سورة التكاثر
أقول هذه السورة واقعة موقع العلة لخاتمة ما قبلها كأنه لما قال هناك فأمه هاوية 9 قيل لم ذلك فقال لأنكم الهاكم التكاثر 1 فاشتغلتم بدنياكم وملأتم موازينكم بالحطام فخفت موازينكم بالآثام ولهذا عقبها بسورة العصر المشتملة على أن الإنسان في خسر بيان لخسارة تجارة الدنيا وربح تجارة الآخرة ولهذا عقبها بسورة الهمزة المتوعد فيها من جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده فانظر لى تلاحم هذه السور الأربع وحسن اتساقها
سورةالفيل
ظهر لي في وجه اتصالها بعد الفكرة أنه تعالى لما ذكر حال الهمزة اللمزة الذي جمع مالا وعدده وتعزز بماله وتقوى عقب ذلك بذكر قصة أصحاب الفيل الذين كانوا أشد منهم قوة واكثر أموالا وعتوا وقد جعل كيدهم في تضليل واهلكهم بأصغر الطير وأضعفه وجعلهم كعصف مأكول ولم يغن عنهم مالهم ولاعزهم ولا شوكتهم ولا فيلهم شيئا
فمن كان قصارى تعززه وتقويه بالمال وهمز الناس بلسانه أقرب إلى الهلاك وأدنى إلى الذلة والمهانة
سورة قريش
هي شديدة الاتصال بما قبلها لتعلق الجار والمجرور في أولها بالفعل في آخر (1/157)
تلك ولهذا كانتا في مصحف أبي سورة واحدة
سورة الماعون
أقول لما ذكر تعالى في سورة قريش الذي أطعمهم من جوع 4 ذكر هنا ذم من لم يحض على طعام المسكين
ولما قال هناك فليعبدوا رب هذا البيت 3 ذكر هنا من سها عن صلاته
سورة الكوثر
قال الإمام فخر الدين هي كالمقابلة للتي قبلها لأن السابقة وصف الله سبحانه فيها المنافقين بأربعة أمور البخل و ترك الصلاة والرياء فيها ومنع الزكاة
وذكر في هذه السورة في مقابلة البخل إنا أعطيناك الكوثر 1 أي الخير الكثير وفي مقابلة ترك الصلاة فصل 2 أي دم عليها وفي مقابلة الرياء لربك 2 أي لرضاه لا للناس وفي مقابلة منع الماعون وانحر 2 وأراد به التصدق بلحوم الأضاحي قال فاعتبر هذه المناسبة العجيبة (1/158)
سورة الكافرون
أقول وجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى لما قال فصل لربك أمره أن يخاطب الكافرين بأنه لا يعبد إلا ربه ولايعبد ما يعبدون وبالغ في ذلك فكرر وانفصل منهم على أن لهم دينهم وله دينه
سورة النصر
أقول وجه اتصالها بما قبلها أنه قال في آخر ما قبلها ولى دين فكان فيه إشعار بأنه خلص له دينه وسلم من شوائب الكفار والمخالفين فعقب ببيان وقت ذلك وهو مجيء الفتح والنصر فإن الناس حين دخلوا في دين الله أفواجا فقدتم الأمر وذهب الكفر وخلص دين الإسلام ممن كان يناوئه ولذلك كانت السورة إشارة إلى وفاته صلى الله عليه و سلم
وقال الإمام فخر الدين كأنه تعالى يقول لما أمرتك في السورة المتقدمة بمجاهدة جميع الكفار بالتبري منهم وإبطال دينهم جزيتك على ذلك بالنصر والفتح وتكثير الأتباع
قال ووجه آخر وهو أنه لما أعطاه الكوثر وهو الخير الكثير ناسب تحميله مشقاته وتكاليفه فعقبها بمجاهدة الكفار والتبرى منهم فلما امتثل ذلك أعقبه بالبشارة بالنصر والفتح وإقبال الناس أفواجا إلى دينه وأشار إلى دنو أجله فإنه ليس بعد الكمال إلا الزوال
توقع زوالا إذا قيل تم (1/159)
سورة تبت
قال الإمام وجه اتصالها بما قبلها أنه لما قال لكم دينكم ولى دين 6 فكأنه قيل إلهى وما جزائى فقال الله له النصر والفتح فقال وما جزاء عمي الذى دعانى إلى عبادة الأصنام فقال تبت يدا أبي لهب 1 الآيات
وقدم الوعد على الوعيد ليكون النصر معللا بقوله ولي دين ويكون الوعيد راجعا إلى قوله لكم دينكم على حد قوله يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم
قال فتأمل في هذه المجانسة الحافلة بين هذه السور مع أن سورة النصر من أواخر ما نزل بالمدينة والكافرون وتبت من أوائل ما نزل بمكة ليعلم أن ترتيب هذه السور من الله وبأمره
قال ووجه آخر وهو أنه لما قال لكم دينكم ولى دين كأنه قيل يا إلهى ما جزاء المطيع قال حصول النصر والفتح فقيل وما ثواب العاصى قال الخسارة في الدنيا والعقاب في العقبى كما دلت عليه سورة تبت
سورة الاخلاص
قال بعضهم وضعت ههنا للوزان في اللفظ بين فواصلها ومقطع سورة تبت وأقول ظهر لى هنا غير الوزان في اللفظ أن هذه السورة متصلة بقل يا أيها الكافرون في المعنى ولهذا قيل من أسمائها أيضا الإخلاص وقد قالوا إنها اشتملت على التوحيد وهذه أيضا مشتملة عليه ولهذا قرن بينهما في (1/160)
القراءة في الفجر والطواف والضحى وسنة المغرب وصبح المسافر ومغرب ليلة الجمعة
وذلك أنه لما نفى عبادة ما يعبدون صرح هنا بلازم ذلك وهو أن معبوده أحد وأقام الدليل عليه بأنه صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ولا يستحق العبادة إلا من كان كذلك وليس في معبوداتهم ما هو كذلك
وإنما فصل بين النظيرتين بالسورتين لما تقدم من الحكمة وكأن إيلاءها سورة تبت ورد عليه بخصوصه
سورة الفلق و الناس
أقول هاتان السورتان نزلتا معا كما في الدلائل للبيهقي فلذلك قرنتا مع ما اشتركتا فيه من التسمية بالمعوذتين ومن الافتتاح بقل أعوذ و عقب بهما سورة الإخلاص لأن الثلاثة سميت في الحديث بالمعوذات وبالقوافل
وقدمت الفلق على الناس و إن كانت أقصر منها لمناسبة مقطعها (1/161)
في الوزان لفواصل الإخلاص مع مقطع تبت
وهذا آخر ما من الله به علي من استخراج مناسبات ترتيب السور وكله من مستنبطاتى ولم أعثر فيه على شئ لغيرى إلا النزر اليسير الذي صرحت بعزوى له فلله الحمد على ما ألهم والشكر على ما من به وأنعم سبحانك لاأحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
ثم رأيت الإمام فخر الدين ذكر في تفسيره كلاما لطيفا في مناسبات هذه السور فقال في سورة الكوثر اعلم أن هذه السورة كالمتممة لما قبلها من السور وكالأصل لما بعدها
أما الأول فلأنه تعالى جعل سورة الضحى في مدح النبي صلى الله عليه و سلم وتفصيل أحواله فذكر في أولها ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى 3 5 ثم ختمها بثلاثة أحوال من أحواله فيما يتعلق بالدنيا ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى 6 8
ثم ذكر في سورة ألم نشرح أنه شرفه بثلاثة أشياء شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر
ثم شرفه في سورة التين بثلاثة أشياء أنواع أقسم ببلده وأخبر بخلاص أمته من الناس بقوله إلا الذين آمنوا 6 ووصولهم إلى الثواب بقوله فلهم أجر غير ممنون 6
و شرفه في سورة اقرأ بثلاثة أنواع اقرأ باسم ربك وقهر خصمه (1/162)
بقوله فليدع ناديه سندع الزبانيه 18 وتخصيصه بالقرب في قوله واسجد واقترب 19
وشرفه في سورة القدر بليلة القدر وفيها ثلاثة أنواع من الفضيلة كونها خيرا من ألف شهر وتنزل الملائكة والروح فيها وكونها سلاما حتى مطلع الفجر
وشرفه في لم يكن بثلاثة أشياء أنهم خير البرية وجزاؤهم جنات ورضى عنهم
وشرفه في الزلزله بثلاثة أنواع إخبار الأرض بطاعة أمته ورؤيتهم أعمالهم ووصولهم إلى ثوابها حتى وزن الذرة
وشرفه في العاديات بإقسامه بخيل الغزاة من أمته ووصفها بثلاث صفات
وشرفه بالقارعة بثقل موازين أمته وكونهم في عيشة راضية ورؤيتهم أعداءهم في نار حامية
وفي الهاكم التكاثر هدد المعرضين عن دينه بثلاث يرون الجحيم ثم يرونها عين اليقين ويسألون عن النعيم
وشرفه في سورة العصر بمدح أمته بثلاث الإيمان والعمل الصالح وإرشاد الخلق إليه وهو التواصي بالحق والصبر
وشرفه في سورة الهمزة بوعيد عدوه بثلاثة أشياء ألا ينتفع بدنياه ويعذبه في الحطمة ويغلق عليه
وشرفه في سورة الفيل بأن رد كيد عدوه بثلاث بأن جعله في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل وجعلهم كعصف مأكول
وشرفه في سورة قريش بثلاث تألف قومه وإطعامهم وأمنهم (1/163)
وشرفه في الماعون بذم عدوه بثلاث الدناءة واللؤم في قوله فذلك الذي يدع اليتيم ولايحض على طعام المسكين 2 3 وترك تعظيم الخالق في قوله فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون 4 6 وترك نفع الخلق في قوله ويمنعون الماعون 6
فلما شرفه في هذه السور بهذه الوجوه العظيمة قال إنا أعطيناك الكوثر أي هذه الفضائل المتكاثرة المذكورة في هذه السور التي كل واحدة منها أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها فاشتغل أنت بعبادة ربك إما بالنفس وهو قوله فصل لربك وإما بالمال وهو قوله وانحر وإما بإرشاد العباد إلى الأصلح وهو قوله قل يا أيها الكافرون لاأعبد ما تعبدون الآيات فثبت أن هذه السورة كالمتممة لما قبلها
وأما كونها كالأصل لما بعدها فهو أنه تعالى يأمره بعد هذه أن يكف عن أهل الدنيا جميعا بقوله قل يا أيها الكافرون إلى آخر السورة ويبطل أذاهم وذلك يقتضي نصرهم على أعدائهم لأن الطعن على الإنسان في دينه أشد عليه من الطعن في نفسه وزوجه وذلك مما يجبن عنه كل أحد من الخلق فإن موسى وهارون أرسلا إلى فرعون واحد فقالا إنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى 20 45 ومحمد صلى الله عليه و سلم مرسل إلى الخلق جميعا فكان كل واحد من الخلق كفرعون بالنسبة إليه فدبر الله في إزالة الخوف الشديد تدبيرا لطيفا بأن قدم هذه السورة وأخبر فيها بإعطائه الخير الكثير ومن جملته ايضا الرئاسة ومفاتيح الدنيا فلا يلتفت إلى ما بأيديهم من زهرة الدنيا وذلك أدعى إلى مجاهدتهم بالعداوة والصدع بالحق لعدم تطلعه إلى ما بأيديهم
ثم ذكر بعد سورة الكافرين سورة النصر فكأنه تعالى يقول وعدتك (1/164)
بالخير الكثير وإتمام أمرك وأمرتك بإبطال أديانهم والبراءة من معبوداتهم فلما امتثلت أمري أنجزت لك الوعد بالفتح والنصر وكثرة الأتباع بدخول الناس في دين الله أفواجا
ولما تم أمر الدعوة والشريعة شرع في بيان ما يتعلق بأحوال القلب والباطن
وذلك أن الطالب إما أن يكون طلبه مقصورا على الدنيا فليس له إلا الذل والخسارة والهوان والمصير إلى النار وهو المراد من سورة تبت وإما أن يكون طالبا للآخرة فأعظم أحواله أن تصير نفسه كالمرآة التي تنتقش فيها صور الموجودات
وقد ثبت أن طريق الخلق في معرفة الصانع على وجهين منهم من قال أعرف الصانع ثم أتوسل بمعرفته إلى معرفة مخلوقاته وهذا هو الطريق الأشرف ومنهم من عكس وهو طريق الجمهور
ثم أنه سبحانه ختم كتابه المكرم بتلك الطريقة التي هي أشرف فبدأ بذكر صفات الله وشرح جلاله في سور الإخلاص ثم أتبعه بذكر مراتب مخلوقاته في الفلق ثم ختم بذكر مراتب النفس الإنسانيةفي الناس وعند ذلك ختم الكتاب فسبحان من أرشد العقول إلى معرفة هذه الأسرار الشريفة في كتابه المكرم هذا كلام الإمام
ثم قال في سورة الفلق سمعت بعض العارفين يقول لما شرح الله سبحانه (1/165)
أمر الإلهية في سورة الإخلاص ذكر هاتين السورتين عقبها في شرح مراتب الخلق على ما قال ألا له الخلق والأمر
فعالم الأمر كله خيرات محضه بريئة عن الشرور والآفات أما عالم الخلق فهو الأجسام الكثيفة والجثمانيات فلا جرم قال في المطلع قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق 1 2
ثم الأجسام إما أبدية وكلها خيرات محضه لأنها بريئة عن الاختلافات والفطور على ما قال ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور 67 3 وإما عنصرية وهي إما جمادات فهي خالية عن جميع القوى النفسانية فالظلمات فيها خالصة والأنوار عنها زائلة وهو المراد من قوله ومن شر غاسق إذا وقب 113 3 وإما نبات والقوة العادلة هي التي تزيد في الطول والعمق معا فهذه القوة النباتية كأنها تنفث في العقدة وإما حيوان وهو محل القوى التي تمنع الروح الإنسانية عن الانصباب إلى عالم الغيب والاشتغال بقدس جلال الله وهو المراد بقوله ومن شر حاسد إذا حسد
ثم إنه لم يبق من السفليات بعد هذه المرتبة سوى النفس الإنسانيه وهي المستفيدة فلا يكون مستفادا منها فلا جرم قطع هذه السورة وذكر بعدها في سورة الناس مراتب ودرجات النفس الإنسانية انتهى
ولم يبين المراتب المشار إليها وقد بينها ابن الزملكاني في أسراره فقال إضافة رب إلى الناس تؤذن بأن المراد بالناس الأطفال لأن الرب من ربه يربه وهم إلى التربية أحوج وإضافة ملك إلى الناس (1/166)
تؤذن بإرادة الشباب به إذ لفظ ملك يؤذن بالسياسة والعزة والشبان إليها أحوج وإضافة إله إلى الناس تؤذن بأن المراد به الشيوخ لأن ذاته مستحقة للطاعة والعبادة وهم أقرب وقوله يوسوس في صدور الناس يؤذن بأن المراد بالناس العلماء والعباد لأن الوسوسة غالبا عن الشبه وقوله من الجنة والناس يؤذن بأن المراد بالناس الأشرار وهم شياطين الإنس الذين يوسوسون لهم والله تعالى أعلم (1/167)
أسرار ترتيب القرآن (1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم الحمد لله الذي أنزل كتابه المجيد على أحسن أسلوب وبهر بحسن أساليبه وبلاغة تركيبه القلوب نزله آيات بينات وفصله سورا وآيات ورتبه بحكمته البالغة أحسن ترتيب ونظمه أعظم نظام بأفصح لفظ وأبلغ تركيب صلى الله على من أنزل اليه لينذر به وذكرى ونزله على قلبه الشريف فنفى عنه الحرج وشرح له صدرا وعلى آله وصحبه مهاجرة ونصرا وبعد
فإن الله سبحانه من علي بالنظر في مواقع نجومه وفتح لي أبواب النظر فيه الى استخراج ما أودع فيه من علومه فلا أزال أسرح النظر في بساتينه من نوع الى نوع وأستسنح الخاطر في ميادينه فيبلغ الغرض ويرجع وهو يقول لا روع فتقت عن أنواع علومه ولقبتها وأودعت ما أوعيت منها في دواوين وأعيتها ونقبت عن معادن معانيه وأبرزتها وأوقدت عليها نار القريحة وميزتها وألفت في ذلك جامعا ومفردا ومطنبا ومقصدا ومن خلق لشيء فإلى تيسره ومن أحب شيئا أكثر من ذكره
وأن مما ألفت في تعلقات القرآن كتاب أسرار التنزيل الباحث عن أساليبه المبرز أعاجيبه المبين لفصاحة ألفاظه وبلاغة تراكيبه الكاشف (1/65)
عن وجه اعجازه الداخل الى حقيقتة من مجازه المطلع على أفانينه المبدع في تقرير حججه وبراهينه فإنه اشتمل على بضع عشرة نوعا
الأول بيان مناسبات ترتيب سوره وحكمة وضع كل سورة منها
الثاني بيان أن كل سورةشارحة لما أجمل في السورة التي قبلها
الثالث وجه اعتلاق فاتحة الكتاب بخاتمة التي قبلها
الرابع مناسبة مطلع السورة للمقصد الذي سيقت له وذلك براعة الإستهلال
الخامس مناسبة أوائل السور لأواخرها
السادس مناسبات ترتيب آياته واعتلاق بعضها ببعض وارتباطها وتلاحمها وتناسقها
السابع بيان أساليبه في البلاغة وتنويع خطاباته وسياقاته
الثامن بيان ما اشتمل عليه من المحسنات البديعية على كثرتها كالإستعارة والكناية والتعريض والإلتفات والتورية والاستخدام واللف والنشر والطباق و المقابله وغير ذلك والمجاز بأنواعه وأنواع الايجاز والاطناب
التاسع بيان فواصل الآى ومناسبتها اللآى التي ختمت بها
العاشر مناسبة أسماء السور لها
الحادي عشر بيان وجه اختيار مرادفاته دون سائر المرادفات
الثاني عشر بيان القراءات المختلفة مشهورها وشاذها وماتضمنته من المعاني والعلوم فأن ذلك من جملة وجوه إعجازه
الثالث عشر بيان وجه تفاوت الآيات المتشابهات في القصص وغيرها بالزيادة والنقص والتقديم والتأخير وابدال لفظة مكان أخرى ونحو ذلك (1/66)
وقد أردت أن أفرد جزءا لطيفا في نوع خاص من هذه الانواع هو
مناسبات ترتيب السور ليكون عجالة لمريده وبغية لمستفيده وأكثره من نتاج فكري وولاد نظري لقلة من تكلم في ذلك أو خاض في هذه المسالك وما كان فيه لغيري صرحت بعزوه اليه ولا أذكر منه الا ما استحسن ولا انتقاد عليه وقد كنت أولا سميته نتائج الفكر في تناسب السورلكونه من مستنتجات فكري كما أشرت اليه ثم عدلت وسميته تناسق الدرر في تناسب السور لانه أنسب بالمسمى وأزيد بالجناس و بالله تعالى التوفيق و إياه أسأل حلاوة التحقيق بمنه ويمنه (1/67)
في ترتيب السور
اختلف العلماء في ترتيب السور هل هو بتوقيف من النبي صلى الله عليه و سلم أو باجتهاد من الصحابة بعد الاجماع على أن ترتيب الآيات توقيفي والقطع بذلك
فذهب جماعة الى الثاني منهم مالك والقاضي أبوبكر في أحد قوليه وجزم به ابن فارس
ومما استدل به لذلك اختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور فمنهم من رتبها على النزول وهو مصحف علي كان أوله اقرأ ثم البواقي على ترتيب نزول المكي ثم المدني ثم كان أول مصحف ابن مسعود البقرة ثم النساء ثم آل عمران على اختلاف شديد وكذا مصحف أبي بن كعب وغيره على بينته في الإتقان
وفي المصاحف لابن أشتة بسنده عن عثمان أنه أمرهم أن يتابعوا الطول
وذهب جماعة الى الاول منهم القاضي أبو بكر في أحد قوليه وخلائق قال أبو بكر بن الأنباري أنزل الله القرآن كله الى سماء الدنيا ثم فرقه في بضع (1/68)
وعشرين سنة فكانت السورة تنزل لأمر ينزل والآية جوابا لمستخبر ويوقف جبريل النبي صلى الله عليه و سلم على موضع الآية والسورة فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف كان عن النبي صلى الله عليه و سلم فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن
وقال الكرماني في البرهان ترتيب السور هكذا هو عند الله تعالى في اللوح المحفوظ وهو على هذا الترتيب وكان يعرض النبي صلى الله عليه و سلم على جبريل ما اجتمع لديه منه وعرضه صلى الله عليه و سلم في السنة التي توفي فيها مرتين وكذا قال الطيبي
وقال ابن الحصار ترتيب السور و وضع الآيات موضعها انما كان بالوحي
وقال البيهقي في المدخل كان القرآن على عهد النبي صلى الله عليه و سلم مرتبا سوره وآياته على هذا الترتيبب إلا الأنفال وبراءة للحديث الآتي فيها
ومال ابن عطية الى أن كثيرا من السور كان قد علم ترتيبها في حياته صلى الله عليه و سلم كالسبع الطوال والحواميم والمفصل وأن ما سوى ذلك يمكن أن يكون قد فوض الأمر فيه الى الأمة بعده
وقال أبو جعفر بن الزبير الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه ابن عطيه ويبقى منها القليل يمكن أن يجري فيه الخلاف لقوله صلى الله عليه و سلم اقرأوا (1/69)
الزهراوين والبقرة وآل عمران رواه مسلم وكحديث سعيد بن خالد أنه صلى الله عليه و سلم صلى بالسبع الطوال في ركعة وأنه كان يجمع المفصل في ركعة أخرجه ابن أبي شيبة وأنه صلى الله عليه و سلم كان اذا أوى الى فراشه قرأ قل هو الله أحد والمعوذتين أخرجه البخاري وفيه عن ابن مسعود أنه قال في بني اسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء انهن من العتاق الأول وهن من تلادي
وقال أبو جعفر النحاس المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه و سلم لحديث أعطيت مكان التوراة السبع الطوال وأعطيت مكان الانجيل المثاني وفضلت بالمفصل أخرجه أحمد وغيره قال فهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ عن النبي صلى الله عليه و سلم وأنه من هذا الوقت هكذا
وقال الحافظ ابن حجر ترتيب معظم السور توقيفي لحديث أحمد وأبي داود عن أوس الثقفي قال كنت في وفد ثقيف فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم طرأ علي حزبي من القرآن فأردت ألا أخرج حتى أقضيه قال أوس فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قلنا كيف تحزبون القرآن قالوا نحزبه ثلاث سور (1/70)
وخمس سور وسبع سور وتسع سور واحدى عشرةسورة وثلاث عشرة سورة وحزب المفصل من ق حتى نختم
قال فهذا يدل على ان ترتيب السور على ما هو عليه في المصحف الآن كان على عهد النبي صلى الله عليه و سلم
وقال بعضهم لترتيب وضع السور في المصحف أسباب تطلع على أنه توقيفي صادر من حكيم
الأول يحسب الحروف كما في الحواميم وذوات الر
الثاني لموافقة آخر السورة لأول ما بعدها كآخر الحمد في المعنى وأول البقرة
الثالث الوزن في اللفظة كآخر تبت وأول الاخلاص
الرابع لمشابهة جملة السورة لجملة الأخرى كالضحى وألم نشرح
وقال بعضهم اذا اعتبرت افتتاح كل سورة وجدته في غاية المناسبة لما ختمت به السورة التي قبلها ثم يخفى تارة ويظهر أخرى
وأخرج ابن أبي شيبة عن ربيعة أنه سئل لم قدمت البقرة وآل عمران
وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكه وانما نزلتا بالمدينة فقال قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه وقد اجتمعوا على علمهم بذلك فهذا مما ينتهي اليه ولا يسأل عنه
فإن قلت فما عندك في ذلك
قلت الذي عندي أولا تحديد محل الخلاف وأنه خاص بترتيب سور (1/71)
الأقسام الأربعة وأما نفس الأقسام الأربعة من تقديم الطوال ثم المئين ثم المثاني ثم المفصل فهذا ينبغي أن يقطع بأنه توقيفي وأن يدعى فيه الإجماع وان لم أر من سبقني الى ذلك وانما دعاني الى هذا أمران
أحدهما ما تقدم من الأحاديث قريبا وحديث ابن عباس الآتي في الأنفال
والثاني ان المصاحف التي وقع فيها الاختلاف في الترتيب اتفقت على ذلك فان مصحف أبي بن كعب وابن مسعود كلاهما قدم فيه الطوال ثم المثاني ثم المفصل كمصحف عثمان وانما اختلفا في ترتيب سور كل قسم كما بينت في الإتقان
فإذا تحرر ذلك ونظرنا الى محل الخلاف فالمختار عندي في ذلك ما قاله البيهقي وهو أن ترتيب كل السور توقيفي سوى الأنفال وبراءة
ومما يدل على ذلك ويؤيده توالي الحواميم وذوات الر والفصل بين المسبحات وتقديم طس على القصص مفصولا بها بين النظيرتين طسم الشعراء وطسم القصص في المطلع والطول وكذا الفصل بين الانفطار والانشقاق بالمطففين وهما نظيرتان في المطلع والمقصد وهما أطول منها فلولا أنه توقيفي لحكمة لتوالت المسبحات وأخرت طس عن القصص وأخرت المطففين أو قدمت ولم يفصل بين الر و الر
وليس هنا شي أعارض به سوى اختلاف مصحف أبي وابن مسعود ولو كان توقيفيا لم يقع فيهما اختلاف كما لم يقع في ترتيب الآيات 2 (1/72)
وقد من الله علي بجواب لذلك نفيس وهو أن القرآن وقع فيه النسخ كثيرا للرسم حتى لسور كاملة وآيات كثيرة فلا بدع أن يكون الترتيب العثماني هو الذي استقر في العرضة الأخيرة كالقراءات التي في مصحفه ولم يبلغ ذلك أبيا وابن مسعود كما لم يبلغهما نسخ ما وضعاه في مصاحفهما من القراءات التي تخالف المصحف العثماني ولذلك كتب أبي في مصحفه سورة الحفد والخلع وهما منسوختان
فالحاصل أني أقول ترتيب كل المصاحف بتوقيف واستقر التوقيف في العرضة الأخيرة على القراءات العثمانية ورتب أولئك على ما كان عندهم ولم يبلخهم ما ما استقر كما كتبوا القراءات المنسوخةالمثبة في مصاحفهم بتوقيف واستقر و استقر التوقيف في العرضة الأخيرة على القراءات المنسوخات ولم يبلغهم النسخ
سورة الفاتحة
افتتح سبحانه كتابه بهذه السورة لأنها جمعت مقاصد القرآن ولذلك كان من اسمائها أم القرآن وأم الكتاب والأساس فصارت كالعنوان وبراعة الاستهلال
قال الحسن البصري ان الله أودع علوم الكتب السابقة في القرآن (1/73)
ثم أودع علوم القرآن في المفصل ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة أخرجه البيهقي في شعب الايمان
وبيان اشتمالها على علوم القرآن قرره الزمخشري باشتمالها على الثناء على الله بما هو أهله وعلى التعبد والأمر والنهي وعلى الوعد والوعيد وآيات القرآن لا تخرج عن هذه الأمور
قال الإمام فخر الدين المقصود من القرآن كله تقرير أمور أربعة الالهيات والمعاد والنبوات واثبات القضاء والقدر فقوله الحمد لله رب العالمين يدل على الالهيات وقوله مالك يوم الدين يدل على نفي الجبر وعلى اثبات أن الكل بقضاء الله وقدره وقوله اهدنا الصراط المستقيم الى آخر السورة يدل على اثبات قضاء الله وعلى النبوات فقد اشتملت هذه السورة على المطالب الأربعة التي هي المقصد الأعظم من القرآن
وقال البيضاوي هي مشتملة على الحكم النظرية والأحكام العملية التي هي سلوك الصراط المستقيم والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء
وقال الطيبي هي مشتملة على أربعة أنواع من العلوم التي هي مناط الدين
أحدها علم الأصول ومعاقدة معرفة الله عز و جل وصفاته وإليها (1/74)
الإشارة بقوله رب العالمين الرحمن الرحيم ومعرفة المعاد وهو المومأ اليه بقوله مالك يوم الدين
وثانيها علم ما يحصل به الكمال وهو علم الأخلاق وأجله الوصول الى الحضرة الصمدانية والإلتجاء الى جناب الفردانية والسلوك لطريقة الاستقامة فيها واليه الاشارة بقوله أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولاالضآلين
قال و جميع القرآن تفصيل لما أجملته الفاتحة فإنها بنيت على اجمال ما يحويه القرآن مفصلا فإنها واقعة في مطلع التنزيل والبلاغة فيه أن تتضمن ما سيق الكلام لأجله ولهذا لا ينبغي أن يقيد شيء من كلماتها ما أمكن الحمل على الإطلاق
وقال الغزالي في خواص القرآن مقاصد القرآن ستة ثلاثة مهمة وثلاثة تتمة
الأولى تعريف المدعو اليه كما أشير اليه بصدرها وتعريف الصراط المستقيم وقد صرح به فيها وتعريف الحال عند الرجوع اليه تعالى وهو الآخرة كما أشير اليه بقوله مالك يوم الدين
والأخرى تعريف أحوال المطيعين كما أشار اليه بقوله الذين أنعمت عليهم وتعريف منازل الطريق كما أشير اليه بقوله اياك نعبد واياك نستعين (1/75)
سورة البقرة
قال بعض الأئمة تضمنت سورة الفاتحة الاقرار بالربوبية والالتجاء اليها في دين الاسلام والصيانة عن دين اليهود والنصارى وسورة البقرة تضمنت قواعد الدين وآل عمران مكملة لمقصودها
فالبقرة بمنزلة اقامة الدليل على الحكم وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم ولهذا ورد فيها كثير من المتشابه لما تمسك به النصارى
فأوجب الحج في آل عمران وأما في البقرة فذكر أنه مشروع وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه وكان خطاب النصارى في آل عمران كما أن خطاب اليهود في البقرة أكثر لأن التوراة أصل والإنجيل فرع لها والنبي صلى الله عليه و سلم لما هاجر الى المدينة دعا اليهود وجاهدهم وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب ولهذا كانت السور المكية فيها الدين الذي اتفق عليه الأنبياء فخوطب به جميع الناس والسور المدنية فيها خطاب من أقر بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين فخوطبوا بيا أهل الكتاب يا بني اسرائيل يا أيها الذين آمنوا
وأما سورة النساء فتضمنت أحكام الأسباب التي بين الناس وهي نوعان مخلوقة لله ومقدورة لهم كالنسب والصهر ولهذا افتتحت بقوله يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وقال (1/76)
فاتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام فانظر الى هذه المناسبة العجيبة والافتتاح وبراعة الاستهلال حيث تضمنت الآية المفتتح بها ما في أكثر السورة من أحكام من نكاح النساء ومحرماته والمواريث المتعلقة بالأرحام وأن ابتداء هذا الأمر بخلق آدم ثم خلق زوجته منه ثم بث منهما رجالا كثيرا ونساء في غاية الكثرة
أما المائدة فسورة العقود تضمنت بيان تمام الشرائع ومكملات الدين والوفاء بعهود الرسل وما أخذ على الأمة ونهاية الدين فهي سورة التكميل لأن فيها تحريم الصيد على المحرم الذي هو من تمام الاحرام وتحريم الخمر الذي هو تمام حفظ العقل والدين وعقوبة المعتدين من السراق والمحاربين الذي هو من تمام حفظ الدماء والأموال واحلال الطيبات الذي هو من تمام عبادة الله ولهذا ذكر فيها ما يختص بشريعة محمد صلى الله عليه و سلم والتيمم والحكم بالقرآن على كل ذي دين ولهذا كثر فيها لفظ الاكمال والاتمام وذكر فيها أن من ارتد عوض الله بخير منه ولايزال هذا الدين كاملا ولهذا ورد أنها آخر ما نزل لما فيها من ارشادات الختم والتمام وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات من أحسن الترتيب انتهى
وقال بعضهم افتتحت البقرة بقوله الم ذلك الكتاب لاريب فيه فانه اشارة الى الصراط المستقيم في قوله في الفاتحة اهدنا الصراط المستقيم فانهم لما سألوا الله الهداية الى الصراط المستقيم قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتهم الهداية اليه كما أخرج ابن جرير وغيره من حديث علي (1/77)
مرفوعا الصراط المستقيم كتاب الله وأخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن مسعود موقوفا
وهذا معنى حسن يظهر فيه سر ارتباط البقرة بالفاتحة
وقال الخوبي أوائل هذه السورة مناسبة لأواخر سورة الفاتحة لأن الله تعالى لما ذكر أن الحامدين طلبوا الهدى قال قد أعطيتكم ما طلبتم هذا الكتاب هدى لكم فاتبعوه وقد اهتديتم الى الصراط المستقيم المطلوب المسئول
ثم انه ذكر في أوائل هذه السورة الطوائف الثلاث الذين ذكرهم في الفاتحة فذكر الذين على هدى من ربهم وهم المنعم عليهم والذين اشتروا الضلالة بالهدى وهم الضالون والذين باءوا بغضب من الله وهم المغضوب عليهم انتهى
أقول قد ظهر لي بحمد الله وجوها من هذه المناسبات
أحدها أن القاعدة التي استقربها القرآن أن كل سورة تفصيل لإجمال ما قبلها وشرح له وإطناب لإيجازه وقد استقر معي ذلك في غالب سور القرآن طويلها وقصيرها وسورة البقرة قد اشتملت على تفصيل جميع مجملات الفاتحة
فقوله الحمد لله تفصيله ما وقع فيها من الأمر بالذكر في عدة آيات ومن الدعاء في قوله أجيب دعوة الداع إذا دعان 186 الآيه وفي قوله ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا (1/78)
وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين 286 وبالشكر في قوله فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون 152
وقوله رب العالمين تفصيله قوله اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وانزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون 21 22 وقوله هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى الى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم 29 ولذلك افتتحها بقصة خلق آدم الذي هو مبدأ البشر وهو أشرف الأنواع من العالمين وذلك شرح لإجمال رب العالمين
وقوله الرحمن الرحيم قد أومأ إليه بقوله في قصة آدم فتاب عليكم انه هو التواب الرحيم 54 وفي قصة إبراهيم لما سأل الرزق للمؤمنين خاصة بقوله وارزق أهله من الثمرات من آمن 126 فقال ومن كفر فأمتعه قليلا 126
وذلك لكونه رحمانا وما وقع في قصة بني إسرائيل ثم عفونا عنكم 52 الى أن أعاد الآية بجملتها في قوله لا إله إلا هو الرحمن الرحيم 163 وذكر آية الدين إرشادا للطالبين من العباد ورحمة بهم ووضع عنهم الخطأ والنسيان والإصر وما لا طاقة لهم به وختم بقوله واعف عنا واغفر لنا وارحمنا 286 وذلك شرح قوله الرحمن الرحيم (1/79)
وقوله مالك يوم الدين تفصيله ما وقع من ذكر يوم القيامة في عدة مواضع ومنها قوله إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله 284 والدين في الفاتحة الحساب في البقرة
وقوله إياك نعبد مجمل شامل لجميع أنواع الشريعة الفروعية وقد فصلت في البقرة أبلغ تفصيل فذكر فيها الطهارة والحيض والصلاة والاستقبال وطهارة المكان والجماعة وصلاة الخوف وصلاة الجمع والعيد والزكاة بأنواعها كالنبات والمعادن والاعتكاف والصوم وأنواع الصدقات والبر والحج والعمرة والبيع والإجارة والميراث والوصية والوديعة والنكاح والصداق والطلاق والخلع والرجعة والإيلاء والعدة والرضاع والنفقات والقصاص والديات وقتال البغاة والردة والأشربة والجهاد والأطعمة والذبائح والأيمان والنذور والقضاء والشهادات والعتق
فهذه أبواب الشريعة كلها مذكورة في هذه السورة
وقوله و إياك نستعين شامل لعلم الأخلاق وقد ذكر منها في هذه السورة الجم الغفير من التوبة والصبر والشكر و الرضى والتفويض والذكر والمراقبة والخوف وإلانة القول
وقوله اهدنا الصراط المستقيم الى آخره تفصيله ما وقع في السورة من ذكر طريق الأنبياء ومن حاد عنهم من النصارى ولهذا ذكر في الكعبة أنها قبلة إبراهيم فهي من صراط الذين أنعم عليهم وقد حاد عنها اليهود والنصارى معا ولذلك قال في قصتها يهدي من يشاء الى صراط مستقيم 142 تنبيها على أنها الصراط الذي سألوا الهداية إليه (1/80)
ثم ذكر ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك 145 وهم المغضوب عليهم والضالون الذين حادوا عن طريقهم ثم أخبر بهداية الذين آمنوا الى طريقهم ثم قال والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم 213 فكانت هاتان الآيتان تفصيل إجمال اهدنا الصراط المستقيم الى آخر السورة
وأيضا قوله أول السورة هدى للمتقين 2 الى آخره في وصف الكتاب إخبار بأن الصراط الذي سألوا الهداية إليه هو ما تضمنه الكتاب وإنما يكون هداية لمن اتصف بما ذكر من صفات المتقين ثم ذكر أحوال الكفرة ثم أحوال المنافقين وهم من اليهود وذلك تفصيل لمن حاد عن الصراط المستقيم ولم يهتد بالكتاب
وكذلك قوله هنا قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط 136 الآية فيه تفصيل النبيين المنعم عليهم وقال في آخرها لا نفرق بين أحد منهم 136 تعريفا بالمغضوب عليهم والضالين الذين فرقوا بين الأنبياء ولذلك عقبها بقوله فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا 137 أي الى الصراط المستقيم صراط المنعم عليهم كما اهتديتم فهذا ما ظهر لي والله أعلم بأسرار كتابه
الوجه الوجه الثاني أن الحديث والإجماع على تفسير المغضوب عليهم باليهود (1/81)
والضالين بالنصارى وقد ذكروا في سورة الفاتحة على حسب ترتيبهم في الزمان فعقب بسورة البقرة وجميع ما فيها من خطاب أهل الكتاب لليهود خاصة وما وقع فيها من ذكر النصارى لم يقع بذكر الخطاب
ثم عقبت البقرة بسورة آل عمران وأكثر ما فيها من خطاب أهل الكتاب للنصارى فإن ثمانين آيه من أولها نازلة في وفد نصارى نجران كما ورد في سبب نزولها وختمت بقوله وان من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله 199 وهي في النجاشي وأصحابه من مؤمني النصارى كما ورد به الحديث وهذا وجه بديع في ترتيب السورتين كأنه لما ذكر في الفاتحة الفريقين قص في كل سورة مما بعدها حال كل فريق على الترتيب الواقع فيها ولهذا كان صدر سورة النساء في ذكر اليهود وآخرها في ذكر النصارى
الوجه الثالث أن سورة البقرة أجمع سور القرآن للأحكام والأمثال ولهذا سميت في أثر فسطاط القرآن الذي هو المدينة الجامعة فناسب تقديمها على جميع سوره
الوجه الرابع أنها أطول سورة في القرآن وقد افتتح بالسبع الطوال فناسب البداءة بأطولها (1/82)
الوجه الخامس أنها أول سورة نزلت بالمدينة فناسب البداءة بها فإن للأولية نوعا من الأولوية
الوجه السادس أن سورة الفاتحة كما ختمت بالدعاء للمؤمنين بألا يسلك بهم طريق ال عليهم ولا الضآلين إجمالا ختمت سورة البقرة بالدعاء بألا يسلك بهم طريقهم في المؤاخذة بالخطأ والنسيان وحمل الاصر ومالا طاقة لهم به تفصيلا وتضمن آخرها أيضا الإشارة إلى طريق المغضوب عليهم والضالين بقوله لا نفرق بين أحد منهم 285 فتآخت السورتان وتشابهتا في المقطع وذلك من وجوه المناسبة في التتالي والتناسق وقد ورد في الحديث التأمين في آخر سورة البقرة كما هو مشروع في آخر الفاتحة فهذه ستة وجوه ظهرت لي ولله الحمد والمنة
سورة آل عمران
قد تقدم ما يؤخذ منه مناسبة وضعها
قال الإمام لما كانت هذه السورة قرينة سورة البقرة وكالمكملة لها افتتحت بتقرير ما افتتحت به تلك وصرح في منطوق مطلعها بما طوى في مفهوم تلك
وأقول قد ظهر لي بحمد الله وجوه من المناسبات
أحدها مراعاة القاعدة التي قررتها من شرح كل سورة لإجمال ما في السورة قبلها وذلك هنا في عدة مواضع (1/83)
منها ما أشار إليه الإمام فإن أول البقرة افتتح بوصف الكتاب بأنه لا ريب فيه وقال في آل عمران نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه 3 وذاك بسط وإطناب لنفي الريب عنه
ومنها أنه ذكر في البقرة نزال الكتاب مجملاو قسمه هنا إلى آيات محكمات و متشابهات لا يعلم يأويلها إلا الله
و منها أنه قال في البقرة وما أنزل من قبلك 3 وقال هنا وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس 3 4 مفصلا وصرح بذكر الإنجيل هنا لأن السورة خطاب للنصارى ولم يقع التصريح به في سورة البقرة بطولها وإنما صرح فيها بذكر التوراة خاصة لأنها خطاب لليهود
ومنها أن ذكر القتال وقع في سورة البقرة مجملا بقوله وقاتلوا في سبيل الله 190 244 وقوله كتب عليكم القتال 216 وفصلت هنا قصة أحد بكمالها
ومنها أنه أوجز في البقرة ذكر المقتولين في سبيل الله بقوله أحياء ولكن لا تشعرون وزاد هنا عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم 170 الآيتين وذلك إطناب عظيم
ومنها أنه قال في البقرة والله يؤتي ملكه من يشاء 247 وقال هنا قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء و تعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير 26 فزاد إطنابا وتفصيلا (1/84)
ومنها أنه حذر من الربا في البقرة ولم يزد على لفظ الربا إيجازا وزاد هنا قوله أضعافا مضاعفة 130 وذلك بيان وبسط
ومنها أنه قال في البقرة وأتموا الحج 196 وذلك إنما يدل على الوجوب إجمالا وفصله هنا بقوله ولله على الناس حج البيت 97 وزاد بيان شرط الوجوب بقوله من استطاع إليه سبيلا 97 ثم زاد تكفير من جحد وجوبه بقوله ومن كفر فإن الله غني عن العالمين 97
و منها أنه قال في البقرة في أهل الكتاب ثم توليتم إلا قليلا منكم 83 فأجمل القليل وفصله هنا بقوله ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون 113 الآيتين
ومنها أنه قال في البقرة قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون 193 فدل بها على تفضيل هذه الأمة على اليهود تعريضا لا تصريحا وكذلك قوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا 143 في تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم بلفظ فيه يسير إبهام وأتى في هذه بصريح البيان فقال كنتم خير أمة أخرجت للناس 110 فقوله كنتم أصرح في قدم ذلك من جعلناكم ثم زاد وجه الخيرية بقوله تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله 110 (1/85)
ومنها أنه قال في البقرة ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام 188 الآية وبسط الوعيد هنا بقوله إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة 77 الآية وصدره بقوله وإن من أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لايؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل 75
فهذه عدة مواضع وقعت في البقرة مجملة وفي آل عمران تفصيلها
الوجه الثاني أن بين هذه السورة وسورة البقرة اتحادا وتلاحما متأكدا لما تقدم من أن البقرة بمنزلة إزالة الشبهة ولهذا تكرر هنا ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقيقة الكتاب من إنزال الكتاب وتصديقه للكتب قبله والهدى إلى الصراط المستقيم وتكررت هنا آية قولوا آمنا بالله وما أنزل 136 بكمالها ولذلك أيضا ذكر في هذه ماهو تال لما ذكر في تلك أو لازم في تلك أو لازم له
فذكر هناك خلق الناس وذكر هنا تصويرهم في الأرحام وذكر هناك مبدأ خلق آدم وذكر هنا مبدأ خلق أولاده وألطف من ذلك أنه افتتح البقرة بقصة آدم حيث خلقه من غير أب ولا أم وذكر في هذه نظيره في الخلق من غير أب وهو عيسى عليه السلام ولذلك ضرب له المثل (1/86)
بآدم واختصت البقرة بآدم لأنها أول السور وآدم أول في الوجود وسابق ولأنها الأصل وهذه كالفرع والتتمة لها فمختصة بالإعراب والبيان
ولأنها خطاب لليهود الذين قالوا في مريم ما قالوا وأنكروا وجود ولد بلا أب ففوتحوا بقصة آدم لتثبت في أذهانهم فلاتأتي قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشبهها من جنسها
ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم في قوله كمثل آدم 59 الآية والمقيس عليه لابد وأن يكون معلوما لتتم الحجة بالقياس فكانت قصة آ دم والسورة التي هي فيها جديرة بالتقدم
ومن وجوه تلازم السورتين أنه قال في البقرة في صفة النار أعدت للكافرين 24 ولم يقل في الجنة أعدت للمتقين مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معا وقال ذلك في آخر آل عمران في قوله جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين 133 فكأن السورتين بمنزلة سورة واحدة
وبذلك يعرف أن تقديم آل عمران على النساء أنسب من تقديم النساء عليها
وأمر آخر استقرأته وهو أنه إذا وردت سورتان بينهما تلازم واتحاد فإن السورة الثانية تكون خاتمتها مناسبة لفاتحة الأولى للدلالة على الاتحاد وفي السورة المستقلة عما بعدها يكون آخر السورة نفسها مناسب لأولها وآخر آل عمران مناسب لأول البقرة فإنها افتتحت بذكر المتقين وأنهم المفلحون وختمت آل عمران بقوله واتقوا الله لعلكم تفلحون 200 (1/87)
وافتتحت البقرة بقوله والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك 4 وختمت آل عمران بقوله وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم 199 فلله الحمد على ما ألهم
وقد ورد أنه لما نزلت من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا 2 245 قال اليهود يا محمد افتقر ربك فسأل القرض عباده فنزل قوله لقد سمع الله قول الذين قالوا أن الله فقير ونحن أغنياء 3 181 فذلك أيضا من تلازم السورتين
ووقع في البقرة حكاية عن إبراهيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك 129 الآية ونزل في هذه لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم 164 وذلك أيضا من تلازم السورتين
سورة النساء
تقدمت وجوه مناسبتها
وأقول هذه السورة أيضا شارحة لبقية مجملات سورة البقرة
فمنها أنه أجمل في البقرة قوله اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون 21 وزاد هنا خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء 1 (1/88)
وأنظر لما كانت آية التقوى في سورة البقرة غاية جعلها في أول هذه السورة التالية لها مبدأ
ومنها أنه أجمل في سورة البقرة أسكن أنت وزوجك الجنة 35 وبين هنا أن زوجته خلقت منه في قوله وخلق منها زوجها 1
ومنها أنه أجمل في البقرة آية اليتامى وآية الوصية والميراث والوارث في قوله وعلى الوارث مثل ذلك 233 وفصل ذلك في هذه السورة أبلغ تفصيل
وفصل هنا من الأنكحة ما أجمله هناك فإنه قال في البقرة ولأمة مؤمنة خير من مشركة 221 فذكر نكاح الأمة إجمالا وفصل هنا شروطه
ومنها أنه ذكر الصداق في البقرة مجملا بقوله ولايحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا 229 وشرحه هنا مفصلا
ومنها أنه ذكر هناك الخلع وذكر هنا أسبابه ودواعيه من النشوز وما يترتب عليه وبعث الحكمين (1/89)
ومنها أنه فصل هنا من أحكام المجاهدين وتفضيلهم درجات والهجرة ما وقع هناك مجملا أو مرموزا
وفيها من الإعتلاق بسورة الفاتحة تفسير الذين أنعمت عليهم بقوله من النبيين والصديقين و الشهداء والصالحين 69
وأما وجه اعتلاقها بآل عمران فمن وجوه
منها أن آل عمران ختمت با لأمر بالتقوى وافتتحت هذه السورة به وهذا من أكبر وجوه المناسبات في ترتيب السور وهو نوع من البديع يسمى تشابه الأطراف
ومنها أن سورة آل عمران ذكر فيه قصة أحد مستوفاة وذكر في هذه السورة ذيلها وهو قوله فما لكم في المنافقين فئتين 88 فإنها نزلت لما اختلف الصحابة فيمن رجع من المنافقين من غزوة أحد كما في الحديث
ومنها أن في آل عمران ذكرت الغزوة التي بعد أحد بقوله الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح 172 وأشير إليها (1/90)
هنا بقوله ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون 104 الآيه
وبهذين الوجين عرف أن تأخير النساء عن آل عمران أنسب من تقديمها عليها في مصحف ابن مسعود لأن المذكور هنا ذيل ما في آل عمران ولاحقة وتابعه فكانت بالتأخير أنسب
ومنها أنه ذكر في آل عمران قصة خلق عيسى بلا أب وأقيمت له الحجة بآدم وفي ذلك تبرئة لأمه خلافا لما زعم اليهود وتقرير لعبوديته خلافا لما ادعته النصارى وذكر في هذه السورة الرد على الفريقين معا فرد على اليهود بقوله وقولهم على مريم بهتانا عظيما 156 وعلى النصارى بقوله لاتغلوا في دينكم ولاتقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم ورح منه إلى قوله لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله 191 271
ومنها أنه لما ذكر في آل عمران إني متوفيك ورافعك إلي 55 رد هنا على من زعم قتله بقوله وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه 157 158
ومنها أنه لما قال في آل عمران في المتشابه والراسخون في العلم (1/91)
يقولون آمنا به كل من عند ربنا 7 قال هنا لكن الراسخون في العلم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك 162
ومنها أنه لما قال في آل عمران زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا 14 فصل هذه الأشياء في السورة التي بعدها على نسق ما وقعت في الآية ليعلم ما أحل الله من ذلك فيقتصر عليه وما حرم فلا يتعدى إليه لميل النفس إليه
فقد جاء في هذه السورة أحكام النساء ومباحاتها للابتداء بها في الآية السابقة في آل عمران ولم يحتج إلى تفصيل البنين لأن تحريم البنين لازم لا يترك منه شي كما يترك من النساء فليس فيهم مباح فيحتاج إلى بيانه ومع ذلك أشير إليهم في قوله وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا 9
ثم فصل في سورة المائدة أحكام السراق وقطاع الطريق لتعلقهم بالذهب والفضة الواقعين في الآية بعد النساء والبنين ووقع في سورة النساء إشارة إلى ذلك في قسمة المواريث ثم فصل في سورة الأنعام أمر الحيوان والحرث وهو بقية المذكور في آية آل عمران فانظر إلى هذه اللطيفة التي من الله بإلهامها
ثم ظهر لي أن سورة النساء فصل فيها ذكر البنين أيضا لأنه لما اخبر بحب الناس لهم وكان من ذلك إيثارهم على البنات في الميراث وتخصيصهم به دونهن (1/92)
تولى قسمة المواريث بنفسه فقال يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين 11 وقال للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب 7 فرد على ما كانوا يصنعون من تخصيص البنين بالميراث لحبهم لهم فكان ذلك تفصيلا لما يحل ويحرم من إيثار البنين اللازم عن الحب وفي ضمن ذلك تفصيل لما يحل للذكر أخذه من الذهب والفضة وما يحرم
ومن الوجوه المناسبة لتقدم آل عمران على النساء اشتراكها مع البقرة في الافتتاح بإنزال الكتاب وفي الافتتاح ب الم وسائر السور المفتتحة بالحروف المقطعة كلها مقترنة كيونس وتواليها ومريم وطه والطواسين و الم العنكبوت وتواليها والحواميم وفي ذلك أول دليل على اعتبار المناسبة في الترتيب بأوائل السور
ولم يفرق بين السورتين من ذلك بما ليس مبدوءا به سوى بين الأعراف ويونس اجتهادا لاتوقيفا والفصل بالزمر بين حم غافر و ص وسيأتي
ومن الوجوه في ذلك أيضا اشتراكهما في التسمية بالزهراوين في حديث إقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فكان افتتاح القرآن بهما نظير اختتامه بسورتي الفلق والناس المشتركتين في التسمية بالمعوذتين
سورة المائدة
وقد تقدم وجه في مناسبتها
وأقول هذه السورة أيضا شارحة لبقية مجملات سورة البقرة فإن آية الأطعمة والذبائح فيها أبسط منها في البقرة وكذا ما أخرجه الكفار تبعا (1/93)
لآبائهم في البقرة موجز وفي هذه السورة مطنب أبلغ إطناب في قوله ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة 103 104
وفي البقرة ذكر القصاص في القتلى وهنا ذكر أول من سن القتل والسبب الذي لأجله وقع وقال من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا 32 وذلك أبسط من قوله في البقرة و لكم في الحياة قصاص 179
وفي البقرة وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية 58 وذكر في قصتها هنا فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه 54
وقي البقرة قصة الأيمان موجزه وزاد هنا بسطا بذكر الكفارة
وفي البقرة قال في الخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما 219 وزاد في هذه السورة ذمها وصرح بتحريمها
وفيها من الاعتلاق بسورة الفاتحة بيان المغضوب عليهم والضالين في (1/94)
قوله قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنة الله وغضب عليه 60 الآية وقوله قد ضلوا من قبل وأضلوا عن سواء السبيل 77
وأما اعتلاقها بسورة النساء فقد ظهر لي في وجه بديع جدا وذلك أن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا فالصريح عقود الأنكحة وعقد الصداق وعقد الحلف في قوله والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم 33 وعقد الأيمان في هذه الآية وبعد ذلك عقد المعاهدة والأمان في قوله إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق 90 وقوله وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية 92
والضمني عقد الوصية والوديعة والوكالة والعارية والإجارة وغير ذلك من الداخل في عموم قوله إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها 58 فناسب أن يعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود فكأنه قيل في المائدة ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود 1 التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت فكان ذلك غاية في التلاحم والتناسب والارتباط
ووجه آخر في تقديم سورة النساء وتأخير سورة المائدة وهو أن تلك أولها ياأيها الناس 1 وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب المكي وتقديم العام وشبه المكي أنسب
ثم إن هاتين السورتين النساء والمائدة في التقديم والاتحاد نظير البقرة وآل عمران فتلكما في تقرير الأصول من الوحدانية والكتاب والنبوة وهاتان في تقرير الفروع الحكمية (1/95)
وقد ختمت المائدة بصفة القدرة كما افتتحت النساء بذلك
وافتتحت النساء ببدء الخلق وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء فكأنهما سورة واحدة اشتملت على الأحكام من المبتدأ إلى المنتهى
ولما وقع في سورة النساء إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس 105 الآيات فكانت نازلة في قصة سارق سرق درعا فصل في سورة المائدة أحكام السراق والخائنين
ولما ذكر في سورة النساء أنه أنزل إليك الكتاب لتحكم بين الناس ذكر في سورة المائدة آيات في الحكم بما أنزل الله حتى بين الكفار وكرر قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله 4 454 46
فأنظر إلى هذه السور الأربع المدنيات وحسن ترتيبها وتلاحمها وتناسقها وتلازمها
وقد افتتحت بالبقرة التي هي أول ما نزل بالمدينة وختمت بالمائدة التي هي آخر ما نزل بها كما في حديث الترمذي (1/96)
سورة الأنعام
قال بعضهم مناسبة هذه السورة لآخر المائدة إنها افتتحت بالحمد وتلك ختمت بفصل القضاء وهما متلازمتان كما قال وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين 39 75
وقد ظهر لي بفضل الله مع ما قدمت الإشارة إليه في آية زين للناس
أنه لما ذكر في آخر المائدة لله ملك السموات والأرض وما فيهن 120 على سبيل الإجمال افتتح هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله
فبدأ بذكر انه خلق السموات والأرض وضم إليه انه جعل الظلمات والنور وهو بعض ما تضمنه قوله وما فيهن في آخر المائدة وضمن قوله الحمد لله أول الأنعام أن له ملك جميع المحامد وهو من بسط لله ملك السموات والأرض وما فيهن في آخر المائدة
ثم ذكر أنه خلق النوع الإنساني وقضى له أجلا مسمى وجعل له أجلا آخر للبعث وأنه منشىء القرون قرنا بعد قرن ثم قال قل لمن ما في السموات والأرض 12 فأثبت له ملك جميع المنظورات ثم قال وله ما سكن في الليل والنهار 13 فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرفي الزمان ثم ذكر أنه خلق سائر الحيوان من الدواب والطير ثم خلق النوم واليقظة والموت والحياة ثم اكثر في أثناء السورة من ذكر الخلق والإنشاء لما فيهن من النيرين والنجوم وفلق الإصباح وخلق الحب والنوى وإنزال الماء وإخراج النبات والثمار بأنواعها وإنشاء جنات معروشات و غير معروشات و الأنعام ومنها حمولة وفرش وكل ذلك تفصيل لملكه ما فيهن وهذه مناسبة جليلة (1/97)
ثم لما كان المقصود من هذه السورة بيان الخلق والملك أكثر فيها من ذكر الرب الذي هو بمعنى المالك والخالق والمنشىء واقتصر فيها على ما يتعلق بذلك من بدء الخلق الإنساني والملكوتي والملكي والشيطاني والحيواني والنباتي وما تضمنته من الوصايا فكلها متعلق بالقوام والمعاش الدنيوي ثم أشار إلى أشراط الساعة
فقد جمعت هذه السورة جميع المخلوقات بأسرها وما يتعلق بها وما يرجع إليها فظهر بذلك مناسبة افتتاح السور المكية بها وتقديمها على ما تقدم نزوله منها
وهي في جمعها الأصول والعلوم والمصالح الدنيوية نظير سورة البقرة في جمعها العلوم والمصالح الدينية وما ذكر فيها من العبادات المحضة فعلى سبيل الإيجاز والإيماء كنظير ما وقع في البقرة من علوم بدء الخلق ونحوه فإنه على سبيل الاختصار والإشارة
فإن قلت فلم لا افتتح القرآن بهذه السورة مقدمة على سورة البقرة لأن بدء الخلق مقدم على الأحكام والتعبدات
قلت للإشارة إلى أن مصالح الدين والآخرة مقدمة على مصالح المعاش والدنيا وأن المقصود إنما هو العبادة فقدم ما هو الأهم في نظر الشرع ولأن علم بدء الخلق كالفضلة وعلوم الأحكام والتكاليف متعين على كل واحد (1/98)
فلذلك لا ينبغي النظر في علم بدء الخلق وما جرى مجراه من التواريخ إلا بعد النظر في علم الأحكام وإتقانه
ثم ظهر لي بحمد الله وجه آخر أتقن مما تقدم وهو أنه لما ذكر في سورة المائدة ياأيها الذين آمنوا لاتحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا 87 إلى آخره فأخبر عن الكفار انهم حرموا أشياء مما رزقهم الله افتراء عليه وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا مما أحل الله فيشابهوا بذلك الكفار في صنيعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز ساق هذه السورة لبيان ماحرمه الكفار في صنيعهم فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل ثم جادلهم فيه وأقام الدلائل على بطلانه وعارضهم وناقضهم إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة فكانت هذه السورة شرحا لما تضمنته المائدة من ذلك على سبيل الإجمال وتفصيلا وبسطا وإتماما وإطنابا
وافتتحت بذكر الخلق والملك لأن الخالق والمالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته إباحة ومنعا وتحريما وتحليلا فيجب ألا يتعدى عليه بالتصرف في ملكه
وكانت هذه السورة بأسرها متعلقة بالفاتحة من وجه كونها شارحة لإجمال قوله رب العالمين وللبقرة من حيث شرحها لإجمال قوله الذي خلقكم والذين من قبلكم 21 وقوله هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا 29 وبآل عمران من جهة تفصيلها لقوله والأنعام والحرث 14 وقوله كل نفس ذائقة الموت 185 الآية (1/99)
وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق والتقبيح لما حرموه على أزواجهم وقتل البنات بالوأد
وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها
وفي افتتاح السور المكية بها وجهان آخران من المناسبة
الأول افتتاحها بالحمد
والثاني مشابهتها للبقرة المفتتح بها السور المدنية من حيث أن كلا منهما نزل مشيعا ففي حديث أحمد البقرة سنام القرآن وذروته نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا وروي الطبراني وغيره من طرق أن الأنعام شيعها سبعون ألف ملك وفي رواية خمسمائة ملك
ووجه آخر وهو أن كل ربع من القرآن افتتح بسورة أولها الحمد وهذه للربع الثاني والكهف للربع الثالث وسبأ وفاطر للربع الرابع
وجميع هذه الوجوه التي استنبطتها من المناسبات بالنسبة للقرآن كنقطة من بحر
ولما كانت هذه السورة لبيان بدء الخلق ذكر فيها ما وقع عند بدء (1/100)
الخلق وهو قوله كتب ربكم على نفسه الرحمة 54 ففي الصحيح لما فرغ الله من الخلق وقضى القضية كتب كتابا عند فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي
سورة الأعراف
أقول مناسبة وضع هذه السورة عقب سورة الأنعام فيما ألهمني الله سبحانه أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق وقال فيها هو الذي خلقكم من طين 2 وقال في بيان القرون كم أهلكنا من قبلهم من قرن 6 وأشير فيها إلى ذكر المرسلين وتعداد كثير منهم وكانت الأمور الثلاثة على وجه الإجمال لا التفصيل ذكرت هذه السورة عقبها لأنها مشتملة على شرح الأمور الثلاثة وتفصيلها
فبسط فيها قصة خلق آدم ابلغ بسط بحيث لم تبسط في سورة كما بسطت فيها وذلك تفصيل إجمال قوله خلقكم من طين 6 2 ثم فصلت قصص المرسلين وأممهم وكيفية إهلاكهم تفصيلا تاما شافيا مستوعبا لم يقع نظيره في سورة غيرها وذلك بسط حال القرون المهلكة ورسلهم فكانت هذه السورة شرحا لتلك الآيات الثلاث
وأيضا فذلك تفصيل قوله وهو الذي جعلكم خلائف الأرض 6 165 ولهذا صدر هذه السورة بخلق آدم الذي جعله الله في الأرض (1/101)
خليفة وقال في قصة عاد جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح 69 وفي قصة ثمود جعلكم خلفاء من بعد عاد 74
وأيضا فقد قال في الأنعام كتب ربكم على نفسه الرحمة 12 وهو موجز وبسطه هنا بقوله ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون 156 إلى آخره فبين من كتبها لهم
وأما وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر الأنعام فهو أنه قد تقدم هناك وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه 153 و قوله وهذا كتاب أنزلناه مباركا فاتبعوه 155 فافتتح هذه السورة أيضا باتباع الكتاب في قوله كتاب أنزل إليك إلى اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم 2 3
وأيضا لما تقدم في الأنعام ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون 159 ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون 164 قال في مفتتح هذه السورة فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم 7 6 وذلك شرح التنبئة المذكورة
وأيضا فلما قال في الأنعام من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها 16 الآية وذلك لا يظهر إلا في الميزان افتتح هذه السورة بذكر الوزن فقال والوزن يومئذ الحق 8 ثم ذكر من ثقلت موازينه وهو من زادت حسناته على سيئاته ثم من خفت موازينه وهو من زادت سيئاته على حسناته ثم ذكر بعد ذلك أصحاب الأعراف وهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم (1/102)
سورة الأنفال
اعلم أن وضع هذه السورة وبراءة هنا ليس بتوقيف من الرسول صلى الله عليه و سلم والصحابة كما هو الراجح في سائر السور بل اجتهاد من عثمان رضي الله عنه
وقد كان يظهر في بادىء الرأي أن المناسب إيلاء الأعراف بيونس وهود لاشتراك كل في اشتمالها على قصص الأنبياء وأنها مكية النزول خصوصا أن الحديث ورد في فضل السبع الطوال وعدوا السابعة يونس وكانت تسمى بذلك كما أخرجه البيهقي في الدلائل ففي فصلها من الأعراف بسورتين هما الأنفال وبراءة فصل للنظير عن سائر نظائره هذا مع قصر سورة الأنفال بالنسبة إلى الأعراف وبراءة
وقد استشكل ابن عباس حبر الأمة قديما ذلك فأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال فقال عثمان كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب (1/103)
فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما نزل وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال
فانظر إلى ابن عباس رضي الله عنه كيف استشكل على عثمان رضي الله عنه أمرين وضع الأنفال وبراءة في أثناء السبع الطوال مفصولا بهما بين السادسة والسابعة ووضع الأنفال وهي قصيرة مع السور الطويلة وأنظر كيف أجاب عثمان رضي الله عنه أولا بأنه لم يكن عنده في ذلك توقيف فإنه استند إلى اجتهاد وانه قرن بين الأنفال وبراءة لكونها شبيهة بقصتها في اشتمال كل منهما على القتال ونبذ العهود وهذا وجه بين المناسبة جلي فرضى الله عن الصحابة ما أدق أفهامهم وأجزل آراءهم وأعظم أحلامهم
وأقول يتم بيان مقصد عثمان رضي الله عنه في ذلك بأمور فتح الله بها
الأول أنه جعل الأنفال قبل براءة مع قصرها لكونها مشتملة على البسملة فقدمها لتكون لفظة منها وتكون براءة بخلوها منها كتتمتها وبقيتها ولهذا قال جماعة من السلف إن الأنفال وبراءة سورة واحدة لاسورتان (1/104)
الثاني أنه وضع براءة هنا لمناسبة الطول فإنه ليس في القرآن بعد الأعراف أنسب ليونس طولا منها وذلك كاف في المناسبة
الثالث أنه خلل بالسورتين الأنفال وبراءة أثناء السبع الطوال المعلوم ترتيبها في العصر الأول للإشارة إلى أن ذلك أمر صادر لا عن توقيف وإلى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قبض قبل أن يبين محلها فوضعا كالموضع المستعار بين السبع الطوال بخلاف ما لو وضعتا بعد السبع الطوال فإنه كان يوهم أن ذلك محلهما بتوقيف وترتيب السبع الطوال يرشد إلى دفع هذا الوهم
فانظر إلى هذه الدقيقة التي فتح الله بها ولا يغوص عليها إلا غواص
الرابع أنه لو أخرهما وقدم يونس وأتى بعد براءة بهود كما في مصحف أبي بن كعب لمراعاة مناسبة السبع الطوال وإيلاء بعضها بعضا لفات مع ما أشرنا إليه أمر آخر آكد في المناسبة فإن الأولى بسورة يونس أن تولى بالسور الخمس التي بعدها لما اشتركت فيه من الاشتمال على القصص ومن الافتتاح بالذكر وبذكر الكتاب ومن كونها مكيات ومن تناسب ما عدا الحجر في المقدار وبالتسمية باسم نبي والرعد اسم ملك وهو مناسب لأسماء الأنبياء
فهذه ستة وجوه في مناسبة الاتصال بين يونس وما بعدها وهي آكد من ذلك الوجه السابق في تقديم يونس بعد الأعراف
ولبعض هذه الأمور قدمت سورة الحجر على النحل مع كونها أقصر منها (1/105)
ولو أخرت براءة عن هذه السور الست المناسبة جدا بطولها لجاءت بعد عشر سور أقصر منها بخلاف وضع سورة النحل بعد الحجر فإنها ليست كبراءة في الطول
ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع ما ذكرنا من تقديم الحجر على النحل لمناسبة ذوات الر قبلها وما تقدم من تقديم آل عمران على النساء وإن كانت أقصر منها لمناسبة البقرة مع الافتتاح ب الم وتوالى الطواسين والحواميم وتوالى العنكبوت والروم والقمر والسجدة لافتتاح كل ب الم ولهذا قدمت السجدة على الأحزاب التي هي أطول منها
هذا ما فتح الله به
وأما ابن مسعود فقدم في مصحفه البقرة على النساء وآل عمران والأعراف والأنعام والمائدة ويونس فراعى الطوال وقدم الأطول فالأطول ثم ثنى بالمئين فقدم براءة ثم النحل ثم هود ثم يوسف ثم الكهف وهكذا الأطول فالأطول وذكر الأنفال بعد النور
ووجه مناسبتها لها أن كلا منهما مدنية ومشتملة على أحكام وأن في النور وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم 55 الآية وفي الأنفال واذكروا إذ أنتم مستضعفون في الأرض تخافون 26 الآية ولا يخفى ما بين الآيتين من المناسبة فإن الأولى مشتملة على الوعد بما حصل وذكر به في الثانية فتأمل (1/106)
سورة براءة
أقول قد عرف وجه مناسبتها ونزيد هنا أن صدرها تفصيل لإجمال قوله في الأنفال وأما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء 58 وآيات الأمر بالقتال متصلة بقوله هناك وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة 60 الآية ولذا قال هنا في قصة المنافقين ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة 46
ثم بين السورتين تناسب من وجه آخر وهو أنه سبحانه في الأنفال تولى قسمة الغنائم وجعل خمسها خمسة أخماس وفي براءة تولى قسمة الصدقات وجعلها لثمانية أصناف
سورة يونس
أقول قد عرف وجه مناسبتها فيما تقدم في الأنفال ونزيد هنا أن مطلعها شبيه بمطلع سورة الأعراف وأنه سبحانه قال فيها أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا 2 فقدم الإنذار وعممه وأخر البشارة وخصصها وقال تعالى في مطلع الأعراف لتنذر به وذكرى للمؤمنين 2 فخص الذكرى وأخرها وقدم الإنذار وحذف مفعوله ليعم
وقال هنا إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام (1/107)
ثم استوى على العرش 3 وقال في الأوائل أي أوائل الأعراف مثل ذلك
وقال هنا يدبر الأمر 3 وقال هناك مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر 54
وأيضا فقد ذكرت قصة فرعون وقومه في الأعراف فاختصر ذكر عذابهم وبسطه في هذه السورة أبلغ بسط
فهي شارحة لما أجمل في سورة الأعراف منه
سورة هود
أقول وجه وضعها بعد سورة يونس زيادة على الأوجه الستة السابقة أن سورة يونس ذكر فيها قصة نوح مختصرة جدا مجملة فشرحت في هذه السورة وبسطت بما لم يبسطه في غيرها من السور ولا في سور الأعراف على طولها ولا في سورة إنا أرسلنا نوحا التي أفردت لقصته
فكانت هذه السورة شارحة لما أجمل في سورة يونس فإن قوله تعالى واتبع ما يوحى إليك 109 هو عين قوله هنا كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير 2 فكان أول هود تفصيلا لخاتمة يونس (1/108)
سورة يوسف
أقول وجه وضعها بعد سورة هود زيادة على الأوجه الستة السابقة أن قوله في مطلعها نحن نقص عليك أحسن القصص 3
مناسب لقوله في مقطع تلك وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك 120
وأيضا فلما وقع في سورة هود فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب 71 وقوله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت 73 ذكر هنا حال يعقوب مع أولاده وحال ولده الذي هو من أهل البيت مع أخوته فكان كالشرح لإجمال ذلك
وكذلك قال هنا ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق 6 فكان ذلك كالمقترن بقوله في هود رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت 48
وقد روينا عن ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب النزول أن يونس نزلت ثم هود ثم يوسف وهذا وجه آخر من وجوه المناسبة في ترتيب هذه السور الثلاث لترتيبها في النزول هكذا
سورة الرعد
أقول وجه وضعها بعد سورة يوسف زيادة على ما تقدم بعد ما فكرت فيه طائفة من الزمان أنه سبحانه قال في آخر تلك وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون 105 فذكر الآيات السمائية والأرضية مجملة ثم فصل في مطلع هذه السورة (1/109)
فقوله الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون 2 4 تفصيل الآيات الأرضية
هذا مع اختتام سورة يوسف بوصف الكتاب ووصفه بالحق وافتتاح هذه بمثل ذلك وهو من تشابه الأطراف
سورة إبراهيم
أقول وجه وضعها بعد سورة الرعد زيادة على ما تقدم بعد إفكاري فيه برهة أن أقوله في مطلعها كتاب أنزلناه إليك 2 مناسب لقوله في مقطع تلك ومن عنده علم الكتاب 43 على أن المراد ب من هو الله تعالى جل جلاله
وأيضا ففي الرعد ولقد استهزىء برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم 32 وذلك مجمل في أربعة مواضع الرسل والمستهزئين وصفة الاستهزاء والأخذ وقد فصلت الأربعة في قوله ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود 9 16 الآيات (1/110)
سورة الحجر
أقول تقدمت الأوجه في اقترانها بالسورة السابقة وإنما أخرت عنها لقصرها بالنسبة إليها وهذا القسم من سور القرآن للمئين فناسب تقديم الأطول مع مناسبة ما ختمت به لبراعة الختام وهو قوله واعبد ربك حتى يأتيك اليقين 99 فإنه مفسر بالموت وذلك مقطع في غاية البراعة
وقد وقع ذلك في أواخر السور المقترنة ففي آخر آل عمران واتقوا الله لعلكم تفلحون 200 وفي آخر الطواسين كل شيء هالك إلا وجهه ألا له الحكم وإليه ترجعون 28 88 وفي آخر ذوات الر وانتظر إنهم منتظرون 32 30 وفي آخر الحواميم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ 46 35
ثم ظهر لي وجه اتصال أول هذه السورة بآخر سورةإبراهيم فإنه تعالى لما قال هناك في وصف يوم القيامة وبرزوا لله الواحد القهار وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار 48 50 قال هنا ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين 2 فأخبر أن المجرمين المذكورين إذا طال مكثهم في النار ورأوا عصاة المؤمنين الموحدين قد أخرجوا منها تمنوا أن لو كانوا في الدنيا مسلمين وذلك وجه حسن في الربط مع اختتام آخر تلك بوصف الكتاب وافتتاح هذه به وذلك من تشابه الأطراف
سورة النحل
أقول وجه وضعها بعد سورة الحجر أن آخرها شديد الالتئام بأول هذه فإن قوله في آخر تلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين 99 الذي (1/111)
هو مفسر بالموت ظاهر المناسبة لقوله هنا أتى أمر الله 1 وانظر كيف جاء في المقدمة بيأتيك اليقين وفي المتأخرة بلفظ الماضي لأن المستقبل سابق على الماضي كما تقرر في المعقول والعربية
وظهر لي أن هذه السورة شديدة الاعتلاق بسورة إبراهيم وإنما تأخرت عنها لمناسبة الحجر في كونها من ذوات الر
وذلك أن سورة إبراهيم وقع فيها ذكر فتنة الميت ومن هو ميت وغيره وذلك أيضا في هذه بقوله الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم 28 الآيات فذكر الفتنة وما يحصل عندها من الثبات والإضلال وذكر هنا ما يحصل عقب ذلك من النعيم والعذاب
ووقع في سورة إبراهيم وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال 46 وقيل إنها في الجبار الذي أراد أن يصعد السماء بالنسور ووقع هنا ايضا في قوله وقد مكر الذين من قبلهم 26
ووقع في سورة إبراهيم ذكر النعم وقال عقبها وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها 34 ووقع هنا ذكر ذلك معقبا بمثل ذلك (1/112)
سورة بني إسرائيل
اعلم أن هذه السورة والأربع بعدها من قديم ما أنزل أخرج البخاري عن ابن مسعود أنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول وهن من تلادي وهذا وجه في ترتيبها وهو اشتراكها في قدم النزول وكونها مكيات وكونها مشتملة على القصص
وقد ظهر لي في وجه اتصالها بسورة النحل أنه سبحانه لما قال في آخر النحل إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه 124 فسر في هذه شريعة أهل السبت وشأنهم فذكر فيها جميع ما شرع لهم في التوراة كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس انه قال التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل وذكر عصيانهم وفسادهم وتخريب مسجدهم ثم ذكر استفزازهم للنبي صلى الله عليه و سلم وإرادتهم إخراجه من المدينة ثم ذكر سؤالهم إياه عن الروح ثم ختم السورة بآيات موسى التسع وخطابه مع فرعون وأخبر أن استفزازهم للنبي صلى الله عليه و سلم ليخرجوه من المدينة هو وأصحابه كنظير ما وقع لهم مع فرعون لما استفزهم ووقع ذلك أيضا
ولما كانت هذه السورة مصدرة بقصة تخريب المسجد الأقصى أسري بالمصطفى إليه تشريفا له بحلول ركابه الشريف فلله الحمد على ما ألهم
سورة الكهف
قال بعضهم مناسبة وضعها بعد سورة الإسراء افتتاح تلك بالتسبيح (1/113)
وهذه بالتحميد وهما مقترنان في القرآن وسائر الكلام بحيث يسبق التسبيح التحميد نحو فسبح بحمد ربك 15 98 20 13 40 55 50 39 52 48 وسبحان الله وبحمده
قلت مع اختتام ما قبلها بالتحميد أيضا وذلك من وجوه المناسبة بتشابه الأطراف
ثم ظهر لي وجه آخر أحسن في الاتصال وذلك أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا النبي صلى الله عليه و سلم عن ثلاثة أشياء عن الروح وعن قصة أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين وقد ذكر جواب السؤال الأول في آخر سورة بني إسرائيل فناسب اتصالها بالسورة التي اشتملت على جواب السؤالين الآخرين
فإن قلت هلا جمعت الثلاثة في سورة واحدة
قلت لما لم يقع الجواب عن الأول بالبيان ناسب فصله في سورة
ثم ظهر لي وجه آخر وهو أنه لما قال فيها وما أوتيتم من العلم إلا قليلا 58 والخطاب لليهود واستظهر على ذلك بقصة موسى في بني إسرائيل مع (1/114)
الخضر التي كان سببها ذكر العلم والأعلم وما دلت عليه من إحاطة معلومات الله عز و جل التي لا تحصى فكانت هذه السورة كإقامة الدليل لما ذكر من الحكم
وقد ورد في الحديث أنه لما نزل وما أوتيتم من العلم إلا قليلا قال اليهود قد أوتينا التوراة فيها علم كل شيء فنزل قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا 109 في هذه السورة فهذا وجه آخر في المناسبة وتكون السورة من هذه الجهة جوابا عن شبهة الخصوم فيما قدر بتلك
وأيضا فلما قال هناك فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا 104 شرح ذلك هنا وبسطه بقوله فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء إلى ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا 98 100
فهذه وجوه عديدة في الاتصال
سورة مريم
أقول ظهر لي في وجه مناسبتها لما قبلها أن سورة الكهف اشتملت على عدة أعاجيب قصة أصحاب الكهف وطول لبثهم هذه المدة الطويلة بلا أكل ولا شرب وقصة موسى مع الخضر وما فيها من الخارقات وقصة ذي القرنين وهذه السورة فيها أعجوبتان قصة ولادة يحيى بن زكريا وقصة ولادة عيسى فناسب تتاليهما (1/115)
وأيضا فقد قيل إن أصحاب الكهف يبعثون قبل قيام الساعة ويحجون مع عيسى ابن مريم حين ينزل ففي ذكر سورة مريم بعد سورة أصحاب الكهف مع ذلك إن ثبت ما لا يخفى من المناسبة
وقد قيل أيضا إنهم من قوم عيسى وإن قصتهم كانت في الفترة فناسب توالي قصتهم وقصة نبيهم
سورة طه
أقول روينا عن ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب النزول أن طه نزلت بعد سورة مريم بعد ذكر سورة أصحاب الكهف وذلك وحده كاف في مناسبة الوضع مع التآخي بالافتتاح بالحروف المقطعة
وظهر لي وجه آخر وهو أنه لما ذكر في سورة مريم قصص عدة من الأنبياء وهم زكريا ويحيى وعيسى الثلاثة مبسوطة وإبراهيم وهي بين البسط والايجاز وموسى وهي موجزة بجملة أشار إلى بقية النبيين في الآية الأخيرة إجمالا وذكر في هذه السورة شرح قصة موسى التي أجملها هناك فاستوعبها غاية الاستيعاب وبسطها أبلغ بسط ثم أشار إلى تفصيل قصة آدم الذي وقع مجرد اسمه هناك ثم أورد في سورة الأنبياء بقية قصص من لم يذكر في مريم كنوح ولوط وداود وسليمان وأيوب وذي الكفل وذي النون وأشير إلى قصة من ذكرت قصته إشارة (1/116)
وجيزة كموسى وهارون وإسماعيل وزكريا ومريم لتكون السورتان كالمتقابلتين
وبسطت فيها قصة إبراهيم البسط التام فيما يتعلق به مع قومه ولم تذكر حاله مع أبيه إلا إشارة كما أنه في سورة مريم ذكر حاله مع قومه إشارة ومع أبيه مبسوطا فانظر إلى عجيب هذا الأسلوب وبديع هذا الترتيب
سورة الأنبياء
قدمت ما فيها مستوفى وظهر لي في اتصالها بآخر طه أنه سبحانه لما قال قل كل متربص فتربصوا 135 وقال قبله ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجلا مسمى 129 قال في مطلع هذه اقترب للناس حسابهم 1 إشارة إلى قرب الأجل ودنو الأمل المنتظر
وفيه أيضا مناسبة لقوله هناك ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم 131 الآية فإن قرب الساعة يقتضى الإعراض عن هذه الحياة الدنيا لدنوها من الزوال والفناء ولهذا ورد في الحديث أنها لما نزلت قيل لبعض الصحابة هلا سألت النبي صلى الله عليه و سلم عنها فقال نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا
سورة الحج
أقول وجه اتصالها بسورة الأنبياء انه ختمها بوصف الساعة في قوله واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا 97 وافتتح (1/117)
هذه بذلك فقال إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى 1 2
سورة المؤمنون
أقول وجه اتصالها بسورة الحج أنه لما ختمها بقوله وافعلوا الخير لعلكم تفلحون 77 وكان ذلك مجملا فصله في فاتحة هذه السورة فذكر خصال الخير التي من فعلها فقد أفلح فقال قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون 1 6 الآيات
ولما ذكر أول الحج قوله ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة 5 الآية زاده هنا بيانا في قوله ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين 12 13 الآيات فكل جملة أوجزت هناك في القصد أطنب فيها هنا
سورة النور
أقول وجه اتصالها بسورة قد أفلح أنه لما قال والذين هم لفروجهم حافظون 5 ذكر في هذه أحكام من لم يحفظ فرجه من الزانية والزاني وما اتصل بذلك من شأن القذف وقصة الإفك والأمر بغض البصر وأمر فيها بالنكاح حفظا للفروج وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف (1/118)
وحفظ فرجه ونهى عن إكراه الفتيات على الزنا
ولا ارتباط أحسن من هذا الارتباط ولا تناسق أبدع من هذا النسق
سورة الفرقان
ظهر لي بفضل الله بعدما فكرت في هذه أن نسبة هذه السورة لسورة النور كنسبة سورة الأنعام إلى المائدة
من حيث أن النور أن ختمت بقوله لله ما في السموات والأرض 64 كما ختمت المائدة بقوله لله ملك السموات والأرض وما فيهن 120
وكانت جملة النور أخصر من المائدة ثم فصلت هذه الجملة في سورة الفرقان فافتتحت بقوله الذي له ملك السموات إلى قوله وخلق كل شيء فقدره تقديرا 2 كما افتتحت الأنعام بمثل ذلك وكان قول عقبه واتخذوا من دونه آلهة 3 إلى آخره نظير قوله هناك ثم الذين كفروا بربهم يعدلون 1
ثم ذكر في خلال هذه السورة جملة من المخلوقات كمد الظل والليل والنوم والنهار والرياح والماء والأنعام والأناسى ومرج البحرين والإنسان والنسب والصهر وخلق السموات والأرض في ستة أيام والاستواء على العرش وبروج السماء والسراج والقمر إلى غير ذلك مما هو تفصيل لجملة لله ما في السموات والأرض كما فصل آخر المائدة في الأنعام بمثل ذلك وكان البسط في الأنعام أكثر لطولها (1/119)
ثم أشار في هذه السورة إلى القرون المكذبة وإهلاكهم كما أشار في الأنعام إلى ذلك ثم أفصح عن هذه الإشارة في السورة التي تليها وهي الشعراء بالبسط التام والتفصيل البالغ كما أوضح تلك الإشارة التي في الأنعام وفصلها في سورة الأعراف التي تليها
فكانت هاتان السورتان الفرقان والشعراء في المثاني نظير تينك السورتين الأنعام والأعراف في الطوال واتصالهما بآخر النور نظير اتصال تلك بآخر المائدة المشتملة على فصل القضاء
ثم ظهر لي لطيفة أخرى وهي أنه إذا وقعت سورة مكية بعد سورة مدنية افتتح أولها بالثناء على الله كالأنعام بعد المائدة والإسراء بعد النحل وهذه بعد النور وسبأ بعد الأحزاب والحديد بعد الواقعة وتبارك بعد التحريم لما في ذلك من الإشارة إلى نوع استقلال وإلى الإنتقال من نوع إلى نوع
سورة الشعراء
أقول وجه اتصالها بسورة الفرقان أنه تعالى لما أشار فيها إلى قصص مجملة بقوله ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا (1/120)
اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا 35 38 شرح هذه القصص وفصلها أبلغ تفصيل في الشعراء التي تليها ولذلك رتبت على ترتيب ذكرها في الآيات المذكورة فبدىء بقصة موسى ولو رتبت على الواقع لأخرت كما في الأعراف
فانظر إلى هذا السر اللطيف الذي من الله بإلهامه
ولما كان في الآيات المذكورة قوله وقرونا بين ذلك كثيرا زاد في الشعراء تفصيلا لذلك قصة قوم إبراهيم وقوم لوط وقوم شعيب
ولما ختم الفرقان بقوله وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما 63 وقوله وإذا مروا باللغو مروا كراما 72 ختم هذه السورة بذكر الشعراء الذين هم بخلاف ذلك واستثنى منهم من سلك سبيل اولئك وبين ما يمدح من الشعر ويدخل في قوله سلاما وما يذم منه ويدخل في اللغو
سورة النمل
أقول وجه اتصالها بما قبلها انها كالتتمة لها في ذكر بقية القرون فزاد سبحانه فيها ذكر سليمان وداود وبسط فيها قصة لوط أبسط مما هي في الشعراء (1/121)
وقد روينا عن ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب السور أن الشعراء أنزلت ثم طه ثم القصص ولذلك كان ترتيبها في المصحف هكذا
وأيضا فقد وقع فيها وإذ قال موسى لأهله امكثوا إني آنست نارا 7 إلى آخره وذلك تفصيل قوله في الشعراء فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين 21
سورة القصص
أقول ظهر لي بعد الفكرة أنه سبحانه لما حكى في الشعراء قول فرعون لموسى ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت 18 19 إلى قول موسى ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين 21 وقال في طس النمل قول موسى لأهله إني آنست نارا 7 إلى آخره الذي هو في الوقوع بعد الفرار ولما كان على سبيل الإشارة و الإجمال بسط في هذه السورة ما أوجزه في السورتين وفصل ما أجمله فيهما على حسب ترتيبهما
فبدأ بشرح تربية فرعون له مصدرا بسبب ذلك من علو فرعون وذبح أبناء بني إسرائيل الموجب لإلقاء موسى عند ولادته في اليم خوفا عليه من الذبح وبسط القصة في تربيته وما وقع فيها إلى كبره إلى السبب الذي من أجله قتل القبطي وهي الفعلة التي فعل إلى الهم بذلك عليه والموجب لفراره إلى مدين إلى ما وقع له مع شعيب وتزوجه بابنته إلى أن سار (1/122)
بأهله وآنس من جانب الطور نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا إلى ما وقع له فيها من المناجاة لربه وبعثه إياه رسولا وما استتبع ذلك إلى آخر القصة
فكانت السورة شارحة لما أجمل في السورتين معا على الترتيب
وبذلك عرف وجه الحكمة في تقديم طس على هذه وتأخيرها عن الشعراء فلله الحمد على ما ألهم
سورة العنكبوت
أقول ظهر لي في وجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى لما أخبر في أول السورة السابقة عن فرعون أنه علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم 4 افتتح هذه السورة بذكر المؤمنين الذين فتنهم الكفار وعذبوهم على الإيمان بعذاب دون ما عذب به قوم فرعون بني إسرائيل تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم وحثا لهم على الصبر ولذلك قال هنا ولقد فتنا الذين من قبلهم 3 وهذه أيضا من حكم تأخير القصص على طس
وأيضا فلما كان في خاتمة القصص الإشارة إلى هجرة النبي صلى الله عليه و سلم وفي خاتمة هذه الإشارة إلى هجرة المؤمنين بقوله يا عبادي إن أرضى واسعة 56 ناسب تتاليهما (1/123)
سورة الروم
أقول ظهر لي في اتصالها بما قبلها إنها ختمت بقوله والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا 69 فافتتحت هذه بوعد من غلب من أهل الكتاب بالغلبة والنصر وفرح المؤمنين بذلك وأن الدولة لأهل الجهاد فيه ولا يضرهم ما وقع لهم قبل ذلك من هزيمة
هذا مع تآخيهها بما قبلها في المطلع فإن كلا منهما افتتح ب الم غير معقب بذكر القرآن وهو خلاف القاعدة الخاصة بالمفتتح بالحروف المقطعة فإنها كلها عقبت بذكر الكتاب أو وصفه إلا هاتين السورتين وسورة القلم لنكتة بينتها في أسرار التنزيل (1/124)
سورة لقمان
أقول ظهر لي في اتصالها بما قبلها مع المؤاخاة في الافتتاح ب الم
أن قوله تعالى هنا هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون 3 4 متعلق بقوله في آخر سورة الروم وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث 56 الآية فهذا عين إيقانهم بالآخرة وهم المحسنون الموقنون بما ذكر
وأيضا ففي كلتا السورتين جملة من الأديان وبدء الخلق
وذكر في الروم في روضة يحبرون 15 وقد فسر بالسماع وفي لقمان ومن الناس من يشترى لهو الحديث 6 وقد فسر بالغناء وآلات الملاهي
سورة السجدة
أقول وجه اتصالها بما قبلها أنها شرحت مفاتح الغيب الخمسة التي ذكرت في خاتمة لقمان
فقوله هنا ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون 5 (1/125)
شرح لقوله هناك إن الله عنده علم الساعة 34 ولذلك عقب هنا بقوله عالم الغيب والشهادة 6
وقوله أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز 27 شرح لقوله وينزل الغيث 32
وقوله الذي أحسن كل شيء خلقه 7 الآيات شرح لقوله ويعلم ما في الأرحام 34
وقوله يدبر الأمر من السماء إلى الأرض و ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها 13 شرح لقوله وما تدري نفس ماذا تكسب غدا 34
وقوله ائذا ضللنا في الأرض إلى قوله قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم مرجعكم 11 شرح لقوله وما تدري نفس بأي أرض تموت 34 فلله الحمد على ما ألهم
سورة الأحزاب
أقول وجه اتصالها بما قبلها تشابه مطلع هذه ومقطع تلك فإن تلك ختمت بأمر النبي صلى الله عليه و سلم بالإعراض عن الكافرين وانتظار عذابهم ومطلع هذه الأمر بتقوى الله وعدم طاعة الكافرين والمنافقين فصارت كالتتمة لما ختمت به تلك حتى كأنهما سورة واحدة
سورة سبأ
أقول ظهر لي وجه اتصالها بما قبلها وهو أن تلك لما ختمت بقوله ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات 37 افتتحت هذه بأن له ما في السموات وما في الأرض (1/126)
وهذا الوصف لائق بذلك الحكم فإن الملك العام والقدرة التامة يقتضيان ذلك
وخاتمة سورة الأحزاب وكان الله غفورا رحيما 73 وفاصلة الآية الثانية من مطلع سبأ وهو الرحيم الغفور 2
سورة فاطر
أقول مناسبة وضعها بعد سبأ تآخيهما في الافتتاح بالحمد مع تناسبهما في المقدار
وقال بعضهم افتتاح سورة فاطر بالحمد مناسب لختام ما قبلها من قوله وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل 54 كما قال فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين 6 45 فهو نظير اتصال أول الأنعام بفصل القضاء المختتم به المائدة
سورة يس
أقول ظهر لي وجه اتصاله بما قبلها أنه لما ذكر في سورة فاطر قوله وجاءكم النذير 37 وقوله وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن اهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير 42 والمراد به محمد صلى الله عليه و سلم وقد أعرضوا عنه وكذبوه فافتتح هذه السورة بالإقسام على صحة رسالته وأنه على صراط مستقيم لينذر قوما ما أنذر آباؤهم وهذا وجه بين
وفي فاطر وسخر الشمس والقمر 13 14 الآيتين وفي يس والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم 38 39 وذلك أبسط وأوضح (1/127)
وفي فاطر وترى الفلك فيه مواخر 12 وفي يس وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون 41 43 فزاد القصة بسطا
سورة الصافات
أقول هذه السورة بعد يس كالأعراف بعد الأنعام وكالشعراء بعد الفرقان في تفصيل أحوال القرون المشار إلى إهلاكهم كما أن تينك السورتين تفصيل لمثل ذلك كما تقدم
سورة ص
أقول هذه السورة بعد الصافات كطس بعد الشعراء وكطه والأنبياء بعد مريم وكيوسف بعد هود في كونها متممة لها بذكر من بقى من الأنبياء ممن لم يذكروا فيها فإنه سبحانه ذكر في الصافات نوحا وإبراهيم والذبيح وموسى وهارون ولوطا وإلياس ويونس وذكر هنا داود وسليمان وأيوب وأشار إلى بقية من ذكر فهي بعدها أشبه شيء بالأنبياء وطس بعد مريم والشعراء
سورة الزمر
لايخفى وجه اتصال أولها بآخر ص حيث قال في ص إن هو إلا ذكر للعالمين 87 ثم قال هنا تنزيل الكتاب من الله 1 فكأنه قيل هذا الذكر تنزيل وهذا تلاؤم شديد بحيث أنه لو أسقطت البسمله لالتأمت الآيتان كالآية الواحده
وقد ذكر الله تعالى في آخر ص قصة خلق آدم وذكر في صدر هذه (1/128)
قصة خلق زوجه وخلق الناس كلهم منه وذكر خلقهم في بطون أمهاتهم خلقا من بعد خلق ثم ذكر أنهم ميتون ثم ذكر وفاة النوم والموت ثم ذكر القيامه والحساب والجزاء والنار والجنة وقال وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين 75
فذكر أحوال الخلق من المبدأ إلى المعاد متصلا بخلق آدم المذكور في السورة التي قبلها
سورة غافر
أقول وجه إيلاء الحواميم السبع سورة الزمر تآخى المطالع في الافتتاح بتنزيل الكتاب وفي مصحف أبي بن كعب أول الزمر حم وذلك مناسبة جليلة
ثم إن الحواميم ترتبت لاشتراكها في الافتتاح ب حم وبذكر الكتاب بعد حم وأنها مكية بل ورد في الحديث انها نزلت جملة
وفيها شبه من ترتيب ذوات الر الست (1/129)
فانظر ثانية الحواميم وهي فصلت كيف شابهت ثانية ذوات الر هود في تغيير الأسلوب في وصف الكتاب وأن في هود كتاب أحكمت آياته ثم فصلت 2 وفي فصلت كتاب فصلت آياته 2 وفي سائر ذوات الر تلك آيات الكتاب وفي سائر الحواميم تنزيل الكتاب أو والكتاب
وروينا عن جابر بن زيد وابن عباس في ترتيب نزول السور أن الحواميم نزلت عقب الزمر وأنها نزلت متتاليات كترتيبها في المصحف المؤمن ثم السجدة ثم الشورى ثم الزخرف ثم الدخان ثم الجاثية ثم الأحقاف ولم يتخللها نزول غيرها وتلك مناسبة جلية واضحة في وضعها هكذا
ثم ظهر لي لطيفة أخرى وهي أنه في كل ربع من أرباع القرآن توالت سبع سور مفتتحة بالحروف المقطعة فهذه السبع مصدرة ب حم وسبع في الربع الذي قبله ذوات الر الست متوالية و المص الأعراف فإنها متصلة بيونس على ما تقدمت الإشارة إليه وافتتح أول القرآن بسورتين من ذلك وأول النصف الثاني بسورتين
وقال الكرماني في العجائب ترتيب الحواميم السبع لما بينها من التشاكل الذي خصت به وهو أن كل سورة منها استفتحت بالكتاب (1/130)
أو وصفه مع تفاوت المقادير في الطول والقصر وتشاكل الكلام في النظام انتهى
قلت وانظر إلى مناسبة ترتيبها فإن مطلع غافر مناسب لمطلع الزمر ومطلع فصلت التي هي ثانية الحواميم مناسب لمطلع هود التي هي ثانية ذوات الر ومطلع الزخرف مؤاخ لمطلع الدخان وكذا مطلع الجاثية لمطلع الأحقاف
سورة القتال
لايخفى وجه ارتباط أولها بقوله في آخر الأحقاف فهل يهلك إلا القوم الفاسقون 35 واتصاله وتلاحمه بحيث أنه لو أسقطت البسملة منه لكان متصلا اتصالا واحدا لاتنافر فيه كالآية الواحدة آخذا بعضه بعنق بعض
سورة الفتح
لايخفى وجه حسن وضعها هنا لأن الفتح بمعنى النصر مرتب على القتال وقد ورد في الحديث أنها مبينة لما يفعل به وبالمؤمنين بعد إيهامه في قوله تعالى في الأحقاف وما أدرى مايفعل بي ولا بكم 9 فكانت متصلة بسورة الأحقاف من هذه الجملة (1/131)
سورة الحجرات
لايخفى تآخي هاتين السورتين الفتح والحجرات مع ما قبلهما لكونهما مدنيتين ومشتملتين على أحكام فتلك فيها قتال الكفار وهذه فيها قتال البغاة وتلك ختمت بالذين آمنوا وهذه افتتحت بالذين آمنوا وتلك تضمنت تشريفا له صلى الله عليه و سلم خصوصا مطلعها وهذه أيضا في مطلعها أنواع من لتشريف له صلى الله عليه و سلم
سورة الذاريات
أقول لما ختمت ق بذكر البعث واشتملت على ذكر الجزاء والجنة والنار وغير ذلك من أحوال القيامة افتتح هذه السورة بالإقسام على أن ما توعدون من ذلك لصادق وإن الدين وهو الجزاء لواقع
ونظير ذلك افتتاح المرسلات بذلك بعد ذكر الوعد والوعيد والجزاء في سورة الإنسان
سورة الطور
أقول وجه وضعها بعد الذاريات تشابههما في المطلع والمقطع فإن في (1/132)
مطلع كل منهما صفة حال المتقين بقوله إن المتقين في جنات 15 17 الآيات وفي مقطع كل منهما صفة حال الكفار بقوله في تلك فويل للذين كفروا 60 وفي هذه فاللذين كفروا 42
سورة النجم
أقول وجه وضعها بعد الطور أنها شديدة المناسبة لها فإن الطور ختمت بقوله وإدبار النجوم 49 وافتتحت هذه بقوله والنجم اإذا هوى 1
ووجه آخر أن الطور ذكر فيها ذرية المؤمنين وأنهم تبع لآبائهم وهذه فيها ذكر ذرية اليهود في قوله هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض 32
ولما قال هناك في المؤمنين ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء 21 أي ما نقصنا الآباء بما أعطينا البنين مع نفعهم بما عمل آباؤهم قال هنا في صفة الكفار أو بني الكفار وأن ليس للإنسان إلا ما سعى 39 خلاف ما ذكر في المؤمنين الصغار
وهذا وجه بين بديع في المناسبة من وادي التضاد
سورة القمر
أقول لايخفى ما في توالي هاتين السورتين من حسن التناسق في التسمية لما بين النجم والقمر من الملابسة ونظيره توالي الشمس والليل والضحى وقبلها سورة الفجر (1/133)
ووجه آخر وهو أن هذه السورة بعد النجم كالأعراف بعد الأنعام وكالصافات بعد يس في أنها تفصيل لأحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم في قوله هناك وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى والمؤتفكة أهوى 50 53
سورة الرحمن
أقول لما قال سبحانه وتعالى في آخر القمر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر 46 ثم وصف حال المجرمين في سقر وحال المتقين في جنات ونهر فصل هذا الإجمال في هذه السورة أتم تفصيل على الترتيب الوارد في الإجمال
فبدأ بوصف مرارة الساعة والإشارة إلى إدهائها ثم وصف النار وأهلها والجنة وأهلها ولذا قال فيهم ولمن خاف مقام ربه جنتان 46 وذلك هو عين التقوى ولم يقل لمن آمن وأطاع أو نحوه لتتوافق الألفاظ في التفصيل و المفصل
وعرف بذلك أن هذه السورة بأسرها شرح لآخر السورة التي قبلها فلله الحمد على ما ألهم وفهم
سورة الواقعة
أقول هذه السورة متآخية مع سورة الرحمن في أن كلا منهما في وصف (1/134)
القيامة والجنة والنار وانظر إلى اتصال قوله هنا إذا وقعت الواقعة 1 بقوله هناك فإذا انشقت السماء 37 ولهذا اقتصر في الرحمن على ذكر انشقاق السماء وفي الواقعة على ذكر رج الأرض فكأن السورتين لتلازمهما واتحادهما سورة واحدة
ولهذا عكس في الترتيب فذكر في أول هذه السورة ما ذكره في آخر تلك وفي آخر هذه ما في أول تلك كما أشرت إليه في سورة آل عمران مع سورة البقرة
فافتتح الرحمن بذكر القرآن ثم ذكر الشمس والقمر ثم ذكر النبات ثم خلق الإنسان والجان من مارج من نار ثم صفة القيامة ثم صفة النار ثم صفة الجنة
وابتدأ هذه بذكر القيامة ثم صفة الجنة ثم صفة النار ثم خلق الإنسان ثم النبات ثم الماء ثم النار ثم النجوم ولم يذكرها في الرحمن كما لم يذكر هنا الشمس والقمر ثم ذكر القرآن
فكانت هذه السورة كالمقابلة لتلك وكرد العجز على الصدر
سورة الحديد
قال بعضهم وجه اتصالها بالواقعة أنها قدمت بذكر التسبيح وتلك ختمت بلأمر به
قلت وتمامه أن أول الحديد واقع موقع العلة للأمر به وكأنه قيل فسبح باسم ربك العظيم لأنه سبح لله ما في السموات والأرض (1/135)
سورة المجادلة
أقول لما كان في مطلع الحديد ذكر صفاته الجليلة ومنها الظاهر والباطن وقال يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم 4 افتتح هذه بذكر أنه سمع قول المجادلة التي شكت إليه صلى الله عليه و سلم ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها حين نزلت سبحان الذي وسع سمعه الأصوات إني لفي ناحية البيت لا أعرف ماتقول
وذكر بعد ذلك قوله ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم 7 وهو تفصيل لقوله وهو معكم أينما كنتم 4 وبذلك تعرف الحكمة في الفصل بها بين الحديد والحشر مع تآخيهما في الافتتاح ب سبح
سورة الحشر
آخر سورة المجادلة نزل فيمن قتل أقرباؤه من الصحابة يوم بدر وأول الحشر نازل في غزوة بني النضير وهي عقبها وذلك نوع من المناسبة والربط
وفي آخر تلك كتب الله لأغلبن أنا ورسلي 21 وفي أول هذه (1/136)
فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب 2
وفي آخر تلك ذكر من حاد الله ورسوله وفي أول هذه ذكر من شاق الله ورسوله
سورة الممتحنة
أقول لما كانت سورة الحشر في المعاهدين من أهل الكتاب عقبت بهذه لاشتمالها على ذكر المعاهدين من المشركين لأنها نزلت في صلح الحديبيه
ولما ذكر في الحشر موالاة المؤمنين بعضهم بعضا ثم موالاة الذين من أهل الكتاب افتتح هذه السورة بنهي المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء لئلا يشابهواالمنافقين في ذلك وكرر ذلك وبسطه إلى أن ختم به فكانت في غاية الاتصال ولذلك فصل بها بين الحشر والصف مع تآخيهما في الافتتاح ب سبح
سورة الصف
أقول في سورة الممتحنة ذكر الجهاد في سبيل الله وبسطه في هذه السورة أبلغ بسط
سورة الجمعة
أقول ظهر لي في وجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى لما ذكر في سورة (1/137)
الصف حال موسى مع قومه وأذاهم له ناعيا عليهم ذلك ذكر في هذه السورة حال الرسول صلى الله عليه و سلم وفضل أمته تشريفا لهم ليظهر فضل ما بين الأمتين ولذا لم يعرض فيها الذكر ليهود وأيضا لما ذكر هناك قول عيسى ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد 6 قال هنا هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم 2 إشارة إلى أنه الذي بشر به عيسى وهذا وجه حسن في الربط
وأيضا لما ختم تلك السورة بالأمر بالجهاد وسماه تجارة ختم هذه بالأمر بالجمعة وأخبر أنها خير من التجارة الدنيوية
وأيضا فتلك سورة الصف والصفوف تشرع في موضعين القتال والصلاة فناسب تعقيب سورة صف القتال بسورة صلاة تستلزم الصف ضرورة وهي الجمعة لأن الجماعة شرط فيها دون سائر الصلوات
فهذه وجوه أربعة فتح الله بها
سورة المنافقون
أقول وجه اتصالها بما قبلها أن سورة الجمعة ذكر فيها المؤمنون وهذه ذكر فيها أضدادهم وهم المنافقون ولهذا أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة يحرض بها المؤمنين وبسورة المنافقين يفزع بها المنافقين (1/138)
وتمام المناسبة أن السورة التي بعدها فيها ذكر المشركين والسورة التي قبل الجمعة فيها ذكر أهل الكتاب من اليهود والنصارى والتي قبلها وهي الممتحنة فيها ذكر المعاهدين من المشركين والتي قبلها وهي الحشر فيها ذكر المعاهدين من أهل الكتاب فإنها نزلت في بني النضير حين نبذوا العهد وقوتلوا
وبذلك اتضحت المناسبة في ترتيب هذه السور الست هكذا لاشتمالها على أصناف الأمم وفي الفصل بين المسبحات بغيرها لأن إيلاء سورة المعاهدين من أهل الكتاب بسورة المعاهدين من المشركين أنسب من غيره وإيلاء سورة المؤمنين بسورة المنافقين أنسب من غيره
فظهر بذلك أن الفصل بين المسبحات التي هي نظائر الحكمة دقيقة من لدن حكيم خبير فلله الحمد على ما فهم وألهم
هذا وقد ورد عن ابن عباس في ترتيب النزول أن سورة التغابن نزلت عقب الجمعة وتقدم نزول سورة المنافقون فما فصل بينهما إلا لحكمة والله أعلم
سورة التغابن
أقول لما وقع في آخر سورة المنافقون وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت 10 الآية عقب بسورة التغابن لأنه قيل في معناه إن الإنسان يأتي يوم القيامة وقد جمع مالا ولم يعمل فيه خيرا فأخذه وارثه (1/139)
بسهولة من غير مشقة في جمعه فأنفقه في وجوه الخير فالجامع محاسب معذب مع تعبه في جمعه والوارث منعم مثاب مع سهولة وصوله إليه وذلك هو التغابن
فارتباطه بآخر السورة المذكورة في غاية الوضوح ولهذا قال هنا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون 16
وأيضا ففي آخر تلك لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله 9 وفي هذه إنما أموالكم وأولادكم فتنة 15 وهذه الجملة كالتعليل لتلك الجملة ولذا ذكرت على ترتيبها
وقال بعضهم لما كانت سورة المنافقون رأس ثلاث وستين سورة أشير فيها إلى وفاة النبي صلى الله عليه و سلم بقوله ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها 11 فانه مات على رأس ثلاث وستين سنة وعقبها بالتغابن ليظهر التغابن في فقده صلى الله عليه و سلم
سورة الطلاق
أقول لما وقع في سور التغابن إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم 14 وكانت عداوة الأزواج تفضي إلى الطلاق وعداوة الأولاد قد تفضي إلى القسوة وترك الإنفاق عليهم عقب ذلك بسورة فيها ذكر أحكام الطلاق والإنفاق على الأولاد والمطلقات بسببهم
سورة التحريم
أقول هذه السورة متآخية مع التي قبلها بالافتتاح بخطاب النبي صلى الله عليه و سلم (1/140)
وتلك مشتملة على طلاق النساء وهذه على تحريم الإيلاء وبينهما من المناسبة مالا يخفى
ولما كانت تلك في خصام نساء الأمة ذكر في هذه خصومة نساء النبي صلى الله عليه و سلم إعظاما لمنصبهن أن يذكرن مع سائر النسوة فأفردن بسورة خاصة ولهذا ختمت بذكر امرأتين في الجنة آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران
سورة تبارك
أقول ظهر لي بعد الجهد أنه لما ذكر آخر التحريم امرأتي نوح ولوط الكافرتين وامرأة فرعون المؤمنة افتتحت هذه السورة بقوله الذي خلق الموت والحياة 2 مرادا بهما الكفر والإيمان في أحد الأقوال للإشارة إلى أن الجميع بخلقه وقدرته ولهذا كفرت امرأتا نوح ولوط ولم ينفعهما اتصالهما بهذين النبيين الكريمين وآمنت امرأة فرعون ولم يضرها اتصالها بهذا الجبار العنيد لما سبق في كل من القضاء والقدر
ووجه آخر وهو أن تبارك متصل بقوله في آخر الطلاق الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن 12 فزاد ذلك بسطا في هذه الأية الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور إلى قوله ولقد زينا السماء الدنيا بمصابح 3 5 وإنما فصلت بسورة التحريم لأنها كالتتمة لسورة الطلاق
سورة ن
أقول لما ذكر سبحانه في آخر تبارك التهديد بتغوير الماء استظهر (1/141)
عليه في هذه السورة بإذهاب ثمر أصحاب البستان في ليلة يطاف عله فيها وهم نائمون فأصبحوا لم يجدوا له أثرا حتى ظنوا أنهم ضلوا الطريق وإذا كان هذا في الثمار وهي أجرام كثيفة فالماء الذي هو لطيف رقيق أقرب إلى الإذهاب ولهذا قال وهم نائمون فأصبحت كالصريم 19 20 وقال هناك إن أصبح ماؤكم غورا 30 إشارة إلى أ نه يسرى عليه في ليلة كما سرى على الثمرة في ليلة
سورة الحاقة
أقول لما وقع في ن ذكر يوم القيامة مجملا في قوله يوم يكشف عن ساق 42 الآية شرح ذلك في هذه السورة بناء على هذا اليوم وشأنه العظيم
سورة سأل
أقول هذه السورة كالتتمة لسورة الحاقة في بقية وصف يوم القيامة والنار
وقال ابن عباس إنها نزلت عقب سورة الحاقة وذلك أيضا من وجوه المناسبة في الوضع
سورة نوح
أقول أكثر ما ظهر في وجه اتصالها بما قبلها بعد طول الفكر أنه سبحانه لما قال في سأل إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم 41 عقبه (1/142)
بقصة قوم نوح المشتملة على إبادتهم عن آخرهم بحيث لم يبق منهم ديار وبدل خيرا منهم فوقع الاستدلال لما ختم به تبارك
هذا مع تآخي مطلع السورتين في ذكر العذاب الموعد به الكافرين
سورة الجن
أقول قد فكرت مدة في وجه اتصالها بما قبلها فلم يظهر لي سوى أنه قال في سورة نوح استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا 10 11 وقال في هذه السورة وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا 16 وهذا وجه بين في الارتباط
سورة المزمل
أقول لا يخفى وجه اتصال أولها قم الليل 2 بقوله في آخر تلك وأنه لما قام عبدالله يدعوه 19 وبقوله وأن المساجد لله 18
سورة المدثر
أقول هذه متآخية مع السورة التي قبلها في الافتتاح بخطاب النبي صلى الله عليه و سلم وصدر كليهما نازل في قصة واحدة (1/143)
وقد ذكر عن ابن عباس في ترتيب نزول السور أن المدثر نزلت عقب المزمل أخرجه ابن الضريس وأخرجه غيره عن جابر بن زيد
سورة القيامة
أقول لما قال سبحانه في آخر المدثر كلا بل لايخافون الآخرة 53 بعد ذكرالجنة والنار وكان عدم خوفهم إياها لإنكارهم البعث ذكر في هذه السورة الدليل على البعث ووصف يوم القيامة وأهواله وأحواله ثم ذكر ما قبل ذلك من مبدأ الخلق فذكرت الأحوال في هذه السورة على عكس ما هي في الواقع
سورة الإنسان
أقول وجه اتصالها بسورة القيامة في غاية الوضوح فإنه تعالى ذكر في آخر تلك مبدأ خلق الإنسان من نطفة ثم ذكر مثل ذلك في مطلع هذه السورة مفتتحا بخلق آدم أبي البشر
ولما ذكر هناك خلقه منهما قال هنا فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى 39 ولما ذكر هناك خلقه منهما قال هنا فجعلناه سميعا بصيرا 2 فعلق به غير ما علق بالأول ثم رتب عليه هداية السبيل وتقسيمه إلى شاكر وكفور ثم أخذ في جزاءكل
ووجه آخر هو أنه لما وصف حال يوم القيامة في تلك السورة ولم يصف فيها حال النار والجنة بل ذكرهما على سبيل الإجمال فصلهما في هذه (1/144)
السورة وأطنب في وصف الجنة وذلك كله شرح لقوله تعالى هناك وجوه يومئذ ناضرة 22 وقوله هنا إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا 4 شرح لقوله هناك تظن أن يفعل بها فاقره 25
وقد ذكر هناك كلا بل يحبون العاجلة ويذرون الآخرة 20 21 وذكر هنا في هذه السورة إن هؤلاءيحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا 27 وهذا من وجوه المناسبة
سورة المرسلات
أقول وجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى لما أخبر في خاتمتها أنه يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما 31 افتتح هذه بالقسم على أن ما يوعدون واقع فكان ذلك تحقيقا لما وعد به هناك المؤمنين وأوعد الظالمين
ثم ذكر وقته وأشراطه بقوله فإذا النجوم طمست 8 إلى آخره
ويحتمل أن تكون الإشارة بما يوعدون إلى جميع ما تضمنته السورة من وعيد للكافرين ووعد للأبرار (1/145)
سورة عم
أقول وجه اتصالها بما قبلها تناسبها معها في الجمل ففي تلك ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين 17 18 ألم نخلقكم من ماء مهين 20 ألم نجعل الأرض كفاتا 25 إلى آخره وفي عم ألم نجعل الأرض مهادا 6 إلى آخره فذلك نظير تناسب جمل ألم نشرح والضحى بقوله في الضحى ألم يجدك يتيما فآوى 6 إلى آخره وقوله ألم نشرح لك صدرك 1 مع اشتراك هذه السورة والأربع قبلها في الإشتمال على وصف الجنة والنار ما عدا المدثر في الاشتمال على وصف يوم القيامة وأهواله وعلى ذكر بدء الخلق وإقامة الدليل على البعث
وأيضا في سورة المرسلات لأي يوم أجلت ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل 12 14 وفي هذه السورة إن يوم الفصل كان ميقاتا يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا 17 18 إلى آخره فكأن هذه السورة شرح يوم الفصل المجمل ذكره في السورة التي قبلها
سورة عبس
أقول وجه وضعها عقب النازعات مع تآخيهما في المقطع لقوله هناك فإذا جاءت الطامة 34 وقوله هنا فإذا جاءت الصاخة 33 وهما من أسماء يوم القيامة (1/146)
سورة التكوير
أقول لما ذكر في عبس فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه 34 35 الآيات ذكر يوم القيامة كأنه رأى عين وفي الحديث من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ إذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت و إذا السماء انشقت
سورة الانفطار
أقول قد عرف مما ذكرت وجه وضعها هنا مع زيادة تآخيهما في المقطع
سورة المطففين
أقول الفصل بهذه السورة بين الإنفطار والانشقاق التي هي نظيرتها من خمسة أوجه الافتتاح ب إذا السماء والتخلص ب ياأيها الإنسان وشرح حال يوم القيامة ولهذا ضمت بالحديث السابق والتناسب في المقدار وكونها مكية
وهذه السورة مدنية ومفتتحها ومخلصها غير ما لها لنكتة ألهمنيها الله
وذلك أن السور الأربع لما كانت في صفة حال يوم القيامة ذكرت على ترتيب ما يقع فيه فغالب ما وقع في التكوير وجميع ما وقع في الانفطار وقع في صدر يوم (1/147)
القيامة ثم بعد ذلك يكون الموقف الطويل ومقاساة العرق والأهوال فذكره في هذه السورة بقوله يوم يقوم الناس لرب العالمين 6 ولهذا ورد في الحديث يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه
ثم بعد ذلك تحصل الشفاعة العظمى فتنشر الكتب فأخذ باليمين وأخذ بالشمال واخذ من وراء الظهر ثم بعد ذلك يقع الحساب
هكذا وردت بهذا الترتيب الأحاديث فناسب تأخير سورة الأنشقاق التي فيها إتيان الكتب والحساب عن السورة التي قبلها والتي فيها ذكر الموقف عن التي فيها مبادىء يوم القيامة
ووجه آخر وهو أنه جل جلاله لما قال في الانفطار وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين 11 12 وذلك في الدنيا ذكر في هذه السورة حال ما يكتبه الحافظان وهو كتاب مرقوم جعل في عليين او في سجين وذلك أيضا في الدنيا لكنه عقب بالكتابة إما في يومه أو بعد الموت في البرزخ كما في الآثار فهذه حالة ثانية في الكتاب ذكرت في السورة الثانية
وله حالة ثالثة متأخرة فيها وهي أخذ صاحبه باليمين أو غيرها وذلك يوم القيامة فناسب تأخير السورة التي فيها ذلك عن السورة التي فيها الحالة الثانية وهي الانشقاق فلله الحمد على ما من بالفهم لأسرار كتابه (1/148)
ثم رأيت الإمام فخر الدين قال في سورة المطففين أيضا اتصال أولها بآخر ما قبلها ظاهر لأنه تعالى بين هناك أن يوم القيامة من صفته لاتملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله وذلك يقتضى تهديدا عظيما للعصاة فلهذا أتبعه بقوله ويل للمطففين الآيات
سورة الانشقاق
قد استوفىالكلام فيها في سورة المطففين
سورة البروج والطارق
أقول هما متآخيتان فقرنتا وقدمت الأولى لطولها وذكرا بعد الانشقاق للمؤاخاة في الافتتاح بذكر السماء ولهذا ورد في الحديث ذكر السموات مرادا بها السور الأربع كما قيل المسبحات
سورة الأعلى
أقول في سورة الطارق ذكر خلق النبات والإنسان في قوله والأرض ذات الصدع 12 وقوله فلينظر الإنسان مم خلق إلى إنه على رجعه لقادر 6 8 وذكره في هذه السورة في قوله خلق فسوى 2 وقوله في النبات والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى 3 4 وقصة النبات في هذه السورة أبسط كما أن قصة الإنسان هناك ابسط نعم ما في هذه السورة أعم من جهة شموله للإنسان وسائر المخلوقات
سورة الغاشيه
أقول لما أشار سبحانه في سورة الأعلى بقوله سيذكر من يخشى (1/149)
ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى إلى قوله والآخرة خير وأبقى 10 17 إلى المؤمن والكافر والنار والجنة إجمالا فصل ذلك في هذه السورة فبسط صفة النار والجنة مستندة إلى أهل كل منهما على نمط ما هنالك ولذا قال هنا عاملة ناصبة 3 في مقابل الأشقى 10 هناك وقال هنا تصلى نارا حامية 4 إلى لايسمن ولايغني من جوع 7 في مقابلة يصلى النار الكبرى 12 هناك ولما قال هناك في الآخرة خير وأبقى 16 بسط هنا صفة الجنة أكثر من صفة النار تحقيقا لمعنى الخيرية
سورة الفجر
أقول لم يظهر لي من وجه ارتباطها سوى أن أولها كالإقسام على صحة ما ختم به السورة التي قبلها من قوله جل جلاله إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم 15 26 وعلى ما تضمنه من الوعد والوعيد كما أن أول الذاريات قسم على تحقيق ما في ق وأول المرسلات قسم على تحقيق ما في عم
هذا مع أن جملة ألم تر كيف فعل ربك 6 هنا مشابهة لجملة أفلا ينظرون 17 هناك (1/150)
سورة البلد
أقول وجه اتصالها بما قبلها أنه لما ذم فيها من أحب المال وأكثر التراث ولم يحض على طعام المسكين ذكر في هذه السورة الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة والإطعام في يوم ذي مسغبة
سورة الشمس والليل والقمر
أقول هذه الثلاثة حسنة التناسق جدا لما في مطالعها من المناسبة لما بين الشمس والليل والضحى من الملابسة ومنها سورة الفجر لكن فصلت بسورة البلد لنكتة أهم كما فصل بين الانفطار والانشقاق وبين المسبحات لأن مراعاة التناسب بالأسماء والفواتح وترتيب النزول إنما يكون حيث لايعارضها ما هو أقوى وآكد في المناسبة
ثم إن سورة الشمس ظاهرة الاتصال بسورة البلد فإنه سبحانه لما ختمها بذكر أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة أراد الفريقين في سورة الشمس على سبيل الفذلكة فقوله في الشمس قد أفلح من زكاها 9 هم أصحاب الميمنة في سورة البلد وقوله وقد خاب من دساها 10 في الشمس هم أصحاب المشأمة في سورة البلد فكانت هذه السورة فذلكة تفصيل تلك السورة ولهذا قال الإمام المقصود من هذه السورة الترغيب في الطاعات والتحذير من المعاصي
ونزيد في سورة الليل أنها تفصيل إجمال سورة الشمس فقوله فأما (1/151)
من أعطى واتقى 5 وما بعدها تفصيل قد أفلح من زكاها وقوله وأما من بخل واستغنى 8 الآيات تفصيل قوله وقد خاب من دساها
ونزيد في سورة الضحى أنها متصلة بسورة الليل من وجهين فإن فيها وإن لنا للآخرة والأولى 13 وفي الضحى وللآخرة خير لك من الأولى 4 وفي الليل ولسوف يرضى 21 وفي الضحى ولسوف يعطيك ربك فترضى 5
ولما كانت سورة الضحى نازلة في شأنه صلى الله عليه و سلم افتتحت بالضحى الذي هو نور ولما كانت سورة الليل سورة أبي بكر يعنى ما عدا قصة البخيل وكانت سورة الضحى سورة محمد عقب بها ولم يجعل بينهما واسطة ليعلم ألا واسطة بين محمد وأبي بكر
سورة ألم نشرح
أقول هي شديدة الاتصال بسورة الضحى لتناسبهما في الجمل ولهذا ذهب بعض السلف إلى أنهما سورة واحدة بلا بسملة بينهما قال الإمام والذي دعاهم إلى ذلك هو أن قوله ألم نشرح كالعطف على ألم يجدك يتيما فآوى 6 في الضحى
قلت وفي حديث الإسراء أن الله تعالى قال يا محمد ألم أجدك (1/152)
يتيما فآويت وضالا فهديت وعائلا فأغنيت وشرحت لك صدرك وحططت عنك وزرك ورفعت لك ذكرك فلا أذكر إلا ذكرت الحديث أخرجه ابن أبي حاتم وفي هذا أوفى دليل على اتصال السورتين معنى
سورة التين
أقول لما تقدم في سورة الشمس ونفس وما سواها 3 فصل في هذه السورة بقوله لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين 4 5 إلى آخره
وأخرت هذه السوره لتقدم ما هو أنسب بالتقديم من السور الثلاث واتصالها بسورة البلد لقوله وهذا البلد الأمين 3 وأخرت لتقدم ما هو أولى بالمناسبة مع سورة الفجر
لطيفة
نقل الشيخ تاج الدين بن عطا الله السكندري في لطائف المنن عن الشيخ أبي العباس المرسي قال قرأت مرة والتين والزيتون إلى أن انتهيت إلى قوله لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين 4 5 ففكرت في معنى هذه الآية فألهمني الله أن معناها لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم روحا وعقلا ثم رددناه أسفل سافلين نفسا وهوى
قلت فظهر من هذه المناسبة وضعها بعد ألم نشرح فإن تلك أخبر (1/153)
فيها عن شرح صدر النبي صلى الله عليه و سلم وذلك يستدعي كمال عقله وروحه فكلاهما في القلب الذي محلها الصدر وعن خلاصه من الوزر الذي ينشأ من النفس والهوى وهومعصوم منهما وعن رفع الذكر حيث نزه مقامه عن كل موهم
فلما كانت هذه السورة فى هذا العلم الفرد من الانسان أعقبها بسورة مشتملة على بقية الأناسى وذكر ما خامرهم في متابعة النفس والهوى
سورة العلق
أقول لما تقدم في سورة التين بيان خلق الإنسان في أحسن تقويم بين هنا أنه تعالى خلق الإنسان من علق 2 وذلك ظاهر الاتصال فالأول بيان العلة الصورية وهذا بيان العلة المادية
سورة القدر
قال الخطابي لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم على القرآن ووضعوا سورة القدر عقب العلق استدلوا بذلك على أن المراد بهاء الكنايه في قوله 1 إنا أنزلناه في ليلة القدر الإشارة إلى قوله اقرأ
قال القاضي أبو بكر بن العربي وهذا بديع جدا (1/154)
سورة لم يكن
أقول هذه السورة واقعة موقع العلة لما قبلها كأنه لما قال سبحانه إنا أنزلناه 1 قيل لم أنزل فقيل لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة وهو رسول من الله يتلو صحفا مطهرة وذلك هو المنزل
وقد ثبتت الأحاديث بأنه كان في السورة قرآن نسخ رسمه وهو إنا انزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ولو أن لابن آدم واديا لابتغى إليه الثاني ولو أن له الثاني لابتغى إليه الثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب
وبذلك تشتد المناسبة بين هذه السورة وبين ما قبلها حيث ذكر هناك إنزال القرآن وهنا إنزال المال وتكون السورتان تعليلا لما تضمنته سورة اقرأ لأن أولها ذكر العلم وفي أثنائها ذكر المال فكأنه قيل إنا لم ننزل المال للطغيان والاستطالة والفخر بل ليستعان به على تقوانا وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة
سورة الزلزلة
أقول لما ذكر في آخر لم يكن أن جزاء الكافرين جهنم وجزاء المؤمنين جنات فكأنه قيل متى يكون ذلك فقيل إذا زلزلت الأرض زلزالها 1 أي حين تكون زلزلة الأرض إلى آخره (1/155)
هكذا ظهر لي ثم لما راجعت تفسير الإمام الرازي ورأيته ذكر نحوه حمدت الله كثيرا وعبارته ذكروا في مناسبة هذه السورة لما قبلها وجوها منها أنه تعالى لما قال جزاؤهم عند ربهم جنات عدن 8 فكأن المكلف قال ومتى يكون ذلك يا رب فقال إذا زلزلت الأرض
ومنها أنه قال لما ذكر فيها وعيد الكافرين ووعد المؤمنين أراد أن يزيد في وعيد الكافرين فقال إذا زلزلت الأرض ونظيره يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ثم ذكر ما للطائفتين فقال فأما الذين اسودت وجوههم إلى آخره ثم جمع بينهما هنا في آخر السورة بذكر الذي يعمل الخير والشر انتهى
سورة العاديات
أقول لايخفى ما بين قوله في الزلزلة وأخرجت الأرض أثقالها 2 وقوله في هذه السورة إذا بعثر ما في القبور 9 من المناسبة والعلاقة
سورة القارعة
قال الإمام لما ختم الله سبحانه السورة السابقة بقوله إن ربهم بهم يومئذ لخبير 11 فكأنه قيل وما ذاك فقال هي القارعة قال وتقديره ستأتيك القارعة على ما أخبرت عنه بقولي إذا بعثر ما في القبور 9 (1/156)