حوليات التراث
مجلة دورية تصدرها كلية الآداب والفنون - جامعة مستغانم
العدد 05، مارس 2006
المصطلح القرآني والثقافة الوافدة (111 - 118)
هوارية لولاسي
جامعة مستغانم
لا ضير من استعمال المصطلحات الوافدة واستئناسها في المجالات العلمية أو القانونية أو السياسية أو غيرها وقد أشار المفسرون إلى اشتمال القران على ألفاظ غير عربية من الطور العبرية والمشكاة الحبشية والقسطاس الرومية... وقد شاع بين الفقهاء عبارة تعكس ذهنية منفتحة على ثقافات الأمم أو هي جملة لا مشاحة في الاصطلاح.
إذن لا ضير من استعمال المصطلحات الوافدة ولا التوقف أمامها موقف المتعصب للغة القوم على أن تدخل المادة في معاجم اللغة بعد أن ينظر في مداليلها وإيحاءاتها فان بدت منسجمة مع ثقافتنا ومبادئنا الدينية فلا غضاضة في أخذها واستخدامها، أما إذا كانت عكس ذلك فالواجب رفضها لأنها تختلف أو لا عن الأجواء التي نعيشها وهي غريبة كونها ولدت في أجواء غريبة عن معتقدنا, وعن قيمنا, وعاداتنا, وتقاليدنا، وعلي سبيل المثال المصطلح الشائع بيننا الاستعمار, بينما عندنا في الخطاب الإسلامي أدق الدلالات لحقيقة الاستعمار, وهو الاستضعاف.
وعليه فالبديل نسج, أو تخريج, أو نحت مصطلحات بوحي من واقعنا, وفكرنا وتراثنا, ولا مانع أن دخل المصطلح الأجنبي ثقافتنا, على أن نلبسه ثوب الشرعية ونجرده من مضمونه الفكري, المنافي لقيمنا, وفكرنا وثقافتنا.
ولو أن القرآن أبدى مرونة اتجاه المصطلحات الوافدة، إلا أننا نؤكد على أولوية استخدام المصطلحات القرآنية في أعلامنا، وجامعاتنا وحياتنا بكل أبعادها، فهو كلام الله أولا والذي ألجم فصحاء العرب وأنه بشهادة العدو، يعلو ولا يعلى عليه.(1/1)
ثانيا هو تطويع للسان العربي الذي بدأت تدخله العجمة، وتضيع بعض من سماته النطقية واستخلاف المصطلح الأجنبي، واستحواذه على الألسن، حيث أصبح الناطق باللغة العربية لا يمت بصلة إلى الحضارة، والمدنية، وأن النطق باللغات الأجنبية امتياز وتقدم, منطلقين من موقع عقدة نفسية، والانبهار بحضارة الآخر. فمهمة أصحاب الفكر والثقافة، الترويج للمصطلحات القرآنية، واستخدامها في محاوراتهم، ومواعظهم وخطبهم، وقداسة القرآن لا تكمن في كلماته حتى لا نحركها ونستخرجها, بل القداسة تكمن في تأويله.
لذلك لا ضرر من استعمال بعض المصطلحات الواردة في الكتاب والسنة, وقد لا تفهم المصطلحات القرآنية الفهم الدقيق، وعليه قد تستعمل في غير مدلولها أحيانا، فلقد رفض بعض الفقهاء استعمال كلمة الكافرين عند مخاطبة المسيحيين ومحاورتهم، فحمل إنكار ذات الله مع أنهم ليسو بذلك والقرآن العظيم يخاطب بألطف العبارات وهي أهل الكتاب، فأما الموارد التي نعتهم فيها بالكفر، فلم تكن في مورد المخاطبة، بل في تصحيح معتقدهم الذي ينسبون فيه بنوة المسيح إلى الله، والكافرون عادة هم المشركون، وليس أهل الكتاب.
والعقدة المتداولة هي الاندهاش, والانبهار بالآخر على أساس انه الأكثر فهما وامتلاكا للمادة والقوة، وانطلاقا من عقدة نقص, وزعزعة الثقة بالنفس.
وفي عرف المغالطة أن القرآن استنفذ طاقته المعرفية, وفقد كفاءته وصار ينتمي إلى ثقافة الماضي (فالنص له دوال إشارية ودلالية, قد تفقد قدرتها على الإشعاع, ولكنها لا تموت أبدا, إذ تظل لها القدرة على القيام بوظيفة الشاهد التاريخي...)(1)
ومصطلحات القرآن لن تموت ما دام القرآن بين أظهرنا, ولان هذا الدين اختار لبقائه لغة تصلح لكل جيل, ولكل زمن, وذات بعد إنساني, وهي موكلة لخدمة خليفة الله في الأرض.
المصطلح العربي وثقافة التقليد :(1/2)
الثقافة الغربية فرضت نفسها على وطننا العربي ليس من باب نشر العلوم ومد العون للأخر, بل هي نوع من التسلط الثقافي, وفرضت لغتها من خلال ما تعرضه من تقنيات علمية, وحصرت اللغة العربية في مجال الفقه, والشعر, والأدب, وكأنها لا تصلح أن تكون لغة علم, وطب, وهندسة, لافتقارها في اعتقادهم إلى المصطلحات التقنية المعاصرة, والغريب أن من يشتغل بالاشتقاق والتوالد يؤمن بقصور العربية في مواكبة العصر والانفتاح, وطأطأة الرأس أمام الإبادة الثقافية, وقد أدرجت هذه الكلمة مجال الخطاب حوالي 1970 للدلالة على عملية مثاقفة مفروضة على ثقافة من لدن ثقافة أخرى أقوى(2) والإبادة الثقافية عادة ما تقوم بها الدول المسيطرة صناعيا أو الغازية أو المعولمة, وقد تجد لمصطلح الإبادة الثقافية ما يقابلها من مصطلح الثقافة الغالبة, التي أبادت الثقافة المغلوبة, ورجوعا إلى أول استعمال لهذا المصطلح سنة 1870 م بأمريكا خلال حربها مع الهنود الحمر(3).
إن السيطرة الثقافية لها جذور في التاريخ, تعود إلى عصر الاسكندر الأكبر, فقد سعى إلى نشر الثقافة اليونانية في العالم, وهذا النوع من العولمة السابقة لا تزال جذورها تضرب بعمقها إلى يومنا هذا باسم العولمة الحديثة, قد تختلف في وسائلها وطرقها لكنها لا تختلف في جوهرها.
من واجبنا إن نستخرج الطاقات الثقافية المخزونة بل وتهذيبها أيضا, وعلينا أن نكون جديرين باستخراجها, وإلا ستبقى دفينة, ولن نستفيد منها, ونبقى في درك الانحطاط المعنوي والفكري, ونظل نستهلك الثقافة المعلبة, والتي تأتي من الغرب فنفتحها ونسخنها ونتناولها ونتقبل طعمها.(1/3)
جميل أن نتثاقف والأجمل أن تكون بنية التعرف على الغير, والاستفادة من طاقاته الثقافية, وعندنا وسائل متعددة من اجل ذلك (الجامعة العربية, مجمع اللغة, مجلس التعريب السفارات, بعثات التعاون مع الدول العربية من جهة ومن جهة أخرى نتعرف على الجانب الشرقي مثل الصين, اليابان, الهند فضلا عن الأتراك والفرس).
ماذا نعرف عن ثقافة هذا العالم ؟ لماذا لا يهتم إعلامنا بما يحدث هناك, وماذا ترجم لهم أو عنهم ؟ لماذا لا نعرف عن آسيا إلا تسونا مي ؟ هذا من جانب المثاقفة أما جانب التثاقف الذي يخص داخل التراب الوطني فنحن نملك المسارح, ودور الثقافة والفنون, وعندنا صناعات , ونشاطات ثقافية, وجمعيات أدبية وإعلام الذي أصبح وسيلة ترفيه لا توجيه وتعليم, ضف إلى ذلك جهود الترجمة والتعريب لعلوم الغرب السائرة في بلاد المشرق(4) وهي تهدف إلى إنشاء مراكز للبحوث والتنسيق مع مختلف الدوريات من أجل التكامل العربي علميا, اقتصاديا, وثقافيا...
وحدة اللغة ووحدة المعرفة :
جاءت النظرية النونية المشتقة من الآية (ن والقلم وما يسطرون)(5) كما يطلق عليها اسم نظرية وحدة المعرفة(6).
هذه النظرية لم تكن حصيلة فكر منفرد متفرد وإنما هي حصيلة دراسات متلاحقة لعلماء ولغات وحضارات, وللسلف اليد الطولى في تطوير علم اللغة من خلال ما صنفوه خدمة للإسلام والقرآن الحكيم ومدارسته وتبيان محكمه من متشابهه وناسخه من منسوخه, وعامه من خاصه, وحوا ميمه وقراءاته وما قدموه من خلافات مدرسية ومذهبية ونظريات كان لها الفضل في إحياء الدروس اللغوية, ونخص بالذكر في مجال البلاغة والإعجاز, إمام البلاغة عبد القاهر الجرجاني في كتابيه أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز, الذي استفادت منه النظرية المعاصرة في علم اللغة.(1/4)
إن مصطلحات القرآن الحكيم تحوي رموزا وإشارات, لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم الذين طهرهم المولى وفتح قلوبهم للعلم (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام)(7).
إن نظرية وحدة المعرفة تنطلق من وحدة الوجود أو عالم الإنسان الواحد, ومنه جاءت الأديان وهي ذات حقيقة واحدة وهي معرفة الإله.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فوحدة المعرفة ووحدة الوجود, ووحدة عالم اللسان المتمثلة في البيان (الرحمن خلق الإنسان علمه البيان)(8) صحيح أن الاختلاف في الألسن وأنظمة الأصوات ودلالاتها, لكنها لا تعني اختلاف الإنسان (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين)(9) فكان الاصطلاح بين العلماء على البيان.
يحيل البحث عن وحدة المصطلحات إلى وحدة الإنسان, فهذا علم الأنثروبولوجيا العلم الذي يبحث في أصل الإنسان, وتقاليده, وعاداته وأديانه ورسومه وثقافته وأجناسه, كشف عن وحدة البشر بفعل الانتشار الثقافي من جهة ووحدة العقل البشري الذي كان قد أشار إليه القرآن سلفا (يا أيها الناس, اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة, وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء)(10).
إن علم اللغة الحديث يبحث في اللغة تحت نظرية العلامات وهو يقرر أن هدفها (وظيفي هو الاتصال وهو ضرورة ملازمة للإنسان)(11) والاصطلاح لا يكون إلا في وسط الجماعة, وامتياز البشر عن سائر المخلوقات باللغة أو القلم الذي هو سلاح العلم والمعرفة (يرفع الله اللذين آمنوا منكم واللذين أوتوا العلم درجات)(12).
قد يقال أن للحيوان لغته ولكنها في الحقيقة ليست لغة بالمفهوم المنطوق, بل هي إشارات لا ترقى إلى مستوى لغة البشر (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون)(13).(1/5)
والإنسان بما كرمه الله تعالى, وجعله سيدا في الأرض, ووهبه لغة التخاطب بمداليلها, وحروفها, وأصواتها ضف إلى ذلك العقل أداة التفكير, والجسد أداة تنفيذ اللغة.
النظرية النونية هي عالمية, لأن النظريات تقوم على فكر موحد والقاعدة التي ارتكزت عليها النظرية النونية, هي الفكر الإسلامي العظيم, ومنهج النظرية دلالته الوحدة والتوحيد, في أصول الكلمات, والأسماء, وجذور المفردات, والمقاطع النغمية المنحدرة عن أصل واحد (وعلم آدم الأسماء كلها)(14) فشهادة القرآن أن الإنسان إلى مرجعية موحدة وإلى أصل واحد, وإلى ثقافة أم, تفرعت منها الثقافات الأخرى, وإلى لغة واحدة, هي لغة القرآن, فهذه العبرية لها جذور من العربية وكل لغات العالم تتوحد في جذورها, لكن الواهم الضيق الأفق لا ينظر إ? إلى ظاهر العلامات, لا يتعداها إلى المدلول والمعلوم وهو كتاب الله الحكيم, الذي جمع فيه جذور الأديان, والمعتقدات, والمعارف والفنون والآداب.
وحدة المصطلحات في ضوء النظرية النونية :
إن تعدد الألسن واللغات, حسب المناطق والظروف المكانية والزمانية, وتباين التجارب الإنسانية, كما أن لارتباط الأشخاص والاتصال فيما بينهم حدوث تلاقح فكري واستيراد وتوريد الثقافات, يؤدي إلى التثاقف عند ذلك تتشكل اللغات, وتتعدد الألسن, وتنشق وتتشقق, لكن الجوهر يبقى في البيان, فالبحث عن اللغة يكون بواسطة اللغة, والبحث عن البيان يكون بالبيان نفسه. ولو تتبعت مصطلح اللغة في القرآن الكريم تجده دلالة على اللسان (واجعل لي لسان صدق في الآخرين)(15), (وهو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني)(16), (ألم نجعل له عينين, ولسانا وشفتين)(17), (واحلل عقدة من لساني, يفقهوا قولي)(18) وآيات أخر جميعها تتحد في دلالة واحدة هي البيان.(1/6)
كما أن للغة جانب من اللغو وهو خلاف البيان (والذين هم عن اللغو معرضون)(19) وهي اللغة الفارغة من محتوى الدلالة, كذلك نجد مادة اللغا الصوت, أو لغو الطير وتعني أصواتها(20) وتتشابه اللغة دلالة وصوتا مع سائر اللغات تدل على logie اللاتينية التي تدل على النظم وlogo وlanguage , la langue منها المنطق.
ويمكن التفاهم مع جميع البشر, وهذا ما يسعى إليه علم اللغة الحديث (ومن سوء الاصطلاحات وفهمها يحصل سوء الفهم والاختلاف)(21) وهذا تفسير الفجوة الموجودة بين البشر سواء الذين ينتمون إلى ثقافة واحدة أو مخالفة.
إن القرآن الحكيم جمعت فيه جذور الأديان والعقائد والمعارف الإلهية, وما دام الإله واحد والكتاب - القرآن - موحد, والرسالات السابقة دعت إلى التوحيد, أو إلى الكلمة الواحدة التي دعى إليها المولى تعالى (قل يا أهل الكتاب, تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم, ألا نعبد إلا الله, ولا نشرك به شيئا, ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله)(22) من هنا تظهر وحدة الأديان ووحدة الجذور ووحدة المنشأ, ووحدة المآل, وقد بلغ الدين وحدته وكماله بالقرآن الحكيم والرسول العظيم.
ومن أجل إن نتعرف على وحدة اللغة من خلال القرآن الحكيم, نؤسس لدلالات مصطلح (الدين) وما له من روابط وعلاقات ووحدة أصوات أساسها حرف الدال والنون.
فقولهم دان فلان يدين دينا, استقرض وصار عليه دين فهو دائن, ورجل مديون, كثر ما عليه من الدين, والدين الجزاء والمكافأة, ويقال دانه أي جازاه. والشائع بيننا كما تدين تدان, أي كما تجازي تجازى, والدين في الأصل العبادة والعبودية لله الديان, ودان له أي أطاعه.(1/7)
ونافلة القول إن دلالات الدين هي الخضوع والالتزام والعبادة والجزاء, ونظير هذه المعاني جاءت في مختلف اللغات واللهجات, فكلمة داد بالفارسية تعني القاضي ونجد بالفرنسية Dieu وبالإنجليزية Godوفي الإسبانية Dios وفي اليونانية Zeus بإبدال الدال بالزاي, والدين Dette وGood الجواد وهذا ما يؤكد خلود كلمة دين, وكل الكلمات التي مرت احتفظت بحرف الدال كصوت شائع مشترك بينها, ومثلها كلمة ديوان الفارسية التي تدل على التسجيل والتدوين, وجاء في سورة الفاتحة (مالك يوم الدين)(23) وهو يوم المعاد حيث تعرض كل الأعمال.
والظاهر أن المصطلحات والاشتقاقات العربية لها دلالات مختلفة, ومتعددة في ثقافات الشعوب ولغاتها, وأغلبها يكون متشابها صوتا ودلالة, وهذا لا يعني إلا شيئا واحدا هو أن اللغات كلها من أصل واحد, ولأن البشر من أصل واحد وكون واحد واله واحد.
الهوامش :
1 - نصر حامد أبو زيد : الخطاب والتأويل, المركز الثقافي العربي، ص 264.
2 - جان بيير فاريني : عولمة الثقافة, ترجمة عبد الجليل الأزدي, دار القصبة للنشر، الجزائر 2002، ص 91.
3 - المصدر نفسه، ص 91.
4 - مجلة المستقبل العربي : الثقافة والمثقف في الوطن العربي, مركز دراسات الوحدة العربية, العدد 10, 1992، ص 263.
5 - القلم/1.
6 - محمد علي الحسيني : متخصص في علم اللغة المقارن.
7 - الأنعام/125.
8 - الرحمن/4.
9 - الروم/22.
10 - النساء/1.
11 - محمد علي الحسيني : علم اللغة التوحيدي بين النظرية والتطبيق، مؤسسة التوحيد للنشر الثقافي, 1997, ص 42.
12 - المجادلة/11.
13 - النحل/68.
14 - البقرة/31.
15 - الشعراء/84.
16 - القصص/34.
17 - البلد/9-8.
18 - طه/28-27.
19 - المؤمنون/3.
20 - ابن منظور: لسان العرب, ج 13, دار صادر, ص 214-213.
21 - علي الحسيني : علم اللغة التوحيدي, ص 45.
22 - آل عمران/64.
23 - روجي بعلبكي : المورد الثلاثي (قاموس), دار العلم للملايين, 2004، ج5, ص 338.(1/8)
المصطلَح غير المصطلِح
نظرات إلى المصطلح العربي في إطار الثقافة واللغة
خالد إبراهيم المحجوبي
عليّ َ أول الأمر أن أحدد مقصدي بكلمة (المصطلح) . فالمصطلح الذي أعنيه هو اللفظ التعبيري المستعمل للدلالة على مفهوم ما دلالة متجاوزةً للمفهوم الأصلي الوضعي ، الذي كان يحمله ذلك اللفظ التعبيري .
و بعبارة أكثر إيجازاً أقولً: إن المصطلح هو التعبير الحامل لمدلولٍ تواضعيٍ، عوضاً عن مدلوله الوضعي.
وقدسُمي بالمصطلح ؛ لكونه واقعاً تحت سلطة اتفاق واصطلاح أهل التخصص -من أي ساحة معرفية- فاصطلحوا واتفقوا عملياً وإجرائياً على تحميله بمعنى جديد ليس هو ذات المعنى القديم الذي كان يحمله فبل أن يوظّف تحت وظيفة المصطلح.
إذاً الاصطلاح تكليفٌ للّفظ بمهمةٍ معنوية جديدة، والمصطلح هوا لقائم بتلك المهمة ، أما المصطلحون فهم المكلِّفون إياه بها.
أما على الصعيد اللغوي الاشتقاقي فيرجع المصطلح في اشتقاقه إلى الجذر (ص ل ح) وهو ضدالفساد ، ويقال أصلح الشيء إذا أقامه وأحسنه . ثم انتقل المدلول إلى معنى السِلم ؛ فيقال تصالح القوم ، إذا حدث فيهم السلم، والتوافق. ومن تصريفات فعله الماضي : اصطلحوا ، وصالحوا ، واصَّلحوا ، واصَّالحوا ، وتصالحوا، والمصدر : الصِّلاح، بكسر الصاد. (1)
إننا لوأردنا تشخيص أوضاع المصطلح العربي،فلن نجد وصفا معينا يمكنه الوفاء بحقيقة واقعه ، لأن ساحات الاستعمال المصطلحي متعددة ، وكل ساحة لها أظرفها ومنا هجها ، من ذلك مثلا : الساحة الفقهية، والساحة النقدية ، والساحة العلمية التطبيقة ، والساحة الفلسفية . فكل من هاته السوح تنطوي على مناهج وظروف خصوصية كما أسلفت ، وعلى كل حال يمكن إطلاق أحكام شاملة وصفية لحال المصطلح في كل منها .(/)
(أولاً) المصطلح الفقهي (2): أعني هنا بالفقهي ما كان في المجال الديني من العلوم ، وهذا المصطلح يعاني من جمود مريب . وليس هذا عيبا في الفقه ولا في مصادره ، إنما هو نقيصة تسجل في صف الفقهاء المتأخرين خاصة ، الذين آثروا الجمود الاجتهادي واكتفوا -كثيرمنهم- بالاتكاء على مناهج ونتائج الرواد السالفين . ومن كان هذا حاله ، لاجرم أن تتحجر لديه آلات التعبير ، ومنها المصطلح التخصصي. ولعل من دواعي افتقاد التجديد المصطلحي : كثرة المصطلحات الفقهية التراثية وتعدد ساحاتها ، حتى إن كل مذهب تميز بمصطلحات لا توجد في غيره ، بل لقد ظهر عند بعض العلماء مصطلحات خاصة في بعض من مصنفاتهم (3)، مثل اصطلاحات ابن حجر العسقلاني في كتابه : بلوغ المرام ، وكتابه المطالب العالية . وكذا ابن تيمية الجد في : منتقى الأخبار . وصديق حسن القنوجي في : الحِطَّة في ذكر الصحاح الستة.
فضلا عن الرموز الإحالية كالتي عند السيوطي في (الجامع الكبير )و(الجامع الصغير)، وابن حجر في كتابه (تقريب التهذيب ) وعند الذهبي في (المغني في الضعفاء) .
والناظر تجاه عالم التصوف ، ومكتوباته ؛ لسوف يذهل من واقع المصطلح الصوفي ، لكثرته وغناه ، وغموضه ، وعمقه ، وغرابته؛ وذلك سواء في ساحة التصوف العملي ، والتصوف النظري كليهما. فوسط كل من الكثرة والغنى ، و الغموض ، والعمق ، و الغرابة ، يقبع المصطلح الصوفي بصفته أغنى المصطلحات الناشئة في اللغة العربية. بل إن الساحة الصوفية كادت أن تخلق لها لغة قائمة بذاتها ، لو أن المجال أفسح للحلاج ، وابن سبعين ، والجيلي ، وأمثالهم، لكن كان للفقهاء رأي آخر.
(ثانياً)المصطلح الأدبي النقدي/(4)
إن المصطلح في هاته الساحة حيوي متجددبعيد عن الاتكاء الرجوعي ، أعني أنه غير معتمد على مأثور النقد القديم ، ولكن هذا لا يعني أنه متجردعن التبعية ، فهو في حقيقة مآله تابع لجهة أخرىغير الأسلاف الأولين. تلك الجهة هي ما يمثلها المشهد النقدي الغربي الأوربي خاصة .
وهذا القول لا يحمل هدما لخصوصية مصطلحنا النقدي العربي الحديث ، إنما يحمل لمزاً بريئا ً، لائماًلجانبه ، لاسيماللمغرقين في التبعية المصطلحية ، فضلاً عن التبعية المنهجية.(/)
(ثالثاً)الساحة العلمية التطبيقية /
أكثر العلوم التطبيقية التجريبية ناشئة في الغرب ، رغم أنها وليدة الشرق ، وهذا ما جعل من سيادة المصطلح الغربي الأعجمي أمراً فارضا وجوده، وليس من سبيل إلى توجيه نقد شديد إلى التبعية المصطلحية في هذا المجال ، مع التسليم بأن التبعية شيء غير محبب ، ولا مشرف في الأصل ، وخاصة إذا كانت تبعية على الطريقة الشرقية.
(رابعاً)الساحة الفلسفية /
إن المصطلح الفلسفي العربي المعاصر قد أحدث قطيعة جلية عن المصطلح الفلسفي القديم (5).الذي لم يكن بدوره أصيلا أصالة تامة . حيث أسبغ عليه المأثور الإغريقي سيلا من المصطلحات ، أفقدتنا الثقة في أصالته ، فضلا عن الفحوى الفكري نفسه الذي لم يسلم من التشكيك والانتقاص القيمي ، بحق وبغير حق .
وتعويضاً أمام القطيعة عن المصطلح القديم ، توجه المصطلح الفلسفي المعاصر إلى الشمال ، أي إلى الغرب ، فاستورد ولم يزل سيلاً من المصطلحات الفلسفية غير العربية ، فاستعملت على صعيد واسع جدا في كلام وتنظيرات المعاصرين، سواء الفلاسفة ، والمتفلسفين، فضلاً عن أدعياء التفلسف.
إن المصطلح العربي يجيء على نوعين من حيث القبول والتلقي ، وذلك أمر يحكمه مدى دقة ولطف ومناسبة المدلول والمفهوم المنطوي وسط الهيكليّة الحروفية، فثمّ مفاهيم تخرج من مصطلحات أريد لها تبنيها ، بيد أنها غير مؤهلة لعملية التبني تلك ، فترى ذلك المفهوم يخرج من ذلك المصطلح خروج الفأر من جحره، قلقا خائفا مضطرباً . في حين نلقى مفاهيم تنساب فوق حروف مصطلحها فتسيل بروية واطمئنان ، حتى تنسكب في القلوب والعقول ، بعد أن تتلقاها الآذان أطيب لقاء قبل ذلك ؛ لأنها استوفت شروط القبول المصطلحي ، وهذه الشروط -عندي- هي:
1- ثبوت الأصالةاللغوية.2-توفر الدقةالمعنوية 3- تحقق السلاسة الصوتية الإيقاعية .
كل هذا لو اجتمع في مصطلح ما ، جاء مثالياً وبليغا ً.
في عصرنا هذا نلحظ أن ثمت مصطلحات شاعت وذاعت برغم كونها فاقدة لأهلية القبول اللغوي ، فهي مصطلحات دعية لقيطة انبنت على تحريف وتشويه لبعض الصيغ الصرفية . من تلكم المصطلحات : قولهم(إسلاموي- حداثوي- علموي - ذاتاني- ذاتوي) .ويتحمل محمد اركون، وغيره كثيرا من المسؤولية، في هذا كما قد يدخل في دائرة المسؤولية شيوخ المجاميع اللغوية العربية.
وفي مضمار المصطلحات اللقيطة استثمرت جملة من الألفاظ الأجنبية ، وأضيف إليها زوائد عربية كياء النسبة -مثلاً-. وهذا الاستراق من الآخر أمر يشي بمدى ضعف الثقة في اللغة ، وضعف العلم بها . ومن تلك الألفاظ قولهم (تيمة- تيمات-تابو- تابوهات- دينامية-استاتيكية- اسكاتالوجي- الإمبريقية) .
ولست أريد أن تتصورني جمودياً متعصبا ً للعربية القديمة ، لكني ابتغي أن تحترم هاته اللغة العظيمة ، وألا ينتهك حماها بغير حق ، وبانعدام المسوغ ، وألّا يستبدل بها غيرها في لحظات ضعف أو جهل من طرف بعض المثقفين ، والمبدعين من مفتقدي الحس اللغوي إلى درجة لم تقف عند خلق أزمة مصطلح إنما تجاوزت ذلك إلى اصطناع أزمة لغوية شاملة ، إن لم أكن مبالغا ، وأنا ممن يرى جواز الاستعانة بالمصطلح الأجنبي ، لكن في نطاق ضيق بحسب الحاجة الصوتية ، أو لأجل الدقة المعنوية. ومن ثم يسوغ عندي تبني استعمال بعض المصطلحات الأجنبية التي لو عربناها ، لوجدنا أنفسنا نتكلف تراكيب عربية ثقيلة تنفر من سياقاتها التركيبية في أي نص ، وهذاكاف للاستعانة ببعض المصطلحات الأجنبية . من ذلك مصطلح ( الميتافيزيقا= ما وراء الطبيعة، والأيديولوجيا=علم الأفكارأو العقائد -ديماغوجية=سياسة تملق عوام الناس).
والأولى من هذا كله ، العمل على استثمار الرصيد اللغوي، وقواعده ؛ لاستحداث مصطلحات حائزة على الشرعية اللغوية ، والخفة الإيقاعية ، والسلاسة الصوتية ، كل ذلك في آن واحد ، وقد استحدث في عصرنا مصطلحات من هذا النوع ، منها : (التشيّؤ - التموضع - التبئير -العولمة - المخيال-التسلّع -التتنميط ). إن أمامنا تقنيات لغوية ؛ فلا مسوّغ لاستعمال مصطلحات لا ضرورة لها عند وجود بدائل عربية مناسبة تغني عنها ، إنها تصير حين ذاك رطانة مستقبحة ، من ذلك-مثلاًَ- استعمال الكثيرين لـ(اثني ، بدلا من عرقي ، ودينامي أو ديناميكي بدلًا من حركي- راديكالي بدلاًمن جذري- يوتوبيا بدلا من الخيال ) .
إن التقنيات التي أشرت إليها قبل قليل تفسح أمامنا المجال للتخليق المصطلحي المبدع الدقيق الأصيل ، ومنها -أي التقنيات- : ما عرفه علماء الصرف باسم النحت ، وكذا التركيب المزجي ، والإسنادي ، ونحو ذلك مما يتحشّد في لغتنا من وسائل تخليقية تشرع أبواب الاستبداع المصطلحي بمعزل عن الاستعجام ، والرطانة ، والتحريف ، والغموض ، وغير هاته من معايب المصطلح العربي المعاصر .
عند هذه النقطة أود الازورار تجاه النص القرآني الطافح بالإشكالات المصطلحية، حيث سأعرض الآن لمثال يوضح واقع الإشكال المصطلحي الذي يغتني به النص المقدس.فهو أرقى النصوص اللغوية، بإطلاق غير مقيد ، وتعميم غير مخصص.
إن العلم لم يحسم المسألة المعقدة القائمة على إشكالية تحديد مصدر التعقل والتفكير والإدراك الإنساني . فالنصوص الدينية في الإسلام يرشح منها وينبط أن ما يسمى( القلب) هو مركزكل ذلك ، هذا ما يسنح لنا عند قراءة أمثال قوله تعالى : {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}سورة محمد24 . {كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار}غافر35).{إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد }ق37){ويشهد الله على على ما في قلبه}(البقرة204). {وختم على سمعه وقلبه ،وجعل على بصره غشاوة}الجاثية23). {ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه}(التغابن11 {كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين}(الأعراف101). {لهم قلوب لا يفقهون بها}(الأعراف179).{أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها }(الحج46).{ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}(الحج46). {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}(البقرة225).{والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليماً}(الأحزاب51).{ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم}(الحجرات14).{كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ، تشابهت قلوبهم}(البقرة118){وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه}(الأنعام25).{وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون }(التوبة45).{يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم}(التوبة64). {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}(الصف5).
إننا بإنعام النظر فيما سلف سنلقى وظائف العقل وإعمال التفكير معزوة ، ومتعلقة بما اصطلحت آيات القرآن على تسميته مرة (القلب)ومرة (الفؤاد)، وهي تسمية خالفت المصطلح الذي استعمله علماء البيولوجيا ، والأحياء بعامة، في نعت جزء عضوي مادي يقبع في جسم الإنسان ، وتحديداً وسط صدره، يستقبل الدم ويرسله خلال عملية ضخ للدم عجيبة مبهرة. هذا هوالقلب في المصطلح الطبي ، لا يعدو كونه مضخة دموية ، رتيبة.(/)
أما القلب في المصطلح الديني فهو شيء آخر أكبر وأشمل وأعمق ، على مستوى الوظائف ، والتأثير بعيد المدى ،فالقلب الديني هو محل ثنائيات متغايرة تناقضية ، تنافرية. فهو موئل الهداية أو الضلال، ومستقر الفقه والتعقل ، أو الجهل والتبلّد، وهو مدفع العمل والإصلاح ، ومحفز التثبيط والإفساد ، فيه تُدبَّر الأوامر ويصطنع القرار، وبه يرتقي المخلوق حتي يصير إنسانا مكرماً ، وبه ينحضج حتي يستحيل بشراً محقّراً.
الواقع أن جدلية العقل والقلب شأنها أوسع من أن يحويه هذا المقام الموجز الضيق . والذي يعنيني هنا هو التوكيد على أن المغايرة بين كلا المصطلحين أمر ثابت لا يسمح بتسلل شبح الترادف ، فالتمايز هنا لا يترك للتمازج موضعاً.
كذلك ليس في الصواب نبذ أو اطّراح أي من الاصطلاحين : الديني ، والطبي ؛ فكل منهما حامل لمفهوم في موقعه صحيح ، دقيق المعالم.
وقد كان بالإمكان فك الجدلية وحل الإشكال عن سبيل القول بأن النصوص الدينية أطلقت مصطلح القلب ، مريدة به العقل نفسه. لكن هذا الرأي أو الافتراض، أو التصور سيلقى صدمة مصدرها تصريح النص الديني بأن القلب المذكور يمكث في الصدور وراء الضلوع، لا في الرأس تحت عظمة الجمجمة . قال تعالى {ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}. إن هاته الآية ونحوها تفتح الباب لتحميل القلب الطبي وظائف وصلاحيات وإمكانيات واسعة ، وكثيرة تهدد المخ بالتهميش ، بل قد تحوله إلى عضو عاطل عن العمل ، كما هو حال الزائدة الدودية.
والأمر يزداد تعقيدا حين نتذكر بأن المصطلح الطبي الشائع يسمي المخ باسم العقل ؛ مما يمنحه بشهادة اللغة فضيلة ومهمة سوق وتوجيه الإنسان وسلوكه في إطار وصاية شاملة محكمة.
وليس من مانع يحول دون القول بأن القلب الطبي يحمل ويؤدي وظائف أخرى غير وظائفة البيولوجية المعلنة ، أعني أن يؤدي وظائف إدراكية أو روحية، متعالية ومستعصية عن مجاهر الأطباء ، ومخابرهم .
هذا أمر غير ممتنع في التصور العقلي ، ولا يكفي لرده عدم وجود دليل مادي قاطع- حتى اليوم- على ذلك ؛ لأن عدم الدليل ليس دليلاً على العدم .(/)
إن الافتراض السالف يحمل مشروعيته من جهتين :
1- عدم ثبوت مانع عقلي ، أو منطقي تصوري .
2- وجود قرائن تقويه من خلال ملاحظات أولية ، وتجارب غير مشتهرة ، أكدت أن القلب البيولوجي الطبي ، حامل لتأثيرات مجاوزة لوظيفته الدموية المعلنة في العرف الطبي ، وليس بإمكاني هنا تفصيل القول في أمر هذه التجارب ، وتلك القرائن ، لكنها موجودة على أي حال ، ولعل من أكفأ من طرقها -بين المسلمين- الشيخ العالم :عبد المجيد الزنداني.
إن من صور تعالي القرآن المجيد على مستوى غيره،ما يحفل به من إشكالات مصطلحية، فضلاً عن الإشكالات المفهومية المعنوية، مما دفع بعض علماء المسلمين إالى تصنيف كتب تعالج هذه الظاهرة القرآنية ، من ذلك ماكتبه ابن قتيبة ، تحت عنوان : (تأويل مشكل القرآن). ونحو ذلك ما سبقه إليه الكسائي في كتابه( متشابه القرآن) إضافة إلى ما انتثر وسط منظومة كتب التفسير القرآنية .
وقد كان من أشهر المصطلحات القرآنية إثارة للأقلام : ثنائية الإسلام والإيمان، وثنائية النفس والروح ، والحجة والبرهان، والقضاء والقدر، وكذا مصطلحات :القلب، والفؤاد ، واللب، والحِجر.(6) كل أولئك حمل صوراً من التمازج المعنوي ، إلى جانب التمايز المفهومي، ذلك كلّه في آن واحد ، قائماً على إضاءات لغوية حيناً، وإنارات اجتهادية حيناً آخر ، وتكلفات وتأملات شخصية ، تأتي طوراً في هيئة إنارات مبدعة ، وطوراً في صورة تكلفات سخيفة. ولقد كانت ساحة التصوف النظري أرحب السوح الحاوية لتلك الصور ، والإنارات ، والتكلفات .
وقد جرت محاولات حديثة إلى فك الإشكالات المفهومية التي تلتحف بها تلك المصطلحات القرآنية خاصةً. وربما كان من أهم وأجرأ هاتيك المحاولات ما كتبه نيازي عز الدين في كتابه (إنذار من السماء) ومحمد شحرور في كتابه (الإسلام والإيمان)وكذا في قراءته المعاصرة للقرآن.
وقمين بالذكر أن كثيراً من المصطلحات القرآنية داخلة ضمن ما اسمّيه (المصطلَح غير المصطلِح) وهذا النوع هو الأكثر ذيوعاً وسط منظومة المصطلحات العربيةفي كل مجال معرفي ، وأعني به تحديداً تلك المصطلحات التي فقدت مزية الإجماع على دلالاتها، وبعبارة أخرى ما تعدد مفهومه واتحد هيكله اللفظي ، وهذا الضرب قريب الشبه جداً بما عرفته اللغة باسم المشترك اللفظي ، بيد أن وجه التمايز بينها هو أن المشترك اللفظي تعبير استعمله الناس بحسب وضعه اللغوي الأصلى أما المصطلَح غير المصطلِح فهو تعبير استعمله الناس بحسب دلالة تواضعية متطرّئة على دلالته الأصلية، كما هو الحال في التواضع على تحميل لفظة الزكاة معنى جديداً يحيل إلى تلك العبادة الإسلامية المعروفة، بدلاً من الدلالة الوضعية الأصلية التي هي النمو والزيادة . وكتحميل لفظة الدنيا معنى الحياة الأولى للإنسان قبل موته ، بدلاً من دلالة القرب و السفول ، حسب الأصل اللغوي الوضعي.(/)
إن المصطلح غير المصطلح ، ظاهرة لغوية متجذرة في اللغة بكل مستوياتها، كما أن افتقاده مزية الإجماع التواضعي ، لا تفقده قيمته ولا تؤثر في أهميته نظراً إلى كون افتقاد ذلك الإجماع أمراً طبيعياً جداً، بل هو فطري إلى أعمق حدود الفطرة ، التي جبل الناس عليها. واستحضار هذا الواقع يوجب إلينا الالتزام باحترام التفاوتات والتباينات المفهومية الدلالية في السياقات الإجرائية ، والأنسق الاستعمالية للمصطلح بعامة . وليس جديداً ما أؤكده هنا من كون كثير من الانشقاقات المذهبية ، والصدامات الفكرية ، والالتباسات المعرفية إنما خلقت في رحم ضيق الأفق المصطلحي ، حين لم تحترم تلكم التباينات المفهومية المترتبة على افتقاد سمة الإجماع على دلالة المصطلح غير المصطلح .
لقد عانت الثقافة العربية الإسلامية كثيراً من خلل في المنهج التفكيري ؛ مما استتبع معايب مؤثرة في المسلك التعبيري ، والتنظيري. وهذا واقع ليس في المكنة غمطه ، لاسيما عند النظر في مكتوبات وجدالات ومناظرات وخلافات صنّاع تراثنا القديم بالذات.(7)
ولا أريد لأحد أن يفهم من كلامي أني ممن ينسف القيمة الكبيرة لذلك التراث ، ولا أني ممن يقصف الأهمية البالغة التي اكتساها. فقيمة تراثنا العربي الإسلامي وأهميته مما لا يكثر الخلاف فيه ؛ لوضوح أمره ، وجلاء حقيقته. لكن أمانة النقد والنصيحة توجب إيضاح المعالم ، سيئة كانت أو حسنة ، جليلة كانت ، أو بئيلة.(/)
هوامش
(1) للتفصيل انظر : لسان العرب -ابن منظور- ط دار المعارف- القاهرة- مادة :ص ل ح - 4/2479 ، وينظر أساس البلاغة للزمخشري - ط دار الفكر -بيروت 2000 - ص 345
(2 )- من أمثلة المصطلح الفقهي : الرهن ، المضاربة، الخلع ، التخميس، الغرم ، الرغيبة، النوازل ، الجوائح، المنطوق ، الراجح ، الأحوط ، الظاهر.
(3)- انظر للتوسع في هذا . كتاب ( الفتح المبين في حل رموز مصطلحات الفقهاء والأصوليين). محمد الحفناوي. مكتبة الإشعاع الفنية . الإسكندرية -1999- ط1- الصفحات التالية: ص46-74-113-149-177.ومعلوم وجود كثير من المصطلحات الفقهية المشتركة كالحلال والحرام والمستحب ، ومن المصطلحات غير المشتركة مصطلح المباراة عند الجعفرية ، وهو قريب من معنى الخلع المفرق بين الزوجين ، ووجه الفرق بينهما أن المباراة يكون فيها ا لكره مشتركا بين الزوجين ، مع عدم جوازدفعها له أكثر من المهر فدية للتفريق .
(4) - من أمثلته :الفحولة، الشعر المطبوع ، الشعر المصنوع ، المنافرة، النحل .
(5) - من أمثلةالمصطلح القديم: الجوهر ، العرض ، الهيولى، العلة الأولى، الزمان.
و من أمثلة الجديد: الإبستمولوجيا، الأنطولوجيا ، الكوزمولوجيا، الميتافيزيقا .
(6) - عن هذه المصطلحات لنتأمل-أمثلة- الآيات : مثلا (القلب){ومن يؤمن بالله يهد قلبه}الغابن 11. {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}الحج35. {أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا}النور50
وفي (اللب) يقول {واتقون ياأولي الألباب}البقرة 197 .{وما يذكّر إلا أولوا الألباب}البقرة 269.{أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب}الزمر18. {فاتقوا الله يا أولي الألباب}الطلاق10. {إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب }الزمر 21. {ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب}البقرة 179.
وفي (الحجر) يقول : {هل في ذلك قسم لذي حجر}الفجر5 . ولم يرد في القرآن كلمة الحجر بهذا المعنى إلا في هاته الآية.
وفي (الفؤاد) جاء في القرآن، بصيغة : الفؤاد ، فؤادك ، أفئدتهم ، أفئدة ، من ذلك {إن السمع والبصر والفؤادكل أولئك كان عنه مسؤولاً}الإسراء36.{وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً}القصص10 .{ما كذب الفؤاد مال رأى}النجم11.{كذلك لنثبت به فؤادك}الفرقان32 .{ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة}الأنعام 113 .{وجعلنا لهم سمعاً وأبصارا ًوأفئدة}الأحقاف26 .{ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم}الأنعام 110 .
وفي (النفس ) قال تعالى : {ياأيتها النفس المطمئنةارجعي إلى ربك}الفجر27-28.{ربكم أعلم بما في نفوسكم}الإسراء25 .{الله يتوفى الأنفس حين موتها }الزمر42 .{وفيها ما تشتهيه الأنفس}الزخرف71 .{واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه}البقرة 235 .{لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم}المائدة80 . وأكثر ما تستعمل النفس في القرآن بمعنى الذات ، مثلا :{ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه}الظلاق1 .{قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً}يونس49 .{الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون}الأنعام 12- 20 .
وفي (الروح) قال تعالى: {ويسألونك عن الروح}الإسراء85 .في القرآن جاءت أغلب استعمالات الروح منسوبة إلى الله تعالى مثلا: {فأرسلنا إليها روحنا}مريم17 .{فإذا سويته ونفخت فيه من روحي}الحجر29- وسورة ص72 .وكثيرا ما يأتي هذا المصطلح لنعت جبريل من ذلك :{نزل به الروح الأمين}الشعراء193 .{تعرج الملائكة والروح إليه}المعارج4 .{يلقي الروح من أمره على من يشاء}غافر15 .
(7) - لقد شاع في التراث الجدلي ما سماه بعض الفقهاء والمناطقة بالخلاف اللفظي ، حيث يكون الاتفاق حالاًّ وواقعا بين الطرفين ، في الوقت الذي نجدهما فيه يتصادمان ويتصارمان ويتخاصمان، في غفلة مخجلة، بسبب الغفلة عن الدلالة المفهومية المتعددة لبعض المصطلحات المقام عليها الجدل .وهذا من صور الخلل المنهجي الذي ساد على مساحة ذريعة من التراث ، ولا يزال ناصباً خيامه الكريهة بيننا ، هذه الأيام .(/)
عناية المسلمين باللغة خدمةً للقرآن الكريم و السنة الشريفة و تفسيرهما.
لقد حازت العربية شرفًا عظيمًا؛ إذ نزل القرآن الكريم بلسانها المبين، وقد اصطفاها الله سبحانه لوحيه مِنْ بين لغات البشر، وفي إنزال القرآن الكريم باللغة العربية مَرْتَبَةٌ رفيعة لعِلْم العربية، ووجه الدلالة [1] أنَّه تعالى أخبر أنَّه أنزله عربيًا في سياق التمدُّح، والثناء على الكتاب بأنَّه مبين لم يتضمن لَبْسًا، عزيزٌ لا يأتيه الباطل مِنْ بين يديه ولا مِنْ خلفه، وذلك يدلُّ دلالة ظاهرة على شرف اللغة التي أُنْزل بها.
وقد عُنِي السلف بالعربية، وأقبلوا على خدمتها على نحوٍ شامل، وأيقنوا أنَّ دراستها والتأليف فيها ضربٌ من ضروب العبادة، يتقرَّبون به إلى الله [2].
وقد استحقَّتْ خدمة العلماء للغة القرآن الوقوف على أوجه هذه الخدمة وفروعها المختلفة، ولا يَسَعُنا في هذا البحث الموجز إلا أن نشير إلى بعضها باختصار، فمن ذلك:
-1التأليف في "لغات القبائل الواردة في القرآن". اجتهد علماء العربية في بيان أصول الألفاظ القرآنية، وعَزَوها إلى قبائلها الأصلية، وبَيَّنوا المعنى المراد باللفظ القرآني لدى هذه القبيلة؛ وذلك لأنَّ القرآن الكريم نزل بلغة قريش التي استقَتْ مِنْ صفوة لغات العرب ما راقَها.
ومن أمثلة ذلك ما ورد في كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام "لغات القبائل" [3]: " رَغَدًا من قوله تعالى: ?وكُلا منها رَغَدًٌ? [البقرة:35] يعني الخِصْب بلغة طيئ، و "الصاعقة" مِنْ قوله تعالى: ?فأخَذَتْكم الصاعقةٌ? [البقرة:55] يعني المَوْتة بلغة عُمان، و "خاسئين" من قوله تعالى: ?كونوا قِردةً خاسئينٌ? [البقرة: 65] يعني صاغرين بلغة كنانة، و "وسَطًا" من قوله تعالى: ?جَعَلْناكم أمةً وسَطًٌ? [البقرة: 143] يعني عَدْلًا بلغة قريش ".
وقد أفاد المفسرون كثيرًا من معرفة لغات العرب الوادرة في القرآن الكريم، واستندوا إليها في تفسير كثير من الآيات الكريمة، وحدث بينهم مناقشات واختلافات في اعتماد معنى الآية المشهور، أو الاتجاه إلى تفسيرها في ضوء لغات العرب. ومن ذلك قوله تعالى: ?أفلم يَيْئَس الذين آمنوا أن لو يشاء اللهُ لهدَى الناسَ جميعًٌ? [الرعد:31] فهل اليأس في الآية على بابه وهو قطع الطمع عن الشيء والقنوط فيه ؟ قال بعضهم: هو هنا على بابه، والمعنى: أفلم يَيْئَسِ الذين آمنوا من إيمان الكفار من قريش، وذلك أنَّهم لمَّا سألوا هذه الآيات طمعوا في إيمانهم، وطلبوا نزولَ هذه الآيات ليؤمِنَ الكفار، وعَلِم الله أنهم لا يؤمنون فقال: أفلم يَيْئَسوا من إيمانهم. ولكن فريقًا آخر من أهل التفسير ذهبوا إلى غير ذلك من معنى اليأس فقالوا: هو هنا بمعنى عَلِمَ وتبيَّن. قال القاسم بن معن -وهو من ثقات الكوفيين-: "هي لغة هوازن". وقال ابن الكلبي: "هي لغة حَيّ من النخع" ومنه قول سُحَيْم:
أقول لهم بالشِّعْبِ إذ يَأْسِرونني ألم تَيْئَسوا أني ابن فارسِ زَهْدَم
ويدلُّ عليه قراءةُ عليّ وابن عباس وآخرين " أولم يتبيَّن " [4].
وهذا العَزْوُ إلى لهجات القبائل في التفسير باب واسع في مصنفات التفسير وإعراب القرآن، أفاد منه العلماء كثيرًا في إجلاء معنى طائفة من الآيات، وبيَّنوا المزيد من أوجه دلالاتها. ومن الكتب التي وصلتنا في هذا الجانب: "لغات القرآن" لكلٍ من أبي عبيد، والوزَّان، وأبي حيان، وابن حسنون.(/)
- 2وأثرُ دراسة ألفاظ القرآن في كتب "الأضداد" واضح، ومن هذه المصنفات كتاب أبي الطيب اللغوي، وكتاب قطرب، وكتاب ابن الأنباري. وهي تورد المفردة اللغوية، وتنصُّ على استعمالها في القرآن والحديث والشواهد الفصيحة من الشعر وأقوال العرب؛ وذلك لأنَّ بعض ألفاظ العربية تُنْبئ عن المعنى وضده في الكلمة نفسها. وقد تَصَدَّتْ هذه الدراسات لبحث مدلول اللفظ المفرد وصلته بالسياق، ومدى اختلاف معناه باختلاف تركيبه في الجملة. يقول الدكتور محمد زغلول سلام [5]: " وكان حافز العلماء في الاجتهاد والبحث القرآنَ؛ ذلك لأنَّ المفسِّرين والعلماء الذين شُغِلوا بدراسة أسلوبه قد اعترضَتْهم بعض العقبات، حين اصطدموا بألفاظٍ قد يُفْهم تكرارها في مناسبات مختلفة في القرآن أنها متضادَّة أو مختلفة في معانيها، وذلك بالقياس إلى الشاهد الشعري، ممَّا دعا بعض الطاعنين ومَنْ يثير الشكوك إلى القول بالتناقض في أسلوب القرآن ".
ويُصَرِّح ابن الأنباري في مقدمة كتابه "الأضداد" بالدافع الرئيس الذي دفعه إلى تأليف كتابه، فهو خدمة تفسير القرآن ومحاولة الدفاع عمَّا وُجِّه إلى لغته وأسلوبه من التناقض والإحالة، ويقول: " هذا كتابُ ذِكْرِ الحروف التي تُوقعها العرب على المعاني المتضادَّة، فيكون الحرف منها مؤدِّيًا عن معنيين مختلفين، ويظنُّ أهل البدع والزيغ والإزراء بالعرب أنَّ ذلك كان منهم نقصًا مِنْ حكمتهم، وقلَّة بلاغتهم " [6]. وقد عرض ابن الأنباري كثيرًا من الألفاظ التي جاءت في القرآن، وعَدَّها بعض العلماء مِنْ قبله من الأضداد، وهم -مِنْ وجهة نظره- قد أخطؤوا فيها التأويل، ومذهبه في كثير من كلمات الأضداد أنَّ الكلمة لم تُوْضَعْ في أول الأمر للمعنيَيْن المتضادَّين، وإنَّما وُضِعت لأحدهما، وتراه يميل في كتابه إلى قول بعض العلماء: " إذا وقع الحرف على معنيين متضادَّين فالأصل لمعنى واحد، ثم تداخل الاثنان على جهة الاتساع " [7]، وقد يكتفي بعرض الرأيين في تفسير الآية كقوله [8]: " والنِّدُّ يقع على معنيين متضادَّين. يقال: فلانٌ نِدُّ فلان إذا كان ضدَّه، وفلان نِدُّه إذا كان مثلَه. وفسَّر الناس قوله تعالى: ?فلا تجعلوا لله أَنْدادًا وأنتم تعلمونٌ? [البقرة: 22] على جهتين. قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: معناه فلا تجعلوا لله أعدالًا، فالأَعْدال جمع عِدْل، والعِدْل المثل. وقال أبو العباس عن الأثرم عن أبي عبيدة: فلا تجعلوا لله أندادًا أي: أضدادًا ".
أمَّا قطرب فله منهج آخر، وهو التوسُّع في ألفاظ الأضداد وقَبول الكثير منها. ومن أمثلته: "المُفْرَطُ" المُقَدَّم والمؤخَّر، نحو قوله تعالى: ?لا جَرَم أنَّ لهم النارَ وأنهم مُفْرَطونٌ? [النحل: 62]. ويجوز أن يكون أنَّهم مُقَدَّمون إليها جميعًا، ويجوز أنَّهم مُؤَخَّرون مُباعَدون متروكون من الثواب ".
وهكذا ساهم هذا النوع من الخدمة اللغوية في إجلاء معنى كثير من الآيات، وأثار بين علماء العربية والتفسير مناقشات أفادت منها المكتبة القرآنية واللغوية على السواء.(/)
- 3واجتهد علماء العربية من السلف في بيان "المشترك اللغوي" وعَدُّوه خصيصةً من خصائص العربية، وعاملًا من عوامل تنميتها وثرائها. وقد أشار العلماء إلى شواهده والمعاني التي تدور حول لفظه [9]. والمشترك اللفظي هو ما اتحدت صورته واختلف معناه، على عكس المترادف، أو هو اللفظ الواحد الدالُّ على معنيين مختلفين فأكثر [10]. يقول الدكتور توفيق شاهين [11]: " وتنوُّع معناه أتى مِنْ تنوع استعماله " ويضرب مثالًا على ذلك بلفظة "الأُمَّة" فهي بمعنى الواحد الصالح الذي يُؤْتَمُّ به، ويكون علَمًا في الخير كقوله تعالى: ?إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًٌ? [البقرة:120] وهو بمعنى الجماعة كقوله تعالى: ?ولمَّا ورد ماء مَدْيَن وجد عليه أُمَّةً من الناس يَسْقُونٌ? [القصص:23] وبمعنى الحين من الزمان، نحو قوله تعالى: ?وادَّكر بعد أُمَّةٌ? [يوسف:45]، وبمعنى الملَّة والدين، نحو قوله تعالى: ?إنَّا وَجَدْنا آباءنا على أُمَّةٌ? [الزخرف:23]، وبمعنى الجنس نحو قوله تعالى: ?وما مِنْ دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالُكمٌ? [الأنعام:: 38].
وقد أثبت هذا المشتركَ ابنُ فارس في كتابه "الصاحبي" [12] ومثَّل له بالعَين، وسيبويه في كتابه [13]، وأشار إلى أنَّ مِنْ كلام العرب اتفاق اللفظيين واختلاف المعنيين، نحو قولك: "وَجَدْتُ عليه" من المَوْجِدة و "وجَدْت" إذا أرَدْتَ وجدان الضَّالَّة.
وقد خدم العلماء الألفاظ القرآنية التي تسير على هذا القبيل.
ويلخص الدكتور رمضان عبد التواب عوامل نشأة المشترك اللفظي بالاستعمال المجازي، ولم يهتمَّ أصحاب المعاجم بالتفرقة بين المعاني الحقيقية والمجازية للكلمات، والعامل الآخر في نشأته اللهجاتُ؛ وذلك لأنَّ بعض هذه المعاني المجازية نشأ في بيئات مختلفة، ويُضاف إلى هذه العوامل اقتراض الألفاظ من اللغات المختلفة، وينتهي إلى القول بأن المشترك اللفظي لا وجود له في واقع الأمر إلا في معجم لغةٍ من اللغات، أمَّا نصوص هذه اللغة واستعمالاتها فلا وجود إلا لمعنى واحد من معاني هذا المشترك اللفظي [14].
- 4وثمة خدمة جليلة خاصة بمعاني المفردات القرآنية قام بها بعض علماء السلف من المَعْنِيِّين بعلوم العربية، ومن ذلك كتاب "المفردات" للراغب الأصبهاني، وكتاب "عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ" للسمين الحلبي. ومنهج هذا الضرب من التصنيف هو ترتيب موادِّ الكتاب على منهج أوائل الحروف بعد تجريدها من الحروف الزائدة، كما هو الحال في معجم "أساس البلاغة" للزمخشري، ثم تُذْكَرُ المعاني اللغوية الواردة داخل المادة، ويستشهد عليها بآيات من القرآن الكريم.
وتُعْنَى هذه المصنفات بالتعريفات اللغوية، وتُعَدُّ مرجعًا أصيلًا في ذلك، وتَدْعم المعاني التي توردها بالشعر والحديث وأقوال العرب.
ومن ذلك قول الراغب [15]: "الحدوث كون الشيء بعد أن لم يكن، عَرَضًا كان ذلك أو جوهرًا، وإحداثهُ إيجاده. قال تعالى: ?ما يأتيهم مِنْ ذِكْرٍ مِنْ ربهم مُحْدَثٌ? [الأنبياء: 2]، ويقال لكل ما قَرُبَ عهدُه: مُحْدَث"، فعلًا كان أو مقالًا، قال تعالى: ?حتى أُحْدِثَ لك منه ذكرًٌ? [الكهف: 70] وكل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه يقال له: حديث". وفائدة هذا الضرب من المؤلفات جمع المعاني الواردة للمادة اللغوية الواحدة في كتاب الله، سواء أكانت اللفظة القرآنية اسمًا جامدًا أم مشتقًا أم فعلًا، فيمر المصنف بجميع هذه المعاني، ويُمَهِّد لها بمعانيها وتعريفاتها.
- 5استخدم القرآن الكريم طائفة من الألفاظ "المُعَرَّبة"، وقد تصدَّى علماء العربية لها، وردُّوها إلى أصولها. وقد قرر اللغويون أنه من المتعذِّر أَنْ تظلَّ لغةٌ بِمَأْمَنٍ من الاحتكاك بلغة أخرى، ويعني هذا اقتراض هذه اللغات بعضها من بعض، وتأثير إحداها في الأخرى، وهذا ما حدث للُّغة العربية مع جاراتها من اللغات [16]، ويُطلق على مثل هذه الكلمات التي أخذتها العربية من اللغات المجاورة مصطلح "المُعَرَّب"، ويعني هذا أن تلك الكلمات المستعارة في العربية لم تَبْقَ على حالها تمامًا، كَما كانت في لغاتها، وإنما طوَّعها العرب لمنهج لغتهم في أصواتها وبنيتها، وقد طال الأمد على كثير من هذه الألفاظ في الجاهلية، وأَلِفَ الناس استعمالها، وصارت جزءًا من لغتهم، وجاء القرآن فأنزله الله بهذه اللغة العربية التي أصبح بعض هذا المُعَرَّب من مقوِّماتها، فجاء فيه شيء من تلك الألفاظ التي عَرَّبَها القوم من لغات الأمم المجاورة [17].(/)
ومن المصنفات المشهورة في هذا الميدان "المُعَرَّب" للجواليقي يقول في مقدمته [18]: "هذا كتاب نذكر فيه ما تكلَّمَتْ به العرب من الكلام الأعجمي، ونطق به القرآن المجيد، وورد في أخبار الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعين وذكرَتْه العرب في أشعارها وأخبارها؛ ليُعْرَفَ الدخيل من الصريح، ففي معرفة ذلك فائدة جليلة: وهي أن يَحْتَرِس المشتقُّ، فلا يَجْعل شيئًا من لغة العرب لشيء من لغة العجم".
ويتحدث الجواليقي عن المذهب الصحيح الذي يراه في مثل هذه الألفاظ فيقول: "وذلك أن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل فقالوا أولئك على الأصل، ثم لفظت به العرب بألسنتها، فعرَّبَته فصار عربيًا بتعريبها إياه، فهي عربية في الحال أعجمية الأصل" [19]. ونحن هنا لسنا بصدد تحقيق القول في قبول نظرية المعرَّب أو نفيها عن القرآن الكريم، وغرضنا أن نشير إلى ضرب من الخدمة اللغوية التي نهض لها علماء العربية في سبيل لغة القرآن، وتحليل أصولها.
ومن أمثلة ذلك قول صاحب "المُعَرَّب" [20]: "وإبليس ليس بعربي، وإن وافق "أَبْلَس الرجلُ" إذا انقطعَتْ حُجَّتُهُ، إذ لو كان منه لصُرِفَ.
ومنهم مَنْ يقول: هو عربي، ويجعل اشتقاقه مِنْ أبلس يُبْلس، أي: يئس، فكأنه أَبْلَس مِنْ رحمة الله أي: يئس منها، والقول هو الأول".
- 6وبعض دراسات اللغويين اختَصَّ "بغريب القرآن"؛ وذلك لأن القرآن قدَّم للعرب ثروة لغوية واسعة، فاختلف الناس في مستوى أفهامهم لهذه الثروة، ممَّا جعل اللغويين والمفسرين يعكفون على دراسة الغريب لبيان معانيه، والاستشهاد عليه بشعر العرب وأقوالهم.و من ذلك كتاب "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة، حيث يقول في مقدمته: "وكتابنا هذا مُسْتَنْبَط من كتب المفسرين وكتب أصحاب اللغة العالمين، لم نخرج فيه عن مذاهبهم، ولا تكلَّفْنا في شيء منه بآرائنا غيرَ معانيهم، بعد اختيارنا في الحرف أَولَى الأقاويل في اللغة وأشبهها بقصة الآية" [21].(/)
ويرى الدارسون أنَّ القرآن سبب ظهور علم الغريب بمفهومه العام، وما جرَّ إليه من حركة جمع الشعر والنوادر، وما تبع ذلك من رحلات علمية نشطة إلى البوادي [22]. ومن الكتب التي وصلَتْنَا في هذا الحقل: كتاب "الغريبَيْن": غريب القرآن وغريب الحديث لأبي عبيد الهروي، و "بهجة الأريب في بيان ما في كتاب الله العزيز من الغريب" للتركماني، و "تذكرة الأريب في تفسير الغريب" لابن الجوزي. وقد خَدَمَتْ هذه المصنفات كتاب الله بأنَّها اختَصَّتْ بما يراه أصحابها داخلًا تحت مصطلح الغريب، فيمضون في شرحه وبيان آراء العلماء في دلالته، وقد كان في مصنفات الغريب مادة ذات شأن أفادت منها كتب التفسير عبر القرون؛ وذلك لأنَّ المفسِّر لا بد أن يبدأ بالمعنى اللغوي للمفردة القرآنية قبل الشروع في استنباط الأحكام منها.
ومن ذلك ما قاله ابن قتيبة [23]: "قوله: ?وما أهِلَّ به لغير اللهٌ? [البقرة:173] أي: ما ذُبح لغير الله، وإنَّما قيل ذلك لأنه يُذْكر عند ذبحه غيرُ اسم الله فيظهر ذلك، أو يرفع الصوت به، وإهلال الحج منه، إنما هو إيجابه بالتلبية. واستهلال الصبي منه إذا وُلِدَ، أي صوته بالبكاء".
- 7وثمة دراسات في "الفروق اللغوية" أفاد منها المفسرون كثيرًا، واختلفَتْ وجهات نظرهم في توجيه كثير من الآيات القرآنية. ومن هذه الدراسات "كتاب الفروق في اللغة" لأبي هلال العسكري، يقول في مقدمته: "وجعلت كلامي فيه على ما يُعْرض منه في كتاب الله وما يجري في ألفاظ الفصحاء والمتكلمين وسائر محاورات الناس" [24]، ومن أمثلته في كتابه [25]: "الفرق بين الهداية والإرشاد أن الإرشاد إلى الشيء هو التطريقُ إليه والتبيين له، والهداية هي التمكُّن من الوصول إليه، وقد جاءت الهداية للمهتدي في قوله تعالى: ?اهْدِنا الصِّراطَ المستقيمٌ? [الفاتحة:6]، فذكر أنَّهم دَعَوا بالهداية وهم مُهْتدون لامَحالةَ، ولم يَجئ مثل ذلك في الإرشاد، ويقال أيضًا: هداه إلى المكروه، كما قال تعالى: ?فاهْدُوهم إلى صراط الجحيمٌ? [الصافات: 33].
وقد ذهب جماعة من العلماء إلى وجود الترادف في العربية وقالوا: لا معنى لإقامة البرهان على جوازه بعد تحقُّق وقوعه، وإنكارُ الترادف جاء من تَعَسُّفات الاشتقاقيين، وهذا مذهب كثير من العلماء كأبي زيد والأصمعي وابن خالويه. وذهب آخرون إلى إنكار الترادف التام بين الألفاظ وأنَّ كلَّ ما يلوح باديَ الرأي أنه من المترادفات إنَّما هو في حقيقته من المتباينات، على اختلافٍ في قَدْر هذا التباين ووضوحه [26]. ومثال تأثير الفروق اللغوية في تفسير القرآن ما قاله الطبري في تفسير قوله تعالى: ?ألم يعلموا أنَّ الله يعلم سِرَّهم ونجواهم وأن اللهَ عَلاَّمُ الغُيوبٌ? [التوبة:78]، فقد فسَّر الطبري السِّرَّ: بأنَّه هو ما يُسِرُّونه في أنفسهم من الكفر بالله ورسوله، والنجوى: ما يتناجَوْن به بينهم من الطعن في الإسلام وعَيْبهم لأهله" [27] وهذا خلاف ما يقول به بعضهم: مِنْ أن السر والنجوى مترادفان بمعنى واحد. فهذا ضرب جديد من الخدمة اللغوية عني به السلف، وكان له أثر في فهم كثير من الآيات، ودلالة ألفاظها.(/)
- 8 وكتب "المذكر والمؤنث" رافد من الروافد اللغوية التي خدمت مفردات القرآن الكريم بتصنيفها حسب استعمال العرب لها مذكرةً أو مؤنثة، وقد حفلت هذه المؤلفات بآيات القرآن الكريم؛ لتكون شاهدًا على الحكم الذي ذكرَتْه. وقد عَدَّ الأنباري في كتابه "المذكر والمؤنث" هذا الضرب من التأليف "مِنْ تمام معرفة النحو والإعراب؛ لأن مَنْ ذَكَّر مؤنثًا، أو أنَّث مذكرًا، كان العيب لازمًا له، كلزومه مَنْ نصب مرفوعًا، أو خفض منصوبًا، أو نصب مخفوضًا" [28].
ومن أمثلة ذلك قول الأنباري [29]: "والنفس إذا أردت بها الإنسان بعينه مذكرٌ، وإن كان لفظه لفظ مؤنث، وتجمع ثلاثة أنفس على معنى ثلاثة أشخاص، أنشد الفراء:
ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ لقد جار الزمانُ على عيالي
فحمله على معنى ثلاثة أشخاص، والنفس إذا أريد بها الروح فهي مؤنثة لاغير، وتصغيرها نُفَيْسة، قال تعالى: ?الذي خلقكم مِنْ نفس واحدةٌ? [الأعراف:189].
ومن أشهر كتب هذا الضرب من المؤلفات كتاب ابن الأنباري، وكتاب المبرد، وكتاب الفراء. وقد تكون ثمة مفردة قرآنية تحتمل التأنيث والتذكير، ومن ذلك قول الفراء [30]: "السَّبيل يُؤَنَّث ويُذَكَّر، قد جاء بذلك التنزيل، قال تعالى: ?هذه سبيليٌ? [يوسف: 108]، وقال تعالى: ?وإن يرَوْا سبيل الغَيِّ يتخذوه سبيلٌ? [الأعراف: 146].
- 9وثمة مصنفات تتصل بعلوم العربية اتصالًا وثيقًا، وتختص بمواضع "القطع والائتناف في القرآن الكريم"، وهو فنٌّ يساعد على فهم معاني القرآن، وتدبُّر آياته. قال الزركشي [31]: "وهو فن جليل، وبه يعرف كيف أداء القرآن، ويترتب على ذلك فوائد كثيرة واستنباطات غزيرة، وبه تتبين معاني الآيات".
والقطع: هو قطع الكلمة عمَّا بعدها وجوبًا أو جوازًا، وحدَّد العلماء للمصطلحات المستعملة مواضع، وهذه المصطلحات هي [32]: التامُّ والحسن والكافي والصالح والجيد والبيان والقبيح، فمواضع القطع والائتناف مرتبطة بالمعنى والحكم الإعرابي. وأشهر كتب هذا الفن كتاب النحاس، إذ طبَّق قواعد العلم على القرآن مرتبة بحسب السور. يقول في المقدمة [33]: فينبغي لقارئ القرآن إذا قرأ أن يتفهم ما يقرؤه، ويشغل قلبه به، ويتفقَّد القطع والائتناف، ويحرص على أن يُفْهم المستمعين في الصلاة وغيرها، وأن يكون وَقْفُه عند كلام مُسْتغن أو شبيه، وأن يكون ابتداؤه حسنًا، ولا يقف على مثل ?إنما يستجيب الذين يسمعون والموتىٌ? [الأنعام: 36] لأنَّ الواقف ههنا قد أشرك بين المستمعين وبين الموتى، والموتى لايسمعون ولايستجيبون، وإنما أخبر عنهم أنهم يُبعثون".
ومن المصنفات التي وصلَتْنا في هذا الباب "إيضاح الوقف والابتداء للأنباري"، و "المكتفى في الوقف والابتدا" لأبي عمرو الداني، و "منار الهدى في بيان الوقف والابتدا" للأشموني.(/)
- 10وبعض هذه الدراسات المتصلة بعلوم العربية انصبَّ على "مشكل القرآن"، وكان الدافع إليها الحِرْصَ على لغة القرآن، وردَّ المطاعن والشكوك التي أُثيرت حوله [34]. ومن أبرز الكتب في هذا الجانب "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة، وقد حدَّثنا عن خدمته للتنزيل العزيز بقوله [35]: "وقد اعترض كتابَ الله بالطعن مُلْحدون، ولَغَوْا فيه وهجروا، واتَّبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، بأفهامٍ كليلة، وأبصار عليلة ونظر مدخول، فحرَّفوا الكلام عن مواضعه، وعدلوه عن سبله، ثم قَضَوا عليه بالتناقض والاستحالة واللحن، وفساد النظم والاختلاف... فأحبَبْتُ أن أَنْضَحَ عن كتاب الله، وأرمي مِنْ ورائه بالحجج النيرة والبراهين البيِّنة، وأكشف للناس ما يَلْبِسون".
وقد بدأ ابن قتيبة موضوعات كتابه بالحكاية عن الطاعنين والردِّ عليهم في وجوه القراءات، وساق زعمهم في وجود اللحن في القرآن والتناقض والاختلاف والمتشابه، وتكرار الكلام والزيادة فيه، ومخالفة ظاهر اللفظ معناه، وعقد بابًا سَمَّاه "تأويل الحروف التي ادُّعي على القرآن بها الاستحالة وفساد النظم". ومن أمثلة ما عرضه قولُه: "فأما ما نحلوه من التناقض في مثل قوله تعالى: ?فيومئذ لايُسأل عن ذنبه إنس ولاجانٌّ? [الرحمن:39]، وهو يقول في موضع آخر: ?فوربِّك لنسألنَّهم أجمعين، عمَّا كانوا يعملونٌ? [الحجر: 92] فالجواب في ذلك أن يوم القيامة يكون كما قال تعالى: ?مقداره خمسين ألف سنةٌ? [المعارج:4] ففي مثل هذا اليوم يُسْألون، وفيه لايُسْألون؛ لأنهم حين يُعرضون يُوقفون على الذنوب ويُحاسَبون، فإذا انتهت المسألة ووجبت الحجة ?انشقت السماء فكانت وردة كالدِّهانٌ? [الرحمن:37] وانقطع الكلام وذهب الخصام" [36].
ويعد باب "تفسير حروف المعاني" [37] من مشكل ابن قتيبة مرجعًا رئيسًا في أدوات العربية، حيث بيَّن فيه استعمال الحرف مكان حرف آخر في القرآن الكريم، وكان يرفد حديثه بشواهد من الشعر العربي الفصيح، وكان لدراسته أكبر الأثر في توجيه حروف المعاني في القرآن، وقد ساعده على ذلك تمكُّنه من ناحية العربية، واطلاعه الواسع على لغة العرب.
- 11وأسهمت "معاجم اللغة" المنهجية في بيان المعاني المحتملة للمفردة القرآنية، وأوردت أقوال أهل اللغة في ذلك. ومن المعروف أن عملية الجمع المنظَّم لمفردات اللغة وترتيبها في مصنفات معجمية أفادت الدراسات القرآنية إفادة واسعة؛ من حيث إنها قدّمَتْ فيضًا من الشواهد والأقوال واللغات التي تدور حول المفردة القرآنية، ولاتخلو هذه المعاجم ولاسيما المطولة منها من تفسير غريب القرآن، وضبط ألفاظه، وبيان لهجات العرب المختلفة.
ومن هذه المعاجم "تهذيب اللغة" للأزهري، و "لسان العرب" لابن منظور، و "تاج العروس" للزبيدي. ومن أمثلة الصلة الوثيقة بين هذه المعاجم وتفسير كتاب الله أن صاحب "اللسان" في مادة "يأس" تعرضَّ لاختلاف أهل اللغة في معاني اليأس وهل يكون بمعنى العلم ؟ وأشار إلى اختلاف المفسرين في قوله تعالى: ?أفلم يَيْئَس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعًٌ? [الرعد:31] وما ينجم عنه في توجيه الآية، وسَمَّى طائفة من القبائل العربية التي تستعمل اليأس بمعنى العلم، وعرض شواهد من الشعر العربي الفصيح التي تدعم هذا الاستعمال.
والواقع أن باب اللغة واسع، بذل السلف من خلاله جهودًا طيبة أسهمت في فهم التنزيل العزيز وتدبُّر آياته، ولم تنقطع هذه الدراسات عبر القرون والأجيال التالية، وحَسْبُنا من القلادة ما أحاط بالعنق.(/)
الهوامش
[1] الصعقة الغضبية في الرد على منكري العربية للطوفي 236 .
[2] لغة القرآن للدكتور إبراهيم أبو عباة 16 .
[3] لغات القبائل 46 .
[4] الدر المصون 7 / 51-53 .
[5] أثر القرآن في تطور النقد العربي 165 .
[6] الأضداد 1 .
[7] الأضداد 8 .
[8] الأضداد 23 .
[9] المشترك اللغوي للدكتور توفيق شاهين 15 .
[10] انظر : المزهر 1 / 369 .
[11] المشترك اللغوي 28 .
[12] الصاحبي 114 .
[13] الكتاب 1 / 24 .
[14] فصول في فقة العربية 334 .
[15] المفردات 110 .
[16] فصول في فقه اللغة 359 .
[17] فصول في فقه اللغة 359 .
[18] المعرب 91 .
[19]المعرب 92 .
[20]المعرب 122 .
[21] تفسير غريب القرآن 4 .
[22] المفصل في تاريخ النحو العربي 17 .
[23] تفسير غريب القرآن 69 .
[24] الفروق 2 .
[25] الفروق 203 .
[26] الفروق اللغوية وأثرها في تفسير القرآن 82 .
[27] تفسير الطبري 10 / 134 .
[28] المذكر والمؤنث 87 .
[29] المذكر والمؤنث 306 .
[30] المذكر والمؤنث للفراء 87 .
[31] البرهان 1 / 342 .
[32] القطع والائتناف للنحاس 11
[33] القطع والائتناف 97 .
[34] أثر القرآن في تطور النقد العربي 114 .
[35]تأويل مشكل القرآن 22 .
[36] تأويل مشكل القرآن 65 .
[37] تأويل مشكل القرآن 517(/)
قاعدة التصحيح القرآنية
لمفاهيم المصطلحات العربية العشوائية
بقلم : جلول دكداك - شاعر السلام الإسلامي
( عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية )
نشر هذا المقال على الصفحة 7 من العدد 238 من جريدة " المحجة " المغربية
بتاريخ 23 جمادى الأولى 1426 ( 01 يوليو ز 2005)
***
( التنطع ) - ( التطرف ) - ( الغلو ) - ( العنف ) - ( الإرهاب ) ... مصطلحات كثيرا ما تحشر في خانة واحدة. فهل هي كلها تعني فعلا المعنى نفسه ، أم كل منها يمثل جزءاً من معنى عام مشترك ، أم الأمر غير ذلك تماما ؟
إن المتتبع لشأن اللغة العربية بين قومها سرعان ما يكتشف أن الناس - بما فيهم بعض علماء اللغة أنفسهم - لم يعودوا يهتمون كثيرا بما قد يوجد بين مفردات اللغة العربية من تفاوت و اختلاف في المعنى؛ و كأن الألفاظ قد أصبحت كلها مترادفة ! فهل في اللغة العربية مترادفات حقا ؟ لو كان ذلك صحيحا لاختلط الأمر على الناس اختلاطا شديدا ، و لالتبس عليهم الفهم التباسا كبيرا قد يفضي في أحيان كثيرة إلى نقيض المقصود منه تماما. و لو كان الأمر كذلك لما اختار الله - سبحانه - هذه اللغة لوحيه المنزل على عباده. فلا بد ، إذاً ، أن يكون الأمر غير ذلك.
نعم لا مشاحة في المصطلح.. ، و لكن المشاحة ..كل المشاحة في مفهوم المصطلح. و لا معنى للترادف في اللغة إلا بقدر ما يكون بين المفردات من تقارب في الجدع المعنوي المشترك دون أن يصل هذا التقارب إلى تطابق في المعنى. فكل مفردة مستقلة بذاتها تلون جانبا من المعنى بلونها الخاص و لا تعتدي بتاتا على جاراتها. و هذه السمة هي التي ميزت اللغة العربية بدقتها البالغة و تصويرها الوجداني العميق.
فالخوف غير الرهب ، و الرهب غير الرعب ، و أسماء ( الأسد ) ملك الغابة ليست مترادفة إلى حد التطابق، إذ لا شك في أن كل اسم من هذه الأسماء يتميز فيه المسمى بصفة لا توجد في أسمائه الأخرى : ليث، ضرغام، هزبر، أبو أسامة، سبع ... و مثل ذلك يقال عن مستويات الخوف: فالخوف أنواع منوعة هي- على سبيل المثال لا الحصر - : خوف بلا زيادة، و خوف مع رهب، و خوف مع رعب، و خوف مع فزع، و خوف مع هلع، و خوف مع فرَق، و خوف مع جبن، و خوف مع خجل، و خوف مع حياء، و خوف مع خفر، و خوف مع إغضاء، و خوف مع هيبة، و خوف مع رهبة - و الرهبة غير الرهب - ، و خوف مع ردع، و خوف مع توجس ، و خوف مع ترقب، و خوف مع تهرب، و خوف مع خشية...
أما مستويات التخويف فقد بينتها بتفصيل دقيق في شجرة رسم بياني سميتها : [ ميزان تمحيص مفهومالمصطلح العربي القرآني : إرهاب ] ، فليرجع إليه من شاء في آخر هذا المقال(ص 32 )، بعد أن يقرأ هذا التعليق :
" لقد كنت من قبل قررت في بحث سابق أنَّ أنسَب مصطلح عربي لترجمة مفهوم التيرورسم terrorisme هو[ الحِرابة ]؛ لكن ميزان التمحيص الذي أعددته لقراءة جديدة في المفهوم و الظاهرة قد كشف لي أن التيرورسم terrorisme أشد إفسادا من الحِرابة نفسها. و بناء على هذه النتيجة التي أفضت إليها مقدمات البحث الجديد ، أستدرك فأقول بأن مفهوم هذا المصطلح الغربي لا يوجد له مقابل دقيق في اللغة العربية ، و لا يمكن ترجمته ، و لا حل لمعضلته إلا أن نعبر عن مفهومه بلفظه نفسه معرَّبا هكذا : تيرورسم؛ و أن نجعل الصفة منه أيضا بلفظه هكذا : [ تيروري..تيرورية ..تيروريون و تيروريات ..و أعمال تيرورية..] على غرار قولنا: تكنولوجي..و إلكتروني.. و هلم جرا. و هذا ما لجأ إليه الغربيونأيضا عندما استعصى عليهم أن يترجموا مفهوم المصطلح العربي الفلسطيني : انتفاضة ، فاستعملوه في لغاتهم كما هو منطوقا بلفظه العربي مكتوبا بحروفهم اللاتينية : Intifada."
و لا شك في أن اللغة كائن حي متطور؛ لكنها جزء لا يتجزأ من كيان الإنسان ، وهي خاضعة في تطورها المستمر للسنن الكونية الربانية التي يخضع لها مخترعها الإنسان. و من أبسط و أقوى البراهين في آن على صحة هذه القاعدة، أن نمو الإنسان لا بد من أن يتوقف بعد بلوغه عمرا معينا يتحدد فيه نضجه البشري، و إلا صار اطراد نموه من دون توقف وبالا عليه . و هذا هو الرد القاطع على أولئك الذين يدعون أن التطور لا ضابط له ، و شأن المفاهيم اللغوية فيه كشأن سائر الكائنات. فلو أن المفاهيم اللغوية لم تكن مستقرة على حال طوال هذه القرون و الأجيال لما استطاعت البشرية أن تبني هذه الحضارة بمدنياتها المختلفة المتكاملة. و بناء على ذلك يمكن أن نجزم بأن انقراض اللغة هو إيذان بانقراض الإنسان الذي يتكلمها.
@@@(/)
من أخطر أنواع الغلو في الدين الغلو في تأويل المفاهيم ، و أوسع أبواب الابتلاء بالغلو الغفلة و الاستعجال. و أخطر ما ابتليت به أمة الإسلام في القرن الخامس عشر الهجري من هذا الغلو ، هو انشغال علمائها عن التفقه و التفقيه في علوم اللغة العربية و أساليب البيان العربي الأصيل. و هذه العلوم هي الأدوات التي يستعان بها لفهم و بيان و تبليغ مقاصد القرآن الكريم و أهدافه و غايته ، و لذلك فكل تقصير فيها هو تقصير في أداء أمانة البيان و التبليغ عن رب العالمين.
و إن هذا الغلو في التأويل لمقاصد التنزيل الحكيم ليتجلى لكل ذي بصر ثاقب و بصيرة نافذة في إصرار معظم العلماء المسلمين في هذا العصر على إقحام مفهوم التيرورسم terrorisme الغربي الدخيل على مفهوم الإرهاب العربي القرآني الأصيل. و منهم من اضطرب بين المفهومين اضطرابا واضحا لا لبس فيه ، حيث أراد أن يبرئ الإسلام من تهمة التيرورسم ، فألصقها إلصاقا بالقرآن الكريم. و منهم من حاول التوفيق فوقع في التلفيق و منه تورط في إفساد اللغة نحوا و صرفا و معنى ، و حمَّل ( آية الإرهاب ) - )و أعدوا لهم مااستطعتم من قوة و من رباط الخيلترهبون به عدو اللهو عدوكم و آخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم( - ما لا تحتمله كي يصرف مفهوم ( الإرهاب ) القرآني بتعسف كبير إلى بني إسرائيل وحدهم !
و إليكم الدليل في مقتطفات من مقال بعنوان [ مفهوم (( الإرهاب )) في القرآن الكريم : مقاربة لدراسة دلالة المصطلح القرآني ]، نشر على صفحات العدد 475 - ربيع الأول 1426 من مجلة ( الوعي الإسلامي ) التي تصدر في الكويت. ( انظر شكل رقم 1 على الصفحة33 الخاصة بالمقتطفات ). و سأبرهن على صدق ادعائي عن طريق منهج تحليلي مركز لن يبقى معه شك- إن شاء الله تعالى - في صحة ما ذهبت إليه. و من الله العليم الحكيم أستمد العون و أرجو التوفيق و السداد و الصواب في الاجتهاد :
يعلَم أولا من عنوان المقال أنه ( مقاربة لدراسة ) ، و ذلك معناه أن الكاتب لا يعتبر نتيجة اجتهاده في المسألة حاسمة و لا ملزمة. و هذا تلطف منه و اعتراف باحتمال وقوعه في الخطإ، و ذاك، لعمري، من أدب العلماء، يحسب له لا عليه، سواء أأصاب أم أخطأ.
و لقد تعمدت أن ألحق بمقالي المقتطفات التي أستشهد بها مصورة عن أصلها من المقال المنقود و مرقمة حسب تتابعها في الأصل حرصا مني على الدقة و الأمانة العلمية.
أما الفكرة المحورية التي دار حولها الكاتب دورات متكررة لفظا و معنى دون أن يصل إلى تحديد المفهوم القرآني الصحيح للمصطلح العربي ، فهي أنه أراد أن يثبت بأي ثمن أن (( الإرهاب )) من اختصاص بني إسرائيل و أنه لا يختلف في مفهومه العربي القرآني عن مفهوم (( التيرورسم terrorisme )) إلا بكونه يصبح من حق المسلمين أيضا أن يمارسوه بجميع أشكاله و ألوانه المرفوضة التي تمارس عليهم في حالة اضطرارهم إلى الدفاع عن أنفسهم.
و لقد بالغ الكاتب في البحث عن قرينة ينفي بها ( الإرهاب ) عن الإسلام و المسلمين، و ذلك مما اضطره إلى تكرار كثير من ألفاظ مقاله و معانيه؛ و لما لم يجد شيئا لجأ إلى التعسف على لغة القرآن الكريم،(/)
فعمد إلى بناء الفعل ( ترهِبون ) الذي ورد في سياق (آية الإرهاب): )..و أعدوا.. ( ، إلى المجهول ، رغم وجود مفعوله الظاهر البارز المتعدد :..عدوَّ الله و عدوَّكم و آخَرين.. ؛ ليقنعنا رغم أنوفنا بأن المسلمين هم الذين وقع و يقع عليهم الإرهاب من اليهود منذ القديم بشهادة القرآن الكريم. و قد حسبت في بادئ الأمر
أن هذا الكلام الخطير المختل الخارج عن قواعد اللغة في نحوها و صرفها مما يتسرب عادة من هفوات المطابع؛ لكنني وجدته يكرر الكلام نفسه في مكان آخر ؛ فلم أتمالك نفسي من العجب و الاستغراب لأمره و لأمر من نشر مقاله دون تمحيص !! ( انظر شكل رقم 2 و الفقرة الثالثة من شكل رقم 3 على الصفحة 33).
و ختم الكاتب مقاربته بعنوان عريض خطير جدا هو : [ تعريف الإرهاب في المفهوم القرآني ]، ساق تحتهكلاما هو في حقيقة مبتدإه و منتهاه تعريف دقيق لمفهوم المصطلح الغربي (( تيرورسم terrorisme )) لاالمصطلح العربي القرآني (( إرهاب )). ( انظر الفقرة الثالثة من شكل رقم 4 على الصفحة 33 ).
C تعقيب :
إن المفهوم العربي القرآني للمصطلح العربي القرآني (( إرهاب )) هو :
إعداد قوة وقائية لردع الأفعال العدائية بتخويف عادل من أجل استتباب سلام حقيقي يتحقق في كنفه ازدهار عام تكون عاقبته نجاة الناس كافة من خزي الدنيا و عذاب الآخرة .
و قد عبر الغربيون أنفسهم في أدبياتهم عن هذا المفهوم الذي تضمنته آية الإرهاب بقولتهم الشهيرة التالية : [ Si tu veux la paix prépare la guerre.]. [ إذا كنت تريد السلام فاستعد للحرب. ].
أما المفهوم الغربي للمصطلح الغربي اللاتيني : (( terrorisme )) فهو :
الاستباق إلى إعلان حرب وقائية لمعاقبة النوايا الخفية بتدمير شامل للأبرياء يرغم المستضعفين على الاستسلام للأقوياء ، و يؤدي إلى انهيار تام تكون عاقبته هلاك الناس جميعا.
و هذا ما أصبح يعبَّر عنه في الغرب على لسان زعيم التيرورسم الأكبر بـ (( الحرب الاستباقية ))، و كأن السادة الغربيين الأقوياء قد آثروا أن يستبدلوا بقولتهم القديمة الشهيرة ، قولة جديدة مواكبة لأطماعهم في خيرات الغير هي: [Si tu veux la paix déclare la guerre. ].[ إذا كنت تريد السلام فأعلن الحرب. ]
و هكذا تكون مقاربة الكاتب المحترم لدراسة دلالة المصطلح القرآني قد تحولت من حيث لا يدري إلى مباعدة لا قبل له بها. و أرجو له أن يكون قد فاز منها بأجر المجتهد المخطئ.
ألا ، فهل من مدكر ؟ أم على قلوب أقفالها ؟
@@@(/)
لا شك في أن المتهم في هذه القضية الكارثية الكبرى ليس الحكام و لا الشباب المسلم المتطرف و إنما هم العلماء المسلمون المقصرون في أداء واجبهم كاملا تجاه لغة القرآن الكريم. و تصوروا معي أن يبرهن جميع علمائنا عن شجاعة أدبية نادرة، و يبادروا كلهم جميعا إلى تصحيح خطإ الإصرار على الخطإ فيتفقوا على ما ثبتت صحته بالحجة الدامغة و يعلنوها صحوة حقيقية صادقة و كلمة حق صادعة ، و توبة نصوحا عن تقصيرهم في أداء أمانة البيان و التبليغ ..ثم يقولوا بلسان واحد موحِّد متحد على رؤوس الملإ : " نعم.. لا
( تيرورسم ) في الإسلام .. و ( الإرهاب ) دعامة للسلام .. و هو إعداد لقوة وقائية لا إعلان لحرب استباقية.. و هوتخويف عادل باحتمال وقوع الأذى على المعتدين لا على الأبرياء؛ و الغاية منه أن يحذر الناس بعضهم بعضا لا أن يقتل بعضهم بعضا...
فإن أخطر ما نتج عن الغلو في تأويل المفاهيم غلو في التطبيق كان أدهى و أمر؛ إذ لما استساغ العلماء المسلمون غلوهم في تأويل مفهوم مصطلح ( الإرهاب ) كان لا بد من أن يستسيغ المتنطعون و المتطرفون الجاهلون غلوهم في التطبيق، حتى إننا أصبحنا نسمع من يدعي جهارا نهارا أن الله يأمر المسلمين بكل أنواع (( التيرورسم )) البشعة ، و أن ذلك من صميم الجهاد في سبيل الله ؛ لأن (( الإرهاب )) صار عندهم ندا للتيرورسم إن لم يكن هو الأسوأ !!
..و اللهِِ لو اتفق العلماء على الرجوع إلى هذا الحق المبين ، و ثابروا على بيانه و تبليغه إلى الناس كافة بجميع لغاتهم و لهجاتهم كما أمر الله - عز و جل - لاستتب الأمن و الأمان، و لتيسر تحقيق سلام إسلاميعالمي يسعد في كنفه كل الناس مهما اختلفت أجناسهم و لغاتهم و عقائدهم و أوطانهم .
@@@(/)
... فإذا كان الأمر كذلك، فما هو المخرج من هذا المأزق الهالك ؟
إذا كان المسلمون لم يتمكنوا من إنشاء جامعة إسلامية تلم شتاتهم في سياسة الحكم و الاقتصاد و الاجتماع ، فإنه لمن أوجب الواجبات عليهم شرعا أن يبادروا إلى إنشاء (( مجمع لغوي عربي إسلامي )) موحد يكون المختبر العلمي الدقيق و المعمل اللغوي الوثيق و المصدر الأساس لكل المفاهيم العربية الإسلامية الأصيلة ، بناء على قاعدة متينة ذات سبعة أركان هي :
1- القرآن هو الأصل الأصيل الثابت لكل جذور و جدوع المفاهيم العربية في الماضي و الحاضر و المستقبل. و لذلك يجب تمحيص المفهوم العربي لأي لفظ على ضوء ورود جذره المعنوي في شمولية القرآن الكريم و السنة النبوية الصحيحة ، بعموم اللفظ و خصوصه.
2- أن يوضع تخطيط دقيق لإستراتجية بعيدة المدى تمكن من ضبط المفهوم العربي مستقلا عن المفاهيم الأجنبية الدخيلة وفقا لتعاليم الإسلام الحنيف ، مع الاحتراز من الوقوع في سوء التأويل الذي يفضي إلى انتهازية مقيتة و استغلال مغرض للمفاهيم الخاطئة.
3- أن يستقطب للمشاركة في تحديد المفهوم الدقيق لما تدعو إليه الحاجة من مستجدات ، كل المهتمين بالشأن اللغوي خاصة ؛ و أن لا يقتصر الأمر على ذوي الاختصاص من العلماء فقط، إذ من الثابت الذي لا اختلاف عليه أنه قد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر .
4- أن يعرض المفهوم المتفق عليه في مرحلة أولى، قبل اعتماده نهائيا ، على نظر عموم المهتمين من المسلمين عامة و من العرب خاصة، من خلال وثيقة بيان يعمم نشرها و تحدد المدة المناسبة لتداولها بين الناس من أجل الإدلاء بآرائهم .
5- أن يناقش المجمع ما يرد إليه من آراء و اقتراحات وجيهة ، بعد قيام جهاز خاص ، بشري أو تقني أو هما معا، بالغربلة اللازمة و أن لا يحتفظ إلا بما ثبتت أهميته و جديته. ثم يختم مناقشاته باعتماد المفهوم الصحيح نهائيا؛ و يعلن ذلك على العموم في بيان خاص.
6- أن يقوم (( المجمع اللغوي العربي الإسلامي )) بإعادة النظر في معجمه كل سنة مرة على الأقل، قبل أن يصدر طبعته المنقحة الجديدة في صيغ مختلفة من كتب و أقراص إلكترونية ، و كل ما تنتجه المدنية من وسائل نافعة.(/)
7- أن يلتزم كل المسلمين بجميع فئاتهم من علماء و مؤلفين و كتاب و أدباء و مفكرين و أساتذة و مربين و طلبة و إعلاميين و مثقفين و فنانين.. بالاعتماد على (( المعجم اللغوي العربي الإسلامي )) في كل
أعمالهم . و أن يصبح من أجمل عاداتهم أن يستشيروا المجمع اللغوي العربي الإسلامي في ما قد يعترض طريقهم من أمور لغوية تبرز حاجة طارئة إلى فك رموزها و توضيح ما غمض من مفاهيمها.
إن مجمعا لغويا عربيا إسلاميا يقوم على أسس هذه القاعدة السباعية لكفيل، إذا ما تضافرت جهود كل القادرين على إنشائه و تعهده بالرعاية الدائمة ، بأن يضع حدا لإعصار التسيب اللغوي المفاهيمي الذي لم يسلم من أذاه حتى علماء اللغة أنفسهم في هذا العصر المتسارع نحو الانهيار التام لحضارة إنسانية عظيمة أرسى أسسها المتينة المسلمون في كل مكان ؛ ثم تخلوا عنها أو كادوا...
وأرجى ما أرجوه في الختام، هو أن أكون قد ساهمت بهذا العمل الضئيل رغم قلة زادي من العلم ، في تمهيد الطريق لنهضة لغوية مفاهيمية سليمة في إطار المشروع الذي أعلنته في مناسبات أخرى تحت إسم : [ مشروع العودة الصحيحة إلى القرآن الكريم بتصحيح المفاهيم .]، كما أرجو أن يبادر كل من أخطأ في حق القرآن الكريم من العلماء خاصة و من المسلمين عامة ، إلى التراجع فورا عن الإصرار على خطإه متى ما تبين له صواب رأي غيره. و كل بني آدم خطاءون ، و خير الخطائين التوابون.
***
المغرب الأقصى، تازة ، يوم الأحد 4 جمادى الأولى 1426 ( 12 يونيو 2005 ).
جلول دكداك
شاعر السلام الإسلامي
________________________________________________________(/)