أركان القراءة المقبولة
للباحث
أحمد بن محمد البريدي
شبكة التفسير والدراسات القرآنية
www.tafsir.net
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وبعد:
فهذا بحث في أركان القراءة المقبولة وقد جعلته في تمهيد وثلاثة مباحث وخاتمة.
التمهيد وتحته المطالب التالية:
المطلب الأول : هل هي ضوابط أم أركان.
المطلب الثاني : تعريف القراءة المقبولة, لغة واصطلاحا .
المطلب الثالث : المراد بالقبول في قولنا قراءة مقبولة .
المطلب الرابع : أركان القراءة المقبولة , وأهميتها.
المطلب الخامس: أول من صرح بهذه الأركان.
المطلب السادس : منطوق هذا الضابط ومفهومه .
المبحث الأول :صحة السند ,وتحته المطالب التالية:
المطلب الأول:المراد بهذا الركن.
المطلب الثاني:هل يشترط التواتر أم لا.
المطلب الثالث:تنبيهات تتعلق بهذا الركن.
المبحث الثاني:موافقة خط المصحف,وتحته المطالب التالية:
المطلب الأول:أهمية هذا الركن.
المطلب الثاني:المراد بهذا الركن.
المطلب الثالث:أقسام الرسم.
المطلب الرابع:تنبيهات تتعلق بهذا الركن.
المبحث الثالث : موافقة اللغة العربية , وتحته المطالب التالية :
المطلب الأول : المراد بهذا الركن,وأمثلة توضحه.
المطلب الثاني : تنبيهات تتعلق به.
الخاتمة : وفيها أهم النتائج .
التمهيد
المطلب الأول:هل هي ضوابط أم أركان
أختلفت عبارات العلماء عند الكلام عليها فمنهم من أطلق عليها أركان : مثل ابي شامه(1) وابن الجزري(2)
ومنهم من أطلق عليها اسم الضابط :
__________
(1) المرشد الوجيز ص 172
(2) النشر في القرآت العشر 1/9(1/1)
مثل الزرقاني(1) , وتبعه من جاء بعده من المعاصرين والذي يظهر لي أنه لا خلاف بين التسميتين فإن التعبير بالضابط يراد به ما اجتمع فيه ثلاثة أركان فهي أركان القراء ة المقبولة ومجموع هذه الأركان هو ضابط القراءة المقبولة ولذا قال أبو شامة (2) في معرض حديثه عن القراء السبعة :
"بل قد روى عنهم ما يطلق عليه ضعيف و شاذ بخروجه عن الضابط المذكور باختلال بعض الأركان الثلاثه"
المطلب الثاني : تعريف القراءة لغة واصطلاحا:
القراءات جمع قراءة ومادة – ق ر أ تدور في لسان العرب حول معنى الجمع والاجتماع(3), وهو مصدر للفعل قرأ. قال الراغب: القراءة : ضم الحروف, والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل(4) وقال ابن منظور: وقرأت الشي قرآنا : جمعته وضممت بعضه إلى بعض , ومنه قولهم : ما قرأت هذه الناقه سلىً قط , وما قرأت جنينا قط أي لم يضطم رحمها على ولد.... , وهو مصدر كالغفران والكفران(5) .
اصطلاحا : اختلفت عبارات العلماء في تعريف القراءات وقد استعرضها
محمد بن عمر بازمول (6) , وخلص إلى أن التعريفات تدور على ثلاثة عناصر:
مواضع الاختلاف في القراءات
النقل الصحيح سواء كان متواتر أم آحادا.
حقيقة الاختلاف بين القراءات .
والذي يشمل هذه العناصر هو تعريف القسطلاني إذ يقول :علم يعرف منه اتفاقهم و اختلافهم في اللغة والإعراب والحذف والإثبات والفصل والوصل من حيث النقل(7) , وكذا تعريف الشيخ عبد الفتاح القاضي في كتابه البدور الزاهرة(8) إذ يقول :هو علم يعرف به كيفية النطق بالكلمات القرآنية وطريق أدائها اتفاقا واختلافا مع عزو كل وجه لناقله .
__________
(1) مناهل العرفان 1/418
(2) المرشد الوجيز ص 173
(3) معجم مقاييس اللغة 5/78
(4) مفردات ألفاظ القرآن مادة قرأ
(5) لسان العرب 1/128
(6) القراءات واثرها في التفسير والأحكام 1/107
(7) لطائف الإشارات ا/170
(8) ص5(1/2)
المطلب الثالث :المراد بالقبول في قولنا قراءة مقبولة :هو الحكم بقرآنيتها والقراءة بها في الصلاة وخارجها وقد يرد لفظ القبول في كلام الأئمة ولا يراد به ذلك ،وإنما يعنون به أنه مقبول في تفسير النصوص واستنباط الأحكام والعمل بمدلولها وتقبل أيضًا في القضايا اللغوية ، لكنه لا يقرأ بها ، ويدل عليه صنيع الإمام مكي بن أبي طالب إذ قال : فإن سأل سائل فقال :فما الذي يقبل من القراءات الآن فيقرأ به وما الذي يقبل ولا يقرأ به ، وما الذي لا يقبل ولا يقرأ به فالجواب :
أن جميع ما روي من القراءات على ثلاثة أ قسا م ......إلى أن قال :القسم الثاني :
ما صح نقله الآحاد وصح وجهه في العربية وخالف لفظه خط المصحف فهذا يقبل ولا يقرأ به لعلتين(1)..... .
فجعل اختلال ركن من هذه الأركان وهو مخالفة خط المصحف , علة لعدم القرآءة بها .
وسيأتي مزيد بيان عند الكلام على منطوق هذا الضابط ومفهومه .
المطلب الرابع : أركان القراءة المقبولة .
قال ابن الجزري في طيبة النشر :
فكل موافق وجه نحو وكان للرسم احتمالاً يحوي
وصح إسناداً هو القرآن فهذه الثلاثة الأركان
وحيثما يختل ركن أثبت شذوذه لو أنه في السبعة(2)
__________
(1) الإبانة ص 57 ونقله ابن الجزري في النشر 1/14
(2) شرح طيبة النشر ص 7(1/3)
وقال في النشر : كل قراءة وافقت العربية ولو بوجهٍ , ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً , وصح سندها , فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها , بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها سواءً كانت عن الأئمة السبعة أم عن العشرة أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواءً كانت عن السبعة أو عمن هو أكبر منهم هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف صرح بذلك الإمام أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني ونص عليه في غير موضع الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب وكذلك الإمام أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي وحققه الإمام الحافظ أبو القاسم
عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه(1).
وسيأتي عند الحديث عن صحة السند أشتراطهم زيادة على ذلك :
الشهرة عند أهل الفن .
أن لا تعد القراءة من قبيل الشاذ أو الغلط(2) .
ولهذه الأركان أهمية كبيرة جداً إذ بها يتضح المقبول من القراءات والمردود منها كما هو واضح من كلام ابن الجزري وقد نص على ذلك أبو شامة بقوله :
" فلا ينبغي أن يُغتر بكل قرآءة تُعزى إلى واحد من هؤلاء السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة وأن هكذا أنزلت إلا إذا دخلت في ذلك الضابط وحينئذٍ لا ينفرد بنقلها مصنف عن غيره ولا يختص ذلك بنقلها عنهم بل إن نقلت عن غيرهم من القراء فذلك لا يخرجها عن الصحة فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف لا عمن تنسب إليه"(3).
وقال الكواشي الموصلي : " فعلى هذا الأصل بُني قبول القراءات عن سبعة كانوا أوعن سبعة الآف ومتى فقد واحد من هذه الثلاثة الأركان المذكورة في القراءة فاحكم بأنها شاذة"(4) .
__________
(1) النشر 1/9
(2) انظر الإتقان 1/241 عند تعريف السيوطي للقراءة المشهورة .
(3) المرشد الوجيز ص 174
(4) نقلاُ من النشر 1 / 44(1/4)
قلت : وهم يعنون بالقراءة القراءة المشهورة (1).
المطلب الخامس : أول من صرح بهذه الأركان .
صرح ابن جرير الطبري المتوفى سنة (310) في كتاب القراءات له كما نقله عنه مكي بن أبي طالب , بركنين من هذه الأركان هما :
صحة السند .
موافقة خط المصحف (2).
ثم جاء من بعده ونصواعلى الأركان الثلاثة كلها وهم كالتالي مرتباً أسمائهم على أقدمية وفاتهم :
ابن مجاهد ت 324.
ابن خالويه ت 370 .
أحمد بن عمار المهدوي ت 430 .
مكي بن أبي طالب ت 437 .
ابو عمرو الداني ت 444 .
ابو شامة ت 665 .
الكواشي الموصلي ت 680 .
8- ابن الجزري ت 833 (3).
المطلب السادس : منطوق هذا الضابط ومفهومه .
قال الزرقاني : يدل هذا الضابط بمنطوقه على أن كل قراءة اجتمع فيها هذه الأركان الثلاثة يحكم بقبولها بل لقد حكموا بكفر من جحدها ،إذ هذه الأركان أمارة التواتر والعلم من الدين بالضرورة ، سواء أكانت تلك القراءة مرويه عن الائمة السبعة أم عن العشرة أم عن غيرهم من ا الأئمه المقبولين ويدل هذا الضابط بمفهومه على أن كل قراءة لم تتوافر فيها هذه الأركان الثلاثة يحكم بعدم قبولها وبعدم كفر من يجحدها سواء أكانت هذه القراءة مروية عن الأئمه السبعة أم عن غيرهم ولو كان اكبر منهم مقاما وأعظم شانا............ثم إن مفهوم هذا الضابط المحكوم عليه بما ترى تنضوي تحته بضع صور يخالف بعضها حكم بعض تفصيلا وإن اشتركت كلها في الحكم عليها اجمالا بعد قبولها كما علمت .
ذلك أن الضابط المذكور يصدق مفهومه بنفي الأركان الثلاثة ويصدق بنفي
واحد وأثنين منها ولكل حالة حكم خاص(4).
__________
(1) انظر الإتقان 1/ 241
(2) الإبانة ص 10
(3) انظر : النشر 1/9 , علم القرآءت د نبيل آل إسماعيل ص 36 , القراءات وأثرها في التفسير والأحكام 1/ 162
(4) مناهل العرفان 1/ 423(1/5)
قلت : وقد قسم مكي القراءة إلى ثلاثة أقسام كما في الإبانة(1) , ومثل لها ابن الجزري في النشر(2), وزاد عليها قسماً رابعاً .
المبحث الأول : صحة السند
المطلب الأول :المراد بهذا الركن .
قال ابن الجزري :أن يروي القراءة العدل الضابط عن مثله كذا حتى تنتهي ، وتكون مع ذلك مشهورة عند أئمة هذا الشأن الضابطين له غير معدودة عندهم من الغلط أ و مما شذ به بعضهم .(3)
نفهم من هذا التعريف :أنه يضاف إلى صحة السند ما يلي :
1-الشهرة
أن لا تكون شاذه أو معدودة في الغلط
وقد قدمته على بقية الأركان لأنه ينبغي للبا حث أو القارئ أن ينظر إلى صحة السند فإن كان صحيحاً وإلا لا حاجة إلى النظر إلى بقية الأركان .
المطلب الثاني :هل يشترط التواتر في هذا الركن أم يكتفى فيه بصحة السند :
اختلف فيه على قولين :
القول الأول :يشترطون التواتر حيث نصوا على أن التواتر شرط في ثبوت القرآن ، وممن اشترط ذلك الغزالي وابن قدامة وابن الحاجب وصدر الشريعة والنويري ,وقالو :عدم اشتراط التواتر في ثبوت القرآن ، قول حادث لإجماع الفقهاء والمحدثين وغيرهم ولم يخالف من المتأخرين إلا مكي وتبعه بعض المتأخرين ،وقالوا لا يقدح في ثبوت التواتر اختلاف القراءة فقد تتواتر القراءة
عند قوم دون قوم .(4)
القول الثاني :أنه لايشترط التواتر وإنما يكتفي بصحة السند .
__________
(1) ص 57
(2) 1/ 14
(3) النشر 1 / 13
(4) منا هل العرفان 1\ 428، القراءات وأثرها في التفسير 1\ 166(1/6)
وإليه ذهب ابن الجزري وأشار إلى أنه مذهب أئمة السلف والخلف وقال راداً على القول الأول : أنه إذا أثبت التواتر لايحتاج فيه إلى الركنين ا لسابقين من الرسم وغيره إذا ما ثبت من أحرف الخلاف متواتراً عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب قبوله وقطع بكونه قرآناً سواء وافق الرسم أم خالفه وإذا أشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف أنتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء السبعة وغيرهم .(1)
وقال الطاهر بن عاشور :وهذه الشروط الثلاثة هي شروط قبول القراءة إذا كانت غير متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن كانت صحيحة السند إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها لم تبلغ حد التواتر فهي بمنزلة الحديث الصحيح واما القراءة المتواترة فهي غنية عن هذه الشروط لأن تواترها يجعلها حجة في
العربية ويغنيها عن الاعتضاد بموافقة المصحف عليه (2).
قلت : وعند تأمل هذين القولين فإننا لانجد بينهما فرق في إفادة القراءة للعلم لأن من لم يشترط التواتر وإنما اشترط صحة السند لم يكتف به وإنما اشترط قرائن بمجموعها تفيد العلم وتقوم مقام التواتر ولذا قال مكي بن أبي طالب : فإذا اجتمعت هذه الخلال الثلاث قرئ به وقطع على مغيبه وصحته و صدقه لأنه أخذ عن إجماع من جهة موافقته لخط المصحف وكفر من جحده(3).
__________
(1) النشر 1 /13
(2) التحرير والتنوير 1 /53
(3) الإبانة ص 58(1/7)
وقال الزرقاني :إن هذه الأركان الثلاثة تكاد تكون مساوية للتواتر في إفادة العلم القاطع بالقراءات المقبولة بيان هذه المساواة أن ما بين دفتي المصحف متواتر ومجمع عليه من هذه الأمة في أفضل عهودها وهو عهد الصحابة فإذا صح سند القراءة ووافقت عليه قواعد اللغة ثم جاء ت موافقة لخط المصحف المتواتر كانت هذه الموافقة قرينة على إفادة هذه الرواية للعلم القاطع وإن كانت آحاداً.....فكأن التواتر كان يطلب تحصيله في الإسناد قبل أن يقوم المصحف وثيقة متواترة بالقرآن أما بعد وجودهذا المصحف المجمع عليه فيكفي في الرواية صحتها وشهرتها متى ماوافقت رسم هذا المصحف ولسان العرب ........وهذا التوجيه الذي وجهنا به الضابط السالف يجعل الخلاف كأنه لفظي ويسير بجماعات القراء جدد الطريق في تواترالقرآن (1) .
المطلب الثالث :تنبيهات تتعلق بهذا الضابط :
1- هل من أنكر شيئا ًمن القراءات المتواترة يعد كافراً
الجواب :أن ذلك لايقتضي التكفير لأن التكفير إنما يكون بإنكار ما علم من الدين بالضرورة ، والقراءات ليست كذلك ولذا وقع شئ من ذلك لبعض العلماء الأعلام
قاله الجزائري (2) .
2- قال بعض العلماء : إن القراءات السبع متواترة عن الأئمة السبعة أما تواترها عن النبي صلى الله عليه وسلم ففيه نظر فإن إسناد الأئمة السبعة بهذه القراءات
السبعة موجود في كتب القراءات وهي نقل الواحد عن الواحد .
والجواب : أن عدد التواتر موجود في كل طبقة إلا أنهم اقتصروا على ذكر بعضهم لتصديهم للاشتغال بالقراءة واشتهارهم بذلك (3) .
__________
(1) مناهل العرفان 1 /427
(2) انظر التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقران على طريق الإتقان ص141
(3) انظر التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقران على طريق الإتقان ص138(1/8)
اشتراط التواتر في ثبوت القران إنما هو بالنظر لمجموع القران الكريم وإلا فلو اشترطنا التواتر في كل فرد من أحرف الخلاف انتفى كثير من القراءات الثابتة عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم (1) .
نقل عن محمد بن الحسن بن مقسم البغدادي المقرئ النحوي وكان بعد الثلاثمائه :أن ماوافق العربية ورسم المصحف ولم ينقل البتة أن القراءة به جائزة وقد ردّ عليه من جاء بعده قال أبو طاهر بن أبي هاشم في كتابه البيان ..وقد نبغ نابغ في عصرنا فزعم أن كل ما صح عنده وجه في العربية بحرف من القران يوافق المصحف فقراءته جائزة في الصلاة وغيرها فابتدع بدعة ضل بها قصد السبيل قلت : وقد عقد له بسبب ذلك مجلس ببغداد حضره الفقهاء والقراء وأجمعوا على منعه وأوقف للضرب ورجع وكتب عليه محضر بذلك كما ذكره الحافظ أبوبكر الخطيب في تاريخ بغداد وأشرنا إليه في الطبقات (2) .
المبحث الثاني :موافقة الرسم ولو احتمالاً وقال بعضهم : أو تقديراً.
وإليه أشار الشاطبي بقول : أوكان للرسم احتمالاً يحوي .
المطلب الأول :أهمية هذا الركن :
قال مكي وسقط العمل بما يخالف خط المصحف من الأحرف السبعة التي نزل بها القران بالإجماع على خط المصحف (3).
وقال ابن الجزري : أجمعت الأمة المعصومة من الخطأ على ما تضمنته هذه المصاحف وترك ما خالفها من زيادة أو نقص أو ابدال كلمة بأخرى مما كان مأذونا فيه توسعة عليهم ولم يثبت عندهم ثبوتاً مستفيضاً أنه من القران(4) .
وقال ايضاً : كتبت المصاحف على اللفظ الذي استقر عليه في العرضة الأخيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صرح به غير واحد من السلف (5) .
__________
(1) انظر : النشر 1/13
(2) النشر 1/17 ،مناهل العرفان 1/426
(3) الإبانة ص 36
(4) انظر النشر 1/7
(5) النشر 1/8(1/9)
وقال مكي : مصحف عثمان الذي أجمع الصحابة فمن بعدهم عليه واطرح ما سواه مما يخالف خطه فقرئ بذلك لموافقة الخط لا يخرج شئ منها عن خط المصاحف التي نسخها عثمان رضي الله عنه وبعث بها إلى الأمصار وجمع المسلمين عليها ومنع من القراء ة بما خالف خطها وساعده على ذلك زهاء اثني عشر ا لفاً من الصحابة و التابعين واتبعه على ذلك جماعة المسلمين بعده وصارت القراءة عند جميع العلماء بما يخالفه بدعة وخطأ وإن صحت ورويت (1) .
المطلب الثاني : المراد بهذا الركن .
قال ابن الجزري : نعني بموافقة أحد المصاحف ما كان ثابتاً في بعضها دون بعض كقراءة ابن عامر " قالوا أتخذ الله ولداً " في البقرة بغير واو "وبالزبر وبالكتاب المنير " بزيادة الباء في الاسمين ثم قال فلو لم يكن ذلك كذلك في شئ من المصاحف العثمانية لكانت القراءة بذلك شاذة لمخالفتها الرسم .
وقولنا "ولو احتمالاً" نعني به ما يوافق الرسم ولو تقديراً إذ موافقة الرسم قد تكون تحقيقاً وهو الموافقة الصريحة وقد تكون تقديراً وهو الموافقة احتمالاً فإنه خولف صريح الرسم في مواضع إجماعاً نحو "السماوات والصالحات " .
وقد توافق بعض القراءات الرسم تحقيقاً ويوافق بعضها تقديراً نحو "مالك يوم الدين "فإنه كتب بغير ألف في جميع المصاحف فقراءة الحذف تحتمله تحقيقاً كما كتب "ملك الناس" وقراءة الألف محتمله تقديراً كما كتب"مالك الملك " فتكون الألف حذفت اختصاراً .... وقد توافق اختلافات القراءات الرسم تحقيقاً نحو "أنصار الله ، ونادته الملائكة ،ويغفر لكم ،ويعلمون ،وهيت لك " ونحو ذلك مما يدل تجرده عن النقط والشكل وحذفه وإثباته على فضل عظيم للصحابة رضي الله عنهم في علم الهجاء خاصة وفهم ثاقب في تحقيق كل علم فسبحان من أعطاهم وفضلهم على سائر هذه الأمة(2) .
المطلب الثالث : أقسام الرسم
__________
(1) الإبانة ص 34
(2) النشر 1/ 12(1/10)
قال الزرقاني : "اعلم أن الرسم هو تصوير الكلمة بحروف هجائها بتقدير الابتداء بها والوقوف عليها والعثماني هو الذي رسم في المصاحف العثمانية وينقسم إلى قياسي وهو ما وافق اللفظ وهو معنى قولهم : تحقيقاً. و إلى سماعي وهو ما خالف اللفظ وهو معنى قولهم :تقديراً. وإلى احتمالي وسيأتي. ومخالفة الرسم اللفظ محصورة في خمسة أقسام وهي :
الدلالة على البدل نحو "الصراط"
الزيادة نحو "مالك "
الحذف نحو "لكنا هو "
الفصل نحو "فمال هؤلاء "
الأصل الوصل نحو "ألا يسجدوا "
فقراءة الصاد والحذف والإثبات والفصل والوصل خمستها وافقها الرسم تحقيقاً وغيرها تقديراً لأن السين تبدل صاداً قبل أربعة أحرف منها الطاء كما سيأتي وألف مالك عند المثبت زائدة وأصل " لكنا " الإثبات وأصل " فمال " الفصل وأصل " ألا يسجدوا " الوصل فا البدل في حكم المبدل منه وكذا الباقي وذلك ليتحقق الوفاق التقديري لأن اختلاف القراءتين إذا كان يتغاير دون تضاد ولا تناقض فهو في حكم الموافق وإذا كان بتضاد أو تناقض ففي حكم المخالف والواقع الأول فقط وهو الذي لا يلزم من صحة أحد الوجهين فيه بطلان الآخر .(1/11)
تحقيقه : أن اللفظ تارةً يكون له جهة واحدة فيرسم على وفقها فالرسم هنا حصر جهة اللفظ فمخالفه مناقض وتارة يكون له جهات فيرسم على إحداها فلا يحصر جهة اللفظ فاللافظ به موافق تحقيقاً وبغيره تقديراً لأن البدل في حكم المبدل منه وكذا بقية الخمسة . القسم الثالث : ما وافق الرسم احتمالاً . ويندرج فيه ما وقع الاختلاف فيه بالحركه والسكون نحو "القُدْس " وبالتخفيف والتشديد نحو "ينشركم " بيونس ، وبالقطع والوصل المعبر عنه بالشكل نحو " ادخلوا " بغافر ، وباختلاف الإعجام نحو "يعلمون " و"يفتح " وبالإعجام والإهمال نحو " ننشزها " وكذا المختلف في كيفية لفظها كالمدغم والمسّهل والممال والمرقق والمدور فإن المصاحف العثمانية هكذا كلها لتجردها عن أوصافها(1) .
المطلب الرابع : تنبيهات تتعلق بهذا الركن :
قال أبو شامة : ولعل مرادهم بموفقة خط المصحف ما يرجع إلى زيادة الكلمة أو نقصانها .فإنه فيما يروى من ذلك عن أبي بن كعب وابن مسعود رضي الله عنهما من هذا النوع شيئاً كثيراً فكتبت المصاحف على اللفظ الذي استقرا عليه في العرضة الأخيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما سبق تفسيره .
أما ما يرجع إلى الهجاء وتصوير الحروف فلا اعتبار بذلك في الرسم فإنه مظنة
الإختلاف وأكثره اصطلاح وقد خولف الرسم بالإجماع في مواضع من ذلك كالصلاة والزكاة والحياة فهي مرسومات بالواو ولم يقرأها أحد على لفظ الواو فليكتف في مثل ذلك بالأمرين الآخرين وهما صحة النقل والفصاحة
لغةالعرب (2)
__________
(1) مناهل العرفان 1/ 420
(2) المرشد الوجيز ص 172(1/12)
2- قال ابن الجزري :على أن مخالفة صريح الرسم في حرف مدغم أو مبدل أو ثابت أو محذوف أو نحو ذلك لا يعد مخالفاً إذا ثبتت القراءة به ووردت مشهورة مستفاضة ألا ترى أنهم لم يعدو إثبات ياءات الزوائد وحذف ياء " تسئلن" في الكهف وقراءة " وأكون من الصالحين " والظاء من "بضنين " ونحو ذلك من مخالفة الرسم المردود فإن الخلا ف في ذلك يغتفر إذ هو قريب يرجع إلى معنى واحد وتمشيه صحة القراءة وشدتها وتلقيها بالقبول وذلك بخلاف زيادة كلمة ونقصانها وتقديمها وتأخيرها حتى لو كانت حرفاً واحداً من حروف المعاني فإن حكمه في حكم الكلمة لا يسوغ مخالفة الرسم فيه وهذا هو الحد الفاصل في حقيقة اتباع الرسم ومخالفته (1).
المبحث الثالث : موافقة اللغة العربية ولو بوجهٍ
المطلب الأول : المراد بهذا الركن وأمثلة توضحه :
وإليه أشار ابن الجزري بقوله... فكل ماوافق وجه نحو قولهم بوجه : أي وجهاً من وجوه النحو سواء كان أفصح أم فصيحاً مجمعاً عليه أم مختلفاً فيه اختلافاً لا يضر مثله إذا كانت القراءة مما شاع وذاع وتلقاه الأئمة بالإسناد الصحيح وهذا هو اختيار المحققين في ركن موافقة العربية فكم من قراءة أنكرها أهل النحو أو كثير منهم ولم يعتبر إنكارهم بل أجمع الأئمة المقتدى بهم من السلف على قبولها كإسكان "بارئكم و يأمركم " ونحوه " وسبأ ،ويا بنى ، ومكر السيئ ، وننجى المؤمنين في الأنبياء " والجمع بين الساكنين في تاآ ت البزي و إدغام أبي عمرو "واسطاعوا " لحمزة وإسكان "نعما ويهدى " وإشباع الياء في " نرتعى ،ويتقى ، ويصبر ، و أفئدة من الناس " وضم"الملائكة اسجدوا" ونصب " كن فيكون " وخفض " والأرحام " ونصب "وليجزى قوماً " والفصل بين المضافين في الأنعام وهمز " سأقيها" ووصل " وإن الياس " وألف " أن هذان" وتخفيف " ولا تتبعان " وقراءة " ليكة " في الشعراء وص وغير ذلك .
المطلب الثاني : تنبيهات تتعلق بهذا الركن :
__________
(1) النشر 1/13(1/13)
1- قال أبو عمرو في كتابه جامع البيان : وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القران على الافشى في اللغة والأقيس في العربية بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل والرواية إذا ثبت عنهم لم يردها قياس عربيه ولا فشو لغة لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها (1)
قال البيهقي : ومعنى سنة متبعة أي اتباع من قبلنا في الحروف سنة متبعة لا يجوز مخالفة المصحف الذي هو إمام ولا مخالفة القراءات التي هي مشهورة وإن كان غير ذلك سائغاً في اللغة أو اظهر منها (2) .
وقال الزرقاني : تعليقاً على كلام أبي عمرو : وهذا كلام وجيه فإن علماء النحو إنما استمدوا قواعده من كتاب الله تعالى وكلام رسوله وكلام العرب فإذا ثبت قرآنية القران بالرواية المقبولة كان القران هو الحكم على علماء النحو وما قعدوا من قواعد ووجب أن يراجعوهم بقواعدهم إليه لا أن نرجع نحن بالقران إلى قواعدهم المخالفة نحكمها فيه وإلا كان ذلك عكساً للآية وإهمالاً للأصل في وجوب الرعاية (3)
قال أبو زهرة ليس معنى ذلك أن تكون أقوال النحويين حاكمة على القران بالصحة فإنه هو الحاكم عليهم وهو أقوى حجج النحويين في إثبات ما يثبتونه ونفي ما ينفون ولكن معنى ذلك ألا يكون فيه ما يخالف الأسلوب العربي في مفرداته وفي جمله وتراكيبه (4)
الخاتمة
أحمد الله جل وعلا على ما يسره لي من إتمام هذا البحث وفيما يلي أهم النتائج التي توصلت إليها :
أنه لا تعارض بين قولنا ضابط القراءة المقبولة وبين قولنا أركان القراءة المقبولة فلكل منهما معنى تصح به التسمية .
للعلماء في القبول إطلاقان : مقبول يقرأ به ومقبول لا يقرأ به وإنما يستشهد به فالأولى معرفة المراد عند ذكر القبول في لفظ الائمة .
__________
(1)
نقله ابن الجزري في النشر ص 11
(2) أنظر الإتقان 1/ 237و انظر الفتاوى 13 / 404
(3) مناهل العرفان 1/ 422
(4) المعجزة الكبرى ص47(1/14)
أن القراءة المشهورة هي المرادة في هذا البحث ولم أر أحداً حسب علمي واطلاعي القاصر يثبت قرآناً بقراءة احادية .
أن الخلاف في اشتراط التواتر وعدمه ليس بينهما فرق في إفادة القراءة للعلم لأن من لم يشترط التواتر اشترط قرائن بمجموعها تفيد العلم وتقوم مقام التواتر خاصة موافقة خط المصحف المجمع عليه فيكون في حكم المتواتر .
هذا واسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعني بهذا البحث وما كان من صواب فمن الله وحده وما كان من خطأ فمن نفسي والشيطان وحسبي أني اجتهدت واسأل الله ان لا يحرمني أجره وصلى الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه وسلم .
كتبه : أحمد بن محمد البريدي
المحاضر بكلية المعلمين
فهرس المصادر
الإبانة عن معاني القراءات لمكي بن أبي طالب , ت : د . عبد الفتاح شلبي , ط المكتبة الفيصلية – مكة المكرمة – الطبعة الثالثة .
الإتقان في علوم القرآن للسيوطي , ت : د . مصطفى ديب البغا , دار ابن كثير , بيروت ,ط الأولى .
التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن على طريق الإتقان للشيخ طاهر الجزائري , أعتنى به : عبد الفتاح أبو غدة , مكتب المطبوعات الإسلامية ,ط الثالثة .
التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور , الدار التونسية للنشر .
شرح طيبة النشر في القراءات العشر لابن الجزري , ت أنس مهرة , دار الكتب العلمية بيروت , ط الأولى .
علم القراءات , د نبيل بن محمد آل إسماعيل , مكتبة التوبة , الرياض , ط الأولى .
القراءات وأثرها في التفسير والأحكام لـ محمد بن عمر بازمول , دار الهجرة , ط الأولى .
لسان العرب لابن منظور ,دار صادر بيروت , ط الثالثة .
لطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني , ت : عامر السيد عثمان وزميله ,لجنة إحياء التراث الإسلامي , القاهرة .
مجموع فتاوى ابن تيمية , جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم , مجمع الملك فهد .(1/15)
المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز لأبي شامة ,ت : د . طيار آلتي قولاج ,دار وقف الديانة التركي .
المعجزة الكبرى القرآن لابي زهرة , دار الفكر العربي .
معجم مقاييس اللغة لابن فارس , ت عبد السلام هارون , دار الجيل بيروت .
مفرادات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني , ت صفوان داوودي , دار القلم.
مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني , دار الفكر .
النشر في القراءات العشر لابن الجزري , دار الكتاب العربي .
فهرس الموضوعات
خطة البحث ص 1.
التمهيد ص 2 .
-المبحث الأول : صحة السند ص 6.
المبحث الثاني : موافقة الرسم ولو احتمالاً ص 9.
المبحث الثالث : موافقة العربية ولو بوجهٍ ص 12.
الخاتمة ص 14.
فهرس المصادر ص 15.
فهرس الموضوعات ص 16.
-(1/16)