المانع أن يكون رفع الحكم بدل إثباته وهو خير منه في الوقت الذي نسخ فيه لكون المصلحة في الرفع دون الإثبات وإن سلم امتناع وقوع ذلك شرعاً لكنه لا يدل على عدم الجواز العقلي.
المسألة الخامسة وكما يجوز نسخ حكم الخطاب من غير بدل كما بيناه يجوز نسخه إلى بدل أخف منه كنسخ تحريم الأكل بعد النوم في ليل رمضان إلى حله وإلى بدل مماثل كنسخ وجوب التوجه إلى القدس بالتوجه إلى الكعبة وهذان مما لا خلاف فيهما عند القائلين بالنسخ وإنما الخلاف في نسخ الحكم إلى بدل أثقل منه.
ومذهب أكثر أصحابنا وجمهور المتكلمين والفقهاء جوازه خلافاً لبعض أصحاب الشافعي وبعض أهل الظاهر ومنهم من أجازه عقلاً ومنع منه سمعاً.
ودليل جوازه عقلاً ما سبق في المسألة المتقدمة ودليل الجواز الشرعي وقوع ذلك في الشرع فمن ذلك أن الله تعالى أوجب صيام رمضان في ابتداء الإسلام مخيراً بينه وبين الفداء بالمال ونسخه بتحتم الصوم وهو أثقل من الأول.
ومن ذلك أن الله تعالى أوجب في ابتداء الإسلام الحبس في البيوت والتعنيف حداً على الزنى ونسخه بالضرب بالسياط والتغريب عن الوطن في حق البكر وبالرجم بالحجارة في حق الثيب ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكل ذلك أثقل من الأول.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من جهة العقل والسمع.
أما من جهة العقل فهو أن النسخ إما أن يكون لا لمصلحة أو لمصلحة: فإن كان الأول فهو عبث وقبيح فلا يكون جائزاً على الشارع وإن كان لمصلحة فإما أن تكون أدنى من مصلحة المنسوخ أو مساويةً لها أو راجحةً عليها: فإن كان الأول فهو أيضاً ممتنع لما فيه من إهمال أرجح المصلحتين واعتبار أدناهما وإن كان الثاني فليس الناسخ أولى من المنسوخ فلم يبق غير الثالث.
وإذا كان النسخ إنما يكون للأصلح والأنفع والأقرب إلى حصول الطاعة وذلك إنما يكون بنقل المكلفين من الأشد إلى الأخف ومن الأصعب إلى الأسهل لكونه أقرب إلى حصول الطاعة وأسهل في الانقياد وإذا كان بالعكس كان إضراراً بالمكلفين لأنهم إن فعلوا التزموا المشقة الزائدة وإن تركوا استضروا بالعقوبة والمؤاخذة وذلك غير لائق بحكمة الشارع.
وأما من جهة السمع فنصوص: أولها قوله تعالى: " يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً " ولا تخفيف في نسخ الأخف إلى الأثقل.
وثانيها قوله تعالى: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " البقرة 185 وفي نسخ الأخف إلى الأثقل إرادة العسر وفيه تكذيب خبر الصادق.
وثالثها قوله تعالى: " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " الأعراف 157 والأصر هو الثقل أخبر أنه يضع عنهم الثقل الذي حمله للأمم قبلهم فلو نسخ ذلك بما هو أثقل منه كان تكذيباً لخبره تعالى وهو محال.
ورابعها قوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " البقرة 106 وليس المراد منه أنه يأتي بخير من الآية في نفسها إذ القرآن كله خير لا تفاضل فيه وإنما المراد به ما هو خير بالنسبة إلينا وذلك هو الأخف والأسهل في الأحكام.
والجواب عن المعقول أن ما ذكروه لازم عليهم في ابتداء التكليف ونقل الخلق من الإباحة والإطلاق إلى مشقة التكليف وكذلك في نقلهم من الصحة إلى السقم ومن الشبيبة إلى الهرم ومن الجدة إلى العدم وإعدام القوي والحواس بعد وجودها فإن ما نقلهم إليه أشق عليهم مما نقلهم عنه وكل ما ذكروه فهو بعينه لازم هاهنا وما هو الجواب في صورة الإلزام فهو جوابنا في محل النزاع.
وعن الآية الأولى أنه لا عموم فيها حتى يلزم من ذلك إرادة التخفيف في كل شيء وبتقدير العموم فليس فيه ما يدل على إرادة التخفيف على الفور بل جاز أن يكون المراد من ذلك التخفيف في المآل برفع أثقال الآخرة والعقاب على المعاصي بما يحصل لنا من الثواب الجزيل على الأعمال الشاقة علينا في الدنيا وعلى طباعنا تسميةً للشيء بعاقبته.(1/294)
ومنه قوله تعالى: " فما أصبرهم على النار " البقرة 175 وقوله تعالى: " إنما يأكلون في بطونهم نارا " النساء 10 ومنه يقال لدوا للموت وابنوا للخراب وبتقدير إرادة الفور فلا يمتنع التخصيص كما خص بأثقال تكاليفه المبتدأة وابتلائه في الأبدان والأموال كما سبق تقريره وما ذكرناه من الأدلة الدالة على وقوع ذلك صالح لتخصيص هذه الآية.
وعن الآية الثانية: أنه يجب حملها على ما فيه اليسر والعسر بالنظر إلى المآل حتى لا يلزم منه كثرة التخصيص بابتداء التكاليف وما وقع به الابتلاء في الدنيا في الأبدان والأموال ولا يخفى أن التكليف بما هو أشق في الدنيا إذا كان ثوابه المآلي أكثر وأدفع للعقاب المجتلب بالمعاصي أنه يسر لا عسر.
وإن سلمنا أن المراد به إرادة اليسر وعدم إرادة العسر العاجل لكنه يجب تخصيصه بما ذكرناه جمعاً بين الأدلة.
وعن الآية الثالثة: أنه لا يلزم من وضع الأصر والثقل الذي كان على من قبلنا عنا امتناع ورود نسخ الأخف بالأثقل في شرعنا.
وعن الآية الرابعة: أنه لو كان ذلك عائداً إلى نسخ التلاوة فلا حجة فيه إذ النزاع إنما هو في نسخ الحكم الأخف بالأثقل وإن كان عائداً إلى نسخ حكم الآية فالخير في الأمور الدينية يرجع إلى ما هو أكثر في الثواب.
ومنه يقال الفرض خير من النفل بمعنى أنه أكثر في الثواب وإن كان أشق من النفل على النفس وفي الأمور الدنيوية يرجع إلى ما هو خير في العاجل وأصلح ولا يختص ذلك بالأسهل.
ولهذا يحسن أن يقول الطبيب للمريض الجوع والعطش أصلح لك وخير من الشبع والري وعلى هذا فلا يمتنع أن يكون التكليف بالأشق أكثر ثواباً وأصلح في المآل على ما قال تعالى: " ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله " التوبة 120 إلى قوله: " إلا كتب لهم به عمل صالح " التوبة 120 وقال تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " الزلزلة 7 - 8 وقال تعالى: " جزاء بما كانوا يعملون " الواقعة 24 وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله " عنها ثوابك على قدر نصبك " فكان التكليف بالأشق خيراً من الأخف.
المسألة السادسة اتفق العلماء على جواز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس ونسخهما معاً خلافاً لطائفة شاذة من المعتزلة ويدل على ذلك العقل والنقل: أما العقل فهو أن جواز تلاوة الآية حكم ولهذا يثاب عليها بالإجماع وقد قال صلى الله عليه وسلم: " من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات " وما يترتب عليها من الوجوب والتحريم وغير ذلك حكم وإذا كانا حكمين جاز أن يكون إثباتهما مصلحة في وقت ومفسدة في وقت وأن لايكون إثبات أحدهما مصلحةً مطلقاً وإثبات أحدهما مصلحة في وقت دون وقت وإذا كان كذلك جاز رفعهما معاً ورفع أحدهما دون الآخر كما سبق تقريره.
وأما النقل أما نسخ التلاوة والحكم فيدل عليه ما روت عائشة أنها قالت فيما أنزل عشر رضعات محرمات فنسخت بخمس وليس في المصحف عشر رضعات محرمات ولا حكمها فهما منسوخان.
وأما نسخ الحكم دون التلاوة فكنسخ حكم آية الاعتداد بالحول ونسخ حكم آية الوصية للوالدين.
وأما نسخ التلاوة دون الحكم فما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال كان فيما أنزل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله ورسوله فإنه منسوخ التلاوة دون الحكم.
وهل يجوز بعد نسخ تلاوة الآية أن يمسها المحدث ويتلوها الجنب فذلك مما تردد الأصوليون فيه والأشبه المنع من ذلك.
فإن قيل: الحكم مع التلاوة ينزل منزلة العلم مع العالمية والحركة مع المتحركية والمنطوق مع المفهوم وكما لا يمكن الانفكاك بين العلم والعالمية والمنطوق مع المفهوم فكذلك التلاوة مع حكمها.
وأما ما يخص نسخ الحكم دون التلاوة فهو أن الحكم إذا نسخ وبقيت التلاوة كانت موهمةً بقاء الحكم وذلك مما يعرض المكلف إلى اعتقاد الجهل والحكيم يقبح منه ذلك وأيضاً إذا بقيت التلاوة دون حكمها تبقى عرية عن الفائدة ويمتنع خلو القرآن عن الفائدة.
وأما ما يخص نسخ التلاوة دون الحكم فوجهان: الأول: أن الآية ذريعة إلى معرفة الحكم فإذا نسخت الآية دون الحكم أشعر ذلك بارتفاع الحكم وفيه تعريض المكلف لاعتقاد الجهل وهو قبيح من الشارع.(1/295)
الثاني: أن نسخ التلاوة دون حكمها يكون عرياً عن الفائدة حيث إنه لم يلزم من ذلك إثبات حكم ولا رفعه وما عرى من التصرفات عن الفائدة كان عبثاً والعبث على الله محال.
والجواب عن الأول: لا نسلم أولا أن العالمية مغايرة لقيام العلم بالذات ولا المتحركية مغايرة لقيام الحركة بالذات ولا الملازمة بين المنطوق والمفهوم ليصح التمثيل.
وإن سلمنا جميع ذلك ولكن لا نسلم أن التلاوة مع الحكم نازلة منزلة ما ذكروه بل هي نازلة منزلة الأمارة والعلامة على الحكم في ابتداء ثبوته دون حالة دوامه.
وعلى هذا فلا يلزم من انتفاء الأمارة في طرف الدوام انتفاء ما دلت عليه وكذلك لا يلزم من انتفاء الحكم لدليل انتفاء الأمارة الدالة عليه.
وعن قولهم إن التلاوة إذا ثبتت بعد نسخ الحكم عرضت المكلف لاعتقاد الجهل متى إذا نصب الله تعالى دليلاً على نسخ الحكم أو إذا لم ينصب؟ الأول ممنوع والثاني مسلم.
وذلك لأن الناظر إذا كان مجتهداً عرف دليل النسخ وإن كان مقلداً فغرضه تقليد المجتهد العارف بدليل النسخ ثم وإن كان كما ذكروه فلا نسلم أن ذلك ممتنع في حق الله تعالى إلا على فاسد أصل من يقول بالتحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه.
وعن قولهم إنه ليس في بقاء التلاوة فائدة بعد نسخ الحكم أن ذلك مبني على رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وهو غير مسلم وإن سلما ذلك فلا يمتنع أن يكون الباري تعالى قد علم في ذلك حكمةً استأثر بها ونحن لا نشعر بذلك.
وعن قولهم إن الآية إذا نسخت عرضت المكلف لاعتقاد الجهل إنما يلزم ذلك ان لو كان يلزم من انتفاء الدلالة على الحكم في الدوام انتفاء الحكم وهو غير مسلم ولا يلزم من الدليل الدال على نسخ التلاوة أن يكون دالاً على نسخ الحكم.
وعن قولهم إنه لا فائدة في نسخ التلاوة مع بقاء الحكم ما سبق في قولهم إن بقاء التلاوة غير مفيد مع نسخ الحكم.
المسألة السابعة فيما يتعلق بنسخ الأخبار.
والنسخ إما أن يكون لنسخ الخبر أو لمدلوله وثمرته: فإن كان الأول فإما أن تنسخ تلاوته أو تكليفنا به بأن نكون قد كلفنا أن نخبر بشيء فينسخ عنا التكليف بذلك الأخبار وكل واحد من الأمرين جائز من غير خلاف بين القائلين بجواز النسخ وسواء كان ما نسخت تلاوته ماضياً أو مستقبلاً وسواء كان ما نسخ تكليف الإخبار به مما لا يتغير مدلوله كالإخبار بوجود الله تعالى وحدوث العالم أو يتغير كالإخبار بكفر زيد وإيمانه لأن كل ذلك حكم من الأحكام الشرعية فجاز أن يكون مصلحةً في وقت ومفسدةً في وقت آخر لكن هل يجوز أن ينسخ تكلفنا بالإخبار عما لا يتغير بتكليفنا بالإخبار بنقيضه ؟.
قالت المعتزلة: لا يجوز لأنه كذب والتكليف بالكذب قبيح وهو غير متصور من الشارع وهو مبني على أصولهم في التحسين والتقبيح العقلي ووجوب رعاية المصلحة في أفعال الله تعالى وقد أبطلناه وعلى هذا فلا مانع من نسخ التكليف بالخبر بنقيض الخبر.
وأما إن كان النسخ لمدلول الخبر وفائدته فذلك المدلول إما أن يكون مما لا يتغير كمدلول الخبر بوجود الإله سبحانه وحدوث العالم أو مما يتغير: فإن كان الأول فنسخه محال بالإجماع وأما إن كان مدلوله مما يتغير وسواء كان ماضياً كالإخبار بما وجد من إيمان زيد وكفره أو مستقبلاً وسواء كان وعداً أو وعيداً أو حكماً شرعياً.
فقد اختلف في رفعه ونسخه فذهب القاضي أبو بكر والجبائي وأبو هاشم وجماعة من المتكلمين والفقهاء إلى امتناع رفعه.
وذهب أبو عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري إلى جوازه ومنهم من فصل بين الخبر الماضي والمستقبل فمنعه في الماضي وجوزه في المستقبل.
والمختار جوازه ماضياً كان أو مستقبلاً وذلك لأنه إذا ما دل عليه كان الإخبار متكرراً والخبر عام فيه فأمكن أن يكون الناسخ مبيناً لإخراج بعض ما تناوله اللفظ وإن المراد بعض ذلك المذكور كما في الأوامر والنواهي.
فإن قيل: الفرق بين الخبر وبين الأمر والنهي أن نسخ الخبر يؤذن بكونه كذباً ولهذا فإنه لو قال: أهلك الله زيداً ثم قال: ما أهلك الله زيداً كان كذباً بخلاف الأمر والنهي وإن سلمنا إمكان نسخ مدلول الخبر لكن إذا كان مدلوله حكماً شرعياً تكليفاً.(1/296)
أما إذا لم يكن كذلك فلا وذلك لأنه إذا كان حكمه تكليفاً كان الخبر في معنى الأمر والنهي والأمر يجوز نسخ حكمه كما لو قال: أمرتكم ونهيتكم وأوجبت عليكم بخلاف ما إذا لم يكن كذلك.
والجواب عن الأول أن ذلك إنما يفضي إلى الكذب إن لو لم يمكن حمل الناسخ على غير ما أريد من الخبر وليس الأمر كذلك على ما حققناه وأما إذا قال: أهلك الله زيداً فإهلاكه إنما لم يدخله النسخ لأنه لا يتكرر حتى يمكن رفع بعضه وتبقية البعض بل إنما يقع دفعة واحدة فلو أخبر عن عدمه مع اتحاده كان كذباً لاتحاد المثبت والمنفي.
وعن الثاني أنهم إن أرادوا بقولهم إن الخبر بالحكم الشرعي في معنى الأمر أن صيغته كصغيته فهو خلاف الحسن وإن أرادوا به أنه يفيد إيجاب الفعل كما في الأمر فمسلم ولكن لا يلزم أن يكون هو هو فإنه لا يلزم من اشتراك شيئين مختلفين في لازم واحد عام لهما اتحادهما وغايته تسليم نسخ مدلول بعض الأخبار وليس فيه ما يدل على امتناع نسخ غيره مما قد بينا.
المسألة الثامنة اتفق القائلون بالنسخ على جواز نسخ القرآن بالقرآن لتساويه في العلم به ووجوب العمل وذلك كما بيناه من نسخ الاعتداد بالحول بأربعة أشهر وعشر ونسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول بقوله: " أأشفقتم " المجادلة 13 ونسخ وجوب ثبوت الواحد للعشرة بقوله تعالى: " الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً " الأنفال 66 واتفقوا أيضاً على جواز نسخ السنة المتواترة بالمتواترة منها ونسخ الآحاد منها بالمتواتر ونسخ الآحاد بالآحاد كما روي أنه صلى الله عليه وسلم حرم زيارة القبور بنهيه عنها ثم نسخ ذلك بقوله: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها " وكما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " في شارب الخمر فإن شربها الرابعة فاقتلوه " فنسخ ذلك بما روي عنه أنه حمل إليه من شربها الرابعة فلم يقتله.
وأما نسخ المتواتر منها بالآحاد فقد اتفقوا على جوازه عقلاً واختلفوا في وقوعه سمعاً فأثبته داود وأهل الظاهر ونفاه الباقون.
وقد احتج النافون لذلك بالإجماع والمعنى: أما الإجماع فما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت وأيضاً ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول أعرابي بوال على عقبيه ووجه الاحتجاج به أنهما لم يعملا بخبر الواحد ولم يحكما به على القرآن وما ثبت من السنة تواتراً وكان ذلك مشتهراً فيما بين الصحابة ولم ينكر عليهما منكر فكان ذلك إجماعاً.
وأما المعنى فهو أن الآحاد ضعيف والمتواتر أقوى منه فلا يقع الأضعف في مقابلة الأقوى.
ولقائل أن يقول: عدم قبول خبر الواحد فيما ذكر لا يمنع من قبول خبر الواحد مطلقاً وذلك لأنه لا مانع أن يكون امتناع قبوله لعدم حصول الظن بصدقه ولهذا قال عمر: لا ندري أصدقت أم كذبت وقال علي في الأعرابي ما قال.
وإلا فكيف يمكن القول بعدم قبول خبر الواحد معما بينا من كون خبر الواحد حجة ومعما بيناه من جواز تخصيص التواتر بالآحاد وما ذكروه من المعنى فهو باطل بالتخصيص على ما سبق كيف وإنه وإن كان أضعف من المتواتر من جهة كونه آحاداً إلا أنه أقوى من المتواتر من جهة كونه خاصاً والمتواتر عاماً.
والظن الحاصل من الخاص إذا كان آحاداً أقوى من الظن الحاصل من العام المتواتر لأن تطرق الضعف إلى الواحد من جهة كذبه واحتمال غلطه وتطرق الضعف إلى العام من جهة تخصيصه واحتمال إرادة بعض ما دل عليه دون البعض واحتمال تطرق التخصيص إلى العام أكثر من تطرق الخطإ والكذب إلى العدل فكان الظن المستفاد من خبر الواحد أقوى.
وأما المثبتون فقد احتجوا بالنقل والمعنى.
أما النقل فمن وجهين: الأول أن وجوب التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتاً بالسنة المتواترة لأنه لم يوجد في الكتاب ما يدل عليه وإن أهل قبا كانوا يصلون إلى بيت المقدس بناء على السنة المتواترة فلما نسخ جاءهم منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: " إن القبلة قد حولت " فاستداروا بخبره والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم فدل على الجواز.
الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفذ الآحاد إلى أطراف البلاد لتبليغ الناسخ والمنسوخ ولولا قبول خبر الواحد في ذلك لما كان قبوله واجباً.(1/297)
وأما المعنى فمن وجهين: الأول أن النسخ أحد البيانين فكان جائزاً بخبر الواحد كالتخصيص.
الثاني أن نسخ القرآن بخبر الواحد جائز على ما سيأتي بيانه فنسخ السنة المتواترة به أولى.
ولقائل أن يقول: أما قصة أهل قبا فمن أخبار الآحاد ولا نسلم ثبوت مثل هذه القاعدة به كيف وإنه يحتمل أن يكون قد اقترن بقوله قرائن أوجبت العلم بصدقه من قربهم من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماعهم لضجة الخلق في ذلك نازلاً منزلة الخبر المتواتر.
وأما تنفيذ الآحاد للتبليغ فإنما يجوز فيما يجوز فيه خبر الواحد وما لا فلا.
وما ذكروه من المعنى الأول فحاصله يرجع إلى قياس النسخ على التخصيص وهو إنما يفيد في الأمور الظنية فلم قالوا إنما نحن فيه من هذا القبيل كيف والفرق حاصل وذلك أن النسخ رفع لما ثبت بخلاف التخصيص على ما سبق معرفته فلم قالوا بأنه إذا قبل خبر الواحد فيما لا يقتضي الرفع لما ثبت يقبل في رفع ما ثبت.
وأما المعنى الثاني فلا نسلم صحة نسخ القرآن بخبر الواحد على ما يأتي.
المسألة التاسعة المنقول عن الشافعي رضي الله عنه في أحد قوليه إنه لا يجوز نسخ السنة بالقرآن.
ومذهب الجمهور من الأشاعرة والمعتزلة والفقهاء جوازه عقلاً ووقوعه شرعاً.
احتج المثبتون على الجواز العقلي والوقوع الشرعي.
أما الجواز العقلي فهو أن الكتاب والسنة وحي من الله تعالى على ما قال تعالى: " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " النجم 3 غير أن الكتاب متلو والسنة غير متلوة ونسخ حكم أحد الوحيين بالآخر غير ممتنع عقلاً.
ولهذا فإنا لو فرضنا خطاب الشارع بجعل القرآن ناسخاً للسنة لما لزم عنه لذاته محال عقلاً.
وأما الوقوع الشرعي فيدل عليه أمور: الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة عام الحديبية على أن من جاءه مسلماً رده حتى إنه رد أبا جندل وجماعةً من الرجال فجاءت امرأة فأنزل الله تعالى: " فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار " الممتحنة وهذا قرآن نسخ ما صالح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من السنة.
الثاني أن التوجه إلى بيت المقدس لم يعرف إلا من السنة وقد نسخ بقوله تعالى: " فول وجهك شطر المسجد الحرام " البقرة 144 ولا يمكن أن يقال بأن التوجه إلى بيت المقدس كان معلوماً بالقرآن وهو قوله: " فثم وجه الله " البقرة 115 لأن قوله فثم وجه الله تخيير بين القدس وغيره من الجهات والمنسوخ إنما هو وجوب التوجه إليه عيناً وذلك غير معلوم من القرآن.
الثالث أن المباشرة في الليل كانت محرمة على الصائم بالسنة وقد نسخ ذلك بقوله تعالى: " فالآن باشروهن " البقرة 187.
الرابع أن صوم عاشوراء كان واجباً بالسنة ونسخ بصوم رمضان في قوله تعالى: " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " البقرة 185.
الخامس أن تأخير الصلاة إلى انجلاء القتال كان جائزاً بالسنة ولهذا قال يوم الخندق وقد أخر الصلاة حشا الله قبورهم ناراً لحبسهم له عن الصلاة وقد نسخ ذلك الجواز بصلاة الخوف الواردة في القرآن.
فإن قيل ما ذكرتموه من صور نسخ السنة بالقرآن ما المانع أن يكون الحكم في جميع ما ذكرتموه ثابتا بقرآن نسخ رسمه وبقي حكمه؟ وإن سلمنا أنه ثابت بالسنة ولكن ما المانع أن يكون النسخ وقع بالسنة ودلالة ما ذكرتموه من الآيات على أحكامها ليس فيه ما يدل على عدم ارتفاع الأحكام السابقة بالسنة ويدل على أن الأمر على ما ذكرناه أن الشافعي كان من أعلم الناس بالناسخ والمنسوخ وأحكام التنزيل وقد أنكر نسخ السنة بالقرآن ولولا أن الأمر على ما ذكرناه لما كان إنكاره صحيحاً.
ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على نسخ السنة بالقرآن غير أنه معارض بالنص والمعقول: أما النص فقوله تعالى: " لتبين للناس ما نزل إليهم " النحل 44 جعل السنة بياناً فلو نسخت لخرجت عن كونها بياناً وذلك غير جائز.
وأما المعقول فمن وجهين: الأول أنه لو نسخت السنة بالقرآن لزم تنفير الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن طاعته لإيهامهم أن الله تعالى لم يرض ما سنه الرسول وذلك مناقض لمقصود البعثة ولقوله تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله " النساء 64.(1/298)
الثاني أن السنة ليست من جنس القرآن لأن القرآن معجزة ومتلو ومحرم تلاوته على الجنب ولا كذلك السنة وإذا لم يكن القرآن من جنس السنة امتنع نسخه لها كما يمتنع نسخ القرآن بحكم دليل العقل وبالعكس.
والجواب عن السؤال الأول أن إسناد إثبات ما ذكرناه من الأحكام المنسوخة إلى ما وجد من السنة من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وتقريراته صالح لإثباتها وقد اقترن بها الإثبات فكان الإثبات مستنداً إليها وكذلك الكلام في إسناد نسخها إلى ما وجد من الآيات الصالحة للنسخ من ترتب النسخ عليها فبتقدير وجود خطاب آخر يكون إسناد الأحكام المذكورة إليه بتقدير نسخه وكذلك تقدير وجود سنة ناسخة لها مع عدم الاطلاع عليها وإمكان إسناد نسخها إلى ما وجد من الآيات الصالحة لنسخها من غير ضرورة يكون ممتنعاً.
ولو فتح هذا الباب لما استقر لأحد قدم في إثبات ناسخ ولا منسوخ لأن ما من ناسخ يقدر إلا ويحتمل أن يكون الناسخ غيره وما من منسوخ حكمه يقدر إلا ويحتمل أن يكون إسناد ذلك الحكم إلى غيره وهو خلاف إجماع الأمة في الاكتفاء بالحكم على كون ما وجد من الخطاب الصالح لنسخ الحكم هو الناسخ وأن ما وجد من الدليل الصالح لإثبات الحكم هو المثبت وإن احتمل إضافة الحكم والنسخ إلى غير ما ظهر مع عدم الظفر به بعد البحث التام عنه.
وعن المعارضة بالنص من وجهين: الأول أن المراد بقوله: " لتبين للناس " النحل 44 إنما هو التبليغ وذلك يعم تبليغ الناس من القرآن وغيره وليس فيه ما يدل على امتناع كون القرآن ناسخاً للسنة.
الثاني وإن سلمنا أن المراد بقوله: لتبين للناس إنما هو بيان المجمل والعام والمطلق والمنسوخ لكن لا نسلم دلالة ذلك على انحصار ما ينطق به في البيان بل جاز مع كونه مبيناً أن ينطق بغير البيان ويكون محتاجاً إلى بيان.
وعن المعارضة الأولى من جهة المعقول من ثلاثة أوجه: الأول: أن ذلك إنما يصح أن لو كانت السنة من عند الرسول من تلقاء نفسه وليس كذلك بل إنما هي من الوحي على ما قال تعالى: " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " النجم 3 الثاني: أنه لو امتنع نسخ السنة بالقرآن لدلالته على أن ما شرعه أولا غير مرضي لامتنع نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة وهو خلاف إجماع القائلين بالنسخ.
الثالث: أن ما ذكروه إنما يدل على أن المشروع أولاً غير مرضي أن لو كان النسخ رفع ما ثبت أولاً وليس كذلك بل هو عبارة عن دلالة الخطاب على أن الشارع لم يرد بخطابه الأول ثبوت الحكم في وقت النسخ دون ما قبله.
وعن المعارضة الثانية أنه لا يلزم من اختلاف جنس السنة والقرآن بعد اشتراكهما في الوحي بما اختص بكل واحد منهما امتناع نسخ أحدهما بالآخر.
وعلى هذا فنقول القرآن يكون رافعاً لحكم الدليل العقلي وإن لم يسم ناسخاً.
المسألة العاشرة قطع الشافعي وأكثر أصحابه وأكثر أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب بالسنة المتواترة وإليه ذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه وأجاز ذلك جمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة ومن الفقهاء مالك وأصحاب أبي حنيفة وابن سريج واختلف هؤلاء في الوقوع.
والمختار جوازه عقلاً لما ذكرناه في المسألة المتقدمة وأما الوقوع فقد احتج القائلون به بأن الوصية للوالدين والأقربين نسخت بقوله صلى الله عليه وسلم: " ألا لا وصية لوارث " قالوا: ولا يمكن أن يقال بأن الناسخ للوصية آية الميراث لأن الجمع ممكن من حيث إن الميراث لا يمنع من الوصية للأجانب وهو ضعيف لما فيه من نسخ حكم القرآن المتواتر بخبر الآحاد وهو ممتنع على ما يأتي ولأنه لا يلزم من كون الميراث مانعاً من الوصية للوارث أن يكون مانعاً من الوصية لغير الوارث.
واحتجوا أيضاً بأن جلد الزاني الثابت بقوله تعالى: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " النور 2 نسخ بالرجم الثابت بالسنة وهو ضعيف لما فيه من نسخ القرآن بآحاد السنة وهو ممتنع على ما يأتي وفي حق الشيخ والشيخة من جهة أنه أمكن أن يقال إن نسخ الجلد بالرجم إنما كان بقرآن نسخ رسمه وهو ما روي عن عمر أنه قال: كان فيما أنزل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله ورسوله.(1/299)
ولا يمكن أن يقال إن ذلك لم يكن قرآنا بما روي عن عمر أنه قال: لولا أنني أخشى أن يقال: زاد عمر في القرآن ما ليس منه لكتبت: الشيخ والشيخة إذا زنيا على حاشية المصحف وذلك يدل على أنه لم يكن قرآناً.
لأنا نقول: غاية قول عمر الدلالة على إخراج ذلك عن المصحف والقرآن لنسخ تلاوته وليس فيه دلالة على أنه لم يكن قرآناً.
فإن قيل: الشيخ والشيخة لم يثبت بالتواتر بل بقول عمر ونسخ المتواتر بالآحاد ممتنع على ما يأتي وسواء كان ذلك قرآناً أو سنة.
قلنا: والسنة وهو رجم النبي صلى الله عليه وسلم للزاني لم يثبت بالتواتر بل بطريق الآحاد وغايته أن الأمة مجمعة على الرجم والإجماع ليس بناسخ بل هو دليل وجود الناسخ المتواتر وليس إحالته على سنة متواترة لم تظهر لنا أولى من إحالته على قرآن متواتر لم يظهر لنا تواتره بسبب نسخ تلاوته.
وأما النافون لذلك فقد احتجوا بحجج نقلية وعقلية: أما النقلية فمن خمسة أوجه: الأول: قوله تعالى: " لتبين للناس ما نزل إليهم " النحل 44 وصف نبيه بكونه مبيناً والناسخ رافع والرفع غير البيان.
الثاني: قوله تعالى: " وإذا بدلنا آية مكان آية " النحل 101 أخبر أنه إنما يبدل الآية بالآية لا بالسنة الثالث: أن المشركين عند تبديل الآية مكان آية قالوا: إنما أنت مفتر فأزال الله تعالى وهمهم بقوله: " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " النحل 102 وذلك يدل على أن التبديل لا يكون إلا بما نزله روح القدس.
الرابع: قوله تعالى: " قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي " يونس 15 وهو دليل على أن القرآن لا ينسخ بغير القرآن.
الخامس: قوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير " البقرة 106 وذلك يدل على أن الآية لا تنسخ إلا بآية.
وبيانه من وجوه: الأول: أنه قال: " نأت بخير منها أو مثلها " والسنة ليست خيراً من القرآن ولا مثله.
الثاني: أن الله تعالى وصف نفسه بأنه الذي يأتي بخير منها وذلك لا يكون إلا والناسخ قرآن لا سنة.
الثالث: وصف البدل بأنه خير أو مثل وكل واحد من الوصفين يدل على أن البدل من جنس المبدل أما المثل فظاهر وأما ما هو خير.
فلأنه لو قال القائل لغيره لا آخذ منك درهما إلا وآتيك بخير منه فإنه يفيد أنه يأتيه بدرهم خير من الأول.
الرابع قوله: " ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير " دل على أن الذي يأتي به هو المختص بالقدرة عليه وذلك هو القرآن دون غيره.
وأما من جهة المعقول فمن وجهين: الأول: أن السنة إنما وجب اتباعها بالقرآن في قوله تعالى: " وما أتاكم به الرسول فخذوه " الحشر 7 وقوله: فاتبعوه وذلك يدل على أن السنة فرع القرآن والفرع لا يرجع على أصله بالإبطال والإسقاط كما لا ينسخ القرآن والسنة بالفرع المستنبط منهما وهو القياس.
الثاني: أن القرآن أقوى من السنة ودليله من ثلاثة أوجه.
الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بم تحكم؟ قال بكتاب الله.
قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله قدمه في العمل به على السنة والنبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك وذلك دليل قوته.
الثاني: أنه أقوى من جهة لفظه لأنه معجز والسنة ليست معجزة.
الثالث: أنه أقوى من جهة حكمه حيث اعتبرت الطهارة في تلاوته عن الجنابة والحيض وفى مس مسطوره مطلقاً والأقوى لا يجوز رفعه بالأضعف.
والجواب عن الآية الأولى من ثلاثة أوجه: الأول: أنه يجب حمل قوله لتبين للناس على معنى لتظهر للناس لكونه أعم من بيان المجمل والعموم لأنه يتناول إظهار كل شيء حتى المنسوخ وإظهار المنسوخ أعم من إظهاره بالقرآن.
الثاني: أن نسخ حكم الآية بيان لها فيدخل في قوله لتبين للناس وتبين القرآن أعم من تبيينه بالقرآن الثالث: أنه وإن لم يكن النسخ بياناً غير أن وصف النبي صلى الله عليه وسلم بكونه مبيناً لا يخرجه عن اتصافه بكونه ناسخاً.
وعن الآية الثانية من وجهين: الأول: أنها ظاهرة في تبديل رسم آية بآية النزاع إنما هو في تبديل حكم الآية وليس فيه ما يدل على تبديل حكمها بآية أخرى.(1/300)
الثاني: أن الله تعالى أخبر أنه إذا بدل آية مكان آية قالوا إنما أنت مفتر وليس في ذلك ما يدل على أن تبديل الآية لا يكون إلا بآية.
وذلك كما لو قال القائل لغيره إذا أكلت في السوق سقطت عدالتك فإن ذلك لا يدل على أنه لا يأكل إلا في السوق.
وعن قوله: " قل نزله روح القدس " النحل 102 أن ذلك لا يدل عل امتناع نسخ القرآن بالسنة إلا أن تكون السنة لم ينزل بها روح القدس وليس كذلك إذ السنة من الوحي وإن كانت لا تتلى ما سبق تقريره.
وعن الآية الرابعة من وجهين: الأول: أن قوله: " إن أتبع إلا ما يوحى إلي " أي في تبديل آية مكان آية وليس فيه ما يدل على امتناع تبديل حكم الآية بغير الآية.
الثاني: أن النسخ وإن كان بالسنة فهي من الوحي على ما تقدم فلم يكن متبعاً إلا ما يوحى إليه به.
وعن الآية الأخيرة من ثلاثة أوجه: الأول: لا نسلم دلالتها على امتناع نسخ حكم الآية بغير الآية قولهم في الوجه الأول إن السنة ليست خيراً من القرآن ولا مثله.
قلنا: قوله: " ما ننسخ من آية " البقرة 106 إما أن يراد به نسخ رسمها أو نسخ حكمها فإن كان الأول فهو ممتنع فإنه وصف البدل بكونه خيراً منها والقرآن خير كله ولا يفضل بعضه على بعض.
وإن كان الثاني فذلك يدل على أن الحكم الناسخ يكون خيراً من الحكم المنسوخ أو مثله ونحن نقول إنه لا يمتنع أن يكون الحكم الناسخ أصلح في التكليف وأنفع للمكلف.
وأما الوجه الثاني فلا دلالة فيه لأن السنة إذا كانت ناسخةً فالآتي بما هو خير إنما هو الله تعالى والرسول مبلغ ولا يدل ذلك على أن الناسخ لا يكون إلا قرآناً بل الإتيان بما هو خير أعم من ذلك.
وأما الوجه الثالث فلا دلالة فيه على لزوم المجانسة بين الآية المنسوخ حكمها وبين ناسخه لأنه وصفه بكونه خيراً والقرآن لا تفاوت فيه على ما سبق فعلم أن المفاضلة والمماثلة إنما هي راجعة إلى الحكم المنسوخ والحكم الناسخ على ما سبق.
وعلى هذا فلا نسلم أنه إذا قال له ما آخذ منك درهماً إلا وآتيك بخير منه أنه يدل على المجانسة فإن ما هو خير أعم من الجنس فكأنه قال: آتيك بشيء هو خير مما أخذت منك والمذكور أولاً.
وإن كان هو الآية والضمير في قوله بخير منها وإن كان عائداً إليها فلا يلزم منه المجانسة بين المضمر والمظهر.
وأما الوجه الرابع فنحن قائلون بموجبه فإن المتمكن من إزالة الحكم بما هو خير منه إنما هو الله عز وجل.
الوجه الثاني أن الآية تدل على أنه لا بد في نسخ كل آية من الإتيان بآية هي خير منها أو مثلها ضرورة الإخبار ولكن ليس في ذلك دلالة على أن الآية المأتي بها هي الناسخة لإمكان أن يكون بدلاً عن الآية الأولى وإن كان الناسخ غيرها.
الثالث أن ظاهر الآية يتناول نسخ رسم الآية والأصل تنزيل اللفظ على حقيقته وفي حمله على نسخ الحكم صرفه إلى جهة المجاز وهو خلاف الأصل والنزاع إنما وقع في نسخ الحكم لا في نسخ الرسم.
وعن المعارضة الأولى من جهة المعقول من ثلاثة أوجه.
الأول أن ذلك إنما يمتنع إن لو كانت السنة رافعةً لما هي فرع عليه من القرآن وليس كذلك بل ما هي فرع عليه غير مرفوع بها وما هو مرفوع بها ليست فرعاً عليه.
الثاني أن ما ذكروه حجة عليهم فإن القرآن قد دل على وجوب الأخذ بما يأتي به الرسول ووجوب اتباعه فإذا أتى بنسخ حكم الآية ولم يتبع كان على خلاف ما ذكروه.
الثالث أن السنة ليست رافعةً للقرآن وإنما هي رافعة لحكمه وحكمه ليس أصلاً لها فإذا المرتفع ليس هو الأصل وما هو الأصل غير مرتفع.
وعن المعارضة الثانية أن القرآن وإن كان معجزاً في نظمه وبلاغته ومتلواً ومحترماً فليس فيه ما يدل على أن دلالة كل آية منه أقوى من دلالة غيره من الأدلة ولهذا فإنه لو تعارض عام من الكتاب وخاص من السنة المتواترة كانت السنة مقدمةً عليه وكذلك أيضاً لو تعارضت آية ودليل عقلي فإن الدليل العقلي يكون حاكما عليها.
وكذلك الإجماع وكثير من الأدلة على ما يأتي في الترجيحات وعلى هذا فلا يمتنع رفع حكم الآية بدليل السنة كيف وإن السنة الناسخة ليست معارضة ولا نافية لمقتضى الآية بل مبينة ومخصصة على ما سبق.
المسألة الحادية عشرة اختلفوا في جواز نسخ الحكم الثابت بالإجماع فنفاه الأكثرون وأثبته الأقلون.(1/301)
والمختار مذهب الجمهور ودليله أن ما وجد من الإجماع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقراض زمن الوحي لو نسخ حكمه فإما أن يكون بنص من كتاب أو سنة أو بإجماع آخر أو قياس: لا جائز أن يكون بنص لأن ذلك النص لا بد وأن يكون موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم سابقاً على هذا الإجماع لاستحالة حدوث نص بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك النص متقدماً على الإجماع لكان إجماعهم على خلاف مقتضاه خطأ وهو غير متصور من الأمة ولا جائز أن يكون بإجماع آخر لأن الإجماع الثاني إما أن يكون بناء على دليل رافع لحكم الإجماع الأول أو لا بناء على دليل فإن لم يكن مبيناً على دليل كان خطأ والأمة مصونة عنه وإن كان ذلك بدليل فذلك الدليل إما أن يكون نصاً أو قياساً: لا جائز أن يكون نصاً لأنه لا بد وأن يكون متقدماً على الإجماعين متحققاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ويلزم من ذلك الخطأ في الإجماع الأول وهو محال ولا جائز أن يكون قياساً لأنه لا بد له من أصل والحكم في ذلك الأصل إما أن يكون بدليل متجدد بعد الإجماع الأول أو سابق عليه: فإن كان بدليل متجدد فهو إما إجماع أو قياس لاستحالة تجدد النص.
فإن كان إجماعاً فلا بد له من دليل وذلك الدليل لا بد وأن يكون نصاً أو قياساً على أصل آخر فإن قياسا على أصل آخر فالكلام في ذلك الأصل كالكلام في الأول فإما أن يتسلسل أو ينتهي إلى أصل ثابت بالنص والتسلسل محال والثاني يلزم منه أن يكون النص على أصل القياس سابقاً على الإجماع الأول.
وعند ذلك فصحة القياس عليه مشروطة بعدم الإجماع الأول على مناقضته ونسخ الإجماع الأول به متوقف على صحته وهو دور ممتنع.
هذا كله إن كان دليل أصل القياس الذي هو مستند الإجماع متجدداً وإن كان سابقاً على الإجماع الأول فعدول أهل الإجماع عنه دليل على عدم صحة القياس عليه وإلا كان إجماعهم خطأ وهو محال.
وأما إن كان الناسخ لحكم الإجماع الأول هو القياس فلا بد وأن يكون مستنداً إلى أصل ثابت بالنص والكلام في نسخ النص به مما يفضي إلى الدور كما قررناه قبل.
فإن قيل: فلو اختلفت الأمة في المسألة على قولين فقد أجمعت على أن المقلد له الأخذ بأي القولين شاء ولو أجمعت بعد ذلك على أحد القولين فقد أجمعت على حصر ما أجمعت أولا عل تجويزه وهو نسخ حكم الإجماع بالإجماع.
قلنا: نحن لا نسلم تصور انعقاد الإجماع الثاني على ما سبق في مسائل الإجماع.
المسألة الثانية عشرة مذهب الجمهور أن الإجماع لا ينسخ به خلافاً لبعض المعتزلة وعيسى بن أبان.
ودليل الامتناع أن المنسوخ به إما أن يكون حكم نص أو إجماع أو قياس: الأول محال لأن الإجماع إما أن يكون مستنداً إلى دليل أو ليس مستنداً إلى دليل فإن لم يكن مستنداً إلى دليل فهو خطأ.
وإن كان مستنداً إلى دليل فذلك الدليل إما أن يكون نصاً أو قياساً لا جائز أن يكون قياساً لما سنبينه بعد وإن كان نصاً فالناسخ ذلك النص لا الإجماع وإن قيل إن الإجماع ناسخ فليس إلا بمعنى أنه يدل على الناسخ وإن كان ناسخاً لحكم إجماع سابق فهو باطل بما في المسألة التي قبلها.
وإن كان ناسخاً لحكم قياس فالقياس إما أن يكون صحيحاً أو لا يكون صحيحاً: فإن كان صحيحاً فإجماع الأمة على خلاف مقتضاه إن كان لا لدليل فهو خطأ وإن كان لدليل فذلك الدليل إما أن يكون نصاً أو قياساً: فإن كان نصاً فالرافع لحكم ذلك القياس هو النص وإن كان قياساً فإما أن يكون راجحاً على القياس الأول أو مرجوحاً أو مساوياً فإن كان راجحاً فالأول لا يكون مقتضاه ثابتاً لأن شرط ثبوت الحكم رجحان مقتضيه وكذلك إن كان مساوياً وإن كان القياس الأول راجحاً فالإجماع على القياس الثاني خطأ وهو ممتنع.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بالنقل والمعنى.
أما النقل فهو أن ابن عباس حين قال لعثمان كيف تحجب الأم عن الثلث بالأخوين والله تعالى يقول: " فإن كان له إخوة فلأمه السدس " النساء 11 والأخوان ليسا بإخوة؟ قال عثمان حجبها قومك يا غلام وذلك دليل النسخ بالإجماع.
وأما المعنى فهو أن الإجماع دليل من أدلة الشرع القطعية فجاز النسخ به كالقرآن والسنة المتواترة.(1/302)
قلنا: أما قصة ابن عباس مع عثمان إنما يصح الاستدلال بها إن لو كان حكم الأم مع الأخوين منسوخاً وليس كذلك إلا أن يكون الأخوان ليسا بإخوة وليس كذلك على ما سبق بيانه في مسائل العموم.
وما ذكروه من المعنى فحاصله يرجع إلى إثبات كونه ناسخاً بالقياس على النص وهو غير مسلم الصحة في مثل هذه المسائل وإن كان صحيحاً غير أنه مما يمتنع التمسك به لما بيناه.
المسألة الثالثة عشرة اختلفوا في نسخ حكم القياس فمنهم من منع من ذلك مطلقاً كالحنابلة والقاضي عبد الجبار في بعض أقواله مصيراً منهم إلى أن القياس إذا كان مستنبطاً من أصل فالقياس باق ببقاء الأصل فلا يتصور رفع حكمه مع بقاء أصله ومنهم من جوز ذلك مطلقاً كأبي الحسين البصري لكنه فصل بين القياس الموجود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والقياس الموجود بعده فقال: إن كان القياس موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون قد نص على أصل كتنصيصه على تحريم بيع البر بالبر متفاضلاً وتعبد الناس بقياس غير البر على البر بواسطة الكيل مثلاً بإمارة تدل عليه فإذا قضى بتحريم بيع الأرز بناء على القياس على البر فلا يمتنع نسخه بالنص وبالقياس: أما النص فبأن ينص بعد ذلك على إباحة بيع الأرز وينسخ تحريمه وأما القياس فبأن ينص على إباحة بيع بعض المأكولات ويتعبد بالقياس عليه بواسطة كونه مأكولاً بأمارة هي أقوى من الإمارة الدالة على أن علة تحريم البر هي الكيل.
وإن كان القياس موجوداً بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون قد اجتهد بعض المجتهدين فأداه القياس إلى تحريم شيء بعد البحث عن الأدلة المعارضة وعدم الظفر بها ثم اطلع بعد ذلك على نص أو إجماع متقدم أو قياس أرجح من قياسه فإنه يلزم من ذلك رفع حكم قياسه الأول وإن كان ذلك لا يسمى نسخاً.
قال: وهذا كله إنما يتم على القول بأن كل مجتهد مصيب حيث إنه تعبد بالقياس الأول ثم رفع وأما من لا يقول بأن كل مجتهد مصيب فإنه لا يقول بتعبده بالقياس الأول فرفعه لا يكون متحققاً وهذا جملة ما ذكره أبو الحسين.
وأما نحن فنقول: العلة الجامعة في القياس إما أن تكون منصوصةً أو مستنبطةً بنظر المجتهد.
فإن كانت منصوصةً فهي في معنى النص وما مثل هذا القياس فليكن نسخ حكمه بنص أو بقياس في معناه ولو ذهب إليه ذاهب بعد النبي صلى الله عليه وسلم لعدم اطلاعه على ناسخه بعد البحث عنه فإنه وإن كان متعبداً باتباع ما أوجبه ظنه فرفع حكمه في حقه بعد اطلاعه على الناسخ لا يكون نسخاً متحدداً بل تبين أنه كان منسوخاً وفرق بين الأمرين.
وأما إن كانت العلة الجامعة مستنبطة بنظر المجتهد فحكمها في حقه غير ثابت بالخطاب فرفعه في حقه عند الظفر بدليل يعارضه ويترجح عليه لا يكون نسخاً على قولنا إن النسخ رفع حكم خطاب على ما قررناه وإن كانت مشاركاً للنسخ في رفع الحكم وقطع استمراره وسواء قلنا إن كل مجتهد مصيب أو لم نقل بذلك.
المسألة الرابعة عشرة اختلفوا في النسخ بالقياس على ثلاثة أقوال ثالثها الفرق بين القياس الجلي والخفي وهو قول أبي القاسم الأنماطي من أصحاب الشافعي.
والمختار أنه إن كانت العلة الجامعة في القياس منصوصةً فهي في معنى النص فيصح النسخ به وإن كانت غير منصوصة فإما أن يكون القياس قطعياً أو ظنياً بأن تكون العلة فيه مستنبطة بنظر المجتهد.
فإن كان قطعياً كقياس الأمة على العبد في تقويم النصيب على السيد المعتق فإنه وإن كان مانعاً من إثبات حكم دليل آخر كان نصاً أو قياساً فلا يكون ذلك نسخاً وإن كان في معنى النسخ لكونه ليس بخطاب عل ما بيناه من أن النسخ إنما هو الخطاب الدال على ارتفاع حكم خطاب آخر.
وإن كان القياس ظنياً فيمنع أن يكون ناسخاً لأن المنسوخ حكمه إما أن يكون نصاً أو إجماعاً أو قياساً: الأول والثاني محال إن كان النص والإجماع خاصاً لكون النص الخاص والإجماع مقدماً على القياس الظني بالاتفاق وإن كان عاماً فلا نسخ لأن القياس ليس بخطاب على ما سبق وإن كان قياساً فلا بد وأن يكون القياس الثاني راجحاً على الأول.(1/303)
وعند ذلك فتارة نقول إن القياس الأول لا يكون قياساً لعدم ترجحه وإن الترجح شرط في الاقتضاء وتارة نقول إنه وإن لزم منه رفع حكمه فهو في معنى النسخ ولكنه ليس بنسخ لما بيناه من أن النسخ هو الخطاب الدال على ارتفاع حكم خطاب وهو غير متحقق فيما نحن فيه.
وللمخالف شبهتان: الأولى: قوله تعالى: " الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله " الأنفال 66 أوجب نسخ ثبات الواحد للعشرة وليس مصرحاً به وإنما هو منبه عليه وذلك هو نفس نسخ حكم النص بالقياس.
الثاني: أنهم قالوا النسخ أحد البيانين فجاز بالقياس كالتخصيص.
والجواب عن الأولى أنها إنما تصح إن لو كان ثبوت الواحد للاثنين الرافع ثبوت الواحد للعشرة مستفاداً من القياس وليس كذلك بل استفادته إنما هي من نفس مفهوم اللفظ.
وعن الثانية أنها منقوضة بالإجماع وبدليل العقل وبخبر الواحد فإنه يخصص به ولا ينسخ به.
المسألة الخامسة عشرة اتفق الكل على جواز النسخ بفحوى الخطاب كدلالة قوله تعالى: " ولا تقل لهما أف " الإسراء 23 على تحريم الضرب وغيره من أنواع الأذى وعلى جواز نسخ حكمه وإنما اختلفوا في جواز نسخ الأصل دون الفحوى والفحوى دون الأصل غير أن الأكثر على أن نسخ الأصل يفيد نسخ الفحوى لأن الفحوى تابع للأصل ولا يتصور بقاء التابع مع ارتفاع المتبوع.
وأما نسخ الفحوى دون الأصل فقد تردد فيه قول القاضي عبد الجبار فجوزه تارةً نظراً إلى أن ذلك جار مجرى التنصيص على تحريم التأفيف وتحريم الضرب العنيف فكأنه قال: لا تقل لهما أف ولا تضربهما فرفع حكم أحدهما يفيد رفع حكم الآخر ومنع منه تارةً ووافقه على المنع أبو الحسين البصري مصيراً منهما إلى أن تحريم التأفيف إنما كان إعظاماً للوالدين فإذا أبيح ضربهما كان ذلك نقضاً للغرض من تحريم التأفيف.
والمختار في ذلك أن يقال. إثبات تحريم الضرب في محل السكوت إما أن يقال إنه ثابت بالقياس على تحريم التأفيف في محل النطق أو أنه ثابت بدلالة اللفظ لغةً على اختلاف المذاهب فيه.
فإن كان الأول فيجب أن يقال بأن نسخ حكم الأصل يوجب رفع حكم الفرع لاستحالة بقاء الفرع دون أصله وإن لم يسم ذلك نسخاً لما سبق وإن رفع حكم الفرع لا يوجب رفع حكم الأصل إذ لا يلزم من رفع التابع رفع المتبوع.
وإن كان الثاني فلا يخفى أن دلالة اللفظ على تحريم التأفيف بجهة صريح اللفظ وعلى تحريم الضرب بجهة الفحوى وهما دلالتان مختلفتان غير أن دلالة الفحوى تابعة لدلالة المنطوق وعند ذلك أمكن أن يقال بأن رفع حكم إحدى الدلالتين لا يلزم منه رفع حكم الدلالة الأخرى.
فإن قيل: فإذا كانت دلالة الفحوى تابعةً لدلالة المنطوق فرفع الأصل مما يمتنع معه بقاء التابع وأيضاً فإن الغرض من دلالة المنطوق إعظام الوالدين فرفع حكم الفحوى مما يخل بالغرض من دلالة المنطوق فيمتنع معه بقاء حكم المنطوق.
قلنا: أما الأول فمندفع وذلك لأن دلالة الفحوى وإن كانت تابعةً لدلالة المنطوق فنسخ حكم المنطوق ليس نسخاً لدلالته بل نسخاً لحكمه ودلالة الفحوى تابعة لدلالة المنطوق على حكمه لا أنها تابعة لحكمه ودلالته باقية بعد نسخ حكمه كما كانت قبل نسخه فما هو أصل لدلالة الفحوى غير مرتفع وما هو المرتفع ليس أصلاً للفحوى.
وأما الثاني فغاية ما يلزم من نسخ حكم الفحوى إبطال الغرض من أصل إثبات الحكم فيه ولا يخفى أن غرض إثبات التحريم للتأفيف مغاير لغرض تخصيصه بالذكر تنبيهاً بالأدنى على الأعلى ولا يلزم من إبطال أحد الغرضين إبطال الغرض الآخر.
المسألة السادسة عشرة اختلفوا في نسخ حكم أصل القياس هل يبقى معه حكم الفرع أو لا؟ فذهب بعض أصحاب أبي حنيفة إلى بقائه والباقون إلى امتناعه وهو المختار لأن ثبوت الحكم في الفرع تابع لاعتبار علته بحكم الأصل فإذا نسخ حكم الأصل خرجت العلة المستنبطة منه عن أن تكون معتبرةً في نظر الشارع فبطل ما كان تابعا لاعتبارها.(1/304)
فإن قيل: يلزم مما ذكرتموه نسخ حكم الفرع بالقياس على حكم الأصل حيث جعلتم رفع حكم الفرع تابعاً لرفع حكم الأصل والنسخ بالقياس غير جائز على ما قررتموه ثم ما ذكرتموه من انتفاء التابع لانتفاء المتبوع متى يلزم ذلك إذا كان الحكم يفتقر في دوامه إلى دوام سببه أو إذا لم يفتقر؟ الأول مسلم والثاني ممنوع فلم قلتم بافتقاره إليه؟ وإن سلمنا ذلك ولكن ما ذكرتموه منتقض بالأب فإنه يتبعه ولده الطفل في الإسلام والكفر ولو زال إسلام الأب بالردة لم يلزم منه زوال ما كان ثابتاً للولد من الإسلام تبعاً له.
قلنا: جواب الأول أنا لا نسلم أن رفع الحكم في الفرع كان بالقياس على رفع حكم الأصل وإلا لافتقر إلى علة جامعة نافية لهما وليس كذلك وإنما قيل برفعه لانتفاء علته وفرق بين انتفاء الحكم لانتفاء موجبه وبين انتفائه بالقياس.
وجواب الثاني أنه إن قيل بافتقار الحكم في دوامه إلى دوام علته فهو المطلوب وإن لم يقل بذلك فلا خلاف بين أئمة الفقه أنه وإن لم يفتقر الحكم في دوامه إلى دوام ضابط حكمة الحكم المعرف للحكم في الفرع في ابتدائه انه لا بد من دوام احتمال الحكمة حتى إنه لو انتهت حكمة الحكم قطعاً امتنع بقاؤه بعدها وإذا لم يكن بد من دوام احتمال الحكمة فلا بد من أن تكون معتبرة لاستحالة بقاء الحكم لحكمة غير معتبرة وبنسخ حكم الأصل زال اعتبارها وانتفاء ما لا بد منه في دوام الحكم يوجب رفع الحكم.
وعلى هذا فقد اندفع النقض فإنا لا نسلم أن إسلام الأب علة موجبة لإسلام الابن حتى يلزم من انتفاء إسلامه انتفاء إسلام الابن ولا أن دوام إسلام الأب معتبر في دوام إسلام الابن ليلزم من انتفائه انتفاؤه.
المسألة السابعة عشرة لا نعرف خلافا بين الأمة في أن الناسخ إذا كان مع جبريل عليه السلام لم ينزل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت له حكم في حق المكلفين بل هم في التكليف بالحكم الأول على ما كانوا عليه قبل إلقاء الناسخ إلى جبريل وإنما الخلاف فيما إذا ورد النسخ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغ الأمة هل يتحقق بذلك النسخ في حقهم أو لا؟.
فذهب بعض أصحاب الشافعي إلى الإثبات وبعضهم إلى النفي وبه قال أصحاب أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل وهو المختار.
وبيانه أن النسخ له لازم وهو ارتفاع حكم الخطاب السابق وامتناع الخروج بالفعل الواجب أولاً عن العهدة ولزوم الإتيان بالفعل الواجب الناسخ والأثم بتركه والثواب على فعله وهذه اللوازم منتفية ويلزم من انتفاء اللازم.
انتفاء الملزوم أما أن الحكم السابق لم يرتفع فهو أن المكلف يثاب على فعله ويخرج به عن العهدة ويأثم بتركه له قبل بلوغ النسخ إليه بالإجماع ولهذا فإن أهل قبا لما بلغهم نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة استداروا والنبي صلى الله عليه وسلم اعتد لهم بالركعات التي أتوا بها بعد نزول النسخ قبل علمهم بالنسخ ولم ينكر عليهم.
وأما أن الخطاب بالنسخ غير لازم للمكلف قبل البلوغ فبيانه بالنص والحكم.
أما النص فقوله تعالى: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " الإسراء 15 وقوله تعالى: " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " النساء 165 وقوله تعالى: " وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً " القصص 59.
وأما الحكم فهو أن المكلف لو فعل العبادة التي ورد بها الناسخ على وجهها كان آثماً عاصياً غير خارج به عن العهدة كما لو صلى إلى الكعبة قبل بلوغ النسخ إليه ولو كان مخاطباً بذلك لخرج به عن العهدة ولما كان عاصياً بفعل ما خوطب به وللمخالفين خمس شبه.
الشبهة الأولى أن المكلف متصرف بالإذن من الشارع فلزم رفعه برفع الشرع له وإن لم يعلم المكلف بالرفع كما لو عزل الموكل الوكيل عن التصرف فإنه لا ينعقد تصرفه بعد ذلك وإن لم يعلم بعزله.
الثانية أن النسخ إسقاط حق لا يعتبر فيه رضي من يسقط عنه فلا يعتبر فيه علمه كالطلاق والعتق والإبراء.
الثالثة أن النسخ إباحة ترك الفعل بعد إيجابه أو إباحة فعله بعد خطره فلا يتوقف ذلك على علم من أبيح له كما لو قال لزوجته: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق ثم أذن لها من حيث لا تعلم فإنه يثبت حكم الإباحة في حق الزوجة ولا يقع الطلاق بخروجها.(1/305)