وَقْفٌ للهِ تَعَالَى
تَأْلِيفُ
الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ
عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ
الجزء الأول
طُبِِعَ عَلَى نَفَقَةِ مَنْ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وجْهَ اللهِ وَالدَار الآخرةَ فجَزاهُ اللهُ عن الإسلام والمسلمينَ خيرًا وغَفَر له ولوالديه ولمن يُعيدُ طِبَاعَتَه أو يُعِيْنُ عليها أو يَتَسبَب لها أو يُشِيرُ على مَنْ يُؤمِلُ فيه الخيرَ أن يَطبَعَه وقفًا للهِ تعالى يُوزَّع على إخوانِهِ المسلمين
اللهم صل على محمد وعلى آله وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الكتاب
الحمد لله الذي تفرد بالجلال والعظمة، والعز والكبرياء والجمال، وأشكره شكر عبد معترف بالتقصير عن شكر بعض ما أوليه من الإنعام والأفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد: فبما أني منذ زمن طويل وأنا ألتمس كتابًا تتناسب قراءته مع عموم الناس فيما بين العشاءين، خصوصًا في شهر رمضان المبارك، وحيث أن الناس يقبلون على تلاوة كتاب الله في شهر رمضان المبارك، رأيت أن أكتب آيات من القرآن الكريم، وأجمع لها شرحًا وافيًا بالمقصود من كتب المفسرين كابن جرير، وابن كثير، والشيخ عبدالرحمن الناصر السعدي، والشيخ المراغي ونحوهم، وسميته: «الأنوار الساطعات لآيات جامعات»، والله المسئول أن يجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به من قرأه ومن سمعه، إنه سميع قريب مجيب، اللهم صل على محمد وآله وسلم.
عبدالعزيز بن محمد بن سلمان
المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض (سابقًا)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } .(1/1)
الاستعاذة: هي الالتجاء إلى الله تعالى، والاعتصام والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر، والعياذة تكون لدفع الشر، واللياذ يكون لطلب الخير، ومعنى «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»: أي أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه، فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله؛ ولهذا أمر تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته، بإسداء الجميل إليه ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن؛ لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شرير بالطبع، ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه.
وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن، في «سورة الأعراف»: { خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ } فهذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر، ثم قال: { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، وقال تعالى في «سورة قد أفلح المؤمنون»: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ } ، وقال في «سورة فصلت»: { وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ } .(1/2)
والشيطان في لغة العرب: مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد عن كل خير، ويقولون: تشيطن فلان إذا فعل فعل الشياطين، فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح؛ ولهذا يسمون كل ن تمرد من جني وإنسي وحيوان شيطانًا، قال الله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا } .
وفي «مسند الإمام أحمد»: عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا ذر، تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن»، فقلت: أو للإنس شياطين؟ قال: «نعم».
والرجيم: فَعِيل بمعنى مَفْعول، أي إنه مرجوم مطرود عن الخير كله.
السورة: طائفة من القرآن تشمل ثلاث آيات فأكثر، لها اسم يعرف بطريق الرواية.
واختلف في معنى السورة مما هي مشتقة؟ فقيل: من الإبانة والارتفاع، فكأن القارئ ينتقل بها من منزلة إلى منزلة، وقيل: لشرفها وارتفاعها كسور البلدان، وقيل: سميت سورة لكونها قطعة من القرآن وجزء منه مأخوذ من آسآر الإناء وهي البقية، وعلى هذا فيكون أصلها مهموزًا، وإنما خففت الهمزة فأبدلت الهمزة واوًا لانضمام ما قبلها، وقيل: لتمامها وكمالها؛ لأن العرب يسمون الناقة التامة سورة، ويحتمل أن يكون من الجمع والإحاطة لآياتها، كما يسمى سور البلد لإحاطته بمنازله ودوره.(1/3)
وقد روي لهذه السورة عدة أسماء اشتهر، منها: أم الكتاب، وأما القرآن؛ لاشتمالها على مقاصد القرآن من الثناء على الله، والتعبد بأمره ونهيه، وبيان وعده ووعيده، وتسمى السبع المثاني؛ لأنها تثنى في الصلاة، ويقال لها: الحمد، ويقال لها: الصلاة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - عن ربه: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين»، ويقال لها: الشفاء؛ لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعًا: «فاتحة الكتاب شفاء من كل سُم»، ويقال لها: الرقية؛ لحديث أبي سعيد في «الصحيح» حين رقى بها الرجل السليم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وما يدريك أنها رقية».
وروي عن ابن عباس أنه سماها أساس القرآن، قيل: لأنها أصل القرآن، وأول سورة فيها، وسماها سفيان بن عيينة بالواقية، وسماها يحيى بن كثير: الكافية؛ لأنها تكفي عما عداها، ولا يكفي ما سواها عنها، وسميت الفاتحة؛ لأنها أول القرآن في هذا الترتيب، وبها تفتتح القراءة في الصلاة.
وأخرج البيهقي في كتابه «الدلائل» عن أبي ميسرة: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لخديجة ـ رضي الله عنها -: «إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، فقد والله خشيت أن يكون هذا أمرأ»، فقالت: معاذ الله ما كان الله ليفعل بك، فوالله إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق»، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر ورقة بذلك، وإن ورقة أشار عليه أن يثبت ويسمع النداء، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لما خلا ناداه الملك: يا محمد، قل «بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين».
وقد رجح هذا بأنها مشتملة على مقاصد القرآن على سبيل الإجمال، ثم فصل ما أجملته بعد.(1/4)
بيان هذا أن القرآن الكريم اشتمل على التوحيد، وعلى وعد من أخذ به بحسن المثوبة، ووعيد من تجافى عنه وتركه، بسيئ العقوبة، وعلى العبادة الخالصة للمعبود التي تحيي القلوب، وتثبن النفوس، ويزداد بها التوحيد والإيمان، وعلى بيان سبيل السعادة الموصل إلى النعيم في الدارين، وعلى القصص الحاوي أخبار المهتدين الذين وقفوا عند الحدود التي سنها الله لعباده، وفيها سعادتهم في دنياهم وآخرتهم، والضالين الذين تعدوا الحدود ونبذوا الأحكام الشرعية وراءهم ظهريًا .
وقد حوت هذه المعاني جملة، فالتوحيد يرشد إلى قوله: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ } ؛ لأه يدل على أن كل ثناء وحمد يصدر عن نعمة فهو له، وأهمها نعمة الإيجاد والتربية العامة والخاصة، وذلك صريح قوله تعالى: { رَبِّ العَالَمِينَ } وقد استكمله بقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وبذلك اجتث جذور الشرك التي كانت فاشية في جميع الأمم، وهي اتخاذ أولياء من دون الله يُستعان بهم على قضاء الحاجات، ويتقرب بهم إلى الله زلفى، والوعد والوعيد يتضمنهما قوله تعالى: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } إذ الدين هو الجزاء، وهو إما ثواب للمحسن، وإما عقاب للمسيء.
والعبادة تؤخذ من قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .
وطريق السعادة يدل عليه قوله: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ } إذ معناه أنه لا تتم السعادة إلا بالسير على ذلك الصراط القويم، فمن خالفه وانحرف عنه كان في شقاء مقيم.
والقصص والأخبار يهدي إليها قوله: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فهو يرشد إلى أن هناك أممًا قد مضت، وشرع الله شرائع لهديها فاتبعتها وسارت على نهجها، فعلينا أن نحذو حذوها ونسير على سننها.(1/5)
وقوله: { غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } يدل على أن غير المنعم عليهم صنفان: صنف خرج عن الحق بعد علمه به وأعرض عنه بعد أن استباه له ورضي بما ورثه عن الآباء والأجداد وهؤلاء هم المغضوب عليهم، وصنف لم يعرف الحق أبدًا أو عرفه على وجه مضطرب فهو في عماية تلبس الحق بالباطل وتبعد عن الجادة الموصلة إلى الصراط المستقيم، وهؤلاء هم الضالون.
«بسم الله الرحمن الرحيم»:
يرى بعض الصحابة كأبي هريرة، وعلي، وابن عباس، وابن عمر، وبعض التابعين كسعيد بن جبير، وعطاء والزهري، وابن المبارك، وبعض فقهاء مكة وقرائها، ومنهم: ابن كثير، وبعض قراء الكوفة وفقهائها، ومنهم: عاصم، والكسائي، والشافعي، وأحمد أن البسملة آية من كل سورة من سور القرآن الكريم سوى سورة براءة.
ومن أدلتهم:
1- ما ورد في ذلك من الأحاديث: فقد أخرج مسلم في «صحيحه» عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنزلت علي آنفًا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم»، وروى أبو داود عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يعرف انقضاء السورة حتى ينزل عليه «بسم الله الرحمن الرحيم»، وروى الدارقطني عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قرأتم الحمد لله فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم، فإنها أم القرآن والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها».
2- إجماع الصحابة ومن بعدهم على إثباتها في المصحف أول كل سورة عدا سورة براءة مع الأمر بتجريد القرآن من كل ما ليس منه، ومن ثم لم يكتبوا آمين في آخر الفاتحة.
3- إجماع المسلمين على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى والبسملة منه.(1/6)
ثم اعلم وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه: أن الفاتحة الركن الثالث من أركان الصلاة التي هي ثاني أركان الإسلام، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» رواه الجماعة، وفي لفظ: «لا تجزي صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» رواه الدارقطني.
وفي حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج» رواه أحمد وابن ماجه، وفي حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج» يقولها ثلاثًا، الحديث رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه وعن أبي هريرة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يخرج فينادي: لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب، فما زاد»، رواه أحمد وأبو داود، إذا فهمت ذلك فكيف يليق بالمسلم أن يرضي لنفسه أن يناجي ربه بكلام لا يفهمه ولا يدرك معناه، وقد أمر الله بتدبير القرآن ومدح الذين هم في صلاتهم خاشعون ولن يخشع ويخضع لله إذا كان لا يفهم ما يقول والله جل وعلا كرم بني آدم بالعلم والعقل على سائر الحيوانات والعاقل من يفهم ما يقول.
قال ابن الجوزي: ومن تلبيس إبليس –لعنه الله- على القُراء أنه شغلهم تحسين القراءة والاشتغال بالشاذ طول عمرهم حتى شغلهم ذلك عن معرفة الفرائض والواجبات، ولو تفكر هؤلاء لعلموا أن المراد حفظ القرآن وتقويم ألفاظه ثم فهمه، ثم العمل به، ثم الإقبال على ما يصلح النفس ويطهر أخلاقها، ثم التشاغل بالمهم من علوم الشرع.
وقال الحسن البصري ـ رحمه الله -: أنزل القرن ليعمل به، فاتخذ الناس تلاوته عملاً، يعني أنه اقتصروا على التلاوة وتركوا العمل به... إلخ.(1/7)
وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ على قول الله تعالى: { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُورًا } : فمن هجرانه ترك الإيمان به، وترك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به، وترك امتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه.
فتبين بذلك أنه على كل واحد من الناس أن يتدبر آيات الكتاب بقدر طاقته لا فرق بين عالم وجاهل؛ لأنه أنزله جل وعلا لهداية الخلق، وقال جل وعلا: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } فعليكم أيها الإخوان، أن تلقوا أسماعكم إلى تفسيرها، وإليكم أول آية منها:
{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } : المشروع ذكر الله تبركًا واستعانة وتيمنًا، والمتعلق بالباء في { بِسْمِ اللَّهِ } مقدر إما بفعل وإما باسم، فأما من قدره باسم تقديره باسم الله ابتدائي؛ فلقوله تعالى: { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، ومن قدره بالفعل أمرًا أو خبرًا، نحو: أبدأ بسم الله، أو ابتدأت باسم الله؛ فلقوله: { اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } ، { اللَّهِ } : هو المألوه المعبود المستحق لإفراده بالعبادة؛ لما اتصف به من صفات الألوهية وهي صفات الكمال، { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } : اسمان دالان على أنه ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء وعمت كل حي، والرحيم: رحمة خاصة بالمؤمنين كتبها للمتقين المتبعين لأنبياءه ورسله، قال تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } الآيتين، وقال تعالى: { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } .(1/8)
قال ابن جرير: معنى الحمد لله: الشكر لله خالصًا دون سائر ما يعبد من دونه ودون كل ما برأ من خلقه بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العد ولا يحيط بعددها غيره أحد في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين أجسام المكلفين لأداء فرائضه مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق وغذاهم به من نعيم العيش من غير استحقاق منهم ذلك عليه، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم، فلربنا الحمد على ذلك كله أولاً وآخرًا.
وقال ـ رحمه الله -: ثناء أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه، قال: قولوا الحمد لله، قال: وقد قيل: إن قول القائل الحمد لله: ثناء عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى. اهـ.
وعن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله»، وقال الترمذي: حسن غريب، وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أنعم الله على عبد نعمة، فقال: الحمد لله، إلا كان إذا أعطى أفضل مما أخذ»، وقال القرطبي في «تفسيره»، وفي «نوادر الأصول»: عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي، ثم قال: الحمد لله، لكان الحمد لله أفضل من ذلك».
قال القرطبي وغيره: أي لكان إلهامه الحمد لله أكثر نعمة عليه من نعم الدنيا؛ لأن ثواب الحمد لا يفنى ونعيم الدنيا لا يبقى، قال الله تعالى: { المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً } .(1/9)
وفي «سنن ابن ماجه» عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثهم: «أن عبدًا من عباد الله قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فعضلت على الملكين، فلم يدريا كيف يكتبانها! فصعد إلى الله، وقالا: يا ربنا، إن عبدًا قال مقال لا ندري كيف نكتبها! قال وهو أعلم بما قال عبده: ماذا قال عبدي؟ قالا: يا رب، إنه قال: لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها».
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله -: والحمد نوعان: حمد على إحسانه إلى عباده وهو من الشكر، وحمد لما يستحقه هو بنفسه من نعوت كماله، وهذا الحمد لا يكن إلا على ما هو في نفسه مستحق للحمد، وإنما يستحق ذلك من هو متصف بصفات الكمال وهي أمور وجودية، فإن الأمور العدمية المحضة لا مدح فيها ولا خير ولا كمال، ومعلوم أن كل ما يحمد فإنما يحمد على ماله من صفات الكمال، فكل ما يحمد به الخلق فهو من الخالق، والذي منه ما يحمد عليه هو أحق بالحمد، فثبت أنه المستحق للمحامد الكاملة، وهو أحق من كل محمود.
وقال ـ رحمه الله تعالى -: وأما أهل التوحيد الذين يعبدون الله مخلصين له الدين، فإن ما في قلوبهم من محبة الله لا يماثله فيها غيرها؛ ولهذا كان الرب محمودًا حمدًا مطلقًا على كل ما فعله، وحمدًا خاصًا على إحسانه إلى الحامد فهذا حمد الشكر والأول حمده على ما فعله، وكما قال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } الآية، وقال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } .(1/10)
والحمد ضد الذم، والحمد خبر بمحاسن المحمود، مقرون بمحبته، ولا يكون حمد المحمود إلا مع محبته ولا ذم المذموم إلا مع بغضه، وهو سبحانه له الحمد في الأولى والآخرة فلا تكون عبادة إلا بحب المعبود ولا يكون حمد إلا بحب المحمود، وهو سبحانه المعبود المحمود؛ ولهذا كانت الخطب في الجمع والأعياد وغير ذلك مشتملة على هذين الأصلين تحميده وتوحيده، وأفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله.
وقوله تعالى: { رَبِّ العَالَمِينَ } الرب: هو المعبود الخالق الرازق المتصرف المربي جميع العالمين، بأصناف النعم بخلقه لهم، وإعداده لهم الآلات، وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة التي لو فقدوهالم يكن لهم البقاء، فالنعم التي فيهم من الله، قال تعالى: { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } ، وترتبيته تعالى لعباده نوعان: عامة، وخاصة، فالعامة: خلقه للمخلوقين ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا، وأما الخاصة: تربيته لأوليائه فيربيهم بالإيمان ويوفقهم له ويكملهم ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه وحقيقتها تربية التوفيق لكل خير والعصمة من كل شر، والعالمين: جمع عالم وهو كل موجود سوى الله عز وجل، والعالم: جمع لا واحد له من لفظه، والعوالم: أصناف المخلوقات في السموات وفي البر والبحر، وكل قرن وجيل منها يسمى عالمًا أيضًا.
{ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } : تقدم الكلام عليهما بما أغنى عن إعادته.(1/11)
{ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } : قال ابن كثير: مالك: مأخوذ من الملك، كما قال تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } ، { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ } ، وملك مأخوذ من الملك، كما قال تعالى: { لِّمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ } ، وقال: { قَوْلُهُ الحَقُّ وَلَهُ المُلْكُ } ، وقال: { المُلْكُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الكَافِرِينَ عَسِيرًا } وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه؛ لأن قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين، وذلك عام في الدنيا والآخرة، وإنما أضيف إلى يوم الدين؛ لأنه لا يدعي أحد هنالك شيئًا ولا يتكلم أحد إلا بإذنه كما قال تعالى: { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } ، وقال: { وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا } ، وقال: { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } . اهـ.(1/12)
{ يَوْمِ الدِّينِ } : هو يوم الجزاء والحساب على الأعمال، والتصديق الجازم بيوم الدين كلية من كليات العقيدة الإسلامية، والإنكار لذلك اليوم كفر، قال تعالى: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ، وقال تعالى: { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ } ، وقال تعالى: { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ } ، { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } إنه اليوم الذي ترى فيه السماء قد انفطرت، والكواكب منتثرة، والنجوم منكدرة، والشمس مكورة، والجبال مسيرة، والعشار عطلت... إلخ، يوم لا يفيد المنكر الكاذب احتياله وجحوده، قال تعالى: { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } في ذلك اليوم يجازي الله فيه الإنسان على ما قدم من خير أو شر، فينتقم الله فيه من الظالمين، ويكافئ العادلين، وفي ذلك اليوم يظهر للخلق تمام الظهور كمال ملكه تعالى وعدله، وحكمته، وانقطاع أمك الخلائق حتى أنه يستوي في ذلك اليوم الملوك والرعايا، والأحرار والعبيد كلهم مذعنون لعظمته خاضعون لعزته، قال تعالى: { وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا } وكلهم منتظرون المجازاة، فلهذا خص بالذكر وإلا فهو المالك ليوم الدين ولغيره من الأيام.(1/13)
وقوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وقيل: إن العبادة غاية الذل مع غاية الخضوع، والاستعانة: الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة به في تحصيل ذلك، والمعنى نخصك بالعبادة ونخصك بالاستعانة، فلا نعبد غيرك، عهد بين العبد وربه أن لا يعبده إلا إياه، وإياك نستعين: عهد بين العبد وبين ربه أن لا يستعين بأحد غير الله.
فالأول: تبرؤ من الشرك.
والثاني: تبرؤ من الحول والقوة وتفويض إلى الله عز وجل.
وهذا المعنى في غير آية من القرآن، كما قال تعالى: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ، وقال تعالى: { قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } ، وقال تعالى: { رَّبُّ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً } وكذا هذه الآية الكريمة.
وقال ابن كثير: وتحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب، وهو مناسب؛ لأنه لما أثنى على الله فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى، ولأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى آخر كان أحسن تطرية لنشاط السامع، وأكثر إيقاظًا له كما تقرر في علم المعاني، والمجيء بالنون في الفعلين لقصد الإخبار عن الداعي عن نفسه وعن جنسه من العباد، وقيل: إن المقام لما كان عظيمًا لم يستقل به الواحد استقصارًا لنفسه واستصغارًا لها، فالمجيء بالنون لقصد التواضع، لا لتعظيم النفس، وقدمت العبادة على الاستعانة لكون الأولى وسيلة إلى الثانية، وتقديم الوسائل سبب لتحصيل المطالب، وإطلاق الاستعانة لقصد التعميم.(1/14)
وعن ابن عباس في قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } : يعني إياك نوحد ونخاف يا ربنا لا غيرك، { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } على طاعتك وعلى أمورنا كلها، والقيام بعبادة الله، والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية، والنجاة من جميع الشرور، فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما، وإنما تكون العبادة عبادة إذا كانت مأخوذة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقصود بها وجه الله، فبهذين الأمرين تكون عبادة.
{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ } والهداية هنا الإرشاد والتوفيق، والمعنى دلنا وأرشدنا وثبتنا، وقد تعدى الهداية بنفسها كما هنا فتضمن معنى ألهمنا أو وفقنا أو ارقنا أو أعطنا، { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } أي بينا له الخير والشر، وقد تعدى بإلى، كقوله تعالى: { اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ، { فَاهْدُوَهُمْ إِلَى صِرَاطِ الجَحِيمِ } وذلك بمعنى الدلالة والإرشاد، وكذلك قوله تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وقد تعدى باللام، كقول أهل الجنة: { الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا } أي وفقنا لهذا وجعلنا له أهلاً.
وفرق بعض المتأخرين بين معنى المتعدى بنفسه وغير المتعدي، فقالوا: معنى الأول: الدلالة، والثاني: الإيصال، وطلب الهداية من المهتدين معناه طلب الزيادة، كقوله تعالى: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى } ، وقوله: { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } ، وقال: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } .
وقال ابن كثير: فإن قيل: كيف يسأل المؤمن الهداية في كل وقت من صلاة وغيرها، وهو متصف بذلك؟ فهل هذا من باب تحصيل الحاصل أم لا؟(1/15)
فالجواب: أن لا، ولولا احتياجه ليلاً ونهارًا إلى سؤال الهداية لما أرشده الله تعالى إلى ذلك، فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية ورسوخه فيها وتبصره وازدياده منها واستمراره عليها، فإن العبد لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله فأرشده إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعرفة والثبات والتوفيق، فالسعيد من وفقه الله تعالى لسؤاله، فإنه تعالى قد تكفل بإجابة الداعي إذا دعاه، ولاسيما المضطر المفتقر إليه آناء الليل وأطراف النهار.
والصراط لغة: الطريق، قال ابن جرير: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعًا على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا إعوجاج فيه.
وقال ابن القيم ـ رحمه الله -: ولا يكون الطريق صراطًا حتى يتضمن خمسة أمور: الاستقامة، والإيصال إلى المقصود، والقرب، وسعته للمارين عليه، وتعيينه طريقًا للمقصود تضمن إيصاله إلى المقصود، ونصبه لجميع من يمر عليه يستلزم سعته، وإضافته إلى المنعم عليهم، ووصفه بمخالفة صراط أهل الغضب والضلال يستلزم تعيينه طريقًا.
وقيل: إن الصراط المستقيم المذكور هنا القرآن الكريم.
وقيل: إنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه من بعده.
وقيل: الإسلام.
قال ابن القيم -رحمه الله-: والقول الجامع في تفسير الصراط المستقيم أنه الطريق الذي نصبه الله لعباده على ألسنة رسله وجعله موصلاً لعباده إليه ولا طريق لهم سواه وهو إفراده بالعبودية، وإفراد رسله بالطاعة وهو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ونكتة ذلك وعقده أن تحبه بقلبك كله وترضيه بجهدك، فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه، ولا تكون إرادة إلا متعلقة بمرضاته، وهذا هو الحق، ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به وهو معرفة ما بعث الله به رسله والقيام به، فقل ما شئت من العبارات التي هذا أحسنها.(1/16)
ويضاف الصراط تارة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنه شرعه ونصبه، ويضاف تارة إلى العباد؛ لأنهم أهل سلوكه، وهو المنسوب لهم، وهم المارون عليه، فالأول وهو إضافته إلى الله كقوله تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا } ، وقوله: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ } ، والثاني كما في الفاتحة، فمن هُدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه وعلى قدر ثبوت قدم العبد واستقامته على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار، يكون ثبوت قدمه على الصراط الحسي الجسر المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذه الصراط يكون سيره على ذاك الصراط فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدوًا، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من يخطف خطفًا ويلقى في جهنم.
فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا حذو القذة بالقذة { جَزَاءً وِفَاقًا } ، { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ، { وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } .
وقوله تعالى: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مفسرًا للصراط المستقيم وانتصب على أنه بدل من الأول وفائدة التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير، ويجوز أن يكون عطف بيان وفائدته الإيضاح، والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في سورة النساء، حيث قال الله تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا } .(1/17)
وقال الضحاك عن ابن عباس: صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك، وعبادتك من ملائكتك، وأنبياءك، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وذلك نظير قوله تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم } الآية، وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام.
وقوله تعالى: { غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } .
قال ابن كثير ـ رحمه الله -: والمعنى إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم، وهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلال لا يهتدون إلى الحق وأكد الكلام بلا؛ ليدل على أن ثَمَّ مسلكين فاسدين وهما طريقة اليهود والنصارى؛ ولهذا كان الغضب لليهود والضلال للنصارى؛ لأن من علم وترك استحق الغضب بخلاف من لم يعلم، والنصارى لما كانوا قاصدين شيئًا لكن لا يهتدون إلى طريقه؛ لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه وهو إتباع الحق ضلوا وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى عنهم: { مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } ، وأخص أوصاف النصارى الضلال، كما قال تعالى عنهم: { قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ } ، وبهذا جاءت الأحاديث والآثار، فعن عدي بن حاتم: قال: جاءت خيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذوا عمتي وناسًا، فلما أتوا بهم إلى رسول الله صفوا له، فقالت: يا رسول الله، نأى الوافد، وانقطع الولد، و أنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة فمن عليَّ من الله عليك، قال: «من وافدك؟» قالت: عدي بن حاتم، قال: «الذي فر من الله ورسوله؟» قالت: فمن علي، فلما رجع ورجل إلى جنبه ترى أنه علي، قال: «سليه حملانًا»(1/18)
فسألته، فأمر لها، قال: فأتتني، فقالت: لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها، فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه وأتاه فلان فأصاب منه، فأتيته، فإذا عنده امرأة وصبيان، وذكر قربهم من النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فعرفت أنه ليس بملك ككسرى ولا قيصر، فقال: يا عَدِيُ: «ما أفرك؟ أفرك أن يقال لا إله إلا الله؟ فهل من إله إلا الله! أفرك أن يقال الله أكبر؟ فهل شيء أكبر من الله عز وجل!» قال: فأسلمت فرأيت وجهه استبشر، وقال: «إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى»، وذكر الحديث.
وفي خطابه مع بني إسرائيل في سورة «البقرة» : { فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } ، وقال في سورة المائدة: { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ } .
وفي السيرة: عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف، قالت له اليهود: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، فقال: أنا من غضب الله أفر، وقالت له النصارى: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سخط الله، فقال: لا أستطيعه، فاستمر على فطرته وجانب عبادة الأوثان ودين المشركين، ولم يدخل مع أحد من اليهود ولا النصارى، وأما أصحابه فتنصروا ودخلوا في دين النصرانية؛ لأنهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذاك، وكان منهم ورقة بن نوفل حتى هداه الله بنبيه لما بعثه آمن به بما وجد من الوحي - رضي الله عنه -. اهـ. بتصرف واختصار.(1/19)
ومن الحكم التي تدل على اختيار هذه السورة للتكرار في كل صلاة والتي لا تصح الصلاة بدونها لقادر على الإتيان بها، ما ورد في «صحيح مسلم» من حديث العلاء بن عبدالرحمن مولى الحرقة، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ } ، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ، قال الله: مجدني عبدي، وإذا قال: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } ، قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، قال الله: هذا ما بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } ، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل».
ما يؤخذ من سورة الفاتحة من الأحكام:
1- إثبات الألوهية.
2- إثبات الأسماء لله.
3- إثبات صفة الرحمة لله.
4- إثبات صفة الكلام لله.
5- الرد على الجهمية والمعتزلة ونحوهم، ممن ينكر صفة الرحمة أو يؤولها بتأويل باطل.
6- أنها اشتملت على حمد الله.
7- أنها اشتملت على تمجيد الله والثناء عليه بذكر أسماء الله الحسنى المستلزمة لصفاته.
8- إثبات الربوبية.
9- أن الله هو الذي خلق المخلوقات كلها.
10- أنه هو الذي يرزقهم.
11- أنه هو الذي يهديهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم.
12- الابتداء بالبسملة.
13- إثبات غنى الله.
14- إنفراد الله بالتدبير.
15- فقر الخلائق إلى الله.
16- إثبات أولية الله.
17- إثبات صفة الملك لله.(1/20)
18- إثبات الرسالة وهو من جهات عديدة: أحدها: كونه رب العالمين فلا يليق به أن يترك عباده سدى لا يعرفهم ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وما يضرهم فيهما، المأخذ الثاني لإثبات الرسالة من اسم الله وهو المألوه المعبود ولا سبيل إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله، والمأخذ الثالث لإثبات الرسالة من اسمه الرحمن، فإن رحمته تمنع إهمال عباده وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كما لهم، المأخذ الرابع لإثبات الرسالة من ذكر يوم الدين، فإنه اليوم الذي يدين الله به الخلائق بأعمالهم فيثيبهم على الخيرات ويعاقبهم على المعاصي والسيئات، وما كان الله ليعذب أحدًا قبل إقامة الحجة عليه، والحجة إنما قامت برسل الله وكتبه وبهم استحق الثواب والعقاب، وبهم قام سوق يوم الدين، وسيق الأبرار إلى النعيم، والفجار إلى الجحيم.
19- إثبات البعث.
20- إثبات الحشر.
21- إثبات الحساب والجزاء على الأعمال.
22- أن للدين يومًا معينًا عند الله يلقى فيه كل عامل جزاء عمله.
23- أن القرآن فيه ترغيب وترهيب حيث جاء قوله تعالى: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } إثر قوله: { الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } .
24- أن المصالح كلها إنما تهيأت للخلق برحمة الله وفضله وإحسانه.
25- أن قوله تعالى: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } حث على الأعمال والاستعداد لذلك اليوم.
26- وجوب الإيمان بالجن والبعث.
27- إن في ذلك اليوم لا يدعى أحد شيئًا ولا يتكلم أحد إلا بإذن الله، كما قال تعالى: { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } .
28- وجوب إفراد الله بالعبادة.
29- التبرؤ من الشرك.
30- وجوب الاستعانة بالله.
31- التبرؤ من الحول والقوة.
32- العدول عن الغَيبة إلى الخطاب؛ لأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى آخر كان أحسن تطرية لنشاط السامع وأكثر إيقاظًا له.
33- أن تقديم المعمول يفيد الحصر، وهو إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه.
34- الاهتمام بتقديم حقه تعالى على حق عباده.(1/21)
35- إثبات علم الله؛ لأنه الخالق الرازق لهم، الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم ويستحيل ذلك مع الجهل.
36- إثبات حكمة الله لما في تربيته لهم تعالى من الحكمة جل وعلا.
37- رد على القدرية المنكرين لعلم الله.
38- رد على الجبرية الذين سلبوا العبد قدرته وجعلوا فعله مجازًا.
39- الحث على طلب الهداية.
40- أنه لا يؤمن على الإنسان المؤمن الفتنة، فلذا أمر بتكرير طلب الهداية.
41- أن الهداية بيد الله تعالى.
42- أن الإنسان مفتقر في كل لحظة إلى معونة الله.
43- القضاء على جذور الشرك التي كانت فاشية في جميع الأمم وهي اتخاذ أولياء من دون الله يُستعان بهم على قضاء الحاجات ويتقرب لهم إلى الله زلفى، كما أخبر الله عن المشركين بقولهم: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } .
44- أن لله صراطًا مستقيمًا.
45- أن السعادة لا تحصل إلا بالسير على ذلك الصراط القويم.
46- أن من خالف هذا الصراط وانحرف عنه فهو في ضلال مقيم.
47- أنه قد مضي أمم شرع الله لهم شرائع لهدايتها فاتبعها الموفقون وساروا على نهجها، فعلينا أن نتبع ما جاء عن الله على ألسنة رسله.
48- أن غير المنعم عليهم صنفان صنف خرج عن الحق بعد علمه به وأعرض عنه بعد أن استبان له وهؤلاء المغضوب عليهم، وصنف لم يعرفوا الحق أبدًا أو عرفوه على وجه مضطرب مشوش فهم في عماية تلبس الحق بالباطل وهؤلاء هم الضالون.
49- أن الأعمال يتوقف نجاحها على أسباب ربطتها حكمة الله بمسبباتها وجعلتها موصلة إليها وعلى انتفاء موانع من شأنها أن تحول دونها، وقد أوتي الإنسان بما فطره الله عليه من العلم والمعرفة كسب بعض الأسباب ودفع بعض الموانع بقدر استعداه الذي آتاه الله، فعليه أن يعمل ويطلب من الله الإعانة والقبول، وقد وعد سبحانه بإجابة الداعي.(1/22)
50- إن في ذكر الاستعانة بالله إرشاد للإنسان إلى أن يجب عليه أن يطلب المعونة من الله على عمل له فيه كسب، فمن ترك الكسب فقد جانب الفطرة وأصبح مذمومًا لا متوكلاً محمودًا.
51- فيها إيماء إلى أن الإنسان مهما أوتي من حصافة الرأي وحسن التدبير وتقليب الأمور على وجوهها لا يستغني عن العون الإلهي ولطف الله جل وعلا.
52- أن دين الله واحد في جميع الأزمان.
53- الحث على التخلق بفاضل الأخلاق وعمل الخير وترك الشر.
54- النهي عن طريق الضالين والمغضوب عليهم.
55- الحث على حسن الأسوة فيما تكون به السعادة.
56- اجتناب ما يكون طريقًا إلى الشقاء والدمار.
57- إن في ذكر المنعم عليهم وهم من عرف الحق واتبعه، والمغضوب عليهم وهم من عرفه واتبع هواه، والضالين وهم من جهله ما يستلزم ثبوت الرسالة والنبوة؛ لأن انقسام الناس إلى ذلك هو الواقع المشهود، وهذه القسمة إنما أوجبها ثبوت الرسالة.
58- إن في تخصيصه لأهل الصراط المستقيم بالنعمة ما دل على أن النعمة المطلقة هي الموجبة للفلاح الدائم، وأما مطلق النعمة فعلى المؤمن والكافر، فكل الخلق في نعمة، وهذا فصل النزاع في مسألة: هل لله على الكافر من نعمة أم لا؟ فالنعمة المطلق لأهل الإيمان ومطلق النعمة يكن للكافر والمؤمن، كما قال: { وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } ، والنعمة من جنس الإحسان، بل هي الإحسان، والرب تعالى إحسانه على البر والفاجر، والمؤمن والكافر، وأما الإحسان المطلق فللذين اتقوا والذين هم محسنون.
59- التنبيه على الرفيق في الطريق المذكور، وأنهم هم الذين أنعم الله عليهم من النبييين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه.
60- عظم شأن يوم الدين حيث خص بالذكر مع أن الله له الملك في الأولى والآخرة.(1/23)
61- إرشاد العباد إلى إخلاص العبادة لله وتوحيده بالألوهية.
62- إرشاد العباد إلى تنزيه الله عن الشريك والنظير أو المماثل.
63- أن الله أثنى على نفسه وافتتح كتابه بحمده ولم يأذن في ذلك لغيره، بل نهاهم عن ذلك في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: { فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } ، وقال –عليه الصلاة والسلام-: «أحثوا في وجوه المداحين التراب» رواه المقداد.
64- أن فيها اسم الله الأعظم، قيل: الجلالة، وقيل: الرب لكثرة الدعاء بهما.
65- رد على القدرية؛ لأن الإنسان عندهم هو الذي يخلق أفعاله فهو غير محتاج في صدورها عنه إلى ربه، وقد أكذبهم الله في هذه الآية حيث سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم، فلو كان الأمر إليهم والاختيار بيدهم دون الله لما سألوه الهداية، ولا كرروا السؤال في كل صلاة.
66- أن سورة الفاتحة مشتملة على مقاصد القرآن على سبيل الإجمال كما تقدم بيانه.
67- أن هذه السور تضمنت إثبات أنواع التوحيد الثلاثة: فتوحيد الألوهية يؤخذ من لفظ الله، ومن قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، وتوحيد الربوبية يؤخذ من قوله: { رَبِّ العَالَمِينَ } ، وتوحيد الأسماء والصفات يؤخذ من لفظ: { الْحَمْدُ } .
68- تعليم العباد كيفية سؤاله وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه وتمجيده، ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان إلى المطلوب توسل إليه بأسمائه وصفاته.
69- دليل على رحمة الله الخاصة والمأخذ من قوله تعالى: { الرَّحِيمِ } .
70- إن في بناء أنعمت للفاعل استعطاف، فكأن الداعي يقول: أطلب منك يا رب الهداية إذ سبق إنعامك، فاجعل من إنعامك إجابة دعائنا وإعطاء سؤلنا وسبحانه ما أكرمه، كيف يعلمنا الطلب ليجود علينا بما طلبنا!
71- الحث على التوكل على الله.
72- أن الله لا يهمل أمر المظلومين، بل يستوفي حقوقهم من الظالمين في يوم الدين.(1/24)
73- إن في تكرير { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } بعد الذكر في البسملة ما يدل على أن العناية بالرحمة أكثر من غيرها من الأمور، وأن الحاجة إليها أكثر فنبه سبحانه بتكرير ذكر الرحمة على كثرتها وأنه هو المتفضل بها على خلقه.
74- أن تارك العمل بالحق بعد معرفته أولى بوصف الغضب وأحق به، ومن هاهنا كان اليهود أحق به.
75- أن الجاهل بالحق أحق باسم الضلال، ومن هنا وصفت النصارى به.
76- أن هذه الأوصاف المذكورة في سورة الفاتحة من كونه ربًا للعالمين موجدًا لهم ومنعمًا بالنعم كلها، ومالكًا للأمر كله يوم الجزاء بعد الدلالة على اختصاص الحمد به في قوله: { الْحَمْدُ لِلَّهِ } دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه للحمد والثناء عليه، بل لا يستحقه على الحقيقة سواه، فإن ترتب الحكم على هذا الوصف مشعر بعليته له.
77- أن الألطاف والهدايات من الله لا تتناهى.
78- أن قوله تعالى: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل كل من كل من المتقدم، وفائدته التوكيد، والتنصيص على أن صراط المسلمين هو المشهود عليه الاستقامة والاستواء على آكد وجه وأبلغه.
79- أن العبد إذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } حصل له الفخر، وذلك منزلة عظيمة، فربما حصل بسبب ذلك العجب فأردف ذلك بقوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ؛ ليزول ذلك العجب الحاصل بسبب تلك العبادة.
80- إن في قوله تعالى: { رَبِّ العَالَمِينَ } حث على اتجاه جميع الخلق إليه جل وعلا والإقرار له بالسيادة المطلقة؛ لأنه المربي لهم التربية العامة، وهو المربي لأوليائه التربية الخاصة.
81-إن في الإقرار بذلك والاعتراف به الاطمئنان إلى رعاية الله الدائمة وربوبيته القائمة التي لا تنقطع ولا تفتر.(1/25)
ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها: آمين، ومعناها: اللهم استجب، والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن وائل بن حجر قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ: { غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } ، فقال: «آمين» مد صوته، ولأبي داود: رفع بها صوته، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
وروي عن علي وابن مسعود وغيرهم، وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تلا: { غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } قال: «آمين» حتى يسمع من يليه من الصف الأول، رواه أبو داود وابن ماجه، وزاد فيه: فيرتج المسجد.
وعن بلال أنه قال: يا رسول الله، لا تسبقني بآمين، رواه أبو داود.
وفي «الصحيحين» عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه».
ولمسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قال أحدكم في الصلاة آمين والملائكة في السماء آمين، فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه»، وقيل: من وافق تأمينه تأمين الملائكة في الزمان، وقيل: في الإجابة، وقيل: في صفة الإخلاص.
وفي «صحيح مسلم» عن أبي موسى مرفوعًا: «إذا قال –يعني الإمام-: { وَلاَ الضَّالِّينَ } فقولوا آمين يجبكم الله».
اللهم ارزقنا التفكر والتدبر لما تتلوه ألسنتنا من كتابك والفهم له والمعرفة بمعانيه والنظر في عجائبه والعمل بذلك ما بقينا إنك على كل شيء قدير، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بسم الله الرحمن الرحيم
من الأدلة على التوحيد في العبادة وإثبات الرسالة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم(1/26)
قال الله تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } .
قد بلغت نداءات القرآن ما يقرب من مائة وسبعين نداءً، تكفي لسعادة الإنسانية، وهذه النداءات الإلهية تدل على كمال العناية من الله تعالى بالناس وبعباده المؤمنين، وتدل أيضًا على عظم الاهتمام بالمطلوب وبالمنادى، وما تركت بابًا من أبواب الخير إلا ودعت إليه، وما تركت بابًا من أبواب الشر إلا وحذرت عنه، وإن نداء الله القوي العزيز القاهر الكبير المتعال لعباده المؤمنين جدير بأن يهز القلوب، وانتباههم إلى الاستماع إليه، وتدبر ما فيه وما يلقيه، إذا فهمت هذا، فاعلم أن الله تعالى بعد أن ذكر أصناف الخلق، وبين أن منهم المهتدين والكافرين الذين جحدوا ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمنافقين المذبذبين بين ذلك دعا الله وأمرهم أمرًا عامًا لجميعهم بأمر عام، وهو عبادته وحده لا شريك له، قال ابن عباس: كل ما ورد في القرآن من العبادة فمعناها التوحيد.(1/27)
وقد بدأ - صلى الله عليه وسلم - دعوته بعبارة الله وحده، وقد كان هذا صنيع كل رسول، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } ، ثم استدل سبحانه على وجوب عبادته وحده بأنه ربكم الذي رباكم وربى جميع العالمين بأصناف نعمه، ثم عدد جل وعلا بعض نعمه المتظاهرة عليهم الموجبة لعبادته والشكر له، فجعل منها خلقهم بعد العدم أحياء قادرين على العمل والكسب، فقال: { الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم } أي إن هذا الرب العظيم القدير المتصف بتلك الصفات التي تعلمونها هو الذي خلقكم، وخلق من قبلكم، ورباكم وربى أسلافكم، ودبر شئونكم ووهبكم من طرق الهداية ووسائل المعرفة، مثل ما وهبهم، فاعبدوه وحده، ولا تشركوا بعبادته أحدًا من خلقه.
وقوله: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي خلقكم لتتقوه وحده، والتقوى: التحرز طاعة الله عن معصيته، فهي كلمة جامعة لفعل المأمورات، وترك المنهيات ولتعبدوه، كقوله: { وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } ، وقيل: معناه اعبدوه لتتقوا.
ثم ذكر خصائص الربوبية التي تقتضي الاختصاص به تعالى، فقال: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا } ، وإنما سميت الأرض أرضًا؛ لسعتها من قولهم: أرضت القرحة: إذا اتسعت، وقيل: لانحطاطها عن السماء، وكل ما سفل أرض، وقيل: لأن الناس يرضونها بالأقدام، وقوله: { فِرَاشًا } ، أي بساطًا يمكنكم أن تستقروا عليها وتفترشوها وتتصرفوا فيها، وتنتفعون بالأبنية والزراعة والحراثة والسلوك من محل إلى محل، ثم أتبع نعمة خلق الأرض التي هي مسكنهم بنعمة جعل السماء بناء وهو السقف، كما قال في الآية الأخرى: { وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } .(1/28)
وإذا تأمل الإنسان المتفكر في العالم وجده كالبيت المعمور فيه كل ما يحتاج إليه، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض مفروشة كالبساط والنجوم كالمصابيح، والإنسان كمالك البيت، وفيه الماء وضروب النبات المهيآت لمنافعه، وأصناف الحيوان مصروفة في مصالحه.
فيجب على الإنسان المسخر له هذه الأشياء شكر لله تعالى عليها، والتفكر فيها والاستدلال بها على حكمة لله وقدرته وعظمته ووحدانيته، وأن الله لم يخلقها عبثًا، بل لغرض صحيح ومصلحة، ثم امتن تعالى عليهم بإنزال الماء من السماء، وإخراج الثمرات به رزقًا لهم، وذكر إنزل الماء، وإخراج الثمرات به ما يفتأ يتردد في مواضيع شتى من القرآن في معرض التعريض بقدرة الله، والتذكر بنعمته كذلك، والماء النازل من السماء هو مادة الحياة الرئيسية للأحياء في الأرض جميعًا، فمنه تنشأ الحياة بكل أشكالها ودرجاتها، قال تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } ، وقال: { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ } .
والثمرات: جمع ثمرة، والمعنى: أخرجنا به ألوانًا من الثمرات، وأنواعًا من النبات؛ ليكون ذلك متاعًا لكم إلى حين، فنبههم على قدرته وسلطانه، وذكره به لآلائه لديهم، وأنه هو الذي خلقهم ورزقهم دون من جعلوه ندًا وعدلاً من الأوثان والآلهة ومضمونه أنه الخالق الرزاق، مالك الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره؛ ولهذا زجرهم عن أن يجعلوا له أندادًا، أي أشباهًا ونظراء من المخلوقين فتعبدونهم كما تعبدون الله، وتحبونهم كما تحبون الله، وهم مثلكم مخلوقون مرزوقون مدبرون، لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، لا ينفعون ولا يضرون ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورًا.(1/29)
وقوله: { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } المعنى والله أعلم: أنكم تعلمون أن الأصنام التي تعبدونها لم تنعم عليكم بهذه النعم التي عددناها ولا بأمثالها، وأنها لا تضر ولا تنفع، وأن الله ليس له شريك ولا نظير، لا في الرزق والتدبير، ولا في الألوهية والكمال، فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك، فهذا من أعجب العجب فهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه، وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادة الله سبحانه وبطلان عبادة ما سواه وهو ذكر توحيد الربوبية المتضمن انفراده بالخلق والرزق، فإذا كان كل مقر بأنه ليس له شريك بذلك، فكذلك فليكن الإقرار بأن الله ليس له شريك في عبادته.
أشار الله سبحانه وتعالى في هذه الآية إلى ثلاث براهين من براهين البعث بعد الموت:
البرهان الأول: خلق الناس أولاً المشار إليه بقوله تعالى: { اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم } ؛ لأن الإيجاد الأول أعظم برهان على الإيجاد الثاني، وقد أوضح ذلك في آيات أخر، كقوله: { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } ، وقوله: { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } .(1/30)
البرهان الثاني: خلق السموات والأرض المشار إليه بقوله تعالى: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً } لأنهما من أعظم المخلوقات ومن قدر على خلق الأعظم، فهو على غيره قادر من باب أولى وأحرى، وأوضح تعالى هذا البرهان في آيات أخرى، كقوله سبحانه تعالى: { لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } ، وكقوله: { أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ } ، وقوله: { أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ المَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .(1/31)
البرهان الثالث: إحياء الأرض بعد موتها، فإنه من أعظم الأدلة على البعث بعد الموت المشار إليه في قوله: { وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ } ، وقد ذكره في آيات أخر، كقوله: { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، وقوله: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي المُوتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، وقال: { وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } ، وقال: { وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الخُرُوجُ } ، وقال: { وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } إلى قوله: { وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي القُبُورِ } ، وقوله: { فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } ، هذا نهي معطوف على اعبدوا مرتب عليه، فكأنه قيل: إذا وجب عليكم عبادة ربكم فلا تجعلوا لله ندًا، وأفردوه بالعبادة، إذ لا رب لكم سواه، وإيقاع الاسم الجليل موقع الضمير لتعيين المعبود بالذات بعد تعيينه بالصفات، وتعليل الحكم بوصف الألوهية التي عليها يدور أمر الوحدانية، واستحالة الشركة، والاستيذان باستتباعها لسائر الصفات، والأنداد جمع ند، وهو المثيل والنظير والكفؤ.
قال حسان:
أتجهوه ولَسْتَ له بِنِدٍ ... فَشرُكُما لِخَيرِكُما الفِداءُ
وقال الآخر:
ولم أكُ نِدًا لِلْكُلابي أبتغي ... مِنْ السُؤر ما فيه لذي شَنَب غمس(1/32)
عن ابن عباس في قوله عز وجل: { فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا } ، قال: الأنداد هو الشرك الخفي من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي، ويقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لو الله وفلان، لا تجعل فيه فلانًا، هذا كله به شرك.
وفي الحديث: أن رجلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما شاء الله وشئت، قال: «أجعلتني لله ندًا؟»، وفي الحديث الآخر: «نعم القوم أنتم لولا أنكم تنددون، تقولون ما شاء الله وشاء فلان».
فالقرآن والسُّنة يشددان في النهي عن الشرك لتخلص العقيدة نقية.
قال سيد قطب: وقد لا تكون آلهة تعبد مع الله على النحو الساذج الذي يزاوله المشركون، فقد تكون الأنداد في صور أخرى خفية قد تكون في تعليق الرجاء بغير الله في أي صورة، وفي الخوف من غير الله في أي صورة، وفي الاعتقاد بنفع أو ضر في غير الله في أي صورة. اهـ.
وقوله: { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي أنه ليس له شريك ولا نظير لا في الخلق والرزق والتدبير، ولا في الألوهية والكمال، كما أخبر جل ثناؤه عنهم بقوله: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } ، وقوله: { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ } .(1/33)
وبعد أن قرر أنه لا إله إلا هو، وبعد أن ذكر أن الناس بالنظر إلى القرآن أقسام ثلاثة: متقون يهتدون بهديه، وجاحدون معاندون معرضون عن سماع حججه وبراهينه، ومذبذبون بين ذلك، طلب هنا إلى الجاحدين أنهم إن كانوا في ريب مما أنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يأتوا بسورة من مثل ما جاء به إن استطاعوا، وهم فرسان البلاغة، وعصرهم أرقى عصور الفصاحة، والكلام ديدنهم، وبه نفاخرهم، ويستعينوا على ذلك بمن شاءوا من دون الله، فإنهم لم يستطيعوا ذلك، وإن تظاهر أنصارهم وكثر أشياعهم، قال ابن عباس: شهداءكم أعوانكم، وقال السدي عن أبي مالك: شركاءكم، أي قومًا آخرين، يساعدونكم على ذلك، وقال مجاهد: وادعوا شهداءكم، قال: ناس يشهدون به يعني حكام الفصاحة.
وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن، فقال في «سورة القصص»: { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ، وقال في «سورة سبحان»: { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } ، وقال في «سورة هود»: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ، وفي «سورة يونس»: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وكل هذه الآيات مكية.
ثم تحداهم بذلك أيضًا في المدينة، فقال في هذه الآية: { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ } أي شك، { مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } يعني محمدًا - صلى الله عليه وسلم - { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } يعني من مثل القرآن.(1/34)
قال مجاهد وقتادة: واختاره ابن جرير الطبري، ونقله عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن البصري، وأكثر المحققين، ورجح ذلك بوجوه من أحسنها أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميهم وكتابيهم، وذلك أكمل في التحدي وأشمل من أن يتحد آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئًا من العلوم، وبدليل قوله: { فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ } ، وقوله: { لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } ، وقال بعضهم: من مثل محمد - صلى الله عليه وسلم -، يعني من رجل أمي مثله، و الصحيح الأول؛ لأن التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم، وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له، وبغضهم لدينه، ومع هذا عجزوا عن ذلك؛ ولهذا قال: { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا } لن لنفي التأبيد في المستقبل، أي ولن تفعلوا ذلك أبدًا، وهذه أيضًا معجزة أخرى وهو أنه أخبر خبرًا جازمًا قاطعًا مقدمًا غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا ي عارض بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين، وكذلك وقع الأمر لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن، وأنى يتأتى ذلك لأحد والقرآن كلام الله خالق كل شيء، وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين؟
ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونًا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ، ومن جهة المعنى، قال الله تعالى: { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه، أو بالعكس على الخلاف فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يحادي ولا يداني، فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء، وأمر بكل خير ونهى عن كل شر كما قال تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً } أي صدقًا في الأخبار، وعدلاً في الأحكام.(1/35)
فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها كما قيل في الشعر: إن أعذبه أكذبه، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء، أو الخيل، أو الخمر، أو في مدح شخص معين، أو فرس، أو ناقة، أو حرب، أو كائنة، أو مخافة، أو سبع، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئًا إلا قدرة المتكلم المعين على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم نجد له فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيدة وسائرها هذر لا طائل تحته، وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلاً وإجمالاً ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة سواء كانت مبسوطة أو وجيزة وسواء تكررت أم لا، وكلما تكررت حلا وعلا، لا يخلق عن كثرة الرد ولا يمل منه العلماء.(1/36)
وإن أخذ في الوعد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات! وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن كما قال في الترغيب: { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ، وقال: { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ، وقال في الترهيب: { أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البَرِّ } ، { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } ، وقال في الزجر: { فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } ، وقال في الوعظ: { أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ } إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة التي أعجزت جميع الفصحاء والبلغاء.
وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي، اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دني، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف: إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فأرعها سمعك فإنها خير يأمر به أو شر ينهي عنه؛ ولهذا قال تعالى: { يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } الآية.(1/37)
وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال، وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم، بشرت به وأنذرت، ودعت إلى فعل الخير واجتناب المنكرات، وزهدت في الدنيا ورغبت في الأخرى، وثبتت على الطريقة المثلى، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم. اهـ.
وقوله تعالى: { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } .
المعنى:
فإن لم تأتوا بسورة من مثله، وعجزتم غاية العجز، فهذا آية كبيرة ودليل واضح جَلِيَّ على صدقه، وصدق ما جاء به، فيتعين عليكم اتباعه واتقاء النار التي حطبها الناس والحجارة، قيل: إنها حجارة الكبريت؛ لأنها أحر شيء إذا أحميت وأكثر التهابًا، وقيل: جميع الحجارة وهو دليل على عظم تلك النار.
وقال ابن مسعود: وخصت بذلك؛ لأنها تزيد على جميع الحجارة بخمسة أنواع من العذاب: سرعة الإيقاد، ونتن الرائحة، وكثرة الدخان، وشدة الالتصاق بالأبدان، وقوة حرها.
وقيل: أراد بها الأصنام أكثر أصنامهم كانت منحوتة من الحجارة، كما قال: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ } .
عن العباس بن عبدالمطلب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يظهر هذا الدين حتى يجاوز البحار، وحتى يخاض البحار الخيل في سبيل الله تبارك وتعالى، ثم يأتي أقوام يقرؤن القرآن فإذا قرؤه قالوا: من أقرؤ منا؟ من أعلم منا؟»، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: «هل ترون في أولئك من خير؟» قالوا: لا، قال: «أولئك منكم، وأولئك من هذه الأمة، وأولئك هم وقود النار» أخرجه ابن المبارك.(1/38)
وقوله: { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } معناه: خلقت وهيئت للكافرين، أي لمن كان مثل ما أنتم عليه من الكفر، وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن؛ لقوله تعالى: { أُعِدَّتْ } أي أرصدت وهيئت.
وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك، منها: «تحاجت الجنة والنار»، ومنها: «استأذنت النار ربها، فقالت: رب أكل بعضي بعضًا فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء، ونفس في الصيف».
وحديث ابن مسعود: سمعنا وجبة، فقلنا: ما هذه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة، الآن وصل إلى قعرها».
وفي حديث صلاة الخسوف، فقالوا: يا رسول الله، أريناك تناولت شيئًا في مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت، فقال: «إني رأيت الجنة، فتناولت منها عنقودًا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرًا قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء»، قالوا: بِم يا رسول الله؟ قال: «بكفرهن»، قيل: يكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيت منك خيرًا قط» متفق عليه.
وفي «صحيح مسلم» من حديث أنس - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا»، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: «رأيت الجنة والنار».(1/39)
وفي «مسند الإمام أحمد»، و«صحيح مسلم»، و«السنن» من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة، فقال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها فرجع، وقال: بعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بالجنة فحفت بالمكاره، فقال: فارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فنظر إليها، ثم رجع، فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، ثم أرسله إلى النار فنظر إليها يركب بعضها بعضًا، فقال: لا يدخلها أحد، فلما حفت بالشهوات، قال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها» قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وحديث: «أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى أسودت، فهي سوداء مظلمة» رواه الترمذي.
وثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «رأيت عمرو ابن لحي بن قمعة يجر أمعاءه في النار؛ لأنه أول من سيب السوائب، وحمل قريشًا على عبادة الأوثان».
مما يفهم من الآيتين، أي قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً } :
1- لطف الله بخلقه حيث أرشدهم إلى عبادته وحده لا شريك له.
2- الأمر بعبادته سبحانه.
3- إثبات صفة الربوبية.
4- إثبات صفة الكلام لله.
5- إثبات صفة الخلق.
6- إثبات صفة القدرة.
7- إثبات صفة الحياة.
8- إثبات صفة العلم.
9- إثبات حكمة الله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم.
10- الحث على التقوى.
11- أن الأرض مفروشة.
12- لطف الله بخلقه إذ فرش لهم الأرض وثبتها.
13- نعمة الله على خلقه الذي جعل لهم السماء سقفًا محفوظً.
14- إثبات علو الله على خلقه.(1/40)
15- الرد على من أنكر صفة العلو، كالجهمية.
16- عظيم نعم الله على خلقه بإنزال الماء.
17- في الآية دليل على كرم الله وجوده المتنوع.
18- أمر العباد بالاعتراف بنعمة الله.
19- تعداد النعم للاستدلال بها على وجوب عبادة الله.
20- النهي عن عبادة غير الله.
21- النهي عن جعل الأنداد لله.
22- إثبات الألوهية لله.
23- أن العباد مفطورون على الاعتراف بوجود الله.
24- الاعتراف بأن الله هو الخالق لهم ومن قبلهم.
25- إثبات أولية الله.
26- أن المخرج للأرزاق هو الله جل وعلا.
27- أنه أخرجها رزقًا للعباد.
28- أن العباد فقراء إلى الله.
29- دليل على غنى الله.
30- حلم الله على الكفار والعصاة الآكلين لنعمة العاصين له.
31- في الآية دليل على أن الله تعالى أغنى الإنسان عن كل مخلوق.
32- في الآية دليل على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال ما ليس معه دليل.
33- في الآية ما يدعو النفوس الكريمة إلى محبة الله وتعظيمه وإجلاله إذ النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.
قال أبو الطيب:
وأحسن وجه في الورى وجه محسن ... وأيمن كف فيهموا كف منعم
مما يفهم من قوله تعالى: { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } :
1- أن القرآن منزل غير مخلوق كما هو اعتقاد أهل السُّنة والجماعة.
2- رد على من قال إنه مخلوق كالمعتزلة والجهمية.
3- إثبات رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
4- الرد على من أنكر رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
5- الرد على من رفعه فوق منزلته كالبوصيري وأضرابه.
6- الرد على من قال إن القرآن كلام محمد أو جبريل.(1/41)
7- دليل عقلي على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحة ما جاء به حيث تحدى المعاندين له، الرادين دعوته، الزاعمين كذبه، فلم يقدروا على الإتيان بسورة من مثله.
8- إثبات الألوهية.
9- إثبات النار، وأنها حق.
10- أنها الآن موجودة؛ لقوله: { أُعِدَّتْ } .
11- أن وقودها الناس والحجارة.
12- أنه أخبر جل وعلا أنهم لن يفعلوا، وكان كذلك، فهذه معجزة وقعت.
13- التحذير من النار.
14- أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة هو الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلالة فهو الحري باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بُيِنَ له أنه كان صادقًا.
15- دليل على علو الله على خلقه.
16- رد على الجهمية المنكرين لعلو الله.
17- إثبات صفة الكلام لله.
18- أنهم بعجزهم عن الإتيان بمثله ظهر كذبهم؛ لقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا.
19- إثبات علم الله، فإنه أخبر جل وعلا أنهم لن يفعلوا وكان كذلك.
20- في الآية ما يدل على إن القرآن ينزل بالتدريج شيئًا فشيئًا.
21- أن الله يؤيد رسله بالمعجزات.
22- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صادق في دعواه.
23- أن المشركين المرتابين في صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - معاندين ومكابرين، وإلا كان عندما استبان عجزهم ولزمتهم الحجة أن يرجعوا إلى الحق.
24- أن النار جزاء المعاند الكافر.
25- دليل على عدل الله، وأنه ما ظلمهم، ولكن كانوا هو الظالمين.
26- في الآية رد على نفاة صفة العلم، فالله أخبر أنهم لن يفعلوا، وكان كما قال جل وعلا وتقدس، عما يقوله الجهمية والقدرية ونحوهم.
27- دليل على حلم الله، إذ لم يعاجلهم بالعقوبة حينما كذبوا واسترابوا، وقالوا: ليس هذا من عند الله.
28- في الآية دليل على شرف النبي - صلى الله عليه وسلم - بإضافة عبوديته لله.
29- دليل على أن مقام العبودية أسمى المقامات.
30- في الآية تهديد مخيف لمن يعجزون عن هذا التحدي، ثم لا يؤمنون بالحق الأبلج الواضح.(1/42)
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
فيما أعد الله لعباده المؤمنين
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
قال الله تبارك وتعالى: { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
البشارة: أول خبر يرد على الإنسان، وسمي بشارة؛ لأنه يؤثر في بشرته، وهي ظاهرة جلده، فإن كان خيرًا أثر المسرة والانبساط، وإن كان شرًا أثر الغم والانكماش، والأغلب في عرف الاستعمال أن تكون البشارة في الخير والسرور مقيدًا بالخير المبشر به وغير مقيد، ولا يستعمل في الغم والشر إلا مقيدًا منصوصًا على الشر المبشر به، قال الله تعالى: { بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } ، وقال: { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ، ويقال: بشرته وبشرته –مخفف ومشدد.(1/43)
لما ذكر سبحانه وتعالى فيما تقدم ما أعد لأعدائه من الأشقياء الكافرين به ورسله من العذاب والنكال، وكان في ذلك أبلغ التخويف والإنذار عقب بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة جريًا على السنة الإلهية، من شَفْع الترغيب بالترهيب، والوعدِ بالوعيد؛ لأن مِن الناس مَن لا يجذبه التخويف ولا يجديه، وينفعه اللطف، ومنهم العكس، ومنهم مَن لا يفيد فيه إلا اجتماع الأمرين، فكان وما بعده معطوف على سابقه عطف القصة على القصة، والتناسب بينهما باعتبار أنها بيان لحال الفريقين المتباينين، وكشف عن الوصفين المتقابلين، وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصح قولي العلماء، وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر أو عكسه، أو حال السعداء ثم حال الأشقياء، أو عكسه، وحاصله ذكر الشيء ومقابله، وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه.
المعنى:
أخبر أيها الرسول، ومن قام مقامك، الذين آمنوا بقلوبهم وصدقوا المرسلين، وعملوا الصالحات بجوارحهم، فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة أن لهم جنات... إلخ، ووصفت أعمال الخير بالصالحات؛ لأن بها تصلح أحوال أمور الدين والدنيا، ويزول عن العامل بالصالحات فساد الأحوال ويكون من الصالحين الذي يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته.(1/44)
وقد بين الكتاب العزيز الأعمال الصالحة في آيات كثيرة، كقوله تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ العَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لآمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
فقوله: { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } يشمل كل عمل صالح، فأما الجنات فجمع جنة، وسميت الجنة جنة لاستتار أرضها بأشجارها، وسمي الجن جنًا لاستتارهم، والجنين لاستتارة في بطن أمه، و الدرع جنة، وجن الليل إذا استتر، أي بشرهم أن لهم جنات، أي بساتين جامعة للأشجار العجيبة، والثمار الأنيقة، والظل المديد، والأغصان والأفنان، وبذلك صارت جنة يجتن بها داخلها.
وقوله: { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } أي من تحت أشجارها ومساكنها وغرفها، لا من تحت أرضها، وقد جاء في الحديث: «إن أنهارها تجري في غير أخدود»، روى ابن أبي الدنيا عن أنس بن مالك، قال: «إنكم تظنون أن أنهار الجهة أخدود في الأرض، لا والله، إنها السائحة على وجه الأرض إحدى حافتيها اللؤلؤ، والآخر الياقوت، وطينه المسك الأذفر»، ولم يبين هنا أنواع الأنهار، ولكن بين ذلك في «سورة محمد» في قوله: { فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } . قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في أنهار الجنة:(1/45)
أنهارها من غير أخدود جرت
عسل مصفى ثم ماء ثم خمر
من تحتهم تجري كما شاءوا مفجرة
والله ما تلك المواد كهذي
هذا وبينهما يسير تشابه ... سبحان ممسكها عن الفيضان
ثم أنهار من الألبان
وما للنهر من نقصان
لكن هما في اللفظ مجتمعان
وهو اشتراك قام بالأذهان
وقوله: { كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } أي كلما رزقوا من الجنة رزقًا من بعض ثمارها، وفي قوله: { هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } ، وجوه:
أحدها: أن معناه هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، قاله مجاهد وابن زيد.
والثاني: أن معناه هذا الذي طمعنا من قبل، يعني في الجنة؛ لأنهم يرزقون ثم يرزقون، روي عن ابن عباس والضحاك ومقاتل، فإذا أتوا بطعام وثمار في أول النهار فأكلوا منها، ثم أتوا منها بآخر النهار، قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل، يعني أطعمنا في أول النهار؛ لأن لونه يشبه ذلك، فإذا أكلوا منها وجدوا لها طعمًا غير طعم الأول.
وقيل: إن ثمر الجنة إذا جنى خلفه مثله، فإذا رأوا ما خلف الجني اشتبه عليهم، فقالوا: هذا الذي رزقنا من قبل، قاله يحيى بن أبي كثير و أبو عبيدة.
وقوله: { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } فيه وجوه:
أحدها: أنه متشابه في الألوان مختلف في الطعوم، قاله مجاهد وأبو العالية والضحاك والسدي ومقاتل. الثاني: أنه يشبه بعضه بعضًا في الجودة، أي كلها خيار لا رديء فيه، قاله الحسن وابن جريج.
وقيل: يشبه ثمر الدنيا في الخلقة والاسم، غير أنه أحسن في المنظر والطعم، قاله قتادة وابن زيد، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: ليس في الجنة إلا الأسامي. قال ابن القيم -رحمه الله-:
وأتوا به متشابهًا في اللون
أو أنه متشابه في الاسم
أو أنه وسط خيار كله
أو أنه لثمارنا ذي مشبه
لكن لبهجتها ولذة طعمها
فيلذها في الأكل عند منالها
قال ابن عباس: وما بالجنة العليا
يعني الحقائق لا تماثل هذه
يا طيب هاتيك الثمار وغرسها(1/46)
وكذلك الماء الذي يسقى به
وإذا تناولت الثمار أتت
لم تنقطع أبدًا ولم تمنع ولم
بل ذللت تلك القطوف فكيف ما
ولقد أتى أثر بأن الساق من
قال ابن عاس وهاتيك الجذوع ... مختلف في الطعوم فذاك ذو ألوان
مختلف في الطعوم فذاك ذو ألوان
فالفحل منه ليس ذا ثنيان
في اسم ولون ليس يختلفان
أمر سوى هذا الذي تجدان
وتلذها من قبله العينان
سوى أسماء ما تريان
وكلاهما في الاسم متفقان
في المسك ذاك الترب للبستان
يا طيب ذاك الود للظمآن
نظيرتها فحلت دونها بمكان
تحتج إلى أن ترقى للقنوان
شئت انتزعت بأسهل الإمكان
ذهب رواه الترمذي ببيان
زمرد من أحسن الألوان
ثم لما ذكر مسكنهم وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم ذكر أزواجهم فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه وأوضحه، فقال: { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } ولم يبين هنا صفات تلك الأزواج، ولكن بين صفاتهم الجميلة في آيات أخر، كقوله: { وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } ، وقال: { وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ، وقال: { وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ } ، وقال: { وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا } ، وقال: { كَأَنَّهُنَّ اليَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ } ، وقال كذلك: { وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } .
وقوله: { مُّطَهَّرَةٍ } لم يقل مطهرة من العيب الفلاني ليشمل جميع أنواع التطهير، فهن مطهرات الأخلاق، مطهرات الخلق، مطهرات اللسان، مطهرات الأبصار، وأخلاقهن أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن، وحسن التبعل، والأدب القولي والفعلي، ومظهر خلقهن من الحيض والنفاس والبول والمني والغائط والمخاط والبصاق والرائحة الكريهة.
وعن ابن عباس: مطهرة من القذر والأذى، وقال مجاهد: من الحيض والغائط والبول والنخامة والبزاق، وهذا حديث غريب.(1/47)
وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأت ما بينهما ريحًا، ولنصفيها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» رواه البخاري.
وروي عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن قوله عز وجل: { حُورٌ عِينٌ } ، قال: العين الضخام العيون، شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر، قالت: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن قوله عز وجل: { كَأَنَّهُنَّ اليَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ } ، قال: «صفاؤهن كصفاء الدر الذي في الأصداف الذي لا تمسه الأيدي»، قلت: يا رسول الله، فأخبرني عن قول الله عز وجل: { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } ، قال: خيرات الأخلاق حسان الوجوه، قلت: يا رسول الله، فأخبرني عن قول الله عز وجل: { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } ، قال: «رقتهن كرقة الجلد الذي في داخل البيضة مما يلي القشرة»، قلت: يا رسول الله، فأخبرني عن قول الله عز وجل: { عُرُبًا أَتْرَابًا } ، قال: «هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز غمصًا شمطًا، خلقهن الله بعد الكبر فجعلهن عذارى عربًا متعشقات متحببات أترابًا على ميلاد واحد»، قلت: يا رسول الله، أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: «نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة»، قلت: يا رسول الله، وبِم ذلك؟ قال: «بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن لله عز وجل وجوههن النور وأجسادهن الحرير، بيض الألوان خضر الثياب، صفر الحلي، مجامرهن الدر أمشاطهن الذهب، يقلن ألا ونحن الخالدات فلا نموت أبدًا، ألا ونحن الناعمات فلا نبأس أبدًا، ألا ونحن المقيمات فلا نظعن أبدًا، ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدًا، طوبى لمن كنا له وكان لنا»، قلت: يا رسول الله، المرأة منا تتزوج الزوجين والثلاثة والأربعة في الدنيا، ثم تموت فتدخل(1/48)
الجنة ويدخلون معها، من يكون زوجها منهم؟ قال: «يا أم سلمة، تُخير فتختار أحسنهم خلقًا، فتقول: أي رب إن هذا كان أحسنهم معي خُلقًا في دار الدنيا، فزوجينه، يا أم سلمة، ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة» رواه الطبراني في «الكبير» و«الأوسط»، وهذا لفظه.
قال ابن القيم ـ رحمه الله -:
فاسمع صفات عرائس الجنات ثم
حور حسان قد كملن خلائقًا
حتى يحار الطرف في الحسن الذي
ويقول لما أن يشاهد حسنها
والطرف يشرب من كؤس جمالها
كملت خلائقها وأكمل حسنها
والشمس تجري في محاسن وجهها
فتراه يعجب وهو موضع ذاك من
ويقول سبحان الذي ذا نعه
وكلاهما مرآة صاحبه إذا
فيرى محاسن وجهه في وجهها
حمر الخدود ثغورهن لآلئ
والبرق يبدو حين يبسم ثغرها
لله لا ثم ذلك الثغر الذي
ريانة الأعطاف من ماء الشباب
لما جرى ماء النعيم بغصنها
فالورد والتفاح والرمان في
والقد منها كالقضيب اللدن في
في مغرس كالعاج تحسب أنه
لا الظهر يلحقها وليس ثديها
لكنهن كواعب ونواهد
والجيد ذو طول وحسن في بياض
يشكو الحلي بعاده فله مدى ... اختر لنفسك يا أخا العرفان
ومحاسنًا من أجمل النسوان
قد ألبست فالطرف كالحيران
سبحان معطي الحسن والإحسان
فتراه مثل الشارب النشوان
كالبدر ليل الست بعد ثمان
والليل تحت ذوائب الأغصان
ليل وشمس كيف يجتمعان
سبحان متقن صنعة الإنسان
ما شاء يبصر وجهه يريان
وترى محاسنها به بعيان
سود العيون فواتر الأجفان
فيضيء سقف القصر والجدران
في لثمه إدراك كل أمان
فغصنها بالماء ذو جريان
حمل الثمار كثيرة الألوان
غصن تعالى غارس البستان
حسن القوام كأوسط القضبان
عالي النقا أو واحد الكثبان
بلواحق للبطن أو بدوان
فثديهن كألطف الرمان
واعتدال ليس ذا نكران
الأيام وسواس من الهجران
والمعصمان فإن تشأ شبههما
كالزبد لينًا في نعومة ملمس
وهي العروب بشكلها وبدرها
وهي التي عند الجماع تزيد في
لطفًا وحسن تبعل وتغنج
تلك الحلاوة والملاحة أوجبا
فملاحة التصوير قبل غناجها(1/49)
فإذا هما اجتمعا لصب وامق ... بسبيكتين عليهما كفان
أصداف در دورت بوزان
وتحبب للزوج كل أوان
حركاتها للعين والأذنان
وتحبب تفسير ذي العرفان
إطلاق هذا اللفظ وضع لسان
هي أول وهو المحل الثاني
بلغت به اللذات كل مكان
وقوله تعالى: { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي دائمون لا يموتون فيها ولا يخرجون منها، وهذا هو تمام السعادة، فإنهم مع هذا النعيم المقيم آمنين من الموت والانقطاع فلا آخر له ولا انقضاء.
وعن أبي هريرة وأبي سعيد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لك أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا» رواه مسلم.
وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أهل الجنة يأكلون فيها، ويشربون، ولا يتفلون، ولا يبولون، ولا يتغوطون»، قالوا: فما بال الطعام؟ قال: «جشاء ورشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس» رواه مسلم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أهل الجنة جرد مرد كحلى، لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم» رواه الترمذي والدارمي.
وعن جابر قال: قيل: يا رسول الله، أينام أهل الجنة؟ قال: «النوم أخو الموت، ولا يموت أهل الجنة» رواه البيهقي في «شعب الإيمان».
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قلنا يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال: «لبنة ذهب، ولبنة فضة، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد لا يموت، ولا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه» الحديث رواه أحمد واللفظ له، والترمذي، والبزار، والطبراني في «الأوسط»، وابن حبان في «صحيحه».(1/50)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرءوا إن شئتم { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } ».
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم كأشد كوكب دري في السماء إضاءة، قلوبهم على قلب رجل واحد لا اختلاف بينهم ولا تباغض، لكل امرئ منهم زوجتان من الحور العين يرى مخ سوقهن من وراء العظم واللحم من الحسن، يسبحون الله بكرة وعشيًا، لا يسقمون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يتمخطون، آنيتهم الذهب، ووقود مجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعًا في السماء» متفق عليه.
وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر له سدرة المنتهى، قال: «يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة سنة –أو يستظل بظلها مائة راكب شك الراوي- فيها فراش الذهب، كأن ثمرها القلال» رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها» متفق عليه.
مما يفهم من الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } :
1- البشارة من العزيز الحكيم لمن آمن وعمل صالحات بالجنات وما فيها مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
2- أن أنهار الجنة جارية.
3- أنهم يرزقون فيها من الثمار.
4- أنه يتكرر الرزق.
5- أنه متشابه.
6- أن لهم فيها أزواج.
7- أنهن مطهرات الأخلاق والخلق واللسان.
8- أنهم في الجنة خالدون.
9- أن البشارة إنما تحصل لمن جمع بين الإيمان والعمل الصالح.(1/51)
10- دليل على كرم الله وجوده حيث وفقهم لذلك وجازاهم أحسن الجزاء.
11- دليل على إثبات صفة الكلام لله.
12- الرد على من قال إن القرآن كلام محمد - صلى الله عليه وسلم -، ووجه ذلك أنه هو المبشر.
13- أن الإيمان والعمل الصالح سبب للحصول على هذه البشارة العظيمة.
14- إثبات الجنة.
15- إثبات البعث والحشر.
16- إثبات الجزاء على الأعمال.
17- لطف الله بخلقه حيث أرشدهم إلى ما فيه صلاحهم.
18- أن نعيم الجنة لا ينقطع.
19- إثبات صفة العلم لله، وأن الله جل وعلا، كما أنه يعلم الماضي فهو يعلم المستقبل، فأخبر سبحانه عما سيكون من الأرزاق.
20- الحث على إقامة الصلاة؛ لأنها في مقدمة الأعمال الصالحة.
21- الحث على إيتاء الزكاة؛ لأنها تلي الصلاة.
22- الحث على الصيام؛ لأنه يلي الزكاة.
23- الحث على الحج؛ لأنه يلي الصيام، فهذه في طليعة الأعمال الصالحة.
24- بر الوالدين؛ لأنه من الأعمال الصالحة.
25- الجهاد في سبيل الله؛ لأنه منها.
26- صلة الأرحام؛ لأنه كذلك.
27- الإحسان إلى اليتامى؛ لأنه من الأعمال الصالحات.
28- الإحسان إلى المساكين.
29- الإحسان إلى الجيران.
30- الإحسان إلى ابن السبيل.
31- الحث على العدل؛ لأنه من الأعمال الصالحة.
32- إكرام الضيف؛ لأنه من الأعمال الصالحة.
33- الوفاء بالعهد.
34- أداء الأمانة.
35- الأمر بالمعروف.
36- النهي عن المنكر.
37- صدقة التطوع.
38- النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ لأن هذه وما بعدها داخل في الأعمال الصالحة.
39- الإكثار من تلاوة القرآن الكريم.
40- ذكر الله؛ لأنه من الأعمال الصالحات.
41- الحث على الاستغفار؛ لأنه عمل صالح.
42- العفو والصفح عمن أساء؛ لأنه عمل صالح.
43- الحث على الصدق في القول والفعل؛ لأنه عمل صالح.(1/52)
44- المشاركة في الأعمال الخيرية من بناء مساجد، ووقف مصاحف، والكتب الدينية، ووقف أرض مقبرة للمسلمين، ومياه، ونحو ذلك؛ لأنها من الأعمال الصالحة إذا أريد بها وجه الله والدار الآخرة.
والأعمال الصالحة من ابتغاها وجدها، وفيما ذكرنا كفاية، والله يهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين، والله أعلم.
وصل الله على محمد وآله وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
في إثبات الوحدانية لله وأدلتها
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
قال الله تبارك وتعالى: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الَليْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } .
قال ابن عباس في سبب نزول الآية الأولى: إن كفار قريش قالوا: يا محمد، صف لنا ربك، فنزلت هذه الآية وسورة الإخلاص.(1/53)
المعنى: هذا إخبار منه تعالى عن تفرده بالإلهية، وأنه لا شريك له ولا عديل، بل هو الله الأحد الفرد الصمد الذي لا إله إلا هو، فلا يستحق العبادة إلا هو، والشرك ضربان:
الأول: شرك في الألوهية والعبادة بأن يصرف نوعًا من أنواع العبادة لغير الله، أو يعتقد أن في الخلق من يشارك الله، أو يعينه في أفعاله، أو يحمله على بعضها، ويصده عن بعض آخر.
قال ابن القيم -رحمه الله-:
والشرك فاحذره فشرك ظاهر
وهو اتخاذ الند للرحمن أيا
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ... ذا القسم ليس بقابل الزعفران
كان من حجر ومن إنسان
ويحبه كمحبة الديان
والثاني: شرك في الربوبية بأن يسند الخلق والتدبير إلى غيره معه، أو أخذ أحكام الدين من عبادة وتحليل وتحريم من غير الكتاب والسُّنة.
وقوله: { الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } اسمان دالان على أنه تعالى ذو رحمة واسعة وسعت كل شيء وعمت كل حي، وكتبها للمتقين المقيمين الصلاة المؤتون الزكاة، المتبعين لأنبياء الله ورسوله، فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة، ومن عداهم فله نصيب منها.
وقوله: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ } في سبب نزولها وجوه:
أحدها: أن المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اجعل لنا الصفا ذهبًا إن كنت صادقًا، فنزلت هذه الآية، حكاه السدي عن ابن مسعود وابن عباس.
والثاني: أنهم لما قالوا: أنسب لنا ربك وصفه، فنزلت: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } قالوا: فأرنا آية ذلك، فنزلت: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } إلى قوله: { يَعْقِلُونَ } روي عن ابن عباس.
والثالث: أنه لما نزلت: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } قال كفار قريش: كيف يسمع الناس إله واحد؟ فنزلت هذه الآية.(1/54)
المعنى: إن إنشاء السموات والأرض وابتداعهما وارتفاع السماء وإمساكها بلا عمد، ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت، ودوران فلكها، ولا تفاوت، ولا اختلاف، ولا تنافر، ولا نقص، ولا عيب، ولا خلل، ولا خروق، كما قال تعالى في الآية الأخرى في «سورة تبارك»: { مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ } الآية، فكل ذلك دليل على قدرة الله وانفراده بالخلق والتدبير.
وهذه الأرض في كثافتها وانخفاضها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها، وما فيها من الآيات المشاهدة العظيمة من حيوان وأشجار ونبات وزروع وثمار، وما فيها من معادن ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص، قال الله تعالى: { وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ } فكل ما فيها يدل على إنفراد الله تعالى بالخلق والتدبير، وبيان قدرته، وعظمته التي بها خلقها وحكمته التي بها أتقنها وأحسنها ونظمها، وعلمه ورحمته التي بها أودع ما أودع من منافع الخلق ومصالحهم وضروراتهم وحاجاتهم، وفي ذلك أبلغ دليل على كماله، واستحقاقه أن يفرد بالعبادة؛ لإنفراده بالخلق والتدبير، والقيام بشئون عباده.(1/55)
وفي اختلاف الليل والنهار، وهو تعاقبهما على الدوام إذا ذهب هذا خلفه الآخر لا يتأخر عنه لحظة، قال تعالى: { لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } ، وفي الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتعارضان، كما قال تعالى: { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } أي يزيد من هذا في هذا، ومن هذا في هذا، وما ينشأ عن ذلك من الفصول التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم، وجميع ما على وجه الأرض من أشجار ونوابت، كل ذلك بانتظام وتدبير وتسخير تنهر له العقول؛ وذلك مما يدل على قدرة مصرفها وعلمه وحكمته ورحمته الواسعة ولطفه الشامل، وتصريفه وتدبيره الذي تفرد به، وعظمته وعظمة ملكه وسلطانه، ومما يوجب أن يؤله ويعبد، وأن يبذل الجهد في محابه ومراضيه، ويفرد بالمحبة والتعظيم والخوف والرجاء، وجميع أنواع العبادة.(1/56)
قال ابن القيم: فانظر إلى هاتين الآيتين وما تضمناته من العبر والدلالات على ربوبية الله وحكمته، كيف جعل الله سكنًا ولباسًا، يغشي العالم فتسكن فيه الحركات، وتأوي الحيوانات إلى بيوتها، والطير إلى أوكارها، وتستجم فيه النفوس وتستريح من كد السعي والتعب، حتى إذا أخذت منه النفوس راحتها وسباتها، وتطلعت إلى معايشها وتصرفها، جاء فالق الإصباح سبحانه وتعالى بالنهار يقدم جيشه بشير الصباح فهزم تلك الظلمة ومزقها كل ممزق، وكشفها عن العالم، فإذا هم مبصرون، فانتشر الحيوان وتصرف في معاشه ومصالحه، وخرجت الطيور من أوكارها، فيا له من معاد ونشأة دالة على قدرة الله سبحانه على الميعاد الأكبر، وتكرره ودوام مشاهدة النفوس له بحيث صار عادة ومألفًا منعها من الاعتبار به والاستدلال به على النشأة الثانية وإحياء الخلق بعد موتهم، ولا ضعف في قدرة القادر التام القدرة، ولا قصور في حكمته ولا في علمه يوجب تخلف ذلك، ولكن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهذا أيضًا من آيات الله الباهرة أن يعمي عن هذه الآيات البينة من شاء من خلقه، فلا يهتدي بها ولا يبصرها، وبهذا يعرف الله عز وجل، ويشكر ويحمد، ويتضرع إليه ويسأل. اهـ.
وقوله: { وَالْفُلْكِ الَتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ } : هي السفن والمراكب ونحوها مما ألهم الله عباده صنعتها، وخلق لهم من الآلات ما أقدرهم عليها وسخر لهم هذا البحر العظيم، والرياح التي تحملها بما فيها من الركاب والبضائع والأموال التي هي من منافع الناس، وبما تقوم به مصالحهم وتنتظم به معايشهم.(1/57)
وقائد السفن وسائقها الرياح التي سخرها الله لإجرائها، فلو وقف الهواء عن السفن لظلت راكدة على وجه الماء، كما قال تعالى: { وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فما أعظمها من آية وأبينها من دلالة على قدرة الله ورحمته وعنايته ولطفه بخلقه، وذلك يوجب أن تكون المحبة كلها له، والخوف والرجاء، وجميع أنواع العبادة والذل والخضوع.
وقوله: { وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أي وفيما أنزل الله من ماء، وهو المطر، وقد وصف الله سبحانه وتعالى في آية أخرى كيف ينزل، فقال: { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ } .
قال ابن القيم -رحمه الله-: ثم تأمل الحكمة البالغة في نزول المطر على الأرض من علو ليعم بسقيه وهادها وتلواها وظرابها وآكامها ومخفضها ومرتفعها، ولو كان ربها تعالى إنما يسقيها من ناحية من نواحيها لما أتى الماء على الناحية المرتفعة، إلا إذا اجتمع في السفلى وكثر، وفي ذلك فساد، فاقتضت حكمته أن سقاها من فوقها.
وقال -رحمه الله-: ثم تأمل الحكمة البالغة في إنزاله بقدر الحاجة حتى إذا أخذت الأرض حاجتها منه وكان تتابعه عليها بعد ذلك يضرها أقلع عنها وأعقبه بالصحو، فهما –أعني الصحو والغيم- يتعاقبان على العالم؛ لما فيه صلاحه، ولو دام أحدهما كان فيه فساده، فلو توالت الأمطار لأهلكت جميع ما على الأرض، ولو زادت على الحاجة أفسدت الحبوب فأحدثت ضروبًا من الأمراض وفسد أكثر المأكل، وتقطعت المسالك والسبل، ولو دام الصحو لجفت الأبدان، وغيض الماء، وانقطع معين العيون والآبار والأنهار والأودية. اهـ.(1/58)
وكل أرض لا ينزل عليها الماء من السماء، ولا يجري فيها الماء من الأرضين الممطورة تكون خالية من النبات، فبنزول الماء على هذا النحو المشاهد، وكونه سببًا في حياة الحيوان والنبات أعظم دلالة على وحدانية المخترع المبدع ورحمته ولطفه بعباده، وقيامه بمصالحهم، وشدة افتقارهم وضرورتهم إليه من كل وجه.
وقوله: { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ } أي وفيما بث فيها: أي نشر وفرق في الأرض من الدواب المتنوعة المحكمة المتقنة خلقه، ما هو دليل لمن تأمل ذلك على قدرة الله وعظمته ووحدانيته وعلمه وقوته وسلطانه العظيم، وسخرها للناس ينتفعون بها، فمنها ما يأكلون لحمه ويشربون من لبنه وما يركبونه، ومنها ما هو ذكر الله جل وعلا: { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } ومنها ما هو ساع في مصالحهم وحراسنهم، ومنها ما يعتبر به، وغير ذلك من المنافع، وهو سبحانه يعلم ذلك كله، وهو القائم بأرزاق المتكفل بأقواتهم، قال تعالى: { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } .
وقوله: { وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } تصريفها إرسالها عقيمًا تارة، وملقحة أخرى، وصرًا ونصرًا وهلاكًا، وحارة وباردة، وعاصفة ولينة، وقيل: تصريفها إرسالها جنوبًا وشمالاً، ودبورًا وصبًا ونكباءً، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين، وسميت ريحًا؛ لأنها تريح النفوس.(1/59)
قال شريح: ما هبت ريح إلا لشفاء سقيم أو لسقم صحيح، والبشارة في ثلاث من الرياح: في الصبا، والشمال، والجنوب، أما الدبور: فهي الريح العقيم، لا بشارة فيها، وتأمل كم سخر للسحاب من ريح حتى أمطر، فسخرت له المثيرة أو لا فتثيره بين السماء والأرض، ثم سخرت له الحاملة التي تحمله على متنها كالجمل الذي يحمل الراوية، ثم سخرت له المؤلفة فتؤلف بينه، ثم يجتمع بعضه إلى بعض فيصير طبقًا واحدًا، ثم سخرت الملقحة بمنزلة الذكر الذي يلقح الأنثى فتلقحه بالماء ثم سخرت المزجية التي تزجيه وتسوقه إلى حيث وتفرقه في الجو فلا ينزل مجتمعًا، ولو نزل جملة لأهلك المساكن والحيوان والنبات، بل تفرقه فتجعله قطرًا، وكذلك الرياح التي تلقح الشجر والنبات، ولولا الله ثم لولاها لكانت عقيمة.
ومن منافعها سوق السفن كما مر، وتجفيف ما يحتاج إلى جفاف وتبريد الماء، وإضرام النار التي يرد إضرامها.
وبالجملة، فحياة ما على الأرض من نبات وحيوان بالرياح، فإنه لولا تسخير الله لها لعباده لذوي النبات، ومات الحيوان، وفسدت المطاعم، وأنتن العالم وفسد، ألا ترى إذا ركدت الرياح كيف يحدث الكرب والغم الذي لو دام لأتلف النفوس، وأسقم الحيوان، وأمرض الأصحاء، وأنهك المرضى، وأفسد الثمار وعفن الزرع، وأحدث الوباء في الجو. اهـ بتصرف.
إذا فهمت ذلك، فاعلم أن الذي صرفها هذا التصريف وأودع فيها من منافع العباد ما لا يستغنون عنهن وسخرها ليعيش فيها جميع الحيوانات، وتصلح الأبدان، والأشجار، والحبوب والثمار والنوابت، هو الله العزيز الحكيم الرؤوف الرحيم اللطيف بعباده، المستحق للعبادة وحده لا شريك له، المستحق للمحبة والإنابة والخضوع لعظمته.(1/60)
وقوله: { وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } أي وفي تسخير السحاب بين السماء والأرض على خفته ولطافته يحمل الماء الكثير فيسوقه الله إلى حيث شاء، فيحيى به البلاد والعباد، ويروي به التلول والوهاد وينزله على الخلائق وقت حاجتهم إليه، فإذا كان يضربهم أمسكه عنهم، فينزله رحمة ولطفًا ويصرفه عناية، فما أعظم سلطانه وأغزر إحسانه وألطف امتنانه، ومن تدبر هذه المخلوقات وتغلغل فكره في بدائع المبتدعات، وازداد تأمله للصنعة، وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة علم بذلك أنها خلقت للحق وبالحق، وأنها آيات دالة على ما أخبر به عن نفسه ووحدانيته، وما أخبر به الرسل من اليوم الآخر، وأنها مسخرات ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومسخرها ومصرفها، وعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون، وإليه صامدون، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات، فلا إله إلا هو، ولا رب سواه جل وعلا وتقدس.
أخرج ابن أبي الدنيا، وابن مردويه عن عائشة -رضي الله عنها-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ هذه الآية، قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها».
وفيها تعريض بجهل المشركين الذين اقترحوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - آية تصدقه، وتسجل عليهم بسخافة العقول، وإلا فمن تأمل في تلك الآيات العظيمات التي الواحدة منها تكفي دليلاً على وجوده تعالى ووحدانيته وسائر صفات كماله الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى، وجد كلاً منها مشتملاً على وجوه كثيرة من الدلالة على وحدانية الله وسائر صفاته.
تأمل سطور الكائنات فإنها
وقد كان فيها لو تأملت خطها ... من الملك الأعلى إليك رسائل
ألا كل شيء ما خلا الله باطل(1/61)
وقوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العَذَابِ } بعد أن ذكر سبحانه فيما تقدم من ظواهر الكون ما يدل بعضه، فكيف كله! على توحيده جل وعلا، ورحمته، وحكمته، وقوته، وعلمه، وقدرته، أخبر أنه مع هذا الدليل الظاهر قد وجد من لا ينظر ولا يعقل تلك الآيات التي أقامها، برهانًا على وحدانيته فيحيد عن التوحيد الذي يوحي به كل ما في الوجود عند التأمل والتفكير، فاتخذ مع الله ندًا يعبده من الأصنام كعبادة الله ويساويه به في المحبة والتعظيم، والمحبة المذكورة: هي المحبة الشركية المستلزمة للخوف والتعظيم والإجلال والإيثار على مراد النفس، وهذه صرفها لغير الله شرك أكبر ينافي التوحيد بالكلية؛ لأنها من أعظم أنواع العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله.
وفي الآية قولان:
أحدهما: والذين آمنوا أشد حبًا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم وآلهتهم التي يحبونها ويعظمونها من دون الله.
والثاني: والذين آمنوا أشد حبًا لله من محبة أهل الأنداد لله؛ لأن محبة المؤمنين خالصة لله، ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها، والمحبة الخالصة أشد من المشتركة بلا شك ولا ريب.
فمن قال بالقول الأول لم يثبت للكفار محبة الله تعالى، ومن قال بالقول الثاني أثبت للكفار محبة الله تعالى، لكن جعلوا الأصنام شركاء له في الحب.(1/62)
وكان شيخ الإسلام يرجح القول الأول، ويقول: إنما ذموا بأن أشركوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ولم يخلصوها لله كمحبة المؤمنين له، وهذه التسوية المذكورة في قوله تعالى حكاية عنهم، وهم في النار يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة في العذاب: { تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ } [الشعراء: 97، 98]، ومعلوم أنهم لم يسووهم برب العالمين في الخلق والربوبية، وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم، وهذا أيضًا هو العدل المذكور في قوله تعالى: { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [الأنعام: 1] أي يعدلون به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم، وهو أصح القولين. اهـ.
وقوله: { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العَذَابِ } ثم توعد الله تعالى المشركين به الظالمين لأنفسهم بتدنيسها بالشرك وظلم الناس وغشهم بحملهم على أن يحذوا حذوهم، ويتخذوا الأنداد مثلهم أي لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله، ولتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة، فالحكم له وحده لا شريك له وجميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه، وأن الله شديد العذاب، كما قال تعالى: { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } .(1/63)
والخلاصة: أنه يتبين للمشركين في ذلك اليوم ضعف أنداهم وعجزها لا كما اشتبه عليهم في الدنيا، فظنوا أن لها من الأمر شيئًا، وأنها تقربهم إلى الله زلفى، كما ذكر الله عنهم بقوله: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } فخاب ظنهم وبطل سعيهم، وحق العذاب عليهم، ولم تدفع عنهم آلهتهم شيئًا، ولم تغن عنهم مثقال ذرة كما أخبر جل وعلا في الآية الأخرى بقوله: { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } ، وقال: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } الآية.
ثم بين جل وعلا حال التابعين والمتبوعين يوم القيامة يوم ينكشف الغطاء، ويرى الناس العذاب بأعينهم، فقال: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ } .(1/64)
المعنى: لو يرون حين يتبرأ الرؤساء المضلون الذين اتبعوا من أتباعهم الذين أغووهم في الدنيا، ويتنصلوا من إضلالهم، فتتبرأ منهم الملائكة كانوا يزعمون أنهم كانوا يعبدونهم في الدار الدنيا، فتقول الملائكة: تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون، ويقولون: سبحانك أنت ولينا من دونهم، بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون، والجن أيضًا تتبرأ منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم، كما قال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } ، وقال تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًا * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًا } ، وقال إبراهيم خليل الرحمن: { إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ } .(1/65)
وقال تعالى إخبارًا عما سيقوله إبليس –لعنه الله-: { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، وفي «سورة سبأ» ذكر جل وعلا موقفًا من مواقف المشركين يناقش فيه بعضهم بعضًا في حالهم التي وصلوا إليها قال: { رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ القَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ، وفي «سورة غافر» ذكر جل وعلا: { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العِبَادِ } .
وقوله: { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ } ، في الأسباب أربعة أقوال:
أحدها: أنها المودات، وإلى نحوه ذهب ابن عباس ومجاهد.(1/66)
والثاني: أنها الأعمال، رواه السدي عن ابن مسعود وابن عباس وهو قول أبي صالح وان زيد.
والثالث: أنها الأرحام، رواه ابن جريج عن ابن عباس.
والرابع: أنها تشمل جميع ذلك.
فيدخل في ذلك الصلة التي كانت بين الأتباع والمتبوعين في الدنيا من الأنساب والقرابة والصداقة والمودة والصلات والأواصر والعلاقات، وسقطت الرياسات والقيادات التي كان المخدعون يتبعونها وعجزت عن وقاية أنفسها، فضلاً عن غيرها، وانشغل كل إنسان بنفسه تابعًا كان أو متبوعًا، قال الله تعالى: { يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } ، وقال: { يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } ، وقال: { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } .
ثم أخبر تعالى عما يقوله الأتباع حينما عاينوا تبري الرؤساء منهم وندموا على ما فعلوا من إتباعهم لهم في الدنيا، فقال: { وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا } وفي هذا الكلام يبدو الغيظ والحنق من التابعين المخدوعين في القيادات الضالة.
والمعنى: أن الأتباع يتمنون لو ردوا إلى الدنيا فيتبرءوا من تبعتهم لتلك القيادات العاجزة الضعيفة في حقيقتها التي خدعتهم ثم تبرأت منهم أمام العذاب، إنه مشهد مؤثر، مشهد التبرؤ والتعادي والتخاصم بين التابعين والمتبوعين، وهم كاذبون في قولهم لو أن لنا عودة إلى الدار الدنيا حتى نتبرأ من هؤلاء ومن عبادتهم، فلا نلتفت إليهم، بل نوحد الله وحده بالعبادة، بل لو ردوا لكانوا كما ذكر الله جل وعلا: { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } .(1/67)
وقوله: { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ } ، فيها أقوال:
أحدها: أن المراد المعاصي، يتحسرون عليها لما عملوها، قال الزجاج: أي كتبرؤ بعضهم من بعض، يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم؛ لأن أعمال الكافر لا تنفعه.
وقال ابن الأنباري: يريهم الله أعمالهم القبيحة حسرات عليهم إذا رأوا المجازاة للمؤمنين بأعمالهم.
وقيل: يريهم الله مقادير الثواب التي عرضهم لها لو فعلوا الطاعات فيتحسرون عليه لما فرطوا فيه.
والحسرة: التلهف على الشيء الفائت، وقيل: الحسرة شدة الندم والكمد، وهي تألم القلب وانحساره عما يؤلمه، بحيث يبقى النادم كالحسير من الدواب، وهو الذي انقطعت قوته فصار حيث لا ينتفع به، وأصل الحسر الكشف.
وقوله: { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } هذا إخبار منه جل وعلا أنهم فيها دائمون لا يخرجون منها، وهذا قول أهل السُّنة والجماعة؛ ولقوله تعالى: { وَلاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ } .(1/68)
ومن الأدلة قوله تعالى: { إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ } ، وقوله: { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } ، وقوله: { الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الكُبْرَى * ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى } ، وقوله: { مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَائِه عَذَابٌ غَلِيظٌ } ، وقوله: { وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًا } ، وقوله: { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا } ، وقوله: { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا } ، وقوله: { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا } ، وقوله: { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } ، وقوله: { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } ، وقوله: { لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا } ، وقوله: { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } ، وقوله: { أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي } ، وقوله: { فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا } ، وقوله: { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ، وقوله: { كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا } ، وقوله: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا } .
ومن السُّنة ما ورد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ويذبح، ويقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت» رواه البخاري.(1/69)
وأخرج الشيخان عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم يا أهل النار لا موت، ويا أهل الجنة لا موت، كل خالد بما فيه».
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو قيل لأهل النار إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا، ولو قيل لأهل الجنة إنكم ماكثون في الجنة عدد كل حصاة في الدنيا لحزنوا، ولكن جعل لهم الأبد» أخرجه الطبراني، وأبو نعيم، وابن مردويه.
ومما يستفاد من الآيات السابقة:
1- إثبات وحدانية الله.
2- نفي الشريك عن الله.
3- إثبات الأسماء لله.
4- إثبات صفة الرحمة.
5- أن في خلق السموات والأرض ما يدل على إنفراد الله والتدبير.
6- إثبات قدرة الله.
7- دليل على عظمة الله.
8- دليل على علم الله.
9- دليل على لطف الله بعباده حيث دلهم على ما يعود إلى مصالحهم من معرفته وتعظيمه.
10- إن في هذه المخلوقات ما يدل على وجوب إفراد الله بالمحبة والخضوع.
11- دليل على علو الله على خلقه.
12- إثبات الألوهية.
13- دليل على حكمة الله.
14- دليل على رحمة الله واعتنائه بخلقه.
15- أن الله لم يهمل الخلق ولم يتركهم سدى.
16- الحث على التدبر والتفكر.
17- إقامة الحجج والبراهين على إنفراد الله بالخلق والتدبير وبيان قدرة الله.
18- دليل على افتقار الخلائق إلى الله وشدة حاجتهم إليه وإلى لطفه بهم ورزقه لهم.
19- دليل على كرم الله وجوده.
20- دليل على حلم الله على خلقه.
21- أن الشيء إذا ألف فقد الإنسان جدته وغرابته، كما في هذه المخلوقات التي لو لم نرها ورأيناها فجأة لاندهشنا ورأينا عجائب هذا الكون.
22- إن الذي ينتفع بآيات الله العاقل.
23- أن هناك من لا ينظر ولا يتعقل ويحيد عن التوحيد.
24- أن المؤمنين لا يحبون شيئًا حبهم لله، لا أنفسهم ولا سواهم.
25- أن الله خلق الأسباب والمسببات.
26- إثبات الأفعال الاختيارية.(1/70)
27- دليل على البعث.
28- دليل على الحشر والحساب.
29- دليل على غنى الله.
30- أن في تعاقب الليل والنهار على الدوام، واختلافهما في الحر والبرد، والتوسط والطول والقصر، وما ينشأ عن ذلك من الفصول التي بها انتظام مصالح العباد وحيواناتهم، وجميع ما على وجه الأرض من أشجار ونوابت ما يدل على وحدانية الباري وألوهيته وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته التي وسعت كل شيء وعمت كل حي.
31- أن في الفلك تسخيرها وجريانها على وجه الماء وهي ثقيلة كثيفة وموقرة بالأثقال والرجال ولا ترسب، وجريانها بالريح مقبلة ومدبرة بالذي ينفع الناس ما يدل على قدرة الله وقوته وعلمه ورحمته وعنايته بخلقه.
32- أن في ذلك ما يوجب أن تكون المحبة كلها لله والخوف والرجاء وجميع الطاعة والذل والتعظيم.
33- أن في إنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض به ما يدل على قدرة الله وحكمته ورحمته.
34- أن فيما بث الله في الأرض من الدواب ومن جميع الخلق من الناس وغيرهم آية دالة على وحدانية الله وعلمه وحكمته ورحمته وسائر صفات كماله، والآية في الإنسان أن جنسه يرجع إلى أصل واحد وهو آدم، ثم ما فيهم من الاختلاف في الصور، والأشكال، والألوان، والألسنة، والطباع، والأخلاق والأوصاف إلى غير ذلك، ثم يقاس على بني آدم سائر الحيوان.
35- أن في تصريف الرياح وتدبيرها وتوجيهها على حسب إرادة الله جل وعلا، فمرة من الشمال، وأخرى من الدبور، وأخرى من الجنوب، وفي كيفيتها تارة حارة، وتارة باردة، وفي أحوالها عاصفة ولينة، وفي آثارها عقمًا ولواقح، ما يدل على وحدانية الله وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته فسبحان الله الواحد الرحمن الرحيم لا إله إلا هو.
36- أن في تذليل السحاب بين السماء والأرض على خفته ولطافته وتكونه وتجمعه وحمله الماء الكثير ثم نزوله مطرًا وتبدده في الجهات التي أرادها له خالقه ما يدل على وحدانية الله ورحمته بالعباد وقدرته.(1/71)
37- أن في كل ظواهر هذا الكون عبر ومواعظ لمن يعقل ويتدبر وينظر ويفكر ليدرك الحكم والأسرار، ويستدل بما فيها من الإتقان والإحكام على قدرة مبدعها وحكمته وعلمه وعظيم رحمته، وأنه المستحق للعبادة دون غيره من خلقه.
38- أن الظالمين لو عاينوا العذاب لعلموا أن القوة لله ولتبينوا ضرر اتخاذ الآلهة.
39- أنه في ذلك اليوم يتبرأ التابع من المتبوع.
40- أن الوصل والروابط التي كانت بين المشركين تنقطع وتنحل ويحل محلها عداوة كما يبدو ذلك من كلام الأتباع.
41- أنه في ذلك يتبين خداع المتبوعين للأتباع.
42- أن في ذلك اليوم يحصل جدال وتخاصم.
43- أن الله يرى الكفار أعمالهم.
44- أن الكفار يحصل لهم تحسر وندامة.
45- أنهم دائمون في النار.
46- إثبات النار وأنها لمن كفر بالله.
47- دليل على بقاء النار.
48- الحث على خوف الله والخوف من أليم عقابه.
49- أن الله جل وعلا يمهل ولا يهمل.
50- في الآية دلالة على أنهم كانوا قادرين على الطاعة والمعصية وإلا لما تحسروا، ففيها رد على الجبرية.
51- فيها رد على الجهمية ونحوهم من نفاة الصفات.
52- دليل على إثبات صفة الكلام لله والرد على من أنكرها.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
في معنى البر
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم(1/72)
قال الله سبحانه وتعالى: { لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ } .
قال ابن كثير على هذه الآية: فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولاً التوجه إلى بيت المقدس، ثم حولهم إلى الكعبة شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل، وامتثال أوامره، والتوجيه حيثما وجه، واتباع ما شرع، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة المشرق أو المغرب بر ولا طاعة إن لم يكن عن أمر الله وشرعه؛ ولهذا قال: { لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية، كما قال في الأضاحي والهدايا: { لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ } .
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا، فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة، ونزلت الفرائض والحدود، فأمر الله بالفرائض والعمل بها.
وروى الضحاك ومقاتل نحو ذلك.(1/73)
وقال أبو العالية: كانت اليهود تقبل قبل المغرب والنصارى تقبل قبل المشرق، فقال الله تعالى: { لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } يقول هذا كلام الإيمان وحقيقة العمل.
وروي عن الحسن والربيع عن أنس مثله.
وقال مجاهد: ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله عز وجل.
وقال الضحاك: ولكن البر والتقوى أن تؤدوا الفرائض على وجوهها.
وقال الثوري: { وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } الآية، قال: هذه الأنواع كلها ـ وصدق رحمه الله ـ ؛ فإن من اتصف بهذه الآية فقد دخل في عرى الإسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله، وهو الإيمان بالله وأنه لا إله إلا هو وأنه رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق الرازق، المحيى المميت، المدبر لجميع الأمور وأنه المستحق لأن يفرد بالعبودية والذل والخضوع وجميع أنواع العبادة، وأنه المتصف بصفات الكمال، المنزه عن كل عيب ونقص.
وقوله: { وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي ومن البر الإيمان باليوم الآخر، وهو الإيمان بكل ما أخبر به الله في كتابه أو أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعد الموت، ويدخل في ذلك التصديق بعذاب القبر ونعيمه، والبعث بعد الموت، والحشر، والحساب، والميزان، والصراط، والحوض، والجنة، والنار، وما أعد الله لأهلهما إجمالاً وتفصيلاً.(1/74)
وقوله: { وَالْمَلائِكَةِ } أي ومن البر الإيمان بملائكة الله، وهو التصديق الجازم بأن لله ملائكة موجودون مخلوقون من نور، وأنهم كما وصفهم الله عباده مكرمون، يسبحون الله والنهار لا يفترون، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وأنهم قائمون بوظائفهم التي أمرهم الله بالقيام بها أتم القيام، ويجب الإيمان على التفصيل بمن ورد تعيينه باسمه المخصوص كجبريل وميكائيل وإسرافيل ورضوان ومالك، فجبريل هو الموكل بأداء الوحي، وهو الروح الأمين، وميكائيل هو الموكل بالقطر، وإسرافيل الموكل بالصور، ومنهم الموكل بأعمال العباد وهم الكرام الكاتبون، ومنهم الموكل بحفظ العبد من بين يديه ومن خلفه وهم المعقبات، ومنهم الموكل بالجنة ونعيمها وهم رضوان ومن معه، ومنهم الموكل بالنار وعذابها وهم مالك ومن معه، ومنهم الموكل بفتنة القبر، وهم منكر ونكير، ومنهم حملة العرش، ومنهم الموكل بالنظف في الأرحام وكتابة ما يُراد بها، ومنهم ملائكة يدخلون البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعن ألفًا ثم لا يعودون، ومنهم ملائكة سياحون يتبعون مجالس الذكر، وغير ذلك.
ويجب التصديق بمن لم يرد تعيينه باسمه المخصوص ولا تعيين نوعه المخصوص إجمالاً، والله أعلم بعدد الملائكة، قال الله تعالى: { كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ } الآية، وكما في هذه الآية فجعل الإيمان هو الإيمان بهذه الجملة، وسمي من آمن بهذه الجملة مؤمنين، كما جعل الكافرين من كفر بهذه الجملة بقوله: { وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ } الآية، وفي حديث جبريل: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه» إلخ.(1/75)
وقوله: { وَالْكِتَابِ } أي ومن البر الإيمان بالكتاب، وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء حتى ختمت بأشرفها، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب، الذي انتهى إليه كل خير، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة، ونسخ به كل ما سواه من الكتب قبله، والإيمان بكتب الله هو التصديق الجازم بأن لله كتبًا أنزلها على أنبيائه ورسله، وهي من كلامه حقيقة، وأنها نور وبرهان وهدى، وأن ما تضمنته حق وصدق، ولا يعلم عددها إلا الله، وأنه يجب الإيمان بها جملة إلا ما سمي منها، وهي: التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن، وصحف إبراهيم وموسى، فيجب الإيمان بهذه على التفصيل والبقية إجمالاً.
ويجب مع الإيمان بالقرآن وأنه منزل من عند الله الإيمان بأن الله تكلم به حقيقة كما تكلم بالكتب المنزلة على أنبيائه ورسله، وأنه المخصوص بمزية الحفظ من التغيير والتبديل والتحريف، قال الله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ، وقال: { لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } .
ومنزلة القرآن من الكتب المتقدمة كما ذكر الله فيه، قال الله تعالى: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } ، وقال: { وَمَا كَانَ هَذَا القُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العَالَمِينَ } .(1/76)
وقوله: { وَالنَّبِيِّينَ } أي ومن البر الإيمان بأنبياء الله، والإيمان بهم، وهو التصديق الجازم بأن لله رسلاً أرسلهم لإرشاد الخلق في معاشهم ومعادهم اقتضت حكمة اللطيف الخبير أن لا يهمل خلقه، بل أرسل إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين، فيجب الإيمان بمن سمى الله منهم على التفصيل وهم المذكورون في القرآن، وعددهم خمس وعشرون، وهم: آدم، نوح، إدريس، صالح، إبراهيم، هود، لوط، يونس، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، يوسف، أيوب، شعيب، موسى، هارون، اليسع، ذو الكفل، داود، زكريا، سليمان، إلياس، يحيى، عيسى، محمد - صلى الله عليه وسلم - وعليهم أجمعين.
ويجب الاعتقاد أنهم أكمل الخلق علمًا وعملاً، وأصدقهم وأبرهم وأكملهم أخلاقًا، وأن الله تعالى خصهم بفضائل لا يلحقهم فيها أحد، وبرأهم من كل خلق رذيل، وتجب محبتهم وتعظيمهم، ويحرم الغلو فيهم ورفعهم فوق منزلتهم، ويجوز في حقهم شرعًا وعقلاً، النوم والأكل والشرب والجلوس والمشي والضحك والعجب وسائر الأعراض البشرية التي لا تؤدي إلى نقص في مراتبهم العلية فهم بشر يعتريهم ما يعتري سائر أفراده فيما لا علاقة له بتبليغ الأحكام وتمتد إليهم أيدي الظلمة وينالهم الاضطهاد، وقد يقتل الأنبياء بغير حق.
وقوله تعالى: { وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ } أي أخرجه وهو محب له راغب فيه، نص على ذلك ابن مسعود، وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف، كما ثبت في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشي الفقر» وقد روى الحاكم في «مستدركه» من حديث شعبة والثوري عن منصور عن زبيدة عن مرة عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « { وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ } أن تعطيه وأنت صحيح تأمل العيش وتخشى الفقر» ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.(1/77)
وقال تعالى: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا } ، وقال: { لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } ، وقال: { يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } نمط آخر وهو أرفع من هذا وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه، وهؤلاء أعطوا وأطعموا ما هم محبون له.
وفي «موطأ مالك»: أنه بلغه عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن مسكينًا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه، فقالت: أعطيه إياه، قالت: ففعلت، قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت –أو إنسان- ما كان يُهدى لنا، شاة وكتفها، فدعتني عائشة، فقالت: كلي من هذا، فهذا خير من قرضك.
قال علماؤنا: هذا من المال الرابح، والفعل الزكي عند الله تعالى، يعجل منه ما يشاء، ولا ينقص ذلك مما يدخر عنده، ومن ترك شيئًا لله لم يجد فقده، وعائشة في فعلها هذا ممن أثنى الله عليهم بأنهم يؤثرون على أنفسهم مع ما هم فيه من الخصاصة.
وقوله تعالى: { ذَوِي القُرْبَى } وهم قرابات الرجل، وهم أولى من أعطى من الصدقة، كما ثبت في الحديث: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذوي الرحم اثنتان: صدقة، وصلة» فهم أولى الناس ببرك وعطائك.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» متفق عليه.(1/78)
وعنه - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال: «لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك» رواه مسلم.
وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» متفق عليه.
وعنه - رضي الله عنه - قال: «كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه «بيرحاء» وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخله ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت هذه الآية: { لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } ، وإن أحب أموالي بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بخ بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين »، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه» متفق عليه.
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس الواصل بالمكافئ؛ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» رواه البخاري.(1/79)
وقوله: { وَالْيَتَامَى } اليتيم من مات أبوه ولم يبلغ، فاليتامى هم الذين في الغالب لا كاسب لهم وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب، وقد قال عبدالرزاق: أنبأنا معمر عن جويبر، عن الضحاك، عن النزال بن سبرة، عن علي، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يتم بعد حلم»، ومن حرمته تعالى بالعباد أن أوصاهم بالإحسان إلى اليتامى ليصيروا كمن لم يفقد والديه، قال الله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } ، وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا - وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما» رواه البخاري.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة» وأشار الراوي مالك بن أنس بالسبابة والوسطى، رواه مسلم.
وقوله: { وَالْمَسَاكِينِ } وهم الذين أسكنتهم الحاجة فلا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم فيعطون ما يدفع مسكنتهم أو يخففها، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان؛ إنما المسكين الذي يتعفف» متفق عليه، وفي رواية في «الصحيحين»: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان؛ ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن به فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس».
وعنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله»، وأحسبه قال: «وكالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر» متفق عليه.(1/80)
وقوله: { وَابْنِ السَّبِيلِ } هو المسافر المنقطع به في غير بلده فيعطي ما يوصله إلى بلده، وكذلك الذي يريد السفر في طاعة فيعطي ما يكفيه في ذهابه وإيابه، ويدخل في ذلك الضيف، كما قال علي بن طلحة عن ابن عباس أنه قال: ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين، وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو جعفر الباقر، والحسن، وقتادة، والضحاك، والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان.
وقوله: { وَالسَّائِلِينَ } هم الذين يتعرضون للطلب لحاجة من الحوائج التي توجب السؤال كمن ابتلى بنكبة أرش جناية أو ضريبة عليه من ولاة الأمور، أو فوات نفوس بانقلاب سيارة أو يسأل الناس لتعمير المساجد أو لإنشائها أو لإنشاء مدارس أو معاهد لطلاب العلم الشرعي أو ما هو وسيلة إليه، أو لتحفيظ كلام الله وكلام رسوله أو لإصلاح القناطر أو الطرق للمسلمين، فهذا له حق وإن كان غنيًا.
أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن أبي حاتم عن الحسين بن علي
-رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «للسائل حق وإن جاء على فرس».
وقوله: { وَفِي الرِّقَابِ } وهم المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم، وقيل: عتق النسمة وفك الرقبة، وقيل: فداء الأسرى.(1/81)
وقوله: { وَأَقَامَ الصَّلاةَ } أي أداها على أقوم وجه، ولا يتحقق ذلك إلا بالإتيان بأداء أركانها وواجباتها وخشوعها وبوجود سر الصلاة وروحها، ومن آثاره تحلي مقيم الصلاة بالأخلاق الفاضلة وتباعده عن الرذائل فلا يفعل فاحشةً ولا منكرًا، كما قال تعالى: { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ } ، ولا يكون هلوعًا جزوعًا إذا مسه الضر، بخيلاً منوعًا إذا ناله الخير، كما قال جل وعلا: { إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا * إِلاَّ المُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ } كما لا يخشى في الله لومة لائم ولا يبالي في سبيل الله ما يلقى من الشدائد بما ينفق من فضله ابتغاء وجه الله.
وقوله تعالى: { وَآتَى الزَّكَاةَ } يحتمل أن يكون المراد به زكاة النفس وتخليصها من الأخلاق الدنيئة الرذيلة، كقوله تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } ، وقول موسى لفرعون: { هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } ، وقوله تعالى: { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } ويحتمل أن يكون المراد زكاة المال، كما قال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان، ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر والصلة؛ ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس: «إن في المال حقًا سوى الزكاة» والله أعلم. اهـ.(1/82)
وقوله: { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } أي والذين إذا عاهدوا أوفوا به، يعني العهود والعهد هو الالتزام بإلزام الله أو إلزام العبد لنفسه، فدخل في ذلك حقوق الله كلها لكون الله ألزم بها عباده والتزموها ودخلوا تحت عهدتها ووجب عليهم أداؤها وحقوق العباد التي أوجبها الله عليهم، والحقوق التي التزمها العبد كالإيمان والنذور ونحو ذلك.
وقوله: { وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ } يريد بالبأساء البؤس والفقر؛ لأن الفقير يحتاج إلى الصبر من وجوه كثيرة، لكونه يحصل له من الآلام القلبية والبدنية المستمرة ما لا يحصل لغيره فإن تنعم الأغنياء بما لا يقدر عليه تألم، وإن جاع أو جاع عياله تألم، وإن نظر إلى ما بين يديه وما يتوهمه في المستقبل الذي يستعد له تألم، وإن أصابه البرد الذي لا يقدر على دفعه تألم، فكل هذه ونحوها مصائب يؤمر بالصبر عليها والاحتساب ورجاء الثواب من الله عليها، والمراد بالضراء الوجع والمرض على اختلاف أنواعه من حمى وقروح ووجع عضو حتى الضرس والأصبع، فإنه يحتاج إلى الصبر على ذلك؛ لأن النفس تضعف والبدن يألم، وذلك في غاية المشقة على النفوس، فإنه يؤمر بالصبر احتسابًا لثواب الله تعالى.
وقوله: { وَحِينَ البَأْسِ } أي وقت القتال وجهاد العدو؛ لأن الجلاد يشق غاية المشقة على النفوس ويجزع من القتل أو الجرح أو الأسر، فاحتيج إلى الصبر في ذلك احتسابًا ورجاء لثواب الله، وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى الأشد؛ لأن الصبر على المرض فوق الصبر على الفقر، والصبر على القتال فوق الصبر على المرض.(1/83)
وقوله: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال فهؤلاء هم الذين صدقوا وأولئك هم المتقون؛ لأنهم اتقوا بفعل هذه الخصال نار جهنم؛ لأن هذه الأمور مشتملة على كل خصال الخير تضمنًا ولزومًا؛ لأن الوفاء بالعهد يدخل فيه الدين كله، ولأن العبادات المنصوص عليها في هذه الآية أكبر العبادات، ومن قام بها كان بما سواها أقوم، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
مما يستفاد من الآية الكريمة:
1- أن المقصود الأعظم هو طاعة الله، وامتثال أوامره، والتوجه حيثما وجه، واتباع ما شرع.
2- أنه ليس في التوجه إلى المشرق أو المغرب بر ولا طاعة، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه.
3- أن الركن الأول هو الإيمان بالله.
4- إثبات الألوهية لله.
5- وجوب الإيمان باليوم الآخر.
6- إثبات البعث.
7- إثبات الحشر والجزاء على الأعمال والجنة والنار.
8- إثبات صفة الكلام لله والرد على من أنكرها.
9- أن من البر الإيمان بالملائكة.
10- الرد على من أنكر وجودهم من الملاحدة ونحوهم.
11- أن من البر الإيمان بكتب الله.
12- أن من البر الإيمان بالنبيين.
13- الرد على من كذب الأنبياء.
14- الحث على إقامة الصلاة.
15- الحث على إيتاء المال مع محبة الإنسان له.
16- الحث على صلة الأرحام.
17- الحث على التصدق على اليتيم.
18- الحث على الإحسان إلى المساكين.
19- الحث على الإحسان إلى ابن السبيل.
20- أن السائل يُعطى وإن كان غنيًا.
21- الحث على إعانة المكاتب.
22- الحث على الوفاء بالعهد.
23- الحث على الصبر في البأساء.
24- الحث على الصبر في الضراء.
25- الحث على الصبر وقت القتال.
26- إن الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا.
27- الحث على الصدق.
28- الحث على التقوى.
29- عناية الله ولطفه بخلقه حيث بين لهم ما ينفعهم ما ذكر في هذه الآية.(1/84)
30- الحث على إيتاء الزكاة المفروضة.
31- تكرير الإشارة لزيادة التنويه بشأنهم.
32- أن هذه الآية جامعة للكمالات الإنسانية بأسرها دالة عليها صريحًا أو ضمنًا، فإنها بكثرتها وتشعبها منحصرة في ثلاثة أشياء: صحة الاعتقاد، وحسن المعاشرة، وتهذيب النفس، وقد أشير إلى الأول بقوله: { مَنْ آمَنَ } إلى { النَّبِيِّينَ } وإلى الثاني بقوله: { وَآتَى المَالَ } إلى { وَفِي الرِّقَابِ } وإلى الثالث بقوله: { وَأَقَامَ الصَّلاةَ } إلى آخرها، ولذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظرًا إلى إيمانه واعتقاده، وبالتقوى اعتبارًا بمعاشرته للخلق ومعاملته للحق جل وعلا.
33- الرد على الجهمية المنكرين لصفات الله.
34- في الآية رد على الجبرية القائلين إن العبد مجبور على أفعاله.
35- إن هذه الأشياء التي حث الكتاب عليها، وهي من محاسن الإسلام، لو أن الناس أدوها؛ لكانوا في معايشهم من خير الأمم ولدخل كثير من الناس في الإسلام لما يرون فيه من جميل العناية الفقراء والأيتام وأبناء السبيل فتوثق الصلة بين الطوائف المختلفة من المسلمين.
36- قرن الزكاة بالصلاة ذاك أن الصلاة تهذيب الروح والمال قرين الروح، فبذله ركن عظيم من أركان البر، ومن ثم أجمع الصحابة - رضي الله عنهم - على محاربة مانعي الزكاة من العرب بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن مانعها يهدم ركنًا من أركان الإسلام.
37- الحكمة في تخصيص المواطن الثلاثة بالصبر مع أن الصبر محمود في جميع الأحوال؛ لأن من صبر فيها كان في غيرها أصبر، فالفقر إذا اشتدت وطأته ضاق به الصدر وكاد يفضي إلى الكفر، والضر إذا برح بالبدن أضعف الأخلاق والهمم، وفي الحرب التعرض للهلاك بخوض غمرات المنية، والظفر مقرون بالصبر، وبالصبر يحفظ الحق الذي يناضل صاحبه دونه، وقد ورد أن الفرار من الزحف من الكبائر، والله أعلم.
وصلى الله على محمد وآله وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
في الصوم وفضل شهر رمضان(1/85)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
يخبر تعالى بما منَّ به على عباده بأنه فرض عليهم الصيام كما فرضه على الأمم السابقة؛ لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان، ففي هذا تأكيد له وترغيب فيه وتطييب لأنفس المخاطبين، فإنه عبادة شاقة والأمور الشاقة إذا عمت كثيرًا من الناس سهل تحملها ورغب كل أحد في عملها.(1/86)
ثم ذكر تعالى فائدة الصوم وحكمته، فقال: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي أنه فرضه عليكم لتتقوه بترك الشهوات؛ لأن في الصيام امتثالاً لأمر الله واحتسابًا للأجر عنده فتتربى بذلك العزيمة والإرادة على ضبط النفس وترك الشهوات المحرمة والصبر عنها؛ لأن الصيام من أكبر أسباب التقوى وحقيقة التقوى اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وإعداد الصوم لتقوى الله يظهر من وجوه كثيرة، منها: أنه يعود الإنسان الخشية من ربه في السر والعلن، إذ أن الصائم لا رقيب عليه إلا ربه، فإذا ترك الشهوات التي تعرض له من أكل نفيس، وشراب عذب، وفاكهة يانعة، وزوجة جميلة امتثالاً لأمر ربه شهرًا كاملاً، ولولا ذاك لما صبر عنها وهو في أشد الشوق إليها، فحري بمن يتكرر منه ذلك أن يتعود الحياء من ربه والمراقبة له في أمره ونهيه، وفي ذلك تكميل له وضبط للنفس عن شهواتها وشدة مراقبتها لبارئها فمما اشتمل عليه الصيام في التقوى: أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها التي تميل إليها نفسه متقربًا بذلك إلى الله راجيًا بتركها ثوابه.
ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم؛ ولهذا ثبت في «الصحيحين»: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء».
ومنها: أن الغني إذا ذاق الجوع فربما أوجب له ذلك مواساة الفقراء، وهذه من خصال التقوى.(1/87)
ومنها: أن من اعتاد الحياء من ربه والمراقبة له في أمره ونهيه في السر والعلن لا يقدم غالبًا على غش الناس ومخادعتهم ولا على أكل أموالهم بالباطل ولا على اقتراف المنكرات واجتراح السيئات، وإذا ألم بشيء منها يكون سريع التذكر قريب الرجوع بالتوبة النصوح، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } ولما للصوم من جليل الأثر في تهذيب النفس، جاء في الحديث: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»، وجاء في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به».
ومنها: أن الصيام يفني المواد الراسبة في البدن، ولاسيما في أجسام المترفين أولي النعم قليل العمل.
ومنها: أنه علاج لاضطراب المعدة، ومنها: أنه علاج للبول السكري غير الحاد، وأنه علاج للتهاب الكلى، وأنه علاج للتهاب المفاصل، وأنه علاج لأمراض القلب المصحوبة بتورم، وأنه علاج لضغط الدم الذاتي، وأنه سبب لراحة المعدة، وأنه يجفف الرطوبات الضارة ويطهر الأمعاء من السموم التي تحدثها البطنة ويذيب الشحم الذي هو شديد الخطر على القلب، وقد أثر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «صوموا تصحوا».
والصوم شرعًا: إمساك عن أشياء مخصوصة في زمن مخصوص من شخص مخصوص، فأما الأشياء المخصوصة فهي مفسداته، وأما الزمن المخصوص فهو من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، وأما الشخص المخصوص فهو المسلم البالغ العاقل القادر غير الحائض والنفساء.(1/88)
ثم لما ذكر جل وعلا أنه فرض علينا الصيام بين أن الأمر بالصوم ليس في جميع الأوقات، بل أيامًا معدودات: أي مقدروات معلومات، وهي مدة شهر رمضان، ففي قوله: { مَّعْدُودَاتٍ } إشارة إلى أنها قليلة في غاية السهولة، ثم سهل تسهيلاً آخر، فقال: { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أي فمن كان على إحدى الحالين، فالواجب عليه إذا أفطر القضاء بقدر عدد الأيام التي لم يصمها؛ لأن كلتيهما عرضة لاحتمال المشقة بالصوم، ومن صام رمضان وهو مريض أو مسافر فقد أدى الفريضة، ومن أفطر وجب عليه القضاء، وبذلك كان عمل الصحابة، فقد ورد عن حمزة بن عمرو الأسلمي، أنه قال: يا رسول الله، أجد مني قوة على الصوم في السفر، فهل علي جناح؟ فقال: «هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه».
وعن أبي سعيد قال: «سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة، قال: فنزلنا منزلاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم» فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلاً آخر، فقال: «إنكم تصبحوا عدوكم وفطركم أقوى لكم، فأفطروا» فكانت عزمة، فأفطرنا ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر» رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «كنا نسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم» رواه البخاري.(1/89)
وقوله: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } أي ويجب فدية على الذين يتكلفون ويشق عليهم مشقة غير محتملة وهم الشيوخ والعجائز؛ لقول ابن عباس ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا، وقيل: كان هذا في ابتداء فرض الصيام لما كانوا غير معتادين للصيام، وكان فرضه حتمًا فيه مشقة عليهم درجهم الرب الحكيم بأسهل طريق وخير المطيق للصوم بين أن يصوم وهو أفضل أو يطعم؛ ولهذا قال: { وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ } ثم بعد ذلك جعل الصيام حتمًا على المطيق وغير المطيق يفطر ويقضيه في أيام أخر، والقول الأول هو الراجح عندي، والله أعلم.
وروي أن أنس بن مالك ضعف عن الصوم، فصنع جفنه من ثريد، فدعا ثلاثين مسكينًا فأطعمهم، ومما يلتحق بهذا المعنى الحامل والمرضع الخائف على نفسه، فإن كان الفطر خوفًا على الولد فيلزم ولي الولد إطعام مسكين لكل يوم، وعليها القضاء.
وقوله: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ } يمدح سبحانه وتعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن الكريم.
وقوله: { هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ } هذا مدح للقرآن الذي أنزل الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه وبينات، أي ودلائل وحجج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها ودالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال والرشد المخالف للغي ومفرقًا بين الحق والباطل، و الحلال والحرام، وقال تعالى: { وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا } ونحو هذه الآية: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } .(1/90)
وقوله: { إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } الآية، وقوله: { قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ } الآية.
وقوله: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } هذا إيجاب للصوم على من شهد استهلال الشهر إذا كان مقيمًا في البلد حين دخل شهر رمضان، وهو صحيح في بدنه بالغ عاقل قادر أن يصوم لا محالة، ويثبت شهر رمضان بأحد أمرين: إما برؤية الهلال أو بإكمال شعبان ثلاثين يومًا للآية، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» متفق عليه، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين»، وعن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عد ثلاثين يومًا ثم صام، رواه أبو داود.
وتثبت رؤية هلال رمضان بخير مسلم مكلف عدل؛ لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن أعرابيًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «أني رأيت الهلال»، فقال: «أتشهد أن لا إله إلا الله؟» قال: نعم، قال: «أتشهد أن محمدًا رسول الله؟» قال: نعم، قال: «فأذن في الناس يا بلال أن تصوموا غدًا» رواه الخمسة، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، ورجح النسائي إرساله.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه، رواه أبو داود وصححه الحاكم.
ويستحب إذا رأى الهلال أن يقول ما ورد، ومنه حديث طلحة بن عبدالله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى الهلال، قال: «اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، ربي وربك الله، هلال رشد وخير» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.(1/91)
وقوله تعالى: { وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } معناه: ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه أو يؤذيه أو كان على سفر فله أن يفطر، فإذا أفطر فعليه عدة ما أفطره في السفر من أيام.
وقوله: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ } أي يريد أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير ويسهلها أبلغ تسهيل، ومثله قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يرشد إلى التيسير وينهي عن التعسير، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا» وهو في الصحيح.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة» متفق عليه.
وقوله: { وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ } أي ولتتموا عدة أيام الشهر، وعدة أيام القضاء.
وقوله: { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } أي ولتعظموا الله على ما أرشدكم إلى ما رضي به من صوم رمضان وخصكم به دون سائر الملل، وقال ابن عباس: هو تكبير ليلة الفطر.
وروى الشافعي عن ابن المسيب وعروة وأبي سلمة أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر يجهرون بالتكبير، وعن علي - رضي الله عنه -: أنه كان يكبر حتى يسمع أهل الطريق، وقال الإمام أحمد: كان ابن عمر يكبر في العيدين جميعًا، وروى الدارقطني أن ابن عمر كان إذا غدًا يوم الفطر ويوم الأضحى يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى ثم يكبر حتى يأتي الإمام.
وقوله: { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي إذا قمتم بما أمركم الله به من طاعاته بأداء فرائضه وترك محارمه وحفظ حدوده فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك المستدركين لما فات بالتوبة النصوح والإنابة إلى الله.
قال بعضهم:(1/92)
قطعت شهور العام سهوًا وغفلة
فلا رجب وفيت فيه بحقه
ولا في ليالي عشر ذي الحجة الذي
فهل لك أن تمحو الذنوب بعبرة
وتستقبل العام الجديد بتوبة ... ولم تحترم فيما أتيت المحرما
ولا صمت شهر الصوم صومًا متممًا
مضى كنت قوامًا ولا كنت محرمًا
وتبكي عليها حسرة وتندمًا
لعلك أن تمحو ها ما تقدما
ومما يستفاد من الآية الكريمة:
1- فرضية الصيام على المؤمنين.
2- أن الصيام مفروض على من قبلنا.
3- حكمة الصوم ليتقوا الله، فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب، وهي تؤدي هذه الفريضة طاعة لله وإيثارًا لرضاه.
4- في الآية ترغيب في الفعل وتطييب للنفس.
5- أن الصوم عبادة قديمة.
6- أن الصيام أيامه معدودة معينات بعدد معلوم.
7- أن في قوله تعالى: { مَّعْدُودَاتٍ } إشارة إلى قلة مدته وأنها سهلة.
8- أن من كان مريضًا فله الفطر.
9- أنه عليه القضاء.
10- أنها بعدد الأيام التي أفطرها.
11- سماحة الدين الإسلامي.
12- إباحة الفطر للمسافر.
13- وجوب القضاء.
14- أن عليه قضاء عدد الأيام التي لم يصمها.
15- أن من القواعد أن المشقة تجلب التيسير؛ لأن كليهما عرضة لاحتمال المشقة بالصوم.
16- وجوب الفدية على الذين يتكلفون الصيام ويشق عليهم مشقة غير محتملة.
17- بيان مقدار الفدية.
18- أنها طعام مسكين مكان كل يوم.
19- مزية شهر رمضان على غيره من الشهور لاختياره لإنزال القرآن.
20- أن القرآن هدى للناس.
21- أن آيات القرآن دلائل وحجج واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها ودالة على صحة ما جاء به من الهدى والنور.
22- إيجاب الصوم على من شهد استهلال الشهر إذا كان مقيمًا في البلد حين دخل شهر رمضان وهو صحيح في بدنه قادر على الصيام بالغ عاقل غير حائض ونفساء.
23- عناية الله بخلقه ولطفه بهم.
24- أن القرآن مفرقًا بين الحق والباطل، والحلال والحرام.
25- أن الله جل وعلا يريد بعباده اليسر.
26- أن الله لا يريد بهم العسر ولا الحرج.
27- الأمر بإتمام العدة.(1/93)
28- الحث على تعظيم الله وتكبيره.
29- الحث على شكر الله.
30- فيها دليل على علو الله على خلقه والمأخذ من قوله: { أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ } .
31- أنه يجوز سرد قضاء رمضان، ويجوز أن يفرقه فلا يتعين التتابع.
32- تحريم الفطر في نهار رمضان على من لا عذر له ممن يجب عليه الصيام.
33- أن ابتداء إنزال القرآن في رمضان.
34- إطلاق اسم الكل على الجزء حيث أطلق الشهر وهو اسم للكل وأراد جزءًا منه.
35- إن من زاد في الإطعام فهو خير له.
36- دليل على فضل العلم؛ لأن الجاهل ما يعرف ما في الصوم من المعاني المورثة للخير والتقوى، كما يفهم من قوله: { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .
37- فائدة التكرير أن الله جل ذكره ذكر في الآية الأولى التخيير للمريض والمسافر والمقيم الصحيح، ثم نسخ تخيير المقيم الصحيح بقوله: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فلو اقتصر على هذا لا احتمل أن يشمل النسخ الجميع فأعاد بعد ذكر الناسخ الرخصة للمريض والمسافر ليعلم أن الحكم باق على ما كان عليه.
38- الحث على اتقاء المعاصي.
39- أن الصيام سبب لاتقاء المعاصي؛ لأنه يضعف الشهوة، كما قال –عليه الصيام-: «الصيام جنة ورجاء».
40- في الآية دليل على إثبات صفة الكلام لله.
41- إثبات صفة الإرادة لله.
42- إثبات الألوهية لله.
43- فضل الله على خلقه حيث هداهم وأرشدهم إلى طاعته وإلى ما يرضى به عنهم.
44- يفهم من قوله: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ } الإيماء إلى أن الأفضل الصيام إذا لم يلحق الصائم مشقة أو عسر لانتفاء علة الرخصة حينئذ.
وإليك نبذة من محاسن الصوم:(1/94)
إنه بجوع بطنه يندفع جوع كثير من حواسه، فإذا شبع بطنه جاع عينه ولسانه ويده، فكأن في تشبيع النفس تجويعها، وفي تجويعها تشبيعها، فكان هذا التجويع أولى وتقدم بعض محاسنه، ومن محاسنه الموافقة مع الفقراء في مقاساة الجوع إذ في الفقراء الجوع أكثر ولا يمكن إطعام كلهم ليشبعهم فيطعم بقدر ما يقدر، ويصوم ويوافق جميع الفقراء في تحمل شدائد الجوع، فينال ثوابًا كثيرًا مع النية الصالحة، ومن جملة محاسنه: أنه مهما خلا البطن عن اللقم امتلأ من الحكم، قال -عليه السلام-: «ما ملئ وعاء شرًا من بطن» فالمؤمن إذا خلا بطنه صفا سره، ومن محاسنه: اكتساب مكارم الأخلاق؛ لأن قلة الأكل من محاسن الأخلاق لم يحمد أحد بكثرة الأكل، بل بقلته يحمده كل ذي دين في كل حين، ولم يروى عن أحد من الأنبياء والرسل كثرة الأكل، ومن محاسن الصوم: أن الله تعالى أوجبه في حال الصحة وأباح الفطر في المرض والسفر، فإذا فات الزمان لم يفت الثواب، ومن محاسنه: أنه لم يشترط في القضاء أن يكون طول اليوم باليوم ولا حرارته ولا برودته، ومن محاسنه: أنه لم يشترط قران النية عند الشروع كما في سائر العبادات؛ لأن هذا الوقت وقت نوم وغفلة قلما يقف عليه العبد فلو شرط هذا لضاق الأمر على الناس فيسر الأمر على عباده، ومن جملة محاسن الشرع في باب الصوم: إن أعقب الصوم بصدقة الفطر وجعل صدقة الفطر جبرًا لكل نقصان، قال - صلى الله عليه وسلم -: «صدقة الفطر طهرة للصائم» والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
فضل في آية الكرسي
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم(1/95)
قال الله تعالى: { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ } .
هذه آية الكرسي، ولها شأن عظيم، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي» أخرجه الترمذي، وقوله: «إن لكل شيء سنامًا» سنام كل شيء أعلاه تشبيهًا بسنام البعير، والمراد تعظيم السورة، فقوله: «هي سيدة آي القرآن» أي أفضله، وقد صح الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنها أفضل آية في كتاب الله.
وعن أبي –هو ابن كعب- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله: «أيُّ آية في كتاب الله أعظم؟» قال الله ورسوله أعلم، فرددها مرارًا، ثم قال أبي: آية الكرسي، قال: «ليهنك العلم أبا المنذر، والذي نفسي بيده إن لها لسانًا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش».(1/96)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟» قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته وخليت سبيله، قال: «أما إنه قد كذبك وسيعود»، فعرفت أنه سيعود؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سيعود، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته وخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟» قلت: يا رسول الله، شكا حاجة وعيالاً، فرحمته، فخليت سبيله، قال: «أما إنه كذبك وسيعود» فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم أنك لا تعود، فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: وما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ } حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما فعل أسيرك البارحة؟» قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: «ما هي؟» قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ } وقال ليس: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أما إنه(1/97)
صدقك، وهو كذوب، تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة؟» قلت: لا، قال: «ذاك شيطان» كذا رواه البخاري معلقًا.
فهذا الحديث من جملة الأدلة التي يرد بها على منكري الجن، ومستندهم في إنكارهم أن طريق معرفة وجود الجن هي النظر أو السمع، وأنهم لم يروا جنًا ولم يسمعوا كلامهم ولا حركاتهم، ولم يمسوهم بأيديهم ولا غيرها؛ لكن عدم السمع وعدم النظر وعدم المس أو عدم وصول غيرها من الحواس الإنسانية لا يقوم دليلاً على عدم وجود الجن لا نقلاً ولا عقلاً.
أما العقل فإنه يجوز وجود كائن حي غير مرئي بالعين بدون واسطة بالمجهر المكتشف أخيرًا، فإن المكروب كائن حي خلقه الله جل وعلا، وهو كثير في طبقات الجو لا يمكن رؤيته، ويصدقون به هم وغيرهم.
ومن لم يقر ويعتقد وجود ما غاب عن نظره وبصره لزمه إنكار الروح أيضًا؛ لأنها ليست مرئية ولا مسموعة ولا ملموسة، وهي حقيقة موجودة بها حياة الإنسان، ومع ذلك لم يرها أحد، قال تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } ، وكذلك أيضًا يلزمه إنكار العقل مع أنه حقيقي موجود كل يؤمن به.(1/98)
وأما الدليل النقلي، فمع الحديث المتقدم آيات قرآنية وأحاديث أخرى، منها قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } ، وقال تعالى آمرًا رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر قومه أن الجن استمعوا لقراءته - صلى الله عليه وسلم - القرآن فآمنوا به وصدقوا لما قال وتلى، وانقادوا له كما في قوله تعالى: { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا } الآيات، وقال الله تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } ، وقال تعالى: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا } الآية، وقال تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا } الآية، وقال: { يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } ، وقال تعالى: { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } وهذا من حكمة الله ولطفه بعباده، فلو كشف لنا عن حقيقتهم وسلط نظرنا المحدود على ذواتهم لما أمكن –والله أعلم- أن نعيش معهم.(1/99)
ومن الأدلة على وجودهم قوله تعالى: { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } ، وقوله تعالى: { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } ، وقال فيمن سخر لسليمان: { وَمِنَ الجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما السُّنة فورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن عفريتًا تفلت على البارحة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه، فذكرت قول أخي سليمان: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي } ».(1/100)
وورد أن صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءت تزوره وهو معتكف، فقام معها مودعًا حتى بلغت باب المسجد، فرآه رجلان من الأنصار، فسلما عليه، فقال: «على رسلكما، إنها صفية بنت حيي»، فقالا: سبحان الله يا رسول الله، وكبر عليهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا»، وهذا صريح واضح في أن الشيطان يخترق الجسم البشري، ويسري فيه كما يسري الدم، ومع خفائه فقد التزم الشيطان –لعنه الله- في عداوته سبعة: ثلاثة في قوله تعالى: { وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِيَنَّهُمْ وَلآمُرَنُّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } ، وأربعة في قوله تعالى: { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } وهذا الالتزام يبين أنه عدو متظاهر بالعداوة؛ ولذلك فصل الله عداوته باشتمالها على ثلاثة أشياء: السوء وهو متناول جميع المعاصي من القلب والجوارح، والفحشاء وهي ما عظم جرمه وذنبه وقبحه كالكبائر التي بلغت الغاية في الفحش وذلك كاللواط والزنا.
ومن الأدلة على وجود الجن ما روى مسلم أن فتى من الأنصار قتل حية في بيته، فمات في الحال، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن في المدينة جنًا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان».
وروى مسلم في «صحيحه» عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان إلا ابن مريم وأمه».(1/101)
وروى مسلم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الجن» فرأى الصحابة أن قوله - صلى الله عليه وسلم - عام، فقالوا: يا رسول الله، وإياك –أي حتى أنت-؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «وإياي، لكن الله قد أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير».
ومن الأدلة أيضًا ما ورد عن السائب بن يزيد أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي، فجلست انتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكًا في عراجين في ناحية البيت، فالتفت فإذا حية فوثبت لأقتلها، فأشار إلي أن أجلس، فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار، فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم، فقال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس، فخرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يومًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خذ عليك سلاحك، فإني أخشى عليك قريظة» فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، وإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به، فأصابته، فقالت: اكفف عليك رمحك، وأدخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني؟ فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ثم خرج فركزه في الدار، فاضطربت عليه، فما ندري أيهما كان أسرع موتًا الحية أم الفتى؟ قال: فجئنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرنا ذلك له، وقلنا: ادع الله يحييه لنا، فقال: «استغفروا لصاحبكم» ثم قال: «إن بالمدينة جنًا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك، فاقتلوه فإنما هو شيطان».
وفي رواية عنه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم شيئًا منها فحرجوا عليها ثلاثًا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه، فإنه كافر»، وقال لهم: «اذهبوا فادفنوا صاحبكم».(1/102)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء أقبل، حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول اذكر كذا».
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل نام ليلة حتى أصبح، قال: «ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه – أو قال في أذنه» متفق عليه.
وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة عليك ليل طويل، فارقد، فإن استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة كلها» الحديث متفق عليه.
وروى مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن» وورد في السُّنة الصحيحة أكل الشيطان وشربه، فقد ورد: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وليشرب بيمينه وليعط بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ويعطي بشماله ويأخذ بشماله» وفي هذا كفاية وختامًا فإنه لا ينكر الجن إلا إنسان لا عقل له منسلخ عن الدين الإسلام بالكلية؛ لأنه مكذب لله ولرسوله، ولما أجمع عليه المسلمون، والله أعلم، وصلى الله على محمد.
{ اللَّهُ } أي المألوه المعبود المستحق لإفراده بالعبادة لما اتصف به من صفات الكمال ولفظ الجلالة الذي هو الله علم ذاته سبحانه، وهو أعرف المعارف على الإطلاق وكونه سبحانه مستحق للألوهية مستلزم لصفات الكمال، فلا يستحق أن يكون معبودًا محبوبًا لذاته إلا هو وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل وعبادة غيره وحب غيره يوجب الفساد، كما قال تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا } .(1/103)
{ القَيُّومُ } القائم بنفسه المقيم لما سواه، ورود أن اسم الحي القيوم الاسم الأعظم، فإنهما متضامنان لصفات الكمال أعظم تضمن، فالصفات الذاتية ترجع إلى اسمه الحي والصفات الفعلية ترجع إلى اسمه القيوم.
عن أسماء بنت يزيد بن السكن، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «في هاتين الآيتين { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ } ، و { الم * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } «إن فيهما اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث سور: البقرة، وآل عمران، وطه».
قال هشام بن عماد الخطيب: أما البقرة فـ { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ } ، وفي آل عمران: { الم * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ } ، وفي طه: { وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّومِ } .
قال ابن القيم - رحمه الله -:
وله الحياة كمالها فلأجل ذا
وكذلك القيوم من أوصافه
وكذاك أوصاف الكمال جميعها
فمصحح الأوصاف والأفعال
ولأجل ذا جاء الحديث بأنه
اسم الإله الأعظم اشتملا على
فالكل مرجعها إلى الاسمين يد ... ما للممات عليه من سلطان
ما للمنام عليه من غشيان
ثبتت له ومدارها الوصفان
والأسماء حقًا ذانك الوصفان
في آية الكرسي وذي عمران
اسم الحي والقيوم مقترنان
ري ذاك ذو بصر بهذا الشأن(1/104)
وقوله: { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } السنة: النعاس وهو الذي يتقدم من الفتور وانطباق العينين، ويكون في الرأس من غير نوم، ومنه الوسنان، ف إذا وصل إلى القلب صار نومًا، والنوم غشية ثقيلة تقع على القلب تمنعه معرفة الأشياء فلا يحس ولا يشعر بها، والمعنى أنه سبحانه لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه، بل هو قائم على كل نفس بما كسبت شهيد على كل شيء ولا يخفى عليه خافية، ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم، كما أنه جل وعلا لا يتعب ولا يظلم ولا يجهل ولا يعيا، وهذه الأشياء يجب تنزيه الله عنها كما يجب تنزيهه عن الشريك والزوجة والولد والظهير والولي من الذل والشفيع بدون إذنه.
عن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا بخمس كلمات، فقال: «إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور –وفي رواية النار- ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه، ما انتهى إليه بصره من خلقه».
فقوله: { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } جملة مؤكدة لما قبلها مقررة لمعنى الحياة والقيومية على أتم وجه إذ من تأخذه السنة والنوم يكون ضعيف الحياة ضعيف القيام بشئون نفسه وبشئون غيره.
وقوله: { لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } هذا إخبار منه جل وعلا أن الجميع عبيده وتحت قهره وسلطانه، كقوله تعالى: { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } ، { لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدًا } ؛ فجملة (له ما في السموات وما في الأرض) تأكيد ثاني لقيوميته واحتجاج على تفرده بالألوهية؛ لأنه تعالى خالقهما بما فيهما فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه لا خالق غيره ولا رب سواه.(1/105)
وقوله: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } كقوله تعالى: { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى } ، وكقوله: { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى } .
بحث المقصود منه الكلام على الشفاعة بوضوح:
الشفاعة لغةً: الوسيلة والطلب، وعرفها بعضهم بأنها سؤال الخير للغير، وقيل: هي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم، والشفاعة تنقسم إلى قسمين، مثبتة: وهي التي أثبتها الله تعالى لأهل الإخلاص ولها شرطان مذكوران في آية سورة النجم، قال تعالى: { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى } ، والشرطان هما: إذن الله للشافع أن يشفع، والثاني: أن يرضي الله قوله، قال في «سورة طه»: { يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } ، وقال في «سورة عم»: { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } ، وأما المنفية: فهي التي تطلب من غير الله أو بغير إذنه أو لأهل الشرك، قال تعالى: { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } ، وقال: { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } ، وانقسم الناس في الشفاعة إلى ثلاثة أقسام: طرفان، ووسط، فالمشركون ومن وافقهم من مبتدعة أهل الكتاب كالنصارى، ومبتدعة هذه الأمة أثبتوا الشفاعة التي نفاها الله بالقرآن كما ذكر عن المشركين في كتابه بقوله: { وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ } .(1/106)
والقسم الثاني: الخوارج والمعتزلة أنكروا ونفوا شفاعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في أهل الكبائر من أمته، بل أنكر طائفة من أهل البدع انتفاع الإنسان بشفاعة غيره ودعائه، كما أنكروا انتفاعه بصدقة غيره وصيامه، فأنكروا الشفاعة بقوله تعالى: { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } وبقوله: { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } .
القسم الثالث: توسطوا وهم أهل السُّنة والجماعة فأثبتوا الشفاعة بشرطين: إذن الله للشافع أن يشفع، والثاني لمن رضي الله قوله وعمله، والله لا يرضى إلا التوحيد، إذا تبين هذا فشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة أنواع: الأول: الشفاعة العظمى التي يتأخر عنها أولو العزم حتى تنتهي إليه للإراحة من الموقف وهو المقام المحمود، قال تعالى: { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مُّحْمُودًا } ، الثاني: شفاعته لأهل الجنة في دخولها، الثالث: شفاعته لقوم من العصاة من أمته أن لا يدخلوا النار، الرابع: شفاعته في إخراج العصاة من أهل التوحيد من النار، الخامس: شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفع درجاتهم، السادس: شفاعته في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب.(1/107)
وقوله: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } يخبر تعالى عن علمه الواسع المحيط بكل شيء، فهو سبحانه يعلم ما بين أيدي الخلائق من الأمور المستقبلة التي لا حد لها، كقوله إخبارًا عن الملائكة: { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًا } وحتى أنه سبحانه يعلم ويرى دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء تحت الأرض الغبراء، وحركة الذر والبعوض، والطيور في الهواء، والسمك في الماء، وما هو أدق من ذلك بكثير، مما أرى الله خلقه وأطلعهم عليه من الميكروبات والكريات، ومما استأثر بعلمه لا إله إلا هو اللطيف الخبير المحيط علمه بالسابق واللاحق والحالي والواجب والمستحيل والممكن.
وقوله: { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ } أي لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمهم الله عز وجل وأطلعهم عليه من الأمور الشرعية والقدرية وهو جزء يسير جدًا مضمحل في علوم البارئ ومعلوماته كما قال أعلم الخلق بربهم الرسل والملائكة: { سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } ، وفي قصة موسى والخضر أنه جاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.
قال ابن القيم - رحمه الله -:
وهو العليم أحاط علمًا بالذي
وبكل شيء علمه سبحانه
وكذلك يعلم ما يكون غدًا وما ... في الكون من سر ومن إعلان
فهو المحيط وليس ذا نسيان
قد كان والموجود في ذا الآن(1/108)
وقوله: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ } ثم أخبر سبحانه عن عظمته وجلاله، وأن كرسيه الذي هو موضع القدمين لله وسع السموات والأرض وما فيهما أي ملأ وأحاط بهما، وقال الضحاك عن ابن عباس: لو أن السموات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة، وعن أبي ذر الغفاري أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكرسي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة» وعن عمر - رضي الله عنه - قال: أتت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة، قال: «فعظم الرب تبارك وتعالى، وقال: إن كرسيه وسع السموات والأرض، وإن له أطيطًا كأطيط الرحل الجديد من ثقله». ... وقوله: { وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } أي لا يثقله ولا يكرثه حفظ السموات والأرض ومن فيهما ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه، يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شيء، والأشياء كلها صغيرة بين يديه، متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة إليه، وهو الغني الحميد الفعال لما يريد، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون، وهو القاهر لكل شيء الحسيب على كل شيء.
وقوله: { وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ } ختم سبحانه هذه الآية بهذين الاسمين الجليلين، فهو سبحانه الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه، علو الذات بكونه فوق جميع الخلق على العرش استوى، وعلو القدر إذ أن له كل صفة كمال، وله من تلك الصفة أعلاها وغايتها، وعلو الشأن وصفة العلو مما تواطأ عليه العقل والنقل وفطر الله الخلق على ذلك.
قال ابن القيم - رحمه الله -:
وله العلو من الوجوه جميعها
كل إذا ما نابه شيء يرى(1/109)
نحو العلو فليس يطلب خلفه ... ذاتًا وقدرًا مع علو الشأن
متوجهًا بضرورة الإنسان
وأمامه أو جانب الإنسان
العظيم الذي له جميع أوصاف العظمة والكبرياء، وله العظمة والتعظيم الكامل في قلوب أنبيائه وأصفيائه وملائكته فلا أعظم منه ولا أكبر.
قال الشيخ تقي الدين - رحمه الله -: يجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق تعالى في غاية الصغر كما دلت عليه النصوص من الكتاب والسُّنة، ولا نسبة لها إلى عظمة الباري بوجه من الوجوه، وهي في قبضته أصغر من الخردلة في كف الإنسان والخليقة مفطورة على أنها تقصد ربها في جهة العلو، لا تلتفت عن ذلك يمنة ولا يسرة، وجاءت الشريعة بالعبادة والدعاء بما يوافق الفطرة بخلاف ما عليه أهل الضلال من المشركين والصابئين من المتفلسفة وغيرهم، فإنهم غيروا الفطرة في العلم والإرادة جميعًا، فحقيق بآية احتوت على هذه الأسماء والصفات والمعاني الجليلة أن تكون أعظم آية في كتاب الله، ويحق لمن قرأها بتدبر وتفهم أن يمتلئ من اليقين والعرفان والإيمان، وأن يكون محفوظًا من الشيطان الرجيم.
ما يؤخذ من الآية الكريمة، آية الكرسي:
1- إثبات الألوهية لله، وانفرداه بذلك.
2- إثبات صفة الحياة وهي من الصفات الذاتية.
3- إثبات صفة القيوم.
4- تنزيه الله عن السنة والنوم والعجز، لما في ذلك من المنافاة لكمال حياته وقيوميته وقدرته.
5- إثبات سعة ملكه، وأنه تعالى له ما في السموات وما في الأرض ملكًا وخلقًا، وليس له في ذلك شريك ولا منازع، وأن الجميع عبيده، وتحت قهره وسلطانه.
6- إثبات سعة علمه، وأنه محيط بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وأنه لا ينسى ولا يغفل، ولا يلهيه شأن عن شأن.
7- اختصاصه –سبحانه- بالتعليم، وأن الخلق لا يعلمون إلا ما أعلمهم الله جل وعلا.
8- إثبات الشفاعة بإذنه؛ لقوله: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } .
9- أن عظمة الكرسي من جملة الأدلة على عظمة الله.(1/110)
10- إثبات صفة الكلام.
11- إثبات صفة العلم لله.
12- إثبات عظمته واقتداره، وأنه لا يعجزه شيء.
13- إثبات علو الله على خلقه.
14- الترقي في نفي النقص من الأضعف إلى نفي الأقوى؛ لأن من لا تغلبه السنة قد يغلبه النوم لأنه أقوى.
15- إثبات المشيئة.
16- الحث على الاتجاه إلى الله وحده بالعبودية والعبادة، فلا يكون عبدًا إلا لله، ولا يتجه بالعبادة إلا لله، ولا يلتزم بطاعة إلا طاعة الله وما يأمر به من الطاعات.
17- أن العبادة لا يملكون الأعيان ملكًا مطلقًا، وإنما يملكون التصرف فيها على مقتضى الشرع.
18- إن يعشور الإنسان بأن ما في السموات وما في الأرض وكل شيء ملك لله سبب لقمع حدة الشرة والطمع والحرص والتكالب على الدنيا.
19- أن استحضار ذلك وأن ما في يده عارية إلى أمد محدود يكسب في النفس القناعة والرضا بما يحصل من الرزق والسماحة والجودة بالموجود، والزهد في الدنيا، والإقبال على الآخرة.
20- أن العباد لم يؤتوا من العلم إلا قليلاً.
21- إثبات الرد على المشركين القائلين بأن أصنامهم تشفع.
22- الرد على القدرية القائلين بأن الله –سبحانه- لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها.
23- الرد على من زعم أن الكرسي علمه أو أنه قدرته أو ملكه، أو نحو ذلك.
24- أن النوم والسنة صفة نقص؛ ولهذا نزه جل وعلا نفسه عنهما.
25- تنزيه الله عن الولد والزوجة، والرد على من نسب ذلك إلى الله.
26- الرد على من قال أن ما هناك سماء، وإنما هو فضاء.
27- أن في السموات خلق لله لا يعلمهم إلا هو جل وعلا.
28- أن الكرسي أوسع من السموات والأرض.
29- أن العباد لا يجرؤون على الشفاعة والتكلم إلا بإذنه، وذلك لجلاله وعظمته.(1/111)
30- الخلاصة أن هذه الآية تملأ القلب مهابة من الله وجلاله وجماله حتى لا تدع موضعًا للغروب بالشفعاء الذين يعظمهم المغرورون ويتكلون على شفاعتهم، فأوقعهم ذلك في ترك المبالاة في الدين، فخويت قلوبهم من ذكر الله، وخلت من خشيته جهلاً منها بما يجب من معرفته، وأفسدت فطرتهم الأهواء. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
في متاع الدنيا وأن ما عند الله خير وأبقى
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
قال الله تعالى: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ * شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } .
يخبر تعالى عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ، وهي ستة:
فأولها: النساء، فبدأ بهن؛ لأن الفتنة بهن أشد؛ ولأنهن حبائل الشيطان، وفي «الصحيح» أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء».(1/112)
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» رواه مسلم.
وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه، فليعمد إلى امرأته فليواقعها، فإن ذلك يرد ما في نفسه» رواه مسلم.
وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا لا يتين رجل عند امرأة ثيب إلا أن يكون ناكحًا أو ذا محرم» رواه مسلم.
وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والدخول على النساء»، فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟ قال: «الحمو الموت» متفق عليه.
وعن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان» رواه الترمذي.
وعن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تلجوا على المغيبات، فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم» قلنا: ومنك يا رسول الله؟ قال: «ومني، ولكن أعانني الله عليه فأسلم» رواه الترمذي.
وأما إذا كان القصد بالنساء الإعفاف وكثرة الأولاد، فهذا مطلوب مرغوب فيه ومندوب إليه، كما وردت بذلك الأحاديث بالترغيب بالتزوج والاستكثار منه، وأن خير هذه الأمة من كان أكثرها نساء.
وعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة» رواه مسلم.
وعن معقل بن يسار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة» رواه أبو داود والنسائي.(1/113)
وعن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خير له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله» رواه ابن ماجه.
وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله في النصف الباقي».
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» متفق عليه.
وعن إسماعيل بن محمد بن أبي وقاص، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سعادة ابن آدم ثلاث، ومن شقاوة ابن آدم ثلاثة، من سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح، ومن شقاوة ابن آدم: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء» رواه أحمد بإسناد صحيح، والطبراني، والبزار، والحاكم، وصححه إلا أنه قال: «والمسكن الضيق»، وابن حبان في «صحيحه» إلا أنه قال: «أربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق».
وقوله في الحديث الآخر: «حبب إليَّ النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة»، وقالت عائشة - رضي الله عنها -: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النساء إلا الخيل، وفي رواية: من الخيل إلا النساء.
وثانيهما: البنون، وحبهم تارة يكون للتفاخر والزينة فهو داخل في هذا، وتارة يكون لتكثير النسل، وتكثير أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ممن يعبد الله وحده لا شريك له، فهذا محمود ممدوح، كما ثبت في الحديث: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة».
قال الناظم - رحمه الله -:
وخير النسا من سرت الزوج منظرًا
قصيرة ألفاظ قصيرة بيتها(1/114)
عليك بذات الدين تظفر بالمنى ... ومن حفظته في مغيب ومشهد
قصيرة طرف العين عن كل أبعد
الودود الولود الأصل ذات التعبد
ثالثها: القناطير المقنطرة، وحب المال تارة يكون للفخر والخيلاء، والتكبر على الضعفاء، والتجبر على الفقراء فهذا مذموم، وتارة يكون لنفقته في القرابات، وصلة الأرحام، والقرابات ووجوه البر والطاعات، فهذا ممدوح محمود شرعًا.
وأما القناطير: فجمع قنطار، واختلف في مقداره على أقوال حاصلها أنه المال الجزيل، كما قال الضحاك وغيره، وقيل: ألف دينار، وقيل: اثنا عشر ألفًا، وقيل: أربعون ألفًا، وقيل: ستون ألفًا، وقيل: سبعون ألفًا، وقيل: ثمانون ألفًا، وقيل غير ذلك، والمقنطرة: قيل المنضد بعضها فوق بعض، وقيل: المضاعفة، وقال السدي: المضروبة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير.
وقوله: { مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ } وهذا التعبير يعشر بالكثرة التي تكون مظنة الافتنان والتي تشغل القلب للتمتع بها وتستغرق في تدبيرها الوقت الكثير حتى لا يبقى بعد ذلك منفذ للشعور بالحاجة إلى نصرة الحق و الاستعداد لأعمال الآخرة، ونجد أن الأغنياء في الأمم لدى بعثة الرسل أول الكافر بهم المستكبرين عن دعوتهم وإن أجابوا وآمنوا، فهم أقل الناس عملاً وأكثرهم بعدًا عن هدي الدين، انظر إلى قول الله تعالى: { سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا } ، وقال: { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا } الآيتين.
وقال: { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً } .(1/115)
وحب المال مما أوجع في الغرائز البشرية، واختلط بلحم الناس ودمهم، والسبب –والله أعلم- كونه وسيلة إلى جلب الرغائب وسبيل إلى نيل اللذات والشهوات، ورغبات الإنسان غير محدودة، ولذاته كثيرة، وكلما حصل على لذة طلب المزيد منها، وما وصل إلى غاية من جمع المال، إلا تاقت نفسه إلى ما فوقها حتى لقد يبلغ ببعضهم النهم في جمعه أن ينسى أن المال وسيلة لا مقصد فيتفنن في الوصول إليه الفنون المختلفة والطرق التي تعن له، ولا يبالي أمن حلال كسب أو من حرام، لاسيما في زمننا الذي اختلط فيه الحابل بالنابل.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لو كان لابن آدم واديان من ذهب، لتمنى أن يكون لهما ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» ولقد عمت فتنة المال كثيرًا من الناس فشغلتهم عن حقوق الله وحقوق خلقه وصارت أوقاتهم مستغرقة في جمعه، وهذا هو الفقر، كما قيل:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر
رابعها: الخيل المسومة، قيل: هي المرعية في المروج والمسارح، وقيل: هي المعدة للجهاد، وقيل: هي الحسان، وقيل: المعلمة من السومة، وهي العلامة.
وحب الخيل على ثلاثة أقسام: تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله، حتى إذا احتاجوا إليها غزوا عليها فهؤلاء يثابون، وتارة تربط فخرًا ونواء لأهل الإسلام، فهذه على صاحبها وزر، وتارة للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس حق الله في رقابها فهذه لصاحبها ستر.(1/116)
وخامسها: الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، وهي مال أهل البادية، ومنها تكون ثروتها ومعايشهم، ومرافقهم، وبها تفاخرهم وتكاثرهم، وقد امتن الله بها على عباده بقوله: { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } ، وقال: { أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } .
وسادسها: الحرث، والحرث الزرع والنبات وعليه قوام حياة الإنسان والحيوان في البدو والحضر، والحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الأنواع السالفة والانتفاع به أتم منها؛ لكنه أخر عنها؛ لأنها لما عم الارتفاق به كانت زينته في القلوب أقل، وقلما يكون الانتفاع به صادًا عن الاستعداد لأعمال الآخرة أو مانعًا من نصرة الحق، وهناك ما هو عام للانتفاع وعظم الفائدة في الحياة وهو الضوء والهواء، فلا يستغنى عنهما الأخياء ومع ذلك قلما يلتفت الإنسان إليهما ولا يفكر في غبطتهما فيحمد الله ويشكره على ذلك، وقديمًا قيل:
إذا ألف الشيء استهان به الفتى
كإنفاقه من عمره ومساغه ... فلم يره بؤسًا يعد ولا نعمًا
من الريق عذبًا لا يحس له طعمًا
وقوله تعالى: { ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا } الإشارة إلى ما سبق ذكره من الأصناف الستة المتقدم ذكرها مما يتمتع به الناس قليلاً في هذه الحياة الفانية ويجعلونه وسيلة في معايشهم وسببًا لقضاء شهواتهم، وقد زين لهم حبها في عاجل دنياهم المنغص لذاتها بالأحزان والأكدار.
قال بعضهم في التحذير من الاغترار بالدنيا وزخرفها:
يا قوم دنياكم دار مزوقة
لها سقوف بلا أس مزخرفة
كم فاتح عينه فيها تخطفه ... لكن لها وضعت في الرمل أركان(1/117)
وكيف يبقى بغير الأس بنيان
أيدي الردى قبل أن تنظم أجفان
{ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ } يعني حسن المرجع في الحياة الآخرة التي تكون بعد موتهم وبعثهم ففيه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة، ولما صغر تعالى الدنيا وزهد فيها في الآية الأولى عظم الآخرة وشرفها ورغب فيها في هذه الآية، فقال: { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ } أي: قل يا محمد للناس أؤخبركم بخير مما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من زهرتها ونعيمها ومستلذاتها التي هي زائلة لا محالة، وإبهام الخبر للتفخيم ثم أخبر عن ذلك، فقال: { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ } وخص المتقين؛ لأنهم المنتفعون بذلك: { جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } أي تسير بين جوانبها وأرجائها الأنهار من الأنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، { خَالِدِينَ فِيهَا } أبد الآباد لا يبغون عنها حولاً.
وقوله: { أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } أي من الدنس، والخبث، والأذى، والحيض، والنفاس، والأقذار، والطبائع الذميمة، والأخلاق اللئيمة.
{ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ } أي ويحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدًا، وجاء في معنى هذه الآية قوله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ } .(1/118)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضي يا ربنا، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا» متفق عليه.
وقوله: { وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } خبير بهم وبأحوالهم وأفعالهم فييسر كلا لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرهم للعمل لتلك الدار الباقية ويأخذون من هذه الحياة الدنيا ما يعينهم على عبادة الله وطاعته، وأما أهل الشقاوة والإعراض فيقيضهم لعمل أهل الشقاوة ويرضون بالحياة الدنيا ويطمئنون بها ويتخذونها قرارًا.
قال ابن القيم - رحمه الله -:
فصل في كلام الرب جل جلاله مع أهل الجنة
أو ما علمت بأنه سبحانه
فيقول جل جلاله هل أنتم
أم كيف لا نرضى وقد أعطيتنا
هل ثم شيء غير ذا فيكون أفضل
ويذكر الرحمن واحدهم بما
منه إليه ليس ثم وساطة
لكن يعرفه الذي قد ناله
ويسلم الرحمن جل جلاله
وكذا يسمعهم لذي خطابه
فكأنهم لم يسمعوه قبل ذا
هذا سماع مطلق وسماعنا
والله يسمع قوله بوساطة
فسماع موسى لم يكن بوساطة ... حقًّا يكلم حزبه بجنان
راضون قالوا نحن ذو رضوان
ما لم ينله قط من إنسان
منه نسأله من المنان
قد كان منه سالف الأزمان
ما ذاك توبيخًا من الرحمن
من فضله والعفو والإحسان
حقًا عليهم وهو في القرآن
سبحانه بتلاوة الفرقان
هذا رواه الحافظ الطبراني
القرآن في الدنيا فنوع ثان
وبدونها نوعان معروفان
وسماعنا بتوسط الإنسان(1/119)
ثم وصف الله تبارك وتعالى عبادة المتقين الذين تتأثر قلوبهم بثمرات إيمانهم فتفيض ألسنتهم بالاعتراف بهذا الإيمان حين الدعاء والابتهال، فقال: { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أي إن الذين اتقوا معاصي الله وتضرعوا إليه خاشعين يقولون مبتهلين متبتلين ربنا إننا آمنا –أي بك- وبكتابك وبرسولك فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا، فهؤلاء يتوسلون إلى ربهم بإيمانهم لمغفرة ذنوبهم ووقاية عذاب النار، وهذا من الوسائل التي يحبها الله أن يتوسل العبد إلى ربه بما منَّ به عليه من الإيمان والأعمال الصالحة إلى تكميل نعم الله عليه بحصول الثواب الكامل واندفاع العقاب.
ثم وصفهم بصفات امتازوا بها عن غيرهم، وهي من أجمل الصفات، أولها: الصبر الذي هو حبس النفس على ما تكره تقريبًا إلى الله، فيصبرون على طاعة الله، ويصبرون على أقدار الله المؤلمة، ويصبرون عن معاصي الله.
وقد أمر الله بالصبر ووعد الصابرين بالأجر الجزيل، فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا } ، وقال: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } ، وقال: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا } ، وقال: { وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } فما من قربة إلا وأجرها بتقدير وحساب، إلا الصبر ولأجل كون الصوم من الصبر، قال الله تعالى: «الصوم لي وأنا أجزي به».
وفي «الصحيحين»: من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر»، وفي حديث آخر: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد».(1/120)
الصفة الثانية: الصدق في الأقوال والأحوال، وهو استواء الظاهر والباطن وصدق العزيمة على سلوك الصراط المستقيم، وحسبك في بيان فضيلته قوله تعالى: { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ } ، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } .
وفي «الصحيحين»: عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا».
الصفة الثالثة: القنوت، وهو المداومة على الطاعة والإخبات إلى الله مع الخشوع والخضوع، وهو لب العبادة وروحها، وبدونه تكون العبادة بلا روح وشجرة بلا ثمر.
الصفة الرابعة: الإنفاق للمال في جميع السبل التي حث عليها الشارع سواء أكانت النفقة واجبة أم مستحبة، فالإنفاق في أعمال البر جميعًا مما حث الشارع عليه، وندب إليه، وقوله تعالى: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } .
قيل: نزلت هذه الآية في نصارى نجران، وقال الكلبي: قدم حبران من أحبار الشام على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أبصرا المدينة، قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا عليه عرفاه بالصفة، فقالا له: أنت محمد؟ قال: «نعم»، قالا له: وأنت أحمد؟ قال: «أنا محمد وأحمد»، قالا له: فإنا نسألك عن شيء، فإن أخبرتنا به آمنا بك وصدقناك، فقال: «نعم»، قالا: فأخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عز وجل، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأسلم الرجلان.(1/121)
هذه أجل الشهادات الصادرة من الملك العظيم الكبير المتعالي، ومن الملائكة الكرام وأهل العلم على أجل مشهود عليه، وهو توحيد الله وقيامه بالقسط، وذلك يتضمن الشهادة على جميع الشرع وجميع أحكام الجزاء، فإن الشرع والدين أصله وقاعدته توحيد الله وإفراده بالعبودية، والاعتراف بإنفراده بصفات العظمة والكبرياء والمجد والعز والقدرة والجلال، ونعوت الجود والبر والرحمة والإحسان والجمال، وبكماله المطلق الذي لا يحصي أحد من الخلق أن يحيط بشيء منه أو يبلغه، أو يصل إلى الثناء عليه.
والعبادات الشرعية والمعاملات وتوابعها والأمر والنهي كله عدل وقسط، لا ظلم فيه ولا جور بوجه من الوجوه، بل هو غاية الحكمة والإحكام والجزاء على الأعمال الصالحة والسيئة كله قسط وعدل، قال تعالى: { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ } فتوحيد الله ودينه وجزاءه قد ثبت ثبوتًا لا ريب فيه، وهي أعظم الحقائق وأوضحها، وقد أقام الله على ذلك من البراهين والأدلة ما لا يمكن إحصاؤه وعده.
وتضمنت الآية الإبانة عن فضل العلم والعلماء؛ لأنه تعالى خصهم بالذكر من دون البشر وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وجعل شهادتهم من أكبر الأدلة والبراهين على توحيده ودينه وجزائه، وأنه يجب على المكلفين قبول هذه الشهادة العادلة الصادقة، وفي ضمن ذلك تعديلهم، وأن الخلق تبع لهم وأنهم هم الأئمة المتبوعون، ففي هذا من الفضل والشرف وعلو المكانة ما لا مزيد عليه.
ومما جاء في فضل العلم والعلماء ما ورد عن أبي أمامة الباهلي، قال: ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان أحدهما عابد والآخر عالم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فضل العالم على العابد، كفضلي على أدناكم»، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير» رواه الترمذي.(1/122)
وعن كثير بن قيس قال: كنت جالسًا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فجاء رجل، فقال: يا أبا الدرداء، إني جئتك من مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ما جئت لحاجة، قال: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طريق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضي لطالب العلم، وإن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإنما العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» رواه أحمد والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي، وسماه الترمذي قيس بن كثير.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة» رواه مسلم وغيره.
وقال سفيان الثوري عن أبي حيان التيمي عن رجل، قال: كان يقال العلماء ثلاثة: عالم بالله، وعالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله تعالى، وعالم بأمر الله ليس بعالم الله، فالعالم بالله وبأمر الله الذي يخشى الله تعالى ويعلم الحدود والفرائض، والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود والفرائض، والعالم بأمر الله وليس بعالم بالله الذي يعلم الحدود والفرائض ولا يخشى الله عز وجل. والله أعلم، وصلى الله على محمد.
مما يفهم من الآيات السابقة من «سورة آل عمران» [الآيات 14، 15، 16، 17]:
1- أن مما زين للناس حب النساء.
2- حب البنين.
3- حب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة.
4- حب الخيل المسومة.
5- أن حب هذه لا ينافي الدين إن لم يتعد صاحبها الشرع.
6- أن ما ذكر متاع الحياة الدنيا.
7- أن حسن المرجع في الحياة الآخرة.
8- التزهيد في الحياة الدنيا.
9- الترغيب في الآخرة.(1/123)
10- إيهام الخبر للتفخيم.
11- تخصيص المتقين؛ لأنهم المنتفعون بذلك.
12- إثبات الربوبية.
13- الحث على التقوى.
14- دليل على علو الله على خلقه.
15- دليل أن الجنة في أعلى.
16- إثبات الجنة.
17- دليل على وجود الجنة الآن وأنها مخلوقة.
18- أن فيها أنهار.
19- أن أنهارها تجري.
20- أن أهل الجنة ماكثين فيها أبدًا.
21- دليل على بقاء الجنة.
22- أن لأهل الجنة أزواج.
23- أن أزواجهم مطهرة من الدنس والخبث والأذى والحيض والنفاس وسائر الأقذار.
24- إثبات صفة الرضى.
25- حصول رضى الله لأهل الجنة جعلنا الله منهم وإخواننا المسلمين، ومتعنا وإياهم بالنظر إلى وجهه الكريم، اللهم صل على محمد وآله.
26- إن رضى الله عنهم أكبر وأجل وأعظم مما هم فيه من النعيم، كما قال تعالى: { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } .
27- إثبات البعث والحساب والجزاء على الأعمال.
28- إثبات علم الله.
29- الحث على مقام المراقبة.
30- إثبات الألوهية لله.
31- الخوف من الله.
32- دليل على كرم الله وجوده؛ فلهذا أعطى أهل الجنة فوق مرامهم، بل أعد لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
33- دليل على قدرة الله وأنه لا يعجزه شيء.
34- أن المتقين المعد لهم النعيم تتأثر قلوبهم بثمرات الإيمان فتفيض ألسنتهم بالاعتراف بهذا الإيمان حين الدعاء والابتهال.
35- أنهم مع أعمالهم يسألون الله مغفرة ذنوبهم.
36- أنهم مع ذلك يسألون الله جل وعلا أن يقيهم عذاب النار.
37- دليل على البعث والحساب والجزاء على الأعمال.
38- دليل على جواز التوسل إلى الله بالإيمان والأعمال الصالحة لمغفرة الذنوب وقصة أصحاب الغار الثلاثة مشهورة نكتفي بالإرشاد إليها.
39- أن من الصفات التي امتازوا بها عن غيرهم الصبر.
40- أن من صفاتهم الصدق.
41- أن من صفاتهم المداومة على الطاعة.
42- أن من صفاتهم الإنفاق فيما حث الشارع عليه.(1/124)
43- أنهم مع ما تقدم من الأعمال الصالحة يستغفرون الله في الأسحار.
44- الحث على الصبر؛ لأن الله مدح من اتصف به.
45- الحث على الصدق لما تقدم.
46- الحث على القنوت؛ لأن الله مدح من اتصف به.
47- الحث على الإنفاق في مراضي الله لما سبق.
48- الحث على الاستغفار لما تقدم.
49- تجنب الكذب.
50- الابتعاد عن البخل.
51- الابتعاد عن الذنوب.
52- الخوف من النار.
53- تجنب التسخط والتضجر مما يقدره الله على العبد.
54- إثبات صفة الربوبية لله جل وعلا.
55- أن هذه أعظم شهادة.
56- إثبات شهادة الله على وحدانيته وقيامه بالقسط وألوهيته.
57- إثبات وحدانية الله.
58- إثبات الملائكة.
59- إثبات شهادتهم.
60- الرد على من أنكرهم من الملاحدة والدهريين ومن سلك مذهبهم.
61- دليل على فضل العلم.
62- فضل العلماء لتخصيصهم دون غيرهم وقرن شهادتهم بشهادته.
63- وجوب قبول هذه الشهادة على المكلفين.
64- دليل على أن الخلق تبع للعلماء المحققين المتمسكين بكتاب الله وسُّنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
65- إثبات عدل الله وقيامه به.
66- إثبات صفة العزة لله.
67- إثبات الأسماء لله.
68- إثبات حكمة الله.
69- الرد على الجهمية ونحوهم من المنكرين لهذه الصفة ولغيرها.
70- إثبات صفة الكلام لله.
71- أن من أسمائه تعالى العزيز.
72- أن من أسمائه تعالى الحكيم.
73- الحث على طلب العلم الشرعي.
74- الحث على العدل.
75- الحث على توحيد الله.
76- الرد على من أنكر صفة الكلام لله.
77- الرد على المشركين.
78- الرد على النصارى؛ لقولهم: { إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ } .
بسم الله الرحمن الرحيم
في التحذير من الربا
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم(1/125)
قال الله تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } .
وقوله تعالى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ } .(1/126)
يقول الله تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافًا مضاعفة، كما كانوا في الجاهلية يفعلونه حيث كان الرجل منهم إذا كان له دين وحل أجله، قال الدائن للمدين: إما أن تقضي وأما أن تربي، فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاد في القدر، وهكذا كل عام فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيرًا مضاعفًا، وفي الغالب لا يفعل مثل ذلك إلا معدم محتاج فهو يبذل الزيادة؛ ليفتدي من أسر المطالبة، ولا يزال كذلك يعلوه الدين وربما استغرق جميع موجوده، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويوقعه في المشقة والضرر، فمن رحمته تعالى وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا وآذان من لم يدعه بحربه وحرب رسوله، ولم يجيء مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } الآية.
ولعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، فعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن آكل الربا وموكله» رواه مسلم، زاد الترمذي وغيره: «وشاهديه وكاتبه»، وعن جابر - رضي الله عنه - قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه»، وقال: «هم سواء» رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، وذكر منها آكل الربا» متفق عليه.(1/127)
وعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رأيت الليلة رجلين أتياني أخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى شاطئ النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان»، فقلت: ما هذا؟ فقال: «الذي رأيته في النهر آكل الربا»رواه البخاري في «صحيحه».
ثم أكد سبحانه النهي، فقال تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي واتقوا الله فيما نهيتم عنه من الأمور ومن جملتها الربا، فإن المعاصي كلها وخصوصًا المعاصي الكبار تجر إلى الكفر فترك المعاصي ينجي النار، ويقي من سخط الجبار، وأفعال الخير والطاعة توجب رضى الرحمن، ودخول الجنات، وحصول الرحمة.
ثم زاد سبحانه النهي تأكيدًا، فقال: { وَاتَّقُوا النَّارَ الَتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } أي ابتعدوا عن متابعة المرابين، وتعاطي ما يتعاطونه من أكل الربا الذي يفضي بآكله إلى دخول النار التي أعدها الله للكافرين، وفي هذا من شديد الزجر ما لا يخفى، فإن المؤمنين الذين خوطبوا باتقاء النار إذا علموا أنهم متى فارقوا التقوى أدخلوا هذه النار كان انزعاجهم عن المعاصي أتم، ومن ثم روي عن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه كان يقول: إن هذه أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة إن لم يتقوه في اجتناب محارمه.
ثم بالغ في النهي، فقال: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي أطيعوا الله والرسول بفعل الأوامر وامتثالها واجتناب النواهي لعلكم ترحمون، فطاعة الله وطاعة رسوله من أسباب حصول الرحمة.(1/128)
وقوله تعالى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } لما حذر الله تعالى عن الأفعال الموجبة للعقاب ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات، فقال تعالى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } أي بادروا وسابقوا إلى الأعمال الصالحة التي توجب المغفرة، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إلى الإسلام، وروي: إلى التوبة، وبه قال عكرمة، وقال أبو العالية: إلى الهجرة، وقال الضحاك: إلى الجهاد، وقال مقاتل: إلى الأعمال الصالحة، وروي عن أنس بن مالك: أنها التكبيرة الأولى.
وقد ورد في الحث على المبادرة إلى الخيرات آيات وأحاديث قال الله تعالى: { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } ، وقال تعالى: { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بادروا بالأعمال الصالحة فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا».
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد: أرأيت إن قُتلت فأين أنا؟ قال: «في الجنة»، فألقى تمرات كن في يده، ثم قاتل حتى قُتل، متفق عليه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بادروا بالأعمال سبعًا، هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنى مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال، فشر غائب ينتظر، أو الساعة، فالساعة أدعوى وأمر» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.(1/129)
وقوله: { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ } أي وإلى جنة عرضها السموات والأرض، أي عرضها كعرض السموات والأرض كما بينه قوله تعالى في «سورة الحديد»: { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } ؛ أي سعتها، وإنما ذكر العرض على المبالغة؛ لأن طول كل شيء في الأكثر والأغلب أكثر من عرضه، يقول هذه صفة عرضها، فكيف طولها؟ قال الزهري: إنا وصف عرضها فأما طولها فلا يعلم إلا الله، وقوله: { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } أي هيئت للمطيعين لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكر تعالى صفة أهل الجنة وأعمالهم، فقال: { الَّذينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ } أي في الشدة والرخاء والمنشط والمكره والصحة والمرض، وفي جميع الأحوال، كما قال: { الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّليْلِ وَالنَّهَارِ سِرًا وَعَلانِيَةً } ، والمعنى: إنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة الله والإنفاق في مراضيه والإحسان على خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر، فأول ما ذكر من أخلاقهم الموجبة للجنة ذكر السخاء.
وقد وردت أحاديث في الحث على الجود والإنفاق في وجوه الخير، فمنها: ما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا» متفق عليه، وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله تعالى: أنفق يا ابن آدم ينفق عليك» متفق عليه.(1/130)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها» متفق عليه، وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟» قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: «فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر» رواه البخاري.
وعن أبي أمامة صدي بن عجلان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى» رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزاء، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل» رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «السخي قريب من الله، قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد عن النار، والبخيل بعيد عن الله، بعيد عن الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار، ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل».
قال الشاعر:
يغطي بالسماحة كل عيب ... وكم عيب يغطيه السخاء
وقال الآخر:
ويظهر عيب المرء للناس بخله ... ويستره عنهم جميعًا سخاؤه
وقوله تعالى: { وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ } أي الجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه، والكظم: حبس الشيء عند امتلائه، وكظم الغيظ أن يمتلئ غيظًا فيرده في جوفه ولا يظهره، ومنه قوله تعالى: { إِذِ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ } .
وعن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كظم غيظًا وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء».(1/131)
وعن زيد بن أسلم عن رجل من أهل الشام، يقال له: الجليل عن عم له عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في قوله: { وَالْكَاظِمِينَ } أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» متفق عليه.
وفي بعض الآثار يقول الله تعالى: «يا ابن آدم، اذكرني إذا غضبت فلا أهلك فيمن أهلك» رواه ابن أبي حاتم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أوصني، قال: «لا تغضب» فردد مرارًا، قال: «لا تغضب» رواه البخاري.
وعن حميد بن عبدالرحمن، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رجل: يا رسول الله، أوصني، قال: «لا تغضب» قال: ففكرت حين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله، رواه أحمد، ورواته محتج بهم في الصحيح.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يباعدني من غضب الله عز وجل؟ قال: «لا تغضب» رواه أحمد، وابن حبان في «صحيحه» إلا أنه قال: ما يمنعني.
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من جرعة أعظم عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله» ابن ماجه، ورواته محتج بهم في «الصحيح».
وقوله تعالى: { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } العفو عن الناس التجاوز عن ذنوبهم وترك مؤاخذتهم مع القدرة على ذلك، يعني الصافحين عن الناس المتجاوزين عما يجوز العفو والتجاوز عنه مما لا يؤدي إلى الإخلال بحق الله تعالى، فيدخل في العفو عن الناس عن كل من أساء إليك بقول أو فعل.
ولله در القائل:
وإن أساء مسيء فليكن لك في ... عروض زلته صفح وغفران
وقال الآخر:
وأحلم عن خلي وأعلم أنه ... متى أجزه حلمًا على الجهل يندم
وقال أيضًا:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا(1/132)
فالعفو أرقى من الكظم؛ لأنه ربما كظم غيظه على الحقد والضغينة، وقيل: العافين عن المملوكين إذا أساءوا، والعموم أولى.
أخرج ابن جرير عن الحسن أن الله تعالى يقول يوم القيامة: «ليقم من كان له على الله تعالى أجر، فلا يقوم إلا إنسان عفا».
وفي الحديث: «ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه».
وروى الحاكم في «مستدركه» من حديث موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى بن أبي طلحة القرشي عن عبادة بن الصامت، عن أبي بن كعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سره أن يشرف له البنيان، وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه، ويعط من حرمه، ويصل من قطعه» ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وقد أورده ابن مردويه من حديث علي وكعب بن عجرة وأبي هريرة وأم سلمة - رضي الله عنهم - بنحو ذلك.
وروي من طريق الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول: أين العافون عن الناس؟ هلموا إلى ربكم وخذوا أجوركم، وحق على كل امرئ مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة».
وقوله: { وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ } هذا تذييل لمضمون ما قبله، وأل إما للجنس والمذكورون داخلون فيه دخولاً أوليًا، وإما للعهد وعبر عنهم بالمحسنين على ما قيل إيذانًا بأن النعوت المعدومة من باب الإحسان، الذي هو الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي، وقد فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - «بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وعبر عنهم بذلك للإشارة إلى أنهم في جميع تلك النعوت محسنون إلى الغير لا في الإنفاق فقط.(1/133)
وأخرج البيهقي أن جارية لعلي بن الحسين -رضي الله عنهما- جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها، فشجه، فرفع رأسه إليها، فقالت: إن الله تعالى يقول: { وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ } ، فقال لها: قد كظمت غيظي، قالت: { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } قال: قد عفا الله عنك، قالت: { وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ } قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى.
ورجح بعضهم العهد على الجنس بأنه أدخل في المدح وأنسب بذكره قبل قوله تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } انتهى.
والإحسان نوعان: الإحسان في عبادة الخالق، والإحسان إلى المخلوق، فالإحسان في عبادة الخالق: فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، وأما الإحسان إلى المخلوق: فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم، فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتعليم جاهلهم، ووعظ غافلهم والنصيحة لعامتهم وخاصتهم، والسعي في جمع كلمتهم وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم على اختلاف أحوالهم وتباين أوصافهم فيدخل في ذلك بذل الندى، وكف الأذى واحتمال الأذى كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات، فمن قام بهذه الأمور فقد قام بحق الله وحق عبيده، انتهى.
ثم ذكر اعتذارهم من جناياتهم وذنوبهم، فقال: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } أي إذا صدر منهم أعمال سيئة كبيرة أو صغيرة، بادروا إلى التوبة والاستغفار وذكروا ربهم، وما توعد به العاصين، ووعد به المتقين، فسألوه المغفرة لذنوبهم والستر لعيوبهم مع إقلاعهم عنها وندمهم عليها وعزمهم أن لا يعودوا.(1/134)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن رجلاً أذنب ذنبًا، فقال: رب أذنبت ذنبًا فاغفره لي، فقال الله عز وجل: عبدي عمل ذنبًا، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنبًا آخر، فقال: رب إني عملت ذنبًا فاغفره، فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنبًا آخر، فقال: ربي عملت ذنبًا فاغفره لي، فقال عز وجل: علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنبًا آخر، فقال: رب إني عملت ذنبًا، فاغفره، فقال الله عز وجل: عبدي علم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به، أشهدكم أني قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء» رواه مسلم.
وقوله: { وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ } جملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها تصويبًا لفعل التائبين وتطيبًا لقلوبهم وبشارة لهم بسعة الرحمة وقرب المغفرة وإعلاء لقدرهم بأنهم علموا أن لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه وأن من كرمه أن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأن العبد إذا التجأ إليه وتنصل عن الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأن العبد إذا التجأ إليه وتنصل عن الذنب بأقصى ما يقدر عليه عفا عنه وتجاوز عن ذنوبه وإن جلت، قال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ } ، وقال: { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } .(1/135)
وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كانت راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح» رواه مسلم.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن العبد إذا اعترف ثم تاب، تاب الله عليه» متفق عليه.
وعن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساءوا استغفروا» رواه ابن ماجه والبيهقي في «الدعوات الكبير».
وقوله: { وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا } أي ولم يقيموا على المعصية، بل تابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى الله من قريب، ولو تكرر منهم الذنب تابوا.
وعن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة».
وقوله: { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال ابن عباس والحسن ومقاتل والكلبي: يعلمون أنها مصيبة، وقيل: وهمن يعلمون أن الإضرار ضار، وقال الضحاك: وهم يعلمون أن الله يملك مغفرة الذنوب، وقال الحسين بن الفضل: وهم يعلمن أن لهم ربًا يغفر الذنوب، وقيل: وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غفر لهم، وأن من تاب تاب الله عليه، وهذا كقوله تعالى: { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } ، وكقوله تعالى: { وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا } ونظائر هذا كثير جدًا.(1/136)
وقد ورد عن عبدالله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال وهو على المنبر: «ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون» تفرد به أحمد.
وقوله: { أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ } إشارة إلى من تقدم وصفهم من المتقين الذين ينفقون في السراء والضراء إلى آخر الكلام، أي هؤلاء جزاؤهم على أعمالهم، وتوبتهم واستغفارهم مغفرة من ربهم، أي ستر لذنوبهم وعفو من الله عن عقوبتهم على ما سلف من ذنوبهم، ولهم على ما أطاعوا الله فيه من أعمالهم بالحسن منها جنات، وهي البساتين الجامعة للأشجار العجيبة، والثمار الأنيقة، والظلال المديدة، والأغصان والأفنان، وبذلك صارت جنة يجتن بها داخلها.
وقوله: { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } أي من تحت أشجارها ومساكنها وغرفها، وقد جاء في الحديث: «أن أنهارها تجري في غير أخدود»، وقد بين سبحانه أنواع هذه الأنهار في قوله تعالى: { فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } .
وقوله: { خَالِدِينَ فِيهَا } أي مقيمين لا يحولون عنها ولا يبغون بها بدلاً، ولا بغير ما هم فيه من النعيم.
وقوله: { وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ } المخصوص بالمدح محذوف، أي ونعم أجر العاملين الجنة، عملوا لله قليلاً فأجروا كثيرًا، فعند الصباح يحمد القوم السري وعند الجزاء يجد العامل أجره كاملاً موفرًا { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا } .
قال ابن القيم - رحمه الله -:
فصل في صفة الجنة
فاسمع إذًا أوصافها وصفات ها
هي جنة طابت وطاب نعيمها
دار السلام وجنة المأوى
فالدار دار سلامة وخطا بهم ... تيك المنازل ربة الأركان
فنعيمها باق وليس بفان
ومنزل عسكر الإيمان والقرآن(1/137)
فيها سلام واسم ذي الغفران
وقال -رحمه الله -:
فصل في أنهار الجنة
أنهارها في غير أخدود جرت
من تحتهم تجري كما شاءوا مفجرة
عسل مصفى ثم ماء ثم خمر
والله ما تلك المواد كهذه
هذا وبينهما يسير تشابه ... سبحان ممسكها عن الفيضان
وما للنهر من نقصان
ثم أنهار من الألبان
لكن هما في اللفظ مجتمعان
وهو اشتراك قام بالأذهان
مما يفهم من الآيات [130-136]:
1- النهي عن أكل الربا.
2- أنه محرم.
3- الأمر بالتقوى.
4- إثبات الألوهية.
5- أن التقوى سبب للفلاح.
6- الأمر باتقاء النار.
7- الدليل على أن أكل الربا من الكبائر.
8- إثبات وجود النار.
9- دليل على أنها الآن مخلوقة ومعدة للكفار.
10- أنها معدة للكفار.
11- إثبات البعث والحساب والجزاء على الأعمال.
12- والخوف والحذر من النار.
13- سماحة الدين الإسلامي حيث لم يبح الربا لما فيه من القسوة واستغلال ضرورة المعوز وحاجته.
14- الحث على ما يوجد المحبة في القلوب.
15- الإبعاد عما يوجب البغضاء.
16- زيادة التأكيد في النهي عن الربا.
17- في هذه الآية من شديد الزجر عن الربا ما لا يخفى، فإن المؤمنين الذين خوطبوا باتقاء المعاصي إذا علموا أنهم متى فارقوا التقوى أدخلوا هذه النار كان انزعاجهم وقلقهم عن المعاصي أتم، ومن ثم روي عن أبي حنيفة - رحمه الله - أنه كان يقول: إن هذه أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار العدة للكفار إن لم يتقوه في اجتناب محارمه.
18- أن في قوله: { أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً } تنبيه على شدة شناعته بكثرة.
19- التنبيه على حكمة تحريم الربا، وأنها لما فيه من الظلم، وذلك أن الله أوجب إنظار المعسر وبقاء ما في ذمته من غير زيادة، فإلزامه بما فوق ذلك ظلم متضاعف.
20- الأمر بطاعة الله.
21- الأمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
22- في الآية معاقبة للذين عصوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد.(1/138)
23- تعقيب الوعيد بالوعد، ترهيبًا عن المخالفة، وترغيبًا في الطاعة.
24- إثبات صفة الرحمة.
25- الحث على المسارعة إلى ما هو سبب لمغفرة الذنوب.
26- الحث على المسارعة إلى إدراك الجنة.
27- إثبات صفة المغفرة.
28- إثبات الربوبية.
29- دليل على إثبات الجنة.
30- دليل على سعتها.
31- دليل على أن الجنة الآن مخلوقة.
32- حسن التعبير عن الجنة بعرض السموات والأرض؛ لأنهما أوسع مخلوقات الله سبحانه فيما يعلمه عباده.
33- الحث على التقوى.
34- أنها سبب لمرضات الله.
35- أن من صفاتهم أنهم ينفقوا في السراء.
36- أنهم ينفقون في الشدة فنفقتهم مستمرة في المنشط والمكره، وفي جميع الأحوال.
37- إن من صفاتهم كظم الغيظ.
38- إن من صفاتهم العفو عن الناس.
39- إثبات صفة المحبة لله.
40- الحث على الإنفاق فيما يرضي الله سبحانه.
41- الحث على كظم الغيظ.
42- الحث على العفو عن الناس.
43- الحث على الإحسان.
44- إثبات الألوهية.
45- الحث على التحلي بالأخلاق الفاضلة.
46- إثبات الأفعال الاختيارية لله.
47- أن من صفاتهم أنهم إذا صدر منهم أعمال سيئة بادروا إلى التوبة والاستغفار، وذكروا ربهم وما توعد به العاصين.
48- الحث على ذكر الله.
49- النهي عن الفواحش؛ لأنها من الذنوب العظام، وقد نهى الله عن قريانها.
50- أن من صفات أولئك أنهم لم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.
51- أنهم يعلمون أن من تاب تاب الله عليه.
52- الرد على الجبرية.
53- إثبات البعث.
54- إثبات الحساب والجزاء على الأعمال.
55- أن الموصوفون بتلك الصفات جزاؤهم مغفرة من ربهم.
56- إثبات صفة المغفرة.
57- إثبات الربوبية الخاصة.
58- إن الموصوفون بتلك الصفات لهم مع مغفرة الذنوب جنات.(1/139)
59- إن فيها أنهار، وهي موضحة في آية أخرى في قوله تعالى: { فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } الآية.
60- أنهم مقيمين فيها أبدًا.
61- أن هذه الآيات الكريمة من أدلة أهل السُّنة والجماعة على أن الأعمال تدخل في الإيمان.
62- في الآية رد على المرجئة.
63- دليل على كرم الله وجوده، يوفق العبد للعمل اليسير، ويجزيه عليه الثواب العظيم.
64- أنه لا يتعاظمه شيء أعطاه.
65- لطف الله بخلقه إذ بين لهم طرق السعادة.
66- الحث على الاستغفار.
67- أنه لا أحد يغفر الذنوب إلا الله.
68- مدح هذا الجزاء العظيم يفيد تنشيط السامع.
69- دليل على علم الله.
70- دليل على حكمة الله.
71- الترغيب في الأعمال الصالحة للحصول على هذا الأجر العظيم.
72- في الآيات ما يدعو إلى محبة الله؛ لأن النفوس مجبولة على من يحسن إليها ويبذل لها محض النصح، فكيف بمن إحسانه شامل للخلق كلهم في كل زمان ومكان.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
في الحث على التفكر فيما خلق الله سبحانه وتعالى واستجابته –سبحانه- لدعاء عباده المؤمنين، وأمره لهم بالصبر
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم(1/140)
قال الله تبارك وتعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ * لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي البِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ * وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً(1/141)
أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
لما بين سبحانه وتعالى أن له ملك السموات والأرض عقبه ببيان الدلالة على ذلك، فقال: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة: من كواكب سيارات، وثوابت وبحار وجبال وقفار، وأشجار ونبات وزروع وثمار، وحيوان ومعادن، ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص.
وقوله: { اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي في تعاقبهما وتقارظهما في الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرًا، ويقصر الذي كان طويلاً، وكل ذلك تقدير العزيز العليم؛ ولهذا قال: { لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ } أي دلالات لأولي العقول التامة الزكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليس كالصم البكم الذين لا يعقلون، الذين قال الله فيهم: { وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } .
ثم وصف تعالى أولي الألباب، فقال: { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } قال علي بن أبي طالب و ابن عباس - رضي الله عنهم -، والنخعي وقتادة: هذا في الصلاة يصلي قائمًا، فإن لم يستطع فعلى جنب، وثبت في «الصحيحين»: عن عمران بن حصين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطعْ فعلى جنبك».(1/142)
وقال سائر المفسرين: أراد به المداومة على الذكر في عموم الأحوال؛ لأن الإنسان قل ما يخلو من إحدى هذه الحالات الثلاثة، نظيرة في سورة النساء: { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } ، ولا تنافي بين المفسرين؛ لأنه غير ممتنع وصفهم بالذكر في هذه الأحوال وهم في الصلاة، والله أعلم.
وقد ورد في فضل ذكر الله عز وجل والحث عليه آيات وأحاديث كثيرة وليس بعد تلاوة القرآن الكريم عبادة تؤدى باللسان أفضل من ذكر الله سبحانه وتعالى ورفع الحوائج بالأدعية الخالصة إليه، ومما يدل على فضل الذكر مع الآية المتقدمة قوله تعالى: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } ، وقوله: { وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ، وقوله: { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } .
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله؟» قلت: بلى يا رسول الله، أخبرني بأحب الكلام إلى الله، قال: «إن أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده» رواه مسلم.
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت» رواه البخاري، ورواه مسلم، فقال: «مثل البيت الذي يذكر الله فيه والذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت».
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» متفق عليه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سبق المفردون»، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: «الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات» رواه مسلم.(1/143)
وقوله: { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } أي ومن صفة أولي الألباب أن يتفكروا في خلق السموات والأرض ويتدبروا ويفهموا ما فيهما من الحكم الدالة على وحدانية الله تعالى وعظمته، وكمال قدرته، وعلمه، وحكمته، واختياره رحمته، ويتبع ذلك صدق الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام، وأن الكتب التي أنزلت عليهم مفصلة لأحكام التشريع حاوية لكامل الآداب والأخلاق، ولما يلزم نظم المجتمع في هذه الحياة وللحساب والجزاء على الأعمال بدخول الجنة والنار.
قال ابن عون: الفكرة تذهب الغفلة، وتحدث للقلب الخشية، كما يحدث الماء للزرع النماء، وما جليت القلوب بمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفكرة، وقال الشيخ أبو سليمان الدارني: إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله فيه نعمة، ولي فيه عبرة، رواه ابن أبي الدنيا في كتاب «التوكل والاعتبار»، وعن الحسن البصري أنه قال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة، وقال الفضيل: قال الحسن: الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك، وقال سفيان ابن عيينة: الفكر نور يدخل قلبك، وعن عيسى - عليه السلام - أنه قال: طوبى لمن كان قيله تذكرًا وصمته تفكرًا ونظره عبرًا، وقال لقمان الحكيم: إن طول الوحدة ألهم للفكرة، وطول الفكر دليل على طرق باب الجنة.
وقال وهب بن منبه: ما طالت فكرة امرئ قط إلا فهم، ولا فهم امرؤ إلا علم، ولا علم امرؤ قط إلا عمل، وقال عمر بن عبدالعزيز: الكلام بذكر الله عز وجل حسن، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة، وقال مغيث الأسود: زوروا القبور كل يوم تفكركم وشاهدوا الموقف بقلوبكم، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامها وأطباقها.
ومر رجل براهب عند مقبرة ومزبلة، فناداه، فقال: يا راهب إن عندك كنزين من كنوز الدنيا لك فيهما معتبر: كنز الرجال وكنز الأموال.(1/144)
وعن ابن عمر أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه أتى الخربة، فيقف على بابها، فينادي بصوت حزين، فيقول: أين أهلك؟ ثم يرجع إلى نفسه، فيقول: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } ، وقال بشر ابن الحارث الحافي: لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوه.
وقال الحسن، عن عامر ابن عبد قيس قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون: إن ضياء الإيمان –أو نور الإيمان- التفكر، وعن عيسى - عليه السلام - أنه قال: يا آبن آدم الضعيف، اتق الله حيثما كنت، وكن في الدنيا ضيفًا، واتخذ المساجد بيتًا، وعلم عينيك البكاء، وجسدك الصبر، وقلبك الفكر، ولا تهتم برزق غد.
وعن أمير المؤمنين عمر عبدالعزيز - رضي الله عنه - أنه بكى يومًا بين أصحابه فسُئل عن ذلك، فقال: فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها، ولئن لم يكن فيها عبرة إن فيها مواعظ لمن ادكر.
قال ابن القيم: الفكر هو إحضار معرفتين في القلب ليثمر منهما معرفة ثالثة كاستحضار الدنيا وصفاتها، والآخرة وصفاتها، ليثمر من ذلك أيهما أحق بالإيثار، واستحضار الأخلاق والأعمال الصالحة والفاسدة هل وجودها خير أو عدمها، ثم يؤثر العاقل أنفع الأمرين، وهكذا.(1/145)
والتفكر في القرآن نوعان: تفكر فيه ليقع على مراد الرب، وتفكر في معاني ما دعا عباده إلى التفكر فيه، وإذا تأملت ما دعا سبحانه عباده إلى التفكر فيه أوقعك على العلم به وبأسمائه وصفاته، ورحمته، وإحسانه، وبره ورضاه، وغضبه وثوابه وعقابه، فبهذا تعرف إلى عباده وندبهم إلى التفكر في آياته، ونذكر لذلك أمثلة مما ذكرها الله سبحانه في كتابه ليستدل بها على غيره، فمن ذلك خلق الإنسان، وقد ندب سبحانه إلى التفكر فيه، والنظر في غير موضع من كتابه، كقوله تعالى: { فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ } ، وقوله تعالى: { وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } ، وقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ } الآية، وقال: { أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } إلى آخر السورة، وساق آيات أخرى.
ثم قال: وهذا كثير في القرآن يدعو إلى العبد إلى النظر والفكر في مبدئ خلقه ووسطه وآخره، إذ نفسه وخلقه من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه، وفيها من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه وهو غافل عنه معرض عن التفكر فيه، ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقه.(1/146)
ثم لما تفكروا عرفوا أن في كل من ذلك حكمًا ومقاصد وفوائد لا تحيط بتفاصيلها الأفكار، وأنها لم تخلق عبثًا: { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً } أي ما خلقت هذا الخلق عبثًا، بل لغرض صحيح وحكمة ومصلحة: { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } ثم ينزهونه عن العبث وخلق الباطل وكل ما لا يليق بصفاته أو يلحق نقصًا بذاته، فيقولون: { سُبْحَانَكَ } أي تنزيهًا لك عن كل ما لا يليق بجلالك، بل كل خلقك حق مشتمل على حكم جليلة ومصالح عظيمة، والإنسان بعض خلقك لم يخلق عبثًا، فإن لحقه الفناء وتفرقت منه الأجزاء بعد مفارقة الأرواح للأبدان فبقدرتك التي لا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء ستعيده في نشأة أخرى كما بدأته في النشأة الأولى فريق أطاعك واهتدى فأفلح وأدخلته الجنة بما عمل، وفريق حق عليه الضلالة فكب في النار بما اجترح من السيئات، وما عمل من الموبقات جزاء وفاقًا، { وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } .
وقوله: { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أي يا من خلق الخلق بالحق والعدل يا من هو منزه عن العيب والنقائص والعبث قنا من عذاب النار بحولك وقوتك وقيضنا لأعمال ترضى بها عنا، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم، وتجيرنا به من العذاب الأليم.
ثم قالوا: { رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } هذا تأكيد لما نقدمه من استدعاء الوقاية من النار منه سبحانه وبيان للسبب الذي لأجله دعاه عباده بأن يقيهم عذاب النار وهو أن من أدخله النار فقد أخزاه، وقيل في معنى أخزيته: فضحته وأبعدته، وقيل: أهلكته، وقيل: أذللته وأهنته.(1/147)
وقوله: { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } أي من هؤلاء المتفكرين الذاكرين ينظرون إلى هيبة ذلك الرب العلي الذي خلق تلك الأكوان المملوءة بالأسرار والحكم فيعلمون أنه لا يمكن أحد أن ينتصر عليه وأنه ليس لمن خالف أمره فعصاه من ذي نصرة ينصره من الله فيدفع عنه عقابه أو ينقذه من عذابه، وقد وصف من يدخل النار بالظلم؛ للدلالة على أن سبب دخوله إياها هو ظلمه.
وقوله: { رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } المنادي: محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذكره بوصف المنادي؛ تعظيمًا لشأن هذا النداء، أي إنهم بعد أن عرفوا الله حق معرفته بالذكر والفكر عبروا عن وصول دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم واستجابتهم له سراعًا بدون تلبث، بهذا القول، وفي تقدمة الدعاء بالنداء إشَارَة إلى كمال توجههم إلى مولاهم وعدم غفلتهم عنه مع إظهار كمال الضراعة والابتهال إلى من عودهم الإحسان والأفضال، وفي هذا إخبار منهم بمنة الله عليهم وتبجح بنعمته، وتوسل إليه بذلك أن يغفر ذنوبهم ويكفر سيئاتهم؛ ولهذا قالوا: { فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } أي استرها علينا ولا تفضحنا بها يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، { وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } أي امحها بفضلك ورحمتك إيانا.(1/148)
وقوله: { وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ } معناه: واقبضنا إليك في عداد الأبرار واحشرنا معهم، ففي هذا الدعاء طلبوا من الله ثلاثة أشياء: غفران الذنوب، ثانيًا: تكفير السيئات، ثالثًا: أن تكون وفاتهم مع الأبرار، فيتضمن هذا الدعاء التوفيق لفعل الخيرات وترك الشر الذي بتركه يكون العبد من الأبرار، والاستمرار عليه والثبات إلى الممات، وفي هذا رمز إلى أنهم كانوا يحبون لقاء الله، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ولما ذكروا توفيق الله إياهم للإيمان وتوسلهم به إلى تمام النعمة سألوه الثواب على ذلك، فقالوا: { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ } أي ربنا أعطنا ما وعدتنا به على ألسنة رسلك من حسن الجزاء كالنصر في الدنيا والظهر والنعيم في الآخرة من الفوز برضوان الله وجنته، وفي هذا استشعار بتقصيرهم وعدم الثقة بنياتهم إلا بتوفيق الله ومزيد عنايته.
وقوله: { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ } أي ولا تفضحنا ولا تهتك سترنا يوم القيامة بإدخالنا النار.
وقوله: { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المِيعَادَ } في هذا دليل على ثقتهم بوعد الله وصدور هذا الدعاء منهم مع علمهم أن ما وعدهم الله به على ألسن رسله كائن لا محالة إما أن ذلك على وجه الانقطاع إلى الله والتضرع له والتعبد، كما قال: { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المِيعَادَ } أو أن الكلام خرج مخرج المسألة، والمراد الخير: أي توفنا مع الأبرار لتؤتينا ما وعدتنا به على ألسنة رسلك، ولا تخزنا يوم القيامة؛ لأنهم علموا أن ما وعد الله به حق ولابد أن ينجزه كما قال تعالى: { فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } ، وقال تعالى: { وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ } .(1/149)
وقوله: { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } ثم عقب سبحانه دعوة المؤمنين بذكر الإجابة، أي فاستجاب لهم ربهم دعاءهم لصدقهم في إيمانهم، وذكرهم، وتفكيرهم، وتنزيههم لربهم، وتصديقهم للرسل وشعورهم بالضعف، والتقصير في الشكر واحتياجهم إلى المغفرة وتكفير السيئات.
وقوله: { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ } : هذا تفسير الإجابة، أي قال لهم مخبرًا أنه لا يضيع عمل عامل لديه، بل يوفي كل عامل بقسط عمله من ذكر وأنثى، قال مجاهد: قالت أم سلمة: يا رسول الله، إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقوله: { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } قال الكلبي: في الدين والنصرة والموالاة، وقيل: كلكم من آدم وحواء، وقال الضحاك: رجالكم شكل نسائكم ونساؤكم شكل رجالكم في الطاعة، كما قال: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } .
وقوله: { فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ } الآية تتضمن تفصيل ما أجمل في قوله: { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ } أي فالذين هاجروا من أوطانهم وتركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان، وفارقوا الأحباب والإخوان والخلان والجيران وأخرجوا من ديارهم، أي ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجؤهم إلى الخروج من بين أظهرهم؛ ولهذا قال: { وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي } أي إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده، كما قال تعالى: { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ } ، وقال: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ } .(1/150)
وقوله: { وَقَاتِلُوا } أي في سبيل الله أعداء الله، { وَقُتِلُوا } وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله فيعقر جواده ويعفر وجهه بدمه وترابه، وقد ثبت في «الصحيحين»: أن رجلاً قال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر، أيكفر الله عني خطاياي؟ قال: «نعم»، ثم قال: كيف قلت؟ فأعاد عليه ما قاله، فقال: «نعم، إلا الذي قاله جبريل آنفًا»؛ ولهذا قال: { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } يعني لأمحونها عنهم، ولأتفضلن عليهم بعفوي ورحمتي ولأغفرنها لهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار، يعني جزءا لهم على ما عملوا وأبلوا في الله وفي سبيله، وهذه الجنات تجري في خلالها الأنهار، من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن وغير ذلك، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كما قال تعالى: { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
وقوله: { ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ } الثواب والمثوبة: الجزاء، وأضافه إليه ونسبه إليه؛ ليدل على أنه عظيم؛ لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيرًا، قال أبو الطيب:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتصغر في عين العظيم العظائم
وقد وعد الله من فعل ذلك بأمور ثلاثة: محو السيئات، وغفران الذنوب، ودل على ذلك بقوله: { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } وذلك ما طلبوه بقولهم: { فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } .
ثانيًا: إعطاء الثواب العظيم، وهو قوله: { وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } بعدما طلبوه بقولهم: { وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ } .(1/151)
ثالثًا: أن يكون هذا الثواب مقرونًا بالتعظيم والإجلال، وهو قوله: { عِندِ اللَّهِ } وهذا ما طلبوه بقولهم: { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ } والمعنى: لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم الجنات، ولأثيبهم على ذلك ثوابًا من عند الله والله عنده من حسن الجزاء على الأعمال ما لا يبلغه وصف واصف، ولا يدركه نعت ناعت مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وقوله تعالى: { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي البِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المِهَادُ } بعد أن وعد الله المؤمنين بالثواب، وكانوا في الدنيا في فقر وشدة والكفار كانوا في رخاء ولين عيش ذكر في هذه الآية ما يسليهم ويصبرهم على تلك الشدة، فبين لهم حقارة ما أوتي هؤلاء الكفار المترفين من النعمة والغبطة والسرور، فعما قليل يزول كله عنهم ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة، قال تعالى: { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } .(1/152)
وقوله: { مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المِهَادُ } وهذه الآية كقوله تعالى: { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي البِلادِ } ، وقال تعالى: { قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } ، وقال: { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } ، وبعد أن بين حال الكفار ومآل أمرهم ذكر عاقبة المؤمنين، فقال: { لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } أي لكن الذين اتقوا ربهم بفعل الطاعات وترك المنهيات لهم جنات النعيم خالدين فيها، ونحو الآية قوله تعالى: { فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } ، ونحو الآية قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفِرْدَوْسِ نُزُلاً } ، والنزل: ما يهيأ للضيف النازل، ففي الآية إيماء إلى أن النازلين فيها ضيوف عند ربهم يحفهم بلطفه، ويخصهم بكرمه وجوده.
وقال الهروي: نزلاً من عند الله: أي ثوابًا، وقيل: رزقًا.
وقوله: { وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } أي وما عند الله من الحياة والكرامة وحسن المآب خير للأبرار مما يتقلب فيه الذين كفروا؛ لأن ذلك عن قريب سيزول، وهو قليل من المتاع خسيس، وما عند الله من كرامته للأبرار، وهم أهل طاعته باق غير زائل، كما قال تعالى: { إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } ، وقال: { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } .(1/153)
وعن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «جئت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مشربة، وإنه لعلى حصير ما بينه وبين جسده شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، وإن عند رجليه قرضًا مصبورًا، وعن رأسه أهب معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه، فبكيت، فقال: «ما يبكيك؟» فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله، فقال: «أما ترضى أن تكون لهما الدنيا ولنا الآخرة؟»».
وقوله: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً } بعد أن بين جل وعلا حال المؤمنين وما أعد لهم من الثواب، وحال الكفار وما هيأ لهم من العقاب، أخبر تعالى عن طائفة من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله حق الإيمان، ويؤمنون بما أُنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة، وأنهم خاشعون لله، أي مطيعون له، خاضعون متذللون بين يديه، لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً، ولا يكتمون ما بأيديهم من البشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وذكر صفته ونعته ومبعثه، وصفة أمته، وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم كانوا هودًا أو نصارى، وقد قال في «سورة القصص»: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا } الآية، وقال تعالى: { وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } .(1/154)
قال ابن عباس وجابر وأنس وقتادة: إن هذه الآية قوله تعالى: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ } نزلت في النجاشي ملك الحبشة، وذلك أنه لما مات نعاه جبريل - عليه السلام - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الذي مات فيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: «اخرجوا، فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم، النجاشي» فصلى كما يصلي على الجنائز، فكبر أربعًا، فقال المنافقون: يصلي على علج مات بأرض الحبشة! فأنزل الله: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ } الآية.
وقوله تعالى: { لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً } أي لا يكتمون ما بأيديهم من العلم كما فعله الطائفة المرذولة، بل يبذلون ذلك مجانًا؛ ولهذا قال: { أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } أي هؤلاء المتصفون بحميد الصفات، وجليل الأعمال، لهم ثواب أعمالهم وأجر طاعتهم عند ربهم، الذي رباهم بنعمه، وهداهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم، يعني مدخور ذلك لهم لديه، حتى يصيروا إليه في القيامة، فيوفيهم ذلك إن الله سريع الحساب، وسرعة حسابه تعالى ذكره أنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم قبل أن يعملوها وبعد ما عملوها، فلا حاجة به إلى إحصاء عدد ذلك فيقع في الإحصاء إبطاء؛ فلذلك قال: { إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ } .
وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } قال الحسن: اصبروا على دينكم ولا تدعوه لشدة ولا رخاء، ولا سراء ولا ضراء، وأمرهم أن يصابروا الكفار، وأن يرابطوا المشركين.
وعن قتادة: اصبروا على طاعة الله، وصابروا أهل الضلالة، ورابطوا في سبيل الله، وعن ابن جريج: اصبروا على طاعة الله، وصابروا أعداء الله، ورابطوا في سبيل الله.(1/155)
وعن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في هذه الآية { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } يقول: اصبروا على دينكم، وصابروا الوعد الذي وعدتكم، ورابطوا عدوي وعدوكم حتى يترك دينه لدينكم، وعن زيد بن أسلم في قوله: { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } ، قال: اصبروا على الجهاد، وصابروا عدوكم، ورابطوا على عدوكم.
وقال آخرون: معنى { وَرَابِطُوا } : أي رابطوا على الصلوات، أي انتظروها واحدة بعد واحدة؛ لأن المرابطة لم تكن لازمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
روي عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أدلكم على ما يكفر الله به الذنوب والخطايا: إسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذالكم الرباط».
وعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إسباغ الوضوء على المكروهات، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط» رواه ابن حبان في «صحيحه»، ورواه مالك ومسلم والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة.
وعن داود بن صالح قال: قال لي أبو سلمة: يا ابن أخي، تدري في أي شيء نزلت: { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } ؟ قلت: لا، قال: سمعت أبا هريرة يقول: «لم يكن في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - غزو يرابط فيه، ولكن انتظار الصلاة بعد الصلاة» رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد.(1/156)
وقوله: { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي: واتقوا أن تخالفوا الله فيما يأمركم به؛ لكي تفلحوا بنعيم الأبد، وقيل: اتقوا عذاب الله بلزوم أمره واجتناب نهيه؛ لكي تظفروا وتفوزوا بنيل المنية، ودرك البغية، والوصول إلى النجاح في الطلبة، وذلك حقيقة الفلاح، وهذه الآية تتضمن جميع ما يتناوله المكلف؛ لأن قوله: { اصْبِرُوا } يتناول لزوم العبادات واجتناب المحرمات، { وَصَابِرُوا } يتناول ما يتصل بالغير كمجاهدة الجن والإنس، وما هو أعظم منهما من جهاد النفس، { وَرَابِطُوا } يدخل فيه الدفاع عن المسلمين، والذب عن الدين، وما لا يتم الاستعداد إلا به مما علمه الله العباد في هذا العصر من وسائل الدفاع من طائرات، وقاذفات للقنابل، ودبابات، ومدافع، ورشاشات، وبنادق، وأساطيل بحرية، ونحو ذلك مما صار ضروريًا من آلات الحروب الحديثة، وصار من فقدها يشبه أن يكون أعزل من السلاح، { وَاتَّقُوا اللَّهَ } يتناول الانتهاء عن جميع المناهي والزواجر والائتمار بجميع الأوامر، ثم يتبع جميع ذلك الفلاح والنجاح. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
مما يفهم من آيات الدرس من الآية [190 إلى الآية 200] من سورة آل عمران:
1- إن في خلق السموات دليل على وحدانية الله وعظمته، وكمال علمه وقدرته.
2- إن في خلق الأرض دليل على وحدانية الله وقدرته وعظمته، وكمال علمه وحكمته.
3- إن في اختلاف الليل والنهار دليل على وحدة الخالق، وعلمه وقدرته وحكمته... إلخ.
4- أن هذه الدلائل لأولي العقول الصحيحة الخالصة عن شوائب النقص.
5- أن من صفاتهم أن لا يغفلون عن ذكر الله في عامة أوقاتهم لاطمئنان قلوبهم بذكره، واستغرق سرائرهم بمراقبته.
6- أنهم مع ذكرهم لله يتفكرون في خلق السموات والأرض وما فيهما من الأسرار والمنافع الدالة على العلم الكامل.
7- أنهم مع ذكرهم لله وتفكرهم ينزهون الله عن أن يخلق السموات عبثًا وباطلاً.(1/157)
8- أنهم مع ذلك يقدسون الله ويسبحونه.
9- أنهم مع ما تقدم يسألون الله أن يقيهم عذاب النار.
10- أن سؤالهم هذا يتضمن سؤال الجنة، قال تعالى إخبارًا عما قالت الملائكة: { وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ } ومن رحمة الله أدخله الجنة.
11- أن في تقديمهم سؤال وقاية النار على سؤالهم الجنة ما يدل على خوفهم الشديد من عذاب الله وتصديقهم التام بما أوعد الله به العصاة.
12- إثبات الربوبية.
13- التأكيد لاستدعائهم الوقاية من النار؛ لقوله: { رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَه } .
14- أن من أدخله الله النار فقد أخزاه وأذله وأهانه وأبعده.
15- إثبات النار، وأنها لمن عصي الله.
16- الحث على ذكر الله.
17- الحث على التفكر في السموات والأرض.
18- الحث على تنزيه الله عن العبث.
19- الحث على سؤال الله وقاية عذاب النار.
20- دليل على أن الظالمين دخلوا النار بظلمهم.
21- أنه ليس للظالمين من ينصرهم ويمنعهم من العذاب.
22- أنهم بعد أن عرفوا الله تعالى حق المعرفة بالذكر والتفكر عبروا عن وصول دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم، واستجابتهم دعوته سراعًا بدون تلبث بهذا القول.
23- أن في تصدير مقدمة الدعاء إشارة إلى كمال توجههم إلى مولاهم وعدم غفلتهم عنه مع إظهار كمال الضراعة والابتهال إلى من عودهم الإحسان والإفضال.
24- أن في التأكيد إيذان بصدور ذلك عنهم بوفور الرغبة ومزيد العناية وكمال النشاط.
25- تبججهم وسرورهم بدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسماعهم نداءه.
26- شهادة هؤلاء للرسول - صلى الله عليه وسلم - بندائه للإيمان.
27- الحث على النداء للإيمان والدعوة إلى الإسلام اقتداء بالمصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
28- الحث على الإيمان بالله.
29- أنهم امتثلوا ما أمر به هذا المنادي من الإيمان.
30- تكرير النداء لإظهار التضرع والخضوع.(1/158)
31- أنهم مع ما سبق يسألون الله المغفرة لذنوبهم والتكفير لسيئاتهم.
32- أن في ذكرهما إفادة التأكيد؛ لأن الإلحاح في الدعاء والمبالغة فيه مندوب إليه.
33- أنهم مع ما سبق يسألون الله أن يتوفاهم مع الأبرار.
34- أن هذا الدعاء يتضمن التوفيق لفعل الخير وترك الشر، والتوفيق للاستقامة والاستمرار عليها والثبات إلى الممات.
35- أن في ذلك هضمًا للنفس، وحسن أدب، حيث قالوا مع الأبرار.
36- أنهم مع ما سبق يسألون الله أن ينجز ما وعدهم على ألسنة رسله، وسؤالهم ذلك مع أن الله لا يخلف الميعاد، قيل: إنه من باب اللجوء إلى الله والتذلل له والخضوع والعبودية كما أن الأنبياء - عليهم السلام - .
37- دليل على أن الله استجاب دعاءهم.
38- دليل على عدل الله وأنه لا يضيع لديه عمل عامل من ذكر أو أنثى.
39- التفصيل لما أجمل والتعداد لبعض محاسن أفراده مع المدح والتعظيم.
40- دليل على أن المهاجرة كانت عن قسر واضطرار.
41- الصبر على الأذى في سبيل الله اقتداء بالمهاجرين الذين هجروا أوطانهم وأهليهم وآذاهم المشركون بسبب إسلامهم ومتابعتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم -.
42- الحث على الجهاد في سبيل الله.
43- طلب الشهادة للحصول على ما يرضي الله.
44- التنبيه لنروض أنفسنا ونختبرها، فإن رأيناها تحتمل الأذى في سبيل الله حتى القتل، فلها الرضوان من ربها، وإلا فلنروضها حتى تصل إلى هذه المنزلة.
45- وعد ممن لا يخلف وعده أن يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
46- إضافته إليه ونسبه إليه ليدل على أنه عظيم.
47- في قوله: { وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } تأكيد لكون ذلك الثواب الذي أعطاهم من فضله وكرمه؛ لأنه جواد كريم.
48- تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - في قول الله تعالى: { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي البِلادِ } .
49- إثبات صفة الكلام.
50- الرد على من قال إن القرآن كلام محمد - صلى الله عليه وسلم -.(1/159)
51- التزهيد في الدنيا وما فيها.
52- الترغيب في الآخرة.
53- أن مصير الكفار جهنم.
54- أنها بئس الفراش جهنم.
55- الحث على تقوى الله.
56- إن المتقين لهمن جنات تجري من تحتها الأنهار.
57- أنهم خالدون فيها.
58- أن ذلك النزل من عند الله.
59- فيه إشارة إلى أن القوم ضيوف الله تعالى، وفي ذلك كمال اللطف بهم؛ لأن النزل ما يهيأ للضيف.
60- أن ما عند الله خير للأبرار.
61- أن بعض أهل الكتاب جمعوا بين الإيمان بالله وبما أنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم - وما أنزله على أنبيائهم، لا كمن قال الله فيهم: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ } .
62- إن من صفاتهم التي تستحق المزية والشرف والخشوع، وهو الثمرة للإيمان الصحيح، فإن الخشوع أثر خشية الله في القلب، ومنه تفيض على المشاعر والجوارح.
63- أن من تمام خشيتهم لله أنهم لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً، فلا يقدمون الدنيا على الدين، كما فعل أهل الانحراف الذين يكتمون ما أنزل الله ويشترون به ثمنًا قليلاً.
64- دليل على علو الله.
65- دليل على أن ما أنزله الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل على أهل الكتاب غير مخلوق، بل منزل.
66- الرد على من قال أنه مخلوق.
67- الإتيان بصيغة البعد في الإشارة للإيذان بعلو مرتبتهم وبعد منزلتهم في الشرف والفضيلة.
68- إن ثواب طاعتهم ربهم فيما أطاعوه فيه مدخر عند ربهم، قال تعالى: { أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا } الآية.
69- أن الله جل وعلا سريع الحساب.
70- إثبات البعث.
71- إثبات الحساب.
72- إثبات الجنة.
73- إثبات الجزاء على الأعمال.
74- دليل على علم الله.
75- الترهيب من المجازفة في الأمور.
76- الحث على محاسبة النفس قبل حساب يوم القيامة.
77- دليل على قدرة الله.
78- الأمر بالصبر.
79- الحث على مصابرة الأعداء، ومقاومتهم في سبيل الله.(1/160)
80- الأمر بالمرابطة وهو لزوم المحل الذي يخاف إتيان العدو منه.
81- الأمر بتقوى الله.
82- أن الفلاح لا سبيل إليه إلا بالإتيان بما ذكر من الصبر والمصابرة والمرابطة واتقاء الله. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
في الحقوق العشرة
وذم البخل والآمرين به، وذم الذين ينفقون أموالهم بطرًا ورئاء الناس
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
قال تعالى: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي القُرْبَى وَالْجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا * وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا * وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا * إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } .(1/161)
الآية الأولى هي التي تسمى آية الحقوق العشرة، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أن الرجال قوامون على النساء بتفضيل الله إياهم عليهن، وبإنفاق أموالهم أوضح أنه مع كونه قوامًا على النساء فهو أيضًا مأمور بالإحسان إلى الوالدين، وإلى من عطفه على الوالدين، فجاءت حثًا على الإحسان، واستطرادًا لمكارم الأخلاق، وأن المؤمن لا يكتفي من التكاليف الإحسانية بما يتعلق بزوجته فقط، بل عليه غيرها من بر الوالدين وغيرهم، وافتتح التوصل إلى ذلك بالأمر بإفراد الله بالعابدة إذ هي مبدأ الخير الذي تترتب عليه الأعمال الصالحة، ونظيره { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } .
المفردات:
العبادة لغة: الذل، وعرفها شيخ الإسلام: بأنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. اهـ.
ذي القربى: صاحب القرابة من أخ، وعم، وخال وأولاد، الجار ذي القربى: هو الجار القريب الجوار، والجانب الجنب: هو الذي ليس له قرابة، والصاحب بالجنب: قيل الرفيق في السفر، وقيل: الزوجة، وقيل: الصاحب مطلقًا، وابن السبيل: هو الغريب الذي احتاج في بلد الغربة، وقيل: هو الضيف، وما ملكت أيمانكم: عبيدكم وإماؤكم.
المعنى: يأمر الله تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له، فإنه الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الساعات والحالات فهو المستحق منهم أن يوحده ولا يشركوا به شيئًا من مخلوقات، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل: «أتدري ما حق الله على العباد؟» قال: الله ورسوله أعلم، قال: «أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا» الحديث.(1/162)
والشرك نوعان: أكبر وأصغر، فالأكبر: اتخاذ الند لله بأن يدعوه أو يرجوه أو يخافه أو يحبه كمحبة الله، أو يذبح له أو ينذر، أو نحو ذلك من أنواع العادة، وأما الأصغر: فقيل: أنه كل وسيلة وذريعة يتطرق بها إلى الأكبر، وقيل: إنه كل ما ورد بالنص تسميته شركًا، ولم يصل إلى حد الأكبر، وذلك كقول الرجل: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، وكالحلف بغير الله.
قال ابن القيم - رحمه الله -: وأما الشرك الأصغر فكثير، من: الرياء، والتصنيع للخلق، والحلف بغير الله، وقول الرجل للرجل ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا الله وأنت لم يكن كذا، وقد يكون شركًا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. اهـ.(1/163)
ثم بعد ما أمر بعبادته وحده لا شريك له والقيام بحقه أعقبه بالأمر بالقيام بحقوق العباد الأقرب، فالأقرب فبدأ بالوالدين، فقال جل وعلا: { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي أحسنوا إليهم بالقول الكريم، والخطاب اللطيف، والفعل الجميل بطاعة أمرهما في غير معصية وبالإنفاق عليهما، وإكرام من له تعلق بهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا بهما؛ لأن الله جعلهما السبب الظاهر في وجودكم وتربيتكم بالرحمة والإخلاص، وقد فصلت هذه الوصية في «سورة الإسراء»، يقول تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } ، وكثيرًا ما يقرن تبارك وتعالى بين حقه وحق الوالدين كما في «سورة لقمان»: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ } ، وقال: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } .
وفي «الصحيحين» عن ابن مسعود، قلت: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: «الصلاة على وقتها»، قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين»، قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله».
ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رجلاً قال: يا رسول الله من أبر الناس؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «أباك، ثم أدناك أدناك».(1/164)
وجاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نعم، الصلاة عليهما –أي الدعاء لهما والاستغفار لهما-، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما» رواه أبو داود وابن ماجه، واللفظ لأبي داود.
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: أقبل رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله تعالى، فقال: «هل لك من والديك أحد حي؟» قال: نعم، بل كلاهما، قال: «فتبتغي الأجر من الله تعالى؟» قال: نعم، قال: «فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما» متفق عليه، وهذا لفظ مسلم.
وفي رواية لهما: جاء رجل فاستأذنه في الجهاد، فقال: «أحي والداك؟» قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد».
وعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: جئت أبايعك وتركت أبوي يبكيان، فقال: «فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما» رواه أبو داود.
وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - أن رجلاً من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «هل لك أحد باليمن؟» قال: أبواي، قال: «أذنا لك»، قال: لا، قال: «فارجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك، فجاهد، وإلا فبرهما» رواه أبو داود.
وعن جاهمة أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال: «هل من أم؟» قال: نعم، قال: «فالزمها، فإن الجنة عند رجليها» رواه ابن ماجه والنسائي، واللفظ له والحاكم، قال: صحيح الإسناد، ورواه الطبراني بإسناد جيد، ولفظه: قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أستشيره في الجهاد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألك والدان؟» قلت: نعم، قال: «الزمهما، فإن الجنة تحت رجلهما».(1/165)
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم» رواه الطبراني بإسناد حسن.
وقوله: { وَبِذِي القُرْبَى } أي وأحسنوا معاملة أقرب الناس إليكم بعد الوالدين، ويشمل جميع الأقارب، قربوا أو بعدوا، بأن يحسن إليهم بالقول والفعل، فإذا أدى الإنسان حقوق الله فحت عقيدته وصلحت أعماله، وإذا قام بحقوق الوالدين صلح البيت وحسن الحال الأسرة، وإذا صلح البيت كان قوة كبيرة، فإذا عاون أهله ذوي القربى الذين ينتسبون إليهم كان لكل منهم قوة أخرى تتعاون مع هذه الأسرة، وبذا تتعاون الأمة جمعاء، وتمد يد المعونة لمن هو في حاجة إليها ممن ذكروا.
وقوله: { وَالْيَتَامَى } اليتيم: من مات أبوه ولم يبلغ، فاليتامى هم الذين لا كاسب لهم غالبًا، وقد مات آباؤهم وهم ضغفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب، فلهم حق على المسلمين سواء كانوا أقارب أو غيرهم، ويكون ذلك بكفالتهم وبرهم وجبر قلوبهم وتأديبهم وتربيتهم أحسن تربية في مصالح دينهم ودنياهم، فمن رحمته تعالى بعباده أن أوصاهم بالإحسان إليهم ليصيروا كمن لم يفقد والديه، قال تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا» وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما، رواه البخاري.
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من مسح رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة تمر عليها يده حسنات».
وقوله: { وَالْمَسَاكِينُ } هم الذين أسكنتهم الحاجة فلا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم، فأمر الله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله» رواه البخاري ومالك وغيرهما.(1/166)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان؛ لكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه» متفق عليه.
وقوله: { وَالْجَارِ ذِي القُرْبَى } أي الذي بينك وبينه قرابة، فله ثلاثة حقوق: حق القرابة، وحق الإسلام، وحق الجوار.
{ وَالْجَارِ الجُنُبِ } الذي ليس له قرابة فله حق الجوار، وقد يأنس الإنسان بجاره القريب أكثر مما يأنس بالنسيب، فيحسن التعاون بينهما، وتكون الرحمة والإحسان بينهما، فإذا لم يحسن أحدهما إلى الآخر فلا خير فيهما لسائر الناس، فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بإهداء ما تيسر، والصدقة، والدعوة، واللطافة به وبأولاده، والصفح عن زلته، وبداءته بالسلام، وإظهار البشر له، وإعانته، والتوسيع له في معاملته وإقراضه وعيادته، وتعزيته عند المصيبة، وتهنئته بما يفرحه، ويستر ما انكشف له من عورة، ويغض بصره عن محارمه، ويمنع أولاده من أذى أولاد جاره، ولا يرفع صوت المذياع أو نحوه في أوقات راحتهم؛ لأنه ينشأ عنه سهرهم وقلقهم، لاسيما إذا كان ممن لا يستعمل هذه الملاهي وقد عصمه منها وبغضها إليه شراء واقتناء وسماعًا، والخلاصة: أنه يعمل مع جاره ما استطاع من أعمال الخير وكف الأذى، وإكرام الجار من شيم العرب قبل الإسلام، وزاده الإسلام توكيدًا بما جاء في الكتاب والسُّنة، فمن ذلك ما ورد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» رواه البخاري ومسلم.
وعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» رواه الترمذي والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.(1/167)
وعن ابن مسعود، قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أو إذا أسأت؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سمعت جيرانك يقولون قد أحسنت، فقد أحسنت، وإذا سمعتهم يقولون قد أسأت، فقد أسأت» رواه ابن ماجه، ويا للأسف إننا نرى ونسمع أن كثيرًا من الجيران في وقتنا هذا قد أهملوا العمل بالآيات الكريمات والأحاديث التي فيها التوصية بالجار بالإحسان إليه فحصل منهم إساءة إلى جارهم إما بتعد على ملكه، وإما بوضع أذى في بيته أو طريقه، وإما باشتباك معه في خصومة آلت إلى العداوة والبغضاء والسب والشتم، وإما بنظر وتطلع على الجار من سطح أو نافذة أو نحو ذلك، أو برفع على آلة لهو نشأ عنها سهرهم وقلقهم حتى إن بعضهم ربما ارتحل من أجل الجار المسيء إليه، وربما باع ملكه من أجل إساءة جاره إليه والعياذ بالله، وفي ذلك يقول من ابتلى بجار سوء فاضطر أن يبيع ملكه من أجل جاره، وقد عوتب على ذلك:
يلومونني أن بعت بالرخص منزلي
فقلت لهم كفوا الملام فإنما ... ولم يعلموا جارًا هناك يُنغص
بجيرانها تغلوا الديار وترخص
وقوله تعالى: { الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ } قيل: الرفيق في السفر، وقيل: الزوجة، وقيل: الصاحب مطلقًا، فعلى الصاحب لصاحبه حق زائد على مجرد إسلامه من مساعدة على الأمور التي تتعلق بالدين والدنيا والنصح له والوفاء معه في اليسر والعسر والمنشط والمكره، وأن يحب له ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه، وكلما زادت الصحبة ازداد تأكد الحق.
وقوله: { وَابْنِ السَّبِيلِ } ابن السبيل هو المسافر المنقطع به في غير بلده فله حق على المسلمين لشدة حاجته، وكونه في غير وطنه، ويكون الإحساس إليه بتبليغه إلى مقصوده أو بعض مقصوده، وبإكرامه وتأنيسه ويشمل اللقيط، والله أعلم؛ لأنه يستحق العناية والإحسان به ويكون ذلك بتربيته وتعليمه.(1/168)
وقول: { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي وأحسنوا إلى ما ملكت أيمانكم من عبيدكم وإمائكم وبهائمكم، ويدخل في ذلك تحريرهم من الرق بعتقهم وحسن معاملتهم في الخدمة والقيام بكفايتهم، وعدم تكليفهم ما يشق عليهم وإعانتهم على ما تحملوه وتأديبهم لما فيه مصلحتهم ولا يؤذون بقول ولا بفعل فمن قام بهذه المأمورات فهو الخاضع لربه المتواضع لعباد الله المنقاد لأمر الله وشرعه الذي يستحق الثواب الجزيل والثناء الجميل.
وقد روى الشيخان قوله - صلى الله عليه وسلم -: «هو إخوانكم وخولكم جعلكم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه».
وقد أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - الوصية بهم في مرض موته، وكان ذلك من آخر وصاياه، فقد روى أحمد والبيهقي من حديث أنس قال: كانت عامة وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حضره الموت: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» وقد أوصانا تعالى بهؤلاء حتى لا يظن أن استرقاقهم يجيز امتهانهم ويجعلهم كالحيوانات المسخرة.
ثم ذكر ما هو علة للأمر السابق، فقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا } المختال المتكبر الذي تظهر آثار الكبر في حركاته وأعماله والفخور المتكبر الذي تظهر آثار الكبر في أقواله فتجده يذكر ما يرى أنه ممتاز به عن الناس زهوًا بنفسه واحتقارًا لغيره.(1/169)
والمختال الفخور مبغوض عند الله؛ لأنه احتقر جميع الحقوق التي أوجبها الله للناس والتي أوجبها لنفسه من الشعور بعظمته وكبريائه، فهو كالجاحد لصفات الألوهية التي لا تليق إلا الله، فالمختال لا يقوم بعبادة ربه حق القيام؛ لأن العبادة لا تكون إلا عن خشوع للقلب، ومن خشع قلبه خشعت جوارحه، ولا يقوم بحقوق الوالدين ولا ذوي القربى؛ لأنه لا يشعر بحق لغيره عليه، وبالأولى لا يشعر بحق لليتيم أو المسكين أو الجار قريب أو بعيد، فهو لا يرجى منه بر ولا إحسان وإنما يتوقع إساءة وكفران.
وقوله: { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا } ، قال أكثر المفسرين: نزلت في اليهود، كتموا صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يبينوها للناس، وهم يجدونها مكتوبة عندهم في كتبهم.
وقال الكلبي: هم اليهود بخلوا أن يصدقوا ما أتاهم من صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - ونعته في كتبهم، وقال مجاهد: الآيات الثلاث إلى قوله: { عَلِيمًا } نزلت في جماعة من اليهود كانوا يأتون رجالاً من الأنصار يخالطونهم وينصحونهم ويقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليك الفقر، فأنزل الله تعالى: { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } ، والجماعة المشار إليهم هم كردم بن زيد، وحيي بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التابوت، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، ويحيى بن عمر.
وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالبخل كتمان العلم، ومنع المال؛ لأن البخل في كلام العرب منع السائل من فضل ما لديه وإمساك المقتنيات.
وفي الشرع: البخل عبارة عن إمساك الواجب ومنعه، وإذا كان ذلك أمكن حمله على منع المال ومنع العلم.(1/170)
المعنى: لما أمر جل وعلا بالإحسان إلى الوالدين ومن ذكر معهما أعقب ذلك ببيان من لا يفعل ذلك وأنهما قسمان: أحدهما: البخيل الذي لا يقدم على إنفاق المال البتة حتى أفرط في ذلك، وأمر بالبخل، والثاني: الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس لا لغرض أمر الله وطاعته، وقد ذم الله تعالى القسمين بأن أعقب القسم الأول بقوله: { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ } ، وأعقب الثاني بقوله: { وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا } .
والبخل أنواع: بخل بالمال، وبخل بالعلم، وبخل بالطعام، وبخل بالسلام، وبخل بالكلام، وبخل على الأقارب دون الأجانب، وبخل بالجاه، وكلها نقائص ورذائل مذمومة عقلاً وشرعًا، وقد جاءت أحاديث في ذم البخل ومدح السماحة، فمما ورد في ذم البخل عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا»، وفي أفراد مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الجبن والبخل»، وروى جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبني سلمة: «من سيدكم؟» قالوا: جد بن قيس على أننا نبخله، قال: «وأي داء أدوأ من البخل! بل سيدكم بشر بن البراء بن معرور»، وورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه».
وقوله: { وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } أي مع بخلهم وأمرهم به يكتمون العلم الذي آتاهم الله ليهتدي به الضالون ويسترشد به الجاهلون فيكتمونه عنهم ويظهرون لهم من الباطل ما يحول بينهم وبين الحق.(1/171)
وقال بعض المفسرين: الأولى أن تكون الآية عامة في كل من يبخل بأداء ما يجب عليه أداؤه ويأمر الناس به، وعامة في كل من كتم فضلاً أتاه الله تعالى من العلم وغيره من أنواع النعم التي يجب إظهارها ويحرم كتمانها، وفي الحديث: «إذا أنعم الله تعالى على عبد نعمة أحب أن يرى أثرها عليه».
والخلاصة: أن هؤلاء جمعوا بين البخل بالمال والبخل بالعلم وبين السعي في خسارة أنفسهم وخسارة غيرهم، ثم بين جل وعلا عاقبة أمرهم وعظيم نكالهم، فكما تكبروا على عباد الله ومنعوا حقوقه وتسببوا في هلاك غيرهم بأمره بالبخل وعدم الاهتداء أهانهم بالعذاب الأليم والخزي الدائم.
وقوله: { وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ } الرياء أصله من الرؤية كأنه يفعل ليرى غيره، فالمرائي يظهر للناس خصال الخير من العبادة ونحوها؛ لحمدهم، وفرارًا من ذمهم، كي يستولى بذلك على قلوبهم، فيكون له سلطان عليهم يصل به إلى لذاته ويستعين به على تحصيل شهواته.
وهناك أمور خمسة: مراء، وهو العابد الذي يظهر خصال الخير، ومراءي، وهم الناس الذين يظهر لهم ذلك، ومراء به، وهو تلك الخصال، ومراء لأجله، وهو الجاه والسلطان والمال وحب الحمد وكراهة الذم، ورياء وهو قصد إظهار العبادة لذلك الغرض.
والرياء مرض من الأمراض النفسية الخطرة والأوباء الأخلاقية الضارة التي تحتاج إلى علاج دائم ويقظة مستمرة، فلا يصح للمرء أن يغفل أمره ويهمله حتى يستفحل شره ويتفاقم أمره وخطره ويصبح داء مستعصيًا يحبط الأعمال ويعرض صاحبه للشرك بالله الواحد القهار.(1/172)
وجاءت أحاديث في ذم الرياء، منها: ما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمته فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل أوسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال، فأُتي به فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار» رواه مسلم، قال ابن رجب - رحمه الله -: واعلم أن العمل لغير الله أقسام، فتارة يكون رياء محضًا بحيث لا يُراد به سوى مرئيات المخلوقين لغرض دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم، قال الله عز وجل: { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ } ، وقال: { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ } الآية، وكذا وصف الله تعالى الكفار بالرياء المحض في قوله: { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ } وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة والحج وغيرهما من الأعمال الظاهرة والتي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، و هذا العمل لا يشك مسلم أنه حاط وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه أيضًا وحبوطه.(1/173)
وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقول تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» وخرجه ابن ماجه ولفظه: «فأنا منه بريء وهو للذين أشرك»، وخرج الإمام أحمد عن سداد بن أوس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، فإن الله عز وجل يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي شيئًا، فإن حده عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به أنا عنه غني»، وخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد بن أبي فضالة، وكان من الصحابة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمله لله فليطلب ثوابه من غير الله عز وجل، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك».
والخلاصة: أن قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ } الآية، عطف على قوله: { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } ووجه ذلك أن الأولين قد فرطوا بالبخل وبأمر الناس به، وبكتم ما آتاهم الله من فضله وهؤلاء أفرطوا ببذل أموالهم في غير مواضعها لمجرد الرياء والسمعة، وليقال ما أسخاهم، وما أجودهم، وما أكرمهم، كما يفعله من يريد الفخار والشهرة، وأن يتسامع الناس بأنه سخي ويتطاول على غيره بذلك ويشمخ بأنفه عليه، مع ضمه إلى هذا الإنفاق الذي يعود عليه بالضرر من عدم الإيمان بالله واليوم الآخر.(1/174)
أما معنى الإيمان بالله فهو الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق الرزاق المحيي المميت، وأنه المستحق لأن يفرد بالعبادة والذل والخضوع والمحبة، وجميع أنواع العبادة، وأنه المتصف بصفات الكمال المنزه عن كل عيب ونقص، وأما الإيمان باليوم الآخر فهو التصديق الجازم بكل ما أخبره به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعد الموت، من فتنة القبر وعذابه ونعيمه، والبعث، والحشر، والنشر، والصحف، والميزان، والحساب، والصراط، والحوض، والشفاعة، والجنة، والنار وأحوالهما، وما أعد الله لأهلهما إجمالاً وتفصيلاً.
ولما ذكر سبحانه وتعالى أن إنفاقهم ليس صادرًا عن إخلاص وإيمان بالله ورجاء ثوابه، بل إن هذا من خطوات الشيطان وأعماله التي يدعو حزبه إليها ليكونوا من أصحاب السعير، وصدرت منهم بسبب مقارنته لهم وأزهم إليها، كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًا } ، قال: { وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا } القرين هنا فعيل بمعنى مفاعل، كالجليس والخليط، أي المجالس والمخالط، ومنه سميت الزوجة قرينة، ومنه قيل لما يلز من الإبل والبقر: قرينان، وللحبل الذي يشد به قرن، قال الشاعر:
وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس
وقال آخر:
ومدخل رأسه لم يدنه أحد ... من القرينين حتى لز في القرن
والشيطان هنا جنس لا يُراد به إبليس وحده، وهو كقوله تعالى: { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } ، والمعنى: من يكن الشيطان قرينه وخليله، فبئس الصاحب وبئس الخليل الشيطان.(1/175)
وفي الآية إيماء إلى تأثير قرناء المرء في سيرته، وأن الواجب اختيار القرين الصالح والابتعاد عن قرين السوء، قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } .
وعن أبي موسى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يجذبك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة» رواه البخاري ومسلم.
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ومثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه، ومثل الجليس السوء كمثل صاحب الكير، إن لم يصبك من سواده أصابك من دخانه» رواه أبو داود.(1/176)
أما من هم الأخيار، ومن هم الأشرار، فالأخيار: هم الذين طهرت قلوبهم، وحسن أخلاقهم، وصلحت أعمالهم كالذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وكالذين يتولون الله ورسوله بإتباع كتاب الله وسُّنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والائتساء به في أعماله وأخلاقه، وأما الأشرار: فهم بخلافهم، كالذين يجادلون في آيات الله بالباطل ويحرفونها عن مواضعها، ويحملونها على غير المراد منها إرواء للشهوة أو إتباعًا للهوى، وكالذين يظلمون الناس ويظلمون أنفسهم بإهمالهم تعليمها، وعدم تعويدها وتمرينها على الأعمال الصالحة ومكارم الأخلاق، وكالذين غضب الله عليهم لخبث طويتهم، أو فساد عقيدتهم كإلحادهم وإنكارهم البعث، وكالذين ينكرون الملائكة والجن، وكالذين غفلت قلوبهم عن ذكر الله، وكالفساق الذين يعملون أنواع المعاصي وكالمستهزئين بالله وبكتابه وبرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبالعلماء العاملين بالكتاب والسُّنة البعيدين عن الملاهي والمنكرات، وكالمتشبهين باليهود والنصارى ونحوه، وكمحكمي القوانين، والمراد بمقارنتهم معاشرتهم والسكنى معهم، أو مجاورتهم أو الجلوس في مجالسهم وأنديتهم والتروض معهم، والسفر بصحبتهم ومشاركتهم في عمل من أعمال الحياة كتجارة أو صناعة أو زراعة أو نحو ذلك.(1/177)
ولما كان الإنسان يحب التقليد صار يحاكي من يخالطه، فإن كان من أصحاب العقول الراجحة، والأفكار الصالحة، والأخلاق العالية، والعقائد المستقيمة، والأعمال المجيدة سري كل ذلك في الغالب إليه، بل إذا طالت الصحبة وكثرة المجالسة وحسنت العشرة وجدته قد طبع بطابعهم فلا يفترق عنهم في شيء، وكذا من يخالط الأشرار ويقارنهم يدنسونه ويفسدون عقله، ويسيئون أدبه ويعرفونه طرق الشر والفساد، ويعرفونه بأشكالهم من أهل الفسق والفجور، ويفتحون له الأبواب المغلقة مما كان جاهلاً به ومما كان غافلاً عنه من أبواب الشرور والفساد، فالعاقل اللبيب الحازم من يبحث أولاً عن النفوس الطيبة الزكية الخيرة، فيساكنها، ويجاورها، ويجالسها، ويصاحبها ويلازمها، ويبحث عن مجالسها وأنديتها فيغشي ما غشيت، ويذهب أنى ذهبت لتتصل روحه بروحها، فيستقي من معينها ويتأدب بآدابها ويتخلق بأخلاقها، ويتأسى بأعمالها، وقديمًا قيل في الحث على مقارنة الأخيار والابتعاد عن الأشرار:
واختر صديقك واصطفيه تفاخرًا
واحذر مؤاخاة الدني لأنه ... إن القرين إلى المقارن ينسب
يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب
وقال الآخر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدى
وقوله: { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا } .(1/178)
المعنى: أي شيء يضرهم لو آمنوا بالله إيمانًا صحيحًا يظهر أثره في العمل وسلكوا الطريق الحميدة وعدلوا عن الرياء إلى الإخلاص والإيمان بالله رجاء موعوده في الدار الآخرة بحسن العمل، وأنفقوا في وجوه البر التي يحبها الله ويرضاها، وفي هذا الأسلوب إثارة تعجيب الناس من حالهم إذ هم لو أخلصوا لله لما فاتهم منفعة الدنيا ولفازوا في الآخرة، كما قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } فكثيرًا ما يفوت المرائي ما يرمي إليه من التقرب إلى الناس، واحتلال قلوبهم، ويظفر بذلك المخلص الذي لم يكن من همه أن أحدًا يعرف ما عمل فيكون الأول قد رجع بخفي حنين، بينما الثاني الذي هو المخلص لله فاز بسعادة الدارين الدنيا والآخرة فجهله جدير بأن يتعجب منه؛ لأنه جهل بالله وجهل بأحوال الناس ولو آمن وأخلص ووثق بوعد الله ووعيده لكان في سعادته، فالإيمان سلوى وعوض من كل فائت، وفقده عرضة لليأس من كل خير، ومن ثم يكثر الانتحار من فاقد الإيمان.
كل الذنوب فإن الله يغفرها
وكل كسر فإن الله يجبره ... إن شَيَّعَ المرء إخلاص وإيمان
وما لكسر قناة الدين جبران
وأما المؤمن فأقل ما يؤتاه في المصائب الصبر الذي يخفف وقعها على النفس وأكثره رحمة الله التي بها تتحول النقمة إلى نعمة بما يستفيد من الاختبار والتمحيص وكمال العبرة والتهذيب، وقد يبتلى الله المؤمن ويمتحن صبره فيعطيه إيمانه من الرجاء ما تخالط حلاوته مرارة المصيبة حتى تغلبها، وقد يأنس أحيانًا بالمصيبة لعظم رجائه وصبره، وهذا وإن كان نادرًا فهو واقع حاصل.(1/179)
وقوله: { وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا } المعنى: أن الله جل وعلا عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة وعليم بمن يستحق التوفيق فيوفقه ويلهمه رشده ويقيضه للعمل الصالح الذي يرضى به عنه، وبمن يستحق الخذلان والطرد عن جنابة الأعظم الإلهي الذي من طرد عن بابه فقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة، وقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } نظم الكلام: وماذا عليهم لو آمنوا وأنفقوا، فإن الله لا يظلم ولا يبخس ولا ينقص أحدًا من ثواب عمله، والمعنى: يخبر تعالى أنه لا يظلم أحدًا من خلقه يوم القيامة مثقال ذرة، كما قال تعالى في الآية الأخرى: { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا } ، وقال: { وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } ، وقال: { وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } ، وقال: { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ } .(1/180)
وفي «الصحيحين» من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشفاعة الطويل، وفيه: «فيقول الله عز وجل: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار-وفي لفظ: أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار- فيخرجون خلقًا كثيرًا»، ثم يقول أبو سعيد: اقرءوا إن شئتم: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } .
وقال ابن مسعود: يؤتى بالعبد أو الأمة يوم القيامة، فينادى على رءوس الأولين والآخرين: هذا فلان بن فلان، من كان له حق فليأت إلى حقه، فتفرع المرأة أن يكون لها الحق على أبيها أو أمها أو أخيها أو زوجها، ثم قرأ: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } فيغفر الله من حقه ما يشاء، ولا يغفر من حقوق الناس شيئًا، فينصب للناس، فيقول: ائتوا إلى الناس حقوقهم، فيقول: يا رب فنيت الدنيا من أين أوتيهم حقوقهم، فيقول: خذوا من أعماله الصالحة، فأعطوا كل ذي حق حقه بقدر مظلمته، فإن كان وليًا لله، ففضل له مثقال ذرة ضاعفها الله له حتى يدخله بها الجنة، ثم قرأ: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } ، وإن كان عبدًا شقيًا، قال الملك: رب فنيت حسناته وبقي طالبون كثير، فيقول: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكًا إلى النار.
وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة».
وقال أبو هريرة وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك في قوله: { وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } يعني الجنة، نسأل الله أن يسكننا وإخواننا المسلمين الجنة.(1/181)
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تعالى يستخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: فلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول تعالى: بلى إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: أحضر وزنك، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: فإنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء» أخرجه الترمذي.(1/182)
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سلم سلم»، قيل: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: «دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة –تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان- فيمر المؤمنون كطرف العين، وكالبرق، وكالريح، وكالطير وكأجاود الخيل، و الركاب، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس في نار جهنم، حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخونهم الذين في النار –وفي رواية: فما أنتم بأشد مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمنين يومئذ للجبار إذا رأوا أنهمن قد نجوا في إخوانهم، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا، ويصلون ويحجون- فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا، لم نذر فيها أحد ممن أمرتنا به، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير، فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدًا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير، فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيرًا».(1/183)
وكان أبو سعيد يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث، فاقرءوا إن شئتم: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } ، فيقول الله تبارك وتعالى: «شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط، قد عادوا حمما، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له: نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل، ألا ترونها تكن إلى الحجر أو إلى الشجر، ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر، وما يكون منها إلى الظلم يكون أبيض؟»، فقالوا: يا رسول الله، كأنك ترعى بالبادية، قال: «فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه، ثم يقول: أدخلوا الجنة، فما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدًا» لفظ مسلم، وهو بعض حديث.
وقوله تعالى: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } الاستفهام معناه التوبيخ والتقريع والتهويل، أي إذا كان كل قليل وكثير يجازي عليه، فكيف يكون حال هؤلاء المشركين والمنافقين يوم القيامة، وهؤلاء الكافرون المختالون، الفخورون الباخلون، الآمرون بالبخل، الذين يكتمون فضل الله، ولا يبتغون وجه الله هؤلاء هم واقفون في الساحة والرسول عليهم شهيد، هؤلاء هم في حضرة الخالق الذي كفروا به، وفي مواجهة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي عصوه!! إنه لموقف رهيب ينال الكافرون فيها من المهانة والخزي والحسرة ما الله به عليم، إنه لموقف اعتراف لا يفيد فيه الإنكار، ولا يمكن فيه الجحد والكتمان.(1/184)
والمراد بالشهيد: الأنبياء، قال تعالى: { وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } ، وقال: { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ } .
عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقرأ علي»، قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك، وعليك أنزل! قال: «نعم، إ ني أحب أن أسمعه من غيري»، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } إلخ، فقال: «حسبك الآن» فإذا عيناه تذرفان.
فإذا كان هذا الشاهد تفيض عيناه لهول هذه المقالة، وعظم تلك الحالة، فماذا يصنع المشهود عليه؟ وماذا تكون حاله؟ وكأنه بالقيامة وقد أناخت لديه؟ اللهم سلمنا من شرور الدنيا والآخرة وجميع المسلمين.
وقوله: { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } استئناف لبيان حالهم التي أشير إلى شدتها وفظاعتها.
المعنى: أنه إذا جاء ذلك اليوم العظيم الذي يأتي فيه الله بشهيد على كل أمة يتمنى الذين كفروا وعصوا الرسول فلم يطيعوه فيما أمرهم به من التوحيد لله عز وجل أن يصيروا ترابًا تسوى به الأرض، فيكونوا وإياها سواء، كما قال تعالى: { وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا } ، وقيل: إنهم ودوا أن لم يبعثوا؛ لأنهم إنما كانوا في الأرض وهي مستوية عليهم، وقيل: معناه ودوا لو تخرقت بهم الأرض فساخوا فيها، وقيل: معناه لو تعدل بهم الأرض، أي يؤخذ منهم ما عليها فدية.
{ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } هذا إخبار عنهم أنهم يعترفون بجميع ما فعلوه ولا يكتمون منه شيئًا.(1/185)
عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: سمعت الله عز وجل يقول إخبارًا عن المشركين يوم القيامة أنهم قالوا: { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ، وقال في الآية الأخرى: { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } ، فقال ابن عباس: أما قولهم: { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ، فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام، قالوا: تعالوا فلنجحد، فقالوا: { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم، ولا يكتمون الله حديثا.
وعن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: أشياء تختلف علي في القرآن! قال: ما هو أشك في القرآن؟ قال: ليس بالشك، ولكن اختلاف، قال: فهات ما اختلف عليك من ذلك، قال: أسمع الله يقول: { ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ، وقال: { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } فقد كتموا، فقال ابن عباس: أما قوله: { ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا يغفر شركًا، جحد المشركون، فقالوا: { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } رجاء أن يغفر لهم، فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } .(1/186)
وقال الحسن: القيامة مواقف، ففي موطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همسًا، وفي موطن يتكلمون ويكذبون ويقولون: والله ربنا ما كنا مشركين، ويقولون ما كنا نعمل من سوء، وفي موطن يعترفون على أنفسهم، وهو قوله تعالى: { فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ } ، وفي موطن لا يتساءلون، وفي موطن يسألون الرجعة، وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم، فهو قوله: { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } .
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
مما يفهم من آيات الدرس من الآية [36 إلى الآية 40]:
1- الأمر بعبادة الله وحده.
2- النهي عن الشرك.
3- الحث على بر الوالدين.
4- الحث على الإحسان بذوي القربى.
5- الحث على الإحسان إلى اليتامى.
6- الحث على الإحسان إلى المساكين.
7- الحث على الإحسان إلى الجار.
8- الحث على الإحسان إلى الصاحب بالجنب.
9- الحث على الإحسان إلى ابن السبيل.
10- الحث على الإحسان إلى المماليك.
11- إثبات الألوهية لله.
12- أن الله لا يحب كل مختال فخور.
13- ذم البخل والآمر به.
14- النهي عن كتمان العلم.
15- إثبات الأفعال الاختيارية.
16- أن الفضل بيد الله.
17- أن الله يؤتى فضله الصالح والطالح.
18- النهي عن الكبر.
19- أن الله أعد للكافرين عذابًا مهينًا.
20- النهي عن الرياء.
21- الحث على الإخلاص لله.
22- ذم ترك الإيمان بالله.
23- الحث على الإيمان بالله.
24- الحث على الإيمان باليوم الآخر.
25- ذم من لا يؤمن باليوم الآخر.
26- الحث على الإيمان بالبعث لدخوله في اليوم الآخر.
27- الحث على الإيمان بفتنة القبر؛ لأنها داخلة في الإيمان باليوم الآخر.
28- الحث على الإيمان بالحشر لدخوله في الإيمان باليوم الآخر.
29- الحث على الإيمان بالحوض لدخوله في الإيمان باليوم الآخر.
30- الحث على الإيمان بالميزان لدخولهما بالإيمان باليوم الآخر.
31- الحث على الإيمان بالحساب لدخوله بالإيمان في اليوم الآخر.(1/187)
32- الحث على الإيمان بالصراط لدخوله في الإيمان باليوم الآخر.
33- الحث على الإيمان بالجنة لدخولها بالإيمان باليوم الآخر.
34- الحث على الإيمان بالنار لدخولها في الإيمان باليوم الآخر؛ ولقوله تعالى: { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا } .
35- التحذير من اتخاذ الشيطان قرينًا.
36- أن الشيطان بئس القرين.
37- في الآية إيماء إلى أن قرناء السوء يؤثرون على الإنسان في سيرته وعقيدته.
38- الحث على اختيار القرين الصالح.
39- الابتعاد عن قرناء السوء.
40- الحث على الإنفاق مما رزق الله.
41- إثبات صفة العلم.
42- أن الله هو الرزاق.
43- أن الله لا يظلم.
44- أنه يضاعف الحسنة.
45- أنه يزيد في الفضل.
46- التوبيخ على الجهل بمكان المنفعة، والاعتقاد في الشيء على خلاف ما هو عليه، وتحريضهم على صرف الفكر لتحصيل الجواب لعله يؤدي بهم إلى العلم بما في ذلك ما هو أجدى من تفاريق العصا وتنبيههم على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب احتياطيًا، فكيف إذا تدفقت منه المنافع.
47- الرد على الجبرية إذ لا يقال مثل ذلك لمن لا اختيار له ولا تأثيرًا أصلاً في الفعل.
48- الرد على الجهمية منكري الصفات.
49- التوبيخ والتقريع المستفاد من الاستفهام.
50- الاعتبار بذلك الحكم العظيم الذي جمع أن من حكم به كامل العلم، كامل العدل، كامل الحكمة بشهادة أزكى الخلق، وهم الرسل على أممهم مع إقرار المحكوم عليه.
51- الحث على الاستعداد لهول ذلك اليوم.
52- أن الله لم يهمل الخلق ولم يتركهم سدى.
53- إثبات صفة الكلام.
54- الرد على من قال إن القرآن كلام محمد.
55- إثبات رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
56- الرد على من أنكر رسالته.
57- أن الكفار في ذلك ينالهم الذل والخزي والمهانة، ويودون لو يندمجون بهذه الأرض وينطوون فرارًا من الخزي الذي يغمرهم.(1/188)
58- أن الكفار يعترفون في ذلك اليوم بما عملوا، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
59- التحذير من معصية الله ورسوله.
60- الحث على الإكثار من الحسنات.
61- وجوب طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
62- دليل على قدرة الله.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
في فضل أداء الأمانة والعدل
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
قال الله تبارك وتعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } .
الآية الأولى: قال القرطبي: هذه الآية من أمهات الأحكام، تضمنت جميع الدين والشرع، وقد اختلف من المخاطب بها، فقال علي بن أبي طالب، وزيد بن أسلم، وشهر بن حوشب، وابن زيد: هذا خطاب لولاة المسلمين خاصة، فهي للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأمرائه، ثم نتناول من بعدهم.(1/189)
وقال ابن جريج وغيره: ذلك خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من عثمان بن أبي طلحة الحجبي العبدري، من بني عبدالدار، ومن ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، وكانا كافرين وقت فتح مكة، فطلبه العباس بن عبدالمطلب لتنضاف له سدانة البيت إلى السقاية، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكعبة فكسر ما كان فيها من الأوثان وأخرج مقام إبراهيم، ونزل عليه جبريل بهذه الآية، قال عمر بن الخطاب: وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهوي قرأ هذه الآية وما كنت سمعتها قبل منه، فدعا عثمان وشيبة، فقال: «خذاها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم».
وحكى مكي: أن شيبة أراد أن لا يدفع المفتاح، ثم دفعه، وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: خذه بأمانة الله، وقال ابن عباس: الآية خاصة في أن يعظوا النساء في النشوز ونحوه، ويردوهن إلى الأزواج والأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات، وهذا اختيار الطبري، وتتناول من دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه، والصلاة والزكاة وسائر العبادات أمانة الله تعالى.
روي هذا المعنى مرفوعًا من حديث ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها –أو قال كل شيء إلا الأمانة- والأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الحديث، وأشد ذلك الودائع» ذكره أبو نعيم الحافظ في «الحلية».
وممن قال إن الآية عامة في الجميع البراء بن عازب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب، قالوا: الأمانة في كل شيء، في الوضوء، والصلاة، والزكاة، والجنابة، والصوم، والكيل، والوزن، والودائع، وقال ابن عباس: لم يرخص لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة.(1/190)
قلت: وهذا إجماع، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار والفجار، قاله ابن المنذر.
ووجه النظم بما تقدم أنه تعالى أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقولهم: إن المشركين أهدى سبيلا، فكان ذلك خيانة منهم، فاتجه الكلام إلى ذكر جميع الأمانات، فالآية شاملة بنظمها لكل أمانة، وهي أعداد كثيرة وأمهاتها في الأحكام: الوديعة، واللقطة، والرهن، والعارية.
وروي عن أبي بن كعب، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» اهـ كلامه.
وقد وردت أحاديث في تعظيم شأن الأمانة والأمر بحفظها وأدائها والتحذير من الخيانة فيها، من ذلك ما ورد عن عبدالله بن مسعود، قال: القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة، قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل في سبيل الله، فيقال: أد أمانتك، فيقول: أي رب كيف وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه فيراها فيعرفها فيهوى في أثرها حتى يدركها فيحملها على منكبيه حتى إذا ظن أنه خارج زلت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين.
ثم قال: الصلاة أمانة، و الوضوء أمانة، والكيل أمانة، وأشياء عددها، وأشد ذلك الودائع، فقال راوي الحديث: فأتيت البراء بن عازب، فقلت: ألا ترى ما قال ابن مسعود؟ قال: كذا، قال البراء: صدق أما سمعت الله يقول: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } .
وعن أنس قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» وقد ثبت في «الصحيح»: أن من خان إذا أؤتمن ففيه خصلة من خصال النفاق.(1/191)
وعن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني، قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها».
وعن أبي هريرة قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس يحدث القوم، جاء أعرابي، فقال: متى الساعة؟ فمضى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال، فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه، قال: «أين السائل عن الساعة؟» قال: ها أنا ذا يا رسول الله، قال: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة»، قال: كيف إضاعتها؟ قال: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» رواه البخاري.
وفي حديث حذيفة في وصفه لتسرب الأمانة من القلوب التي تخلخل فيها اليقين، قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثين رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر، حدثنا: «أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السُّنة»، وحدثنا عن رفعها قال: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت، ثم ينام النومة فتقبض، فيبقى أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرًا وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلاً أمينًا، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في مثقال حبة خردل من إيمان» الحديث رواه البخاري.
وقوله تعالى: { وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } أي وأن الله يأمركم إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، والحكم العدل هو فصل الخصومات على ما في كتاب الله وسُّنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأموال والأعراض، القليل والكثير من ذلك، على القريب و البعيد والبر والفاجر والولي والعدو، والحكم بالعدل يحتاج إلى أمور منها:(1/192)
أولاً: فهم الدعوى من المدعي، و الجواب من المدعى عليه ليعرف موضع التنازع والتخاصم بأدلته من الخصمين.
ثانيًا: خلو الحاكم من التحيز والميل إلى أحد الخصمين.
ثالثًا: معرفة الحاكم الحكم الذي شرعه الله ليفصل بين الناس على ضوئه من الكتاب والسُّنة أو الإجماع.
رابعًا: تولية القادرين على القيام بأعباء الأحكام.
وقد أمر المسلمون بالعدل في الأحكام، والأقوال، والأفعال، والأخلاق، قال الله تبارك وتعالى: { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } ، وقال: { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } ، وقال: { وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ } ، وقال: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في أهليهم وما ولوا»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهله وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسئولة عنه، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم وكلكلم مسئول عن رعيته».
ولما كانت هذه الأوامر حسنة عادلة بيَّن سبحانه وتعالى حسن العدل وأداء الأمانة، فقال: { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ } أي نعم الشيء الذي يعظكم به من أداء الأمانات والحكم بين الناس بالعدل إذ لا يعظكم إلا ما فيه صلاحكم وفلاحكم وسعادتكم، ومعنى الوعظ: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل: هو الأمر بالخير والنهي عن الشر.(1/193)
وقوله: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } أي عليكم أن تعملوا بأمر الله ووعظه، فإنه السميع لجميع الأصوات على اختلاف اللغات وتفنن الحاجات، وكأنها لديه صوت واحد، فإذا حكمتم فهو سميع لذلك، الحكم البصير الذي أحاط بصره بجميع المبصرات، فهو سبحانه يشاهد ويرى كل شيء وإن خفي قريبًا أو بعيدًا فلا تؤثر على رؤيته الأستار والحواجز، فيرى دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، ومناط عروق البعوض والذر، وجريان القوت والماء في العروق والأغصان، مهما دقت وغمضت، وإن أديتم الأمانة فهو بصير بذلك.
ثم بعدما أمر سبحانه بأداء الأمانة والعدل في الحكومة أمر بطاعته، وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر بطاعة أولي الأمر، فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } أي أطيعوا الله ربكم فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، وأطيعوا رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فإن في طاعتكم إياه طاعة لربكم، وذلك أنكم تطيعونه لأمر الله إياكم بطاعته.
أقوال العلماء –رحمهم الله تعالى- في معنى قوله: { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } :
قال بعضهم: أمر من الله باتباع سنته، وعن عطاء في قوله: { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } قال: طاعة الرسول اتباع الكتاب والسُّنة، وقال ابن جرير: والصواب من القول في ذلك أن يقال هو أمر من الله بطاعة رسوله في حياته فيما أمر ونهى، وبعد وفاته باتباع سُّنته، وذلك أن الله عم بالأمر بطاعته ولم يخصص بذلك في حال دون حال، فهو على العموم حتى يخص ذلك ما يجب التسليم له.(1/194)
وقوله: { وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } اختلف في أولي الأمر، فللمفسرين فيه قولان، قال ابن عباس وجابر - رضي الله عنهم -: هم الفقهاء والعلماء الذين يعلمون الناس معالم دينهم، وهو قول الحسن والضحاك ومجاهد، ودليله قوله تعالى: { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } .
وقال أبو هريرة: هم الأمراء والولاة، قال بعض العلماء: وليس ببعيد على ما يعم الجميع لتناول الاسم لهم؛ لأن للأمراء تدبير الجيش والقتال، وللعلماء حفظ الشريعة وما يجوز مما لا يجوز، فالله سبحانه أمر بطاعة أولي الأمر؛ لأنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم طاعة لله ورغبة فيما عنده، ولكن بشرط أن لا يأمروا بمعصية الله، فإن أمروا بذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولعل هذا هو السر في حذف الفعل عند الأمر بطاعتهم، وذكره مع طاعة الرسول، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر إلا بطاعة الله، ومن يطعه فقد أطاع الله، وأما أولوا الأمر فشرط الأمر بطاعتهم أن لا يكون في معصية.
وعن علي - رضي الله عنه - قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية، واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار، فلما خرجوا وجد عليهم في شيء، فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا إليَّ حطبًا، ثم دعا بنار فأضرمها فيه، ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها، قال: فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبروه، فقال لهم: «لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدًا إنما الطاعة بالمعروف»، أخرجاه في «الصحيحين».(1/195)
وعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة».
وعن عبادة بن الصامت، قال: «بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثره علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان» أخرجاه.
وفي الحديث الآخر عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اسمعوا وأطيعوا، وإن أمر عليك عبد حبشي كان رأسه زبيبة» رواه البخاري.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدًا حبشيًا مجدوع الأطراف، رواه مسلم.
وعن أم الحصين أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب في حجة الوداع يقول: «ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله اسمعوا له وأطيعوا» رواه مسلم، وفي لفظ: «عبدًا حبشيًا مجدوعًا».
وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيليكم ولاة بعدي، فيليكم البر ببره، والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلوا وراءهم، فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم».
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون»، قال: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: «أوفوا بيعه الأول وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم» أخرجاه.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى من أميره شيئًا فكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرًا فيموت، إلا مات ميتة جاهلية» أخرجاه.(1/196)
وروى مسلم أيضًا عن عبدالرحمن بن عبد رب الكعبة قال: دخلت المسجد، فإذا عبدالله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة، والناس مجتمعون عليه، فأتيتهم، فجلست إليه، فقال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشره، إذ نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن هذه الأمة جعلت عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتن يرقق بعضها بعضًا وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف، وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة فؤداه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر»، قال: فدنوت منه، فقلت: أنشدك الله، أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيد، وقال: سمعته أذناي، ووعاه قلبي، فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا، والله تعالى يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ، قال: فسكت ساعة، ثم قال: أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله.(1/197)
والأحاديث في هذا كثيرة، قال العلماء: ولابد للأمراء من خوف الله وخشيته بإجراء الشرائع والأحكام، واتباع كتاب الله وسُّنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - حتى يقع في القلوب لهم هيبة بإذن الله فحينئذ لا يحتاجون إلى المحافظة كما يحتاج من ليس كذلك، روي أن كلب الروم أرسل إلى عمر - رضي الله عنه - هدايا من الثياب والجبب، فلما دخل الرسول إلى المدينة، قال: «أين دار الخليفة وبناؤه؟» فقيل: ليس له دار عظيمة كما توهمت، إنما له بيت صغير فدلوه عليه فأتاه، فوجده بيتًا صغيرًا قد أسود به لطول الزمان، فطلبه فلم يصادفه، وقيل: إنه خرج إلى السوق لحاجته وحوائج المسلمين، فخرج الرسول لطلبه، فوجده نائمًا تحت ظل حائط قد توسد بالدرة، فلما رآه، قال: عدلت، فأمنت، فنمت حيث شئت، وأمراؤنا ظلمونا فاحتاجوا إلى الحصون والجيوش.
وعلم أن الولاة إنما يكونوا على حسب أعمال الرعايا، وأحوالهم صلاحًا وفسادًا، يدل لذلك قوله تعالى: { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } ، وقوله: { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } ،وحديث: «كما تكونوا يولى عليكم أحدكم».
وروي أنه قيل للحجاج بن يوسف الظالم المشهور: لم لا تعدل مثل عمر، وأنت قد أدركت خلافته؟ أفلم تر عدله وصلاحه؟ فقال في جوابهم: تباذروا، أي كونوا كأبي ذر في الزهد والتقوى، أتعمر لكم، أي أعاملكم معاملة عمر في العدل والإنصاف.
وروي أن الله أوحى إلى موسى: إذا استعملت على الناس خيارهم فهو علامة رضائي، وإذا استعملت شرارهم فهو علامة سخطي.(1/198)
وقوله: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } هذا أمر من الله تعالى برد ما تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه إلى كتاب الله وسُّنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } فما حكم الكتاب والسُّنة به وشهدا له بالصحة فهو الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال؛ ولهذا قال: «إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر» أي ردوا الخصومات إلى كتاب الله وسُّنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فتحاكموا إن كنتم تؤمنون الله واليوم الآخر، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسُّنة، ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنًا بالله ولا باليوم الآخر.(1/199)
وقوله: { ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } أي التحاكم إلى كتاب الله وسُّنة رسوله والرجوع إليهما في فصل النزاع خير وأحسن تأويلاً أي وأحسن عاقبة ومآلاً، فكل حكم سوى حكم الله فهو باطل مردود، وكل حاكم بغير حكم الله وحكم رسوله، فهو طاغوت كافر بالله، قال الله تعالى: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ } وهذا عام شامل فما من قضية إلا ولله فيها حكم، وقال الله تعالى: { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } أي ما تركنا في القرآن شيئًا من ضروب الهداية التي ترسل من أجهلا الرسل إلا بيناه فيه، وقال: { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } فقد ذكرت فيه أصول الدين وأحكامها وحكمها، والإرشاد إلى استعمال القوى البدنية والعقلية التي سخرها الله للإنسان، وقال تعالى: { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } أي بتمام النصر وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة، الأصول والفروع؛ ولهذا كان الكتاب والسُّنة كافيين كل الكفاية في أحكام الدين وأصوله وفروعه، وقال تعالى: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } المراد بالذكر القرآن، الذي فيه ذكر ما يحتاج إليه العباد من أمور دينهم وأمور دنياهم الظاهرة والباطنة، أي لتعرفهم ما أنزل إليهم من الأحكام والشرائع وأحوال القرون المهلكة، وتبين لهم ما أشكل عليهم من الأحكام، وتفصيل لهم ما أجمل بحسب مراتبهم في الاستعداد والفهم لأسرار الشرائع، وقال تعالى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ } الآية.(1/200)
قال ابن مسعود: قد بين لنا في هذا القرآن علم كل شيء، وقال مجاهد: كل حلال وحرام، وقال ابن كثير: وقول ابن مسعود أعم وأشمل، فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتي، وكل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دينهم ودنياهم ومعاشهم ومعادهم.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعد إلا هالك» وقال فيما صح عنه: «ما بعث من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم».
وقال عمر بن الخطاب: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقامًا فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه، رواه البخاري.(1/201)
ولاشك أن من أعرض عن الكتاب والسُّنة، واعتاض عنهما بالقوانين الوضعية أنه كافر كفر ناقل عن الملة الإسلامية، وكذلك من زعم أنه يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى، أو زعم أن هدي غير محمد أفضل من هديه - صلى الله عليه وسلم - أو أحسن، أو زعم أنه لا يسع الناس في مثل هذه العصور إلا الخروج عن الشريعة المحمدية، وأنها كانت كافية في الزمن الأول فقط، وأما في هذه الأزمنة فالشريعة لا تساير الزمن، ولابد من تنظيم قوانين بما يناسب الزمن، فلا شك أن هذا الاعتقاد إذا صدر من إنسان، فإنه قد استهان بكتاب الله وسُّنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتنقصهما ولا شك في كفره وخروجه عن الدين، وكذلك من زعم أنه محتاج للشريعة في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، أو زعم أن الإنسان حر في التدين، وفي أي دين يشاء من يهودية، أو نصرانية، أو غير ذلك، أو أن هذه الشرائع غير منسوخة بدين محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو استهان بدين الإسلام أو تنقصه أو هزل به، أو بشيء من شرائعه، أو بمن جاء به. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
مما يفهم من آيات الدرس [58، 89]:
1- أن هذه الآية من أمهات الأحكام تضمنت جميع الدين والشرائع.
2- وجوب أداء الودائع لأربابها.
3- أنها تتناول الولاة فيما وكل إليهم من الأمانات، وقسمة الأموال، ورد المظالم، والعدل في الحكومات.
4- أداء الصلاة؛ لأنها أمانة.
5- أداء الزكاة؛ لأنها أمانة.
6- أداء الصوم؛ لأنه أمانة.
7- أداء الحج؛ لأنه أمانة.
8- الأمانة في الحديث بأنه يحفظه إذا استودعه.
9- الوضوء وفق ما أمر به الشارع؛ لأنه أمانة.
10- الطهارة من الجناية؛ لأنها أمانة.
11- الوفاء بالكيل؛ لأنه أمانة.
12- الوفاء بالوزن؛ لأنه أمانة.
13- حفظ الرهن وأداؤه؛ لأنه أمانة.
14- حفظ اللقطة؛ لأنها أمانة.
15- العارية؛ لأنها أمانة.(1/202)
16- حفظ الأمانة؛ لأنه لا يمكن تأديتها إلا بحفظها.
17- في الآية وعد عظيم للمطيع.
18- وعيد شديد للعاصي.
19- الاهتمام بأمر القضاة والولاة؛ لأنه فوض إليهم النظر في مصالح العباد.
20- الأمر بالعدل، وهذا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأموال والأعراض القليل والكثير على القريب والبعيد والبر والفاجر والولي والعدو.
21- وجوب العدل على الحكام والولاة حتى تصل الحقوق إلى أربابها كاملة غير منقوصة.
22- فيها مدح من الله لأوامره ونواهيه، لاشتمالها على مصالح الدارين، ودفع مضارهما.
23- إثبات الألوهية.
24- إثبات صفة السمع لله.
25- إثبات صفة البصر.
26- متمسك لمن فضل السمع على البصر.
27- أن صفة السمع غير صفة البصر إذ العطف يقتضي المغايرة.
28- دليل على الجزاء على الأعمال.
29- دليل على البعث والحساب.
30- لتنبيه على مقام الإحسان.
31- أن أداء الأمانة يشمل أساس الاعتقاد.
32- أنه يشمل أساس العبادة.
33- أنه يشمل أساس التعامل.
34- أنه يشمل أساس العلاقات بين الناس، وأول أمانة ترد إلى أهلها أمانة الإيمان.
35- لطف الله بخلقه ورحمته ورأفته بهم حيث أمرهم بما فيه صلاحهم.
36- التحذير من كتمان الأمانة.
37- إثبات صفة الكلام لله.
38- وجوب أداء الأمانة إلى البر والفاجر.
39- وجوب طاعة الله.
40- وجوب طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
41- وجوب طاعة أولي الأمر في غير معصية.
42- التحذير من معصية الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
43- أن الكتاب والسُّنة كافيان كل الكفاية في أحكام الدين أصوله وفروعه.
44- تحريم الحكم بالقوانين.
45- إثبات صفة الألوهية.
46- إثبات رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
47- الرد على من أنكر رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
48- أن الأصل الأول القرآن الكريم.
49- أن الأصل الثاني سُّنة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
50- أن المؤمن لا يقدم شيئًا على حكم الله.(1/203)
51- في الآية دليل على أن من لم يرد مسائل النزاع إلى الكتاب والسُّنة فليس بمؤمن حقيقة.
52- أن الرد إلى الكتاب والسُّنة شرط في الإيمان.
53- أن من لا يعتقد وجوب طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومتابعة السُّنة والحكم بالأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكون مؤمنًا بالله واليوم الآخر.
54- إثبات البعث والحساب والجزاء على الأعمال.
55- أن طاعة الأمراء واجبة إذا وافقوا الحق، وأما في المعصية فلا.
56- التحذير عن معصية الله.
57- التحذير من معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
58- أن رد المتنازع فيه إلى الله والرسول خير لعباد الله.
59- أن ذلك أحسن عاقبة ومآلاً.
60- مدح من الله للرد إلى كتابه وسُّنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
61- التحذير من الإعراض عن الكتاب والسُّنة.
62- أن الكتاب والسنة في كل زمان يرجع إليهما.
63- الإرشاد إلى ما هو سبب للتواصل والتوادد من العدل، وأداء الأمانات، وطاعة ولاة الأمور في غير معصية.
64- الابتعاد مما يسبب العداوة، والبغضاء، والغيبة.
65- التحذير من الجور والظلم.
66- التحذير من كتمان الأمانة.
67- الرد على الجهمية المنكرين للصفات.
68- إثبات صفة العلم لله.
69- أنه إذا لم يوجد تنازع لا يجب الرد.
70- أن في مدحه تعالى لأوامره ونواهيه في قوله: { نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ } مزيد لطف بالمخاطبين واستدعائهم إلى الامتثال لأوامره تعالى.
71- أن الله جل وعلا يختم الآيات بما يناسبها من الأسماء.
72- إثبات الأسماء لله.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم(1/204)
قال الله تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًَا * وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَنْ لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا * فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } .
سبب نزول هذه الآية الكريمة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قيل: نزلت في ثوبان، وكان شديد الحب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم قد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما غير لونك؟» فقال: يا رسول الله، ما بي مرض ولا وجع غير أني إن لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ثم ذكرت الآخرة، فأخاف أن لا أراك لأنك ترفع مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا، فنزلت هذه الآية.(1/205)
وعن سعيد بن جبير قال: «جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو محزون، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا فلان مالي أراك محزونًا؟» فقال: يا نبي الله، شيء فكرت فيه، فقال: «ما هو؟» قال: نحن نغدو عليك ونروح، ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغدًا ترفع مع النبيين، فلا نصل إليك فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، فأتاه جبريل بهذه الآية: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ } الآية، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه فبشره».
وقد روي هذا مرسلاً عن مسروق، وعن عكرمة، وعامر، والشعبي، وقتادة، والربيع بن أنس، وهو من أحسنها سندًا، قال ابن جرير: حدثنا المثني، حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع قوله: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ } الآية، قال: إن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: قد علمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - له فضل على من آمن به في درجات الجنة ممن اتبعه وصدقه، ويكف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضًا؟ فأنزل الله في ذلك، يعني هذه الآية، فقال –يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم --: «إن الأعلين ينحدرون إلى من هو أسفل منهم فيجتمعون في رياض الجنة، فيذكرون ما أنعم الله عليهم، ويثنون عليه، وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون بما يشتهون وما يدعون به فهم في روضة يحبرون ويتنعمون فيه».(1/206)
وقد روي مرفوعًا من وجه آخر عن الأسود عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إنك لأحب إلي من نفسي، وأحب إلي من أهلي، وأحب إلي من ولدي وأني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك، فانظر إليك وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلت الجنة خشيت أن لا أراك فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى نزلت عليه: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا } .
وعن ربيعة بن مالك الأسلمي - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سل»، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: أو غير ذلك، فقلت: هو ذاك، قال: «فأعني على نفسك بكثرة السجود» رواه مسلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق أخبرنا ابن لهيعة عن عبدالله ابن جعفر عن عيسى بن طلحة عن عمرو بن مرة الجهني، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، شهدت أن لا إله إلا الله، وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت شهر رمضان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين يوم القيامة هكذا –ونصب أصبعيه- ما لم يعق والديه» تفرد به أحمد.
وورد: «من قرأ ألف آية في سبيل الله كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا».
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «التاجر الصدوق مع النبيين، والصديقين، والشهداء».
وعن ابن مسعود قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، كيف تقول في رجل أحب قومًا ولم يلحق بهم؟ قال: «المرء مع من أحب» متفق عليه.(1/207)
وعن أنس أن رجلاً قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: «ويلك، وما أعددت لها؟» قال: ما أعددت لها كثير عمل، إلا أني أحب الله ورسوله، قال: «أنت مع من أحببت» قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بها، متفق عليه.
وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًَا } يأمر تعالى عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم، وهذا يستلزم التأهب والاستعداد لاتقاء الشر، وذلك بأن يعرفوا حال العدو ومبلغ استعداده، وإذا كان للمسلمين أعداء كثيرون فعليهم أن يعرفوا ما بينهم من وفاق وخلاف ويعرفوا الوسائل لمقاومة الأعداء إذا هجموا، ويعملوا بتلك الوسائل، ويدخل في ذلك معرفة حال العدو، ومعرفة أرضه وما فيها من مكامن ومواقع استراتيجية ومخازن ذخائره ومعرفة نوع أسلحته واستعمالها، ومعرفة طرق العدو وما يتوقف على ذلك من معرفة الهندسة وجر الأثقال.
وعلى الجملة اتخاذ أهبة الحرب المستعملة المناسبة في كل عصر وحين من طيارات ودبابات وبوارج مدرعة ومدافع مضادة للطائرات، ورشاشات وقنابل وبث العيون (قلم المرور والجواسيس) في جميع بلاد العدو ليكونوا على علم مما عسى أن يكيدوا للمسلمين من المكائد.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة على علم بأرض عدوهم كما لهم عيون وجواسيس يأتونهم بالأخبار فقد أرسل عبدالله بن جحش سنة اثنتين من الهجرة في اثني عشر مهاجرًا بعد أن دفع إليه كتابًا أمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، فلما مضي اليومان نظر عبدالله في كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا فيه: «إذا نظرت إلى كتابي هذا فأمض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشًا وتعلم لنا من أخبارهم».(1/208)
وعندما علم - صلى الله عليه وسلم - بعير أبي سفيان تحمل خيرات قريش كلها إلى الشام أمر نفرًا من المسلمين أن يخرجوا إليها لعل الله أن يجعلها لهم، فلما اقتربوا من الصفراء بعثوا بسيس بن عمرو وعدي بن الزغباء إلى بدر يستطلعان أخبار العير، وقد ذهب رجلان من المسلمين إلى بدر يستشفيان ويتطلعان الأخبار، ولما علما أسرعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبرانه بيوم قدوم العير.
وفي غزوة المريسيع عندما علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الحارث ابن أبي ضرار سيد بني المصطلق خرج في قومه ليحارب المسلمين أرسل بريدة بن الحصيب الأسلمي يتأكد له الأمر، فلما لقى الحارث وعلم أخباره رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقص عليه ما سمع فما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ندب المسلمين للقاء بني المصطلق.
وفي غزوة الخندق عندما علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن قريظة نقضت عهدها وانضمت إلى حيي ابن أخطب عدو الله ورسوله، أرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبدالله بن رواحة وخوات بن جبير ليعلموا أمر قريظة ويروا أن كانت على عهدها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم خرجت عليه؟ فلما سأل هؤلاء كعب بن أسد، وقال لهم: لا عهد بيننا وبين محمد، ولا عقد انصرفوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبرونه إلى غير ذلك مما يطول ذكره.(1/209)
والخلاصة: أنه لو فكر المسلمون في معنى هذه الآية، وفي معنى آية الأنفال، وهي قوله تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ } الآية؛ لعرفوا كيف يكون لا استعداد لما يستطيعون من قوة ولكان الواجب عليهم أن يكونوا أول المفكرين في الأسلحة الحديثة الفتاكة كالذرة التي اخترعها أعداؤهم وباهوا بها الدول التي تطنطن اليوم بقوتها وسعتها في الإهلاك والدمار، وخراب الأرض، ويهددون بها الناس، وكثرة التفكير في الشيء وطول الإمعان والبحث والتنقيب وكثرة التجارب مع الصبر الطويل، وعدم الكلل والضجر لابد أن تصل بإذن الله إلى نتيجة.
والكفار الذي جعلهم الله يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا واصلوا البحث وأطالوا التفكير حتى وصلوا إلى الاختراع لهذه الأسلحة الحديثة والمسلمون ليسوا أقل عقولاً منهم، بل هي أقوى وأصح ولكنهم ناموا فلم يستيقظوا وأعطوا صفحًا عن التفكير فيما جعله الله سببًا لمنع البلاء عنهم، فخسروا ونهشتهم الذئاب من كل جانب وطمعت فيهمن الأعداء وظهر مصداق وصفه - صلى الله عليه وسلم - في حديث ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن»، قال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت» رواه أبو داود، والبيهقي في «دلائل النبوة»، فتأمل يا أخي، الحديث العظيم وفكر فيه بدقة وانظر إلى ما فيه من معجزات باهرة تجدها مطابقة لما في مجتمعنا الحالي غاية الانطباق.
وقوله: { فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًَا } أي فانفروا جماعة إثر جماعة، بأن تكونوا فصائل وفرقًا –إذا كان الجيش كبيرًا أو موقع العدو يستدعي ذلك، أو تنفر الأمة كلها جميعًا إذا اقتضت الحال ذلك، بحسب قوة العدو.(1/210)
والخلاصة: إنكم إما أن تنفروا جماعات جماعات، وإما أن ينفر جميع المؤمنين على الإطلاق بحسب حال العدو، وامتثال هذا الأمر يقتضي أن تكون الأمة على استعداد دائم للجهاد بأن يتعلم كل فرد من أفراد الأمة فنون الحرب ويتمرن عليها، وأن تقتني السلاح الذي تحتاج إليه في النضال وتعلم كيفية استعماله في كل زمان بما يناسبه.
وقوله: { وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَنْ لَّيُبَطِّئَنَّ } : التبطئة: التأخر عن الأمر، أي ليثاقلن ويتأخرن عن الجهاد، اختلفوا فيمن نزلت على قولين، أحدهما: أنها في المنافقين كعبدالله بن أبي وأصحابه، كانوا يتثاقلون عن الجهاد، فإن لقيت السرية نكبة، قال من أبطأ منهم: لقد أنعم الله علي، وإن لقوا غنيمة، قال: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا، هذا قول ابن عباس وابن جريج.
والثاني: أنها نزلت في المسلمين الذين قلت علومهم بأحكام الدين فثبطوا لقلة العلم لا لضعف الدين، ذكره الماوردي وغيره.
فعلى الأول تكون إضافتهم إلى المؤمنين بقوله: منكم لموضع نطقهم بالإسلام وجريان أحكامه عليهم، وعلى الثاني تكون الإضافة حقيقية.
وقال سيد قطب - رحمه الله - على هذه الآية: إنها الوصية الأولى للمحاربين أن يأخذوا حذرهم، وأن لا يغفلوا لحظة فيؤخذوا خدعة أو بغتة، وأن لا يخرجوا إلى الجهاد حين يخرجون أفرادًا يسهل صيدهم، أو فوضي يسهل أخذهم، إنما يخرجون جماعات منظمة، أو ينفرون جميعًا وقيادتهم واحدة، ولا ينفر بعضهم ويتثاقل بعضهم، ففي التثاقل تثبيط للعزائم، وتوهين للخطة، وإيقاع للاضطراب في النفوس والصفوف، وخذوا حذركم لا من العدو الخارجي وحده، ولكن من هؤلاء المعوقين المبطئين المثبطين، سواء كانوا يبطئون أنفسهم أي يقعدون بها متثاقلين أو يبطئون غيرهم معهم، وهي أشد وأنكى.(1/211)
هؤلاء هم بكل بواعثهم وبكل طبيعتهم وبكل أعمالهم وأقوالهم، هؤلاء هم مكشوفين للأعين كما لو كانوا قد وضعوا تحت مجهر يكشف النيات والسرائر ويكشف البواعي والخواطر هؤلاء كما كانوا على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكما يكونوا في كل زمان وفي كل مكان، هؤلاء هم الضعاف المنافقون الملتوون الذين لا يعرفون غاية أعلى من مصالحهم ولا أفقًا أعلى من ذواتهم، إنهم يبطئون ويتلكئون ولا يصارحون ليمسكوا العصي من الوسط كما يقولون، فإن أصابت المجاهدين محنة، وابتلوا ذلك البلاء الذي يقدر الله أن يصادف المجاهدين في ثنايا الطريق، فرح المتخلفون، وحسبوا أن فرارهم من البلاء نعمة لا يخجلون أن ينسبوها إلى الله الذي يخالفون عن أمره، ويقعدون عن نصرة شريعته، وهي نعمة ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها من قبله العذاب هي نعمة عند من لا يدركون لماذا خلقوا ولا يتطلعون إلى أفق أعلى من مواطئ الأقدام في هذه الأرض كالنمال، هي نعمة عند من لا يحسون أن البلاء في طريق الجهاد لإعلاء كلمة الله فضل يختص الله به من يشاء من عباده. اهـ بتصرف.(1/212)
قوله: { وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا } أي ولئن من الله عليكم وكانت الأخرى، فانتصر المجاهدون في سبيل الله الذين خرجوا مستعدين للبلاء ونالهم فضل من الله بالنصر والغنيمة والرضوان ندم المتخلف أن لم يكن شريكًا في معركة رابحة، وقال: يا ليتني كنت معهم فأفوز كما فازوا، فهو قد نسي ما يجب عليه من مديد المعونة إليكم وبذل ما يمكنه من نفس أو مال، ولكن ضعف إيمانه أو جبنه منعه عن هذا إذ أن هذا التمني بعد فوات الفرصة دليل على ضعف العقل، وأنه ممن لا يهتم بأمر الآخرة، وفي قوله: { كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } تقريع وتوبيخ بالطف القول وأرق العبارة، إذ أن قليلاً من المودة كان ينبغي أن يمنع مثل هذا التمني وأن بعد هذا الإحجام نعمة، فهذا يشعر بأن هذا لا يرى نعمة الله على المؤمنين نعمة وفضلا عليه ولا ما يصيبهم من جهد وبلاء كأنه يصيبه هو مع أن القرآن يصرح بأن المؤمنين إخوة، والحديث يمثلهم في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، وكالبنيان يشد بعضه بعضًا.(1/213)
وقوله: { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ } يشرون مضارع شرى، ويكون بمعنى باع واشترى من الأضداد، فإن كان بمعنى يشترون، فالمراد من الموصول المنافقون أمروا بترك النفاق وأمروا بالمجاهدة مع المؤمنين، والفاء للتعقيب أي ينبغي بعد ما صدر منهم من التثبيط والنفاق تركه، وتدارك ما فات من الجهاد بعد، وإن كان بمعنى يبيعون فالمراد منه المؤمنون الذين تركوا الدنيا واختاروا الآخرة أمروا بالثبات على القتال، وعدم الإلتفات إلى تثبيط المثبطين المبطئين، والفاء جواب شرط مقدر، أي إن بطأ هؤلاء عن القتال فليقاتل المؤمنون المخلصون الذين يؤثرون الآجلة على العاجلة ويبذلون أنفسهم في طلبها، فإن هؤلارء الذين يوجه إليهم الخطاب؛ لأنهم الذين قد أعدوا أنفسهم ووطنوها على جهاد الأعداء لما معهم من الإيمان التام المقتضي لذلك.
وأما أولئك المتثاقلون المبطئون فلا يعبأ بهم خرجوا أو قعدوا، ويكون نظير قوله تعالى: { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا } إلى آخر الآيات، وقوله: { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ } ، وقوله: { فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ } .
ثم وعد سبحانه وتعالى من قاتل في سبيله بالأجر العظيم سواء استشهد أو غلب، واكتفى في الحالتين بالغاية؛ لأن غاية المغلوب في القتال أن يقتل، وغاية الذي يقتل أن يغلب ويغنم، فأشرف الحالتين ما بدئ به من ذكر الاستشهاد في سبيل الله، ويليها أن يقتل أعداء الله ودون ذلك الظفر بالغنيمة، ودون ذلك أن يغزو فلا يصيب ولا يصاب.(1/214)
ولفظ الجهاد في سبيل الله يشمل هذه الأحوال، وفي تعقيب القتال بما ذكر تنبيه على أن المجاهد ينبغي أن يكون همه أحد الأمرين: إما إكرام نفسه بالقتل والشهادة، أو إعزاز الدين وإعلاء كلمة الله تعالى بالنصر.
وقوله: { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } فسر الأجر العظيم، فقيل: إنه الجنة، وقيل: إنه مزيد ثواب من الله مثل كونهم { أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } ، قالوا: لأن الجنة موعود دخولها بالإيمان بالله ورسله، والذي فسره بالجنة نظر إلى قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ } الآية، قال الله تعالى عن ما أعد لأهل الجنة: { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ، وقال عز من قائل: { يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسلي فهو ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة» الحديث رواه مسلم.
والله، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
مما يفهم من الآيات المتقدمة [69-74]:
الآية الأولى: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا } إلى آخر الآيات:
1- إثبات الألوهية.
2- الحث على طاعة الله.
3- الحث على طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
4- بشارة لمن أطاع الله ورسوله.
5- إثبات رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -.(1/215)
6- الرد على من أنكر رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
7- محبة الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
8- أن منزلة من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين... إلخ عالية لا يدنو منها إلا من وفقه الله.
9- الحث على الصدق.
10- الحث على طلب الشهادة في سبيل الله.
11- الحث على إصلاح الظاهر والباطن.
12- ثناء الله على من اتصفوا بهذه الصفات.
13- الأمر بأخذ الحذر.
14- الأمر بالنهوض لقتال العدو.
15- الرد على من قال إن الكفار لا يقاتلون إلا دفاعًا فقط.
16- الحث على الجهاد.
17- توبيخ وتقريع المبطئين.
18- في الآية دلالة على ضعف إيمان هذا المبطئ وضعف عقله حيث رأى أن التقاعد عن الجهاد الذي فيه تلك المصيبة نعمة، ولم يدر أن النعم الحقيقية هي التوفيق لهذه الطاعة الكبيرة التي بها يقوى الإيمان ويسلم بها العبد من العقوبة والخسران، ويحصل له بها عظيم الثواب ورضى الكريم الوهاب.
19- أن الله يبتلي عباده بالمصائب.
20- أن الفضل بيد الله.
21- أن المفرط في طاعة الله يندم ويتحسر.
22- في الآيتين تنبيه على أنهم لا يعدون من المنح إلا الأغراض الدنيوية يفرحون بما ينالون منها، ولا من المحن إلا مصائبها فيتألمون لما يصيبهم منها، كقوله تعالى: { فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ } الآية.
23- على المجاهدين أن لا يخرجوا إلا جماعات أو ينفرون جميعًا ولا ينفي أن هناك أعمالاً حربية تستدعي انتداب فرد أو فردين، ولكن التحدث هنا عن النفرة للحرب، والخروج العلني للعمليات الحربية.
24- إثبات علم الله.
25- الرد على من أنكر صفة من صفات الله، أو أولها بتأويل باطل.
26- أن في هذه الآية تبيين بعض الأحكام الحربية والسياسية.
27- الحث على تعرف حال العدو، ومبلغ استعداده وقوته؛ لأن معرفة ذلك مما به يحصل اتقاء العدو بإذن الله.(1/216)
28- الحث على معرفة أرض العدو، وبلاده وأسلحته؛ لأن معرفة ذلك مما يحصل به اتقاء شره.
29- اتخاذ العيون والجواسيس ضد العدو لما سبق.
30- اتخاذ أهبة الحرب المستعملة فيها لما سبق.
31- أن أخذ الحذر وفعل الأسباب لا ينافي التوكل على الله؛ لأن الأمر بالحذر داخل في القدر، فالأمر به لندفع عنا شر الأعداء لا لندفع ما قدره الله، إذ القدر: هو جريان الأمور بنظام تأتي فيه الأسباب بإذن الله على قدر المسببات التي أرادها الله، والحذر من جملة الأسباب، فهو عمل بمتقضى القدر لا بما يضاده.
32- إثبات صفة الكلام لله.
33- الرد على من قال إن القرآن كلام محمد - صلى الله عليه وسلم -.
34- إثبات البعث.
35- إثبات الحساب والجزاء على الأعمال والجنة.
36- أن الجهاد الصحيح هو ما كان في سبيل الله.
37- الترغيب في القتال بعد الأمر به بذكر الثواب.
38- ذكر الشهادة والظفر للإشارة إلى أن حق المجاهد أن يوطن نفسه على أحدهما ولا يخطر بباله القسم الثالث وهو مجرد أخذ المال.
39- جعل المبطئ من المؤمنين باعتبار الجنس أو النسب أو الانتهاء إلى الإيمان في الظاهر.
قيل: إن الآية نزلت في عبدالله بن أبي وأصحابه، وكان ديدونه تثبيط الناس في القتال وهو الذي ثبطهم يوم أحد.
40- أن الله يعلم أحوال العباد ومن يستحق منهم الثواب الجزيل بما قام به من الأعمال الصالحة، ومن يستحق العقاب الأليم بما اقترفه من الذنوب.
41- أن من فوائد أسلوب قوله تعالى: { وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا } ، أنه يؤثر في نفس سامعه تأثيرًا لا يدنو من مثله الطعن بهجر القول إذ يدعو صاحبه إلى التأمل والتفكر في حقيقة حاله ومعاتبة نفسه، والتوبة إلى ربه، والرجوع إلى أوامر دينه.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم(1/217)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
قال تعالى: { لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا * إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِيَنَّهُمْ وَلآمُرَنُّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا } .
بيان سبب النزول:(1/218)
قيل: إن من قوله تعالى: { إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } الآية إلى قوله تعالى: { وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا } سبب نزوله: أن رجلاً من الأنصار يقال له: طعمة بن أبيرق أحد بني ظفر بن الحارث سرق درعًا من جار له يقال: قتادة بن النعمان، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار وفيها أثر الدقيق، ثم خبأها عند رجل من اليهود يقال له: يزيد بن السمين، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد عنده، وحلف لهم: والله ما أخذها، وما له بها من علم، فقال أصحاب الدرع: بلى والله، قد أدلج علينا فأخذها، وطلبنا أثره حتى دخل داره فرأينا أثر الدقيق، فلما أن حلف تركوه، واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه، فقال: دفعها إلي طعمة بن أبيرق، وشهد له ناس من اليهود على ذلك، فقالت بنو ظفر - وهم قوم طعمة: انطلقوا بنا إلى رسول الله، فكلموه في ذلك، فسألوه أن يجادل عن صاحبهم، فهمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل، فأنزل الله: { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ } الآية.(1/219)
المعنى: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس، إلا ما استثنى وإذا لم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه، ثم استثنى الله تعالى من النجوى التي هي المسارة في الحديث أمورًا ثلاثة، أحدها، فقال: { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ } أي من مال أو علم أو أي نفع كان، وقيل: المراد صدقة الفرض، وقد ورد الأمر بالصدقة والحث عليها، قال الله تعالى: { وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا } ، وقال: { مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } .(1/220)
وحث - صلى الله عليه وسلم -، فعن جابر قال: كنا في صدر النهار عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء قوم عراة مجتابي النمار، أو العباء متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى، ثم خطب، فقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } إلى آخر الآية: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } والآية في الحشر: { اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: «ولو بشق تمرة»، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كتفه تعجز عنها، بل قد عجزت ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من الطعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلهل كأنه مذهبة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء» الحديث رواه مسلم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل سلامي من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين اثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق».
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة»، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» رواه مسلم.(1/221)
وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «على كل مسلم صدقة»، قال: فإن لم يجد، قال: «فليعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق» قالوا: فإن لم يستطع أو يفعل، قال: «فيعين ذا الحاجة الملهوف»، قالوا: فإن لم يفعل، قال: «فيأمر بالخير»، قال: فإن لم يفعل، قال: «فيمسك عن الشر، فإنه له صدقة» متفق عليه.
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الصلاة لك صدقة ونصرك الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق صدقة وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة» رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.
الثاني من الأمور الثلاثة، قوله: { أَوْ مَعْرُوفٍ } وهو الإحسان، والطاعة، وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنة، وإذا أطلق الأمر بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر دخل فيه النهي عن المنكر ذلك؛ لأن ترك المنهيات من المعروف، وأيضًا لا يتم فعل الخير إلا بترك الشر، وأما عند الاقتران فيفسر المعروف بفعل المأمورات، والمنكر بترك المنهي عنه، وقال مقاتل: المعروف هنا الفرض، والصحيح أنه لفظ عام يعم أعمال البر كلها، فعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك» رواه أحمد والترمذي.
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» رواه مسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «المعروف كاسمه، وأول ن يدخل الجنة يوم القيامة المعروف وأهله»، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء».
وقال علي –كرم الله وجهه-: لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره، فقد يشكر الشاكر بأضعاف جحود الكافر، وقال الحطيئة:(1/222)
من يفعل الخير لا يعدم جوائزه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
قال الماوردي: فينبغي لمن يقدر على إسداء المعروف أن يعجله حذار فواته، ويبادر به خيفة عجزه ويتحرى الأخيار الكرام كما يتحرى لزرعه الرياض الطيبة، وأما الأنذال اللئام فهم كالأرض السبخة تمرر الماء وتفسد البذر، وقديمًا قيل:
ولا تصطنع إلا الكرام فإنهم
ومن يتخذ عند اللئام صنيعة ... يجاوزن بالنعماء من كان منعمًا
يظل على آثارها متندمًا
وليعلم أنه من فرض زمانه، وغنائم إمكانه، ولا يهمله ثقة بالقدرة عليه، فكم من واثق بالقدرة فاتت فأعقبت ندمًا ومعول على مكنة فأورثت خجلاً، كما قال الشاعر:
ما زلت أسمع كم من واثق خجل ... حتى ابتليت فكنت الواثق الخجلا
ولو فطن لنوائب دهره وتحفظ من عواقب أمره لكانت مغانمه مدخورة ومغارمه مجبورة، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من فتح عليه باب من الخير فينتهزه، فإنه لا يدري متى يغلق عنه».
وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لكل شيء ثمرة، وثمرة المعروف السراح» أي التعجيل.
وقيل لأنو شروان: ما أعظم المصائب عندكم؟ قال: أن تقدر على المعروف فلا تصطنعه حتى يفوت.
وقال عبدالحميد: من أخر الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها.
قال بعض الشعراء:
إذا هبت رياحك فاغتنمها
ولا تغفل عن الإحسان فيها ... فإن لكل خافقة سكون
فما تدري السكون متى يكون
وقال أبو الفتح البستي:
أحسن إذا كان إمكان ومقدرة ... فلن يدوم على الإحسان إمكان
وقال العباس - رضي الله عنه -: لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيله، وتصغيره، وستره، فإذا عجلته هنأته، وإذا صغرته عظمته، وإذا سترته أتممته، على أن ستره المعروف من أقوى أسباب ظهوره وأبلغ دواعي نشره لما جبلت عليه النفوس من إظهار ما خفي وإعلان ما كتم.
قال سهل بن هارون:
خِلٌّ إذا جئتَه يومًا لِتسأَلهُ
يُخْفِي صنائِعَه واللهُ يعلمها ... أعطاك ما ملكتْ كفاه واعتذرا(1/223)
إن الجميلَ إذا أخفيتَه ظهرا
ومن شرط المعروف مجانبة الامتنان به، وترك الإعجاب بفعله لما فيهما من إسقاط الشكر وإحباط الأجر، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إياكم والامتنان بالمعروف، فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر» ثم تلا - صلى الله عليه وسلم - آية البقرة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى } فالمان بالمال غير محمود، كما أنه غير مأجور.
وفي ذلك يقول أبو الطيب:
إذا الجود لم يرزق خلاصًا من الأذى ... فلا الحمد مكسوبًا ولا المال باقيًا
وقوله تعالى: { أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } هذا عام في الدماء والأموال والأعراض والأديان، وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه، وفي كل كلام يُراد به وجه الله، وقال تعالى في الآية الأخرى: { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } ، وقال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } ، وقال تعالى: { إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } .(1/224)
وفي الحديث الذي رواه ابن مردويه: حدثنا محمد بن زيد بن حنيش، قال: دخلنا على سفيان الثوري نعوده، فدخل علينا سعيد ابن حسان، فقال له الثوري: الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح ردده علي، فقال: حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كلام ابن آدم كله عليه لَا لَهُ إِلا ذكر الله عز وجل، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر»، فقال سفيان: أو ما سمعت الله في كتابه يقول: { لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } فهو هذا بعينه، أو ما سمعت الله يقول: { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } ، فهو هذا بعينه، أو ما سمعت الله يقول في كتابه: { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } فهو هذا بعينه.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والقيام والصدقة والصلاة؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إصلاح ذات البين، وإن فساد ذات البين هي الحالقة».
وعن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي أيوب: «ألا أدلكم على تجارة؟» قال: بلى يا رسول الله، قال: «تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا».
وقال الأوزاعي: ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل سلامي من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الإثنين صدقة» الحديث متفق عليه، ومعنى تعدل بينهما: تصلح بينهما بالعدل.,(1/225)
وعن أم كلثوم - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرًا أو يقول خيرًا» متفق عليه، وفي رواية مسلم زيادة، قالت: «ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: تعني الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها».
وعن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغه أن بني عمرو بن عوف كان بينهم، فحبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحانت الصلاة، الحديث متفق عليه، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث المتضمنة للأمر بالإصلاح بين الناس والحث عليه.
ويراعى المصلح في الصلح ما يلي:
1- أن يعدل بين المتخاصمين.
2- أن يكون الإخلاص باعث على الإصلاح، وإن كان له مكانة فهو بإذن الله حري بالنجاح.
والإصلاح بين الناس يثمر ما يلي:
1- إحلال الألفة مكان الفرقة بين المتنازعين.
2- استئصال داء النزاع قبل أن يستفحل فيصعب حله.
3- حقن الدماء التي تراق بين الطوائف المتنازعة.
4- توفير الأموال التي تنفق للوكلاء والمحامين بالحق والباطل، وتوفير النفقات الأخرى.
5- تجنب إنكار الحقائق الذي تجر إليه الخصومات وترك شهادة الزور.
6- تجنب المشاجرات والاعتداء على الحقوق الذي قل ما يسلم منه متخاصمان.
7- تفرغ النفوس للمصالح دل جدها وانهماكها في الكيد للخصوم.
8- رحمة الله لعباده المصلحين والمتصالحين.
9- صيانة الوقت عن ضياعه فيما يضر، أو فيما لا نفع فيه.(1/226)
وقوله تعالى: { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } لما ذكر جلا وعلا أن الخير في المذكورات المتقدمة بين أن من فعل ذلك ابتغاء وجهه تعالى ومرضاته، أي طلبًا لرضاه؛ لأن الإنسان إذا فعل ذلك خالصًا لوجه الله تعالى نفعه، فصلاح النية وإخلاص الفؤاد لرب العالمين يرفعان العمل، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة فارقها والله عنه راض»، قال تعالى: { إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى } ، وقال تعالى: { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا } ، وقال تعالى: { لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ } .
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» الحديث متفق عليه.
وقال - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص حينما عاده من وجع اشتد به: «وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة» الحديث متفق عليه.
ولما سُئل - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» والحديث في الصحيح.(1/227)
والحق أن المرء ما دام قد أسلم لله وجهه وأخلص نيته لله، فإن حركاته وسكناته ونوماته ويقظاته تحتسب خطوات إلى مرضاة الله، وقد يعجز الإنسان عن عمل الخير الذي يميل إلى فعله لقلة ما في يده أو لضعف بدنه، ولكن الله المطلع على خبايا النفوس يرفع الحريص على الإصلاح إلى مراتب المصلحين، والراغب في الجهاد إلى مراتب المجاهدين، فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا» رواه البخاري.
وحدث في غزوة العسرة أن تقدم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجال يريدون أن يحملهم ليغزوا معه، فلم يجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يحملهم عليه، وهم سبعة نفر، سموا البكائين: معقل بن يسار، وصخر بن خنساء، وعبدالله ابن كعب الأنصاري، وعلية ابن عميرة، وثعلبة بن غنم، وعبدالله بن مغفل المزني، فعادوا وفي حلوقهم غصة لتخلفهم عن الميدان، وفيهم نزل قوله عز وجل: { وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ } .
ولهذا الإخلاص العميق الذي دل عليه الرغبة العظيمة في التضحية نوه - صلى الله عليه وسلم - بإيمانهم وإخلاصهم، فقال للجيش السائر معه: «إن بالمدينة أقوامًا ما قطعتم واديًا ولا سيرتم سيرًا إلا وهو معكم»، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: «نعم، حبسهم العذر».
وفي حديث جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد خلفتم بالمدينة رجالاً ما قطعتم واديًا ولا سلكتم طريقًا إلا شركوكم في الأجر، حبسهم المرض».
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم؛ ولكن ينظر إلى قلوبكم» رواه مسلم.(1/228)
وفي الحديث الآخر: «إذا كان يوم القيامة جيء بالدنيا فيميز منها ما كان لله، وما كان لغير الله رمي به في نار جهنم» رواه البيهقي.
والخلاصة: أن الفضل عند الله، كما قال ابن القيم: ليس بظواهر الأعمال، بل بما تقوم عليه من حقائق الإيمان، فهي تتفاوت في الفضل بقدر ما يكون في قلب صاحبها من الإخلاص واليقين والخوف والمحبة والتذلل والخضوع حتى أن الرجلين ليكونا في صلاة واحدة، ركوعها واحد، وسجودها واحد، وأن بين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، فإحداهما أداها صاحبها في خشوع وخشية وإخبات ووجل، مجتهدًا في إحضار قلبه لهذه العبادة، وصلاة الآخر أداها صاحبها في سهو وغفلة عن صلاته، إنما يؤدي حركات بالجوارح وأقوال اللسان، وبين هاتين الدرجتين من المراتب ما لا حصر له، فيكون بين ثواب هذه وتلك من الدرجات ما لا يحصيه إلا الله، فهذا عطاء الله وفضله الذي قسمه بين عباده، قال تعالى: { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .
وقال ابن القيم - رحمه الله -:
سبحان قاسم فضله بين العباد
فالفضل عند الله ليس بصورة
وتفاضل الأعمال يتبع ما يقوم
حتى يكون العاملان كلاهما
هذا وبينهما كما بين السما
ويكون بين ثواب ذا وثواب ذا
هذا عطاء الرب جل جلاله ... فذاك مولى الفضل والإحسان
الأعمال بل بحقائق الإيمان
بقلب صاحبها من البرهان
في رتبة تبدو لنا بعيان
والأرض في فضل وفي رجحان
رتب مضاعفة بلا حسبان
وبذاك تعرف حكمة الرحمن
وقوله: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } .(1/229)
قيل: نزلت في طعمة أيضًا، وذلك أنه لما سرق وظهرت عليه السرقة خاف على نفسه القطع والفضيحة، فهرب إلى مكة كافرًا مرتدًا عن الدين، فأنزل الله عز وجل فيه: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ } المشاقة: المعاداة والمحادة، أي ومن يشاقق الرسول فيسلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فصار في شق والشرع في شق، وذلك عن عمد منه بعد ما ظهر له الحق وتبين له واتضح له، وقامت عليه الحجة، وقوله: { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ } هذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشرع، وقد تكون لما أجمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقًا، فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ تشريفًا لهم وتعظيمًا لنبيهم.(1/230)
وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك، روي أن الشافعي - رحمه الله - سُئل عن آية في كتاب الله تدل على أن الإجماع حجة، فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى استخرج هذه الآية، وهي قوله: { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ } وذلك لأن إتباع غير سبيل المؤمنين، وهو مفارقة الجماعة حرام، فوجب أن يكون إتباع سبيل المؤمنين ولزوم جماعتهم واجبًا، وذلك لأن الله تعالى ألحق الوعيد بمن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين، فثبت بهذا أن إجماع الأمة حجة، وقوله: { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } أي نتركه، وما اختاره لنفسه ونخذله، فلا نوفقه للخير لكونه رأى الحق وعلمه وتركه، فجزاؤه من الله عدلاً أن يبقيه في ضلاله حائرًا، ويزداد ضلالاً إلى ضلاله، كما قال تعالى: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ } ، وقوله: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ، وقوله: { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } أي نلزمه جهنم، وأصله من الصلي، وهو لزوم النار وقت الاستدفاء، والمصير المرجع، يعني وبئس المرجع جهنم، وساء كبئس للذم فاعلها مستتر وجوبًا يعود على جهنم، ومصيرًا تمييز، والمخصوص بالذم محذوف مقدر بقوله: هي.
وقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } .(1/231)
قال الكلبي: نزلت في وحشي بن حرب وأصحابه، وذلك أنه لما قتل حمزة كان قد جعل له على نفسه أن يعتق فلم يوف له بذلك، فلما قدم مكة ندم على صنيعه هو وأصحابه، فكتبوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا قد ندمنا على الذي صنعنا، وأنه ليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول وأنت بمكة: { وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } الآيات، وقد دعونا مع الله إلهًا آخر، وقتلنا النفس التي حرم الله وزنينا، فلولا هذه الآيات لاتبعناك، فنزلت: { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا } الآيتين.
فبعث بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فلما قرءوا كتبوا إليه: إن هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل به عملاً صالحًا، فنزل: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } .
فبعث إليهم، فبعثوا إليه: إنا نخاف أن لا نكون من أهل المشيئة، فنزلت: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } .
فبعث إليهم، فدخلوا في الإسلام، ورجعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقبل منهم، ثم قال لوحشي: «أخبرني كيف قتلت حمزة؟»، فلما أخبره قال: «ويحك غيب وجهك عني، فلحق وحشي بالشام، فكان بها إلى أن مات».
وقال أبو مجلز، عن أبيه، عن عمر - رضي الله عنه -: لما نزل قوله تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ } الآية، قام رجل، فقال: والشرك يا رسول الله؟ فسكت، ثم قام إليه مرتين أو ثلاثًا، فنزلت: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } .(1/232)
وقال مطرف بن عبدالله بن الشخير: قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: كنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مات الرجل على كبيرة شهدنا أنه من أهل النار، حتى نزلت هذه الآية: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } ، فأمسكنا عن الشهادات.
وحكي عن علي أن أرجى آية في القرآن قوله تعالى: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } .
وروي عن ابن عباس أن أرجى آية في القرآن قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
إذا فهمت ما سبق مما قيل إنه سبب نزول قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } الآية، فاعلم أن الشرك نوعان: أكبر، وهو صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله كاتخاذ ند يدعوه أو يرجوه أو يخافه أو يحبه كمحبة الله، أو يذبح له أو ينذر له، قال ابن القيم - رحمه الله -:
والشرك فاحذره فشرك ظاهر
وهو اتخاذ الند للرحمن
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ... ذا القسم ليس بقابل الغفران
أيًا كان من حجر ومن إنسان
ويحبه كمحبة الديان
والقسم الثاني: شرك أصغر، وحده بعضهم بأنه كل وسيلة وذريعة يتطرق بها إلى الأكبر، وقيل: إنه كل ما ورد بالنص تسميته شركًا، ولم يصل إلى حد الأكبر، وذلك كقول الرجل: ما شاء وشئت، ولولا الله وأنت، وكالحلف بغير الله.(1/233)
قال ابن القيم: وأما الشرك الأصغر فكثير، منه الرياء، والتصنع للخلق، والحلف بغير الله، وقول الرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا، وقد يكون شركًا أكبر بحسب حال قائله ومقصده.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئًا، وديوان لا يترك الله منه شيئًا، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي يغفره الله فالشرك بالله، قال الله عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } الآية، وقال: { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ } ، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله من صوم يوم تركه، أو صلاة، فإن الله يغفر ذلك، ويتجاوز إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئًا فظلم العباد بعضهم بعضًا، القصاص لا محالة» تفرد به أحمد.
وعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره الله، وظلم لا يترك الله منه شيئًا، فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، وقال: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ، وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضًا حتى يدين لبعضهم من بعض».
وقال معاوية: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا، أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا».
وعن أبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إن الله يقول: يا عبدي، ما عبدتني ورجوتني، فإني غافر لك على ما كان منك، يا عبدي، إنك إن لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لقيتك بقرابها مغفرة».
والخلاصة:(1/234)
أولاً: أن مأذون الشرك بالله من الصغائر والكبائر إنه تحت مشيئة الله، إن شاء غفر لصاحبه، وإن شاء عذبه، وقد جعل الله للذنوب التي دون الشرك أسبابًا كثيرة تمحوها، منها الحسنات، كما قال تعالى: { إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } .
ثانيًا: المصائب، كما ورد عن أبي سعيد وأبي هريرة - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما يصيب المؤمن من نصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» متفق عليه.
وفي حديث ابن مسعود: «ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته وحطت عنه ذنوبه كما تحط الشجرة ورقها» متفق عليه.
وفي حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
ثالثًا: عذاب القبر.
رابعًا: عذاب يوم القيامة.
خامسًا: دعاء المؤمنين بعضهم لبعض.
سادسًا: شفاعة الشافعين يوم القيامة، ورحمة الله التي أحق بها أهل التوحيد والإيمان، وهذا بخلاف الشرك، فإن المشرك قد سد على نفسه أبواب المغفرة وأغلق أبواب الرحمة، فلا تنفعه الطاعات إلا مع التوحيد، ولا تفيده المصائب شيئًا.(1/235)
وقوله: { فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا } أي: ومن يشرك بالله شيئًا فقد ضل عن القصد وبعد عن سبيل الرشد ضلالاً بعيدًا في الغواية؛ لأنه ضلال يفسد العقل، ويكدر صفاء الروح، فالشرك أعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الصواب والاستقامة والذهاب عن الجنة مراتب أبعدها الشرك بالله، فالشرك أقبح الرذائل كما أن التوحيد أحسن الحسنات، والسيئات تتفاوت كالسبع الموبقات، وكأكل الحرام، وشرب الخمر، والنميمة، والغيبة، والكبر؛ لكن أسوأ الكل وأقبحه الشرك بالله، ولذلك لا يغفر كما هو مبين، وإنما جعل الجزاء على ما قيل هنا، فقد ضل ضلالاً بعيدًا، وفيما تقدم فقد افترى إثمًا عظيمًا لما أن تلك كانت في أهل الكتاب وهم مطلعون من كتبهم على ما لا يشكون في صحته من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ووجوب إتباع شريعته، وما يدعو إليه من الإيمان بالله تعالى، ومع ذلك أشركوا وكفروا، فصار ذلك افتراء واختلافًا وجراءة عظيمة على الله تعالى.
وهذه الآية كانت في أناس لم يعلموا كتابًا، ولا عرفوا من قبل وحيًا، ولم يأتهم سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق، فأشركوا بالله عز وجل، وكفروا وضلوا مع وضوح الحجة وسطوع البرهان، فكان ضلالهم بعيدًا، ولذلك جاء بعد تلك { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ } ، وقوله: { انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ } ، وجاء بعد هذه قوله تعالى: { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا } .
وقوله: { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا } ، وفي معنى الإناث أربعة أقوال:
أحدها: أن الإناث المراد بها الأموات، قاله ابن عباس والحسن في رواية، وقتادة، قال الحسن: كل شيء لا روح فيه كالحجر والخشبة فهو إناث، قال الزجاج: والموتى كلها يخبر عنها كما يخبر عن المؤنث تقول من ذلك الأحجار تعجبني والدراهم تنفعني.(1/236)
والثاني: أن الإناث الأوثان، وهو قول عائشة ومجاهد.
والثالث: أن الإناث المراد بها اللات والعزى ومناة، كلهن مؤنث، وهذا قول أبي مالك وابن زيد والسدي، وروى أبو رجاء عن الحسن، قال: لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يسمونه أنثى بني فلان، فنزلت هذه الآية، قال الزجاج: والمعنى ما يدعون إلا ما يسمونه باسم الإناث.
والرابع: الملائكة، كانوا يزعمون أنها بنات الله، قاله الضحاك.
وقوله: { وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا } المراد بدعائهم الشيطان عبادتهم له، ونظيره قوله تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ } ، وقول الخليل: { يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ } ، وقوله: { بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ } .
وفي الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا على عدي بن حاتم الطائي قول الله تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ } ، فقال: يا رسول الله، لسنا نعبدهم، قال: «أليس يحلون لكم ما حرمه الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟» قال: بلى، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فتلك عبادتهم» فصارت طاعتهم في المعصية عبادة لغير الله، وبها اتخذوهم أربابًا، فمن اتبع تشريع الشيطان مؤثرًا له على ما جاءت به الرسل فهو كافر بالله عابد للشيطان متخذ الشيطان ربًا، وإن سمي إتباعه للشيطان بما شاء من الأسماء؛ لأن الحقائق لا تتغير بإطلاق الألفاظ عليها والمريد والمارد والمتمرد العاتي الخارج عن الطاعة، وأصل مادة (م ر د) للملامسة والتجرد، ومنه صرح ممرد وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها ووصف الشيطان بذلك؛ إما لتجرده للشر أو لشبيهه بالأملس الذي لا يعلق به شيء، وقيل: لظهور شره كظهور ذقن الأمرد وظهور عيدان الشجرة المرداء.(1/237)
وقوله: { لَعَنَهُ اللَّهُ } أي طرده وأبعده من رحمته وأخرجه من جواره، قال: { لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا } يخبر تعالى عما قاله إبليس –لعنه الله- مقسمًا على ذلك ليتخذن نصيبًا معينًا معلومًا من عباد الله تحت غوايته، وفي جانب إضلاله حتى يخرجهم من عبادة الله إلى الكفر.
قال قتادة: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد في الجنة، ويعضده قوله تعالى لآدم يوم القيامة: «يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار، فيقول: يا رب، وما بعث النار؟ فيقول الله تعالى: أخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فعند ذلك تشيب الأطفال من شدة الهول» أخرجه مسلم، فنصيب الشيطان هو بعث النار، وهم الذين يتبعون خطواته ويقبلون وساوسه.(1/238)
وقوله: { وَلأُضِلَّنَّهُمْ } أي ولأصرفنهم عن طريق الهداية إلى طريق الغواية، ولأمنينهم أي الأماني الباطلة، وأقول لهم: ليس وراءكم بعث، ولا نشر، ولا جنة، ولا نار، ولا ثواب، ولا عقاب، فافعلوا ما شئتم، وقيل: أمنيهم بطول البقاء في الدنيا فيسرعون العمل، وقيل: أمنيهم بالأهواء الباطلة الداعية إلى المعصية وأزين لهم شهوات الدنيا وزهرتها، وأدعو كلاً منهم إلى ما يميل إليه طبعه فأصده بذلك عن الطاعة، وقيل: أمنيهم أن ينالوا ما ناله المهتدون، وهذا هو الغرور بعينه، فلم يقتصر على مجرد الإضلال حتى زين لهم ما فيه من الضلال، وهذا زيادة شر إلى شرهم حيث عملوا أعمال أهل النار الموجبة للعقوبة، وحسبوا أنها موجبة للجنة، قال الله تعالى عن اليهود: { وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } ، وقال كذلك: { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } ، وقال: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } ، وقال: { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } .
وقال تعالى عن المنافقين: { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ } .
وقوله: { وَلآمُرَنُّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ } التبتيك في اللغة: التقطيع، ومنه قول زهير:
حتى إذا ما هوت كف الوليد لها ... طارت وفي كفه من ريشها بتك(1/239)
والمراد بتبتيك آذان الأنعام شق آذانها، وكانت الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن، وكان الخامس ذكرًا شقوا أذن الناقة وامتنعوا من الانتفاع بها، ولم تطرد عن ماء ولا مرعى وإذ لقيها المعيي لم يركبها.
وقال قتادة والسدي وغيرهما: تبتيكما تشقيقها وجعلها سمة، وعلامة للبحيرة والسائبة والوصيلة، فنبه ببعض ذلك على جميعه، وهذا نوع من الإضلال يقتضي تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، ويلتحق بذلك من الاعتقادات الفاسدة، ما هو من أكبر الإضلال.
وقوله: { وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } اختلف العلماء في هذا التغيير إلى ماذا يرجع على أقوال:
أحدهما: أن تغيير الخلق بالخصي، رواه عكرمة عن ابن عباس، وكذا روي عن ابن عمر، وأنس، وسعيد بن المسيب، وأبي عياض، وقتادة، وأبي صالح، والثوري.
الثاني: أنه التغيير بالوشم، وهو قول ابن مسعود والحسن في رواية، وفي «صحيح مسلم» النهي عن الوشم، وفي لفظ: «لعن الله من فعل ذلك»، وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل»، ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في كتاب الله عز وجل، يعني قوله: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } .
الواشمة: هي التي تشم، والمستوشمة: هي التي تطلب الوشم، والوشم: أن يغرز في العضو إبرة أو نحوها حتى يسيل الدم ثم يحشى بكحل أو نوؤر فيخضر، والمتنمصة والنامصة: المتنمصة التي تأمر من يفعل لها ذلك، والنامصة: التي تأخذ من شعر حاجب غيرها وترققه ليصير حسنًا، وقيل: التي تأخذ الشعر من وجهها بنتف أو نحوه.
قلت: وفي زمننا هذا يستعملونه لإزالته طريقة أخرى وهي طبخ سكر وضم أجزاء إليه ووضعه على الخد ونحوه فيقتلع معه الشعر.(1/240)
والمتفلجة التي تصنع الفلج بأسنانها إذا كانت متلاصقة، وذلك بأن تحك ما بينهما حتى يتسع ما بين الأسنان.
الثالث: إن المراد دين الله عز وجل، قاله ابن عباس في رواية عنه ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والحكم والسدي والضحاك وعطاء الخرساني، في قوله تعالى: { وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } وهذا كقوله تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } على قول من جعل ذلك أمرًا أي لا تبدلوا فطرة الله ودعوا الناس على فطرتهم، كما ثبت في «الصحيحين» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل مولود ولد على الفطرة، فأبوه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة، جمعًا هل تجدون فيها من جدعاء».
وفي «صحيح مسلم»: عن عياض بن حمار، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم».
وقال بعض المفسرين: فليغيرن خلق الله عن نهجه وصوره أو صفة ويندرج فيه ما فعل من فقء عين فحل الإبل إذا طال مكثه حتى بلغ نتاج نتاجه، ويقال له: الحامي ويندرج فيه خصاء العبيد والوشم والوشر واللواطة والسحاق ونحو ذلك، وعبادة الشمس والقمر والنار والجحارة مثلاً، وتغيير فطرة الله التي هي الإسلام واستعمال الجوارح والقوي فيما لا يعود على المغير كما لا يوجب لها من الله سبحانه زلفى.
وقال ابن زيد هو التخنث وهو أن يتشبه الرجل بالنساء في حركاتهن وكلامهن ولباسهن ونحو ذلك.
قلت: ومما أرى أنه يندرج في ذلك تغيير الشيب بالسواد، والوجه بحلق اللحية، وكي الوجه، وحلق رأس المرأة أو قصه، ومن ذلك حلق الأبيض ووضع رأس صناعي أسود أو أحمر بدله أو نحو ذلك، ومن ذلك نفي الأنساب واستلحاقها.(1/241)
وقوله: { وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا } المعنى أن من اتخذ الشيطان وليًا فيتبعه ويطيعه ويترك حظه من الله لحظ الشيطان فقد خسر الدنيا والآخرة، وتلك خسارة لا جبر لها ولا استدراك وأي خسارة أعظم وأبين ممن خسر دينه ودنياه وأوبقته معاصيه وخطاياه فحصل له الشقاء الأبدي، وفاته النعيم السرمدي.
وقوله: { مِن دُونِ اللَّهِ } قيد لازم؛ لأنه لا يمكن أن يتخذ الشيطان وليًا إلا إذا لم يتخذ الله وليًا، ولا يمكن أن يتخذ الشيطان ويتخذ الله وليًا؛ لأنهما طريقان متباينان لا يجتمعان هدى وضلال، وهذه الجملة الشرطية محذرة من إتباع الشيطان.
أورد المفسرون على هذه الآية أسئلة وأجابوا عنها:
الأول: قال إبليس لعنه الله { لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا } .
والنصيب المفروض هو الشيء المقدر القليل، وقال موضع آخر: لأحتنكن ذريته إلا قليلاً، وقال: لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين، وهذا استثناء القليل من الكثير فكيف وجه الجمع، فالجواب أن الكفار الذين هم حزب الشيطان وإن كانوا أكثر من المسلمين في العدد؛ لكنهم أقل من المؤمنين في الفضل والشرف والسؤود والغلبة في الدنيا وعلو الدرجة في الآخرة وأنشدوا في هذا المعنى:
وهم الأقل إذا تعد عشيرة ... والأكثرون إذا يعد السؤدد
وقيل: إن إبليس لما لم ينل من آدم ما أراد، ورأى الجنة والنار وعلم أن لهذه أهلاً ولهذه أهلاً، قال: { لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا } يعني الذين هم أهل النار.
السؤال الثاني: من أين لإبليس العلم بالعواقب حتى يقول لأضلنهم ولأمنينهم ولأغوينهم ولآمرنهم، وقال: ولا تجد أكثرهم شاكرين، وقال: { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } ، فالجواب من ثلاثة أوجه:(1/242)
أحدها: أن إبليس ظن أن تقع منهم هذه الأمور التي يريدها منهم فحصل له ما ظنه، ويدل لذلك قوله تعالى: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ المُؤْمِنِينَ } .
الوجه الثاني: المعنى لأجتهدن ولأحرصن في ذلك، وليس عنده شيء من علم الغيب، لا هو ولا غيره، كما قال تعالى: { لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ } .
الوجه الثالث: أنه من الجائز أن يكون قد علم ذلك من الملائكة، بخبر من الله تعالى، أن أكثر الخلائق لا يؤمنون، والله أعلم.
وقوله: { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ } المعنى أن الشيطان –لعنه الله- يعد حزبه المواعيد الباطلة، والزخارف الكاذبة، وأنه لا ثواب ولا عقاب، ومن مواعيده لأوليائه الفقر إذا هم أنفقوا شيئًا من أموالهم في سبيل الله ويوسوس لهم أن أموالهم تنفد أو تقل ويصبحوا فقراء أذلاء، كما أخبر تعالى بقوله: { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ } الآية، ويعدهم الغنى والثروة حين الإغراء بالرباء والقمار، ويعد من يغريه بالتعصب لرأيه وإيذاء مخالفيه فيه من أهل دينه للجاه والشهرة وبعد الصيت.
ومن مواعيده وأمانيه ما يوقع في قلب الإنسان من طول العمر والعافية، ونيل ما يريد من الدنيا ومن نعيمها ولذاتها من الجاه والمال، وقضاء شهوات النفس، وكل ذلك غرور، فيجب على العاقل اللبيب أن لا يلتفت إلى شيء منها فربما لم يطل عمره ولم يحصل له ما أراد منها، ولئن طال عمره وحصل له مقصوده، فالموت ينغص عليه ما هو فيه، ويدخل في وعد الشيطان وتمنيته ما يكون من أوليائه من الإنس، وهم قرناء السوء الذين يزينون للناس الضلال والمعاصي، ويمدونهم في الطغيان، وينشرون مذاهبهم الفاسدة وآراءهم الضالة التي يبتغون بها الرفعة والجاه والمال، ويخوف أوليائه عند مرضاة الله بكل ما يمكن مما يدخله في عقولهم حتى يكسلوا عن فعل الخير، ويخوفهم إذا جاهدوا بالقتل.(1/243)
وقوله: { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا } ، الغرور لغة: الخداع، والباطل، وإظهار النفع فيما فيه الضرر، قال ابن عرفة: الغرور ما رأيت له ظاهرًا تحبه وله باطن مكروه، وهذا إخبار عن الواقع، فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة، كما غر صاحب الجنتين ووسوس له، فاغتر لما رأى فيها من الزرع والثمار والأشجار والأنهار، وتوهم أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك، وقال: { مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا } وأخبر تعالى عن عمله مع آدم وحواء، فقال: { وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ } .
وفي «سورة الحشر» ذكر مثل الشيطان، وأنه يسول للإنسان الكفر، وإذا دخل فيه تبرأ منه، وقال: { إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ } .
ولما أجمعت قريش المسير إلى بدر ذكروا ما بينهم وبين كنانة من الحرب تبدي لهم إبليس –لعنه الله- في صورة سراقة بن مالك المدلجي، وكان من أشراف كنانة فغرهم وخدعهم، { وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ } .(1/244)
ويوم القيامة إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار يقوم إبليس رئيس الشياطين خطيبًا في محفل الأشقياء من الثقلين؛ ليزيدهم حزنًا إلى حزنهم وغبنًا إلى غبتهم وحسرة إلى حسرتهم، فيقول: { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } الآية، كما قال تعالى: { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا } ، فهذا ديدنه الخداع والمكر والغرور والكذب، وقد حذرنا الله تعالى عنه وأخبرنا أنه غرور، فقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } .
وقوله: { أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا } ، الإشارة إلى أولياء الشيطان، والمأوى: المرجع والمستقر، والمحيص: المفر والمعدل والمهرب والمخلص والمنجا.
والمعنى: أنه سبحانه بعد ما بين حال أولياء الشيطان، وما يعدهم به الشيطان ذكر عاقبتهم أي أولئك الذين يبعث بهم الشيطان بوسوسته أو بإغواء دعاة الباطل من أوليائه، مرجعهم ومستقرهم جهنم لا يجدون عنها مهربًا ولا محيدًا، إذ هم ينجذبون إليها ويتهافتون عليها تهافت الفراش على النار.
مما يفهم من الآية 113:
1- ذم الكثير من النجوى.
2- مدح النجوى إذا كانت لفعل خير.
3- مدح النجوى للحث على الصدقة.
4- مدحها إذا كانت للأمر بالمعروف.
5- مدحها إذا كانت للإصلاح بين الناس.
6- الحث على الصدقة.
7- الحث على الإصلاح.
8- الحث على الأمر بالمعروف.
9- أن الله لا ينهى إلا عن الذي يعود على الخلق بالضرر.
10- إن الله لا يأمر إلا بما فيه الصلاح.
11- إثبات صفة الكلام لله.
12- الرد على من أنكرها.
13- لطف الله بخلقه حيث حثهم وبين لهم ما فيه صلاحهم.(1/245)
14- ينبغي ترك فضول الكلام.
15- النهي عما يورث العداوة والشقاق بين المسلمين.
16- الحث على صيانة الوقت.
17- الحث على حفظ المال إلى فيما فيه النفع، وهو ما ينشأ عنه الإصلاح الذي حث الله عليه.
18- الحث على إخلاص العمل لله.
19- إثبات صفة الرضى لله.
20- إن من لم يقصد بإصلاحه وجه الله ليس له أجر.
21- إن من لم يقصد بصدقته وجه الله فليس له أجر.
22- إن من لم يقصد بأمره بالمعروف وجه الله فليس له أجر.
23- إن صلاح النية وإخلاص العمل لله يرفعان العمل.
24- إن فصل الأعمال ليس بظواهرها، بل بما تقوم عليه من حقائق الإيمان.
25- إن الله أجرى العادة في الناس على محبة إظهار الخير والتحدث به في الملأ.
26- إن الغالب أن الشر والإثم هو الذي يذكر في السر والنجوى.
27- النهي عن الرياء والسمعة.
28- إثبات الألوهية.
29- إن الله هو المعطي.
30- دليل على جود الله وكرمه لإعطائه الأجر العظيم على العمل اليسير.
31- الحث على الإحسان إلى خلق الله.
32- الرد على الجبرية.
33- إثبات البعث والجزاء على الأعمال.
ما يفهم من الآية الثانية، وهي قوله تعالى: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى } :
1- تحريم مشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
2- الإنكار على المشاق لله ولرسوله.
33- إن من فعل ذلك يتركه الله وما اختاره لنفسه.
4- إن الله يلزمه جهنم.
5- إثبات الألوهية.
6- إن جهنم بئس المرجع.
7- إثبات رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
8- الرد على من أنكر رسالته.
9- إثبات صفة الكلام لله.
10- الرد على من أنكرها، أو قال: إن القرآن كلام محمد.
11- وجوب إتباع سبيل المؤمنين.
12- التحذير من إتباع غير سبيلهم.
13- إثبات جهنم وأنها بئس المصير.
14- إثبات البعث والجزاء على الأعمال.
15- إن الله لم يهمل خلقه ولم يتركهم سدى.
16- إن إجماع المؤمنين حجة.
17- الحث على لزوم جماعة المسلمين.(1/246)
18- إثبات الأفعال الاختيارية لله جل وعلا.
19- أن الوعيد على من فعل ذلك بعد ما ظهر له الحق وتبين له، وقامت عليه الحجة.
20- إثبات عدل الله وحكمته.
ما يفهم من الآيات التي تلي آية [116، 117، 118، 119، 120]:
1- إثبات الألوهية.
2- إثبات صفة المغفرة.
3- إثبات أن الشرك لا يغفر لصاحبه.
4- عظم ذنب الشرك وأنه أثقل الذنوب.
5- إن ما عدا الشرك فهو تحت المشيئة.
6- إن المشرك قد سد على نفسه أبواب المغفرة وأغلق دونه أبواب الرحمة.
7- إن الشرك لا تفيد معه الطاعات ولا المصائب.
8- إثبات مشيئة الله.
9- إن الجزاء في الآخرة يكون تابعًا لما تكون عليه النفس في الدنيا من سلامة العقيدة، ومقدار درجة الفضيلة التي يلازمها فعل الخيرات بإذن الله، أو فساد الفطرة وخطأ العقيدة، والتدنس بالرذيلة التي يلازمها فعل السيئات.
10- إن الناس متفاوتون فيما بين ذلك في الدرجات والدركات، فأخس الدركات الشرك، وأعلا الدرجات التوحيد، ولكل منهم صفات تناسبه.
11- إن المشركين ما يدعون من دون الله إلا إناثًا.
12- أن طاعة الإنسان لإبليس عبادة له.
13- إن إبليس –لعنه الله- متمرد عاتي، خارج عن طاعة الله.
14- دليل على سخافة عقول عابدي الإناث والشياطين.
15- إن إبليس مطرود عن رحمة أرحم الراحمين.
16- إثبات صفة اللعن.
17- دليل على خسة إبليس ونذالته حيث يتجاسر في هذا الكلام مع رب العالمين.
18- دليل على أن إبليس جاد ومجتهد في السعي في إغواء بني آدم.
19- لطف الله ورحمته ورأفته بخلقه حيث وضح لهم ما أضمره إبليس لهم من الشر والعداوة.
20- في الآية ما يوجب الحذر والتحرز من مداخل إبليس لئلا يوقع في الهلاك.
21- في الآية ما يوجب على العبد محبة الله الذي دعاه إلى كل خير وحذره من كل شر، وقال عز من قائل: { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } .(1/247)
22- أقسم إبليس –لعنه الله- أن يستهوي فريقًا معينًا من عباد الله.
23- إنه لم يقتصر على إضلالهم فقط، بل يمنيهم الأماني الباطلة، ويزين لهم الضلال.
24- إن إبليس لا يألو جهدًا في الأمر بتقطيع آذان الأنعام.
25- إن إبليس ساع في أمر بني آدم بتغيير خلق الله.
26- أنه لا أحد أخسر ممن اتخذ الشيطان وليًا من دون الله.
27- إن ولاية الرحمن لا تجتمع وولاية إبليس.
28- إثبات صفة الخلق لله.
29- إثبات الألوهية.
30- إن تغيير خلق الله طاعة للشيطان، فلذلك يحرم.
31- إن إبليس يعد أولياءه المواعيد الباطلة من مواعيد الفقر لمن يريد الإنفاق في سبيل الله، والموت لمن يريد الجهاد في سبيل الله.
32- إن مواعيد إبليس مثل السراب، يعدهم الباطل ويمنيهم بالوعد الكاذب.
33- إن مرجع الكفار جهنم.
34- إنهم ليس لهم مفر ولا مهرب عنها.
وصل الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الوضوء والتيمم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .(1/248)
تقدم الأمر بالوفاء بالعهود، ومن جملتها إقامة الصلاة، ومن شرائطها الطهارة، تنقسم قسمين: طهارة معنوية: وهي الطهارة من الشرك والمعاصي، وطهارة حسية: وهي المشار إليها هنا، هي تنقسم إلى قسمين: طهارة كبرى، وهي ما تكون عن الحدث الأكبر، وهو ما أو جب غسلاً كخروج المني دفقًا بلذة من غير نائم، ومن موجباته التقاء الختانين، ومن موجباته إسلام الكافر، ومن موجباته خروج دم الحيض، ومن موجباته خروج دم النفاس، و من موجباته موت غير شهيد معركة.
وأما الطهارة الصغرى: فهي ما تكون عن الحدث الأصغر، وهو ما أوجب وضوءًا كالخارج من السبيلين، وأكل لحم الجزور، والردة عن الإسلام، ومس المرأة بشهوة، أو تمسه بها، ومس الفرج باليد من دون حائل، وزوال العقل.
قوله تعالى: { إِذَا قُمْتُمْ } ، قيل: المعنى إذا أردتم القيام إلى الصلاة، كقوله: { فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } [النحل: 98]، قيل: وهذا كما تقول: إذا آخيت فأخ أهل الدين والحسب، وإذا تزوجت فتزوج بذات الدين، وإذا أتجرت فاتجر بالبز، قالوا: ويجوز أن يكون الكلام مقدمًا ومؤخرًا، تقديره: إذا غسلتم وجوهكم واستوفيتم الطهور فقوموا إلى الصلاة، والقول الأول هو المختار في معنى الآية، وجمهور المسلمين على أن الطهارة لا تجب على من قام إلى الصلاة إلا إذا كان محدثًا.
والمعنى: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين فاغسلوا وجوهكم... إلخ، وهذا الحكم مستفاد من السنة العملية في الصدر الأول، فقد روى أحمد ومسلم وأصحاب السنن من حديث بريدة قال: «وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه، وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله، إنك فعلت شيئًا لم تكن تفعله، فقال: «عمدًا فعلته يا عمر»».(1/249)
وروى البخاري وأصحاب السنن عن عمرو بن عامر الأنصاري: سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة، قال: قلت: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث.
وروى أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة: «لا يقبل الله صلاة أحدك إذا أحدث حتى يتوضأ».
وفروض الوضوء المذكورة في هذه الآية أربعة: الأول: غسل الوجه، وهو قوله تعالى: { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } فهذا أمر منه سبحانه وتعالى بغسل الوجه، ومن الوجه المضمضة والاستنشاق، والغسل: إمرار الماء على المحل حتى يسيل، والمسح: أن يبل المحل بالماء من غير أن يسيل، وحد الوجه من منابت شعر الرأس المعتاد غالبًا إلى النازل من اللحيين والذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضًا، ويجب غسل اللحية وما خرج عن حد الوجه منها من الشعر المسترسل؛ أن اللحية تشارك الوجه في معنى التوجه و المواجهة، و يُسن تخليل الساتر للبشرة منها؛ لما ورد عن عمرو بن عبسة، قال: قلت: يا رسول الله، حدثني عن الوضوء، قال: «ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيتمضمض، ويستنشق إلا خرت خطايا فيه وخياشيمه مع الماء، ثم إذا غسل وجهه كما أمر الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء» أخرجه مسلم.
عن عثمان - رضي الله عنه -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخلل لحيته» رواه ابن ماجه، والترمذي وصححه.
وعن أنس: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ أخذ كفًا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته، وقال: «هكذا أمرني ربي عز وجل»» رواه أبو داود.(1/250)
ويجب غسل ما في الوجه من شعر إن كان خفيفًا والبشرة التي تحته؛ لأنه خفيف تُرى من تحته، وإن كان كثيفًا فيجب غسل ظاهره، ويُسن تخليله؛ لأن كلاً من ظاهر الكثيف، وما تحت الخفيف تحصل به المواجهة، فوجب غسله، وفي الحدث الأكبر يجب إيصال الماء إلى الجلد بتبليغ.
واستدل الشافعي - رحمه الله - على وجوب النية عند غسل الوجه بهذه الآية، وحجته أن الوضوء مأمور به، وكل مأمور به يجب أن يكون منويًا.
ولما روي في «الصحيحين» من حديث عمر بن الخطاب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى».
والوضوء من الأعمال فيجب أن يكون منويًا، وإنما قالوا: إن الوضوء مأمور به، وإنه من أعمال الدين؛ لقوله تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } والإخلاص: عبارة عن النية الخالصة، ومتى كانت النية خالصة معتبرة كان أصل النية في جميع الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى معتبرًا، ويستحب قبل غسل الوجه أن يذكر اسم الله على وضوئه؛ لما ورد عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، ويسمى خارج محل الحاجة ثم يدخل ويتوضأ ومثله في الغسل.
ولأحمد وابن ماجه من حديث سعيد بن زيد وأبي سعيد مثله.
ويستحب أن يغسل يديه قبل إدخالهما في الإناء، ويتأكد عند القيام من الليل؛ لما ورد عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات، فإنه لا يدري أين باتت يده» رواه الجماعة إلا أن البخاري لم يذكر العدد.
وفي لفظ الترمذي وابن ماجه: «إذا استيقظ أحدكم من الليل».(1/251)
وعن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات، فإنه لا يدي أين باتت يده؟ أو أين طافت يده؟» رواه الدارقطني، وقال: إسناده حسن.
وعن أوس بن أوس الثقفي قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فاستوكف ثلاثًا، أي غسل كفيه» رواه أحمد والنسائي.
وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - «أنه دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات، فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثًا ويديه إلى المرفقين ثلاثًا، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: «من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه»» متفق عليه.
وعن علي - رضي الله عنه - أنه دعا بوضوء فمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى، ففعل هذا ثلاثًا، ثم قال: هذا طهور نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، رواه أحمد والنسائي.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر» متفق عليه.
و عن العباس بن يزيد، عن سفيان بن عيينة، عن عبدالله بن محمد ابن عقيل، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء، قال: «أتيتيها فأخرجت إلي إناء، فقالت: في هذا كنت أخرج الوضوء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيبدأ فيغسل يديه قبل أن يدخلهما ثلاثًا، ثم يتوضأ فيغسل وجهه ثلاثًا، ثم يمضمض ويستنشق ثلاثًا، ثم يغسل يديه، ثم يمسح برأسه مقبلاً ومدبرًا، ثم يغسل رجليه».
وقوله: { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ } أي اغسلوا أيديكم إلى المرافق، والمرفق من الإنسان: أعلى الذراع، وأسفل العضد، موصل الذراع في العضد، ولعل وجه تسميته بذلك أنه يرتفق به، أي يتكأ عليه من اليد.(1/252)
ذهب جمهور العلماء على وجوب إدخال المرفقين في الغسل، واستدلوا لذلك أن كلمة إلى هنا بمعنى مع، ومنه قوله تعالى: { وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } أي مع أموالكم، وقوله: { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ } أي مع قوتكم، ونحوه قول امرئ القيس:
لها كفل كالدعص بلله الندى ... إلى حارك مثل الرتاج المضبب
ويعضده من السُّنة ما صح من حديث أبي هريرة: «أنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يديه اليمنى حتى شرع في العضد، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ».
وعن جابر بن عبدالله قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه، ولكن القاسم هذا متروك، وجده ضعيف.
وقيل: إنه لا يجب إدخال المرفقين وحجة أصحاب هذا القول أن كلمة إلى لانتهاء الغاية ومما يجعل غاية للحكم يكون خارجًا عنه، كما في قوله: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } ولأن الحد لا يدخل في المحدود، فوجب أن لا يجب غسل المرفقين في الوضوء، والقول الأول هو الذي تطمئن إليه النفس يؤيد إجماع الأمة على أن من غسل المرفقين صح وضوءه، واختلفوا في من لم يغسلهما هل يصح وضوءه أم لا؟
والجواب عن الحجة المتقدمة: أن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه، كما في هذه الآية؛ لأن المرفق من جنس اليد، وإذا لم يكن من جنس المحدود لم يدخل فيه، كما في قوله تعالى: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } ؛ لأن النهار من غير جنس الليل، فلا يدخل فيه الفرض.
والأولى أن يبدأ بغسل اليد اليمنى قبل اليسرى، وبالمضمضة والاستنشاق قبل الوجه؛ لما ورد عن عائشة قالت: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيامن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله» متفق عليه.
وعن أبي هريرة «إنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم غسل يده اليسرى».(1/253)
وقوله: { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } الباء للإلصاق، أي إلصاق الفعل بالمفعول، فكأنه قال: ألصقوا المسح برءوسكم، أي المسح بالماء، فيجب مسح جميع الرأس، بدليل قوله في التيمم: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ } ، ولا يجزي مسح بعض الوجه اتفاقًا، فكذا هنا إذ لا فرق؛ ولما ثبت في «الصحيحين» عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه: «أن رجلاً قال لعبدالله بن زيد بن عاصم، وهو جد عمرو بن يحيى، وكان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فقال عبدالله بن زيد: نعم، فدعا بوضوء فأفرغ على يديه فغسل يديه مرتين، ثم مضمض واستنشق ثلاثًا، وغسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه».
ويجب مسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما؛ لأنهما من الرأس؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الأذنان من الرأس» رواه ابن ماجه، ولما روى عبدالله بن زيد: «أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ فأخذ لأذنيه ماء خلاف الذي لرأسه» رواه البيهقي، وقال: إسناده صحيح.
وقوله: { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ } الكعبان: هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق من الجانبين، أي واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين، يؤيده عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمل الصحابة وأكثر الأئمة، فقد روى مسلم عن أبي هريرة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً لم يغسل عقبه، فقال: «ويل للأعقاب من النار»».
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: «تخلف عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرة، فأدركنا وقد أرهقنا العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، قال: فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار» مرتين».(1/254)
ولابد من الترتيب بين الأعضاء الأربعة كما تفيده الآية الكريمة، والأعضاء المشار إليها هي: الوجه، واليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين.
ووجه الدلالة من الآية الكريمة:
أولاً: أنه جل وعلا أدخل الممسوح بين مغسولين، وقطع النظير عن نظيره، والعرب لا تفعل ذلك إلا لفائدة، وهي الترتيب.
ثانيًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ابدءوا بما بدأ الله به».
ثالثًا: ما ورد عن عمرو بن عبسة، وتقدم عند قوله تعالى: { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } .
والسادس: الموالاة، وهي أن لا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله، والدليل ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه رأى رجلاً في قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره بالإعادة» رواه أحمد وأبو داود.
وعن عمر بن الخطاب: «أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «ارجع فتوضأ ثم صل»» رواه أحمد ومسلم، ولم يذكر فتوضأ.
ويقوم المسح على الخفين عند لبسهما مقام غسل الرجلين، وقد روى ذلك خلائق لا يحصون من الصحابة.
ومن الأدلة على جواز المسح على الخفين ما ورد عن المغيرة بن شعبة قال: «كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة في مسير، فأفرغت من الإداوة، فغسل وجهه وغسل ذراعيه ومسح برأسه، ثم أهويت لأنزع خفيه، فقال: «دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين» فمسح عليهما» متفق عليه.
وحديث جرير: «أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل له: تفعل هكذا؟ قال: نعم، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال ثم توضأ ومسح على خفيه» متفق عليه.
ومدة المسح للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها؛ لما ورد عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: «جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم –يعن ي المسح على الخفين» أخرجه مسلم.(1/255)
وعن صفوان بن عسال قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا كنا سفرًا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم» أخرجه النسائي والترمذي واللفظ له، وابن خزيمة وصححاه.
وعن خزيمة بن ثابت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سُئل عن المسح على الخفين، فقال: «للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه.
ومقدار ما يمسح من الخلف أكثر ظاهره، أي القدم من أصابعه إلى ساقه دون أسفله وعقبه؛ لما روى البيهقي في «سننه»: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على خفيه، وضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاه مسحة واحدة».
وعن علي - رضي الله عنه - قال: «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخلف أولى بالمسح عن أعلاه، ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفيه» رواه أبو داود والدارقطني.
وابتداء مدة المسح من المسح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل اليوم والليلة للمقيم، والثلاثة للمسافر كلها مسحًا، ولا يمكن ذلك إلا أن يجعل الابتداء من وقت المسح.
وقيل: الابتداء من حدث بعد لبس على طاهر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن، والمقيم يومًا وليلة».
وقوله: «يمسح المسافر» يعني يستبيح المسح، وإنما يستبيحه من حين الحدث، ولأنه عبادة مؤقتة فاعتبر أول وقتها من جواز فعلها كالصلاة، وإذا لبس خفًا على خف وإن كان قبل الحدث فالحكم للفوقاني، وإن كان بعد الحدث فالحكم للتحتاني، وإن لبس خفًا فلم يحدث حتى لبس آخر مسح على أيهما شاء، فإن شاء مسح الفوقاني، وإن شاء مسح التحتاني، وإن أحدث ثم لبس الفوقاني قبل مسح التحتاني أو بعده لم يمسح الفوقاني، بل الذي تحته.(1/256)
وإذا مسح في سفر ثم أقام، أو أقام ثم سافر، أو شك في ابتدائه فيمسح مسح مقيم؛ لأن اليقين وما زاد لم يتحقق شرطه، والأصل عدمه، وإن أحدث ثم سافر قبل مسحه فمسح مسافر، ويصح المسح على الجبيرة والجرح في الحدثين إلى حلها؛ لما روى جابر - رضي الله عنه - قال: «خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء! فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك، فقال: «قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا ف إنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعضد، أو يعصب على جرحه خرقة ويمسح عليها، ويغسل سائر جسمه»» رواه أبو داود والدارقطني.
وقوله تعالى: { وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } ، الجنب: لفظ يستعمل للمفرد والمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث، المعنى: وإن كنتم أصابتكم جنابة قبل أن تقوموا إلى صلاتكم فقمتم إليها فتطهروا منها بغسل البدن كله قبل دخولكم في صلاتكم التي قمتم إليها.
وفي معنى الجماع: خروج المني بالاحتلام فهو جنابة شرعًا؛ لما ورد عن علي - رضي الله عنه - قال: كنت رجلاً مذاء، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «في المذي الوضوء، وفي المني الغسل» رواه أحمد وابن ماجه، والترمذي وصححه، ولأحمد: فقال: «إذا حذفت الماء فاغتسل، فإن لم تكن حاذفًا فلا تغتسل».
وعن أم سلمة: «أن أم سليم قالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة الغسل إذا احتلمت؟ قال: «نعم، إذا رأت الماء»، فقالت أم سلمة: وتحتلم المرأة؟ فقال: «تربت يداك فيما يشبهها ولدها»» متفق عليه.(1/257)
ومن موجبات الغسل: التقاء الختانين؛ لما ورد عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا جلس بين شعبيها الأربع ثم جهدها، فقد وجب الغسل» متفق عليه، ولمسلم وأحمد: «وإن لم ينزل».
وعن عائشة: أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجامع ثم يكسل –وعائشة جالسة- فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل» رواه مسلم.
ويشترط للغسل شروط منها: النية؛ لحديث: «إنما الأعمال بالنيات»، ثانيًا: الإسلام، ثالثًا: العقل، رابعًا: التمييز، خامسًا: الماء الطهور المباح، سادسًا: إزالة ما يمنع وصوله البشرة.
وواجبه التسمية، وتسقط سهوًا وجهلاً.
وفرضه: تعميم البدن بالماء.
وصفة الغسل الكامل أن ينوي ثم يسمي ويغسل يديه ثلاثًا، وما لوثه ويتوضأ وضوءًا كاملاً، ويروي رأسه ثلاثًا ثم يغسل بقية جسده، ويتيامن ويدلكه ويغسل قدميه مكانًا آخر.
فهذا الغسل الكامل المشتمل على الواجبات والسنن، وصفة الغسل المجزي: أن ينوي ثم يسمي، ويعم بدن بالغسل مرة.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه ثلاثًا، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يخلل شعره بيده حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده» متفق عليه.
وعن ميمونة بنت الحارث زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: «وضعت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوء الجنابة فأكفأ بيمينه على يساره مرتين أو ثلاثًا، ثم غسل فرجه، ثم ضرب يده بالأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثًا ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض على رأسه الماء ثم غسل جسده، ثم تنحى فغسل رجليه، فأتيته بخرقة فلم يردها، فجعل ينفض الماء بيده» متفق عليه.(1/258)
وقوله تعالى: { وَإِن كُنتُم مَّرْضَى } المرضى جمع مريض، والمراد الذي يضر مع استعمال الماء، مثل الجدري والحصباء وحرق النار، وعن ابن مسعود قال: المريض الذي قد أرخص له في التيمم هو الكسير والجريح، فإذا أصابت الجنابة الكسير اغتسل، والجريح لا يحل جراحته إلا جراحة لا يخشى عليها.
وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى: { وَإِن كُنتُم مَّرْضَى } ، قال: إذا كان به جروح أو قروح يتيمم، وعن جابر - رضي الله عنه - قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم، فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك، فقال: «قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا، فإن شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعضد أو يعصب على جرحه، ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده» رواه أبو داود والدارقطني.
وقوله: { أَوْ عَلَى سَفَرٍ } يعني أو إن كنتم مسافرين وأنت أصحاء جنب فتيمموا صعيدًا طيبًا عند فقد الماء، أو جاء منكم من الغائط، الغائط: المكان المنخفض من الأرض، ويُراد به شرعًا قضاء الحاجة من بول أو غائط، أي إذا أحدثتم الحدث الموجب للوضوء عند إرادة الصلاة ونحوها كالطواف، ويسمى الحدث الأصغر، { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } عند عدم الماء، { أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ } أي أو جامعتم النساء، { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } .(1/259)
ومن أدلة التيمم عند عدم الماء ما ورد عن أبي ذر، قال: اجتويت المدينة فأمر لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بابل، فكنت فيها، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: هلك أبو ذر! فقال: «ما لك؟» قال: كنت أتعرض للجنابة وليس قربي ماء، فقال: «إن الصعيد طهور لمن لم يجد الماء عشر سنين» رواه أحمد وأبو داود والأثرم، وهذا لفظه.
وعن عمران بن حصين، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فصلى بالناس، فإذا هو برجل معتزل، فقال: «ما منعك أن تصلي؟» قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: «عليك بالصعيد، فإنه يكفيك» متفق عليه.
ويتيمم لخوف تلف باستعمال الماء أو زيادة وجع؛ لما ورد عن عمرو بن العاص: «أنه لما بعث في غزوة ذات السلاسل، قال: احتلمت في ليلة باردة، شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكروا ذلك له، فقال: «يا عمرو، وصليت بأصحابك وأنت جنب؟» فقلت: ذكرت قول الله تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئًا» رواه أحمد وأبو داود والدارقطني.
وكذا المريض الذي لا يجد أحدًا يأتيه الماء ولا يقدر عليه، وليس له خادم ولا عون يعينه، فإذا لم يستطع أن يتناول الماء وليس عنده من يأتيه به، ولا يحبوا إليه تيمم وصلى، فإذا حلت الصلاة؛ لأنه اتقى الله ما استطاع، قال الله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } ويستبيح بالتيمم كل ما يستباح بالوضوء، والغسل عند عدم الماء، أو خوف الضرر باستعماله، أو بالعجز عن استعماله لما تقدم.(1/260)
وصفة التيمم أن ينوي، ثم يسمي ويضرب الصعيد بيديه، ثم يمسح بهما وجهه وكفيه؛ لما ورد عن عمار بن ياسر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «في التيمم ضربة للوجه واليدين» رواه أحمد وأبو داود، وفي لفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالتيمم للوجه والكفين، رواه الترمذي وصححه، وتقدم أدلة النية والتسمية في الوضوء والتيمم بدل عنه.
ومن عدم الماء والتراب، أو لم يتمكن من استعمالهما صلى ولم يعد؛ لما روت عائشة - رضي الله عنها - أنها استعارت من أسماء قلادة، فهلكت، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجالاً في طلبها، فوجدوها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شكوا ذلك إليه، فأنزل الله آية التيمم، رواه الجماعة إلا الترمذي.
ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، ولا أمرهم بالإعادة، يدل على أنها غير واجبة، ولأن الطهارة شرط فلم تؤخر الصلاة بعدمه كالسترة؛ ولقوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } ، ومن صلى التيمم أول الوقت ثم وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة والوقت باق، فلا إعادة عليه وصلاته صحيحة؛ لما ورد عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدًا طيبًا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: «أصبت السُّنة وأجزأتك صلاتك»، وقال للذي توضأ وأعاد: «لك الأجر مرتين» رواه أبو داود والنسائي، وقد روياه أيضًا عن عطاء بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.(1/261)
ويبطل التيمم بمبطلات ما تيمم له من الطهارتين فيبطل عن وضوء بما يبطل الوضوء، وعن غسل بما ينقضه من موجبات الغسل، ويبطل بوجود الماء لعادمه قبل الصلاة، وأما في الصلاة، فقيل: يبطل تيممه وتبطل صلاته لبطلان طهارته، فيتوضأ إن كان محدثًا، ويغتسل إن كان جنبًا، ويستقبل الصلاة؛ لما ورد عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير» رواه أحمد والترمذي وصححه.
فدل بمفهومه على أنه لا يكون طهورًا عند وجود الماء، ودل بمنطوقه على وجوب إمساسه جلده عند وجوده، ولأنه قدر على استعمال الماء فبطل تيممه كالخارج من الصلاة، وقيل: لا تبطل الصلاة، واحتج القائلون بذلك بأنه وجد المبدل بعد تلبسه بمقصود غير قادر على استعمال الماء؛ لأن قدرته تتوقف على إبطال الصلاة، وهو منهي عن إبطالها بقوله تعالى: { وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } .
وقال أهل القول الأول: ولا يصح قياسهم، فإن الصيام هو البدل نفسه، فنظيره إذا قدر على الماء بعد تيممه ولا خلاف في بطلانه، ثم الفرق بينهما أن مدة الصيام تطول فيشق الخروج منه لما فيه من الجمع بين فرضين شاقين بخلاف مسألتنا.
وقولهم: إنه غير قادر غير صحيح، فإن الماء قريب وآلته صحيحة والموانع منتفية.
وقولهم: إنه منهي عن إبطال الصلاة، قلنا: لا يحتاج إلى إبطال الصلاة، بل هي تبطل بزوال الطهارة كما في نظائرها، انتهى.
ومما يبطل التيمم زوال عذر صحيح للتيمم كما لو تيمم لمرض فعوفي، أو لبرد فزال، أو جرح تيمم له؛ لأنه ضرورة فيزول بزوالها.
تنبيه:
وفي مسح يد يجب نزع خاتم ليصل التراب إلى محله من اليد، ولا يكفي تحريكه خلاف الماء لقوة سريانه. والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.(1/262)
وقوله: { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } أي ما يريد ليجعل عليكم فيما شرع لكم في هذه الآية، وفي غيرها حرجًا، فلهذا سهل عليكم ويسر، ولم يعسر، فأباح لكم التيمم عند المرض وعند فقد الماء توسعة عليكم ورحمة بكم، وجعله في حق من شرع له، يقوم مقام الماء.
وقوله: { وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } أي من الذنوب، والأقذار، والرذائل، والعقائد الفاسدة فتكونوا أنظف الناس أبدانًا، وأزكاهم نفوسًا، وأصحهم أجسادًا، وأرقاهم أرواحًا.(1/263)
وقوله: { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي بالترخيص لكم في التيمم عند عدم الماء، أو ربما شرعه لكم من الشرائع التي شرعها لكم، فيجمع لكم بين طهارة الأبدان، وطهارة الأرواح، والإنسان بروح وجسد، والصلاة تطهر الروح، وتزكي النفس، فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتعود المصلي مراقبة ربه في السر والعلانية، وخشيته حين الإساءة، والرجاء فيه لدى الإحسان، والطهارة التي جعلها الله شرطًا للدخول في الصلاة ومقدمة لها تطهر البدن، يستحسنها كل طبع سليم وعقل مستقيم، فأحسن أفعال العبد المثول بين يدي خالقه الذي أوجده وأحسن أحواله الطهور من كل دنس، فلو تركنا وعقولنا لغسلنا كل البدن، إذ هذه عبادة تقوم بكل البدن؛ لكن الله المعبود الرحيم الودود الرءوف بالعباد من علينا فأمرنا بغسل بعض البدن في الحدث الأصغر لتكرره، وعفى عن الباقي، وأقام الطهور بالأعضاء الأربعة مقام جميع البدن، ثم أمر غسل ما ظهر دون ما بطن تيسيرًا على العباد، وأمر بغسل الوجه واليدين والذراعين إلى المرفقين دون العضدين والرجلين إلى الكعبين دون الساقين لاستتارهما باللباس، وأمر بمسح الرأس دون الغسل كي لا تبتل ثياب المتوضئ، ثم الطهارة بالماء من حسن التيقظ والانتباه عن الغفلة أو النوم أو بنية النوم ما لا يخفى على عاقل، وأمر بغسل الوجه؛ لأن السجدة ه، وأمر بغسل اليدين؛ لأن الاعتماد عليهما ومن الأعضاء السبعة، وأمر بغسل الرجلين؛ لأن القيام لله بهما، وجعل للرأس من الطهور نصيبًا إذ الوجه فيه، وفيه مجمع المحاسن، وهذا من محاسن الإسلام، ثم إذا لم يقدر الإنسان على الماء أو على استعماله أمر بالتيمم، فلما ضاق عليه الأمر بالماء اتسع عليه بوجود التراب، وهذه سُّنة الله كلما ازداد أمر عبده حرجًا ازداد فرجًا ومخرجًا، قال الله تعالى: { فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا } ، وقال: { أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ(1/264)
إِذَا دَعَاهُ } ثم في الماء أمر بأربعة أعضاء، وفي التيمم اكتفى بعضوين وضربتين في الحدثين؛ لأن الماء محبوب طبعًا، فلا يتعسر على العبد استعماله، والتراب مكروه طبعًا فيتعسر عليه استعماله فاكتفى بالضربتين؛ ولهذا كان التيمم عبادة.
وقد وردت السُّنة بالحث على الدعاء عقب الوضوء، فروى الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن عقبة بن عامر، قال: كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي فروحتها بعشي فأدركت من قوله: «ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبلاً عليهما بقلبه ووجه، إلا وجبت له الجنة».
وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء» الحديث وتقدم.
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قام إلى الصلاة خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه».
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
مما يفهم من آية الدرس آية (6) من «سورة المائدة»:
1- إن المذكورات في الآية اعتناقها والعمل بها من لوازم الإيمان الذي لا يتم إلا به؛ لأنه تعالى صدرها بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } أي يا أيها الذين آمنوا اعملوا بمقتضى إيمانكم.
2- الأمر بالقيام إلى الصلاة.
3- التعبير بالسبب عن المسبب.
4- الأمر بغسل الوجه، ويدخل فيه المضمضة والاستنشاق بالسنة.
5- أن الطهارة لا تجب بدخول الوقت، وإنما التطهر عند الصلاة.
6- أن كل ما يطلق عليه اسم الصلاة في الفرض، والنفل، وفروض الكفاية، وصلاة الجنازة تشترط له الطهارة.
7- الأمر بغسل اليدين.
8- أن غسل اليدين ينتهي إلى المرافق.
9- مسح الرأس.
10- وجوب مسح جميعه؛ لأن الباء للإلصاق.
11- أنه يكفي المسح كيف كان، بيديه أو بإحدهما أو خرقة أو نحوها؛ لأن الله أطلق المسح ولم يقيده بصفة.(1/265)
12- أن الواجب المسح، فلو غسل رأسه ولم يمد يده عليه لم يكف؛ لأنه لم يأت بما أمر الله به.
13- الأمر بغسل الوجهين إلى الكعبين.
14- أن حدها إلى الكعبين.
15- الرد على الرافضة على قراءة الجمهور.
16- الرد على الجبرية.
17- الإشارة إلى مسح الخفين على قراءة الجر (وفي أرجلكم) وتكون كل من القراءتين محمولاً على معنى، فعلى قراءة النصب فيها غسلها إن كانوا مكشوفتين، وعلى قراءة الجر فيها مسحهما إذا كانتا مستورتين بالخف.
18- الترتيب بين الأعضاء الأربعة: أعضاء الوضوء؛ لأن الله ذكرها مرتبة، ولإدخال المسموح الذي هو الرأس بين مغسولين، ولا يعلم لذلك فائدة إلا الترتيب.
19- أن الترتيب خاص بالأعضاء الأربعة المسميات في هذه الآية.
20- الأمر بتجديد الوضوء عند كل صلاة لتوجد صورة المأمور به.
21- الأمر بالغسل من الجنابة.
22- أنه يجب تعميم البدن بالغسل؛ لأن الله أضاف التطهر للبدن ولم يخصه بشيء دون شيء.
23- الأمر بغسل ظاهر شعره وباطنه في الجنابة.
24- أن من عليه حدثان يندرج الحدث الأصغر في الأكبر ويكفي من هما عليه أن ينوي، ثم يلمم بدنه؛ لأن الله لم يذكر إلا التطهر، ولم يذكر أنه يعيد الوضوء.
25- أن الجنب يصدق على من أنزل المني يقظة، أو منامًا، أو جامع ولم ينزل.
26- أن من ذكر أنه احتلم ولم يجد بللاً، فإنه لا غسل عليه؛ لأنه لم يتحقق من الجنابة.
27- الحث على النظافة.(1/266)
28- أن فيما أرشد الله إليه من غسل البدن كله أو غسل الأطراف ما يفيد صاحبه نشاطًا وهمة، ويزيل ما يعوض للجسد من الفتور والاسترخاء بسبب الحدث أو غيره من الأعمال التي تؤثر تأثيره، وبذا يقيم الصلاة على وجهها، ويعطها حقها من الخشوع والخشية ومراقبة الله، إذ بلغ الإنسان من هذه اللذة الجسمية غايتها بالوقاع أو الإنزال حصل له تهيج عصبي يعقبه فتور شديد ولا يعيد نشاطه إلا الوضوء أو الغسل، ويُسن الوضوء لمعاودة الوطء؛ لما ورد عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود فليتوضأ» رواه الجماعة إلا البخاري، ورواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وزادوا: «فإنه أنشط للعود».
29- إن في ترك ما أرشد الله إليه من الطهارة والنظافة التي هي ركن الصحة البدنية مجلبة للأمراض والأوبئة والأدواء الكثيرة، ومن ثم نرى الأطباء يشددون في أيام الأوبئة والأمراض المتنقلة بإذن الله في المبالغة في النظافة، وجدير بالمسلمين المتمسكين بإرشادات الكتاب والسُّنة أن يكونوا أصح الناس أجسامًا وأقلها أمراضًا؛ لأن دينهم يحث على الطهارة والنظافة، قال تعالى: { رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } ، وقال: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «غسل الجمعة و اجب على كل محتلم»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الطهور شطر الإيمان» إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على نظافة الأبدان والثياب والأمكنة.
30- إن من أسباب جواز التيمم وجود المرض الذي يضره غسله بالماء.
31- إن من جملة أسباب التيمم السفر إذا عدم الماء.
32- إن من جملة أسباب التيمم إتيان البول والغائط إذا عدم الماء، فللمرض يجوز التيمم مع وجود الماء لحصول التضرر به، والباقي لعدم الماء.
33- استحباب التكنية عما يستقذر التلفظ به؛ لقوله: { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ } .
34- إن لمس المرأة بلذة وشهوة ناقض الضوء.(1/267)
35- اشتراط عدم الماء لصحة التيمم.
36- إن مع وجود الماء لو في الصلاة يبطل التيمم، لأن الله إنما أباحه مع عدم الماء.
37- إنه إذا دخل الوقت وليس معه ماء، فإنه يلزمه طلبه في رحله وفيما قرب منه؛ لأنه لا يقال: لم يجد لمن لم يطلب.
38- إن من وجد ماء لا يكفي إلا لبعض طهارته، فإنه يستعمله ثم يتيمم؛ لأنه اتقى الله ما استطاع.
39- إن الماء المتغير بالطاهرات مقدم على التيمم؛ لأن الماء المتغير بالطاهرات ماء، فيدخل في قوله: { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } .
40- إنه لابد من نية التيمم؛ لقوله: { فَتَيَمَّمُوا } أي اقصدوا.
41- لطف الله بخلقه حيث شرع لعباده التيمم عند العدم للماء أو التضرر باستعماله.
42- دليل على سماحة الدين الإسلامي حيث اكتفى بالتيمم بمسح الوجه واليدين بضربة واحدة لهما.
43- إن من رحمة الله أنه لم يأمر إلا بغسل ما برز من الأعضاء في الحدث الأصغر تيسيرًا منه تعالى.
44- إنه لا يصح التيمم بالنجس؛ لأنه ليس بطهور، بل من الخبيث.
45- إن اليدين تمسحان إلى الكوع؛ لتقييد الله له بذلك.
46- إن الآية عامة في جواز التيمم لجميع الأحداث.
47- إن محل التيمم واحد في الحدث الأكبر والأصغر، وهو الوجه واليدين.
48- إنه لو نوى من عليه حدثان (الأكبر والأصغر) التيمم عنهما لكفى أخذًا من عموم الآية وإطلاقها.
49- إنه يجزي المسح بأي شيء كان؛ لأن الله تعالى قال: { فَامْسَحُوا } ولم يذكر المسموح به.
50- اشتراط الترتيب في طهارة التيمم؛ لأن الله بدأ بالوجه قبل اليدين، وكما في الوضوء.
51- دليل على أنه يجب مسح الوجه واليدين بالصعيد.
52- إثبات الإرادة لله.
53- إن الله لم يجعل علينا في الدين حرج.
54- إن الله يريد أن يطهر عباده من الأحداث والذنوب.
55- إن الله يريد إتمام نعمته على عباده.
56- تعليل الأحكام.
57- الحث على شكر الله.
58- الحث على العمل بطاعة الله.
59- الرد على الجهمية.(1/268)
60- الحث على الأشياء التي تنشط البدن وتسهل العبادة على الإنسان.
61- الابتعاد عن الأقذار والأنجاء.
62- أن نعم الله حسية ومعنوية نعمة قلوب، كالتوفيق للأعمال الصالحة، والطهارة من الذنوب الباطنة، ونعمة للأبدان كالمأكولات والمشروبات والملبوسات والمساكن والمراكب.
63- إن الله غني عن الخلق فلا يشرع إلا ما فيه الخير والمنفعة للخلق.
64- دليل على كمال الشرائع والأحكام وما يحتاجون إليه من أمر دينهم.
65- دليل على أن كثرة النعم وذكرها يوجب مزيد الشكر من المنعم عليه والاشتغال بطاعة المنعم بها، والانقياد لأمره وهو الله جل وعلا.
66- إثبات الألوهية لله.
67- دليل على أن الله لم يهمل خلقه ولم يتركهم سدى.
68- إن السفر يشمل القريب والبعيد للإطلاق.
69- دليل على انتقاض وضوء اللامس للمرأة.
70- إن الأقطع يغسل بقية المفروض.
71- إن الأصل في المضار أن لا تكون مشروعة؛ لقوله: { مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ، وقوله: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ } ، ويدل عليه قوله –عليه الصلاة والسلام-: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن»، ويدل عليه أيضًا: أن دفع الضرر مستحسن في العقول السليمة.
72- في هذه الآية ما يدعو إلى محبة الله؛ لرأفته بهم، وتخفيفه عليهم، وتعليمهم ما فيه صلاح دنياهم وأخراهم.
73- إثبات صفة الكلام لله.(1/269)
ومن لطائف الآية الكريمة كما قال بعض المحققين: أنها مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى طهارتان أصل وبدل، والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب، وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح وباعتبار المحل محدود وغير محدود، وأن آلتهما مائع وجامد، وموجبهما حدث أصغر وأكبر، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وأن الموعود عليهما التطهير وإتمام النعمة، وزاد البعض مثنيات أخر، فإن غير المحدود وجه ورأس، والمحدود يد ورجل، والنهاية كعب ومرفق، والشكر قولي وفعلي.
والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
قال الله تبارك وتعالى: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوَهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ * لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } .(1/270)
يخبر الله تعالى أنه لعن الذين كفروا من بني إسرائيل من دهر طويل أنزله على نبيه داود - عليه السلام ـ، وعلى لسان عيسى بن مريم بسبب عصيانهم لله، واعتدائهم على خلقه.
قال العوفي عن ابن عباس: لعنوا في التوراة، وفي الإنجيل، وفي الزبور، وفي الفرقان، ثم بين حالهم فيما كانوا يعتمدون في زمانهم، فقال تعالى: { كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } أي كان من دأبهم أن لا ينهى أحد أحدًا عن منكر يقترفه مهما قبح وعظم ضرره، فيشترك بذلك المباشر والساكت عن النهي وعن المنكر.
وذلك يدل على تهاونهم بأمر الله، وأن معصيته خفيفة عليهم، فلو كان لديهم تعظيم لربهم لغاروا لمحارمه، ولغضبوا لغضبه، وإنما كان السكوت عن المنكر مع القدرة موجبًا للعقوبة لما فيه من المفاسد العظيمة التي منها أن مجرد السكوت فعل المعصية، وإن لم يباشر الساكت، فإنه كما يجب اجتناب المعصية، فإنه يجب الإنكار على من فعل المعصية؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم.
وعن حذيفة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.(1/271)
وأجمعت الأمة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الحديث الثابت عن أمير المؤمنين أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه خطب الناس على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } ، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر، فلم يغيروه، أوشك الله أن يعمهم بعقاب منه».
وفي لفظ من عند رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه، والنسائي، ولفظه: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن القوم إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بعقاب»، وفي رواية لأبي داود: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب»، وفي رواية: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده».(1/272)
وعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب قلوب بعضهم بعض»، ثم قال: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ } إلى قوله: { فَاسِقُونَ } ، ثم قال: «كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم» رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن.
هذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون» فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان متكئًا، فقال: «لا والذي نفسي بيده، حتى تأطروهم على الحق أطرًا».
وعن مجاهد قال: حدثني مولى لنا أنه سمع جدي –يعني عميرًا- - رضي الله عنه - يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة».(1/273)
وعن العرس بن عميرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا عملت الخطيئة في الأرض، من شهدها فكرهها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها» رواه أبو داود.
وعن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المداهن في حدود الله، والواقع فيها، مثل قوم استهموا في سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي أسفلها يمر على الذي في أعلاها، فتأذوا به فأخذ فأسًا، فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه، فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي، ولابد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم» رواه البخاري.
وبعد أن ذكر الله لنبيه أحوال أسلافهم ذكر له أحوال حاضريهم مما يدل على رسوخ تلك الملكات فيهم، فقال: «ترى كثيرًا منهم يتولون الذين كفروا من مشركي قومك، ويحالفونهم عليك، ويحرضونك على قتالك وأنت تؤمن بالله وبما أنزله على رسله وأنبيائه، وتشهد لهم بصدق الرسالة، وأولئك المشركون لا يؤمنون بكتاب الله ولا رسوله، ولا يعبدون إلهًا واحدًا».
وقد روي أن كعب بن الأشرف وأصحابه ذهبوا إلى مكة واستجاشوا المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن لم يتم لهم ما أرادوا إذ لم يلبوا لهم دعوة ولا استجابوا لهم كلمة.
وقال ابن عباس ومجاهد والحسن «منهم» يعني من المنافقين يتولون اليهود.
وقوله: { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ } أي بئس ما سولت وزينت، أو بئس شيئًا قدموه لأنفسهم في آخرتهم، الأعمال التي أوجبت سخط الله وعظيم غضبه، وسيجزون بها شر الجزاء، إذ سيحيط بهم العذاب، ولا يجدون عنه مصرفًا، فالنجاة من العذاب، إنما تكون برضا الله عن عبده، وهم لم يعملوا إلا ما يوجب سخطه وشديد غضبه.(1/274)
وقوله: { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوَهُمْ أَوْلِيَاءَ } أي ولو كان هؤلاء الذين يتولون الذين كفروا من بني إسرائيل يؤمنون بالله والنبي، أي يصدقون الله ويقرون به ويوحدونه، ويصدقون نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بأنه لله نبي مبعوث، ورسول مرسل، وما أنزل إليه، أي ويقرون بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند الله من آي الفرقان، { مَا اتَّخَذُوَهُمْ أَوْلِيَاءَ } يعني ما اتخذوا الكفار أنصارًا وأعوانًا من دون المؤمنين؛ لأن الإيمان بالله وبالنبي، وما أنزل إليه يوجب على العبد موالاة ربه وموالاة أوليائه، ومعاداة من كفر به وعاداه ورتع في معاصيه، فشرط ولاية الله والإيمان به أن لا يتخذ أعداء الله أولياء؛ ولهذا قال تعالى: { لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } الآية.(1/275)
وقال في آية أخرى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } وبالتالي فالحب في الله، والبغض في الله أصل عظيم من أصول الإيمان، يجب على العبد مراعاته، ولهذا جاء في الحديث: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله»؛ ولذلك أكثر الله من ذكره في القرآن، قال الله تعالى: { لاَ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } فمن يتولى الكفرة فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية، يعني منسلخ من ولاية الله رأسًا، وهذا أمر معقول، فإن موالاة الولي وموالاة عدوه متنافيان كما تقدم بيانه.
وقوله تعالى: { وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } هذا بيان لأسباب الألفة والعلة الجامعة بينهم، والمعنى والله أعلم: ولكن كثيرًا منهم متمردون في النفاق، خارجون عن طاعة الله وأمره، لا يريدون إلا الرياسة والجاه، ويسعون إلى تحصيلهما من أي طريق قدروا عليه، ومتى سار الكثير من الأمة على طريق تبعه الباقون، إنما قال (كثيرًا) لعلمه بمن سيؤمن، مثل عبدالله بن سلام وأصحابه.
وقوله تعالى: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } اللام في قوله { لَتَجِدَنَّ } لام القسم، تقديره: والله يا محمد إنك لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا بك وصدقوك اليهود والذين أشركوا.
ووصف الله شدة عداوة اليهود وصعوبة إجابتهم إلى الحق، وجعلهم قرناء المشركين عبدة الأصنام في العداوة للمؤمنين، وذلك حسدًا منهم للمؤمنين.(1/276)
وأشد ما لاقى النبي - صلى الله عليه وسلم - من العداوة والإيذاء كان من يهود الحجاز في المدينة وما حولها، ومن مشركي العرب، ولاسيما مكة وما قرب منها، وقد كان اليهود والمشركون مشتركين في بعض الصفات والأخلاق التي اقتضت عداوتهم الشديدة للمؤمنين، كالكبر، والعتو، والبغي، والحسد، وغلبة الحياة المادية، والأثرة، والقسوة، وضعف عاطفة الحنان والرحمة، والعصبية الجنسية، والحمية، ولكن مشركي العرب على جاهليتهم كانوا أرق قلوبًا نوعًا ما، وفيهم سخاء وإيثار.
وقدم سبحانه ذكر اليهود للإشارة إلى تفوقهم على العرب فيما وصفوا به، فضلاً عما زادوا فيه عليهم من قتل بعض الأنبياء و إيذاء بعض آخر، ووصف الله بما يتنزه عنه، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، واستحلالهم أموال غيرهم بالباطل وإفسادهم في الأرض.
وقوله تعالى: { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى } الآية.
ذكر قصة الهجرة الأولى وسبب نزول هذه الآية:
قال ابن عباس وغيره من المفسرين في قوله: { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى } إن قريشًا ائتمرت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فوثبت كل قبيلة على من آمن منهم فآذوهم وعذبوهم، فافتتن من افتتن منهم، وعصم الله من شاء منهم، ومنع الله رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بعمه أبي طالب، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نزل بأصحابه ولم يقدر أن يمنعهم من المشركين، ولم يؤمر بعد بالجهاد، أمر أصحابه بالخروج إلى أرض الحبشة، وقال: «إن بها ملكًا صالحًا لا يظلم، ولا يظلم عنده أحد، فأخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجًا».(1/277)
فخرج إليها أحد عشر رجلاً وأربع نسوة سرًا، وهم: عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والزبير بن العوام، وعبدالله بن مسعود، وعبدالرحمن بن عوف، وأبو حذيفة ابن عقبة، وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو، ومصعب بن عمير، وأبو سلمة بن عبدالأسد، وزوجته أم سلمة بنت أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة، وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة، وحاطب بن عمرو، وسهيل بن بيضاء، فخرجوا إلى البحر، وأخذوا سفينة بنصف دينار إلى أرض الحبشة، وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذه هي الهجرة الأولى.
ثم خرج بعدهم جعفر بن أبي طالب، وتتابع المسلمون، فكان جميع من هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلاً سوى النساء والصبيان.
فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص وجماعة بهدايا إلى النجاشي وبطارقته ليردهم إليهم، فدخل إليه عمرو، وقال له: أيها الملك، إنه قد خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها، وزعم أنه نبي، وإنه قد بعث إليك برهط من أصحابه ليفسدوا عليك قومك، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرك، وإن قومهم يسألونك أن تردهم إليهم، فقال: حتى نسألهم، فأمر بهم، فأحضروا.
فلما أتوا باب النجاشي، قالوا: يستأذن أولياء الله، فقال: ائذنوا لهم، فمرحبًا بأولياء الله، فلما دخلوا عليه سلموا، فقال الرهط من المشركين: أيها الملك، ألا ترى أنا قد صدقناك، إ نهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها، فقال لهم الملك: ما منعكم أن تحيوني بتحيتي؟ فقالوا له: إنا حييناك بتحية أهل الجنة، وتحية الملائكة، فقال لهم النجاشي: ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ فقال جعفر بن أبي طالب: يقول هو عبدالله ورسوله، وكلمة الله وروح منه، ألقاها إلى مريم العذراء، ويقول في مريم إنها العذراء البتول.(1/278)
قال: فأخذ النجاشي عودًا من الأرض، وقال: والله ما زاد صاحبكم على ما قال عيسى قدر هذا العود، فكره المشركون قوله وتغيرت وجوههم، فقال: هل تعرفون شيئًا مما أنزل على صاحبكم؟ قالوا: نعم، قال: اقرأوا، فقرأ جعفر سورة مريم، وهنالك قسيسون ورهبان وسائر النصارى، فعرفوا ما قرأ فانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق، فأنزل الله فيهم: { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } إلى آخر الآيتين، فقال النجاشي لجعفر وأصحابه: اذهبوا، فأنتم سيوم بأرضي، يعني إنكم آمنون.
فرجع عمرو وأصحابه خائبين، وأقام المسلمون عند النجاشي بخير دار وخير جوار إلى أن هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وعلا أمره وقهر أعداءه، وذلك في سنة ست من الهجرة.
وكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي على يد عمرو ابن أمية الضمري أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت قد هاجرت مع زوجها ومات عنها، فأرسل النجاشي جارية، يقال لها: أبرهة إلى أم حبيبة يخبرها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد خطبها، فسرت بذلك وأعطت الجارية أوضاحًا كانت لها، وأذنت لخالد بن سعيد في نكاحها، فأنكحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صداق مبلغه أربعمائة دينار.
وكان الخاطب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - النجاشي، فأرسل إليها بجميع الصداق على يد جاريته أبرهة، فلما جاءتها بالدنانير وهبتها منها خمسين دينارًا فلم تأخذها، وقالت: إن الملك أمرني أن لا آخذ منك شيئًا، وقالت: أنا صاحبة دهن الملك وثيابه، وقد صدقت بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وآمنت به، وحاجتي إليك أن تقرئيه مني ا لسلام، قالت: نعم، فقالت: قد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من دهن وعود، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يراه عندها فلا ينكره.(1/279)
قالت أم حبيبة: فخرجنا إلى المدينة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحاصر خيبر، فخرج من خرج إليه ممن قدم من الحبشة، وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدخلت عليه، فكان يسألني عن النجاشي، وقرأت عليه السلام من أبرهة جارية الملك، فرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلام، وأنزل الله عز وجل: { عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً } يعني أبا سفيان، وذلك بتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة، ولما بلغ أبا سفيان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج أم حبيبة، قال: ذلك الفحل لا يجدع أنفه.
وبعث النجاشي بعد خروج جعفر وأصحابه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنه أزهى في ستين رجلاً من أصحابه، وكتب إليه:
«يا رسول الله، إني أشهد أنك رسول الله صادقًا مصدقًا، وقد باعيتك وبايعت ابن عمك جعفرًا، وأسلمت لله رب العالمين، وقد بعثت إليك ابني أزهى، وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت، والسلام عليك يا رسول الله».
فركبوا في سفينة في أثر جعفر حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا، ووافى جعفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر.
ووافى مع جعفر سبعون رجلاً عليهم الثياب الصوف، منهم اثنان وستون رجلاً من الحبشة، وثمانية من الشام، فقرأ عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «سورة يس» إلى آخرها، فبكى القوم حين سمعوا القرآن وآمنوا، وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى -عليه السلام-، فأنزل الله فيهم قوله: { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى } يعني وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر، وهم السبعون، وكانوا من أصحاب الصوامع.
وقيل: نزلت في ثمانين رجلاً، أربعون من نصارى نجران من بني الحارث بن كعب، وثلاثون من الحبشة، وثمانية روميون من أهل الشام.(1/280)
وقال قتادة: نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى - عليه السلام-، فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - آمنوا به وصدقوه، فأثنى الله عليهم بقوله: { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } .
بين سبحانه وتعالى سبب مودة النصارى للذين آمنوا:
أولاً: أن منهم علماء متزهدون، وعبادًا في الصوامع متعبدين، والعلم مع الزهد وكذلك العبادة، مما يلطف القلب ويرققه، ويزيل ما فيه من الجفاء والغلظة، فلذلك لا يوجد فيهم غالبًا غلظة اليهود وشدة المشركين.
ثانيًا: أنهم لا يستكبرون، أي ليس فيهم كبر ولا عتو وامتناع عن الحق، وذلك موجب لقربهم من المسلمين ومن محبتهم، فإن المتواضع أقرب إلى الخير من المستكبر.
ثالثًا: أنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول الذي بعثه الله رحمة للعالمين ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق حتى يتدفق من جوانبها لكثرته، قال امرؤ القيس:
ففاضت دموع العين مني صبابة ... على النحر حتى بل دمعي محملي
وخبر مستفيض: إذ كثر وانتشر كفيض الماء عن الكثرة، وهذه أحوال العلماء يبكون، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } .(1/281)
ولما ذكر تعالى الأنبياء المكرمين وخواص المرسلين، وذكر فضائلهم ومراتبهم أخبر أنهم كانوا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدًا وبكيًا، وقال: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } ، وقال: { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } .
ثم ذكر سبحانه وتعالى ما يكون منهم من القول إثر بيان ما كان من حالهم، فقال: { يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } أي آمنا بهذا الكتاب النازل من عندك على محمد وبمن أنزلته عليه، فاكتبنا مع الشاهدين على الناس يوم القيامة من أمة محمد، أو مع الشاهدين بأنه حق، أو مع الشاهدين بصدق محمد وأنه رسولك إلى الناس.
والأول أقرب فهم يشهدون لله بالتوحيد ولرسله بالرسالة، وبصحة ما جاءوا به، ويشهدن على الأمم السابقة بالتصديق والتكذيب، وهم عدول، شهادتهم مقبولة، كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } .
وقوله: { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ } الآية، كلام مستأنف والاستفهام للاستبعاد، أي شيء حصل لنا حال كوننا لا نؤمن بالله، وما جاءنا.
والمعنى: أنهم استبعدوا انتفاء الإيمان منهم مع وجود المقتضي له، أي وما الذي يمنعنا من الإيمان بالله، والحال أنه قد جاءنا الحق من ربنا الذي لا يقبل الشك والريب، ونحن إذا آمنا واتبعنا الحق طمعنا أن يدخلنا ربنا الجنة مع القوم الصالحين، أليس ذلك موجبًا للمسارعة والانقياد للإيمان وعدم التخلف عنه.(1/282)
ثم بين جل وعلا ما جازاهم به، فقال: { فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ } أي فجزاهم الله وأعطاهم من الثواب بما نطقت به ألسنتهم معبرًا عما في قلوبهم من خالص الإيمان وصحيح الاعتقاد جنات وحدائق في دار النعيم تجري من تحتها الأنهار التي تسيل مياهها، كما قال تعالى: { فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } ، وقال تعالى: { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } الآية.
وقوله: { وَذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ } أي وذلك المذكور من الأمر الجليل جزاء المحسنين، لقد أحسنوا الاستماع، وأحسنوا الإدراك، وأحسنوا الإيمان، وأحسنوا القول، وساروا في طريق العمل الصالح، وذلك جزاء المحسنين، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
مما يفهم من آيات الدرس، وذكر بعض المفاسد المترتبة على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
1- لعن الله لمن كفر من بني إسرائيل.
2- أن ذلك من أسبابه عصيانهم وظلمهم لعباد الله.
3- أنهم كانوا يفعلون المنكر ولا يبالون.
4- أنهم لا ينهى بعضهم بعضًا.
5- أن ذلك دليل على تهاونهم بأمر الله.
6- أن معصيته خفيفة عليهم.
7- أنهم لا يعظمونه ويقدرونه حق قدره، وإلا لغاروا لمحارمه وغضبوا لغضبه.
8- إثبات صفة اللعن.
9- التحذير من معاصي الله.
10- وجوب الإنكار على من فعل المعصية باليد، فإن لم يستطع فباللسان، فإن لم يستطع فبقلبه.
11- أن السكوت عن المنكر مع القدرة موجب للعقوبة.
12- أن في السكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفاسد عظيمة وشرور وأضرار ومحن وتأمل ما حصل وما يحصل.(1/283)
13- أن ذلك يجرئ الفسقة والعصاة على الإكثار من المعاصي إذا لم يردعوا عنها ويضرب على أيديهم.
14- أن بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يزداد الشر، وتعظم المصيبة الدينية والدنيوية.
15- أن بإهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يضعف أهل الخير عن مقاومة أهل الشر، حتى لا يقدرون على ما كانوا يقدرون عليه أولاً.
16- أن بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يندرس العلم، ويكثر الجهل، ويفشو الزنا، واللواط، والسرقة ونحوها.
17- أن من ترك النهي عن المنكر مع طول المدة يزول قبحه من النفوس، ويصير عادة للمتجرئين على المعاصي، ويزول سلطان الدين من قلوبهم وتترك أحكامه ورائهم ظهريًا.
18- أن يترك النهي عن المنكر وتكرارها، أي المنكرات، وصدورها من كثير من الناس، ربما ظن بعض الناس أنها ليست بمعصية، وربما ظن أنها عبادة.
19- أن في الآية إرشادًا للمؤمنين وعبرة لهم حتى لا يفعلوا فيكونوا مثلهم، ويحل بهم غضب الله ولعنته.
20- جواز لعن الكافرين وإن كانوا من أولاد الأنبياء.
21- أن شرف النسب لا يمنع إطلاق اللعنة في حقهم.
22- في الآية النهي عن مجالسة المجرمين.
23- دليل على تقدم المعاصي في اليهود.
24- النهي عن الاعتداء على خلق الله.
25- أن عقوبة المعاصي إذا جاءت تعم، ويدل على ذلك أيضًا قوله تعالى: { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً } .
26- رأفة الله بخلقه حيث ذكر لهم ما وقع لمن قبلهم ليحذروه.
27- تقبيح فعلهم والتعجب منه.
28- ذمهم على اقتراف بعض المنكرات.
29- الرد على الجبرية النافين لأفعال العباد.
30- الرد على من قال: إن القرآن كلام محمد - صلى الله عليه وسلم -.
31- إثبات صفة الكلام لله.
32- أن الجامع بينهم وسبب ألفتهم هو الفسق.
33- أن أشد عداوة للمؤمنين اليهود والذين أشركوا.
34- أن اليهود أهل حسد للمؤمنين وصعبة إجابتهم إلى الحق.(1/284)
35- أن اليهود قرناء المشركين في العداوة للمؤمنين.
36- الحث على العلم.
37- الحث على العبادة.
38- النهي عن الكبر.
39- الحث على التواضع.
40- أن في تقديم اليهود على المشركين ما يفيد تفوق اليهود على العرب فيما وصفوا به فضلاً عما امتازوا به من قتل بعض الأنبياء، وإيذاء بعض البعض الآخر، واستحلال أكل أموال الناس بالباطل، والحيل، والمكر، والخديعة.
41- دليل على علو الله على خلقه.
42- دليل على أن القرآن منزل، غير مخلوق.
43- الرد على من قال إنه مخلوق كالمعتزلة والجهمية.
44- الحث على تدر القرآن.
45- الحث على الخشوع عند قراءة القرآن.
46- إثبات الربوبية.
47- إثبات رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
48- الرد على من أنكر رسالته - صلى الله عليه وسلم -.
49- أن عرفان الحق سبب للخشوع إذا أراد الله.
50- أن القرآن حق، يدل لذلك أيضًا قوله تعالى: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ } ، وقال تعالى: { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ } .
51- الحث على سؤال الله أن يدخله مع القوم الذين صلحت أنفسهم بالعقائد الصحيحة والفضائل والآداب الكاملة.
52- الترغيب في صحبة المؤمنين الصالحين.
53- دليل على جود الله وكرمه، فإنه أعطى الكثير على العمل القليل الذي وفق عبده له وهو أعلم بالمهتدين.
54- إثبات الألوهية لله جل وعلا.
55- إثبات البعث والحشر للخلائق.
56- إثبات الحساب والجزاء على الأعمال.
57- إثبات الجنة.
58- أن الجنة أعدها للمؤمنين الصالحين.
59- أن فيها أنهارًا.
60- أن اللسان ذا حدين إن استعمل في طاعة الله ومراضيه، وطابق ما في قلب صاحبه، بأن كان عن إخلاص ومعرفة أفلح صاحبه، وإن كان بضد ذلك، بأن استعمله في معاصي الله خسر صاحبه خسرانًا لا يعادله خسران.
61- أنهم خالدون في الجنة.
62- دليل على بقاء الجنة.
63- الحث على الإحسان.(1/285)
64- مدح أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين يشهدون بالحق.
65- أن الله جل وعلا حقق رجاءهم وكتب لهم الفلاح، أي الذين قالوا: { رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } .
66- أن من أخلص في إيمانه وصديقته، واستقام على الكتاب والسُّنة يكون ثوابه الجنة.
67- دليل على الأفعال الاختيارية.
68- إثبات صفة العلم، وأنه يعلم ما تكن الصدور وما تعلن.
69- الرد على الجهمية ونحوهم من نفاة الصفات.
70- التحذير من تولي الذين كفروا.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
عاقبة من افترى على الله كذبًا والدليل على قدرة الله سبحانه
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم(1/286)
قال الله تبارك وتعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غمرات المَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } [الأنعام: 93-98].(1/287)
قيل: إن هذه الآيات نزلت في عبدالله بن سعد بن أبي سرح، وكان قد أسلم، وكان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان إذا أملى عليه سميعًا بصيرًا كتب عليمًا حكيمًا، وإذا قال: عليمًا حكيمًا كتب غفور رحيمًا، فلما نزلت: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ } أملاها عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعجب عبدالله من تفصيل خلق الإنسان، فقال: تبارك الله أحسن الخالقين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اكتبها، فهكذا نزلت»، فشك عبدالله، وقال: لئن كان محمد صادقًا؛ لقد أُوحي إليَّ كما أُوحي إليه، فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ثم رجع عبدالله إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمر الظهران.
وقال قتادة: نزلت في مسيلمة الكذاب وكان يسجع ويتكهن، فادعى النبوة وزعم أن الله أوحى إليه وكان قد أرسل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسولين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما: «أتشهدا أن مسيلمة نبي؟» قالا: نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما»، وفي حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بينا أنا نائم إذ أوتيت من خزائن الأرض، فوضع في يدي سواران ذهب فكبرا علي وأهماني، فأُوحي إليَّ أن أنفخهما فنفختهما، فذهبا، فأولتهما الكذابين الذين أنا بينهما: صاحب صنعاء وصاحب اليمامة» أراد بصاحب صنعاء: الأسود العنسي، وبصاحب اليمامة: مسيلمة الكذاب زوج سَجاح بنت المنذر التي تنبأت، قال الشاعر:
أَضْحَتْ نبيتُنا أُنثَى يُطافُ بها ... وأصبَحَتْ أنبياءُ اللهِ ذكرانا
وقال الآخر:
أضمَّتْ سَجاح ووالاها مسيلمة ... كَذَّابَةٌ في بني الدنيا وكَذَّابٌ
المعنى:(1/288)
يقول تعالى: لا أحد أظلم ممن كذب على الله بأن نسب إلى الله قولاً أو حكمًا وهو تعالى برئ منه، وإنما كان هذا أظلم الخلق؛ لأن فيه من الكذب وتغيير الأديان أصولها وفروعها ونسبة ذلك إلى الله ما هو من أكبر المفاسد، ويدخل في ذلك ادعاء النبوة، وأن يوحى إليه وهو كاذب في ذلك، فإنه مع كذبه على الله وجرأته عليه يوجب على الخلق أن يتبعوه ويجاهدهم على ذلك ويستحل دماء من خالفه وأموالهم، ويدخل في ذلك مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، والمختار، وطليحة الأسدي الذي ادعى النبوة في بني أسد، ونحوهم من كل من ادعى ذلك أو يدعيه في أي زمان ومكان.(1/289)
{ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ } أي ومن أظلم ممن زعم أنه يقدر على ما يقدر الله عليه، ويجاري في أحكامه، ويشرع من الشرائع كما شرعه الله، ويدخل في هذا كل من زعم أنه يقدر على معارضة القرآن، وأنه في إمكانه أن يأتي بمثله كمن قال من المشركين: { لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا } فقد أثر عن النضر ابن الحارث أنه كان يقول: إن القرآن أساطير الأولين، فهذا ظلم عظيم، وأي ظلم أعظم من دعوى الفقير العاجز بالذات الناقص من كل وجه مشاركة القوي الغين الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه في ذاته وأسمائه وصفاته، ولما ذم تعالى الظالمين ذكر ما أعد لهم من العقوبة في حال الاحتضار، ويوم القيامة؛ لشدة جرمهم وعظيم ذنبهم، فقال: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غمرات المَوْتِ } الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم لكل من سمعه أو قرأه، أي ولو تبصر إذ يكون الظالمون سواء منهم من ذكروا في الآية أو غيرهم في غمرات الموت، وهي سكراته وما يتقدمها من شدائد وآلام تحيط بهم كما تحيط غمرات الماء بالغرق، وما يجدونه من الأهوال الفظيعة والكرب الشنيعة، لرأيت أمرًا هائلاً وحالة لا يقدر الواصف أن يصفها، ولا قدرة للبيان على تجلي كهنها وحقيقتها، { وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ } أي مادوا أيديهم إلى أولئك الظالمين المحتضرين لقبض أرواحهم الخبيثة بالعنف والضرب والعذاب، وما أشار إليه في هذه الآية من العذاب صرح به في قوله: { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وَجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ } ، وبين في موضع آخر أنه يُراد ببسط اليدين التناول بالسوء، كقوله: { وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ } ، وقوله: { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي } الآية، ثم حكى سبحانه أمر الملائكة لهم على سبيل التقريع(1/290)
والتوبيخ حين بسط أيديهم لقبض أرواحهم وقلعها وتعصيها عن الخروج من الأبدان، { أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ } أي من هذه الغمرات التي وقعتم فيها، أو أخرجوا أنفسكم من أيدينا وخلصوها من العذاب، أو أخرجوا أنفسكم من أجسادكم وسلموها إلينا لنقبضها، وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب، والنكال، والأغلال، والسلاسل، والجحيم، والحميم، والغساق، وغضب الرحمن فتفرق روحه في جسده وتعصى، وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ } أي اليوم الذي تقبض فيه أرواحكم تلقون عذاب الذل والهوان بعد ما كنتم فيه من الكبر والعظمة والفخر { بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ } الباء للسببية، أي بسبب ما كنتم تقولون مفترين على الله غير الحق، كقول بعضهم { مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } ، وقوله الآخر: { أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } وإنكار طائفة لما وصف الله به نفسه من الصفات واتخاذ أقوام له البنين والبنات واستكبار آخرين عن الاعتراف بما أنزله من الآيات على رسله احتقارًا منهم للرسل –عليهم أفضل الصلاة والسلام؛ ولذلك قال تعالى: { وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } .
وقال ابن مسعود في قوله تعالى: { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا } ، قال: المعيشة الضنك: هي عذاب القبر، ومن الأدلة قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وَجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ } فهذه الإذاقة هي في البرزخ، وأولها حين الوفاة.(1/291)
وفي «الصحيح» عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - في قوله تعالى: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } قال: نزلت في عذاب القبر، ومن الأدلة قوله تعالى: { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، وقوله تعالى: { مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا } ،وقوله تعالى في حق آل فرعون: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًا وَعَشِيًا } .
وفي «الصحيحين»: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين، فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير»، ثم قال: «بلى، إنه كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» الحديث متفق عليه.
وفي حديث أنس - رضي الله عنه -: «تنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه»، وعن زيد بن ثابت قال: «بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حائط لبني النجار على بغلة له، ونحن معه إذ حادت به، وكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة، فقال: «من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟» قال رجل: أنا، قال: «فمتى ماتوا؟» قال: في الشرك، فقال: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوتُ الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه» ثم أقبل بوجهه علينا، فقال: «تعوذوا بالله من عذاب»، قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر» الحديث رواه مسلم.
وعن ابن عباس أنه قال لرجل: ألا أتحفك بحديث تفرح به؟ قال: بلى، قال: اقرأ تبارك الذي بيده الملك، وعلمها أهلك، وجميع ولدك، وصبيان بيتك، وجيرانك، فإنها المنجية، والمجادلة تجادل، أو تخاصم يوم القيامة عند ربها لقارئها، وتطلب أن ينجيه من عذاب النار، وينجى بها صاحبها من عذاب القبر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي».(1/292)
وورد أن رجلاً غل شملة من المغنم فجاء سهم عائر، فأصابه، فقتله، فقال الناس: هنيئًا له الجنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كلا، والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم التي لم تصبها المقاسم تشتعل عليه نارًا».
وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل – لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبدالله ورسوله، فيقال: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة فيراهما جميعًا، وأما المنافق والكافر، فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين» متفق عليه.
وعن عبدالله بن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة» متفق عليه.
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن يهودية دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عذاب القبر، فقال: «نعم، عذاب القبر حق»، قالت عائشة: فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد صلى صلاة إلا تعوذ بالله من عذاب القبر، متفق عليه.(1/293)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، وللآخر: النكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبدالله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعًا في سبعين، ثم ينور له فيه، ثم يقال له: نم، فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم؟ فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك، وإن كان منافقًا، قال: سمعت الناس يقولون شيئًا فقلت مثله، لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، فيقال للأرض التئمي عليه، فتلتئم عليه، فتختلف أضلاعه، فلا يزال فيها معذبًا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك» رواه الترمذي.
وعن البراء بن عازب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقولان له: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت فذلك قوله: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } »، قال: «فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي، فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له فيها مد بصره».(1/294)
وأما الكافر فذكر موته، قال: «ويعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان: من ربك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فافرشوه من النار وألبسوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، قال: فيأتيه من حرها وسمومها، قال: ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ثم يقيض له أعمى أصم مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار ترابًا، فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير ثوابًا ثم يعاد فيه الروح» رواه أحمد وأبو داود.
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنينًا تنهشه وتلدغه، حتى تقوم الساعة، لو أن تنينًا منها نفخ في الأرض ما أنبتت خضرًا» رواه الدارمي، وروى الترمذي نحوه، وقال: سبعون بدل تسعة وتسعون.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفًا من الملائكة، لقد ضم ضمة ثم فرج عنه» رواه النسائي.
وقوله تعالى: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي يقال يوم القيامة: ولقد جئتمونا وحدانا منفردين عن الأنداد والأوثان والأهل والأولاد والإخوان، مجردين من الخدم والأملاك والأموال، كما خلقناكم أول مرة من بطون أمهاتهم، حفاة عراة غرلاً.(1/295)
كما قال تعالى: { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي كما بدأناكم أعدناكم، وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه، وتقولون أئذامتنا وكنا ترابًا ذلك بعيد، ويقولون: { مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } ، وقوله: { وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } يعني وتركتم الذي أعطيناكم وملكناكم من الأموال والأولاد، فلم ينفعكم ولم تحتملوا منه نقيرًا ولا قدمتموه لأنفسكم، وأشار بقوله وراء ظهوركم إلى الدنيا؛ لأنهم يتركون ما خولوه موجودًا.
وثبت في «الصحيح»: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس».
فما تزود مما كان يجمعه
وغير نفحة أعواد تشب له ... سوى حنوط غداة البين في خرق
وقل ذلك من زاد لمنطلق
وقال الحسن البصري: يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذخ، فيقول الله عز وجل: أين ما جمعت؟ فيقول: يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان، فيقول له: يا ابن آدم ما قدمت لنفسك، فلا يراه قدم شيئًا، وتلا هذه الآية: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } الآية، رواه ابن أبي حاتم.(1/296)
وقوله: { وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ } يقول تعالى ذكره لهؤلاء العادلين بربهم الأنداد يوم القيامة: ما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم في الدنيا، أنهم يشفعون لكم عند ربكم يوم القيامة، وذلك أن المشركين كانوا يزعمون أنهم كانوا يعبدون الآلهة؛ لأنهم شفعاء يشفعون لهم عند الله، وأن هذه الآلهة شركاء لله، قال تعالى مخبرًا عما قالوا: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } ، وقال عنهم: { وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ } .
وقوله: { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } أي لقد تقطع ما بينكم من الوصل، أو يكون المعنى: لقد تقطع الأمر بينكم، وقرئ برفع النون، ومعناه: لقد تقطع وصلكم والبين من الأضداد، يكون وصلاً ويكون هجرًا.
وفي الذي يزعمون أقوال، أحدها: شفاعة الآلهة لهم، وقيل: عدم البعث والجزاء، وقيل: ما يزعمون من الربح والأمن والسعادة والنجاة التي زينها لهم الشيطان، وحسنها في قلوبهم، فنطقت بها ألسنتهم واغتروا بهذا الزعم الباطل الذي لا حقيقة له حين تبين لهم نقيض ما كانوا يزعمون، فذهب وبطل ما كانوا يكذبون في الدنيا، وظهر خسرانهم لأنفسهم وأهليهم وأموالهم يوم القيامة.
وقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى } لما تقدم الكلام على تقرير التوحيد، وتقرير النبوة أردفه بذكر الدلالة على كمال قدرته وعلمه وحكمته تنبيهًا بذلك على أن المقصود الأعظم هو معرفة الله سبحانه وتعالى بجميع صفاته وأفعاله وأنه مبدع الأشياء وخالقها، ومن كان كذلك كان هو المستحق للعادة، لا هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها، وتعريفًا منه خطأ ما كانوا عليه من الإشراك الذي كانوا عليه، والمعنى: أن الذي يستحق العبادة دون غيره هو الله الذي لا إله إلا هو.(1/297)
والفلق: الشق، قال الحسن وقتادة والسدي: معناه يشق الحبة عن السنبلة، والنواة عن النخلة فيخرجها منها، والحب جمع حبة، وهي اسم لجميع البذور والحبوب من البر والشعير والذرة وكل ما لم يكن له نوى، وقال الزجاج: يشق الحبة اليابسة، والنواة اليابسة، فيخرج منها ورقًا أخضر.
والخلاصة: أن هذا شامل كل الحبوب التي يباشر الناس زرعها، والتي لا يباشرونها كالحبوب التي يبثها الله في البراري والقفار، فيفلق الحبوب عن الزرع والنوابت على اختلاف أنواعها وأشكالها ومنافعها، ويفلق النوى عن الأشجار من النخيل والفواكه وغير ذلك، فينتفع بها الخلق من الآدميين والأنعام والدواب، ويقتاتون وينتفعون بها بجميع أنواع المنافع التي جعلها الله في ذلك.
وفي شعر أمية بن أبي الصلت الذي آمن شعره وكفر قلبه، كما ورد في الحديث.
ويروى لزيد بن عمرو بن نفيل - رضي الله عنه -:
وأنت الذي من فضل من ورحمة
فقلت له فاذهب وهارون فادعوا ... بعثت إلى موسى رسولاً مناديا
إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
إلى أن قال:
وقولا له من ينبت الحب في الثرى
ويخرج منه حبه في رؤوسه ... فيصبح من العشب يهتز رابيا
ففي ذاك آيات لمن كان واعيا
وقوله: { يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ } في معنى ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: إنه إخراج الإنسان حيًا من النطفة وهي ميتة، وإخراج النطفة من الإنسان، وكذا إخراج الفرخ من البيضة، وإخراج البيضة من الطائر، هذا قول ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير والجمهور.
والثاني: إنه إخراج الحي - كإخراج إبراهيم الخليل من آزر- بالإيمان من الكافر الميت بالكفر، وإخراج الكافر- كإخراج ابن نوح من نوح- الميت بالكفر من المؤمن الحي بالإيمان، روى نحو هذا الضحاك عن ابن عباس، وهو قول الحسن وعطاء.(1/298)
والثالث: إنه إخراج السنبلة الحية من الحبة الميتة، والنخلة الحية من النواة الميتة والنواة الميتة من النخلة الحية، قاله السدي، وقال الزجاج: يخرج النبات الغض من الحب اليابس، والحب اليابس من النبات الحي النامي.
وقوله: { ذَلِكُمُ اللَّهُ } : أي فاعل هذا هو الله وحده لا شريك له، { فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } ، فكيف تصرفون عن عبادته وتشركون به من لا يقدر على شيء من ذلك، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } ، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } ، وقال تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا } ، وقال: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } .
وقوله: { فَالِقُ الإِصْبَاحِ } الإصباح مصدر سمي به الصبح، قال امرؤ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل(1/299)
فهو سبحانه خالق الضياء والظلام، كما في أول السورة، وجعل الظلمات والنور، فهو يفلق ظلام الليل عن غرة الصبح فيضيء الوجود، ويستنير الأفق ويضمحل الظلام ويذهب الليل بسواده وظلامه، ويجيء النهار بضيائه وإشراقه، كقوله تعالى: { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } فبين تعالى قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة الدالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه، فذكر أنه فالق الإصباح، وقابل ذلك بقوله: { وَجَعَلَ اللَّيلَ سَكَنًا } ، أي يسكن إليه من يتعب بالنهار، ويستأنس به لاسترواحه فيه، وكل ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناسًا به واسترواحًا إليه من حبيب أو زوج، قال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا } .
وعن قتادة: إن المعنى: يسكن فيه كل طير ودابة، وروي نحوه عن ابن عباس ومجاهد - رضي الله عنهم -.
فالمراد حينئذ جعل الليل مسكونًا فيه من السكون أي الهدوء والاستقرار، كما في قوله تعالى: { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ } فالليل وقت الراحة والسكون؛ لأنه لا يتيسر فيه من الحركة وأنواع الأعمال ما يتيسر في النهار؛ لما خص به الليل من الإظلام، والنهار من الإبصار، وأكثر الأحيان من الإنسان والحيوان تترك العمل والسعي في الليل وتأوي إلى مساكنها للراحة التي لا تتم ولا تكمل إلا بالنوم الذي تسكن فيه الجوارح والخواطر ببطلان حركتها الإرادية كما تسكن به الأعضاء سكونًا نسبيًا، فتقل نبضات القلب، ويقل إفراز خلايا الجسم للسوائل والعصارات التي تفرزها، ويبطئ التنفس ويقل ضغط الدم في الشرايين، ولاسيما أول النوم، ويضعف الشعور حتى يكاد يكون مفقودًا، ويستريح الجهاز العصبي لتستريح جميع الأعضاء.(1/300)
وقوله: { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا } أي يجريان بحساب مقدر مقنن لا يتغير ولا يضطرب، بل لكل منهما منازل يسلكها في الصيف والشتاء، فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولاً وقصرًا، كما قال تعالى: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } الآية، وقال: { لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } ، وقال: { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } .
وقد جمع الله في هذه الآية ثلاث آيات سماوية، كما جمع فيما قبلها ثلاث آيات أرضية، فالآية الأولى: فلق الصبح والتذكير به للتأمل في صنع الله –الذي أتقن كل شيء- بإفاضة النور، ومبدأ زمن تقلب الأحياء في القيام ومضيهم إلى ما يسروا له من الأعمال، وما لله في ذلك من حكم وأسرار.
والآية الثانية: { جَعَلَ اللَّيلَ سَكَنًا } وذلك نعمة من الله ليستريح الجسم، وتسكن النفس، وتهدأ من تعب العمل بالنهار.
والآية الثالثة: { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا } وذلك فضل من الله العظيم، فإن حاجة الناس إلى معرفة حساب الأوقات لعباداتهم ومعاملاتهم وتواريخهم لا تخفى على أحد منهم.
وقوله: { ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ } أي الجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخاف العليم الذي أحاط علمه بكل شيء، فلا يعْزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
وقوله: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالْبَحْرِ } يذكر تعالى آية أخرى من آياته الكونية، ويقرنها بذكر فائدتها وهي النجوم، جعلها الله للناس أدلة في البر والبحر إذا ضلوا الطريق أو تحيروا، قال تعالى: { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } .(1/301)
قال بعض السلف: من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ، وكذب على الله سبحانه، أن جعلها الله زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، قال القحطاني - رحمه الله -:
إن النجوم على ثلاثة أوجه
بعض النجوم خلقن زينًا للسما
وكواكب تهدي المسافر في السرى ... فاسمع مقال الناقد الدهقان
كالدر فوق ترائب النسوان
ورجوم كل مثابر شيطان
ولما في عالم السموات من بديع الصنع وبديع النظام، ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله: { قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي بيناها ووضحناها وميزنا كل جنس ونوع منها عن الآخر بحيث آيات الله بادية ظاهرة لقوم يعلمون بما في هذه الآيات من الدلالة على قدرة الله وعظمته وبديع حكمته، وخص أهل العلم؛ أنهم الذين يوجه إليهم الخطاب ويطلب منهم الجواب وهم المنتفعون بالآيات، وبعد أن ذكرنا جل وعلا ببعض آياته في الأرض والسماء ذكرنا بآياته في أنفسنا، فقال: { وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } ، المعنى: أن الله هو الذي ابتدأ خلقكم أيها الناس فأوجدكم بعد أن لم تكونوا شيئًا، من نفس واحدة، يعني من آدم - عليه السلام ـ، فهو أبو البشر كلهم، وحواء مخلوقة منه، وعيسى أيضًا؛ لأن ابتداء خلقه مريم وهي من بنات آدم، فثبت أن جميع الخلق من آدم - عليه السلام ـ.
وفي إنشاء جميع البشر من نفس واحدة آيات بينات على قدرة الله، وعلمه، وحكمته، ووحدانيته، وقد اختلف في المستقر والمستودع، فقيل: المستقر في الأصلاب، والمستودع في الأرحام، وإنما جعل الصلب مقر النطفة، والرحم مستودعها؛ لأن النطفة تتولد في الصلب ابتداء، والرحم شبيهة بالمستودع، كما قيل:
وإنما أمهات الناس أوعية ... مستودعات وللآباء أبناء(1/302)
وقيل: مستقر في الرحم ومستودع في القبر إلى أن يبعث، وقيل: مستقر في بطون الأمهات، ومستودع في أصلاب الآباء، وقيل: مستقر على ظهر الأرض في الدنيا، ومستودع عند الله في الآخرة، وقيل: مستقرها أيام حياتها، ومستودعها حيث يموت، وحث يبعث، وقيل: مستقر في القبر ومستودع في الدنيا.
وأنشدوا قول لبيد:
وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بُدَّ يومًا أن ترد الودائع
وقال بعض المفسرين: الذي يقتضيه النظر أن الاستقرار والاستيداع حالان يعتوران على الإنسان من الظهر إلى الرحم، إلى الدنيا إلى القبر، إلى الحشر إلى الجنة أو النار.
وفي كل رتبة يحصل له استقرار واستيداع استقرار بالإضافة إلى ما قبلها، واستيداع بالإضافة إلى ما بعدها، ولفظ الودية يقتضي الانتقال، والله أعلم.
وقوله تعالى: { قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } أي بينا ووضحنا الدلائل الدالة على التوحيد والبراهين الواضحة والححج النيرة لقوم يفقهون غوامض الدقائق، ذكر سبحانه هاهنا { يَفْقَهُونَ } وفيما قبله { يَعْلَمُونَ } ؛ لأن في إنشاء الأنفس من نفس واحدة، وجعل بعضها مستقرًا وبعضها مستودعًا من الغموض والدقة ما ليس في خلق النجوم للاهتداء، فناسبه ذكر الفقه لإشعاره بمزيد تحقيق وإمعان فكر وتدقيق نظر. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
مما يفهم من آيات الدرس [93-98]:
1- أن لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب أو قال أُوحي إليه ولم يوح إليه شيء.
2- النهي عن الظلم.
3- إثبات الألوهية.
4- النهي عن الكذب.
5- الوعيد الشديد للظالمين.
6- الوعيد الشديد لمدعي النبوة كمسيلمة، والأسود العنسي ونحوهما؛ لافترائهما على الله.
7- دليل على علو الله على خلقه.
8- أن القرآن منزل غير مخلوق.
9- الرد على من قال إنه مخلوق كالمعتزلة والجهمية.
10- أنه ليس في الإمكان الإتيان بمثله.
11- دليل على شدة سكرات الموت وأهواله وكربه في حق الظالمين.
12- إثبات الملائكة.(1/303)
13- أن للملائكة أيدي.
14- الرد على منكري الملائكة من عمى البصائر المكذبين لله ورسوله ولما أجمع عليه المسلمون.
15- أن الملائكة تقبض الأرواح.
16- النهي والتحذير عن الاستكبار عن آيات الله.
17- توبيخ الكفار وتقريعهم حال النزع.
18- دليل على شدة عذاب الله، وأنه لا يعذب عذابه أحد.
19- دليل على عذاب القبر ونعيمه، فإن هذا الخطاب والعذاب الموجه إليهم إنما هو حال النزع عند الاحتضار، وقبيل الموت وبعده.
20- التحذير من الافتراء على الله وعلى رسله.
21- تقريع وتوبيخ آخر؛ لأنهم صرفوا همهم في الدنيا إلى تحصيل المال والولد والجاه، وأفنوا أعمارهم في عبادة الأصنام، فلم يغن عنهم كل ذلك شيئًا في يوم القيامة.
22- إثبات صفة الكلام لله.
23- الرد على من أنكر صفة الكلام.
24- أن الإنسان يأتي يوم القيامة فردًا.
25- أنهم يأتون عراة.
26- أنهم يأتون يوم القيامة حفاة عزلا كحالتهم الأولى.
27- إثبات صفة الخلق لله.
28- إثبات الأفعال الاختيارية.
29- أنهم يتركون ما خولهم وراء ظهورهم.
30- تقريع آخر على ما كانوا اتخذوا في الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان.
31- أن ظن المشركين في آلهتهم آل إلى الخيبة.
32- أن الصلات والوسائل والأسباب التي كانت بينهم تقطع.
33- أنه يذهب عنهم ما رجوا من الأصنام والأنداد.
34- إثبات صفة الفلق.
35- أن الله يخرج الحي من الميت وبالعكس.
36- دليل على قدرة الله.
37- دليل على البعث بعد الموت؛ لأن القادر على إخراج البدن من النطفة قادر على إخراجه من التراب للحساب بلا شك.
38- أن هذه القدرة تدل بذاتها على الألوهية.
39- أن الله هو فالق الإصباح.
40- نعمة الله بفلق الصبح.
41- نعمة الله بجعل الليل سكنًا.
42- نعمة الله بجعل الشمس والقمر حسبانًا، بهما تعرف الأزمنة والأوقات، ومدة ماضي الأوقات... إلخ.
43- إثبات عزة الله.
44- إثبات علم الله.
45- دليل على حكمة الله.(1/304)
46- التنبيه على أعظم فوائد النجوم، وهي الهداية للطرق والمسالك والجهات التي تقصد والقبلة.
47- أن الله هو الذي خلق النجوم للاهتداء بها.
48- أن الله جل وعلا بين الآيات بيانًا مفصلاً لقوم يعلمون.
49- الحث على العلم لفهم آيات الله.
50- أن أهل الجهل والإعراض عن آيات الله، وعن العلم الذي جاءت به الرسل لا يفيدهم التفصيل شيئًا، ولا يزيل عنهم ملتبسًا.
51- أن التحير والاشتباه غالبًا ما يكون في الظلام.
52- آية أخرى، وهي: خلق البشر من نفس واحدة.
53- دليل على قدرة الله الذي خلق الخلق من نفس واحدة.
54- لطف الله بخلقه أن جعل لهم مستقرًا.
55- لطف الله ورحمته وعنايته بخلقه حيث جعل لهم مستودعًا يحفظهم فيه.
56- التعبير بالفقه هنا وفيما قبلها بالعلم؛ لأن استخراج الحكم من خلق البشر يتوقف على غوص في أعماق الآيات وفطنة في استخراج دقائق الحكم.
وصل الله على محمد وآله وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
التحذير من فتنة الشيطان والأمر بالاعتدال وكراهية الإسراف
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم(1/305)
قال الله تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [الأعراف: 26-32].(1/306)
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى انه أمر آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض، وجعل الأرض مستقرًا لهما، وبقاء إلى زمن مقدر في علم الله، وذكر أن الشيطان عدو لهما، أعقب ذلك بذكر ما امتن به عليهم مما يسره لهم من اللباس الضروري واللباس الذي المقصود منه الجمال، وهكذا سائر الأشياء كالطعام والشراب والمراكب والمناكح ونحوها، قد يسر لعباده ضروريها ومكمل ذلك، قال ابن جرير: الرياش في كلام العرب: الأثاث وما ظهر من الثياب، وعن ابن عباس ومجاهد والسدي: أن المراد به المال، وقال العوفي عن ابن عباس: الرياش: اللباس، والعيش والنعيم، وقال ابن زيد: الريش الجمال.
وعن أبي العلاء الشامي قال: لبس أبو أمامة ثوبًا جديدًا، فلما بلغ ترقوته، قال: «الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي»، ثم قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من استجد ثوبًا فلبسه، فقال حين يبلغ ترقوته: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي، ثم عمد إلى الثوب الخلق فتصدق به، كان في ذمة الله، وفي جوار الله، وفي كنف الله حيًا وميتًا» رواه الترمذي وابن ماجه.
وعن أبي سعيد قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استجد ثوبًا سماه باسمه: عمامة أو قميصًا أو رداءً، ثم يقول: «اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له» رواه الترمذي.(1/307)
وعن أبي مطر أنه رأى عليًا - رضي الله عنه - أتى غلامًا حدثًا فاشترى منه قميصًا بثلاثة دراهم، ولبسه ما بين الرسغين إلى الكعبين، يقول حين لبسه: الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي، فقيل له: هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: هذا شيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عند الكسوة: «الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي» رواه الإمام أحمد.
ثم بين الله تعالى لهم أن هذا ليس مقصودًا بالذات وإنما أنزله الله للعباد ليكون معونة لهم على عبادته وطاعته؛ ولهذا قال: { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } اختلف في تفسير لباس التقوى، فقال بعضهم: هو الإيمان، وقيل: الحياء، وقيل: الإسلام، وقيل: العمل الصالح، وقيل: خشية الله، وقيل: السمت الحسن في الوجه، وقال الكلبي: هو العفاف، وقيل: لباس التقوى لباس الورع وارتقاء معاصي الله، وهو الورع نفسه والخشية من الله، فذلك خير لباس وأجمل من اللباس الحسي، فإن لباس التقوى يستمر مع العبد ولا يبلى ولا يبيد، وهو جمال القلب والروح، و أما اللباس الظاهر فغايته أن يستر العورة الظاهرة في وقت من الأوقات، أو يكون جمالاً للإنسان وليس وراء ذلك منه نفع، وأيضًا فبتقدير عدم هذا اللباس تنكشف العورة الظاهرة التي لا يضر كشفها مع الضرورة، وأما بتقدير عدم لباس التقوى، فإنها تنكشف عورته الباطنة، ويناله الخزي والفضيحة، قال بعضهم:
إذا المرء لم يلبس لباسًا من التقى ... تقلب عريانًا وإن كان كاسيا
وقال الآخر:
إذا أنت لم تلبس ثيابًا من التقى ... عريت وإن دارى القميص قميص
وقال الآخر:
وخير لباس المرء طاعة ربه ... ولا خير فيمن كان لله عاصيا(1/308)
وقوله: { ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي ذلك المتقدم ذكره من النعم بإنزال الملابس من آيات الله الدالة على أنه الخالق، وعلى قدرته، وعلى إحسانه، ولطفه وفضله على بني آدم لعلهم يذكرون، فيعرفون نعمته جل وعلا عليهم، ويستعينون باللباس الظاهر على اللباس الباطن، ويقومون بما يجب عليهم من الشكر ويتعظون فيترفعون عن القبائح ويبعدون عن فتنة الشيطان وإبداء العورات.
ثم كرر سبحانه النداء لبني آدم تحذيرًا لهم من الشيطان، وفائدة تكرار النداء للإيذان بكمال الاعتناء بمضمون ما صدر به، فقال: { يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا } ، يقول تعالى ذكره: يا بني آدم، لا يخدعنكم الشيطان فيبدي سوآتكم للناس بطاعتكم إياه عند اختباره لكم، كما وسوس لأبويكم آدم وحواء عند اختباره إياهما فزين لهما المعصية فأطاعاه وأكلا من الشجرة التي نهاهما ربهما عنها فأخرجهما بما سبب لهما من مكره وخدعه من الجنة، ونزع عنهما ما كان ألبسهما من اللباس ليريهما سوآتهما بكشف عورتهما وإظهارها لأعينهما بعد أن كانت مستترة، وأضاف نزعه إلى الشيطان وإن لم يباشر ذلك؛ لأنه كان بسبب وسوسته، فأسند إليه وصيغة المضارع لاستحضار الصورة التي وقعت فيما مضى والنزع الجذب للشيء بقوة عن مقره، ومنه: { تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } ومنه نزع القوس، ويستعمل في الإعراض، ومنه نزع العداوة والمحبة من القلب ونزع فلان كذا سلبه، ومنه: { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا } ؛ لأنها تقلع أرواح الكفرة بشدة، ومنه المنازعة وهي: المخاصمة، والنزع عن الشيء: الكف عنه، والنزوع: الاشتياق الشديد، ومنه نزع إلى وطنه، واختلفوا في اللباس، فقيل: الظفر، وقيل: النور، وقيل: التقوى، وقيل: كان من ثياب الجنة.(1/309)
وقوله: { لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا } اللام لام كي، أي لكي يريهما عوراتهما، وقوله: { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } ، قبيله: قيل جنوده، قال مجاهد: يعني الجن والشياطين، وقال ابن زيد: قبيله نسله،ة وقيل: جيله، أي إن إبليس وجنوده من شياطين الجن يرونكم ولا ترونهم، وهي أجسام لطيفة معلوم من هذه الشريعة وجودهم كما أن الملائكة أيضًا معلوم وجودهم من هذه الشريعة، ولا يستنكر وجود أجسام لطيفة جدًا لا نراها نحن، من ذلك الهواء، جسم لطيف لا ندركه نحن وقام البرهان على وجوه، فإذا يجب الاحتراز من إبليس وجنوده؛ لأن الضرر إذا جاء من حيث لا يرى كان خطره أشد، ووجوب العناية بإتقائه أعظم كما يرى في بعض الأوبئة التي ثبت وجودها في هذا العصر بالمجهر (التليسكوب) فإنها تنفذ إلى الأجسام بنقل الذباب أو البعوض أو مع الطعام أو الشراب أو الهواء فتتوالد وتنمو بسرعة، وقد تسبب للإنسان أمراضًا مستعصية العلاج كالحمى الصفراء (الملاريا)، والتيفود، والتيفوس، والسل، والسرطان إلى نحو ذلك.
وفعل جنة الشياطين في أرواح البشر أعظم من فعل هذه الجنة التي يسميها الأطباء الميكروبات في الأجسام، فكل يؤثر من حيث لا يرى فيتقى، والثانية: تتقى بالأسباب التي أرشد الله العباد لها من ذلك الأخذ بنصائح الأطباء واستعمال الوسائل العلاجية، والأولى تتقى بالالتجاء إلى الله، والتوكل عليه، والاعتصام بالكتاب والسُّنة.
وقد صح تصورهم في الأجسام الكثيفة ورؤية بني آدم لهم في تلك الأجسام كالشيطان الذي رآه أبو هريرة.(1/310)
روى البخاري في «صحيحه» عن أبي هريرة، قال: «وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه فأصبحت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟» قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته، فخليت سبيله، قال: «أما إنه قد كذبك وسيعود»، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فعل ذلك ثلاث ليال كل ذلك، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أما إنه قد كذبك وسيعود»، فلما كان في الثالثة، قلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه آخر ثلاث مرات تزعم أنك لا تعود، فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، فقلت: وما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ } حتى ختم قوله».
والعفريت الذي رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن عفريتًا من الجن تفلت علي البارحة –أو كلمة نحوها- ليقطع علي الصلاة، فأمكنني الله تبارك وتعالى منه، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان –عليه الصلاة والسلام-: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي } » فرده خاسئًا، رواه البخاري ومسلم والنسائي.(1/311)
وروى مسلم في «صحيحه»: عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فسمعناه يقول: «أعوذ بالله منك» ثم قال: «ألعنك بلعنة الله» ثلاثًا، وبسط يده كأنه يتناول شيئًا فلما فرغ من الصلاة، قلنا: يا رسول الله، سمعناك تقول في الصلاة شيئًا لم نسمعك تقوله قبل ذلك! ورأيناك بسطت يدك! قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أن آخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقًا يلعب به صبيان المدينة».
وكحديث خالد بن الوليد حين سير لكسر ذي الخصلة، وكحديث سواد ابن قارب مع رئيه من الجن، وعندما اجتمع نفر من قريش ليدخلوا دار الندوة، اعترضهم إبليس –لعنه الله- في صورة شيخ، قالوا له: من أنت؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمعت أنكم اجتمعتم، فأردت أن أحضر معكم، وعندما أبدى أبو جهل –لعنه الله- رأيه، قال الشيخ النجدي: هذا والله الرأي، القول ما قال الفتى لا رأي غيره، وعندما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب، فكاد ذلك أن يثنيهم فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، فقال: أنا جار لكم أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه فخرجوا سراعًا.
إلا أن رؤيتهم في الصورة نادرة، كما أن الملائكة تبدوا في صور كما في حديث عمر: «بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب» الحديث رواه مسلم، وحديث الملك الذي أتى الأعمى والأقرع والأبرص.(1/312)
وقوله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي قرناء وأعوانًا، وقيل: نصراء الكفار الذين لا يوحدون الله ولا يصدقون رسله، قال الزجاج: سلطناهم عليهم يزيدون في غيهم كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًا } ، وقال أبو سليمان: جعلناهم موالين لهم، فعدم الإيمان هو الموجب لعقد الولاية بين الإنسان والشيطان، قال تعالى: { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } .
وقوله: { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } بعد أن بين عز اسمه أنه جهل الشياطين قرناء للكافرين مسلطين عليهم متمكنين من إغوائهم، ذكر هنا أثر ذلك التسليط عليهم وهو الطاعة لهم في أقبح الأشياء مع عدم شعورهم بذلك القبيح، وفيمن عنى بهذه الآية ثلاثة أقوال:
أحدها: إنهم الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة، والفاحشة كشف العورة، رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وزيد بن أسلم والسدي.
والثاني: إنهمن اللذين جعلوا السائبة، والوصيلة، والحام، وتلك الفاحشة، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: إنهم المشركون، والفاحشة: الشرك.(1/313)
قال الحسن وعطاء: والظاهر والله أعلم، أنها تصدق على ما هو أعم من ذلك، والمعنى: أنهم فعلوا ذنبًا قبيحًا متبالغًا في القبح اعتذروا عن ذلك بعذرين: الأول: أنهم فعلوا ذلك اقتداء بآبائهم لما وجدوهم مستمرين على فعل تلك الفاحشة، والثاني: أنهم مأمورون بها من جهة الله سبحانه وكلا العذرين في غاية البطلان والفساد؛ لأن وجود آبائهم على القبيح لا يسوغ لهم فعله، والأمر من الله سبحانه لهم لم يكن بالفحشاء، بل أمرهم بإتباع الأنبياء والعمل بالكتب المنزلة ونهاهم عن مخالفتها، ومما نهاهم عنه فعل الفواحش.
قال قتادة: والله ما أكره الله عبدًا قط على معصيته ولا رضيها ولا أمره بها؛ ولكن رضي لكم طاعته ونهاكم عن معصيته، والحاصل: أن الأمرين باطلان؛ لأن الأول تقليدًا للآباء، والثاني: افتراء على ذي الجلال والإكرام.
ولهذا رد الله عليهم سبحانه هذه النسبة بأن أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } ، فالفحشاء في طبيعتها: تجاوز واعتداء على حدود الله، فهل يأمر الله بالاعتداء على حدوده، حاشا وكلا سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، إنما الذي يأمر بالفحشاء هو الشيطان، كما جاء في قوله تعالى: { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ } .(1/314)
ثم أنكر عليهم من وجه آخر: أي أتسندون إلى الله ما لا تعلمون صحته، وهذا من تمام ما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم، وفيه من التوبيخ والتقريع أمر عظيم، فإن القول بالجهل إذا كان قبيحًا في كل شيء فكيف إذا كان في التقول على الله، وإن في هذه الآية لأعظم زاجر وأبلغ واعظ للمقلدة الذين يتبعون آباءهم في الطرق المخالفة، فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر لا بأهل الحق فإنهم القائلون: { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } ، والقائلون: { وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا } .
ولما بين جل وعلا أنه لا يأمر بالفحشاء وهو اسم جامع للقبائح والسيئات عقبه ببيان ما يأمر به من القسط وهو اسم جامع لجميع الخيرات، فقال: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } أي بالعدل والاستقامة، { وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } ، قيل فيه وجوه:
أحدها: أن معناه توجهوا حيث ما كنتم في الصلاة إلى الكعبة، وهذا قول مجاهد والسدي وابن زيد.
والثاني: إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد، فصلوا فيه ولا يقولن أحدكم أصلي في مسجدي، قاله ابن عباس والضحاك واختاره.
والثالث: اجعلوا سجودكم لله خالصًا دون غيره، قاله الربيع ابن أنس.
والرابع: أن معناه: اقصدوا المسجد في وقت كل صلاة أمرًا بالجماعة لها، فيكون من جملة الأدلة الدالة على وجوب صلاة الجماعة.
وقوله: { وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } هذا أمر منه تعالى بالدعاء والتضرع على وجه الإخلاص، وهو شامل لدعاء المسألة، وهو أن يسأل الإنسان ربه بلسان مقاله، وشامل لدعاء العباد، وهو أن يسأل بلسان حاله، كما إذا صلى، وزكى، وصام، وحج راجيًا من الله الثواب.(1/315)
قال ابن القيم: والدعاء ثلاثة أقسام: أحدها: أن تسأل الله بأسمائه وصفاته، والثاني: أن تسأله بحاجتك وفقرك، وذلك فتقول: أنا العبد الفقير المسكين البائس الذليل المستجير ونحو ذلك، والثالث: أن تسأل حاجتك ولا تذكر واحدًا من الأمرين، والأول أكمل وهذه عامة أدعية النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا القول قد جاء عن غير واحد من السلف، قال الحسن البصري: «اللهم» مجمع الدعاء، وقال أبو رجاء العطادري: إن الميم في قوله اللهم فيها تسعة وتسعون اسمًا من أسماء الله تعالى، وقال النضر بن شميل: «من قال اللهم» فقد دعا الله بجميع أسمائه. اهـ.
قوله: { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } قيل: في وجه اتصاله بما قبله وجوه: أحدها: أن معناه وادعوه مخلصين فإنكم مبعوثون ومجازون، وإن بعد ذلك في عقولكم، فاعتبروا في الابتداء واعلموا أنه كما بدأكم في الخلق الأول، فإنه يبعثكم فتعودون إليه في الخلق الثاني، والثاني: أنه يتصل بقوله: { فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } ، فقال: { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } أي فليس بعثكم بأشد من ابتدائكم، عن الزجاج قال: وإنما ذكره على وجه الحجاج عليهم؛ لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث، والثالث: أنه كلام مستأنف أي يعيدكم بعد الموت فيجازيكم.(1/316)
قال قتادة: بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئًا ثم ذهبوا ثم يعيدهم، كما قال: { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } ، وقيل: معناه كما بدأكم لا تملكون شيئًا كذلك تبعثون يوم القيامة عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إنكم محشورون حفاة عراة غرلا»، ثم قرأ: { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } الحديث متفق عليه، وقيل: معناه تبعثون على ما أنتم عليه المؤمن على إيمانه، والكافر على كفره، قال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ } ، قال ابن كثير: ويتأيد هذا القول بحديث ابن مسعود في «صحيح البخاري»: «فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة».
وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن العبد ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل الجنة، وإنه من أهل النار، وإنه ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل النار، وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم».
وعن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «تبعث كل نفس على ما كانت عليه» وهذا الحديث رواه مسلم، وابن ماجه من غير وجه عن الأعمش به، ولفظه: «يبعث كل عبد على ما مات عليه».
وعن ابن عباس مثله، قلت: ويتأيد بحديث ابن مسعود، قلت: ولابد من الجمع بين هذا القول إن كان هو المراد من الآية وبين قوله تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } .(1/317)
وما جاء في «الصحيحين»: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه».
وفي «صحيح مسلم» عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم» الحديث، ووجه الجمع على هذا أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر في ثاني الحال، وإن كان قد فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده، والعلم بأنه لا إله غيره كما أخذ عليهم الميثاق بذلك، وجعله في غرائزهم وفطرهم ومع هذا قدر أن منهم شقي ومنهم سعيد { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ } .
وفي الحديث: «كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها»، وقدر الله نافذ في بريته، فإنه هو الذي قدر فهدى، والذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
وفي «الصحيحين»: «فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، و أما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة» انتهى.
وقوله تعالى: { فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ } يعني هداهم الله إلى الإيمان به، ومعرفته ووفقهم لطاعته وعبادته، وفريقًا وجبت عليهم الضلالة بما تسببوا لأنفسهم وعملوا بأسباب الغواية، وفيه دليل على أن الهداية والضلالة من الله عز وجل.
روي عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل» أخرجه الترمذي.(1/318)
أما العلة في استحقاقهم للضلالة فهو توليهم الشيطان عدو الإنسان، المعنى أن الذين حق عليهم الضلالة اتخذوا الشياطين نصراء وأعوانًا وأطاعوهم فيما أمروهم به من الكفر والمعاصي، ومن يتخذ الشيطان وليًا من دون الله فقد خسر خسرانًا مبينًا، فحين انسلخوا من ولاية الرحمن واستحبوا ولاية الشيطان حصل لهم النصيب الوافر من الخذلان، ووكلوا إلى أنفسهم فخسروا أشد الخسران، ومع ذلك يحسبون أنهم يحسنون صنعًا؛ لأنهم انقلبت عليهم الحقائق فظنوا الباطل حقًا والحق باطلاً، وفي هذه الآيات دليل على أن الأوامر والنواهي تابعة للحكمة والمصلحة حيث ذكر تعالى أنه لا يتصوران يأمر بما تستفحشه وتنكره العقول، وأنه لا يأمر إلا بالعدل والإخلاص، ولما تقدم ذكر ما أنعم به سبحانه على عباده من اللباس أمرهم في أثرهم بتناول الزينة والتستر والاقتصاد في المأكل والمشرب، فقال: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } .
سبب نزول هذه الآية:
ما ورد عن ابن عباس، قال: كان ناس من الأعراب يطوفون بالبيت عراة، حتى إن كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة، فتعلق على سفليها سيورًا مثل هذه السيور التي تكون على وجوه الحمر عن الذباب، وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله
فأنزل الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم -: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } فأمروا بلبس الثياب.
وفي هذه الزينة المذكورة في الآية أقوال:
أحدها: أنه ورد في ستر العورة في الطواف، قاله ابن عباس والحسن في جماعة.
والثاني: أنه ورد في ستر العورة في الصلاة، قاله مجاهد والزجاج.
والثالث: أنه ورد في التزين بأجمل الثياب في الجمع والأعياد.(1/319)
ولهذه الآية وما ورد في معناها من السُّنة يستحب التجمل عند الصلاة، ولاسيما يوم الجمعة ويوم العيد، وكذا يستحب الطيب؛ لأنه من الزينة والسواك؛ لأنه من تمام ذلك، ومن أفضل اللباس البياض، كما ورد عن ابن عباس مرفوعًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم، وإن خيرًا كحالكم الإثمد، فإنه يجلو البصر وينبت الشعر» هذا حديث جيد الإسناد رجاله على شرط مسلم، ولأحمد أيضًا وأهل السنن بإسناد جيد عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بثياب البياض فالبسوها، فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم».
وروى الطبراني بسند صحيح عن قتادة عن محمد بن سيرين: أن تميمًا الداري اشترى رداء بألف، وكان يصلي فيه.
وقوله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا } هذا أمر منه جل وعلا بالأكل والشرب مما رزقنا من الطيبات، ونهى عن الإسراف، فلا زهد في ترك مطعم ولا مشرب، وتاركه بالمرة قاتل نفسه، وهو من أهل النار، كما صح في الأحاديث الصحيحة، والمقلل منه على وجه يضعف البدن ويعجز عن القيام بما يجب عليه القيام به من طاعة أو سعي على نفسه، وعلى من يعول مخالف لما أمر الله به وأرشد إليه، والمسرف في إنفاقه على وجه لا يفعله إلا أهل السفه والتبذير مخالف لما شرعه الله لعباده، واقع في النهي القرآني، وهكذا تحريم الحلال وإحلال الحرام، ومن الإسراف بذل المال فيما حرم الله كالزنا، واللواط، والخمر، وآلات اللهو، والصور لذوات الأرواح، وحلق اللحا، والدخان، ونحو هذه من المعاصي والمنكرات التي أضعفت الإيمان والأبدان، وضاعت فيها الأموال والأوقات، نسأل الله أن يعصمنا وإخواننا المؤمنين منها.(1/320)
وضابط الإسراف أنه إما أن يكون بزيادة على القدر الكافي والشره في المآكل والمشارب التي تضر بالجسم، وإما أن يكون بزيادة الترفه والتأنق في المآكل والمشارب واللباس والمسكن، وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام، والمعول عليه في الإنفاق في كل طبقة من الناس عرف المعتدلين فيها، فمن تجاوز طاقته مباراة لمن هم أغنى منه وأقدر كان مسرفًا، وكم جر الإسراف إلى خراب بيوت عامرة، ولاسيما في المهور، وتجهيز العرائس، وهذا السرف كبير الضرر عظيم الخطر على الأمم أكثر من ضرره على الأفراد، ولاسيما في البلاد التي تأتي إليها أنواع الزينة من البلاد الأجنبية، إذ تذهب الثروة إلى غير أهلها، وربما ذهبت إلى من يستعين بها على استذلالهم والعدوان عليهم، والخلاصة: أن الطعام والشراب من ضرورات الحياة الحيوانية.
قال ابن عباس: أحل الله في هذا الآية الأكل والشرب ما لم يكن سرف أو مخيلة، قال القرطبي: فأما ما تدعو الحاجة إليه، وهو ما سكن الظمأ وسد الجوع فمندوب إليه عقلاً وشرعًا لما فيه من حفظ النفس وحراسة الحواس، ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال؛ لأنه يضعف البدن ويميت النفس، ويضعف عن العبادة، وذلك يمنع منه الشرع ويدفعه العقل، وليس لمن منع نفسه قدر الحاجة حظ من بر ولا نصيب من زهد؛ لأن ما حرمها من فعل الطاعة بالعجز والضعف أكثر ثوابًا وأعظم أجرًا، وقد اختلف في الزائد على قدر الحاجة على قولين، فقيل: حرام، وقيل: مكروه.
قال ابن العربي، وهو الصحيح: فإن قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان والأسنان والطعمان، ثم قيل: في قلة الأكل منافع كثيرة، منها:
1- أنه يكون الرجل أصح جسمًا. 2- أجود حفظًا. 3- أزكى فهمًا؛ لأن البطنة كما قيل: تذهب الفطنة. 4- أقل نومًا. 5- أخف نفسًا.(1/321)
وفي كثرة الأكل مضار عديدة، منها: إضعاف المعدة، ونتن التخمة وما ينشأ عنها من العلل والأسقام والأمراض المختلفة، فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه المقلل من الأكل، وقال بعض الحكماء: أكبر الدواء تقدير الغذاء.
وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى بيانًا شافيًا يغني عن كلام الأطباء، فقال: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» أخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معد يكرب.
قال علماؤنا: لو سمع بقراط هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة.
ويذكر أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسين: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان، وعلم الأبدان، فقال له علي بن الحسين: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا، فقال: ما هي؟ قال: قوله عز وجل: { َكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا } ، فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شيء من الطب، فقال له علي بن الحسين: جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطب في ألفاظ يسيرة، قال: ما هي؟ قال: «المعدة بيت الداء، والحمية رأس كل دواء، واعط كل جسم ما عودته»، فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبًا، قلت: ويقال: إن معالجة المرضى نصفان: نصف دواء ونصف حمية، فإن اجتمعا فكأنك بالمريض قد برأ وصح، وإلا فالحمية به أولى، إذ لا ينفع دواء مع ترك الحمية، ولقد تنفع الحمية مع ترك الدواء؛ ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أصل كل دواء الحمية»، والمعنى بها والله أعلم: أنها تغني عن كل دواء، ولذلك يقال: إن أهل الهند جل معالجتهم الحمية، يمنع المريض من الأكل والشرب والكلام عدة أيام، فيبرأ.(1/322)
وروى مسلم عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في معي واحد» وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - على التقلل من الدنيا، والزهد فيها، والقناعة بالبلغة.
وقد كانت العرب تمتدح بقلة الأكل وتذم بكثرته، كما قال قائلهم:
تكفيه فلذة كبد أن ألم بها ... من الشواء ويروي شربه الغمر
وقال طبيب ينصح ابنه:
لا تأكلن في كل يوم إلا مرة ... واحذر طعامًا قبل هضم طعام
وقال القحطاني:
أقل طعامك ما استطعت فإنه ... نفع الجسوم وصحة الأبدان
وقالت أم زرع في ابن أبي زرع: ويشبعه ذراع الجفرة.
وقال حاتم الطائي يذم بكثرة الأكل:
فإنك إن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
وقال الخطابي: معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن يأكل في معي واحد»، أنه يتناول دون شبعه، ويؤثر على نفسه، ويبقى من زاده لغيره فيقنعه ما أكل، والتأويل الأول أولى، والله أعلم.
وقيل: ليس على عمومه؛ لأن المشاهدة تدفعه، فإنه قد يوجد كافر أقل أكلاً من مؤمن، ويسلم الكافر فلا يقل أكله ولا يزيد، وقيل: هو إشارة إلى معين.
ضاف النبي - صلى الله عليه وسلم - ضيف كافر، يقال له إنه: الجهجاه الغفاري، وقيل: ثمامة بن إثال، وقيل: نضله بن عمرو الغفاري، وقيل: بصرة بن أبي بصرة الغفاري، فشرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح، فأسلم، فشرب حلاب شاة فلم يستتمه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فكأنه قال: هذا الكافر، والله أعلم.
وقيل: إن القلب لما تنور بنور التوحيد نظر إلى الطعام بعين التقوي على الطاعة، فأخذ منه قدر الحاجة، وحين كان مظلمًا بالكفر كان أكله كالبهية ترتع حتى تثلط. اهـ بتصرف.(1/323)
والخلاصة: أن الله عز وجل وعلا نهى عن الإسراف في الأكل والشرب، ولو لم يكن فيه إلا أنه ينشأ عنه كثرة الشرب، وذلك يثقل المعدة ويثبط الإنسان عن خدمة الله، والأخذ بحظه من نوافل الخير، فإن تعدى ذلك إلى ما فوقه مما يمنعه القيام بالواجب عليه، حرم عليه، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه.
روى أسد بن موسى من حديث عون بن جحيفة، عن أبيه قال: أكلت بلحم سمين، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أتجشأ، فقال: «أكفف عليك من جشائك يا أبا جحيفة، فإن أكثر الناس شبعًا في الدنيا، أطولهم جوعًا يوم القيامة» فما أكل أبو جحيفة بملء بطنه حتى فارق الدنيا، وكان إذا تغدى لا يتعشى، وإذا تعشى لا يتغدى.
وذكر ابن عبدالبر وغيره أن عمر - رضي الله عنه - خطب يومًا، فقال: إياكم والبطنة، فإنها مكسلة عن الصلاة، مؤذية للجسم، وعليكم بالقصد في قوتكم، فإنه أبعد عن الأشر، وأصح للبدن، وأقوى على العبادة، وإن امرءًا لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.
وقال علي - رضي الله عنه -: المعدة حوض البدن، والعروق واردة عليها وصادرة منها، فإذا صحت صدرت العروق عنها بالصحة، وإذا سقمت صدرت العروق بالسقم.
وقال الفضيل بن عياض: ثنتان يقسيان القلب: كثرة الكلام، وكثرة الأكل.
وقال لقمان لابنه: لا تأكل شيئًا على شبع، فإنك إن تتركه للكلب، خير لك من أن تأكله.
إذا تقرر هذا، فاعلم أنه يستحب للإنسان غسل يديه قبل الأكل وبعده؛ لقوله - عليه السلام -: «الوضوء قبل الطعام وبعده بركة»، ويسمي في أول الطعام ويحمد في آخره؛ لما ورد عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى، فإن نسي أن يذكر الله تعالى في أوله، فليقل: بسم الله أوله وآخره» رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.(1/324)
وعن أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع مائدته قال: «الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه غير مكفي، ولا مستغني عنه ربنا» رواه البخاري.
ولا ينبغي أن يرفع صوته بالحمد إلا أن يكون جلساؤه قد فرغوا من الأكل؛ لأن في رفع الصوت منعًا لهم عن الأكل، كغسل اليدين وهم يأكلون ونحو ذلك من الأفعال والإشارات التي يفهم منها الحث على القيام.
قال بعضهم:
لا يبصر القوم في مغناك رفع يد
ولا يكن ذاك إلا بعد كفهم
فإن تقريب خدام الفتى حرضا ... عن الطعام إلى أن يرفع السور
أكفهم ويسير الفعل ميسور
والضيف يأكل رأي منه مخسور
وعن معاذ بن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أكل طعامًا، فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا، ورزقني من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه» رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن.
ويستحب أن يأكل بيمينه ومما يليه؛ لما ورد عن عمرو بن أبي سلمة، قال: كنت غلامًا في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا غلام، سم الله، وكل مما يليك» متفق عليه.
وعن سلمة بن الأكوع أن رجلاً أكل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بشماله، فقال: «كل بيمينك»، قال: لا أستطيع، قال: «لا استطعت فما رفعها إلى فيه» رواه مسلم.
ويستحب الأكل من جانب الإناء الذي فيه الطعام، والنهي عن الأكل من وسطها، لما ورد عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «البركة تنزل وسط الطعام، فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه» رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.(1/325)
ويستحب الأكل بثلاث أصابع، ولعقها؛ لما ورد عن كعب بن مالك قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرغ لعقها، وكما يستحب الأكل باليمين، يستحب الشرب بها لما في «صحيح مسلم» عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله».
ومن الآداب أن لا يكثر النظر إلى وجوه الآكلين؛ لأنه مما يحشمهم، ويدل على بخل الناظر، بل الأولى أن يبعد عنهم ويطفي النور قليلاً ليأخذ الجائع نصيبه من الطعام، كما هي عادة الكرماء، ولا يتكلم على الطعام بما يستقذر من الكلام، ولا بما يضحكهم خوفًا عليهم من الشرق والغفلة عن شكر الله، ولا بما يحزنهم لئلا ينغص على الآكلين أكلهم، ولا يمد يده قبل الآكلين؛ لأن هذا دليل شره وجشع، وكان العرب يذمون المستعجل، قال الشاعر:
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن ... بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
ويقول الآخر:
وإني لأستحيي صحابي أن يروا
وإنك مهما تعطي بطنك سؤله ... مكان يدي في جانب الزاد أقرعا
وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
ولا يقوم بسرعة قبل أن يقضوا نهمتهم؛ لأن في ذلك إساءة أدب، وربما حضره فقراء فقاموا حياءً، ولكن إذا تأملت الذي يفعل ذلك أي القيام بسرعة وجدته غالبًا جاهلاً متكبرًا.
ويكره أكل البقلة الخبيثة، وهي: الثوم والبصل والكراث لكراهة ريحه، ولاسيما في حق الرجال؛ لما ورد عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أكل ثومًا أو بصلاً فليعتزلنا، أو فليعتزل مسجدنا»، وفي رواية لمسلم: «من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقرب مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم».(1/326)
وقوله: { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ } أي إن الله لا يحب المعتدين حده في حلال أو حرام، الغالين فيما أحل الله أو حرم بإحلال الحرام وبتحريم الحلال، ولكن يجب أن يحلل ما أحل، ويحرم ما حرم، وذلك العدل الذي أمر به.
قوله تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } .
في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المشركين عيروا المسلمين، إذا لبسوا الثياب في الطواف، وأكلوا الطيبات، فنزلت، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنهم كانوا يحرمون أشياء أحلها الله من الزروع وغيرها، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: أنها نزلت في طوافهم بالبيت عراة، قاله طاووس وعطاء، وفي { زِينَةَ اللَّهِ } قولان:
أحدهما: أنها ستر العورة، فالمعنى من حرم أن تلبسوا في طوافكم ما يستركم.
والثاني: أنها زينة اللباس.
وفي الطيبات قولان:
أحدهما: أنها الحلال، والثاني: المستلذ.
ثم فيما عنى بها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها البحائر والسوائب والوصائل والحوامي، التي حرموها، قاله ابن عباس.
والثانية: أنها السمن والألبان واللحم، وكانوا حرموه في الإحرام، قاله ابن زيد.
والثالث: الحرث والأنعام والألبان، قاله مقاتل.
المعنى:(1/327)
يأمر الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل سؤال إنكار: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، وعلمهم طرق صنعتها بما أودع في فطرهم من حبها، والميل إلى الافتنان في استعمالها، إذ خلقهم مستعدين لإظهار بعض آياته فيما خلق في هذا العالم الذي يعيشون فيه، بما أودع في غرائزها من الميل إلى البحث في كشف المجهول، والإطلاع على خفايا الأمور، فهم لا يدعون شيئًا عرفوه بحواسهم أو عقولهم حتى يبحثوه من طرق شتى، ووجوه لا نهاية لها، وغريزة حب الزينة التي أودع الله فيهم وحب التمتع بالطيبات كانت من أهم الأسباب في اتساع أعمال الفلاحة والزراعة وضروب الصناعة، واتساع وسائل العمران، ومعرفة سنن الله وآياته في الأكوان، وهما لا يذمان إلا بالإسراف فيهما والغفلة عن الشكر لله الذي أسدى إليهم نعمه، فمن تعنت وحرم ما أحل الله من الطيبات فهو مفتر على الله جل وعلا.
ولهذا قال الله تعالى في الآية الأخرى: { وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } ، وقال: { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } ، وقال: { قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } .(1/328)
وطلبهم في موضع آخر طلب إعجاز أن يأتوا بالشهداء الذين يشهدون لهم أن الله حرم هذا، ونهى نبيه - صلى الله عليه وسلم - إن شهد لهم شهود زور أن يشهد معهم، وهو قوله تعالى: { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُوا فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } .
والخلاصة: أن الدين الإسلامي يدعو إلى الكمال الروحي والسمو الخلقي مع العناية الجسم وبالنفس، وما تميل إليه ما دام في حدود الحلال.
وروي عن عمر: إذا وسع الله عليكم فوسعوا.
وروي عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب شيخ مالك - رضي الله عنهم - أنه كان يلبس كساء خز بخمسين دينار، يلبسه في الشتاء، فإذا كان في الصيف تصدق به أو باعه فتصدق بثمنه، وكان يلبس في الصيف ثوبين من متاع مصر ممشقين، ويقول: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } .
وقد دلت الآية الكريمة على جواز لباس الرفيع من الثياب، والتجمل بها في الجمع والأعياد، وعن لقاء الناس ومزاورة الإخوان، قال أبو العالية: كان المسلمون إذا تزاروا تجملوا.
وقد اشترى تميم الداري حلة بألف درهم كان يصلي فيها، وكان مالك بن دينار يلبس الثياب العدنية الجياد، وكان ثوب أحمد بن حنبل يشتري بنحو الدينار.
قال أبو الفرج بن الجوزي -رحمه الله-: وأنا أكره لبس الفوط والمرقعات لأربعة أوجه:
أحدها: أنه ليس من لبس السلف، وإنما كانوا يرقعون ضرورة.
والثاني: أنه يتضمن ادعاء الفقر، وقد أمر الإنسان أن يظهر أثر نعم الله عليه.
والثالث: إظهار التزهد، وقد أمرنا بستره.
والرابع: أنه تشبه بهؤلاء المتزحزين عن الشريعة، ومن تشبه بقوم فهو منهم.(1/329)
وقال أبو الفرج: وقد كان السلف يلبسون الثياب المتوسطة لا المترفعة ولا الدون، ويتخيرون أجودها للجمعة والعيد وللقاء الإخوان، ولم يكن تخير الأجود عندهم قبيحًا، وأما اللباس الذي يزري بصاحبه، فإنه يتضمن إظهار الزهد وإظهار الفقر، وكأنه لسان شكوى من الله، ويوجب احتقار الملابس، وكل ذلك مكروه منهي عنه.
وقال القرطبي: فإن قال قائل: تجويد اللباس هوى النفس، وقد أمرنا بمجاهدتها، وتزين لِلْخَلْقِ، وقد أمرنا أن تكون أفعالنا لله، لا للخلق.
فالجواب: ليس كل ما تهواه النفس يذم، وليس كل ما يتزين به للناس يكره، وإنما ينهى عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه، أو على وجه الرياء في باب الدين، فإن الإنسان يحب أن يرى جميلاً، وذلك حظ النفس لا يلام فيه، ولهذا يسرح شعره، وينظر في المرآة، ويسوي عمامته، ويلبس بطانة الثوب الخشنة إلى داخل وظهارته الحسنة إلى خارج، وليس في شيء من هذا ما يكره ولا يذم.
وقد روى مكحول عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرونه على الباب، فخرج يريدهم، وفي الدار كوة فيها ماء، فجعل ينظر في الماء، ويسوي لحيته ورأسه، فقلت: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟ قال: «نعم، إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ من نفسه، فإن الله جميل يحب الجمال».
وفي «صحيح مسلم» عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة، قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس».
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، تدل كلها على النظافة وحسن الهيئة.
وعن خالد بن معدان، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسافر بالمشط، والمرآة، والدهن، والسواك، والكحل.
وعن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر دهن رأسه، ويسرح لحيته بالماء.(1/330)
وعن ابن عباس، قال: كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكحلة يكتحل بها عند النوم ثلاثًا في كل عين.
قوله تعالى: { قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ } .
قال بعض المفسرين: خالصة نصب على الحال من لام مضمرة، تقديرها هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشتركة، وهي لهم في الآخرة خالصة، فحذفت اللام لوضوح معناها كما تحذف العرب أشياء لا يلبس سقوطها.
وقال المفسرون: إن المشركين شاركوا المؤمنين في الطيبات، فأكلوا وشربوا ولبسوا ونكحوا، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للمؤمنين وليس للمشركين فيها شيء، وقيل: خالصة لهم من ضرر أو إثم، وقرأ نافع (خالصة) بالرفع، قال الزجاج: ورفعها على أنها خبر بعد خبر، كما تقول: زيد عاقل لبيب.
والمعنى: قل أيها الرسول لأمتك: إن الزينة والطيبات من الرزق للذين آمنوا في الحياة الدنيا، ويشاركهم فيها غيرهم تبعًا لهم، وإن لم يستحقها مثلهم، وهي يوم القيامة خالصة لهم.
وقال بعض المفسرين للآية: إن مفهومها أن من لم يؤمن بالله، بل استعان بها على معاصيه فإنها غير خالصة له ولا مباحة، بل يعاقب عليها وعلى التنعم بها، ويسأل عن النعيم يوم القيامة. اهـ.
وقصارى ذلك أن الدين يورث أهله سعادة الدنيا والآخرة جميعًا، كما يدل على ذلك قوله تعالى: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى } ، وقوله: { وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا } ذاك أن المؤمن يزداد إيمانًا بربه وشكرًا له كلما عرف شيئًا من سننه وآياته في نفسه، أو في غيرها من الكائنات، ومن أهم أركان الشكر: استعمال النعمة فيما وهبها المنعم لأجله من شكر الجوارح، كشكر اللسان بالثناء عليه، وشكر سائر الأعضاء.(1/331)
كذلك ففي حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي والحاكم: «الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر»، والسر في هذا أن الأكل والشرب من الطيبات بدون إسراف هما قوام الحياة والصحة، وهما الدعامتان اللتان يتوقف عليهما القيام بجميع الأعمال الدينية والدنيوية من عقلية وبدنية، ولهما التأثير العظيم في جودة النسل الذي حث - صلى الله عليه وسلم - على السعي في تكثيره؛ لأن به يكثر سواد الأمة.
والملابس النظيفة الجيدة لها فوائد:
1- حفظ الصحة.
2- كرامة من يتجمل بها وتوقيره وتقديره، قال الشاعر:
تجمل بالثياب تعش حميدًا ... واجعل لباسك ما اشتهاه الناس
قوله: { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ، يقول تعالى ذكره: كما بينت وفصلت لكم الواجب عليكم في اللباس والزينة والحلال من المطاعم والمشارب والحرام منها، وميزت بين ذلك لكم أيها الناس، كذلك أبين جميع أدلتي وحججي، وإعلام حلالي وحرامي لقوم يعلمون، ما يبين لهم ويفقهون ما في تضاعيفها من المعاني الرائقة.
مما يفهم من هذه الآية الكريمة:
1- إثبات صفة الكلام لله.
2- منة الله على بني آدم بما يسره لهم من اللباس المواري للسوأة.
3- منة الله بما يسره من اللباس المعد للجمال.
4- إن لباس التقوى خير لباس.
5- إن اللباس ينقسم إلى قسمين: لباس حسي، ولباس معنوي.
6- وجوب ستر العورة.
7- بلاغة القرآن حيث أن خطابه عام لجميع أهل الأزمنة من المكلفين.
8- جواز توجيه الخطاب للمعدوم الذي سيوجد وتتكامل فيه شروط التكليف.
9- دليل على علو الله على خلقه.
10- إن في ذلك دلالة على أن الله الخالق الرازق.
11- دليل على قدرة الله واعتنائه ببني آدم.
12- تعليل الأحكام.
13- الحث على التذكر والاتعاظ والانزجار عن ما نهى الله عنه.
14- دليل على إباحة لباس الزينة والرغبة في استعمالها.
15- إن الإسلام دين الفطرة، وليس فيه ما يخالف ما تدعو الحاجة إليه.
16- الحث على شكر الله.(1/332)
17- الإشارة بالبعيد للتعظيم.
18- الحث على خشية الله ومراقبته.
19- لطف الله بخلقه حيث ستر عوارتهم باللباس.
20- في الآية رد على من أنكر صفة العلو.
21- في الآية رد على من أنكر صفة الكلام أو أولها بتأويل.
22- دليل على جود الله وكرمه.
الآية الثانية: قوله: { يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } .
مما يفهم من هذه الآية الكريمة:
1- إثبات صفة الكلام.
2- تكرير النداء للإيذان بكمال الاعتناء بمضمون ما صدر به.
3- التحذير من محن الشيطان وفتنه.
4- إن الشيطان لبني آدم عدو مبين.
5- إن الشيطان يفتن من لم يعصمه الله منه.
6- الاعتبار بالجولة الأولى التي انتهت بالفتنة، والخروج من الجنة، ونزع اللباس، وانكشاف السوآت.
7- إن الشيطان هو السبب في نزع لباس آدم وحواء عنهما.
8- الإتيان بصيغة المضارع لاستحضار الصورة التي وقعت فيما مضى.
9- إثبات الجن.
10- الرد على من أنكرهم من الزنادقة والفجرة المكذبين لله وللرسول وللمؤمنين.
11- إن الشيطان هو الذي أخرج الأبوين من الجنة.
12- إنه يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم.
13- وجوب الاحتراز من إبليس وجنوده.
14- إن الشيطان له أعوان يساعدونه على إغواء بني آدم.
15- إثبات الجنة وأنها حق.
16- إن الجنة موجودة.
17- تكرير النداء في مقام الوعظ والتذكير اقتداء بالقرآن الكريم.
18- تعليل الأحكام.
19- إن الشيطان يعجز البشر، وليس لهم قدرة على دفع أذاه إلا بمعونة الله والالتجاء إليه، وإلا بتذكره وتقواه، والله ولي المؤمنين.
20- إن عدم الإيمان هو الموجب لعقد الولاية بين الإنسان والشيطان.
21- إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا.(1/333)
22- تأكيد التحذير إثر تأكيد.
23- جواز توجيه الخطاب للمعدوم الذي سيوجد؛ لأن الخطاب عام للموجد وقت النزول وبعده إلى آخر الدنيا.
24- لطف الله بخلقه حيث حذرهم من إبليس وأعوانه.
25- أن لله الحجة البالغة، ولا عذر لمن اتبع عدو الله إبليس.
26- دليل على أن الجد يسمى أبًا وإن علا؛ لقوله: { كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم } .
مما يفهم من قوله تعالى: { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } :
1- إثبات صفة الكلام لله.
2- ذكر أثر من آثار ولاية الشيطان للذين لا يؤمنون.
3- إن المشركين إذا فعلوا فعلة قبيحة ينكرها الشرع، ويأباها العقل السليم، يعتذرون بمعاذير في غاية البطلان.
4- إن المشركين يفترون على الله الكذب.
5- ذم الاقتداء بالآباء الضالين.
6- إن ما كان يفعله المشركون من كشف العورة من الفاحشة.
7- إن الله لا يأمر بالفحشاء.
8- إثبات الألوهية.
9- إثبات الرسالة والرد على منكرها.
10- الإنكار على من قال على الله بلا علم.
11- تحريم القول على الله بلا علم.
12- إن القائل هذه المقالة ونحوها لم يقدر الله حق قدره.
13- دليل على حلم الله، حيث لم يعاجل المتهورين في القول على الله، الكاذبين عليه.
14- إن هذه من آفات اللسان.
15- الاحتراز من آفات اللسان.
16- وجوب إتباع الكتاب والسُّنة والرجوع إليهما في القليل والكثير، وترك ما خالفهما.
17- رد على الحبرية حيث قالوا: إن أفعال العباد مجاز.
18- الرد على من قال إن القرآن كلام محمد - صلى الله عليه وسلم -.
19- الرد على من قال إنه كلام الله النفسي.
20- إن المشركين لا ينكرون وجود الله، كما يفعله الدهريون قديمًا وحديثًا.(1/334)
{ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } .
هذه الآية الرابعة وفيها:
1- إن الله أمر بالعدل والاستقامة.
2- إثبات الربوبية.
3- الحث على التوجه في الصلاة إلى الكعبة.
4- الحث على الإخلاص.
5- دليل على وجوب صلاة الجماعة في المسجد.
6- الحث على الدعاء على وجه الإخلاص.
7- النهي عن الشرك.
8- النهي عن الجور والظلم؛ لأنه ضد ما أمر الله به.
9- إن الدعاء ينفع.
10- دليل على البعث.
11- إن الله هو الذي بدأ الخلق.
12- دليل على قدرة الله التي لا يعجزها شيء، الحث على التأهب لذلك اليوم والاستعداد له.
13- إثبات صفة الكلام لله.
14- الرد على من أنكر هذه الصفة.
15- إثبات علم الله في المستقبل.
16- الرد على من أنكر صفة العلم كالجهمية والقدرية.
17- قياس الإعادة على الابتداء.
18- إن الناس يعودون فريقين سعداء وأشقياء، والفريق الذي هداه الله هم المؤمنون بالله، المتبعون لأنبيائه، والفريق الذي حقت عليه الضلالة هم الكفار.
19- إن الهداية والإضلال بيد الله، كما قال تعالى: { مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًا مُّرْشِدًا } .
20- بيان العلة وأن السبب في ذلك أنهم أطاعوا الشيطان في معصية الله.
21- إنهم مع ضلالتهم يظنون ويحسبون أنهم على هداية وحق.
22- دليل على أن الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق والجاحد المعاند في الكفر سواء.(1/335)
23- دليل على خطأ قول من ز عم أن الله تعالى لا يعذب أحدًا على معصية ارتكبها، أو ضلالة اعتقدها إلا أن يأتيها على علم منه بموضع الصواب، ووجه الدلالة، قوله: { وَيَحْسَبُونَ } ، والمحسبة: الظن لا العلم.
24- في الآية رد على الجبرية؛ لأن المشركين هم الذين اختاروا ولاية الشيطان على ولاية الرحمن.
25- الآية فيها حجة على أهل الاعتزال في كون الهداية والإضلال إلى الله جل وعلا.
26- في الآية دليل على أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في صحة الدين، بل لابد من الجزم والقطع؛ لأنه تعالى ذم الكافرين بأنهم يحسبون كونهم مهتدين، ولولا أن هذا الحسبان مذموم لما ذمهم بذلك.
27- ودلت الآية على أن كل من شرع في باطل فهو مستحق للذم سواء حسب كونه هدى أو لم يحسب ذلك.
28- في الآية ما يدل على شدة تمردهم وعنادهم حيث لم يعترفوا على أنفسهم بالضلالة.
29- دليل على لطف الله بخلقه حيث بين لعباده أن سبب الشقاوة اتخاذ الشياطين أولياء.
30- التحرز من الشيطان وجنوده.
هذه الآية الخامسة وفيها:
1- إثبات صفة الكلام لله.
2- جواز توجيه الخطاب الذي سيوجد.
3- في الآية رد على المشركين فيما كانوا يعتمدونه من الطواف بالبيت عراة.
4- استحباب التجمل عند الصلاة، ولاسيما يوم الجمعة ويوم العيد.
5- استحباب الطيب؛ لأنه من الزينة.
6- استحباب السواك؛ لأنه من تمام ذلك.
7- استحباب لبس النعال لما أخرجه ابن عدي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا زينة الصلاة»، قالوا: وما زينة الصلاة؟ قال: «البسوا نعالكم فصلوا فيها»، وأخرج ابن عساكر وغيره عن انس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في قوله سبحانه: { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ... } : «صلوا في نعالكم».
8- وجوب ستر العورة في الصلاة.
9- إباحة الأكل والشرب.
10- النهي عن الإسراف فيهما.(1/336)
11- لا يجوز تحليل الحرام؛ أنه إسراف وتعد لحدود الله.
12- لا يجوز تحريم الحلال؛ لأنه إسراف.
13- لا يجوز الإفراط في الطعام؛ لأنه يؤدي إلى التخمة التي ربما أدت إلى الموت أو الأمراض الخطرة، وهذا نوع من الإسراف وقد نهى الله عنه.
14- الأصل في جميع الأشياء الإباحة، إلا ما حظره الشارع.
15- إثبات الأفعال الاختيارية.
16- لطف الله بخلقه حيث أرشد إلى ما فيه صلاح أبدانهم.
17- إثبات حكمة الله.
18- الرد على الجهمية ونحوهم من المنكرين لصفة الكلام والمحبة وسائر الصفات.
19- في الآية وعيد وتهديد لمن أسرف؛ لأن من لم يحبه الله ليس بخير، وهو من المحرومين الخاسرين.
مما يفهم من الآية السادسة، وهي قوله تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } :
1- إثبات صفة الكلام لله.
2- الرد على من أنكرها.
3- الرد على من قال إن القرآن كلام محمد - صلى الله عليه وسلم -.
4- الإنكار على من يحرم على نفسه وعلى غيره الزينة.
5- إن الأصل في المأكولات والملبوسات الحل، إلا ما ورد الشرع بتحريمه.
6- لا يحل لأحد أن يحرم شيئًا تحريمًا دينيًا على عباد الله، أو يوجب عليهم شيئًا إلا بنص صريح عن الله ورسوله.
7- إن من تهجم على ذلك بأن حرم ما أحل الله، فقد تجرأ على الله، وأساء إلى عباد الله.
8- الإشارة إلى عظم شأن الدليل والبرهان في الدين.
9- سماحة الدين الإسلامي.
10- إن الملك للزينة وغيرها لله المالك لكل شيء.
11- إن العباد لا يملكون الأعيان ملكًا مطلقًا، وإنما يملكون التصرف فيها على مقتضى الشرع.(1/337)
12- إن الله هو المخرج للزينة الخالق لموادها، المعلم لطرق صنعها، قال تعالى: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } ، وقال: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } ، وقال: { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ } الآية.
13- إثبات قدرة الله.
14- لطف الله بخلقه حيث أخرج لهم رزقهم.
15- حلم الله حيث شملت رحمته ونعمته البر والفاجر، والعاصي والمطيع.
16- إن الجميع عبيد الله، والعبودية نوعان:
... النوع الأول: عبودية لربوبيته، فهذه مشتركة بين سائر الخلق، مسلم وكافر، بر وفاجر، فكلهم عبيد مربوبون كما في آية مريم: { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } .
... والنوع الثاني: عبوديته لألوهيته، وعبادته ورحمته، وهي عبودية أنبيائه وأوليائه، والمراد هنا بآية الأعراف العامة المشتركة بين الخلق.
17- خطأ من آثر اللباس الدني وهو يقدر على اللباس العالي والمتوسط، ومن ترك اللحم والفواكه مع الشهوة لها والقدرة عليها، خوفًا من عارض الشهوة.
قال بعض الأدباء:
أما الطعام فكل لنفسك ما اشتهيت ... واجعل لباسك ما اشتهاه الناس
18- إن الكفار يشاركون المؤمنين في طيبات الدنيا.
19- إنها خالصة يوم القيامة للمؤمنين.
20- إثبات القيامة والبعث، والحشر، والحساب، والجنة.
21- إن الله فصل وبين ما يجب في اللباس والحلال والحرام، المطاعم، والمشارب.
22- إن الأمر يحتاج إلى العلم به وإلى معرفة ما أحل الله وما حرم ليكون الناس على بصيرة وبينة من ذلك وعلم، فأما الذي حرمه الله حقًا، فليس هو الزينة المعتدلة من اللباس، وليس هو الطيب من الطعام والشراب، بل المحرم هو الإسراف.(1/338)
الآية السابعة: الفواحش: جمع فاحشة، وهي ما عظم جرمه وذنبه، كالكبائر التي بلغت الغاية في الفحش، وذلك كالزنا، واللواط، والكبر، والعجب، والرياء، والنفاق، والإثم، أي ما يوجب الإثم والذل، فيتناول كل معصية يتسبب عنها الإثم، والبغي بغير الحق، التعدي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم من غير أن يكون على جهة القصاص، والمماثلة، والشرك: دعوة الله ودعوة غيره معه، والسلطان: الحجة والبرهان.
ففي هذه الآية المحرمات الخمس التي اتفق على تحريمها الرسل والشرائع والكتب، وهي محرمات كل أحد، وفي كل حال لا تباح قط... والمراد بالتحريم هنا التحريم الشرعي لا الكوني القدري، وقوله: { وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } أي وحرم الشرك به بأن تجعلوا لله شريكًا ما لم ينزل به سلطانًا، وحرم سبحانه القول عليه بلا علم في أسمائه وصفاته وشرعه، وأصل الشرك والكفر: القول على الله بلا علم، فكل مشرك قائل على الله بلا علم دون العكس، إذ القول على الله بلا علم، قد يتضمن التعطيل والابتداع في الدين فهو أعم من الشرك والشرك فرد من أفراده، ورتب هذه المحرمات أربع مراتب وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريمًا وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريمًا من ذلك كله، وهو القول على الله بلا علم.
وقال بعض المفسرين: الجنايات محصورة في خمس أنواع:
1- الجنايات على الأنساب وهي المرادة بالفواحش.
2- الجنايات على العقول وهي المشار إليها بالإثم.
3- الجنايات على النفوس، والأموال، والأعراض، وإليها الإشارة بالبغي.
4- الجنايات على الأديان وهي من وجهين: إما طعن في توحيد الله، وإليه الإشارة بقوله: { وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ } .
5- وإما القول في دين الله من غير معرفة وإليه الإشارة بقوله: { وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .(1/339)
وهذه الخمسة أصول الجنايات، وأما غيرها فهي كالفروع، ومناسبة ذكرها هنا ما فيها من تحريم القول على الله بلا علم، ومنه القول على الله في أسمائه وصفاته بلا علم؛ لأن القول على الله بلا علم أشد من الشرك تحريمًا؛ لأن الله رتبها في الآية من الأدنى إلى الأعلى.
وقال ابن القيم - رحمه الله -: أصول المعاصي كلها كبارها وصغارها ثلاثة: تعلق القلب بغير الله، وطاعة القوة الغضبية، والقوة الشهوانية، وهي الشرك والظلم والفواحش، فغاية التعلق بغير الله: الشرك، وغاية القوة الغضبية: القتل، وغاية القوة الشهوانية: الزنا؛ ولهذا جمع الله الثلاثة في قوله: { وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ } .
وقال الشيخ - رحمه الله -: ظلم العبد نفسه يكون بترك ما ينفعها، وهي محتاجة إليه، وذلك فعل ما أمر الله به، وبفعل ما يضرها وذلك المعاصي كلها، كما أن ظلم الغير كذلك إما بمنح حقه أو التعدي عليه، فإن الله أمر العباد بما ينفعهمن ونهاهم عما يضرهم، وجاء القرآن بالأمر بالإصلاح والنهي عن الفساد والصلاح كله طاعة، والفساد كله معصية، وقد لا يعلم كثير من الناس ذلك على حقيقته، فعلى المؤمن أن يعلم أن الله يأمر بكل مصلحة وينهى عن كل مفسدة، وكل ما أمر الله به راجع إلى العدل، وكل ما نهى عنه راجع إلى الظلم، والظلم الذي حرمه الله على نفسه أن يترك حسنات المحسن فلا يجزيه بها أو يعاقب البريء على ما لم يفعله من السيئات أو يعاقب هذا بذنب غيره أو يحكم بين الناس بغير القسط، ونحو ذلك، وذلك لكمال عدله وحمده. اهـ.
من ما يفهم من الآية الكريمة:
1- الرد على من قال إن القرآن كلام مخلوق.
2- إثبات الربوبية.
3- تحريم الفواحش عامة.
4- أن الفواحش قسمان: ظاهرة وباطنة.
5- تحريم الإثم.
6- تحريم الزنا؛ لأنه فاحشة.
7- تحريم اللواط؛ لأنه فاحشة.(1/340)
8- تحريم البغي بغير حق.
9- إن القصاص بحق يجوز.
10- تحريم الشرك بالله.
11- أن العلة في ذلك أنه لم ينزل به سلطانًا.
12- تحريم القول على الله بلا علم.
13- في الآية رد على الجهمية المنكرين لصفة العلم.
14- في الآية رد على المعتزلة القائلين عليم بلا علم.
15- في الآية رد على الأشاعرة المنكرين لبعض الصفات.
16- أن التحريم والتحليل إنما يكون من عند الله.
17- شمول الشريعة لكل الأحكام.
18- الرد على من يقول بعدم كمال الشريعة الإسلامية.
19- الرد على من يطالب بالقوانين الوضعية، والأنظمة المخالفة للشرع.
20- الرد على المشركين القائلين بأن لأصنامهم ومعبوديهم شفاعة.
21- ضرر الشرك على الخلق.
22- إثبات صفة العلم.
23- الرد على من أنكر صفة العلم أو أولها بتأويل باطل.
24- إثبات صفة الكلام والرد على من أنكرها أو أولها بتأويل باطل.
25- قيام الحجة على الخلق.
26- تحريم السرقة؛ لأنها من الفواحش.
27- تحريم أكل الربا؛ لأنه من الفواحش.
28- تحريم أكل مال اليتيم؛ لأنه من الفواحش.
29- تحريم السحر؛ لأنه من الفواحش.
30- تحريم القذف بالزنا، أو اللواط؛ لأنه فاحشة.
31- تحريم شهادة الزور؛ لأنها فاحشة.
32- تحريم القتل؛ لأنه فاحشة.
33- تحريم التولي يوم الزحف؛ لأنه فاحشة.
34- تحريم إتيان المرأة في دبرها؛ لأنه فاحشة.
35- تحريم إتيان من حاضت؛ لأنه فاحشة.
36- تحريم سوء الظن بالله؛ لأنه فاحشة.
37- تحريم الطعن في الدين؛ لأن فاحشة.
38- تحريم سب الرسل؛ لأنه فاحشة.
39- أن الشرك جناية على الدين.
40- ترتيب المحرمات الخمس.
41- أنها حرام في كل زمان ومكان أي المحرمات الخمس.
42- أن البغي ينقسم محرم، وهو ما كان بغير الحق، وجائز وهو ما كان بحق.
43- تعظيم حرمة المسلم.
44- إن الفواشح تنقسم إلى قسمين: ظاهرة وباطنة، ظاهرة: كالزنا، وباطنة: كالكبر والعجب والحسد وسوء الظن.(1/341)
45- تحريم التعدي على الناس في أبدانهم وأموالهم؛ لأنه من البغي بغير الحق.
46- إن الجنايات على الأنساب تعتبر من الفواحش.
47- إن الشرك بالله جناية على الدين.
48- إن هذه الآية على إيجازها حوت أحكامًا كثيرة.
49- في الآية ناحية اقتصادية: ترك اللواط، والزنا، والقتل.
50- في الآية ناحية صحية ترك الزنا، واللواط، والقتل، والفواحش التي تبعث على الهموم وضعف الجسم أو هلاكه.
51- في الآية ناحية صحية واقتصادية ترك الخمر.
52- دليل على عظمة الله وإنه أحاط بكل شيء علمًا.
53- الحث على فعل الأوامر وترك النواهي.
54- إن القول على الله بلا علم أعظم من الشرك؛ لأن المحرمات في الآية مرتبة مبدوءة بالأسهل.
55- في الآية مناسبة لذكرها في كتاب التوحيد؛ لأن الله حرم القول عليه بلا علم، ومن ذلك القول عليه بأسمائه وصفاته.
56- إن القرآن شامل لجميع الأديان وناسخ لها.
57- في القرآن معجزة من المعجزات لتحقق مضار هذه التي نهى عنها.
58- إن الدليل على ذلك إن لم يحرم هذه المحرمات الخمس تجد الفساد منتشرًا في جميع أرجائه، وانظر ما حولك من البلدان المبيحة لذلك.
59- لطف الله بخلقه حيث أرشدهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم وأبدانهم.
60- قيام الحجة على الخلق.
61- الحث على الخوف من الله ومراقبته.
62- أن أوامر الله ونواهيه في غاية الحسن، فلا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر.
63- ناحية اجتماعية ترك البغي.
64- دليل على رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
65- الرد على من أنكر رسالته - صلى الله عليه وسلم -.
66- دليل على البعث والحساب والجزاء على الأعمال.
67- عظم حرمة المسلم وأن البغي عليه بغير حق انتهاك لما حرم الله.
68- إن الخلق لم يقدروا الله حق قدره، وإلا لما عصوه واقترفوا هذه المحرمات.
69- إن علم الباطن والظاهر عند الله سواء كله يعلمه الله.
70- إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغ الأمة ما أمر به.(1/342)
71- دليل لأهل السُّنة أن القرآن غير مخلوق وأنه منزل.
72- جواز القول بالشرع عن علم.
73- الحث على طلب العلم؛ ليسلم من القول على الله بلا علم.
74- أن ما لم يكن فاحشة فليس يدخل في المنهي عنه في الآية هذه.
75- ذم الجهل، والمأخذ من قوله: { وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
76- اتفاق التحريم الديني الشرعي والتحريم الكوني القدري.
77- دليل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى، وما أتى به فهو وحي من الله.
78- اعتناء الله سبحانه وتعالى ولطفه برسوله - صلى الله عليه وسلم -.
79- أن الخلق لم يتركوا بدون أوامر ونواهي.
80- أن أفعال العباد تصدر عنهم باختيارهم وإلا لما كان للأمر فائدة.
81- أن في القرآن تربية عالية وتوجيهات دينية.
82- أن القرآن نزل بالتدريج شيئًا فشيئًا، والدلالة من قوله: { يُنَزِّلْ } .
83- الرد على من قال إنه نزل دفعة واحدة.
84- بلاغة القرآن وفصاحته حيث أن الآية الواحدة القصيرة تحتوي على أحكام كثيرة.
85- أن في القرآن حكمًا وأسرارًا لا يفهمها إلا من وفقه الله لذلك، اللهم وفقنا لما وفقت له عبادك الصالحين.
86- بيان عجز الخلق وضعفهم وضيق علمهم وسعة علم الله.
87- دليل على علو الله على خلقه والدلالة مأخوذة من قوله ينزل.
88- إثبات الألوهية.
89- الرد على القدرية القائلين: إن العباد يخلقون أفعالهم؛ لأنهم مكذبون لله.
90- تحريم نسبة الولد إلى الله؛ لأنه فاحشة.
91- تحريم نسبة الزوجة إلى الله؛ لأنه فاحشة.
92- تحريم نسبة الفقر إلى الله؛ لأنه فاحشة.
93- تحريم نسبة البخل إلى الله؛ لأنه فاحشة.
94- تحريم تشبيه الله بخلقه؛ لأنه فاحشة.
95- تحريم نفي صفات الله؛ لأنه فاحشة.
96- تحريم الحكم بالقوانين الوضعية؛ لأنه فاحشة.
97- تحريم نسبة الظلم إلى الله؛ لأنه فاحشة.
98- تحريم نسبة التعب، أو النصب، أو اللغوب إلى الله؛ لأنه فاحشة.(1/343)
99- تحريم الكذب على الله؛ لأنه فاحشة.
100- تحريم إنكار البعث والحساب والجزاء على الأعمال؛ لأنه فاحشة.
بسم الله الرحمن الرحيم
امتنان الله على عباده ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
قال الله تعالى: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ } [التوبة: 128، 129].
يقول تعالى ممتنًا على عباده بما أرسل إليهم رسولاً من أنفسهم، أي من جنسهم وعلى لغتهم.
والآية بمعنى قوله: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ } ، وقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ } ، وقال جعفر بن أبي طالب النجاشي والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى: إن الله بعث فينا رسولاً منا نعرف نسبه وصفته، ومدخله ومخرجه، وصدقه وأمانته.
وقال سفيان بن عيينة، عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله تعالى: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } ، قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح».
وعن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، ولم يمسسني من سفاح الجاهلية شيء».(1/344)
وقال ابن عباس: ليس قبيلة من العرب إلا وقد ولدت النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال بعض العلماء: يعني من مضرها وربيعتها ويمانها، وهم القحطانية، فإن آمنة لها نسب في الأنصار، وإن كانت من قريش، والأنصار أصلهم من عرب اليمن من ولد قحطان بن سبأ، فعلى هذا القول يكون المقصود من قوله: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } ترغيب للعرب في نصره والإيمان به، فإنه تم شرفهم بشرفه، وعزتهم بعزه، وفخرهم بفخره.
قال الشاعر:
وكَمْ أبٍ قد علا بابنٍ ذرى شرفٍ ... كما عَلَتْ برسولِ اللهِ عَدْنانُ
وهو من عشيرتهم يعرفونه بالصدق والأمانة، والصيانة والعفاف، وطهارة النسب، والأخلاق الحميدة.
وعن واثلة بن الأسقع، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم».
عن العباس بن عبدالمطلب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قلت: يا رسول الله، إن قريشًا جلسوا يتذكرون أحسابهم بينهم، فقالوا: مثلك كمثل نخلة في كدية من الأرض، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فريقهم، وخير الفريقين، ثم تخير القبائل فجعلني من خير قبيلة، ثم تخير البيوت، فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسًا، وخيرهم بيتًا» أخرجه الترمذي.
وقيل: إن قوله سبحانه وتعالى: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } عام، فيكون المعنى على هذا القول: لقد جاءكم أيها الناس رسول من أنفسكم، يعني من جنسكم، بشر مثلكم، إذ لو كان من الملائكة لم يطيقوا التلقي عنه، وهذا من رحمة الله بهم، حيث كان من جنسهم، ولم يقل جل وعلا جاءكم رسول منكم، ولكن قال: { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } وهي أشد حساسية، وأعمق صلة، وأدل على نوع الوشيجة التي تربطهم به، فهو بضعة من أنفسهم تتصل بهم صلة النفس بالنفس، وهي أعمق وأحسن.(1/345)
وقوله تعالى: { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي يعز عليه الذي يعنت أمته ويشق عليها، فمن شفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمته كراهته أشياء مخافة أن يفرض عليهم ثم لا يطيقها كثير منهم، كما سنذكر بعضه من ذلك ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة - رضي الله عنها - أنه قال: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم، فاشقق عليه» الحديث رواه مسلم.
وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» رواه الجماعة.
وكانت عائشة - رضي الله عنها - تقول: جاء ثلاثة نفر إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادته، فلما أخبروا، كأنهم تقالوها، قالوا: فأين نحن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» الحديث متفق عليه.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول لمن يشدد على نفسه: «إن لأهلك عليك حقًا، وإن لضيفك عليك حقًا، وإن لنفسك عليك حقًا، فقم ونم وصم وأفطر، فإنك لا تدري يطول بك عمر فتعجز عن ذلك، فاكلفوا أيها الناس من العمل ما تطيقونه، فإن الله لا يمل حتى تملوا».
وكان - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا ما يقول لأصحابه: «ما تركت شيئًا يقربكم إلى الله تعالى إلا وقد أمرتكم به، ولا شيئًا يبعدكم عن الله ألا وقد نهيتكم عنه، فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم».
وقد ورد في الحديث: «أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته».(1/346)
وقال - صلى الله عليه وسلم - حين فرض الحج، وسأله رجل أكل عام يا رسول الله؟ قال: «لا، ولو قلت نعم لوجبت ولم تستطيعوا».
وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قومًا شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم».
قال أنس: ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة المسجد فرأى حبلاً ممدودًا بين الساريتين، فقال: «ما هذا؟» قالوا: حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال: «لا... حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد، فإن أحب الدين ما دام صاحبه عليه وإن قل».
وعن زيد بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ حجرة، فصلى فيها ليالي اجتمع عليه ناس ثم فقدوا صوته ليلة، فظنوا أنه نام فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم، فقال: «ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به» الحديث متفق عليه.
ولنهيهم عن الوصال في الصوم، ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - يسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه، وقال: «فأيكم ما صلى بالناس، فليتجوز، فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة».
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فاسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه».
وبينما هو يخطب إذا برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس لا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال: «مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه».(1/347)
وقوله تعالى: { حَرِيصٌ عَلَيْكُم } أي على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم، فيحب لكم الخير، ويسعى جهده في إيصاله إليكم، ويكره لكم الشر، ويسعى جهده في تنفيركم عنه، لا يلقى ربكم في المهالك ولا يدفع بكم إلى المهاوي، فإذا هو كلفكم الجهاد وركوب الصعاب فما ذاك من هوان بكم عليه، ولا بقسوة في قلبه وغلظة، إنما هي رحمة في صورة من صورها، رحمتكم من الذل والهوان، ورحمة بكم من الذنب والخطيئة، وحرص من على أن يكون لكم شرف حمل الدعوة، وحظ رضوان الله والجنة التي وعد المتقون، والنظر إلى وجه الله الكريم.
وإليك نماذج من حرصه - صلى الله عليه وسلم - على أمته، ونصحه لهم، وشفقته عليهم.
قال أبو ذر: لقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا.
وقال عمر بن الخطاب: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقامًا، فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه، رواه البخاري.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد بين النار إلا وقد بين لكم».
وعن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لم يحرم حرمة إلا وقد علم أن سيطلعها منكم مطلع، إلا وأني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النَّار كتهافت الفراش أو الذباب».(1/348)
وعن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه ملكان فيما يرى النائم، فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مثل هذا ومثل أمته، فقال: إن مثله ومثل أمته، كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة ولم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة، ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة، فقال: أرأيتم إن وردت بكم رياضًا معشبة، وحياضًا رواء، تتبعوني؟ فقالوا: نعم، قال: فانطلق بهم، فأوردهم معشبة، وحياضًا رواء، فأكلوا وشربوا وسمنوا، فقال لهم: ألم ألفكم على تلك الحال، فجعلتم لي إن وردت بكم رياضًا معشبة وحياضًا رواء أن تتبعوني؟ فقالوا: بلى، فقال: فإن بين أيديكم رياضًا هي أعشب من هذه، وحياضًا هي أروى من هذه، فاتبعوني، فقالت طائفة: والله لنتبعنه، وقالت طائفة: قد رضينا بهذا نقيم عليه.(1/349)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعينه في شيء، قال عكرمة: أراه قال في دم، فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، ثم قال: «أحسنت إليك؟» قال الأعرابي: لا، ولا أجملت، فغضب بعض المسلمين وهموا أن يقوموا إليه، فأشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن كفوا، فلما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبلغ إلى منزله دعا الأعرابي إلى البيت، فقال: «إنما جئتنا تسألنا فأعطيناك، فقلت ما قلت» فزاده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، وقال: «أحسنت إليك؟» فقال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك، فقلت ما قلت، وفي نفس أصحابك عليك من ذلك شيء، فإذا جئت، فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب عن صدورهم»، فقال: نعم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه، فقال ما قال، وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي، كذلك يا أعرابي؟» قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه، فاتبعها الناس فلم يزدها إلا نفورًا، فقال لهم صاحب الناقة: خلوا بيني وبين ناقتي، فأنا أرفق بها وأعلم بها فتوجه إليها وأخذ لها من قشام الأرض ودعاها حتى جاءت واستجابت، وشد عليها رحلها، وإني لو أطعتكم حيث ما قال لدخل النار».
ومن الأدلة على حرصه - صلى الله عليه وسلم - على هداية الخلق مغامرته بنفسه وأهله، وصبره على ما كان يلاقيه عند عرضه نفسه على القبائل، وما أوذي به حينما ذهب إلى أهل الطائف يدعوهم إلى الله، فقد خضبوا نعليه بالدماء، وأغروا به سفهاءهم.
ومن حرصه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يذهب إلى الأماكن التي تجمع الناس لتبليغهم دعوة الله.(1/350)
فقد أخرج الإمام أحمد عن رجل من بني مالك قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوق ذي المجاز يتخللها، يقول: «يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا»، قال: وأبو جهل يحثي عليه التراب، ويقول: لا يغوينكم هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم وتتركوا اللات والعزى، وما يلتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأخرج أحمد عن ربيعة بن عباد من بني الديل، وكان جاهليًا فأسلم، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية في سوق ذي المجاز، وهو يقول: «يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا»، والناس مجتمعون عليه ووراءه رجل وضيء الوجه، أحول ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فقالوا: هذا عمه أبو لهب.
وعن ابن عباس قال: لما أنزل الله { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصفا فصعده، ثم نادى يا صباحاه، فاجتمع الناس إليه بين رجل يأتيه وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا بني عبدالمطلب، يا بني فهر، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟» قالوا: نعم، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»، فقال أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلا لهذا، وأنزل الله: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } أخرجاه في «الصحيحين».
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية: { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعم وخص، فقال: «يا معشر قريش، أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك من النار، فإني والله لا أملك لكم من الله شيئًا، إلا أن لكم رحمًا سأبلها ببلاها».(1/351)
وقوله تعالى: { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } يخبر جل وعلا أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رءوف بالمؤمنين رحيم بهم، فهو - صلى الله عليه وسلم - شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم؛ ولهذا كان حقه - صلى الله عليه وسلم - مقدمًا على سائر حقوق الخلق، ومحبته مقدمة على محبة الولد والوالد، والمال والنفس، وواجب على الأمة الإيمان به وتعظيمه وتوقيره وتعزيزه.
قال الله تبارك وتعالى: { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } الآية.
وورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان آخذًا بيد عمر بن الخطاب، فقال: والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه»، فقال عمر: فأنت والله أحب إلى من نفسي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الآن يا عمر».
وقد ثبت في «الصحيح» عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم، حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين».
وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» الحديث رواه مسلم.
وقوله تعالى: { فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } .
المعنى، والله أعلم: فإن تولوا وأعرضوا عن الإيمان بك، والاهتداء بما جئتهم به، فامض على سبيلك وامض لأمرك، فإن الله يعينك عليهم ويكفيك أمر توليهم، وما يتبعه من عدواتهم وصدهم عن سبيله، وقد بلغت وما قصرت.(1/352)
وقوله: { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } أي لا معبود بحق إلا هو، ولكلمة الإخلاص أركان وشروط، فأركانها اثنان، نفي وإثبات، وحد النفي من الإثبات لا إله أي نافيًا جميع ما يعبد من دون الله، والإثبات إلا الله مثبتًا العبادة لله وحده لا شريك له في عبادته، كما أنه لا شريك له في ملكه.
وأما شروطها فسبعة، لا تصح هذه الكلمة ولا تنفع قائلها إلا إذا استجمعت له الشروط التي تلى:
الأول: العلم بمعناها نفيًا وإثباتًا، قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ } ، وقال: { إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } بقلوبهم معنى ما نطقوا به بألسنتهم، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة».
الثاني: اليقين: استيقان القلب بها، قال الله تعالى: { إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } إلى قوله: { أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أشهد أن لا إله إلا الله, وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة»، وقال - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة: «من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشره بالجنة» كلاهما في «الصحيح».
الثالث: الإخلاص، قال الله تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } ، وقال: { أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ } .(1/353)
وعن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ظننت يا أبا هريرة، أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك لما رأيت من حرصك على الحديث: أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه أو نفسه»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله».
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» رواه مسلم.
الرابع: الصدق، قال الله تعالى: { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ } .
عن ابن عباس قال: من جاء بلا إله إلا الله، وقال: { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ } .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله صدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار» متفق عليه.
وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يشهد أن لا إله إلا الله مستقيمًا بها قلبه» الحديث رواه مسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي علمه شرائع الإسلام: «أفلح إن صدق».
الخامس: المحبة، قال تعالى: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله» الحديث متفق عليه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه».(1/354)
السادس: الانقياد لها ظاهرًا وباطنًا، قال الله تعالى: { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى } ، وقال تعالى: { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ } ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به».
السابع: القبول لها، فلا يرد شيئًا من لوازمها ومقضياتها، قال تعالى: { وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } إلى قوله: { بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ } ، وقال أيضًا في حق من لم يقبلها: { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ } إلى قوله: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ } ولابد من المولاة لله، والمعادات لأجله.
قال الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } إلى قوله: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا } إلى آخر الآيات، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ } الآية، وقال: { لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ } الآية، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } إلى آخر السورة.(1/355)
وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضًا فكانت منها طائفة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» متفق عليه.
وقوله: { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } التوكل: اعتماد القلب على الله في جلب المنافع، ودفع المضار، مع الثقة بالله وفعل الأسباب.
المعنى: اعتمدت على الله، ووثقت به في جلب ما ينفع ودفع ما يضر { وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ } أي هو المالك لكل شيء الخالق للعرش؛ لأنه رب العرش العظيم، الذي هو سقف المخلوقات، وجميع المخلوقات من السموات والأرضين وما فيهما وما بينهما تحت العرش مقهورين، بقدرة الله التي لا يعجزها شيء، وعلمه محيط بكل شيء، وقدرته نافذة في كل شيء قدير، وهو على كل شيء وكيل.
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن أبي بن كعب، قال: «آخر آية نزلت من القرآن هذه الآية: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } إلى آخر السورة».
وعن أبي بن كعب - رضي الله عنه -: «أنهم جمعوا القرآن في المصاحف في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه -، فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبي بن كعب، فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة، ثم انصرفوا، فظنوا أنها آخر ما نزل، فقال لهم أبي: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقر أنى بعدها آيتين».
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
مما يفهم من آيات الدرس:
1- امتنان الله على عباده ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
2- أنه من جنسهم، وعلى لغتهم.(1/356)
3- أنه - صلى الله عليه وسلم - يشق عليه ما يعنت أمته.
4- أنه - صلى الله عليه وسلم - حريص على هداية الخلق.
5- أنه - صلى الله عليه وسلم - رءوف بالمؤمنين.
6- أنه - صلى الله عليه وسلم - رحيم بالمؤمنين.
7- إثبات الألوهية.
8- أن الله كاف من توكل عليه.
9- نفي الشريك لله والحث على التوكل على الله.
10- إثبات الربوبية.
11- إثبات رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
12- الرد على من أنكرها.
13- إن الله لم يهمل خلقه بلا رسل.
14- إثبات العرش.
15- دليل على عظمة العرش.
16- دليل على حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إعزاز أمته، وأنه ليس من الهين عليه أن تكون أمته ذليلة يعنتها أعداؤها بالسيطرة عليها والتحكم فيها.
17- أن دعاءه أمته وحثهم على الجهاد رأفة بهم لينالوا الدرجات العالية في جنات النعيم.
18- إن نسبه - صلى الله عليه وسلم - متشعب في جميع القبائل من العرب وبطونها.
19- أن هداية التوفيق والإلهام بيد الله.
20- أن ما على الرسول إلا البلاغ.
21- وأن من تولى وأعرض لا يضر إلا نفسه.
22- الحث على اللجأ إلى الله بالدعاء والإعانة، وهو الكافي والمعين.
23- فيه تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمأخذ من قوله تعالى: { فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ... } .
24- دليل على قدرة الله.
25- أن التوكل لا يجوز إلا على الله؛ لأنه عبادة.
26- تخصيص العرش بالذكر، قيل: لأنه أعظم المخلوقات، فيدخل ما دونه في الذكر من باب الأولوية، وقيل: خص بالذكر تشريفًا، كما يقال: بيت الله.
27- إثبات صفة الكلام لله.
28- الرد على من قال: إن القرآن كلام الله محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه المخاطب.
29- لطف الله بخلقه، إذ بعث فيهم هذا النبي الرءوف الرحيم.
30- في الآية ما يضطر الموفق حيث أتحفنا بإنزال كتابه وإرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى محبة الله جل وعلا.(1/357)
31- محبة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله اصطفاه لهداية الخلق.
32- دليل على علو الله على خلقه.
33- الحث على التخلق بالأخلاق الفاضلة، وفي الحديث: «الراحمون يرحمهم الرحمن».
34- أن في قوله: { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } ما يقتضي مدحًا لنسب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
35- أن ما ذكر الله من صفة نبيه حق وصدق.
36- أن عظمة العرش الذي هو مخلوق من مخلوقات الله دليل على عظمة الله. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
قال الله تعالى: { إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وَجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وَجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .(1/358)
لما كان بغي الناس في هذه الدنيا سببه إفراطهم في حبها والتمتع بزينتها، ضرب تبارك وتعالى مثلاً يصرف العاقل الموفق عن الغرور بها، ويرشده إلى الاعتدال في طلبها، والكف عن التوسع في الحصول على لذاتها بالبغي والظلم والفساد في الأرض، فشبه زهرتها وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض بماء أنزله من السماء فأنبتت به الأرض أزواجًا شتى من النبات، تشابكت واختلط بعضها ببعض على كثرتها واختلاف ألوانها وأنواعها من أصناف شتى مما يأكل الناس من زروع وثمار وما تأكل الأنعام من أب وقصب، كما قال في الآية الأخرى: { وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى } ، وقوله: { حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ } أي حتى إذا كانت متزخرفة في منظرها، واكتست في زينتها فصارت بهجة للناظرين ونزهة للمتفرجين وآية للمتبصرين، فصرت ترى لها منظرًا عجيبًا ما بين أخضر وأصفر وأبيض وغيره من سائر الألوان المختلفة كعروس جليت بالذهب والفضة، والجواهر والحلل المختلفة الألوان ذات البهاء والبهجة، { وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا } أي حصل معهم طمع بأن التمتع بثمراتها سيستمر ويدوم، وأنهم متمكنون من جذاذها وحصادها وادخار غلاتها، فبينما هم كذلك إذ نزل بها في تلك الحال أمرنا المقدر لهلاكها، فجاءتها جائحة وضربت زرعها بعاهة كجراد أو صقيع شديد أو ريح شديدة باردة، أو ريح سموم ليلاً وهم نائمون، أو نهارًا وهم غافلون فأيبست أوراقها وأتلفت ثمارها { فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا } أي يابسًا بعد الخضرة والنضارة { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ } أي كأن لم تكن بالأمس، وأصله من غنى بالمكان إذا أقام به.
وقال قتادة: معناه أن المتشبث بالدنيا يأتيه أمر الله وعذابه أغفل ما يكون.(1/359)
وقال بعض المفسرين في تأويل الآية: إن الحياة في الدنيا سبب لاجتماع المال وما يروق من زهرة الدنيا ويعجب، حتى إذا استتم ذلك عند صاحبه وظن أنه متمتع بذلك سلب عنه بموته أو بحادثة تهلكه، وقديمًا قيل:
إذا تم أمر بدا نقص ... ترقب زوالا إذا قيل تم
وقال آخر:
إذا كنت تهوى العيش فابغ توسطًا
توقى البدور النقص وهي أهلة ... فعند التناهي يقصر المتطاول
ويدركها النقصان وهي كوامل
كما أن الماء سبب لالتفاف النبات وكثرته، فإذا تزينت به الأرض، وظن الناس أنهم مستمتعون بذلك أهلكه الله، فعاد ما كان فيها كأن لم يكن، وهكذا الأمور بعد زوالها، كأنها لم تكن.
أعوام وصل كان ينسي طيبها
ثم انبرت أيام هجر أردفت
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... ذكر النوى فكأنها أيام
نحوي أسي فكأنها أعوام
فكأنها وكأنهم أحلام
وكما جاء في الحديث: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا، فيغمس في النار غمسة، فيقال له: هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، ويؤتى بأشد الناس عذابًا في الدنيا، فيغمس في النعيم غمسة، ثم يقال له: هل رأيت بؤسًا؟ فيقول: لا».
وقال تعالى إخبارًا عن المهلكين: { فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا } ، وقال تعالى في الآية الأخرى مخوفًا نزول العذاب في أوقات الغفلات إما حين النوم وإما وقت الضحى، إذ يكثر فيه تشاغل الناس باللذات: { أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } .(1/360)
ثم قال تعالى: { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ } أي كهذا المثل الواضح الذي يمثل حال الدنيا وغرور الناس فيها مع سرعة زوالها عنهم، وتعلق الآمال بها الخداعة، وتمسكهم وتوثقهم بمواعيدها الغرارة، وقد ضرب الله جل وعلا مثل الدنيا بنبات الأرض في غير ما آية في كتابه العزيز، فقال في «سورة الكهف»: { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا } .
وقال في «سورة الحديد»: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا } .
وقوله: { نُفَصِّلُ الآيَاتِ } أي الدالة على حقيقة التوحيد وأصول التشريع والآداب والمواعظ { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي يعملون أفكارهم فيما ينفعهم، وأما الغافل المعرض، فهذا لا تنفعه الآيات ولا يزيل عنه الشك البيان.
قال أحد المفسرين للآية: وهذا من التشبيه المركب، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها، وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطامًا بعدما التف وتكاثف، وزين الأرض بخضرته ورفيقه، والتنبيه على حكمة التشبيه أن الحياة صفوها شبيبتها كما أن صفو الماء في أعلى الإناء:
ألم تر أن العمر كأس سلافة ... فأوله صفو وآخره كدر
وحقيقة تزيين جثة الطين بمصالح الدنيا والدين كاختلاط النبات على اختلاف التكوين، فالطينة الطيبة تنبت بساتين الأنس ورياحين الروح وزهرة وكروم الكرم، وحبوب الحب، وحدائق الحقيقة، وشقائق الغريقة، والخبيثة تخرج خلاف الخلف، وثمام الإثم، وشوك الشرك، وشيح الشح، وحطب العطب، ولعاب اللعب.(1/361)
ثم يدعوه معاده كما يحين للحرث حصاده، فتزايله الحياة مغترًا كما يهيج النبات مصفرًا فتثبت جثته في الرمس، كأن لم تغن بالأمس، إلى أن يعود ربيع البعث، وموعد العرض والبحث، وكذلك حال الدنيا كالماء ينفع قليله ويهلك كثيره، ولابد من ترك ما زاد، كما لابد من أخذ الزاد، وأخذ المال لا يخلو من زلة، كما أن خائض الماء لا ينجو من بله، وجمعه وإمساكه تلف صاحبه وإهلاكه، فما دون النصاب كضحضاح يجاوز بلا احتماء والنصاب كنهر حائل بين المجتاز والجواز إلى المفاز، لا يمكن إلا بقنطرة وهي الزكاة، وعمارتها بذل الصلاة، فمتى اختلت القنطرة غرقته أمواج القناطير المقنطرة، وكذا المال يساعد الأوغاد دون الأمجاد، كما أن الماء يجتمع في الوهاد دون النجاد، وكذا المال لا يجتمع إلا بكد البخيل، كما أن الماء لا يجتمع إلا بسد المسيل، ثم يفنى ويتلف كالماء في الكف. انتهى.
ومما ساقه ابن القيم - رحمه الله - في كتابه «عدة الصابرين» من أمثلة الدنيا وأهلها، قال:
مثال لاغترار الناس بالدنيا وضعف إيمانهم بالآخرة.(1/362)
قال ابن أبي الدنيا: حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا هشام بن حسان الحسن، قال: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: «إنما مثلي، ومثلكم، ومثل الدنيا، كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء، حتى إذا لم يدروا أما سلكوا منها أكثر أم ما بقي، أنفدوا الزاد وحسروا الظهر، وبقوا بين ظهراني المفازة لا زاد ولا حمولة، فأيقنوا بالهلكة، فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه، فقالوا: إن هذا قريب عهد بريف، وما جاءكم هذا إلا من قريب، فلما انتهى إليهم، قال: يا هؤلاء، علام أنتم؟ قالوا: على ما ترى، قال: أرأيتم إن هديتكم على ماء ورياض خضراء ما تجعلون لي؟ قالوا: لا نعصيك شيئًا، قال: عهودكم ومواثيقكم بالله، قال: فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئًا، قال: فأوردهم ماء ورياضًا خضرًا، قال: فمكث فيهم ما شاء الله، ثم قال: يا هؤلاء الرحيل، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى ماء ليس كمائكم ورياض ليست كرياضكم، قال: فقال جل القوم، وهم أكثرهم: والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده، وما نصنع بعيش هو خير من هذا؟ قال: وقالت طائفة وهم أقلهم: ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصونه شيئًا، وقد صدقكم في أول حديثه، فوالله ليصدقنكم في آخره، فراح بمن اتبعه، وتخلف بقيتهم، فبادرهم عدوهم، فأصبحوا بين أسير وقتيل».
مثال آخر للدنيا وأهلها ما مثلها به النبي - صلى الله عليه وسلم - كظل شجرة والمرء مسافر فيها إلى الله، فاستظل في ظل تلك الشجرة في يوم صائف، ثم راح وتركها، فتأمل هذا المثال ومطابقته للواقع سواء فإنها في خضرتها كشجرة، وفي سرعة انقضائها وقبضها شيئًا فشيئًا كالظل، والعبد مسافر إلى ربه، والمسافر إذا رأى شجرة في يوم صائف لا يحسن أن يبني تحتها دارًا ولا يتخذها قرارًا، بل يستظل بها بقدر الحاجة، ومتى زاد على ذلك انقطع عن الرفاق.(1/363)
مثال آخر للدنيا ولأهلها في اشتغالهم بنعيمها عن الآخرة وما يعقبهم من الحسرات:
مثل أهلها في غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة، فأمرهم الملاح بالخروج لقضاء الحاجة وحذرهم الإبطاء وخوفهم مرور السفينة فتفرقوا في نواحي الجزيرة، فقضي بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة فصادف مكانًا خاليًا، فأخذ أوسع الأماكن وألينها وأوفقها لمراده، ووقف بعض في الجزيرة ينظر إلى أزهارها، وأنوارها العجيبة، ويسمع نغمات طيورها ويعجبه حسن أحجارها، ثم حدثته نفسه بفوت السفينة وسرعة مرورها وخطر ذهابها، فلم يصادف إلا مكانًا ضيقًا، فجلس فيه وأكب بعضهم على تلك الحجارة المستحسنة والأزهار الفائقة، فحمل منها حمله، فلما جاء لم يجد في السفينة إلا مكانًا ضيقًا، وزاده حمله ضيقًا فصار محموله ثقلاً عليه ووبالاً ولم يقدر على نبذه، بل لم يجد من حمله بدًا ولم يجد له في السفينة موضعًا فحمله على عنقه وندم على أخذه، فلم تنفعه الندامة، ثم ذبلت الأزهار وتغيرت أرايحها، وآذاه نتنها، وتولج بعضهم في تلك الغياض ونسي السفينة وأبعد في نزهته حتى إن الملاح نادى عند دفع السفينة، فلم يبلغه صوته لاشتغاله بملاهيه، فهو تارة يتناول من الثمر، وتارة يشم تلك الأزهار، وتارة يعجب من حسن الأشجار وهو على ذلك خائف من سبع يخرج عليه غير منفك من شوك ينشب في ثيابه ويدخل في قدميه أو غصن يجرح بدنه أو عوسج يخرق ثيابه ويهتك عورته أو صوت هائل يفزعه، ثم من هؤلاء من لحق بالسفينة ولم يبق فيها موضع، فمات على الساحل، ومنهم من شغله لهوه فافترسته السباع ونهشته الحيات، ومنهم من تاه فهام على وجه حتى هلك، فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة ونسيانهم موردهم وعاقبة أمرهم، وما أقبح بالعاقل أن تغره أحجار ونبات يصير هشيمًا، قد شغل باله وعوق عن نجاته ولم يصحبه.(1/364)
مثال آخر: مثل قوم خرجوا في سفر بأموالهم وأهليهم، فمروا بواد معشب كثير المياه والفواكه، فنزلوا به وضربوا خيامهم، وبنوا هنالك الدور والقصور، فمر بهم رجل يعرفون نصحه وصدقه وأمانته، فقال: إني رأيت بعيني هاتين الجيش خلف هذا الوادي وهو قاصدكم فاتبعوني أسلك بكم على غير طريق العدو فتنجوا منه، فأطاعته طائفة قليلة، فصاح فيهم يا قوم، النجاة النجاة، أتيتم أتيتم، وصاح السامعون له بأهليهم وأولادهم وعشائرهم، فقالوا: كيف نرحل من الوادي وفيه مواشينا وأموالنا ودورنا وقد استوطناه؟ فقال لهم الناصح: لينج كل واحد منكم بنفسه ما خف من متاعه، وإلا فهو مأخوذ وماله مجتاح، فثقل على أصحاب الجد والأموال ورؤساء القوم النقلة ومفارقة ما هم فيه من النعيم والرفاهية والدعة، وقال كل أحمق له أسوة بالقاعدين فهم أكثر مني مالاً وأهلاً، فما أصابهم أصابني معهم، ونهض الأقلون مع الناصح، ففازوا بالنجاة، وصبح الجيش أهل الوادي فقتلهم، واجتاح أموالهم.
مثال آخر: قوم سلكوا مفازة، فاجأهم العطش فانتهوا إلى البحر وماؤه أمر شيء وأملحه، فلشدة عطشهم لم يجدوا مرارته وملوحته، فشربوا منه، فلم يرووا وجعلوا كلما ازدادوا شربًا ازدادوا ظمأ حتى تقطعت أمعاؤهم وماتوا عطشًا، وعلم عقلاؤهم أنه مر مالح، وأنه كلما ازداد الشارب منه ازداد ظمؤه، فتباعدوا عنه مسافة حتى وجدوا أرضًا حلوة فحفروا فيها قليبًا، فنبع لهم ماء عذب فرات، فشربوا وعجنوا وطبخوا ونادوا إخوانهم الذين على حافة البحر هلموا إلى الماء الفرات، وكان منهم المستهزئ ومنهم المعرض الراضي بما هو فيه، وكان المجيب واحدًا بعد واحد، وهذا المثل بعينه قد ضربه المسيح - عليه السلام ـ، فقال: طالب الدنيا كمثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا حتى يقتله. وقال ابن القيم - رحمه الله -:
ولو تبصر الدنيا وراء ستورها
كحلم وطيف زارا في النوم وانقضى
وظل أرته الشمس عند طلوعها(1/365)
ومزنة صيف طاب منها مقيلها
ومطعم طيب لذ عند مساغه
كذا هذه الدنيا كأحلام نائم
فجزها ممرًا لا مقرًا وكن بها
أو ابن سبيل قال في ظل دوحة
أخا سفر لا يسقر قراره ... رأيت خيالاً في المنام سيصرم
المنام وراح الطيف والصب مغرم
سيقلص في وقت الزوال ويفصم
فولت سريعًا والحرور تضرم
وبعد قليل حاله تلك تعلم
ومن بعدها دار البقاء ستقدم
غريبًا تعش فيها حميدًا وتسلم
وراح وخلى ظلها يتقسم
إلى أن يرى أوطانه ويسلم
فيا عجبًا كم مصرع وعظت به
سقتهم كؤس الحب حتى إذا نشوا
وأعجب ما في العبد رؤية هذي
وما ذاك إلا أن خمرة حبها
وأعجب من ذا أن أحبابها الأولى
وذلك برهان على أن قدرها
وحسبك ما قال الرسول ممثلا
كما يدلي الإنسان باليم أصبعًا
فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... ولكن بنوها عن مصارعها عموا
سقتهم كؤس السم والقوم قد ظموا
العظائم منها وهو فيها متيم
لتسلب عقل المرء منه وتسلم
تهين وللأعدا تراعى وتكرم
جناح بعوض أو أدق والأم
لها ولدار الخلد والحق يفهم
وينزعها منه فما ذاك يغنم
على حذر منها وأمري مبرم
وقوله تعالى: { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ } لما ذكر جل وعلا مثالاً لزهرة الحياة الدنيا، وأنها فانية زائلة لا محالة، قفى على هذا بالترغيب في داره: دار السلام، فدعا عمومًا، وخص بالهداية من شاء استخلاصه واسطفاءه، فهذا فضله وإحسانه، والله يختص برحمته من يشاء، وذلك عدله وحكمته، وليس لأحد عليه حجة بعد البيان والرسل.
قال قتادة: الله هو السلام وداره الجنة، والسلام اسم من أسماء الله عز وجل ومعناه: السالم من كل عيب ونقص، وسميت الجنة دار السلام؛ لسلامة أهلها عن كل ألم وآفة، أو لأن الله تعالى يسلم عليهم، أو لأن خزنتها يقولون: { سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ } أو لأن بعضهم يسلم فيها على بعض، فالسلام إما بمعنى السلامة، أو بمعنى التسليم.
قال ابن القيم - رحمه الله - في صفة الجنة:
فاسمع إذًا أوصافها وصفات(1/366)
هي جنة طابت وطاب نعيمها
دار السلام وجنة المأوى ومنزل
فالدار دار سلامة وخطابهم ... هاتيك المنازل ربة الإحسان
فنعيمها باق وليس بفان
عسكر الإيمان والقرآن
فيها سلام واسم ذي الغفران
وعن أبي قلابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قيل: لتنم عينك، وليعقل قلبك، ولتسمع أذنك، فنامت عيني وعقل قلبي وسمعت أذني، ثم قيل: سيد بني دارًا، ثم صنع مأدبة، ثم أرسل داعيًا، فمن أجاب الداعي دخل الدار، وأكل من المأدبة ورضي عنه السيد، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار، ولم يأكل من المأدبة ولم يرض عنه السيد، والدار: الإسلام، والمأدبة: الجنة، والداعي: محمد - صلى الله عليه وسلم -».
وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وبجنبتيها ملكان يناديان، يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين: يا أيها الناس، هلموا إلى ربكم، إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، قال: وأنزل الله ذلك في القرآن: { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ } الآية».
وقوله تعالى: { وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } الهداية لغة: الدلالة والبيان، وتنقسم إلى قسمين: هداية توفيق وإلهام، وهذه اختص الله بها، فلا يقدر عليها إلا الله، ودليل هذا القسم قوله تعالى: { فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ } ، وقوله تعالى: { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ } ، وقوله: { مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِي } .
والقسم الثاني: هدى الدلالة والبيان، وهذا يقدر عليه من أقدره الله عليه، ودليله قوله تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ، وقوله: { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه -: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير من حمر النعم».(1/367)
والخلاصة: أن الله جل وعلا يهدي من يشاء إلى الإيمان والدين الحق بالتوفيق والتيسير، وهو أعلم بالمهتدين.
وقوله: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } : يخبر الله تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح، فأحسن في عبادة الخالق بأن عبده على وجه المراقبة والنصيحة في عبوديته، وقام بما قدر عليها منها، وأحسن إلى عباد الله بما يقدر عليه من الإحسان القولي والفعلي من بذل الإحسان المالي، والإحسان البدني، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهلين، ونصيحة المعرضين، ونحو ذلك من وجوه البر والإحسان، فهؤلاء لهم الحسنى في الدار الآخرة، قال تعالى: { هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ } ، وقال: { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } .
وقوله: { وَزِيَادَةٌ } هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ويشمل ما يعطيهم الله من القصور والحور والرضا عنهم وما أخفاه لهم من قرة أعين، وأفضل من ذلك وأعلاه النظر إلى وجه الله الكريم، فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه، لا يستحقونها بعملهم، بل بفضله ورحمته.
وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم، عن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان، وعبدالله بن عباس، وسعيد بن المسيب، وعبدالرحمن بن أبي ليلى، وعبدالرحمن بن سابط، ومجاهد، وعكرمة، وعامر بن سعد، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم من السلف والخلف.
وقد ورد فيه أحاديث كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، من ذلك ما ورد عن جرير بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى القمر ليلة البدر، وقال: «إنكم سترون ربكم عيانًا كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته» متفق عليه.(1/368)
وعن صهيب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة! وتنجينا من النار؟ فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم» رواه مسلم.
وعن أبان بن أبي تميمة الهجيمي أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يبعث يوم القيامة مناديًا ينادي: يا أهل الجنة –بصوت يسمع أولهم وآخرهم-، إن الله وعدكم الحسنى وزيادة، فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن عز وجل».
قال ابن القيم - رحمه الله - في رؤية أهل الجنة ربهم تبارك وتعالى ونظرهم إلى وجهه الكريم:
ويرونه سبحانه من فوقهم
هذا تواتر عن رسل الله لم
وأتى به القرآن تصريحًا وتعريضًا
وهي الزيادة فسرت في يونس
وروى ابن ماجه مسندًا عن جابر
بينا هموا في عيشهم وسرورهم
وإذا بنور ساطع قد أشرقت
رفعوا إليه رؤوسهم فرأوه نور
وإذا بربهمو تعالى فوقهم
قال: السلام عليكم فيرونه ... نظر العيان كما يرى القمران
ينكره إلا فاسد الإيمان
هما بسياقه نوعان
تفسير من قد جاء في القرآن
خيرًا وشاهده ففي القرآن
ونعيمهم في لذة وتهان
منه الجنان قصيها والداني
الرب لا يخفى على إنسان
قد جاء للتسليم بالإحسان
جهرًا تعالى الرب ذو السلطان
وقوله تعالى: { وَلاَ يَرْهَقُ وَجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ } : الرهق: لحاق الأمر، ومنه راهق الغلام، إذ لحق بالرجال، ورهقه بالحرب أدركه، والقتر في كلام العرب: الغبار، وأنشدوا قول الفرزدق:
متوج برداء الملك يتبعه ... فوج ترى فوقه الرايات والقترا(1/369)
المعنى: لا يغشي وجوه أهل الجنة قتام وسواد في عرصات القيامة، كما يعتري الكفرة الفجرة من القتر والغبرة، { وَلاَ ذِلَّةٌ } أي هوان، وصغار: أي لا يحصل لهم إهانة في الباطن ولا في الظاهر، بل كما قال الله تعالى: { فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اليَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا } أي نضرة في وجوههم وسرورًا في قلوبهم، جعلنا الله وإخواننا المسلمين منهم آمين.
وقوله تعالى: { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } يعني أن هؤلاء الذين وصفت صفاتهم هم أصحاب الجنة وسكانها، لا غيرهم وهم فيها مقيمون لا يخرجون منها أبدًا، و { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } .
قال ابن القيم - رحمه الله -:
هذا وخاتمه النعيم خلودهم ... أبدًا بدار الأمن والرضوان
وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا } لما ذكر سبحانه وتعالى حال السعداء الذين يضاعف لهم الحسنات، ويزادون على ذلك عطف بذكر حال الأشقياء، فذكر جل وعلا عدله فيهم، وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها لا يزيدهم على ذلك.
والمراد بالسيئات: الشرك، والكفر، والمعاصي، وفي الآية محذوف، وفي تقديره قولان: أحدهما: أن فيها إضمار «لهم» المعنى: لهم جزاء سيئة بمثلها، وأنشد ثعلب:
فإن سأل الواشون عنه فقل: لهم
ملم بليلي لمة ثم إنه ... وذاك عطاء للوشاة جزيل
لهاجر ليلى بعدها فمطيل
أراد: هو ملم.
والثاني: أن فيها إضمار «منهم» المعنى: جزاء سيئة منهم بمثلها، تقول العرب: رأيت القوم صائم وقائم، أي منهم صائم وقائم، وأنشدوا:
حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس ... وغودر البقل: ملوى ومحصود(1/370)
أي منه ملوى، والمقصود من التقييد: التنبيه على الفرق بين الحسنات والسيئات؛ لأن الحسنات يضاعف ثوابها لعاملها من الواحدة إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وذلك تفضلاً منه وتكرمًا، وأما السيئات فإنه يجازى عليها بمثلها عدلاً منه سبحانه وتعالى.
وقوله: { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أي يغشاهم ويعتريهم ويعلوهم ذلة من معاصيهم وخوفهم منها، قال تعالى: { وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } ، وقال تعالى: { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } ، وقال: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } الآيات.
وقوله: { مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } أي ما لهم أحد يعصمهم ويمنعهم من سخط الله تعالى وعذابه، كما قال تعالى: { وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ } ، وكقوله تعالى: { يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المَفَرُّ * كَلاَّ لاَ وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ } .(1/371)
وقوله: { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وَجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا } الآية، إخبار عن سواد وجوههم في الدار الآخرة، كقوله تعالى: { يَوْمَ تَبْيَضُّ وَجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وَجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وَجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وَجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ، وقوله: { وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } الآية، وقوله تعالى: { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي أولئك الذين لهم تلك الصفات هم أصحاب النار هم فيها خالدون مقيمون لا يبرحون.
اللهم صل على محمد وآله وسلم.
ما يفهم من آيات الدرس [24، 25، 26، 27]:
1- صفة الحياة الدنيا في صورتها ومآلها.
2- أنها كماء أنزله الله من السماء إلخ.
3- أنها زائلة لا محالة ومنتقلة ومنتقل عنها.
4- الحذر من الإغترار بزهرة الحياة الدنيا.
5- التشويق إلى الآخرة.
6- لطف الله بخلقه حيث بين لعباده مثال الحياة الدنيا ليكونوا على حذر، ويستعدوا لما خلقوا له.
7- أن الله بين الحجج والأدلة لمن تفكر واعتبر.
8- أن في تفصيل الآيات إزالة للشكوك والشبهات من القلوب.
9- الحث على التفكر والتدبر.
10- لطف الله بخلقه إذ أنزل لهم من السماء ماءًا فأنبت به ما يأكلون وأنعامهم.
11- الخوف من عذاب الله أن يأتي ليلاً أو نهارًا.
12- إثبات البعث.
13- إثبات الحشر والحساب والجزاء على الأعمال.
14- إثبات الجنة.
15- تسميتها بدار السلام.
16- أن في تسميتها بهذا الاسم ما يدل على أن من دخلها سلم من جميع الآفات، كالموت، والمرض، والمصائب، والحزن، والغم، والتعب، والكدر.
17- أن في ذلك ما يحفز القلوب ويبعثها ويشوقها إلى طلب دار السلام.(1/372)
18- وفي دعاء الله جل وعلا إليها دليل على أن فيها: «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»؛ لأن العظيم ما يدعو إلا إلى عظيم.
19- أن الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
20- أن هداية التوفيق والإلهام لا يقدر عليها إلا الله جل وعلا.
21- إثبات علم الله.
22- إثبات مشيئة الله.
23- إثبات قدرة الله.
24- إثبات صفة الكلام لله.
25- الحث على سؤال الله الهداية.
26- العمل بالأسباب الموصلة إلى الصراط المستقيم.
27- أن صراط الله معتدل لا عوج فيه.
28- التعميم بالدعوة إظهارًا للحجة.
29- إن الله غني عن خلقه.
30- الرد على القدرية.
31- الرد على الجهمية.
32- وعد الله بالحسنى لمن أحسن.
33- إثبات رؤية الله وأن المؤمنين يرونه في الآخرة.
34- أن الجزاء من جنس العمل.
35- دليل على كرمه وجوده.
36- أن أهل الجنة لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة.
37- أن التعبير بذلك يوحي بأن في الموقف من الزحام والهول والكرب والخوف والمهانة ما يخلع القلوب، ويظهر آثاره على الوجوه.
38- التنويه بأصحاب هذه المنزلة العالية البعيدة الآفاق في الجنة.
39- الفوز بالخلود الدائم الأبدي.
40- دليل على بقاء الجنة وأهلها.
41- أن نعيم أهل الجنة خالص ما فيه شوائب مكدرات.
42- أن الجزاء من جنس العمل.
43- التنبيه على الفرق بين الحسنات والسيئات.
44- أن الكفار لا يزادون على ما يستحقونه من العذاب شيئًا.
45- أن الكفار تغشاهم ذلة الفضيحة وكسوف الخزي بما يظهره حسابهم من شرك، وظلم، وزور، وفجور.
46- أن لا مانع ولا واقي من عذاب الله للكفار.
47- إثبات الألوهية.
48- أن وجوه الكفار كأنما ألبست قطعًا من سواد الليل حالة كونه مظلمًا، فصارت ظلمات بعضها فوق بعض.
49- إثبات النار.
50- دليل على خلود الكفار في النار.
51- دليل على بقاء النار.
52- أن الله أعدها للكفار.
53- أن الشركاء والشفعاء الذين اتخذهم الكفار في الدنيا لا يفيدون الكفار بشيء في الآخرة.(1/373)
54- التحذير من الشرك والمعاصي لسوء عاقبتهما.
55- أن في إسناد الرهق إلى أنفسهم دون وجوههم إيذانًا بأنها محيطة بهم فاشية لهم.
56- الحث على مقام الإحسان.
57- الحث على الإحسان في عبادة الله.
58- الحث على بر الوالدين والإحسان إليهما للحصول على وعد الله.
59- الحث على الإحسان إلى ذوي القربى لما سبق.
60- الحث على الإحسان إلى اليتامى للحصول على ذلك.
61- الحث على الإحسان إلى المساكين.
62- الحث على الإحسان إلى الجار.
63- الحث على الإحسان إلى أبناء السبيل؛ لقوله تعالى: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } . والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
قال الله تبارك وتعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } .
ما ذكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة:(1/374)
ورد عن عبدالله بن عباس قال: «بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفناء بيته جالس إذ مر به عثمان بن مظعون، فكسر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا تجلس؟» فقال: بلى، قال: فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستقبله، فبينما هو يحدثه إذ شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببصره إلى السماء، فنظر ساعة إلى السماء فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يمينه في الأرض، فتحرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره، فأخذ ينغض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له، وابن مظعون ينظر، فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له شخص بصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء كما شخص أول مرة، فأتبعه بصره حتى توارى إلى السماء، فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى، فقال: يا محمد، فيما كنت أجالسك ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة؟ فقال: «وما رأيتني فعلت؟» قال: رأيتك شخص بصرك إلى السماء، ثم وضعته على يمينك فتحرفت إليه وتركتني، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئًا يقال لك؟ قال: «وفطنت لذلك؟» فقال عثمان: نعم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتاني رسول الله آنفًا وأنت جالس»، قال: رسول الله؟ قال: «نعم»، قال: فما قال لك؟ قال: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } الآية، قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي، وأحببت محمدًا - صلى الله عليه وسلم -» إسناده جيد متصل حسن.
بعد أن بالغ سبحانه في الوعد للمتقين والوعيد للكافرين، وعاد وكرر في الترغيب والترهيب إلى أقصى الغاية أردف ذلك ذكر هذه الأوامر التي جمعت فضائل الأخلاق والأدب وضروب التكاليف التي رسمها الدين، وحث عليها لما فيها من إصلاح حال النفوس وصلاح الأمم والشعوب.(1/375)
أخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: «أعظم آية في كتاب الله تعالى: { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ } وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر الآية التي في النحل: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } ، وأكثر آية في كتاب الله تفويضًا: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } ، وأشد آية في كتاب الله رجاء: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } ».
وروي عن عثمان بن مظعون أنه قال: «لما نزلت هذه الآية قرأتها على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فتعجب، فقال: يا آل غالب، اتبعوه، فوالله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق».
وفي حديث أن أبا طالب لما قيل له: إن ابن أخيك زعم أن الله أنزل عليه: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } الآية، قال: اتبعوا ابن أخي، فوالله إنه لا يأمر إلا بمحاسن الأخلاق.
وعن عكرمة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية، فقال له: يا ابن أخي، أعد علي، فأعادها عليه، فقال له الوليد: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وأن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر.
وأخرج البيهقي في «شعب الإيمان» عن الحسن - رضي الله عنه - أنه قرأ هذه الآية: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } الآية، ثم قال: إن الله عز وجل جمع لكم الخير كله والشر كله في آية واحدة، فوالله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئًا إلا جمعه وأمر به، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئًا إلا جمعه وزجر عنه.(1/376)
وقال سعيد عن قتادة قوله: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } الآية: ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر به، وليس من خلق سيئ كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدح فيه، وإنا نهى عن سفساف الأخلاق ومذامها، وجاء في الحديث: «إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها».
وقال الحافظ أبو نعيم في كتاب «معرفة الصحابة»: عن علي بن عبدالملك ابن عمير، عن أبيه، قال: «بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأراد أن يأتيه، فأبى قومه أن يدعوه، وقالوا: أنت كبيرنا لم تكن لتخف إليه، قال: فليأته من يبلغه عني ويبلغني عنه، فانتدب رجلان، فأتيا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالا: نحن رسل أكثم بن صيفي وهو يسألك من أنت؟ وما أنت؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أما من أنا؟ فأنا محمد بن عبدالله، وأما ما أنا؟ فأنا عبد الله ورسوله»، قال: ثم تلا عليهم هذه الآية: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } الآية، قالوا: ردد علينا هذا القول، فردده عليهم حتى حفظوه، فأتيا أكثم، فقالا: أبى أن يرفع نسبه، فسألنا عن نسبه فوجدناه زاكي النسب وسطًا في مضر، وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها، فلما سمعهن أكثم قال: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رؤساء ولا تكونوا فيه أذنابًا».
وقد اختلف العلماء في تفسير العدل والإحسان، فقيل: العدل: لا إله إلا الله، وقيل: الفرض، والإحسان، قيل: أداء الفرائض، وقيل: النافلة، وقيل: العدل استواء السر والعلانية، والإحسان: أن تكون السريرة أحسن من العلانية، وقيل: العدل: الإنصاف، والإحسان التفضل.(1/377)
والأولى تفسير العدل بالمعنى اللغوي، وهو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، فمعنى أمره سبحانه وتعالى بالعدل أن يكون عباده في الدين على حالة متوسطة ليست بمائلة إلى جانب الإفراط، وهو: الغلو المذموم في الدين، ولا إلى جانب التفريط، وهو: الإخلال بشيء مما هو في الدين.
أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: دعاني عمر بن عبدالعزيز، فقال: صف العدل، فقلت: بخ، سألت عن أمر جسيم: كن لصغير الناس أبًا، ولكبيرهم ابنًا، وللمثل أخًا، وللنساء كذلك، وعاقب الناس على قدر ذنوبهم، وعلى قدر أجسامهم، ولا تضربن لغضبك سوطًا واحدًا فتكون من العادلين.
وأخرج البخاري في «تاريخه»: أن علي بن أبي طالب مر بقوم يتحدثون، فقال: فيم أنتم؟ فقالوا: نتذاكر المروءة، فقال: أو ما كفاكم الله عز وجل ذاك في كتابه أن يقول: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } ! فالعدل: الإنصاف، والإحسان: التفضل، فما بقي بعد هذا. اهـ.
والإحسان نوعان: إحسان في عبادة الله، فسره - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تراه فإنه يراك»، وإحسان إلى المخلوق، وهو: إما أن يكون بإيصال النفع الديني والدنيوي، ويدخل في ذلك: إنفاق العلم بأن يشتغل بتعليم الجاهلين، وهداية الضالين، ويدخل في إنفاق المال في وجوه البر والخيرات والعبادات، وإما أن يدفع الأذى عنهم –حسب الاستطاعة- أو بهما جميعًا، وأعلى مراتب الإحسان: الإحسان إلى المسيء، وقد أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وروي عن الشعبي أنه قال: قال عيسى ابن مريم - عليه السلام -: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك.
ثم أمر جل وعلا بصلة الأرحام، فقال: { وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى } وهذا من باب عطف الخاص على العام، إن كان إعطاء الأقارب داخلاً تحت العدل والإحسان.(1/378)
وقيل: من باب عطف المندوب على الواجب، ومثل هذه الآية: { وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } وإنما خص ذوي القربى؛ لأن حقهم آكد، فإن الرحم اشتق الله اسمها من اسمه، وصلتها من صلته، وقطيعتها من قطيعته.
وبعد ذكر الثلاث التي أمر بها أتبعها بالثلاث التي نهى عنها، فقال: { وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ } ، والفحشاء: هي كل ذنب عظيم استفحشته الشرائع والفطر، كالشرك، والقتل بغير حق، والزنا، واللواط، والسرقة، والكبر، والعجب، والرياء، والنفاق، { وَالْمُنكَرِ } وهو ما أنكره الشرع بالنهي عنه، وهو يعم جميع المعاصي على اختلاف أنواعها، وقيل: هو الشرك.
{ وَالْبَغْيَ } : هو التعدي على الخلق في الدماء والأموال والأعراض، وقيل: هو الظلم، وقيل: الكبر، وقيل: الحقد، وحقيقته تجاوز الحد، فيشمل هذه المذكورات، ويندرج بجميع أقسامه تحت المنكر، وإنما خص بالذكر اهتمامًا به لشدة ضرره ووبال عاقبته، وهو من الذنوب التي ترجع على فاعلها؛ لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا } .
وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث هن رواجع على أهلها: المكر، والنكث، والبغي»، ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم } ، { وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } ، { فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } .
وجاء في الحديث الآخر: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم»، والبغي من منكرات الذنوب العظام، قال بعضهم: لو بغى جبل على جبل لا ندك الباغي، وقد نظم بعضهم هذا المعنى شعرًا:
يا صاحب البغي إن البغي مصرعة(1/379)
فلو بغى جبل يومًا على جبل ... فارجع فخير مقال المرء أعدله
لا ندك منه أعاليه وأسفله
ثم ختم هذه الآية بقوله: { يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي يعظكم بما ذكره في هذه الآية ونهاكم عنه، فإنها كافية في باب الوعظ والتذكير، فهذه الآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات لم يبق شيء إلا دخل فيها، فكل مسألة مشتملة على عدل أو إحسان أو إيتاء ذي القربى، فهي مما أمر الله به، وكل مسألة مشتملة على فحشاء أو منكر أو بغي، فهي مما نهى الله عنه، وبها يعلم حسن ما أمر الله به، وقبح ما نهى الله عنه، وبها يعتبر ما عند الناس من الأقوال، وترد إليها سائر الأحوال.
وبعد أن ذكر المأمورات والمنهيات بطريق الإجمال في الآية الأولى ذكر بعضها على سبيل التخصيص، فقال: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ } أي أوفوا بميثاق الله إذا واثقتموه وعقده إذا عاقدتموه، فأوجبتم به على أنفسكم حقًا لمن عاقدتموه وواثقتموه عليه، ويدخل في هذا جميع ما عاهد العبد عليه ربه من العبادات والنذور والأيمان التي عقدها إذا كان بها برًا، ويشمل ما تعاقد عليه هو وغيره كالعهود بين المتعاقدين، وكالوعد الذي يعده العبد ويوكده على نفسه، فعليه في ذلك كله الوفاء؛ لأن المسلم إذا أبرم عقدًا فيجب أن يحترمه، وإذا أعطى عهدًا فيجب أن يلتزمه.
ومن الإيمان أن يكون الإنسان عند كلمته التي قالها، ينتهي إليها، فالعهد لابد من الوفاء به، كما أن اليمين لابد من البر بها، ومناط الوفاء والبر أن يتعلق الأمر بالحق والخير وطاعة الله، وإلا فلا عهد في عصيان ولا يمين في مأثم، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» حتى بالغ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فقال: «والله لا أحلف على يمين فأري غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني».(1/380)
ويخص أيضًا من العموم يمين اللغو؛ لقوله تعالى: { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } ولا يسوغ لامرئ الإصرار على الوفاء بيمين، الحنث فيها أفضل.
وفي الحديث: «لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله تعالى من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه»، ومن ثم فلا تعهد إلا بمعروف، فإذا وثق الإنسان عهدًا بمعروف فليصرف همته في إمضائه ولا يتردد، فقد روى أنس بن مالك، قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أُحد انكشف المسلمون، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء –يعني أصحابه-، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء –يعني المشركين-، ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ: الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدنا قد قتل ومثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانة، قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: { مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ ... } إلى آخرها، متفق عليه.(1/381)
ومن الوفاء المحمود أن يذكر الإنسان ما جرى له في الماضي لينتفع به في الحاضر، فإذا كان فيما مضي معسرًا فأغناه الله، أو مريضًا فشفاه الله، فليس من العدل والإنصاف والمروءة أن يفصل بين أمسه ويومه، ويزعم أنه ما كان فقيرًا ولا مريضًا؛ لأن هذا نوع من الغدر، وكفران النعم، وربما أفضي بصاحبه إلى النفاق، نسأل الله تعالى العافية، فقد ورد في قوله تعالى: { وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } الآيات: أن سبب نزولها في ثعلبة بن حاطب وقصته مشهورة، وإليك ملخصها:
عن أبي أمامة الباهلي، قال: جاء ثعلبة بن حاطب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه»، قال: ثم قال: مرة أخرى، فقال: «أما ترضى أن تكون مثل نبي الله؟ فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تصير الجبال معي ذهبًا وفضة، لصارت»، قال: والذي بعثك بالحق، إن دعوت الله فرزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم ارزق ثعلبة مالاً»، قال: فاتخذ غنمًا فنمت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها، فنزل واديًا من أوديتها وهي تنمو كالدود، فكان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر، ويصلي في غنمه سائر الصلوات، ثم كثرت ونمت حتى تباعد بها عن المدينة، فصار لا يشهد إلا الجمعة، ثم كثرت فتباعد أيضًا حتى كان لا يشهد جمعة ولا جماعة، فكان إذا كان يوم الجمعة خرج يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار.(1/382)
فذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، فقال: «ما فعل ثعلبة؟» قالوا: يا رسول الله، اتخذ غنًا ما يسعها واد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة»، فأنزل الله آية الصدقة: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } الآية، ونزلت فرائض الصدقة.
فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلين من المسلمين، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة، وقال لهما: مرا بثعلبة ورجلا من بني سليم فخذا صدقاتهما، فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة وأقرأه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، اذهبا حتى أرى رأيي، فانطلقا.
وسمع بهما السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله، فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها، فلما رأوها، قالوا: ما يجب هذا، وما نريد أن نأخذ هذا منك، فقال: بلى فخذوها، فإني نفسي بذلك طيبة، وإنما هي له، فأخذا منه ومرا على الناس فأخذا الصدقات.
ثم رجعا إلى ثعلبة، فقال: أروني كتابكما، فقرأه، فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، فانطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا حتى أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رآهما، قال: «يا ويح ثعلبة» قبل أن يكلمهما، ودعا للسلمي بالبركة، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة، والذي صنع السلمي، فأنزل الله: { وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ } الآية.
ومن القصص الدالة على شؤم الغدر وكفران النعم قصة الثلاثة «الأبرص، والأقرع، والأعمى» أراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكًا، وهي من القصص المشهورات التي كثير ما تمر على الناس فنكتفي بالإشارة إليها.(1/383)
وقد تتابعت الآيات القرآنية تحض على الوفاء، وتخوف من الغدر، قال تعالى: { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً } ، وقال: { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا } ، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } ، وقال: { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } ، وقال: { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ المِيثَاقَ } الآية، وورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لكل غادر لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان».
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ما يستفاد من الآيات:
1- إثبات الألوهية لله جل وعلا.
2- الأمر بالعدل والنهي عن الجور والحيف.
3- إثبات صفة الكلام.
4- النهي عن الظلم والجور والحيف.
5- النهي عن الإساءة.
6- الأمر بإيتاء ذي القربى.
7- الإرشاد إلى صلة الرحم.
8- الترغيب في التصدق عليهم.
9- أن للقرابة ميزة خاصة.
10- الحث على الوفاء بالعهد.
11- النهي عن نقض العهد، وليس المراد اختصاص النهي عن النقض بالأيمان المؤكدة لا بغيرها ما لا تأكيد فيه، فإن تحريم النقض يتناول الجميع، ولكن في نقض اليمين المؤكدة من الإثم ما ليس في نقض ما لم يؤكد منها.
12- الأمر بالإحسان والنهي عن ضده.
13- الحث على ما هو سبب للتوادد والتواصل.
14- الحث على التعاون على البر والتقوى.
15- النهي عن الشرك.
16- النهي عن القتل.
17- النهي عن اللواط.
18- النهي عن الربا.
19- النهي عن الزنا.
20- النهي عن السرقة.
21- النهي عن أكل مال اليتيم.
22- النهي عن السحر.
23- النهي عن التولي يوم الزحف.
24- النهي عن العقوق.
25- النهي عن الربا.
26- النهي عن الخيلاء.
27- النهي عن شهادة الزور.
28- النهي عن الكبر.
29- النهي عن الرياء.
30- النهي عن قذف المحصن.
31- النهي عن التصوير.
32- النهي عن البغي.(1/384)
33- النهي عن القول على الله بلا علم.
34- النهي عن اليمين الغموس.
35- النهي عن شرب الخمر.
36- النهي عن المنكر.
37- النهي عن قطع طريق المسلمين.
38- النهي عن قطيعة الرحم.
39- النهي عن الحكم بغير ما أنزل الله.
40- النهي عن أكل أموال الناس بالباطل.
41- النهي عن القنوط من رحمة الله.
42- النهي عن إساءة الظن بالله.
43- النهي عن سب الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
44- النهي عن إتيان الكهان والمنجمين.
45- النهي عن إتيان المرأة في الدبر.
46- النهي عن الجور في الوصية.
47- النهي عن الحسد.
48- النهي عن الكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
49- النهي عن الغيبة.
50- النهي عن النميمة.
51- النهي عن الكذب.
52- النهي عن سب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
53- النهي عن القيادة.
54- النهي عن الدياثة.
55- النهي عن تصديق الكهان والعراف.
56- النهي عن إتيان من حاضت في فرجها.
57- النهي عن السجود لغير الله تعالى.
58- النهي عن البدعة.
59- النهي عن الدعاء إلى البدعة.
60- النهي عن نكاح التحليل.
61- النهي عن الغلول؛ لأن هذه الأشياء التي نهى عنها داخلة في قوله تعالى: { وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ } ، وقوله: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } فما تركت الآية الأولى من معصية لله شيئًا إلا جمعته، وهذا قليل من كثير مما تضمنته الآية من الفوائد لكن هذا ما تيسر، ومما يستفاد من قوله جل وعلا: { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } .
62- إثبات الألوهية.
63- إثبات صفة العلم.
64- الرد على القدرية نفاة العلم.
65- إثبات أفعال العباد.
66- الرد على الجبرية نفاة أفعال العباد.
67- التهديد والوعيد لمن نكث العهد؛ لقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } .
68- لطف الله بخلقه حيث نهاهم فيما تقدم في الآية عن المحرمات.(1/385)
69- لطف الله بخلقه حيث أمرهم بما تقدم من الخصال الحميدة: من العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى.
70- سعة علم الله حيث لم يخرج عن علمه شيء.
71- الحث على الأمر بالمعروف.
72- الحث على التخلق بالأخلاق الفاضلة.
73- الإبعاد عن سفساف الأخلاق.
74- إثبات البعث والحشر.
75- إثبات الحساب والجزاء على الأعمال والجنة والنار.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم(1/386)
قال الله تبارك وتعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً * قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً * رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الفُلْكَ فِي البَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً * أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا * وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً * يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ(1/387)
سَبِيلاً } [الإسراء: 61-72].
بعد أن ذكر سبحانه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان في محنة من قومه إذ كذبوه وتوعدوه حين حدثهم بالإسراء وشجرة الزقوم، وأنهم نازعوه وعاندوه، واقترحوا عليه الآيات حسدًا على ما آتاه الله من النبوة، وكبرًا عن أن ينقادوا إلى الحق، بين أن هذا ليس ببدع من قومك، فقد لاقى كثير من الأنبياء من أهل زمانهم مثل ما لاقيت.
ألا ترى أن آدم -عليه السلام- كان في محنة شديدة من إبليس.
وقد ذكر سبحانه قصص آدم في سبع سور: البقرة، والأعراف، والحجر، والكهف، وطه، وص، وهذه السورة، فقال تعالى: واذكر أيها الرسول لقومك عداوة إبليس لآدم وذريته، وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم.
فإنه تعالى أمر الملائكة بالسجود، فسجدوا كلهم إلا إبليس استكبر وأبى أن يسجد له افتخارًا عليه، واحتقارًا له، وقال: أأسجد لمن خلقت طينًا، وأنا مخلوق من النار، كما جاء في الآية الأخرى: { أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ } ، وقياس إبليس من أفسد الأقيسة، فإنه باطل من عدة أوجه:
أولاً: أنه فاسد الاعتبار لمخالفته للنص؛ لأن المقصود بالقياس أن يكون الحكم الذي لم يأتي فيه نص يقارب الأمور المنصوص عليها ويكون تابعًا لها.
ثانيًا: أنه لا يسلم أن النار خير من الطين، بل الطين خير منها؛ لأن طبيعتها الخفة والطيش والإفساد والتفريق.
وطبيعته الرزانة والإصلاح فتودعه الحبة فيعطيكها سنبلة، والنواة فيعطيكها نخلة.
وانظر إلى الرياض الناضرة وما فيها من الثمار اللذيذة، والأزهار الجميلة، والروائح الطيبة تعلم أن الطين خير من النار.
ولهذا نفع آدم عنصره بالرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله والاعتراف، وطلب التوبة والمغفرة.
وفي «صحيح مسلم»: عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خلقت الملائكة من نور، وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» هكذا رواه مسلم.(1/388)
وقال أيضًا لربه –جرأة وكفرًا- والرب يحلم وينظر: { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ } أي أخبرني هذا الذي كرمته علي فأمرتني بالسجود له وهو آدم لم كرمته عليَّ وأنا خير منه، واللام في { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ } موطئة للقسم.
وإنما أقسم اللعين هذا القسم على أنه سيفعل بذرية آدم ما ذكره؛ لما ظنه من قوة نفوذ كيده في بني آدم، وأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، وأنه بحيث يروج عندهم كيده وتنفق لديهم وسوسته إلا من عصمه الله.
وقوله: { أَخَّرْتَنِ } أي أنظرتني، وفي الآية الأخرى، قال: { فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ } وهو يوم القيامة، فإنه يوم الدين، ويوم البعث، ويوم الوقت المعلوم، وقيل: المراد بالوقت المعلوم هو الوقت القريب من البعث، فعند ذلك يموت.
وقوله: { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } قال ابن عباس: لأستولين عليهم، وقيل: لأحتوينهم، وقيل: لأضلنهم، والمعنى متقارب، أي لأستأصلن ذريته بالإغواء والإضلال ولأجتاحنهم.
وقيل: معناه لأسوقنهم حيث شئت، وأقودنهم حيث أردت من قولهم: حنكت الفرس أحنكه، وأحنكه حنكًا إذا جعلت في فيه الرسن، وكذلك احتنكه.
وهذا الذي ذكره جل وعلا عن إبليس في هذه الآية من قوله: { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ } الآية بينه في مواضع أخر من كتابه، كقوله: { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } ، وقوله: { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } إلى غير ذلك من الآيات.(1/389)
وقوله في هذه الآية: { إِلاَّ قَلِيلاً } المراد بهذا القليل من عناهم الله بقوله جل وعلا: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } ، وكما بين في الآيات الأخرى، كقوله: { لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ } ، وقوله: { لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ } .
قوله تعالى: { اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا } هذا أمر إهانة، أي اذهب فحاول محاولتك، اذهب مأذونًا في إغوائهم فهم مزودون في العقل والإرادة إن أرادوا إتباعك أو الإعراض عنك، فمن تبعك منهم مغلبًا جانبًا الغواية في نفسه على جانب الهداية معرضًا عن نداء الرحمن إلى نداء الشيطان، غافلاً عن آيات الله في الكون، وآيات الله المصاحبة للرسالات، { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا } مدخرًا لك أنت ومن تبعك.
ثم كرر جل وعلا الأمر والإمهال لإبليس، فقال: { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ } أي استزعج واستخف من استطعت من بني آدم، يقال: أفزه واستنفزه، أي أزعجه واستخفه.
والمعنى: استخفهم بصوتك داعيًا لهم إلى المعصية، ومن صوته: صوت كل داع إلى معصية من جند إبليس.
وقال مجاهد: الغناء، واللهو، والمزامير.
وقال الضحاك: صوت الشيطان في هذه الآية هو صوت المزمار، وإذًا فليكف الغناء والمزمار قبحًا وتحريمًا أن يكونا عدة للشيطان وعتادًا له يغري بهما عباد الله على الفسق والفجور والعصيان ويفتنهم بهما عن عبادة الله ويصدهم عن سبيله.
ومن الأدلة على تحريم الغناء أيضًا قوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } الآية.
وقد فسر كثير من الصحابة والتابعين لهو الحديث في هذه الآية بالغناء والمزامير.(1/390)
وقال عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: { وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ } : السمود هو الغناء بلغة حمير، وهي إحدى القبائل العربية، قال: يقال اسمدي لنا يا فلانة، أي غني لنا.
وقال عكرمة في تفسير الآية: كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ليصدوا الناس عن القرآن بالغناء، فنزلت الآية: { أَفَمِنْ هَذَا الحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ } .
ولهذا سمي السلف الصالح الغناء: قرآن الشيطان؛ لأنه يعارض به القرآن ويشتغل به عن ذكر الله كما يصد به عن الله تعالى.
وعن أبي أمامة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن إبليس لما أنزل إلى الأرض، قال: يا رب، أنزلتني إلى الأرض، وجعلتني رجيمًا، فاجعل لي بيتًا، قال: الحمام، قال: فاجعل لي مجلسًا، قال: الأسواق ومجامع الطرقات، قال: فاجعل لي طعامًا، قال: كل ما لم يذكر اسم الله عليه، قال: فاجعل لي شرابًا، قال: كل مسكر، قال: فاجعل لي مؤذنًا، قال: المزمار، قال: فاجعل لي قرآنًا، قال: الشعر، قال: فاجعل لي كتابًا، قال: الوشم، قال: فاجعل لي حديثًا، قال: الكذب، قال: فاجعل لي رسلاً، قال: الكهنة، قال: فاجعل لي مصائد، قال: النساء».
قال ابن القيم - رحمه الله -: وشواهد هذا الأثر كثيرة، فكل جملة منها لها شواهد من السُّنة أو من القرآن، ثم ذكر - رحمه الله - كل جملة ومالها من الشواهد.
وروي الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه، عن نافع أن ابن عمر - رضي الله عنهما - سمع صوت زمارة راع، فوضع إصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطريق، وهو يقول: «يا نافع هل تسمع؟ فأقول: نعم، فيمضي حتى قلت: لا، فرفع يده وعدل راحلته إلى الطريق، وقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع زمارة راع، فصنع مثل هذا».(1/391)
وقوله: { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } أصل الإجلاب: السوق بجلبة من السائق، والجلبة الأصوات، تقول العرب: أجلب على فرسه، وجلب عليه إذا صاح به من خلفه واستحثه للسبق، والخيل تطلق على نفس الأفراس، وعلى الفوارس الراكبين عليها، وهو المراد بالآية.
والرجل: جمع راجل، قال مجاهد: ما كان من راكب يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس، وما كان من راجل في معصية الله فهو من رجالة إبليس، وهو تجسيم لوسائل الغواية والإحاطة والاستيلاء على القلوب والمشاعر والعقول.
فهي المعركة الصاخبة تستخدم فيها الأصوات والخيل والرجل على طريقة المعارك والمبارزات، يرسل فيها الصوت فيزعج الخصوم ويخرجهم من مراكزهم الحصينة، أو يستدرجهم للفخ المنصوب والمكيدة المدبرة، فإذا استدرجوا إلى العراء أخذتهم الخيل وأحاطت بهم الرجال.
وقوله: { وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ } هذا التعبير في عمومه يصور شركة تقوم بين إبليس وأتباعه تشمل الأموال والأولاد، وهما قوام الحياة، أما مشاركة الأموال، فقال ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهد: هو ما أمرهم به من إنفاق الأموال في معاصي الله.
وقال عطاء: هو الربا، وقال الحسن: هو جمعها من خبيث وإنفاقها في حرام، والأولى أن يقال: إن الآية شاملة لكل تصرف فيها يخالف وجه الشرع سواء كان أخذًا بغير حق أو وضعًا بغير حق، كالغصب، والسرقة، والربا، ومنع الزكاة، والكفارات، والحقوق الواجبة.
ومن ذلك إنفاقه في الزنا واللواط والخمر، قلت: ومثله إنفاقه في الإسطوانات والسينما والتليفزيون مقبرة الأخلاق، والفيديوهات، والدخان، وحلق اللحا، والمطربات، ومن ذلك ما حرموا على أنفسهم من أموالهم طاعة للشيطان كالبحائر والسوائب، ونحو ذلك.(1/392)
وأما مشاركته لهم في الأولاد فعلى أصناف أيضًا، منها: قتلهم أولادهم طاعة له، ومنها: أنهم يمجسون أولادهم ويهودونهم وينصرونهم طاعة له وموالاة له، ومنها: تسميتهم أولادهم عبدالحارث وعبدالعزى وعبد شمس، ونحو ذلك؛ لأنهم سموا أولادهم عبيدًا لغير الله طاعة للشيطان.
وقال العوفي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك: يعني أولاد الزنا، وقيل: المشاركة في الأولاد دعوى الولد بغير سبب شرعي وتحصيله بالزنا، والإساءة في تربيتهم على وجه يألفون فيه خصال الشر وأفعال السوء، ومن ذلك وأد البنات.
وقال ابن كثير - رحمه الله -: قال ابن جرير: وأولى الأقوال بالصواب أن يقال: كل مولود ولدته أنثى عصي الله فيه بتسميته بما يكرهه الله أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله، أو بالزنا بأمه، أو بقتله أو وأده أو غير ذلك من الأمور التي يعصي الله بفعله به أو فيه.
فقد دخل في مشاركة إبليس فيه من ولد ذلك له أو منه؛ لأن الله لم يخصص بقوله: { وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ } معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى، فكل ما عصى الله فيه أو به أو أطيع الشيطان فيه أو به فهو مشاركة، وهذا الذي قال متجه وكل من السلف الصالح –رحمهم الله- فسر بعض المشاركة.
فقد ثبت في «صحيح مسلم» عن عياض بن حمار: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله عز وجل: «إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم».
وفي «الصحيحين»: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله، قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدًا».
وقوله: { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا } .(1/393)
كما أخبر الله تعالى عن إبليس أنه يقوم في مجمع الأشقياء خطيبًا ليزيدهم حزنًا إلى حزنهم وغبنًا إلى غبنهم، وحسرة إلى حسرتهم، فيقول إذا حصص الحق يوم يقضي الله بالحق بين العباد: { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ } .
ومن تزيين إبليس ومواعيده الباطلة التي استخفت وغرت كثيرًا من الناس وعده إياهم أن لا جنة ولا نار أو بأن الآلهة تشفع لهم، أو بالتسويف بالتوبة، أو بإيثار العاجل على الآجل، أو بتحسين المعاصي لهم وإيقاعهم فيها، أو بشغلهم بزينة الدنيا عن فعل ما أمرهم الله به، أو بتنفيرهم عن الطاعة بأن لا فائدة فيها وأنها عبث محض.
ومن وعوده الوعد بالعفو والمغفرة، بعد الذنب والخطيئة، وهي التي يدخل معها الشيطان على كثير من القلوب التي يعز عليه غزوها من جهة المجاهرة بالمعصية والمكابرة، فيتلطف إلى تلك النفوس المتحرجة ويزين لها الخطيئة، وهو يلوح لها بسعة رحمة الله، وشمول عفوه ومغفرته، ونحو ذلك.
وأصل الغرور: تزيين الباطل بما يوهم الصواب، فإن قيل: كيف ذكر الله هذه الأشياء، وهو يقول: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } ، قيل: هذا على طريق التهديد، أي أفعل ذلك فتسرى عاقبته الوخيمة، كقوله تعالى: { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } .(1/394)
ولما أخبر عما يريد الشيطان أن يفعل بالعباد ذكر ما يعتصم به من فتنة وهو عبودية الله والقيام بالإيمان والتوكل على الرب جلا وعلا، فقال: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } هذا إخبار منه جل وعلا بتأييده لعباده المؤمنين وحفظه لهم، وحراسته لهم من الشيطان الرجيم، وقال في «سورة النحل»: { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } ، والإضافة في قوله تعالى: { إِنَّ عِبَادِي } للتشريف والتكريم.
والعبودية لله نوعان: عبودية لربوبيته، فهذه مشتركة بين سائر الخلق، مسلمهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، فكلهم عبيد مدبرون مربوبون، قال تعالى: { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } .
والنوع الثاني: عبوديته لألوهيته، وعبادته ورحمته، و هي عبودية أنبيائه وأوليائه، وهي المراد هنا في آية سبحان، وقوله: { وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } أي وكفى به عاصمًا من القبول بإبليس، وحافظًا من كيده ومكره، فأولياء الله يتوكلون عليه، ويستمدون منه العون في الخلاص من إبليس وإغوائه ووسوسته.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ما يفهم من الآيات [61، 62، 63، 64، 65]:
1- إثبات صفة الكلام لله.
2- دليل على وجود الملائكة.
3- الرد على من أنكرهم من الزنادقة.
4- فضيلة لآدم.
5- أن الملائكة يبادرون إلى امتثال أوامر الله.
6- استكبار إبليس –لعنه الله- وإباؤه.
7- التحذير من الكبر.
8- التحذير من الحسد.
9- أن آدم مخلوق من طين.
10- قدم عداوة إبليس لآدم.
11- جراءة إبليس –لعنه الله- في هذا الاستفهام.
12- إحتقار إبليس لآدم واستصغاره لشأنه.(1/395)
13- تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان في محنة من قومه إذ كذبوه وتوعدوه حين حدثهم بالإسراء والمعراج وشجرة الزقوم، وأنهم نازعوه وعاندوه، واقترحوا عليه الآيات حسدًا على ما آتاه الله من النبوة، وكِبْرًا أن ينقادوا للحق، فبين جل وعلا أن هذا ليس ببدع من قومك، فقد لاقى كثير من الأنبياء شدائد ومحنًا، فآدم - عليه السلام - كان في محنة شديدة من إبليس.
14- أن قياس إبليس من أفسد الأقيسة (15) دليل على حلم الله على إبليس، حيث لم يعاجله بالعقوبة على استفهامه.
15- أن الظن قد يصيب، وإن كان من كافر أو فاسق.
16- أن من عصمه الله فليس لإبليس عليه سلطان.
17- الحذر من إبليس –لعنه الله-.
18- الدلالة على جهل وتغفيل من أطاع إبليس بعد ما أعلمه الله بما صدر من إبليس من العداوة القديمة والحديثة.
19- لطف الله بخلقه حيث نبههم على عداوة إبليس وسعيه في إضلالهم لينتبهوا فيأخذوا حذرهم.
20- إثبات القول لله والرد على من أنكره.
21- إثبات البعث والقيامة.
22- أن أزمة الأمور كلها بيد الله جل وعلا.
23- أن من أعرض عن نداء الرحمن إلى نداء الشيطان جزاؤه جهنم.
24- الخوف من عذاب الله.
25- البعد عن كل صوت داع إلى معصية الله.
26- التحذير عن الغناء واللهو والمزامير؛ لأنها من أصوات إبليس.
27- أن إبليس –لعنه الله- يشارك بعض الناس في الأموال.
28- إنه يشارك بعض الناس في الأولاد.
29- التحذير عن كل تصرف يخالف الشرع؛ لأن ما خالف الشرع يشارك فيه إبليس.
30- أن الملائكة خلقهم الله قبل آدم.
31- الرد على من أنكر الملائكة.
32- أن خلق إبليس قبل خلق آدم.
33- أن إبليس يعد الناس ويغرهم.
34- رأفة الله ورحمته بخلقه، بين لهم أن مواعيد إبليس أباطيل وغرور ليحذروه، قال تعالى في الآية الأخرى: { وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ } ، وهنا قال: { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا } .(1/396)
35- أن كل راكب في معصية الله فهو من خيل إبليس.
36- أن كل راجل في معصية الله فهو من رجل إبليس.
37- تعريض إبليس بضعف آدم واستعداده لغواية ذريته.
38- اقتضاء مشيئة الله جل وعلا أن يطلق الزمان لإبليس يحاول محالته.
39- أن بني آدم انقسموا قسمين: قسم اتبع نداء الرحمن فسلم، وقسم اتبع نداء الشيطان فغلب جانب الغواية، فهلك.
40- أن جهنم جزاء إبليس ومتبعيه.
41- إثبات قدرة الله.
42- إثبات عِلم الله.
43- تهديد الله لإبليس دليل على العبودية الخاصة.
44- دليل على صوت إبليس.
45- دليل على أن لإبليس خيل ورجل.
46- شرف عباد الله المؤمنين وكرمهم حيث الإضافة في قوله: { إِنَّ عِبَادِي } .
47- إثبات الربوبية.
48- أن الله كاف من توكل عليه وفوض أمره إليه.
49- الحث على التوكل على الله.
50- أن الإنسان لا يمكن أن يحترز من الشيطان إلا بمعونة الله.
51- أن أول ذنب عصي الله به الكبر.
52- إن أول ذنب حدث سببه النفس؛ لأنها التي دعت وزينت لعدو الله الكبر، فطاوعها إبليس –لعنه الله-، وعصي الله، فطرد وأبعد.
نسأل الله أن يعصمنا من أغوائه... اللهم صل على محمد وآله وسلم.
وقوله تعالى: { رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الفُلْكَ فِي البَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً * أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا } .(1/397)
بعد أن ذكر سبحانه في الآية السابقة: أنه هو الحافظ الكالئ للعبد المؤمن من غواية إبليس، وأنه لا يستطيع أن يمسه بسوء، قفى ذلك بذكر بعض نعمه تعالى على الإنسان التي كان يجب عليه أن يقابلها بالشكران لا بالكفران، وهو الذي يرى دلائل قدرته في البر والبحر، أي إن ربكم أيها الناس، هو القادر الحكيم الذي يجري لكم لنفعكم السفن في البحر بالريح اللينة أو بالآلات البخارية أو الكهربائية لتسهيل نقل قوتكم وحاجاتكم من إقليم إلى آخر من أقصى المعمورة إلى أدناها، والعكس بالعكس، ونقل أشخاصكم من قطر إلى قطر إبتغاء للرزق والسياحة.
وهذا من رحمته بعباده، فإنه لم يزل بهم رحيمًا رءوفًا يؤتيهم من كل ما تعلقت به إرادته ومنافعه، ثم أخبر تبارك وتعالى: أن الناس إذا مسهم الضر في البحر دعوا الله منيبين إليه مخلصين له الدين، وذهب عن قلوبهم ما كانوا يدعون من دون الله في حال الرخاء من الأحياء والأموات، فكأنهم لم يكونوا يدعونهم في وقت من الأوقات؛ لعلمهم أنهم ضعفاء عاجزون عن كشف الضر.
وصرخوا بدعوة فاطر السموات، مجيب دعوة المضطر إذا دعاه، فاطر السموات والأرض الذي تستغيث به جميع المخلوقات في شدائدها، وأخلصوا له الدعاء والتضرع والالتجاء في هذه الحال.
كما اتفق لعكرمة بن أبي جهل لما ذهب فارًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فتح مكة فذهب هاربًا، فركب في البحر ليدخل الحبشة، فجاءتهم ريح عاصف، فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده.
فقال عكرمة في نفسه: والله إن كان لا ينفع في البحر غير الله، فإنه لا ينفع في البر غيره، اللهم لك علي عهد لئن أخرجتني منه، لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد، فلأجدنه رءوفًا رحيمًا، فخرجوا من البحر، فرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلم، وحسن إسلامه - رضي الله عنه - وأرضاه.(1/398)
وقوله: { فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنسَانُ كَفُورًا } الإنسان هو الإنسان، فما تنجلي عنه الغمرة وتحس قدمَاه ثبات الأرض من تحته، حتى ينسى لحظة الشدة فينسى الله ويعرض عنه وتتقاذفه الأهواء، وتجرفه الشهوات، وتغطي على فطرته التي جلاها الخطر، فيرجع إلى ما كان عليه من الكفر، إلا من عصمه الله فأشرق واستنار بنور الإيمان.
وهذا المعنى المذكور أوضحه جل وعلا في آيات كثيرة، كقوله في «سورة يونس»: { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ المَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ } .
وقوله: { قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } .
وقوله: { وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ } .
وقوله: { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ } إلى غير ذلك من الآيات.(1/399)
ثم حذر من كفران نعمته وأبان جل وعلا في هذا الموضع الذي تقدم سخافة عقول الكفار، وأنهم إذا وصلوا إلى البر ونجوا من هول البحر، رجعوا إلى كفرهم آمنين عذاب الله، مع أنه قادر على إهلاكهم بعد وصولهم إلى البر بأن يخسف بهم جانب البر الذي يلي البحر بزلزلة أو بركان أو غيرهما من الأسباب المسخرة لقدرة الله، أو يرسل عليهم حجارة من السماء فتهلكهم أو يعيدهم فيه، فيرسل عليهم ريحًا قاصفة تقصف الصواري وتحطم السفن، فيغرقهم بسبب كفرهم وإعراضهم فلا يجدون من يطالب بعدهم بتبعة إغراقهم.
قال تعالى: { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } ، قال قتادة في تفسير قوله تعالى: { ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا } : أي لا نخاف أحدًا يتبعنا بشيء مما فعلنا يريد أنكم لا تجدون ثائرًا يطلبنا بما فعلنا انتصارًا منا أو دركًا للثأر من جهتنا، وفي معنى الآية قوله تعالى: { فَسَوَّاهَا * وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا } .
وقوله تعالى: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } .
هذا إجمال منه تعالى لذكر النعمة التي أنعم بها على بني آدم وشرفهم بها، وهذه يدخل تحتها خلقهم على هذه الهيئة الحسنة المعتدلة، كقوله تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } ، وقوله: { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } .
ولقد أجاد القائل:
ما أنت مادحها يا من يشبهها
من أين للشمس خال فوق وجنتها
وأين للبدر أجفان مكحلة بالسحر ... وبالشمس والبدر لا بل أنت هاجيها
ومضحك من نظام الدر في فيها
والغنج تجري في حواشيها(1/400)
وقال بعض أهل العلم من تكريم الله لبني آدم: كون الإنسان يمشي على رجليه قائمًا منتصبًا ويأكل بيديه، وغيره من الحيوان يمشي على أربع ويأكل بفمه، وجعله الله سميعًا بصيرًا، وجعل له فؤاده يفقه به وينتفع به، ويفرق به بين الأشياء، ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية، وقيل: ميزهم بالنطق والعقل والتمييز.
وقيل: أكرمهم بتسليطهم على سائر الخلق، وتسخير سائر الخلق لهم.
وقيل: بالكلام والخط والفهم.
وقيل: أكرم الرجال باللحي، والنساء بالذوائب.
ويروى: ومن تسبيح الملائكة سبحان من زين الرجال باللحى، ولاشك إن اللحية جمال وزينة للرجال وإعفاؤها من سنن الأنبياء والمرسلين، قال الله تعالى إخبارًا عما قاله هارون لموسى: { قَالَ يَا بْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } .
وقال تعالى بعد أن عد الأنبياء ومنهم هارون: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } ، وأمره - صلى الله عليه وسلم - أمر لنا؛ لأن أمر القدوة أمر لإتباعه.
وروى البخاري ومسلم في «صحيحيهما» عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:«خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب».
ولهما أيضًا: «أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى»، وفي رواية: «انهكوا الشوارب وأعفوا اللحى»، والتوفير هو الإبقاء، أي اتركوها وافرة، وإعفاؤها: تركها على حالها.
ولمسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خالفوا المجوس؛ لأنهم كانوا يقصرون لحاهم ويطولون الشوارب».
ولابن حبان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من فطرة الإسلام: أخذ الشارب وإعفاء اللحى، فإن المجوس تعفى شواربها وتحفى لحاها، فخالفوهم، خذوا شواربكم، وأعفوا لحاكم».
وفي «صحيح مسلم»: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُمرنا بإحفاء الشوارب، وإعفاء اللحية».(1/401)
وله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى»، وجز الشارب: قصه، وإرخاء اللحية: تطويلها.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعًا: «أعفوا اللحى، وجزوا الشوارب، ولا تشبهوا باليهود والنصارى».
وللبزار عن ابن عباس مرفوعًا: «لا تشبهوا بالأعاجم: أعفوا اللحى».
وروى أبو داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم».
وله عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى».
وروى ابن أبي شيبة أن رجلاً من المجوس جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان قد حلق لحيته وأطال شاربه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما هذا؟» قال: هذا ديننا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لكن في ديننا أن نحفي الشوارب، وأن نعفي اللحية».
وأخرج الحارث بن أبي أسامة عن ابن كثير، قال: «أتى رجل من العجم المسجد، وقد وفر شاربه وجز لحيته، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وما حملك على هذا؟» فقال: إن ربي أمرني بهذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله أمرني أن أوفر لحيتي، وأحفي شاربي»».
وجاء في رواية ابن جرير عن زيد بن حبيب: أن رجلين من المجوس دخلا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، فكرر النظر إليهما، وقال: «ويلكما من أمركما بهذا»، قالا: أمرنا ربنا –يعنيان كسرى-، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي».
وروى مسلم عن جابر - رضي الله عنه -، قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير اللحية».
وللترمذي عن عمر كث اللحية، وفي رواية كثيف اللحية، وفي أخرى عظيم اللحية.
وعن أنس: كانت لحيته قد ملأت من هنا إلى هنا وأمر يده على عارضيه.(1/402)
وكان الخلفاء الراشدون الذين آمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأخذ بسنتهم والعض عليها بالنواجذ يعفون لحاهم، وكذلك التابعون، إذا فهمت ذلك أي ما تقدم من أمره - صلى الله عليه وسلم - وفعله، فاسمع ما قال الله جل وعلا في الأمر بطاعته وطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال الله تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } ، وقال: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } .
وقال: { مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } ، وقال: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
وقال: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } .
وقال: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } ، وقال: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.
وأما ما قاله أهل العلم، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية: يحرم حلقها، وقال القرطبي: لا يجوز حلقها ولا قصها، وحكى ابن حزم: الإجماع على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض.
وقال في «الدر المختار»: وأما الأخذ منها، وهي دون القبضة كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال، فلم يبحه أحد.
وقال في «التمهيد»: ويحرم حلق اللحية، ولا يفعله إلا المخنثون من الرجال.
وقال الإمام أبو شامة: وقد حدث قوم يحلقون لحاهم وهو أشد مما نقل عن المجوس من أنهم كانوا يقصونها.(1/403)
وفي «أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن»: والعجب من الذين مسخت ضمائرهم، واضمحل ذوقهم حتى صاروا يفرون من صفات الذكورية وشرف الرجولة إلى خنوثة الأنوثية، ويمثلون بوجوههم بحلق أذقانهم، ويتشبهون بالنساء، حيث يحاولون القضاء على أعظم الفوارق الحسية بين الذكر والأنثى، وهو اللحية. اهـ.
وقال العلماء: وفي اللحية إذا أزيلت ولم تعد دية كاملة، قلت: ويخشى على حالقها بغضًا لها وكراهة أن يكون ذلك ارتدادًا عن الإسلام؛ لأن من نواقض الإسلام بغض شيء ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقدم أمره - صلى الله عليه وسلم - بإعفائها وتوفيرها نسأل الله أن يعصمنا وإخواننا المسلمين من التعرض لها بحلق أو نتف أو قص أو كي، اللهم صل على محمد.
ولا مانع من حمل التكريم المذكور على جميع هذه الأشياء وأعظم ذلك أي خصال التكريم العقل، فإنهم به تسلطوا على جميع الحيوانات، وميزوا بين الحسن والقبيح، وتوسعوا في المطاعم والمشارب وكسبوا الأموال التي تسببوا بها إلى تحصيل أمور لا تقدر عليها الحيوانات، وبه قدروا على تحصيل الأبنية التي تمنعهم بإذن الله مما يخافون، وعلى تحصيل الأكسية التي تقيهم الحر والبرد، ولله در القلائل:
وما وهب الله لامرئ هبة
هما حياة الفتى فإن فقدا ... أشرف من عقله ومن أدبه
فإن فقد الحياة أجمل به
وقيل: تكريمهم هو أن جعل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - منهم.
وأخرج الطبراني والبيهقي في «الشعب»، والخطيب في «تاريخه» عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم»، قيل: يا رسول الله، ولا الملائكة، قال: «ولا الملائكة، الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر».(1/404)
وقوله تعالى: { وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ } ، هذا تخصيص لبعض أنواع التكريم، أي وحملناهم في البر على الدواب من الأنعام والخيل والبغال والحمير، وعلى ما خلق لهم في هذا الزمان من السيارات والقطارات والطائرات بأنواعها، وفي البحر أيضًا على السفن الكبار والصغار والمراكب ونحو ذلك مما حدث وما سيحدث.
وقوله: { وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ } أي من زروع وثمار ولحوم وألبان وفواكه، من سائر أنواع الطعوم والألوان المشتهيات اللذيذة المناظر الحسنة والملابس الرفيعة من سائر الأنواع على اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها مما يصنعونه لأنفسهم ويجلبه عليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي، والإنسان ينسى ما رزقه الله من الطيبات بطول الألفة، كما قيل:
إذا ألف الشيء استهان به الفتى
كإنفاقه من عمره ومساغه ... فلم يره بؤسًا يعد ولا نعمًا
من الريق عذبًا لا يحسن له طعمًا
فلا يذكر الكثير من هذه الطيبات التي رزقها إلا حين يحرمها، فعندئذ يعرف قيمة ما يستمتع به، ولكن سرعان ما يعود فينسى، هذا الهواء، هذه الشمس، هذا الماء، هذه الصحة، هذه القدرة، هذه الأرض المبسوطة، هذه الأعضاء المطاوعة لما يريد، هذه القدرة على الحركة، هذه الحواس، هذا العقل، هذا الكلام، هذه المطاعم والمشارب والملابس، هذا الكون.
وقد أمر الله عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم، وأمرهم أن يشكروه على ذلك إن كانوا إياه يعبدون، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة.(1/405)
كما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين»، فقال: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } ، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ، ثم ذكر: «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يُستجاب لذلك» رواه مسلم.
وقوله تعالى: { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } أي من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات، وقد استدل بهذه الآية الكريمة على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة.
وقال عبدالرزاق: أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم، قال: قالت الملائكة: يا ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها ويتنعمون، ولم تعطنا ذلك، فأعطنا الآخرة، فقال الله تعالى: «وعزتي وجلالي، لا أجعل صالح ذرية ما خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان»، وهذا الحديث مرسل من هذا الوجه، وقد روي متصلاً من وجه آخر.
وقوله: { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } بعد أن ذكر جل وعلا أحوال بني آدم في الدنيا، وذكر أنه كرمهم وفضلهم على كثير ممن خلقه، فصل فيما يلي من الآيات أحوالهم في الآخرة، فأخبر الله تعالى عن يوم القيامة أنه يحاسب كل أمة بإمامهم.
وقد اختلف المفسرون في تعيين الإمام الذي يدعى كل أناس به يوم القيامة، فعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه إمام زمانهم إمام هدى أو إمام ضلالة، فأهل الإيمان ائتموا بالأنبياء –عليهم السلام- وأهل الكفر ائتموا بأئمتهم، كما قال تعالى: { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } .(1/406)
وفي «الصحيحين»: «لِتَتَبِعْ كلُ أمة ما كانت تعبد، فيتبع مَن كان يعبد الطواغيت الطواغيت» الحديث.
والثاني: أنه كتاب كل إنسان الذي فيه عمله، أي يدعى كل إنسان بكتاب عمله، ويؤيد هذا قوله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ } الآية.
وقال ابن زيد: الإمام هو الكتاب المنزل عليهم، فيدعى أهل التوراة بالتوراة، وأهل الإنجيل بالإنجيل، وأهل القرآن بالقرآن، فيقال: يا أهل التوراة، يا أهل الإنجيل، يا أهل القرآن.
وقال قتادة: إمامهم نبيهم.
وعن أنس مثله، فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم، هاتوا متبعي موسى، هاتوا متبعي عيسى، هاتوا متبعي محمد - صلى الله عليه وسلم -.
والقول بأن المراد بالإمام كتاب الأعمال هو الذي تميل إليه النفس؛ لقوله تعالى: { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ } ، وقوله تعالى: { وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } ، وقوله بعدها: { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } والله أعلم.
والخلاصة: أن المعول عليه يومئذ الأعمال والأخلاق والآراء والعقائد النفسية التي تغرس في النفوس لا الأنساب؛ لأن الأولى باقية،والثانية فانية.
وقوله تعالى: { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } أي فمن أعطي من أولئك المدعويين كتاب عمله بيمينه، فأولئك يقرؤن كتابهم مبتهجين فرحين بما فيه من العمل الصالح، وتخصيص اليمين بالذكر للتشريف والتبشير، والإشارة في قوله تعالى: { فَأُوْلَئِكَ } إلى من باعتبار معناه.(1/407)
قيل: ووجه الجمع الإشارة إلى أنهم مجتمعون على شأن جليل، والإشعار بأن قراءتهم لكتبهم تكون على وجه الاجتماع لا على وجه الانفراد، ونحو هذه الآية قوله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ } وهذا يقوي قول من قال بإمامهم بكتابهم، { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } أي لا ينقصون شيئًا من أجور أعمالهم، كما قال تعالى: { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا } .
الفتيل: هو الخيط الذي في الحز الكائن في النواة طولاً، والقطمير: هو قشرة النواة، والنقير: هو الخيط الذي في النقرة التي في ظهر النواة.
وقوله تعالى: { وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً } .
أي من كان من المدعوين في هذه الدنيا فاقد البصيرة أعمى القلب لا يبصر سبيل الرشد، فهو في الآخرة أعمى، وهذا يحتمل أن يُراد به أعمى البصر، كقوله: { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى } ، وقوله: { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًا } الآية، ويحتمل أن يُراد عمى القلب.
وقيل: المراد من عمي عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا، فهو عن نعم الآخرة أعمى.
وقيل: من كان في الدنيا التي تقبل فيها التوبة أعمى، فهو في الآخرة التي لا توبة فيها أعمى.
وقيل: من كان في الدنيا أعمى عن حجج الله فهو في الآخرة أعمى، وقد قيل: إن قوله: { فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى } أفعل تفضيل أي أشد عمى وهذا مبني على أنه من عمى القلب، إذ لا يقال ذلك في عمى العين، قال الخليل وسيبويه: لأنه خلقة بمنزلة اليد والرجل، فلا يقال: ما أعماه! كما لا يقال: ما أيداه! لأنه على أكثر من ثلاثة أحرف.
وقد حكى القراء عن بعض العرب أنه سمعه يقول: ما أسود شعره! ومن ذلك قول الشاعر:
ما في المعالي لكم ظل ولا ثمر(1/408)
أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم ... وفي المخازي لكم أشياخ أشياخ
لؤما وأبيضهم سربال طباخ
وقوله: { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } من الأعمى لكونه لا يجد طريقًا إلى الهداية بخلاف الأعمى، فإنه قد يهتدي في بعض الأحوال، قال ابن عباس: من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرتي من خلق السموات والأرض، والجبال، والبحار، والناس، والدواب، وأشباه ذلك، فهو عما وصفت له في الآخرة ولم يره أعمى وأبعد حجة.
والخلاصة: أن السياق يرسمه في المشهد المزدحم الهائل أعمى ضالاً يتخبط لا يجد من يهديه ولا من يهتدي به. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
مما يستفاد من الآيات السابقة:
1- إثبات الربوبية العامة.
2- إثبات قدرة الله.
3- لطف الله بخلقه.
4- الحث على طلب الرزق.
5- إثبات صفة الرحمة.
6- الرد على المعطلة نفات الصفات.
7- التعليل لأفعال الله وأنه جل وعلا لا يفعل شيئًا إلا لعلة وحكمة.
8- أن الناس إذا مسهم الضر في البحر ذهب عن خواطرهم كل ما يدعونه ويرجون نفعه.
9- أنهمن في ذلك الوقت العصيب يلجئون إلى فاطر السموات لكشف ما حل بهم من الضر.
10- أن الناس عندما تتجلى عنهم الشدة وينجيهم الله إلى البر يعرضون وينسون، كما قال تعالى: { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ } .
11- أن الإنسان كفور لنعم الله، إلا من عصمه الله.
12- أن المصائب والأخطار تجلو الفطرة، وربما كانت هداية لبعض الناس، كما جرى لعكرمة بن أبي جهل.
13- الخوف من عقوبات الله.
14- إثبات علم الله.
15- أن الله تعالى يذكر الخلق ببعض نعمه عليهم لعلهم يهتدون.
16- إنكار الله على الخلق في سوء معاملتهم حيث يلجئون إليه في الشدائد، ويعرضون عنه في الرخاء.(1/409)
17- أن من ظن أن الهلاك لا يكون إلا في البحر فظنه خاطئ، فالله قادر عليهم أينما كانوا في البر أو في البحر، أو في جو السماء لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء جل وعلا.
18- أن في قوله تعالى: { وَكَانَ الإِنسَانُ كَفُورًا } لطافة حيث أعرض سبحانه عن خطابهم بخصوصهم، وذكر أن جنس الإنسان مجبول على الكفران، فلما أعرضوا أعرض الله سبحانه عنهم.
19- أنه لا راد لما أراد الله.
20- في الآية إيماء إلى كمال شدة هول ما لا قوة في التارة الأولى، بحيث لولا الإعادة ما عادوا.
21- أن الكفر سبب الهلاك.
22- أن الخلق نواصيهم بيد الله في كل لحظة وفي كل بقعة برًا أو بحرًا.
23- تكريم الله لبني آدم.
24- إحسان الله على بني آدم بحملهم في البر.
25- إحسانه بحملهم في البر.
26- أن الله هو الرزاق.
27- على بني آدم أن يشكر على هذه النعم التي لا تحصي، وتقدم أنموذج منها.
28- على الإنسان أن يحذر من كفران هذه النعم، وأن يجتنب معاصي الله.
29- إثبات الأفعال الاختيارية لله.
30- إثبات البعث.
31- إثبات الحشر والحساب.
32- إثبات الجزاء على الأعمال.
33- أن المؤمن يؤتي كتابه بيمينه وأنه يقرؤه.
34- أن الله لا يظلم أحدًا.
35- أن المعول على رحمة الله ثم على الأعمال.
36- تشريف اليمين لتخصصها بالذكر.
37- فيه إشارة إلى أنهم مجتمعون لأمر عظيم.
38- أن من كان في الدنيا أعمى عن حجج الله فهو في الآخرة أشد عمى.
39- أنه أضل من الأعمى طريقًا.
40- أن الجزاء من جنس العمل، فكما عمى عن آيات الله يكون في الآخرة أعمى.
41- الحث على إتباع الكتاب والسُّنة والعمل بهما، والتفكر في آيات الله ليفوز بالسلامة من سوء العاقبة.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم(1/410)
قال الله تبارك وتعالى: { كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ حِمْلاً * يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا * وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلاَ أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } [طه: 99-110].
المفردات:
الأنباء: الأخبار، ذكرًا: أي قرآنًا، الوزر: الحمل الثقيل، الصور: قرن ينفخ فيه يدعى به الناس للمحشر، زرقا: زرق العيون من شدة ما هم فيه من الأهوال، وقيل: زرقا أبدانهم من الخوف والقلق والعطش، يتخافتون بينهم: يخفضون أصواتهم ويخفونها، إلا عشرا: أي عشرة أيام، أمثلهم: أعلمهم طريقة، ينسفها: يذهبها ويمحقها ويسيرها، يذرها: يتركها، القاع: الأرض التي لا نبات فيها، الصفصف: الأرض الملساء، والعوج: الانخفاض، والأمت: النتوء اليسير، الداعي: هو داعي الله إلى المحشر، لا عوج له: لا عوج لدعوة الداعي، خشعت: ذلت، والهمس: الصوت الخفي، عنت: خضعت، خاب: خسر، الظلم: الشرك.(1/411)
بعد أن شرح جل وعلا قصص موسى - عليه السلام - مع فرعون أولاً، ثم مع السامري ثانيًا على نمط بديع وأسلوب قديم، بين لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أن هذا القصص عن الأمم الماضية والقرون الغابرة كعاد وثمود وأصحاب الأيكة نلقيه إليك لنثبت به قلبك، وإذهابًا لحزنك، إذ به تعرف ما حدث للرسل من قبلك من شدائد الأهوال، وتذكيرًا للمستبصرين في دينهم، وتأكيدًا للحجة على من عاند وكابر من غيرهم.
وقوله: { وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا } أي وقد آتيناك من لدنا كتابًا جديرًا بالتذكر به؛ لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ولم يعط نبي قبلك مثله، فهو جامع للأخبار، حاو للأحكام التي فيها صلاح أحوال البشر في دينهم ودنياهم مشتمل على مكارم الأخلاق وسامي الآداب التي بها يرتفع قدر الأمم وينبه ذكرها وبه يتذكر ما لله من الأسماء والصفات الكاملة.
وإذا كان القرآن ذكرًا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولأمته فيجب تلقيه بالقبول والتسليم والانقياد والتعظيم، وأن يهتدى بنوره إلى الصراط المستقيم، وأن يقبلوا عليه بالتعلم والتعليم.
قال العلماء: ويبدئ الصبي وليه به قبل العلم فيقرأه كله؛ لأنه إذا قرأه أولاً تعود القراءة ثم لزمها، ومن الضروري إتقان التلاوة؛ لأنها أصل هام يتفرع عنه فهمه وتدبره والتأثر بمعانيه، وفهم آداب الدين وأسرار العقيدة، وإتقان تلاوته من أعظم الوسائل لإتقان اللغة العربية والمران على أساليبها، واختزان ثروة عظيمة منها.
وقوله تعالى: { مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْرًا } أي من أعرض عن إتباع القرآن وابتغى الهدى من غيره، أو تهاون بأوامره ونواهيه، فإن الله يضله ويهديه إلى سواء الجحيم، وسيحمل يوم القيامة من الأوزار والآثام ما لا يقدر على حمله، بل ينقض ظهره.(1/412)
قال تعالى: { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } ، وهذا عام في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم، أهل الكتاب وغيرهم، كما قال: { لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } ، فكل من بلغه القرآن فهو نذير له وداع له.
وقوله: { خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ حِمْلاً } أي مقيمين في ذلك الوزر؛ لأن العذاب هو نفس الأعمال، تنقلب عذابًا على أصحابها بحسب صغرها وكبرها، وبئس الحمل من الأوزار والآثام جزاء إعراضهم وسائر ذنوبهم.
وقوله: { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ } منصوب بإضمار اذكر أو بدلاً من يوم القيامة، أو بيانًا له، وثبت في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن الصور، فقال: «قرن ينفخ فيه».
وقد جاء في حديث الصور من رواية أبي هريرة: «إنه قرن عظيم الدائرة منه بقدر السموات والأرض، ينفخ فيه إسرافيل -عليه السلام-».
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كيف أنعم وصاحب الصور قد التقمه وأصغى سمعه، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر بالنفخ»، فقال: يا رسول الله، وما تأمرنا؟ قال: «قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل» رواه الترمذي وأبو داود والدارمي.
عن ابن عباس قال في قوله تعالى: { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ } الصور، قال: والراجفة النفخة الأولى، والرادفة الثانية، رواه البخاري.
وقوله: { وَنَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا } أي ونسوق أهل الكفر بالله يومئذ إلى موقف القيامة زرقا، قيل: زرق العيون، والزرقة أبغض ألوان العيون إلى العرب؛ لأن الروم أعداءهم زرق العيون، ولذلك قالوا في صفة العدو أسود الكبد، أصهب السربال، أزرق العينين، وقال الشاعر:
وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بِكفَيْ سِبَنتي أزرقَ العين مُطِرَقُ
وكانوا يهجون بالزرقة كما في قوله:
لقد زرقت عيناك يا ابنَ معكبرٍ ... ألا كل ضبِي مِن اللؤم أزرقُ(1/413)
وقيل: أريد بذلك أنهم يحشرون عميًا كالذي قال الله: { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا } ، وسُئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن الجمع بين زرقا على ما روى عنه وعميًا في آية أخرى؟ فقال: ليوم القيامة حالات، فحالة يكونون فيها زرقا.
وقوله: { يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا } أي يتهامسون بينهم، ويسر بعضهم إلى بعض في قصر مدة الدنيا وسرعة زوالها وقرب الآخرة، فيقول بعضهم لبعض: ما لبثتم في الدنيا إلا عشرًا، أي عشرة أيام، ذلك والله أعلم أنهم لما عاينوا تلك الأهوال ذهلوا عن مقدار عمرهم في الدنيا، ولم يذكروا إلا القليل، فقالوا: ما عشنا إلا تلك الأيام القلائل، والإنسان حين الشدائد والكرب والأهوال والمزعجات تغيب عنه أظهر الأشياء وأكثرها.
وقوله تعالى: { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا } يقول جل ذكره: نحن أعلم منهم عند إسرارهم وتخافتهم بينهم بقولهم إن لبثتم إلا عشرًا.
يقول: لا يخفى علينا مما يتسارون بينهم شيء إذ يقول أمثلهم أي أعدلهم وأقربهم إلى التقدير، وأوفاهم عقلاً وأعلمهم فيهم إن لبثتم في الدنيا إلا يومًا، ذاك أن الدنيا وإن تكررت أوقاتها وتعاقبت لياليها وأيامها قصيرة المدى، وقديمًا قيل:
ألا إنما الدنيا كظل سحابة
فلا تَكُ فَرْحَانًا بِها حِينَ أقبلتْ ... أَظَلَّتْكَ يومًا ثم عَنْكَ إضْمَحَلتَّ
ولا تَكُ جَزْعَانًا إذا هِي وَلَّتْ
والمقصود من هذا الندم العظيم كيف ضيعوا الأوقات القصيرة وقطعوها ساهين لاهين معرضين عما ينفعهم، مقبلين على ما يضربهم فها قد حضر الجزاء وحق الوعيد، فلم يبق إلا الحسرة والندم، والتلهف وطلب العودة وهيهات.(1/414)
وقوله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا } قيل: في سبب نزولها إن رجالاً من ثقيف أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا محمد، كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ فنزت هذه الآية.
والنسف: القلع، أي يقلعها من أصولها ويجعلها هباء منثورًا، وسؤالهم هذا والله أعلم سؤال تهكم واستهزاء واستبعاد، وطعن في الحشر والنشر، لا سؤال معرفة واسترشاد وتثبيت للحق.
وقوله تعالى: { فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا } المعنى: أن الله يذهبها عن أماكنها، ويمحقها ويسيرها تسييرًا، ويدع أماكن الجبال من الأرض { قَاعًا صَفْصَفًا } يعني أرضًا ملساء مستوية لا نبات فيها، لا ترى في الأرض يومئذ واديًا ولا رابية، ولا مكانًا منخفضًا ولا مرتفعًا، وقال قتادة: لا ترى صدعًا ولا أكمة.
وقوله: { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ } أي يوم إذ تنسف الجبال، ويرى الناس هذه الأحوال والشدائد والكروب والأهوال، يستجيبون مسارعين حينما سمعوا صوت الداعي إلى الموقف، فيتبعون توجيهه صامتين مستسلمين لا يلتفتون ولا يتخلفون.
قال تعالى: { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ اليَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } .
وقال: { مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ } وقد كانوا يدعون إلى الهدى.
فيتخلفون ويعرضون في الدنيا، ثم يخيم الصمت الرهيب والسكون الغامر.
{ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا } أي سكنت وخضعت وذلت، وفي الهمس ثلاثة أقوال:
أولها: إنه وطيء الكلام.
والثاني: إنه تحريك الشفاه بغير نطق.
الثالث: الكلام الخفي.(1/415)
والخلاصة: أنه في ذلك اليوم العظيم يملك الخلق الخشوع، والسكون، والذل، والانكسار، والإنصات، انتظارًا لحكم الرحمن فيهم، فترى في ذلك الموقف العظيم الذي جمع الله فيه الأولين والآخرين، الأغنياء والفقراء، والرجال والنساء، والأحرار والأرقاء والملوك والسوقة، ساكتين منصتين خاشعة أبصارهم خاضعة رقابهم، جاثين على ركبهم، عانية وجوههم، لا يدرون ماذا ينفصل كل منهم به، ولا ماذا يفعل به، قد اشتغل كل منهم بنفسه وشأنه عن أبيه وأخيه، وصديقه وحبيبه، قال الله تعالى: { لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } .
وقوله: { يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } يقول تعالى: { يَوْمَئِذٍ } أي يوم القيامة لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن أن يشفع ورضي له قولاً، فلا يشفع أحد عنده من الخلق إلا من أذن له في الشفاعة، ولا يأذن إلا لمن ارتضي شفاعته من الأنبياء والمرسلين وعباده المقربين فيمن ارتضي قوله وعمله، وهو المؤمن الموحد المخلص.
فللشفاعة شرطان ذكرا في هذه السورة، وفي سورة النجم، قال تعالى: { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى } ، وقال تعالى: { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } .
وفي «الصحيحين» من غير وجه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو سيد ولد آدم وأكرم الخلق على الله عز وجل، أنه قال: «إني تحت العرش، وأخر لله ساجدًا، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن، فيدعني ما شاء أن يدعني، ثم يقول: يا محمد، ارفع رأسك وقل تسمع، واشفع تشفع، قال: فيحد لي حدًا فيدخلهم الجنة، ثم أعود» فذكر أربع مرات صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء.(1/416)
وفي الحديث أيضًا يقول الله تعالى: «أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقول: أخرجوا من النار من كان في قلبه نصف مثقال من إيمان، أخرجوا من النار من كان في قلبه ما يزن ذرة، من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان» الحديث.
وقوله تعالى: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } ، أي ما بين أيديهم من أمر الساعة وما خلفهم من أمر الدنيا.
قال قتادة: وقيل: يعلم ما يصيرون إليه من ثواب أو عقاب، وما خلفهم: ما خلفوه ورائهم في الدنيا.
والمراد هنا جميع الخلق، وقيل: المراد بهم الذين يتبعون الداعي، وقوله: { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } ، كقوله: { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ } ، المعنى: أنه محيط بعباده علمًا، ولا يحيط عباده به علمًا.
قال ابن القيم - رحمه الله -:
وهو العليم أحاط علمًا بالذي
وبكل شيء علمه سبحانه
وكذلك يعلم ما يكون غدا وما ... في الكون من سر ومن إعلان
فهو المحيط وليس ذا نسيان
قد كان والموجود في ذا الآن
وقوله: { وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّومِ } قال ابن عباس: وغير واحد خضعت وذلت، واستسلمت الخلائق للجبار الحي الذي لا يموت، القيوم الذي لا ينام وهو قيم على كل شيء، يدبره ويحفظه، فهو الكامل في نفسه الذي كل شيء فقير إليه، لا قوام إلا به.
وورد أن الحي القيوم هو الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب، وإذا سُئل به أعطى، بدلالة الحي على الصفات الذاتية، والقيوم على الصفات الفعلية والصفات كلها ترجع إليهما.
قال ابن القيم - رحمه الله -:
هذا ومن أوصافه القيوم
إحداهما القيوم قام بنفسه
فالأول استغناؤه عن غيره ... والقيوم في أوصافه أمران
والكون قام به الأمران
والفقر من كل إليه الثاني(1/417)
{ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا } ، يقول جل ذكره: ولم يظفر بحاجته وطلبته من حمل إلى موقف القيامة شركًا بالله، وكفرًا به، وعملاً بمعصيته.
وفي «الصحيح»: «إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» والخيبة كل الخيبة من لقي ربه وهو مشرك، فإن الله تعالى يقول: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» رواه مسلم.
وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ليملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته»، ثم قرأ: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } .
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين» متفق عليه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحب المظلمة فحمل عليه» رواه البخاري.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتدرون من المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» رواه مسلم.(1/418)
وقوله تعالى: { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا } ، وبعد أن ذكر جل وعلا أهوال يوم القيامة بين حال المؤمنين حينئذ، وأن من يعمل من الصالحات وهو مؤمن بربه ورسله وما أنزل عليهم من كتبه لا يخاف ظلمًا ولا هضمًا، وفي قوله: { فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا } أربعة أقوال:
أحدها: لا يخاف أن يظلم فيزاد في سيئاته، ولا أن يهضم من حسناته.
والثاني: لا يخاف أن يظلم فيزاد من ذنب غيره، ولا أن يهضم من حسناته، قاله قتادة.
والثالث: أن لا يخاف أن يؤاخذ بما لم يعمل ولا ينتقص من عمله، قاله الضحاك.
الرابع: لا يخاف أن لا يجزي بعمله ولا أن ينتقص من حقه، قاله ابن زيد.
وأصل الهضم: النقص، يقال: هضمني فلان حقي، ومنه امرأة مضيم إذا كانت ضامرة البطن. قال امرئ القيس:
إذا قلت هاتي نوليني تمايلت ... على هضيم الكشح ريا المخلخل
وقوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا } أي وكما أنزلنا ما ذكر من الوعد والوعيد وأحوال يوم القيامة وأهوالها أنزلنا القرآن كله بأسلوب عربي مبين؛ ليفهم ويتفقه بدراسته ويسعد بالعمل بما حواه مما فيه سعادة البشر في دنياهم وأخراهم.(1/419)
وقوله تعالى: { وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا } أي كررنا وفصلنا القول فيه بذكر الوعيد، ونوعنا ذلك أنواعًا كثيرة تارة بذكر أسمائه جل وعلا الدالة على العدل والانتقام، وتارة بذكر آثار الذنوب وما تكسبه من العيوب، وتارة بذكر المثلات التي أحلها بالأمم السابقة الظالمة، وتارة بذكر أهوال يوم القيامة وما فيها من الشدائد والكروب، وتارة بذكر جهنم وما فيها من أنواع العقاب وأصناف العذاب، كل ذلك رحمة بالعباد لعلهم يتقون الله فيتركون من الشر والمعاصي ما يضرهم، أو يحدث لهم ذكرا فيعملون من الطاعات والخير ما ينفعهم، وكونه عربيًا وكونه مصرفًا فيه من الوعيد أكبر سبب وأعظم داع للتقوى والعمل الصالح.
وقوله: { فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ } لما ذكر تعالى حكمه الجزائي في عباده، وحكمه الأمري الديني الذي أنزل في الكتاب، وكان هذا من آثار ملكه وعظيم نعمته نزه نفسه عن مماثلة مخلوقاته في شيء من الأشياء، فقال: { فَتَعَالَى اللَّهُ } أي جل وتقدس وارتفع عن كل نقس وعيب وآفة، وجل عن إلحاد الملحدين، وعما يقوله المشركون والمبتدعون في صفاته.
فإنه الملك الذي بيده الثواب والعقاب، الذي لا يزول ملكه ولا يتغير، وليس بمستفاد من قبل الغير، ولا غيره أولى به منه، وكل ملك سواه يملك بعض الأشياء، ويبيد ملكه ويفنى.
{ الحَقُّ } أي وجود وملكه وكماله حق، فصفات الكمال لا تكون حقيقة إلا لذي الجلال والإكرام، ومن ذلك الملك.
وقوله: { وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا } هذا كقوله تعالى: { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } .(1/420)
وثبت في «الصحيح» عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعالج من الوحي شدة فكان مما يحرك به لسانه، فأنزل الله هذه الآية، يعني أنه –عليه الصلاة والسلام- كان إذا جاء جبريل بالوحي، كلما قال جبريل آية قالها معه من شدة حرصه على حفظ القرآن، فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه لئلا يشق عليه، فقال: { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } ، والمعنى: لا تبادر بتلقف القرآن حين يتلوه عليك جبريل، واصبر حتى يفرغ منه، فإذا فرغ منه فاقرأه، فإن الله قد ضمن جمعه لك في صدرك وقراءتك إياه.
ولما كان عجلته - صلى الله عليه وسلم - بتلقف القرآن دالة على محبته التامة ورغبته في العلم وحرصه عليه أمره الله أن يسأله الزيادة من العلم، فقال: { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا } أي زدني منك.
قال ابن عيينة -رحمه الله -: ولم يزل - صلى الله عليه وسلم - في زيادة حتى توفاه الله.
وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علمًا، والحمد لله على كل حال» رواه ابن ماجه.
وعن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا أصبح: «اللهم إني أسألك علمًا نافعًا ورزقًا طيبًا، وعملاً متقبلاً».
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
مما يفهم من الآيات [99- 114] من سورة «طه»:
1- تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
2- تذكرة للمستبصرين في دينهم.
3- تأكيد للحجة على من عاند وكابر.
4- تسمية القرآن ذكرًا.
5- أنه من عند الله.
6- الوعيد العظيم على من أعرض عن القرآن.
7- أن من أعرض عنه يحمل يوم القيامة وزرًا.
8- إثبات البعث، وهو إعادة الأبدان وإدخال الأرواح فيها.
9- أن من أعرض عن القرآن خالدًا في وزره.(1/421)
10- التحذير عن الإعراض عن القرآن.
11- أن القرآن يتذكر به.
12- إثبات الجزاء على الأعمال.
13- أنه بئس الحمل حمل الأوزار.
14- الحث على التذكر ليوم القيامة والنفخ في الصور.
15- إثبات النفخ في الصور.
16- إثبات الحشر.
17- أن المجرمين يحشرون زرق العيون.
18- أن الرعب والذعر يملأ القلوب؛ ولهذا يتسارون في الكلام.
19- استقصارهم مدة مقامهم في الدنيا.
20- إثبات علم الله جل وعلا.
21- الرد على من أنكر صفة العلم.
22- أن في نسبة قول اليوم إلى أمثلهم ما يدل على شدة الهول.
23- إثبات صفة الكلام لله جل وعلا.
24- الرد على من قال أن القرآن كلام محمد - صلى الله عليه وسلم -.
25- أن الله تعالى يوم القيامة ينسف الجبال.
26- أن الأرض في ذلك الوقت تسوى وتكون قاعًا صفصفًا لا ارتفاع فيها ولا انخفاض.
27- أن في يوم القيامة يدعو الناس داع يحثهم إلى الموقف.
28- أنه لا يكون لهم ميل عنه ولا انحراف.
29- أن الأصوات في ذلك اليوم تسكن وتذل وتخضع للرحمن.
30- إثبات صفة الرحمة لله جل وعلا.
31- أن الشفاعة لا تنفع إلا إذا جمعت شرطين: إذن الله للشافع أن يشفع، والثاني: رضاه عن المشفوع له، وهو المؤمن المخلص.
32- أن من لم يكن كذلك لا تنفعه الشفاعة.
33- إثبات صفة الرضى لله.
34- إحاطة علم بما بين أيديهم وما خلفهم.
35- أن الخلق لا يحيطون بالله علمًا.
36- أن الوجوه تخشع وتذل لله في ذلك اليوم.
37- إثبات صفة الحياة.
38- إثبات القيومية لله.
39- التحذير من الظلم.
40- الوعيد الشديد لمن حمل ظلمًا.
41- تخصيص الوجوه بالذكر في قوله: { وَعَنَتِ الوُجُوهُ } ؛ لأنها أشرف الأعضاء، ولأن عليها المدار في المعرفة والحب والبغض.
42- الحث على الأعمال الصالحة.
43- إثبات عدل الله، وأنه أعدل العادلين.
44- أن عامل الصالحات وهو مؤمن لا يظلمه الله فيحمل عليه سيئات غيره، ولا ينقص من حسناته.
45- أن الإيمان شرط في صحة الطاعات وقبول الحسنات.(1/422)
46- دليل على علو الله على خلقه.
47- أن القرآن منزل.
48- الرد على من قال إنه مخلوق كالجهمية والمعتزلة.
49- أنه بلغة العرب.
50- منة الله على العرب حيث نزل بلغتهم.
51- أن الله نوع في القرآن وفصل.
52- لطف الله بخلقه.
53- الحث على التقوى.
54- دليل على عظمة الله.
55- تنزيه الله وتقديسه عن الشركاء والأمثال والأشباه.
56- إثبات الألوهية.
57- إثبات صفة الملك.
58- إثبات الأسماء لله.
59- الحث على تدبر القرآن والإنصات عند قراءته.
60- إثبات الربوبية.
61- مدح العلم.
62- الحث على طلب العلم.
63- الحث على سؤال الله الزيادة من العلم.
64- تعليم الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - عند إلقاء الوحي عليه.
65- إثبات الأفعال الاختيارية.
66- إثبات رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
67- عناية الله برسوله - صلى الله عليه وسلم -.
68- أن الله لم يهمل خلقه ولم يتركهم سدى.
69- حرصه - صلى الله عليه وسلم - على حفظ القرآن وخوفه من نسيانه.
70- دليل على عظمة الله والمأخذ من { وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ } .
71- إثبات لقدرة الله والمأخذ من عدة آيات مما تقدم، فتأمل.
72- الحث على التواضع والمأخذ من قوله: { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا } .
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم(1/423)
قال الله تبارك وتعالى: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا } [الفرقان: 63-77].
المفردات:(1/424)
الهون: الرفق واللين والسكينة، الجاهلون: السفهاء، قالوا سلامًا: قال كلامًا يسلمون فيه من مقابلة الجاهل بجهله، يبيتون: البيتوتة هي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم، مستقرًا: موضع قرار وإقامة، الإسراف: مجاوزة الحد في النفقة، التقتير: التضييق والشح، قوامًا: وسطًا وعدلاً، لا يدعون: لا يشركون، أثامًا: عقوبة وجزاء، مهانًا: ذليلاً مستحقرًا، لا يشهدون الزور: لا يحضرون القول والفعل المحرم ولا يقيمون الشهادة الكاذبة.
اللغو: الكلام الذي لا خير فيه، مروا كرامًا: مروا مكرمين لأنفسهم عن الخوض فيه، الخرور: السقوط والوقوع، قرة أعين: تقربهم أعيينا من الدنيا بالصلاح وفي الآخرة بالجنة، إمامًا: قدوة يقتدى بنا في الخير، الغرفة: البناء العالي، يعبأ بكم: يصنع بكم، لولا دعاؤكم: لولا إيمانكم.
وقوله تعالى: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا } هذا كلام مستأنف لبيان أوصاف صالحي عباده سبحانه وأحوالهم الدينية والدنيوية بعد أن وصف الكفار بالإعراض عن عبادته، والنفور عن طاعته والسجود له عز اسمه.
وعباد: مبتدأ، والذين يمشون: الخبر، يقول تعالى: وعباد الرحمن الذي حق لهم الجزاء والمثوبة من ربهم، هم المخلصون، الذين من صفاتهم أنهم يمشون في سكينة ووقار، لا يضربون بأقدامهم الأرض كبرًا، ولا يخفقون بنعالهم أشرًا وبطرًا، كفعل المستكبرين والمتجبرين، قال تعالى: { وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الجِبَالَ طُولاً } .(1/425)
وروي أن عمر - رضي الله عنه - رأى غلامًا يبتختر في مشيته، فقال: إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل الله، وقد مدح الله أقوامًا، فقال: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا } فاقصد في مشيتك، وليس المراد أن الإنسان يمشي كالمريض تصنعًا ورياءً، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد ولد آدم إذا مشي كأنما ينحط من صبب وكأنما الأرض تطوى له.
وروي أن عمر رأى شابًا يمشي رويدًا، فقال: ما بالك أأنت مريض؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، فعلا الرجل بالدرة وأمره أن يمشي بقوة، والمقصود أن المراد هنا المشي بسكينة ووقار وتواضع، وأنشدوا:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعًا
وإن كنت في عز وحرز ومنعة ... فكم تحتها قوم هموا منك أرفع
فكم مات من قوم هموا منك أمنع
وقال عبدالله بن المبارك عن معمر عن عمر بن المختار، عن الحسن البصري في قوله: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ } الآية، قال: إن المؤمنين قوم ذلل، ذلت والله منهم الأسماع والأبصار والجوارح حتى يحسبهم الجاهل مرضى، وما بالقوم من مرض وإنهم والله لأصحاء، ولكنهم دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة.
فقالوا: { الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ } ، أما والله ما أحزنهم! ما أحزن الناس! ولا تعاظم في نفوسهم شيء طلبوا به الجنة، ولكن أبكاهم الخوف من النار، إنه من لم يتعز بعزاء الله تقطع نفسه على الدنيا حسرات، ومن لم ير لله نعمة إلا في مطعم ومشرب، فقد قل علمه، وحضر عذابه.
وقوله: { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا } أي إذا خاطبهم السفهاء وقليلوا الأدب بما يكرهونه { قَالُوا سَلامًا } أي سداد من القول يسلمون فيه من الإثم، ويسلمون من مقابلة الجاهل بجهله، بل يتحملون ما يرد عليهم من الأذى.(1/426)
وكان - صلى الله عليه وسلم - لا تزيده شدة الجاهل إلا حلمًا، من ذلك ما في «الصحيحين»، قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم قسمًا إذا أتاه ذو الخويصرة –رجل من بني تميم-، فقال: يا رسول الله، اعدل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ويلك من يعدل إن لم أعدل، لقد خبت وخسرت إذا لم أعدل، فمن يعدل؟» فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: يا رسول الله، ائذن لي فيه، فأضرب عنقه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دعه».
ويوم حنين إذ قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قسم، قال رجل، كما يروي البخاري: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله، فقلت –أي عبدالله-: والله لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيته فأخبرته، فقال: «من لم يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله، رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا، فصبر».
وأخرج الشيخان عن أنس بن مالك أن امرأة يهودية أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألها عن ذلك، قالت: أردت لأقتلك، فقال: «ما كان الله ليسلطك علي»، أو قال على ذلك، قالوا: ألا نقتلها؟ قال: «لا».
والخلاصة: أن قوله تعالى: { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا } مدح لهم بالحلم الكثير، ومقابلة المسيء بالإحسان والعفو عن الجاهل، وهذه الخصلة تدل على رزانة عقل المتصف بها.
قال الله تعالى: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ } إلى قوله: { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } ، وقال تعالى: { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ } ، وقال: { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } .(1/427)
ولما ذكر تعالى ما بينهم وبين الخلق ذكر ما بينهم وبينه: { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا } المعنى: أنهم يبيتون لربهم ساجدين على وجوههم قائمين على أقدامهم، فهم الأيقاظ والناس نيام , المتوجهون إلى ربهم الشديدوا الحساسية برقابة ربهم ورقابتهم لأنفسهم، كما قال في الآية الأخرى: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ } ، وقال: { كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } .
فإن من أفضل أنواع التطوعات صلاة الليل الدالة على الإخلاص، وتواطئ القلب واللسان، وأنشدوا في صفة الأولياء:
امنع جفونك أن تذوق مناما
واعلم بأنك ميت ومحاسب
لله قوم أخلصوا في حبه
قوم إذا جن الظلام عليهم
خمص البطون من التعفف ضمرا ... واذر الدموع على الخدود سجاما
يا من على سخط الجليل أقاما
فرضي بهم واختصهم خداما
باتوا هنالك سجدا وقياما
لا يعرفون سوى الحلال طعاما
ثم أخبر تعالى أنهم مع حسن معاملتهم للخلق واجتهادهم في عبادة الخالق وحده لا شريك له يخافون عذابه، ويدعونه ويبتهلون إليه في صرفه عنهم، ثم بين أن سبب سؤالهم هذا لوجهين:
الأول: أن عذابها كان غرامًا، وفي معناه خمسة أقوال: أحدها: دائمًا، رواه أبو سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والثاني: موجعًا، رواه الضحاك عن ابن عباس، والثالث: ملحًا، قاله ابن السائب، وقال ابن جريج: لا يفارق، والرابع: هلاكًا، قاله أبو عبيدة، والخامس: أن الغرام في اللغة أشد العذاب.
والثاني: أنها ساءت مستقرًا ومقامًا، المعنى: أنها بئس المنزل مستقرًا جهنم وبئس المقام مقامها، أي أنهم يقولون عن علم، وإذًا فهم أعرف بعظم ما قدر ما يطلبون فيكون ذلك أقرب إلى النجح.
قال الحسن: قد علموا أن كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم.(1/428)
الخامسة من صفاتهم قوله تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } ، اختلف العلماء في النفقة التي عناها في هذا الموضع، وما الإسراف فيها والإقتار؟ فقال بعضهم: الإسراف ما كان من نفقة في معصية الله، والإقتار المنع من حق الله، فعن ابن عباس في قوله: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا } الآية، قال: هم المؤمنون لا يسرفون، فينفقون في معصية الله، ولا يقترون فيمنعون حقوق الله.
وقال ابن زيد: لم يسرفوا فينفقوا في معاصي الله، كل من أنفق في معصية الله وإن قل فهو إسراف، ولم يقتروا فيمسكوا عن طاعة الله، قال: وما أمسك عن طاعة الله وإن كثر فهو إقتار.
وقال بعضهم: الإسراف المجاوزة في النفقة الحد، والإقتار: التقصير عن الذي لابد منه، وقيل: لا يجيعهم، ولا يعريهم، ولا ينفق نفقة، يقول الناس: قد أسرف.
وعن يزيد بن حبيب في هذه الآية: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا } الآية، قال: كانوا لا يلبسون ثوبًا للجمال ولا يأكلون طعامًا للذة، ولكن كانوا يريدون من اللباس ما يسترون به عورتهم ويكتنون به من الحر والقر، ويريدون من الطعام ما سد عنهم الجوع وقواهم على عبادة ربهم.
والراجح قول من قال: الإسراف في النفقة الذي عناها الله في هذا الموضع ما جاوز الحد الذي أباحه الله لعباده إلى ما فوقه، والإقتار: ما قصر عما أمر به، والقوام: بين ذلك.
والخلاصة: أنهم ليسوا بالمبذرين في إنفاقهم فلا ينفقون فوق الحاجة، ولا ببخلاء على أنفسهم وأهليهم، فيقصرون فيما يجب نحوهم، بل ينفقون وسطًا عدلاً وخير الأمور أوساطها، وقد قيل:
بينَ تبذيرٍ وبخلٍ رتبةً ... فكلا هذينِ إنْ زادَ قتلْ
وقال الآخر:
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال الآخر:
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت
وساقت إليه الإثم والعار بالذي ... ولم ينهها تاقت إلى كل باطل(1/429)
دعته إليه من حلاوة عاجل
وقوله: { الَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } ما ذكر في سبب نزول الآية منها: ما روى البخاري عن مسلم من حديث ابن مسعود، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك»، قلت: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك»، قلت: ثم أي؟ قال: «إن تزاني بحليلة جارك»، فأنزل الله تصديقها: { وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } الآية.
والثاني: أن ناسًا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت هذه الآية إلى قوله: { غَفُورًا رَّحِيمًا } أخرجه مسلم من حديث سعيد بن جبير.
المعنى: أنه تعالى لما فرغ من ذكر إتيانهم بالطاعات شرع في بيان اجتنابهم للمعاصي، فقال: { وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } فلا يجعلون لله شريكًا يوجهون عبادتهم إليه، بل يوجهون عبادتهم لله وحده.
وقوله: { وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ } المراد بالنفس هنا نفس المسلم والكافر المعاهد، أي لا يقتلونها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق المزيل لحرمتها وعصمتها، وهو النفس بالنفس، والزاني المحصن، والكافر الذي يحل قتله.
لما ورد عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» رواه الجماعة.(1/430)
وقد اختلف العلماء هل لقاتل المؤمن عمدًا من توبة أم لا؟, وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف أبو هريرة، وعبدالله بن عمرو، وأبو سلمة، وعبيد بن عمير، والحسن، والضحاك بن مزاحم، نقله عنهم بن أبي حاتم، واستدلوا بقوله تعالى: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } .
وروى البخاري عن سعيد بن جبير، قال: اختلف علماء الكوفة فرحلت إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - فسألته عنها، فقال: نزلت هذه الآية: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا } وهي آخر ما نزل، وما نسخها شيء، وروى النسائي عنه نحو هذا.
ومن أدلتهم ما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة، لقي ربه عز وجل مكتوب بين عينيه آيِسٌ من رحمة الله» رواه أحمد وابن ماجه.
وعن معاوية - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا أو الرجل يقتل مؤمنًا» رواه أحمد و النسائي، ولأبي داود من حديث أبي الدرداء كذلك.
وروي عن البراء ابن عازب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لزوال الدنيا وما فيها أهون عند الله مِن قتل مؤمن، ولو أن أهل سمواته، وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله تعالى النار».
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه –عليه الصلاة والسلام- قال: «لو أن الثقلين اجتمعوا على قتل مؤمن لأكبهم الله على مناخرهم في النار، وأن الله تعالى حرم الجنة على القاتل والآمر به».(1/431)
وذهب جمهور العلماء إلى أن التوبة من القاتل عمدًا مقبولة، واستدلوا بمثل قوله تعالى: { إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } ، وقوله: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } ، وبقوله: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } .
وقالوا أيضًا: والجمع ممكن بين هذه الآية وآية النساء فيكون معناه فجزاؤه جهنم إلا من تاب، لاسيما وقد اتحد السبب وهو القتل، والموجب وهو التوعد بالعقاب.
واستدلوا أيضًا بالحديث المذكور بـ «الصحيحين» عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق»، ثم قال: «فمن أصاب من ذلك شيئًا فستره فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه».
وبحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي أخرجه مسلم في «صحيحه»، وغيره في الذي قتل مائة نفس.
وحديث: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده من أحدكم براحلته» الحديث متفق عليه.
وذهب جماعة منهم أبو حنيفة وأصحابه والشافعي: إلى أن القاتل عمدًا داخل تحت المشيئة، تاب أو لم يتب.
قال ابن القيم - رحمه الله -: والتحقيق في المسألة أن القتل تتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله، وحق المقتول، وحق الولي، فإذا سلم القاتل نفسه طوعًا واختيارًا ندمًا على ما فعله وخوفًا من الله، وتوبة نصوحًا، سقط حق الله بالتوبة، وحق الأولياء بالاستيفاء أو الصلح أو العفو، وبقي حق المقتول يعوضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن، ويصلح بينه وبينه، فلا يضيع حق هذا ولا يبطل حق هذا، انتهى.(1/432)
وبتقدير دخوله فليس بمخلد في النار خلافًا للخوارج والمعتزلة الذين يخلدونهم في النار ولو كانوا موحدين، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال برة أو خردلة أو ذرة من الإيمان».
وقوله: { وَلاَ يَزْنُونَ } أي لا يستحلون الفروج المحرمة بغير نكاح أو ملك يمين، ولا خلاف في كون الزنا من كبائر الذنوب.
وقد ورد في تقبيحه والتنفير عنه من الأدلة ما هو معلوم، قال تعالى: { وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى } ، والزنا يشتمل على مفاسد منها:
1- اختلاط الأنساب واشتباهها، وإذا اشتبه الولد الذي أتت به الزانية أمنه هو أم من غيره؟, لا يقوم بتربيته ولا يستمر في تعهده، وذلك يوجب إضاعة النسل وخراب العالم.
2- فتح باب الهرج والقيل والقال والمرج والاضطراب بين الناس دفاعًا عن العرض، فكم من حادث مبعثه الإقدام على الزنا.
3- إن المرأة إذا اشتهرت بالزنا استقذرها كل ذي طبع سليم، فلا تحدث ألفة بينها وبين زوجها إذا كان نقي العرض بخلاف الديوث، فلا يهتم بذلك.
4- أنه لا يتم السكن والإزدواج الذي جعله الله مودة ورحمة بين الناس بقوله: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } .
5- إنه ليس المقصود من المرأة مجرد قضاء الشهوة، بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل، وإعداد مهامه من مطعوم ومشروب وملبوس، وأن تكون حافظة له قائمة بشئون الأولاد والخدم، وهذه المهام لا تتم على وجه الكمال إلا إذا كانت مختصة بالرجل الواحد الذي هو زوجها منقطعة له دون غيره من الناس.(1/433)
ومن مضار الزنا أنه قتال للأخلاق الفاضلة، وناشر للأمراض الفاتكة فالسيلان والقروح الأكالة والزهري أثر من آثاره الوخيمة وشر من شروره المستطيرة، هذا نموذج من أضراره في الدنيا، وأما في الآخرة فإليك ما قاله الجبار جل وعلا: { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } روي عن عبدالله بن عمرو إنه قال: أثام: واد في جهنم.
وقال عكرمة: يلق أثامًا أودية في جهنم يعذب فيها الزناة، وقال قتادة: يلق أثامًا نكالاً كنا نتحدث أنه واد في جهنم، وقد ذكر لنا أن لقمان كان يقول لابنه: يا بني إياك والزنا، فإن أوله مخافة وآخره ندامة.
وفي الحديث عن أبي أمامة الباهلي مرفوعًا وموقوفًا: «أن غيًا وأثامًا بئران في قعر جهنم» أجارنا الله منها بمنه وكرمه، وقال السدي: يلق أثامًا جزاء.
وروى البخاري في حديث منام النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءه جبريل وميكائيل، قال: «فانطلقنا فأتينا على مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع فيه لغط وأصوات»، قال: «فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، فإذا هم يأتيهم لهم من أسفل منهم فإذا تاهم اللهب ضَوْضَوا -أي صاحوا من شدة حره- فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني».
إذا فهمت ذلك، فاعلم أن له أسبابًا: منها: دخول الرجال الأجانب على النساء، والانفراد بهن من دون محرم لهن في بيت أو سيارة أو نحو ذلك، ومنها: خروج النساء من بيوتهن متبرجات متعطرات، ومنها: تأخير زواج من بلغ من الشبان والشابات، ومنها: إعوجاج الأزواج وخيانتهم بالاتصال بالفاجرات من النساء، ومن ذلك النظر إلى الأجنبية.
قال الناظم - رحمه الله -:
ألا من له في الدين والعلم رغبة
ويقبل نصحًا من شفيق على الورى
فطرف الفتى يا صاح رائد فرجه
فمن مد طرفًا أو زنا يزن أهله
فلو لم يكن فعل الزناء كبيرة
لكان حريًا أن يصون حريمه ... ليصغ بقلب حاضر مترصد(1/434)
حريص على زجر الأنام عن الردى
ومتعبه فاغضضه ما استطعت تسعد
فعف يعفوا قاله خير مرشد
ولم يخش من عقباه ذو اللب في غد
بهجر الزنا خوف القصاص كما ابتدى
ومثل الزنا بل أعظم منه وأشد، اللواط -والعياذ بالله- الذي عذب الله عليه أمة بأسرها، واستأصلهم به حين قال نبيهم: { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } .
وقد اختلف العلماء في حد اللواط، فقيل: إن عقوبته أغلظ من عقوبة الزنى، وعقوبته القتل على كل حال محصنًا كان أو غير محصن، وإلى هذا القول ذهب أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عباس، وخالد بن زيد، بن معمر والزهري، وربيعة بن أبي عبدالرحمن، ومالك، وإسحاق بن راهويه، والإمام أحمد في أصح الروايتين عنه، والشافعي في أحد قوليه.
قال أصحاب هذا القول وهم جمهور الأمة، وحكاه غير واحد إجماعًا للصحابة، قاله ابن القيم، وقالوا: ليس في المعاصي مفسدة أعظم من مفسدة اللواط، وهي تلي مفسدة الكفر، وربما كانت أعظم من مفسدة القتل، ولم يبتل الله تعالى بهذه الكبيرة قبل قوم لوط أحدًا من العالمين وعاقبهم عقوبة لم يعاقب بها أمة غيرهم، وجمع عليهم أنواعًا من العقوبات من الإهلاك، وقلب ديارهم عليهم، وخسف بهم ورجمهم بالحجارة من السماء، وطمس أعينهم وعذبهم وجعل عذابهم مستمرًا، فنكل بهم نكالاً لم ينكله بأمة سواهم.(1/435)
وذلك لعظم مفسدة هذه الجريمة التي تكاد الأرض تميد من جوانبها إذا عملت عليها وتهرب الملائكة إلى أقطار السموات والأرض إذا شاهدوها خشية نزول العذاب على أهلها فيصيبهم معهم وتعج الأرض إلى ربها تبارك وتعالى، وتكاد الجبال تزول عن أماكنها.
وقتل المفعول به خير له من وطنه، فإنه إذا وطئه الرجل قتل قتلاً لا ترجى له الحياة معه بخلاف قتله، فإنه مظلوم شهيد، وربما ينتفع به في آخرته.
قالوا: والدليل على هذا أن الله سبحانه جعل حد القاتل إلى خيرة الولي إن شاء قتل وإن شاء عفا، وحتم قتل اللوطي حدًا، كما أجمع عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودلت عليه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها.
وقد ثبت عن خالد بن الوليد أنه وجد في بعض نواحي العرب رجلاً ينكح كما تنكح المرأة، فكت إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فاستشار أبو بكر الصديق الصحابة - رضي الله عنهم -، فكان علي بن أبي طالب أشدهم قولاً فيه، فقال: ما فعل هذا إلا أمة من الأمم واحدة، وقد علمتم ما فعل الله بها أرى أن يحرق بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد، فحرقه.
وقال عبدالله بن عباس: ينظر إلى أعلا ما في القرية فيرمى اللوطي منها منكسًا، ثم يتبع بالحجارة، وأخذ ابن عباس هذا الحد من عقوة الله للوطية من قوم لوط.
وابن عباس هو الذي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به» رواه أهل السنن، وصححه ابن حبان وغيره.
واحتج الإمام أحمد بهذا الحديث، وإسناده على شرط البخاري، قالوا: ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط».
وأطبق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتله لم يختلف منهم فيه رجلان، وإنما اختلف أقوالهم في صفة قتله.(1/436)
قالوا: ومن تأمل قوله سبحانه: { وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً } ، وقوله في اللواط: { أَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العَالَمِينَ } تبين له تفاوت ما بينهما، فإنه سبحانه نكر الفاحشة في الزنى، أي هو فاحشة من الفواحش، وعرفها في اللواط، وذلك يفيد أنه جامع لمعاني اسم الفاحشة، أي أتأتون الخصلة التي استقر فحشها عند كل أحد.
ثم زاد في التأكيد بأن صرح بما تشمئز منه القلوب، وتنبو عنه الأسماع، وتنفر منه أشد النفور، وهو إتيان الرجل الرجل مثله ينكحه كما ينكح الأنثى، فقال: { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ } .
ثم نبه على استغنائهم عن ذلك، وأن الحامل لهم عليه ليس إلا مجرد الشهوة، لا الحاجة التي مال الذكر إلى الأنثى من قضاء الوطر ولذة الاستمتاع، وحصول المودة و الرحمة التي تنسي المرأة لها أبويها، وتذكر بعلها، وحصول النسل الذي هو حفظ هذا النوع الذي هو أشرف المخلوقات.
وتحصين المرأة وقضاء الوطر، وحصول علاقة المصاهرة، وقيام الرجل على النساء، وخروج أحب الخلق إلى الله من جماعهن كالأنبياء والمؤمنين، ومكاثرة النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنبياء بأمته، إلى غير ذلك من مصالح النكاح، والمفسدة التي في اللواط تقاوم ذلك كله وتربي عليه بما لا يمكن حصره وفساده.
ثم أكد سبحانه قبح ذلك بأن اللوطية عكسوا فطرة الله التي فطر عليها الرجال وقلبوا الطبيعة التي ركبها الله في الرجال، وهي شهوة النساء دون الذكور، فقلبوا الأمر وعكسوا الفطرة والطيعة، فأتوا الرجال شهوة من دون النساء، ولهذا قلب الله عليهم ديارهم، فجعل عاليها سافلها، وكذلك قلبوا هم ونكسوا في العذاب على رءوسهم.(1/437)
ثم أكد سبحانه قبح ذلك بأن حكم عليهم بالإسراف، وهو مجاوزة الحد، فقال: { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } ، وأكد سبحانه ذلك عليهم بقوله: { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القَرْيَةِ الَتِي كَانَت تَّعْمَلُ الخَبَائِثَ } .
ثم أكد عليهم الذم بوصفين في غاية القبح، فقال: { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ } ، وسماهم مفسدين في قول نبيهم: { رَبِّ انصُرْنِي عَلَى القَوْمِ المُفْسِدِينَ } ، وسماهم ظالمين في قول الملائكة: { إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ } ، ولما جادل فيهم خليل الرحمن الملائكة، وقد أخبروه بإهلاكهم، قيل له: { يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } .
وتأمل خبث اللوطية وفرط تمردهم على الله، حيث جاءوا نبيهم لوطًا لما سمعوا بأنه قد طرفه أضياف هم من أحسن البشر صورًا، فأقبل اللوطية إليه يهرعون، فلما رآهم، قال لهم: { يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } فردوا عليه –ولكن رد جبار عنيد-: { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } .
فنفث نبي الله نفثه مصدور خرجت من قلب مكروب، فقال: { لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } ، فكشْف له رسل الله عن حقيقة الحال، وأعلموه أنهم ممن ليس يوصل إليهم ولا إليه بسببهم، فلا تخف منهم ولا تعبأ بهم وهون عليك.(1/438)
فقالوا: { يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } .
فوالله ما كان بين إهلاك أعداء الله ونجاة نبيه وأوليائه إلا ما بين السحر وطلوع الفجر، وإذا بديارهم قد اقتلعت من أصولها ورفعت نحو السماء حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب ونهيق الحمير، فبرز المرسوم الذي لا يرد من عند الرب الجليل على يدي عبده ورسوله جبرائيل بأن يقلبها عليهم، كما أخبر به في محكم التنزيل.
فقال عز من قائل: { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } فجعلها آية للعالمين وموعظة للمتقين ونكالاً وسلفًا لمن شاركهم في أعمالهم من المجرمين، انتهى من كلام ابن القيم -رحمه الله- باختصار.
وقال أيضًا - رحمه الله -: وللمعاصي من الآثار المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله، فمنها: الطبع على القلب إذا تكاثرت حتى يصير صاحب الذنب من الغافلين، كما قال بعض السلف في قوله تعالى: { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } قال: هو الذنب بعد الذنب.
وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب.
وقال غيره: لما كثرت ذنوبهم ومعاصيهم أحاطت بقلوبهم.
وأصل هذا أن القلب يصدأ من المعصية، فإذا زادت غلب الصدأ حتى يصير رانًا، ثم يغلب حتى يصير طبعًا وقفلاً وختمًا، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فإذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انتكس، فصار أعلاه أسفله، فحينئذ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد.
ومنها: فساد العقل، فإن العقل نور، والمعصية تطفئ نور العقل، ولابد إذا أطفئ نوره ضعف ونقص.(1/439)
وقال بعض السلف: ما عصي الله أحد حتى يغيب عقله، وهذا ظاهر، فإنه لو حضر عقله لحجزه عن المعصية، وهو في قبضة الرب تعالى وتحت قهره، وهو مطلع عليه، وفي داره على بساطه، وملائكته شهود عليه ناظرون إليه، وواعظ القرآن ينهاه، وواعظ الإيمان ينهاه، وواعظ الموت ينهاه، وواعظ النار ينهاه، والذي يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة أضعاف أضعاف ما يحصل له من السرور واللذة بها، فهل يقدم على الاستهانة بذلك كله، والاستخفاف به ذو عقل سليم؟
ومنها: أن المعصية تورث الذل، فإن العز كل العز في طاعة الله، قال تعالى: { مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا } أي فليطلبها بطاعة الله، فإنه لا يجدها إلا في طاعة الله تعالى، وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك، ولا تذلني بمعصيتك.
ومنها: أنها سبب لهوان العبد على ربه، وسقوطه من عينه.
قال الحسن: هانوا عليه فعصوره، ولو عزوا عليه لعصمهم، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، قال تعالى: { وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } .
ومنها: أن العبد لا يزال يرتكب الذوب حتى تهون عليه وتصغر في قلبه، وذلك علامة الهلاك، فإن الذنب كلما صغر في عين العبد عظم عند الله.
وقد ذكر البخاري في «صحيحه» عن ابن مسعود، قال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنها في أصل جبل، يخاف أن يقع عليه، وكأن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا، فطار.
ومنها: أن ينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة، فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له ولا كلامهم فيه، وهذا عند أرباب الفسوق هو غاية التفكه وتمام اللذة حتى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدث بها من لم يكن يعلم أنه عملها، فيقول: يا فلان، عملت كذا وكذا.(1/440)
وهذا الضرب من الناس لا يعافون، وتسد عليهم طريق التوبة، وتغلق عنهم أبوابها في الغالب، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل أمتي معافى إلى المجاهرون»، وإن من الإجهار أن يستر الله على العبد ثم يصبح فيفضح نفسه، ويقول: يا فلان، عملت اليوم كذا وكذا فيهتك نفسه، وقد بات يستره ربه.
قيل للقمان الحكيم: أي الناس شر؟ قال: الذي لا يبالي إذا رآه الناس مسيئًا.
ومنها: أن المعاصي تزرع أمثالها ويولد بعضها بعضًا، حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها، كما قال بعض السلف: أن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وأن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها.
فالعبد إذا عمل الحسنة قالت أخرى إلى جنبها: اعملني أيضًا، فإذا عملها، قالت الثانية كذلك، وهلم جرا فيتضاعف الربح وتتزايد الحسنات، وكذلك كانت السيئات أيضًا تصير الطاعات والمعاصي هيئات راسخة وصفات لازمة وملكات ثابتة.
فلو عطل المحسن الطاعات لضاقت عليه نفسه وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأحس من نفسه بأنه كالحوت إذا فارق الماء حتى يعاودها فتسكن نفسه وتقر عينه، ولو عطل المجرم المعصية وأقبل على الطاعة لضاقت عليه نفسه وضاق صدره وأعيت عليه مذاهبه حتى يعاودها، حتى إن كثيرًا من الفساق ليواقع المعصية مع غير لذة يجدها، ولا داعية إليها إلا لما يجد من الألم بمفارقتها.
ولا يزال العبد يعاني الطاعة يألفها ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله سبحانه وتعالى برحمته عليه الملائكة تؤزه إليها أزًا وتحرضه عليه، وتزعجه عن فراشه ومجلسه إليها.
ولا يزال الآخر يألف المعصية ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله إليه الشياطين فتؤزه إليها أزًا، فالأول قوي جند الطاعة بالمدد، فكانوا من أعوانه، والآخر قوي جند المعصية بالمدد، فكانوا أعوانًا عليه.(1/441)
ومنها: ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا أدلهمن فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره، فإن الطاعة نور، والمعصية ظلمة، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته حتى يقع في البدع والضلالة والأمور المهلكة، وهو لا يشعر كأعمى خرج في ظلمة الليل يمشي وحده وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين، ثم تقوى حتى تعلو الوجه وتصير سواد في الوجه حتى يراه كل أحد.
قال عبدالله بن عباس: إن للحسنة ضياء في الوجه، ونورًا في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق.
ومنها: أن المعاصي توهن القلب والبدن، أما وهنها للقلب: فأمر ظاهر بل لا تزال توهنه حتى تزيل حياته بالكلية، وأما رهنها للبدن، فإن المؤمن قوته من قلبه، وكلما قوي قلبه قوي بدنه.
وأما الفاجر فإنه وإن كان قوي البدن فهو أضعف شيء عند الحاجة فتخونه قوته أحوج ما يكون إلى نفسه، فتأمل قوة أبدان فارس والروم، وكيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها، وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم.
ومنها: أن المعاصي تمحق العمر، إذ أن المعاصي كلها شرور، وليس من شك في أن التبذير مثلاً مضيعة للمال الذي هو عصب الحياة، والبخل يحرم الشخص ما تتطلبه النفس، وهذا وذاك يؤثر على البدن تأثيرًا شديدًا.
ومنها: حرمان العلم، فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية على الضد من ذلك، فتطفئ ذلك النور.
ومنها أيضًا: شماتة الأعداء، فإن المعاصي كلها أضرار في الدين والدنيا، وهذا مما يفرح العدو ويسيء الصديق، كما أن فيها عقوبتين في الدنيا إذا أضرت بالغير، فلابد أن يثأر لنفسه، كما قيل:
من سالم الناس يسلم من غوائلهم ... وعاش وهو قرير العين جذلان(1/442)
وعقوبة من الله كما قال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } ، وعقوبة الآخرة أعظم كما قال سبحانه: { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا } .
ومنها: قسوة الأمراء، فقد ذكر ابن أبي الدنيا من حديث عمار بن يسار، وحذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله عز وجل إذا أراد بالعباد نقمة أمات الأطفال، وأعقم الأرحام أرحام النساء، فتنزل النقمة، وليس فيهم مرحوم».
وذكر عن مالك بن دينار قال: رأيت في الحكمة، وفي نسخة قرأت يقول الله عز وجل: «أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك، ولكن توبوا إلى أعطفهم عليكم».
وفي «مراسيل الحسن»: إذا أراد الله بقوم خيرًا جعل أمرهم إلى حلمائهم، وفيئهم إلى سمحائهم، وإذا أراد الله بقوم شرًا جعل أمرهم إلى سفهائهم، وفيئهم عند بخلائهم.
ونظر بعض أنبياء بني إسرائيل إلى ما يصنع بهم بختنصر، فقال: بما كسبت أيدينا سلطت علينا من لا يعرفك ولا يرحمنا، ومن آثار الذنوب والمعاصي أنها تحدث في الأرض أنواعًا من الفساد في المياه والهواء والزرع والثمار والمساكن، قال تعالى: { ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .
وقوله: { يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ } أي يكرر عليه ويغلظ ويخلد فيه، أي يدوم العذاب مهانًا، أي حقيرًا ذليلاً.(1/443)
وقوله: { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا } ، قال قتادة: إلَّا مَن تاب من ذنبه وآمن بربه وعمل صالحًا فيما بينه وبين ربه، وقوله: { فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } اختلف في كيفية هذا التبديل، وفي زمان كونه.
فعن ابن عباس في الآية قال: هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن السيئات فحولهم إلى الحسنات، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات.
وقال عطاء بن أبي رباح: هذا في الدنيا يكون الرجل على صفة قبيحة، ثم يبدله الله بها خيرًا.
وقال سعيد بن جبير: أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن، وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات.
وقال الحسن البصري: أبدلهم الله بالعمل السيئ العمل الصالح، وأبدلهم بالشرك إخلاصًا، وأبدلهم بالفجور إحصانًا، وبالكفر إسلامًا، وهذا قول أبي العالية، وقتادة، وجماعة آخرين.
وقيل: إن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات، وما ذاك إلا لأنه كلما تذكر ما مضي ندم واسترجع واستغفر فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار، فيوم القيامة وإن وجده مكتوبًا عليه، فإنه لا يضره، وينقلب حسنة في صحيفته، كما ثبتت بذلك السُّنة وصحت به الآثار المروية عن السلف - رضي الله عنهم -.
فعن أبي ذر - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأعرف آخر أهل النار خروجًا من النار، وآخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة، يؤتى برجل فيقول: نحوًا عنه كبار ذنوبه، وسلوه عن صغارها، قال: فيقال له: عملت يوم كذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا كذا وكذا؟ فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئًا، فيقال: فإن لك بكل سيئة حسنة، فيقول: يا رب، عملت أشياء لا أراها هاهنا»، قال: فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه، انفرد بإخراجه مسلم.(1/444)
وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان: أعطني صحيفتك، فيعطيه إياها، فما وجد في صحيفته من حسنة محابها عشر سيئات من صحيفة الشيطان وكتبهن حسنات، فإذا أراد أحدكم أن ينام فليكبر ثلاثًا وثلاثين تكبيرة، ويحمد أربعًا وثلاثين تحميدة، ويسبح ثلاثًا وثلاثين فتلك مائة».
وقوله: { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } غفورًا لمن تاب وأناب، يغفر الذنوب رحيمًا بعباده حيث دعاهم إلى التوبة بعد مبارزته بالعظائم، ثم وفقهم لها، ثم قبلها منهم.
ثم أخبر تعالى عن عموم رحمته بعباده وأنه من تاب منهم تاب عليه من أي ذنب كان جليلاً أو حقيرًا، كبيرًا أو صغيرًا.
فقال: { وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا } أي فليعلم أن توبته في غاية الكمال؛ لأنها رجوع من المعصية إلى الطاعة التي هي عين سعادة الإنسان وفلاحه، والتوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين ربه لا تتعلق بآدمي، فلها ثلاثة شروط:
الأول: الإقلاع عن المعصية بأن يفارقها فورًا.
والثاني: الندم يتأسف، كيف صدرت منه ويحزن على ذلك.
والثالث: العزم أن لا يعود إلى المعصية أبدًا.
فإن فقد أحد الشروط الثلاثة لم تصح توبته، وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي، فشروطها أربعة: الثلاثة المتقدمة، وأن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالاً أو نحوه رده إليه، وإن كانت حد قذف ونحوه مكنه منه أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحله منها إن كان عاقلاً حليمًا يغلب على الظن أنه إذا جاءه أخوه المسلم نادمًا تائبًا متنصلاً عفا عنه وسامحه وإلا فليستغفر له.
لما ورد عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه من كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته، تقول: اللهم اغفر لنا وله».(1/445)
وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } أي لا يحضرون الزور القول والفعل المحرم، فلا يشهدون المجالس المشتملة على الأقوال المحرمة أو الأفعال المحرمة، كالخوض في آيات الله بالباطل والجدل.
قال تعالى: { وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } أي لا يحضرون الزور القول والفعل المحرم، فلا يشهدون المجالس المشتملة على الأقوال المحرمة أو الأفعال المحرمة، كالخوض في آيات الله بالباطل والجدل.
قال تعالى: { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } ، وكذا يجتنبون مجالس الشراب المحرم ومجالس الغيبة والنميمة، والسب والقذف، والاستهزاء، والسخرية، و الغناء المحرم من إنسان أو من آلة، ولا يشهدون المجالس المشتملة على الصور المحرمة، وفرش الحرير، ومجالس التلفزيون مقبرة الأخلاق، الفيديو معلم الفساد والكرة، وشهادة الزور داخلة في قول الزور، وهي الكذب متعمدًا على غيره.
كما في «الصحيحين» عن أبي بكر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر –ثلاثًا-»، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «الشرك بالله، وعقوق الوالدين»، وكان متكئًا، فجلس، فقال: «ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور» فما زال يكررها حتى، قلنا: ليته سكت.
وكان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه، ويطوف به في السوق، ومن مضار شاهد الزور أنه يسيء إلى نفسه؛ لأنه باع آخرته بدنياه وأسقط مروأته وأضاع منزلته وكرامته، وسجل على نفسه عارًا لا يزول وخزيًا لا يمحى، وألقى نفسه في العذاب إن لم يتب، وأساء إلى من شهد عليه، أهانه وأضاع حقه.(1/446)
وقطع صلة الإخاء التي تجب بين المسلم والمسلم، وظلمه وخذله وخالف فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم»، وأساء إلى من شهد له وأضر به حيث يريد أن ينفعه، أعانه على الظلم وأوقعه في الحرام، وعرضه لمقت الله وغضبه وصيره ذليلاً إن لم يتب بين يدي الجبار الحكيم العادل الذي يأخذ للقوي من الضعيف، وينصر المظلوم من ظالمه يوم الفزع الأكبر، و الهول الأعظم، { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } .
وأساء شاهد الزور إلى القاضي، أتعبه وأضاع وقته وطمس عليه معالم الحق، وأساء إلى الأمة بزلزلة الحقوق فيها وعدم الاطمئنان عليها، وبالتالي فإن كان الحامل لشاهد الزور على الوصف الذميم، وذلك الموقف المخجل المعيب ما لا يأخذه ممن شهد له، فهو حرام لا بركة فيه، بل هو وبال عليه في الدنيا وعذاب له في الآخرة، وكل لحم نبت من حرام، فالنار أولى به وإن كان الحامل له على الزور صداقة أو طلب رضاه، فبئست هذه الصداقة التي تؤدي إلى خسرانه وإيقاعه في سخط الله وغضبه.
قالت عائشة - رضي الله عنها -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مئونة الناس، ومن التمس سخط الله برضا الناس وكله الله إلى الناس»، وشاهد الزور قد أرضي صاحبه وأغضب مولاه، نسأل الله أن يعصمنا وإخواننا المسلمين مما يغضب الجبار، إنه القادر على ذلك.
وقوله: { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } أي مروا به على سبيل الاتفاق من غير قصد { مَرُّوا كِرَامًا } أي معرضين عنه غير ملتفتين إليه مكرمين أنفسهم عن الوقوف والخوض فيه، ومن ذلك الكناية عما يستهجن التصريح به، وقال الباقر: إذا ذكروا الفروج كنوا عنها.
وقيل: الشتم والأذى، واللغو، كل ساقط من قول أو فعل.(1/447)
وقيل: لا يحضرون الزور إذا اتفق مرورهم به، مروا ولم يتدنسوا بشيء.
وقوله: { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًا وَعُمْيَانًا } ، وهذا أيضًا من صفات المؤمنين، المعنى أنهم إذا وعظوا القرآن والأدلة التي نصبها الله لهم نظروا فيها وتفكروا في مقتضاها ولم يقعوا عليها صمًا كأنهم لم يسمعوها، وعميانًا كأنهم لم يروها لكنهم سمعوها وأبصروها وتدبروها وانتفعوا بها، فحالهم عند سماعهم له، كما قال تعالى: { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } .
وقال تعالى: { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًا } .
الخلاصة: أنهم يقابلونها بالقبول والافتقار إليها والانقياد والتسليم لها، وتجد عندهم آذانًا سامعة، وقلوبًا واعية فيزداد بها إيمانهم، ويتم بها إيقانهم، وتحدث لهم نشاطًا ويفرحون بها سرورًا واغتباطًا.
وفي هذا تعريض بما عليه الكفار والمنافقون الذين إذا سمعوا كلام الله لم يتأثروا به ولم يتحولوا عما كانوا عليه، بل يستمرون على كفرهم وعصيانهم وجهلهم وضلالهم، فكأنهم صم لا يسمعون، وعمى لا يبصرون.
وقوله: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } أي يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام فيعملوا بطاعته، فتقر أعينهم بهم في الدنيا والآخرة.
قال عكرمة: لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالاً، ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين لله.(1/448)
وسُئل الحسن البصري عن هذه الآية، فقال: أن يري الله العبد المسلم من زوجته، ومن أخيه، ومن حميه طاعة الله، لا والله لا شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولدًا وولد ولد أو أخًا أو حميًا مطيعًا لله عز وجل، وإذا استقرأنا حالهم وصفاتهم وعرفناهم من هممهم وعلو مرتبتهم أن دعاءهم لذرياتهم في صلاحهم، فإنه دعاء لأنفسهم؛ لأن نفعه يعود عليهم، ولهذا جعلوا ذلك هبة لهم، فقالوا: هب لنا، بل دعاؤهم يعود إلى نفع عموم المسلمين؛ لأن صلاحهم يكون سببًا لصلاح كثير ممن يتعلق بهم وينتفع بهم.
وقوله: { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } أي هداة مهتدين دعاة إلى الخير، فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم، وأن يكون هداهم متعديًا إلى غيرهم بالنفع، وذلك أكثر ثوابًا وأحسن مآبا.
ولهذا ثبت في «صحيح مسلم» عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده، أو صدقة جارية».
وقيل: أئمة يقتدى بنا في الخير، وإقامة مراسيم الدين بإفاضة العلم والتوفيق للعلم، وهذه الدرجة العالية التي سألوها هي درجة الصديقين والكُمَّلِ مِن عِباد الله الصالحين وهي درجة الإمامة في الدين وأن يكونوا قدوة للمتقين في أقوالهم وأفعالهم، يقتدى بأفعالهم ويطمئن لأقوالهم.
ويسير أهل الخير خلفهم فيهدون ويهتدون، ومن المعلوم أن الدعاء ببلوغ شيء دعا بما لا يتم إلا به، وهذه الدرجة درجة الإمامة في الدين لا تتم إلا بالصبر واليقين، كما قال تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } .(1/449)
فهذا الدعاء يستلزم من الأعمال الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر على أقدار الله المؤلمة، ومن العلم التام الذي يوصل إلى درجة اليقين خيرًا كثيرًا وعطاءً جزيلاً، وأن يكونوا في أعلا ما يمكن من درجة الخلق بعد الرسل –عليهم الصلاة والسلام-.
ولما ذكر تعالى من أوصاف عباده المؤمنين ما ذكر من الصفات الجميلة والأفعال الجليلة ذكر إحسانه إليهم بقوله: { أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا } الإشارة إلى المتصفين بما فصل، أي أولئك المتصفون بصفات الكمال الموسومون بفضائل الأخلاق والآداب، يجزون المنازل الرفيعة والدرجات العالية بصبرهم على فعل الطاعات واجتناب المنكرات.
روى الترمذي في جامعة من حديث عبدالرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد، عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن في الجنة غرفًا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها»، فقام أعرابي، فقال: يا رسول الله، لمن هي؟ قال: «لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام».
وروى البيهقي من حديث حفص بن عمرو بن قيس الملائي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن في الجنة غرفًا، فإذا كان ساكنها فيها لم يخف عليه ما خلفها، وإذا كان خلفها لم يخف عليه ما فيها»، قيل لمن هي يا رسول الله؟ قال: «لمن أطاب الكلام، وواصل الصيام، وأفشى السلام، وصلى والناس نيام».
وقال ابن القيم - رحمه الله - في ذلك:
غرفاتها في الجو يُنظَرُ بَطْنُها
سكانُها أهلُ القيام مع الصيام
شيئان خالص حقه سبحانه ... مِن ظهرِها والظهرُ مِن بُطْنَانِ
وطِيّبِ الكلماتِ والإحسانِ
وعبيدهُ أيضًا لهم شيئان(1/450)
وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم»، قال: يا رسول الله، تلك منازل الأنباء لا يبلغها غيرهم، قال: «بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بربهم وصدقوا المرسلين» متفق عليه.
وقوله تعالى: { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا } أي ويبتدرون فيها بالتحية والإكرام، ويلقون التوقير والاحترام، فلهم السلام وعليهم السلام.
ونحو هذه الآية: { وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } ، وقال: { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .
ثم بين تعالى أن هذا النعيم دائم لهم لا ينقطع، فقال: { خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًا وَمُقَامًا } أي مقيمين فيها لا يظعنون ولا يموتون حسنت منظرًا وطابت مقيلا، ونحو هذه الآية قوله تعالى: { وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ } .
فعلى العاقل اللبيب أن يسعى بجد واجتهاد في المؤهلات ويتهيأ لمثل هذه الغرف العالية الحسنة بما سبق من الأعمال الفاضلة المستحسنة، ولا يقع في مجرد الأماني التي هي كما قيل: حلم المستيقظ وسلوة المحزون، وقديمًا قيل في الحث على طلب العلى:
بقدر الكد تكتسب المعالي ... ومن طلب العلى سهر الليالي
وقال أبو الطيب:
ذريني أنل ما لا ينال من العلى
تريدين لقيان المعالي رخيصة ... فصعب العلى في الصعب والسهل بالسهل
ولابد دون الشهد من إبر النحل(1/451)
قال بعض العلماء: الإنسان في هذه الدار مسافر، والدار دار ممر لا دار مقر، وبطن أمه مبدأ سفره، والآخرة مقصده وزمان حياته مقدار مسافته، وسفره منازله وشهوره فراسخه وأيامه أمياله وأنفاسه خطاه، ويسار به سير السفينة براكبها، كما قيل:
وأنا لفي الدنيا كركب سفينة ... تظن وقوفًا والزمان بها يجري
وقال الآخر:
رأيت أخا الدنيا وإن كان ثاويا ... أخا سفر يسرى به وهو لا يدري
وبعد أن شرح صفات عباده المتقين وأثنى عليهم، قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: قل يا محمد لهؤلاء الذين أرسلت إليهم، أي شيء يعتد بكم وأي شيء يصنع بكم ربي لولا عبادة من يعبده منكم، وطاعة من يطيعه منكم.
وعن ابن عباس قوله: { مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ } يقول: لولا إيمانكم وأخبر الله الكفار أنه لا حاجة له بهم، إذ لم يخلقهم مؤمنين ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين.
وقوله: { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } أيها الكافرون، أي فسوف يكون تكذيبكم لزامًا لكم، يعني مقتضيًا لعذابكم وهلاككم ودماركم في الدنيا والآخرة، ويدخل في ذلك يوم بدر كما فسره بذلك عبدالله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومحمد بن كعب القرظي، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي وغيرهم، وقال الحسن البصري: فسوف يكون لزامًا أي يوم القيامة ولا منافاة. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
مما يفهم من الآيات الكريمات، آيات الدرس [63- 77]:
1- إثبات صفة الرحمة.
2- الإضافة إلى اسمه الرحمن تقتضي التشريف كبيت الله.
3- الحث على المشي بسكينة ووقار.
4- الحث على الحلم.
5- الحث على حسن الأدب؛ لأن الله وصف المذكورين بذلك.
6- الحث على التواضع.
7- النهي عن الكبر والعجب.
8- الحث على قيام الليل.
9- الحث على العفو والصفح.
10- إثبات جهنم.
11- الحث على التعود منها.
12- الحث على الجمع بين الإحسان في عبادة الخالق وخوف عذابه.
13- إن عذاب جهنم ملازم دائمًا غير مفارق.(1/452)
14- أن جهنم بئس المستقر والمقام.
15- الحث على التوسط في الإنفاق بين الإسراف والتبذير اقتداء بمن مدحهم الله.
16- تحريم الشرك بالله.
17- الوعيد الشديد لمن أشرك بالله.
18- تحريم قتل النفس التي حرم الله.
19- الوعيد الشديد الأكيد لقاتلها.
20- تحريم الزنا.
21- الوعيد الشديد للزاني.
22- الحث على التوبة.
23- أن التوبة إذا صحت مقبولة.
24- الحث على الإيمان.
25- الحث على إصلاح العمل.
26- دليل على حلم الله وعفوه وكرمه حيث قبل توبة من تاب.
27- الحث على تكميل التوبة وتخليصها من شوائب الأغراض الفاسدة.
28- الحث على البعد عن مجالس الزور.
29- التحذير من قول الزور وفعله.
30- التحذير من شهادة الزور.
31- الحث على إكرام النفس بالابتعاد عن سماع اللغو وما لا خير فيه.
32- التعريض بما عليه الكفار والمنافقون الذين إذا سمعا كلام الله لم يتأثروا به ولم يتحولوا عما هم عليه، بل يستمرون على كفرهم وعصيانهم، وجهلهم وضلالهم.
33- الحث على سؤال الله ما تقر به العين من الأزواج والأولاد.
34- الحث على سؤال الله الإمامة في الدين.
35- العمل بالأسباب التي جعلها الله طريقًا إليه.
36- الحث على التقوى.
37- الحث على مقارنة الأتقياء.
38- دليل على كرم الله وجوده، يوفق للأعمال الصالحة، ويثيب عليها الثواب الجزيل ويشكر على ذلك.
39- أن يجزيهم المنازل الرفيعة.
40- الحث على الصبر.
41- أنهم يلقون فيها تحية وسلامًا.
42- أن نعيمهم دائم.
43- أن الله خلق الخلق لعبادته.
44- إن الله لا يعبأ بمن لا يوحده ولا يؤمن به.
45- إثبات الربوبية.
46- أن المدار على عبادة الله وتوحيده.
47- تهديد للكفار.
48- مدح الجنة وأنها نعم المقر والمقام.
49- الحث على محاسن الأعمال.
50- الابتعاد عن الجهال والأرذال.
51- إثبات رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
52- الرد على من قال: إن القرآن كلام محمد - صلى الله عليه وسلم -.
53- الحث على الاقتصاد في الأمور.(1/453)
54- الابتعاد عن التقتير.
55- إثبات صفة كلام الله.
56- إن من يفعل المعاصي المتقدمة يضاعف له العذاب.
57- أنه يخلد فيه مهانًا.
58- إثبات البعث بعد الموت.
59- إثبات الحشر والجزاء على الأعمال.
60- إثبات الجنة.
61- أن أهلها خالدون فيها.
62- أن الجنة في أعلى.
63- إن من تاب وآمن وعمل صالحًا يبدل الله سيئاته حسنات.
64- إثبات الألوهية.
65- إثبات صفة المغفرة له.
66- الرد على الجهمية.
67- الرد على الجبرية.
68- إن الغرف ما تنال إلا إذا وفق الله العبد للأعمال الجليلة.
69- لطف الله بخلقه حيث بين لعباده الأسباب الموصلة إلى ما يرضيه.
70- إن أولئك الصفوة الأخيار إذا ذكروا بآيات الله يسمعون ما يذكرون به فيفهمونه، ويرون الحق فيتبعونه.
71- الحث على العفو عن المسيء.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم(1/454)
قال الله تبارك وتعالى: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ * قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ * وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ *(1/455)
وَقَالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ * وَتَرَى المَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ } [الزمر: 62-75].
المفردات:
على كل شيء وكيل: على كل شيء قيم بالحفظ والكلاءة، مقاليد: مفاتيح، ليحبطن: ليبطلن ويذهب ولا يكون له أثر، وما قدروا الله حق قدره: ما عظموه حق عظمته، الصور: القرن الذي ينفخ فيه، صعق: غشي عليه، ينظرون: ينتظرون أمر الله فيهم، أشرقت: أضاءت، الكتاب: كتاب الأعمال، زمرا: أفواجًا بعضها إثر بعض، خزنتها: قوامها، ينذرونكم: يخوفونكم، حقت: وجبت كلمة العذاب، قوله تعالى: { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } ، المثوى: المصير، والمأوى: السكن، نتبوأ: ننزل، حافين: محدقين من حول العرش.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بسط جل وعلا الوعد والوعيد يوم القيامة لأهل التوحيد وأهل الشرك عاد إلى ذكر دلائل الوحدانية والألوهية، ثم انتقل إلى النعي على الكافرين في أمرهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعبادة الأوثان والأصنام، ثم بين أن الأنبياء جميعًا أوحى الله إليهم ألا يعبدوا إلا الله وحجه، وألا يشركوا به سواه، وأنهم إن فعلوا غير ذلك حبطت أعمالهم، وكانوا من الخاسرين.
ثم كرر عليهم النهي مرة أخرى بأنهم لم يعرفوا لله حق معرفته إذ لو عرفوه لما جعلوا هذه المخلوقات مشاركة له في العبودية.
قوله تعالى: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } : يخبر تعالى أنه خالق الأشياء كلها، وإنه ربها ومليكها والمتصرف فيها، وكل تحت تدبيره وقهره، وأنه لا خالق غيره ولا رب سواه، وهو على كل شيء قيم بالحفظ والكلاءة.(1/456)
ثم فصل ذلك بعض التفصيل، فقال: { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } يفتح على من يشاء من خلقه، ويمسك عمن يشاء، قال تعالى: { وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ } المعنى: أن أزمة الأمور بيده تبارك وتعالى، وله الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
ولهذا قال: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ } أي والذين كفروا بالأدلة التي وضعت في الأكوان والتي جاءت في القرآن دالة على وحدانية الله وعظيم قدرته، وبديع حكمته، أولئك هم المغبونون حظوظهم من خيرات السموات والأرض التي بيده مفاتيحها؛ لأنهم حرموا ذلك كله في الآخرة بخلودهم في جهنم، وفي الدنيا بخذلانهم عن الإيمان الله عز وجل.
ثم أمر جل وعلا رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يوبخ المشركين وينكر عليهم، فقال: { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ } ، أي قل يا محمد لمشركي قومك الذين يدعونك إلى عبادة الأوثان، والقائلين لك هو دين آبائك: أفتأمروني أيها الجاهلون أن أعبد غيره، العبادة لا تصح إلا له جل وعلا، وجوز أن يكن أعبد في موضع المفعول لتأمروني على أن الأصل تأمروني أن أعبد، فحذفت أن وارتفع الفعل كما في قول طرفة:
ألا أيها هذا الزاجري أحضر الوغى
ثم بين - جل وعلا - أنه حذر وأنذر عباده عن الشرك بلسان جميع الأنبياء، فقال: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ } أي ولقد أوحي إليك من ربك لئن أشركت بالله شيئًا ليبطلن عملك، ولا تنال جزءًا إلا جزاء من أشرك بالله، وأوحي إلى الرسل من قبلك بمثل هذا، فاحذر أن تشرك بالله شيئًا فتهلك.(1/457)
ثم أمر جل وعلا نبيه بالإخلاص، فقال: { بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ } أي أخلص العبادة له وحده لا شريك له أنت ومن اتبعك وصدقك، وكن من الشاكرين لأنعامه عليك بما هداكم إليه من التوحيد، والدعاء إلى دينه، وما اختصك به من الرسالة.
ثم أكد ما سلف، فقال: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أي ما عظموه حق التعظيم، إذ عبدوا غيره معه، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، الخالق لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدرته، وما سواه ناقص في أوصافه وأفعاله، فأوصافه ناقصة من كل وجه وأفعاله، ليس عنده نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع.
قال تعالى: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } ، وقال: { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } إلى قوله: { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ، وقال تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا } ، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } الآية.
وروى البخاري عن ابن مسعود، قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السموات على أصبع، الأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر المخلوقات على أصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ } الآية.(1/458)
وأخرج الشيخان والنسائي، و ابن ماجه في جماعة آخرين عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } وهو يقول هكذا بيده، يحركها يقبل بها ويدبر، «يمجد الرب نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم» فرجف برسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر حتى قلنا ليخرن به.
وقوله: { وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ } يقول تعالى: والأرض كلها قبضته يوم القيامة، والسماوات كلها مطويات بيمينه.
وروي عن ابن عباس وجماعة غيره أنهم كانوا يقولون: والأرض والسموات جميعًا بيمينه يوم القيامة.
وعن ابن عباس قوله: { وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ } ، يقول: قد قبض الأرضين والسموات جميعًا بيمينه، ألم تسمع أن قال: { مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } يعني الأرض والسموات بيمينه جميعًا.
وعن أبي أيوب الأنصاري قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حبر من اليهود، قال: أرأيت إذ يقول الله في كتابه: { وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } فأين الخلق عند ذلك؟ قال: «فيها كرقم الكتاب».
وقوله: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } ، يقول تبارك وتعالى مخبرًا عن هول يوم القيامة، وما يكون فيه من الآيات العظيمة والزلازل الهائلةز(1/459)
فقوله: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ } ، هذه النفخة هي النفخة الثانية، وهي نفخة الصعق، وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السموات والأرض إلا ما شاء الله، كما جاء مصرحًا مفسرًا في حديث الصور المشهور.
ثم يقبض أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد الحي القيوم الذي كان أولاً وهو الباقي، آخرًا بالديمومة والبقاء ، ويقول: « { لِّمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ } أنا الذي كنت وحدي، وقد قهرت كل شيء، وحكمت بالفناء على كل شيء»، ثم يحيى أول من يحيى إسرافيل، ويأمره أن ينفخ في الصور أخرى، وهي النفخة الثاني نفخة البعث.
قال الله عز وجل: { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } أي أحياء ينظرون إلى أهوال يوم القيامة، كما قال تعالى: { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ } ، وقال: { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } ، وقال: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } .
وفي حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «... يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين لا أدري أربعين يومًا أو أربعين شهرًا، أو أربعين عامًا، فيبعث الله عيسى بن مريم –عليهما السلام- كأنه عروة بن مسعود، فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحًا باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه».(1/460)
قال: سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «فيبقى شرارة الناس في خفة الطير وأحلام السباع، لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، فيتمثل لهم الشيطان، فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دارة أرزاقهم، حسن عيشهم، ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى لِيْتًا ورَفعَ لِيتًا، قال: وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله، قال: فيصعق ويصعق الناس، ثم يُرسِل اللهُ، أو قال: يُنْزِلُ اللهُ مطرًا كأنه الطَّل، أو الظل –نعمان الشاك- فينبت منه أجسادُ الناس، ثم ينفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: أيها الناس، هلموا إلى ربكم، وقفوهم أنهم مسئولون، قال: ثم يقال: أخرجوا بعث النار، فيقال: مِن كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، قال: فذاك يوم يجعل الولدان شيبا، وذلك يوم يكشف عن ساق» انفرد بإخراجه مسلم في «صحيحه».
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بين النفختين أربعون»، قالوا: أربعون يومًا، قال: «أَبَيْتُ»، قالوا: «أربعون شهرًا»، قال: «أبيتُ»، قالوا: أربعون سنة، قال: «ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبتُ البَقْلُ، ليس من الإنسان شيء ألا يبلى، ألا عظمٌ واحد وهو عَجْبُ الذَّنَبِ، ومنه يركب الخلق يوم القيامة».
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -:
وإذا أراد الله إخراج الورى
ألقي على الأرض التي هم تحتها
مطرًا غليظًا أبيضًا متتابعًا
فتظل تنبت منه أجسام الورى
حتى إذا ما الأم حان ولادها
أوحى لها رب السما فتشققت
وتخلت الأم الودود وأخرجت
والله ينشئ خلقه في نشأة ... بعد الممات إلى المعاد الثاني
والله مقتدر وذو سلطان
عشرًا وعشرًا بعدها عشران
ولحومهم كمنابت الريحان
وتمخضت فنفاسها متدان
فبدا الجنين كأكمل الشبان
أثقالها أنثى ومن ذكران
أخرى كما قد قال في القرآن
هذا الذي جاء الكتاب وسُّنة الهادي به، فاحرص على الإيمان.(1/461)
وقوله تعالى: { وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } أي أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق جل وعلا للخلق لفصل القضاء ووضع الكتاب.
قال قتادة: كتاب الأعمال لمحاسبة الخلائق ومجازاتهم.
قال تعالى: { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا } ، وقال في آية أخرى: { مَا لِهَذَا الكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } وقوله: { بِالنَّبِيِّينَ } ليكونوا شهداء على أممهم، كما قال: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } .,
وقال تعالى: { فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ المُرْسَلِينَ } ، وقوله: { وَالشُّهَدَاءِ } الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة، وهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، قاله ابن عباس.
قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } ، وقيل: الحفظة من الملائكة الذين يقيدون أعمال العباد خيرها وشرها، واستدل لذلك بقوله تعالى: { وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } ، وقيل: المراد بالشهداء الذين استشهدوا في سبيل الله، فيشهدون لمن ذب عن دين الله، والرابع: النبيون والملائكة وأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - والجوارح، وهذا هو الذي يترجح عندي، والله أعلم.
وبعد أن بين جل وعلا أنه يحضر في محفل القيامة جميع ما يحتاج إليه في فصل الحكومات وقطع الخصومات بين أنه يوصل كل أحد حقه كاملاً غير منقوص، ودل على ذلك بأربع عبارات:(1/462)
1- { وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ } أي بالعدل التام، والصدق، والقسط العظيم؛ لأنه حساب صادر ممن لا يظلم مثقال ذرة، كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } ، وهو الذي أحاط بكل شيء علمًا وكتابه الذي هو اللوح المحفوظ محيط بالأعمال كلها.
... والحفظة الكرام الكاتبون الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، قد كتبت عليهم ما عملوه، كما قال تعالى: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } وأعدل الشهداء قد شهدوا على ذلك الحكم العدل، ولهذا قال.
2- { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ونحو هذه الآية: { وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } .
3- قوله: { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } أي وأعطى الله حينئذ كل نفس جزاء عملها جزاءًا كاملاً من خير أو شر.
4- وهو أعلم بما يفعلون في الدنيا دون حاجة إلى كاتب أو حاسب، فلا يفوته شيء من أعمالهم فيحصل حكم يقر به الخلق ويعترفون لله بالحمد والعدل والعلم، ويعرفون من عظمته وعلمه وحكمته ورحمته وقدرته ما لم يخطر بقلوبهم ولا تعبر عنه ألسنتهم.
وقوله تعالى: { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا } السوق: الحث على السير بعنف وإزعاج، علامة على الإهانة والاحتقار، أي وسيق الكافرون بربهم المشركون به إلى جهنم سوقًا عنيفًا أفواجًا متفرقة بعضها في إثر بعض بحسب ترتيب طبقاتهم في الشر والضلال، بزجر، وتهديد ووعيد.(1/463)
كما قال عز وجل: { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًا } ، وقال: { خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الجَحِيمِ } هذا وهم عطاش ظماء، كما قال جل وعلا في الآية الأخرى: { يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ المُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا } وهم في تلك الحال صم بكم عمي، منهم من يمشي على وجهه، قال تعالى: { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } .
قال القحطاني - رحمه الله -:
يوم القيامة لو علمت بهوله
يوم تشققت السماء لهوله
يوم عبوس قمطرير شره
والجنة العليا ونار جهنم
يوم يجيء المتقون لربهم
ويجيء فيه المجرمون إلى لظى ... لفررت من أهل ومن أوطان
وتشيب منه مفارق الولدان
في الخلق منتشر عظيم الشأن
داران للخصمين دائمتان
وفدًا على نجب من العقيان
يتلمظون تلمظ العطشان
وقوله تبارك وتعالى: { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } أي بمجرد وصولهم إليها فتحت لهم أبوابها سريعًا؛ ليدخلوا كأبواب السجون لا تزال مغلقة حتى يأتي أرباب الجرائم الذين يسجنون فيها فتفتح لهم ليدخلوها، فإذا دخلوها أغلقت عليهم.
ثم ذكر سؤال الخزنة من الزبانية الذين هم غلاظ شداد القوى على طريق التقريع والتوبيخ والتحصيل والتنكيل والإهانة، فقال: { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } أي لم يأتكم رسل من جنسكم تفهمون ما ينبؤكم به من طاعة ربكم والاعتراف بوحدانيته وترك الشرك به.(1/464)
ويسهل عليكم مراجعتهم حين يقيمون عليكم الحجج والبراهين مبينين صدق ما دعوكم إليه وينذرونكم أهوال هذا اليوم، فيقول الكفار مجيبين معترفين ولم يقدروا على الجدل الذي كانوا يتعللون به في الدنيا، لوضوح السبل أمامهم ولا سبيل إذًا إلى الإنكار والجحود.
ولهذا يقولون: بلى، أي قد جاءنا وأنذرونا، وأقاموا علينا الحجج والبراهين، { وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الكَافِرِينَ } أي ولكن كذبناهم وخالفناهم لما سبق من الشقوة التي كنا نستحقها حيث عدلنا عن الحق إلى الباطل، كما قال جل وعلا مخبرًا عنهم في الآية الأخرى: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } أي ارجعوا إلى أنفسكم بالملامة والندامة، { فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ } ، أي بعدًا وخسارًا.
وبعد أن اعترفوا هذا الاعتراف، قيل: { ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا } أي قيل لهم على وجه الإهانة والإذلال: ادخلوا أبواب جهنم السبعة، كما قال تعالى: { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } وكل من رآهم وعلم حالهم يشهد عليهم بأنهم مستحقون للعذاب.
ولهذا لم يسند هذا القول إلى قائل معين، بل أطلقه ليدل على أن الكون شاهد عليهم، بأنهم يستحقون ما همن فيه بما حكم العدل الخبير عليهم به؛ ولهذا قال جل وعلا: { ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا } أي ماكثين فيها، لا خروج لكم منها، ولا زوال لكم عنها.(1/465)
وبعد أن ذكر سبحانه أحوال الأشقياء وما يلاقونه يوم القيامة من الأهوال أردفها ذكر أحوال السعداء وما يلاقونه إذ ذاك من النعيم، وما يقال لهم وما يقولون، فقال: { وَسِيقَ الَذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الجَنَّةِ زُمَرًا } أي وسيق المتقون إلى الجنة جماعة إثر جماعة على النجائب وفودًا إلى الجنة.
المقربون ثم الأبرار، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كل طائفة مع من يناسبهم ويشاكلهم الأنبياء، والصديقون مع أشكالهم، والشهداء مع أضرابهم، والعلماء مع أقرانهم، وكل صنف مع صنف، كل زمرة تناسب بعضها بعضًا.
والمراد بالسوق هنا الإسراع بهم إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يكرم من الوافدين على بعض الملوك، الفرق بين السَّوقَيْن أن سَوقِ أهلِ النار طردهم إلى العذاب بالهوان والعنف، كما يفعل بالمجرم إذا أسر وذهب به إلى الحبس أو القتل، والمراد بسوق أهل الجنة ما تقدم قبل سطرين.
وقيل: المراد سَوق مراكبهم؛ لأنهم يذهبون إليها راكبين، فشتان ما بين السَّوْقين، وهذا من بدائع البديع، وهو أن يأتي سبحانه وتعالى بكلمة في حق الكفار فتدل على هوانهم وعقابهم، ويأتي بتلك الكلمة بعينها وهيئتها في حق المؤمنين فتدل على إكرامهم بحسن ثوابهم، فسبحان من أنزله على رسوله معجز المعاني، عذب المارد والمثاني.
وقوله: { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } أي حتى إذا وصلوا إلى الجنة، وفي هذه الاو أقوال، قيل: إنها للعطف، عطف على جملة، والجواب محذوف تقديره سعدوا، وفتت، وأنشد قول امرئ القيس:
فلو أنها نفس تموت جميعة ... ولكنها نفس تساقط أنفسا
فحذف جواب «لو» والتقدير لكان أروح.
وقيل: حتى إذا جاءوها دخلوها، وهو قريب من الأول.(1/466)
وقيل: إن الواو دليل على أن الأبواب فتحت لهم قبل أن يأتوا إليها لكرامة الله لهم وكرامتهم عليه، والتقدير حتى إذا جاؤوها وأبوابها مفتحة بدليل قوله تعالى: { جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ } وجعل قوله: { وَفُتِحَتْ } جملة حالية، أي وقد فتحت أبوابها.
وناسب كونها حالاً أن أبواب الأفراح تكون مفتحة لانتظار من يجيء إليها، بخلاف أبواب السجون، وحذف الواو في قصة أهل النار؛ لأنهم وقفوا على النار وفتحت بعد وقوفهم إذلالاً وترويعًا لهم.
وقيل: إنها واو الثمانية، وذلك من عادة قريش إنهم يعدون من الواحد، فيقولون: خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، فإذا بلغوا السبعة، قالوا: وثمانية، قال تعالى: { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } ، وقال: { التَّائِبُونَ العَابِدُونَ } ثم في الثامن: { وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ } ، وقال: { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } ، وقال: { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَار } .
وقد استدل بهذا من قال: إن أبواب الجنة ثمانية، وذكروا ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء، أخرجه مسلم وغيره.
وروي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة».
قال ابن القيم - رحمه الله - في صفة أول زمرة تدخل الجنة:
هذا وأول زمرة فوجوههم
السابقون هموا وقد كانوا هنا ... كالبدر ليل السبت بعد الثمان
أيضًا أولى سبق إلى الإحسان
وقال في الزمرة الثانية:
والزمرة الأخرى كأضوء كوكب
أمشاطهم ذهب ورشحهم ... في الأفق تنظره به العينان
فمسك خالص يا ذلة الحرمان(1/467)
وأخرج الشيخان وغيرهما، عن سهل بن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «في الجنة ثمانية أبواب، منها باب يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون».
وعن سالم عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «باب أمتي الذي يدخلون منه الجنة عرضه مسيرة الراكب الجواد ثلاثًا، ثم إنهم ليغطون عليه حتى تكاد مناكبهم تزول» رواه الترمذي.
وعن عتبة بن غزوان قال: ذكر لنا أن الحجر يلقى من مشفة جهنم، فيهوي فيها سبعين خريفًا لا يدرك لها قعرًا، و الله لتملأن، ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليها يوم وهو كضيظ من الزحام، رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة، ثم قال: «أنا سيد الناس يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون، فيقول الناس: ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيأتون آدم».
وذكر حديث الشفاعة، وقال: «فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا لربي، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم قال: يا محمد، ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب، أمتي، أمتي يا رب، فيقال: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حسان عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده أن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر» متفق عليه.
قال ابن القيم - رحمه الله - في أبواب الجنة:
أبوابها حق ثمانية أتت
باب الجهاد وذاك أعلاها وباب
ولكل سعى صالح باب ورب
ولسوف يدعى المرء من أبوابها
منهم أبو بكر هو الصديق ذاك ... في النص وهي لصاحب الإحسان
الصوم يدعى الباب بالريان
السعي منه داخل بأمان
جمعًا إذا أوفى حلي الإيمان
خليفة المبعوث بالقرآن(1/468)
وقوله تعالى: { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ } أي طابت أعمالكم وأقوالكم، وطاب سعيكم، وطاب جزاؤكم، كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينادي بين المسلمين في الغزوات: «إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة».
وفي رواية: «مؤمنة».
وقوله: { فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } أي ماكثين فيها أبدًا لا زوال ولا فناء ولا تحول، قال تعالى: { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } .
قال مقاتل: إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم، حتى إذا هذبوا وطيبوا، قال لهم رضوان وأصحابه: { سَلامٌ عَلَيْكُمْ } الآية.
وعن أبي سعيد وأبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم إن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا» رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، ولا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه» رواه مسلم.(1/469)
وقوله: { وَقَالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } أي يقول المؤمنون إذا عاينوا في الجنة الثواب الوافر والعطاء العظيم، والنعيم المقيم، والملك الكبير، يقولون عند ذلك: { الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } أي الذي كان وعدنا على ألسنة رسله الكرام كما دعونا في الدنيا: { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المِيعَادَ } ، { وَقَالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } ، { لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } ، { وَقَالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } ، { الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } .
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في قوله تعالى: { وَسِيقَ الَذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الجَنَّةِ زُمَرًا } قال: سيقوا حتى انتهوا إلى باب من أبواب الجنة، فوجدوا عندها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فعمدوا إلى إحداهما فتطهروا منها، فجرت عليهم نضرة النعيم فلم تغير أبشارهم بعدها أبدًا، ولم تشعث أشعارهم أبدًا بعدها، كأنما دهنوا بالدهان، ثم عمدوا إلى الأخرى كأنما أمروا بها، فشربوا منها فأذهبت ما كان في بطونهم من أذى وقذى وتلقتهم الملائكة على أبواب الجنة { سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } .(1/470)
وتلقى كل غلمان صاحبهم يطوفون به فعل الولدان بالحميم، جاء من الغيبة أبشر قد أعد الله لك من الكرامة كذا وكذا، قد أعد الله لك من الكرامة كذا وكذا، قالك وينطلق غلام من غلمانه إلى أزواجه من الحور العين، فيقول: هذا فلان باسمه في الدنيا، فيقلن: أنت رأيته؟ فيقول: نعم، فيستخفهن الفرح حتى تخرج إلى أسكفة الباب، قال: فيجيء، فإذا هو بنمارق مصفوفة وأكواب موضوعة، وزرابي مبثوثة.
قال: ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه فإذا هو قد أسس على جندل اللؤلؤ بين أحمر وأخضر وأصفر وأبيض، ومن كل لون، ثم ترفع طرفه إلى سقفه فلولا أن الله تعالى قدر له لألم أن يذهب ببصره، إنه لمثل البرق، ثم ينظر إلى أزواجه من الحور العين، ثم يتكئ على أريكة من أرائكه، ثم يقول: { الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } .
وقوله: { وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ } أرض الجنة التي كانت لأهل النار لو كانوا أطاعوا الله في الدنيا فدخلوها ميراثًا عنهم.
وقيل: إنها الدنيا، وفي الكلام تقديم وتأخير، نتبوأ نتنزل منها أي مكان شئنا ونتناول منها أي نعيم أردنا، فنعم الأجر على عملنا وثوابنا الذي أعطيتنا { وَتَرَى المَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ } .
يقول تعالى ذكره: وترى يا محمد الملائكة محدقين من عرش الرحمن، والعرش السرير، يسبحون بحمد ربهم ويمجدونه ويعظمونه ويقدسونه وينزهونه عن النقائص والعيوب والجور، وقد فصل القضية، وقضي الأمر، وحكم بالعدل؛ ولهذا قال: { وَقُضِيَ بَيْنَهُم } أي الخلائق، { بِالْحَقِّ وَقِيلَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ } أي نطق الكون أجمعه ناطقه وبهيمه لله رب العالمين بالحمد في حكمه وعدله، ولهذا لم يسند القول إلى قائل، بل أطلقه، فدل على أن جميع المخلوقات شهدت له بالحمد.(1/471)
قال المفسرون: ابتدأ الله ذكر الخلق بالحمد، فقال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ } ، وختم غاية الأمر هو استقرار الفريقين في منازلهم بالحمد بهذه الآية، فنبه في بداية كل أمر وخاتمته.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
مما يفهم من آيات الدرس [62-75]:
1- إثبات الألوهية.
2- إثبات الأسماء لله.
3- إثبات صفة الخلق.
4- دليل على أن جميع الأشياء غير الله وأسمائه وصفاته مخلوقة.
5- إن الله على كل شيء قيم بالحفظ والكلاءة.
6- إن أزمة الأمور بيد الله.
7- إن الجاحدين لآياته خاسرون.
8- دليل على رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
9- الرد على من قال إن القرآن كلام محمد.
10- الرد على من أنكر رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
11- توبيخ المشركين والإنكار عليهم.
12- أن من أمر بعبادة غير الله جاهل.
13- الإنكار على من أمر بمنكر.
14- أن الله حذر وأنذر عباده عن الشرك بلسان جميع الأنبياء.
15- أن الشرك محبط للأعمال.
16- أن المشرك خاسر.
17- لطف الله بخلقه حيث حذرهمن من الشرك ونبههم على ضرره.
18- أن الله لم يهمل خلقه، بل أرسل إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين.
19- الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له.
20- أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بشكر الله جل وعلا.
21- أن العباد لم يعظموا الله حق تعظيمه.
22- دليل على عظمة الله جل وعلا.
23- دليل على قوة الله تعالى.
24- أن الأرض جميعًا في قبضة الله يوم القيامة.
25- أن السموات مطويات بيمينه جل وعلا.
26- إثبات الصور وأنه ينفخ فيه فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله.
27- أنه ينفخ فيه مرة ثانية فيحي الخلائق.
28- أن الأرض تضيء وتشرق بنور ربها.
29- دليل على عظمة الله وعظمة نوره.
30- دليل على وضع كتاب الأعمال.
31- إتيان الأنبياء ليكونوا شهداء على أممهم.
32- إتيان الشهداء ليشهدوا.(1/472)
33- أنه يحظر في محفل القيامة جميع ما يحتاج في فصل الحكومات.
34- دليل على عدل الله التام.
35- إثبات علم الله.
36- الرد على من أنكر صفة العلم من جهمية أو قدرية أو غيرهم.
37- أن أعدل الشهداء قد شهدوا على ذلك الحكم العدل الذي حكم به من يعلم مقادير الأعمال ومقادير استحقاقها للثواب والعقاب.
38- أن الله لا يظلم مثقال ذرة ولا أصغر ولا أكبر، فقد حرم الظلم على نفسه، والمأخذ من قوله: { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .
39- دليل على البعث.
40- دليل على الحساب.
41- دليل على الجزاء على الأعمال، والمأخذ من قوله: { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } .
42- إثبات علم الله في كل ما مضي.
43- أن الله لا يحتاج إلى كاتب أو حاسب فلا يفوته شيء من أعمالهم.
44- الرد على الجبرية ونحوهم من منكري أفعال العباد.
45- أنه في ذلك الموقف يقر الخلق ويعترفون بالحمد لله والعدل.
46- أنه بعد ذلك الحكم يعرف الخلائق من عظمة الله وعلمه وحكمته ورحمته ما لم يخطر لهم على بال.
47- دليل على قدرة الله.
48- أن الكفار يساقون إلى جهنم.
49- إثبات جهنم.
50- أنها مثوى الكفار.
51- أن الكفار يأتون إلى جهنم فرقًا.
52- أنها تفتح لهم أبوابها بمجرد وصولهم إليها.
53- أن الخزنة يوبخون ويقرعون الكفار.
54- دليل على صدق الرسل.
55- أن الرسل قاموا بما كلفوا به من قبل الله، فبشروا وأنذروا، ولهذا إذا خرجوا من القبور، قالوا: { هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ المُرْسَلُونَ } .
56- عظم فضل الله عليهم، حيث أرسل رسلاً من جنسهم يفهمون ما يخبرونهم به، وتسهل عليهم مراجعتهم بالحجج والبراهين.
57- أن الكفار يعترفون بأن الرسل تلوا عليهم آيات الله وأنذروهم.
58- أن كلمة الله حقت على الكافرين.
59- أن الكفار خالدون في جهنم.
60- أن جهنم بئس المنزل.
61- التحذير عن الاستكبار عن آيات الله.
62- أن التكبر خلق رذيل.
63- أن لجهنم أبوًابا.(1/473)
64- أن كلمة أدخل تارة تكون على وجه الإهانة والإذلال، وتارة للتشريف والتكريم والتقدير، وكذلك السوق والتبشير.
65- أن من بدائع أنواع البديع أن يأتي سبحانه بكلمة في حق الكفار فتدل على هوانهم وعقابهم، ويأتي بتلك الكلمة بعينها وهيئتها في حق المؤمنين فتدل على إكرامهم بحسن ثوابهم.
66- الحث على التقوى.
67- أنها سبب لدخول الجنة.
68- الإسراع بالمتقين إلى الجنة لأجل إكرامهم؛ لأن السوق الحث على السير.
69- أنهم يأتون جماعة إثر جماعة.
70- إثبات الربوبية.
71- أنها تفتح قبل أن يأتوا إليها كما تدل على ذلك الآية الأخرى، قوله: { جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ } .
72- أن خزنتها يسلمون على المتقين.
73- أن الخزينة يقولون لهم: طبتم –أي بطاعة الله- وطابت أعمالكم.
74- أنهم خالدن في الجنة.
75- أنه لا أحد أصدق وعدًا من الله.
76- أن أهل الجنة يحمدون الله على صدق وعده وعطائه الجزيل.
77- أنه يورثهم أرض الجنة، فهذه الآية كقوله تعالى: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } .
78- أن أهل الجنة يحلون من الجنة أين شاءوا.
79- مدح الجنة، فالمخصوص بالمدح محذوف، أي فنعم أجر العاملين الجنة.
80- إثبات الجنة.
81- وأنها دار المتقين، جعلنا الله وإخواننا المسلمين منهم، أنه قادر على ذلك، اللهم صل على محمد وآله وسلم.
82- أن العمل سبب لدخول الجنة.
83- أن في التعبير بأجر العاملين دون أجرنا تعريضًا بأهل النار أنهم غير عاملين.
84- إثبات الملائكة.
85- إثبات أنهم يرون في الآخرة.
86- أنهم يحفون من حول العرش.
87- الرد على من أنكر الملائكة ممن عميت أبصارهم وبصائرهم، وكذبوا الله ورسله.
88- إثبات العرش.
89- أن الملائكة يسبحون بحمد خالقهم.
90- الحث على التسبيح والحمد لله.
91- القضاء بين الخلائق بالحق.
92- إثبات عدل الله.
93- إثبات الألوهية لله.(1/474)
94- أن كلاً ينطق بالحمد لله رب العالمين.
95- التنبيه على بداية كل أمر وخاتمته.
96- إثبات صفة الكلام لله.
97- أن التسبيح في ذلك اليوم تسبيح تلذذ، لا تسبيح تعبد؛ لأن التكليف قد زال... محله الدنيا.
98- دليل على بقاء الجنة.
99- دليل على بقاء النار، كما هو قول الجمهور.
100- التحذير من الكفر بالله.
101- أن القرآن آيات بينات.
102- تنزيه الله وتقديسه عما يقوله المشركون.
103- أن الرزق بيد الله.
104- دليل على شدة الصيحة؛ لأن الخلق يغشي عليهم أو يموتون.
105- أن قوله: { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ } دليل على سرعة إيجادهم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
قال الله تبارك وتعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلَيَاؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ * وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } .
بعد أن أسلف سبحانه وتعالى في وعيد الكفار بما لم يبق بعده في القوس منزع أعقب بهذا الوعد الشريق، كما هي في سُّنة القرآن من إتباع أحدهما بالآخر كما جاء في قوله تعالى: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ } .(1/475)
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } أي اعترفوا ونطقوا بأنه واحد لا شريك له، ورضوا بربوبيته تعالى، ثم استقاموا على التوحيد ولم يلتفتوا إلى غيره.
وقال جماعة من الصحابة والتابعين: معنى الاستقامة إخلاص العمل لله.
وقال قتادة: ثم استقاموا على طاعة الله، وقال الحسن: استقاموا على أمر الله، فعلموا بطاعة الله واجتنبوا معصيته، وقال مجاهد وعكرمة: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى ماتوا، وقال الثوري: عملوا على وفق ما قالوا، وقال الربيع: أعرضوا عما سوى الله.
وقال الفضيل بن عياض: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية، وقال بعض العارفين: الاستقامة: توبة بلا إصرار، وعمل بلا فتور، وإخلاص بلا التفات، ويقين بلا تردد، وتفويض بلا تدبير، وهذا مقام لا يحكمه إلا من وفقه الله.
وقال آخر: الاستقامة إتباع الحق والقيام بالعدل ولزوم المنهج القويم، وهذا أيضًا مقام عظيم وخطب جسيم لا يكون إلا لمن وفقه الله لذلك.
وقال آخر: الاستقامة كمقام الشكر وهو صرف العبد في كل ذرة ونفس جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله من عبادة مولاه ما يستطيع على الوجه الأقوم والطريق الأكمل، وهذا أيضًا مقام عزيز.
ولذلك قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } ما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية هي أشد عليه من هذه الآية؛ ولذلك قال: «شيبتني هود وأخواتها»، وهي: الواقعة، والحاقة، وسأل سائل، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت، والقارعة.
قال العلماء: ولعل ذلك لما فيهن من التخويف العظيم والوعيد الشديد باشتمالهن مع قصرهن على أحوال الآخرة وأهوالها وفظائعها وشدائدها وقلاقلها، وبيان أحوال الهالكين والمعذبين مع ما اشتملت عليه هود من الأمر بالاستقامة كما أمره مولاه؛ لأن قوله تعالى: { كَمَا أُمِرْتَ } يدل على أن الاستقامة تكون بحسب المعرفة.(1/476)
فمن كملت معرفته بمولاه عظم عنده أمره ونهيه، فمن كان بالله أعرف كان منه أخوف، فإذا سمع { كَمَا أُمِرْتَ } علم أنه مطالب باستقامة تليق بمعرفته بعظمة سيده وجلال مولاه.
وقال بعض العلماء: إن القول الجامع للأقوال التي فسرت فيها الاستقامة، أن الاستقامة: هي المتابعة للطريقة المحمدية مع التخلق بالأخلاق المرضية، لا سيرًا مع الهوى والابتداع، فإن السير مع الهوى يعمي عين القلب، فلا يميز بين السُّنة والبدعة، ولا يفرق بين الخير والشر، بل ينكس القلب ويعكسه، فيرى البدعة سنة والسُّنة بدعة، والضلالة هداية، والهداية ضلالة، { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ } .
وللاستقامة مدارج: الأول: التقويم، ويكون من حيث تأديب النفس بإصلاح الجوارح، وتعديل أعمالها بميزان الخوف والرجاء حتى تعتاد الخير، وتستقيم على عمل البر والطاعة.
والثاني: إقامة تكون من جهة تهذيب النفس، وتطهير القلب من الأخلاق السيئة، والآفات الذميمة كالحسد، والحقد، والعجب، والرياء، والكبر، والنفاق.
والثالث: الاستقامة، وذلك بأن تكون أعمال العبد كلها موزونة بميزان الشرع الشريف من غير تكلف تقويم ولا إقامة، فالأول: تمحيص، والثاني: تحقيق، والثالث: توفيق.
قالوا: وعلامة المستقيم الصبر على الشدائد، والثبات عند البلايا، والإعراض عن الجاهلين، والصفح عمن أساء إليه، وأن لا يكون للهوى والشهوة سلطان على نفسه، وأن زخارف الدنيا لا تصده ولا تشغله عن طاعة مولاه.
قالوا: ومن آثار الاستقامة أنه إذا كان المستقيم راعيًا صلحت رعيته، وإذا كان مربيًا توفقت تلاميذه، وصلحت بإذن الله أعمالهم واستقاموا، وإن كان المستقيم رب منزل استقام أهله وصلحت ذريته بإذن الله، وإن كان زارعًا كثر خيره وبورك له.(1/477)
وإن كان تاجرًا ربحت تجارته، وإن كان صانعًا تقدمت صناعته، ولاشك أنه متى صلحت الأفراد وصلح حالها استقامت الأسر بإذن الله، ومتى استقامت الأسر استقامت الأمة بأكملها.
قالوا: والحصول على الاستقامة بوجه عام ليس من الأمور الصعبة على من يطلبها ممن وفقه الله، بل من السهل الهين والميسور القريب، فإن المرء إذا عود نفسه أن يراقب الله تعالى في سره وعلانيته عند كل عمل يعمله موقنًا أن الله تعالى مطلع على جميع أعمال العباد.
ومعتقدًا أنه تعالى يجازي من أطاعه برضوانه وإحسانه، وأنه يحل غضبه على من خالف أمره وعصاه، فإذا عود نفسه على ذلك سهل عليه أن يفعل ما أمره الله به، ويجتنب ما نهاه الله عنه فإذا سولت له نفسه أن يأتي معصية من معاصي الله ردها وزجرها، وذكرها بعزة الله وجلاله وعظمته وكبريائه، وأنه تعالى قادر على الانتقام منه ومن جميع من عصاه، وأنه مطلع عليه لا تخفى عليه من أعماله خافية.
قال تعالى: { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» فمتى لاحظ الإنسان ذلك وعود نفسه عليه، ووفقه الله لا يقدم على منكر، ولا يقصر في معروف، فتصير الاستقامة له عادة، والله ولي التوفيق ومنه الهداية.
وقوله تعالى: { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا } قال ابن عباس ومجاهد والسدي وزيد بن أسلم وابنه: عند الموت فعلى هذا في معنى { أَلاَّ تَخَافُوا } ، قولان:
أحدهما: لا تخافوا الموت، ولا تحزنوا على أولادكم، قاله مجاهد.(1/478)
والثاني: لا تخافوا أمامكم، ولا تحزنوا على ما خلفكم، قاله عكرمة والسدي.
والقول الثاني: { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ } إذا قاموا من القبور، قاله قتادة، فيكون معنى لا تخافوا أنهم يبشرونهم بزوال الخوف والحزن يوم القيامة.
وقوله: { وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } أي وتقول لهم الملائكة: أبشروا بذهاب الشر، وحصول الخير، ابشروا بالجنة التي وعدتم بها على ألسنة الرسل في الدنيا، فإنكم واصلون إليها، مستقرون بها خالدون في نعيمها.
وجاء في حديث البراء - رضي الله عنه - قال: «إن الملائكة تقول لروح المؤمن: أخرجي أيتها الروح الطيبة من الجسد الطيب كنت تعمرينه، أخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عبدالسلام بن مطهر، حدثنا جعفر بن سليمان، قال: إن ثابتًا قرأ سورة حم «السجدة» حتى بلغ: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ } فوقف، فقال: بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعثه الله تعالى من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا، فيقولان له: لا تخف ولا تحزن.
ثم بشروا بشارة أعظم من الأولى، فتقول لهم الملائكة عند الاحتضار: نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، أي نحن قرناؤكم وأعوانكم في الحياة، ندلكم على الحق، ونرشدكم إلى ما فيه خيركم، وصلاحكم، ونحفظكم، ونحثكم في الدنيا على الأعمال الصالحة، ونزينها لكم، ونخوفكم من الشر، ونقبحه في قلوبكم، ونثبتكم عند المصائب والمخاوف.
ونكون معكم في الآخرة نبشركم عند الموت بالجنة، ونثبتكم عند الاحتضار ونؤمنكم من الوحشة في القبر وظلمته، وعند النفخة في الصور، ويوم البعث، وفي القيامة وأهوالها، وعند الصراط.(1/479)
وفي الجنة يهنئونهم بكرامة ربهم، قال تعالى: { يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } ، وقال: { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .
تَراهُم وأملاكُ الرِضا يَقْدُمُونَهُم
يَسيرونَ في أَمْنٍ إِذّ الخَلْقُ فُزَّعٌ ... إلى جنةٍ طَابَتْ وطابَ نَعِيْمُهَا
وقد بَرَزَتْ نارٌ وشَبَّ جَحِيْمُهَا
ويقولون لهم أيضًا: { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ } أي ولكم في الجنة من صنوف اللذات، وأنواع النعم جميع ما تختارون مما تشتهيه الأنفس، وتلذ به الأعين وتقر به.
قال تعالى: { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
وقال: { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } .
وقوله: { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } أي ولكم ما تطلبون وما تتمنون من كل ما تتعلق به إرادتكم وأمنيتكم، وتطلبونه من أنواع اللذات والمشتهيات، والفرق بين الجملتين، أن الأولى باعتبار شهوات أنفسهم، والثانية باعتبار ما يطلبونه أعم من أن يكون مما تشتهيه الأنفس أولاً.
وقوله: { نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ } أي هذا الثواب العظيم، والعطاء الجزيل والنعيم المقيم، نزل وضيافة من غفور غفر لكم السيئات وَوَقَاكم شرها، رحيم حيث وفقكم لما هو سبب لسعادتكم وهو فعل الحسنات ثم قبلها منكم، فبغفرانه للذنوب أزال عنكم المحذور، وبرحمته ولطفه أنا لكم المطلوب، فأي نعيم بعد هذا التنعيم.(1/480)
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثَ سُوْقِ الجنة عند قوله تعالى: { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ } ، فقال: حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عبدالحميد بن أبي العشرين أبو سعيد، حدثنا الأوزاعي، حدثني حسان بن عطية، عن سعيد ابن المسيب أنه لقي أبا هريرة - رضي الله عنه -.
فقال أبو هريرة: اسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة، فقال: أو فيها سوق؟ فقال: نعم، أخبرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أن أهل الجنة إذا دخلوا فيها نزلوا فيها بفضل أعمالهم، فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون الله عز وجل، ويبرز لهم عرشه، ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة، ويوضع لهم منار من نور ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من ياقوت، ومنابر من زبرجد، ومنابر من فضة، ويجلس أدناهم –وما فيهم دنى- على كثبان المسك والكافور، ما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسًا» .
قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قلت: يا رسول الله، وهل نرى ربنا؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «نعم هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟»، قلنا: لا، قال - صلى الله عليه وسلم -: «فكذلك لا تتمارون في رؤية ربكم تعالى، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره ربه محاضرة حتى إنه ليقول للرجل منهم: يا فلان بن فلان أتذكر يوم أن عملت كذا وكذا؟ يذكره ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: أي رب أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه».(1/481)
قال: «فبينما هم على ذلك، غشيتهم سحابة من فوقهم، فأمطرت عليهم طيبًا لم يجدوا مثل ريحه شيئًا قط»، قال: «ثم يقول ربنا عز وجل: قوموا إلى ما أعددت من الكرامة، وخذوا ما اشتهيتم، قال: فنأتي سوقًا قد حفت به الملائكة فيها ما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان، ولم يخطر على القلوب، قال: فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيه شيء ولا يشترى، وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضًا».
قال: «فيقبل الرجل ذو المنزلة الرفيعة فيلقى من هو دونه –وما فيهم دني- فيروعه ما يرى عليه من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه، وذلك لأنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها، ثم ننصرف إلى منازلنا فيتلقانا أزواجًا، فيقلن: مرحبًا وأهلاً بحبيبنا لقد جئت، وإن بك من الجمال والطيب أفضل مما فارقتنا عليه، فيقول لها: جالسنا اليوم ربنا الجبار تبارك وتعالى، وبحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا به».
{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ * وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } .
قوله: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ } في من أزيد بهذا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله، قاله ابن عباس والسدي وابن يزيد.
الثاني: أنهم المؤذنون الصلحاء، كما ثبت في «صحيح مسلم»: «المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة».
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أذن محتسبًا سبع سنين كتب له براءة من النار» رواه ابن ماجه.(1/482)
وفي حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري ومسلم: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا».
وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: سهام المؤذنين عند الله تعالى يوم القيامة كسهام المجاهدين، وهو بين الآذان والإقامة كالمتشحط في سبيل الله تعالى في دمه.
قال: وقال ابن مسعود: لو كنت مؤذنًا ما باليت أن لا أحج ولا أعتمر ولا أجاهد.
قال: وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لو كنت مؤذنًا لكمل أمري، وما بالبيت أن لا أنتصب لقيام الليل، ولا لصيام النهار، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم اغفر للمؤذنين»، فقلت: يا رسول الله، تركتنا ونحن نجتلد على الأذان بالسيوف، قال - صلى الله عليه وسلم -: «كلا يا عمر، إنه سيأتي على الناس زمان يتركون الأذان على ضعائفهم، وتلك لحوم حرمها الله عز وجل على النار لحوم المؤذنين».
قال: وقالت عائشة -رضي الله عنها-: ولهم هذه الآية: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ } ، قالت: فهو المؤذن إذا قال: حي على الصلاة، فقد دعا إلى الله، وهكذا.
قال ابن عمر - رضي الله عنهما - وعكرمة: إنها نزلت في المؤذنين.
وعن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي صعصعة: أن أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال له: إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إن إلا شهد له يوم القيامة، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رواه البخاري.
الثالث: أن المؤمن أجاب الله إلى ما دعاه ودعا الناس إلى ذلك وعمل صالحًا في إجابته، قاله الحسن.(1/483)
وقال ابن كثير في «تفسيره»: والصحيح أن الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم، فأما حال نزول هذه الآية فإن لم يكن الأذان مشروعًا بالكلية؛ لأنها مكية، والأذان إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة حين أريه عبدالله بن زيد بن عبدربه الأنصاري في منامه، فقصه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر أن يلقيه على بلال - رضي الله عنه - فإنه أندى صوتًا، فالصحيح إذن أنها عامة.
كما قال عبدالرزاق عن معمر، عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ } ، فقال: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله من دعوته.
ومما يدخل في الدعوة إلى الله: تعليم الجاهلين، ووعظ الغافلين والمعرضين، ومجادلة المبطلين، والأمر بعبادة الله بجمع أنواعها والحث عليها وتحسينها بكل وسيلة وطريقة تؤدي إليهما مهما أمكن.
والزجر عما نهى الله عنه وتهجينه وتقبيحه بكل طريقة توجب تركه والابتعاد عنه، ومجادلة أعداء الإسلام بالتي هي أحسن، كما قال تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } .
ومن الحكمة أن يدعو كل أحد على حسب فهمه وقبوله وانقياده، ومن الحكمة الدعوة بالعلم لا بالجهل، والبداءة بالأهم، وبالأقرب إلى الأذهان، والفهم بما يكون قبوله أتم وبالرفق واللين.
فإن انقاد بالحكمة فبها ونعمت، وإلا فينتقل معه إلى الدعوة بالموعظة الحسنة، وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب: إما بما تشتمل عليه الأوامر الدينية من المصالح وتعدادها.(1/484)
وإما بما تشتمل عليه النواهي من المضار والمفاسد وتعدادها، وإما بذكر آلاء الله ونعمه على العباد، وما أعد الله للطائعين من الثواب العاجل والآجل، وما أعد الله للعاصين من العقاب العاجل والآجل، فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق، أو كان داعية إلى الباطل من بدعة أو نحوها، فيجادل بالتي هي أحسن وهي الطريقة التي تكون أدعى وأقرب لإجابته عقلاً ونقلاً.
ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها، فإنه أقرب إلى نجاح الدعوة معه، وحصول المقصود، وأن يحرص على أن لا تؤدي المجادلة إلى الخصام والمشاتمة؛ لأنها تؤدي إلى ذهاب المقصود وعدم الفائدة غالبًا.
ويحرص على الإخلاص وحسن النية قاصدًا بذلك هداية الخلق إلى الحق، لا المغالبة والشهرة ونحوهما.
ومن الدعوة إلى الله تحبيبه إلى عباده بذكر تفاصيل نعمه وسعة جوده وكمال رحمته، ونعوت جلاله، ومن ذلك الدعوة إلى الله بالترغيب في اقتباس العلم، والهدى من كتاب الله، والحث على حفظه، وتفهمه، والعمل به، وسُّنة رسوله، والحث على ذلك بكل طريق موصل إليه.(1/485)
ومن ذلك ذكر محاسن الإسلام، وشرح ما احتوى عليه، وبيان ما يدعو إلى الإتصاف به من الصدق، والعفاف، والأمانة، والجود، والعدل، وحفظ العهود، والجد، والنشاط، والتحلي بمكارم الأخلاق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإحسان إلى اليتامى والأقارب، والجيران، وحسن المعاملة، والتعاون على البر والتقوى، والجهاد في سبيل الله، والإدانة بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، والنهي عن الغش في المعاملات وغيرها، والنهي عن الكبر والعجب، والخداع والمكر، والكذب، والبغي، والشح، والبخل وما يدعو إلى ما يعود على العالم بالسعادة والفلاح وينهي عما يجلب الشقاء والمضرة للعباد كالفيديو معلم الفساد، والتليفزيون مقبرة الأخلاق، والسينما والمذياع، والكرة، والدخان، وحلق اللحية ونحو ذلك من المنكرات والبدع التي حدثت وأفسدت الأخلاق، وأحدثت الشقاق، وفرقت القلوب والأبدان.
ومن الدعوة إلى الله شرح هذه الشرائع العظيمة، وبيان جليل منافعها للدنيا والآخرة، فهذه الصلاة فيها مظهر من مظاهر إجلال بديع السموات والأرض، عندما يقوم العبد يؤديها بين يدي ربه خاشعًا معظمًا له مبتدأ بالاعتراف بأنه أكبر من كل شيء «الله أكبر».
ثم يأخذ في الثناء على الله ويخصه بالعبادة وطلب المعونة ضارعًا إليه أن يرشده ويدله ويهديه إلى الصراط المستقيم وأن يجعله من الذين أنعم الله عليهم بالتوفيق والهداية، وأن يبعده عن طريق المغضوب عليهم، وهم الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم، وأن يجنبه طريق الضالين، وهم الذين تركوا الحق على جهل وضلال كالنصارى ونحوهم.
وهذه الزكاة فيها من المواساة، والتخلق بأخلاق الكرماء من السخاء والجود، والبعد عن أخلاق اللئام، والشكر لله على هذه النعمة نعمة المال، به يحفظ الإنسان كرامته، ويستر عورته، وكل نعمة من النعم لها شكر خاص إن قام العبد به أمده الله برحمته، وزاده من فضله.(1/486)
قال تعالى: { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } ومن شكره الإحسان إلى الخلق، وسداد المصالح المحتاج إليها، ودفع حاجة المضطرين المحتاجين، وفيها الاستعانة على الجهاد، والمصالح الكلية التي لا يستغني عنها المسلمون، وفيها دفع صولة الفقراء وعبث العابثين، فهذا بعض من مزايا هاتين الفريضتين، قليل من كثير من محاسن الإسلام.
وهذا صيام شهر رمضان فيه تمرين النفوس على ترك محبوبها الذي ألفته طاعة لله ومحبة له، وتقربًا إليه، وفيه من تعويد النفوس وتمرينها على قوة العزيمة والصبر على طاعة الله، وفيه تقوية داعية الإخلاص لله، وتقديم محبته على محبة النفس، ولذلك كان الصوم لله، اختصه لنفسه من بين سائر الأعمال، والصيام مهذب للنفوس، ومصفي للأرواح، ومطهر للأجسام، فله أثر عجيب في حفظ القوى الباطنة وحمايته من الخلط الذي يضر بالجسم ويفسد المعدة، ومن فوائد الصيام المحسوسة إحساس الصائم بحاجة الفقراء إلى المساعدة والمعونة، ولهذا أوجبه الله على جميع الأمم.
وهذا الحج فيه يجتمع المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها في صعيد واحد يعبدون إلهًا واحدًا، قلوبهم متوجهة إليه، وأرواحهم مؤتلفة، وجسومهم متحملة للمشقات والتعرض للأخطار والصعوبات؛ طلبًا لرضى ربهم، والوفادة عليه، والتملق له في بيته، والتنوع في عبوديات الله في تلك المشاعر، وما فيها من التعظيم والخضوع التام لله، والتذاكر لأحوال الأنبياء والمرسلين والأصفياء والمخلصين.(1/487)
وفي الحج يتذكر المسلمون الرابطة الدينية، وتقوى الوحدة الإسلامية بإذن الله، وفي الحج يتذكر الإنسان الحشر، وجمع الخلائق في صعيد واحد، واشتداد الزحام، والعرض على الملك العلام يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا، والأمر يومئذ لله، وفي الحج من التعارف بين المسلمين، والسعي في جمع كلمتهم واتفاقهم على المصالح التي تعود عليهم بالخير العام، والنفع العظيم مما لا يمكن تعداده، فإنه من أعظم محاسن الدين الإسلامي، وأجل الفوائد الحاصلة للمؤمنين، وهذا قليل من كثير من محاسن الإسلام.
وقوله تعالى: { وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ } أي مع دعوته الخلق إلى الله بادر هو بنفسه إلى امتثال أمر الله بالعمل الصالح الذي يرضي ربه، وقال: أي تلفظ بذلك إبتهاجًا وسرورًا، أنه منهم وتفاخرًا به مع قصد الثواب، وأنه من السالكين في طريقه.
وهذه المرتبة تمامًا للصديقين الذين عملوا على تكميل أنفسهم وتكميل غيرهم، وحصلوا على الوراثة من الرسل، كما أن من أشر الناس قولاً وفعلاً من كان من دعاة الضلال السالكين لسبله وبين هاتين المرتبتين المتباينتين اللتين ارتفعت إحداهما إلى أعلى عليين، ونزلت الأخرى إلى أسفل سافلين، مراتب لا يعلمها إلا الله وكلها معمورة بالخلق، قال تعالى: { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ، وقال تعالى: { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } .(1/488)
وبعد أن ذكر جل وعلا محاسن الأعمال التي بين العبد وربه ذكر محاسن الأعمال التي بين العباد بعضهم مع بعض ترغيبًا في الصبر على ما يحصل من الأذى في الله، ومقابلة إساءتهم بالإحسان، وعدم إمكان التسوية بينهما، وإشارة إلى أن مثل هذه المقابلة من شأنها أن تقلب العداوة إلى صداقة وولاء شديد، فقال: { وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ } أي ولا تستوي الحسنة التي يرضى بها الله ويثيب عليها، ولا السيئة التي يكرهها الله ويعاقب عليها.
قيل: الحسنة التوحيد، والسيئة الشرك، وقيل: الحسنة: المداراة، والسيئة: الغلظة، وقيل: الحسنة: العفو، والسيئة: الانتصار، وقيل: الحسنة: العلم، والسيئة: الفحش، وقيل غير ذلك، والذي تطمئن إليه النفس أنه لا وجه لتخصيص الحسنة بنوع من أنواع الطاعات، وتخصيص السيئة بنوع من أنواع المعاصي، فإن اللفظ أوسع من ذلك، والله أعلم.
ثم أمر تعالى بإحسان خاص له موقع كبير، وهو الإحسان إلى من أساء، فقال: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي فإذا أساء إليك مسيء من الخلق، فادفع سفاهته وجهله بالطريقة التي هي أحسن الطرق، فقابل إساءته بالإحسان إليه، والذنب بالعفو عنه, والغضب بالصبر، والإغضاء عن الهفوات والزلات، واحتمال المكاره، وكظم الغيظ، خصوصًا من له حق كبير عليك كالأقارب، والأصحاب، والجيران.
قال بعضهم:
وإن ساء مسيء فليكن لك في ... عروض زلته عفو وغفران
فإن قطعك فصله، وإن تكلم فيك غائبًا أو حاضرًا فاعف عنه، وعامله بالقول اللين، وإن هجرك وترك الكلام معك، فابذل له السلام وأطب له الكلام، فإنك إن صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى، ولم تقال سفههم بالغضب، ولا أذاهم بمثله، استحيوا من ذميم أخلاقهم، وتركوا قبيح أفعالهم، وخجلوا من مقالتهم عملهم بعملك، أنت تحسن وهم يسيئون، وتحلم وهم يجهلون.(1/489)
ثم بين تعالى نتائج الدفع بالتي هي أحسن وأنها الفائدة العظيمة التي لا يُستهان بها، فقال: { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } هذه هي الفائدة الحاصلة من الدفع بالتي هي أحسن، والمعنى: أنك إذا فعلت ذلك الدفع صار العدو كالصديق، والبعيد كالقريب، فانقلبوا من العداوة إلى المحبة، ومن البغض إلى المودة.
قال عمر - رضي الله عنه -: ما عاقبت من عصى الله فيك، بمثل أن تطيع الله فيه.
وروي أن رجلاً شتم قنبرًا مولى علي بن أبي طالب، فناداه علي: يا قنبر، دع شاتمك واله عنه ترضي الرحمن، وتسخط الشيطان.
وقالوا: ما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه، ولله در القائل:
قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم
فالصمت عن جاهل أو أحمق شرف
أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة ... إن الجواب لباب الشر مفتاح
أيضًا وفيه لصون العرض إصلاح
والكلب يخشى لعمري وهو نباح
وقال الآخر:
ولَلَكَف عن شتم اللئيم تكرمًا ... أضر له من شتمه حين يشتم
وقال الآخر:
إن العداوة تستحيل مودة ... بتدارك الهفوات بالحسنات
وقال تعالى: { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } .
تنبيه إلى شرف هذه الطريقة: أي وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة والوصية المفيدة، ويعمل بها إلا الصابرون على تحمل المكاره، وتجرع الشدائد، وكظم الغيظ، وترك الانتقام، فإن ذلك يشق على النفوس ويصعب احتماله؛ لأن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته وعدم العفو عنه، فكيف بالإحسان.
فإذا صبر الإنسان نفسه وامتثل لأمر ربه، وعرف جزيل الثواب، وعلم أن مقابلته للمسيء بجنس عمله لا تفيده شيئًا، ولا تزيد العداوة إلا شدة، وأن إحسانه إليه ليس بواضع قدره، بل من تواضع لله رفعه، وهان عليه الأمر، وفعل ذلك مرتاحًا متلذذًا مستحليًا له.
قال أنس: الرجل يشتمه أخوه، فيقول: إن كنت صادقًا غفر الله لي، وإن كنت كاذبًا غفر الله لك.(1/490)
ثم أخبر تعالى أنه لا يوفق لها إلا من له نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة؛ لكونها من خصال خواص الخلق التي ينال بها العبد الرفعة في الدنيا والآخرة، وهي من أكبر خصال مكارم الأخلاق.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
مما يفهم من آيات الدرس [30 - 35]:
1- إثبات الربوبية.
2- الحث على لاستقامة.
3- الاعتراف والنطق بوحدانية الله.
4- الحث على الإخلاص.
5- إثبات الملائكة.
6- دليل على علو الله على خلقه.
7- الرد على من أنكر الملائكة من المبتدعة والدهريين ومن سلك طريقهم من المنحرفين.
8- بشارة لمن أخلص العمل لله واستقام.
9- أن الملائكة في أعلا.
10- أنهم يتنزلون على الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.
11- حصول الأمن لأولئك.
12- نفي الحزن عنهم.
13- إثبات الجنة.
14- أن الله وعد المتصفين بذلك.
15- إثبات البعث والحشر والحساب.
16- إثبات الجزاء على الأعمال.
17- أن الملائكة أعوانهم أولياؤهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
18- أنهم يدخلون السرور عليهم ويقولون لهم ما ذكره الله جل وعلا.
19- أن لهم ما تشتهي أنفسهم في الجنة.
20- أن لهم فيها ما يطلبون.
21- أن هذا النعيم والثواب الجزيل نزل وضيافة من الله لهم.
22- إثبات الأسماء لله.
23- إثبات صفة المغفرة.
24- إثبات صفة الرحمة.
25- أنه لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله، وعمل صالحًا، وقال: إنني من المسلمين.
26- الحث على الدعوة إلى الله.
27- الحث على العمل الصالح.
28- الحث على التلفظ بذلك ابتهاجًا وسرورًا أنه منهم مع قصد الثواب.
29- الحث على أن الإنسان يسعى في تكميل نفسه وتكميل غيره.
30- أنه لا تستوي الحسنة ولا السيئة.
31- الحث على مقابلة المسيء بالإحسان.
32- أن في استعمال ذلك، أي مقابلة السيئة بالحسنة يصير العدو وليًا حميمًا.
33- التنبيه على شرف هذه الطريقة.
34- أنه لا يوفق لهذه الخصلة الحميدة والوصية المفيدة إلا الصابرون الذين لهم حظ عظيم.(1/491)
35- الحث على الصبر.
36- الحث على الحلم.
37- الحث على تعليم الجاهلين؛ لأنه من الدعوة إلى الله.
38- الحث على وعظ الغافلين؛ لأنه من الدعوة إلى الله.
39- الحث على الرد على المبطلين ومجادلتهم؛ لأنه من الدعوة إلى الله.
40- الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه من الدعوة إلى الله.
41- الترغيب في طلب العلم لما سبق.
42- الحث على مكارم الأخلاق.
43- الحث على الإحسان إلى عموم الخلق عند الإخلال بشيء من أمور الدين بتنبيههم على ذلك وتوجيههم إلى الحق.
44- إثبات الألوهية.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم(1/492)
قال الله تبارك وتعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ * وَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ * وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ القَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ اليَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي العَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي العُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم(1/493)
مُّقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ * وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } .
المفردات:
أبيه: آزر، براء: كلمة لا تثنى ولا تجمع، يقولون: أنا منك براء، ونحن منك براء، فإن قلت: برئ ثنيت، وجمعت، فطرني: أي خلقني، والكلمة هي كلمة التوحيد في عقبه في ذريته، مبين: ظاهر الرسالة بما له من المعجزات الباهرة، من القريتين، من إحدى القريتين مكة والطائف.
والرجل الذي من مكة هو الوليد بن المغيرة المخزومي، و الذي من الطائف هو عروة بن مسعود الثقفي.
ورحمة بك، قيل: الجنة، وقيل: النبوة، والسخري: الذي يستخدم في السخرة، معارج: مراق عليها يصعدون، الزخرف: الذهب، يعش: يتعامى ويتغافل، المشرقين: المشرق والمغرب، غلب المشرق على المغرب.
بعد أن ذكر سبحانه في الآية السابقة أن الذي دعا الكفار إلى اعتناق العقائد الزائفة هو تقليدهم لآبائهم، وبين أن طريقهم اطل ونهجهم فاسد، أردف هذا بأن ذكر أن أشرف آبائهم وهو إبراهيم - عليه السلام - ترك دين أبيه واتبع الملة الإسلامية.
قال تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } أي واذكر يا محمد لقومك المكبين على تقليد آبائهم، كيف تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه حين رآهم عاكفين على عبادة الأصنام، قال لهم: إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني فإني أتولاه وأرجو أن يهديني للعلم بالحق والعمل به، فكما فطرني ودبرني بما يصلح بدني، فإنه سيهديني لما يصلح ديني وآخرتي، وقد جزم بذلك لثقته بربه ولقوة يقينه.(1/494)
وقوله: { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي وجعل كلمة التوحيد، وهي: «لا إله إلا الله» كلمة باقية في ذريته يقتدى به فيها من هداه الله منهم لعلهم يرجعون عما هم عليه إلى الذي فطرهم فيعرفوه ويعبدوه حق عبادته إذا سمعوا أن أباهم تبرأ من الأصنام ووحد الله عز وجل.
قال قتادة: لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة.
وقال ابن العربي: إنما كانت لإبراهيم في الأعقاب موصولة بالأحقاب بدعوتيه المجابتين:
إحداهما: قوله: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } فقد قال: إلا من ظلم فلا عهد له.
ثانيهما: قوله: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ } ثم ذكر جل وعلا نعمته على قريش، ومن وافقهم من الكفار المعاصرين لهم، فقال: { بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } أي إني متعت هؤلاء المشركين فمددت لهم في الأعمار وأكثرت نعمهم، فاغتروا بالمهلة، وانهمكوا في الشهوات، وشغلوا بها عن كلمة التوحيد، وأصبحت فيهم غريبة منكرة.
واستقبلوا صاحبها أسوأ استقبال حتى جاءهم الحق، وهو القرآن الذي لاشك فيه ولا مرية ولا اشتباه، ورسول مبين، أي بين الرسالة، رسالته قامت أدلتها قيامًا باهرًا بأخلاقه ومعجزاته، وبما جاء به وبما صدق به المرسلين وبنفس دعوته، وعرض عليهم هذا الحق في وضوح وتبيين.
ثم بين جل وعلا ما صنعوا عند مجيء الحق، أي ولما جاء القرآن والرسول الصادق المصدوق، كابروه وعاندوه وعارضوه، ودفعوا الصدور والراح، وقالوا: إن ما جاء به سحر وليس بوحي من عند الله وأنا به جاحدون، فضموا إلى شركهم وكفرهم معاندة الحق والاستخفاف به، على أنه لا يختلط الحق بالسحر فهو واضح بين، وإنما هي دعوى كانوا هم أول من يعرف بطلانها.(1/495)
فما كان كبراء قريش ليغيب عنهم أنه الحق، قال تعالى: { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } ولكن قصدهم يخدعون الجماهير من خلفهم، فيقولون: إنه سحر ويعلنون كفرهم به على سبيل التوكيد يقولون: وإنا به كافرون ليلقوا في روع الجماهير أنهم واثقون مما يقولون، فيتبعوهم عن طريق الانقياد شأن الملأ من كل قوم في التغرير بالجماهير خيفة أن يفلتوا من نفوذهم ويهتدوا إلى كلمة التوحيد التي يسقط معها كل كبير، ولا يعبد ولا يتقي إلا العلي الكبير جل وعلا.
ثم ذكر ضربًا آخر من كفرهم، وهو: اعتراضهم على الذي أنزله تعالى وتقدس، فقال: { وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } معناه: أنهم قالوا: منصب النبوة منصب عظيم شريف لا يليق إلا برجل شرف عظيم، كثير المال والجاه في أعينهم، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ليس بذلك، فمن الحق عندهم أن يسند هذا المنصب إما إلى الوليد بن المغيرة بمكة أو إلى عروة بن مسعود الثقفي بالطائف، أحد هذين.
وقيل: إن المراد بعظيم مكة عتبة بن ربيعة، قاله مجاهد.
وقيل في عظيم الطائف: إنه حبيب بن عروة بن عمير الثقفي، رواه العوفي عن ابن عباس.
وقيل: مسعود بن عمرو بن عبيدالله، رواه الضحاك عن ابن عباس.
وقيل: إنه ابن عبد ياليل، رواه ابن نجيح عن مجاهد.
وقيل: كنانة بن عمرو بن عمير الطائفي، قاله السدي.
قال الله تبارك وتعالى ردًا عليهم في هذا الاعتراض: { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ } أي ليس الأمر مردودًا إليهم، بل إلى الله عز وجل: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلبًا، وأطيبهم نفسًا، وأشرفهم بيتًا، وأطهرهم أصلاً، وأحسنهم خلقًا، ففيه الإنكار الدال على تجهيلهم، والتعجب من اعتراضهم وتحكمهم، وأن يكونوا هم المدبرين لأمر الرسالة.(1/496)
ثم ضرب لهذا مثلاً يتبين به خطؤهم في طلب الاصطفاء بحسب ما يقترحون ويهوون لمن يشاءون، فقال مبينًا ذلك وأنه قد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق، والعقول والفهوم، وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة، { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } .
ثم ذكر الحكمة في رفع درجات بعضهم بعضًا، فقال: { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًا } أي ليستعمل بعضهم بعضًا في مصالحهم، ويستخدموهم في مهنهم، ويسخروهم في أشغالهم، فإن كل صناعة دنيوية يحسنها قوم دون آخرين، فجعل البعض محتاجًا إلى البعض لتحصل المواساة بينهم في متاع الدنيا، ويحتاج هذا إلى هذا وبالعكس، ويصنع هذا لهذا، ويعطي هذا لهذا حتى يتعايشوا، ويترافدوا، ويصلوا إلى مرافقهم.
قال الشاعر:
الناس للناس من بدو وحاضرة
وكل عضو لأمر ما يمارسه ... بعض لبعض وإن لم يشعر واخدم
لا مشي الكف بل تمشي القدم
وقال الآخر:
إذا ما تبينا الأمور تكشفت ... لنا وأمير القوم للقوم خادم
وإذا كان الله سبحانه هو الذي قسم بينهم أرزاقهم ورفع درجات بعضهم على بعض، فكيف لا يقنعون بقسمته في أمر النبوة وتفويضها إلى من يشاء من خلقه.
ثم علل ما سلف بقوله: { وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } ، وفي قوله: { رَحْمةِ رَبِّكَ } قولان:
أحدهما: النبوة خير من أموالهم التي يجمعونها، قاله ابن عباس.
والثاني: الجنة خير مما يجمعون في الدنيا.(1/497)
ثم بين تعالى خسة الدنيا وحقارتها، فقال: { وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا } أي: ولولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر لأجل المال ويرغبوا فيه إذا رأوا الرزق عندهم، لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة عليها يظهرون، أو يصعدون، ويرتقون.
يقال: ظهرت البيت أي علوت بسطحه، وهذا لأن من علا شيئًا وارتفع عليه ظهر للناظرين.
ويقال: ظهرت على الشيء أي علوته، وظهرت على العدو، أي غلبته، وأنشد النابغة الجعدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله:
علونا السماء عزة ومهابة ... وأنا لنرجوا فوق ذلك مظهرا
أي مصعدًا، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: «إلى أين؟» قال: إلى الجنة، قال: «أجل، إن شاء الله».
قال الحسن: والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها، وما فعل ذلك، فكيف لو فعل.
وقوله: { وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا } أي: وجعلنا لبيوتهم أبوابًا من فضة وسررًا من فضة عليها –أي السرر- يتكئون، وهو جمع سرير.
ثم بين جل وعلا أن هذه الأمتعة من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة قصيرة المدى سريعة الزوال، فقال: { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا } ، يقول تعالى ذكره: وما كل هذه الأشياء التي ذكرت من السقف من الفضة والمعارج والأبواب والسرر من الفضة والزخرف إلا متاع يستمتع به أهل الدنيا، ويزول ويذهب.
وفي صحيح الترمذي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر».(1/498)
وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقي كافرًا منها شربة ماء»، وأنشدوا:
فلو كانت الدنيا جزاء لمحسن
لقد جاع فيها الأنبياء كرامة ... إذًا لم يكن فيها معاش لظالم
وقد شبعت فيها بطون البهائم
وقال الآخر:
تمتع من الأيام إن كنت حازمًا
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه
فلا تزن الدنيا جناح بعوضة
فلم يرض بالدنيا ثوابًا لمحسن ... فإنك فيها بين ناه وآمر
فما فاته منه فليس بضائر
ولا وزن رق من جناح لطائر
ولا رضي الدنيا عقابًا لكافر
وقال ابن القيم - رحمه الله -:
لو ساوت الدنيا جناح بعوضة
لكنها والله أحقر عنده
ولقد تولت بعد عن أصحابها
لا يرتجى منها الوفاء لغادر
طبعت على كدر فكيف ينالها
يا عاشق الدنيا تأهب للذي ... لم يسق منها الرب ذا الكفران
من ذا الجناح القاصر الطيران
فالسعد منها حل بالدبران
أين الوفاء من غادر خوان؟
صفو أهذا قط في الإمكان
قد ناله العشاق كل زمان
وقوله: { وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } أي لهم خاصة لا يشاركهم فيها أحد غيرهم؛ ولهذا لما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين صعد إليه في تلك المشربة، لما آلى - صلى الله عليه وسلم - من نسائه على حصير قد أثر بجنبه، فابتدرت عيناه بالبكاء.
وقال: يا رسول الله، هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت صفوة الله من خلقه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متكأ، فجلس، وقال: «أوفي شك يا ابن الخطاب؟» ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا»، وفي رواية: «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة».
وفي «الصحيحين» وغيرهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة، وإنما خولهم الله تعالى في الدنيا لحقارتها».(1/499)
وقوله تعالى: { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } ، يقول تعالى: ومن يعش أي يتعامى ويتغافل ويعرض عن ذكر الله، وأصل العشو: تثبت النظر بغير علة في العين، يقال منه: عشا فلان، يعشو، عشوًا، وعشوا إذا ضعف بصره وأظلمت عينه كأن عليه غشاوة، كما قال الشاعر:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
وأما إذا ذهب البصر ولم يبصر، فإنه يقال فيه: عشي فلان، يعشي عشي منقوص، ومنه قول الأعشى:
إن رأت رجلاً أعشى أضربه ... ريب المنون ودهر مفند خبل
المعنى: أن من يعرض عن القرآن الكريم يقيض الله له شيطانًا يقارنه ويعده ويمنيه ويوسوس له، ويزين له السوء، وهذه الآية كقوله تعالى: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى } ، وكقوله: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } ، وكقوله جل وعلا: { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي: «أن قريشًا قالت: قيضوا لكل رجل من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يأخذه، فقيضوا لأبي بكر طلحة بن عبيدالله، فأتاه وهو في القوم، فقال أبو بكر: إلام تدعوني؟ قال: أدعوك إلى عبادة اللات والعزى، قال أبو بكر: وما اللات؟ قال: أولاد الله، قال: وما العزى؟ قال: بنات الله، قال أبو بكر: فمن أمهم؟ فسكت طلحة فلم يجبه، فقال لأصحابه: أجيبوا الرجل، فسكت القوم، فقال طلحة: قم يا أبا بكر، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فأنزل هذه الآية»، فوظيفة قرناء السوء من الشياطين أنهمن يصدوا قرناءهم عن سبيل الله.(1/500)
وقوله: { لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } أي يحسب الكفار أن الشياطين مهتدون، أو ويحسب العاشون أن أنفسهم مهتدون، فإن اعتقاد كون الشياطين مهتدين مستلزم لاعتقاد كونهم كذلك لاتحاد مسلكهما.
ثم ذكر حال الكافر مع القرين يوم القيامة، فقال: { حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ القَرِينُ } أي حتى إذا جاءنا هذا العاشي عن ذكر الرحمن، قال لقرينه: وددت أن بيني وبينك بعد المشرقين، أي بعد ما بين المشرق والمغرب، فغلب اسم أحدهما على الآخر، كما يقال: القمران للشمس والقمر، والعمران لأبي بكر وعمر، والبصرتان للكوفة والبصرة، والعصران للغداة والعصر، قال الشاعر:
أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
وقال جرير:
ما كان يرضي رسول الله فعلهم ... والعمران أبو بكر ولا عمر
وقول: { فَبِئْسَ القَرِينُ } المخصوص بالذم محذوف، أي أنت أيها الشيطان.
وقول أبي سعيد الخدري: إذا بعث الكافر زوج بقرينه الشيطان، فلا يفارقه حتى يصيرا إلى النار.
ثم ذكر تعالى ما سيقال لهم يوم القيامة توبيخًا وتأنيبًا، { وَلَن يَنفَعَكُمُ اليَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي العَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } ، يقول جل ذكره: ولن ينفعكم في هذا اليوم اشتراككم في العذاب أنتم وقرناؤكم، كما كان ينفع في الدنيا، والاشتراك في المهام الدنيوية، إذ يتعاونون في تحمل أعبائها ويتقاسمون شدتها وعناءها، فإن لكل منهم من العذاب ما لا تبلغه طاقته، ولا قدرة له على احتماله.
وقد يكون المعنى: ولن ينفعكم ذلك من حيث التأسي، فإن المكروب في الدنيا يتأسى الإنسان به، ويستريح بوجدان المشارك له في البلوى، فيقول أحدهم: لي في البلاء والمصيبة أسوة، فيسكن ذلك من حزنه، كما قالت الخنساء ترثي أخاها:
يذكرني طلوع الشمس صخرًا
فلولا كثرة الباكين حولي(2/1)
وما يبكون مثل أخي ولكن ... وأذكره بكل مغيب شمس
على إخوانهم لقتلت نفسي
أعزي النفس عنه بالتأسي
وقصارى ذلك أنه لا يخفف عنهم العذاب بسبب الاشتراك، إذ لكل منهم الحظ الأوفر منه.
ثم قال جل ذكره مسليًا لرسوله - صلى الله عليه وسلم - عن امتناع المكذبين عن الاستجابة له، وأنهم لا خير فيهم، ولا فيهم ذكاء يدعوهم إلى الهدى، فقال: { أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي العُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } أي ليس ذلك إليك، فلا يضيق صدرك إن كفروا، فإنما عليك البلاغ، وليس عليك هداهم، ولكن الله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهو الحكم العدل في ذلك.
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يبالغ في دعاء قومه إلى الإيمان، وهم لا يزيدون إلا غيًا وتعاميًا عما يشاهدن من دلائل نبوته وتصامما عما يسمعون من بينات القرآن، المعنى: أن هؤلاء الكفار بمنزلة الذين لا يعقلون ما جئت به، وبمنزلة العمي الذي لا يبصرون لإفراطهم في الضلالة، ولتمكنهم من الجهالة.
فهؤلاء قد فسدت فطرهم وعقولهم بإعراضهم عن الذكر، واستحدثوا عقائد فاسدة، وصفات خبيثة تمنعهم وتحول بينهم وبين الهدى، وتوجب لهم الازدياد من الردى، ولم يبق إلا عذابهم ونكالهم، إما في الدنيا، وإما في الآخرة.
ولهذا قال مسليًا لهم: { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ } أي فإن قبضناك قبل أن نبصرك عذابهم ونشفي بذلك صدرك وصدور المؤمنين، فإنا منهم منتقمون لا محالة، { أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ } أي أو نرينك في حياتك الذي وعدناهم من العذاب، { فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ } أي قادرون على هذا وهذا.
قال قتادة: إن الله أكرم نبيه بأن لم يريه تلك النقمة، ولم يريه في أمته شيئًا يكرهه، ولم يكن نبي قط إلا وقد رأى العقوبة في أمته إلا نبيكم - صلى الله عليه وسلم -.(2/2)
قال: وذكر لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُري ما يصيب أمته من بعده، فما رئي ضاحكًا متبسطًا حتى قبضه الله عز وجل.
وقيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُري الانتقام منهم، وهو ما كان من نقمة الله من المشركين يوم بدر، فقد قتل من صناديد قريش سبعون رجلاً، وأسر من أشرافهم سبعون أسيرًا، فقر الله عينه من أعدائه وحكمه في نواصيهم مع قلة أصحابه - صلى الله عليه وسلم - وكثرة أعدائه.
ثم أمر جل وعلا رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يستمسك بما أوحى إليه فعلاً واتصافًا بما يأمر بالاتصاف به ويدعو إليه، وحرصًا على تنفيذه بنفسه وفي غيره، ففيه تسلية له - صلى الله عليه وسلم - وأمر له ولأمته بالدوام على التمسك بالآيات، فإن القرآن هو الحق، وما يهدي إليه هو الحق المفضي إلى صراط الله المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم، والخير الدائم المقيم.
ثم ذكر جل ذكره ما يستحث نبيه - صلى الله عليه وسلم - على التمسك بالقرآن، فقال: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } أي وإن القرآن لشرف عظيم لك أيها الرسول ولقومك؛ لأنه بلغتهم، قال تعالى: { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } ، وعلى رجل منهم، فهم أفهم الناس له، فينبغي أن يكونوا أسبق الناس إلى تلقيه بالقبول والفرح والسرور، والعمل به.
عن عدي بن حاتم قال: كنت قاعدًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «ألا إن الله تعالى علم ما في قلبي من حبي لقومك، فبشرني فيهم»، فقال سبحانه: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } الآية، فجعل الذكر والشرف لقومي –إلى أن قال-: «فالحمد لله الذي جعل الصديق من قومي، وإن الله قلب العباد ظهرًا وبطنًا، فكان خير العرب قريش، وهي الشجرة المباركة».
ثم قال عدي: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت عنده قريش بخير إلا سره حتى يتبين ذلك السرور في وجهه للناس كلهم. اهـ.(2/3)
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان» أخرجه الشيخان.
وعن معاوية قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن هذا الأمر في قريش لا ينازعم فيه أحد إلا كبه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين» أخرجه البخاري.
وفي الآية إيماء إلى أن الذكر الجميل والثناء الحسن أمر مرغوب فيه، ولولا ذلك ما امتن الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - به، ولما طلبه إبراهيم –عليه الصلاة والسلام- بقوله: { وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ } .
قال أبو الطيب:
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ... ما قاته وفضول العيش أشغال
وقال الآخر:
ما مات قوم إذا أبقوا لنا أدبًا ... وعلم دين ولا فاتوا ولا ذهبوا
وقوله: { وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } أي وسوف يسألك ربك وإياهم عما عملتم فيه، وهل عملتم بما أمركم ربكم فيه، وانتهيتم عما نهاكم عنه فيه.
وقوله: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } ، في قوله تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا } أقوال:
أحدها: قيل: جمعوا له ليلة أسري به في بيت المقدس، فأمهم وصلى بهم، فقال الله له: سلهم، قال: فكان أشد إيمانًا ويقينًا بالله وبما جاء من الله من أن يسألهم، وقرأ: { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ } .(2/4)
قال: فلم يكن في شك، ولم يسأل الأنبياء، ولا الذين يقرءون الكتاب، قال: «ونادى جبريل - صلى الله عليه وسلم -، فقلت في نفسي: الآن يؤمنا أبونا إبراهيم»، قال: «فدفع جبريل في ظهري، قال: تقدم يا محمد، فصل وقرأ: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا } ».
وفي ذلك يقول شوقي:
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكة
لما خطرت به التفوا بسيدهم
صلى وراءك منهم كل ذي خطر ... والرسل في المسجد الأقصى على قدم
كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
ومن يفز بحبيب الله يأتمم
والثاني: أن المراد اسأل مؤمني أهل الكتاب من الذين أرسلت إليهم الأنبياء، قيل: والمعنى سل أتباع من أرسلنا من قبلك.
والثالث: أن المراد بخطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خطاب أمته، فيكون المعنى: سلوا.
والخلاصة: أن كل الرسل –من أولهم إلى آخرهم- يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ليس ببدع من بين الرسل في الأمر به حتى يكذب ويعادي له، قال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } .
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
مما يفهم من آيات الدرس آيات [27-45]:
1- التبري من عبادة غير الله.
2- إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له.
3- إثبات صفة الفطر وأنه الذي فطر الخلق جل ذكره.
4- ثقة إبراهيم ويقينه بربه.
5- تبري إبراهيم من قومه حين رآهم يعبدون الأصنام.
6- بقاء كلمة التوحيد في عقب إبراهيم.
7- التذكير بطريقة الآباء المخلصين وبما يكون سببًا لرجوع الأولاد المنحرفين.
8- أن توفر النعم ودخول الترف والانهماك في الملاذ والشهوات، يشغل وينسي طاعة الله إلا من عصمه الله.
9- توبيخهم على إعراضهم عما جاء به - صلى الله عليه وسلم -.(2/5)
10- أن المشركين ضموا إلى شركهم معاندة الحق والاستخفاف به.
11- أن القرآن حق.
12- دليل على رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
13- أنه - صلى الله عليه وسلم - بين الرسالة لا ينكر رسالته إلا مكابر معاند.
14- الرد على من أنكر رسالته.
15- أن القرآن منزل غير مخلوق.
16- دليل على سخافة عقولهم حيث اقترحوا على الله جل وعلا.
17- الإنكار عليهم في هذا الاقتراح.
18- إثبات الربوبية.
19- الرد على من قال إن القرآن كلام محمد؛ لأنه المخاطب بذلك.
20- أن قسمة الأرزاق بيد الله.
21- إثبات علم الله جل وعلا.
22- أن الله حكيم حيث فاوت بين خلقه لينتظم معاشهم، ويصل كل منهم إلى مطلبه وتتم مصالحهم.
23- أن ما أعده الله لعباده في الدار الآخرة خير من حطام الدنيا؛ أن الدنيا على شرف الزوال والانقراض، وفضل الله ورحمته تبقى أبد الآبدين.
24- بيان خسة الدنيا وحقارتها، فالعاقل من جعلها مطية للآخرة.
25- لولا أن الناس يجتمعون على الكفر لجعل الله لمن يكفر لبيوتهم سقفًا من فضة.
26- أن زين الدار الآخرة عند الله للمتقين خصوصًا.
27- التحذير من الإعراض عن القرآن.
28- أن من أعرض عن القرآن يقيض له شيطانًا يغويه.
29- إثبات صفة الرحمة.
30- أن القرين السوء يحول بين قرينه وبين سبيل الحق.
31- أن هذا القرين السوء يوهم قرينه أنه على الصراط المستقيم حتى يصطدم بالعذاب الأليم، وهو لا يشعر.
32- أن هذه المقارنة آخر الأمر تكون عداوة، قال تعالى في الآية الأخرى: { الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المُتَّقِينَ } .
33- أن اشتراك الكفار في العذاب لا ينفعهم فلا تخفيف ولا تعاون ولا دفع.
34- دليل على شدة العذاب.
35- توبيخ الكفار في ذلك اليوم العظيم.
36- إثبات جهنم وأنها لأعداء الله معدة.
37- التحذير من الظلم لسوء عاقبته.
38- تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن امتناع المكذبين عن الاستجابة.(2/6)
39- أن من قد سلبه الله استماع حججه التي احتج بها في كتابه لا يقدر أحد على إسماعه.
40- أن من أعمى الله قلبه عن طريق الهدى لا يقدر أحد على هدايته.
41- أن من كان في ضلال مبين لا يقدر على هدايته إلا الله.
42- تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله: { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ } الآية.
43- أن في التعبير بالوعد وهو سبحانه لا يخلف الميعاد إشارة إلى أنه هو الواقع، وهكذا كان إذ لم يفلت أحد من صناديدهم في بدر وغيرها إلا من تحصن بالإيمان.
44- أن القرآن شرف للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولقومه.
45- أنهم لابد أن يسألوا يوم القيامة عنه وعن قيامهم بحقوقه.
46- أن الرسل لم يأمروا لا بتوحيد الله.
47- إثبات صفة الكلام لله.
48- إثبات قدرة الله.
49- الأمر بالتمسك بالقرآن.
50- أن من تمسك به فهو على صراط مستقيم.
51- أن الذكر الجميل والثناء الحسن أمر مرغوب فيه.
52- إثبات البعث.
53- إثبات الحشر والحساب والجزاء على الأعمال.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تبارك وتعالى: { إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } .
المعنى الإجمالي للآية:(2/7)
بعد أن ذكر جل وعلا المغترين الذين أنكروا يوم الدين وكذبوا بالبعث والنشور، وأنكروا نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعبدوا مع الله غيره من وثن أو صنم، أردف ذلك ذكر حال المتقين وما يتمتعون به من النعيم المقيم في جنات النعيم التي تجري من تحتها الأنهار جزاء إحسانهم في أعمالهم، وقيامهم بالليل للصلاة والاستغفار بالأسحار، وإنفاقهم أموالهم للسائل والمحروم، ونظرهم في دلائل التوحيد التي في الأرض والتي في الأنفس.
{ إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } أي إن الذين اتقوا الله وأطاعوه واجتنبوا معاصيه في جنات مشتملات على جميع أصناف الأشجار والفواكه التي لا يوجد لها مثيل في الدنيا، والتي لا يوجد لها نظير، قال تعالى: { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } الآية، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
وقوله: { وَعُيُونٍ } أي لهم فيها عيون فوارة بالماء تجري خلال الجنة، فلا ينالهم عطش كما أنهم لا يرون فيها شمسًا ولا زمهريرًا، وقوله تعالى: { آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } يحتمل أن المعنى أن أهل الجنة قد أعطاهم مولاهم جميع مناهم من جميع أصناف النعيم، فأخذوا ذلك راضين به قد قرت به أعينهم، وفرحت به نفوسهم ولم يطلبوا منه بدلاً ولا يبغون عنه حولاً وكل قد ناله من النعيم ما لا يطلب عليه مزيد.
ويحتمل أن هذا وصف المتقين في الدنيا وأنهم آخذين ما آتاهم ربهم من الأوامر والنوهي أي تلقوها بالإنشراح والارتياح والاشتياق والانقياد، لما أمر الله به بالامتثال على أكمل الوجوه.(2/8)
ولما نهى عنه بالإنزجار على أكمل الوجوه، والمعنى الأول أرجح؛ لأه أليق بالسياق؛ لأن ذكر أعمالهم في الدنيا بقوله: { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } أي إنهم كانوا في دار الدنيا يفعلون صالح الأعمال من الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى عباد الله، فالإحسان في عبادة الله فسره - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
وأما الإحسان إلى عباد الله فهو إما أن يكون بإيصال النفع الديني والدنيوي، ويدخل فيه إنفاق العلم بأن يشتغل بتعليم الجاهلين وهداية الضالين، ويدخل فيه إنفاق المال في وجوه البر والمشاريع الخيرية والعبادات، وإما أن يكون بدفع الضر عنهم حسب الاستطاعة أو بهما جميعًا حتى أنه يدخل في ذلك الإحسان بالقول والكلام اللين والإحسان إلى الممالك والبهائم المملوكة وغير المملوكة.
ثم إنه تعالى بين إحسانهم في العمل، فقال جل وعلا: { كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } فهم الإيقاظ في جنح الظلام والناس نيام، المتوجهون إلى ربهم، الشديدي الحساسية برقابة ربهم ورقابتهم لأنفسهم فلا يهجعون في ليلهم إلا يسيرًا ولا يطعمون الكرى إلا قليلاً، كما قال تعالى في الآية الأخرى: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ } الآية، فإن من أفضل أنواع الإحسان في عبادة الخالق صلاة الليل الدالة على الإخلاص وتواطئ القلب واللسان.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لم تكن تمضي عليهم ليلة إلا يأخذوا منها ولو شيئًا.
وقال قتادة عن مطرف بن عبدالله: كل ليلة تأتي عليهم إلا يصلون فيها لله عز وجل، أما من أولها، وإما من وسطها.
وقال مجاهد: قل ما يرقدون من ليلة حتى الصباح لا يتهجدون، وكذا قاله قتادة.
وقال أنس بن مالك - رضي الله عنه - وأبو العالية: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء.
وقال أبو جعفر الباقر: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة.(2/9)
والقول الثاني: أن ما مصدرية تقديره كانوا قليلاً من الليل هجوعهم ونومهم، واختاره ابن جرير، وقال الحسن البصري في قوله تعالى: { كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } كابدوا قيام الليل، فلا ينامون من الليل إلا أقله ونشطوا فمدوا إلى السحر حتى كان الاستغفار بسحر، وقال الأحنف بن قيس في قوله تعالى: { كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } كانوا لا ينامون إلا قليلاً، ثم يقول: لست من أهل هذه الآية.
وقال الحسن البصري: كان الأحنف بن قيس يقول: عرضت عملي على عمل أهل الجنة، فإذا قوم قد باينونا بونًا بعيدًا، إذا قوم لا نبلغ أعمالهم { كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } وعرضت عملي على عمل أهل النار، فإذا قوم لا خير فيهم مكذبون بكتاب الله وبرسل الله، مكذبون بالبعث بعد الموت، فقد وجدنا من خيرنا منزلة قومًا خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا.
وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: قال رجل من بني تميم لأبي: يا أبا أسامة، صفة لا أجدها فينا: ذكر الله تعالى قومًا، فقال: { كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } ونحن والله قليلاً من الليل ما نقوم، فقال أبي - رضي الله عنه -: طوبى لمن رقد إذا نعس، واتقى الله إذا استيقظ.
وقال عبدالله بن سلام - رضي الله عنه -: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أنجفل الناس إليه، فكنت فيمن أنجفل، فلما رأيت وجهه - صلى الله عليه وسلم - عرفت أن وجهه ليس بوجهه رجل كذاب، فكان أول ما سمعته - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يا أيها الناس، أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وأفشوا السلام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام».(2/10)
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثني يحيى بن عبدالله، عن أبي عبدالرحمن الحبلي، عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن في الجنة غرفًا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها».
فقال أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -: لمن هي يا رسول الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وبات لله قائمًا والناس نيام».
وقال معمر في قوله تعالى: { كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } كان الزهري والحسن يقولان: كانوا كثير من الليل ما يصلون، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - وإبراهيم النخعي في قوله تعالى: { كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ: } ما ينامون، وقال الضحاك: { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً } ثم ابتدأ، فقال: { كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } وبالأسحار هم يستغفرون، وللزاهد الورع إبراهيم ابن أَدْهَم في قيام الليل:
قُمِ الليلَ يا هَذَا لَعَلَّكَ تَرْشُدُ
أَرَاكَ بطُولِ اللَّيلِ ويْحَكَ نائِمٌ
ولو عَلِمَ البطالُ ما نالَ زاهدٌ
لَصَامَ وقامَ اللَّيلَ والناسُ نُوَّمٌ
بِحَزْمٍ و عَزْمٍ واجْتِهَادٍ وَرْغبَةٍ
ولو كانَتِ الدُنْيَا تَدُوْمُ لأَهْلِهَا
أَتَرْقُدُ يا مَغْرُوْرُ والنارُ تَوْقَدُ
أَلَا إنَّهَا نارً يُقَالُ لَهَا لَظَى
فيا راكبَ العِصْيَانِ ويْحَكَ خِلّها
فِكَمْ بينَ مَسْرُوْرٍ بطَاعَةِ ربِهِ
فَهذا سعْيدً في الجِنَانِ مُنَعّمً
إذا نُصِبَ المِيْزَانُ لِلفَصْلِ والقَضَا
عليه صلاةُ اللهِ في كُلِّ لَيْلةٍ ... إلىَ كَمْ تَنَامُ الليلَ والعُمْرُ يَنَّفدُ
وغيُرك في مِحْرَابِهِ يَتَهَجَّدُ
مِن الأجْرِ والإحْسَانِ ما كانَ يَرقُدُ
إذا ما دَنَا مِن عَبْدِه المتَفَرِّدُ
ويعْلَمُ أنَّ الله ذُو العَرْشِ يُعْبَدُ(2/11)
لكانَ رَسُولُ اللهِ فِيْهَا يُخَلَّدُ
فلا حَرُّهَا يَطْفَى ولا الجمرُ يَخْمُدُ
فَتَخْبُوَ أحْيَانًا وأحْيَانًا تُوِقَدُ
سَتُحْشَرُ عَطْشَانًا وَوَجْهُكَ أسْودُ
وآخَرٌ بالذنبِ الثَّقِيْلِ مَقَيَّدُ
وهَذَا شقيٌ في الجَحِيمِ مُخَلَّدُ
وقَدْ قامَ خَيْرُ العَالِمينَ مُحمدُ
معَ الآلِ والأصْحَابِ ما دَارَ فَرْقَدُ
وروي عن رجل من الأزد أنه قال: كنت لا أنام الليل، فنمت في آخر الليل، فإذا أنا بشابين أحسن ما رأيت، ومعهما حل فوقفا على كل مصل وكسواه حلة، ثم انتهيا إلى النيام فلم يكسوها، فقلت لهما: اكسوني من حللكما هذه؟ فقالا لي: إنها ليست حلة لباس إنما رضوان الله على كل مُصلِ.
ويروى عن أبي خلاد أنه قال: حدثني صاحب لي قال: فبينما أنا نائم ذات ليلة إذ مثلت ليَ القيامة، فنظرت إلى أقوام من إخواني قد أضاءت وجوههم وأشرقت ألونهم، وعليهم الحلل من دون الخلائق، فقلت: ما بال هؤلاء مكتسون والناس عراة ووجوههم مشرقة، ووجوه هؤلاء مُغْبَرَّة.
فقال لي قائل: الذين رأيتهم مكتسون فهم المصلون بين الأذان والإقامة، والذين وجوههم مشرقة، فأصحاب السهر والتهجد، قال: ورأيت أقوامًا على نجائب، فقلت: ما بال هؤلاء ركبانًا والناس مشاة حفاة؟ فقال لي: هؤلاء الذين قاموا على أقدامهم تقربًا إلى الله تعالى، فأعطاهم الله بذلك خير الثواب، قال: فصحت في منامي واها للعابدين، ما أشرف مقامهم! ثم استيقظت من منامي وأنا خائف.
وروي عن بعض المتهجدين أنه أتاه آت في منامه، فأنشده:
وكَيْفَ تَنَامُ العَيْنُ وهْيَ قَرِيْرَةٌ ... ولَمْ تَدْرِ فِي أيِّ المَكَانَيْنِ تَنْزِلُ(2/12)
ثم مدحهم ثانيًا، فقال: { وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } فيه إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك، وأخلص منه ويستغفرون الله استغفار المذنب لذنبه، وهذه سيرة الكرماء يأتون بما يقدرون عليه من وجوه الكرم ويستقلونه ويعتذرون من التقصير، وعكسهم اللئام يأتون بالقليل ويستكثرونه ويمنون به.
وللاستغفار بالأسحار فضيلة وخصيصة ليست لغيره، كما قال تعالى في وصف أهل الإيمان والطاعة والمستغفرين بالأسحار، وقد ثبت في الصحاح وغيرها عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فيعطى سؤله حتى يطلع الفجر»، وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى إخبارًا عن يعقوب أنه قال لبنيه: { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ } ، قالوا: أخرهم إلى وقت السحر.
ولما ذكر حالهم مع ربهم بوصفهم بالصلاة، وبذكر حالهم مع الناس، وحالهم مع المال، وأن صفتهم من الصفات اللائقة بالمحسنين من أداء الزكاة والبر والصلة، فقال: { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } ، أي فهم يجعلون جزءًا مقسومًا قد أفرزوه للسائل، ونصيبًا للمحروم، فالسائل هو يتقدم فيبتدئ بالسؤال وله حق، كما ورد عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين بن علي - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «للسائل حق وإن جاء على فرس» رواه أبو داود من حديث سفيان الثوري به.
وأما المحروم فهو الذي يسكت ويستحي فيحرم.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهد: هو المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم يعني لا سهم له في بيت المال ولا كسب له ولا حرفة يتقوت منها.
وقالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: هو المحارف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه.(2/13)
وقال الضحاك: هو الذي لا يكون له مال إلا ذهب أي تلف، قضى الله تعالى ذلك.
وقال أبو قلابة: جاء سيل باليمامة، فذهب بمال رجل، فقال رجل من الصحابة - رضي الله عنهم -: هذا المحروم.
وقال قتادة والزهري: المحروم الذي لا يسأل الناس شيئًا.
قال الزهري: وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان؛ ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه»، واختار ابن جرير أن المحروم: الذي لا مال له.
وقوله تعالى: { وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } المراد في الأرض دلائل واضحة وعلامات باهرة إنك إذا نظرت إليها، وكيف خلقت؟ رأيتها من أعظم الأدلة الدالة على وجود خالقها، وقوته الباهرة، وعلمه المحيط، وحكمته التي وضعت كل شيء في موضعه، وقوته التي لا يعجزها شيء.
خلقها سبحانه وتعالى فراشًا ومهادًا وذللها لعباده، وجعل فيها أرزاقهم وأقواتهم ومعاشهم، وجعل فيها الطرق لينتقلوا فيها في حوائجهم وتصرفاتهم، وأرساها بالجبال فجعلها أوتادًا تحفظها لئلا تميد بهم، ووسع أكنافها، ودحاها فمدها، وبسطها وطحاها فوسعها من جميع جوانبها، وجعلها كفاتًا للأحياء تسعهم على ظهرها ما داموا أحياء، كفاتًا للأموات تضمهم في بطنها إذا ماتوا، فظهرها وطن للأحياء، وبطنها وطن للأموات، قال تعالى: { أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } .
ثم هذه الأقوات المدخرة في الأرض للأحياء التي تسكنها تسكن سطحها أو تسبح في أجوائها أن تمخر ماءها، أو تختبئ في مغاورها وكهوفها، أو تختفي في مساربها وأجوافها هذه الأقوات الجاهزة المركبة والبسيطة والقابلة للوجود في شتى الأشكال والأنواع سخرها وهنأها جل وعلا ولا يحصي أنواع غذائها إلا هو جل وعلا.(2/14)
ثم انظر إلى تنوع مشاهد هذه الأرض ومناظرها، حينما يمتد الطرف، وتنتقل القدم، وإلى عجائب هذه المشاهد التي لا تنفد من وهاد وبطاح ووديان وجبال وبحار وبحيرات وأنهار وغدران، وما عليها من زروع وثمار وقطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد، ويفضل الله بعضها على بعض في الأكل.
وما فيها من حدائق وبساتين وأشجار وكل من هذه المشاهد تارة تكون مجدبة، فلها حال، وتارة خضراء ممرعة، ولها مشهد آخر ويراه وقت الحصاد وهو مصفر، فإذا له حال أخرى وهو في مكان واحد، وما فيها من ماء عذب فرات، وماء ملح أجاج، وما فيه من زيوت، ومعادن، وغازات، وأبخرة.
وما فيها من آثار الأمم الماضية، وآثار إهلاكهم حيث كفروا وكذبوا الرسل لما دعتهم إلى توحيد الله وما فيها من الخلائق التي تعمرها والدواب المنبثة المختلفة الألوان والصور المتباينة الهيئات والأفعال من بهائم وطيور ووحوش وأسماك وزواحف وحشرات وزرافة ونعام. اهـ.
هذه الخلائق لا يعلم عددها وعدد أجناسها إلا الله الذي خلقها جل وعلا، وقد أكثر الله جل وعلا من ذكر الأرض في كتابه ودعا عباده إلى النظر إليها، والتفكر في خلقها، فقال تعالى: { وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } تبصرة وذكرى لكل عبد منيب، وقال: { وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ المَاهِدُونَ } ، وقال: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا } .(2/15)
وقال: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } ، وقال: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } ، وقال: { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العُيُونِ } .
وخص سبحانه الموقنين؛ لأنه لا يدرك هذه العجائب إلا القلب العامر باليقين، فالموقنون هم الموحدون الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة التامة، فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة كلما رأوا آية فكروا فيها، وفي المقصود منها فازدادوا إيقانًا على إيقانهم، فحققوا وحدانية ربهم وصدقوا برسله وانتفعوا بالآيات بخلاف أكثر الناس فهم في غفلة عن التفكر في الآيات الدالة على الله وقدرته ووحدانيته، الذين قال الله عنهم: { وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } .
وقوله: { وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } أي في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال آيات تدل على توحيد الله وصدق ما جاءت به الرسل، هذا المخلوق الإنساني، وهذه المخلوقات العجيبة الأخرى التي تدب على الأرض لكن يغفل عن قيمته، وعن أسراره الكامنة في كيانه حين يغفل قلبه عن الإيمان وحين يحرم نعمة اليقين إنه عجيب في تكوينه.
قال ابن القيم - رحمه الله -: وإذا تأملت ما دعى الله سبحانه في كتابه عباده إلى التفكر فيه، أوقعك على العلم به سبحانه وتعالى وبوحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله من عموم قدرته وعلمه وكمال حكمته، ورحمته، وإحسان، وبره، ولطفه، وعدله، ورضاه وغضبه، وثوابه وعقابه.(2/16)
فبهذا تعرف إلى عباده وندبهم إلى التفكر في آياته، ونذكر لذلك أمثلة مما ذكرها الله سبحانه في كتابه ليستدل بها على غيرها فمن ذلك خلق الإنسان، وقد ندب سبحانه إلى التفكر فيه والنظر في غير موضع من كتابه، كقوله تعالى: { فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ } .
وقوله: { وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } ، ثم ساق آيات أخر قال بعد فلم يكرر سبحانه على أسماعنا وعقولنا ذكر هذا؛ لنسمع لفظ النطفة والعلقة والمضغة والتراب، ولا لنتكلم بها فقط، ولا لمجرد تعريفنا بذلك، بل لأمر وراء ذلك كله، هو المقصود بالخطاب، وإليه جرى ذلك الحديث.
فانظر الآن إلى النطفة بعين البصيرة وهي قطرة من ماء مهين، أي ضعيف مستقذر لو مرت بها ساعة من الزمان فسدت، وأنتنت كيف استخرجها رب الأرباب العليم القدير من بين الصلب والترائب منقادة لقدرته مطيعة لمشيئته مذللة الانقياد على ضيق طرقها واختلاف مجاريها إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها.
وكيف جمع سبحانه بين الذكر والأنثى، وألقى المحبة بينهما، وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه وكيف قدر اجتماع ذينك الماءين مع بعد كل منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء وجمعهما في موضع واحد جعل لهما قرارًا مكينًا لا يناله هواء يفسده ولا برد يجمده، ولا عارض يصل إليه ولا آفة تتسلط عليه.
ثم قلب تلك النطفة البيضاء المشرقة علقة حمراء تضرب إلى السواد، ثم جعلها مضغة لم مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها ثم جعلها عظامًا مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة في شكلها وهيآتها وقدرها وملمسها ولونها. انتهى كلامه.(2/17)
ثم انظر إلى تدبيره في الرحم وهو محجوب في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء، ولا دفع أذى ولا استجلاب منفعة ولا دفع مضرة، فإنه يجري إليه من دم أمه ما يغذيه كما يغذي الماء النبات، فلا يزال ذلك غذاءهُ تى إذا كمل خلقه واستحكم بدنه وقوي أديمه على مباشرة الهواء وبصره على ملاقاه الضياء هاج الطلق بأمه، فأزعجه أشد إزعاج وأعنفه حتى يولد.
فإذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذيه من دم أمه إلى ثدييها وانقطع الطعم واللون إلى ضرب آخر من الغذاء «اللبن» وهو أشد موافقة للمولود من الدم، فيوافيه في وقت حاجته إليه فحين يولد قد تلمظ وحرك شفتيه طلبًا للرضاع فهو يجد ثديي أمه ك الأدواتين المعلقتين بصدرها لحاجته، فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن، رقيق الأمعاء لين الأعضاء.
وقال ابن القيم - رحمه الله - في كتابه «مفتاح السعادة»:
وانظر كيف قسم تلك الأجزاء المتشابهة المتساوية إلى: الأعصاب، والعظام، والعروق، والأوتار، واليابس، واللين وبين ذلك، ثم كيف ربط بعضها ببعض أقوى رباط وأشده وأبعده عن الإنحلال وكيف كساها لحمًا ركبه عليها، وجعله وعاء لها وغشاء وحافظًا وجعلها حاملة له مقيمة له، فاللحم قائم بها وهي محفوظة به.
وكيف صورها فأحسن صورها وشق لها السمع والبصر والفم والأنف، وسائر المنافذ، ومد اليدين والرجلين وبسطهما، وقسم رءوسهما بالأصابع ثم قسم الأصابع بالأنامل، وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء، كل واحد منها له قدر يخصه ومنفعة تخصه.(2/18)
ثم انظر الحكمة البالغة في تركيب العظام قوامًا للبدن وعمادًا له، وكيف قدرها ربها وخالقها بتقادير مختلفة وأشكال مختلفة، فمنها: الصغير والكبير والطويل والقصير، والمنحنى والمستدير، والدقيق والعريض، والمصمت، والمجوف، وكيف ركب بعضها في بعض، فمنها ما تركيبه تركيب الذكر في الأنثى، ومنها ما تركيبه اتصال فقط.
وكيف اختلف أشكالها باختلاف منافعها كالأضراس فإنها لما كانت آلة للطحن جعلت عريضة، ولما كانت الأسنان آلة للقطع جعلت مستدقة محددة، ولما كان الإنسان محتاجًا إلى الحركة بجملة بدنه، وببعض أعضائه للتردد في حاجته لم يجعل عظامه عظمًا واحدًا، بل عظامًا متعددة، وجعل بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة، وكان قدر كل واحد منها وشكله على حسب الحركة المطلوبة منه.
وكيف شد أسر تلك المفاصل والأعضاء وربط بعضها ببعض بأوتار وربطات أنبتها من أحد طرفي العظم وألصق أحد طرفي العظم بالطرف الآخر كالرباط، ثم جعل في أحد طرفي العظم زوائد خارجة عنه، وفي الآخر نقرًا غائصة فيه موافقة لشكل تلك الزوائد ليدخل فيها وينطبق عليها، فإذا أراد العبد أن يحرك جزءًا من بدنه لم يمتنع عليه، ولولا المفاصل لتعذر عليه.
وتأمل كيفية خلق الرأس وكثرة ما فيه من العظام حتى قيل: إنها خمسة وخمسون عظمًا مختلفة الأشكال والمقادير والمنافع، وكيف ركبه سبحانه وتعالى على البدن وجعله عاليًا علو الراكب على مركوبه، ولما كان عاليًا على البدن جعل فيه الحواس الخمس وآلات الإدراك كلها من السمع، البصر، والشم، والذوق، واللمس.
وجعل حاسة البصر في مقدمه ليكون كالطليعة والحرس والكاشف للبدن، وركب كل عين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص، ومقدار مخصوص، ومنفعة مخصوصة، لو فقدت طبقة من تلك الطبقات السبع أو زالت عن هيئتها وموضعها لتعطلت العين عن الإبصار.(2/19)
ثم ركز سبحانه داخل تلك الطبقات السبع خلقًا عجيبًا وهو إنسان العين بقدر العدسة يبصر به ما بين المشرق والمغرب والأرض والسماء، وجعله من العين بمنزلة القلب من الأعضاء، فهو ملكها، وتلك الطبقات والأجفان والأهداب خدم له وحجاب وحراس، فتبارك الله أحسن الخالقين.
فانظر كيف شكل العينين وهيئتهما ومقدارهما، ثم جملهما بالأجفان غطاء لهما وسترًا وحفظًا وزينة، فهما يتلقيان عن العين الأذى والىقذى والغبار ويقيانها من البارد المؤذي والحار المؤذي، ثم غرس في أطراف تلك الأجفان والأهداب جمالاً وزينة ولمنافع أخر وراء الجمال والزينة، ثم أودعهما ذلك النور الباصر والضوء الباهر الذي يخرق ما بين السماء والأرض يخرق السماء مجاوزًا الرؤية ما فوقها من الكواكب، وقد أودع سبحانه هذا السر العجيب في هذا المقدار الصغير بحيث ينطبع فيه صورة السماوات مع اتساع أكنافها وتباعد أقطارها.
وشق له السمع وخلق الأذن أحسن خلقه، وأبلغها في حصول المقصود منها فجعلها مجوفة كالصدفة؛ لتجمع الصوت فتؤديه إلى الصماخ، وليحس بدبيب الحيوان فيها، فيبادر إلى إخراجه، وجعل فيها غضونًا وتجاويف وأعوجاجات تمسك الهواء و الصوت الداخل فتكسر حدته إلى الصماخ.
ومن حكمة ذلك أن يطول به الطريق على الحيوان، فلا يصل إلى الصماخ حتى يستيقظ أو ينتبه لإمساكه، وفيه أيضًا حكم غير ذلك.
ثم اقضت حكمة الرب الخالق سبحانه أن جعل ماء الأذن مرًا في غاية المرارة، فلا يجاوزه الحيوان ولا يقطعه داخلاً إلى باطن الأذن، بل إذا وصل إليه أعمل الحيلة في رجوعه، وجل ماء العينين ملحًا ليحفظهما، فإنها شحمة قابلة للفساد، فكانت ملوحة مائها صيانة لها وحفظًا.
وجعل ماء الفم عذبًا حلوًا ليدرك به طعوم الأشياء على ما هي عليه، إذ لو كان على غير هذه الصفة لأحالها إلى طبيعته كما أن من عرض لقمة المرار استمر طعم الأشياء التي ليست بمر، كما قيل:
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرًا به الماء الزلالا(2/20)
ونصب سبحانه قصبة الأنف في الوجه فأحسن شكله وهيأته ووضعه، وفتح فيه المنخرين، وحجز بينهما بحاجز وأودع فيها حاسة الشم التي تدرك بها أنواع الروائح الطيبة والخبيثة والنافعة والضارة وليستنشق به الهواء فيوصله إلى القلب، فيتروح به ويتغذى به.
ثم لم يجعل في داخله من الأعوجاجات والغضون ما جعل في الأذن لئلا يمسك الرائحة فيضعفها، ويقطع مجراها وجعله سبحانه مصبًا تنحدر إليه فضلات الدماغ فتتجمع فيه، ثم تخرج منه، واقتضت حكمته أن جعل أعلاه أدق من أسفله؛ لأن أسفله إذا كان واسعًا اجتمعت فيه تلك الفضلات، فخرجت بسهولة، ولأنه يأخذ من الهواء ملأه ثم يتصاعد في مجراه قليلاً حتى يصل إلى القلب وصولاً لا يضره ولا يزعجه.
ثم فصل بين المنخرين بحاجز بينهما حكمة من ورحمة، فإن لما كان قصبة ومجرى سائرًا لما ينحدر فيه من فضلات الرأس ومجرى النفس الصاعد من جعل في وسطه حاجزًا لئلا يفسد بما يجري فيه فيمنع نشقه للنفس، بل إما أن تعتمد الفضلات نازلة من أحد المنفذين في الغالب، فيبقى الآخر للتنفس، وإما أن يجري فيهما فينقسم فلا يفسد الأنف جملة، بل يبقى فيه مدخل للتنفس.
وأيضًا فإنه لما كان عضوًا واحدًا وحاسةً واحدة، ولم يكن عضوين أو حاستين كالأذنين والعينين اللتين اقتضت الحكمة تعددهما، فإنه ربما أصيبت إحداهما أو عرضت لها آفة تمنعها من كمالها فتكون الأخرى سالمة فلا تتعطل منفعة هذا الحس جملة، وكان وجود أنفين في الوجه شيئًا ظاهرًا فنصب فيه أنفًا واحدًا، وجعل فيه منفذين حجز بينهما بحاجز يجري مجرى تعدد العينين والأذنين في المنفعة وهو واحد، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وشق سبحانه للعبد الفم في أحسن موضع وأليقه، وأودع فيه من المنافع وآلات الذوق والكلام وآلات الطحن، والقطع ما يبهر العقول عجائبه.(2/21)
فأودعه اللسان الذي هو أحد آياته الدالة عليه، وجعل ترجمانًا لملك الأعضاء مبينًا مؤديًا عنه، كما جعل الأذن رسولاً مؤديًا مبلغًا إليه، فهيء رسوله وبريده الذي يؤدي إليه الأخبار، واللسان بريده ورسوله الذي يؤدي عنه ما يريد.
واقتضت حكمته سبحانه أن جعل هذا الرسول مصونًا محفوظًا مستورًا غير بارز مكشوف كالأذن والعين والأنف؛ لأن تلك الأعضاء لما كانت تؤدي من الخارج إليه جعلت بارزة ظاهرة.
ولما كان اللسان مؤديًا منه إلى الخارج جعل له سترًا مصونًا لعدم الفائدة في إبرازه؛ لأنه لا يأخذ من الخارج إلى القلب، وأيضًا فلأنه لما كان أشرف الأعضاء بعد القلب ومنزلته منه منزلة ترجمانه ووزيره ضرب عليه سرادق يستره ويصونه، وجعل في ذلك السرادق كالقلب في الصدر.
وأيضًا فإنه من ألطف الأعضاء وألينها وأشدها رطوبة، وهو لا يتصرف إلا بواسطة الرطوبة المحيطة به، فلو كان بارزًا صار عرضة للحرارة واليبوسة والنشاف المانع له من التصرف، ولغير ذلك من الحكم والفوائد.
ثم زين سبحانه الفم بما فيه من الأسنان التي هن جمال له وزينة، وبها قوام العبد وغذاؤه، وجعل بعضها رحاء للطحن، وبعضها آلة للقطع فأحكم أصولها وحدد رؤوسها، وبيض لونها، ورتب صفوفها متساوية الرءوس، متناسقة الترتيب كأنها الدر المنظوم بياضًا وصفاءً وحسنًا.
وأحاط سبحانه على ذلك حائطين وأودعهما من المنافع والحكم ما أودعهما، وهما الشفتان فحسن لونهما وشكلهما ووضعهما وهيأتهما، وجعلهما غطاء للفم وطبقًا له، وجعلهما إتمامًا لمخارج حروف الكلام ونهاية له، كما جعل أقصى الحلق بداية له، واللسان وما جاوره وسطًا.
ولهذا كان أكثر العمل فيها له، إذ هو الواسطة، اقتضت حكمته أن جعل الشفتين لحمًا صرفًا لا عظم فيه ولا عصب؛ ليتمكن بهما من مص الشراب ويسهل عليه فتحهما وطبقهما، وخص الفك الأسفل بالتحريك؛ لأن تحريك الأخف أحسن، ولأنه يشتمل على الأعضاء الشريفة فلم يخاطر بها في الحركة.(2/22)
وخلق سبحانه الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملامسة والصلابة واللين والطول والقصر، فاختلفت بذلك الأصوات أعظم اختلاف، ولا يكاد يشتبه صوتان إلا نادرًا، ولهذا كان الصحيح قبول شهادة الأعمى لتمييزه بين الأشخاص بأصواتهم، كما يميز البصير بينهم بصورهم، والاشتباه العارض بين الأصوات كالاشتباه العارض بين الصور.
وزين سبحانه الرأس بالشعر وجعله لباسًا له لاحتياجه إليه، وزين الوجه بما أنبت فيه من الشعور المختلفة الأشكال والمقادير، فزينه بالحاجبين، وجعلهما وقاية لما ينحدر من بشرة الرأس إلى العينين، وقوسهما وأحسن خطهما وزين أجفان العينين بالأهداب، وزين الوجه أيضًا باللحية، وجعلها كمالاً ووقارًا ومهابة للرجل، وزين الشفتين فوقهما من الشارب وتحتها من العنفقة.
وكذا خلقه سبحانه لليدين اللتين هما آلة العبد وسلاحه ورأس مال معاشه فطولهما بحيث يصلان إلى ما شاء من بدنه، وعرض الكف ليتمكن به من القبض والبسط، وقسم فيه الأصابع الخمس، وقسم كل أصبع بثلاث أنامل، والإبهام باثنين.
وجعل الأصابع الأربعة في جانب والإبهام في جانب لتدور الإبهام على الجميع، فجاءت على أحسن وضع صلحت به للقبض والبسط، ومباشرة الأعمال، ولو اجتمع الأولون والآخرون على أن يستنبطوا بدقيق أفكارهم وضعًا آخر للأصابع سوى ما وضعت عليه لم يجدوا إليه سبيلاً.
فتبارك من لو شاء لسواها وجعلها طبقًا واحدًا كالصحيفة فلا يتمكن العبد بذلك من مصالحه وأنواع تصرفاته ودقيق الصنائع والحط وغير ذلك، فإن بسط أصابعه كانت طبقًا يضع عليه ما يريد، وإن ضمها وقبضها كانت دبوسًا وآلة للضروب، وإن جعلها بين الضم والبسط كانت مغرفة له يتناول بها ويمسك فيها ما يتناوله.(2/23)
وركب الأظفار على رؤوسهما زينة لها وعمادًا ووقاية وليلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا ينالها جسم الأصابع وجعلها سلاحًا لغيره من الحيوان والطير، وآلة لمعاشه وليحك الإنسان بها بدنه عند الحاجة، فالظفر الذي هو أقل الأشياء وأحقرها لو عدمه الإنسان ثم ظهرت به حكة لاشتدت حاجته إليه، ولم يقم مقامه شيء في حك بدنه ثم هدى اليد إلى موضع الحك حتى تمتد اليد ولو في النوم والغفلة من غير حاجة إلى طلب، ولو استعان بغيره لم يعثر على موضع الحك إلا بعد تعب ومشقة.
ثم انظر إلى الحكمة البالغة في جعل عظام أسفل البدن غليظة قوية؛ لأنها أساس له، وعظام أعاليه دونها في الثخانة والصلابة؛ لأنها محمولة.
ثم انظر كيف جعل الرقبة مركبًا للرأس وركبها من سبع خرزات مجوفات مستديرات، ثم طبق بعضها على بعض وركب كل خرزه تركيبًا محكمًا متقنًا حتى صارت كأنها خرزة واحدة، ثم ركب الرقبة على الظهر والصدر، ثم ركب الظهر من أعلاه إلى منتهى عظم العجز من أربع وعشرين خرزة مركبة بعضها في بعض هي مجمع أضلاعه والتي تمسكها أن تنحل وتنفصل، ثم وصل تلك العظام بعضها ببعض فوصل عظام الظهر بعظام الصدر، وعظام الكتفين بعظام العضدين، والعضدين بالذراعين، والذراعين بالكف والأصابع.
وانظر كيف كسا العظام العريضة كعظام الظهر والرأس كسوة من اللحم تناسبها، والعظام الدقيقة كسوة تناسبها كالأصابع، والمتوسطة كذلك كعظام الذراعين والعضدين.
فهو مركب على ثلاثمائة وستين عظم مائتان وثمانية وأربعين مفاصل، وباقيها صغار حشيت خلال المفاصل، فلو زادت عظمًا واحدًا لكان مضرة على الإنسان يحتاج إلى قلعة ولو نقصت عظمًا واحدًا كان نقصانًا يحتاج إلى جبره.
فالطبيب ينظر في هذه العظام وكيفية تركيبها ليعرف وجه العلاج في جبرها، والعارف ينظر فيها ليستدل بها على عظمة باريها وخالقها وحكمته وعلمه ولطفه، وكم بين النظرين.(2/24)
ثم إنه سبحانه ربط تلك الأعضاء والأجزاء بالرباطات، فشد بها أسرها وجعلها كالأوتار تمسكها وتحفظها حتى بلغ عددها إلى خمسمائة وتسعة وعشرين رباطًا، وهي مختلفة في الغلظ والدقة والطول والقصر والاستقامة والانحناء بحسب اختلاف مواضعها ومحالها.
فجعل منها أربعة وعشرين رباطًا آلة لتحريك العين وفتحها وضمها وأبصارها لو نقصت منهن رباطًا واحدًا اختل أمر العين، وهكذا لكل عضو من الأعضاء رباطات هن له كالآلات التي بها يتحرك ويتصرف ويفعل، كل ذلك صنع الرب الحكيم، وتقدير العزيز العليم في قطرة ماء مهين، فويل للمكذبين، وبعدًا للجاحدين.
ومن عجائب خلقه أنه جعل في الرأس ثلاث خزائن نافذًا بعضهما إلى بعض خزانة في مقدمة، وخزانة في وسطه، وخزانة في آخره، وأودع تلك الخزائن من أسراره ما أودعهما من الذكر والفكر والتعقل.
ومن عجائب خلقه ما فيه من الأمور الباطنة التي لا تشاهد كالقلب والكبد والطحال والرئة والأمعاء والمثانة، وسائر ما في بطنه من الآلات العجيبة، والقوى المتعددة المختلفة المنافع، فأما القلب فهو الملك المستعمل لجميع آلات البدن والمستخدم لها فهو محفوف بها، وهو أشرف أعضاء البدن، وبه قوام الحياة وهو منبع الروح الحيواني، والحرارة الغريزة وهو معدن العقل والعلم والحلم والشجاعة، والكرم، والصبر، والاحتمال، والحب، والإرادة، والرضا، والغضب، وسائر صفات الكمال.
فجميع الأعضاء الظاهرة والباطنة وقواها إنما هي جند من أجناد القلب، فإن العين طليعته ورائده الذي يكشف له المرئيات، فإن رأت شيئًا أدته إليه، ولشدة الارتباط الذي بينها وبينه إذا استقر فيه شيء ظهر فيها.(2/25)
فهي مرآته المترجمة للناظر ما فيه، كما أن اللسان ترجمانه المؤدى للسمع ما فيه، ولهذا كثيرًا ما يقرن سبحانه في كتابه بين هذه الثلاث، كقوله: { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } ، وقوله: { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً } ، وقوله: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } وقد تقدم ذلك، وكذلك يقرن بين القلب والبصر، كقوله: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ } ، وقوله في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم -: { مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى } ، ثم قال: { مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى } ، وكذلك الأذن هي رسوله المؤدي إليه، وكذلك اللسان ترجمانه، وبالجملة فسائر الأعضاء خدمه وجنوده.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب».
وقال أبو هريرة: القلب ملك والأعضاء جنوده، فإن طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده.
وجعلت الرئة كالمروحة تروح عليه دائمًا؛ لأنه أشد الأعضاء حرارة، بل هو منبع الحرارة، وأما الدماغ وهو المخ، فإنه جعل باردًا، واختلف في حكمة ذلك، فقالت طائفة: إنما كان الدماغ باردًا لتبريد الحرارة التي في القلب ليردها عن الإفراد إلى الاعتدال.
وردت طائفة هذا، وقالت: لو كان كذلك لم يكن الدماغ بعيدًا عن القلب، بل كان ينبغي أن يحيط به كالرئة، أو يكون قريبًا منه في الصدر ليكسر حرارته، قالت الفرقة الأولى: بعد الدماغ من القلب لا يمنع ما ذكرناه من الحكمة؛ لأنه لو قرب منه لغلبته حرارة القلب بقوتها، فجعل البعد بينهما بحيث لا يتفاسدان وتعتدل كيفية كل واحد منهما بكيفية الآخر، وهذا بخلاف الرئة، فإنها آلة للترويح على القلب لم تجعل لتعديل حرارته.(2/26)
وتوسطت فرقة أخرى، وقالت: بل المخ حار لكنه فاتر الحرارة، وفيه تبريد الخاصية، فإنه مبدأ للذهن يحتاج إلى موضع ساكن قار صاف عن الأقذار، والكدر خال من الأجلبة والزجل، ولذلك يكون جودة الفكر والتذكر، واستخراج الصواب عند سكون البدن، وفتور حركاته، وقلة شواغله ومزعجاته، ولذلك لم يصلح لها القلب.
وكان الدماغ معتدلاً في ذلك صالحًا له، ولذلك تجود هذه الأفعال في الليل، وفي المواضع الخالية، وتفسد عند التهاب نار الغضب والشهوة، وعند الهم الشديد، ومع التعب والحركات القوية البدنية والنفسانية. اهـ باختصار.
وقوله: { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ } قيل: المطر هو سبب الأرزاق، وقيل: مادة رزقكم من الأمطار وصنوف الأقدار الرزق الديني والدنيوي.
وقوله: { وَمَا تُوعَدُونَ } أي أن ما وعد به جل وعلا من أمر القيامة والبعث والجزاء كائن لا محالة، وهو حق لا مرية فيه فلا تشكوا فيه، كما لا تشكو في نطقكم حين تنطقون.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ما يستفاد من الآيات:
1- إثبات صفة الكلام لله.
2- الرد على من أنكر صفة الكلام.
3- الحث على تقوى الله.
4- الثواب العظيم لمن اتقى الله.
5- إثبات البعث والحساب.
6- إثبات الجزاء على الأعمال.
7- إثبات الجنة وأنها لمن أطاع الله واتقاه.
8- أن في الجنة عيونًا جارية تشرب منها تلك البساتين، ويشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرًا.
9- أن الله قد أعطاهم مناهم من النعيم والسرور والغبطة.
10- أنهم أخذوا ذلك راضين قد قرت به أعينهم وفرحت به نفوسهم، إذ فيه ما يغنيهم ويفوق ما يؤملون.
11- أن أخذهم ذلك إعطاء من الله وتفضل منه.(2/27)
12- إثبات صفة الربوبية لله وتربيته تعالى لعباده نوعان: عامة، وخاصة، فالعامة هي خلقة للمخلوقين ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤها، قال تعالى: { الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } ، والتربية الخاصة تربيته جل وعلا لأوليائه وأصفيائه فيربيهم بالإيمان ويوفقهم له ويكملهم، ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه وحقيقتها تربية التوفيق لكل خير، والعصمة من كل شر.
13- أن العمل سبب لثواب الله للعبد.
14- الحث على الأعمال الصالحة.
15- الحث على الإحسان في عبادة الله.
16- الحث على الإحسان إلى عباد الله.
17- أن الجزاء من جنس العمل، فكما أحسنوا في عبادة الله وإلى عباد الله حصلوا على حسن المثوبة من الله، كما قال تعالى: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } .
18- الحث على مراقبة الله.
19- الحث على التيقظ ومراقبة النفس.
20- الحث على حفظ الوقت وإنفاقه في طاعة الله، والحذر من الغفلة.
21- الحث على قيام الليل وقطعه من صلاة، وقراءة، وذكر، واستغفار، وتضرع ودعاء.
22- أن الله يختص بفضله من يشاء فيوفق من شاء إلى قيام الليل، اللهم وفقنا لما وفقتهم له.
23- الحث على الاستغفار في السحر.
24- الحث على أداء الزكاة والتنسخ منها بطيب نفس.
25- الحث على البر والأعمال الخيرية.
26- الحث على الصلة.
27- إعطاء السائل ولو قليلاً.
28- إعطاء المحروم كذلك.
29- لطف الله بخلقه حيث حثهم وبين لهم ودلهم على ما فيه صلاح دنياهم وأخراهم.
30- أن العباد ليسوا مهملين.
31- سعة جود الله وكرمه.
32- إثبات قدرة الله.
33- أن الله جل وعلا شكور.
34- العمل على تخليص القلب من الشح والبخل.
35- التحذير من الإساءة.
36- أن هذا الوصف هو وصف المؤمن التقي دائمًا يخشى الله ويعمل له، ويحاسب نفسه، ثم يستغفر الله بالأسحار بعد ذلك.(2/28)
37- إثبات صفة العلم لله، فكما أنه عالم بما يمضي فهو عالم بما سيقع، ومن ذلك ما أخبر به.
38- إثبات صفة الحكمة لله حيث أحل المتقين فيما جعلهم مستحقين له فضلاً منه وكرمًا.
39- أنه ينبغي للإنسان أن يشغل وقته إن لم يكن في صلاة، ففي استغفار، ولا يخفى ما ورد من الحث عليه.
40- الشفقة على الخلق.
41- تقديم حاجة السائل قبل اندفاع حاجة المحروم؛ لأنه يعرف حاله غالبًا بمقاله، ويطلب لقلة ماله غالبًا فيقدم بدفع حاجته، والمحروم غير معلوم فلا تندفع إلا بعد الإطلاع عليه.
42- أن في نفس الإنسان آيات تدل على وحدانية الله.
43- الحث على التفكر والتدبر.
44- أن رزق العباد في السماء.
45- إثبات البعث والحساب.
46- إثبات الحساب والجزاء على الأعمال.
47- إثبات الجنة.
48- دليل على علو الله على خلقه.
49- إثبات الربوبية.
50- أن وعد الله حق.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم(2/29)
قال الله تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ * لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ * لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } .
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ووحدوه اتقوا بأداء الفرائض، واجتناب النواهي، والتقوى، كما هو معلوم في وصية الله للأولين والآخرين، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } فما من خير عاجل ولا آجل إلا والتقوى سبيل موصل إليه، وما من شر عاجل ولا آجل ظاهر ولا باطن إلا والتقوى حرز حصين للسلامة منه والنجاة من ضرره.(2/30)
وقوله تعالى: { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } أي لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة أمن الأعمال الصالحات إذا نظر إليها يوم ينظر المرء ما قدمت يداه سرته وفرح بها، وتمنى الزيادة منها، أم من السيئات المهلكات التي يود يوم القيامة لو أن بينه وبينها أمدًا بعيدًا؟ فإن الإنسان إذا استحضر وقوفه بين يدي الله اهتم للمقام واجتهد في كثرة الأعمال الموصلة إلى مرضاة الله وقلل من العوائق والقواطع التي تضعف سيره إلى الآخرة.
وعن شداد بن أوس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني» رواه الترمذي وأحمد والحاكم وابن ماجه.
وقال عمر - رضي الله عنه -: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا.(2/31)
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: كنا في صدر النهار عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء قوم عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى بهم من الفاقة فدخل، ثم خرج، فأمر بلال فأذن، وأقام فصلى، ثم خطب، فقال: « { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } إلى قوله: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } ، والآية التي في الحشر: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره»، حتى قال: «ولو بشق تمرة»، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلل، كأنه مذهبة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء» رواه مسلم.
وقوله: { وَاتَّقُوا اللَّهَ } هذا تكرير للتوكيد كقولك: اعجل اعجل، الزم الزم لما يستدعيه الحال من التنبيه والحث على التقوى التي هي الزاد في المعاد.
قال الأعشى:
أجدك لم تسمع وصاة محمد
إذا أنتَ لم ترحل بزاد من التقى
ندمتَ على ألا تكون كمثله ... نبي الإله حين أوصي وأشهدا
وأبصرت بعد الموت من قد تزودا
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
وقيل في تكرير ذكر التقوى: أن الأولى التوبة فيما مضى من الذنوب، والثاني: اتقاء المعاصي في المستقبل، والمعنى: خافوا الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.(2/32)
وقوله: { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من أسمائه تعالى الخبير، وهو من الخبرة بمعنى كمال العلم ووثوقه والإحاطة بالأشياء على وجه الدقة والتفصيل، وهو العلم بكل ما خفي ودق، فالعلم عندما يضاف إلى الخفايا الباطنة يسمى خبرة، ويسمى صاحبها خبيرًا.
والله جل وعلا لا يجري في الملك والملكوت شيء ولا تتحرك ذرة فما فوقها وما دونها، ولا تسكن ولا تضطرب نفس ولا تطمئن إلا وعنده منها خبرة، وهو يقرب من معنى اسمه تعالى اللطيف.
ولهذا تجد في القرآن في بعض الآيات يقرن الله بينهما كما في قوله تعالى: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ } ، المعنى: أنه تعالى ذو خبرة وعلم بأحوالكم، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم وشئونكم فراقبوه في جليل أعمالكم وحقيرها، واعلموا أنه سيجازيكم ويحاسبكم على جميعها: النقير والفتيل والقطمير، ولا يفوته شيء من ذلك، قال تعالى: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ } .
ثم ضرب جل وعلا الأمثال تحذيرًا وإنذارًا، فقال: { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } أي ولا يكن حالكم كحال قوم تركوا العمل بحقوق الله التي أوجبها عليهم فران على قلوبهم وأنساهم العمل الصالح الذي ينجيهم من عقابه.
وفي خطبة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم، فمن استطاع أن يقضي الأجل وهو في عمل الله عز وجل، فليفعل، ولن تنالوا ذلك إلا بالله عز وجل، إن قومًا جعلوا آجالهم لغير الله، فنهاكم الله عز وجل أن تكونوا أمثالهم، { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } ، أين من تعرفون من إخوانكم قدموا على ما قدموا في أيام سلفهم، وحلوا بالشقاوة أو السعادة.(2/33)
أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن وحصنونها بالحوائط قد صاروا تحت الصخر والآبار، هذا كتاب الله لا يفنى عجائبه، فاستضيئوا منه ليوم الظلمة، واستضيئوا بسناه وبيانه، إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } لا خير في قول لا يُراد به وجه الله، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله، ولا خير في من يغلب جهله حلمه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم.
وقوله: { أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ } أي أولئك الفاسقون المخذولون بالإنساء، أصل الفسق الخروج، أي الذين خرجوا عن طاعة الله، ولما أرشد المؤمنين إلى ما يصلحهم بقوله: { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } وعدد الكافرين بقوله: { نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } ، ثم وازن بين الفريقين من يعمل من الحسنات، ومن يعمل السيئات، فقال: { لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ } أي لا يستوي في حكم الله تعالى يوم القيامة الذين نسوا الله فاستخفوا الخلود في النار، والذين اتقوا الله فاستحقوا الخلود في الجنة، كما قال تعالى: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } .
وقال تعالى: { وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلاَ المُسِيءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ } .
وقال تعالى: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } ، وقال: { أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } .(2/34)
ثم بين عدم استوائهما، فقال: { أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ } أي الفائزون بكل مطلوب الناجون من كل مرهوب، ففي هذا تنبيه إلى أن الناس لفرط غفلتهم، وقلة تفكرهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباعهم للشهوات الفانية ك أنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار، وشاسع البون بين أصحابهما، وأن الفوز لأصحاب الجنة.
فمن حقهم أن يعلموا ذلك بأن أن نبهوا له، كما تقول لمن عق أباه: هذا أبوك، تجعله كأنه لا يعرف ذلك فنبه إلى حق الأبوة الذي يقتضي البر والعطف.
وبعد أن ذكر جل وعلا فرق المضلين من المنافقين والضالين من اليهود وغيرهم، وأمر عبادة المؤمنين بالتقوى استعدادًا لذلك اليوم ذكر هنا أن لهم مرشدًا عظيمًا، وإمامًا هاديًا هو القرآن العظيم، فقال: { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } .
أي لو أنزل على جبل وهو حجر لرأيته يا محمد خاشعًا متذللاً متصدعًا من خشية الله.
فينبغي أن تخشع له القلوب وتتصدع عند سماعه، ولو كانت في القسوة والصلابة كالجبال الرواسي، لما فيه من وعد ووعيد وبشارة وإنذار، وحكم وأحكام.
فمواعظه أعظم المواعظ وأوامره ونواهيه محتوية على الحكم والمصالح المقرونة بها، وهي من أسهل شيء على النفوس وأيسرها على الأبدان، خالية من التكلف لا انتقاض فيه، ولا اختلاف ولا صعوبة، ولا اعتساف يصلح لكل زمان ومكان ويليق لكل أحد.
وقوله: { وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } أي وهذه الأمثال التي أودعناها القرآن وذكرناها في مواضعها التي ضربت لأجلها واقتضاها الحال من نحو قوله تعالى: { وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } .(2/35)
وقوله: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } ، وقوله: { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَى } الآية، جعلناها تبصرة { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } .
فمن الناس من وفقه الله فاهتدى بها إلى سواء السبيل، وفاز بما يرضي ربه عنه وفاز بجنة عرضها السموات والأرض ومنهم من أعرض عنها وأبعد { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى } وأدخله سقر { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ } .(2/36)
وقد ثبت في الحديث المتواتر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عمل له المنبر وقد كان يوم الجمعة يخطب يقف إلى جانب جذع سمع هو ومن بالمسجد حنين الجذع، وهكذا تمضي الآية الكريمة ثم وصف سبحانه نفسه بجليل الصفات التي هي سر العظمة والجلال لخالق السموات والأرض، وما فيهما وما بينهما من مخلوقات، فقال: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } يقول جل ذكره: إن الذي يتصدع الجبل من خشيته هو الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة والألوهية إلا له عالم الغيب والشهادة أي يعلم جميع الكائنات المشاهدات والغائبات فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ولا ما بينهما من جليل أو حقير أو كبير أو صغير يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، ويرى سريان القوت في الأعضاء، وإن كانت الحيوانات في غاية الصغر وأعضاؤها في غاية الدقة كالبعوضة ونحوها، وأصغر منها بكثير هو خالقها يعلمها ويراها لا إله إلا هو ولا رب سواه، ثم وصف نفسه بعموم رحمته التي وسعت كل شيء، ووصلت إلى كل حي، فهو رحمن الدنيا والآخرة، رحيم بأهل الإيمان، ثم أعاد جل وعلا ذكر الألوهية وانفراده بها، فقال: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ } أي هو المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له الملك الذي له الملك، فهو الموصوف بصفة الملك، وهي صفات العظمة والكبرياء، والقهر، والتدبير الذي له التصرف المطلق في الخلق، والأمر، والجزاء، وله جميع العالم العلوي والسفلي كلهم عبيد ومماليك وفقراء ومضطرون إليه القدوس، الطاهر من كل عيب ونقص المنزه عما لا يليق بجلاله، وعن قتادة: القدوس المبارك السلام أي السالم من جميع النقائص والعيوب؛ لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله، قال ابن القيم - رحمه الله -:
هذا ومن أوصافه القدوس
وهو السلام على الحقيقة سالم ... ذو التنزيل بالتعظيم للرحمن(2/37)
من كل تمثيل ومن نقصان
وقوله تعالى: { المُؤْمِنُ } قال الضحاك عن ابن عباس: أمن خلقه من أن يظلمهم، وقيل: أمن بقوله إنه حق، وقال ابن زيد: صدق عباده المؤمنين في إيمانهم به.
وقوله: { المُهَيْمِنُ } أي الشهيد على عباده بأعمالهم، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي ومقاتل، يقال هيمن يهيمن فهو مهيمن إذا كان رقيبًا على الشيء، وقال الخليل: هو الرقيب الحافظ، كما قال تعالى: { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } ، وقال: { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } الآية، وقوله: { اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ } ، وقوله: { العَزِيزُ } الذي قد عز على كل شيء، وقهر جميع الموجودات ودانت له الخليقة، وخضعت لعظمته فلا ينال جنابه لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه فله أنواع العزة: عزة القوة، وعزة الغلبة، وعزة الامتناع، قال ابن القيم - رحمه الله -:
وهو العزيز فلن يرام جنابه
وهو العزيز القاهر الغلاب لم
وهو العزيز بقوة هي وصفه
وهي التي كملت له سبحانه ... أنى يرام جناب ذو السلطان
يغلبه شيء هذه صفتان
فالعز حينئذ ثلاث معان
من كل وجه عادم النقصان
وقوله: { الجَبَّارُ } هو بمعنى العلي الأعلى، وبمعنى القهار، وبمعنى الرءوف الجابر للقلوب المنكسرة، وللضعيف العاجز ولمن لاذ به ولجأ إليه، قال ابن القيم - رحمه الله -:
وكذلك الجبار من أوصافه
جبر الضعيف وكل قلب قد غدا
والثاني جبر القهر بالعز الذي ... والجبر في أوصافه قسمان
ذا كسرة فالجبر منه دان
لا ينبغي لسواه من إنسان
وله مسمى ثالث وهو العلو، فليس يدنو منه من إنسان من قولهم جبارة للنخلة العليا التي فاتت لكل بنان.(2/38)
وقوله: { المُتَكَبِّرُ } أي المتكبر عن السوء والنقص والعيوب، الذي لا يليق التكبر إلا لعظمته، كما في الصحيح: «العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته»، ثم نزه سبحانه وتعالى نفسه عما يقول المشركون من الصاحبة والولد والشريك والمثيل، فقال: { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } ، وقوله: { هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ } أي هو الله المألوه المعبود ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين الخالق لجميع الأشياء، فما من مخلوق من الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه البارئ الذي برأ الخلق، فأوجدهم بقدرته المصور خلقه كيف شاء على الصفة التي يريدها، والصورة التي يختارها، كقوله تعالى: { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ } ، وقوله: { لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى } أي له تعالى الأسماء الحسنى التي هي أحسن الأسماء لدلالتها على أحسن مسمى وأشرف مدلول.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة، إنه وتر يحب الوتر».
ولا يفيد هذا الحديث حصرها وإنما غايته أن هذه الأسماء موصوفة بأن من أحصاها دخل الجنة بدليل ما ورد عن عبدالله بن مسعود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما أصاب أحدًا قط هم ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحًا»، فقيل: يا رسول الله، ألا نتعلمها؟ فقال: «بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها».(2/39)
ومراتب إحصاء الأسماء الحسنى ثلاث: حفظها، وفهمها، ودعاء الله بها، دعاء مسألة ودعاء عبادة، فدعاء المسألة يكون بلسان المقال، ودعاء العبادة يكون بلسان الحال.
قال ابن القيم - رحمه الله -: والدعاء ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته.
والثاني: أن تسأله بحاجتك وفقرك، وذلك فتقول: أنا العبد الفقير المسكين البائس الذليل المستجير ونحو ذلك.
الثالث: أن تسأل حاجتك ولا تذكر واحدًا من الأمرين، فالأول أكمل وهذه عامة أدعية النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا القول قد جاء من غير واحد من السلف.
قال الحسن البصري: اللهم مجمع الدعاء.
وقال أبو رجاء العطاردي: إن الميم في قوله اللهم فيها تسعة وتسعون اسمًا من أسماء الله تعالى.
وقال النضر بن شميل: من قال: اللهم فقد دعا الله بجميع أسمائه. اهـ. وينبغي لمن سأل الله تعالى أن يسأله بالاسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصوله فطالب المغفرة يقول: يا غفار، اغفر لي، وطالب التوبة يقول: يا تواب، تب علي، وطالب الرزق يقول: يا رزاق، ارزقني، وطالب العلم يقول: يا عليم علمني، وطالب العفو يقول: يا عفو اعف عني، وطالب الهداية يقول: يا هادي اهدني... إلخ.
وأسماء الله وصفاته توقيفية، ومعنى ذلك أنه لا يتجاوز بها الوارد في الكتاب والسُّنة فهي تتلقى عن طريق السمع لا بالآراء، فلا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يسمى إلا بما سمي به نفسه أو سماه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله تعالى: { يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } هذا إخبار منه جل وعلا أنه يسبح له جميع المخلوقات التي في السموات، والتي في الأرض أي تنزهه وتقدسه عما لا يليق بجلاله وعظمته.(2/40)
وقد اختلف في كيفية هذا التسبيح، فقيل: هو على حقيقته بلسان المقال، وإن كان البشر لا يفقهون هذا التسبيح، ويدل على ذلك قوله تعالى في آية «سورة الإسراء»: { وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } فإنه لو كان المراد تسبيح الدلالة لكان أمرًا مفهومًا لكل أحد ويؤيده أيضًا قوله تعالى: { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ } فلو كان هذا التسبيح من الجبال تسبيح دلالة لم يكن لتخصيص داود فائدة.
وقد ثبت في «الصحيح»: أنهم كانوا يسمعون تسبيح الطعام، وهم يأكلون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحديث الجذع الذي كان يخطب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها في «الصحيح»، ومن ذلك تسبيح الحصى في كفه - صلى الله عليه وسلم -.
ومن ذلك ما في الحديث الذي رواه أبو هريرة: بينما رجل يسوق بقرة إذ عيي فركبها، فضربها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا لحراثة الأرض، فقال الناس: سبحان الله، بقرة تتكلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فإني أؤمن بذلك أنا وأبو بكر وعمر».
ومن ذلك ما ورد عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة فخرجنا في نواحيها خارج مكة بين الجبال والشجر، فلم يمر بشجرة ولا جبل إلا قال: سلام عليك يا رسول الله.
وفي الحديث الآخر: بينما رجل في غنم له إذا عدا الذئب على الشاة فأدركها صاحبها، فاستنقذها، فقال الذئب: فمن لها يوم السبع، يوم لا راعي لها غيري.(2/41)
وذكر ابن المبارك في «دقائقه»: أخبرنا مسعر، عن عبدالله بن واصل عن عوف ابن عبدالله قال: قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: إن الجبل يقول للجبل: يا فلان، هل مر بك اليوم ذاكر لله عز وجل؟ فإن قال: نعم، سر به، ثم قرأ عبدالله: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًا } ، قال: أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير.
وفيه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ما من صباح ولا رواح إلا تنادي بقاع الأرض بعضها بعضًا، يا جارة، هل مر بك اليوم عبد فصلى لله، أو ذكر الله عليك؟ فمن قائلة: لا، ومن قائلة: نعم، فإذا قالت: نعم، رأت لها فضلاً عليها.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة».
وفي الحديث الآخر أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل، فقال لهم: «اركبوا سالمة، ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذِكْرًا لِلِهِ منه».
وقال قتادة: عن عبدالله بن أبي، عن عبدالله بن عمرو أن الرجل إذا قال: لا إله إلا الله، فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله من أحد عملاً حتى يقولها، وإذا قال: الحمد لله، فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد قط حتى يقولها، وإذا قال: الله أكبر، فهي تملأ ما بين السماء والأرض، وإذا قال: سبحان الله، فهي صلاة الخلائق التي لم يدع الله أحدًا من خلقه إلا قرره بالصلاة والتسبيح، وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، قال: أسلم عبدي واستسلم.
وفي «سنن النسائي»: عن عبدالله بن عمرو قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الضفدع، وقال: «إن نقيقها تسبيح».(2/42)
وقيل: أن المراد به تسبيح الدلالة بلسان الحال، أي بما تدل عليه صنعتها من قدرة وحكمة، فهي تدل بحدوثها دلالة واضحة على وجود الله وتفرده بالربوبية والوحدانية، كما قيل:
تأمل في نبات الأرض وانظر
عيون من لجين شاخصات
على قضب الزبرجد شاهدات ... إلى آثار ما صنع المليك
بأحداق هي الذهب السبيك
بأن الله ليس له شريك
وقال الآخر:
تأمل سطور الكائنات فإنها
وقد كان فيها لو تأملت خطها ... من الملك الأعلى إليك رسائل
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وقوله تعالى: { وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } تقدم اسمه تعالى العزيز، وأما الحكيم فمأخوذ من الحكمة وله معنيان: أحدهما: بمعنى القاضي العدل الحاكم بين خلقه بأمره الديني الشرعي، وأمره الكوني القدري، وله الحكم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: { لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ، والثاني: أنه محكم للأمر كي لا يتطرق إليه الفساد.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
مما يفهم من آيات الدرس:
1- الأمر بالتقوى.
2- إثبات الألوهية.
3- التنبيه على قرب الساعة من قوله لغد.
4- إثبات البعث.
5- إثبات الحساب.
6- إثبات الجزاء على الأعمال.
7- الحث على محاسبة النفس وتفقدها.
8- تكرير الأمر بالتقوى والاعتصام بها.
9- الحث على الاستحضار للوقوف بين يدي الله.
10- الحث على الإكثار من الأعمال الصالحة؛ لأنها الزاد لذلك اليوم.
11- إثبات الأسماء لله.
12- إثبات صفة الخبرة.
13- دليل على سعة علم الله.
14- الحث على مراقبة الله الذي يرى أعمال العباد ظهرت أو خفيت.
15- لطف الله بخلقه حيث حثهم إلى ما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة.
16- ضرب الأمثال تحذيرًا وإنذارًا.
17- أن من نسي الله أنساه نفسه.
18- أن الجزاء من جنس العمل.
19- إنه حكم عدل.
20- أن العباد هم الذين يظلمون أنفسهم فيقعوا في العقوبات.
21- إن أولئك هم الفاسقون الخارجون عن طاعة الله.(2/43)
22- الموازنة بين من يعمل الحسنات ومن يجترح السيئات.
23- أنه لا يستوي الذين نسوا الله والذين اتقوا الله، وأن بينهما فرقًا واضحًا لكن عمى البصائر لا يبين لها الهدى.
24- فوز حزب الله أصحاب الجنة بالفوز المطلوب والنجاة من المرهوب.
25- دليل علو شأن القرآن وقوة تأثيره في القلوب.
26- دليل على علو الله.
27- دليل على أن القرآن منزل.
28- الرد على من قال إنه مخلوق.
29- الرد على من قال إن هذا عبارة أو حكاية عما في نفس الله.
30- أن الجمادات تخشع لعظمة الله.
31- توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وقلة تخشعه حين قراءة القرآن، وتدبر ما فيه من الزواجر والمواعظ التي تذل لها الجبال الراسيات.
32- إثبات الألوهية.
33- إثبات الوحدانية، إثبات صفة الملك.
34- إثبات صفة التقديس.
35- إثبات الأسماء لله.
36- إثبات صفة السلامة.
37- إثبات صفة الإيمان.
38- إثبات صفة الهيمنة.
39- إثبات صفة العزة.
40- إثبات صفة الجبر.
41- أن الكبرياء لله.
42- الحث على تنزيه الله.
43- النهي عن الشرك.
44- إثبات صفة العلم.
45- إثبات صفة الرحمة.
46- أن الله يعلم الغائب والشاهد.
47- ضرب الأمثال في القرآن.
48- الحث على التفكر.
49- دليل على أن لله الحجة البالغة.
50- دليل على أن الخلق لم يقدرا الله حق قدره، وإلا لما عصوه وأشركوا به من لا ينفع ولا يضر، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
51- إثبات صفة الخلق.
52- إثبات صفة البر.
53- إثبات صفة التصوير.
54- أن لله الأسماء الحسنى.
55- أن ما في السموات وما في الأرض يسبحون لله.
56- إثبات صفة الحكمة.
57- ثبات قدرة الله.
58- الحث على تلاوة القرآن.
59- أن القرآن يلين القلوب القاسية.
60- إثبات صفة الكلام.
61- الرد على من أنكر صفة الكلام.
62- الرد على من أنكر صلة العلم كالجهمية والقدرية.
63- الرد على من أنكر علو الله على خلقه.
64- إن أسماءه حسنى.(2/44)
65- الرد على من قال إن القرآن كلام محمد أو جبريل أو غيرهما، بل هو كلام الله العلي العظيم.
وكان الفراغ من هذا الكتاب في ليلة الثلاثين من صفر بعد صلاة العشاء سنة 1402.
هذا وأسأل الله الحي القيوم العلي العظيم، القوي العزيز القريب المجيب أن يجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به من قرأه ومن سمعه، وأن يأجر من طبعه وقفًا أو أعان على طبعه أو تسبب لطبعه وتوزيعه على إخوانه المسلمين، آمين.
اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبدالعزيز بن محمد بن سلمان
غفر الله له ولوالديه وجميع المسلمين
الفهرس
الموضوع ... الصفحة
خطبة الكتاب ... 5
سورة الفاتحة وتفسيرها ... 7
ما أخذ منها من الفوائد ... 24
من أدلة التوحيد ... 33
مما أخذ من الآيات ... 45
مما أعده الله لعباده المؤمنين ... 49
مما يؤخذ من الآيات ... 58
في إثبات وحدانية الله وأدلتها ... 61
مما يؤخذ من الآيات ... 75
في معنى البر ... 80
مما يؤخذ من الآية الكريمة ... 90
في الصوم وفضل شهر رمضان ... 93
مما يستفاد من الآية الكريمة ... 99
في فضل آية الكرسي ... 104
مما يؤخذ من آية الكرسي ... 116
في متاع الحياة الدنيا وما عند الله خير ... 120
مما يفهم من الآيات من الأحكام ... 132
في التحذير من الرباء ... 137
مما يفهم من الآيات ... 149
الحث على التفكر في خلق السموات والأرض ... 154
مما يفهم من الآيات من الأحكام ... 169
في الحقوق العشرة ... 175
مما يؤخذ من الآية ... 198
في العدل وأداء الأمانة ... 202
مما يؤخذ من الآيات ... 213
في الحث على طاعة الله وطاعة رسوله ... 218
مما يؤخذ من الآيات ... 227
الحث على الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس ... 231
مما يؤخذ من الآيات ... 256
الوضوء والتيمم ... 262
مما يفهم من الآية ... 279
الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... 286
مما يؤخذ من الآيات ... 298
عاقبة من افترى على الله الكذب ... 303(2/45)
مما يفهم من الآيات ... 218
التحذير من فتنة الشيطان ... 322
مما يؤخذ من قوله تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ } الآيات ... 350
مما يفهم من الآية السادسة ... 360
امتنان الله على عباده ببعثه محمد - صلى الله عليه وسلم - ... 367
مما يفهم من الآية ... 379
مثال الحياة الدنيا ... 382
مما يؤخذ من الآية ... 396
من مكارم الأخلاق ... 400
مما يؤخذ من الآية ... 409
بيان موقف إبليس –لعنه الله- من آدم أبي البشر حينما أُمر بالسجود له ... 414
ذكر بعض نعم الله على عباده ... 423
مما يؤخذ من الآيات ... 438
إخبار عن كمال قدرة الله وذكر بعض أحوال يوم القيامة ... 441
ما يؤخذ من الآيات ... 452
من صفات عباد الله المؤمنين ... 457
مما يؤخذ من الآيات ... 478
الحث على الاستقامة والترغيب فيها ... 514
مما يؤخذ من الآيات ... 530
من أدلة الولاء والبراء وبيان حقاره ... 533
الدنيا والتحذير من الإعراض عن القرآن ... 541
مما يؤخذ من الآيات ... 546
مما أعد الله للمتقين، والحث على التبصر في الأنفس ليقوى الإيمان بإذن الله ... 550
مما يؤخذ من الآيات ... 571
الحث على التزود للآخرة وذلك بتقوى الله، وذكر بعض الأسماء الحسنى ... 575
مما يؤخذ من الآيات ... 588(2/46)
وَقْفٌ للهِ تَعَالَى
تَأْلِيفُ
الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ
عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ
الجزء الأول
طُبِِعَ عَلَى نَفَقَةِ مَنْ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وجْهَ اللهِ وَالدَار الآخرةَ فجَزاهُ اللهُ عن الإسلام والمسلمينَ خيرًا وغَفَر له ولوالديه ولمن يُعيدُ طِبَاعَتَه أو يُعِيْنُ عليها أو يَتَسبَب لها أو يُشِيرُ على مَنْ يُؤمِلُ فيه الخيرَ أن يَطبَعَه وقفًا للهِ تعالى يُوزَّع على إخوانِهِ المسلمين
اللهم صل على محمد وعلى آله وسلم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: { إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً * وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً * وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } .(3/1)
يخبر جل وعلا عن شرف القرآن وجلالته في هذه الآية الكريمة بأن هذا القرآن العظيم القدر الذي أعظم الكتب السماوية، وأجمعها لجميع العلوم وآخرها عهد برب العالمين يهدي للتي هي أقوم أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب، وقال ابن الأنباري: التي وصف للجمع، والمعنى: يهدي إلى الخصال التي هي أقوم الخصال.
قال المفسرون: وهي توحيد الله والإيمان به وبرسله والعمل بطاعته، هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهدي وفيما يهديهم، فيشمل الهدى أقوامًا وأجيالاً بلاد حد من زمان أو مكان، ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان.
وقوله: { وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ } الآية، أي أنه يبشر المؤمنين بالله ورسوله الذين يعملون صالح الأعمال، فيأتمرن بما أمروا به، وينتهون عما نهاهم عنه بالأجر العظيم يوم القيامة كفاء ما قدموا لأنفسهم من عمل، كما قال تعالى: { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ } .
وقوله: { إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا } ، وقوله: { وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } أي ويبشر المؤمنين بعذاب أعدائهم، وذلك أن المؤمنين كانوا في أذى المشركين، فجعلهم الله لهم البشارة في الدنيا بعذاب الكافرين، وقيل: إن المراد بالبشارة مطلق الأخبار بما فيه سرور، وللأخيار بما ليس كذلك.(3/2)
وقوله تعالى: { وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً } ذلك أنه جاهل لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها، فيدعو في حال ضجره وغضبه على نفسه وأولاده وأهله وماله بما لا يحب أن يستجاب له فيه كما يدعو لنفسه بالخير، بأن يرزقه ويهب له أولادًا ويعافيه، ولو استجيب له في دعائه بالشر لهلك، ولكن الله من لطفه بعباده لا يستجيب له في ذلك، كما قال تعالى: { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } ، وفي الحديث: «لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها».
وقوله جل وعلا: { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } لما ذكر جل وعلا دلائل التوحيد والنبوة أكدها بدليل آخر من عجائب صنعه وبدائع خلقه، فقال: { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ } وذلك لما فيهما من الإضاءة والإظلام مع تعاقبهما وسائر ما اشتملا عليه من العجائب التي تحار في وصفها الأفهام.
ومعنى كونهما آيتين أنهما يدلان على وجود الصانع وقدرته وحكمته ورحمته ودليلين للخلق على مصالح الدين والدنيا، فلا تتم مصالح الدنيا إلا بهما، قال تعالى: وهو الذي جعل الليل والنهار فيه قولان للعلماء: أحدهما: أن آية الليل: القمر ومحوها ما في بعض القمر من الإسوداد.
وإلى هذا ذهب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابن عباس في آخرين، والثاني: أن آية الليل محيث بالظلمة التي جعلت ملازمة لليل، فنسب المحو إلى الظلمة إذ كانت تمحو الأنوار وتبطلها.(3/3)
ويروى أن الشمس والقمر كانا في النور والضوء سواء، فأرسل الله جبريل فأمر جناحه على وجه القمر، وطمس عنه الضوء، وقوله: { وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } قيل: المعنى مبصرًا بها أي مضيئة تبصر فيها الأشياء.
وقيل: المعنى أنها مبصرة للناس، فالأول: وصف لها بحال أهلها، والثاني: وصف لها بحال نفسها، وقوله: { لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } أي فعلنا ذلك لتطلبوا لأنفسكم فيه رزقًا إذ غالب تحصيل الأرزاق وقضاء الحوائج من تجارة وصنائع، ونحو ذلك يكون بالنهار، ولم يذكر هنا السكون بالليل، والظاهر والله أعلم أنه اكتفاء بما قاله في موضع آخر، قال: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا } ، وكما أنهما آيتان من آياته جل وعلا، فهما أيضًا نعمتان عظيمتان.
قال تعالى في «سورة القصص» ممتنًا على عباده: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
وفي الآية الأخرى، قال: { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا } إلى غير ذلك من الآيات، وقوله: { لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } .(3/4)
هذه مصلحة أخرى تتعلق بمحو آية الليل، وجعل آية النهار مبصرة، وهي معرفة عدد السنين والحساب التي تتوقف عليها مصالح الدنيا والدين؛ لأنهم باختلاف الليل والنهار يعلمون عدد الأيام والأشهر والسنين، فيعرفون أشهر الحج، وأوقات الصلوات، وشهر الصيام، وانتهاء العدد، ومدة الإجارة، والدين، والخيار، والحمل، والإيلاء ونحو ذلك.
وقوله: { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } أي كل ما تفتقرون إليه في أمر دينكم ودنياكم بيناه تبيانًا واضحًا لا لبس فيه، فكل شيء في القرآن مبينًا، كما قال في الآية الأخرى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ } ، وقال مجاهد: كل حلال وحرام، وقول ابن مسعود أعم وأشمل: فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خير ما سبق، وعلم ما سيأتي، وكل حلال وحرام، وما الناس محتاجون إليه في أمر دينهم، وأمر دنياهم معاشهم ومعادهم.
وفي آية «سورة الأنعام» يقول تعالى: { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } ، وفي آية «سورة المائدة» يقول تعالى: { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } .
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لو أغفل شيئًا، لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ستكون فتن»، قيل: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم»، وعن ابن مسعود: من أراد العلم فعليه بالقرآن، فإن فيه خير الأولين والآخرين.
وقال بعض السلف: ما سمعت حديثًا إلا التمست له آية من كتاب الله، وقال سعيد بن جبير: ما بلغني حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله، وقال ابن مسعود: إذا حدثتكم بحديث أنبأتك بتصديقه من كتاب الله.(3/5)
وقال الشافعي: جميع ما حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو مما فهمه من القرآن، وقال - صلى الله عليه وسلم -: إني لا أحل إلا ما أحله كتاب الله ولا أحرم إلا ما حرمه كتاب الله، وقال الشافعي: ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها.
كل ما سمعت يرد على من قال بنقص الدين، وأنه لابد من قوانين، وإليك ما ورد في السُّنة التي تدخل كلها تحت آية من كتاب الله، هي قوله تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «تركتم على الحجة البيضاء كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك».
وقال فيما صح عنه: «ما بعث الله من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم».
وقال أبو ذر: لقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا.
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقامًا، فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه.
وقوله: { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } في الطائر أربعة أقوال: أحدها: أنه شقاوته وسعادته، قاله أبو صالح عن ابن عباس، قال مجاهد: ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد، والثاني: أن المراد بالطائر عمل الإنسان الذي يصدر منه، والثالث: أنه ما يصيبه، والرابع: أنه ما يتطير من مثله من شيء عمله وأقر بها فيما يظهر، والله أعلم القول الثاني.(3/6)
وقوله: { أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } أي جعلنا عمله أو ما سبق له من شقاوة أو سعادة في عنقه، وتخصيص العنق لظهور ما عليه من زائن كالقلادة والطوق أو شائن كالأغلال، ولأنه العضو الذي يبقى مكشوفًا يظهر ما عليه وينسب إليه التقدم والشرف، ويعبر به عن الجملة وسيد القوم، فالمعنى: ألزمناه له لزوم القلادة، أو الغل لا ينفك عنه أبدًا.
وقوله: { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا } أي ذلك العمل الذي ألزم الإنسان إياه يخرج له يوم القيامة في كتاب يلقاه مفتوحًا يقرؤه، يعطاه بيمينه إن كان سعيدًا، أو بشماله إن كان شقيًا، فيه جميع عمله من أول عمره إلى آخره.
قال تعالى: { يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } ، وقال تعالى في صفة هذا الكتاب: { وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } .
وقوله تعالى: { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } أي يقال له: اقرأ كتاب عملك الذي عملته في دار الدنيا، وكان الملكان يكتبانه ويحصيانه عليك، وأنت تعلم أنك لم تظلم ولم يكتب عليك إلا ما عملته؛ لأنك ذكرت جميع ما كان منك، ولا ينسى أحد شيئًا مما كان منه ولا يقدر على إخفائه أو تجاهله أو المغالطة.(3/7)
وحسبك اليوم نفسك عليك حاسبًا تحسب عليك أعمالك، فتحصيها، لا نبتغي عليك شاهدًا غيرها ولا نطلب محصيًا سواه،وتلا الحسن البصري قوله تعالى: { عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك؛ فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسنات، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك، فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتابًا تلقاه منشورًا { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } فقد عدل والله من جعلك حسيب نفسك.
وقوله تعالى: { مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } يخبر تعالى أن من اهتدى واتبع الحق واستقام واقتفى أثر النبوة، ففعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، فإنما تحصل عاقبة ذلك الحميدة لنفسه.
ومن ضل عن الحق وزاغ في سبيل الرشاد، فإنما يجني على نفسه وإنما يعود وبال ذلك عليه؛ لأنه هو الذي يجني ثمرة عواقبه السيئة الوخية، فيخلد في النار، وهذه الآية كقوله تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } ، وقوله: { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } .
وقوله تعالى: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يجني جان إلا على نفسه، كما في قوله تعالى في «سورة فاطر»: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } .(3/8)
ولا منافاة ولا تناقض بين هذه وبين قوله تعالى: { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } ، وقوله ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة، ومن أوزوار الذين يضلونهم بغير علم، وقوله تعالى: { مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا } .
فإن الدعاة إلى الضلال عليهم إثم ضلالهم في أنفسهم وإثم آخر وهو وزر إضلالهم لغيرهم من غير أن ينقص من أوزار أولئك شيء، وهذا عدل من الله ورحمة بعباده؛ لأن من سن سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها، وإنما أخذ بعمل غيره؛ لأنه هو الذي سنه وتسبب فيه، فعوقب عليه من هذه الجهة.
وفي «صحيح مسلم» من حديث جرير بن عبدالله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سن في الإسلام سُّنة حسنة، فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سُّنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء».
وفي حديث أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيء»، وأما حديث بن عمر - رضي الله عنهما -: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه» فالحديث محمول على ما إذا أوصي بذلك، كقول طرفة بن العبدي:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الثوب يا ابنت معبد
لأنه إذا كان أوصي بأن يناح عليه، فتعذيبه بسبب إيصائه بالمنكر، وذلك من فعله لا فعل غيره.
وقوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } يخبر تبارك وتعالى وتقدس عن عدله ورحمته بخلقه وأنه لا يعذب أحد، إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسل إليه.(3/9)
وقال تعالى: { رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } ، وقال تعالى: { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ } الآية.
وقال إخبارًا عن اعتراف أهل النار بذلك: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ } الآية.
وقال تعالى منهم: { وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ العَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ } .
وقال تعالى: { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الكَافِرِينَ } .
وقال تعالى: { وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } الآية.(3/10)
وقوله تعالى: { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } اختلف علماء التفسير في معنى أمرنا القول الأول أن المراد القدري الكوني، أي قدرنا عليهم ذلك وسخرناهم له؛ لأن كلاً ميسر لما خلق له.
والأمر الكوني القدري كقوله تعالى: { أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا } ، وقوله: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ، وكقوله: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ، وكقوله: { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } .
القول الثاني: أن المعنى أكثرنا مترفيها، ففسقوا فيها، تقول العرب: أمر القوم أي كثروا، وقرأ بعضهم بالتشديد وهي قراءة علي بن أبي طالب، وأبو عثمان النهدي، وأبو رجاء العالية، والربيع، ومجاهد، والحسن، أي سلطانا شرارها فعصوا فيها، وقرئ بالمد والتخفيف: أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها.
والقوال الأخير - وهو أرجح الأقوال عندي -: أن المعنى أمرناهم بطاعة الله وتوحيده وتصديق رسله وإتباعهم فيما جاءوا به، ففسقوا أي خرجوا عن طاعة الله وطاعة رسله، وهذا كما تقول أمرته فعصاني، وليس المراد الأمر بالفسق، فإن الله لا يأمر بالفحشاء، والله أعلم بالصواب.
وأما المتروفون، ففي كل أمة طبقة السادة والكبراء الناعمين الذين يجدون المال والخدم والراحة والتنعم والترفه، وخص المترفيه بالذكر مع توجيه الأمر إلى الجميع؛ لأنهم القادة وأئمة الفسق والضلال، وما وقع من غيرهم فبسببهم، كما حكى الله عنهم: { وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ } ولأن توجه الأمر إلى أئمة الفسق ورؤساء الضلال آكد.(3/11)
وقال سيد قطب: «والمترفون في كل أمة: هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال، ويجدون الخدم، ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة، حتى تترهل نفوسهم وتأسن وترتع في الفسق والمجانة، وتستهر بالقيم و المقدسات والكرامات، وتلغ في الأعراض والحرمات.
وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادًا، نشروا الفاحشة في الأمة، وأشاعوا وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش إلا بها، ومن ثم تحلل الأمة وتسترخي وفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها، فتهلك، وتطوى صحيفتها، والآية تقرر سُّنة الله هذه.
فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة؛ لأنها أخذت بأسباب الهلاك، فكثر فيها المترفون فلم تدافعهم، ولم تضرب على أيديهم سلط الله هؤلاء المترفين، ففسقوا فيها، فحقت عليها سنة الله وأصابها الدمار والهلاك.
وهي المسئولة عما يحل بها؛ لأنها لم تضرب على أيد المترفين ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ما استحقت الهلاك، قال: والقرآن يصف المترفين أحيانًا بسقوط الهمة وضعف القوة وهبوط الأريحة: { وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَئْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ القَاعِدِينَ } .(3/12)
وقال ثم يأتي في القرآن أحيانًا عن المترفين في التاريخ، فإذا هم دائمًا يقفون في سبيل الهدى لأنفسهم ولأتباعهم المستضعفين: { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ } ، وقال: { وَقَالَ المَلأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ } .
قال: ولا غرابة في هذا، فالمترفون حريصون على حياتهم الرخوة الشاذة المريضة، حريصون على شهواتهم ولذائذهم، حريصون على أن تكن من حولهم حاشية وبطانة خاضعة لنفوذهم، والهدى والإيمان والدين يحرمهم الكثير مما يحرصون عليه ويحدد لهم سبل المتاع المباح.
وهو بالقياس إليهم قليل ضئيل لا يرضي مرضى نفوسهم، وترهل شهواتهم ويرفع قيم الناس جميعًا، فلا يكون لهم من السلطان المطلق على المستضعفين ما يجعلهم أدوات خاضعين وآلات منفذة ويحرمهم الخرفات والأوهام والأساطير التي يحيطون بها أنفسهم ويستغلونها في المجتمعات الضالة الجاهلة المستسلمة لذلك هم أعداء كل هدى وكل عرفان» اهـ.
بسم الله الرحمن الرحيم
من ما يشمله أو مما يدخل تحت قول الله تعالى: { إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } :
1- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بتوحيد الله في ربوبيته.
2- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بتوحيد الله في عبادته.
3- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بتوحيد الله في صفاته.
4- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بتوحيد الله في أسمائه وأفعاله.
5- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بذكر الله الذي فيه حياة القلوب.(3/13)
6- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بتدبير القرآن الكريم، قال تعالى: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } .
7- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أنه جامع لما فيه صلاح الدنيا والدين، قال تعالى: { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } ، وقال تعالى: { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } .
8- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بإتباع القرآن، قال تعالى: { اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ } .
9- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الإرشاد إلى من اتبع القرآن لا يضل ولا يشقى، قال تعالى: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى } .
10- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير عن الإعراض عن القرآن، قال تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى } .
11- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على العمل بالقرآن والتمسك به، قال الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ } الآية.
12- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أن القرآن فيه شفاء للمؤمنين، قال تعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } .
13- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أن القرآن محفوظ عن التبديل والتغيير العام، قال تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ، وقال تعالى: { لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } الآية.(3/14)
14- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: أمر العباد بالصلاة التي هي الصلة بينهم وبين ربهم، لما فيها من المنافع العظيمة في الدنيا والآخرة التي يحصيها العد، قال تعالى: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } ، وقال تعالى: { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } الآية.
15- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على الخشوع فيها، قال تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } .
16- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بها جماعة لنا فيها من التواصل والتوادد والمصالح العظيمة، قال تعالى: { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } ، وقال تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } .
17- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من السهو في الصلاة حتى يخرج وقتها، قال تعالى: { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ } .
18- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بصلاة الجمعة؛ لما فيها من المنافع العظيمة التي منها إقامة شعائر الإسلام، ولما فيها من التواصل و التوادد، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } الآية.
19- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: حث العباد على الابتغاء من فضل الله، قال الله تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ } .
20- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على ذكر الله، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا } ، وقال: { وَاذْكُرُوا اللَّّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ، وقال: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } ، وقال: { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } .(3/15)
21- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بصلاة العيدين؛ لما فيها من المصالح العظيمة التي منها: إقامة شعائر الإسلام، قال الله تعالى: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } .
22- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالطهارة المعنوية من الشرك والرياء والحسد والكبر والعجب، قال الله تعالى: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } .
23- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالطهارة الحسية من الحدث الأكبر والأصغر، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } ، وقال عن أهل قباء: { رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } .
24- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على النوافل؛ لما فيها من الفوائد الكثيرة، والمراد بالنوافل الرواتب والوتر، وقيام الليل، وركعتي الضحى... إلخ، قال الله تعالى: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ } ، وقال تعالى: { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } ، وقال تعالى: { كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } .
25- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالزكاة لما فيها من الفوائد العظيمة التي لا تعد في الدنيا والدين، قال تعالى: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } ، وقال تعالى: { وَآتُوا الزَّكَاةَ } .
26- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: أنها في السنة مرة واحدة الإنتاج السائمة وربح التجارة، ولو لم يتم عليهما الحول؛ لأن حولهما حول أصلها وإلا ما كان مما لا يشترط له تمام الحل كالزرع، قال الله تعالى: { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } .
27- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: أن زكاة الحبوب والثمار لا تتكرر إلا إذا كانت عروض بأن أعدت للبيع والشراء.(3/16)
28- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: تبيين طرق صرف الزكاة، قال الله تعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ } الآية.
29- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الترغيب في إخراجها والحث عليه، قال تعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } ، وقال في حق المؤمنين: { وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } ، وقال: { وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } .
30- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بصيام رمضان لما فيه من الفوائد الجمة والمصالح في الدنيا والآخرة، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } الآية، وقال: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } .
31- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: أنه شوق على صيامه وحث عليه، قال تعالى: { وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ } الآية، وقال تعالى في آخر آية الصيام: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } .
32- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: تحديد وقت الصيام بمدة كل يقدر عليها، إلا من به مرض أو مسافر أو كبير، قال تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } .
33- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على تكميل عدة رمضان وعلى تكبير الله، قال الله تعالى: { وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .(3/17)
34- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: إباحة الرفث في ليالي رمضان، والرفث: هو مجامعة النساء، قال الله تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } لما في ذلك من اليسر وإزالة المشقة.
35- الحث على صدقة الفطر لما فيها من الفوائد الكثيرة، وقال تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى } ، قال سعيد بن المسيب وعمر ابن عبدالعزيز: هو زكاة الفطر.
36- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الإخبار بأن من أداها حصل على الفلاح الذي هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب.
37- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالحج لمن استطاع إليه سبيلاً لما فيه من المصالح والفوائد الكثيرة، قال تعالى: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } ، وقال تعالى: { وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } .
38- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: أن من لم يستطع إليه سبيلاً لا إثم عليه.
39- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: أن الحج في العمر مرة واحدة، وما زاد فهو تطوع قال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } .
40- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على الطواف بالبيت، قال تعالى: { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ } .
41- الحث على الطواف بالصفا والمروة، قال الله تعالى: { فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } .(3/18)
42- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله لما في ذلك من المصالح العظيمة والفوائد الجزيلة دنيا وأخرى، قال الله تعالى: { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } ، وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ } الآية، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } الآية.
43- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: التشويق إلى الجهاد والوعد عليه بالثواب العظيم والإخبار بأنهم إذا قتلوا في سبيل أنهم أحياء عند ربهم، قال الله تعالى: { وَلاَ تَقُولُوا لِمْن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } ، وقال: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } الآيات، وهذا مما يجعل المؤمن يتلهف على الجهاد، ويتمناه أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يقيم علم الجهاد، وأن يرزقنا الشهادة في سبيله إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
44- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى ما يعينهم على الجهاد، قال الله تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ } ، وقال تعالى: { وَخُذُوا حِذْرَكُمْ } .(3/19)
45- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الإخبار بما ينشط العزائم ويقويها من الوعد بالنصر، قال الله تعالى: { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ } ، وقال تعالى: { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ } ، وقال تعالى: { إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } ، وقال: { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } إلى غير من الآيات.
46- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالعدل والحث عليه؛ لما فيه من المصالح العظيمة، قال الله تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } ، وقال تعالى: { وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ } .
47- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالمعروف؛ لما فيه من المصالح العظيمة، قال الله تعالى: { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ } ، وقال تعالى: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ } .
48- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: النهي عن المنكر؛ لما في المنكر من الأضرار والمفاسد والشرور، قال تعالى في حق المؤمنين: { يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ } ، وأخبر عمن لا يتناهون عن المنكر أنهم لُعِنُوا، قال تعالى: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } الآية.
49- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان عاقبة من لم يتناهوا عن المنكر؛ ليحذر العباد فيتناهون عن المنكر.(3/20)
50- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الدفع بالتي هي أحسن لمن اعتدى عليك؛ لما في ذلك من دفع الشرور وجلب المودة، قال الله تعالى: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } .
51- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: حل البيع والشراء؛ لما في ذلك من المصالح التي منها توصل كل إنسان إلى حاجته ومقصده، قال الله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ } الآية، وقال تعالى: { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ } ، وقال تعالى: { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ } .
52- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: تحريم الربا؛ لما فيه من الأضرار والشرور والمفاسد، قال الله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } ، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } الآيتين، وقال: { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } .
53- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: أنه بين عاقبة من لم ينزجر ويرتدع عن الربا، قال تعالى: { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ، وأخبر جل وعلا أن { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ } .
54- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالإشهاد على التبايع؛ لما في ذلك من المصالح، قال تعالى: { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } .
55- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: حل التداين وجوازه؛ لما في ذلك من المصالح، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } الآية.(3/21)
56- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الإرشاد إلى الكتابة؛ لما في ذلك من المنافع، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } .
57- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم الإرشاد إلى تبيين الأجل؛ لما في ذلك من المصالح ودرء المفاسد، قال الله تعالى: { إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } الآية.
58- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: أمر الكاتب للدين العدل؛ لما في ذلك من المصالح، قال تعالى: { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ } .
59- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: أنه إذا كان من عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يمل هو أنه يملل وليه بالعدل، وهذا من لطف الله بعباده ورحمته لهم، قال تعالى: { فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } .
60- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بإنظار المعسر؛ لما في ذلك من الإحسان والأجر العظيم حيث رفق بأخيه المسلم، قال تعالى: { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } الآية.
61- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر باتقاء الرب جل وعلا؛ لما في ذلك من المصالح التي منها الاعتراف بجميع الحقوق البينة والخفية، قال الله تعالى: { وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } .
62- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: النهي عن البخس من الحق شيئًا؛ لما في عدم البخس من الوفاء والعدل، قال تعالى: { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا } .
63- أن من هدي القرآن: الإرشاد إلى ما هو سبب للتآلف والتصافي والتواد من الأمر بالعدل والنهي عن الامتناع من الكتابة، قال الله تعالى: { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ } .(3/22)
64- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: أن الإضرار بالكاتب والشهود فسوق بالإنسان، قال تعالى: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } .
65- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان مشروعية الوثيقة بالحقوق، وهي الرهون والضمانات التي تكفل للعبد بإذن الله حصوله على حقه، كما هو واضح من آية الدين والتي بعدها فتأمل.
66- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: تعليم العباد الأمور الدنيوية المتعلقة بالمعاملات، فإن الله حفظ على عباده أمور دينهم ودنياهم، كما يعلم من الآيات فتدبرها.
67- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: أمرنا بالاستعانة بالصبر في أمورنا كلها بالصبر على طاعة الله، والصبر على معصية الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة، فبالصبر معونة عظيمة لمن وفقه الله.
68- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالاستعانة بالصلاة على كل الأمور، قال الله تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ } .
69- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: حث الآمر بالبر على أن لا ينسى نفسه، فإن خالف ونسيها بأن أمر غيره الخير ولم يفعله، أو نهى عن الشر وفعله ولم يتركه، دل على عدم عقله وعلى جهله، قال الله تعالى: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
70- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: جواز الكفالة؛ لما فيها من حفظ الحقوق وفك المشاكل ونحو ذلك، قال الله تعالى: { وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } أي كفيل.
71- من هدي للقرآن للتي هي أقوم: جواز الوكالة؛ لما فيها من المصالح والمنافع، قال الله تعالى: { فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى المَدِينَةِ } ، وقال: { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ } ، وقال: { وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } .(3/23)
72- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: جواز الشركة؛ لما فيها من الفوائد والمصالح والبركات، قال تعالى: { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ } الآية.
73- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: جواز الضمان، قال تعالى: { وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } ولا يخفى ما في الضمان من الفوائد.
74- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالصلح، قال الله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } ، وقال: { فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } ، ولا يخفى ما في الصلح من المصالح والفوائد العظيمة.
75- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: جواز الإجارة لدعاء الحاجة إليها، وللمصالح المتعددة، قال الله تعالى: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } ، وقال: { عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } .
76- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: مشروعية العارية؛ لما فيها من المنافع والمصالح دنيا وأخرى، قال تعالى: { وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ } .
77- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: جواز المسابقة؛ لما فيها من الإعانة على الجهاد، قال تعالى عن إخوة يوسف: { إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } ، وقال: { وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ } ، وقال: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } .
78- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: جواز الوديعة للأمر بأدائها، قال تعالى: { فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } ، وقال: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } ، ولا يخفى ما فيها من المصالح والمنافع والفوائد.(3/24)
79- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: جواز الهبة؛ لما فيها من المصالح التي من جملتها جلب التوادد والتواصل، قال تعالى: { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا } ، وقال: { وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ } .
80- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: مشروعية الوصية؛ لما فيها من الفوائد والمصالح دنيا وأخرى، قال الله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ } ، وقال: { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } .
81- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: إعطاء الزوج النصف إن لم يكن ولد، والربع إن كان لهن ولد، ولا يخفى ما في هذا من الحسن والعدل، قال تعالى: { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ } .
82- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: إعطاء الزوجة الثمن مع الولد، والربع مع عدمه، قال تعالى: { وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ } ، وقال: { فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } .
83- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: أن بين أن ميراث الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا في غاية الحسن والعدل، قال تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } .
84- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: أنه إذا كن نساء فوق اثنتين لهن الثلثان، قال تعالى: { فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } وهذا كالأول في غاية الحسن والعدل.
85- أنها إذا كانت واحدة لها النصف؛ للآية الكريمة: { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } .(3/25)
86- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: أن لكل واحد من الأبوين السدس مما ترك إن كان له ولد، قال تعالى: { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ } .
87- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: أنه إذا لم يكن له ولد وورثه أبواه أن لأمه الثلث، وأن الباقي للأب لإضافة المال إلى الأب والأم إضافة واحدة، ثم قدر نصيب الأم فدل ذلك على أن الباقي للأب، قال تعالى: { فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ } .
88- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: أنه إذا كان له إخوة أن للأم السدس من بعد الوصية، والدين أي الباقي بعد ذلك لها سدسه، قال تعالى: { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } .
89- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: تقسيم الفرائض كلها قسمة مرضية عادلة حسنة تشهد لها العقول الصحيحة السليمة المنصفة، ولا يطعن بها أو يعترض إلا من عميت بصيرته، أو فسد عقله، أو ملحد، أو زنديق.
90- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الترغيب في العتق والحث عليه؛ لما فيه من المصالح والمنافع دنيا وأخرى، قال تعالى: { فَكُّ رَقَبَةٍ } ، وقال: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } .
91- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على مكاتة الأرقاء؛ لما فيها من المنافع والسيد، قال الله تعالى: { فَكَاتِبُوَهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْر } الآية.
92- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: مشروعية النكاح؛ لما فيه من الفوائد الجمة والمنافع الكثيرة دنيا وأخرى، قال تعالى: { فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ } ، وقال: { وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ } الآية.(3/26)
93- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: أمر من لم يستطع النكاح أن يستعفف، قال تعالى: { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } .
94- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى حل المشاكل التي تقع بين الزوجين، كالنشوز، قال تعالى: { وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ } الآية، وقال: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } .
95- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: إباحة الطلاق عند الحاجة أو الضرورة؛ لما في ذلك من المصالح ودرء المفاسد، قال تعالى: { لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ } الآية، وقال: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } ، وقال: { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ } .
96- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بطلاق النساء لعدتهن أن تكون طاهرة طهرًا لما يجامعها فيه؛ لما في ذلك من المصالح العديدة للطرفين، قال: { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } .
97- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالعشرة بالمعروف؛ لما في ذلك من المصالح، قال تعالى: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } ، وقال: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } .
98- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: النهي عن إرث النساء كرهًا؛ لما في ذلك من المفاسد، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } .
99- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: النهي عن عضل النساء؛ لما فيه من الضرر عليها، قال تعالى: { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } الآية.(3/27)
100- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على إمساك الزوجة مع الكراهة؛ لأن في ذلك خيرًا كثيرًا من ذلك امتثال أمر الله وقبول وصيته، قال تعالى: { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } .
101- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: أن للزوج رجعه من طلقها دون ثلاث تطليقات ولا يخفي ما في ذلك من الحكم والمنافع، قال تعالى: { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا } .
102- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان عدة الحامل، وذلك بوضعها، قال تعالى: { وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } .
103- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان عدة المتوفي عنها زوجها بلا حمل منه للحرة أربعة أشهر وعشر ليتبين الحمل ويتحرك، قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } .
104- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: أن المطلقات من ذوات الأقراء عدة الواحدة ثلاثة أشهر، قال تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ } .
105- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أنه لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر.
106- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أن للنساء مثل الذي عليهن بالمعروف وأن للرجال عليهن درجة، قال الله تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } ولا يخفى ما في ذلك من الحكم والفوائد.(3/28)
107، 108- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أن عدة الآيسة والتي لم تحض ثلاثة أشهر، قال الله تعالى: { وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ } .
109- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: تحريم زوجة الأب على الابن، قال الله تعالى: { وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً } .
... ومن هدي القرآن للتي هي أقوم تحريم كل واحدة مما يلي:
110- الأم.
111- والبنت.
112- والأخت.
113- والعمة.
114- والخالة.
115- وبنات الأخ.
116- وبنات الأخت.
117- والأم من الرضاع.
118- وأم الزوجة.
119- والربيبة.
120- والجمع بين الأختين.
121- والمحصنات من النساء أي ذوات الأزواج.
122- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: إباحة تعدد الزوجات إلى الأربع لعدة مصالح من أعظم ذلك تكثير النسل للمباهات.
123- الحث على العدل بين الزوجات ولا يخفى ما في العدل من المنافع ودفع المضار والسلامة من شرور الدنيا والآخرة.
124- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: أمر من خاف أن لا يعدل بين الزوجات بالاقتصار على واحدة، قال تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } .
125- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: قطع أطماع المؤمنين في إيمان أهل الكتاب، قال الله تعالى: { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .(3/29)
126- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالاستقامة التي هي الاعتدال في الأمور كلها، قال تعالى: { فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ } ، وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } ، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } .
127- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على المشاورة، قال تعالى: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } ، وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } .
128- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: النهي عن الظلم والتحذير منه، قال تعالى: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ } ، وقال تعالى: { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } .
129- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالإحسان إلى الوالدين، قال تعالى: { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } ، وقال: { وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا } الآية.
130- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: النهي عن الإساءة إليهما؛ لما فيها من العقوق، قال تعالى: { فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } .
131- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: توصية الله للعباد بشكره وبشكر الوالدين، قال تعالى: { وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } .
132- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بصلة الأرحام، قال تعالى: { وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } .
133- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: النهي عن قطيعة الرحم لما فيها من الشرور والآثام، قال تعالى: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } .(3/30)
134- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالإحسان إلى اليتيم؛ لما في ذلك من العطف والرحمة، قال الله تعالى: { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } .
135- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالإحسان إلى الجار، قال الله تعالى: { وَالْجَارِ ذِي القُرْبَى وَالْجَارِ الجُنُبِ } .
136- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالإحسان إلى ابن السبيل، قال تعالى: { وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } .
137- الأمر بالإحسان إلى المساكين؛ لقوله تعالى: { وَالْمَسَاكِينِ } ، وقوله: { أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } .
138- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على الوفاء بالعهد، قال تعالى: { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } ، وقال: { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً } .
139- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: النهي عن نقض الإيمان بعد توكيدها؛ لما في ذلك من الأضرار والشرور والمفاسد، قال تعالى: { وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } .
140- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على التفهم والتعقل لآيات الله، التي منها ما يلي:
141- خلق السموات.
142- خلق الأرض.
143- اختلاف الليل والنهار.
144- { فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الَليْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ } .
145- الماء النازل من السماء.
146- بث الدواب في الأرض.
147- تصريف الرياح، تصريف السحاب.
148- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالأكل من الطيبات؛ لما في ذلك من المصالح العظيمة، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا } .(3/31)
149- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: النهي عن اتباع خطوات؛ لما فيها من الشرور ولمفاسد والأضرار، قال تعالى: { وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } الآية.
150- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من الشيطان العدو المبين؛ لما في ذلك من الانتباه والابتعاد عنه دائمًا مدى العمر، فهو لنا بالمرصاد ويرانا ولا نراه فالاحتراز عنه صعب إلا على من وفقه الله، فهو سهل، قال الله تعالى: { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } ، وقال: { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } ، وقال: { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } .
151- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان ما هو سبب لشكر الله وحمده، وهو أنه خلق لعباده ما في الأرض جميعًا، قال تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا } .
152- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من اليهود وأنهم أشد الناس عداوة للمؤمنين، قال تعالى: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ } ، وقال: { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } الآية.
153- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: أن اليهود والنصارى لا يرضون إلا لمن اتبع ملتهم، فلا طمع في رضاهم، قال تعالى: { وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } ، وقال تعالى: { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا } .(3/32)
154- أن الكفار من أهل الكتاب والمشركين ما يودون للمؤمنين الخير فلنكن منهم على حذر، قال تعالى: { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } الآية.
155- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على التمسك بالإيمان والحذر من تبديله بالكفر والعياذ بالله، قال تعالى: { وَمَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } .
156- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على تقديم ما ينفع ليستعد الإنسان ويأخذ أهبته ويقدم ما استطاع، قال تعالى: { وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ } ، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } .
157- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على الإخلاص والإحسان؛ ليأمن العبد ولا يحزن، قال تعالى: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
158- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من منع بيوت الله أن يذكر فيها الله؛ لما في ذلك من الآثام والشرور والمفاسد، قال الله تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } الآية.
159- أن من هدي القرآن للتي هي أقوم: تحريم الشرك بالله؛ لما في من الشرور والمضار والمفاسد التي لا يحصرها العد في الدنيا والآخرة، قال تعالى: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ، وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } ، وقال: { وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } .(3/33)
160- من هدي القرآن للتي هي أقوم تحريم القول على الله بلا علم في شرعه وأسمائه وصفاته؛ لما فيه من المفاسد والشرور والأضرار دنيا وأخرى، قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ } إلى قوله: { وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
161- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تحريم قتل النفس بغير حق؛ لما فيه من المفاسد العظيمة، قال تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ } ، وقال: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } .
162- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تحريم الزنا؛ لما فيه من المفاسد والشرور والمضار، قال تعالى: { وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً } .
163- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تحريم اللواط؛ لما فيه من المفاسد والشرور والأضرار والآثام، قال الله تعالى: { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } ، وقال: { أَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ } ، وقال: { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } ، وقال في لوط: { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القَرْيَةِ الَتِي كَانَت تَّعْمَلُ الخَبَائِثَ } .
164- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تحريم القذف؛ لما فيه من المفاسد والشرور، قال تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوَهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } الآية.(3/34)
165- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تحريم التولي يوم الزحف؛ لما فيه من إدخال الخلل على صفوف المسلمين، قال تعالى: { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ } .
166- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تحريم التطفيف بالكيل أو الوزن؛ لما فيه من الظلم والمفاسد، قال الله تعالى: { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوَهُمْ أَو وَزَنُوَهُمْ يُخْسِرُونَ } الآية.
167- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تحريم البغي بغير الحق؛ لما فيه من الأضرار والمفاسد، قال الله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ } .
168- تحريم القنوط من رحمة الله؛ لما فيه من المفاسد والشرور، قال الله تعالى: { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ } .
169- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تحريم سوء الظن بالله؛ لما فيه من الشرور والآثام دنيا وأخرى، قال تعالى: { الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ } ، وقال: { وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا } ، وقال: { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ } .
170- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على التوبة؛ لما فيها من المنافع العظيمة والفوائد الجسيمة إذا اجتمعت الشروط، وانتفت الموانع، قال الله جل وعلا وتقدس: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ، وقال: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } .(3/35)
171- من هدي القرآن للتي هي أقوم: النهي عن الغيبة؛ لما فيها من المفاسد، قال الله تعالى: { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا } .
172- من هدي القرآن للتي هي أقوم: النهي عن التجسس على المسلمين؛ لما فيه من المفاسد والمضار والآثام، قال الله تعالى: { وَلاَ تَجَسَّسُوا } ، وقال: { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } .
... ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: تحريم كل واحد مما يلي:
173- الميتة.
174- الدم المسفوح.
175- لحم الخنزير.
... لما في ذلك من المضار والمفاسد، قال الله جل وعلا: { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } ، وقال تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ } .
176- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تحريم كتمان الشهادة؛ لما فيه من الإثم والفساد الأضرار، قال تعالى: { وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } .
177، 178- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تحريم قتل الأولاد خشية الإملاق ووأد البنات؛ لما في ذلك من المفاسد والأضرار والشرور، قال الله تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } ، وقال عز من قائل: { وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } ، وقال: { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } .
... ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: تحريم ما يلي:
179- الخمر.
180- الميسر.
181- الأنصاب.
182- الأزلام.
... قال الله تعالى: { إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .(3/36)
183- من هدي القرآن للتي هي أقوم: النهي عن الإسراف؛ لما فيه من الأضرار، قال الله تعالى: { وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ } ، وقال: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا } ، وقال: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } .
184- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تحريم الكبر؛ لما فيه من المفاسد والشرور والأضرار، قال تعالى: { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْتَكْبِرِينَ } ، وقال تعالى: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } ، وقال تعالى: { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ } الآية، وقال: { إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ } .
185- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تحريم السحر؛ لما فيه من المفاسد والأضرار والآثام، قال تعالى: { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } .
186- من هدي القرآن للتي هي أقوم: النهي عن السخرية بالناس، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ } الآية، وقال: { وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
187- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تحريم افتراء الكذب على الله؛ لما فيه من الشرور والمفاسد والمضار، قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } ، وقال: { وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } .
188- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بقطع يد السارق؛ لما في ذلك من المصالح العظيمة، قال الله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .(3/37)
189- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بقتال الطائفة الباغية؛ لما في ذلك من كف الاعتداء وقمع الشرور وللمصالح العظيمة، قال الله تعالى: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي } الآية.
190- من هدي القرآن للتي هي أقوم: النهي عن قربان الحائض حتى تطهر؛ لما في من المصالح والابتعاد عما يضر، قال تعالى: { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } .
191- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تولي الكفار؛ لما فيه من المفاسد والشرور والأضرار، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ } ، وقال تعالى: { لاَ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ } .
192- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى حل المشاكل والمخاصمات، قال في حق الزوجين: { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } ، وقال: { فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } .
... وقال مرشدًا إلى القرعة: { إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } ، وقال: { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ } .
193- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالتثبت في خبر الفاسق، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } ، ونهى عن قبول شهادة الفاسق، فقال تعالى: { وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ } .(3/38)
194- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى التوسط في الأمور، قال تعالى: { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ } الآية.
195- من هدي القرآن للتي هي أقوم: حث العباد على العمل والكسب؛ لما في ذلك من المصالح العظيمة، قال تعالى: { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ } ، وقال: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ } ، وقال: { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ } .
196- من هدي القرآن للتي هي أقوم: النهي عن الإسراف في الأكل والشرب، قال تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا } .
197- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على الدعوة إلى الله؛ لما فيه من المصالح والمنافع التي لا تعد ولا تحصى دنيا وأخرى، قال تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ } ، وقال: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ } ، وقال: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } الآية.
198- من هدي القرآن للتي هي أقوم: النهي عن الجدل بالباطل في آيات الله؛ لما في ذلك من المفاسد والشرور، قال الله تعالى: { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } ، وقال: { وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } .
199- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على التفكر في آيات الله؛ لما في ذلك من تقوية الإيمان وزيادة العلم وكثرة الأجر، قال تعالى: { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } ، وقال: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ، وقال: { فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } .(3/39)
200- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بتسبيح الله؛ لما في ذلك من المنافع دنيا وأخرى، قال: { وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } ، وقال: { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ } ، وقال: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ } .
201- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على حمد الله؛ لأنه هو المستحق لذلك الذي له الحمد في الأولى والآخرة، قال الله تعالى: { الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ } ، وقال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } .
202- الحث على تمجيد الله؛ لما في ذلك من المنافع الدنيوية والأخروية، قال تعالى: { إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ } .
203، 204- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على العفو والصفح؛ لما فيهما من الإحسان والثواب الجزيل، قال الله تعالى: { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } ، وقال: { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا } ، وقال: { فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } .
205- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الابتعاد عن التنطع في الدين والتشديد فيه لما في قصة البقرة وتكرير السؤال منهم والاستفهام حتى شددوا على أنفسهم، قال تعالى: { قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ } ، إلى قوله: { وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } .
206- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على طلب الهداية من الله؛ لما فيه من خير الدنيا والآخرة، قال تعالى: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ } .
207- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التنبيه على عظم شأن يوم الدين؛ للاتعاظ والتذكر والارتداع عن المعاصي والاستعداد له بصالح الأعمال، قال تعالى: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } ، { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ } .(3/40)
208، 209- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى إخلاص العبادة لله وطلب الإعانة من الله؛ لما في ذلك من المنافع العظيمة دنيا وأخرى، قال تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .
210- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى الاستدلال على وجوب عبادة الله وحده، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا } .
211- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على الصدق؛ لما فيه من الفوائد الجمة، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } ، وقال: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } .
212- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على العلم؛ لما فيه من الفوائد العظيمة والأجور الكثيرة لمن وفقه الله، وعمل بما علم، قال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ } ، وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا } ، وقال: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } ، وقال: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ } ، وقال: { وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ } .
213- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من الجهل والابتعاد عنه؛ لما فيه من الشرور والأضرار، قال الله تعالى: { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ } ، وقال: { وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ } ، وقال عمن أثنى عليهم: { سَلامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ } .(3/41)
214- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر فضل الله، ولطفه، وعنايته بخلقه، حيث هداهم، وأرشدهم إلى طاعته وما يقرب إليه وحذرهم معصيته، وبين لهم طريقها ليجتنبوها، قال تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } ، وقال تعالى: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } الآيات، والآيات المحتوية على الترغيب والترهيب وبيان طريق الخير وطريق الشر كثيرة.
215- من هدي القرآن للتي هي أقوم: جواز التوسل إلى الله بالإيمان والأعمال الصالحة، قال الله تعالى: { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } .
216، 217، 218، 219- من هدي القرآن: ذم الكثير من النجوى ومدح النجوى للحث على الصدقة ومدحها إذا كانت للأمر بالمعروف ومدحها إذا كانت للإصلاح بين الناس، قال الله تعالى: { لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } ، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } .
220- 224- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تحريم مشاقة الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتحذير من إتباع غير سبيل المؤمنين، والحث على احترام النبي - صلى الله عليه وسلم -، والحث على لزوم جماعة المسلمين، قال الله تعالى: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى } الآية.(3/42)
225- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أن إبليس –لعنه الله- جاد ومجتهد في إغواء بني آدم، قال تعالى مخبرًا عنه: { وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِيَنَّهُمْ وَلآمُرَنُّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } ، وقال عنه: { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ } الآية.
226- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أو ولاية الرحمن لا تجتمع مع ولاية الشيطان، قال الله تعالى: { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } ، وقال: { وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا } .
227- من هدي القرآن للتي هي أقوم: توضيح مواعيد إبليس، وأنها مثل السراب تغر الناس فليحذروها، قال تعالى: { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا } ، وقال: { وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ } ، وقال: { وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ } .
228، 229، 230، 231- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أثر ترك النهي عن المنكر، وأن عقوبته إذا جاءت تعم الفاعل للمنكر و الساكت عن نهيه، وأنه ينبغي للناهي عن المنكر تقبيح المنكر، والتحذير من تولي الكافرين، قال تعالى: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } الآيات الثلاث.(3/43)
232، 233- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أشد الناس عداوة للمؤمنين وأقربهم لهم مودة؛ ليكونوا من أمرهم على بصيرة، وليحذروا كل الحذر ممن لا يدين بدين الإسلام، قال الله جل وعلا: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى } الآية.
234- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التنبيه على صفة مجيء الإنسان يوم القيامة إذا خرج من قبره، وإذا يجيء فردًا، وأن الجاه والمال والولد يتركه وراء ظهره، فليكن يقظًا حازمًا مستعدًا لذلك المجيء، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } ، وقال: { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } الآية.
235، 236- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى إباحة الزينة وإلى أخذها عند كل مسجد، قال تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } .(3/44)
237، 238- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان شيء من محاسن الإسلام، وأنه دين الفطرة، وأنه ليس فيه ما يخالف ما تدعو الحاجة إليه والجولة الأولى التي انتهت الفتنة والخروج من الجنة ونزع اللباس وانكشاف السوآت، وأن عداوة إبليس قديمة وحديثة، قال الله تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا } الآية، وقوله: { لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا } ، وقال تعالى: { وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا } ، وقال: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } الآية.
239- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أن عدم الإيمان هو الموجب لعقد الولاية بين الإنسان والشيطان، قال جل وعلا: { إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } .
240- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أن مجرد الحسبان لا يكفي في صحة الدين، بل لابد من الجزم والقطع واليقين؛ لأنه تعالى ذم الكافرين بأنهم يحسبون أنهم مهتدون، قال جل وعلا: { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } ، وقال جل وعلا: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } .
241، 242- من هدي القرآن: بيان أن الأصل في الأطعمة والألبسة الحل إلا ما ورد الشرع بتحريمه كما هو معلوم من الآية السابقة، وهي قوله جل وعلا: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } .(3/45)
243، 244- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الإرشاد إلى التبرؤ من الكفار، والتذكير بطريقة الآباء المخلصين وبما يكون بإذن الله سببًا لرجوع الأولاد المنحرفين، قال الله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .
245- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الإرشاد إلى أن توفر النعم ودخول الترف والانهماك في الملاذ والشهوات يشغل وينسي طاعة الله إلا من عصمه الله، قال جل وعلا: { بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } الآيات، وقال: { ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } .
246، 247، 248- من هدي القرآن للتي هي أقوم: 1- بيان خسة الدنيا وحقارتها. 2- إرشاد العباد إلى أن ما أعده الله لعباده في الآخرة خير من حطام الدنيا. 3- تسلية للفقراء من المؤمنين، وهو أنه لولا اجتماع الناس على الكفر لجعل الله لبيوت من يكفر سقفًا من فضة وغير ذلك، قال تعالى: { وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } ، وقال: { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } .(3/46)
249، 250- من هدي القرآن للتي هي أقوم: 1- إرشاد العباد إلى أن قسمة الأرزاق بيد الله. 2- وإلى حكمته جل وعلا حيث فاوت بين عباده لينتظم معاشهم، ويصل كل منهم إلى مطلبه وتتم مصالحهم، قال تعالى: { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًا } الآية.
251، 252، 253، 254- من هدي القرآن للتي هي أقوم: 1- إرشاد العباد إلى العمل الذي ينالون به الجنة ونعيمها، وهو الإحسان. 2- وأن الجزاء من جنس العمل فكلما حسن وكثر ازداد الثواب. 3- وتوجيههم إلى الاستغفار وقت السحر وحثهم عليه. 4- وإرشادهم إلى حفظ الوقت وإنفاقه فيما يقرب إلى الله، قال الله جل وعلا: { إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ، وقال: { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ } .
255- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من الاستهزاء بشيء من دين الإسلام، قال جل وعلا: { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } .
256- التحذير عن الإعراض عن دين الله، قال جل وعلا: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا } الآية، وقال: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .(3/47)
257- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، قال الله جل وعلا: { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } ، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } .
258، 259- من هدي القرآن للتي هي أقوم: النهي عن الغلو في الدين، والنهي عن القول على الله بغير الحق، قال الله جل وعلا: { يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ } .
260، 261، 262- من هدي القرآن للتي هي أقوم: 1- إرشاد العباد إلى التمسك بملة إبراهيم. 2- وأنه ما يرغ عنها إلا من سفه نفسه، قال الله جل وعلا: { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } .
263- من هدي القرآن للتي هي أقوم النهي عن أخذ الإنسان بجريمة غيره، قال جل وعلا: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } .
264- من هدي القرآن للتي هي أقوم إرشاد العبد إلى الخشوع والخضوع ولين القلب عند تدبر القرآن ليعظم أجره ويكثر ثوابه، قال تعالى: { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } ، وقال: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } الآية، وقال: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } .
265- من هدي القرآن للتي هي أقوم ضرب الأمثال تحذيرًا وإنذارًا وحثًا على العلم، قال جل وعلا: { وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ، وقال: { وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ } .(3/48)
266، 267- من هدي القرآن للتي هي أقوم: 1- الحث على محاسبة النفس وتفقدها. 2- والحث على الإكثار من الأعمال الصالحة، قال الله جل وعلا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } الآيتين، وقال: { هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ } ، وقال: { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون } .
268، 269- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى الاعتصام بدين الله، وإلى الابتعاد عن الخلاف في الدين والتفرق فيه إلى شيع ومذاهب، قال الله جل وعلا: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا } ، وقال: { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } الآية، وقال تعالى: { وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا } .
270- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان طرية محبة الله وأنها بمتابعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، قال الله جل وعلا: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } .
271- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تبيين جزاء المحق وجزاء المبطل؛ ليجتهد العبد في البعد عن الشر، ويحرص على الخير، قال الله جل وعلا: { فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } .(3/49)
272- من هدي القرآن للتي هي أقوم: سياق ما يزيد به العبد يقينًا واطمئنانًا في النفس ورغبة في الثبات على الحق، قال الله عز وجل وعلا: { فَلاَ تَكُن مِّنَ المُمْتَرِينَ } ، وقال جل وعلا: { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ } ، وقال: { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ } .
273- من هدي القرآن للتي هي أقوم: حث العباد على النفقة، وبيان أن ما أنفقوا من الخير يعود نفعه عليهم، قال الله جل وعلا: { وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ } ، وقال: { وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } .
274- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى الإخلاص وتكميل النفس، قال تعالى: { وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ } الآية، وقال: { إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى } الآية، وقال: { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ } .
275- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى ما تزكوا به أنفسهم وأموالهم من تحري أحسن المواقع لصرف الزكاة، قال جل وعلا: { لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } الآية.
276، 277، 278- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى الابتعاد عن الرياء والبخل، والحث على ما يحصل به تزكية النفس، وتطهيرها من الشوائب التي تعوقها عما يرضي الله، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى } إلى قوله: { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } .(3/50)
279، 280- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من وعد الشيطان والترغيب في وعد الرحمن، قال الله جل وعلا وتقدس: { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } .
281، 282- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد المؤمن إلى علاج الضرر، والداء الذي يحصل من العدو من الإنس والعدو من الجن، فإساءة الإنسي تقابل بالأحسان، والجني بالاستعاذة، قال الله جل وعلا: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ، وقال: { خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ } ، وقال في حق الجني: { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، وقال في الآية الأخرى: { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ } ، وقال: { وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ } الآية.
283- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الإرشاد إلى التأني والتمهل والتدبر، قال جل وعلا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } الآية، وقال: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } الآية، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا } الآية، وسليمان –عليه السلام- لما أخبره الهدهد، قال له: { سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكَاذِبِينَ } فتثبت في خبره.
284- من هدي القرآن للتي هي أقوم: النهي عن الإلحاف في السؤال، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } ، وقال: { لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } .(3/51)
285، 286- من هدي القرآن للتي هي أقوم: نهي العباد عن خلط الحق بالباطل، وكتمان الحق، قال الله تعالى: { وَلاَ تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } .
287- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من أكل أموال اليتامى، قال تعالى: { وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا } ، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } .
288- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بإيتاء اليتامى أموالهم إذا أونس رشدهم، قال الله تعالى: { فَإِنْْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } .
289- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى ما جرت به سُّنة الله في خلقه من أنه إذا طال عليهم الأمد بعد إتيان الرسل تقسو القلوب، ويذهب عنها أثر الموعظة من الصدور، قال الله تعالى: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
290- ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من التحريف لكتاب الله، قال الله تعالى: { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ } .(3/52)
291- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العبد إلى أن يكون نزيهًا في أقواله، وأفعاله، غير فاحش، ولا بذيء، ولا مشاتم، ولا مخاصم في باطل، قال تعالى: { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } ، وقال: { وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ، قال: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ } ، وقال: { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا } ، وقال: { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ } ، وقال: { خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ } .
292- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الإرشاد إلى ملة إبراهيم التي كان يدعو إليها، وهي التوحيد وإسلام القلب لله، والإخلاص له في العمل لا ينبغي التحول عنها، ولا يرضى عاقل أن يتركها إلا من ذل نفسه واحتقرها وباعها بصفقة المغبون، قال الله تعالى: { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } .
293- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الإرشاد إلى أنه ينبغي للإنسان أن يوصي بنيه بما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب بالتمسك بهذه الملة التي ذكرت في قوله: { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } .
294- من هدي القرآن للتي هي أقوم: أن في قوله: { فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } إيماء إلى أن من كان منحرفًا عن الجادة لا ييأس، بل عليه أن يبادر بالتوبة والرجوع إلى الله ويعتصم بحبل الله خشية أن يموت وهو على غير هدى من الله.(3/53)
295- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أن كل إنسان له عمل، فلا يجزى أحد إلا بكسبه وعمله، فلا يؤاخذ أحد بذنب أحد، ولا ينفع الإنسان إلا إيمانه وتقواه، قال: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ } الآية، وقال: { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } ، وقال: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } .
296- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أنه لا يعترض على أحكام الله إلا سفيه جاهل معاند، وأما المؤمن العاقل الرشيد فيعرف قدرها، ويتلقى أحكام ربه بالقبول والانقياد والتسليم، قال الله تعالى: { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَتِي كَانُوا عَلَيْهَا } ، وقال: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ } .
297- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أن الإنسان ألوف لما يتعوده ويثقل عليه الانتقال منه إلا من هداه الله وفهمه أحكام دينه وسر تشريعه، فهو خفيف عليه، قال تعالى في تحويل القبلة: { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } ، وقال عن الصلاة: { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ } .(3/54)
298- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالاستباق إلى الخيرات، وهي تشمل جميع الفرائض والنوافل من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وعمرة، وجهاد، وصلة أرحام، وبر، والدين وكل نفع متعد وقاصر، قال تعالى: { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } ، وهذا الأمر المجمل يفصله ذكر أنواع البر المذكورة في قوله تعالى: { لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ } .
299- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى توطين النفس على المصائب، فالدنيا دار ابتلاء واختبار، والمؤمن مأمور بالصبر، قال الله تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } ، وقال: { وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } .(3/55)
300- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى بيان خطر كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى؛ ليجتنبوا الكتمان، قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ } ، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } ، وقال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } .
301، 302- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ترغيب أهل القلوب الواعية التي تخاف سخط الله وشديد عقابه في التوبة النصوح عما فرط من الذنوب، وطردًا لليأس من رحمة الله مِن مَن عظمت عنده الذنوب وكثرت المعاصي والآثام، قال الله تعالى بعد الآية المتقدمة قريبًا: { إِلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم } ، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ } ، وقال: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ } الآية.(3/56)
303- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان حال المجرمين المنحرفين التابعين والمتبوعين يوم القيامة حين ينكشف الغطاء، ويرى الناس بأعينهم العذاب، والمقصود الاتعاظ والاعتبار والانزجار والجد والاجتهاد فيما يرضي الله، قال الله تعالى: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ } الآيات.
304، 305- من هدي القرآن للتي هي أقوم: أمر الناس بالأكل من جميع ما في الأرض من حبوب وثمار وفواكه وحيوانات مما أحله الله ونهيهم عن إتباع خطوات الشيطان، وهي طرقه التي يأمر بها وهي جميع المعاصي من كفر وفسوق وظلم ونفاق، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } الآيتين.
306، 307- من هدي القرآن للتي هي أقوم: أولاً: إرشاد العباد التي منع التقليد لمن قدر على الاجتهاد، ثانيًا: إن التقليد بلا عقل من شأن الكفار، قال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } .(3/57)
308، 309- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى ما امتن الله عليهم به من فرضه عليهم القصاص في القتلى، والحث على العفو، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
310- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى الحكمة العظيمة في القصاص من اعتداء بعضهم على بعض، قال تعالى: { وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } .
311- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى سؤال الله ودعائه، قال الله تعالى: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ، وقال: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } الآية، وقال تعالى: { أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } ، وقال: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } .(3/58)
312- من هدي القرآن للتي هي أقوم: نهي الناس عن أكل بعضهم مال بعض، ويدخل في ذلك الربا والأموال التي تلقى إلى الحكام رشوة لهم، ويدخل في ذلك أخذ الغني والقادر القوي المكتسب الزكاة، وكذلك التعدي على الناس بغصب أموالهم وسرقتها والخيانة فيها وأخذها عن طريق الغش أو الخيانة في الوديعة أو العارية، والتحذير من عقود الربا وقيمة الملاهي والمنكرات من فيديوهات وسينمات وتلفزيونات، وما جاء عن طريق الميسر والقمار وكمرات التصوير ذوات الأرواح، وصور ذوات الأرواح والدخان، وشيش الدخان، وكل ما أعان على إهلاك النفس، وما جاء عوضًا لكتم حق وإخفائه أو لإظهار باطل، وإعلانه ونحو ذلك من المحرمات، وكل ما أعان على الصد عن طاعة الله، قال الله تعالى: { وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ } .
313- من هدي القرآن للتي هي أقوم: أن من اعتدى يُعتدى عليه بمثل ما اعتدى، فالقاتل بالذبح يذبح، والخانق بخنق، وكل يعامل بما عمل، قال الله تعالى: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } ، وقال: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } ، وقال: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } .
314، 315- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر ببذل المال في وسائل الدفاع عن بيضة الدين، والنهي عن الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة، قال الله تعالى: { وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ } .(3/59)
316، 317- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أن من منع، وهو محرم من إتمام النسك بسبب عدو أو مرض أو نحوهما، وأراد التحلل فعليه أن يذبح ما تيسر له من بدنة أو بقرة أو شاة ثم يتحلل، وأن من كان مريضًا أو به أذى من رأسه، فعليه فدية إن حلق، قال تعالى: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ } الآية، وقال تعالى: { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } .
318- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أحوال الخلق وأن الجميع يسألون الله مطالبهم ويستدفعونه ما يضرهم، ولكن مقاصدهم تختلف، فمنهم فريق ممن يشهدون موسم الحج ممن لم تصل أسراره وحكمه إلى شغاف قلوبهم، ولم تشرق أنوار هدايته على أرواحهم يكون جل اهتماهم في ذكرهم ودعائهم حظ الدنيا خاصة من المال والجاه والنصرة على الأعداء إلى غير ذلك من الحظوظ العاجلة، وهؤلاء لا حظ لهم في الآخرة مما أعده الله للمتقين من رضوانه، إذ هم وجهوا اهتمامهم لحظوظ الدنيا وعملوا لها جهد الطاقة، ولا يسألون الله إلا المزيد منها، والفريق الثاني من يدعو الله لمصلحة الدارين ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه، فهو يقول ربنا هب لنا حياة طيبة سعيدة في الدنيا وحياة راضية مرضية في الآخرة.(3/60)
قال الله تعالى: { فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ } ، وقال تعالى: { مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } ، وقال تعالى: { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } .
319، 320- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أن الناس في دلالة أقوالهم على حقائق أحوالهم صنفان، الصنف الأول: منافقون يظهرون غير ما يبطنون، والصنف الثاني: مؤمنون مخلصون لله في أعمالهم يبتغون مرضاة الله ولا يريدون إلا وجهه تعالى.(3/61)
... قال الله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } ، وقال جل وعلا لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } .
321- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى طبيعة الكافرين بالله ورسله أن الحياة الدنيا حسنت لهم، وأشربت محبتها في قلوبهم، وزينت في أعينهم، فتهالكوا عليها، وتهافتوا فيها، ورضوا بها واطمأنوا بها، فصارت أهواءهم وإرادتهم وأعمالهم لها، وعظموها وعظموا من شاركهم فيها، وأعرضوا عن الدين، واحتقروا المؤمنين وسخروا فيهم، فليحذر المؤمنين أن يقلدوهم أو يحذوا حذوهم، قال الله جل وعلا: { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا } الآية.
322- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى حمد الله تعالى وشكره على ما امتن به عليهم من إرسال الرسل مبشرين للمؤمنين بالأجر الحسن ومنذرين للمشركين والكفار بسوء المصير وبنار وقودها الناس والحجارة، قال الله تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } الآية، وقال: { وَمَا نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } الآية، وقال: { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } .(3/62)
323- من هدي القرآن للتي هي أقوم: حث المؤمنين على الثبات والمصابرة في تحمل المشاق والشدائد التي تصيبهم، فإن الله جل وعلا لابد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة، كما فعل بمن قبلهم، فهي سُّنة الله الجارية أن من قام بدينه وشرعه لابد أن يبتلى والعاقبة للمتقين، قال الله تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } ، وقال: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } ، وقال تعالى: { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ } ، وقال: { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا } الآية.
324- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أنه ربما كره العبد الشيء وهو خير له، وربما أحب الشيء وهو شر له، فينبغي للعبد أن يصبر ويرضى ويكل الأمور إلى علام الغيوب ويتمشى مع أقداره سرته أو ضرته، قال تعالى: { وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ، وقال: { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } .(3/63)
325، 326، 327- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى ثلاثة أمور بها تنال السعادة والفوز والنجاح والفلاح، وهي الإيمان بالله وتصديق رسله والثبوت على ذلك والهجرة، والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ونصر دينه، قال الله جل وعلا: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } .
328، 329، 330- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أن شأن المؤمنين الاتفاق والاتحاد، لا التفرق والانقسام، فعليهم أن يدخلوا في جميع شرائع الدين في أحكامها كلها التي أساسها الاستسلام لله والخضوع له والإخلاص له وحده لا شريك له.
... وأن لا يتبعوا طرق الشيطان؛ لأنها سبل التفرق والخلاف والتنازع، ولأنه عدو ظاهر العداوة، قال الله تعالى: { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } .
331- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير والتخويف من الزلل والانحراف عن صراط الله بعد مجيء البينات، قال الله تعالى: { فَإِن زَلَلْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ، وقال تعالى: { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ } .
332- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد أن لا يجعلوا الحلف بالله مانعًا لما حلفوا على تركه من فعل البر والتقوى والإصلاح بين الناس، بل يفعلوا الخير ويكفروا عن اليمين، قال الله تعالى: { وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .(3/64)
333، 334- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أن لغو اليمين وهو ما جرى على اللسان من غير قصد لا يؤاخذ الله العبد به، وإنما المؤاخذة على ما نوته القلوب وقصدته، قال الله تعالى: { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } .
335- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان حكم الإيلاء، وهو حلف زوج بالله أن لا يطأ زوجته، قال الله تعالى: { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
336، 337، 338- من هدي القرآن للتي هي أقوم بيان أحكام الرضاعة وكيفية التعامل بين الأزواج من المعاشرة بالمعروف، وتربية الأطفال والعناية بشئونهم بطريق التشاور والتراضي بين الوالدين، قال الله تعالى: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نُفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ } الآية.(3/65)
339، 340- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان حكم المعتدة من وفاة، والمبانة في الحياة، وأنه لا إثم ولا حرج على الرجل أن يعرض للمرأة ويلوح لها في أثناء عدة الوفاة أو عدة الطلاق البائن، بأمر الزواج، قال الله تعالى: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ } الآية.
341- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان حكم المطلقات قبل المسيس، وقبل فرض المهر، وأنه لا إثم ولا جناح بتطليق النساء قبل المسيس، وفرض المهر، وعلى من طلقوهن قبل ذلك أن يمتعوهن بأن يعطوهن شيئًا من المال جبرًا لقلوبهن، قال الله تعالى: { لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًا عَلَى المُحْسِنِينَ } .
342- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أنه إذا حصل الطلاق قبل المسيس، وقد فرض لهن مهرًا فلهن نصف المسمى المفروض، ويرجع إلى الزوج النصف الثاني إن كان قد دفع كله، قال الله تعالى: { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } الآية.
343- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر بعض الأخبار عمن سلف من الأمم للعبرة والعظة وزيادة الإيمان في سياق واقعة مضت تنويعًا في التذكير والبيان، قال الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } الآية.(3/66)
344- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على بذل المال فيما يعين على الجهاد في سبيل الله ويعلي شأن الدين، ويمنع عداوة المعتدين بأسلوب يستفز النفوس إلى البذل، ويبسط الأكف إذ سماه قرضًا، والله غني عن العالمين، قال الله تعالى: { مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } الآية، وقال: { إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } .
345- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أنه لولا دفع الله أهل البغي والجور والشرور والفساد والآثام بأهل الصلاة والإصلاح والخير لغلب أهل الفساد وبغوا على الصالحين، وأوقعوا بهم وصار لهم النفوذ والسلطان في الأرض، قال الله جل وعلا: { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ } .
346- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بشارة المؤمنين بما يسرهم، وهو إخباره تعالى بأنه وليهم يخرجهم من ظلمات الكفر والجهل والمعاصي والغفلة والإعراض إلى نور الإيمان والعلم والطاعة له ولرسله، قال تعالى: { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } الآية.
347، 348- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى دليلين عظيمين يدلان على البعث، ويرشدان إلى هداية المؤمنين، وإخراجهم من ظلمات الشبه والشكوك إلى نور العلم واليقين، ولا غرابة في وقوع الشبه للمؤمن، ثم طلبه المخرج منها بالدليل والبرهان { وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .(3/67)
... كما في قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وقال تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا } الآية.
349، 350، 351، 352- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد: أولاً: إلى فضل الإنفاق في سبيل الله، وأن الحسنة قد يضاعفها الله إلى سبعمائة ضعف. ثانيًا: النهي عن إتباع الإنفاق في سبيل الله أذى أو منًا. ثالثًا: الحث على حسن المعاملة بالكلام الحسن والرد الجميل. رابعًا: النهي عن إبطال الصدقات بالمن والأذى، قال الله تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ } إلى قوله: { وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ } .
353، 354- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى الإخلاص في مثل الذين ينفقون أموالهم طلبًا لمرضاة الله، وتزكية لأنفسهم، ومثل لمن ينفق ماله بالمن والأذى، أو بالرياء، قال الله تعالى: { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ } إلى قوله: { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } .(3/68)
355- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الإشارة إلى ما ينبغي أن يعني بشأنه في المال المبذول، وهو أن يكون جيدًا، وأن يتجنب الخبيث وهو الردي، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ } الآية.
356- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أحق الناس بالصدقة، وهم من ذكرت أوصافهم، أولاً: الإحصار في سبيل الله. ثانيًا: العجز عن الضرب في الأرض والكسب. ثالثًا: التعفف والمبالغة في التنزه عن الطمع. رابعًا: لهم سيما خاصة. خامسًا: أنهم لا يسألون الناس إلحاحًا، قال الله تعالى: { لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } الآية.
357- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد القرآن وحثه وترغيبه في الإنفاق في ما يرضي الله جل وعلا في سائر الأحوال وجميع الأزمنة، قال الله تعالى: { الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّليْلِ وَالنَّهَارِ سِرًا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
358، 359- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى سؤال الله الثبات على الإيمان والإقرار والبعث والحساب والجزاء على الأعمال، قال الله تعالى: { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ المِيعَادَ } .(3/69)
360- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان حال أهل الكفر والفجور وأسباب إغترارهم بالباطل واستغنائهم عن الحق، واشتغالهم عنه، ومن أهم ذلك الأموال والأولاد وأرشد إلى أنها لا تغني عنهم شيئًا في يوم القيامة ويعذبون بها في الحياة الدنيا، قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا } الآية، وقال: { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا } الآية، وقال: { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى } .
361، 362- من هدي القرآن للتي هي أقوم: نهي المؤمنين عن موالاة الكافرين من دون المؤمنين، ومن فعل ذلك فهو بريء من الله والله بريء منه، ثانيًا: التهديد العظيم لمن عرض نفسه بموالاة أعداء الله، قال الله تعالى: { لاَ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } الآية، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } الآية.
363- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى طريق محبة الله، وأنها تكون بمتابعة رسوله وامتثال أوامره واجتناب ما نهى عنه، قال الله تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .(3/70)
364- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد المؤمنين إلى أن أهل الكتاب كانوا حريصين على إضلال المؤمنين فلا يدعون فرصة إلا انتهزوها بالتفنن في إلقاء الشبه في نفوس المؤمنين، قال الله تعالى: { وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } إلى قوله: { وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } .
365، 366- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد القرآن إلى أن من أهل الكتاب طائفتان، إحداهما: تخون الأمانات، والثانية: لهم أمانة، ليكون العبد منهم على بصيرة من أمره، قال الله تعالى: { وَمِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } .
367، 368- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على الوفاء بالعهد والإيمان، والتحذير الشديد عن نقض المواثيق، قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
369- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أن الله أخذ الميثاق على جميع النبيين وعلى أتباعهم بالتبع لهم بأنهم مهما عظمت المنة بما آتاهم من كتاب وحكمة.
... فالواجب عليهم أن يؤمنوا بمن يرسل بعدهم مصدقًا لما معهم وأن ينصروه نصرًا مؤزرًا، قال الله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } الآية.(3/71)
370- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير العظيم للإنسان عن الارتداد عن الدين بعد ما عرف الإيمان ودخل فيه، قال تعالى: { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ } ، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ } ، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } .
371- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ضرب الأمثال للاعتبار، ومنها ضرب مثل لما ينفقه الكفار في اللذات ونشر الصيت واكتساب الشهرة، وتأييد الكلمة والمشاريع.
... وإن كان في الخير فهو كحال الريح الشديدة البرد أو النار المحرقة التي تهلك الحرث والزرع، قال الله جل وعلا وتقدس: { مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } الآية.
372- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تحذير الممنين عن ولاية الكفار واتخاذهم بطانة أو خصيصة وأصدقاء يسرون إليهم ويطلعونهم على شئون المسلمين، ويفضون لهم بها؛ لأنهم لا يقصرون في مضرة المسلمين، ويتمنون الضرر عليهم في الدين والدنيا، ويبدون البغضاء بأفواههم وما تكنه صدورهم أعظم.
قال الله جل وعلا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } الآية.(3/72)
373، 374، 375- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد المؤمنين وتقوية عزائمهم وإنهاض هممهم، ونهيهم عن الوهن والضعف والحزن عند المصائب ووعدهم بأنهم الأعلون، وأن العاقبة للمتقين، قال جل وعلا: { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } الآيات.
... وقال عز من قائل: { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } ، وقال: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ } ، وقال جل وعلا: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } .
376، 377- من هدي القرآن للتي هي أقوم: نهي المؤمنين عن مشابهة الكافرين والمنافقين الذين لا يؤمنون بقضاء الله وقدره، ثانيًا: الحث على المشاورة لما فيها من المصالح والفوائد الدينية والدنيوية.
... ومن فوائدها أنها تبين مقادير العقول والأفهام، ومقدار الحب، والإخلاص للمصالح العامة، ومنها: أنه يظهر فيها اجتماع القلوب على نجاح المسعى الواحد، ومنها: أن عقول الناس متفاوتة وأفكارهم مختلفة، فربما ظهر لبعضهم ما لا يظهر لغيره من المصالح.
... قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا } إلى قوله: { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ } .
378، 379، 380- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير عن الغلول، وبيان أن الناس يتفاوتون في الجزاء فجزاء المطيعين ليس كجزاء المسيئين.(3/73)
... قال الله تعالى: { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ } الآية، وقال: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } الآية، وقال: { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ } ، وقال: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } .
381- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى هذه النعمة العظيمة التي يجب شكرها، وهي إمتنان الله عليهم ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث أخرجهم به من الظلمات إلى النور وهداهم بإذنه إلى الصراط المستقيم، قال الله جل وعلا وتقدس: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } ، وقال تعالى: { لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ } .
382- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى ما ينفعهم من التزهيد في الدنيا، وأنها ليست إلا متاعًا من شأنه أن يغر الإنسان ويشغل عن تكميل نفسه بالمعارف والأخلاق التي ترقى به إلى سعادة الأبد.(3/74)
... فينبغي له أن يحذر الإسراف في الاشتغال بمتاعها عن نفسه، وإنفاق الوقت فيما لا يفيد فكم فتنت بزخرفها وخدعت بغرورها، وغرت بمحاسنها ثم هي منتقلة ومنتقل عنها إلى دار القرار، قال تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ } ، وقال: { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا } الآية، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ } .
383- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى توطين أنفسهم على الصبر عند الشدائد، وترك الجزع حتى لا يشق عليهم البلاء عند نزوله، قال الله تعالى: { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا } الآية، وقال: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } .
384، 385- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى العبر التي منها أن من شأن الكافر أن الله يملي له ليزاد إثمًا، وأن من شأن المؤمن إذا زاد الله في عمره أن تكثر حسناته، وتزداد خيراته، ثانيًا: أن الشدائد هي محك صدق الإيمان، قال تعالى: { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } الآية.(3/75)
386- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان عقاب قطاع الطرق الذين يحاربون الله ورسوله ويفسدون في الأرض بغصب الأموال والقتل والإخافة حتى لا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم، قال جل وعلا وتقدس: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ } الآية.
387- ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان تحريم ما يلي صيانة للعباد وحماية لهم عما يضرهم: أولاً: المنخنقة بحبل أو نحوه. ثانيًا: الموقوذة، المقتولة بعصا، أو حصى أو نحوهما. ثالثًا: المتردية، وهي الساقطة من محل كجدار، أو سطح أو جبل أو نحوه. رابعًا: النطيحة، وهي التي تنطح غيرها فتموت. خامسًا: ما أكل السبع، وهي التي تقتلها السباع، كالأسد والذئب والنمر. سادسًا: ما أهل لغير الله به، أي وما ذكر عليه اسم غير الله من الأصنام ونحوها. سابعًا: ما ذبح على النصب، أي على اسم النصب أو لأجل النصب. ثامنًا: الاستقسام الأزلام، قال الله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ } الآية، وبعض ما في الآية مذكور في موضع آخر.
388- ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان حل ما يلي رحمة من الله للعباد، أولاً: إرشاد العباد إلى حل ما يستطاب أكله ويشتهى، وهو كل ما فيه نفع للعباد دون ما يضر بالعقل أو البدن أو يستخبث.
... ثانيًا: حل ما صادته الكلاب المعلمة. ثالثًا: إباحة طعام أهل الكتاب.(3/76)
رابعًا: حل نكاح الحرائر العفيفات من الذين أوتوا الكتاب، قال الله تعالى: { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } الآية.
389- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى مولاة من تجب مولاتهم، وهم الله ورسوله والمؤمنون، قال تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا } إلى قوله: { فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ } .
390- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أن الله لا يحب الجَهْرَ بالسوء من القول كالشتم والقذف، وذكر العيوب لما في ذلك من المفاسد التي منها أنه سبب للعداوة والبغضاء، وأنه يؤثر في النفوس، إلا ممن ظُلِم، فإنه يجوز له، قال تعالى: { لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } الآية.
391- من هدي القرآن للتي هي أقوم: نهي المؤمنين أن يجلسوا مع من ينتقص الدين ويزدري بأحكامه، قال تعالى: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ } الآية، وقال: { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } .(3/77)
392- ومن هدي القرآن للتي هي أقوم بيان صفات المنافقين ليجتنبها المؤمنون، ويحذروا عنهم وعنها، فأولاً: الخداع، يخادعون الله والمؤمنين. ثانيًا: الكسل والتثاقل عند القيام للصلاة. ثالثًا: إنهم قليلو الذكر لله، فعلى المؤمن أن يكثر من ذكر الله ليسلم من صفتهم وينال الأجر العظيم. خامسًا: أنهم يراءون الناس بأعمالهم. خامسًا: أن إنفاقهم مع الكراهة أن أنفقوا. سادسًا: أنهم مضطربين مائلين تارة إلى المؤمنين وتارة إلى الكافرين، لا يخلصون لأحد الفريقين؛ لأنهم طلاب مادة ومنافع، ولا يدرون لمن تكون العاقبة فمتى ظهرت لأحد الفريقين ادعوا أنهم منه.
قال الله جل وعلا: { إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ } ، وقال عز من قائل: { وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } .
393- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أن الله يبتلي العباد بالشدائد والمكاره ليعتبروا ويتعظوا ويشكروه على السراء والضراء، فإذا لم تجد معهم شيئًا نقلهم إلى حال هي ضدها، ففتح عليهم أبواب الخيرات، وسهل لهم أسباب الأرزاق والرخاء، فإذا فرحوا بذلك أخذوا على غرة وغفلة وطمأنينة، وقال عز من قائل: { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ } ، وقال: { حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ } الآية.(3/78)
394- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى الإكثار من الأعمال الصالحة وتعويد الأولاد وحملهم عليها بالعمل والمران، وحسن التلقين والتعليم وهم في سن الصغر ليألفوها ويحبونها، فإن من اعتاد الشيء لو تركه زمنًا يرجع إليه غالبًا.
... وقد ذكر الله جل وعلا موقفًا من مواقف المشركين يوم القيامة يدل على ذلك، قال تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ وَقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ، وقال: { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّنضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } ، وقال: { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } .
395- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير العظيم عن الكبر على الله ورسله وعباده المؤمنين، فإن من اتصف بذلك يمنع فهم الحجج والبراهين الدالة على عظمة الله وعلى ما في شرائعه من هدى وسعادة.
... قال الله تعالى: { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } الآية، وقال: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } ، وقال: { نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } ، وقال: { فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } .(3/79)
396- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى ما يدل على ربوبية الله وقدرته وعظمته وألوهيته، وأنه لا معبود سواه، قال تعالى: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ } الآية.
397- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر حالة المهملين المفرطين الناسين لوقوع ما أخبروا به على ألسنة الرسل، وأنهم يتندمون ويتأسفون ويتلهفون على النجاة، ويتمنون الخلاص إما بشفاعة أو رد إلى الدنيا وهيهات، { وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } .
... قال الله تعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } الآية، وقال: { وَلَوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } .
398- من هدي القرآن للتي هي أقوم: سياق بعض الآيات للتيقظ والاعتبار والاجتهاد في الباقيات الصالحات، من ذلك بيان ما يكون بين الفريقين أصحاب الجنة وأصحاب النار من المناظرة والحوار بعد استقرار كل منهما بداره.(3/80)
قال تعالى: { وَنَادَى أَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًا قَالُوا نَعَمْ } ، وقال: { وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ المَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الكَافِرِينَ } ، وقال: { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ } الآية.
399- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أن بعض الناس يكون منشأ تكذيبه العناد والجحود لإخفاء الدليل، قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } ، وقال تعالى عن فرعون وقومه: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًا } الآية.
400- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تحذير العباد عن طاعة أكثر الناس؛ لأنهم منحرفون في أديانهم وأعمالهم وعلومهم وأخلاقهم.
قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } ، { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } .
401- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ضرب الأمثال، وقد ضرب جل وعلا مثلاً يستبين به الفرق بين المؤمنين المهتدين للاقتداء بهم، والكافرين الضالين للتنفير عن طاعتهم والحذر من غوايتهم.(3/81)
قال الله تعالى: { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا } الآية، وقال: { وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ } .
وقال: { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ، وقال: { مَثَلُ الفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ } الآية.
402- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، قال الله تعالى عن خليله إبراهيم –عليه السلام-: { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيًا } .
403- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى اجتناب ما يؤدي إلى الشر، وإلى أن درأ المفاسد أولى من جلب المصالح، قال الله تعالى: { وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } ، وقال: { وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوَهُمْ أَن تَطَؤُوَهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }
404- من هدي القرآن: ذكر بعض آيات الكون مع ذكر فائدتها للاهتداء بها والاعتبار والاستدلال بها على قدرة الله وحكمته ورحمته بخلقه، قال جل وعلا: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالْبَحْرِ } الآية.(3/82)
405، 406- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ضرب الأمثال للاعتبار والاتعاظ والجد والاجتهاد، والإقبال على كتاب الله وتفهمه وتدبره والعمل به، وكذلك سُّنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه ينبغي للمسلم أن يكون حيًا عالمًا عاملاً على بصيرة في دينه وأعماله، حسنًا في سيرته، وأن يكون القدوة والأسوة للناس في الفضائل والخيرات والحجة على فضل دينه على جميع الأديان.
وهذا يحصل بتفهم كتاب الله وسُّنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتطبيقهما.
ثانيًا: التنفير والتحذير من فريق الكافرين الضالين.
قال تعالى: { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
407، 408- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان علامة سعادة العبد وفلاحه وتيسيره لليسرى، وعلامة شقاوته وضلاله وانحرافه وتيسيره للعسرى، قال الله تعالى: { فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } الآية، وقال تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } .
409- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من الظلم والجور ومنع الحقوق الواجبة، وبيان أن الظانين يولى عليهم ظلمة من شكلهم وجنسهم، قال جل وعلا وتنزه وتقدس: { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } .(3/83)
410- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أصول المحرمات في الأقوال والأفعال، وأصول الفضائل، وأنواع البر، قال تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } إلى قوله: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } .
411- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التنبيه إلى مكانة القرآن من الهداية وإلى وجوب إتباعه، قال الله تعالى: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ، وقال: { ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ } ، وقال: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ } الآية.
412- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الإنذار والتخويف والحث على التوبة والاجتهاد في الأعمال الصالحة، قال تعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ } الآية، وقال تعالى: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .(3/84)
413- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر العبر والمواعظ للمؤمنين تحذيرًا لهم من إتباع أهوائهم حتى لا ينزلقوا مثل ما انزلق من اتبع هواه، وركن إلى الدنيا وشهواتها ولذاتها الفانية الزائلة، قال الله جل وعلا: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } الآية.
414- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى سُّنة الله في عباده، وهي أن العقوبة إذا نزلت نجا منها الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، قال عز من قائل: { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } ، وقال عن مؤمن آل فرعون: { فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ } .
415- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان سُّنة الله في عقاب الأمم التي تفسق عن أمره وتخالف أوامر دينه؛ لما في ذلك من الموعظة والإنذار والذكر والاعتبار والانزجار عن المعاصي، قال الله جل وعلا في حق اليهود: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَابِ } الآية.(3/85)
416- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان النهج القويم والصراط المستقيم في معاملة الناس فيأخذ ما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق ويأمر بكل ما فيه الخير والصلاة وينهى عن الشر والفساد، قال الله تعالى: { خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ } ، وقال: { وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ } ، وقال: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ، وقال: { وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } .
417- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان القرآن لقصص الأمم الماضية مع رسلهم للتيقظ والاعتبار والابتعاد عن الظلم والجد والاجتهاد والاقتداء برسل الله والإقبال على طاعة الله من ذلك ما ذكره الله في سورة هود بعد أن ذكر بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأثبت البرهان أنه رسول من رب العالمين، وأن القرآن الذي أعجز الخلق وحي من الله، قفى على ذلك بقصص الأنبياء قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ ليبين لقومه أنه ليس ببدع من الرسل، وأنه إنما بعث بمثل ما بعث به من قبله من الدعوة إلى عبادة الله وحده، والإيمان بالبعث والجزاء، إلى أن قال جل وعلا: { ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ القُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ } .
418- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان الجزاء العام في الآخرة على الحسنات وهي الإيمان والأعمال الصالحات، وعلى السيئات وهي الكفر والفواحش والمعاصي، قال الله جل وعلا وتقدس: { مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ، وقال: { مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وَجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .(3/86)
419- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى التجرد الكامل، والإخلاص لله وحده لا شريك له في الصلاة والنسك والمحيا والممات، قال الله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ } ، وقال: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } .
420- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد بضرب الأمثال لما في البشر من اختلاف الاستعداد لكل من الهدى والكفر، قال عز من قائل: { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } .
421، 422، 423، 424- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أن تقوى الله في الأعمال العامة والخاصة تكسب صاحبها ملكة يفرق بها بين الحق والباطل، والخير والشر، والصلاح والفساد. ثانيًا: تكفير السيئات. ثالثًا: مغفرة الذنوب. رابعًا: الأجر العظيم. قال الله جل وعلا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ } .
425، 426- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان صفات المؤمنين الكمل وبيان جزاءهم فليزن المرء نفسه بهذا الميزان، قال الله جل وعلا: { إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } .(3/87)
427- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العبد المؤمن إلى أن يبادر إلى ما يأمر الله به ورسوله، وأن لا يغتر بعمله وطاعته، وأن لا يأمن مكر الله، فالقلوب بين أصابع الرحمن، قال عز من قائل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
428- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من الخيانة لما فيها من المفاسد والشرور وسوء العاقبة، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ، وقال عز من قائل: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ } .
429- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تعليم المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } الآية.
430، 431- من هدي القرآن للتي هي أقوم: توجيه العبد إلى اكتساب المال من طريق الحلال وصرفه فيما أوجبه الله عليه، وفيما حث الشارع عليه كالمشاريع الخيرية. ثانيًا: تربية الأولاد وتعويدهم الدين والفضائل وتجنيبهم المعاصي؛ لأنهما للاختبار والامتحان.
قال جل وعلا: { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } ، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ } ، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } .(3/88)
432- من هدي القرآن للتي هي أقوم: النهي عن التنازع؛ لأنه مدعاة للفشل، والخيبة، وتشتيت القلوب، وانحلال العزيمة، وذهاب القوة.
قال الله تعالى: { وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } .
433، 434- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر مقالة أهل الريب والنفاق تحذيرًا عنها وعنهم وعن أمثالهم. ثانيًا: الحث على الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة بالله، وفعل الأسباب، وهذا معنى التوكل على الله.
قال الله تعالى: { إِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
435، 436- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أن شر الدواب من جمعوا بين الكفر بالله ونقض العهد. ثانيًا: ذكر ما يحب أن يعاملوا به من العقوبة التي تردعهم وأمثالهم. قال الله تعالى: { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } .
437- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان ما يجب فعله مع من توقعت منه الخيانة والنكث للعهد بوجود أمارات ظاهرة وقرائن تنذر بها وأن يقطع عليهم طريق الخيانة قبل وقوعها وأن يرمي إليهم عهدهم وتبين لهم أنك غير مقيد به بطريق واضح لا خداع فيه ولا خفاء.
قال الله جل وعلا: { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ } .(3/89)
438- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ترغيب المؤمنين في الإنفاق في سبيل الله ووعدهم بأن ما ينفقونه يوف إليهم، قال تعالى: { وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } ، وقال: { وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } .
439- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أن تأليف القلوب لا يقدر عليه إلا الله. ثانيًا: الإشارة إلى أن النصر ينال بأسباب منها: التآلف، والاتحاد بفضل مقدر الأسباب ورحمته جل وعلا وتقدس، قال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
440- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد المؤمنين إلى أن اتخاذ الأسرى إنما يكون خيرًا ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الغلبة والظهور والتفوق لأهل الحق والعدل، وهم المؤمنون، أما ما دام للكفار شر وصولة، فالذي ينبغي والأوفق أن لا يؤسروا، بل يقتلوا.
... قال تعالى: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
441- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد المؤمنين إلى أن إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة يوجبان لمن يؤديهما حقوق المسلمين من حفظ الدم والمال إلا بما يوجب عليه الشرع من جناية تقتضي حدًا أو جريمة توجب تعزيرًا أو تغريمًا.(3/90)
... قال الله تعالى: { فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } الآية، وقال جل وعلا: { فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } الآية.
442- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من الدنيا وحطامها الفاني الزائل وأخذه من غير طريق شرعي من طريق رشوة، أو إتجار بالدين، أو محاباة في الحكم، أو نحو ذلك. قال الله جل وعلا: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } الآية.
443- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد المؤمن إلى أنه يجب عليه أن يكون أشجع الناس وأعلاهم همة وأقواهم عزيمة، وأن لا يخشى إلا الله، قال الله تعالى: { أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ، وقال: { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي } ، وقال: { وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ } .
444، 445- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد المؤمنين إلى وجوب تقديم محبة الله على كل محبة، وعلى كل شيء، ثم محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فوق محبة جميع خلق الله، ثم محبة الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله. ثانيًا: التحذير من إيثار محبة غير الله على محبة الله ورسوله وجهاد في سبيل الله.
قال عز من قائل: { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ } .(3/91)
446- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير الشديد من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، أو بحملة القرآن لأجل حمله أو بحملة السُّنة لأجل حملها، قال الله جل وعلا: { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } .
447- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أن الأموال والأولاد قد تكون نعمة يسبغها الله على عبد من عباده يوفقه إلى حمد ربه وشكره على النعمة، وقد تكون نقمة يصيب الله بها عبدًا من عباده، فيتعب في تحصيلها ويخاف من زوالها ولا يتهنأ بها، وتلهيه عن الله والدار الآخرة فيموت وقلبه متعلق بها قد امتلأ من الحسرة والندامة، قال الله: { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } .
448- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر بعض صفات المنافقين للابتعاد عنها، والحذر منها ومن أصحابها وهم متشابهون عصبة واحدة متضامنة رجالاً ونساءً في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، والبخل بما في أيديهم ونسيانهم الله وحسابه، قال الله جل وعلا: { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } .
449- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر بعض صفات المؤمنين الذين زكت نفوسهم وطهرت سرائرهم للاقتداء بهم وسلوك طريقتهم، فالمؤمنون المخلصون لله من رجال ونساء متضامنون متناصرون متكاتفون متعاونون على جميع ما فيه الخير والصلاح.(3/92)
... قال الله جل وعلا: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية.
450، 451- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر حال من كفر بالله وأعرض عن الحجج والبينات الدالة عليه، وركن إلى الدنيا وجعلها غاية أمره ونهاية مقصده، وأكب على لذتها وشهواتها، فكأنه خلق للبقاء فيها، وذكر حال المؤمنين الذين يعملون الصالحات موقنين بلقاء ربهم فرحين بذلك. ثانيًا: ذكر جزاء كل من الفريقين.
قال الله جل وعلا: { إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } الآيات.
452- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث والترغيب على التدبر والتفكر في مخلوقات الله، والنظر فيها بعين الاعتبار والاتعاظ، فإن بذلك تنفسح البصيرة، ويزداد الإيمان، والعقل، وتقوى القريحة.(3/93)
قال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } ، وقال: { أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ } ، وقال: { أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } .
453- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان حال الناس في طلب الخير والشر ولطف الله بهم، فلو أن الله عجل لهم الشر بدرجة استعجالهم بالخير لكان في ذلك هلاكهم، قال تعالى: { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } ، وقال: { وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ } .(3/94)
454- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان حالة الإنسان حينما يمسه ضر من مرض، أو مصيبة، أو خطر على نفسه، وأنه يسرع بالاستغاثة إلى الله دون انقطاع في جميع أحواله، و هو واقف، وقاعد، ومضطجع، ملحًا بالدعاء ليكشف الله ضره، ولا ينسي حاجته إلى رحمة ربه ما دام يشعر بمس الضر، فإذا كشف الله الضر عنه مر ومضى في طريقه التي كان عليها من الغفلة عن ربه، وكأنه لم يدعه ولم يستغث به، قال جل وعلا: { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ } ، وقال في الآية الأخرى: { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ } .
455، 456- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أن الناس جبلوا على الرجوع إلى الله عند الشدائد. ثانيًا: أن البغي الذي هو الفساد والتعدي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم يرجع على صاحبه، قال تعالى: { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ المَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم } الآية.(3/95)
457، 458-من هدي القرآن للتي هي أقوم: الترغيب والتشويق إلى الجنة ووصف حال المحسنين، وما أعد الله لهم والترهيب والتحذير من النار، ووصف حال أصحابها. قال الله تعالى: { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وَجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وَجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
459، 460-من هدي القرآن للتي هي أقوم: التنبيه للاستعداد لذلك اليوم الذي يشيب مولوده الذي تختبر وتتفقد فيه كل نفس ما قدمت وتحصل فيه على جزائها، قال الله جل وعلا: { هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } . ثانيًا: بيان أن الدنيا التي غرت بمتاعها الحقير الزائل قصير الأمد ستزول، وسيقدرون يوم القيامة قصرها بساعة من النهار، قال جل وعلا: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } ، وقال: { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } ، وقال: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ } .
461- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر ما في يوم القيامة من الأهوال للتيقظ والاعتبار والتحذير من الظلم والحث على الجد والاجتهاد في الباقيات الصالحات.(3/96)
... قال الله جل وعلا: { وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ } الآية، وقال: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } .
462- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ترغيب العباد في الإقبال على القرآن، وأنه موعظة، وشفاء للقلوب، وهدى إلى طريق الحق واليقين، ورحمة للمؤمنين.
... قال الله جل وعلا: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } .
463- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التنبيه على تقرير شمول علم الله وإحاطته بالدقيق والجليل والشاهد والغائب؛ ليكون العبد على حذر دائم مراقبًا لله مفتشًا على نفسه.
قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } ، وقال: { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } ، وقال: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } ، وقال: { عَالِمِ الغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } .(3/97)
464- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التعريف بأولياء الله وأنهم المؤمنون المتقون، وإعلان البشرى لهم، وتطمينهم بأنهم لا خوف عليهم ولا حزن، والتنويه بذكرهم، قال الله جل وعلا: { أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } الآية.
465- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر قصص الأمم الماضية والقرون السالفة مع الرسل الذين أرسلوا إليهم؛ لما في ذكرها من العظة والاعتبار والانزجار عن المعاصي والجد والاجتهاد فيما يقرب إلى الله كما في سورة هود، قال تعالى في آخر السور: { ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ القُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ } ، وقال: { وَكُلاً نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } فالسامع لها والقارئ يلين قلبه، وتخضع نفسه، ويقوى قلبه فيحمله ذلك على النظر والاعتبار بها والاتعاظ والجد والاجتهاد والاستعداد للقاء الله.
466، 467- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالاستقامة والتحذير من الركون إلى الظلمة وأعوانهم، قال تعالى: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } .
468- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أوقات الصلوات الخمس المفروضة وما يذهب السيئات، قال الله تعالى: { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } الآية.(3/98)
469-من هدي القرآن للتي هي أقوم: حث العباد على الإصلاح والابتعاد عن الظلم والفساد، قال الله تعالى: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } ، وقال تعالى: { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المُصْلِحِينَ } ، وقال: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ } .
470- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد المؤمن إلى توصية أولاده إلى ما ينفعهم، والابتعاد عما يضرهم من حسد حاسد، أو كيد كائد، أو عين عاين، قال الله تعالى ذاكرًا لوصية يعقوب لبنيه: { وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } الآية، وقال: { وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } .
471- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إ رشاد العباد إلى مكارم الأخلاق ومقابلة الإساءة بالعفو والصفح عن المسيئ، قال جل وعلا عما قاله يوسف –عليه السلام- لإخوته: { لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } .
472- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير عن اللهو والغفلة عن التفكر والتدبر في آيات الله ودلائل توحيده بما خلقه، قال جل وعلا وتقدس: { وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } ، وقال: { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ } ، وقال: { أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ } .
473- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي هي الدعوة إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده، قال الله جل وعلا: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ } .(3/99)
474- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أن الفرج يأتي بعد الشدة والكرب والضيق، قال الله تعالى: { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ } ، وقال: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } ، وقال: { فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا } .
475- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الترغيب في الإقبال على القرآن وتدبره وتفهمه، والعمل به، والدعوة إليه، فإنه الحق المبين والصراط المستقيم، قال تعالى: { المر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } ، وقال: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } .
476، 477- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر بعض دلائل الوحدانية والقدرة، والحث على التفكر والتدبر والتفهم لها؛ لتثبيت الإيمان وتقويته وزيادته، قال الله جل وعلا: { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } ، { وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } الآية.(3/100)
478- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير البليغ من تغيير طاعة الله إلى معصيته كتحكيم القوانين والأنظمة بدل تحكيم الكتاب والسُّنة والعياذ بالله؛ لما في ذلك من الظلم والفساد والموبقات والشرور والمنكرات وسائر المعاصي، قال الله جل وعلا: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } الآية.
479- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أن الذين يتذكرون ويعتبرون ويتعظون بالأمثال أولوا الألباب، أولوا العقول السليمة والأفكار الراجحة، قال تعالى: { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } ، وقال: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى } ، وقال: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ } .
480- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان صفات أولي الألباب لمن أراد الاتصاف بها، وهي ثمان، قال تعالى: { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ المِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ } .
481- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان هذه العقبى وإنها جنات إقامة مع من صلح من الآباء والأزواج والذرية، قال تعالى: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } .(3/101)
482- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على شكر الله والترغيب فيه لرضى الرب الكريم، والوعد عليه بالمزيد، قال تعالى: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } ، قال: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } .
483- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التنبيه على كلمة إبليس يوم القيامة في محفل الأشقياء ليكون الإنسان على حذر دائم منه، ويعلم أنه مكار خداع غرار يورط ويتبرأ، قال تعالى: { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ } ، وقال تعالى: { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ } ، وقال تعالى: { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ } .(3/102)
484- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر الحوار الذي يقع بين التابعين والمتبوعين بين الضعفاء والمستكبرين للاتعاظ والحذر والاعتبار والجد والاجتهاد في طاعة الله وسلوك طريق الرسل –عليهم السلام-، قال جل وعلا: { وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } ، وقال: { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العِبَادِ } .
485- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بشارة المؤمن بتثبيت الله له في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومرادها ويثبته في الآخرة عند الموت وفي القبر عند سؤال الملكين، قال الله تعالى: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } .
486- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر دعاء أبينا إبراهيم خليل الرحمن –عليه السلام- لنقتدي به، فنسأل الله تعالى أن يباعدنا وأبناءنا عن عبادة الأصنام، وأن يثبتنا على ما نحن عليه من التوحيد وملة الإسلام، قال الله جل وعلا: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ } .(3/103)
487- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث والترغيب في أن يسأل الإنسان الله المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين إقتداء بالخليل -عليه السلام-، قال الله جل وعلا عما قاله الخليل –عليه السلام-: { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ } .
488- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تنبيه العباد إلى أن تحصيل منافع الدنيا إنما هو ليستعان به على أداء العبادات وتحصيل الطاعات، قال الله جل وعلا عما قاله إبراهيم –عليه السلام-: { وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } .
489- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر التهديد الشديد للظلمة في يوم يشيب من هوله المولود، ويتحير اللب، ويدهش العقل، قال تعالى: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ } إلى قوله: { وَتَغْشَى وَجُوهَهُمُ النَّارُ } ، وقال: { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } ، قال تعالى: { وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } ، وقال: { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } ، وقال تعالى: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } .(3/104)
490- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التنبيه على ما يكون في يوم القيامة من الأهوال المفزعة والتغيرات المزعجة للتيقظ والاستعداد والجد والاجتهاد فيما يقرب إلى الله، ومما يحدث تغيير الأرض والسموات وبرزو الخلائق للعزيز الجبار، قال تعالى: { يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الجِبَالُ سَيْرًا } ، قال الله تعالى: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ } ، وقال: { وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } .
491- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان عجز المجرمين وذلهم، وذكر بعض صفاتهم التي منها قرنهم في القيود وأن قمصهم من قطران دهن منتن يشبه الزفت، وتعلو وجوههم النار وتحيط بها، قال تعالى: { وَتَرَى المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وَجُوهَهُمُ النَّارُ } ، وقال: { إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } ، وقال: { لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } ، وقال: { وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ } الآية، وقال: { فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } .(3/105)
492- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر بعض الآيات الكونية للاعتبار والإذكار وحصول اليقين وقوة الإيمان وزيادته، قال تعالى: { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } ، وقال: { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ } ، وقال: { أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } .
493- من هدي القرآن للتي هي أقوم: النهي عن الرغبة في الدنيا، قال تعالى: { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ } ، وقال: { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } .
494- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التنبيه على ما امتن الله به على عباده مما خلقه لهم من الأنعام والخيل والبغال والحمير ليحبوه ويعظموه ويجلوه؛ لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها وليعبدوه ويشكروه، قال تعالى: { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } إلى قوله: { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
495- من هدي القرآن للتي هي أقوم: سياق الآيات الدالة على علم الله وعظمته وحكمته وقدرته ورحمته ولطفه بخلقه؛ لتثبيت الإيمان وتقويته وزيادته، والجد والاجتهاد في طاعة الله واجتناب مساخطه، قال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } الآية، إلى قوله: { لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } .(3/106)
496- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بشارة المؤمن الذي يعمل الصالحات بحياة طيبة كريمة حياة فيها سعادة راحة وقناعة، وغنى عن الغير، حياة فيها توفيق، واتجاه إلى الله، حياة لا ضنك فيها ولا تعب ولا نصب ولا لغب، قال الله تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ، وقال: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ المُتَّقِينَ } .
497- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالاستعاذة عند قراءة القرآن، قال الله جل وعلا: { فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } .
498- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التنبيه إلى عاقب من يكفر بنعم الله، وأنهم بعد الأمن والطمأنينة والرزق الرغد الواسع ذاقوا عاقبة كفران النعم، فعمهم الخوف والجوع وذاقوا مرارتها، قال الله جل وعلا: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } .
499- من هدي القرآن للتي هي أقوم: النهي عن التحليل والتحريم من تلقاء النفس كذبًا وافتراءً على الله وتقولاً عليه، قال الله تعالى: { وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } ، وقال: { وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } .(3/107)
500- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الترغيب والحث على التوبة وإصلاح العمل، قال الله تعالى: { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا } ، وقال: { تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
501- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد الدعاة إلى طريقة الدعوة، وهي أن تكون بالحكمة المقالة المحكمة المصحوبة بالدليل الموضحة للحق المزيل للشبهة والموعظة الحسنة، المقالة المشتملة على الترغيب والترهيب، والمجادلة بالتي هي أحسن، بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة من إيضاح الحق بالرفق واللين والعدل والإنصاف، قال الله جل وعلا: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } .
502- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الأمر بالعدل، والحث على الصبر، قال الله تعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ } ، وقال جل وعلا: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } ، وقال: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } .(3/108)
503- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أن الأشياء كلها تسبح الله بلسان حالها ومقالها فلينافس ويسابق من له لب، قال تعالى: { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } ، وقال: { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ } ، وقال: { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ، وقال: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } .
504- من هدي القرآن للتي هي أقوم: النبيه على كمال عدل الله وعلمه المحيط بكل شيء جل وعلا، قال تعالى: { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } .
505- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من إنكار البعث والجزاء على الأعمال، قال الله جل وعلا: { وَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } .
506، 507- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من الحسد والكبر والعُجب، ومن إبليس وجنوده، قال الله جل وعلا: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } إلى قوله: { وَكِيلاً } .(3/109)
508- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد الإنسان إلى أنه لا يمكنه أن يحترز بنفسه من مواقع الضلال، وإنما المعصوم من عصمه الله وليكثر من قول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، وقول: «يا مصرف القلوب اصرف قلبي إلى طاعتك».
قال الله تعالى مخاطبًا لإبليس –لعنه الله-: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } ، وقال: { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } .
509، 510- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى قرن القول بمشيئة الله وإلى ذكر الله إذا نسوا، قال تعالى: { وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا } ، وقال موسى –عليه السلام-: { سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } .
511، 512- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الترغيب في الجليس الصالح، والابتعاد عن جليس السوء، قال جل وعلا لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } ، وقال: { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ } ، وقال: { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } .(3/110)
513، 514- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التنبيه على ما يبعث الخوف من النار ويثمر الجد والاجتهاد في الأعمال الصالحة ممن لا يخلف وعده، قال تعالى: { وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ } ، وقال: { وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } ، قال تعالى: { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } الآيات، وقال: { جَنَّاتِ عَدْنٍ الَتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًا } الآية.(3/111)
515- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان ما ينبغي التفاخر والتنافس فيه وما لا ينبغي، قال تعالى: { المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً } ، وقال: { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًا } ، وقال: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } .
516- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر بعض أحوال يوم القيامة للاتعاظ والاعتبار والجد والاجتهاد، منها: تسيير الجبال من أماكنها، ومنها: بروز الأرض بادية ليس على وجهها شيء لا عمائر ولا فلل ولا أشجار ولا عوج ولا أمتا، قال تعالى: { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } ، وقال: { لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلاَ أَمْتًا } .(3/112)
517- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التنبيه على دقة الحساب يوم القيامة، وأن الكتاب لا يترك شاردة ولا واردة ولا تند عنه كبيرة ولا صغيرة، قال الله جل وعلا: { وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } ، وقال: { وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } ، وقال: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ } .
518، 519، 520- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ما في قصة موسى مع الخضر في المسائل الثلاث التي خلاصتها أنه حين يتعارض ضرران يجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى، فإنه لو لم يعب تلك السفينة بالتخريق لغصبها الملك، وفاتت منافعها على المساكين الذين يعملون في البحر، ولو لم يقتل ذلك الغلام لكان بقاؤه مفسدة لوالديه في دينهم ودنياهم، ولأن المشقة الحاصلة بإقامة الجدار أقل ضررًا من سقوطه، إذ بالسقوط يضيع مال أولئك الأيتام، قال تعالى: { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ } إلى قوله: { تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا } .
521- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر قصة زكريا ودعاءه ربه وإجابة دعوته؛ لما فيها من العبر والمواعظ والأسوة الحسنة، ولما فيها من تقوية العقيدة وزيادة الإيمان لمن وفقه الله من أول سورة مريم إلى قوله: { وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ } .(3/113)
522- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر قصة مريم وما فيها من العبر والمواعظ، ولما فيها من تقوية العقيدة وزيادة الإيمان لمن وفقه الله، وهي من قوله: { وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًا } إلى قوله: { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ } .
523- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر قصة إبراهيم خليل الرحمن؛ لما فيها من العبر والمواعظ والأسوة الحسنة، وذلك ما جرى له مع أبيه آزر ووصفه له بالجهل وعدم التأمل في المعبودات التي يعبدها آزر من دون الله، ثم تحذيره لأبيه من سوء مغبة أعاله ورد أبيه عليه مهددًا له ومتوعدًا له بالرجم، قال تعالى: { وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًا * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا } الآيات إلى قوله: { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًا } .
524- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، قال الله جل وعلا في حق إبراهيم – عليه السلام- لما اعتزل قومه: { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيًا } ، ولما أتلف سليمان الخيل لما ألهته عن ذكر ربه، سخر الله له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب.
525- من هدي القرآن للتي هي أقوم: البشارة العظيمة السارة لمن وفقه الله للجمع بين الإيمان بالله ورسله والعمل الصالح، قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًا } .(3/114)
526- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر قصة موسى كليم الرحمن؛ لما فيها من العبر والمواعظ والأسوة الحسنة في الدعوة إلى الله، والصبر على ما يحصل بسبب ذلك، قال تعالى: { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا } إلى قوله: { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } .
527- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث والترغيب في سؤال الله الزيادة من العلم، قال تعالى: { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا } .
528- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التنبيه على قرب الحساب للاستعداد له والتحذير من الغفلة عنه، قال تعالى: { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } ، وقال: { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } .
529- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على تدبر القرآن والتفكر فيما في تضاعيفه من فنون المواعظ وقوارع الزواجر والوعد والوعيد، وما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق وفاضل الآداب وسديد الشرائع والأحكام مما فيه سعادة البشر في حياتهم الدنيوية والأخروية، قال الله تعالى: { لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ، وقال: { وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } ، وقال: { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ } ، وقال: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ } ، وقال: { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } .(3/115)
530- من هدي القرآن للتي هي أقوم: أن في ذكر قصة إبراهيم –عليه السلام- مع قومه وأصنامهم ما يحفز النفس الزكية على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن الجهاد لنصرة الحق والدفاع عن الدين فيه الخير، كل الخير، وأنه مهما صادف المرء من آلام وأهوال وشدائد وكروب فهي هينة لينة في سبيل نصرة الحق، قال الله تعالى عن إبراهيم: { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } إلى قوله: { وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ } .
531- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر قصة أيوب –عليه السلام-؛ لما فيها من ذكر الصبر على البلاء والالتجاء إلى الله وسؤاله، والتنبيه على أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الواجب على المرء أن يصبر على ما يناله من البلاء فيها، ويجتهد في القيام بحق الله، ويصبر في حالي السراء والضراء، قال الله تعالى: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } .
532- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر قصة ذي النون يونس –عليه السلام-؛ لأن فيها عبرة واتعاظ وتنبيهًا على جواز القرعة وبشارة لكل مؤمن وقع في شدة وغم وسأل الله تعالى أن ينجيه ويكشف عنه أن الله ينجيه.
... قال الله تعالى: { وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي المُؤْمِنِينَ } ، وقال في «سورة الصافات»: { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ } الآيات.(3/116)
533- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد المؤمنين إلى الاستشفاء بالقرآن، قال الله جل وعلا: { وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } ، وقال: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } ، وقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } .
534- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى الجمع في الدعاء بين الرغبة والرهبة؛ لأن الله أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } ، وقال: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا } .
535- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أن في القرآن كفاية تامة عن كل شيء، وأنه لا يستغنى عنه، قال الله جل وعلا: { إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } ، وقال تعالى: { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } ، وقال: { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } .
536- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أن الله أرسل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين؛ لأنه جاء بما يسعدهم وينالون به كل خير من خير الدنيا والآخرة إن اتبعوه، ومن خالفه ولم يتبع فهو الذي ضيع على نفسه نصيبه من تلك الرحمة، قال الله جل وعلا: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } .(3/117)
537- من هدي القرآن للتي هي أقوم: أن من الناس من ليس له ثبات في أمر دينه، بل هو مضطرب مذبذب يعبد الله على وجه التجربة إنتظارًا للنعمة والغنى والعافية، فإن أصابه خير بقي مؤمنًا وإن أصابه مكروه من سقم أو ضياع مال أو فقد محبوب ترك دينه وارتد كافرًا، قال الله جل وعلا وتقدس: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ } ، وقال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } ، وقال: { الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا ألَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ المُؤْمِنِينَ } .
538- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تحذير الناس من الإقامة على المعاصي والمنكرات والاستعداد لما أمامهم، قال تعالى: { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ } ، وقال تعالى: { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } ، وقال: { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } ، وقال: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ } .
539- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التنبيه على الأمور والأحداث التي ستقع وتذهل الإنسان وتنسيه ما عداها، قال الله جل وعلا وتقدس: { وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } .(3/118)
540- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر بعض أحوال أهل النار وهم فيها، وذكر بعض أوصاف أهل السعادة للاعتبار والإتعاظ والحذر من النار والجد والاجتهاد فيما يرضي الله، قال تعالى في حق أهل النار: { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ } ، وقال في حق السعداء: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لاَ يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } .
541- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على تعظيم حرمات الله، كالحرم، والإحرام، والهدايا، والوفاء بالنذر، والطواف بالبيت، والعبادات التي أمر الله بها، ومن تعظيم حرمات الله اجتناب ما أمر الله باجتنابه في حال الإحرام تعظيمًا لحدود الله، قال الله تعالى: { ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ } ، وقال: { ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ } .
542- من هدي القرآن للتي هي أقوم: البشارة العظيمة والوعد الصادق للذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين بأن الله يدافع عنهم شر الأشرار وكيد الفجار ويكلؤهم وينصرهم على أعدائهم، قال الله جل وعلا وتقدس: { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا } ، وقال: { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } ، وقال: { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ } ، وقال: { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ } ، وقال: { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } ، وقال: { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } .(3/119)
543- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى بيان صفات الذين وعدهم الله بنصره؛ لأنهم نصروا الله، فقال: { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ } .
544- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على السير في الأرض للاعتبار والاتعاظ والانزجار عن المعاصي والجد والاجتهاد فيما يرضي الواحد القهار، قال تعالى: { قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ } ، وقال: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } ، وقال: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } .
545- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحكم بالفلاح لمن جمع سبع خصال، وهي علامات المؤمنين المفلحين الذين فازوا وظفروا بخير الدنيا والآخرة، فليتأمل اللبيب أول سورة المؤمنون، وليزن نفسه وغيرها بها ليعرف ما معه وما مع غيره من الإيمان زيادة ونقصانًا، قال تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ } إلى قوله: { يُحَافِظُونَ } .
546- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أنه عند البعث والحساب لا تنفع الأحساب ولا الأنساب، ولا يسأل القريب قريبه وهو يبصره، قال جل وعلا: { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ } ، وقال: { يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } ، وقال: { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا } .(3/120)
547- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أحوال السعداء والأشقياء، وأن من رجحت حسناته بسيئاته نجا من النار ودخل الجنة، ومن ثقلت سيئاته على حسناته فاتته الجنة، وهلك وأدخل النار خالدًا فيها، قال الله جل وعلا: { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } إلى قوله: { وَلاَ تُكَلِّمُونِ } .
548- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان حد الزانية والزاني، قال تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } .
549- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تنبيه العباد إلى الاعتبار والاتعاظ والتفكر فيما خلق الله للعباد من النعم المختلفة التي هي من أعظم الدلائل على قدرة الخالق وحكمته ورحمته من ذلك الأنعام، قال تعالى: { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً (1) نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا (2) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ (3) وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (4)* وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفُلْكِ تُحْمَلُونَ(5) } ، وقال: { أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } .(3/121)
550- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من أن يظن الإنسان أن سعة الرزق وبسطه في الدنيا علامة على رضا الله عن العبد، قال الله جل وعلا: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } ، وقال: { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } ، وقال: { سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ، وقال: { ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } ، وقال: { بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ } الآية.
551- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر صفات من له المسارعة في الخيرات، ومن هو جدير بها، قال جل وعلا: { إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } .
552- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أن ما كلفوا به المسارعين في الخيرات سهل يسير لا يخرج عن حد الوسع والطاقة، وأنه محفوظ عنده في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى، قال الله جل وعلا: { وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .(3/122)
553- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أن قلوب المشركين في غفلة وإعراض عن هدي القرآن والاسترشاد به مما فيه سعادة الناس في الدنيا والآخرة، وبيان حال المترفين إذا حل بهم العذاب، وأنه لا يجدي فيه ضراعة ولا استغاثة ولا ينفع ولي ولا شفيع ولا عوين، قال الله جل وعلا: { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ } الآيات.
554، 555، 556، 557- ذكر دلائل على قدرة الله وحكمته وواسع علمه ورحمته وتنبيههم على ما امتن به عليهم بأن أعطاهم الحواس من الأسماع والأبصار والأفئدة وغيرها، ووفقهم لاستعمالها، وكان من حقهمن أن يستفيدوا بها ليستبين لهم الرشد من الغي، قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } ، ولكن المشركين لم تغن عنهم شيئًا، فكأنهم فقدوها، كما قال تعالى: { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ } ، وقال: { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا } . ثانيًا: أنه أوجدهم من العدم، وأن حشرهم إليه. ثالثًا: أنه هو الذي يحييهم ثم يميتهم. رابعًا: أنه هو الذي يولج الليل في النهار.
... قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } .(3/123)
558- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير العظيم والتهديد للقاذفين والذين يحبون إشاعة الفواحش في المؤمنين، قال الله جل وعلا: { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } .
559- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الترغيب في العفو والصفح والحث على مكارم الأخلاق، قال الله جل وعلا: { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، وقال: { الْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } الآية.
560- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد المؤمنين إلى الآداب النافعة في بقاء الود وحسن العشرة بينهم، من ذلك أن لا يدخلوا بيوت غيرهم إلا بعد الاستعلام والاستئذان حتى لا يطلعوا على عورات سواهم ولا ينظروا إلى ما لا يحل النظر إليه، ولا يقفوا على الأحوال التي يخفيها الناس في العادة، ولا يحبون أن يطلع عليها، قال الله جل وعلا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } .
561، 562- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد المؤمنين إلى غض البصر عن من لا يحل النظر إليه؛ لأنه ربما كان ذريعة إلى وقوع المفاسد وانتهاك الحرمات، قال الله جل وعلا: { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } ، ثانيًا: الأمر بحفظ الفروج، قال تعالى: { وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } .(3/124)
563، 564، 565، 566، 567- من هدي القرآن للتي هي أقوم: 1- التحذير الشديد عن التكلم بالباطل. 2- والقول بلا علم ولا روية ولا فكر. 3- واستصغار الذنب وحسبانه مما لا يؤبه له. 4- والتحذير من معاودة الذنب، قال تعالى ناهيًا ومحذرًا عن ذلك: { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ } .
568، 569- من هدي القرآن للتي هي أقوم: أن لا حرج على الإنسان أن يأكل من بيوت المذكورين في قوله تعالى: { وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ } .
570- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان من يجوز إبداء زينة المرأة له، قال تعالى: { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } .
571- من هدي القرآن للتي هي أقوم: أمر الأولياء بتزويج من لهم عليهم ولاية وأمر السادة بتزويج العبيد والإماء، قال تعالى: { وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } .(3/125)
572- من هدي القرآن للتي هي أقوم: أمر من لا يتمكن من المال الذي به يتم النكاح بالاستعفاف وصون النفس عن المحرم، قال تعالى: { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } .
573- من هدي القرآن للتي هي أقوم: أمر المؤمنين بأن يستأذنهم مماليكهم والذين لم يبلغوا الحلم منهم ثلاثة مرات في ثلاثة أوقات من ساعات الليل والنهار: قبل صلاة الفجر؛ لأنه وقت القيام من المضاجع؛ لأن للنوم ثوبًا غير ثوب اليقظة غالبًا، وكذلك بعد صلاة العشاء، ووقت القيلولة وسط النهار.
... وخص هذه الأوقات؛ لأنها ساعات الخلوة، ووضع الثياب، والالتحاف باللحاف، وأما من بلغ فلا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل حال، قال الله جل وعلا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلاةِ الفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ العِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ } ، وقال: { وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } .
574- من هدي القرآن للتي هي أقوم: نفي الحرج في ترك الجهاد وما يشبهه عن الأعمى والأعرج والمريض لهذه الأعذار.
... ثانيًا: أنه لا جناح على القواعد من النساء أن يخلعن ثيابهن الظاهرة كالخمار ونحوه، قال تعالى: { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } الآية.
575- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان ما ينبغي رعايته عند دخول البيت، قال تعالى: { فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } .(3/126)
576- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من مخالفة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعلى الناس أن يزنوا أقوالهم وأفعالهم بأقواله وأفعاله، فما وافق ذلك قبل وما خالفه، فهو مردود على فاعله كائنًا ما كان.
... قال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } .
577- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان نقص الآلهة التي يتخذها المشركون من دون الله:
فأولاً: أنها لا تخلق شيئًا، والإله قادرًا على الخلق والإيجاد.
ثانيًا: أنها مخلوقة والمخلوق محتاج.
ثالثًا: أنها لا تملك لنفسها ضرًا ولا نفعًا.
رابعًا: أنها لا تقدر على التصرف في شيء.
قال تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا } .
578- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الإخبار عن عظمة يوم القيامة وأهواله وشدائده وصعوباته للاتعاظ، الاعتبار، والانزجار، والجد، والاجتهاد في الباقيات الصالحات.
... قال تعالى: { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ المَلائِكَةُ تَنزِيلاً * المُلْكُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الكَافِرِينَ عَسِيرًا } إلى قوله: { وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً } .
579- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر ثمانية أدلة يراها الخلق بالبصر والبصيرة تتوارد عليهم ليلاً ونهارًا، وهي دليل على وجود الإله وكمال قدرته وحكمته ولطفه بخلقه ورحمته بهم:(3/127)
... أولاً: مد الظل على العباد. ثانيًا: جعل الليل لهم لباسًا. ثالثًا: جعل النوم سباتًا. رابعًا: جعل النهار نشورًا. خامسًا: إرسال الرياح مبشرات. سادسًا: تصريف المطر بين الناس على أوضاع شتى. سابعًا: إجراء البحرين والتخلية بينهما، وجعل بين الملح والعذب حاجز يمنع أحدهما من إفساد الآخر. ثامنًا: خلقه الآدمي من ماء مهين.
... قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً } إلى قوله: { وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا } .
580- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إ رشاد العبد إلى الالتجاء إلى الله والاعتماد عليه وتفويض الأمر إليه والاستسلام له، والصبر على ما نابه فيه وتنزيهه عما يقوله المشركون.
قال تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } .
581- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تنبيه العباد على عظمة الله وكمال سلطانه وافتقار جميع المخلوقات له في ربوبيتها وعبادتها، قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } .
582- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى الأدلة الدالة على وحدانية الله وقدرته وحكمته ورحمته، ومن ذلك سوق السحاب والجمع بين ما تفرق من أجزائه وجعل بعضه فوق بعض متراكمًا، قال الله جل وعلا: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ } إلى قوله: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ } .(3/128)
583- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى تعظيم آيات الله وتفخيمها والحث على معرفة قدرها، والقيام بحقها، والحث على التفكر والتدبر في أخبار الأمم السالفة؛ لما فيها من العبر والمواعظ والتذكر وأخذ الحذر.
... قال الله جل وعلا: { وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } .
584- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان مقالات الكفار الطاعنين في القرآن، وفي رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والرد عليها، وقد قسموا مطاعنهم قسمين مطاعن في القرآن الكريم ومطاعن فيمن نزل عليه القرآن، وهو الصادق الأمين، قال الله جل وعلا: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا } .(3/129)
585- من هدي القرآن للتي هي أقوم: أولاً: التحذير الشديد من إنكار البعث والحساب والجزاء على الأعمال، ووصف ما أعد للكفار في يوم القيامة مما يشيب من هوله الولدان من نار تلظى يسمعون لها تغيطًا وزفيرًا، ووصفهم فيها بأنهم مقرنين في الأصفاد ونداءهم إذ ذاك بقولهم يا ثبوراه. ثانيًا: إتباع ذلك بما يؤكد حسرتهم وندامتهم بوصف ما يلقاه المتقون في جنات النعيم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن هذا ما وعدهم به الذي لا يخلف وعده. قال جل وعلا: { بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لاَ تَدْعُوا اليَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا * قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخُلْدِ الَتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَّسْئُولاً } .
586- من هدي القرآن للتي هي أقوم: أولاً: بيان ضعف عقول المشركين، وقصور إدراكهم، حيث قالوا أقوالاً كلها جهل وضلال وسعة، فذكروا خمس صفات في زعمهم أنها تمنع النبوة، قالوا: إنه يأكل الطعام، أي يأكل كما نأكل ويشرب كما نشرب. ثانيًا: أنه يمشي في الأسواق لابتغاء الرزق كما نفعل، فهو مثلنا. ثالثًا: قالوا هلا أنزل إليه ملك من عند الله يساعده ويعاونه. رابعًا: قالوا هلا ألقي إليه كنز، أي مال من غير تعب ولا نصب. خامسًا: قالوا: هلا كان له بستان يعيش من غلته كما يعيش المياسير.(3/130)
... قال جل وعلا: { وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } ، وقال: { وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا } إلى قوله: { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً } .
587- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التنبيه على سُّنة الله في خلقه، وهي ابتلاء بعض الناس ببعض، فيبتلى الفقراء بالأغنياء والمرسلين بالمرسل إليهم، والمريض بالصحيح، وهكذا ليتبين أيهم يصبر وأيهم يجزع، وهو البصير بال الصابرين والجازعين، قال تعالى: { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا } .
588- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من هجران القرآن الكريم، ومن هجرانه ترك الإيمان به، وترك التصديق به، وترك العمل به، وعدم امتثال أمره هجران له، وترك الحكم به هجران له، قال الله تعالى: { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُورًا } .
589- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان ضعف أفهام الكفار عن فهم أسرار القرآن حيث اقترحوا أن نزوله دفعة أحسن، فمن فوائد إنزاله بالتدريج، تثبيت قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - به.
... ثانيًا: أن ذلك أدعى إلى حفظه وفهمه فهمًا عميقًا.
ثالثًا: لو نزلت الشرائع دفعة واحدة لربما حصل في ذلك حرج على الخلق بكثرة التكاليف مرة واحدة.(3/131)
رابعًا: أنه –عليه الصلاة والسلام- إذا شاهد جبريل الفينة بعد الفينة قوي قلبه على أداء ما حمل به، وعلى الصبر على أعباء الرسالة، وعلى احتمال أذى قومه، وقدر على الجهاد الذي استمر عليه طول حياته الشريفة.
خامسًا: أنه أنزل بحسب الوقائع، فكان في ذلك زيادة تبصر لهم في دينهم.
... قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } ، وقال تعالى: { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } .
590- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على التفكر والتدبر بعين الإنصاف والتأمل في بلاغة القرآن والتحذير من المعاصي وما تؤول إليه عاقبتها، قال الله جل وعلا: { الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وَجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً } ، وقال: { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وَجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } ، وقال: { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } .
591، 592، 593، 594- من هدي القرآن للتي هي أقوم: أولاً: الحث على التواضع. ثانيًا: النهي عن الكبر. ثالثًا: الحث على قيام الليل. رابعًا: الحث على الحلم ومقابلة المسيء بالإحسان والعفو عن الجاهل.
قال الله جل وعلا: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا } .(3/132)
595- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على التوسط في النفقة بين الإسراف والتقتير، قال الله تبارك وتعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } ، وقال: { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا } .
596- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على التوبة، وأنها إذا صحت مقبولة، وأن الله يبدل السيئات بحسنات لمن عمل بما ذكر الله. قال الله جل وعلا: { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } الآية.
597، 598، 599- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على البعد عن مجالس الزور، والتحذير من قول الزور، ومن شهادة الزور، قال تعالى: { وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } .
600- الحث على إكرام النفس بالابتعاد عن سماع اللغو وما لا خير فيه، قال الله جل وعلا في مدح عباده: { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } ، وقال: { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } ، وقال: { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ } .
601، 602- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى سؤال الله ما تقر به أعينهم من الأزواج والذرية. ثانيًا: سؤال الله أن يجعلهم أئمة للمتقين. قال الله جل وعلا: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } .(3/133)
603- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على معاملة المؤمنين بالرفق واللين، قال تعالى: { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ } ، وقال: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } ، وقال: { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } ، وقال: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } .
604- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان صفات من تنزل عليهم الشياطين، وهم أولياء الشياطين، وأبرز صفاتهم الكذب والفجور والذنوب، قال الله تعالى: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } .
605- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من إنكار البعث والحساب والجزاء على الأعمال، وبيان حال من لا يؤمن بالآخرة ويتماد في غيه ويعرض عن الذكر الحكيم، وأنه يبقى حائرًا مترددًا في ضلاله، فهو في عذاب شديد في دنياه لتبلبل فكره وقلقه واضطراب نفسه، وفي الآخرة له الخسران المبين.
... قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ العَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ } .
606، 607، 608- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر بعض المعجزات الدالة على قدرة الله، وصدق رسله، من ذلك:
... 1- قلب عصى موسى حية تسعى.
2- إخراج يده من جيبه بيضاء من غير نقص ولا برص، لها شعاع يبهر الناظرين.(3/134)
3- البشارة العظيمة لمن تاب وأناب، فإن الله يتوب عليه، قال تعالى لكليمه موسى: { وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ } إلى قوله: { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } .
609، 610- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر قصص داود وسليمان، وما وفقهما الله له من علوم الدين والدنيا. ثانيًا: الحث على حمد الله وشكره، فعلم الله داود صنعة الدروع ولبوس الحرب، وعلم سليمان منطق الطير.
... قال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ } إلى قوله: { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ } ، وقال في حق داود: { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ } .
611- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر بعض ما أوتيه سليمان للتدبر والتفكر والاعتبار، والجد والاجتهاد فيما يرضي الله من ذلك حشد عساكره وجنوده الكثير المتنوعة من الجن، ومن بني آدم، ومن الشياطين، ومن الطيور، قال تعالى: { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } .
612، 613- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر كلمة النملة؛ لما فيها من الاعتبار والاتعاظ، وزيادة الإيمان التي ألقتها على بني جنسها متضمنة النصيحة والإنذار والاعتذار عن سليمان وجنوده.
... ثانيًا: فهم سليمان لقولها وتبسمه ضاحكًا من حذرها وتحذيرها، والهداية التي غرسها الله فيها.(3/135)
قال الله تعالى: { حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا } .
614- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر قصة الهدهد مع سليمان، وما في القصة من العبر والحكم والفوائد والأعاجيب التي منها تنبيه الولاة على تفقد رعايهم وخصوصًا الجنود، ومنها: بلاغة الهدهد، فإنه بدأ كلامه بما يرغب في الإصغاء إلى عذره، واستمالة القلب إلى قبوله، ولبيان خطر ما شغله، وأنه أمر جليل الشأن لا يستهان به، ويجب أن يتدبر فيه، ومنها: تنبيه سليمان –عليه السلام- على أن في أدنى خلق الله من أحاط بما لم يحط به لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر عنده علمه، ويكون لطفًا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة عظيمة خصوصًا في حق العلماء، وطلبة العلم.
... قال تعالى: { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغَائِبِينَ } إلى قوله: { بِنَبَأٍ يَقِينٍ } .
615، 616- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر ما في تفصيل النبأ الذي جاء به الهدهد من ملكة اليمن بلقيس؛ لما في ذلك من العبر والمواعظ التي تقوي الإيمان وتزيده، فأخبر أولاً أنه وجد ملكتهم امرأة. ثانيًا: أنها أوتيت من الثراء وأبهة الملك، وما يلزم ذلك من عتاد الحرب والسلاح وآلات القتال الشيء الكثير. ثالثًا: أن لها سرير عظيم تجلس عليه، هذا ما يتعلق بالدنيا، قال تعالى مخبرًا عن ما قاله الهدهد: { إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } .(3/136)
617، 618- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان انتقاد الهدهد لهم وتبيينه لمعتقداتهم الدينية، فأولاً: أنه وجدهم ضالين يعبدون الشمس، وأن الشيطان زين لهم أعمالهم فظنوا حسنًا ما ليس بحسن، قال تعالى مخبرًا عما قاله الهدهد لسليمان: { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ } .
619- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على التبيين والتثبيت في الأمور، كما في قصة سليمان مع الهدهد، فإنه اختبره، قال تعالى مخبرًا عما قاله سليمان للهدهد حين قص عليه الخبر: { أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكَاذِبِينَ * اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } .
620، 621، 622، 623- من هدي القرآن للتي هي أقوم الإرشاد إلى ما اشتمل عليه كتاب سليمان من الأمور التي منها إثبات الإله ووحدانيته وقدرته ورحمته.
... ثانيًا: نهيهم عن إتباع الهوى ووجوب إتباع الحق.
ثالثًا: أمرهم بالمجيء إليه منقادين خاضعين.
رابعًا: الدعوة إلى الإسلام.
... قال تعالى: { قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } .
624- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تنبيه العباد إلى عظم قدرة الله حيث حضر عرش بلقيس قبل ارتداد الطرف. ثانيًا: الحث على شكر الله.(3/137)
... قال الله تعالى: { قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } إلى قوله: { فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } .
625- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من المكر والغدر والخداع والظلم؛ لأنه مرتعها وخيم، قال جل وعلا: { وَكَانَ فِي المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ } إلى قوله: { يَعْلَمُونَ } .
626، 627، 628، 629، 630- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر خمسة أدلة جلية تدل على قدرة الله وحكمته ورحمته، وأنه الإله المعبود، وأن عبادته هي الحق، وأن عبادة غيره باطلة، أول الأدلة قوله تبارك وتعالى: { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } إلى قوله تعالى: { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .
631- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى التعليم الحسن والأدب الجميل بأن يحمدوا الله شكرًا له على نعمه التي لا تعد ولا تحصى وأن يسلموا على عباده الذي اصطفى.(3/138)
... قال تعالى: { قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } .
632، 633- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تنبيه العباد على سعة جود الله وكثرة إفضاله والحث على شكره. ثانيًا: التحذير من معاصي الله الذي يعلم السر وأخفى.
... قال تعالى: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } ، وقال: { وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } .
634- من هدي القرآن للتي هي أقوم: هيمنته على الكتب السابقة وتفصيله وتوضيحه؛ لما كان فيها من اشتباه واختلاف عند بني إسرائيل، فقصه القرآن قصًا زال به الإشكال، وبين الصواب من المسائل المختلف فيها.
... قال الله جل وعلا: { إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } .
635- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تنبيه العباد إلى ما أمامهم في يوم القيامة وما فيه من الكروب، والشدائد، والأهوال العظيمة التي تزعج القلوب، وتدهش الأبصار والأسماع، قال تعالى: { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ * وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } ، وقال: { يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الجِبَالُ سَيْرًا } ، وقال: { يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الجِبَالُ كَالْعِهْنِ } ، وقال: { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ المَلائِكَةُ تَنزِيلاً } .(3/139)
636، 637، 638- من هدي القرآن للتي هي أقوم: توضيحه وكشفه لأمور الدين، وأخبار الأولين، ومن ذلك بعض أخبار موسى –عليه السلام- ومحاجته لفرعون وغلبة موسى له بالحجة والبرهان. ثانيًا: الإخبار عن فرعون وجبروته وطغيانه وفساده، وكيف قابل الحق بالباطل، ولم تجد معه البراهين الساطعة والمعجزات الباهرة؛ لما في ذلك من العظة والاعتبار والتذكر والانكفاف عن المعاصي. ثالثًا: إمهال فرعون وتمكينه بسبب ما بينه الله بقوله: { وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا } إلخ، فإنه فرقهم فرقًا مختلفة وأحزابًا متعددة، وأغرى بينهم العداوة والبغضاء كيلا يجتمعوا ويتفقوا، بل اشتغل بعضهم بالكيد لبعض، ومشى على هذا المنهج خلق كثير وعبروا عنه بقولهم: فَرِّقْ تَسُدْ.
قال الله تعالى: { طسم * تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ } .
639- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أن العاقبة الحسنة لعباد الله الصالحين المتقين.
... قال تعالى: { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ } ، وقال: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } ، وقال: { فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } ، وقال: { وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا } .(3/140)
640، 641، 642- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر ولادة موسى وإرضاته وتربيته في بيت فرعون؛ لما في ذلك من التنبيه: 1- على قدرة الله. 2- وعلى أن الحذر لا ينفع من القدر. 3- وعلى أن الأمور تتمشى بالتدريج وعلى صدق وعد الله. 4- وأن العاقبة قد تكون ضد ما قصدت له.
... قال تعالى: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًا وَحَزَنًا } إلى قوله: { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .
643- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أن الجزاء من جنس العمل، فمن أحسن في عبادة الله، وأحسن إلى عباد الله آتاه الله حكمًا وعلمًا، قال الله تعالى في حق موسى: { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ } .
644، 645، 646- من هدي القرآن للتي هي أقوم: 1- الحث على إعانة الضعيف والعاجز. 2- الحث على الإحسان من عرف ومن لم يعرف من المؤمنين. 3- أن من عمل عملاً خالصًا لله، ثم حصل عليه مكافأة، فإنه لا بأس به، كما في قصة موسى مع صاحب مدين، قال الله تعالى: { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ } إلى قوله: { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } .
647، 648، 649- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد المؤمن إلى تنبيه أخيه المؤمن بسرعة إذا أريد به سوء.
ثانيًا: أن الإنسان إذا خشي الهلاك فلا يستسلم، بل يفعل الأسباب التي يرى فيها السلامة.(3/141)
ثالثًا: الالتجاء إلى الله دائمًا وسؤاله التخلص مما ألم به، قال الله جل وعلا وتقدس: { وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ المَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ } .
650- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى الشروط التي ينبغي أن تتوفر في متولي الأعمال، وهي خمسة: 1- القوة. 2- القدرة. 3- الأمانة. 4- الحفظ. 5- العلم.
... قال تعالى: { إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ } ، وقال عما قاله يوسف: { إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } .
651- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أن أسباب العذاب منحصرة في شيئًا تكذيب خبر الله وخبر رسله والتولي عن طاعته وطاعة رسله.
... قال الله جل وعلا: { لاَ يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } ، وقال: { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } .
652- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى الأسباب التي تدرك بها مغفرة الله، وهي التوبة، والإيمان، والعمل الصالح، والاستمرار عليه، قال الله جل وعلا: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } .
653- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تنبيه العباد إلى الأدلة والبراهين الواضحة كالشمس في رابعة النهار على رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من ذلك إخباره بأمور غيبية ماضية لم يشاهدها، وقد قصها كالسامع والرائي لها، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، وقد نشأ بين قوم أميين لا يعرفون شيئًا من ذلك.(3/142)
... قال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } ، وقال تعالى: { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ } إلى قوله: { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ، وقال: { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ } ، وقال: { قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } .
654، 655- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على التمسك بالقرآن والتحذير من إتباع الهوى، قال تعالى: { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ، وقال الله جل وعلا وتقدس: { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ } ، وقال: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } .
656، 657- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان حقارة الدنيا وما فيها، والحث على الزهد فيها. ثانيًا: التغريب في الآخرة وجعلها هي المقصد والمطلب لبقائها وبقاء نعيمها.(3/143)
... قال تعالى: { وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ، وقال: { بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } ، وقال: { وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } .
658- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى إنفراد الله جل وعلا باختيار من يختاره ويختصه من الأشخاص والأوامر والأزمان والأماكن، وليس لأحد من الأمر شيء. قال تعالى: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ } ، وقال لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } ، وقال تعالى: { قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } .
659، 660- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تنبيه العباد إلى شكر الله على نعمه التي لا تحصى التي منها: أن الليل والنهار نعمتان يتعاقبان على مر الزمان، و المرء في حاجة شديدة إليهما، إذ لا غنى له من الكدح ي الحياة لتحصيل القوت، ولا يتسنى له ذلك على الوجه المرضي إلا بالنهار، كما لا يكمل له السعي على الرزق إلا بعد الراحة والسكون بالليل، ولا يقدر على ذلك إلا الله الواحد القهار، قال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .(3/144)
661- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من البغي والطغيان والجبروت، فقد أهلك قارون بالخسف، وزلزلت به الأرض وهوت من تحته، ثم أصبح مثلاً يضرب للناس في ظلمه وعتوه، قال تعالى: { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ } إلخ.
662- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر نصائح قوم قارون له؛ لما فيها من الفوائد والعبر والتذكير والإتعاظ فأولاً نهوه عن الفرح المذموم، فرح البطر والأشر والكبر والإعجاب.
... ثانيًا: قالوا له استعمل ما وهبك الله من المال الجزيل فيما يقرب إلى الله والدار الآخرة.
ثالثًا: لا تترك نصيبك من الدنيا، اجمع بينهما، واسلك الطريق الوسط تمتع بلا إسراف ولا تقتير.
رابعًا: أحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك بهذا المال العظيم.
خامسًا: لا تبغ الفساد في الأرض، ثم اتبعوا هذه المواعظ بعلتها، فقالوا: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ } ، فلم يقبل هذه النصائح الثمينة؛ لأنه لم يوفق، بل ردها وزاد في كفران النعمة، كما يعلم من الآيات.
663- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر خروج قارون على قومه في زينته، فانقسم الناظرون إليه إلى قسمين كل تكلم بحسب ما عنده من الرغبة، ففريق جهال، لا هم لهم إلا زخرف الدنيا وزينتها، قد أعمتهم الدنيا عن الوضع السليم الطريق المستقيم، فتمنوا أن يكون لهم مثله، وما أكثر هذا القسم في عصرنا، والفريق الآخر: قد نور الله بصيرته، فهو ينظر إلى الدنيا بعين الاعتبار والعظة، والرجل الفاهم للحقائق الذي لا تخدعه المظاهر الخلابة، قالوا متوجعين لأولائك مما تمنوا لأنفسهم: { ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا } .(3/145)
... قال تعالى: { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ } .
664- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على التواضع والتحذير من العلو في الأرض والفساد، قال الله جل وعلا وتقدس: { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } .
665- من هدي القرآن للتي هي أقوم: بشارة المؤمن المحب للقاء الله العامل بما يرضي الله، فإن لقاء الله آت مؤملاً الوصول إليه، قال تعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } ، قال الله تعالى: { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ } .
666- من هدي القرآن للتي هي أقوم: إرشاد العباد إلى أن من بذل جهده في جهاد العدو، وجهاد النفس والهوى، فإنما جهاده لنفسه؛ لأن نفعه راجع إليه وثمرته عائدة إليه، والله غني عن جميع الخلق.
... قال تعالى: { وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ } ، وقال: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ } ، وقال: { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ } .(3/146)
667، 668- من هدي القرآن للتي هي أقوم: تنبيه العباد إلى التفكر والتدبر والإتعاظ في بدئ الخلق ليقوى الإيمان بالبعث، ولزيادته وللاستدلال به على الإعادة عند من لم يؤمن بها أو عنده شك فيها، قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } ، وقال: { أَوَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } ، وقال: { قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
669- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر قصة نوح –عليه السلام- أطول الأنبياء عمرًا دعا قومه ليلاً ونهارًا، وقد لون لهم الدعوة، وفاوت بين الأساليب، فمرة يخوف، ومرة يبشر، مرة يشتد، وأخرى يلين، ومرة يعدهم بنعمة الله، ومرة يذكرهم بآيات الله في الآفاق وفي أنفسهم، فلم تنفعهم مع ذلك موعظة ولم تفدهم الذكرى، ومكروا بدعوته وأصروا على عصيانه ومخالفته ووصى بعضهم بعضًا بالباطل، وقالوا: { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } ، ولم يؤمن معه إلا قليل مع طول الزمن في نصحهم، قال تعالى: { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } إلى منتهى السورة، وجاءت في «سورة الأعراف»، وفي سورة «هود»، و«يونس» وسورة «قد أفلح المؤمنون»، و«الشعراء»، وبعد أن عيل صبره ونفدت أساليب الدعوة إلى الله أخذ يدعو عليهم، فقال: { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا } .(3/147)
670، 671- من هدي القرآن للتي هي أقوم: الحث على الاستعانة بالله، وذكر اسمه عند ركوب المركوب، قال تعالى: { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } .
ثانيًا: التنبيه على الدعاء بالبركة في نزول المنازل، قال تعالى: { وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ المُنزِلِينَ } .
672، 673- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير الشديد من الكفر بآيات الله الكونية والآيات التي أنزلها على رسله الدالة على توحيده.
... ثانيًا: التحذير من جحد لقاء الله والورود عليه يوم تقوم الساعة.
قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } .
674- من هدي القرآن للتي هي أقوم: ذكر قصة هود –عليه السلام- مع قومه عاد؛ لما فيها من العبر والمواعظ والتذكير، ودَعْوَته إياهم إلى عبادة الله وحده، وردهم لدعوته وتسفيهه، ورده عليهم ردًا لطيفًا، ونهيه إياهم أن يتخذوا في كل مكان مرتفع من الأرض بناء شامخًا، وأنهم لم يبنوا أولئك الأبنية لأغراض صحيحة ومصالح تعود عليهم بالنفع، وإنما كانوا عابثين لاعبين، فكانوا سفهاء في بعثرة المال وإضاعة الثروة، وما أكثر أمثال هؤلاء في زمننا، فما أكثر البانين للعبث واللعب والمشيدين القصور للرياء والمفاخرة، وما أضيع المال في أيدي أولئك السفهاء العابثين، وما أحوجهم إلى أوصياء يحولون بينهم وبين ذلك العبث، ففي الدعوة تنبيه إلى الاقتصاد، وتوفير المال ووضعه حيث يفيد ويثمر.(3/148)
... وتنتهي القصة بنجاة هود والذين آمنوا معه واستئصال دابر الذين جحدوا بآيات الله، قال الله جل وعلا وتقدس في «سورة الأعراف»: { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } إلى قوله: { فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ } ، وفي «سورة الشعراء» يقول: { كَذَّبَتْ عَادٌ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوَهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } إلى قوله: { فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } ، وجاء أيضًا في «سورة هود».
675، 676- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التنبيه إلى أن اتخاذ الأبنية الفخمة للفخر والخيلاء وقهر العباد بالجبروت من الأمور المذمومة كما في القصة، قوله: { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } .
677- من هدي القرآن للتي هي أقوم: التحذير من جحود آيات الله، وتكذيب رسله وكتبه، وبيان أن القلوب والأسماع والأبصار لا تغني الجاحدين لآيات الله شيئًا، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } .(3/149)