|
المؤلف: الشريف الرضى
دار النشر: دار الأضواء ـ بيروت
عدد الأجزاء: 1
تنبيه [ترقيم الشاملة موافق للمطبوع]
تم استيراده من نسخة: المكتبة الشاملة المكية
بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب : تلخيص البيان
المؤلف : الشريف الرضى
دار النشر : دار الأضواء ـ بيروت
عدد الأجزاء : 1
تنبيه [ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]
(1/4)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 5
كلمة الناشر
نبدأ بحمده وشكره عز وعلا على موفقيتنا لإعادة طبع الكتب التراثية الاسلامية النادرة فقد عثرنا على نسخة من كتاب تلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي وقد وجدنا النسخة محققة ومفهرسة وقد بذل جهد على إخراجها وهي نادرة.
وأضفنا إليها ترجمة المؤلف الذي كتبها الحجة الكبير الشيخ عبد الحسين الحلي قدس اللّه روحه فانها ترجمة تستحق التقدير والإكبار وقد صدرنا هذه الطبعة عن طبعة مصرية طبعت في سنة 1955 ونالت إعجاب اهل العلم من حيث التصحيح والتحقيق والفهارس. راجين من اللّه الاستمرار في خدمة التراث.
ربيع الثاني 1406 كانون الثاني 1986 دار الأضواء
(1/5)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 6
(1/6)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 7
ترجمة المؤلف
تمهيد
إني لأرى لنفسي شأنا إذا لبيت دعوة (منتدى النشر) لأمر ينصر العلم والامة العربية ، ويقوّم الثقافة الدينية والأدبية. أرى له المنة عليّ في تشجيعه وتثبيته اللذين تغلبا على ما خالط هواجسي بادئ بدء : من الهيبة والإحجام عن ترجمة هذا الامام السيد ذي المنقبتين.
رهيب ومهيب لدرجة بعيدة هذا الموقف الذي يوقفني فيه أولئك الأفاضل الأفذاذ رجال المنتدى ، لكي أترجم أشهر رجال العراق في عصره بإتقان العلوم الدينية والأدبية وآداب اللغة العربية وبالشمم العربي الهاشمي.
ولو اقامني العلم لأترجم إماما كالغزالي ، او شاعرا كأبي تمام ، او خطيبا مصقعا من فطاحلة الشرق والغرب ، لم آبه أن أخلق لتراجمهم ألفاظا على قدر ، بلا أن أتكلف في تقييد شوارد المعاني مهما بعدت او استعصت ، ولكن خطورة موقفي أني قمت أعرب عن المزايا الفاضلة الجمة التي قلما اتفق اجتماعها في عظماء القرن الذي عاش فيه الشريف :
بتحيل نفسيته واستصفائها من الكدر الذي استقر في أعماق الكتب القديمة. وكيف أستطيع تحليل تلك النفسية الممتنعة الفتانة ، والإفصاح عن شيء من نوازعها الجميلة ، والأفكار تمثل لي كل آن ذلك الهيكل الذي تقوم به قد جللته الكبرياء والعظمة وحاطه من شرف النفس
(1/7)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 8
وكرم الاحساب سياج يمنعه من تسرّب الافكار اليه ، والوقوف على برض من عدّ من غرر الخصال التي تفرّد بها. وكيف لي مع هذا أن أقف على مساويه - لو كانت - التي أحرص على إبدائها! ومن لي أن تنفتح أمامي الأبواب التي يتطرق القدح منها إليه! ولئن كنت لا أعتمد إلا أن أفهم ويفهم القارئ من هو «الشريف الرضي» ، بلا أن أتعرض لمدحه أو ذمه ، لأن المدح والذم ليسا مما يتناوله فن التأريخ ، فلست في سعة من تركهما ، إذا كان المترجم مستأثرا بعمل يستوجب الإطراء ، أو مستبدا بما يستدعي المؤاخذة وإذا استطعت أن استخلص أفكاري من مصائد عظمة الشريف ، فسوف أقرر حياته كما هي بلا إطراء ولا إزراء.
أترجم الشريف أو أفهرس أدوار حياته بجميع مناحيها ، في صحيفة من صحائف أيامي الأخيرة ، وليس بين يدي من معين سوى ديوان شعره الضخم ، وعدة نزرة من المصادر ، محاطة بذكريات لقدمها وتكررها لم تذهب ذهاب ما هو أهم منها وأنفس ، لأني لا أريد أن أعتمد في غالب ما أتوخاه فيها على أقاصيص السيرة وأقاويل التأريخ الفارط التي هي روايات فقط ، وخالية عن كل فقه تأريخي ، والروايات أجدر أن يتطرق إليها الشك ، ولا يعتمد منها إلا على ما يشهد ذلك الديوان بصدقه ، وإلا ما يتفق منها ونتائجه بظاهره أو قرائن أحوال تتصل به. إذا فهو أوفر المصادر نفعا ، وأشدها الى تحقيق الفقه التأريخي قربا.
ولست بناس مع هذا أن الشعر خيال لا ظل له ، ولا يجدي التعمق فيه في استنباط أيّ قضية مجهولة كما أني لا أغفل عن أن فهم حياة أيّ
(1/8)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 9
فرد وجماعة فهما منطقيا يتوقف كثيرا على الاستعانة بالمنطق ، وعلى الأخذ بالنصيب الأوفر في علم النفس للأفراد وللجماعات ، للاستظهار بهما على فهم روحه من شعره ، وعلى إتقان فهم ملكاته من آثاره.
لكني إذا اقتنعت من هذا بالطفيف ، فان في تكرر الأشياء وتأكدها بالأشباه والنظائر وبقرائن الأحوال ، كفاية في تحليل القضايا المبهمة ، واستيضاح الاحكام الغامضة. وعند ما كمل ما توخّيته كتابا لا يستهان بمقداره ولا يستصغر حجمه ، انتقيت منه بمحضر أفاضل رجال المنتدى الموقر هذه النّبذة التي تتقدم أمام كتاب من اجلّ تصانيفه ، ومنه جلّ شأنه آمل المعونة والتوفيق.
نسبه وتأثيره في نفسيته
: الشريف الأجل الرضى ابو الحسن محمد : ابن أبي احمد الطاهر ذي المنقبتين الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن ابراهيم المجاب بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي السجاد بن الحسين السبط الشهيد بن علي امير المؤمنين. لا قعدد مثل أبيه في علوّ النسب وصراحته ورسوخ جذوره إلا الإمام المهدي الذي هو الخامس من ولد موسى بن جعفر. وفي نحو من هذه المرتبة ينتهى نسبه من قبل امه (فاطمة بنت الناصر نقيب بغداد «1») ، الى الامام السجاد ذي الثفنات ، في سلسلة نبيلة ، حلقتها الأولى عمر الأشرف بن على بن الحسين ، والاخيرة
__________
(1) له كتاب المسائل الناصرية في أبواب الفقه على مذهب الامامية ، مائتا مسألة وسبع مسائل.
(1/9)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 10
ابو محمد الحسن الملقب بالناصر الأصغر.
و مهما جاز الشريف من رفعة الاحساب نصيبا ، فإن لهذا النسب الناسق الكريم أثر بليغ في ترفعه وشممه ومحاولاته ، وفي عواطفه وميوله. وإذا استعرضنا من فخرياته ما يدلّ فيه بنسبه ويتمجد بآبائه ، نزداد بصيرة في أن ذلك هو السبب الوحيد لأن يرى نفسه كفؤا لتسنم عرش الخلافة وتبوّؤ أرائكها ولقد أغرب حتى خاطر بنفسه في ذلك الإدلال ، حينما يدعو الطائع العباسي أبرّ الخلفاء به وبأبيه ، بالأرعن المتسامي ، ولا يعترف له بأي مزيّة توجب التقدمة ، حيث يقول في مادحة لابيه :
ألا إنني غرب الحسام الذي ترى وغارب هذا الأرعن المتسامي
كلانا له السبق المبرّ الى العلا وإن كان في نيل العلاء أمامي
و ما بيننا يوم الجزاء تفاوت سوى انه خاض الطريق أمامي
و بنحو هذا جابه القادر في أبيات مشهورة ، على ما بينهما من الحال القلقة.
إن الشموخ بذلك النسب الوضاح قد أثر في خيال الشريف وشعوره ، فنفخ فيه روحا فاخرة ، ولذلك لا نجده يتجه بكله مرّة الى نظم شيء من شعره ، إلا وتجتذبه تلك الروح القوية ، فتطبع شعره بطابع الفخر الذي مازج شعوره ، وهذا أحد الأسباب التي خوّلته البراعة في الشعر الفخري الحماسي من بين فنون الشعر ، حتى احتكرت له سرير الامارة الممهد.
بأولى النظرات في ديوانه. تجد البذخ قد أخذ بأطرافه ، وأفعم أجوافه ، حتى غص به. ويدلنا قول المطهر بن عبد اللّه وزير عضد
(1/10)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 11
الدولة ، لأبى أحمد - وهو يلقي القبض عليه ليعتقله في القلعة بفارس - :
«كم تدل علينا بالعظام النخرة» ، على صدق المثل السائر (الولد على سرّ أبيه). وإن للشريف من الفخر بنفسه من أخلاق وملكات عالية يمتاز بها عن غيره ما يغنيه عن التمجد بآبائه ، وكفى أن نثبت له في هذه النبذة ما ينبئ عنه قوله :
ملكت بحلمي فرصة ما استرقّها من الدهر مفتول الذراعين أغلب
فحسبي أني للأعادي مبغّض وأني إلى غرّ المعالي محبب
وقور فلا الالحان تأسر عزمتي ولا تمكر الصهباء بي حين أشرب
و لا أعرف الفحشاء إلا بوصفها ولا انطق العوراء والقلب مغضب
تحلّم عن كرّ القوارص شيمتي كأن معيد الذم بالمدح مطنب
لساني حصاة يقرع الجهل بالحجى إذا نال مني العاضة المتوثب
و لست براض أن تمس عزائمي فضالات ما يعطى الزمان ويسلب
غرائب آداب حبانى بحفظها زمانى وصرف الدهر نعم المؤدب
مولده. نشأته. أسرته لابيه. أسرته لامه
: ولد الشريف في مدينة السلام : مدينة الثقافة وعاصمة الشرق ، سنة 359 ه ، ذلك الزمن الذي امتدت إليه حضارة عصر المأمون ، وأخذ بنصيب وافر من أبهته وجلالة العمران فيه فاستهل في حجور سامية ، ودرّت عليه فيها أخلاف العفاف الهاشمي ، ودرج من أحضان الحصانة والامانة الى ظل ووارف من الزعامة والعظمة ، فنشأ كما يقول :
(1/11)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 12
فتى لم تورّكه الإماء ولم تكن أعاريبه مدخولة بالأعاجم
و شب ، وقد استفاد ثقافته النفسية من ذلك المحيط المفعم بالنقباء والأمراء ، والعلماء والأدباء : هم اسرة أبيه بني «موسى بن جعفر الصادق» امام الفقهاء ، واسرة امه بني الناصر الكبير ابى محمد الحسن الأطروش صاحب الديلم شيخ الطالبيين وعالمهم وزاهدهم وأديبهم ومالك الأمر في بلاد الجبل كله. ونحن لا نغفل عما للاسرة التي تحيط بالرجل ، وما للبيئة التي يعيش فيها ، من التأثير في تربيته في ناحية العلم والأدب وغيرهما ، بل ليس هو إلا ثمرة من ثمار ذلك العصر الذي ولده ، ونامية من ناميات تلك الأرض التي درج عليها ، ولسنا نحتاج أن نذكر الدين ، فان تأثير التربية والبيئة فيه أظهر من أن نشير اليه. وما عليّ إذا تركت المقال في غير الاسرة لغير هذه النّبذة التي لا تناسبها الاطالة! أما أسرة امه ، فهم اسرة علم وادب وقضاء وفروسية ونسك ورواية ، ومنهم من دوّخ البلاد بحروبه طمعا في الخلافة والملك ، وتم لبعضهم ذلك في الطالقان وفي جبال الديلم «1» وإياهم يعني الشريف بقوله في مرثية أمه :
آباؤك الغر الذين تفجرت بهم ينابيع من النعماء
من ناصر للحق أو داع الى سبل الهدى او فارج الغماء
و ما كان الشريف - وهو محاط بالمناوئين والحساد - ليقول في
__________
(1) صاحب الطالقان هو محمد بن القاسم الصوفي الزاهد ، والذي ملك الجبل هو الناصر الأكبر الأطروش.
(1/12)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 13
هؤلاء ما لا يعرفه لهم الناس او ما ينكرونه ، ولعل الكثير من الناس يومئذ رآهم وعرفهم. أما نحن إذا غمّ علينا أمرهم من التأريخ الذي ينوّه بأقدارهم ، فان الشريف نفسه يجلو لنا الحقيقة الناصعة بقوله من مرثية خاله وقد توفى سنة 391 :
من القوم حلوا في المكارم والعلا بملتف اعياص الفروع الأطايب
فما شئت من داع الى اللّه مسمع ومن ناصر للحق ماضى الضرائب
هم استخدموا الا ملاك عزا وأرهفوا بصائرهم بعد الردى والمعاطب
وهم انزلوهم بعد ما امتدّ غيّهم جماحا على حكم من الدين واجب
و اما اسرة أبيه ، فلقد كانت تقترب كثيرا من اسرة الخلافة في الابهة والسلطان ، ويكفي من ذكرها - لمعرفة مقدار تأثره بها في التربية والأخلاق - ان نذكر أباه (أبا احمد) ، الذي ارتبى في كنفه وفي ظل منعته ، وإذا نحن فتشنا عن حاله اصدق المصادر نجدها تثبت له نسكا مشهورا وهيبة ووقارا ، وارادة قوية وعصبية شديدة ، وأصالة رأي وجدّ في الأعمال ، يستطيع بها ان يتلاعب بالدولة ، ويتجرّأ على مقدراتها. ولهذه الصفات وهذه الملكات سفر ايام (معز الدولة) بينه وبين الأتراك ، الذين يحاولون ان يستردوا صولجان الحكم الذي كان بأيديهم في العاصمة. وتوسط الصلح بينه وبين ابى تغلب بن حمدان ، لما شغب في أطراف الجزيرة. وفي ايام (بهاء الدولة) سفر بينه وبين صمصام الدولة ، وهو بفارس. وفي هذه السّفارة يقول ولده في احدى روائعه :
رموا به الغرض الأقصى فشافهه مرّ القطامي جلّى بعد ما لمحا
(1/13)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 14
من العراق الى أجبال خرّمة يا بعده منبذا عنا ومطرحا
و أسندت اليه النقابة مرارا «1» ، وتولي المظالم وإمارة الحج ، ولقب بالطاهر ذي المناقب ، والطاهر الأوحد ولم يلقب بذلك طالبىّ قبله.
وليست هذه المناصب وتلك المناسب هي التي تأخذ بضبع أبى أحمد الى الطول وتولد له العظمة ، بل هو نفسه من رجال الطالبيين الذين اسهموا بالكرامة والجد بالأعمال الجليلة ، ومن الذين تتصل الملوك بهم لتصريف سياستها كما تريد. وناهيك بندبة الخلفاء إياه لتسكين الفتن التي لم تزل متتالية في العاصمة ايام ملوك الديلم كافة بين العسكرين البغدادي والفارسي. وبين الفريقين الشيعة والسنة ، فان ذلك لا يتولاه ذو الجاه المستفاد من السلطان ، والرهبة المجتلبة من القوة فقط ، لأنه يقع بالرغم على ذلك بكثرة ، بل الرجل الذي له مع السلطة والنفوذ أصالة الجاه والرأي معا ، لتحترمهما الخاصة وتذعن لهما العامة والى بعض هذه الفتن يشير ولده الشريف بقوله :
وخطب على الزوراء ألقى جرانه مديد النواحي مدلهمّ الجوانب
سللت عليه الحزم حتى جلوته كما انجاب غيم العارض المتراكب
لولاك عليّ بالجماجم سورها وخندق فيها بالدماء الذوائب
__________
(1) في شرح النهج انه ولي نقابة الطالبيين خمس مرات ، ومات وهو متقلدها. وهذا وهم منه ، بل قد تولاها ولده في حياته مرارا وبعد وفاته كما سيمر عليك.
(1/14)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 15
و لتأييد الأدلة على رفعة أبي احمد في نفسه ، علينا أن نلتفت الى توليه إمارة الحج ، التي لا يكفي في استلامها ، وفي القيام بالواجب من شئونها ، أن يكون الأمير ذا جاه مستفاد وذا قوّة مسلحة ومزوّدة بالمال والعتاد ، فان هذا وحده لا يمكّن الأمير من قطع البوادي المترامية التي يتقلص عند التوغل بها نفوذ السلطان ، ولا تنفع فيها القوة والمال مهما توفّرا ، بل لا بد له مع ذلك ان يكون مهابا في نفسه وشجاعا ذائع الصيت ، وان يكون ذا كرامة شخصية وجاه واسع ، وذا صلات قويّة بسراة العرب المتنفذين بأقوامهم ، في تلك البوادي وتلك المضائق والشعاب ، التي لا تجوزها قافلة تحمل الأزواد والأمتعة إلّا بخراج او إتاوة ، او برجل يجير على كافة أهلها.
انا لا يهمني تحديد كرامة ابى احمد الاجتماعية ، لو لا العبور منها الى تربية ولده ، وقد أستدرك على نفسي الإطناب في استنتاجها من تلك المبادئ المرتبكة. ولكن لو حدّدنا كرامته بمفاخر الأسرة ومآثر البسالة والفتوّة ، وما ينضاف الى ذلك من الترفع عن منازع الأطماع والشموخ بغرر الأيادي ، فقط ، لكان كافيا في الحكم على تربية ولده الشريف بالصحة من كل ناحية فكيف وقصيدته المستهلة بقوله : «وفوا بمواعيد الخليط وأخلفوا» توسّع الدائرة في كرامة أبيه إلى أبعد من ذلك الحد : ففي القصيدة سفاراته وتوسطاته للاصلاح ، وفيها حروبه وإماراته ، وفيها ما في غيرها من مآثر الفتوة والبسالة وما ينضاف إليها ، ونحن إذا رأينا الشريف يمتن بأبيه كثيرا على شرف الدولة وبهاء الدولة ،
(1/15)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 16
كما يمتن لنفسه ، او كما يتضرر بقوله للبهاء :
ما كان طوقك في جيدي مكان حلى وإنما يستعار الحلي للعطل
و قوله :
ولي حق عليك فذاك جدّي قديما في رضاك وذا ثنائى
نذعن لهما بكرامة ذاتية ومجد عصامي لم تجلبه الإمارة ولا النقابة.
أدوار حياته
[1] الدور العضدي. وهو دور النكبة
:
قضى الشريف اربعة عقود من عمره مع أبيه ، وكان يتصل بأعماله اكثر من أخيه «الشريف المرتضى» لأن المرتضى رغب ان يتجرد للحياة العلمية المحضة ، مهما كانت حياتهم الاجتماعية قلقة والسياسة مضطربة ، ولو كان له اتجاه سياسي لم يعز عليه شيء من محاولات أبيه. أما الرضي فيحدثنا جامع ديوانه أنه قال وهو ابن عشر سنين :
المجد يعلم أن المجد من أربى ولو تماديت في غيّ وفي لعب
إذا هممت ففتش عن شبا هممي تجده في مهجات الأنجم الشهب
إنى لمن معشر إن جمّعوا لعلا تفرقوا عن نبي او وصي نبى
إن شعر الشريف في صباه كما ينبؤنا أنه سيكون له مستقبل باهر وحظ وافر في ناحية الاجادة والإتقان ، يمثّل لنا منه عقلية كبيرة نافذة ، وإحساسا نابضا ، ونفسا أبية صعبة المراس ذات اتجاهات واسعة وعالية
(1/16)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 17
في السياسة. وكانت الأمراء وعامة رجال الدولة تقدمه على أخيه ، وترفعه عليه في الإعزاز والاحترام ورعاية الجانب ، لما تحسه فيه من الإباء والعزة والفتوة - او على ما يقوله صاحب العمدة : «لمحله من نفوس العامة والخاصة» - وعدم قبول أيّما صلة وقصته مع الوزير المهلبي المشهورة تشهد بذلك «1».
ولكنه بالرغم على تلك المخائل والإحساسات القوية ، لما فتح عينيه ينظر الى الحياة الحقيقية وجد عضد الدولة - عدوّ أبيه - هو المتصرف المطلق في مدينة المنصور ، وعمره يومئذاك ثمانى سنين ، قضاها في ظل أبيه وحشمة معز الدولة ، حتى تم له ثماني عشرة سنة هي آخر ملك صمصام الدولة التابع لأبيه العضد في الولاء والعداء مهما خفت وطأته.
وهذا من أسوإ الأدوار التي مرت على الشريف وأشدّها بؤسا ، فان أباه وعمه (أبا عبد اللّه احمد) منفيان بفارس ومعتقلان في قلعة منها ، وأملاكهما مصادرة ، واحباؤه واصحاب أبيه قد فتكت بهم تدابير عضد الدولة وعمل فيهم مكره ، فيهم بين حبيس وقتيل.
و قد ذكر عمه وأباه واطراهما عام الاعتقال بقصيدة : «نصافي الأماني والزمان معاند» فانه في أثناء إطرائه لأبيه يقول :
فأقبل والدنيا مشوق وشائق واعرض والدنيا طريد وطارد
و ساعده يوم استقل ركابه اخوه وقال البين : نعم المساعد
__________
(1) ذكرها صاحب العمدة في كتاب النسب وشارح النهج عن محمد ابن إدريس الحلي.
(1/17)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 18
هما صبرا والحق يركب رأسه عشية زالت بالفروع القواعد
و بعد الإفراج عنهما مدحهما بالمستهلة بقوله : «من الظلم أن نتعاطى الخمارا» ، ومنها قوله :
إذا سالم الموت نفسيكما فلا حارب الدهر الا اليسارا
أصابتكما نكبة فانجلت وعاودتما العزّ حتى الديارا
لئن جلتما في مكرّ الزمان فبوّا كما من مداه العثارا
فما يقرع الجهل إلّا الحليم ولا ينكت الخرق إلا الوقارا
تفرّق ما لكما في العدا وشخصكما واحد لا يمارى
إن أبا احمد في دور المستكفي العباسي كان يتمنى لمرتبة بعيدة استيلاء (معز الدولة بن بويه) على عاصمة المنصور ، لما كانت تربطه به وبولده (عز الدولة بختيار) وشائج المصاهرة. ولكن هذه العلة بالمرتبة الثانية من بغضه للحكم التركي الذي كان يدير دفّته (تورون) وأضرابه البعداء عن ابى احمد وعن العرب ، ولذلك ما كان ابو احمد يلوم نفسه إذا سيّر لمعز الدولة وهو بفارس أنباء العاصمة واستنار همته لامتلاكها وسهل له سبيل ذلك ، او إذا عرّفه وهن الخلافة بمدينة السلام ، وإمكان اصطلام الأتراك الذين استلموا صولجان الحكم فيها بدلا عن المستكفي الذي هو صنيعتهم وله الاسم فقط.
وهذا التدخل في شأن تملك المعز هو الذي كان يحقده عضد الدولة على ابى احمد ، وكان العضد لا يحب أبدا أن يؤثر عليه أحد ولا يتقدم عليه حتى المعز نفسه كما لا يحب أيضا أن تضم نوادي العاصمة
(1/18)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 19
كل ذي سطوة ونفوذ ضده وكل مشايع لعز الدولة ، الذي قتله واستلم السلطان منه وفتك بكتّابه ووزرائه ونصحائه وذوي رحمه ، ومنهم الشريف ابو احمد ، فانه لكثرة الوشايات عليه او كما يقول ابن ابى الحديد «لاستعظام امره وامتلاء صدره وعينيه به حين قدم العراق» ، صادر املاكه واعتقله بفارس.
لا تسل عن هذا الشاب ، وهو في شرخ الشباب متوقد الذكاء :
ماذا ثرت عليه قضية القلعة بفارس! ولأي درجة كانت تقلقه! وكيف كان يصابر تلك المحنة التي لا يستطيع أن يشكو الحزن الذي لحقه لأجلها خشية عضد الدولة! وإذا قرأت ما نظمه في تلك الفترة تجد الروعة والرهبة ، وتجد الدموع الجارية تترقرق بين كلماته ، وليس فيها من أمر عضد الدولة إلا الكناية والرمز ، حتى لقد كان يتقي أن يفصح بموته ، ولا يعبّر لأبيه إلا بمثل قوله : «إن ذا الطود بعد بعدك ساخا». ولكن اندفاعاته الحماسية الملتهبة ظهرت جلية ناصعة فيما نظمه عند الإفراج عن أبيه وفي استقباله وعند عودته الى بغداد ، ولعلما كان أدنى توجع له في ذلك الشأن قوله في إحدى ما نظمه يومئذ :
لو شاب طرف شاب اسود ناظري من طول ما أنا في الحوادث ناظر
أو أن هذي الشمس تصبغ لمّة صبغت شواتي طول ما انا حاسر
أو كان يأنس بالانيس أوابد يوما لزمّ لي النعام النافر
قد أكدت الأرض الخصبة على الشريف ، وأظلمت بعينيه الطريتين آفاقها المضيئة وضاقت الأجواء الواسعة. ولكن من ذا يمونه ، وماذا
(1/19)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 20
يموّله واملاك أبيه مصادرة ويده مقبوضة ؟ ولا احسبه لترفعه وشممه يقبل هبات أسرته الكبيرة الطائلة الثروة ، وهو لا يدلنا ولا غيره على مرتزق له من ثراء او مال مدّخر ، سوى انه يشكو الوحشة لأبيه بمثل قوله :
أكدت علي الأرض من أطرافها وتدرّعت بمدارع الأظلام
أشكو وأكتم بعض ما انا واجد وأعاف أن أشكوا من الإعدام
وإذا كان الشريف يستشعر الاعدام ولا يشكوه لأحد ، فمن العبث محاولتنا معرفة ما يرفعه يومئذ ، ومن الشذوذ عن الخطة التعرض لما لايهم ، كأمر الاعالة والاعاشة. والأرجح أن أمه (فاطمة بنت الناصر) هي التي كانت تقوم بشأنه وشأن أخيه المرتضى ، مما ادخرته لنفسها او من الاملاك التي ورثتها من آبائها ، وإذا كانت السيرة تنبؤنا بأنها كانت تدأب جدا في إرشادهما لتحصيل العلوم الدينية ، وتتوسل الى رجال العلم والدين أن يعلموهما وهما غلامان حدثان ، فهي جديرة أن تمونهما في سبيل التربية والتهذيب كما هي - بلا تردد - تقص عليهما مآثر أسرة نفسها وأسرة زوجها حبيس الأحقاد والوشايات ، وتمنّيهما الأماني التي تدل مخائلهما من جهة الذكاء وبعد الهمة على الحصول عليها. ولقد جزع الشريف لوفاتها سنة 385 ورثاها بقصيدة تنبيء عن حزنه ولوعته وعما أو مأنا أليه من بذل المال والسعي في سبيل تربيتهما ، وذلك حينما يقول :
ومن المموّل لي إذا ضاقت يدي ومن المعلّل لي من الأدواء
ومن الذي إن ساورتني نكبة كان الموقّي لي من الأسواء
(1/20)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 21
لو كان مثلك كلّ أم برة غني البنون بها عن الآباء
إن هذا الدور الأول بما فيه من نوائب جمة وقعت على ذلك الشاب الوديع فجاءة ، هو الذي جعله يكثر في شعره - حتى فى دور الهناء والصفاء - من ذم الزمان وكيد الأعداء والحساد ، ويتلهف كثيرا لماض يتمنى رجوعه ، ويتوجع لحادث لم يسبق له مثيل في آله ، ويستطرد من ذلك الى ذكرى مصائب ومصارع آبائه الأقدمين ، وانتهاك حرمتهم واغتصاب حقوقهم. ولقد اثر هذا في خياله في النسيب الذي يستهل به قصائده ، فحوّره الى ما كان متضمنا للبكاء على الدمن والتوجع للفراق والاحتراق بلظى التصابي ، وما الى ذلك من الاتجاهات البعيدة عمن ثقفته الحضارة ، وارتبى في مهاد الترف. وإذا قرنته بابن المعتز وبأبي فراس الحمداني ، تجد هذا قد أثر حب الحرب في خياله ، كما اثر اللهو والترف على طبع الأول ، اما الشريف فقد أثر الحزن على خياله فى النسيب ، ولعلما كان ذلك أحد الأسباب في مجانبته الغزل.
[2] دور الطائع وشرف الدولة
: يبتدىء هذا الدور بدخول شرف الدولة الى بغداد ، او بعد فتحه لفارس ، حينما هلك أبوه العضد ، ولا بد أن يكون هذا قد اتصل بأبي أحمد سجين القلعة بفارس ، وأن أبا أحمد استغلّ تلك الفرصة بالاساليب التي تقربه منه وفي الوقت ذاته كان شرف الدولة يحتاج الى مثل ابى احمد الذي يعرف بغداد ويعرف السراة والزعماء والأمراء ، ومن يوالى العضد ويناويه ولا نفس أن شرف الدولة يعرف أن أبا احمد هو رجل الجد والعمل ، وهو
(1/21)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 22
الذي تتأثر العاصمة بأفكاره ، وترحب به إذا دخلها في الحملة العسكرية الفاتحة. وإذا دخل شرف الدولة سنة 375 فاتحا مدينة السلام يصحبه أبو أحمد وقد انعقدت الصلات بينهما ، فماذا يصنع الشريف ، وماذا يقع منه في هذا الدور الجديد ، حينما يرى حبيبه الطائع خليفة وشرف الدولة هو الملك ؟
إن الشريف قد حسر عن ذراعيه ، ورفع أغشية قريحته ، مستبشرا لهذا العهد الذي يلمس فيه الهناء وصفو العيش وإقبال السعادة ، فانشأ فى مدح شرف الدولة سنة 376 قصيدته «أحظى الملوك من الأيام والدول» يشكره فيها على إنزاله إباه وعمه من القلعة ، وله فيه غيرها ، ولكن هذه تمثل الظروف والأحوال التي أنشئت فيها ، وتقايس بين دوري الامتنان والامتحان وكانه في ذلك الوقت الذي أنشأها فيه لا يستطيع ان يقتصر على الإطراء والمدح ، ولا الفخر ، ولا ذكر الحرب التي انتهت بالفتح لشرف الدولة ، بل يتفلّت عن ذلك الى ذكرى الشقاء السالف ، ليستلذ منه السعادة المقبلة.
وقد وفى شرف الدولة لأبى أحمد ، فردّ بقية أملاكه ، وقد كان الكثير مستردّا سنة 374 ، وأقره على النقابة وادنى قربه وكأنه أراد أن يجدّد له عهد صهريه معز الدولة وولده ، ذلك العهد الذي كان تهابه فيه الوزراء وتخشاه الحجاب والكتاب ، أما الشريف نفسه ، فما كان له عنده من محاولة سياسية تذكر إلا تأهله بأكمل الاستعداد للقيام محل أبيه في كل ماله من جاه او سلطان ، وكفى بذلك مقاما
(1/22)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 23
مقنعا له في محاولاته ومنازعه يومئذ.
اما الطائع فما كان لينسى - بعد استخلافه - ما لأبى احمد على أبيه المطيع : من الأيدي الكريمة ، وما كان بينهما من المودّة. وعلى أساس التجربة المعروفة «ما في الآباء ترثه الأبناء» ، وجب أن يكون ما بينه وبين الشريف ما كان بين أبويهما من الولاء والمصافاة. ولقد بدأ فبالغ فى إكرام الشريف ابى أحمد واحترامه عند عودته من فارس صحبة شرف الدولة ، وردّ امر النقابة اليه ، واستعاد ذكرى المودة القديمة بينهما ، وربما كان استعان به على تحسين صلاته مع شرف الدولة ، ولهذه المناسبات مدحه الشريف بالقصيدة التي يقول فيها :
بالطائع الهادي الامام أطاعني أملي وسهّل لي الزمان مرامي
هذا الحسين وقد أخذت بضبعه جذبا يمرّ قرائن الأرحام
أعطيته محض المودة والهوى وغرائب الإعزاز والإكرام
ولما شاخ أبو احمد لم يكن الطائع ليولّي النقابة بطبيعة الحال غير ولده الشريف (محمد) نيابة عنه ، ثم عهد بها اليه مستقلا سنة 380 مكافأة له على مدائحه المتوالية ، وخاصة على ما يخاطبه بها في العام المذكور بقوله :
متى أنا قائم أعلى مقام ولاق نور وجهك بالسلام
ومنصرف وقد أثقلت عطفي من النعماء والمنن الجسام
ولي أمل أطلت الصبر فيه لو أنّ الصبر ينقع من أوامي
فان الطائع بعد إنشاء هذه أمر ان تخلع عليه أبراد النقابة السود فى
(1/23)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 24
موضع من الدار قريب من مجلسه ، إعظاما له ، فعاد الى المجلس مسودّا «1» وقد أدني مجلسه من سرير الطائع ، وفي ذلك أنشأ قصيدته المستهلة بقوله : «الآن أعربت الظنون» يشكره فيها على هذه الصنيعة ، وبالأخرى التي يقول فيها :
أفاض بلا منّ علي كرامة ونقص الأيادي أن يزيد امتنانها
خرجت أجر الذيل منها وقد نزت قلوب العدا مني وجنّ جنانها
[3] دور القادر وبهاء الدولة
: يبتدئ هذا الدور بخلع الطائع واستخلاف القادر باللّه سنة 381 ، وهو أطول الأدوار ، ولقد كان الشريف يقضي حياته في شطر من هذا الدور في قلق ومجاملة «2» لأن صلاته بالقادر لم تتوثق من كافة مناحيها ولم تكن له يد تستحق الرعاية التي كان يراها من الطائع ومن ينعم النظر في سيرته يعلم أنه لا يتفق والشريف على رأي ولا مبدأ ، وأنه يصعب على الشريف جدا ان يملك ثقته او يفوز برعايته وربما كان لا يخشى ان تتوغل النّبوة بينهما ، بعد ما توطّدت له الأمور وصاهر بهاء الدولة ولكن القادر أشد ملائمة لنفس الشريف من الطائع ، لزهده وانعزاله عن مداحض السياسة على الأغلب ، ولأنه صاحب كلام وجدل والطائع لا نصيب له فى أيّ فن من فنون العلم سوى الأدب إلا أن ملاينته للشريف وتقديره له تجعله بطبيعة الحال أكثر ولاء منه للقادر.
__________
(1) قالوا : وهو أول طالبي لبس السواد.
(2) ستجد ذلك محسوسا في فصل صلته بالقادر.
(1/24)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 25
لذلك نرى قصيدته في القادر يوم استقراره بدار الخلافة وهي المستهلة بقوله : «شرف الخلافة يا بنى العباس» يظهر عليها التكلف على ما حازته من المتانة والرصانة والقوة الادبية.
ينبؤنا شعر الشريف انه في هذا الدور يقضي شطرا من حياته فى اضطراب فكري ، وأن القلق يستولي عليه على نسبة يأسه من محاولاته ورجائه لها فاذا حصل على شيء منها هدأ وربما جامل بلا مواربة ، فذكر وشائج الرحم وأواصر القرابة ، كما نجده يقول في مرثية أبى القاسم علي بن الحسين الزينبي نقيب العباسيين المتوفى سنة 384 :
ألسنا بني الأعمام دنيا تمازجت بأخلاقهم أخلاقنا والضرائب!
إذا عمّموا بالمجد لاثت بها منا عمائمهم أعراقنا والمناسب
نرى الشم من آنافنا في وجوههم وأعناقنا طالت بهن المناصب
و إذا عضته نكبة ما فى حياته السياسية ، نار والتهب وحمل حملة شعواه على الدهر وعلى من يسميهم بالأعداء والحساد وفى هذه الحالة يتحمس مفتخرا ويطري البسالة ، وينبه شعور اولياء الأمور الى اهتضامه ويوعد كثيرا بالالتجاء الى من يرعى حقه ويقوم بواجبه ، كما نجد ذلك في مقطوعته ،
ألبس الذلّ فى ديار الاعادي وبمصر الخليفة العلوي
تلك المقطوعة التي انتهت قصتها بصرف القادر إياه عن النقابة ، وتوليه محمد بن عمر النهر سايسي إياها ، ولعله في ذلك يقول :
ولئن صرفت فلست عن شرف العلا ومقاعد العظماء بالمصروف
(1/25)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 26
و لئن بقيت لكم فاني واحد أبدا أقوّم منكم بألوف
أنا لا أحسب أن صرف القادر إياه عن النقابة فى ايام بهاء الدولة له نصيبه من الصحة ، ولعلما كان واقعا في فترات وفرص لا نستطيع تعيينها ، تمكنه من الإيقاع به ، لغيبة بهاء الدولة او لغيرها ، لأن هذا ممن لا نشك أن الشريف يملك ولاءه ، ونعتقد بلا تردد انه يقدّر شخصية الشريف تقديرا صحيحا ، ولذلك نجد صلته به ليست كصلة شاعر او زعيم ، بل صلة خليفة لملك. وسواء كان بهم البهاء أو لا يهتم به أن تبقى الحال بين الشريف وبين صهره القادر قلقة ، فانه يعتقد أن اتجاهاته للشريف تصد القادر نوعا ما عن الإيقاع به ، ولقد كان الشريف بتلك الاتجاهات ينال أقصى ما يبتغيه بلا تعديل قصدي لحاله مع القادر.
ولئن تكن النقابة المصروفة من المراتب الجليلة ، التي لا يحظى بها إلا الأكفاء من الطالبيين ذوي الدرجات العالية فى العلم والأدب المتميزين على غيرهم ، فان الشريف كثيرا ما كان يستعفي عنها ، إذ يرى أنها دون ما يجب له ، وكثيرا ما يتذمّر مما يتكلفه بها من المشاق ومكايدة الأعداء ومنافسة الغرباء ، فيقول :
غمست يديّ في أمر فمن لي وأين بنزع كفي وانكفافي!
كفانى انني حرب لقومي وذلك لي من الضراء كاف
و لو اني أطعت الرشد يوما لأبدلت التحمل بالتجافي
و عسى أن يكون آخر ما اومأ به الى بهاء الدولة في إعفائه عنها قوله :
(1/26)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 27
غوثك منها يا غياث الورى قد ثقل العبء على المغرم «1»
لا تحسبوا أني على جرأتى أحجمت لكن ضاق بي مقدمي
عظيمة ناديت من ثقلها بالبازل الناهض بالمعظم
و من يتعمق في بعض شعره يرى انه يراغم نفسه بعد الطائع على قبول النقابة ، لأنه لا يريد ان يتحمل المنة فيها ، وقد لا تطاوعه نفسه الأبية على قبول الانصياع لصنيعة تأتى إليه من غيره ، ولذلك لما أحيلت الى غيره زمنا ببذل المال قال متذمرا منها :
محمد طالما شمرت فيها فدونك فاسحب الذيل الرفلّا
و نم مستودعا صونا وأمنا فقد أسلفتها جزعا وذلا
فان اتبعت هذا الأمر لهفا فانك أعزب الثّقلين عقلا
يراه المستغرّ عليّ طوقا فيغبطني به وأراه غلّا
و ما حط الأعادي لي محلا ولكن حطّ عني الدهر كلا
صلته بالملوك والخلفاء
تمهيد
إن نفس الشريف الطموح وروحه المتوثبة ، تقوده بلا شطن للاتصال بالخلفاء والملوك ورجال الدولة ، تمهيدا للحصول على محاولاته ومنازعه النفسية الجميلة ، وإنى لا أرى له صلة تربطه بهؤلاء إلا شرف بيته ونباهة اسمه
__________
(1) وفي ديوانه المطبوع ببيروت «الهرم».
(1/27)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 28
و انه الولد النابه لأبى احمد النقيب أجلّ رجال العاصمة ، وإلا شاعريته التي يخطبها كافة عظماء وقته إشاعة لكرامتهم وإشهارا لعظمتهم. هذا غير ما تولد له أخيرا وتوطد من الجد بأعمال الادارة ، والقدرة على تصريف الرأي العام كما يشاء ، وكأن نشأته وتربيته وأسرته تقربه الى قصور الملوك والأمراء والى رجال الدولة فى دواوين الشورى والحكم.
ولئن كانت الغاية المحمودة تبرر الواسطة ، فما من منقصة لو كال شعره لهم ليربح مودتهم ويسخرهم في تنفيذ أغراضه ، مع الاحتفاظ بكرامته ، لأن تلك التهاني في المواسم وتلك المراثي وتلك المدائح التي تعلوها الروعة والوقار ، ممتزجة بروح قوية من نفسه الصعبة المراس التي تأبى الملق والتبصبص لأبعد غاية ولذلك نجده في كثير من الأحايين يقع من شاعريته في مشكلة دقيقة دقيقة المخرج : نراه واقفا بين نفس مادحة صعبة الانقياد ، وبين اخرى ممدوحة جبارة لا تقبل اي عذر في ترك المدح.
ولنفس هذا الغرض كانت مدائحه الفخمة لشرف الدولة وبهاء الدولة ومن بعدهما متوالية ، وكأنها حاضرة عنده سوى انه ينتهز لها الفرص ويتحين لها المناسبات الزمنية ، كالأعياد والنواريز ليكيلها لهم بغير صاع. وهاهو ذا يعتذر عن ذلك بقوله :
وما قولي الأشعار إلا ذريعة الى امل قدحان قود جنيبه
و انى إذا ما بلغ اللّه منيتي ضمنت له هجر القريض وحوبه
صلته بالطائع
: إن صلة الشريف بالطائع لم تكن للحصول على محاولاته من جاه أو
(1/28)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 29
سلطان فقط ، بل لأنه نفسه قد نشأ على موالاة الطائع منذ صباه ، وفي أيام أبيه ، حتى في دور النكبة ، فلقد كان في أيام عضد الدولة المفضل عليه لا يألوا جهدا في ملاينة الشريف ووعده بحصول أمانيه ، بالرغم على مراقبة حساده واعداء أبيه ، وبعد ، فما كان الطائع - وهو داهية المجاملة - ليهمل محاولات الشريف التي يعرفها والتي يتوسمها في جبينه ، وهو يرى إقبال شرف الدولة عليه وعلى أبيه ، ولا يهمل ما لأبى أحمد على أبيه المطيع في أيام المستكفي وقبل دخول معز الدولة بغداد ثم بعده ، لأنه الواسطة الوحيدة لدى المعز فى صرف الخلافة إليه ، الى ان تنازل عنها لولده الطائع.
إن هذا لا ينساه الطائع بعد استخلافه ، ولا يجهله الشريف بعد استقلاله وتأهله للقيام بشئون النقابة وما يشبهها من المحاولات الشريفة ولتلك المودة الموروثة والولاء الصميمي الممتزج بالآمال الكثيرة ، كان الشريف يحرص على مودته ، ويغار عليه أن يتصل به بعض مناوئيه وقد يسترسل معه فيترك بعض واجبات الحشمة والمجاملة له ، كما نجده حينما استماله بعض أعداء الشريف بالمال ليحوز النقابة دونه يقول مخاطبا له :
ونمي إليّ من العجائب أنه لعبت بعقلك حيلة الخوّان
فاحذر عواقب ما جنيت فربما رمت الجناية عرض قلب الجاني
فهذه المعاتبة الجافية - او سمّها النصيحة الحادة - لا يقابل بها المهاب المحتشم بل المماثل ، وفيها تدليل على ان المودة بينهما كانت مستحكمة لدرجة الخلة أو ما فوقها ونحن نزداد بصيرة فى هذا إذا رأينا الشريف مع
(1/29)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 30
ترفعه وشممه لا يتحاشى عن مطالبته بحقوقه ، وعن تنجيز وعوده لأبيه بقوله :
هذا الحسين الى علائك ينتمي شرفا وينسب مجده فى المحفل
أسلفته وعدا عليك تمامه وسيدرك المطلوب إن لم يعجل
و يقول وهو من السهل الممتنع المتضمن للاستعطاف المحتشم :
أنت ألبستني العلا فأطلها أحسن اللبس ما يجلل عقبي
أنني عائذ بنعماك أن أك ثر قولي وأن أطوّل عتبي
بي داء شفاؤه أنت لو تد نو وأين الطبيب للمستطب
صلته بالقادر العباسي
: وأما صلته بالقادر فلم تزل قلقة ، ولا تزال حاله معه في الأغلب ليست على ما يرام ، سيما بعد ما توطدت له الأشياء ، واستعاد وقار الخلافة واسترجع قوتها في تحسين الصلات بينه وبين الملوك هذا بالرغم على ما التزمه الشريف بادئ بدء من مجانبة ما يغضبه ، وعلى اليد البيضاء لأبيه عليه في عقده المصاهرة بينه وبين بهاء الدولة على بنته ، وعلى مجاملته وملاينته في استعطافه من أول يوم استخلافه حيث يخاطبه بقوله :
أورق أمين اللّه عودي إنما أغراس أصلك في العلا أغراسي
و أملك على من كان قبلك شأوه فى فرط تقريبي وفي إيناسي
إني لأجتنب السؤال متاركا خلقا يدرّ عليّ بالابساس
و لكن زهد القادر وانعزاله عن مداحض السياسة يهون الأمر على الشريف ، إذ أن ذلك بطبعه يوجب خفة وطأته عليه وعلى رجال الدولة
(1/30)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 31
كافة ، وإذا كان الشريف مالكا ولاء بهاء الدولة وممتعا بعنايته ، فلا يهمه من امر القادر إلا المحافظة على النقابة التي لا يأسف كثيرا على فواتها مهما عزت عليه ، ولذلك كان يوالي عليه مدائحه ويستفزه فيها لرعاية شأنه وإسداء واجبه له ولكن له فى خلال ذلك من المناقضات ما يدل على الحال المضطربة ، والصلات القلقة : فبينا هو يطريه ويحصر الخلافة في أسرته ويعرض بالعبيديين (ملوك مصر) في ادعائهم الخلافة ، وذلك حينما يقول :
أ بغاة هذا المجد إن مرامه دحض يزلّ الصاعدين ويزلق
و دعوا مجاذبة الخلافة إنها أرج بغير ثيابهم لا يعبق
إذا هو نفسه يزاحم القادر في نفس القصيدة فيقول : «ما بيننا يوم الفخار تفاوت» ثم لا يكتفي بذلك حتى يصرح باستحقاق العبيديين للخلافة ، ويعلق آماله بهم ، فيقول :
ألبس الذل فى ديار الأعادي وبمصر الخليفة العلويّ
صلاته بشرف الدولة وبهاء الدولة
: كما لا صلة بين الشريف والمعز لصغره يوم امتلاك المعز مدينة السلام فكذا لا صلة له ذات تأثير وشأن بشرف الدولة ، لأن هذا دخل بغداد فاتحا وعمر الشريف ستة عشر عاما ، وأبوه ابو احمد هو المنتصب للمقامات العالية. وهو هو الذي امتلك قلب بهاء الدولة واستولى على شعوره. ولسنا مع هذا نحتاج الى التدليل على إطراء أبى أحمد لولده وثنائه عليه لدى شرف الدولة ، وإبداء نفسياته له وملكاته التي تؤهله
(1/31)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 32
للحصول على كل ما يحاوله بسهولة ورغبة. ولا ننس أن الشريف يومئذ قد نبغ أيما نبوغ ، وخطبت شاعريته ، واشتهر اسمه ليس باجادة نظم القريض فقط ، بل بما يتضمنه قريضه من عزة النفس وبعد الهمة والفتوة والعفة ، ومن كل ما يولد له العظمة في القلوب ويملؤها روعة وهيبة.
وشرف الدولة هو ذلك الديلمي الفارسي الذي لا يتبرأ من الزهو والخيلاء ومحبة المدح والإطراء ، وملكه ذلك الملك الذي لا يكفل له الراحة ما لم يشتهر بسمعة حسنة وصيت ذائع يعلن له القوة وحسن السيرة وفخامة الملك وأين يجد مذيعا مثل الشريف الرضي الذي يقول ،
أنا القائل المحسود قولي فى الورى علوت وما يعلو عليّ مقال
و يقول متحدّيا أدباء عصره كافة وغيرهم :
من مبلغ الشعراء عني أن لي قول الفحول ونجدة الأنجاد
قد كان هذا الشعر ينزع في الدنا عنهم فكان عقاله ميلادي
و هذا ما لا يزال يكرره فلا يرد عليه ، ومهما اعتذر عن الغلو فيه فلا يعتذر عن تفوقه فيه.
و على كل ، فان الشريف وإن لم تكن له مآرب فعلية يوم حسر عن ذراعيه متجردا لمدائح شرف الدولة مستبشرا بعهده الغض الجديد ، لكن شرف الدولة ما كان يرضى له أن يتأهل فقط للقيام مقام أبيه ، بل غرس له في قلب بهاء الدولة (وارث ملكه) عظمة وولاء يتقدم بهما على جميع رجال الدولة حتى على أبيه لو لا السن والأبوة ، ولذا لما ملك هذا - وكان يقيم زمنا بواسط وآخر بالأهواز وثالثا بالبصرة -
(1/32)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 33
قلده وهو بواسط سنة 388 الخلافة عنه بمدينة السلام ويدلنا هذا الاستخلاف على أن صلة الشريف به ليست صلة شخصية بارزة ذات مجد وكرامة فقط ، او صلة شاعر مادح او ذام ، بل هي نوع من صلة ذوي الرأي الصائب في السياسة وأصحاب الجد بالأعمال التي توطد الملك ، لأن النيابة في تولي شئون الادارة الملكية لا توكل الى ذي العظمة الجوفاء او المحدودة الأعمال وما كان الشريف ليتولى تلك النيابة وهو محاط بالوزراء الفارسيين الذين يصطبغون للظروف بألوانها ويمكنهم فن السياسة من أن يقلبوا له ظهر المجن ، لو لم يعرف من نفسه الكفاءة وكمال القدرة.
وفي هذا العام لقبه بهاء الدولة ب (الشريف الاجل) وكان يدعى (الشريف الجليل).
ألقابه
إن وضع الألقاب وفخامتها لا يختص ببني بويه ولا بخلفاء بني العباس ، بل ان كل حكومة مطلقة مهما أخلصت للامة ومهما تصلبت رجالها لهم ، لا يمكن أن تتخلص عن غرور وعن زهو وخيلاء كما لا تنفك هذه الصفات والأحوال في الأغلب عن اظهار الفخفخة ومحبة الإطراء والمدح والامتياز على افراد الامة ، حتى في مقام التسمية وفى غير محل المخاطبة إذا فلا بد لهذه الحكومة المستبدة من تفخيم الألقاب ومعاقبة من يعدل عنها ، لانها إطراء زمني لصاحبها من ناحية ، كما هي مظهر الكبر والزهو من ناحية أخرى. وهذا ما حدا بالديالمة وكافة الفرس
(1/33)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 34
قديما ألا يقتصروا على تلقيب اسرتهم بالألقاب الفخمة ، بل تعدوا الى الرؤساء ورجال الدولة وعظماء المملكة ، حتى للعلماء البعيدين عن الزهو وحب الإطراء فلذلك ابتدأ بهاء الدولة بتلقيب الشريف سنة 388 بالشريف الاجل ، وفي سنة 392 صدر أمره من واسط بتلقيبه ب (ذي المنقبتين) ، وفي سنة 398 لقبه وهو بالبصرة ب (الرضي ذي الحسبين) فمدحه يومئذ بقصيدة منها قوله :
رفعت اليوم من قدري وأوطأت العدا عقبي
و وطأت لي الرحل على عرعرة الصعب
و فى سنة 401 أمر ان تكون مخاطباته ومكاتباته بعنوان (الشريف الأجل) إضافة الى مخاطبته بالكناية ، وهو أول من خوطب بذلك من حضرة الملك.
وقد أوردت هذا لأدعم به دعوى ان صلة الشريف ببهاء الدولة ليست كصلة شاعر او زعيم اسرة شريفة ، بل كصلة وزير بأمير ، ولهذه الصلة ولتأكدها كان الشريف يوالى مدائحه له ، فلا يمر العام إلا وله فيه قصائد كثيرة ولقد كان يحتاط ان تمس كرامة ولائه له بشىء يوجب تغيّره عليه ، وعند ما رفع له أن الشريف لا ينشد شعر نفسه أمامه كما ينشده عند غيره تكبرا عليه ، أقلقه ذلك خشية أن تروج هذه الفرية عنده ، وفي هذا يعتذر له ويبين له الحقيقة بقوله :
جنانى شجاع إن مدحت وإنما لساني إذا سيم النشيد جبان
(1/34)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 35
أخلاقه وملكاته
الانفة او الفتوة
: لا أريد أن استقصي التنويه عن ملكات الشريف وأخلاقه ، ولكن أمهات الغرائز ذوات الشأن في المجتمع هي التي أفحص عنها شعره وبأدنى فحص وبلا حاجة الى التعمق نجد الهيبة والجلال والروعة تلوح على كلامه وناصع نظمه ونثره جلية ظاهرة ، وإذا كانت هذه وهي في كمام الألفاظ تتأثر بها النفس ، فلا ريب في انها مستمدة من ذات نفسه.
وبهذا الميزان تؤخذ له العفة والأنفة والفتوة. وهذه جماع الفضائل إذا ساعدها الطول والقدرة.
حفاظه على القربى
:
و السيرة تحدثنا عن عظيم مراعاته للأهل والعشيرة ، ونحن إذا رأينا في شعره تلك الثورات القائمة ، والاندفاعات النفسية المخيفة ، نعلم انه بطل جلاد وجدال ناضل بهما عن المجد العلوي ونقم على المعتدين عليه ، ثم هو ذا يبدي رعايته لأسرته القريبة بقوله فى عتابية «1» لأخيه علم الهدى :
لقد كنت أبغي رتبة بعد رتبة فآنف من أني أفوز بها وحدي
حفاظا على القربى الرءوم وغيرة على الحسب الداني وبقيا على المجد
و نتأكد ذلك إذا استعرضنا في ديوانه أمثال قوله : «انا ابن ال ...
من القوم ... قومي ... من معشر ...» مما لو أفرد بالتأليف لكان ديوانا
__________
(1) تجدها في ديوان أخيه السيد المرتضى المخطوط ، ولم تثبت في ديوانه.
(1/35)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 36
فخما يملأ القلوب ويحشو الأدمغة رهبة من قومه وعظمة لهم ، ويخلد لهم فيه أثيل المجد وتليد الشرف ، ويبرهن للملإ أنهم الأول والآخر في مجد الإسلام وتثبيت أركانه. وهذه المراعاة لبعداء العشيرة لا تشبه مراعاة الأقربين منهم بالعطف والصلات الموقتة ، فان تلك دعاية زمنية مستمرة.
تقشفه ونسكه
: أما التقشف المنسوب له فلا يدلنا عليه مثل قوله : «ما أقل اعتبارنا بالزمان» ولا ألوف الأساطير التي تنحو نحوه ، لأن تكديس الشعراء للعظات والعبر في صدور قصائد التأبين لا يكون في الأغلب ناشئا من تأثر نفوسهم بها ، بل لا يزال ذلك الترهيب طريقة لهم معروفة ونهجا مأثورا يناسب التأبين المقصود لهم ، وفيه مع ذلك تخلص أقاويلهم الى الغاية المتوخاة بلا كلفة. أما الشريف الذي يستدرّ أخلاف الازمنة ويتودد للوزراء ورجال الحاشية ، فضلا عن الملوك والخلفاء ، فهو بعيد للغاية عن القشف ، بعيد عن الخشونة والانكماش. إذا فكيف نذعن بصدق قوله : «خطبتني الدنيا فقلت تراجعي» ، وقوله :
طلّقتها ألفا لا حسم داءها وطلاق من عزم الطلاق ثلاث
إن الشريف قد لا يستطيع أن يستسلم لخشونة المقشف ، ونفسه تلك النفس الطموح التي تباين التقشف بالمعنى الذي نفهمه ، في جميع محاولاتها ومنازعها. بلى! إن فيه مع تلك الروح القوية ، الشديدة الاحتفاظ بمبادئ الرئاسة ، ورعا وعفة وتمسكا بالدين والتزاما
(1/36)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 37
بقوانينه «1». والأرجح أن هذا هو معنى التقشف الذي ينسب اليه.
وإذا كانت الأمارات ، والترف ، والحضارة ، والثراء ، لا تنفك في الأغلب عن اقتراف الجرائم ، وغمط الحقوق ، والتلاعب بالقوانين المدنية ، وهتك نواميس الشرع الأقدس - فان الشريف لم يؤثر عنه إلا العفة المطلقة والفتوة والمماشاة بوفاق مع المروءة واحترام النواميس كافة ، حتى في مجالسه الخاصة ونحن لتلك العزة وتلك الانفة والمروءة نذعن لآخر نظرة أنه لم يقترف مأثما ، وأن تلك الصفات والملكات تكفه وتردعه بسهولة وبلا مقاسرة ، عن المظالم التي تبتعد بالمروءة الى المطرح السحيق.
وفوق ذلك انا نعتقد عند ما ننظر فى شعره الى أمثال قوله :
شغلت بالمجد عما يستلذ به وقائم الليل لا يلوي على السمر
أنه مع تمكنه من لذائذ الحياة بأكمل وجه قد أصبح محروما عن أكثرها ، إيثارا للمروءة وصونا لكرامة العرض ، ونزداد يقينا فى هذا لاحظنا أنه لم يستعمل المواربة في شعره ، ولم يجالس الخلعاء والظرفاء الذين يستخفون بالنواميس في أيام شبيبته ، وأنه لذلك لم يصرف شيئا من شعره في فنون المهازل والمجون فان هذا يدلنا على انه لم يعمل ما يعتذر عنه ولا يصانع أحدا سترا على نفسه ، ولذا نجده وهو بمرصد من أعدائه لا يحفل أن يجاهر بمثل قوله :
عف السرائر لم تلطّ لريبة يوما عليّ مغالقي وسجوفي
__________
(1) ابن ابي الحديد في شرح النهج وغيره.
(1/37)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 38
و قوله :
أنا المرء لا عرضي قريب من العدا ولا فيّ للباغي عليّ مقال
و هذا ، وإن كان فيه نوع من التمدح والافتخار بأنه لا مغمز فيه من أي ناحية ، سوى أنه في موضع آخر فصّل ذلك متمدحا ايضا وأباته بصورة غير مبهمة ودل عليه بالعفة المطلقة وذلك حيث يقول :
وإنى لمأمور على كل خلوة أمين الهوى والقلب والعين والفم
و غيري الى الفحشاء إن عرضت له أشد من الذؤبان عدوا على الدم
و بهذا الميزان الذي يوزن به تقشف الشريف يجب أن يوزن النسك الذي ينحل لوالده ، فان الخطيب في تأريخه يحكي لنا عن الصاحب بن عباد : أنه يشتهي دخول بغداد ، يشتهيه جدا ليرى نسك ابي أحمد ومن وقف على سيرة أبى أحمد يعلم أنه بطل جلاد ومسعار حروب ، وأنه لا يفترق في حال عن الرؤساء العظام ذوي الخطر ، الفائزين بمآثر البسالة والفتوة «1» ورجل مثله لا يشتهر له النسك بالمعنى الذي نفهمه ما يتشوق لمرآه البعيد عنه ، وكنا نحسب أن لأبى أحمد خصالا حميدة ليس النسك إلا أخفاها وأضعفها ، وإذا هو أقواها وأظهرها. إذا فهو ليس إلا الالتزام بقوانين الدين وأحكامه ، حتى لا يقارف محرما ولا يهتك حرمة ولا يحيف على أحد ، لا يقارف المحرم ولا يحيف على أحد حتى فى الحروب التي
__________
(1) نقل عن ابى الحسن العمري النسابة انه قال عن ابى احمد : «هو أجل من وضع على كتفيه الطيلسان وجر خلفه رمحا» يريد انه أجل من جمع بين الرئاستين في الحرب والسلم والبوادي والعواصم.
(1/38)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 39
كان يتولى قيادتها في بلاد العرب ، لانا نجد ولده يسم بعض تلك الحروب بأنها طاعة ورضا للّه ، وذلك في قوله من قصيدة فى بعض حروبه.
الى أن أطعت اللّه ثم رميته فلم تغض إلا والرمي قتيل
و ربما يؤخذ ذلك من قوله فيه :
أقر بحق المجد وهو مضيع وعظم قدر الدين وهو ضئيل
و من قوله في خطابه للعباسيين :
أبي دونكم ذاك الذي ما تعلقت بأثوابه الدنيا ولا تبعاتها
و لكن الشهرة الطائرة من بغداد الى فارس تستدعي أن يكون ابو أحمد فوق ذلك القدر المحدود من النسك ، وإنا لنرى ولده يقول في إطرائه بمعاناة الحروب :
ما التذّ لبس الصوف إلّا من تعمّم بالقتير
متخدد الخدين مغبرّ الذوائب والضفور
و يخاطب شرف الدولة عند إكرامه له سنة 376 بقوله :
تركته زاهدا في العيش منقطعا عن القرائن منا والأصاحيب
و كان بالحرب يلقى من ينافره فصار يلقى الأعادي بالمحاريب
كما أن إخبار ولده عن نفسه بأنه طلق الدنيا ، وقول مهيار في رثائه :
«أبكيك للدنيا التي طلقتها» ، يجب أن يراد به معنى هو فوق ما عرفناه منه.
وقد يؤخذ على الشريف في قشفه رثاؤه لمثل الصابي ، ومدحه صديقا له بالشعانين ، ووصفه الخمرة ومجالس الغناء ، وذمه لبعض من لم
(1/39)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 40
يسئ له ، كمغن ثقيل بارد الغناء. ولكنا إذا تحققنا أن الشريف لم يشرب ، ولم يسمع ، ولم يجالس أرباب اللهو والمهازل ، ولم يتخذ الندمان ، ولم يستعمل الملاهي ، فانا نعذره في الأوصاف ، سيما ما يكون منها مقترحا عليه ، لأنها تقع في زمنها لأسباب مجهولة لا يصح الحكم عليها بشيء ، والوصف بمجرده لا يقدح بصاحبه ، وإن أظهره بمظهر الحاضر المشاهد كما نجده يقول :
ولرب يوم هاج من طربى ولقد يضيق بغيره ذرعي
من منظر حسن ومن نغم ندعوه قيد العين والسمع
أما التهنئة بالشعانين فهي اسم لا مسمى له ، ولا شأن فيه لمن لاحظه. وأما رثاء الصابي ومدحه ، فما كنا لنحجرهما على الشريف إذا تجنب فيهما القول بالباطل ، وما كنا لنكمّ فم الشريف أن يعترف لذي فضل بفضله ، ولا نرى له ان يغمط حق ذي الحق ، ومن عرف صلات الشريف به لا يكون عاذرا له فقط ، بل حامدا له في الوفاء والاعتراف بالحق.
وفاؤه
أخصّ الوفاء لأنه أنبل صفات الإنسان ، لا سيما إذا كان الموقف فيه حرجا ، كموقف السموأل وغير بدع أن ينطبع الشريف لذاته على مقدار من الوفاء ، فانه من شئون المروءة والفتوة بالمعنى المفهوم منها ، والفتوة هي : جماع صفات النبل والفضل. ولست في هذا الفصل بالذي أريد أن أعد الوقائع ، او أسرد الشواهد من شعر الشريف على
(1/40)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 41
وفائه ، فان الشاعر بعيد الخيال يصطبغ للظروف بألوانها في أغلب الأحايين ، ويصف نفسه بما هو بريء منه.
ولكن نظرة واحدة فيما نظمه متوجعا لخلع الطائع سنة 381 ، وفي رثائه يوم توفي في الاعتقال بعد جدع انفه وأذنيه سنة 393 ، تدلنا على احتفاظه بالولاء وتمسكه بالمودة التالدة ، فان من يخلعه بهاء الدولة غضبا عليه ليستصفي أمواله ، ثم يقضي منكلا به مهانا بعد بضعة عشر عاما قضاها في الاعتقال ، تستهجن المجاهرات باطرائه وتأبينه ذلك التأبين الحاد ، وربما كانت المجاهرة بذلك مثيرة لغضب أضداده ، بل هي موقفة لصاحبها في معرض الخطر لا محالة.
ومع أن السيرة لم توقفنا على من مدح خليعا ، ولا من رثى من نكل به الملك ، مجاهرة ، غير الشريف ، فانا نستغرب ذلك بادىء بدء حتى من الشريف ، لأن المستخلف بعد هذا الخليع هو القادر الذي لم تزل حال الشريف معه قلقة ، وهو لا ينفك يزايلها لتصلح نوعا ما ، فان صلحت فببهاء الدولة ، وهو هو الخالع للطائع وهو الممثل به ولكن نفس الشريف الحرة الجريئة التي يقول عنها «1» :
ولكنها نفس كما شئت حرة تصول ولو في ماضغ الأسد الورد
و وغول غرائز الوفاء في تلك النفس الحرة القوية ، القوية الارادة - حملته على أن يتعمد غضب أولياء الأمور عليه مهما كلفه ذلك من خسارة حكم او سلطان. وعندي ان من جيد مرثية له معنى ما يطري به مننه وأياديه
__________
(1) من قصيدة موجودة في ديوان أخيه.
(1/41)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 42
عليه ، لما انه مظهر وفائه ، وهو قوله :
ليس ينسبها وإن طال المدى مرّ أيام عليها وليال
فاتني منها انتصار بيمينى فتلافيت انتصارا بشمالى
ثم دعاؤه له بعد توجع طويل لفقده يصف فيه إقباره وهجرانه وارتخاص الدمع عليه ، وذلك إذ يخاطبه بقوله :
أيها الظاعن لا جاز الحيا أبدا بعدك بالحيّ الحلال
كنت في الأحجال أرجوك ولا أرتجي اليوم عظيما في الحجال
و لم يزل في هذه العصماء ينهج بالمعاني والمبانى والأساليب المتشعبة نهجا غريبا بديعا حتى كان ختامها قوله :
ضمنت منهم قرارتهم عمد المجد واركان المعالي
لا تقل تلك قبور إنما هي أصداف على غرّ لئال
عزة نفسه
: إن عزة نفس الشريف الطامح بأقصى نظره للخلافة طموح ذي الحق المهضوم لاستعادة حقه ، لا تحتاج الى نضد الأدلة وحشد الشواهد عليها من هاهنا وهاهنا. فان تلك العزة الملموسة هي الشاهد على ما انطبع عليه من الغرائز المتفرعة عليها : كالعفة والإباء والأنفة وهى إحدى الأسباب التي مكنته من الاتصال بالملوك والخلفاء اتصالا لم يبلغه بشاعريته ولا نسبه ، لأنها هيأت له عندهم مقاما ساميا لم يبلغه أيما شاعر وشريف ، وهى التي اكسبت شعره - حتى ما يتودد فيه ويستعطف به - رونق الحشمة والجلالة ولو أردنا أن نورد شاهدا من شعره على ذلك لاوردنا
(1/42)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 43
غالبه ، ونسقنا فيه كثيرا من شعره الغزلي الغرامي ، فان نفسه العزيزة وروحه المتوثبة قد اثرت فيه لدرجة أخرجت كثيرا منه عن مناهج الغرام المأثورة.
وهذا ما لا نتردد فيه ، لأنه أول شيء يظهر لنا من خصائصه الخلقية ولكن السيرة تنبؤنا عن بلوغه من العزة والانفة مرتبة قد نقف عندها موقف الشاك المتردد ، تنبؤنا متفقة أنه لم يقبل قط صلة حتى من أبيه وحتى من ملوك بني بويه ، وأنه كان يقنع من هؤلاء بالاحترام وصيانة الجانب وإكرام الاتباع «1». وتقول : إن أبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن أحمد الطبري أنف له أن يقيم في دار أبيه بباب محول ولا تكون له دار تخصه منذ شبابه ، ومنذ كان يقرأ عليه القرآن ولكن كيف يقبل الشريف هبة استاذه له داره (دار البركة) وهو لم يقبل قط صلة من أبيه! «2» ونحن إذا أردنا أن نبرهن على ذلك من غير ناحية شعره ، واستعرضنا تأريخ حياته الاجتماعية والأدبية ، لا نجد عينا ولا اثرا لمثل قول :
«مدحه في عيد كذا فوصله بصلة سنية ... وهناه في وقعة كذا فأجازه ببدرة ...» ، ونجد هذه القضايا المكافاتية مثبتة في سيرة جميع من عداه من الشعراء البارزين وإن عظموا ، كما انا لا نجد في شعره طلبا ولا استرفادا حتى بالاشارة ، إلا ان يكون نزرا يخفى على الفحص البالغ ، وذلك كقوله لبهاء الدولة :
__________
(1) العمدة وشرح النهج.
(2) ابن ابى الحديد في شرحه عن تأريخ ابى الفرج بن الجوزي.
(1/43)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 44
يا أيها البحر بنا غلة فهل لنا عندك من مكرع ؟
و لكن من يعلم مقدار تأثر الشريف بعظمة بهاء الدولة ، يعذره ان يجري على هواه إذا رأى منه رغبة في ان يستميحه ، ليجزل رقده في تكرمة او رتبة او غيرهما ولعلما كان البيت السابق صدر من هذا المورد.
ولكن من اين ثروته ؟ ومن اي وجه حصل على تلك الأملاك التي كانت تموته وتقيم أوده ، وتشيد بالإنفاق الطائل مدرسته - دار العلم - التي كان يختص بالإنفاق عليها ؟ ومن اين كانت تستدر نفقاته في أسفاره وخاصة اسفار الحج حينما كان أمير الحجيج ، وتقول السيرة :
إنه وأخاه أعطيا لابن البراج «1» الطائي لما اعتقل الحجاج بنجد تسعة آلاف دينار من مالهما فداء لهم «2» ، وأبو احمد والدهما لم يزل في ذلك الوقت حيا لم يورث ، ولربما كانت والدتهما في قيد الحياة ايضا ؟
يقول جامع ديوانه في عنوان قصيدة يمدح بها الطائع : إنه قالها يشكره فيها على تكرمة خصه بها وثياب وورق وذلك سنة 376. وقد يسجل عليه ذلك اعترافه حيث يقول :
وكنت إذا منحتني الملو ك نزرا من النائل الغامر
أبيت القليل ولكننى أردّ الرذاذ على الماطر
فى كل يوم قوام الدين ينضحني بماطر غير منزور ولا وشل
مدحت امير المؤمنين وانه لأشرف مأمول وأعلى مؤمّم
__________
(1) وفي بعض الكتب : الجراح [.....]
(2) عن تأريخ اتحاف الورى بأخبار أم القرى.
(1/44)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 45
فأوسعني قبل العطاء كرامة ولا مرحبا بالمال إن لم أكرّم
و هذا ربما يؤخذ منه أنه لا يتهالك على المال ، وانه يؤثر عليه صيانه الغرض والكرامة ، استمساكا بالعزة والأنفة ، لا كمن يمدح الملوك للاسترفاد وأخذ المال بأيّ وسيلة ممكنة. وهذا توسط بين طرفي الابتذال والإباء ، لا يعاب سالكه ولا يهدم شرف الشريف انتهاجه ، ولربما يدعم بمثل قوله للمهلبي :
فهذا ثنائي لا أريد به الغنى ابى المجد أني أجعل المدح مكسبي
كم عرّضوا لي بالدنيا وزخرفها لمع الهلوك فلم أرفع لها راسا
أريد الكرامة لا المكرمات ونيل العلالا العطايا الجساما
و هذا التوسط هو الذي صيّره مقلا - فيما يزعم - على وفور ما عنده ، وهو الذي جعله يلهج بالقناعة كثيرا ، ويكثر من التلهف على بلاغ من العيش يناله بعزة ، نحو قوله :
من لى ببلغة عيش غير فاضلة تكفني عن قذى الدنيا وتكفيني
أخيّ! من باع دنياه وزخرفها بصونه كان عندي غير مغبون
و على العلات ، فاني لا اعرف في عصر الشريف بل في اكثر العصور شاعرا استكبر على الكسب بالشعر ، بل لا نكاد نعرف للشعراء غرضا من نظم الشعر في الأغلب إلّا التماس الوفريه ، لكن الشريف يتكبر على تلك العادة السيئة ويأنف من المدح ، إلّا أن يكون فيه نوع من الكرامة لا يحط من شرفه ولا يضع من مقداره ولذا نراه يندد بمن لا يبالى إذا حصل له المال من اي طريق اجتلبه.
(1/45)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 46
شفاعاته وتوسطاته
: وإذا كان الشريف لا يستميح أحدا مالا ، فانا لا ينبغي لنا أن نجهل ان عظمته ومنزلته عند الملوك والخلفاء ورجال الدولة تستدعي بطبيعة الحال وساطته لدى هؤلاء في كثير من المهمات التي يتكلف بها ويتشفع ، وربما يكون كثير منها من مهمات نفسه التي لا تتضمن طلب المال ، وفي هذه الوساطات إعمال للجاه في محالّه ، ولا منافاة فيه للعزة والأنفة ، فان الشحّ بالجاه قبيح كالشح بالمال او اشنع ومن هذا ما نجده في كثير من شعره من تنجّز المواعيد والإلحاح على الوفاء ، والحض على التكرم باتباع الأفعال للأقوال ، ولعمري إني لا أدري أي شيء طلب ممن يقول فيه :
أخطأت في طلبي وأخطأ في منعي وردّ يدي بغير يد
فلأجعلن عقوبتي ابدا ألّا أمد يدا الى أحد
فتكون أول زلة سبقت مني وآخرها الى الأبد
و مهما كان المطلوب ، فهذا الشموخ ، وهذه المعاتبة والمعاقبة ، تبرهن على اعتزازه وتمسكه بمبدئه الشريف.
شكره للصنايع
: قد يؤخذ على الشريف تنازله مع بهاء الدولة الى مقام الخاضع المتصاغر في قوله له : «أنا غرس غرسته» وقوله : «و ارع لغرس أنت انهضته» ونحوه. وهذا رأي فيه تحامل شائن ، لأنا مهما طبعنا نفس الشريف بطابع العزة والاستعصاء على الذل والخنوع ، فانا لا ننسى أن
(1/46)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 47
له من محاولات النقابة والإمرة وسعة الجاه ما يملكه بهاء الدولة واضرابه ، والقادر وأمثاله ، بل وحتى رجال الحاشية ، وماذا يحصل لهولاء منه بعد الحصول على أغراضه سوى الشكر - وشكر الصنيعة نوع من الفتوة - وهو نفسه يقول : «و لا يشكر النعماء إلّا المهذب». وفي الشكر مع ذلك استبقاء لما كان جدّ في الابتداء له ، ولو كان يترك الشكر على الصنايع لكان الأجدر به ألّا يهييء نفسه لتلقي الحقوق التي يلزمه الشكر على نيلها ، وها هو ذا يستهل قصيدته في صديق له بقوله :
لأيّ صنايعه أشكر وفي أيّ أخلاقه أنظر
فكيف ببهاء الدولة الذي هو حقا كما يقول له :
أنا غرسكم والغصن لدن والصبا غض وللعيس القياد الأطوع
و يقول :
إذا كنت لى غيثا فأنت غرستنى ومورق عودي في الندى مثل غارسي
و يقول (و لا أحسب ذلك إلا فيه أو في شرف الدولة وان لم يذكر اسمه) :
ألبستنى نعما على نعم ورفعت لي علما على علم
و علوت بي حتى مشيت على بسط من الأعناق والقمم
فلأشكرن نداك ما شكرت خضر الرياض صنايع الديم
فالحمد يبقي ذكر كل فتى ويبين قدر مواقع الكرم
و الشكر مهر للصنيعة إن طلبت مهور عقائل النعم
إن هذا ومثله لا يستنكر ولا يستغرب من الشريف ابتداء ولا شكرا للصنايع التي يحق أن تشكر لكن لم يكن المتوقع منه أن يؤدي شكر
(1/47)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 48
بهاء الدولة بقوله :
أنا عبد أنعمك التي نشطت أملي وانهض عزمها مننى
و بقوله :
وما إنعامك الغمر بزوّار على الغبّ
سقاني كرع الجم بلا واسطة القعب
و أرضاني على الأيا م بعد اللوم والعتب
و أعلى المدح ما يثني به العبد على الربّ
و كما أغرق في شكره فقد بالغ في مدحه مبالغة ما كانت مأمولة الوقوع منه كمثل قوله فيه :
ملك الملك ثم جلّ عن الملك فأمسى يستخدم الأملاكا
عجبا كيف يرتضي صفحة النعل لرجل يطابها الأفلاكا
و من نظر الى مدحه له في المستهلة بقوله : «تمنت رجال نيلها وهي شامس» ورثائه في المبتدأة بقوله : «أظن الليالي بعدكم ستريع» يعلم مقدار تأثر الشريف بعظمة بهاء الدولة وتعليقه الفوز بآماله عليه ، إذ يرى القصيدتين وغيرهما من مدائحه لا تشبه مدائحه لمن سواه من خليفة او ملك ، فى الروعة والجلال وفي التنويه والتكريم ، بل هي بمدائحه لأبيه أشبه من كل ناحية.
دماثة أخلاقه
: إن من تتمكن وتتوغل في نفسه مثل عزّة الشريف ورفعته لا ينفك في الأغلب عن كبرياء وغطرسة ، لكن الشريف وهو بتلك العزة
(1/48)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 49
و الأنفة ، لا تجد فيه زهوا ولا خيلاء ولا جبريّة ، كما نجد ذلك كثيرا في مستعار العظمة او مستجد النعمة ، ولذا لا نراه يطمع في اطراء الشعراء له مع استحقاقه وتأهله لذلك ، كما نجد الصاحب بن عباد يتحامل على المتنبي بشدة لأنه لم يمدحه ، بل انا نلمس منه لين الجانب ودماثة الخلق حينما نراه ينزل في معاتبة اصدقائه الى رتبة المماثل او دونها ، وتدلنا شوقيته لصديقه ابى الحسين أحمد بن علي البتّي الكاتب انه على غاية بعيدة من لين الجانب والبعد عن الغطرسة ، وذلك حيث يقول له :
اشاق إذا ذكرتك من بعيد وأطرب إن رأيتك من قريب
كانك قدمة الأمل المرجى عليّ وطلعة الفرج القريب
إذا بشرت عنك بقرب دار نزا قلبي إليك من الوجيب
أكاد اريب فيك إذا التقينا من الأنفاس والنظر المريب
فهذا ونحوه لا تسمح به الكبرياء - لو كانت - خطابا من الشريف لمثل البتي إلّا أن يكون قرينا له في المزايا او خليصا له في النسب وفي هذا ونحوه تدليل على ان تلك الحماسات ، وتلك الاندفاعات التي امتلأ بها ديوان شعره لم تكن لتنشأ عن شراسة في الخلق وخشونة ، ولكل مقال مقامه الذي يليق به ولا يوضع في مقام غيره ، ومما يبرهن على ذلك ايضا مدائحه الجمة واستعطافاته ، فانها لا تتفق مع الشراسة ، ولذا لا نجد شاعرا مداحا في الأغلب إلا سهل الأخلاق ليّن الجانب لأن الانعطاف نحو الممدوح واستماحة فواضله والسماحة بإظهار فضائله يلين عريكته ويسهل جماحه ، وقد يتفق لسهل الأخلاق ان يستعمل الحزونة
(1/49)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 50
مع بعض ، لأغراض تتفق له كما نجد الشريف يعترف بها حينما يقول لبعض مناوئيه :
لئن شاءكم مني حزون خلائقي فقد طالما لم انتفع بالدمائث
تشدده في عقاب الجاني
: لعلما كان من هذا الشذوذ الاخلاقي ما ينسب الى الشريف أيام نقابته من الافراط في عقاب الجاني من آل ابى طالب ، او أن هذا جار على العادة بلا شذوذ عن الخصائص الخلقية الحسنة لأن الطالبيين يومئذ يراهم الملوك ويراهم الكافة طبقة ممتازة بالشرف وبالآباء وبالانتماء الى الرسول الأعظم ، ولذلك سنّت فيهم «النقابة» التي تفرقهم ان يشتركوا مع الجماهير في الانظمة والقوانين الدولية العامة ولهذا الامتياز ولذلك التفوق كان الشريف يستكبر الصغير من اجرامهم ، ويعاقبهم عليه بنسبة ما هم عليه من العظمة استمساكا بالأنفة والعزة ، ورفعا لهم عن مساواة سفلة الأخلاق من غيرهم ، وكفا لهم لأبعد غاية عن اقتراف أيما جريمة ، وبهذا الميزان يوزن ما نجده من حضه أباه على القسوة والشدة على الباغي من أقربائه عقابا على بغيه كقوله :
لا تنظر الباغي لقربى وارمه بالذل واقطع ما عليه يعوّل
هذا الأمين أدال منه شقيقه ومضى عقيرا بابنه المتوكل
و العفو مكرمة فان أغرى بها متغافل قال الرجال : مغفّل
و هذا يدلنا على أن من رأيه أن اعمال القسوة في محالها لا يكون من حزونة الأخلاق. وقد لا يكون منافيا للحلم إذا
ثالها من شعر الشريف دلت على رقة فائقة وانعطاف على الأهل والأقارب لا يشبه ما يبدر منه فارطا في بعض الوقائع الخاصة المجهولة. ومن يستقرئ المعاتبات الواقعة بينه وبين أخيه الشريف المرتضى في ديوانيهما وانعطافهما على البعداء فضلا عن الأقربين ، يعتقد ان الخلق فيهما هو ذلك ، وأن ما يشذ عنه لا يحكم عليه بشيء. وإن أصدق ما أعرفه عنه عند ما أتعمق للغاية في شعره لا عرف نفسيته في ذلك ، هو الرقة التي يمثلها قوله - في عتابية أخيه - :
أفوّق نبل القول بيني وبينه فيؤلمني من قبل نزعي بها عرضي
و أرجع لم اولغ لساني في دمي ولم أدم أمضائى بنهش ولا عض
طموحه للخلافة ودعاته لها
: في العلويين ثم في الهاشميين شموخ وإباء يمتازون بهما عن سائر بطون قريش العريقة في الكبرياء والانفة ، ثم هم يتفوقون بذلك النسب الكريم الباسق الذي له الأثر البليغ في الترفع والشمم ، وزاد في الأثر مبالغة في العلويين خاصة أنهم كانوا - سيما في القرون
(1/50)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 52
الأولى القريبة العهد - يتمثل لأعينهم الحق الصريح في عرش الخلافة الاسلامية ، ويشعرون بأنهم ورّاثه الشرعيون ، فان ذلك ليس فقط يزيد في عز نفوسهم بل يقفز بهم ويتوثب على عرش الخلافة من حين لآخر ، ولذلك كانت مؤامراتهم وثوراتهم متتابعة وإن انتهت بالخيبة والفشل في أكثر الأحيان بل كلها فما هو الظن بالشريف الذي نبت في الصميم من شرف الأسرة العلوية ، وأدلى من طرفي أبويه بقرب الانتماء الى الرسول الأعظم ، ونفسه تلك النفس الوثابة الطموح ، وله تلك الفتوة والنجدة ، وتلك البسالة الموروثة ونحن إذا استعرضنا ديوانه نجد الأماني والآمال ، ونجد البشائر بالنجاح ، ونجد التعزي عن الخيبة بأنواع التعازي ، نجد كل ذلك قد أفعم ديوانه حتى غص بأمثال قوله :
يا قدمي! دونك مسعاة العلا قد ضمن الإقبال ألّا تعثري
ليكثرن خطوك أو تنتعلي سرير ملك أو مراقي منبر
لا يرى مثلي إلا طالبا ذروة المنبر او قعر الرّجم
طامح الرأس على أعواده او على عادية الرمح الأصم
لو كنت أقنع بالنقابة وحدها لغضضت حين بلغتها آمالى
لكن لى نفسا تتوق إلى التي ما بعدها أعلى مقام عال
و إذا نظرنا الى واحدة من فخرياته نجد أنه تستدرجه هذه الأحلام ، وهاتيك الأماني الى الذهول عن مواضع محاولاته ، والغفلة عن الخطر الذي يلحقه من إبداء ما استكن في قرارة نفسه فبينا هو يقول :
انا ابن من ليس بجد له من لم يكن بالماجد الجائد
(1/51)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 53
ثم يستطرد انا نياته الكثيرة التي لا خطر فيها ، إذا هو يتبعها بقوله :
ولا مشت بي الخيل إن لم أطأ سرير هذا الأغلب الماجد
و هكذا ظل الشريف مخدوعا من قبل طموح نفسه وما يرى من تأهله للخلافة بما حازه من المآثر والمفاخر والملكات العالية ، فتارة يقول :
ستعلمون ما يكون مني إن مدّ في ضبعي طول سن
و أخرى يعد نفسه بقوله :
وعن قرب سيشغلني زمانى برعي الرأس لا رعي القروم
حتى قرّ في آخر مضاجعه ، ولم يحظ من ذلك بطائل ، لأن الحياة السياسية في عصره لا تدوم إلا بخلافة ولو كانت مستفادة ، كما لا تكون الخلافة يومئذ إلا للقادر ، ومن العبث محاولة غيره من العلويين لها إلا بانتظار الصدف الشاذة فنحن نترك للشريف رأيه فيما طلبه ، غير انا لا تحسبه إلا كما قال عن نفسه في بعض أغراضه :
وما انا إلا كالموارب نفسه بغى ولدا والعرس جدّاء عاقر
و الذي أراه والذي استنتجه من مجموعة وقائع موقعة بتوقيع من شعر الشريف ان السبب في طمعه بالخلافة امور :
1 - إدلاله بالفخر والطول المتكون من علوّ النسب فحسب ، كما أن ذلك وحده او مع المزايا الأخرى كان ينهض بيني أبيه وبني عمه الثائرين في وجوه الخلفاء من قبله ، لأخذ الخلافة المهتضمة على رأيهم ، وإن انتهت توراتهم بالخيبة والفشل إلا انهم يستفيدون بنفس الثورة كثيرا من منازعهم الجميلة ، وفي هذا المنحى من وجوه الطلب ينهج الشريف بقوله :
(1/52)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 54
كم أب لى جدّ في إحرازها يحرق الباب عليها وابن عم
صبروا فيها على كل أذى ولقوا من دونها كل ألم
2 - قبض البويهيين المخلصين والمقدرين له على مخانق الخلافة ، وتلاعبهم نصب عينيه بالخلفاء لأسباب تافهة : فمعز الدولة يخلع المستكفي ويسمل عينيه ، ولو شاء أن يقطع به الخلافة لفعل ، لكنه يستقدم المطيع من منفاه فينصبه. وهذا لما جاء عضد الدولة فاتحا نكّل به وألجأه الى التنازل عن الخلافة لولده الطائع. وهذا الأخير - وهو داهية المجاملة - لم تخنه عبقريته في مراعاة موقفه مع بهاء الدولة ، ولكنه ماذا يصنع والبهاء يريد أمواله التي حرص على جمعها ؟ إلا أن يفقد خلافته او ماله ، فخسرهما جميعا ونكل به ، وهو معتقل ، ليجلس القادر مكانه ، وهو منفيّه في البطيحة.
فهذا يمهد للشريف مقدمات الأمانى ، ويبنى له الصروح ، إذ يرى نفسه ويراه ملوك بني بويه أهلا للخلافة ، وربما كانوا يعتقدون أنه أحق بها من غيره ، وله على ذلك أشياع من العظماء كالوزير ابن ابى الريان ، والأمير ابي الهيجاء الحمداني ، وابى حسان «المقلد بن المسيب» امير بني عقيل ، وابى الحسن بن الفضل المهلبي ، وهذا هو المغيّى بقوله :
وإن رجائي أن تكون لهمتى طريقا تؤدينى الى كل مطلب
و أرمي الى أمر أظنك بابه ألا إن بعض الظن غير مكذب
و انا نرى الصاحب بن عباد يخطب مودة الشريف في أبيات كتب بها اليه ، ولكن ما هو الجواب الذي يجيبه به حينما يقول :
(1/53)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 55
أيا خاطبا ودي على النأي إننى صديقك إن كنت الحسام المهندا
فاني رأيت السيف أنصر للفتى إذا قال قولا ماضيا او توعدا
انه يلحن له في هذا القول عن مؤازرته فيما يرومه ، وعن تقريبه الى الدعوة له ، بيد انه لا يصارحه فى ذلك كما يصارح أبا إسحاق الصابي.
إن الصابي كان - خصوصا بعد ما أفقده عضد الدولة كرامته ومقامه من كتابة ديوان الإنشاء - يستميل الشريف بمثل قوله : «أبا حسن لى في الرجال فراسة» ، ويمنيه الأمانى ويؤكد له المطامع والآمال ، ليستعيد مقامه الأول ، وربما كان حماس الشريف نفسه وتطلعه للخلافة يأخذ من الصابي مأخذه - وهو شاعر يستهويه الخيال فيتحول الى حقيقة ماثلة - فيجد في ذلك ضوء لنيل آماله واستعادة كرامته ولكن الشريف كيف يجيب عن تلك الفراسة ، وبالأحرى المماذقة والمواربة ؟ . انه يعده بالمكافأة التامة ، ومشاطرة النعمة إن حصلت أمانيه وصدقت به الفراسة ، ولكنه بالآخرة يقول له غير متردد ولا شاك :
فو اللّه لا كذبت ظنك إنه لعار إذا ما عاد ظنك مخفقا
فان الذي ظن الظنون صوادقا نظير الذي قوّى الظنون وحققا
و سواء كان الصابي - الذي حلب الدهر أشطره - صادق النية ومخلصا للشريف او مواربا كما أظن ، او هو كما يقال «1» يزعم أن طالعه النجومي يدل على نيله الخلافة ، فان الشريف هو المنبه لشعور الصابي وأمثاله ، وهو هو الذي قد مازج حب الخلافة نفسه منذ صباه ، ولقد كان يستوحش إذا
__________
(1) عمدة الطالب.
(1/54)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 56
رأى السكون من ناحية الخلافة سائدا فى العاصمة بلا اضطراب ، وبدون أمارات تنذر بالقلق ، كما كانت في ايام القادر ، وفي هذا الشأن كان يقول :
أما تحرّك للاقدار نابضة أما يغيّر سلطان ولا ملك ؟
قد هادن الدهر حتى لا قراع له وأطرق الخطب حتى ما به حرك
أظلّت السبعة العليا طرائقها أم اخطأت نهجها أم سمّر الفلك ؟
3 - إمارة الحج ، فهي التي نبهت هواجسه التي تنمو بنموه ، واذكت فيه ذلك الشعور الملتهب الذي يتحفز ولا يهدأ ولا يقنع بما دون الخلافة إلا ساخطا على القضاء ، وليس ذلك لما في تلك الامارة من سلطة محدودة ومقصورة على البادية فان سلطة النقابة الدائمة أقوى منها وأكمل ، بل لأنها قد أكدت الصلات بينه وبين سراة البادية وزعمائها في جزيرة العرب كلها ، وهم هم المتنفذون ، وهم الذين يتمكن الشريف ان يفسر بهم أحلامه ، ويحقق أمانيه التي يظهرها قوله :
متى أرى الزوراء مرتجة تمطر بالبيض الظبى او تراح
يصيح فيها الموت عن ألسن من العوالي والمواضي فصاح
و هذا أقوى الأسباب فيما أرى لدى الشريف ، لأنه إن تم لا يقصر خلافته على العراق فقط أو حيث تمتد سلطة بني بويه بل يسير بها في جزيرة العرب كلها ، ويدلنا على أن الشريف يطمع في عموم الاستخلاف الذي ينحصر بهذا السبب قوله :
لست للزهراء إن لم ترها كوعول الهضب يعجمن اللجم
يستجن البدر من فرسانها بين بغداد إلى أرض الحرم
(1/55)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 57
و عليّ أن يطأ العراق وأهلها يوم أغر من الدماء محجل
يوم تزل به القلوب من الردى جزعا وأولى أن تزل الأرجل
و ما أرى مودة الشريف لصديقه العربي - ابن أبى ليلى - كانت في بدء الأمر إلّا لكونه أحد سراة العرب المتنفذين في البادية ، والذين توثقت عرى الصلات معهم لاجتياز الحجيج لكنه استدرجه فيما بعد فأفضى إليه بسره ، وأبدى له ما يجيش بنفسه ، فصادف جوا ملائما للغاية التي يتمناها الشريف ويتوخاها ، إما لبساطة في نفس ابى العوام هذا ، أو لغضبه على الخلفاء ، او لأنه يطمع برفعة ينالها في خلافة الشريف او مال او غيرهما.
(ابن ابى ليلى) لا تعرّفنا عنه كتب التأريخ والسير شيئا ، ولا تنبؤنا عن تحديد كرامته حتى ولا تذكر اسمه ، ولكن يؤخذ من ديوان الشريف أنه من بني عامر بن لويّ وأن اسمه عمرو ، أو كعب. ويكنى بابي العوام ، ويقال : انه كان دليلا له فى طريقه الى مكة سنة 394 ، وهو العام الذي حج فيه معه الوزير ابو علي الحسين بن حمد بن ابي الريّان وله فى ذلك قصيدة يذكره فيها ، ويؤخذ من إطراء الشريف لابن ابي ليلى هذا ترجمة رجل متفرد بمآثر جليلة ومناقب جمة جميلة ، ولا ريب أن فى ذلك الإطراء مبالغة وتخييلا شعريا ، ولكن واحد من مائة لم يبالغ فيه يكفينا لأن نعرف أنه من الشخصيات البارزة يومئذ ، وأن بنى تميم قتلته فى سبيل دعوته للشريف لما لم ترق لديهم تلك الدعوة ولعلما كان قتله وقتل المقلد العقيلي مما دبره الخلفاء بليل للاستراحة منهما ،
(1/56)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 58
و بالآخرة من خلافة الشريف. ومن رثاء الشريف له بعدة قصائد نعرف مكانته عنده ومنزلته من نفسه ، وقلما تجد الشريف تكرر تأبينه لشخص واحد مثله ، وأرى أن من أجود مراثيه له هي التي يقول فيها :
لعمر الطير يوم ثوى ابن ليلى لقد عكفت على لحم كريم
و اقسم أن ثوبك يا ابن ليلى لمجموع على عرض سليم
أجدّك أن ترى بعد ابن ليلى طعانا بين رامة والغميم
أ أرجو للحواضن كابن ليلى ؟ أحلت إذا على بطن عقيم
عقيدته من شعره
اصول اعتقاده
: إن كتيب التأريخ وكتب السيرة والأدب متفقة من عصر الشريف الى القرن الحاضر ، على انه شيعي إمامي من أسرة هم شيعة إمامية ، وهو - بعد - مؤلف كتاب «نهج البلاغة» الذي ما جمعه إلا وهو معترف بصحته ، وكفى أن شطره او المقذع منه قد اتهم بوضعه ، ونحن إذا سبرنا شعره لنأخذ منه عقيدته حسبما اقترحناه نجده قد جمع اساسيات الإسلام ثم التشيع بقوله :
أصبحت لا أرجو ولا ابتغي فضلا ولي فضل هو الفضل
جدي نبيي وإمامي ابي ورايتي التوحيد والعدل
و قد يجري مجرى ذلك قوله :
جدي النبي وأمي بنته وأبى وصيه وجدودي خيرة الأمم
(1/57)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 59
لنا المقام وبيت اللّه حجرته فى المجد ثابتة الاطناب والدعم
اما جدوده أولئك الذين يقول عنهم : خيرة الأمم ، فقد ذكرهم عددا مفصلا في مقصوراته المشهورة ، وفي المستهلة بقوله : «أيا للّه بادرة الطلاب» حتى انتهى الى أخيرهم ، وهو الذي يقول فيه :
بني أمية ما الأسياف نائمة عن ساهر في أقاصي الأرض موتور
و مما يمتاز به الشريف في شعره ونثره ، حتى في مصنفاته ، أنه لا يستعمل القذف والقذع الشائع في ذلك الزمن ، لمخالفيه فى المذهب والدين ، ترفعا عن هذا المقام الشائن وربما كانت - ايضا - الأحوال الاجتماعية والسياسية يومئذ تصده عنه صدا كليا ، وتسد ذلك الباب دونه ولقد كنت منذ الزمن الأقدم اعجب منه مع كمال أدبه وشدة تحرجه كيف استطاع أن يعلن قوله في آل حرب :
بنى لهم الماضون آساس هذه فعلّوا على بنيان تلك القواعد
رمونا كما ترمى الظماء عن الروى يذودوننا عن إرث جد ووالد
و كيف أعلن بعد إبهام وإدماج قوله :
هم انتحلوا ارث النبي محمد ودبوا الى ابنائه بالفواقر
و ما زالت الشحناء بين ظلوعهم تربي الأماني فى حجور الأعاصر
و لو أن من آل النبي مقيمها لعاجوا عليه بالعهود الغوادر
الى أن يقول فى جده علي عليه السلام :
شهدت لقد آوى الخلافة سيفه الى جانب من عقوة الدين عامر «1»
__________
(1) ويقول في مدحه لابيه يوم الغدير حين ردت عليه بقية املاكه سنة 376 : -
(1/58)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 60
فروع عقائده وما يتصل بها
: إن من الآراء ما يتصل بالعقيدة ، وإن لم يكن ممتزجا بجوهرها ، ولا مميزا لصاحبها عن غيره ، لكنه متكون من معدنها ، او هو من احدى نابتات ارضها ، كقوله :
إن الخلائف والأولى فخروا بهم علينا قبل أو بعد
شرفوا بنا ولجدنا خلقوا وهم صنايعنا «1» إذا عدوّا
و قوله :
أ لست من القوم الذين تسلّفوا ديون العلا قبل الأولى فى الاظلة!
و الاظلة : عالم المجردات ، وهو ما يسمى بعالم الذر ، سمي بذلك لأن الأشياء فيه أشياء وليست بأشياء ، كالظل وقد جاء في أحاديث الامامية عنه وعن شأن الأئمة فيه ما لا حاجة الى ذكره.
ويجري هذا المجرى ما ذكره في اطراء جده علي ، بذكر بعض مناقبه وفضائله في قصيدته البائية التي يذكر فيها آباءه الاثني عشر وشيوع مراقدهم ، كما تقدمت الاشارة لها ، قال :
قسيم النار جدي يوم يلفى به باب النجاة من العذاب
و ساقي الخلق والمهجات حرى وفاتحة الصراط الى الحساب
و من سمحت بخاتمه يمين تضيء بكل عالية الكعاب
__________
- غدر السرور بنا فكا ن وفاؤه يوم الغدير يوم أطاف به الوصي وقد تلقب بالأمير
(1) مأخوذ هذا المعنى من كلمة قالها علي رويت في النهج : «انا صنايع ربنا والناس بعد صنايع لنا»
(1/59)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 61
أما في باب خيبر معجزات تصدّق او مناجاة الحباب [1]
أرادت كيده واللّه يأبى فجاء النصر من قبل الغراب
أ هذا البدر يكسف بالدياجي وهذي الشمس تطمس بالضباب ؟
و كذلك المستهلة بقوله : «بعض الملام فقد غضضت جماحي» وهي القصيدة الفذة التي يذكر فيها وقائع جده امير المؤمنين علي بالبصرة وصفين والنهروان ، ويذكر فيها رد الشمس عليه.
رأيه ببني امية وبنى العباس
:
إن الشريف كما يشنأ الأمويين كافة يشنأ العباسيين ايضا ، لكن الشائن الديني عنده لبني العباس بالمرتبة الثانية ، والذي لم يزل يلهج به هو العتب والمطاولة ، والمدافعة عن الحكم والسلطان ، والعصبية للآباء ، ولذلك نجد مدحه وذمه لهم يتراوح على نسبة وفاء الحق ومطله.
وأرى أنه لو استطاع ألا يمدح سوى النبي وآله صلّى اللّه عليه وآله وسلم - كما يقول - لما مدح غيرهم سوى أسرته ، ولكنه لا يجد بدا من ذلك أما الذم والعتاب فقلما تعرض فيه لدماء مطلولة وحرمة مهتوكة ، ومن ذلك القليل قوله :
ويا ربّ أدنى من أمية لحمة رمونا عن الشنآن رمي الجلامد
طبعنا لهم سيفا فكنا لحده ضرائب عن ايمانهم والسواعد
يريدن ان نلقي إليهم اكفنا ومن دمنا أيديهم الدهر تنطف
فللّه ما أقسى ضمائر قومنا! لقد جاوزوا حدّ العقوق وأسرفوا واما ما لا تعرض فيه لدم مسفوك أو عرض منهوك ، فانه شيء لا
(1/60)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 62
يحصر ، وانا لا أريد أن أحصيه ولكن لأنبه على إقدامه وجرأته على الخلفاء ، تلك الجرأة التي هي السبب في مغامراته وتعريض نفسه للخطر كما يقول عن نفسه :
وأطمعني في العز أنى مغامر جريء على الأعداء والقلب قلّب
فمن ذلك قوله :
وقل لبني عمنا الواجدين : بني عمنا بعض هذا الغضب!
سرحتم سفاهتكم في العقو ق ولم تحفلوا الحلم لما غرب
يناشدنا اللّه في حربكم عريق لكم فى أبينا ضرب
أقلوا علينا لا أبا لأبيكم ولا ترشقونا باللتيا وبالتي
تريدون أن توطا وأنتم اعزة بأيّ كتاب أم بأية سنة!
أما بنو امية فانه لا يذكرهم إلا في مراثي آبائه ، لما لاقوا منهم ، ولذلك نجده إذا ذكرهم يمزج الدمع بالدم وبالذم ، ويخلط الاسا بالاسف ، ولا يبالى أن ينتحي عليهم من وجهة الشائن الديني فيقول في رثاء جده الحسين وآله وأسرته قتلى الطف :
أدرك الكفر بهم غايته وأديل الغي منهم فاشتفى
يا قتيلا قوّض الدهر به عمد الدين واركان الهدى
عقيدة الزيدية والاعتزال
: غريب ما سمعته في هذه الآونة من رمي الشريف بالزيدية ، وبنزعة الاعتزال ، وما كان هذا بالذي يدور بالخلد. وارى انّ تلك المهمة - الزيدية - قد لصقت به من قبل آبائه لامه ، لأن بني الناصر الكبير ابي
(1/61)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 63
محمد «الحسن الأطروش» صاحب الديلم ، لكن هذا قد ثبت لدى علماء الرجال من الامامية ، وفي طليعتهم السيد الشريف المرتضى علم الهدى في كتابه «شرح المسائل الناصرية» نزاهته ونزاهة جميع بنيه عن تلك العقيدة المخالفة لعقيدة أسلافهم «1».
سوى ان اصطلاح الكتاب أخيرا جرى على تسمية الثائر فى وجه الخلافة : زيديا ، ولمن كان بريئا من عقائد الزيدية ، يريدون انه زيديّ النزعة لا العقيدة ، وربما تطرفوا فجعلوا لفظ «زيدي» لقبا لكل من تحمس للثورة ، وطالب بحق زعم انه اهله ، وإن لم يجرد سيفا ، ولم يحد قيد شعرة عن مذهب الامامية في الامامة ولا عن طريقة الجماعة ولقد كان ابو حنيفة في نقل ابي الفرج الاصبهاني زيديا ، وكذا احمد وسفيان الثوري وأضرابهم من معاصريهم ومراده من زيديتهم أنهم يرون أن الخلافة الزمنية جائرة ، وأن الخارج آمرا بالمعروف أحق بالاتباع والبيعة.
__________
(1) الذي يقال انه امام الزيدية هو الملقب بالداعي الى الحق ، وهو الحسن ابن زيد من بني زيد بن الحسن السبط توفي بطبرستان سنة 250 ، وقام مقامه الداعي الى الحق اخوه محمد بن زيد. واما الحسن بن علي الملقب بالناصر للحق الكبير وهو الأطروش أحد أجداد الشريف لامه ، والحسن او الحسين بن علي - او ابن احمد - الملقب بالناصر الأصغر وهو والد أم الشريف فليسا من ائمة الزيدية ، ومن زعم ان الناصر امام الزيدية فقد اشتبه عليه الداعي للحق بالناصر للحق ، ولا يبعد دعوى أنه زيدى ، لكن ؟ ؟ ؟ بريء عن تبعة اعتقادهم. وقد توفي الناصر الكبير بطبرستان سنة 304 وهو من بني الحسين السبط ينتهي نسبه الى عمر الأشرف بن الامام السجاد علي بن الحسين كما تقدم.
(1/62)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 64
اما النزعة الاعتزالية فقد ظهرت عليه في مسألة (الارجاء والوعيد) ومسألة (خلق الجنة والنار) ، ولكن موافقة المعتزلة في رأيين يتبعهم فيهما كثير من الناس لا يقتضي الرمي بالاعتزال ، على أن الاعتزال منهج لا عقيدة يسلكه الامامي وغيره ، ولقد كان الشيخ ابو جعفر الطوسي يقول بالوعيد ثم رجع عنه. وما من منقصة على إمامي إذا ذهب في مسألة الى رأي من يقول بالعدل ويبنى أصله عليه. ومع ذلك فالشريف ليس بالرجل الذي يوافق المعتزلة على سائر آرائهم. وإن شئت فقل :
هو إمامي واقف فى حيطة اعتزال محدود لا يتجاوز آراء خاصة. وبعد هذا فمن يتعمق في مناحي كتابه هذا (حقائق التأويل) يعرف انه هو الرجل الذي إذا قاده البرهان الى شيء لا يبالى ان يجاهر به ، ولا يحفل أن يتفق اهل الملل كافة على خلافه.
إن الكتاب المذكور يحدثنا عنه بأفصح بيان وأبلغه أنه لا يتطامن للعقيدة تقليدا ، ولا يأخذ بها اتباعا ، وأنه ربما مرّ عليه الزمن الأطول وهو شاك تتضارب لديه الحجج وتتنافى عنده البراهين ، وأنه لا يزال كذلك حتى يحصل له الإذعان بشيء بعينه ، فاذا حصل ربما عدل به عن امر كان يراه صوابا وعن شيء كان معتقدا له ردها من الزمن. وتجد مثالا لذلك في ص 16 - 17.
(1/63)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 65
مناصبه
تمهيد
لا أريد في هذه النّبذة أن احدد هذه الأمارات وما يجب فيها ، وما يلزم الأمير والمأمور ، ولكن بمقدار ما تعلم به كرامة الشريف وحياته الاجتماعية من ناحية هذه المناصب الثلاثة التي عرفنا من مطاوي الفصول السابقة أنها عهدت اليه لكن جاء في معاتبة القادر له على ممالأته لملوك مصر زيادة على ذلك ، وهي «الخلافة على الحرمين والحجاز» ، إذ قال حاجبه لأبيه ابى احمد : «ألم نولّه المظالم ؟ ألم نستخلفه على الحرمين ، وجعلناه امير الحجيج ؟ ». وهذا المنصب لا نجد له في فخرياته أثرا وعسى أن يكون عهد اليه فى أخريات أيامه.
(1) النقابة
: كان اشتراع النقابة على الطالبيين خاصة ، فى ملاك وظائف الدولة ، سيما في القرن الذي عاش فيه الشريف وما بعده ، من أصوب التدابير التي اتخذها الملوك المستبدون بالحكم في أقطار الشعوب الاسلامية التي يكثر فيها الطالبيون ، لأن هؤلاء كانوا يتواثبون على الخلفاء وولاة الحكم بما يقلق الراحة ويخل بالأمن ، او يزلزل العرش موقتا ، كل ذلك إعادة للحق المهتضم - باعتقادهم - الذين يرون انهم وراثه الشرعيون ، لا غيرهم ومن جهة اخرى كان الناس بل الملوك يرونهم طبقة ممتازة بالشرف والانتماء الى الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، وانه يجب من جهة التعظيم والتكريم اللازمين أن تشرع لهم انظمة خاصة ، ويرعاهم رجل منهم يكون كخليفة عليهم وهو
(1/64)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 66
«النقيب» وهذا يلزم بطبيعة الحال أن يكون علويا له الشرف في البيت والتقدمة في العلم والعمل والآداب ، وفى العفة ونزاهة المولد وطيب المحتد ، وقل - إن شئت - : له مميزات التفوق على كافة من سواه من الطالبيين الأكفاء فضلا عن غيرهم ، ويكون ذا سلطة واسعة وله تقدير خاص فى التعظيم والاحترام من قبل الخلفاء والولاة. فهي إذا «خلافة مصغرة» و«حكومة ضمن حكومة».
و«النقيب» هو المسئول عن اتباعه امام الخلفاء والملوك ، وهو مديرهم ومدبرهم باقامة العدل فيهم والنكال بمن شذ عن منهج الشرع الأقدس منهم ، كما انه هو المدافع عن كرامتهم عن أن تمس بما يشينها ومن جهة اخرى هو المكلف بالعطف عليهم وبإحصاء نفوسهم ، وتنزيه أنسابهم ، ومعاقبة مدعي النسبة إليهم ، وكف من استطال منهم بشرفه على غيره ، وردعهم عن كل ما يوجب الطعن على أسلافهم الطيبين من منافيات الأدب والمروءة ، ومباينات العزة والشرف. إذا لا تكون النقابة إلا في بيت الشريف ابى احمد يومئذ.
ولي النقابة والد الشريف الرضي ، ولما اعتزلها سنة 362 وليها جد الرضي لأمه ابو محمد الناصر ، ثم أعيدت له الى ان اعتقل بالقلعة بفارس نحوا من عشر سنين ، وولده الشريف الرضي يومئذ شاب ، فوليها بعض أخوال امه «1» ، وعند عودة ابى احمد ردت اليه الى ان شاخ
__________
(1) هو ابو الحسن علتميزا بصلاحه وصواب رأيه» ، ويقال «1» :
«إنه ولي النقابة بعد أبيه ولم يتولها عمه مادام حيا».
(2) ولاية ديوان المظالم
:
كانت الخلفاء والملوك تعد يوما أو أياما خاصة فى السنة تأذن فيها لأهل الظلامات عامة برفع ظلاماتهم لهم ، فيتولون البتّ فيها مباشرة ثم تطور الشأن ، فجعل لها ديوان يخصها ، وجعلت وظيفة دائمة يتولاها الأكفاء من ذوي الدرجات الرفيعة والوجدان الصحيح البعيد عن التهم ، وهي أشبه برئاسة التمييز الأعلى المشترع في عصرنا فى ملاك وزارة العدلية «2» لأن تلك الظلامات على الأغلب ليست مولدات وقتها ، بل هى منظورة من قبل للقضاة وللحكام الاداريين الذين إليهم ترفع المظالم ابتداء ، وهم المحكمون في امر الخصومات ، ولذلك يلزم والى هذا الديوان ان يكون متفوقا في وفور العلم والفضل ، ممتازا بالاحاطة التامة بفقه فرق المسلمين كافة.
وإذا امتاز الشريف الرضي بالكفاءة للنقابة فهو لرعاية المظالم أولى بالكفاءة ، لعفته وصحة وجدانه ، مع علمه وفضله ، وقد تولاها سنة
__________
(1) المجالس للقاضى نور اللّه الشهيد.
(2) او مساوية لرتبة قاضي القضاة. وليست بها لان الشريف أبا احمد مع ولايته المظالم أراد بهاء الدولة ان ينصبه لقضاء القضاة فلم يمكنه القادر.
(1/65)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 69
388 هي والنقابة وامارة الحج ، على نقل ابن خلكان والأرجح أنه وليها قبل ذلك بأمد بعيد ، ويظهر من الحديث الذي نقله ابن أبى الحديد عن ابى الحسين الصابي وابنه غرس النعمة محمد ، في تأريخهما ، أن الذي ولّاه المظالم هو القادر العباسي ، لكنه لم يذكر عام ولايته.
(3) امارة الحج
:
كان من مراسم الخلافة منذ العهد الاول غزو الصائفة وحضور الموسم بمكة ، فان لم يغز ولم يحج الخليفة ، ناب في ذلك عنه غيره : من وال او امير أو ولى عهد. وكان أول من حج بالناس من الطالبيين هو ابراهيم ابن موسى بن جعفر (الجد الأعلى للشريف الرضي) فى أيام المأمون «1» وليس هذا من إمارة الحج في شيء بل الأمير هو الحامي لقطار الحجاج فى طريقه الى مكة ، من الأماكن الشاسعة عنها كالعراق والبصرة ومصر وخراسان ، وهو المصرّف لمقدرات الدولة في الحجاج الذين ينضمون الى لوائه ، وله وجائب تذكر ، وسلطة يصدر بها من ديوان الحكم مرسوم خاص ينهيه الملك ويمضيه الخليفة أو أن الأمر بالعكس ...
إذا كانت إمارة الحج من الضروريات في الدول الاسلامية ما دامت تدأب في إقامة الشعائر الدينية الكبرى ، فمن الضروري ان يعهد بها الى الشريف او والده الطاهر لأن الحجاج لا بد لهم من قطع البوادي المترامية الأطراف التي يتقلص عند التوغل بها نفوذ الحكم المدني ، ويكثر فيها السلب والنهب وهذا يتوقف على أن يكون ذا كرامة شخصية وسلطة
__________
(1) المسعودي في تاريخه :
(1/66)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 70
غير مستفادة من السلطان ، وذا صلات برؤساء الاعراب المتنفذين ، ليعتصم الحجاج به منهم ومن سائر الغزاة وقطاع الطريق كما تقدمت الاشارة الى ذلك. وقد احتكرت هذه الأمرة ببيت ابي احمد ، لان فيها إقداما على المكاره والمعاطب ، وتعرضا للاخطار التي لا تحتملها إلا بسالة ابى احمد وهي بعد موقوفة على ذلك الجاه وتلك الجلالة التي يتفرد بها هو وبنوه.
تولى الشريف الرضي هذه الامارة منذ صباه في اكثر ايام حياته وزيرا لابيه ، ونائبا عنه ، ومستقلا بها ، وقد اشرب قلبه فيها كأسا مترعا من المنازع الكبرى الجميلة ، والطموح الى المرتبة التي ما بعدها غاية ، لأن تلك الامارة مهما كانت محدودة هى مثال مصغر من تلك المرتبة التي يتوق إليها منذ صباه ويرى أنه الأجدر بها من أولئك المهتضمين المتطفلين.
علمه
شهرته العلمية
: شهرة الشريف بالشعر ليست فقط لاجادته فيه. بل لا كثاره منه أيضا. اما العلم فهو فيه مجيد للغاية ، مجيد فيه نحو اجادته في الشعر ، سوى انه ليس بمكثر من التأليف ولا متجرد له ، ولذلك لم يشتهر به واخرى أن الشعر ما زال عند تزاحم الفضائل غالبا على كل فضيلة بالسمعة والشهرة لصاحبها ، ومهما تحمس وأكثر من نحو قوله :
(1/67)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 71
مالك ترضى ان تكون شاعرا بعدا لها في عدد الفضائل
فهو شاعر ، والشعر هو الذي طوى سمعته في العلوم الدينية بفنونها ، وفي العلوم الأدبية على تشعبها ، وهذا الجزء الخامس من كتابه (حقائق التأويل) أكبر آية على إتقانه للفنون العلمية الدينية ومبادئها ، ووقوفه على اسرارها ودقائقها ، وكفى بقول معاصريه فيه : انه «يتعذر وجود مثله».
تأثير اعماله وشعره على التأليف
:
نقدر الشريف مؤلفا ومدرسا يلقي محاضراته يوميا في مدرسته (دار العلم) في السابعة عشرة من سنيه ، وأن الثلاثين الباقية من عمره قد ذهب الشطر منها بولاية امارة الحج التي لا تتفق مع التأليف ، وهلك الشطر الآخر بالنظر في المظالم وفي مقتضيات النقابة ولا تنس ضياع الوقت بنظم الشعر في الأعياد والمواسم السنوية ، وما يتفق في أثناء العام الواحد من مراث وتهان ومعاتبات. إذا تنتهي الثلاثون منه لما دون العشرين ، وكم يحصل الكاد الكادح من العلوم في عشرين عاما إذا كان متعبا وكانت زياراته للعظماء لا تزال متبادلة وشفاعاته لذوي الحاجات متواترة. إذا فكيف تمت له تلك التآليف والتصانيف الجملة التي تقصر عنها ازمنة فراغه.
إذا عرفنا أنه ابتدأ بنظم الجيد من الشعر لعشر سنين ، او بعد أن جاوزها قليلا «1» ، وانه تلقى علم النحو من ابن السيرافي لدون عشر
__________
(1) يتيمة الدهر.
(1/68)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 72
فاتقن أصوله «1» ، وأنه زاول القرآن بعد أن دخل فى السن فحفظه فى مدة يسيرة «2» - نعرف توقد ذكائه وجودة حفظه وسرعة انتقاله واستمرار حفظه لما وعاه ، ونقدر له العشرين بضعفها ، ونعلم ان نظمه للشعر لا يختلس من وقته الا قدر ما يكتبه او يمليه ، وأن تلك العوائق لم تكن لتصده عن الاشتغال بالعلم مدرسا ولا مؤلفا.
وهذا يدلنا على انه منذ قارب العشرين لم يحتج ان يتلمذ على أحد ، وأنه قد يعتمد على نفسه فى التحصيل اكثر مما يتلقاه من الاساتذة ، فيكتب كتابة واثق بنفسه غير مقلد لأحد ، وحسبنا في التدليل أن نحيل على كتابه هذا. وهذا ديوان شعره الفخم إذا سبرناه لا نجده قد اضطره التكلف فى بيت واحد إلى خطإ في اللغة والاعراب.
مدرسته دار العلم ومكتبتها ومجمعه الادبى
ينبؤنا ابن خلكان أنه اتخذ لتلامذته عمارة سماها (دار العلم) وأرصد لها مخزنا فيه جميع حاجياتهم من ماله ، وأنه عند ما أهدى لهم الوزير المهلبي هدية - على كره وإباء من الشريف - لم يمد أحد منهم يدا إلى شيء منها وكيف يرمقها أحدهم ببصره ، وهو مكفي المئونة غني النفس صادق النية في طلب العلم. وإذا كانت العمارة للشريف والنفقة عليه والتلامذة منسوبون إليه ، فهو هو الذي يلقي عليهم إفاداته دروسا يومية متتابعة ، لأن إلقاء المحاضرات غبا ، وإلقاء عهدتها إلى غيره
__________
(1) ابن خلكان.
(2) ابن خلكان عن ابن جنى ، ويقول صاحب العمدة :
انه حفظه على الكبر. وفي شرح النهج : حفظه بعد ان جاوز الثلاثين في مدة يسيرة. [.....]
(1/69)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 73
تعللا بزيارة زائر أو حرفة شاعر ، نقض لهمم الطلاب الذين يقتدون في نشاطهم بالاستاذ. وإن من تتوفر عليه التلامذة زمن أستاذ الكل في الكل الشيخ (المفيد) أعلم علماء الامامية وأبرعهم في الفقه والكلام والجدل وأعرفهم بالأخبار والاشعار ، وزمن (الشريف المرتضى) الفقيه المتكلم خليفة المفيد ، لهو حقيق أن يكون موازيا وموازنا لهما في فنون العلم وسائر مميزات التفوق.
إن (دار العلم) ليست مدرسة فقط ، بل ومكتبة أيضا ، وهي ثالثة المكتبتين الشهيرتين ببغداد : فالمكتبة القديمة منها هي التي أسسها الرشيد وتدعى (بيت الحكمة) ، والحديثة هى التي انشأها وزير شرف الدولة البويهي أبو نصر سابو بن أردشير سنة 381 «1» ، وقد حدث عنها ياقوت واطراها. وكان الخازن لمكتبة (دار العلم) هو ابو احمد عبد السلام بن الحسين البصري صاحب الصيت الذائع فى علم تقويم البلدان. وكان لعبد السلام هذا مجمع علمي خاص ببغداد وينعقد له يوم الجمعة كل أسبوع. وهناك مجامع عامة : أحدها مجمع زعيمه الشريف الرضي يحضره الأدباء على اختلافهم ، وآخر لأخيه (الشريف المرتضى) وهو من المجامع الفلسفية الكلامية العامة ، وثالث للوزير ابى نصر السالف ذكره ، ورابع لابى حامد الاسفرائيني من فقهاء الشافعية يحضره نحو سبعمائة متفقه ، وخامس للشيخ المفيد يحضره من فقهاء الامامية أكثر من ذلك ، وكانت المحاضرات العامة تلقى على الناس في هذه المجامع من
__________
(1) وهذا من عظماء الديالمة وعلمائهم ، وقد عقد في اليتيمة فصلا لمدحه على حدة.
(1/70)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 74
أولئك الأئمة فى شتى العلوم والفنون.
اساتذته
:
إن السيرة تنص على مكانة للشريف في العلم والفضل فتهمل تفصيل تلك المكانة ودرجتها ، كما تهمل ذكر المشائخ الذين أخذ العلم عنهم إلا الشاذ النادر ، ونحن إذا تحققنا حال أولئك الأساتذة في تكثرهم وتفوقهم ، برهن ذلك لنا على مبادئ تحصيله ، وعلى الجد والذكاء نعتمد فيما انتهى إليه تحصيله. وإذا كانت السيرة أغفلت ذكر أساتذته فان كتبه الفذة تنبؤنا عن كثير منهم : ينبؤنا كتابه «المجازات النبوية» أنه قرأ على قاضي القضاة ابى الحسن (عبد الجبار بن احمد) الشافعي المعتزلي كتابه المعروف ب «شرح الأصول الخمسة» ، ولعله «المغني» ، وكتابه الموسوم ب «العمدة» في أصول الفقه وعلى (أبى بكر محمد ابن موسى الخوارزمي) أبوابا في الفقه وعلى (أبي عبد اللّه محمد بن عمران المرزباني) في الحديث وعلى (ابى الحسن علي بن عيسى الربعي) وعلى (ابي حفص عمر بن ابراهيم الكناني) صاحب ابن مجاهد القراءات السبع بروايات كثيرة.
ويصرح كتابه «حقائق التأويل» أنه قرأ على الخوارزمي الآنف مختصر الطحاوي وعلى (ابى محمد ، عبد اللّه بن محمد) الاسدي الأكفاني مختصر ابى الحسن الكرخي وعلى (أبى الحسن علي بن عيسى الرماني) كتبا في النحو ذكرها فيه ، وأنه قرأ عليه العروض لابى إسحاق الزجاج والقوافي لابى الحسن الأخفش. ولم يذكر ابن خلكان فى أساتذته غير
(1/71)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 75
ابن جني. وزاد في (الدرجات الرفيعة) قراءته هو واخوه المرتضى وهما صبيان على ابن نباتة صاحب الخطب ، ولعلهما قرءا عليه شيئا من علم البلاغة وآداب اللغة العربية. وإذا كان هؤلاء مشايخه من علماء الجماعة ، فكم كان مشايخه من غيرهم ، ومن يعرف المفيد بما تعرفه الامامية يكتفي به عن مئات من المشائخ لو تلمذ عليهم ، وما كنت في هذه النبذة بحريص على ذكرهم لو لا تأكيد البرهان على علو كعب الشريف في فنون العلم.
و قد يستغرب بعض البسطاء إغراق الشريف في دراسة الفقه وأصوله وأصول الكلام على طريقة مخالفيه في الطريقة ، لأن هذا البعض لا يهمه إلا معرفة الأحكام الشخصية الخاصة به لصلتة المذهبية بها فحسب ، ولكن العلماء في القرون السالفة ما كان يقنعهم غير الإحاطة بأحاديث الفريقين وفقههم معا ، وبالأصول التي تبنى عليها ، تكميلا للنفس وتتميما للتهذيب وإعلاء لمنار الاحتجاج ، لما أن سوق المناظرة كانت رائجة وخطة الجدل في الامامة والكلام متسعة. ولعلما كان الشريف يؤكد رغبته في ذلك زيادة على ما ذكرنا ، ابتلاؤه بالنظر في المظالم وما يجري مجراها ، ليعرف الفقه على تلك الاساليب المتبعة كقانون للدولة لا بد من معرفته.
مؤلفاته
: للشريف الرضي مؤلفات ومصنفات جمة في فنون الأدب والعلوم الدينية ، لم ينته إلينا إلا النزر منها ، ولم نر إلّا اسماءها واطراءها في كتب
(1/72)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 76
السيرة ، وفي فهارس المصنفين ، وتقول هذه عن بعضها : إنه «يتعذر وجود مثله» ، لكن من يقف على أي كتاب للشريف يعتقد فيه أنه يتعذر وجود مثله ، لانه لا يجد فيه فراغا للزيادة ولا قصورا فى الجمع ولا موردا للنقد ولا مجالا لنصنيف ما يغني عنه او يسد مسده وهأنذا أعد ما اعرف منها سردا منبها على المحل الذي ذكرت فيه في الأغلب :
1 - (نهج البلاغة) : الكتاب الفذ الذي تغني شهرته عن تعريفه ، وهو فى حسن اختياره من كلام امير الكلام أكبر دليل على وغوله في علم البلاغة ، وبلوغه فيه محلا ما بلغه المؤلفون فى فن البلاغة وقد ذكره المؤلف في هذا الجزء من حقائق التأويل وفي المجازات النبوية مكررا. وقد طبع النهج مرارا بايران وبيروت ومصر طبعات عديدة ، وعلقت عليه تعليقات جمة وشروح كثيرة أبسطها فيما أعلم شرح ابن أبي الحديد المعتزلي.
2 - (خصائص الأئمة) : ذكره مؤلفه في صدر (نهج البلاغة) وأطراه ، وقال : إنه وقع موقع الاعجاب من جماعة من الأصدقاء ، وأنه بمناسبة ما ذكره في آخر فصوله من محاسن كلام امير المؤمنين (ع) سألوه أن يفرد مؤلفا لكلامه لا يشذ عنه شيء من بليغه تصل اليه اليد وتبلغه القدرة. والكتاب يشتمل على محاسن أخبار الأئمة وجواهر كلامهم كما يقول هو عنه ، ذكره في (كشف الظنون) أثناء كلامه عن نهج البلاغة ، ونقل منه السيد ابن طاوس الحسني الداودي فى كتابه «الطّرف» أحاديث في فضل علي ، وكذا العلامة المجلسي في كتابه (بحار
(1/73)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 77
الأنوار) فانه نقل عنه كثيرا بنحو يظهر منه انه وقف عليه وتوجد في العراق نسخ باسمه تشبهه في المنهج ، لكن لم تصح نسبتها.
3 - (مجازات الآثار النبوية) : من كتبه الشهيرة طبع ببغداد سنة 1328 وله نسخ في العراق قديمة الخط ، وهو كتاب فذ في بابه أسقط المطبوع منه كثرة ما فيه من أغلاط تفوق حد الحصر.
4 - (تلخيص البيان عن مجازات القرآن) : ذكره ابن خلكان ووصفه بأنه نادر في بابه ، وفي كشف الظنون سماه ب (المجازات للسيد الرضي) ولم يزد على ذلك ، وكفى أن مؤلفه نفسه ذكره في كتابه المجازات النبوية في ص 2 ، 3 ، 9 ، 145 وقال عنه وعن كتابه المجازات النبوية في ص 3 : «إنهما عرينان لم اسبق الى قرع بابهما» ، وذكره أيضا فى حاشيته على كتابه هذا المطبوع ص 153.
5 - (حقائق التأويل في متشابه التنزيل) : ذكره اكثر من ترجم الشريف وجميعهم مطبقون على تقريضه وتفخيم نعوته حتى قيل عنه :
«يتعذر وجود مثله» كما مر فى المقدمة بقلم ادارة (منتدى النشر).
و سماه فى (عمدة الطالب) كتاب المتشابه ، والمراد به هذا الكتاب لانه مخصوص بالمتشابه ، ولذلك نجده في كتابه (المجازات النبوية) يحيل عليه في موضع فيسميه حقائق التأويل ويصفه بالكبر ، وفى موضع آخر يهمل التسمية ويعبّر عنه بالكتاب الكبير في متشابه القرآن ، وهذه النعوت تنطبق على المسمى بحقائق التأويل ، لأنه كبير ولانه فى المتشابه خاصة.
(1/74)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 78
و إذا كان هذا الكتاب - الذي لم يعثر إلا على هذا الجزء الخامس منه - يتمم كله عشرة أجزاء كما قيل ، فانه يكون بالقياس الى كتاب (التبيان) في تفسير القرآن للشيخ أبى جعفر الطوسي المتوفى سنة 440 اكبر حجما وأغزر مادة وأتم فائدة وأعم نفعا «1».
6 - (كتاب سيرة والده الطاهر : ) مجموع يشتمل على مناقبه ومآثره وما تم على يده من إصلاح عام ، ألّفه سنة 379 ، وذلك قبل وفاة والده بإحدى وعشرين سنة ، وقد شاخ أبوه يومئذ ويقال : إنه كف بصره ، وقد ذكر الشريف هذه السيرة فى قصيدة يمدح بها أباه في السنة المذكورة منها قوله :
لما نظرت الى علاك غريبة ومضيّع راعى المناقب مهمل
أحرزتها متوغلا غاياتها والمجد ملء يد الذي يتوغل
في سيرة غرّاء تستضوي بها الدنيا ويلبسها الزمان الأطول
7 - (كتاب رسائله) : ثلاث مجلدات ، ذكر في الدرجات الرفيعة بعضها ، ونشرت مجلة العرفان شيئا منها.
8 - (كتاب ما دار بينه وبين أبى إسحاق الصابي من الرسائل) يعني بذلك الرسائل الشعرية الموجود كثير منها في ديوانه ، لا رسائل النثر.
__________
(1) نقل كثير عن ابى الحسن العمري النسابة انه قال : «رأيت تفسيره للقرآن فرأيته احسن التفاسير يكون في كبر تفسير ابى جعفر الطوسي او اكبر ونقل الأكثر هذه العبارة : «شاهدت مجلدة من تفسير منسوب اليه (الرضي) مليح حسن يكون بالقياس في كبر تفسير الطبري».
(1/75)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 79
9 - كتاب الزيادات فى شعر ابى تمام.
10 - مختار شعر أبي إسحاق الصابي.
11 - (منتخب شعر ابن الحجاج) سماه «الحسن من شعر الحسين» يعني أبا عبد اللّه الحسين بن أحمد بن الحجاج الشاعر المشهور المتوفى سنة 391 ، توفي بالنيل وحمل الى بغداد فرثاه الشريف على البديهة بقصيدة مذكورة فى ديوانه ، وكانت له معه صحبة وصداقة ، وكان خليعا بذيّ اللسان يستعمل الفحش في غالب شعره حتى ما يمدح به الملوك.
12 - كتاب أخبار قضاة بغداد.
13 - «تعليق خلاف الفقهاء 14 - «تعليقته على إيضاح ابى علي الفارسي «1».
15 - (ديوان شعره ، وللشريف عناية بشعره لأنه جمعه «2» ، ولانه طلب منه وشرح بعضه في زمانه ، فمدح شراحه «3» ومدح طالبيه «4». وما أرى جمعه له إلا كجمع أخيه الشريف المرتضى لديوانه الذي لم يزل باقيا على ترتيب ناظمه ، وهو ترتيب نظمه في الأزمان المتمادية ، لم ينسق على حروف الهجاء أو على الأبواب.
__________
(1) ذكرت هذه الكتب في عمدة الطالب في انساب ابى طالب وفي رجال النجاشي
(2) يدل على ذلك ان الصاحب امر بانتساخ تمام شعره وكذلك ابنة سيف الدولة ، وذلك كله في زمانه.
(3) شرح ابن جنى قصيدته في رثاء ناصر الدولة المقلد بن المسبب التي أولها :
«القى السلاح ربيعة بن نزار» فمدحه الشريف بقصيدة منها :
فدى لابى الفتح الأفاضل أنه يبر عليهم ان ارم مقالا
(4) كما مدح الصاحب وابنة سيف الدولة ورثاهما.
(1/76)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 80
و يؤكد لنا جمعه في زمانه أن جامع ديوانه عنون قصيدة له في مدح بهاء الدولة بأنها وجدت في مسوّداته خارجة عن الديوان فاثبتت فيه ، وعنون غيرها بأنها من الزيادات ، ولم توجد في ديوانه منحولة له ، ومراده انها متأخرة في النظم عن جمعه ، كما يقال ذلك في المستهلة بقوله :
«كربلا لا زلت كربا وبلا» لانها آخر ما نظمه.
تذكر السيرة ويذكر ابن خلكان عن ديوان الشريف أنه عني بجمعه جماعة وأن أحسن وأجود ما جمع هو ما جمعه (أبو حكيم الخبري) بالباء الموحدة بعد الخاء المعجمة نسبة الى خبر ناحية بشيراز ، وكان ابو حكيم هذا يعرف العربية ويكتب الخط الحسن ويضبط الضبط الصحيح وانا لا نعلم أن أبا حكيم هل رتبه على الأبواب او على حروف الهجاء او عليهما معا ، كما هي مرتبة عليه النسخة المطبوعة التي بأيدي الناس اليوم.
يقول السبكي في (طبقاته) عن ابى الحكيم الخبري أنه شرح الحماسة وعدة دواوين كالبحتري والمتنبي والرضى الموسوي ، ولم يذكر له في (بغية الوعاة) غير شرح ديوان البحتري والمتنبي ولا نعرف مرادهما من الشرح ولعل المراد الجمع مع تفسير بعض الغريب ، كما لا نعرف من هو ابو الحكيم ومتى كان وما اسمه ؟
و قد طبع ديوانه مرتين أجودهما طبعة بيروت سنة 1307 ، لأنها أقل غلطا من الطبعة الاولى بمصر التي لا يكاد ينتفع بها. وقد علق على الطبعة الجيدة بشروح طفيفة وهى تقع في مجلدين يشتملان على 986 صفحة ، اما الاخرى فهى في مجلد واحد يقع في 547 صفحة.
(1/77)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 81
أدبه
ميزة شعره
:
يسجل الثعالبي في «اليتيمة» للشريف أنه (أشعر الطالبيين) من مضى منهم ومن غبر على كثرة شعرائهم المفلقين. ويروي الخطيب البغدادي عن ابى محفوظ شهادة جماعة من أهل العلم والأدب - وهو معهم - أنه (أشعر قريش). وهذا ما لا أريد أن احتفظ به لا علقة وساما على صدر الشريف وامنحه رتبة (امير الشعراء) وهو أمير الكلام ، لأن هذه المرتبة دون شاعرية شاعر رفه البال ذكي الخاطر واسع الخيال معتدل الذوق ، قد زاول القريض منذ صباه مكبا عليه ، حتى كملت قدرته على الإبداع فيه ما شاء ، فسهل عليه التصرف في فنونه ، وأخذت تلك الفنون على تشعبها نصيبا وافرا من جزالة اللفظ وفخامة المعنى وسلامة التركيب وبهذا فاز شعره ، وهو أقصى ما يمتاز به شاعر على آخر. ولكني لا أريد ان أخص شعره به.
إن الذي أرمي إليه أن أبين أمرا هو خفي ظاهر في آن واحد ، أرمي لا عرب عن أن الذي ماز شعر الشريف. وبه تسنم سرير الامارة الممهد ، هو أن شعره الذي قد يساويه فيه غيره من فحول الشعراء من جهة ما كأبى تمام والبحتري والمتنبي (شاعر العصور) ، عليه رونق من أبّهة التاج وحشمة الملوك ، عليه روعة وهيبة وجلالة لا نجدها فى شعر خليفة ولا ملك فضلا عن غيرهما ، لا نجدها فى شعر ابى فراس وابن المعتز ، وحتى
(1/78)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 82
لا نجدها في شعر أخيه الشريف المرتضى شقيقه فى النسب ، وقرينه في الحياة الاجتماعية وفي الأحوال التي مرت عليهما من شدة ورخاء وعزة وأبهة. وهذا هو الذي رفع شعره عن مستوى مماثليه فيه نوعا ما الى ذروة بعيدة المرتقى ، ولذاك مع مناسبات أخرى أعجب الصاحب ابن عباد - نيقد الشعر - الذي يعيب شعر المتنبي وينقده نقدا مرا ، فأنفذ الى بغداد من ينسخ له ديوانه وكتب إليه بذلك سنة 385 ، وعند ما سمح له به وأنقذه مدحه بقصيدة منها قوله :
بيني وبينك حرمتان تلاقتا نثري الذي بك يقتدي وقصيدي
و وصائل الأدب التي تصل الفتى لا باتصال قبائل وجدود
إن أهد أشعاري إليك فانها كالسرد أعرضه على داود
و تلك (تقية) بنت سيف الدولة بن حمدان ، ماذا راقها من شعر الشريف ، وهي امرأة ولديها ديوان المتنبي المليء بمدائح الأسرة الحمدانية وتهانيهم ومراثيهم ، وهو هو ذلك الفحل المطرق الذي يقف صفا واحدا والشعراء في صف واحد من ناحيتي بعد المعاني ومطابقة اللفظ لها ؟ انه راقها وراعها جميل ديباجته ورونق الحشمة والجلالة التي اصطبغ بها ، فأنفذت من مصر من ينسخه لها وهى لا ترى هدية انفس منه يوم حمل إليها ، ولعلما كانت هذه الصلة الادبية بينهما هي التي أثارت عواطفه فرثاها وقد توفيت بمصر سنة 399 ومما قال في قصيدته بعد إطراء بني حمدان :
إذا ابتدرت نساؤهم المساعي فما ظني وظنك بالرجال
يقال في إطراء شعر أو تحديد مقداره : إنه رقيق الديباجة جزل
(1/79)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 83
المعرض ناصع الأسلوب. وهذه ألفاظ غير محدودة المعنى ، بل يختلف معناها باختلاف الأذواق ولكن ليس من قبيل هذه الكلمات المبهمة ما نطري به شعر الشريف بابهة التاج وحشمة الملوك ، وبالروعة والجلالة ، لأن هذه الصفات محسوسة محدودة المعنى لا تتحكم بها الأذواق ، ولذا لا نجد فيما نحكم له بها خلافا من أحد مهما كان ذوقه ومهما لطف مزاجه.
مقارنته بالمتنبي
:
إذا نحن أردنا أن نقارن بين شعري الشريف والمتنبي - ولا بد من المقارنة وهو ذلك الفحل الغوار على المعاني وشعره ذلك الشعر الفخم العالي - لا نجد شعر الشريف يفوقه فيما ذكرناه من الابهة والجلالة فقط ، بل تجد كثيرا في شعر المتنبي غموض المعنى وغرابة اللفظ ووعورة المسلك ، ثم المبالغة والغلو بصوغ الأكاذيب تاجا لكثير ممن لا يستحق إلا الجفوة ، ثم الفخر الكاذب والدفاع عنه ، وبعد ذلك نجد الكلمات القبيحة التي يستعملها الخلعاء ، أما القذف والقذع في الهجاء فحدث عنه ولا بأس عليك ، وإذا كان الغلو والكذب والهجاء من الأمور الشائعة التي قلما يخلو عنها شاعر ، وقد تدعو الظروف لها ، فان فيما عداها كفاية في سقوطه أمام شعر الشريف النزه.
إن عمدة ما بمتاز به شعر المتنبي هو بعد المعاني مع تقريبها الى الحس بألفاظ تطابقها ، غير نابية ولا مبذولة ، وهو الشطر الأوفر من شعره في جميع ضروبه حتى في الهجاء والمجون ، وهذا بعض ما حازه شعر الشريف إلا النادر منه ، بلا أن يلوح عليه ما يظهر على شعر المتنبي من
(1/80)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 84
تكلف ممقوت وتعمل مرذول وغموض في الغرض ، وألفاظ نفرت عن حيطة التوسط الى درجة الحوشية ، وتراكيب متفككة نافرة وبعد هذا فديوان الشريف بالقياس اربعة أضعافه ، وحقيق بهكذا ديوان ضخم أن تكثر سقطاته ، والحال أن ما يتفرد به من الاجادة أكثر ، ونحن إذا نقدناه وأحصينا سقطاته لا نجدها بتلك الكث
د كان الشريف غنيا عن اطرائهم ومدحهم لو لا تلك النزعات والضعف السياسي في الدولة كما ينبؤنا عن نفسه منذ بلغ 15 عاما أنه لا يمدح الملوك وذلك حيث يقول :
«و رفعت عن مدح الملوك خواطري» ، ولكنه لما ابتلي بأولئك الملوك والخلفاء الذين يتهالكون في طلب المدح اشهارا لكرامتهم ، لم يجد بدا من مدحهم ليملك ودهم ويسخرهم لأغراضه ، كما وجدناه يقول في مدح الطائع :
(1/81)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 87
غرضي بمدحك أن يطاوعني عوج بايامي ويعتدل
تم لا يتعدى بمدحه عن هؤلاء راغبا إلا لرحم او صديق او عظيم من رجال الدولة ، اتباعا لقوله في أبيه : «و غيرك لا أطريه إلا تكلفا» ، وقوله عند إطراء الطائع :
وإني إذا ما قلت في غير ماجد مديحا كأني لائك طعم علقم
و لا ننسى أن الشاعر كثيرا ما يصوغ الأكاذيب ليتوج بها من لا يستحق الثناء ، لكن لا نجد شاعرنا مطمئنا الى هذه العادة السيئة التي تستدعي شيئا من الصفاقة تحول بينه وبين الحياء اما أولئك الذين يقول فيهم :
أكاشر أبناء هذا الزمان وأهزأ من نبلهم بامتداحي
فهم نبلاء مستحقون لمدحه ، لأنهم الخلفاء والملوك ، إلا أنه لا يراهم أهلا لمدحه.
وكما أن الشريف لا يجد بدا من مدح من يستحقه ، هو مضطر لا محالة الى ذم أعدائه ومناويه ، لأنه محاط بهم ، والكثير منهم مسلح بالمكر والخديعة والوشاية والنميمة ، وكما هو يدفع نكايتهم بيده لا بد له من الوقيعة بهم بلسانه ، ولذلك كان يسمي قصائده فى المدح والذم (بوارد الغليل) ويقول فيها :
بوارد للغليل كأن قلبي يعب بهن فى برد النطاف
أسرّ بهن أقواما وأرمي أقيواما بثالثة الأثافي
و بما أن تتبع أهاجيه يضطرنا الى الاطالة تركنا التعرض لها بالرغم
(1/82)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 88
من أنها أحد فنون الشعر الذي تظهر فيه البراعة ، وفى ذكر ما عداها كفاية عن حكاية القذف وإن كان مستحقا.
مبالغاته
: الشريف يطري خلفاء زمانه ، ولا ننكر عليه ذلك ، إلا أن إغراقه فيه إغراقا فاحشا هو الذي ربما يؤاخذ به ، فانه لم يكتف بالمبالغة في مدح هؤلاء حتى يتجاوز الى ما فيه روح دينية قوية ، ويتعدى الى الموضع الذي لا يعتقده لهم ، وذلك كقوله في الطائع :
إمام ترى سلك آبائه بعيد الرسول إماما إماما
بالطائع الهادي الامام أطاعني املي وسهل لى الزمان مرامي
للّه ثم لك المحل الأعظم وإليك ينتسب العلاء الأقدم
و لك التراث من النبي محمد والبيت والحجر العظيم وزمزم
و سواء كان هؤلاء مستحقين للامامة أو أنهم بعيدون عنها فانه يغرّر بهم وبالكافة حينما يثبت لهم هذه الفضيلة الكاذبة بزعمه. وإنى وإن لم أقصد الدفاع عنه لكني أرى هذا ونحوه جاريا على ما يعتقده فيهم الجماهير من استحقاق الامامة ، وبهذا يرتفع التغرير بالممدوح لانه لا يعتقد نقصه ، وبالناس لاتفاق عامتهم على استحقاقه ، ولذلك كان الملوك يحرصون على نيل رضا الخليفة لترى العامة أن سلطانهم مشروعا مستمدا من خلافة مشروعة. وإذا سمينا هذا النوع كذبا فلا مشاحة ولا انتقاد عليه ، لان النقد لا يتبع الاسم فقط ، إلّا أن يقصد به التهويل ولا يراد به النقد الحقيقي المشروع ، ولعل هذا النوع من الكذب
(1/83)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 89
هو الذي يشير إليه بقوله :
أهذّب في مدح الرجال خواطري فأصدق في حسن المعاني وأكذب
و ما المدح إلا في النبي وآله يرام وبعض القول ما يتجنب
أما إغراقه فى مدح مثل بهاء الدولة وشرف الدولة والتوجع في رثائهما والتودد في استعطافهما والانعطاف عليهما حتى ولو انتهى الى مثل قوله :
لا عجبا أن نقيكم حذرا نحن جفون وأنتم مقل
فهو أمر قد أشرنا الى العذر عنه ، إذ ذكرنا أن المدح لهؤلاء شيء لا يريد به الشاعر إلّا إتقان الصنعة كما يفهمها ولا يتشدد فيه باتقاء الضرورات كما هي متقاة في مدح الأصدقاء وتأبينهم ، ومع ذلك الإغراق في المدح نراه يتحمس ويفخر فى اثنائه كثيرا ، كما نراه يتصلب في الغزل وفى سائر موارد اللين والرقة ، وتلك طريقة يتفرد بها ، وعلى نفس هذه الطريقة جرى مع سلطان الدولة الذي خطب مدحه ، بعد أن طلق الشعر حينما بلغ الأربعين ، وذلك إذ يقول :
رام مني قود القريض ولو لا ه لقد جاذب الزمام الأكفا
هبّ من رقدة الفتور إليه بعد ما غض ناظريه وأغفى
هو ظهر ينقاد طوعا على اللين ، ويأبى القياد إن قيد عسفا
رثاؤه
:
من يستطرد شعر الشريف يجد نفسه مملوءة بالهموم والأحزان والأسا والأسف ، ليس لتصريحاته التي يؤديها مثل قوله «لا ألوم الهم إن لازمني» ، بل أمانيه بالخلافة ، ومداراة المتغلبين عليها ،
(1/84)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 90
و مجاملة الحساد ، والتفكير في إرضاء فريق والنكاية بآخر ، هى التي تملأ قلبه بالهم ، ولا ننس ما أثّره بطبعه دور النكبة وقضية القلعة ، فقد رأينا أنه أثّر حتى على خياله في النسيب ، وفوق ذلك كله ما عرفنا من حاله القلقة مع القادر العباسي. وهذه الهموم النفسية هي التي أعدته للنبوغ في الرثاء فأحسن فيه ما شاء.
حقا إن الرثاء يكون للمجاملة كما يكون للعاطفة ، ولكن بماذا نفرق بين النوعين في شعره والمتانة فيهما على السواء ؟ لو لا ما نحسه من ظهور العواطف في هذا وتكلف الحزن في ذاك ، ونجد رثاءه لأبيه فى ناحية ولبهاء الدولة في أخرى ولمثل ابن جني وابن السيرافي في موضع ثالث ، وكل وفّاه حقه بلا مواربة ولا ممالأة. ولعلنا مع التعمق والروية نجد كافة مراثيه تتمثل فيها الأحزان النفسية بلا تكلف وتعمل ، وفي هذا تدليل على بعده عن المواربة فى رثائه ، وليس لنا ان ننكر عليه تفاوت مراثيه فى الإطراء وحسن الوصف ، ما دام الرجال متفاوتين بالفضيلة والمزايا الحميدة ، وبالحقوق على المؤبن ، وإذا كان بهاء الدولة هو ذلك الملك العظيم المفضل عليه ، فلا غرو إذا بالغ في الحزن عليه بقوله :
لقد جل قدر الرزء أن يبلغ البكا مداه ولو أن القلوب دموع
و لو أن قلبي بعد يومك صخرة لبان بها وجدا عليك صدوع
و هذا بالطبع تتجلى فيه العاطفة أكثر مما هي متجلية في غيره ممن ليس هو كبهاء الدولة وشرف الدولة بالعظمة والسلطان ، ومن بديع مارثى به بعض الهاشميين من أسرته قوله :
(1/85)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 91
لواعج أفصحت عنها الدموع وقد كانت تجمجمها الأحشاء والضلع
نزفت دمعي حتى ما تركت له غربا يعين على دراء إذ يقع
ثم اضطررت الى صبري فعذت به فأغرب الصبر لما أحجم الجزع
و مما ينخرط فى هذا السلك وينتظم بهذا العقد ما أبدع به من غرائب التخييلات الشعرية في تعزية بهاء الدولة عن ولده وهو قوله :
إذا السنان الطرير دام لنا فدعه يستبدل الا نابيبا
و البدر ما ضرّه تفرده ولا خبا نوره ولا عيبا
و ما افتراق الشبول عن اسد بمانع أن يكون مرهوبا
و العنبر الورد إن عبثت به مثلّما زاد عرفه طيبا
يطيح مستصغر الشرار من الزند ويبقى الضرام مشبوبا
محّصت النار كل شائبة وزاد لون النضار تهذيبا
حماسته
: ليس بنا حاجة الى ان نثبب أن الشريف كان فخورا حماسيا ، لأنا رأينا أنه اختص بمزايا لا يطاوله فيها حتى الملوك والخلفاء وإذا رجعنا الى تحديد كرامته اعتقدنا انه مهما صغّر كبيرا من غيره فانه لم يكبر لنفسه صغيرا البتة. وإذا كان الفخور غالبا يستعمل الكذب فيدافع عنه بصفاقته خشية الافتضاح ، فان الشريف لا نعرفه الّا حقيقيا بالفخر بنفسه وآبائه ، وما كان ليقول عن نفسه ما لا يعرفه الناس وهو متمسك بمبدإ الحياء المتوفر فيه ، وهو محاط بحساد ومناوئين مسلحين بكل ما فيه نكايته والوقيعة به ، وفى بعض ما يقوله تحدّ لهم وتعريض بهم ، وها هو ذا يقول فى عصامية نفسه :
(1/86)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 92
لئن نلت الكواكب في ذراها لقد أبقيت فضلا من منالى
و لست بباسط كفي لأني أرى الأملاك تقصر عن منالى
و من الغريب تطاوله على أبيه الذي لم يزل يستطيل به ويتمدح برعايته له فيقول :
ولو لا مراعاة الأبوة جزته ولكن لغير العجز ما أتوقف
أما تمجده بآبائه وإغراقه فيه فحدث عنه ولا حرج ، ومن المعجب ما ابتدعه فأبدع فيه من وصل فخر بمثله ، وجلاء شرف النسب بفضل حسب يوازنه ، إذ يقول معرضا ببعض حساده :
هيهات لا احسد ذا قدرة ولو حوى عاقر أغماد
و لو حسدت الفضل في اهله حسدت آبائي وأجدادي
أما اندفاعاته الحماسية وثوراته الملتهبة في التمدح بالبطولة والفتوة والانفة والبسالة وما الى ذلك فهو اكثر من اطرائه لآبائه بها وبغيرها مما حصل وحصلوا عليه ، والعامل الوحيد فيها هو تلك الأماني العالية والملكات المحمودة المنطبع عليها ، ولسنا بحاجة الى التدليل على ذلك لأن حياته تنتجه انتاجا منطقيا. وإذا استعرضنا الصفحة الواحدة من ديوانه نجد روحه الحماسية ممتزجة بسطورها ماثلة امام العين كعنوان لتلك الصحيفة ، لكنها نزهة عن كل عبث ومجون ، وقد يستدرجه الحماس حتى في مدائحه للملوك فيعرضه للخطر. وقد تشاهده في بعض الأحايين بطلا في معمعة يخوض الغمرات ويلقي نفسه في لهواتها ، ولو أردنا أن نتحدث عن ذلك الموقف لروعنا كل من وقف عليه من هو له وفزعه وليس من حقنا أن نروعه. ومن هذا نعتقد ان الشريف كما هو شاعر الإباء والعفة ، شاعر الحرب ، شاعر النخوة ،
(1/87)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 93
شاعر الحديد.
وربما يؤكد ذلك في نفسه زيادة على ما انطبع عليه امتلاء مسامعه وجميع حواسه بالحروب التي وقعت فى أيامه ببغداد وخارجها.
النسيب والغزل
: يندر الغزل في ديوانه بالقياس الى غيره ، وليس ذلك ترفعا عن نظمه لأنه مخل بمقامه وهادم لشرفه ، كيف وله فيه الشيء الكثير وإن قل بالنسبة الى غيره ، لكنا وجدناه يقول وشواهد الحال تصدقه :
شغلت بالمجد عما يستلذ به وقائم الليل لا يلوي على السمر
من يعشق العز لا يعنو لغانيه في رونق العز ما يغني عن الكدر
و الذي نقرؤه من مجموعتي أخلاقه وشعره ترّفعه عن نوع من الغزل يستعمله الخلعاء او ما يشبه العبث والمجون وهذا النوع قد لا تطاوعه شاعريته عليه لو أراده ، وهو الذي يخل بمقامه وشرفه ، لا غيره من الأنواع الجميلة المشهورة ، ولربما يستعصي عليه هذا الضرب الجميل ايضا لأنه لا يمتزج بهواجس نفسه وأخلاقه المنطبع عليها. وهذا هو سبب الندرة ، وسبب الانصراف غالبا عن الغزل الناشف الى النسيب الذي تجلوه الرقة وتعلوه العفة ، وأي عفة هى التي تعلو قوله :
خلونا فكانت عفة لا تعفف وقد رفعت في الحي عنا الموانع
سلوا مضجعي عني وعنها فاننا رضيّنا بما يخبرن عنا المضاجع
و أي رقة وعاطفة هى التي تجلو قوله :
ولما تدانى البين قال لي الهوى رويدا وقال القلب اين تريد
(1/87)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 94
أ تطمع أن تسلو على البعد والنوى وأنت على قرب الديار عميد
و لو قال لى العادون ما أنت مشته غداة جزعنا الرمل قلت أعود
أ أصبر والوعساء بينى وبينكم واعلام خبت ؟ إنني لجليد
و إذا نحن عللنا إجادته في الرثاء بامتلاء نفسه بالهموم ، وفي الفخر بما حوى من عزة ومآثر ، وفي المدح برغبة الملوك فيه ورغبته في حصول أمانيه فما أجدرنا أن نعلل إجادته في هذا النوع من الغزل بما نعتقده أنه لم ينظم ذلك إلا للفن خالصا ، ونحن نعلم بأنه لم يرقص قلبه يوما لموعد وصل ولم تنكمد نفسه لو شك رحيل ، ولم ينادم غانية ، ولم يكن حتى في إبان شبيبته يسامر الظرفاء الذين يغازلون ويتغزلون ، وها هو ذا يقول :
أضعت الهوى حفظا لعزمي وانما يصان الهوى في قلب من ضاع عزمه
أسوم الهوى نفسا عزوفا عن الهوى وقلبا يضم الحب غير حمول
اين الغواني من طلابى وما أطلب إلّا الرائح الغادي
الشعر الوصفي
:
ليس وصف المناظر الطبيعية والأشياء المحسوسة مما يضطر اليه الشاعر ، إلا ما جاء عفوا بتأثيرها على عواطفه وشعوره ، او لاقتراح مقترح على انه مظهر لقوة شاعريته وسعة خياله ، فتجد الشاعر الوصاف واسع الخيال قوي الإدراك ، والعكس بالعكس ، فهذا إذا من الأسباب للشعر الوصفي قد يدعو الشاعر اليه ، وإذا تعدّى هذه الأسباب فلا يكون إلا غرضا خاصا لا يحكم به ولا عليه فى شيء.
ولا تخلو غالبا أي قصيدة لأي شاعر من أوصاف وتشابيه مختلفة ،
(1/88)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 95
و ليس هذا ما نقصد من الشعر الوصفي ، وانما هو المقاطيع والقصائد المنظومة جمعاء في وصف شيء ما ، وهذا كثير في شعر الشريف ، وربما كان اكثر من غزله ونسيبه : فهو يصف الأسد ، والذئب ، والحية ، والسماء ، والليل ، والطيف ، والفجر ، والسحاب ، والبرق ، والثلج ، والبرد ، والقلم ، والسكين ، والجدب ، والخمر ، والورد ، والشيب ، ويكثر من وصف بعض هذه وكثيرا ما يصف مجلسا ، وجماعة ، وركبا ، ويوما خاصا كيوم طعن ، وليلة سرى او أنس ، ويصف حمامة وأفراخا ، ويصف أسودا يتغزل به ويصف ... ويصف مما لا أحصيه ، ولا أريد أن اذكر منه فى هذه النبذة سوى النزر الذي لا ينبغي أن تخلو عنه ترجمته ، ولا أخالني ذاكرا إلا بعض ما استجيده :
فمن ذلك قوله في صفة سحابة :
من كل سارية كأن رشاشها إبرا تخيّط للرياض برودا
نثرت فرائدها فنظمت الربا من درّهنّ قلائدا وعقودا
و قوله في وصف نيلوفر :
ونيلوفر صافحته الرياح وعانقه الماء صفوا ورنقا
تخيل أطرافه فى الغدير ألسنة النار حمرا وزرقا
و قوله فى وصف القلم من قصيدة :
يلجلج من فوق الطروس لسانه وليس يؤدي ما تقول مسامعه
و ينطق بالأسرار حتى تظنه حواها وصفر من ضمير اضالعه
إذا اسودّ خطب دونه وهو ابيض يسودّ وابيضت عليه مطالعه
و قوله في وصف جماعة :
(1/89)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 96
و مرجلين من الجمال غرانق مثل الغصون ثيابها الورق الندى
متملئين من الشباب كأنهم أقمار غاشية الظلام الأربد
صقلت نصول خدودهم بيد الصبا مرد العوارض في زمان أمرد
تستنبط الالحاظ ماء وجوههم فيكاد ينقع في غضارتها الصدى
اما وصفيته للذئب العينية فهي في غاية القوة والاجادة ، أتى فيها على كل ما في الذئب من خلق وخلق ولو لا طولها لأوردتها بجملتها ، وكذا التي يصف فيها السنان والمحل ويستطرد فيها اوصافا شتى وقد مرّ ذكرها فى شعره أيام صباه.
الحكم والأمثال
: للحكم والأمثال الشاردة من شعره حظ موفور ، كما للاخلاق والآداب والقصص وما الى ذلك ، وقلما نمر على المقطوعة لا تتجاوز العشرة ونجدها خالية من تلك. وهذه أمور تندفع بطبعها على لسان الشاعر وقلمه وحيا من هواجسه وعواطفه الحية ، وكثيرا ما يأتى بها شاهدا على شيء أو نصيحة ملقاة للعامة كجوهرة فى الطريق : نحو قوله : «إن السياط لها من مثلها ثمر» و«و الفجر يعرب عما أعجم السدف» و«و لو لا الجنى ما رجب الفرع غارس» و«و العجز أن تجعل الموتور منتصحا» وألوف نحو هذه وليس الشريف بالمتفرد بنظم هذه الحكم والآداب والأمثال ، ولكنه متفوق ومكثر ، ولو أردنا أن نجمع ذلك لكان ديوانا حافلا يربوا على شعر المتنبي في هذا الباب وأمثاله فمن ذلك قوله :
لا تطلب الغاية القصوي فتحرمها فإن بعض طلاب الربح خسران
(1/90)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 97
و العزم في غير وقت العزم معجزة والازدياد بغير العقل نقصان
إذا العضو لم يؤلمك الا قطعته على مضض لم تبق لحما ولا دما
فاعزم فليس عليك إلا عزمة والعجز عنوان لمن يتوكل
او حمّل اللوم القضاء فانه عود لا ثقال الملام مذلل
فلا تفتقد خلّا يسوءك بعضه وإن غاب يوما عنك ساءك كله
إذا شئت أن تبلو امرأ كيف طبعه فدعه وسائل قبلها كيف أضله
تجاف عن الأعداء بقيا فربما كفيت فلم تعقر بناب ولا ظفر
و لا تبر منهم كل عود تخافه فان الاعادي ينبتون مع الدهر
و كم سعي ساع جرّ حتفا لنفسه ولو لا الخطا ما شاك ذا الرجل شائك
ألا ربما حياك رزقك طايعا ورحلك محطوط ونضوك بارك
إذا أنت أفنيت العرانين والذرا رمتك الليالى عن يد الخامل الغمر
وهبك اتقيت السهم من حيث يتقى فمن ليد ترميك من حيث لا تدري
و ما صحبك الأدنون إلا أباعد إذا قل مال أو نبت بك حال
و من لى بخل أرتضيه وليت لى يمينا تعاطيها الوفاء شمال
وفاته ومدفنه
توفي بكور يوم الأحد 6 محرم سنة 406. ويقال سنة 404 ، وأظنه من خطأ النساخ ، لأن أكثر العلماء والإثبات الذين ذكروه «1» على
__________
(1) منهم النجاشي وصاحب العمدة وجامع ديوان مهيار وجامع ديوانه لانه ذكر رثاءه للبتي 405 وقال من بعده بشهور توفي الشريف الرضي.
(1/91)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 98
الست بعد الاربعمائة ، فيكون عمره 47 عاما ، وعند وفاته حضر الى داره الوزر ابو غالب فخر الملك وسائر الوزراء والأعيان والاشراف والقضاة حفاة مشاة ، وصلى عليه فخر الملك ، ودفن في داره الكائنة فى محلة الكرخ بخط مسجد الانباريين ، ولم يشهد جنازته أخوه الشريف المرتضى ولم يصل عليه ، وكان هو الاولى بذلك ، لو لا ما كان يحمله من المودة الاخائية الخالصة ، والهلع الشديد ، فلم يستطع دون أن قصد تربة جده موسى بن جعفر راجلا ، وركب اليه بعد ذلك فخر الملك فرده الى بغداد آخر النهار.
و قد ذكر كثير من المؤلفين نقل جثمانه الى كربلا بعد دفنه في داره فدفن عند أبيه الحسين بن موسي وهذا قريب الى الاعتبار عندي ، لان بني ابراهيم المجاب قطنوا حائر الحسين عليه السلام مجاورين لجدهم الأعلى (الحسين السبط) ، فدفن فيه ابراهيم المذكور فى موضع قريب من قبر الحسين مما يلي رأسه ، واتخذوا تربته مدفنا لهم ، فدفن فيه من مات من بنيه وأبنائهم ، وأما من شذ منهم فقطن بغداد او البصرة كبني موسى الأبرش ، فانه ينقل بعد موته الى تربة جده وقد صح أن والد الشريف نقل جثمانه الى الحائر عند ما توفي سنة 400 ولم يدفن ببغداد ، ويشهد لذلك استهلال الأستاذ ابى سعيد علي بن محمد الكاتب مرثيته له بقوله :
يا برق حام على حياك وغائر أن تستهل بغير أرض الحائر
و صح أيضا نقل جثمان الشريف المرتضى الى الحائر بعد دفنه في داره ، بالرغم على قول النجاشي «توليت غسله ودفن في داره» ولا بدع لو نقل الشريف الرضي وابناؤه اليه على عادتهم وطريقتهم هذه.
(1/92)
تلخيص البيان ، مقدمة ، ص : 99
وقد رثاه جماعة الأدباء في عصره ، وكان بعضهم رثاه بما ظاهره المأساة وباطنه الشماتة ، ولذلك لم يؤثر ممارثى به إلا القليل كمرثية سليمان بن فهد ومرثيتي مهيار الديلمي «1» ، ورثاه اخوه المرتضى بقوله :
يا للرجال لفجعة جذمت يدي ووددت لو ذهبت علي برأسي
مازلت احذر وقعها حتى أتت فحسوتها في بعض ما انا حاسي
و مطلتها زمنا فلما صممت لم يجدنى مطلي وطول مكاسي
لا تنكروا من فيض دمعي عبرة فالدمع غير مساعد ومواسي
للّه عمرك من قصير طاهر ولرب عمر طال بالادناس
و ليكن هذا آخر ما أوردناه من ترجمة السيد الشريف ، وإذا كنت مخلصا وصادقا فيها ومعترفا بالقصور عن القيام بواجبها ، فسوف ألاقى من القراء العذر عن التشويش والاضطراب ، لأن الوقت يضيق عن التهذيب وإعادة النظر ، ومن اللّه أرجو التوفيق.
عبد الحسين الحلي
__________
(1) من مرثية ابن فهد قوله :
عذيرى من حادث قد طرق أمات الهد وواحي القلق واما مرثيتا مهيار الدالية والميمية فهما مثبتتان في ديوانه.
(1/93)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 4
مقدّمة : الشّريف الرضىّ بين مجازات القرآن والحديث
(2/4)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المجازات في القرآن
لعل أول كتاب وأقدمه فى «مجازات القرآن» هو الكتاب الذي صنفه أبو عبيدة بهذا العنوان. فإن هذا الرواية من أسبق الرواة إلى التصنيف والتدوين ، لأنه جاء بعد قتادة بن دعامة السدوسي (المتوفى سنة 117 ه). وأبى عمرو بن العلاء (المتوفى سنة 154 ه) وهما لم يخلفا لنا أثرا مكتوبا ، وإنما كانت الأخبار تنقل عنهما مشافهة. أما أبو عبيدة معمر بن المثنى (المتوفى سنة 209 ه) فقد ترك بعده طائفة من الكتب زادت على المائة ، كما عدها صاحب «الفهرست». ومن حسن الحظ أن يطبع كتابه «مجاز القرآن» طبعة محققة لأول مرة فى المكتبة العربية «1».
و ليس كتاب أبى عبيدة فى مجازات القرآن بالمعنى الاصطلاحي الذي تناوله الشريف الرضى فى كتاب «
تلخيص البيان ، فى مجازات القرآن» وهو ذلك المعنى الذي يوضع اصطلاحا فى مقابل «الحقيقة» كما فعل البيانيون فى تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز. لا! ليس كتاب أبى عبيدة فى مجازات القرآن بهذا المعنى. ولكن لفظة «المجاز» عنده تساوى طريق الجواز إلى فهم اللفظة القرآنية ، فهو أقرب إلى تفسير غريب القرآن منه إلى الكشف عن وجوه البيان فيه بالمعنى الذي يريده البيانيون «2». فالمجاز القرآنى - عند أبى عبيدة - لا يعدو أن يكون
__________
(1) حققه السيد فؤاد سزجبن الأديب التركي بجامعة إستنبول بمعاونة المستشرق ريتر ، ونشره السيد سامى الخانجى بالقاهرة سنة 1954.
(2) نؤكد هنا أن «مجازات القرآن» لأبى عبيدة لا يدخل فى علوم البيان. وقد وهم مؤلفا «الوسيط فى الأدب العربي» حين ذكرا ذلك فى ص 229 وعدا مجازات أبى عبيدة أول كتاب دون فى علوم البلاغة والبيان. والحق أنه تفسير لألفاظ القرآن على طريقة اللغويين لا البيانيين ...
(2/5)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 6
تفسيرا لألفاظ القرآن ومعجما لمعانيه. وإذا شئنا أن نأخذ أبا عبيدة بنص كلامه فإننا لا نجد أصرح من مقدمته فى الدلالة على ما ذهبنا إليه. فإنه يقول : (فلم يحتج السلف ولا الذين أدركوا وحيه إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم أن يسألوا عن معانيه ، لأنهم كانوا عرب الألسن ، فاستغنوا بعلمهم عن المسألة عن معانيه ، وعما فيه مما فى كلام العرب مثله من الوجوه والتلخيص.
وفى القرآن مثل ما فى الكلام العربي من وجوه الإعراب ، ومن الغريب ، والمعاني) «1».
وما لنا ومقدمة أبى عبيدة لنستدل منها على أن المجاز عنده هو تفسير المعنى من غير نظر إلى الاصطلاح البياني الذي لم يظهر فى القرن الثاني الهجري ، وإنما ظهر على شكل لمع متناثرة قليلة فيما كتبه الجاحظ أولا ، وفيما كتبه ابن قتيبة بعده فى كتابه «تأويل مشكل القرآن» وكان ذلك فى النصف الثاني من القرن الثالث الهجري ؟ نقول : ما لنا ومقدمة أبى عبيدة مع أن كتابه كله بين أيدينا فنرى فيه أنه يعنى بالمجاز تفسير المعنى للألفاظ القرآنية ؟
و يتناول القرآن كله من فاتحة الكتاب فالبقرة فآل عمران سورة سورة ، فيعرض ما فى كل سورة من الألفاظ يشرحها شرحا لغويا ويفسر غريبها ويقيم إعرابها ، ذاكرا من الشعر العربي الفصيح ما يؤيد المعنى الذي ذهب إليه ، كقوله فى مجاز قوله تعالى : عَذابٌ أَلِيمٌ [أ
و يرف
مهمه أطرافه فى مهمه أعمى الهدى بالجاهلين العمّه ] «3»
__________
(1) صفحة 8 من «مجازات القرآن» لأبى عبيدة.
(2) مجازات أبى عبيدة ص 32.
(3) المصدر السابق ص 32.
(2/6)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 7
و كقوله فى مجاز قوله تعالى : وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ : [سقوه حتى غلب عليهم ، مجازه مجاز المختصر أشربوا فى قلوبهم العجل : حب العجل : ] «1» وأين هذا من كلام الشريف الرضى فى هذه الآية : [.. وهذه استعارة ، والمراد بها صفة قلوبهم بالمبالغة فى حب العجل ، فكأنها تشربت حبه ، فمازجها ممازجة المشروب ، وخالطها مخالطة الشيء الملذوذ. وحذف حب العجل لدلالة الكلام عليه ، لأن القلوب لا يصح وصفها بتشرب العجل على الحقيقة].
وكقوله فى مجاز قوله تعالى : فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي : [أي يجيبونى ، قال كعب الغنوي :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي : فلم يجبه عند ذاك مجيب ] «2».
وكقوله فى مجاز قوله تعالى : وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً : [و هى مصدر عال فلان : أي افتقر ، فهو يعيل. وقال :
وما يدرى الفقير متى غناه وما يدرى الغنىّ متى يعيل ] «3»
و كقوله فى مجاز قوله تعالى : فِي غَيابَتِ الْجُبِّ : [مجازها : أن كل شىء غيّب عنك شيئا فهو غيابة. قال المنخل بن سبيع العنبري :
فإن أنا يوما غيّبتنى غيابتى فسيروا مسيرى فى العشيرة والأهل
و الجب : الركية التي لم تطو ، قال الأعشى :
لئن كنت فى جب ثمانين قامة ورقّيت أسباب السماء بسلّم ] «4»
و كقوله فى مجاز قوله تعالى : لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا : [مجازه : لأستميلهم ]
__________
(1) المصدر نفسه ص 47. [.....]
(2) المصدر نفسه ص 67.
(3) مجازات القرآن لابى عبيدة ص 255.
(4) المصدر نفسه ص 302.
(2/7)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 8
و لأستأصلنهم ، يقال : احتنك فلان ما عند فلان أجمع من مال أو علم أو حديث أو غيره ، أخذه كله واستقصاه ]. «1».
و أين هذا من قول الشريف الرضى فى هذه الآية : [و هذه استعارة على بعض التأويلات فى هذه الآية ، وهو أن يكون الاحتناك هاهنا افتعالا من الحنك. أي لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحنكها غير ممتنعة على قائدها ، وهى عبارة عن الاستيلاء عليهم ، والملكة لتصرفهم كما يملك الفارس تصرف فرسه ، بثني العنان تارة ، وبكبح اللجام مرة. وقال يعقوب فى «إصلاح المنطق» : حنك الدابة يحنكها حنكا ، إذا شد فى حنكها الأسفل حبلا يقودها به ، وقد احتنك الدابة ، مثل حنكها ، إذا فعل بها ذلك. وقال بعضهم :
لأحتنكن ذريته ، أي لألقين فى أحناكهم حلاوة المعاصي حتى يستلذوها ويرغبوا فيها ويطلبوها ، والقول الأول أحب إلى. وقال بعضهم : لأستأصلن ذريته بالإغواء ، ولأستقصين إهلاكهم بالإضلال ، لأن اتباعهم غيه ، وطاعتهم أمره يؤولان بهم إلى موارد الهلاك ، وعواقب البوار. وقال الشاعر :
نشكو إليك سنة قد أجحفت واحتنكت أموالنا وجلّفت
أي أهلكت أموالنا ، ويقال : احتنكه ، إذا استأصله وأهلكه. ومن ذلك قولهم :
احتنك الجراد الأرض : إذا أتى على نبتها. وقيل أيضا : المراد بذلك لأضيقن عليهم مجارى الأنفاس من أحناكهم ، بإيصال الوسوسة لهم ، وتضاعف الإغواء عليهم. ويقال : احتنك فلان فلانا : إذا أخذ بمجرى النفس من حنكه ، فكان كالشبا فى مقلته ، والشجا فى مسعله ] «2».
يتضح من هذه الأمثلة التي نقلناها هنا من «مجازات القرآن» لأبى عبيدة ما قررناه من
__________
(1) المصدر نفسه ص 284.
(2) انظر ذلك فى كتاب «تلخيص البيان» فى مجاز هذه الآية من موضعها فى سورة بنى إسرائيل.
(2/8)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 9
انه استعمل «المجاز» بمعنى التفسير ، وأن المجاز البياني المقابل للحقيقة لم يكن فى حسبانه وهو يصنف فى مجازات القرآن ، وأن عنوان كتابه قد يوهم القارئ بأنه أول من ألف فى المجاز البياني للقرآن ، مع أن منهجه فى الكتاب بعيد عن ذلك بعدا عظيما.
وإذا صح ما ذكره صاحب «الفهرست» من أن لأبى عبيدة كتابا اسمه «غريب القرآن» فليت شعرى أين يكون موضوع هذا الكتاب من كتابه فى مجازات القرآن ؟
أليس كتاب المجازات هو فى الحق كتابا فى غريب القرآن أو فى تفسير ألفاظه ؟ فهل يكون الكتابان اسمين على مسمى واحد ؟ أو قد يكون ابن النديم وهم فحسب أن «غريب القرآن» لأبى عبيدة هو كتاب آخر غير المجازات له ؟
على أن مما يزيد المشكلة تعقيدا أن صاحب «الفهرست» لم يذكر كتاب «مجازات القرآن» لأبى عبيدة وهو يسرد أسماء الكتب المؤلفة فى معانى القرآن ومشكله ومجازه «1» ، ولكنه ذكر كتاب «معانى القرآن» لأبى عبيدة. فهل يكون هذا الكتاب هو «مجازات القرآن» الذي تم طبعه أخيرا ، أم يكون كتابا آخر غيره لا يزال مستسرا فى ضمير الغيب. ؟
__________
(1) الفهرست لابن النديم. طبع القاهرة ص 51.
(2/9)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 10
الجاحظ ومجازات القرآن
لعل الجاحظ المتوفى سنة 255 ه هو أول من استعمل المجاز فى القرآن بالمعنى المقابل للحقيقة ، وهو ذلك المعنى القريب جد القرب مما استعمله البيانيون المتأخرون ، وبهذا كان أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ هو أول مصنف عربى استعمل لفظتى المجاز والاستعارة على نحو يقرب مما قصد بهما عند البلاغيين. فهو لا يريد بكلمة المجاز ذلك المعنى الذي قصده أبو عبيدة بالتفسير ، ولكنه يريد ذلك الشيء المقابل للحقيقة. ونراه فى مواطن متفرقة من كتابيه «الحيوان» و«البيان والتبيين» يشير إلى المجاز والاستعارة إشارات تعد أول ما سجل منهما بالمعنى البياني فى المؤلفات العربية. حتى ليعد الجاحظ بذلك أول رائد للبلاغة العربية بمعناها الاصطلاحي الذي أخذ يتطور على الزمن حتى بلغ قمته على يد السكاكي ، والقزويني وغيرهما من أعلام البلاغة الفنية.
ولعل من أوائل اللمع البيانية عند الجاحظ قوله فى «الحيوان» : [باب آخر فى المجاز والتشبيه بالأكل ، وهو قول اللّه عز وجل : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً وقوله تعالى عز اسمه : أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وقد يقال لهم ذلك ، وإن شربوا بتلك الأموال الأنبذة ، ولبسوا الحلل ، وركبوا الدواب ، ولم ينفقوا منها درهما واحدا فى سبيل الأكل ، وقد قال اللّه عز وجل : إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وهذا مجاز آخر] «1».
ولا يكتفى الجاحظ بهذه اللمعة البيانية الواضحة بل يضيف إليها بابا آخر فى مجاز الذوق :
[و هو قول الرجل إذا بالغ فى عقوبة عبده : ذق! وكيف ذقته ؟ ! وكيف وجدت طعمه ؟ ! وقال عز وجل : ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ .... وقال يزيد بن الصعق :
__________
(1) الحيوان. بتحقيق عبد السلام هارون. ج 5 ص 25.
(2/10)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 11
و إن اللّه ذاق حلوم قيس فلما ذاق خفتها قلاها
رآها لا تطيع لها أميرا فخلّاها تردد فى خلاها
فزعم أن اللّه عز وجل يذوق .... وللعرب إقدام على الكلام ، ثقة بفهم أصحابهم عنهم ، وهذه أيضا فضيلة أخرى.
وكما جوزوا لقولهم أكل وإنما عضّ ، وأكل وإنما أفنى ، وأكل وإنما أحاله ، وأكل وإنما أبطل عينه - جوزوا أيضا أن يقولوا : ذقت ما ليس بطعم ، ثم قالوا : طعمت لغير الطعام. وقال العرجى :
وإن شئت حرّمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
و قال اللّه تعالى : إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي يريد : لم يذق طعمه ] «1».
فالمجاز عند الجاحظ هو استعمال اللفظ فى غير ما وضع له ، على سبيل التوسع من أهل اللغة ، ثقة من القائل بفهم السامع.
وقد حلت هذه النظرة الجاحظية البيانية كثيرا من المشكلات التي قامت بسبب التعبيرات القديمة. فقد أنكر المنكرون وعلى رأسهم الحسن قول القائل : طلع سهيل ، أو برد الليل ، وقالوا فى إنكارهم : إن سهيلا لم يأت بحر ولا ببرد. وكره مالك بن أنس أن يقول الرجل عن الغيم والسحاب : ما أخلقها للمطر! ولكن الجاحظ يرى أن إخراج الكلام على وجه المجاز يحلّ المشكلة ويقيم الكلام على وجه سليم ، فهو يقول عن التعبير الأول :
ولهذا الكلام مجاز ومذهب. وهو يقول عن التعبير الثاني : وهذا كلام مجازه قائم ، ويقول عن مثال آخر مما ينكره المنكرون : وهذا الكلام مجازه عند الناس سهل.
والحق أن الجاحظ قاس هذه العبارات على نظائرها فى كلام العرب فوجد لها دعامة من
__________
(1) المصدر نفسه ص 31 ، 32.
(2/11)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 12
الصحة وسندا من القياس السماعي الصحيح ، فإن العرب من قديم تقول : جاءت السماء اليوم بأمر عظيم. والشاعر العربي يقول :
إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
و لكن المنكرين أنكروا لمعنى دينى قائم فى نفوسهم ، وهو إسناد الأفعال جميعها إلى اللّه تعالى ، تنزيها له عن أن يشركه غيره في فعل ، أو يشاركه فى خلق ، فاحتج لهم الجاحظ بشواهد من اللغة تجيز ما ذهبوا إليه من الاستعمال. أما لفظة «استعارة» التي يكررها الشريف الرضى فى كل آية فيها مجاز ، فقد كان الجاحظ - فيما نعلم - أول من استعملها بمعنى تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه. فكان بذلك - أيضا - ممهدا للبيانيين ، ورائدا فى البلاغة العربية. فإن هذه اللفتات البيانية الوجيزة كانت الأساس الذي بنى عليه صرح البيان العربي ، وأخذه الأعاجم فجعلوا منه موضوعا عتيدا لصناعة البيان والبلاغة.
وتصادفنا فى بعض كتب الجاحظ أمثال هذه الإشارات البيانية الاستعارية ، كقوله :
[و قال عز وجل : هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ والعذاب لا يكون نزلا. ولكن لما قام العذاب لهم فى موضع النعيم لغيرهم سمى باسمه ... وقال اللّه عز وجل : وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا وليس فى الجنة بكرة ولا عشى ، ولكن على مقدار البكر والعشيات. وعلى هذا قول اللّه عز وجل : وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ والخزنة الحفظة ، وجهنم لا يضيع منها شىء فيحفظ ، ولا يختار دخولها إنسان فيمنع منها ، ولكن لما قامت الملائكة مقام الحافظ الخازن سميت به ] «1».
وكقوله وهو يشرح أرجوزة يقول فيها صاحبها :
وطفقت سحابة تغشاها تبكى على عراصها عيناها
__________
(1) البيان والتبين ج 1 ص 153. طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر
(2/12)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 13
[و طفقت : يعنى ظلت. تبكى على عراصها عيناها. عيناها هاهنا للسحاب. وجعل المطر بكاء من السحاب على طريق الاستعارة وتسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه ] «1».
هذه اللمع البيانية عند الجاحظ لا نراها من الكثرة بحيث تكون مذهبا بيانيا قائما بذاته ، وإنما كانت معالم طريق لمن جاءوا بعده ، فقد أفاد منها تلميذه ابن قتيبة المتوفى سنة 276 ه وخاصة وهو يتحدث عن ألفاظ القرآن فى كتابه «تأويل مشكل القرآن».
__________
(1) المصدر السابق ص 153.
(2/13)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 14
ابن قتيبة ومجازات القرآن
جاء بعد الجاحظ تلميذه أبو محمد عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة (المتوفى سنة 276) ، ويشير ابن قتيبة إلى هذا التتلمذ على الجاحظ بقوله فى «عيون الأخبار» مثلا فى أكثر من موضع : [و فيما أجاز لنا عمرو بن بحر من كتبه ، قال ] «1».
وقد توسع التلميذ فى نظرته إلى الاستعارة والمجاز أكثر من أستاذه قليلا ، وخطا باللمع البيانية عند أستاذه الجاحظ خطوة وسعت دلالات كثير من الألفاظ والاصطلاحات التي أخذت تظهر بعد ذلك بالتدريج فى علوم البلاغة ، فنراه يقول فى كتابه «تأويل مشكل القرآن» : [و للعرب المجازات فى الكلام ، ومعناها طرق القول ومآخذه. ففيها الاستعارة ، والتمثيل ، والقلب ، والتقديم ، والتأخير ، والحذف ، والتكرار ، والإخفاء ، والإظهار ، والتعريض ، والإفصاح ، والكناية ، والإيضاح ، ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع ، والجميع خطاب الواحد ، والواحد والجميع خطاب الاثنين ، والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم ، وبلفظ العموم لمعنى الخصوص ، مع أشياء كثيرة سنراها فى أبواب المجاز ، إن شاء اللّه تعالى ] «2».
ثم نراه يعقد بعد ذلك بابين أولهما فى «المجاز» وثانيهما فى «الاستعارة» فيتحدث عن المجاز فى القرآن ، ويكثر من الأمثلة القرآنية يخرجها تخريجا مجاز يا يبعدها عن الاصطدام بالحقيقة ، ولا يكتفى بالقرآن وحده ، وإنما يذهب إلى الإنجيل فينكر من يرون من النصارى أبوة الولادة فى قول المسيح عليه السلام : (أدعو أبى ، وأذهب إلى أبى) «3» ، ويفسر هذا القول
__________
(1) عيون الأخبار ج 3 ص 199 ، 216 ، 249.
(2) تأويل مشكل القرآن. طبع عيسى الحلبي ص 15 ، 16.
(3) المصدر نفسه ص 76.
(2/14)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 15
تفسيرا مجازيا فيقول : [و لو كان المسيح قال هذا فى نفسه خاصة دون غيره ، ما جاز لهم أن يتأولوه هذا التأويل فى اللّه - تبارك وتعالى عما يقولون علوا كبيرا - مع سعة المجاز ، فكيف وهو يقوله فى كثير من المواضع لغيره ؟ كقوله حين فتح فاه بالوحى : «إذا تصدقت فلا تعلم شمالك بما فعلت يمينك ، فإن أباك الذي يرى الخفيات يجزيك به علانية ، وإذا صليتم فقولوا : يا أبانا الذي فى السماء! ليتقدس اسمك ، وإذا صمت فاغسل وجهك وادهن رأسك لئلا يعلم بذلك غير أبيك». وقد قرأوا فى الزبور أن اللّه تبارك وتعالى قال لداود عليه السلام : «سيولد لك غلام يسمى لى ابنا ، وأسمى له أبا» وفى التوراة أنه قال ليعقوب عليه السلام : «أنت بكرى. وتأويل هذا أنه فى رحمته وبره وعطفه على عباده الصالحين كالأب الرحيم لولده ] «1».
والحق أن الاشتغال بفهم القرآن الكريم ومدارسته وتفسيره كان سببا قويا لظهور هذه المجادلات المجازية الاستعارية ظهورا متميزا فى عصر ابن قتيبة ، وهو عصر بدأ علم الكلام فيه يتميز بظهور طائفة من المتكلمين من أمثال ابن الهذيل العلاف (المتوفى سنة 235) وأبى على محمد بن عبد الوهاب الجبائي (المتوفى سنة 303). فقد كان علماء الكلام شديدى الجدل أقوياء العارضة ، وكانت لهم فى اللّه وصفاته وأفعاله وذاته وفى العدل والجبر والاختيار آراء لا بد لها من الفهم البياني القوى ليؤيدوا بها وجهات نظرهم. فحين يلتقى المفسرون يقوله تعالى :
وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً فمنهم من يقول بالكلام على وجه الحقيقة لا على سبيل المجاز ، بدليل توكيد الفعل بالمصدر تكليما ، ومنهم من يقول بالكلام على وجه المجاز. ويقول ابن قتيبة فى إرادة الكلام هنا على حقيقته : [إن أفعال المجاز لا تخرج منها المصادر ولا توكد بالتكرار. فتقول : أراد الحائط أن يسقط ، ولا تقول : أراد الحائط أن يسقط إرادة شديدة.
وقالت الشجرة فمالت ولا تقول : قالت الشجرة فمالت قولا شديدا. واللّه تعالى يقول :
__________
(1) تأويل مشكل القرآن ص 76 [.....]
(2/15)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 16
وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً فوكد بالمصدر معنى الكلام ، ونفى عنه المجاز] «1».
ويدافع ابن قتيبة عن المجاز فى القرآن دفاعا قويا فيقول : [و أما الطاعنون على القرآن بالمجاز فإنهم زعموا أنه كذب ، لأن الجدار لا يريد «2» ، والقرية لا تسأل «3». وهذا من أشنع جهالاتهم. وأدلها على سوء نظرهم وقلة أفهامهم ، ولو كان المجاز كذبا ، وكل فعل ينسب إلى غير الحيوان باطلا ، كان أكثر كلامنا فاسدا. لأنا نقول : نبت البقل ، وطالت الشجرة ، وأينعت الثمرة ، وأقام الجبل ، ورخص السعر. ونقول : كان هذا الفعل منك فى وقت كذا وكذا ، والفعل لم يكن وإنما كوّن. ونقول : كان اللّه. وكان بمعنى حدث ، واللّه جل وعز قبل كل شىء بلا غاية ، لم يحدث فيكون بعد أن لم يكن.
واللّه تعالى يقول : فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ وإنما يعزم عليه.
ويقول تعالى : فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وإنما يربح فيها.
ويقول : وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ وإنما كذّب به ] «4» :
و يصل ابن قتيبة فى دفاعه عن المجازات فى القرآن إلى قمة الدفاع حين يقول : [و لو قلنا للمنكر لقوله : جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ : كيف كنت أنت قائلا فى جدار رأيته على شفا انهيار : رأيت جدارا ماذا ؟ لم يجد بدا من أن يقول : جدار ايّهم أن ينقض ، أو يكاد أن ينقض ، أو يقارب أن ينقض. وأيّاما فقد جعله فاعلا. ولا أحسبه يصل إلى هذا المعنى فى شىء من لغات العجم إلا بمثل هذه الألفاظ.
__________
(1) المصدر نفسه ص 82.
(2) إشارة إلى قوله تعالى فى سورة الكهف : «فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه.»
(3) إشارة إلى قوله تعالى فى سورة يوسف : «و اسأل القرية التي كنا فيها».
(4) تأويل مشكل القرآن ص 99.
(2/16)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 17
و أنشدنى السجستاني عن أبى عبيدة فى مثل قول اللّه : (يريد أن ينقضّ) :
يريد الرمح صدر أبى براء ويرغب عن دماء بنى عقيل
و أنشد الفرّاء :
إن دهرا يلف شملى يجمل لزمان يهمّ بالإحسان
و العرب تقول : بأرض فلان شجر قد صاح ، أي طال. لما تبين الشجر للناظر بطوله ودل على نفسه ، جعله كأنه صائح ، لأن الصائح يدل على نفسه بصوته ] «1».
فهذا السبيل الذي سلكه ابن قتيبة فى مجازات القرآن هو السبيل الذي أفضى إلى تطور الدراسات البلاغية البيانية عند ابن المعتز (المتوفى سنة 296 ه) وعند الشريف الرضى فى كتابه هذا الذي نقدم له ، وعند الجرجاني (المتوفى سنة 471 ه) وهو مؤلف «أسرار البلاغة» ، في علم البيان ، و«دلائل الإعجاز» فى علم المعاني ، وعند السكاكي (المتوفى سنة 626 ه) حين ألف كتابه المشهور : «مفتاح العلوم» ، وعند ابن الأثير «2» (المتوفى سنة 637 ه) حين ألف كتابيه المشهورين : «المثل السائر» ، و«البرهان فى علم البيان».
أما الباب الذي عقده ابن قتيبة للاستعارة فى كتابه «تأويل مشكل القرآن» فهو لا يقل إمتاعا ولا فائدة عن باب المجاز ، وتكاد ألفاظه تكون هى الألفاظ التي استعملها البيانيون بعد هذا. أسمعه مثلا وهو يقول : [فالعرب تستعير الكلمة فتضعها مكان الكلمة إذا كان المسمى بها بسبب من الأخرى أو مجاورا لها أو مشاكلا. فيقولون للنبات :
نوء. لأنه يكون عن النوء عندهم ... ويقولون للمطر : سماء. لأنه من السماء ينزل ، فيقال :
ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم. قال الشاعر :
إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
__________
(1) المصدر نفسه ص 100.
(2) هو ضياء الدين بن الأثير.
(2/17)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 18
و يقولون : ضحكت الأرض. إذا أنبتت ، لأنها تبدى عن حسن النبات ، وتنفتق عن الزهر كما يفتر الضاحك عن الثغر ، ولذلك قيل لطلع النخل إذا انفتق عنه كافوره :
الضحك ، لأنه يبدو منه للناظر كبياض الثغر. ويقال : ضحكت الطلعة. ويقال : النّور يضاحك الشمس لأنه يدور معها.] «1».
ثم يمضى ابن قتيبة فى الكشف عن بعض الاستعارات فى القرآن الكريم ، كالاستعارة فى قوله تعالى : يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وقوله : وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا وقوله : وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً وقوله : وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ وقوله : أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ أي كان كافرا فهديناه ، وقوله : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وغير ذلك من عشرات الآيات التي كشف ابن قتيبة عما بها من استعارة ، على نحو ما صنع الشريف الرضى هنا فى كتابه هذا ، وقد استغرق هذا الباب أكثر من أربعين صفحة من كتاب ابن قتيبة.
و تمضى السنون بعد وفاة ابن قتيبة سنة 276 ه ويمضى القرن الثالث بما فيه من موجات أدبية لغوية نحوية كلامية ، وبمن فيه من أمثال أبى عثمان المازني ، وثعلب ، والزجّاج ، وابن الأنبارى ، والسجستاني ، والمبرد ، وغيرهم ، ويجىء القرن الرابع بمن فيه من أمثال ابن خالويه (المتوفى سنة 370 ه) ، وأبى بكر الزبيدي (المتوفى سنة 379 ه) ، وابن جنى (المتوفى سنة 392 ه) ، والسيرافي (المتوفى سنة 368 ه) ، وأبى على الفارسي (المتوفى سنة 377 ه) ، وأبى حسن الرماني (المتوفى سنة 384 ه) وغيرهم فلا نجد كتابا ألف فى «مجازات القرآن» من هؤلاء الأعلام المشتغلين باللغة والنحو. ونرى الشاعر العلوي الأبى الشريف الرضى ينصب همته ، ويلقى عزمه بين عينيه ، فيصنف كتابا فى «مجازات القرآن» هو الذي نقدم له بهذه المقدمة الطويلة وعنوانه :
__________
(1) تأويل مشكل القرآن ص 102.
(2/18)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 19
«تلخيص البيان فى مجازات القرآن»
ظل هذا الكتاب الثمين سرا مطويا فى ضمير الغيب إلى أن وقع السيد محمد المشكاة على نسخة خطية لكتاب يبحث فى آيات القرآن الكريم بعنوان الاستعارة. وقد محا الزمان عنوان المخطوط ، «1» كما عاثت أيدى البلى فى بعض صفحات منه انتزعتها من المخطوط ، فظن السيد المشكاة - أول الأمر - أنه لمؤلف قديم من الشيعة ، ولكن لم يخطر على باله أن ذلك المؤلف الشيعي المعتدل الرأى ، الكثير النصفة ، العف اللسان هو الشريف الرضى. فلما مضى فى قراءة المخطوط ، لاحظ أن المؤلف يحيل على كتاب له اسمه «حقائق التأويل» ، وهنا قطع الشك باليقين ، واستظهر عن ثقة أن هذا المخطوط الباحث عن الاستعارات فى آي القرآن الكريم هو كتاب الشريف الرضى الذي ظل قرابة عشرة قرون مفقودا ، والذي يشار إليه فى مراجع كثيرة بأنه من كتب الشريف الرضى التي خلفها تراثا غاليا فيما خلفه للفكر العربي من تراث قيم.
و لم تكن الإحالة على كتاب «حقائق التأويل» فى هذه المخطوطة هى وحدها المفتاح الذي كشف عن حقيقة صاحبها وشخصية مؤلفها الشاعر العلوي الفحل ، فهناك بعض المواطن يشير فيها المؤلف إلى كتابه «مجازات الآثار النبوية» ، ولا شك أن المجازات النبوية هى للشريف الرضى وقد طبعت من زمن فى بغداد مرة ، وطبعت فى مصر طبعة محققة ومعلقا عليها بقلم المرحوم الأستاذ محمود مصطفى الذي اشتغل بتدريس الأدب العربي فى كلية اللغة العربية بالجامعة الأزهرية. فلم يعد بعد ذلك مجال للشك فى حقيقة صاحب الكتاب.
__________
(1) تفضل صديقى الدكتور أحمد فؤاد الأهوانى الأستاذ بجامعة القاهرة فأهدى إلى - فيما حمله من ألطاف إيران بمناسبة اشتراكه فى مهرجان ابن سينا - مخطوطة مصورة من كتاب «تلخيص البيان فى مجازات القرآن» هى التي ننشرها اليوم نشرا علميا ، ونقدم لها بهذه المقدمة التحليلية التي تقوم بذاتها كتابا مستقلا جعلنا عنوانه «الشريف الرضى بين مجازات القرآن والحديث» فله أجزل الشكر بما أتاح لنا من نشر كتاب الشريف الرضى ، الكاشف عن وجوه البيان ، وأسرار البلاغة فى كتاب اللّه الكريم.
(2/19)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 20
على أن هاتين الإحالتين ليستا وحدهما الدليل القاطع على صحة انتساب هذا المخطوط لمؤلفه الشريف الرضى ، وقد يكونان وحدهما قاطعين فى الدلالة ، إلا أننا نسوق من الأدلة الحاسمة والبراهين الجازمة ما يقطع بأن هذا الأثر العلمي النفيس هو للشريف الرضى لا لغيره ، وأنه - رحمه اللّه - ترك فى طى الكتاب من قواطع الأدلة ما يشير بصراحة إليه ، ويدل بقوة عليه.
فهو يقول فى كلامه عن مجازات سورة الرحمن : [و قد كان والدي الطاهر الأوحد ذو المناقب أبو أحمد الحسين بن موسى الموسوىّ رضى اللّه عنه وأرضاه سألنى عن هذه الآية «1» فى عرض كلام جر ذكرها ، فأجبته فى الحال بأعرف الأجوبة المقولة فيها].
و ما من شك فى أن أبا أحمد الحسين بن موسى الموسوي هو والد الشاعر العلوي الشريف الرضى. وقد لقب بالطاهر الأوحد - كما يذكر ولده المصنف - وكان هذا اللقب مما لقبه به أبو نصر بهاء الدولة «2» بن عضد الدولة بن بويه الذي كان سلطانا على العراق فى سنة 379 ه بعد وفاة أخيه أبى الفوارس شرف الدولة بن عضد الدولة بن بويه.
وأكثر منار هو إلى ذلك أيضا فى كتابه «المجازات النبوية» «4».
وفوق هذا فإنا نرى المصنف يقول فى معرض الحديث عن مجازات سورة النحل :
__________
(1) هى آية «سنفرغ لكم أيها الثقلان» من سورة الرحمن.
(2) هو بهاء الدولة لا بهاء الدين كما ذكر خطأ فى بعض المراجع الحديثة.
(3) هى مسألة مسح الرأس كله أو بعضه. وقد عرضت هذه المسألة فى خلال الحديث عن قوله تعالى فى سورة ص «فطفق مسحا بالسوق والأعناق».
(4) المجازات النبوية. طبع القاهرة ص 115.
(2/20)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 21
[و كان شيخنا أبو الفتح عثمان بن جنى رحمه اللّه يقول ...] ويقول فى مجازات سورة طه :
[و هو مما سمعته من شيخنا أبى الفتح النحوي عفا اللّه عنه ]. ومن المقطوع به أن أبا الفتح عثمان بن جنى (المتوفى سنة 392 ه) والذي كان إماما فى النحو والعربية - كان شيخا للشريف الرضى ، وقد أكثر الشريف النقل عنه فى كتابه «المجازات النبوية». وقد عده الشيخ عبد الحسين أحمد الأمينى النجفي - مؤلف موسوعة الغدير - أستاذا له وجعل ترتيبه الخامس فى قائمة أساتذته ومشايخه «1».
بقي من أدلة الاستشهاد بالشيوخ والأساتذة دليل أستاذه قاضى القضاة أبى الحسن «2» عبد الجبار بن أحمد ، فإن المصنف يذكر فى معرض الحديث عن استعارات سورة الكهف هذا الشيخ المعتزلي الأصولى قائلا : [و فيما علقته عن قاضى القضاة أبى الحسن عبد الجبار بن أحمد - أدام اللّه توفيقه - عند قراءتى عليه كتابه الموسوم بتقريب الأصول ] ونرى الشريف الرضى فى «المجازات النبوية» يشير إليه إشارة التلميذ إلى شيخه ، مما يقطع بأن مصنف هذا المخطوط هو بعينه مؤلف المجازات النبوية ، وهو الشريف الرضى رضى اللّه عنه.
هذه هى الأدلة المادية القاطعة بأن هذا المخطوط الذي نطبعه اليوم هو للشريف الرضى.
بقيت بعض القرائن التي نضيفها إلى الدلائل القطعية لا لتعزيزها وتوكيدها - فهى بغير حاجة إلى توكيد - بل لنستكمل بها سبيل التحقيق العلمي فى مخطوط لم تترك لنا عاديات الأيام اسمه ، ولم تبق على اسم مؤلفه. فإننا نلاحظ فى كتابنا هذا «تلخيص البيان فى مجازات القرآن» أسلوبا أدبيا عاليا يمشى مع الأسلوب العلمي فى درب واحد. وقد اجتمع هذا فى الشريف الرضى بما لم يجتمع لغيره من المؤلفين ، فإن العبارة هنا أدبية متأنقة واضحة الحجة ، بينة المعالم لا تشوبها عجمة ، ولا يعيبها غموض ، ولا يشينها إبهام. اسمع قوله فى قوله تعالى :
__________
(1) الغدير ، للشيخ عبد الحسين أحمد الأمينى ج 4 ص 162 طبعة النجف.
(2) كذا فى الأصل. وهو فى الأعلام للزركلى : أبو الحسين. وكذلك جاء فى «الغدير» ج 4 ص 163. [.....]
(2/21)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 22
وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ : [و هذه استعارة ، والمراد بها - واللّه أعلم - أن الشعراء يذهبون فى أقوالهم المذاهب المختلفة ، ويسلكون الطرق المتشعبة ، وذلك كما يقول الرجل لصاحبه إذا كان مخالفا له فى رأى ، أو مباعدا له فى كلام : أنا فى واد وأنت فى واد. أي أنت ذاهب فى طريق ، وأنا ذاهب فى طريق. ومثل ذلك قولهم : فلان يهبّ مع كل ريح ، ويطير بكل جناح ، إذا كان تابعا لكل قائد ، ومجيبا لكل ناعق.
وقيل إن معنى ذلك تصرّف الشاعر فى وجوه الكلام من مدح ، وذم ، واستزادة ، وعتب ، وغزل ، ونسيب ، ورثاء ، وتشبيب. فشبهت هذه الأقسام من الكلام بالأودية المتشعبة ، والسبل المختلفة.
ووصف الشعراء بالهيمان فيه فرط مبالغة فى صفتهم بالذهاب فى أقطارها ، والإبعاد فى غاياتها. لأن قوله سبحانه : يهيمون ، أبلغ فى هذا المعنى من قوله : يسعون أو يسيرون.
ومع ذلك فالهيمان صفة من صفات من لا مسكة له ، ولا رجاحة معه. وهى مخالفة لصفات ذى الحلم الرزين ، والعقل الرصين ].
فالعبارة هنا أنيقة ، وفيها ضرب من المزاوجة التي يعرفها كل من قرأ للشريف كتابه فى المجازات النبوية ، أو قرأ له بعض ما نشر من رسائله.
على أن قارئ المجازات النبوية ، وقارئ مجازات القرآن هنا يجد أن القلم الذي جرى هنا هو بعينه الذي جرى هناك ، وأنهما جميعا ينبعان من معين واحد ، هو ذلك الفيض البليغ الذي كان يقطر به قلم الشريف شعرا أو نثرا. فإن فى أسلوبه من العلو ما يناسب علو نسبه ، لأن من خصه اللّه بهذا النسب النبوي الكريم يأبى أن يميل عن مستوى العلو فيما يأخذ بسبيله من قول أو فعل.
على أن النّفس فى مجازات القرآن والمجازات النبوية يكاد من لطفه وروحه ووحدة متنفّسه يدل على أن الكتابين لكاتب واحد. فلا تجد فى أي من الكتابين ضربا من
(2/22)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 23
المعاظلة أو التفهيق أو التعقيد أو ما إليها مما يعيب القول وقائله ... ولكنك واجد فيهما من الأدب وحسن الذوق ولطف النقد وسلامة المنهج ، ونصوص البيان وكثرة الاستشهاد وتطبيقه المحزّ ما يدل على مقام المؤلف ومنزلته من البلاغة ، وموضعه من الفصاحة. ولو كنت لا تعرف أن الشريف الرضى شاعر من الفحول العباقرة لجزمت بأن مؤلف هذين الكتابين لا بد أن يكون شاعرا ... فإن الرقة فى معالجة موضوع المجازات النبوية والقرآنية لا تصدر إلا عن شاعر رقيق. إلا أنها رقة مازجها العلم الغزير ، وصاحبتها المعرفة الأدبية ، وناصرها الفقه الإسلامى ، وظاهرها النحو واللغة ، فاجتمع من ذلك كله قوام معتدل سليم لكتابين سيظلان على مدى الدهور مفتاحا لبلاغة القرآن والحديث النبوي ، من حيث اشتمالهما على أبدع الاستعارات وأعجب المجازات.
والآن وقد فرغنا من صحة انتساب هذا المخطوط إلى الشريف الرضى ، فقد يقول قائل :
وما أدراكم أن هذا المخطوط هو كتاب «تلخيص البيان فى مجازات القرآن» ؟ فقد يكون كتابا آخر للشريف الرضى غير التلخيص. ونحن نقول للمعترض : على رسلك! فإن كتب الشريف الرضى معروفة ، ما طبع منها وما لم يطبع ، وقد ذكروا له فى كتب الدراسات القرآنية كتاب «حقائق التأويل فى متشابه التنزيل» وكتاب «معانى القرآن» وكتاب «تلخيص البيان فى مجازات القرآن». وقد طبع «حقائق التأويل» فى النجف ، وكتب الشيخ عبد الحسين الحلي النجفي «1» ترجمة للشريف الرضى صدر بها الجزء الخامس من هذا التفسير المطبوع. أما «معانى القرآن» فلم يطبع ، ويجوز أن يكون هو بعينه كتاب «حقائق التأويل» فاختلط أمره على مترجميه وكتاب سيرته. فلم يبق إلا كتاب «تلخيص البيان فى مجازات القرآن» وهو هذا الكتاب الذي بين يديك ، وفيه من الحديث عن استعارات القرآن الكريم ما يقطع بكونه كتاب الشريف الرضى فى مجازات القرآن.
__________
(1) وهو غير الشيخ عبد الحسين أحمد الأمينى النجفي العالم المعاصر الذي ألف موسوعة «الغدير» ، وقد ظهر منها إلى الآن تسعة أجزاء فى طبعة العراق ، ومثلها من طبعة إيران.
(2/23)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 24
هذه الطبعة من تلخيص البيان
إذا قلنا : إن هذه الطبعة التي بين يديك - أيها القارئ الكريم - هى أول طبعة لكتاب «تلخيص البيان فى مجازات القرآن» فإننا لا نعدو الحق فى قليل أو كثير ، فقد ظهر الكتاب قبل ذلك بطريقة «الفوتوتيب» ، أي أن المخطوطة الوحيدة نفسها صورت وظهرت كلها مصورة كأصلها ، مع مقدمتين لناشر الكتاب السيد محمد المشكاة ، والأستاذ حسين على محفوظ ، ومع الفهارس للآيات والمطالب والأعلام والأمثال والأمكنة والألفاظ والأشعار. وقد طبعت المقدمتان والفهارس بطريقة الحروف المطبعية ، أما متن الكتاب نفسه فقد طبع مصورا كما هو بأصله على النسخة الوحيدة فى العالم التي كان يملكها السيد محمد المشكاة.
لهذا لم نكن مجافين للحقيقة حين قلنا إن هذه الطبعة التي نقدمها لك هى أول طبعة لهذا الكتاب ، فإن طبعة إيران المصورة عن المخطوطة لا تعدو أن تكون نثّا وتكثيرا للمخطوط نفسه ، بحروف الناسخ نفسه ، وبخطه ، وبأوهامه فى النسخ ، وبترميجه للكتابة ، وبغير ذلك من العقبات التي لا تيسر الاستعانة بالكتاب ، ولا تحقق المنفعة منه على وجه صحيح سليم.
على أننا هنا نعيذ أنفسنا أن ننقص ذرة من قيمة الجهد العلمي العظيم الذي بذله السيد محمد المشكاة فى إخراج المخطوط على الصورة التي خرج بها ، والهيئة التي ظهر عليها. فإن تلك الفهارس التي صنعها ونسقها وافتن فيها وبذل لها من الجهد ما يقدره المنصفون - تدل على روح علمية أصيلة فى نفس السيد المشكاة ، كما تدل أكبر الدلالة على أكيد رغبته فى تيسير النفع بهذا الكتاب بأدنى جهد وأيسر مشقة. إلا أن عيب هذه الطريقة التصويرية فى نشر المخطوطات أنها تعرض أمام عينى القارئ أصلا محرفا ، ونصا غير مقوّم ولا مصحح. فقد لاحظت أن أغلب ما فى المخطوطة المصورة من الشعر محرف مشوه فى الصفحات المصورة ،
(2/24)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 25
و لعل الزمن أعجل السيد محمد المشكاة فلم يتسع له الوقت لتصحيح هذه الكثرة الكاثرة من الأخطاء والتحريفات وهو يفهرس لأبيات الشعر التي استشهد بها المؤلف فى كتابه ...
ففى مجازات سورة «الطارق» استشهد الشريف الرضى ببيت من الشعر شطره الأول هكذا :
وجاءت سليم لا رجع فيها فأعاده السيد المشكاة فى فهرس الأشعار كما هو ، مع أن تصويبه :
وجاءت سلتم لا رجع فيها والسّلتم بكسر التاء المثناة الفوقية هى الداهية أو السنة الصعبة.
وفى مجازات سورة «الزمر» جاء هذا البيت لأبى ذؤيب الهذلي :
ولا شبوب من الثيران أفرده عن كوره كثرة الإغراء والطّرد
فأعاده الناشر هكذا :
ولا شبوب من النيران أفرده عن كورة كثرة الأغراد والطّرد
و البيت - كما صححناه فى المتن - هكذا :
ولا شبوب من الثيران أفرده عن كوره كثرة الإغراء والطّرد
و الشّبوب من الثيران هو المسنّ منها ، والكور : هو القطيع من الحيوان ، فهى الثيران جمع ثور ، لا النيران جمع نار كما أثبته المحقق.
على أن كثيرا من الآيات القرآنية وردت محرفة من الناسخ فى المصورة المطبوعة ، وقد فات المحقق الفاضل أن يصحح خطأها ويقيم عوجها ... ولعله أحسن الظن بناسخ المخطوطة فوثق به فى مقام لا يحمد فيه الوثوق ، وخاصة حين يحقق المرء نصا قرآنيا كريما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه! ولسنا هنا بسبيل تعداد الآيات المحرفة فى المخطوطة المصورة ، والتي فات المحقق الفاضل أن
(2/25)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 26
يردها إلى صواب موضعها وصحة أصلها ، ولكننا نذكر هنا بعض هذه التحريفات ، دفعا لتهمة التجني على رجل لا تحملنا أسباب التقدير لعمله إلا إلى الثناء عليه والإشادة بجهده ، وسبحان من تنزه عن السهو وتعالى عن الخطأ! الآية محرفة/ الآية صحيحة وضربت عليهم الذّلة/ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ فلا تقعد معهم حتى يخوضوا/ فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا واستبقوا الخيرات/اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
و إذا أذقنا الإنسان منا رحمة/ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً إنى أخاف عليكم عذاب يوم محيط/ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إلخ يستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة/ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ إلخ ولما تراءى الجمعان/ فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ فافتح بيننا وبينهم فتحا/ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وجعلنا الجبال أوتادا/ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً إن هذه الكثرة من الآيات القرآنية الكريمة المحرفة تؤكد ما ندعو إليه ويدعو إليه التحقيق العلمي من شدة الحذر فى الاطمئنان إلى نص المخطوط وخاصة فيما يتصل بالقرآن الكريم والحديث الشريف والآثار والأشعار ، فإن المرء قد يكون جيد الحفظ لكتاب اللّه تعالى ، ومع هذا فقد يلتبس عليه الأمر ، فيخلط آية بآية ، أو يبدل حرفا بحرف ، مما يوسوس به الوهم أو يوحى به الظن ، وأسلم الطرق فى ذلك هى الرجوع إلى كتاب اللّه نفسه ، أو إلى طبعة موثقة من الحديث نفسه ، حتى تطمئن النفس إلى عملها.
ولقد لقى صديقنا المحقق المدقق الأستاذ عبد السلام محمد هارون «1» - جزاه اللّه عن العلم خيرا -
__________
(1) انظر كتاب «تحقيق النصوص ونشرها» للأستاذ عبد السلام هارون ص 38 ، 39 ، 40 وهو كتاب ثمين فى هذا الموضوع.
(2/26)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 27
كثيرا من التحريفات لآيات من القرآن وهو يحقق طبعته الثمينة من كتاب «الحيوان» للجاحظ ، وهى تحريفات تؤكد لنا أن الاعتماد على الحافظة فى رواية القرآن الكريم قد يفضى غالبا إلى الوقوع فى الخطأ ، وهو مما لا يجوز للمسلم ارتكابه مع توفر حسن النية لديه ، فلا بد دائما من الرجوع إلى المصحف ، ولا بد من أن يطمئن الناقل شيئا من القرآن إلى أنه نقل عن المصحف نفسه ، لا عن حافظ أو راو مهما كان حفظه ، فإن أمور الذاكرة عجيبة فى هذا الباب.
و من أعجب تحريفات الجاحظ القرآنية فى كتابه «الحيوان» :
خطأ الآية/ صوابها «فلما أتوا على وادي النمل»/ «حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ» «إنى مبتليكم بنهر»/ «إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ» «ثم اسلكى سبل ربك ذللا»/ «فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا» «فلما جاء أمرنا وفار التنور»/ «حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ» «هو الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا»/ «الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً» «و أنهار من ماء غير آسن»/ «فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ» «و ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جانّ ولّى مدبرا ولم يعقب ، يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين»/» «وَ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ لقد ذكر ابن أبى الحديد فى شرحه لنهج البلاغة «1» أن الشريف الرضى - رضى اللّه عنه - حفظ القرآن بعد أن جاوز ثلاثين سنة. فهل نقول إن هذا الحفظ المتأخر للقرآن قد جرّ إلى هذه التحريفات فى «تلخيص البيان» ، أم إنها تحريفات من الناسخ الذي قد يكون اعتمد فى نسخ الآيات على حافظته فخانته الحافظة ؟ ؟ .
__________
(1) انظر «شرح ديوان الشريف الرضى» طبع عيسى الحلبي وشركاه ، ص 14.
(2/27)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 28
و الحق أن السيد محمد المشكاة قد بالغ فى حسن الظن بناسخ المخطوطة مبالغة أفضت به إلى أن يترك تحقيق النص جانبا ، وأن يهتم بالفهارس البديعة أكثر من اهتمامه بإصلاح الهفوات وتصحيح التحريفات! وهى فهارس نرى من حشو الكلام أن نزيد فى قدرها ، وأن نشيد بها ، وأن نكرر الثناء على صاحبها.
و قد بلغ من حسن ظن السيد المشكاة بهذه النسخة الخطية الوحيدة أنه قال فيها : [إنها نسخة مهذبة ... إلا أنها مع ذلك لا تخلو من أغلاط قليلة لا يسلم منها أي ناسخ ] ، وتلك شهادة الرجل الكريم حين يحسن الظن بالناس وبالأشياء! فالحق أنها نسخة مملوءة بأغلاط كثيرة ستظهر من الهوامش الكثيرة التي سيلقاها القارئ هنا فى هذه الطبعة المصرية.
والحق أننا كدنا نحسن الظن بالنسخة وناسخها حينما وقعت العين لأول وهلة على خطها الواضح المقروء فى سهولة ويسر ، ولكننا آثرنا جانب الحذر والحيطة على جانب الإحسان بالظن ، حين يكون حسن الظن مفضيا إلى مشايعة المخطئ ، ومتابعة المحرّف ، ومجانبة المصيب! والحق أن تصحيح الآيات القرآنية لم يتعبنا قدر ما أتعبنا تقويم النص وإصلاح الشعر ، ورد أكثر إلى قائليه الذين أغفلهم الشريف الرضى رحمه اللّه ، ثقة منه بعرفان الناس فى زمانه لهذه الشواهد ولأصحابها. ولكن بعضا من هذه الشواهد الشعرية قد خفى قائلوه حتى على السابقين من المفسرين والأدباء ومؤلفى كتب الشواهد ، وصاحب «لسان العرب» نفسه! مع أنه أكثر مصادرنا ومراجعنا فى أبيات الاستشهاد. ومع ما بذلت من جهد فى سبيل تحقيق نسبة الشعر المستشهد به إلى قائليه ، فقد بقيت بضعة أبيات لم أقف لها على أثر فى كتب المراجع التي يجدها القارئ فى فهرس خاص فى آخر الكتاب ، ولعل اللّه يتيح لها من القراء الكرام من يزيح عنها نقاب الخفاء ، فيسهم فى التحقيق بما توجبه وشائج العلم وروابط الفكر ، وهى وشائج مجابة الدعاء ، وحقوقها واجبة الأداء.
(2/28)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 29
القيمة العلمية والأدبية لهذا الكتاب
أشار الشريف الرضى فى مقدمة كتابه «المجازات النبوية» إلى كتابه هذا : «تلخيص البيان فى مجازات القرآن» إشارة تحمل رأى المصنف فى تصنيفه قال فيها : (فإنى عرفت ما شافهتنى به من استحسانك الخبيئة التي أطلعتها ، والدفينة التي أثرتها ، من كتابى الموسوم بتلخيص البيان عن مجازات القرآن ، وأنى سلكت من ذلك محجة لم تسلك ، وطرقت بابا لم يطرق ، وما رغبت إلىّ فيه من سلوك مثل تلك الطريقة فى عمل كتاب يشتمل على مجازات الآثار الواردة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ... «1»).
وظاهر هذه العبارة أن هذا ليس رأى الشريف الرضى فى كتابه «تلخيص البيان» ، ولكنه رأى الذي يخاطبه فى مقدمة المجازات النبوية ...! وأيّاما كان الأمر فإن الحق أن الشريف الرضى سلك فى «تلخيص البيان عن مجازات القرآن» محجة لم تسلك ، وطرق بابا لم يطرق.
فإن كتابا قائما بذاته مستقلا بنفسه لم يظهر فى مجازات القرآن كما ظهر كتاب الشريف الرضى فى أخريات القرن الرابع الهجري. وقد ذكرنا قبلا أن «مجازات القرآن» لأبى عبيدة المتوفى سنة 209 ه ، لا يدخل فى باب المجاز بمعناه البياني ومدلوله البلاغى المقابل للحقيقة عند علماء البيان ، ولكنه يستعمل المجاز بمعنى التفسير والتأويل لمعانى القرآن ، سواء أكانت واردة على سبيل الحقيقة أم على سبيل المجاز البياني.
أما إشارات الجاحظ وتلميذه ابن قتيبة إلى المجازات والاستعارات القرآنية بالمعنى الاصطلاحي عند البيانيين فلم تكن إلا لمعا بيانية منثورة فى «البيان والتبيين» ، «و الحيوان» ، «و تأويل مشكل القرآن» ، ولم تأخذ ذلك المنهج القائم الكامل الذي سلكه الشريف الرضى فى «تلخيص البيان فى مجازات القرآن».
__________
(1) المجازات النبوية. طبع مصر. ص 19
(2/29)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 30
و من هنا كان «تلخيص البيان» أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو متابعة المجازات والاستعارات فى كلام اللّه كله سورة سورة وآية آية. ومن هنا كانت القيمة العلمية لهذا الكتاب الذي لم يؤلف مثله فى هذا الغرض. فهو يقوم فى التراث العربي الإسلامى وحده شاهدا على أن الشريف الرضى خطا أول خطوة فى التأليف فى مجازات القرآن واستعاراته تأليفا مستقلا بذاته ، ولم يأت عرضا فى خلال كتاب ، أو بابا من أبواب مصنّف.
ويظهر أن اللّه شاء أن يظل كتاب مجازات القرآن للشريف الرضى وحده ، وأن يتفرد بهذه المزية فلا يشركه كتاب عربى آخر فى مجازات القرآن. فقد ذكر صاحب «كشف الظنون» أن لعز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء المصري الشافعي الدمشقي (المتوفى سنة 660 ه) كتابا اسمه «مجاز القرآن» ، وأن جلال الدين السيوطي (المتوفى سنة 911 ه) قد اختصره وسماه : «مجاز الفرسان إلى مجاز القرآن» فأين كتاب العز بن عبد السلام ؟
و أين مختصر السيوطي له ؟ وهل هو فى مجاز القرآن بالمعنى الذي قصده أبو عبيدة ؟ أم بالمعنى البياني الاستعارى الذي انفرد الشريف الرضى بالتصنيف فيه ؟ الحق أن مصادرنا تسكت سكوتا مطبقا عن كتاب «مجاز القرآن» للعز بن عبد السلام. ولعله ضاع فيما ضاع من تراث الإسلام.
والحق أن السيوطي المؤرخ - رحمه اللّه - وهو يترجم لنفسه بنفسه فى كتابه «حسن المحاضرة» ج 1 ص 188 ذكر ثبتا شاملا بأسماء كتبه ورسائله ، فلم يذكر فيه اسم كتاب «مجاز الفرسان إلى مجاز القرآن» الذي ذكر صاحب «كشف الظنون» أنه اختصره من كتاب «مجاز القرآن» لعز الدين بن عبد السلام. فكيف يفوت السيوطي نفسه أن يسجل لنفسه كتابا اختصره لسلطان العلماء قبله ؟ مع ما نعرفه من مبلغ حرص السيوطي على أن لا يفوته فى هذا الثبت الجامع كتاب واحد من كتبه ؟
إن السيوطي نفسه - فى كتاب آخر من كتبه - يساعدنا على حل هذا اللغز. ففى كتابه
(2/30)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 31
«الإتقان فى علوم القرآن «1»» وفى الفصل الذي عقده للحديث عن حقيقة القرآن ومجازه يقول هذه العبارة عن المجاز القرآنى : (و قد أفرده بالتصنيف الإمام عز الدين بن عبد السلام ، ولخصته مع زيادات كثيرة فى كتاب سميته مجاز الفرسان ، إلى مجاز القرآن).
فكيف نعلل إغفال السيوطي لذكر كتابه هذا عن مجاز القرآن فى ثبت مؤلفاته الذي ذكره فى ترجمة حياته فى كتابه «حسن المحاضرة» ؟ يبدو أن العلة من اليسر والوضوح بحيث لا تثير شكا ولا خلافا ولا إلغازا ؟ فقد كتب السيوطي كتابه «حسن المحاضرة» قبل أن يؤلف «مجاز الفرسان إلى مجاز القرآن» ، الذي يبدو أنه صنفه بأخرة من عمره ، ومن هنا لم يدرجه فى ثبت مؤلفاته لأنه كان لا يزال مستكنا فى طوايا المجهول المغيّب.
على أن ابن شاكر الكتبي لم يذكر فى «الوافي بالوفيات «2»» - وهو يترجم لعز الدين ابن عبد السلام - أن له كتابا فى «مجاز القرآن» مع أنه ذكر له «القواعد الكبرى» و«القواعد الصغرى» و«مقاصد الرعاية» و«مختصر نهاية المطلب» وغيرها ، فلما ذا أغفل ابن شاكر الكتبي كتاب مجاز القرآن لعز الدين بن عبد السلام ؟ مع أن موضوع المجازات القرآنية نادر فى التأليف الإسلامى العربي ؟ .
الحق أن هذا الإغفال قد أوقعنا على عشوة من الأمر ، وحيرة من الرأى.
وليست هذه بأول حيرة وقعنا فيها ونحن ننقب عن مجازات القرآن فى المصادر والمراجع ، فقد أوقعنا حاجى خليفة - صاحب كشف الظنون - فى حيرة أخرى وهو يذكر لنا فى حرف التاء من حروف المعجم كتابا باسم «تلخيص البيان عن مجازات القرآن» للشيخ رضى الدين العزى!! فما هو هذا الكتاب الذي يتفق اسمه واسم كتاب الشريف الرضى الذي نقدمه اليوم إلى القراء الكرام محققا مصححا مفهرسا ؟ ومن هو الشيخ رضى الدين
__________
(1) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى ج 2 ص 36
(2) الوافي بالوفيات ج 1 ص 288.
(2/31)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 32
العزّىّ هذا الذي يقول صاحب «كشف الظنون» إنه مؤلف كتاب «تلخيص البيان عن عن مجازات القرآن» ؟ ؟ .
الحق أننا فى داجية من الأمر مظلمة! فإن ملا چلبى - أو حاجى خليفة صاحب «كشف الظنون» - لم يذكر لنا «تلخيص البيان عن مجازات القرآن» للشريف الرضى الذي يعرف المسلمون جميعا بأنه للشريف الرضى ، والذي صرح الشريف نفسه فى مقدمة كتابه «المجازات النبوية» بأنه صنع هذا على غرار ما صنع فى كتابه «تلخيص البيان عن مجازات القرآن».
والذي نعرفه عن صاحب «كشف الظنون» أنه بحاثة عن الكتب من طراز نادر فى تاريخ التراث الفكرى العربي ، فكيف فاته أن يذكر للشريف الرضى كتابه «تلخيص البيان عن مجازات القرآن» الذي ذكره الشريف وأشار إليه فى كتابه «المجازات النبوية» ؟
إن حاجى خليفة لا يذكر للشريف الرضى إلا كتابا واحدا يسميه «المجاز» ، وهو بهذه التسمية المفردة يوقعنا فى حيرة أخرى فأى المجازات يعنى ؟ أهو مجاز الحديث النبوي ؟ أم هو مجازات القرآن ، الذي صرح الشريف الرضى نفسه بأن عنوانه هو «تلخيص البيان عن مجاز القرآن» ؟ ؟
إن قراء «المجازات النبوية» في الأمم الإسلامية كلها كانوا يعلمون حق العلم أن للشريف الرضى كتابا هو «تلخيص البيان عن مجازات القرآن» ، ولكنهم لم يروه ولم يطلعوا عليه ، إلا حين يجوز الاطلاع على الغيب! حتى جاء السيد الجليل محمد المشكاة ، فوفقه اللّه إلى العثور على نسخة خطية لهذا الكتاب الذي ينطق بالأدلة القاطعة التي
(2/32)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 33
لا تثير شكا ولا تقبل نقضا بأنه للشريف الرضى ، كما أشرنا إلى ذلك قبلا بما لا يتسرب الوهم إلى خلافه.
فكيف سكت صاحب كشف الظنون عن ذكر «تلخيص البيان فى مجازات القرآن» ، للشريف الرضى ؟ وكيف نسب كتابا بهذا الاسم نفسه إلى الشيخ رضى الدين العزى ؟ فمن هو هذا الشيخ رضى الدين العزى يا ترى ؟
لقد أضنانى البحث فى كل مظنة وغير مظنة من كتب التاريخ والتراجم والطبقات ، فلم أجد للشيخ رضى الدين العزى ذكرا ولا أثرا. وهنا لم أجد غير الظن بأن صاحب كشف الظنون يكون قد وهم فى الاسم فحرفه هذا التحريف ، أو يكون الاسم محرفا تحريفا مطبعيا حين طبع كشف الظنون فى استنبول سنة 1311 ه بقي بعد هذا الكلام الطويل أن نثبت القيمة العلمية والأدبية لكتاب «تلخيص البيان فى مجازات القرآن» للشريف الرضى بعد أن حققنا صحة الكتاب وصحة نسبته للشريف الرضى ،
ت القرآنية العجيبة من يجد لها فى لغة العرب ما جرى القرآن على مسنونه ، حتى لا يكون هذا الكتاب الكريم بدعا مما اعتادته العرب من وجوه الكلام ؟ .
وهذه المجازات القرآنية من يميط اللثام عن حقيقتها ، ويزيح الشّبه الناجمة من سوء فهمها ؟ ألم يفهم قوم من قوله تعالى : فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ معنى التناسخ. مع أن اللّه - كما يقول ابن قتيبة فى تأويل مشكل القرآن - لم يرد فى هذا الخطاب إنسانا بعينه ، وإنما خاطب جميع الناس كما قال : يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً كما يقول القائل : يا أيها الرجل! وكلكم ذلك الرجل. فأراد أنه صوّرهم وعدّلهم فى أي صورة شاء ركّبهم من حسن وقبح ، وبياض وسواد ، وأدمة وحمرة.
و هذه الاستعارات القرآنية من يكشف عن حقيقتها فيبين أن ظاهر اللفظ لم يقصد ، وإنما قصد غيره لعلاقة ؟ ففى قوله تعالى : يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ لم يقصد ظاهر الكلام من الكشف عن السوق حقيقة ، [و إنما المقصود أنه يكشف عن شدة من الأمر - كما قال قتادة - أو عن أمر عظيم كما قال إبراهيم النخعي. وأصل هذا أن الرجل إذا وقع فى أمر عظيم يحتاج إلى معاناته والجد فيه شمّر عن ساقه. فاستعيرت الساق فى موضع الشدة] «1» وفى قوله تعالى : وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ من الذي يبين لنا أنه المقصود ليس تطهير الثياب حقيقة وإنما القصد تطهير النفس من الذنوب ، فكنى عن الجسم بالثياب لأنها تشتمل عليه ؟ «2» ثم قد تكون الثياب هنا بمعنى الأزواج ، لأنّ اللّه قال فى آية أخرى عن الأزواج : هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ واللباس والثياب بمعنى واحد ، فكأنه تعالى أمر النبي
__________
(1) تأويل مشكل القرآن. لابن قتيبة ص 103.
(2) المصدر السابق ص 107.
(2/33)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 35
عليه السلام أن يستطهر النساء ، أي يختارهن طاهرات من دنس الكفر ، ودرن العيب ، لأنهن مظان الاستيلاد ، ومضام الأولاد «1».
وهذه الأساليب القرآنية والمقاصد البيانية اللطاف ، من يفسّرها بما يزيح لثامها ويوضح أعلامها ، فيبين لنا مثلا أنّ القصد من قوله تعالى : وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا تعيبوا إخوانكم من المسلمين ، لأنهم كأنفسكم ، أو أن القصد من قوله تعالى : سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أن اللّه عز وجل يسم وجهه يوم القيامة بالسواد جريا على مذاهب العرب حين يقولون : وسم فلانا بميسم سوء. أي سبّه سبة قبيحة ونثا عليه فاحشة ، يريدون : ألصق به عارا لا يفارقه ، كما أن السّمة لا تمّحى ولا يعفو أثرها كما قال جرير
لما وضعت على الفرزدق ميسمى وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
أي أنه وسم الفرزدق وجدع أنف الأخطل بالهجاء ، أي أبقى عليه عارا باقيا مثل الجدع والوسم ؟ ؟
لقد تناول المفسرون والمؤولون السابقون أمثال هذه الأساليب والتعبيرات بالشرح والتفسير ، ملتمسين لها فى لغة العرب أمثالها وأشباها. ولكن هذه التأويلات والشروح لم تنتظم القرآن كله سورة سورة من أوله إلى آخره ، ولكنها كانت تأتى متفرقة متناثرة فى أقوال المفسرين من الصحابة والتابعين. وهؤلاء كانوا يفسرون اجتهادا منهم أو سماعا من رسول اللّه ، الذي لم يكن يفسر شيئا من القرآن إلا آيات تعد ، علّمهن إياه جبريل «2» فهذا على بن أبى طالب كان أكثر الخلفاء الراشدين - رضوان اللّه عليهم - تفسيرا للقرآن الكريم ، حتى روى معمر عن وهب بن عبد اللّه بن أبى الطفيل قال : «شهدت عليا رضى اللّه عنه يخطب ويقول : سلونى! فو اللّه لا تسألونى عن شىء إلا أخبرتكم. وسلونى عن كتاب اللّه. فو اللّه ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار ؟ أفى سهل أم فى جبل «3»
__________
(1) تلخيص البيان. فى تفسير مجازات سورة «المدثر».
(2) تفسير الطبري ج 1 ص 29
(3) مناهل العرفان فى علوم القرآن : للزرقانى ج 1 ص 483.
(2/34)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 36
وهذا ابن عباس رضى اللّه عنه يسأل عن معنى آية أو لفظة من القرآن الكريم فيجيب عن علم غزير تحقيقا لقول النبي فيه : «نعم ترجمان القرآن أنت». فقد روى أن رجلا جاء ابن عمر يسأله عن معنى قوله تعالى : أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما فقال : اذهب إلى ابن عباس ، ثم تعالى أخبرنى! فذهب فسأله فقال : «كانت السموات رتقا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقا لا تنبت ، ففتق هذه بالمطر ، وهذه بالنبات» فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره بجواب ابن عباس. فقال :
«قد كنت أقول : ما تعجبنى جراءة ابن عباس على تفسير القرآن. فالآن قد علمت أنه أوتى علما» «1».
فتأويل مجازات القرآن وتوضيح أساليبه والكشف عن أسرار البلاغة فيه ، وتحليل استعاراته هو عمل بدأه الشريف الرضى متناولا القرآن كله وفق ترتيب السور فى المصحف الذي بين أيدينا ، ومتناولا كل آية فيها مجاز وفق ترتيبها من السورة التي هى فيها. ومن هنا حق لنا أن نقول : إن الشريف الرضى فعل فى مجازات القرآن ما فعله الطبري المتوفى سنة 310 فى تفسير القرآن ، من حيث وضع التفسير لكل آية من كتاب اللّه أو جزء من آية مرتبة حسب ترتيب المصحف «2» على أننا ننتهز هنا هذه الفرصة لنقول إن «مجازات القرآن» لأبى عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 209 قد أصبح - بعد طبعه الآن - أقدم التفاسير المطبوعة لكتاب اللّه ، وأنه أسبق من تفسير الطبري بعشرات من السنين.
ولسنا نعد «تلخيص البيان» للشريف الرضى تفسيرا للقرآن بالمعنى الكامل الصحيح لكلمة التفسير ، لأنه لم يتناول القرآن الكريم كلمة كلمة كما فعل الطبري
__________
(1) المصدر السابق ص 484.
(2) قد يقال إن الفراء المتوفى سنة 207 هو أول من فسر كتاب اللّه آية آية حسب ترتيب المصحف كما يفهم ذلك من نص ساقه ابن النديم فى الفهرست ص 66 ، ولكن ذلك ليس قاطعا فى القضية.
(2/35)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 37
و النسفي والقرطبي والبيضاوي وابن كثير وغيرهم ، ولكنه كان يعرض القرآن كله سورة سورة ، فيستخرج من كل سورة الآيات التي فيها مجاز بيانى ، ويكشف عما فيها من وجوه المجاز والاستعارة والبيان. وقد تكون السورة مثلا مأتين أو أكثر من الآيات ، فلا يخلص منها على المجاز إلا بضع عشرات من الآيات ، أما بقية الآيات التي ليس فيها مجاز فلم يتعرض الشريف الرضى لها ، ولكنه يسقطها من سمط السورة. وقد يحدث أن تكون سورة قرآنية قد خلت من المجاز جملة ، فيشير المصنف إلى ذلك قائلا : «و ليس فى هذه السورة شىء من غرض كتابنا هذا» أو «و لم نجد فى هذه السورة شيئا من المعنى الذي قصدنا إليه» أو غير ذلك من العبارات الدالة على خلو السورة من المجاز ، كما فعل فى سورة «عبس» و«الانفطار» وغيرهما.
على أننا إذا أعرضنا جانبا عن ذكر المجازات البيانية فى «تلخيص البيان» فإننا نجده بجانب ذلك قد خدم اللغة خدمة لا ينتظر صدورها إلا من مثل الشريف الرضى فى علو كعبه وثبوت قدمه فى لغة العرب. فهذا الفيض الغزير من العبارات الفصاح والألفاظ اللغوية ، والتراكيب التي جرت من العربية فى الصميم ، والاستعمالات التي صح ورودها عن العرب الفصحاء البلغاء - هذا الفيض الفياض من الذخيرة اللغوية الحية فى الأمثال والتراكيب ، قد فاض به «تلخيص البيان» فيضانا كانت مظنته فى كتب اللغة لا فى مجازات القرآن ، ولكن الشريف الرضى بحر صادف فى القرآن الكريم محيطا لا تنفد مادته ولا ينضب معين القول فيه ، فملأ كتابه باستعمالات عربية فصيحة ساقها دعما لقضيته وسندا لمسائله ، فاجتمع من ذلك هذا السيل اللغوي الذي لا تغب فواضله ...
وأين لنا بمثل الشريف الرضى ليزخر كتابه بأمثال هذه الاستعمالات :
أخذت المرأة قناعها : أي لبسته. وأخذت هذا الأمر باليد : أي بالسلطان. وأعطيته
(2/36)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 38
رجلا بريشه : أي بكسوته. وأكلت الضبع القوم : أي نهكتهم سنة الجدب.
و أنا بعين اللّه : أي بمكان من حفظه. وبكينا فلانا بأطراف الرماح : أي طلبنا دمه وأدركنا ثأره. والقوم بيوتهم رياء : أي متقابلة. ودور بنى فلان تتراءى : أي تتقارب.
وعلى وجه فلان قبول : أي كل ناظر إليه يقبله قلبه وتسر به نفسه. وفلان عندى بالميزان الراجح : إذا كان كريما عليك أو حبيبا إليك. وفلان يمشى على وجهه : إذا كان لا ينتفع بمواقع بصره. وهفا حلم الرجل : إذا احتد عند الغضب. ونفح الفرس فلانا بحافره : إذا أصابه إصابة خفيفة ولم يبلغ فى إيلامه الغاية. وهذه المرأة فى حبال فلان :
أي فى ملكه وأسره. وهو عربى قلبا : أي عربى صريح النسب. وفلان على الواضحة من أمره : إذا كان عالما بما يورده ويصدره ؟
أين لنا بمن يدون مئات من الاستعمالات الفصاح فى كتاب يتحدث عن مجازات القرآن ؟ لقد دل الشريف هنا على أنه واسع الاطلاع فى العربية ، عليم بأسرارها ، خبير بدقائقها ، ملم باستعمالاتها ، وأنه تثقف ثقافة لغوية بعيدة الأصول ، عميقة الجذور. وحسبه أن يكون من بيت الرسول العربي محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو مدينة العلم «1».
وأن يكون جده على بن أبى طالب باب مدينة العلم ، وأن يكون من أساتذته السيرافي المتوفى سنة 368 ه ، وأبو على الفارسي المتوفى سنة 377 ه ، وأبو الفتح عثمان بن جنى المتوفى سنة
__________
(1) قال صلّى اللّه عليه وسلم. «أنا مدينة العلم وعلى بابها ، ولن تدخل المدينة إلا من بابها» المجازات النبوية طبع مصر ص 158. [.....]
(2/37)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 39
392 ه ، وأبو الحسن على بن عيسى الربعي المتوفى سنة 420 «1» ه ، وعبد الرحيم بن نباتة الخطيب العربي المعروف المتوفى سنة 394 ه وغيرهم.
ثم هذه الشواهد الشعرية الكثيرة المبثوثة فى تضاعيف كتاب «تلخيص البيان» والتي ترتد بنسبها إلى أبى ذؤيب الهذلي ، وأبى كبير الهذلي ، والأفوه الأودى ، وامرئ القيس ، والنابغة الذبياني ، وعبدة بن الطبيب ، وعنترة العبسي ، والمتنخل ، وملاعب الأسنة ، وبقيلة الأكبر الأشجعى ، وأبى الهندي ، والعديل بن الفرخ ، وطرفة ، والخطام ، وذى الرمة ، وعمر بن أبى ربيعة ، وجرير وغيرهم من أساطين الشعر العربي الذين يحتج بهم ويستشهد بأقوالهم - ألا تدل هذه الكثرة الكاثرة من أبيات الاستشهاد على أن الشريف الرضى ضارب فى أعراق الأدب العربي بأوفر السهام ، وأنه ينزع إلى صميم العربية بأعراق وأعراق. فما استشهد بشاعر واحد من المولدين - على كثرتهم - فى عصره وقبل عصره. ولكنه وقف بغاية الاحتجاج عند العصر الأموى ، فلم يجاوزه إلى العصر العباسي ، الذي انقطع فيه الاستشهاد بالشعر العربي بما بدأ يدخل فيه أو يطرأ عليه من العوامل التي نحّته عن مكان الاستشهاد ، ومقام الاحتجاج.
أما الأحاديث النبوية التي استشهد بها الشريف الرضى فى مقامات الاستشهاد فلم تبلغ من الكثرة ما يجعلها ظاهرة واضحة المعالم فى الكتاب ، إنها ستة أحاديث لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وكلهن صحيح الإسناد. فحديث : (اللهم اشدد وطأتك على مضر) أي أغلظ عليهم عقابك ، وضاعف عليهم عذابك ، حديث صحيح السند ذكره ابن حنبل فى «المسند» عن سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبى هريرة ، وقد رواه ابن سعد
__________
(1) فى المجازات النبوية طبع القاهرة ص 283 أن الربعي توفى سنة 435 : وهذا خطأ صوابه ما ذكره القفطي فى «إنباه الرواة» بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم من أنه توفى سنة 420. ج 2 ص 297.
وهذا موافق لما ذكره جورجى زيدان فى «تاريخ آداب اللغة العربية» ج 2 ص 304 ، وما ذكره العلامة الشيخ عبد الحسين أحمد الأمينى فى الغدير ج 4 ص 162.
(2/38)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 40
فى «الطبقات» عن الفضل بن دكين عن سفيان بن عيينة عن بقية الإسناد السابق ، ورواه مسلم فى صحيحه عن طريق يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب ، ورواه البخاري من أوجه كثيرة عن أبى هريرة رضى اللّه عنه. وقد أورد الشريف الرضى من هذا الحديث ما يحتج به لقوله تعالى : رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أما نص الحديث كاملا فهو - كما جاء فى مسند ابن حنبل : (لما رفع النبي صلّى اللّه عليه وسلم رأسه من الركعة الأخيرة من صلاة الصبح قال : اللهم أنج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبى ربيعة ، والمستضعفين بمكة. اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف) «1» أما حديث : (أنا برىء من كل مسلم مع مشرك لا تراءى ناراهما) فهو من صحيح أبى داود ، وقد رواه هشيم ، ومعمر ، وخالد الواسطي. وقد أورده الشريف غير تام ، كعادته فى إيراد ما يحتج به. ونص الحديث كاملا كما فى سنن أبى داود :
(بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود ، فأسرع فيهم القتل. قال فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل ، وقال : أنا برىء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قالوا : يا رسول اللّه! ولم ؟ قال : لا تراءى ناراهما) «2» وقد أورد الشريف الرضى هذا الحديث فى كتابه «المجازات النبوية» ليكشف هناك عما فيه من استعارة «3».
أما قوله عليه الصلاة والسلام «و هل ترك عقيل لنا من دار» الذي ساقه الشريف
__________
(1) المسند لابن حنبل ، بتحقيق المحدث الجليل الشيخ أحمد محمد شاكر ، ونشر دار المعارف بمصر ج 12 ص 250 - الحديث رقم 7259. وانظره فى «صحيح البخاري» ج 2 ص 26.
(2) سنن أبى داود ج 1 ص 261.
(3) المجازات النبوية ص 198.
(2/39)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 41
الرضى فى معرض الحديث عن قوله تعالى فى سورة «ق» : يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ فهو من الأخبار النبوية التي أضنانا العثور عليها فى مظان كثيرة ، حتى كاد اليأس يصرفنا عن مواصلة البحث. إلى أن هدانا اللّه للوقوف عليه فى كتاب «إمتاع الأسماع» للمقريزى. وقد قاله النبي عليه السلام يوم فتح مكة حين مضى الزبير بن العوام برايته حتى ركزها عند قبة رسول اللّه ، وكان معه أم سلمة وميمونة رضى اللّه عنهما ، وقيل : يا رسول اللّه! ألا تنزل منزلك من الشعب ؟ فقال : وهل ترك عقيل لنا منزلا ؟ وكان عقيل بن أبى طالب قد باع منزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ومنزل إخوته «1».
وهذا خبر لم تأت به كتب التاريخ والسيرة والمغازي التي بين أيدينا - على قدر اطلاعنا - فكان للعثور عليه «فى إمتاع الأسماع» للمقريزى فرحة بعد طول المراجعة ، وكثرة التنقير. وقد أفادنا السيد محمد المشكاة محقق المخطوطة المصورة فائدة جليلة حين ذكر هذا الخبر النبوي نقلا عن «تفسير التبيان» للشيخ الطوسي (طبع طهران ج 2 ص 614).
وبمثل هذا الخبر النبوي نستطيع أن نقول إن «تلخيص البيان» قد ذكر من أنباء فتح مكة - على الإيجاز - ما لم تذكره أكثر المراجع التاريخية وأكبرها وأقدمها تدوينا لحوادث الرسول. وكذلك كان شأنه حين ذكر قوله عليه الصلاة والسلام : (إنكم تموتون كما تنامون ، وتبعثون كما تستيقظون) فهذا الحديث النبوي البليغ هو من خطبة
__________
(1) إمتاع الأسماع ج - 1 ص 381.
(2/40)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 42
النبي عليه السلام ، وهى أول خطبة خطبها بمكة حين دعا قومه إلى الإسلام. والخطبة كاملة فى كتاب «جمهرة خطب العرب» ج 1 ص 51 ، وقد نقلها صاحب الجمهرة عن «السيرة الحلبية» ج 1 ص 272 ، وعن «الكامل» لابن الأثير ج 2 ص 27.
أما حديث (نعوذ باللّه من الحور بعد الكور) الذي ساقه الشريف الرضى فى خلال الحديث عن مجازات سورة الزمر ، فهو من الأحاديث التي أوردها المصنف فى كتابه الآخر «المجازات النبوية» وهو الحديث رقم 107 من الطبعة المصرية. وقد ساقه الشريف الرضى فى «تلخيص البيان» غير تام ، وتمام الحديث - كما فى المجازات النبوية - :
(اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر ، وكآبة المنقلب ، والحور بعد الكور ، وسوء النظر فى الأهل والمال).
ويقتضينا التحقيق فى سبيل الحق هنا أن نقول إن «الحور» هى بالحاء المهملة المفتوحة والواو الساكنة ، وهو النقصان ، و«الكور» بفتح الكاف هو الزيادة. فنقط الحور بالجيم المعجمة فى نسخة إيران المصورة «1» هو وهم لا محل له ، وخاصة بعد وجود الحديث صحيحا فى المجازات النبوية وفى معاجم اللغة «2».
القراءات فى تلخيص البيان
يلاحظ المتأمل عند أدنى نظر إلى هذا الكتاب أن الشريف الرضى يورد كثيرا من الآيات على قراءات غير القراءة فى المصحف الذي بين أيدينا. وهى قراءات صحيحة غير شاذة ، لأنها للأئمة السبعة المروية قراءاتهم بالتواتر ، وهم ابن عامر المتوفى بدمشق سنة 118 ه ،
__________
(1) انظر صفحة 90 من فهارس «تلخيص البيان» المطبوعة تصويرا فى إيران.
(2) انظر «أساس البلاغة» للزمخشرى مادة (حور).
(2/41)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 43
و ابن كثير المتوفى بمكة سنة 120 ه ، وعاصم بن أبى النّجود المتوفى بالكوفة - أو بالسماوة - سنة 127 ه ، وأبو عمرو بن العلاء المتوفى سنة 154 ه ، وحمزة بن حبيب الزيات (المتوفى بحلوان سنة 156 ه ، ونافع بن عبد الرحمن المتوفى سنة 169 ه ، والكسائي المتوفى سنة 189 ه.
ففى سورة البقرة نجد هذه الآية : يخادعون اللّه والّذين آمنوا وما يخادعون إلّا أنفسهم وقراءة حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر : وَما يَخْدَعُونَ.
و فى سورة النساء نجد هذه الآية : والّذين عاقدت أيمانكم بفعل المفاعلة وهى قراءة.
وفى سورة الأنعام نجد هذه الآية : فالق الإصباح وجاعل اللّيل سكنا أي أن جاعل بصيغة فاعل ، وهى قراءة رويس عن يعقوب ، وبها يقرأ أهل المدينة ، أما قراءة حمزة والكسائي والحسن وعيسى بن عمر فهى فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وهى القراءة التي نقرؤها نحن.
وفى سورة الأعراف ذكر الشريف الرضى قراءة «و رياشا» مع قراءة «و ريشا» فى قوله تعالى : يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ.
وفى سورة يونس نجد قراءة «فاجمعوا أمركم» من الجمع ، بدلا من «فأجمعوا أمركم» من الإجماع. والأولى هى قراءة عاصم الجحدري ، وهو غير عاصم بن أبى النجود ، وقد روى عنه عيسى الثقفي من أصحاب القراءات الشاذة.
وفى سورة هود يروى الشريف الرضى قوله تعالى : يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ
(2/42)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 44
مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ
بكسر الواو المشددة ، ومسوّمين بفتحها ، والكسر هو قراءة أبى عمرو وعاصم وابن كثير ، والفتح هو قراءة بقية السبعة.
وفى سورة التحريم ذكر المصنف رضى اللّه عنه قراءة «نصوحا» مع قراءة «نصوحا» بضم النون فى القراءة الأولى وفتحها فى الثانية فى قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً والضم هو قراءة أبى بكر بن عياش قرأها عن عاصم بن أبى النجود.
وقس على ذلك كثيرا من الآيات التي أوردها الشريف الرضى على بعض القراءات السبعة الصحيحة. وقلّ أن نراه يلجأ إلى قراءة شاذة كما صنع فى قراءة «فاجمعوا أمركم» التي أشرنا إليها سابقا.
و لا شك أن هذه القراءات التي روى بها الشريف الرضى فى كتابه هذا تجعل منه مرجعا لمن يطلبون معرفة القراءات ، وتصنيف إلى قيمة الكتاب قيمة جديدة يهتم بها طلاب القراءات.
إفاضة الشريف الرضى فى البيان
لقد كان يقال عند مؤرخى الأدب فى الخمسين الماضية : إن «مجازات أبى عبيدة» هو أول كتاب فى علم البيان تناول كتاب اللّه من الناحية البيانية فيه. ولقد تابع مؤرخو الأدب أستاذنا الشيخ أحمد الإسكندرى - رحمه اللّه - زمانا طويلا ونقلوا عنه كلامه هذا الذي ذكره فى كتابه «الوسيط». فلما طبع كتاب «مجاز القرآن» لأبى عبيدة فى عامنا هذا بتحقيق الأديب التركي فؤاد سزكين بجامعة استنبول وبمعاونة المستشرق ه. ريتر. تبين أن «مجاز القرآن» لأبى عبيدة ليس إلا تفسيرا وجيزا لألفاظ القرآن الكريم ، وليس فيه من المعاني البيانية
(2/43)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 45
فى كتاب اللّه ما يغرى به عنوانه ، وما يوهم بأنه «أول كتاب دون فى علم البيان» كما ذكر ذلك فى «الوسيط» للأستاذين أحمد الإسكندرى ، ومصطفى عنانى.
وعذر القائلين بهذا ومن تابعهم على هذا الرأى أنهم لم يطلعوا على «مجازات القرآن» لأبى عبيدة ، وقد كان مطويا فى ضمائر الغيب ، ولم يأخذوا إلا بظاهر عنوان الكتاب ، وبما صنعه ابن النديم من عدّه كتاب أبى عبيدة فى كتب مجازات القرآن.
على أن اللّه قد أذن لمجازات أبى عبيدة أن يرى النور فى هذه الطبعة الوثيقة المحققة التي نشرها السيد سامى الخانجى ، فخدم بها الحقيقة خدمة لا تقل عن خدمته لكتاب اللّه تعالى بنشر هذا الأثر القديم ، الذي أصبح الآن أول وأقدم كتاب فى تفسير معانى القرآن الكريم ، بعد أن كان تفسير الطبري له مكان الأقدمية فى هذا.
و لكن أبا عبيدة - رحمه اللّه - لم يكن فى تفسيره هذا - أو فى مجازاته - طويل النفس ، ممدود الأمراس. فهو يوجز فى تأويل اللفظة القرآنية إيجازا قد يبلغ فى أكثر الأحيان إلى حد وضع اللفظة المفسّرة مكان اللفظة المفسّرة. كقوله فى تفسير سورة آل عمران.
لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ الحسرة : الندامة.
فَإِذا عَزَمْتَ أي إذا أجمعت.
وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ : أن يخان.
لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا : أي لو نعرف قتالا.
فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ : أي ادفعوا عن أنفسكم.
(2/44)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 46
يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ : يختار.
سيكتب ما قالوا : سيحفظ.
ولا يزيد أبو عبيدة على هذا التفسير اللفظي كلمة واحدة توضح المعنى ، أو تؤيده من شواهد العرب ، أو توثقه برأى بعض المفسرين السابقين عليه. ويمضى فى الكتاب كله على هذا الضرب من الإيجاز كأنه يفصّل التفسير على القدّ ، لا يزيد على الكلمة المفسرة حرفا ...
وإن كان فى كثير من الألفاظ يزيد الشرح ويسوق الشاهد من شعر صحيح فصيح يحتج به ، ويعرب اللفظة على الوجه الذي يستقيم به المعنى المراد ، ويذكر اللغة أو اللغات فى اللفظة القرآنية «1».
فإذا انتقلنا إلى ابن قتيبة - فى القرن الثالث - فى «تأويله لمشكل القرآن» وجدناه يطيل الشرح ويتوسع فى التفسير ويزيد فى بيان المعنى بما يتضح به المراد. وإذا كان الكلام لا يبين إلا بالمثال ، فإن مثلا واحدا هنا هو أبلغ فى الدلالة على ما نقول ، فإن أبا عبيدة فى «مجاز القرآن» يفسر قوله تعالى فى سورة النساء وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا بقوله :
[الفتيل الذي فى شق النواة] «2» ولا يزيد على هذا حرفا واحدا يبين مرامى هذه الآية ، على حين أن ابن قتيبة فى «تأويل مشكل القرآن» يقول فى هذه الآية : [و الفتيل ما يكون فى شق النواة ، والنقير النقرة التي فى ظهرها ، ولم يرد أنهم لا يظلمون ذلك بعينه ، وإنما أراد أنهم إذا حوسبوا لم يظلمو فى الحساب شيئا ، ولا مقدار هذين التافهين الحقيرين ] «3»
__________
(1) انظر الصفحات 194 ، 196 ، 203 ، 206 ، 207 ، 208 ، 234 ، 256 ، 289 ، 316 من «مجاز القرآن» لأبى عبيدة.
(2) مجاز القرآن لأبى عبيدة ص 129.
(3) تأويل مشكل القرآن ص 104.
(2/45)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 47
فإذا انتقلنا إلى الشريف الرضى - فى القرن الرابع الهجري - وجدناه يفيض فى الشرح ، ويتوسع فى التأويل بما لا يكشف عنه إلا الموازنة بين هؤلاء الثلاثة فى مواضع متحدة ، وآيات بعينها من كتاب اللّه.
فأبو عبيدة يقول فى تأويل قوله تعالى : وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ من سورة الإسراء : [مجازه فى موضع قولهم : لا تمسك عما ينبغى لك أن تبذل من الحق ، وهو مثل وتشبيه ] على حين أن الشريف الرضى يقول فى مجاز هذه الآية : [و هذه استعارة. وليس المراد بها اليد التي هى الجارحة على الحقيقة ، وإنما الكلام الأول كناية عن التقتير ، والكلام الآخر كناية عن التبذير. وكلاهما مذموم ، حتى يقف كل منهما عند حده ، ولا يجرى إلا إلى أمده ، وقد فسر هذا قوله سبحانه : وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً].
وأبو عبيدة يقول فى تأويل قوله تعالى : حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطما جميعا ضعيفان ، إلا أن هذا يزداد انتشارا ، وهذا يزداد استسرارا] فهل ترك الشريف الرضى - رضى اللّه عنه - بهذا الشرح اللطيف ، والبيان الدقيق ، والبلاغة
__________
(1) مجاز القرآن ، لأبى عبيدة ص 68.
(2/46)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 48
الواضحة مجالا لسائل ، أو محلا لمستوضح عن التعبير هنا بالخيط ؟ اللهم إنك واهب البيان ، ومعطى البلاغة بقدر لكلّ لسان!.
ومثال آخر حتى تجرى الموازنة إلى مداها ... وهو قول أبى عبيدة فى تفسير قوله تعالى :
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ من سورة آل عمران : [تنقص من الليل فتزيد فى النهار ، وكذلك النهار من الليل ] «1». فاسمع هنا قول الشريف الرضى فى مجاز هذه الآية الكريمة :
[و هذه استعارة ، وهى عبارة عجيبة جدا عن إدخال هذا على هذا ، وهذا على هذا.
والمعنى : أن ما ينقصه من النهار يزيده فى الليل ، وما ينقصه من الليل يزيده فى النهار.
ولفظ الإيلاج هاهنا أبلغ. لأنه يفيد إدخال كل واحد منهما فى الآخر ، بلطيف الممازجة ، وشديد الملابسة] فنقص هذا من ذاك هو المعنى المشترك المردّد بين أبى عبيدة والشريف الرضى. أما النكتة البلاغية الدقيقة فى التعبير بلفظ الإيلاج بدلا من لفظ الإدخال ، فهو مراد بعيد جاء متأخرا عن عصر أبى عبيدة ، ولكنه لم يجد أحسن من الشريف الرضى فى التعبير عن لطف مسلكه ، ودقة سبيله.
وخذ أي آية شئت - أيها القارئ الكريم - من كتاب اللّه العزيز ، وتتبعها عند أبى عبيدة فى مجازه ، وعند ابن قتيبة فى مشكله ، وعند الشريف الرضى فى تلخيص بيانه ، فإنك مؤمن معنا فى النهاية بأن سليل البيت النبوي الكريم كان أغزر الثلاثة بيانا ، وأفصحهم لسانا ، وأبلغهم فى التعبير عن مرامى القرآن بعبارة أدبية مشرقة ناصعة ، يتضح فيها ذوق الأديب ، ورقة الشاعر ، وحسّ البليغ ، أكثر مما يتضح فيها فقه اللغوي ، وعلم النحوي ...
__________
(1) مجاز القرآن ، لأبى عبيدة ص 90.
(2/47)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 49
خذ قوله تعالى فى سورة آل عمران : فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ واسمع ما يقوله فيها أبو عبيدة : [أي لم يلتفتوا إليه. يقال : نبذت حاجتى خلف ظهرك ، إذا لم تلتفت إليها. قال أبو الأسود الدؤلي :
نظرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا]
ثم اسمع ما قاله الشريف الرضى فى كتابنا هذا : [و هذه استعارة. والمراد بها : أنهم غفلوا عن ذكره ، وتشاغلوا عن فهمه ، يعنى الكتاب المنزل عليهم ، فكان كالشىء الملقى خلف ظهر الإنسان ، لا يراه فيذكره ، ولا يلتفت إليه فينظره ].
الحق أن أبا عبيدة لغوى ، على حين أن الشريف الرضى أديب شاعر مطبوع!.
وخذ قوله تعالى فى سورة الأنعام : فالق الإصباح وجاعل اللّيل سكنا ، والشّمس والقمر واسمع ما يقول أبو عبيدة هنا : [منصوبتين لأنه فرق بينهما وبين الليل المضاف إلى جاعل قوله : سكنا. فأعملوا فيهما الفعل الذي عمل فى قوله : سكنا ، فنصبوهما كما أخرجوهما من الإضافة] «1» ثم اسمع واقرأ هنا ما كتبه الشريف الرضى :
[و هذه استعارة ، والمعنى شاقّ الصبح ومستخرجه من غسق الليل. وقوله سبحانه : فالق الإصباح ، أبلغ من قوله : شاق الإصباح ، إذ كانت قوة الانفلاق أشد من قوة الانشقاق ، ألا تراهم يقولون : انشق الظّفر ، وانفلق الحجر. وقوله تعالى : وجاعل اللّيل سكنا استعارة أخرى ، ومعناها على أحد القولين أنه سبحانه جعل الليل بمنزلة الشيء المحبوب الذي تسكن إليه النفوس وتحبه القلوب. يقال : فلان سكن فلان ، على هذا المعنى.
والتأويل الأخير يخرج الكلام عن معنى الاستعارة ، وهو أن يكون المراد أنه تعالى جعل الليل مظنة لانقطاع الأعمال ، والسكون بعد الحركات ].
__________
(1) مجاز القرآن ، لأبى عبيدة ص 201.
(2/48)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 50
ألا ترى أن أبا عبيدة في مجاز هذه الآية الكريمة أو فى تأويلها - لم يكن أكثر من نحوى إمام فى النحو ، يبين لنا كيف انتصب الشمس والقمر باسم الفاعل «و جاعل».
وأن اسم الفاعل لما أضيف إلى مفعوله الأول وهو كلمة الليل جرت بالإضافة ، على أن المعطوف على هذا المفعول الأول نصب لأن محله النصب.
أما الشريف الرضى فقد خرج فى هذه الآية من زمرة النحو والنحاة لأنه أديب شاعر بليغ يلتمس مواطن البلاغة والإعجاز فى الكلام ، فيبين لنا الفرق الدقيق بين فلق الصباح وشقه ، ولم قال اللّه : فالِقُ الْإِصْباحِ ولم يقل شاق الإصباح ؟ وما وجه الاستعارة فى قوله تعالى : وجاعل اللّيل سكنا ؟ وكيف ينتفى المجاز عن هذا التعبير إذا فسرنا السكن بمعناه الحقيقي وهو السكون بعد الحركة ؟
و قد يقول قائل : إن الموازنة بين الشريف الرضى وأبى عبيدة فى مجازيهما للقرآن الكريم جائزة السبيل لأن سبيلهما فى المجاز غير واحدة ، فأبو عبيدة مفسر (و جائز) إلى معانى القرآن من أخصر طريق ، والشريف الرضى موضح لوجوه البلاغة والبيان فى القرآن. وفى هذا الكلام كثير من الحق الذي لا تنعقد معه موازنة بين اثنين مختلفى السبيل. ولكن ما ظن القارئ فيما عقده ابن قتيبة من مجاز بيانى واستعارة فى كتابه «تأويل مشكل القرآن» وما تناوله الشريف الرضى من مجازات القرآن فى كتابه «تلخيص البيان» الذي نقدمه اليوم ؟
إن ابن قتيبة لم يفهم «المجاز» على أنه التأويل والتفسير والجواز إلى المعنى كما فهمه أبو عبيدة من قبل ، ولكنه فهمه على أنه المجاز المقابل للحقيقة أو الذي تقوم العلاقة فيه على التشبيه ، وهو ما سماه ابن قتيبة نفسه بالاستعارة ، وعقد له بابا مستقلا فى كتابه «تأويل مشكل القرآن».
(2/49)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 51
فلننظر كيف يوضح ابن قتيبة مجاز آية من القرآن ، وكيف يتناول الشريف الرضى هذه الآية بعينها وكيف يكشف عن المجاز فيها.
يقول ابن قتيبة فى مجاز قوله تعالى : سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ وهى من سورة الرحمن : [و اللّه تبارك وتعالى لا يشغله شأن عن شأن. ومجازه : سنقصد لكم بعد طول الترك والإمهال. وقال قتادة : قد دنا من اللّه فراغ لخلقه ، يريد أن الساعة قد أزفت وجاء أشراطها] «1».
ويقول الشريف الرضى فى مجاز هذه الآية : [و هذه استعارة. وقد كان والدي الطاهر الأوحد ذو المناقب أبو أحمد الحسين بن موسى الموسوي - رضى اللّه عنه وأرضاه - سألنى عن هذه الآية فى عرض كلام جرّ ذكرها ، فأجبته فى الحال بأعرف الأجوبة المقولة فيها ، وهو أن يكون المراد بذلك : سنعمد لعقابكم ، ونأخذ فى جزائكم على مساوئ أعمالكم ، وأنشدته بيت جرير كاشفا عن حقيقة هذا المعنى ، وهو قوله :
ألان وقد فرغت إلى نمير فهذا حين صرت لها عذابا ؟
فقال : فرغت إلى نمير ، كما يقول : عمدت إليها ، فأعلمنا أن معنى فرغت هاهنا معنى عمدت ، وقصدت. ولو كان يريد الفراغ من الشغل لقال : فرغت لها ولم يقل فرغت إليها.
وقال بعضهم : إنما قال سبحانه : سنفرغ لكم ، ولم يقل : سنعمد. لأنه أراد : أي سنفعل فعل من يتفرغ للعمل من غير تمجيع «2» فيه ، ولا اشتغال بغيره عنه ، ولأنه لما كان الذي يعمد إلى الشيء ربما قصر فيه لشغله معه بغيره ، وكان الفارغ له - فى الغالب - هو المتوفر
__________
(1) تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 77. [.....]
(2) التمجيع فى العمل : هو عدم أخذه مأخذ الجد.
(2/50)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 52
عليه دون غيره ، دللنا بذلك على المبالغة فى الوعيد من الجهة التي هى أعرف عندنا ، ليقع الزجر بأبلغ الألفاظ ، وأدلّ الكلام على معنى الإيعاد. وقال بعضهم : أصل الاستعارة موضوع على مستعار منه ، ومستعار له ، فالمستعار منه أصل ، وهو أقوى : والمستعار له فرع ، وهو أضعف ، وهذا مطرد فى سائر الاستعارات. فإذا تقرر ذلك كان قوله تعالى : سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ من هذا القبيل. فالمستعار منه هاهنا ما يجوز فيه الشغل وهو أفعال العباد ، والمستعار له ما لا يجوز فيه الشغل ، وهو أفعال اللّه تعالى ، والمعنى الجامع لهما الوعيد ، إلا أن الوعيد بقول القائل : سأتفرغ لعقوبتك أقوى من الوعيد بقوله : سأعاقبك ، من قبل أنه كأنما قال : سأتجرد لمعاقبتك ، كأنه يريد استفراغ قوته فى العقوبة له ، ثم جاء القرآن على مطرح كلام العرب ، لأن معناه أسبق إلى النفس وأظهر للعقل. والمراد به تغليظ الوعيد ، والمبالغة فى التحذير ...]
و لا يقف الشريف الرضى عند هذا المدى من بيان الاستعارة فى هذه الآية ...
ولكنه يمضى فى البيان نصف صفحة أخرى حتى يوفى البيان حقه ، ويبلغ البحث أجله.
فأين هذه الإفاضة فى توضيح مغازى الكلام ومرامى القول فى هذه الآية من قول ابن قتيبة فى مجازها وهو لا يعدو ثلاثة أسطر ؟ .
على أن موازنة واحدة قد يكون فيها من الجور فى الحكم ما لا نرضى لأنفسنا به ، ونحن هنا لا نوازن قصد التعصب لرجل على رجل ، ولكن لنبين عن مدى التطور فى النظرة إلى تأويل القرآن الكريم والكشف عن مجازه ، ووجوه إعجازه. فأبو عبيدة فى القرن الثاني الهجري يوجز فى التأويل والتفسير إيجازا كان من طبيعة العصر الذي عاش فيه ، وابن قتيبة فى القرن الثالث يمد فى حبل البيان بما يوائم زمانه وما اقتضته سنة التدرج
(2/51)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 53
فى نشأة البيان. والشريف الرضى فى القرن الرابع الهجري يرخى الطّول لحبل البيان ، ويمزج فى ذلك بين التطور البلاغى الذي صار إليه الأمر فى عصره ، وبين ذوقه الأدبى الخاص الذي انحدر إليه من ميراث آبائه الكرام ، والذي صار إليه من طبيعته الأدبية الشعرية الخاصة. فإذا بلغنا القرن الخامس رأينا الإمام عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471 ه والذي جمع فى البلاغة بين العلم والعمل ، فكان بجانب نظرياته وقوانينه البلاغية التي وضعها ، أديبا عمليا بليغا يختلف عن المتأخرين بعده من البلاغيين الذي سلكوا بالبيان العربي مسلك العلوم النظرية الجافة ، فأحالوا البلاغة العربية إلى ألغاز وأحاج ومعميات ، بعد أن كانت عند رجل - كالشريف الرضى - تطبيقا عمليا رائعا للبيان العربي الناصع المشرق الملامح ، الواضح القسمات.
ولن ننسى هنا موازنة ثانية بين ابن قتيبة والشريف الرضى فى بيان المجاز فى قوله تعالى فى سورة ق : يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ ، وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ قال ابن قتيبة :
[و ليس يومئذ قول منه لجهنم ، ولا قول من جهنم. وإنما هى عبارة عن سعتها «1»] ولم يزد ابن قتيبة على هذا كلمة واحدة ، مع أنه ساق هذه الآية فى باب المجاز المغاير للحقيقة. أما الشريف الرضى فإنه قال فى هذه الآية : [و هذه استعارة. لأن الخطاب للنار والجواب منها فى الحقيقة لا يصحان. وإنما المراد - واللّه أعلم - أنها فيما ظهر من امتلائها ، وبان من اغتصاصها بأهلها ، بمنزلة الناطقة بأنه لا مزيد فيها ، ولا سعة عندها ، وذلك كقول الشاعر :
امتلأ الحوض وقال قطنى مهلا رويدا! قد ملأت بطني!
__________
(1) تأويل مشكل القرآن ، لابن قتيبة ص 79.
(2/52)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 54
و لم يكن هناك قول من الحوض على الحقيقة ، ولكن المعنى : أن ما ظهر من امتلائه فى تلك الحال جار مجرى القول منه ، فأقام تعالى الأمر المدرك بالعين ، مقام القول المسموع بالأذن. وقيل المعنى : إنا نقول لخزنة جهنم هذا القول ، ويكون الجواب منهم على حد الخطاب. ويكون ذلك من قبيل : وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ فى إسقاط المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. وذلك كقولهم : يا خيل اللّه اركبي. والمراد : يا رجال اللّه اركبي. وعلى القول الأول يكون مخرج هذا القول لجهنم على طريق التقرير لاستخراج الجواب بظاهر الحال ، لا على طريق الاستفهام والاستعلام ، إذ كان اللّه سبحانه قد علم امتلاءها قبل أن يظهر ذلك فيها. وإنما قال سبحانه هذا الكلام ليعلم الخلائق صحة وعده ، إذ يقول تعالى :
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ والوجه فى قوله تعالى فى الحكاية عن جهنم :
هَلْ مِنْ مَزِيدٍ بمعنى لا من مزيد فىّ. وليس ذلك على طريق طلب الزيادة ، وهذا معروف فى الكلام ، ومثله قوله عليه السلام : «و هل ترك عقيل لنا من دار ؟ » أي ما ترك لنا دارا.]
و ليس بعد كلام الشريف الرضى فى هذه الآية بيان ولا مزيد لمستزيد ... فقد أفاض - كعادته - فى الكشف عن وجوه الاستعارة فى الآية الشريفة ، وأبان أن اغتصاص جهنم بأهلها كان بمنزلة النطق منها بأنها لا زيادة فيها ، ولا سعة عندها ، كما أيّد ذلك المجاز بقول الراجز : امتلأ الحوض وقال قطنى ، أي حسبى. فإن الحوض لا يتكلم ، وكذلك جهنم لا تتكلم ، ولكن ما يظهر من امتلاء الاثنين جرى مجرى النطق منهما. ثم أبان بعد ذلك أنه يجوز أن يكون المراد بالقول لجهنم هو القول لأهلها ، فكأن اللّه تعالى قال :
يوم نقول لأهل جهنم ، وهذا المجاز جائز لغة وهو الذي سماه البيانيون الاصطلاحيون بعد
(2/53)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 55
ذلك بالمجاز الذي علاقته المحلية ، لأن جهنم محل لأهلها ، فكأنه ذكر المحل وأراد الحالّ.
لعلنا قد بلغنا ما نريد من الحديث عن إفاضة الشريف الرضى فى كشفه لوجوه البيان فى القرآن ، وهى إفاضة سيراها القارئ الكريم واضحة فى كل صفحة من الكتاب ، وفى كل موطن من مواطن بيانه.
القرآن الكريم بين الحقيقة والمجاز
لم يكن قبول فكرة (المجاز) فى القرآن الكريم أمرا سهلا عند المسلمين جميعا ، فهم مجمعون - على اختلاف مللهم ونحلهم - على وقوع الحقيقة فيه ، ولا يفترق فى ذلك بعض أصحاب المذاهب عن بعض. والحقيقة عندهم هى كل لفظ بقي على موضوعه ولا تقديم فيه ولا تأخير. وأكثر القرآن من الحقائق. أما المجاز - المقابل للحقيقة - فالجمهور على أنه واقع فى القرآن ، وإن كان أنكره الظاهرية ، وابن القاص من الشافعية ، وابن خويز منداد من المالكية. وشبهتهم أن المجاز غير الحقيقة ، فهو كذب ، والقرآن منزه عن الكذب ، كما أن المتكلم لا ينصرف عن الحقيقة إلى المجاز إلا إذا ضاقت به الحقيقة أو عجز عن التعبير بها فيستعير ، وذلك محال على اللّه تعالى القادر المنزه عن العجز. فالمنكرون لوقوع المجاز اللغوي والعقلي فى القرآن يحتجون لذلك بحجتين : أولاهما أن المجاز كذب والكذب محال على اللّه ، وثانيتهما أن الالتجاء إلى المجاز هو عجز عن التعبير بالحقيقة ، والعجز محال على اللّه.
(2/54)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 56
و قد رد على هذه الشبه جماعة من المسلمين ، وكان من أسبقهم إلى ذلك ابن قتيبة الذي يقول فى حرارة : (و لو كان المجاز كذبا ... كان أكثر كلامنا فاسدا ، لأنا نقول : نبت البقل وطالت الشجرة ، وأينعت الثمرة ، وأقام الجبل ، ورخص السعر ، ونقول كان هذا الفعل منك فى وقت كذا وكذا ، والفعل لم يكن وإنما كوّن).
و من الذين ردوا على هذه الشبه أيضا الإمام جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 ه حيث يقول : (و هذه شبهة باطلة ، ولو سقط المجاز من القرآن سقط منه شطر الحسن ، فقد اتفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة ، ولو وجب خلو القرآن من المجاز وجب خلوه من الحذف والتوكيد وتثنية القصص وغيرها) «1» ولعل للظاهرية - وهم أتباع الإمام داود بن على الظاهري المتوفى سنة 270 ه - عذرهم فى إنكار المجاز فى القرآن ، لأنهم يتمسكون بظاهر الكتاب والسنة - كما يدل على ذلك اسمهم - ولهذا لا يأخذون بالمجاز إلا إذا كان مشهورا وكانت القرينة واضحة معلنة عنه ، كاشفة له «2». فإذا غمض المجاز أو خفيت القرينة فإنهم لا يأخذون به.
وقد جرى ابن حزم الأندلسى المتوفى سنة 456 مجرى داود الظاهري فى الأخذ بالمجاز المشهور الواضح وعدم التأويل فيه ما دام يجرى على سنن الفصيح فى اللغة ، وذلك الظاهر هو الذي كان يفهمه العربي عند قراءة القرآن ، وكان يفهمه الصحابة والتابعون كما يدل عليه ظاهره ، سواء أكان مجازا أم حقيقة ، فإن المجاز لا يخرج الكلام عن الدلالة الظاهرة الواضحة المبينة ، ما دامت له قرينة واضحة «3».
__________
(1) الإتقان فى علوم القرآن ، للسيوطى طبعة محمود توفيق ، سنة 1352 القاهرة. ج 2 ص 36.
(2) ابن حزم - حياته وعصره. للشيخ محمد أبو زهرة ص 226 ، 295.
(3) المصدر السابق ص 226.
(2/55)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 57
و قد أودع الإمام السيوطي فى «الإتقان» كثيرا من المجازات والاستعارات القرآنية ، وردها إلى أنواع المجاز اللغوي - وهو المجاز فى المفرد لا فى التركيب - وبلغت هذه الأنواع عنده عشرين نوعا ، ثم انقسم النوع العشرون - وهو إقامة صيغة مقام أخرى - إلى أنواع أخر تزيد على العشرين.
على أن هذه الأقسام والأنواع للمجاز والاستعارة لم يتعرض لها الشريف الرضى وهو يكشف عن مجازات القرآن كشفا تطبيقيا بلاغيا ، فإن تلك المسميات والمصطلحات لم تكن قد وضعت أو عرفت بعد فى عصر الشريف ، الذي يقول مثلا فى مجاز قوله تعالى فى سورة يوسف عليه السلام : وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها [و هذه استعارة من مشاهير الاستعارات ، والمراد : واسأل أهل القرية التي كنا فيها]. أما السيوطي فيتكلم عن هذه الآية بطريقة اصطلاحية فى علم البيان فيقول فى خلال حديثه عن أنواع المجازات القرآنية : [الرابع عشر :
إطلاق اسم المحل على الحال نحو : فَلْيَدْعُ نادِيَهُ أي أهل ناديه أي مجلسه ، ومنه التعبير باليد عن القدرة نحو : بِيَدِهِ الْمُلْكُ ... وبالقرية عن ساكنيها نحو : وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ] «1».
وقد اشتدت حاجة مفسرى القرآن الكريم إلى طائفة من العلوم كان على رأسها ما عرف فى القرن الخامس وما بعده بعلوم البيان والمعاني ، فقد وضعوا لمفسر القرآن شروطا ، وأوجبوا عليه أن يعرف علم اللغة ليعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع ، وأن يعرف علم النحو ، لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب ، وأن يعرف علم الصرف ، فإن الجهل بالصرف قد يفضى إلى الخطأ فى التفسير ، وللإمام الزمخشري هنا كلمة نفيسة فقد قال :
__________
(1) الإتقان فى علوم القرآن. ج 2 ص 37.
(2/56)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 58
[من بدع التفاسير قول من قال : إن «الإمام» فى قوله تعالى : يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ جمع أم ، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم. قال :
وهذا غلط أوجبه جهله بالتصريف ، فإن أمّا لا تجمع على إمام ].
كما أوجبوا على المفسر أن يعرف طائفة أخرى من العلوم يبلغ مجموعها خمسة عشر علما.
و لم يفتهم أن يضعوا البيان والمعاني بين هذه العلوم لمعرفة خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى ، وخواصها من حيث اختلافها بحسب خفاء الدلالة ووضوحها.
وقد عد السيوطي علوم البلاغة من أعظم أركان المفسر ، لأنه لا بد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز ، وإنما يدرك هذا بهذه العلوم «1».
مكان «تلخيص البيان» بين كتب التفسير
ليس «تلخيص البيان فى مجازات القرآن» للشريف الرضى تفسيرا للقرآن الكريم بالمعنى العام الذي تدل عليه كلمة التفسير. فهو هنا لم يفسر القرآن كله آية آية ، وإنما تناول من كل سورة ما فيها من الآيات المشتملة على مجاز. ولذا كان من الدقة أن نقول إن «تلخيص البيان» هو التفسير للآيات المجازية فى كتاب اللّه.
على أن للشريف الرضى كتابه الكبير فى تفسير القرآن ، وهو «حقائق التأويل»
__________
(1) المصدر السابق ، ج 2 ص 181.
(2/57)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 59
الذي يشير إليه فى «المجازات النبوية» وفى «تلخيص البيان» ، فيسميه تارة حقائق التأويل «1» ، ويسميه تارة بالكتاب الكبير فى مواضع غير قليلة.
ولسنا الآن بصدد الحديث عن «حقائق التأويل» ، فليس هنا موضعه ، ولكننا نشير إشارة عابرة إلى قول النسابة العمرى فى المجدي : (شاهدت له - أي للشريف - جزءا من مجلد من تفسير منسوب إليه فى القرآن ، مليح ، حسن ، يكون بالقياس فى كبر تفسير أبى جعفر الطبري أو أكبر «2») كما نشير إلى قول المؤرخ ابن خلكان صاحب «وفيات الأعيان» وهو يقول : (و صنف كتابا فى معانى القرآن الكريم يتعذر وجود مثله. دل على توسعه فى علم النحو واللغة) «3» ولعل كتابه هذا فى معانى القرآن الذي يشير إليه ابن خلكان هو كتاب حقائق التأويل أو الكتاب الكبير الذي يشير إليه الشريف نفسه «4».
و لقد اختلفت طرائق المفسرين لكتاب اللّه بحسب الزوايا التي نظروا منها إليه ، وبحسب النواحي التي تخصصوا فيها ، ووقفوا دراساتهم عليها. فالنحوى لا همّ له فى تفسير القرآن إلا الإعراب وتكثير الأوجه المختلفة فيه ، ونقل قواعد النحو ومسائله وأصوله وفروعه وخلافاته ، فهو لا ينظر فى تفسيره إلا فى هذه الناحية النحوية التي غلبت عليه كما فعل الزجاج والواحدي فى «البسيط» ، وكما فعل أبو حيان فى تفسيره الكبير المسمى «البحر» ، وكما فعل فى «النهر» أيضا. واللغوي لا ينظر فى تفسيره إلا إلى ناحية لغات
__________
(1) انظر «المجازات النبوية» طبع مصر ص 25 ، وانظر «تلخيص البيان» فى مجازات سورة المائدة والتوبة والرعد والزخرف والتكوير.
(2) الغدير للعلامة عبد الحسين أحمد ، ج 4 ص 175 ، طبع النجف.
(3) ابن خلكان ج 2 ص 3.
(4) الغدير ج 4 ص 175.
(2/58)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 60
القرآن. والأخبارى لا هم له فى تفسير القرآن إلا العناية بالقصص وأخبار الأمم البائدة ، وما جرى للرسل مع أقوامهم ، وما أرسل اللّه عليهم من ألوان العذاب وأنواع الهلاك ، سواء أكانت هذه الأخبار صحيحة أم باطلة. وممن فسر القرآن على هذا النحو «الثعلبي» أبو إسحاق أحمد بن محمد النيسابورى المتوفى سنة 427 ه ، وقد كان الثعلبي بفطرته ميالا إلى الأخبار وقصص الأمم الماضية والقرون الخالية ، وله غير التفسير كتاب «عرائس المجالس» فى قصص الأنبياء ، وهو مشهور معروف وقد طبع غير مرة. أما الفقيه فإنه - إذا فسر القرآن - يكاد يسرد فيه أبواب الفقه كلها من باب الطهارة إلى أمهات الأولاد ، لا يكاد يخرم من ذلك بابا واحدا ، وربما استطرد إلى إقامة الدلائل على فروع المسائل التي لا علاقة لها بالآية التي يفسرها ، بل ربما ذهب إلى أبعد من ذلك فأورد أدلة الموافقين والمخالفين. وممن صنع ذلك الإمام أبو عبد اللّه محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المتوفى سنة 671 ه فى تفسيره الكبير «الجامع لأحكام القرآن» الذي أصدرته دار الكتب المصرية فى عشرين جزءا.
أما صاحب العلوم العقلية فإنه يملأ تفسير للقرآن بأقوال الحكماء والفلاسفة وأصحاب الملل والنحل والمذاهب ، وآرائهم فى العالم والكون والفساد ، والبعث والمعاد ، والعلل والغايات ، والثواب والعقاب ، كما فعل الإمام فخر الدين الرازي «1» المتوفى سنة 606 ه فى تفسيره الكبير ، فخرج عن الآيات التي يفسرها ، واستطرد وأطال الاستطراد بما يجعل من التفسير كتابا للفلسفة ومعرضا للمباحث العقلية ، حتى لقد قال فيه أبو حيان فى تفسيره
__________
(1) هو محمد بن عمر بن الحسين ، كان أوحد زمانه فى علوم المعقول والمنقول ، وهو قرشى النسب وكان يحسن الفارسية.
(2/59)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 61
المعروف بالبحر : (جمع الإمام الرازي فى تفسيره أشياء كثيرة طويلة ، لا حاجة بها فى علم التفسير ، ولذلك قال بعض العلماء : فيه كل شى إلا التفسير).
ومن هنا صح لنا أن نقول إن «تلخيص البيان» للشريف الرضى هو تفسير لمجازات القرآن واستعاراته ، وكشف لطيف دقيق لوجوه البيان فى كتاب اللّه الكريم ، ولذا قلّ أن تجد فيه اهتماما بالقصص والأخبار ، أو التفاتا إلى أحكام الفقه ، إلا ما جاء عارضا فى مسح الرأس ، أو اشتغالا بمبحث عقلى فلسفى ، لأنه قصد منه أن يكون كتابه تفسيرا للإعجاز البياني فى القرآن لا غير.
والكشف عن بيان القرآن يتطلب أن يكون الكاشف عنه ذا بيان قوى. حتى تكون الوسيلة شريفة شرف غايتها ، فلا يعقل أن يكشف عن بلاغة القرآن قاصر الباع فى البلاغة ، ضيق الذراع فى الفصاحة ، ولذا كان الشريف الرضى أولى من يكشف عن بيان القرآن ، فقد رزقه اللّه من سحر البيان ، وذلاقة اللسان ، ووضوح الحجة ، وإشراق الديباجة ما ينهض بالعبء الذي قام به فأحسن القيام.
لقد كان الإمام القرطبي فقيها فغلب عليه الفقه فى تفسيره ، وكان الثعلبي إخباريا فغلبت عليه فطرته فى القصص ، وكان الفخر الرازي حكيما فيلسوفا فغلبت عليه الفلسفة وهو يفسر كتاب اللّه. وكذلك كان الشريف الرضى ، فإنه فرع دوحة البلاغة ، وغصن شجرة الفصاحة ، وسليل البيت الذي خصه اللّه بالبيان ، فغلب ذلك على تفسيره الصغير المسمى «تلخيص البيان» ، وقد وصفناه بالصغير على طريق المقابلة ، حين وصف هو نفسه تفسيره الآخر بالكتاب الكبير ..
(2/60)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 62
أيهما أسبق مجازات القرآن أم المجازات النبوية ؟
للشريف الرضى غير هذا الكتاب فى مجازات القرآن كتاب آخر فى «المجازات النبوية» ، وقد تناول فيه أكثر من ثلاثمائة وستين حديثا من أحاديث الرسول عليه السلام ، اشتملت على مجازات ولطائف استعارات ودقائق كنايات. وقد كنا قبل نشر المجازات النبوية نعد من مجازات الحديث وكناياته قلة تعد على أصابع اليد الواحدة ، كقوله عليه السلام : (الآن حمى الوطيس) و(هدنة على دخن) ، و(إياكم وخضراء الدمن) وهى المرأة الحسناء فى منبت السوء.
فلما طبع «المجازات النبوية» لأول مرة فى العراق منذ أربعين عاما تنبه الناس إلى حفول الحديث النبوي بكثرة رائعة من المجاز ، ولما أعيدت طبعته فى مصر سنة 1356 ه - سنة 1937 م ازداد عدد الذين وقفوا على هذه الكثرة من مجازات الرسول ، وتابعوا ذلك الشرح البياني البليغ الذي جرى به قلم الشريف الرضى ، ورأوا فيه لونا من الأدب العلوي الرفيع ، والذوق البلاغى الدال على حس مرهف.
ولم يتناول الشريف الرضى حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من ناحية شرح غريبه كما صنع أبو عبيدة فى كتابه «غريب الحديث» وكما صنع ، الأصمعى وابن الأعرابى ، وابن قتيبة ، وابن الأنبارى ، وابن دريد ، والحضرمي ، والسلمى ، وابن درستويه ، وابن رستم وغيرهم من عشرات المصنفين فى غريب الحديث النبوي.
لا! لم يفعل الشريف الرضى ذلك ، لأن البيان هنا غلب عليه ، كما غلب عليه
(2/61)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 63
فى تفسيره لمجاز القرآن ، فألف «المجازات النبوية» : (إذ كان فى الآثار الواردة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كثير من الاستعارات البديعة ، ولمع البيان الغريبة ، وأسرار اللغة اللطيفة «1») وأشار من ذلك إلى مواضع النكت ، ومواقع الغرض ، بالاعتبارات الوجيزة ، والإيماءات الخفيفة.
و لقد وجد الشريف نفسه أمام نصين أو مصدرين من مصادر البلاغة العربية ، أو لهما معجز وهو القرآن الكريم الذي أنزل على النبي محمد ، وثانيهما فيه من معجزات البلاغة والفصاحة وجوامع الكلم ما جعله تاليا لكلام الخالق ، وفوق كلام المخلوقين «2».
فنصب الشريف الرضى مسنون عزمه لخدمة هذين المصدرين المقدسين عند المسلمين والعرب ، وتتبعهما تتبع دارس لهما ، مفتون بهما ، ليكشف عما فى كل منهما من جمال التعبير ، وروعة البيان ، وسحر البلاغة ، ولطف المسلك ، ووضوح الحجة ، وإشراق الديباجة ، مما لم يعد أن يكون جاريا على سنن العرب ، ولكنهم لا يرقون إلى مثله مهما انقادت لهم أعنة الكلام ، وذلت لهم أزمّة البيان.
فأى المصدرين البلاغيين بدأ الشريف الرضى فى الكشف عن وجوه المجاز والإعجاز ؟
إنه يقول فى مقدمة كتابه «المجازات النبوية» : (فإنى عرفت ما شافهتنى به من استحسانك الخبيئة التي أطلعتها ، والدفينة التي أثرتها ، من كتابى الموسوم بتلخيص البيان عن مجازات القرآن) ثم يقول فى موضع آخر من المجازات النبوية : (و قد استقصينا الكلام على ذلك
__________
(1) المجازات النبوية طبع القاهرة ص 19 ، 20.
(2) لباب الآداب ، للأمير أسامة بن منقذ .. تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر. [.....]
(2/62)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 64
فى كتاب تلخيص البيان عن مجازات القرآن) وهاتان الإشارتان فيهما دليل على أن كتاب تلخيص البيان كان سابقا فى تأليفه على المجازات النبوية ، وإلا لم يصنع المجازات النبوية على غراره ، ويسلك مثل تلك الطريقة «1» التي سلكها فى التلخيص.
ولكننا نجد فى «تلخيص البيان» إشارة إلى كتاب المجازات النبوية ، فنرى الشريف الرضى - فى مجازات سورة الشعراء - يقول : (و قد استقصينا الكلام على معنى هذا الخبر فى كتاب مجازات الآثار النبوية) ، وهذا نص يفهم منه أن «المجازات النبوية» كانت سابقة فى التأليف على «تلخيص البيان».
و يبدو من ظاهر الإشارتين فى التلخيص والمجازات النبوية أنهما متعارضتان ، حيث يحيل فى التلخيص على المجازات النبوية ، ثم يحيل فى هذه على التلخيص ، ولكن المشكلة أهون حلّا من أن يظن فيها تعارض ، أو يتوهم فيها تناقض ، فالذى يبدو أن الشريف الرضى - رحمه اللّه - كان يشتغل فى تصنيف الكتابين فى وقت واحد ، فهو يكتب هنا ويحيل على الكتاب الثاني ماداما فى حوزته ، وهو يجمع مادة المجازات النبوية فى الوقت الذي كان يصنّف فيه «تلخيص البيان فى مجازات القرآن» ، فلما ظهر هذا الأخير واستحسن عند الخاصة والعامة ، ولقى من مشافهة الاستحسان ما اطمأنت به نفس الشريف - أخرج كتابه الآخر فى المجازات النبوية ، بعد أن كان بالفعل قد أعد مادته ، ومضى فيه لطيته.
__________
(1) مقدمة المجازات النبوية ص 19
(2/63)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 65
عصر الشريف الرضى
عاش الشريف الرضى فى النصف الثاني من القرن الرابع الهجري ، وأدرك ست سنوات من القرن الخامس. وولد سنة 359 ه ، وتوفى سنة 406 ه. فكأنه بذلك أدرك ثلاثة من خلفاء العباسيين ، وهم المطيع ، والطائع ، والقادر.
وكان الخلفاء فى ذلك العهد لا يملكون من الأمر شيئا ، فليس الأمر بيدهم ، ولا تصاريف الحكم لهم ، وإنما كانت الدولة والكلمة والسلطان كله لبنى بويه الذين تغلبوا على بنى العباس ، ونزعوا من أيديهم كل سلطان ، وبدأوا ذلك فى عام سنة 334 ه أي ربع قرن قبل مولد الشريف.
على أن سلطان الخلفاء العباسيين كان قبل ذلك ضعيفا - أي قبل أن يمسك بنو بويه بزمام السلطان - فقد كان الخليفة المقتدر العباسي ، وهو أول خلفاء القرن الرابع الهجري صبيا ضعيفا ليس له من الأمر شىء ، وقد روعى فى انتخابه للخلافة بعد المكتفي أن يكون حدثا صغيرا غرا ، وكان ابن الفرات الوزير مسئولا عن هذه الفضيحة الخلافية حين رشحه للخلافة قائلا : (إنه صبى لا يدرى أين هو ، وعامة سروره أن يصرف من المكتب!) وكانت سنة حين اختير للخلافة ثلاثة عشر عاما.
ولقد كانت قوة بنى بويه على حساب الخلفاء العباسيين ، وكان معز الدولة بن بويه صاحب الأمر والنهى فى العراق ، على حين كان الخليفة مجردا حتى من وزير يزرله ، وإنما كان له كاتب يدبر له إقطاعاته. وصار معز الدولة يستوزر لنفسه من شاء. ولقد بلغ من كراهة بنى بويه للعباسيين أن معز الدولة فكر فى أن يزيل اسم الخلافة أيضا عن بنى العباس ، ويجعلها للعلويين ، لأنه كان شيعيا ، وكان يعتقد أن العباسيين اغتصبوا الخلافة من
(2/64)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 66
مستحقيها وأولى الناس بها وهم العلويون. ولكن بعض خواص معز الدولة أشار عليه أن لا يفعل ذلك ، وقال له : (إنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة ، ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مستحلين دمه ، ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك من تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته ، فلو أمرهم بقتلك لفعلوا) فأعرض ابن بويه عما كان عزم عليه ، وأبقى للعباسيين اسم الخلافة ، وانفرد هو بالسلطان.
و ما الظن بخليفة كالمستكفى ، لا يجلس فى كرسى الخلافة منذ استيلاء معز الدولة ابن بويه إلا أربعين يوما ، ثم يخلع لأن معز الدولة اتهمه بالتدبير عليه! وهو أضعف من أن يدبر. وقد كان خلعه مأساة مضحكة مبكية ، فقد دخل عليه اثنان من نقباء الديلم يصيحان وتناولا يده ، فظن أنهما يريدان تقبيلها ، فمدها إليهما ، فجذباه عن سريره ، وجعلا عمامته فى حلقه ، ونهض معز الدولة ، واضطراب الناس ، ونهبت الأموال ، وساق الرجلان الخليفة المستكفى ماشيا إلى دار معز الدولة بن بويه فاعتقل بها ، ونهبت دار الخلافة حتى لم يبق فيها شىء.
ولقد كان الشريف الرضى فى مستكن الغيب حين وقعت هذه المأساة ، ولكن ما من شك فى أنها رويت له وهو طفل بعد مولده سنة 359 ه ، وما من شك فى أنه حين سمعها تعجب غاية العجب من مآسى الخلفاء.
ولقد ولد الشريف فى الخمس الأخيرة من خلافة المطيع العباسي ، ثم كان فى الخامسة من عمره حين تولى الطائع الخلافة العباسية سنة 363 ه ، ثم كان فى الثانية والعشرين من عمره حين تولى القادر الخلافة سنة 381 ه ، وتوفى فى السنة الخامسة والعشرين من عهد هذا الخليفة.
(2/65)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 67
و شهد الشريف الرضى من عهود بنى بويه عهد عز الدولة بختيار بن معز الدولة ، ولكنه كان فى ذلك الحين صبيا لم يزد على الثامنة من عمره ، وعهد عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه إلى سنة 372 ه ، وعهد صمصام الدولة بن عضد الدولة إلى سنة 376 ه ، وعهد شرف الدولة بن عضد الدولة إلى سنة 379 ه ، وعصر بهاء الدولة بن عضد الدولة إلى سنة 403 ه ، وأدرك من عصر سلطان الدولة بن بهاء الدولة ثلاث سنوات ، إلى أن توفى سنة 406 ه ، كما سبق القول.
و قد شهد البيت البويهي صراعا بين رجاله الذين شاركوا فى بنائه ، وغلبت المطامع عليهم ، فطمع بعضهم فى بعض ، حتى لقد بلغ من عضد الدولة أن طمع فى ملك العراق وكان من نصيب ابن عمه بختيار ، فتربص به الدوائر ، وما زال به بين تهديد وإغراء حتى سلّم له بختيار بملك العراق ، فدخل عضد الدولة بغداد ظافرا ، وأمر بابن بقية وزير بختيار أن يلقى بين قوائم الفيلة لتقتله ، وصلب الوزير على رأس الجسر ، وهو الوزير الذي رثاه الشاعر الأنبارى بقصيدته المشهورة التي مطلعها :
علو فى الحياة وفى الممات لحقّ أنت إحدى المعجزات
و لم يكن صمصام الدولة بأسعد حظا من بختيار ، فقد اضطرب عليه أمر العراق حين خرج عليه أخوه شرف الدولة وناصبه العداء وقطع الخطبة باسمه ، وهزم الجيش الذي سيره إليه. وانتهى الخلاف بين الأخوين بأن أصبح شرف الدولة سلطانا على العراق ، فدخل بغداد سنة 376 ه ، ولما توفى سنة 379 ه تولى العراق بعده أخوه بهاء الدولة. ولم يهدأ له الأمر ، فقد خرج عليه أقاربه وأهل بيته من بنى بويه ، وحاولوا نزع السلطان منه ، ولكنه انتصر عليهم.
(2/66)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 68
و بهاء الدولة بن عضد الدولة البويهي هذا هو سلطان العراق الذي اتصل به الشريف الرضى ، ومدحه مدائح جيادا ، وأطال القصائد فى مدحه. وطال الأمد ببهاء الدولة وهو ملك على العراق من سنة 379 ه إلى سنة 403 ه - أي ما يقرب من أربعة وعشرين عاما ، والشريف الرضى دائم الصلة به ، مجوّد المدائح فيه ، مطيل الثناء عليه ، محسن الدعابة معه ... فيخاطبه تارة بالشعر الوحشي ، وأخرى بالقصائد الإنسية ، ويرق فى المديح فيقول مهنئا إياه بعيد المهرجان سنة 400 ه :
انج من روعات أيا م وغارات خطوب
باقيا ما اختلف النّو ر على الغصن الرطيب
هزّه الريح سليما من وصوم وعيوب
لالقاك الخطب إلا راميا غير مصيب
كلما أفنيت عقبا جاد دهر بعقيب
مهرجان عاد إلما م محب بحبيب
وافدا جاء من الإقبا ل فى زور غريب
إن ريب الدهر أمسى لك مأمون المغيب «1»
و يقول من قصيدة أخرى مادحا إياه وشاكرا له على تلقيبه «بالرضى ذى الحسين» وذلك سنة 398 ه :
رفعت اليوم من قدرى وأوطأت العدا عقبى
__________
(1) شرح ديوان الشريف الرضى ، طبع عيسى الحلبي ج 1 ص 101.
(2/67)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 69
و وسّعت لى الضّيق إلى المضطرب الرحب
و زاوجت لى الطّول زواج الماء للعشب
فكم من نعمة منك كعرف المندل الرطب
أتتنى سمحة القود ذلولا سهلة الرّكب
مهنّاة كما ساغ زلال البارد العذب
و ما إنعامك الغمر بزوّار على الغبّ
و يظل الشريف الرضى على ولائه ووده وإخلاصه لبهاء الدولة البويهي حتى يموت سنة 403 ه ، فيرثيه بقصيدة يقول منها :
رزيئة لم تدع شمسا ولا قمرا ولا غماما ولا نجما ولا فلكا
لو كان يقبل من مفقودها عوض لأنفق المجد فيها كل ما ملكا
لا يبعد اللّه أقواما رزئتهم لو ثلموا من جنوب الطّود لانتهكا
فقدتهم مثل فقد العين ناظرها يبكى عليها بها ، يا طول ذاك بكا!
لا تبصر الدهر بعد اليوم مبتسما إن الليالى أنست بعده الضحكا ...
هذا هو الوضع السياسى للعراق فى العصر الذي عاش فيه الشريف الرضى ، وهو وضع يبين لنا ضعف الخلافة العباسية من ناحية ، ونفوذ بنى بويه وسلطانهم ونزعهم السلطة من أيدى الخلفاء من ناحية ثانية ، كما يصور لنا مطامع بنى بويه ومنافسات بعضهم لبعض على السلطان ، وائتمار الأخ حتى على أخيه من ناحية ثالثة.
ولقد أثرت هذه الاضطرابات السياسية ، والمؤامرات والفتن والدسائس بين أبناء بويه من ناحية ، وبينهم وبين العباسيين والأتراك من ناحية أخرى ، كما أثرت الخلافات والمنازعات
(2/68)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 70
بين السنيين والشيعيين من ناحية ثالثة - أقول أثر ذلك كله فى الاستقرار السياسى والاجتماعى فى العراق جملة ، وفى بغداد على جهة الخصوص. فلقد شهدت طفولة الشريف الرضى - وهو فى الثانية من عمره - الفتنة الكبرى التي حدثت بالكرخ سنة 361 ه ، فأرسل أبو الفضل الشيرازي - وزير معز الدولة البويهي - من طرح النار على دور أهل الكرخ ، فاحترقت أموال عظيمة واحترق جماعة من الرجال والنساء والصبيان فى الدور والحمامات. وكان جملة ما احترق - كما يروى المؤرخ ابن الجوزي - سبعة عشر ألف إنسان ، وثلاثمائة دكان ، وثلاثمائة وعشرين دارا ، ودخل فى جملة الإحصاء ثلاثة وثلاثون مسجدا «1».
وما من شك فى أن هذا التفكك فى جسم الخلافة العباسية كان سببا فى اجتراء الأجانب عليها ، وطمع الأعاجم فيها ، ومهاجمتهم لها. ألم يشهد مولد الشريف الرضى سنة 359 ه دخول الروم أنطاكية الإسلامية ، فملكوا البلد ، وأخرجوا الشيوخ والعجائز والأطفال على وجههم حيث شاءوا ، وأخذوا الشباب من النساء والغلمان والصبيان فحملوهم على وجه السبي ، فكان عددهم أكثر من عشرين ألفا»
؟
لقد فزع المسلمون لسقوط أنطاكية فى يد الروم على هذا النحو الفظيع ، ويروى المؤرخ يحيى بن سعيد أن الناس كان يخيل إليهم أنها لن تغلب.
ولم يكن سقوط أنطاكية أول صدع فى بناء الخلافة العباسية ، أو المملكة الإسلامية
__________
(1) المنتظم فى تاريخ الملوك والأمم. لابن الجوزي. طبع حيدرآباد الدكن. ج 7 ص 60.
(2) المصدر نفسه ص 51.
(2/69)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 71
على جهة العموم - ففى سنة 364 ه فتحت بعلبك وبيروت. واضطر أهل دمشق المسلمون أن يفتدوا أنفسهم من الروم بدفع ستين ألف دينار ، يحملونها للروم كل عام.
فى هذا العصر القلق المائج بأحداث كبار ، المرزوء بفتن ومؤامرات لاحد لها ، المنكوب بخلفاء للإسلام بلغوا من الوهن حدا لا زيادة بعده لمستزيد ، المملوء بأمراء يقتلون أنفسهم وإخوتهم وأبناء عمومتهم وأهل بيتهم فى سبيل مطامعهم الذاتية - فى هذا العصر عاش الشريف الرضى وعاش من قبله أبوه أبو أحمد الحسين ، فنكب الأب الجليل نكبة بلغت من نفس ابنه الشريف مبلغا عظيما ، فأنطقته بالشعر البليغ ، والشكوى المريرة ، ولم تصده عن أن يمضى فى العلم والبحث والدرس والتفقه إلى أجله ، فأمتع الأدب العربي بالروائع الخالدات.
الحياة الأدبية فى عصر الشريف
كان النصف الثاني من القرن الرابع الهجري - وهو الزمن الذي عاش فيه الشريف الرضى - ميدانا للأدب استبق فيه الفحول ، وقد كان انقسام الدولة العباسية إلى دويلات وإمارات عاملا من عوامل النهضة التي أخذت تتميز فى هذا العصر ، فقد كان الأمراء ينافس بعضهم بعضا فى تشجيع العلم والأدب. وانتقلت مراكز التشجيع من قصور الخلفاء إلى دور الأمراء والسلاطين والوزراء والعمال فى الأقاليم المختلفة ، فهؤلاء البويهيون أسهموا فى النهضة العلمية الأدبية فى القرن الرابع بما لا يليق بمنصف إغفاله ، فقد كانوا لا يستكتبون ولا يستوزرون إلا العلماء والشعراء والأدباء. وابن العميد والصاحب ابن عباد من الوزراء الأدباء المؤيدين لهذه القضية. وقد كان ملوك بنى بويه أنفسهم
(2/70)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 72
مشهورين بميلهم إلى الأدب والعلم والمساهمة فيهما. وهذا عضد الدولة البويهي المتوفى سنة 372 ه شارك فى عدة فنون من الأدب ، وقرب إليه الأدباء والعلماء وحثهم على التأليف. فألف له أبو إسحاق الصابي كتاب «الناجي» فى أخبار آل بويه ، وألف له أبو على الفارسي النحوي المشهور كتاب «الإيضاح» و«التكملة» فى علم النحو ، وقصده فحول الشعراء فى عصره كالمتنبى والسلامى وغيرهما ، وكان هو نفسه ينظم الشعر الحسن - كما ذكر الثعالبي صاحب يتيمة الدهر - كما كان عز الدولة وتاج الدولة بن عضد الدولة من شعراء بنى بويه.
ومن الوزراء الأدباء الذين ظهروا فى عصر بنى بويه «ابن العميد» الذي وزر لركن الدولة بن بويه ، «و سابور بن أردشير» الذي وزر لبهاء الدولة البويهي ، وكان شاعرا أديبا ، وهو الذي أنشأ فى الكرخ خزانة كتب عظيمة وقفها على إفادة الناس ، ينهلون من منابعها ، ويستخرجون أثمن ما فى بطونها. وليس يجمل فى هذا المقام أن نغفل «الصاحب ابن عباد» وزير مؤيد الدولة بن ركن الدولة البويهي ووزير أخيه فخر الدولة ، وكان من المعالم الأدبية الواضحة فى الأدب العربي.
ولقد بلغت الكتابة فى هذا العصر مبلغا يدل على ما وصلت إليه البلاغة العربية تطبيقا لا نظريا ، واشتهرت الرسائل فى هذا العصر بالجمال وبلوغها قمة الفن الأدبى ، ووصولها بالبيان العربي المشرق إلى الغاية التي عدت آية فى التعبير الجميل. وكانت البلاغة وحدها سبيل الكتاب إلى أكبر المناصب مهما اختلفت ديانتهم ، فالصابى الكاتب المترسل البليغ قلد ديوان الرسائل ببغداد ، مع أنه كان على دين الصابئة ولم يدخل فى الإسلام ، ولما مات هذا الكاتب العبقري على دينه المخالف للإسلام لم يمنع
(2/71)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 73
ذلك الشريف الرضى - وهو نقيب العلويين - أن يرثيه رثاء بليغا متفجعا ، فقال فيه :
ثكلتك أرض لم تلد لك ثانيا أنّى ومثلك معوز الميلاد ؟
من للبلاغة والفصاحة إن همى ذاك الغمام وعبّ ذاك الوادي ؟
من للملوك يحز فى أعدائها بظبا من القول البليغ حداد ؟
و لقد أحس الصابي نفسه قدر نفسه ومنزلته فى البلاغة فقال مفتخرا :
وقد علم السلطان أنى أمينه وكاتبه الكافي السديد الموفق
فيمناى يمناه ، ولفظى لفظه وعينى له عين بها الدهر يرمق
ولى فقر تضحى الملوك فقيرة إليها لدى أحداثها حين تطرق «1»
على أن الشريف الرضى نفسه قد أسهم فى أدب الرسائل ، فقد دارت بينه وبين بعض الأعلام من عصره رسائل أدبية أثبت السيد على خان المدني المتوفى سنة 1118 ه بعضها فى كتابه (الدرجات الرفيعة) ونشر بعضها فى الأجزاء الأولى من مجلة العرفان التي يصدرها فى صيدا ، إلى اليوم ، الشيخ أحمد عارف الزين.
وقد أشار ابن النديم فى «الفهرست» إلى كتاب «مراسلات الشريف الرضى» وهو مما جمعه أبو إسحاق الصابي الذي كان معاصرا للشريف والذي رثاه شاعرنا بالدالية التي ذكرنا منها الثلاثة الأبيات السابقة «2». ولكن كتاب الصابي هذا لا يزال سرا فى ضمير الغيب.
__________
(1) رسائل الصابي ، طبع لبنان ص 8.
(2) الفهرست ، طبع مصر ص 194.
(2/72)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 74
فالشريف الرضى لا يقف بالشعر وحده فى النصف الثاني من القرن الرابع الهجري ، وإنما كان منشئا مترسلا بليغا لا يقل عن كبار المترسلين فى عصره ، من أمثال أبى الفضل بن العميد المتوفى سنة 360 ه ، وأبى بكر الخوارزمي المتوفى سنة 383 ه ، وأبى إسحاق الصابي المتوفى سنة 384 ه ، والصاحب بن عباد المتوفى سنة 385 ه ، وبديع الزمان الهمذاني المتوفى سنة 398 ه ، وأبى الفتح البستي المتوفى سنة 400 ه ، وأبى الفضل الميكالى المتوفى سنة 436 ه.
و لقد ازدهر عصر الشريف الرضى بجماعة من الأدباء والنقاد ، فوق كتّاب الرسائل البلغاء الذين سبق القول عنهم ، كأبى على التنوخي صاحب كتاب «الفرج بعد الشدة» و«المستجاد من أفعال الأجواد» و«نشوار المحاضرة» وقد توفى سنة 384 ه ، وأبى هلال العسكري المتوفى سنة 395 ه ، وهو صاحب كتاب «الصناعتين» و«ديوان المعاني» وغيرهما ، وكالشريف المرتضى - أخى الشريف الرضى - وقد توفى سنة 436 ه ، وهو صاحب كتاب «الدرر والغرر» الذي طبع باسم أمالى السيد المرتضى ، وكالآمدى المتوفى سنة 371 ه ، وهو صاحب كتاب «الموازنة بين أبى تمام والبحتري» وغيرهم.
أما النحاة واللغويون فى عصر الشريف الرضى ، فكان على رأسهم ابن خالويه المتوفى سنة 370 ه. وابن جنى المتوفى سنة 392 ه وقد قرأ عليه أبو على الفارسىّ والشريف الرضى - كما سبق القول. وأبو سعيد السيرافي المتوفى سنة 368 ه وقد تتلمذ عليه الشريف الرضى - كما أسلفنا - وأبو على الفارسي المتوفى سنة 377 ه. والرماني المتوفى سنة 384 ه.
(2/73)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 75
و الربعي المتوفى سنة 420 ه وكان من شيوخ الشريف فى النحو ، وأبو الحسين أحمد بن فارس المتوفى سنة 390 ه «1» ، وهو صاحب «المجمل» و«مقايبس اللغة». والأزهرى صاحب «التهذيب» المتوفى سنة 370 ه. والجوهري أبو نصر إسماعيل بن حماد المتوفى سنة 398 ه ، وهو صاحب كتاب «الصحاح» المشهور فى اللغة الذي لخصه محمد بن أبى بكر الرازي - من علماء القرن الثامن - وسماه «مختار الصحاح».
هذا هو مجمل الخطوط الأدبية فى عصر الشريف الرضى. على أننا قد تركنا حركة الشعر والشعراء فى هذا العصر ، إيثارا للحديث عنها حديثا خاصا يتناسب مع مكانة الشريف الشعرية ، ومع مكانته شاعرا أكثر من مكانته كاتبا مترسلا مصنفا ...
الشعر والشعراء فى عصر الشريف
ذهب النصف الأول من القرن الرابع الهجري بجماعة من الشعراء منهم أبو الحسن على بن محمد المعروف بابن بسام المتوفى سنة 302 ه ، والخبز أرزى المتوفى سنة 317 ه ، وأبو بكر بن العلاف المتوفى سنة 318 ه ، وهو صاحب القصيدة فى رثاء الهر التي يقول فيها : «يا هرّ فارقتنا ولم تعد». وأبو الطيب المتنبي المتوفى سنة 354 ه. وأبو فراس الحمداني المتوفى سنة 357 ه ، وأبو الفتح كشاجم المتوفى سنة 360 ه. والسرى الرفاء المتوفى سنة 362 ه. وابن هانىء الأندلسى المتوفى سنة 363 ه وهو الذي أسف المعز
__________
(1) اختلف فى تاريخ وفاته ، فابن خلكان يقول إنه توفى سنة 390 ه ، والقفطي فى «إنباه الرواة» يقول إنها سنة 395 ه ، ونقل ياقوت الرومي عن الحميدي أنه توفى سنة 360 ه ثم عقب على ذلك بأنه قول لا اعتبار به.
(2/74)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 76
لدين اللّه الفاطمي لوفاته وقال : هذا رجل كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق.
ولقد ترك بعض هؤلاء الشعراء دويّا فى آذان الزمان كالمتنبى وابن هانىء ، كما ترك من قبلهما - فى القرن الثالث الهجري - أبو تمام والبحتري جلجلة فى سمع الدنيا.
وجاء النصف الثاني من القرن الرابع فظهر فيه حفنة من الشعراء ، منهم أبو الفرج محمد ابن أحمد الوأواء المتوفى سنة 390 ه ، وأبو الحسن محمد عبد اللّه السلامى المتوفى سنة 393 ه ، وأبو الفرج الببغاء المتوفى سنة 398 ه ، وأبو العباس أحمد بن محمد النامي المتوفى سنة 399 ه ، وابن نباتة السعدي المتوفى سنة 405 ه. - وهو غير ابن نباتة المصري من شعراء القرن الثامن ، وغير ابن نباتة الفارقي الخطيب الذي تتلمذ له الشريف الرضى - وصريع الدلاء المتوفى سنة 412 ه ، ومهيار الديلمي المتوفى سنة 428 ه. وأبو العلاء المعرى المتوفى سنة 449 ه.
و قد تأخر الأجل بالثلاثة الأخيرين فعاشوا بعد وفاة الشريف الرضى ، بل امتد العمر بالمعري إلى نصف القرن الخامس تقريبا. ولكنهم على كل حال تعاصروا مع الشريف واتصلوا به ، واتصل بهم.
ولما مات الشريف رثاه مهيار الديلمي بقصيدتين يقول فى أولاهما :
بكت السماء له وودت أنها فقدت غزالتها ولما يفقد
و الأرض وابن الحاج سدت سبله والمجد ضيم فما له من منجد
و بكاك يومك إذ جرت أخباره ترحا وسمّى بالعبوس الأنسكد
(2/75)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 77
صبغت وفاتك فيه أبيض فجره يا للعيون من الصباح الأسود!
و يقول فى الثانية :
فضّ الحمام إليك حلقة هيبة ما خلت حادثة تفض ختامها
و استعجلتك يد المنون بحثّها قبل السنين وما اطلعت تمامها
أبكيك للدنيا التي طلقتها وقد اصطفتك شبابها وعرامها
و رميت غاربها بفضلة معرض زهدا وقد ألقت إليك زمامها
فبرغم أنفى أن أبثك لوعتى والأرض قد بثّت عليك رغامها
و أبى الوفاء - إذا الرجال تحرجت حنث اليمين فحلّلت أقسامها -
لأساهرنّ الليل بعدك حسرة إن ليلة عابت حزينا نامها
و لأبدلن الصبر عنك بقرحة فى الصدر لا يجد الدواء لحامها
أبكى لأطفئها وأعلم أننى بالدمع محتطب أشبّ ضرامها «1»
و من الشعراء الذين عاصروا الشريف الرضى شاعران أخرجهما الهزل وروح المعابثة عن أن يذكرا فى مواطن الجد ، ولكنهما لا يتخلف ذكرهما فى معرض التاريخ للشعر العربي فى النصف الثاني من القرن الرابع ، وهما ابن سكرة الهاشمي ، وابن حجاج
__________
(1) ذكر فى الطبعة الأولى من «الغدير» أن المعرى رثى الشريف الرضى. وهو وهم استدركه العلامة الشيخ عبد الحسين أحمد فحذفه من الطبعة الثانية فى طهران. والحق أن المعرى رثى والد الشريف.
(2/76)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 78
اللذان شغلا الناس فى عصرهما بقصائد خليعة ما جنة تحدث الناس بها ، واتخذوها سمرا لهم.
على أن أعجب ما فى حكاية هذا الشعر الماجن أن الشريف الرضى أعجب به - جريا على ذوق عصره - فاختار من شعر ابن حجاج كتابا سماه «الحسن من شعر الحسين» ، ولعل هذا الاختيار كان رد فعل لما كان فى نفس الشريف من سخط على مجتمع لا يحفل بالشعر الجاد الرصين ، فلجأ إلى شاعر هازل ليختار أحسن ما فى شعره ... وهو اختيار على كل حال لا يسوغ لنا إعجاب الشريف الرضى بشعراء العبث والمجون مع كثرة منادحه فى اختيار شعر الجادين من الشعراء. وقد يكون الشريف الرضى من المعجبين حقا بظرف الشاعر ابن حجاج فى عصر اضطرت فيه قسوة الحوادث الناس إلى أن يتخففوا من وقارهم وجد زمانهم ، وأن يفيدوا طباعهم المكدودة بالجد راحة. ولعل مرثية الشريف لابن حجاج تؤكد لنا هذا المعنى حين يقول :
فزل كزيال الشباب الرطي ب خانك يوم لقاء الغواني!
ليبك الزمان طويلا عليك فقد كنت خفة روح الزمان!!
و قد امتاز الشريف الرضى من شعراء عصره بتلك العفة اللفظية التي تطبع شعره الكثير الفياض. فلا تراه فى شعره مفحشا ، ولا نابيا ، ولا سليطا ، ولا ماجنا.
وقد لفتت هذه الحقيقة نظر المستشرق «آدم متز» فقال «1» : [و لم يكن يخرج من فم هذا الرجل النبيل حقا كلمة واحدة من تلك الكلمات القبيحة التي يتلفظ بها السوقة ، والتي
__________
(1) الحضارة الإسلامية فى القرن الرابع الهجري. ج 1 ص 451.
(2/77)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 79
نرى أمثالها عند الصابي صاحب الرسائل ، وعند الوزير المهلبي ، وعند الوزير الصاحب بن عباد. وإذا كان غيره من الشعراء قد استباحوا لأنفسهم من الذم كل قبيح ، فإننا لا نجد للشريف الرضى فى باب الهجاء أقوى من ذم لمغن بارد قبيح الوجه. وهو :
تغثى «1» بمنظره العيون إذا بدا وتقىء عند غنائه الأسماع
أشهى إلينا من غنائك مسمعا زجل الضراغم بينهن قراع ]
و إذا أخرجنا أبا العلاء المعرى من مجال الموازنة فى العصر الذي عاش فيه الشريف الرضى فإن شاعرنا يحتل أعلى مكان فى النصف الثاني من القرن الرابع ، ففى شعره ذلك النفس العربي الكريم ، وتلك العزة العربية الغلباء التي انحدرت إليه من أصلاب البيت العلوي ، وذلك المجد والعلا اللذان كثيرا ما دارا فى شعره ، حتى ليخيل إلى القارئ أن المعالي كانت دائما على مهامس شفتيه. وهو فوق ذلك وصاف بارع ، غزل رقيق الغزل ، وفيّ محسن الوفاء ، راث مجيد الرثاء.
وهو فوق ذلك كثير الحكمة يسوقها فى شعره سوقا ، ويرسلها إرسالا ، إلا أن أمثاله وحكمه لم تشتهر شهرة أمثال المتنبي وحكمه ، لأن أمثال أبى الطيب فيها من عناصر السيرورة والسهولة ما يجعلها تدور على الألسن كل مدار.
أما أمثال الشريف الرضى وحكمه فكانت تحتاج إلى إعمال الخاطر ، وقدح الذهن ، وذلك يتجافى وانتشار الأمثال.
__________
(1) فى الأصل «تغفى» وهو تحريف ، صوابه ما أثبتناه.
(2/78)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 80
الشريف الرضى بين أهل السنة والشيعة
قضى اللّه أن يكون الشريف الرضى فى عصر استحكمت فيه أسباب الخلاف بين أهل السنة والشيعة ، ولقد سبق أن أشرنا إلى أنه شهد فى السنة الثانية من طفولته تلك الفتنة المروعة التي حدثت بالكرخ واحترقت فيها دور ودكاكين وأناسى كثيرون. ولم تكن الفتن المذهبية متركزة فى مكان بعينه ، ولكنها كانت فى العراق كله ، بل فى مدن كثيرة من بلاد فارس. وكانت كل مدينة تتلون بلون مذهبى خاص ، فكان فى مدينة «قم» غلاة من الشيعة ، وكانت أصفهان مثلا يغلب عليها مذهب أهل السنة ، وكان يكفى أن يقال مثلا إن شيعيا سب الصحابة أو بعضهم ، أو أن سنيا غالى فى مدح معاوية ، فتقوم من أجل ذلك فتنة لا قبل بإطفائها. والوقائع فى ذلك كثيرة لا ينقصنا استحضارها الآن للاستشهاد ، ولكن الخير أن يلقى على ذلك كله ستار من النسيان لأما للجراح ، ورأبا للصدوع.
لقد تعرض كثير من الأشخاص للأذى من جراء هذه الفتن المذهبية التي لا طائل تحتها ، فوق ما تعرضت له المدن والجماعات من أحداث جسام. فلقد قبض معز الدولة بن بويه على الخليفة المستكفى ، وأنزله من على عرشه بصورة مهينة ، لأن المستكفى اتهم بأنه كان قد قبض على رئيس الشيعة.
وبلغ من اشتداد النزاع بين هاتين الفرقتين من فرق المسلمين أن الفتنة التي قامت ببغداد سنة 349 ه تعطلت من أجلها صلاة الجمعة بمساجد أهل السنة.
ولعل نظرة على أحداث ذلك القرن عاما عاما فى كتاب «المنتظم» أو «الكامل»
(2/79)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 81
أو «تجارب الأمم» ترينا كيف استحالت الحياة بين الإخوة المسلمين إلى حرب عصبية مذهبية لم يكن من الحكمة قيامها.
و يروى ابن الجوزي صاحب المنتظم «1»» فى حوادث سنة 398 ه نبأ الفتنة التي جرت بين أهل الكرخ والفقهاء بقطيعة الربيع ، وكان سببها أن بعض الهاشميين من أهل باب البصرة تعرضوا بمحمد بن النعمان - فقيه الشيعة المعروف بابن المعلم - تعرضا امتعض له أصحابه من الشيعة ، الذين ساروا واستنفروا أهل الكرخ دفاعا عن فقيههم ...
ثم صاروا إلى دار القاضي أبى محمد بن الأكفانى وأبى حامد الأسفرائينى - وهما من علماء السنة - فسبوهما وطلبوا من الفقهاء المواقعة بهم. وازدادت نار الفتنة اشتعالا حين قصد أحداث الكرخ باب دار أبى حامد الأسفرائينى ، فانتقل عنها ونزل دار القطن. وبلغت الحوادث حدا أحفظ الخليفة ، فأرسل الحرس الذين حول بابه لمعاونة أهل السنة. واجتمع أشراف الكرخ وتجارها إلى دار الخليفة القادر ، فسألوه العفو عما فعل السفهاء والأحداث الأغرار فعفا عنهم.
وفى غمار هذه الأحداث والفتن عاش الشريف الرضى ، ولكنه كان أبعد ما يكون عن التعصب ، وكان فيه من سماحة الرأى ، ورحابة الصدر واتساع النظر ما باعد بينه وبين الخوض فى غمرات لم تكن من مصلحة الأمة الإسلامية فى قليل ولا كثير.
ويحدثنا السيد محمد المشكاة فى مقدمة النسخة المصورة من «تلخيص البيان» بأن مؤلف هذا الكتاب هو الشيعي الخالي عن التعصب «2».
__________
(1) جزء 7 ص 237
(2) مقدمة النسخة المصورة من «تلخيص البيان» صفحة ن
(2/80)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 82
و أدرك المرحوم الدكتور زكى مبارك ذلك وهو يتحدث عن الشريف فى كتابه فقال :
(و الواقع أن الشريف كان قليل الرعاية للعصبية المذهبية ، والظاهر أنه كان حر العقل إلى حد بعيد) «1».
و الحق أن الشريف الرضى قد ورث السماحة والبعد عن التعصب البغيض من أبيه أبى أحمد الحسين بن موسى الذي كان يقوم دائما بدور المصلح الموفق بين المتخاصمين ، وكثيرا ما التجأ إليه الخائف فوجد الأمن فى كنفه ، فإن ابن الجوزي يحدثنا أنه فى سنة 361 ه وردت كتب الحاج بأن بنى هلال اعترضوا الحجاج فقتلوا منهم خلقا كثيرا ، فبطل الحج ذلك العام ، ولم يسلم إلا من مضى مع الشريف أبى أحمد الحسين الموسوي على طريق المدينة ، وتم حجهم «2» ولما اختلف الملكان الأخوان بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه ، وصمصام الدولة ابن عضد الدولة بن بويه سافر والد الشريف الرضى إلى فارس ليصلح بين الأخوين المتنازعين ، وليوفق بين غاياتهما التي أدت إلى النزاع بين العسكرين الفارسي والبغدادي.
وقد انحدرت هذه النزعة الإصلاحية الموفقة إلى أبناء أبى أحمد الحسين الموسوي والد الشريفين ، الرضى والمرتضى. ففى أحداث سنة 420 ه - أي بعد وفاة الرضى بأربعة عشر عاما - نرى أخاه الشريف المرتضى يذهب مع قوم من مشايخ أهل الكرخ إلى دار الخليفة القادر العباسي فيعتذرون من جناية مذهبية قام بها أحداث الكرخ من أبناء الشيعة «3»
__________
(1) عبقرية الشريف الرضى ، لزكى مبارك ج 1 ص 151 مطبعة الجزيرة. بغداد.
(2) المنتظم ج 7 ص 57 [.....]
(3) المصدر السابق ج 8 ص 45.
(2/81)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 83
لهذا لم يكن غريبا على الشريف الرضى أن يرث التسامح واتساع الأفق الديني عن أبيه السمح الموفق. وقد كانت تلمذته ودراسته على مشايخه دليلا على رحابة أفقه المذهبى.
فقد كان من شيوخه أبو حفص عمر بن إبراهيم الكناني ، وقد روى عنه الحديث ، وأبو محمد عبد اللّه بن محمد الأسدى الأكفانى. وأبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد الطبري المتوفى سنة 393 ه ، وكان فقيها على مذهب الإمام مالك ، وكان - بشهادة المؤرخ ابن الجوزي - شيخ الشهود ومقدمهم ، كما كان كريما مفضلا على أهل العلم «1».
وكانت علاقة الشريف الشيعي بهذا الأستاذ السنى علاقة الابن بأبيه. وقد روى ابن الجوزي أن الشريف قرأ على هذا الشيخ القرآن ، فقال له يوما : أيها الشريف! أين مقامك ؟ فقال : فى دار أبى بباب المحول ، فقال له : مثلك لا يقيم بدار أبيه ، ونحله الدار التي بالبركة فى الكرخ ، فامتنع الرضى ، وقال : لم أقبل من غير أبى قط شيئا! فقال له :
حقى عليك أعظم لأننى حفظتك كتاب اللّه ، فقبلها «2».
والحق أننا لم نلحظ فيما كتبه الشريف الرضى أو نظمه أثرا لتعصب ممقوت ، أو لمحة من عصبية ظاهرة ، ولم نر فيه خروجا عن جادة الحلم والتوقر حين يغضب لعلى بن أبى طالب أو لأبنائه وحفدته من العلويين ، ولم نلحظ عنده عنفا فى القول ، أو غلاظة فى الدفاع إلا حين تحدث فى «المجازات النبوية» عن حسان بن ثابت شاعر الرسول والدعوة الإسلامية. فحين أخذ يكشف عن وجوه المجاز فى قوله عليه السلام : (حسّان حجاز بين المؤمنين والمنافقين ، لا يحبه منافق ولا يبغضه مؤمن) بدأ يقول : [و هذا
__________
(1) المنتظم لابن الجوزي ج 7 ص 223
(2) المصدر السابق.
(2/82)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 84
الكلام عندنا فى حسان متعلق بوقت مخصوص ، وهو زمن النبي صلّى اللّه عليه وآله ، فأما حين ظاهر أمير المؤمنين عليه السلام بعداوته ، ورماه بمعاريض القول فى أشعاره ، فقد خرج من أن يكون حجازا بين الإيمان والنفاق ، وتحيز إلى جانب النقمة والضلال ] «1».
و لو أن الشريف الرضى - رضى اللّه عنه - كان من أنصار التعصّب لوجد فى «تلخيص البيان» و«المجازات النبوية» مجالا فسيحا للتعبير عن تعصبه ، والتنفيس عن صدره - لو كان ضائق الصدر - ولكنه كان أسمح من أن يثير مغمزا ، أو يوقظ نائمة ، إلا ما كان من اتهامه حسان بن ثابت - رضى اللّه عنه - بالتحيز إلى جانب النقمة والضلال.
أساتذة الشريف الرضى
رأينا من علاقة الشريف الرضى ببعض أساتذته وشيوخه ما جعل أستاذه الفقيه المالكي أبا إسحق إبراهيم بن أحمد الطبري ينحله دارا له ، فيمتنع الشريف ، لأنه لم يقبل من غير أبيه شيئا ، ولكن الشيخ يدخل إليه من باب الأبوة الروحية العلمية فيقول له : حقى عليك أعظم من حق أبيك ، فيقبل الشريف المنحة.
والحق أننا نجد من بر الشريف الرضى بشيوخه ، وإشادته بذكرهم ، والدعاء لهم فى مصنفاته ، ما يحمل الدلالة على صفة العرفان بالجميل ، والقدر للمعروف ، وشدة الحفاظ للصنيع.
ولقد جمله اللّه بالأدب النبوي ، والخلق العلوي فيما يتصل بأساتذته ، فلا يذكرهم
__________
(1) المجازات النبوية. طبع مصر ، ص 105.
(2/83)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 85
فى معرض الاحتجاج برأيهم إلا مترحما عليهم ، مشيدا بأقدارهم ، فلا يكتفى بأن يقول مثلا :
سمعت شيخنا أبا الفتح ابن جنى ، أو : قال لى الشيخ أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي أدام اللّه توفيقه ، أو كنت سألت شيخنا أبا بكر محمد بن موسى الخوارزمي رحمه اللّه ، أو غير ذلك مما يفيد قراءته على شيوخه ، ولكنه حين يستحسن قولا لأحد شيوخه أو رأيا لأحد أساتذته لا ينى عن الإشارة إلى ذلك والإشادة به ، كما صنع مع شيخه أبى الفتح عثمان بن جنى الذي شرح معنى قولهم : لعمر اللّه ، أنهم يريدون القسم بالحياة التي يحيى بها اللّه ، لا الحياة التي يحيا بها - تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا - فكأنّ المقسم إذا أقسم بهذه الحياة دخل ما يخصه منها فى جملة قسمه ، وجرى ذلك مجرى قوله : لعمرى ، فيصير مقسما بحياته التي أحياه اللّه بها.
وقد أعجب الشريف الرضى برأى أستاذه ابن جنى فى هذا التعبير ، فكتب بعد إيراده : (و كنت أستحسن هذا القول منه جدا ، وله نظائر كنت أسمعها منه عند قراءتى عليه ، وكان عفا اللّه عنه كثير الاستنباط للخبايا ، والاستطلاع للخفايا) «1» فالتلميذ هنا لا يأخذ رأى أستاذه وحسب ، ولكنه يمضى فى استحسانه. ويبالغ فى صفة هذا الاستحسان بقوله :
جدا. ثم يشير إلى نظائر لهذا كان يسمعها منه ، ثم يزيد بأن شيخه كان كثير الاستنباط والاستطلاع للخفايا. ولو أراد طالب علم أن يكون لسان صدق لأستاذه وداعية لشيخه ما بلغ ما بلغه الشريف الرضى فى حق شيخه ابن جنى مع بلاغة الإيجاز.
وقد عرفنا شيوخ الشريف الرضى من إشارته إليهم فى «تلخيص البيان «و المجازات النبوية» ، أو من إشارة المؤرخين إلى بعضهم بأنه قرأ عليهم أو أخذ عنهم ، كما فعل
__________
(1) تلخيص البيان. مجازات سورة النحل.
(2/84)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 86
ابن الجوزي حين أشار فى «المنتظم» إلى قراءة الشريف الرضى القرآن على الفقيه أبى إسحاق الطبري المالكي المتوفى سنة 393 ه «1».
و الحق أن الأستاذ الشيخ عبد الحسين أحمد الأمينى قد زودنا فى كتابه «الغدير» ببضعة عشر شيخا تتلمذ الشريف الرضى عليهم «2». وقد وجدنا فى الثبت الذي أورده بأسماء شيوخ الرضى ما لم نجده فيما بين أيدينا من مراجع. ولعل المصادر الشيعية قد أسعفته بما أبت مصادرنا أن تساعفنا به.
ونحن نذكر هنا هذا الثبت ، ونزيد عليه ما أمدتنا به المصادر من تراجم حياتهم التي وجدناها مبعثرة متناثرة فى «تاريخ بغداد» و«المنتظم» و«معجم الأدباء» و«وفيات الأعيان» و«بغية الوعاة» و«النجوم الزاهرة» و«الكامل» وغيرها من مراجع الطبقات والتراجم والتاريخ :
(1) - السيرافي النحوي ، وهو أبو سعيد الحسن بن عبد اللّه بن المرزبان ، سكن بغداد ، وتولى القضاء فيها. وكان ثقة فى القراءات وعلوم القرآن والفقه واللغة والنحو وغيرها وكان من أعلم الناس بمذهب البصريين فى النحو ، أما فى الفقه فكان ينتحل مذهب أهل العراق. ولقد تعفف عن الكسب إلا من عمل يده ، فكان ينسخ فى كل يوم عشر ورقات ليأخذ عليهن أجرا قدره عشرة دراهم ، وهن قدر مئونته. وتوفى سنة 368 ه. ومن هذا نعلم أن الشريف تتلمذ له وهو قبيل التاسعة من عمره.
__________
(1) المنتظم لابن الجوزي. ج 7 ص 223.
(2) الغدير. طبع. النجف. ج 4 ص 162.
(2/85)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 87
(2) - أبو الفتح عثمان بن جنى الموصلي ، كان إماما فى النحو والعربية ، وله شعر ذكر بعضه ياقوت فى معجمه الذي يشتمل على ترجمة مطولة له. وقد روى شعر المتنبي وشرحه ، وكان المتنبي يقول : ابن جنى أعرف بشعرى منى ، ولما مات المتنبي رثاه ابن جنى بقصيدة أولها :
غاض القريض وأذوت نضرة الأدب وصوّحت بعد رى دوحة الكتب
و قد صحب ابن جنى أبا على الفارسي أربعين سنة ، فلما مات أبو على تصدر عنه أبو الفتح فى مجلسه ببغداد. وتوفى سنة 392 ه فرثاه تلميذه الشريف الرضى بقصيدة رصينة محكمة النسج يقول فيها :
فمن للمعانى فى الأكمّة ألقيت إلى باقر غيث المعاني وفاتق
يطوّح فى أثنائها بضميره مرير القوى ، ولّاج تلك المضايق
تسنّم أعلى طودها غير عاثر وجاوز أقصى دحضها غير زالق
و لم يكتف الشريف الرضى بحسن الإشارة إلى أستاذه ابن جنى فى مصنفاته ، ولكنه مدحه بشعره ، عرفانا بقدره فى البلاغة ، ومنزلته فى الفصاحة ، فقال من قصيدة :
فدى لأبى الفتح الأفاضل إنه يبر عليهم إن أرمّ وقالا
إذا جرت الآداب جاء أمامها قريعا ، وجاء الطالبون إفالا
فتى مستعاد القول حسنا ولم يكن يقول محالا ، أو يحيل مقالا
ليقرى أسماع الرجال فصاحة ويورد أفهام العقول زلالا
و يجرى لنا عذبا نميرا وبعضهم إذا قال أجرى للمسامع آلا.
(3) - أبو على الحسن بن أحمد الفارسي ، وقد أجازه فى كتابه المسمى «بالإيضاح»
(2/86)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 88
كما ذكر ذلك الشريف فى «المجازات النبوية» ، وكان يسمع من شيخه ابن جنى الذي كان ينشده عن أبى على الفارسي ، كما فى «تلخيص البيان» فى مجازات سورة طه ، وسورة ص. وأبو على أحد الأئمة فى علم العربية ، زار كثيرا من بلاد المملكة العربية الإسلامية ، فدخل بغداد ، وقدم حلب وأقام مدة عند سيف الدولة بن حمدان. ودخل فارس فاتصل بعضد الدولة بن بويه وصنف له كتاب «الإيضاح» فى قواعد العربية.
وصحبه ابن جنى أربعين عاما كما سلف القول. وتوفى سنة 377 ه.
(4) - القاضي عبد الجبار أبو الحسن بن أحمد الشافعي المعتزلي ، ويروى الشريف عنه قائلا : (و فيما علقته عن قاضى القضاة أبى الحسن عبد الجبار بن أحمد أدام اللّه توفيقه) وقد ذكره الشريف فى «تلخيص البيان» فى مجازات سورة الكهف ، كما ذكره فى «المجازات النبوية» فى بيان المجاز فى قوله صلّى اللّه عليه وسلم : (الأيدى ثلاث : فيد اللّه العليا ، ويد المعطى بلغ قبالا الوسطى ، ويد السائل السفلى) واسم هذا القاضي عبد الجبار وكنيته أبو الحسن كما فى «المجازات النبوية» و«تلخيص البيان». وفى الأعلام للزركلى كنيته أبو الحسين. وكان شيخ المعتزلة فى عصره ، ويلقبونه بقاضى القضاة ولا يطلقون هذا اللقب على غيره. وتوفى بالري سنة 415 ه. ولم يذكره ابن الجوزي فى وفيات كتابه.
وقد دلنا الشريف الرضى فى «التلخيص» على أنه قرأ عليه كتابه المسمى «تقريب الأصول» كما دلنا فى «المجازات النبوية» على أنه قرأ عليه كتابه المسمى «شرح الأصول الخمسة».
(5) - أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي ، وكان شيخه فى الفقه. وإليه يشير فى «المجازات النبوية» قائلا : (و كنت سألت شيخنا أبا بكر محمد بن موسى الخوارزمي - رحمه اللّه - عند انتهائي فى القراءة عليه إلى هذه المسألة من كتاب الطهارة) - وهى مسألة
(2/87)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 89
الشرب فى آنية الذهب والفضة - كما يشير إليه فى «تلخيص البيان» فى مجازات سورة ص قائلا : (و قال لى الشيخ أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي أدام اللّه توفيقه). والخوارزمي هذا - كما يقول الخطيب البغدادي - هو شيخ أهل الرأى وفقيههم ، وقد انتهت إليه الرياسة والفتوى فى مذهب الإمام أبى حنيفة. وكان لا يميل إلى مباحث علم الكلام ويقول :
ديننا دين العجائز ، ولسنا من الكلام فى شىء. وقيل فيه : ما شاهد الناس مثله فى حسن الفتوى ، والإصابة فيها ، وحسن التدريس ، وقد دعى إلى ولاية الحكم مرارا فامتنع منه.
و توفى سنة 403 ه ودفن بمنزله بدرب عبدة ببغداد ، ثم نقل بعد بضع سنوات إلى تربة فى سويقة غالب «1».
(6) - أبو القاسم عيسى بن على بن عيسى بن داود بن الجراح. وقد أشار إليه فى «المجازات النبوية» فى مجاز قوله عليه السلام : (الخلق عيال اللّه عز وجل ، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله) وقال عنه : (أخبرنا بهذا الحديث أبو القاسم عيسى بن على بن عيسى بن داود ابن الجراح فى جملة ما أخبرنا به من الأحاديث). وأبو القاسم هذا ممن ترجم لهم الخطيب فى «تاريخ بغداد «2»» وابن الجوزي فى «المنتظم «3»». وكان ثبت السماع صحيح الكتاب ، وأملى الحديث ، وكان عارفا بالمنطق ، ومن هنا رمى باشتغاله بشىء من مذاهب الفلاسفة.
وكان ينظم الشعر ، ومن شعره ما يدل على نزعته العلمية كقوله :
رب ميت قد صار بالعلم حيا ومبقّى قد حاز جهلا وغيا
فاقتنوا العلم كى تنالوا خلودا لا تعدوا الحياة فى الجهل شيا
و يظهر من النادرة التالية أنه كان يتجمل فى حياته ، وأنه على الرغم من ضيق العيش كان
__________
(1) تاريخ بغداد ، للخطيب البغدادي ج 3 ص 247.
(2) المصدر السابق ج 11 ص 179.
(3) المنتظم لابن الجوزي. ج 7 ص 218.
(2/88)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 90
يتجلد. فقد خرج يوما إلى جماعة من أصحابه فقال : اللّه بيننا وبين على بن الجهم ، فقيل له : ومن هو على بن الجهم ؟ قال الشاعر. قيل : وقد رآه السيد ؟ قال : لا! ولكن له بيت آذانا به. وأنشد هذا البيت :
ولا عار إن زالت عن الحر نعمة ولكن عارا أن يزول التجمل
و يظهر أنه كان غرضا لسهام الزمان ، فقد حدث أبو محمد الجوهري قال : انقطعت عن زيارة أبى القاسم عيسى بن على ، ثم قصدته ، فلما نظر إلىّ قال :
رأيت جفاء الدهر لى فجفوتنى كأنك غضبان علىّ مع الدهر
و توفى أبو القاسم سنة 391 ه ودفن فى داره ببغداد.
(7) - عمر بن إبراهيم بن أحمد المقرئ بن حفص الكناني ، وقد أشار إليه الشريف فى «المجازات النبوية» وهو يتحدث عن المجاز فى قوله عليه السلام : (الخمر أم الخبائث) ، وقد سمع الشريف هذا الحديث منه فى جملة ما رواه له من الأحاديث. وأبو حفص - كما يذكر الخطيب البغدادي - كان من رجال الحديث ، وقيل إنه كان ثقة فيه ، وذكره ابن أبى الفوارس فقال : كان لا بأس به. وذكر صاحب «تاريخ بغداد» عن العتيقى خبر وفاته فى سنة 390 ه. أما النسبة «الكتاني» ففى «المجازات النبوية» ، «و الغدير» أنها الكناني بنونين ، وفى «المنتظم» «و تاريخ بغداد» الكتاني ، بالتاء أولا والنون ثانيا.
(8) - أبو إسحاق أبراهيم بن أحمد بن محمد الطبري الفقيه المالكي ، ولم يذكره الشريف الرضى فى واحد من كتابيه فى المجازات ، ولكن ابن الجوزي ذكر فى تاريخه فى وفيات سنة 393 ه. وقال إن الرضى قرأ عليه القرآن ، وهو صاحب قصة منحه الدار بماله من حق الأبوة
(2/89)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 91
الروحية عليه وهى أعظم من أبوة النسب. وأبو إسحاق كان فقيها مالكيا من المعدلين - أي القائلين بالعدل على اللّه - وكان فوق منزلته العلمية كريما مفضلا على أهل العلم ، وقصته مع الشريف هى دليل الكرم والإفضال من الأستاذ إلى تلميذه. وقد نقل ابن الجوزي من أخباره أكثر ما كتبه عنه صاحب «تاريخ بغداد» الذي يذكر أنه كان حسن المعاشرة ، جميل الأخلاق ، وأن داره كانت مجمع أهل القرآن والحديث.
(9) - أبو الحسن على بن عيسى الربعي كما ذكره الشريف الرضى فى «المجازات النبوية» فى البيان عن المجاز فى حديثه صلّى اللّه عليه وسلم المتعلق بالزواج بعد الطلاق ثلاثا. والربعي - كما يقول السيوطي فى بغية الوعاة - أحد أئمة النحويين وحذاقهم الجيدى النظر الدقيقي الفهم والقياس ، وكان تلميذا للسيرافى فى النحو ، ثم رحل إلى شيراز ، فلازم أبا على الفارسي عشر سنين «1» ثم رجع إلى بغداد حيث مات بها سنة 420 ه أما أبو الحسن على بن عيسى الرماني ، فلم يكن شيخا للشريف الرضى بالذات وإنما كان شيخه بالواسطة. فقد كان شيخه أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي يروى له عنه - كما ذكر ذلك الشريف فى «التلخيص» فى سورة ص - ولا ندرى لما ذا لم يأخذ الشريف الرضى عن على بن عيسى الرماني مباشرة كما أخذ عن على بن عيسى الربعي ؟ وكلاهما معاصر له ؟ .
(10) - سهل بن أحمد بن عبد اللّه بن سهل الديباجي ، ولم يذكره الأستاذ الشيخ عبد الحسين أحمد الأمينى النجفي فى ثبت أساتذة الشريف ، ولعله سها عنه ، ولكن
__________
(1) هذه رواية السيوطي فى «البغية» ، ويذكر ابن الجوزي فى المنتظم ج 8 ص 46 أنها عشرون سنة.
(2/90)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 92
الشريف نفسه يذكره فى أحد مصنفاته : «المجازات النبوية» فى خلال التحدث عن مجازات قوله صلّى اللّه عليه وسلم : (الخلق عيال اللّه). وقد بحثت عنه كثيرا فى المصادر والمظان إلى أن وجدته فى «لسان الميزان» «1» للحافظ الإمام ابن حجر العسقلاني المؤرخ المحدث المشهور ، وقد نقل عن ابن أبى الفوارس أن سهلا الديباجي كان رافضيا غاليا ، وذكر أنه توفى سنة 385 ه.
(11) - الشيخ المفيد أبو عبد اللّه بن المعلم محمد بن النّعمان ، وكان من أهل التحقيق وانتهت إليه رياسة الإمامية فى وقته ، وقد صنف كثيرا من الكتب فى الفقه والأصول وعلم الكلام ، وذكر ابن الجوزي فى المنتظم (ج 8 ص 11) أن الشريف المرتضى - أخا الرضى - كان من أصحابه ، وذكر أنه لما توفى ببغداد سنة 413 ه رثاه المرتضى فقال :
من لفضل أخرجت منه خبيئا ومعان فضضت عنها ختاما
من ينير العقول من بعد ما كنّ «2» همودا ، ويفتح الأفهاما
من يعير الصديق رأيا إذا ما سلّه فى الخطوب كان حساما ؟
و يذكر صاحب «الغدير» أن الشريف الرضى قرأ عليه هو وأخوه المرتضى.
(12) - أبو عبد اللّه محمد بن عمران المرزباني ، وقد ذكره صاحب «الغدير» : وأبو عبد اللّه المرزباني أديب إخبارى مؤرخ. وهو صاحب «معجم الشعراء» وهو تراجم للشعراء إلى عصره ، على حروف المعجم ، وهو مصدر وثيق لمؤرخى الأدب. ووصفه ابن خلكان صاحب «وفيات الأعيان» بأنه كان ثقة فى الحديث ، ومائلا إلى التشيع فى
__________
(1) لسان الميزان لابن حجر العسقلاني - طبع حيدر أباد الدكن بالهند ج 3 ص 117.
(2) فى «المنتظم» : من بعد ما نحن همودا. وهو تحريف. ولعل الصواب ما أثبتناه.
(2/91)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 93
المذهب. وبلغ من اهتمام المرزباني بالشعر والشعراء أنه أول من جمع ديوان يزيد بن معاوية بن أبى سفيان الأموى واعتنى به - على ميله هو إلى التشيع - فرفع بذلك الصنيع درجة العلم فوق حدود التعصب. وتوفى سنة 384 ه ، وقيل سنة 378 ه. والأول أصح على ما يراه صاحب «الوفيات».
(
13) - أبو محمد عبد اللّه بن محمد الأسدى الأكفانى. وقد ذكره صاحب «الغدير» فى ثبت شيوخ الشريف الرضى ، ولم أجد ذلك فى مصادرى. وابن الأكفانى هذا كان كريما مفضلا على أهل العلم ، وقد ولى قضاء مدينة المنصور ، ثم ولى قضاء باب الطاق ، ثم جمع له قضاء بغداد سنة 396 ه. وكان أكثر من واحد من أهل الحديث يثنون عليه ثناء حسنا ويذكرونه ذكرا جميلا. وتوفى ابن الأكفانى سنة 405 ه كما يذكر صاحب «تاريخ بغداد» ودفن فى داره بنهر البزارين.
(14) - أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد الخطيب المشهور المعروف بابن نباتة الفارقي ، وهو صاحب «ديوان الخطب المنبرية» المشهور ، وكان مبرزا فى الأدب والبلاغة ، وأجمعوا على أن خطبه لم يعمل مثلها فى موضوعها. والتقى هو والشاعر المتنبي فى خدمة سيف الدولة ابن حمدان. وأثرت غزوات سيف الدولة فى الشاعر والخطيب ، فنظم المتنبي قصائده الحماسية الحربية ، وصنع ابن نباتة خطبه فى الجهاد والحث عليه. واشتهر ابن نباتة بالتقوى والصلاح. وتوفى بحلب سنة 374 ه «1».
(15) - أبو محمد الشيخ الأقدم هارون بن موسى التلعكبري المتوفى سنة 385 ه. وقد ذكره صاحب «الغدير» ولم أهتد إلى مصدره.
__________
(1) كما فى «معجم المطبوعات العربية» و«الأعلام» لخير الدين الزركلى. وفى «الغدير» ج 4 ص 162 أنه توفى سنة 394 ه ولعله تحريف من المطبعة. [.....]
(2/92)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 94
الشريف الرضى بين القرآن والحديث وكلام الإمام على
لقد كانت البلاغة هى السمة التي غلبت على الشريف الرضى حين نثر وحين شعر.
والحق أنه وقف أمام ثلاثة مصادر لتدفق البلاغة العربية ، فعكف عليها ونهل من مواردها ، واستخرج ما فيها من كنوز بلاغية ، فجلاها أمام أهل العربية فى آنق أثوابها ، وأقشب أبرادها ، وأجمل معارضها.
و هذه المصادر الأصلية للبيان العربي هى القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، وكلام الإمام على.
وكانت مهمة الشريف الرضى فى القرآن والحديث هى الكشف عما فيهما من وجوه البيان ، وضروب البلاغة ، وجهات الفصاحة ، حتى تحقق للقرآن الكريم الإعجاز ، مع أن ألفاظه لم تخرج عما كان العرب يستعملونه من ألفاظ ، وما يدور فى لغتهم من كلمات. وحتى تحقق للحديث النبوي ذلك المقام البلاغى ، والمنزل البياني الذي لا يدانيه مقام ولا يقاربه منزل ، لأن صاحبه صلّى اللّه عليه وسلم أوتى الحكمة وجوامع الكلم.
أما مهمة الشريف الرضى فى كلام الإمام على كرم اللّه وجهه فكانت تأليف كتاب يحتوى على مختار أقواله [فى جميع فنونه ، ومتشعبات غصونه ، من خطب وكتب ومواعظ وآداب ، علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة ، وجواهر العربية ، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية ما لا يوجد مجتمعا فى كلام ، ولا مجموع الأطراف فى كتاب ، إذ كان أمير المؤمنين عليه السلام مشرع الفصاحة وموردها ، ومنشأ البلاغة وموردها ،
(2/93)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 95
و منه عليه السلام ظهر مكنونها ، وعنه أخذت قوانينها ، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب ، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا ، وتقدم وتأخروا ، ولأن كلامه عليه السلام الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهى ، وفيه عبقة من الكلام النبوي «1»].
ولقد أنتج لنا اهتمام الشريف الرضى بهذه المصادر البلاغية ثلاثة كتب من خير ما صنف فى البيان العربي ، لأنها كتب خالصة فى البلاغة ، صريحة فى البيان ، خالية من المصطلحات البيانية المتأخرة بعد ذلك ، تلك المصطلحات التي جعلت من البلاغة علما جافا ، وقواعد جامدة ، ونظريات تحفظ ولكنها لا تخرج بليغا ، ولا تصبّ على قوالبها فصيحا.
و كان كتاب «تلخيص البيان» هو الذي كشف فيه الرضى عن وجوه البيان فى كتاب اللّه ، وكتاب «المجازات النبوية» هو الذي تناول فيه حديث الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بجلاء عرائسه ، واستخراج نفائسه. أما كتاب «نهج البلاغة» فقد كان كله جمعا لكلام الإمام على ، ونظما لعقود درره ، وضما لأشتات لآلئه. ولعله - لو طال به الأجل رضى اللّه عنه - لصنع فى كلام على كرم اللّه وجهه ما صنعه فى حديث الرسول عليه السلام ، من الكشف عن وجوه بيانه ، وبيان جمال استعاراته ومجازاته.
والحق أن الشريف الرضى بهذه الكتب الثلاثة قد استكمل صفات المؤطّد أركان البلاغة العربية ، والداعم آساسها ، والمقيمها على قرار مكين من المعالجة البيانية الواضحة ، التي لا يحاجزها عن حسن التأتى معاظلة ولا تعقيد ولا التواء. وتلك يد سلفت
__________
(1) من مقدمة الشريف الرضى لكتاب «نهج البلاغة» طبع مصر. ص 2 ، 3.
(2/94)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 96
من الشريف الرضى للبيان العربي ، تجعلنا نعده رائدا كبيرا من رواد البلاغة والفصاحة الذين مهدوا الطريق - بتلك الدراسة البلاغية الكاملة للقرآن والحديث - لمن جاء بعد من علماء البلاغة النظريين.
ولن نعيد هنا القول فيما لوى به بعض المتعنتين أشداقهم من أن «نهج البلاغة» هو من كلام الشريف الرضى نفسه ، وأنه ليس للإمام على كرم اللّه وجهه. فتلك قضية أحسن الدفاع فيها «ابن أبى الحديد» فى القديم ، كما أحسن الدفاع عنها فى زماننا هذا الشيخ محمد محيى الدين عبد الحميد «1».
نعم! لن نعيد القول فى هذه المسألة ، ولكننا نشير إلى ما ذكره جورجى زيدان «2» من أن كتاب «نهج البلاغة» هو للشريف المرتضى - لا الشريف الرضى - مع تطابق الأخبار والآثار على أن النهج هو للرضى. وقد أخذ جورجى زيدان بأوهن القولين فى هذه القضية ، ونقل عن ابن خلكان فى كتابه «وفيات الأعيان» ، ولكنه لم ينقل النص كاملا ، ولا الكلام تاما ، فاجتزأ من النقل بما يوهم أن «نهج البلاغة» للمرتضى ، وعبر عن ذلك بأنه «المشهور» ، مع أنه قول مرجوح. ولو أنصف جورجى زيدان لقال كما قال ابن خلكان : (و قد اختلف الناس فى كتاب «نهج البلاغة» المجموع من كلام الإمام على ابن أبى طالب رضى اللّه عنه ، هل هو جمعه أم جمع أخيه الرضى «3» ؟ ).
والحق أن كتابا من كتب الشريف الرضى لم ينل من الاهتمام به ، والتعليق عليه ، وحفظه ، وكثرة الشروح له ما ناله كتاب «نهج البلاغة» الذي جمعه من كلام الإمام
__________
(1) انظر مقدمة الشيخ محمد محيى الدين عبد الحميد لكتاب «نهج البلاغة».
(2) تاريخ آداب اللغة العربية ج 2 ص 288.
(3) وفيات الأعيان لابن خلكان ، جزء 1 ص 423 ، 424.
(2/95)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 97
على كرم اللّه وجهه ، فقد ذكر صاحب «الغدير» «1» أكثر من سبعين شرحا له ، وذكر أسماء أصحابها على مر العصور مما يقرب من عصر الشريف إلى زماننا هذا ، ولو لا أنها مما لا يدخل فى مجال حديثنا الضيق لأتينا على أسمائها جميعا.
تآليف الشريف الرضى
لقد زخر عصر الشريف الرضى بطائفة من المصنفات فى شتى العلوم ، سواء أكان ذلك فى الأدب والنحو واللغة والتاريخ والفقه والحديث والكلام وغيرها. ويكفى أن يكون من إنتاج هذا العصر كتب ابن العميد والخوارزمي والصاحب بن عباد وبديع الزمان الهمذاني ، و«يتيمة الدهر» للثعالبى ، و«الصناعتين» و«ديوان المعاني» لأبى هلال العسكري ، و«الدرر والغرر» للشريف المرتضى ، و«الموازنة بين الطائيين» للآمدى ، و«الإمتاع والمؤانسة» لأبى حيان التوحيدي ، و«محاضرات الأدباء» للراغب الأصفهانى ، و«رسالة الغفران» لأبى العلاء المعرى ، و«الخصائص» لابن جنى ، و«التهذيب» للأزهرى ، و«مقاييس اللغة» لابن فارس ، و«الصحاح للجوهرى» ، و«الفهرست» لابن النديم ، و«تجارب الأمم» لابن مسكويه ، وغيرها مما ألف فى مصر وإفريقية والأندلس ، «كزهر الآداب» للحصرى القيرواني المتوفى سنة 413 ه ، و«تاريخ مصر» لابن زولاق المؤرخ المصري المتوفى سنة 387 ه ، و«الأفعال» لابن القوطية الأندلسى المتوفى سنة 367 ه.
__________
(1) الغدير ج 4 ص 164 - 169
(2/96)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 98
و الحق أن مصنفات الشريف الرضى تحتل أسمى مكان فى لجج هذا البحر الواسع من التأليف العربي الإسلامى فى النصف الثاني من القرن الرابع ، ونحن هنا مثبتون ما استطعنا الحصول عليه من ثبت مؤلفاته :
(1) - «نهج البلاغة» ، وهو مما جمعه الشريف الرضى من كلام الإمام على بن أبى طالب كرم اللّه وجهه ، وقد طبع الكتاب طبعات كثيرة ، وتناوله كثيرون بالشرح ، حتى بلغت شروحه أكثر من سبعين شرحا ، أشهرها وأوسعها شرح ابن أبى الحديد أبى حامد عز الدين عبد الحميد المتوفى سنة 655 ه. وقد اختصره المولى سلطان محمود الطبسي. ولنهج البلاغة شروح باللغة الفارسية منها «منهاج الولاية» وهو شرح المولى عبد الباقي الخطاط الصوفي التبريزي المتوفى سنة 1039 ه. وشرح المولى تاج الدين حسن المعروف بملا تاجا.
(2) - «المجازات النبوية» ، وقد ذكرناه غير مرة فى هذه الدراسة ، وهو يشتمل على بيان وجوه المجاز والاستعارة ، والكشف عن مواقع النكت البلاغية والطرف البيانية فى 361 حديثا من أحاديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم. وقد طبع فى العراق سنة 1324 ، سنة 1328 ه ، ثم طبع فى مصر طبعة وثيقة بتحقيق المرحوم الأستاذ محمود مصطفى المدرس بكلية اللغة العربية.
(3) - «
(2/97)
تلخيص البيان ، فى مجازات القرآن» أو «تلخيص البيان عن مجازات القرآن» كما فى مقدمة «المجازات النبوية» ، وهو هذا الكتاب الذي نكتب له هذه المقدمة التحليلية ، ولم يطبع قبل اليوم ، ولكن السيد محمد المشكاة نشر مخطوطته المصورة على طريقة «الفوتوتيب» بإيران سنة 1369 ه ، وألحق به فهارس جليلة
(2/98)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 99
ضافية وكتب له مقدمة فى سبع صفحات ، كما كتب له الأستاذ حسين على محفوظ مقدمة فى ثمانى صفحات. وقد قال ابن خلكان عن هذا الكتاب : إنه جاء نادرا فى بابه «1».
(4) - ديوان شعره ، جمعه أبو حكيم الخبرى «بفتح الخاء وسكون الباء» المتوفى سنة 476 ه. وقد طبع فى بيروت سنة 1307 ه. بشرح الشيخ أحمد عباس الأزهرى ، ومحمد اللبابيدى فى جزءين صفحاتهما 986. وطبع فى بمباى سنة 1306 ه فى 549 صفحة. وتولى فى مصر الشيخ محمد محيى الدين عبد الحميد القيام بشرحه وطبعه فى مطبعة دار إحياء الكتب العربية سنة 1368 ه ، ولكن لم يبلغ فيه إلا إلى قافية الباء. وقد ظهر هذا الجزء فى 480 صفحة وضبط الشعر بالشكل التام.
(5) - «خصائص الأئمة» وقد أشار إليه الشريف الرضى نفسه فى مقدمته لكتاب «نهج البلاغة» وذكر أنه ألفه - أو ابتدأ تأليفه - فى عنفوان السن وغضاضة الغصن ، وأنه يشتمل على محاسن أخبار الأئمة وجواهر كلامهم ، فلما فرغ من الخصائص التي تخص الإمام عليا كرم اللّه وجهه ، عاقته عن إتمام الكتاب محاجزات الزمان ومماطلات الأيام. والظاهر مما كتبه الشريف الرضى فى مقدمته لنهج البلاغة أن «خصائص الأئمة» لم يتم تأليفه ، وأن «نهج البلاغة» هو فصل من فصول خصائص الأئمة. ويذكر صاحب الغدير أن عنده نسخة من خصائص الأئمة ، ويعجب مما قاله الشيخ الحلّى من أنه توجد فى العراق نسخ باسمه تشبهه فى المنهج ، ولكن لم تصح نسبتها.
__________
(1) وفيات الأعيان لابن خلكان ، ج 2 ص 3.
(2/99)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 100
(6) - «حقائق التأويل فى متشابه التنزيل» ويشير الشريف الرضى إليه دائما فى «المجازات النبوية» وفى «تلخيص البيان فى مجازات القرآن» فيسميه تارة بالكتاب الكبير «1» ، وتارة باسم حقائق التأويل - كما فى مجازات سورة آل عمران وسورة المائدة - ويسميه ثالثة الكتاب الكبير فى متشابه القرآن. وقد أسماه النجاشي «حقائق التنزيل» ، كما أطلق عليه صاحب «عمدة المطالب» : «كتاب المتشابه فى القرآن».
(7) - «معانى القرآن» ، وقد ذكره له ابن شهرآشوب فى «المعالم» وقال عنه إنه يتعذر وجود مثله. وقال فيه ابن خلكان المؤرخ فى «وفيات الأعيان» : «إنه صنف كتابا فى معانى القرآن الكريم يتعذر وجود مثله ، دل على توسعه فى علم النحو واللغة» ولا نستطيع الجزم إذا ما كان هذا الكتاب هو بعينه «حقائق التأويل» أم كتابا غيره.
(8) - «الحسن من شعر الحسين» وقد ذكر ذلك فى ديوانه المطبوع ببيروت سنة 1307 ه ونقل ذلك المستشرق متن فى كتابه «الحضارة الإسلامية فى القرن الرابع الهجري»»
.
وقد كان الشريف صديقا للحسين «3» أبى عبد اللّه بن أحمد بن الحجاج الشاعر الماجن الظريف ، ووصفه حين رثاه بأنه كان خفة روح الزمان. وكان الرضى معذورا حين اختار من شعر الحجاج فى هذه المختارات ، فإن الثعالبي يقول عنه (إنه على علاته تتفكه الفضلاء بثمار
__________
(1) انظر
تلخيص البيان ، مجازات سورة المائدة ، والتوبة ، والرعد ، وإبراهيم ، والزخرف.
(2) جزء 1 ص 449.
(3) فى اليتيمة : اسمه الحسن ، والتصويب عن الوفيات ، والأعلام للزركلى ، والغدير لعبد الحسين أحمد.
(2/100)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 101
شعره ، وتستملح الكبراء ببنات طبعه ، وتستخف الأدباء أرواح نظمه ، ويحتمل المحتشمون فرط رقته وقذعه «1») ولعل الثعالبي كان يقصد بالمحتشمين الشريف الرضى وأضرابه ممن تجلهم أقدارهم وأحسابهم عن النزول إلى المجون. ولكن شعر ابن الحجاج لم يكن سخيفا كله ، ولا ماجنا كله ، فله قطع رائعة خالية من الفحش المفرط ، كانت تسر النفس وتعيد الأنس - كما يقول صاحب يتيمة الدهر - ولعل هذه القطع هى التي اختارها الشريف الرضى فيما اختار.
(9) - وله «كتاب رسائله» الذي جمعه أبو إسحق الصابي وكان معاصرا له ، وقد ذكر ذلك ابن النديم فى «الفهرست «2»». وهذا الكتاب مطوى فى أحناء الغيب ، ولعل الأيام لو كشفت عنه النقاب ، وأزالت عنه الحجاب تدلنا على ذخيرة أدبية رائعة فى فن الرسائل ، الذي لم يقلّ فيه الشريف الرضى عن أمراء الرسائل فى عصره ، من أمثال الصاحب والصابي والخوارزمي وغيرهم.
(10) - أخبار قضاة بغداد. وقد ذكره له ابن عنبسة الحسنى الداودي المتوفى سنة 829 ه ولا نعرف عنه شيئا ، وذكره صاحب «الغدير» فى ثبت مؤلفاته.
(11) - سيرة والده. وهو مما ذكره الحسنى فى «عمدة الطالب ، فى مناقب آل أبى طالب» ويقول العلامة الشيخ عبد الحسين أحمد الأمينى النجفي : إن هذا الكتاب ألفه الشريف الرضى سنة 379 ه ، أي قبل وفاة والده بواحد وعشرين عاما.
(12) - أما ما ذكره المؤرخ جورجى زيدان من أن للشريف الرضى كتاب «انشراح
__________
(1) يتيمة الدهر ج 3 ص 25.
(2) الفهرست ص 194.
(2/101)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 102
الصدر ، فى مختارات من الشعر» فهو غير دقيق تمام الدقة ، لأن انشراح الصدر هذا ليس إلا منتخبات من شعر الشريف الرضى ، اختارها بعض الأدباء كما يذكر حاجى خليفة فى «كشف الظنون «1»» وهو يتحدث عن ديوان الشريف الرضى.
استقلال شخصية الشريف فى النقد
يبدو الشريف الرضى فى مصنفاته التي وقعت لنا بادى الشخصية ، ظاهر الاستقلال فى الرأى ، والاعتداد بالفكر. فهو لا يقبل المسائل قضايا مسلمة وأمورا منتهية ، ولكنه يناقشها ويعلق عليها ، ويبدى فيها صريح الرأى ، ويبين إذا كانت قريبة من العقل ، أو بعيدة عن القبول ، أو دانية من اعتساف القول.
و قد لاحظنا ذلك فى مواطن كثيرة من كتابيه «المجازات النبوية» و«تلخيص البيان فى مجازات القرآن» فإن استقلال شخصيته النقدية يبدو شيئا يلفت النظر فى هذين الكتابين ، إلى حد لا يجوز إغفاله فى معرض الحديث عن الشريف الرضى.
والشواهد على ذلك لا تعوزنا فى «المجازات» و«التلخيص» ، فهى منا على أطراف الثمام.
يقول المؤلف فى مجازات قوله تعالى : جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ إن الأيدى - على بعض التأويلات - معناها الحجج والبينات التي جاء بها الرسل ، ويكون معنى الآية على هذا التأويل أن الكفار ردوا حجج الأنبياء من حيث
__________
(1) ج 1 ص 513
(2/102)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 103
جاءت ، وطريق مجيئها أفواههم ، فكأنهم ردوا عليهم أقوالهم ، وكذبوا دعواهم ...
ثم يقول بعد ذلك : (و فى هذا التأويل بعد وتعسف إلا أننا ذكرناه لحاجتنا إليه ، لما ذهبنا مذهب من حمل قوله سبحانه فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ على الاستعارة لا على الحقيقة).
ثم يمضى الشريف الرضى رحمه اللّه فى عرض الأقوال المقولة فى تأويل هذه الآية والتعليق عليها فيقول : (و قال بعضهم : بل المراد بذلك ضرب من الهزؤ يفعله المجان والسفهاء إذا أرادوا الاستهزاء ببعض الناس ، وقصدوا الوضع منه ، والإزراء عليه ، فيجعلون أصابعهم فى أفواههم ، ويتبعون هذا الفعل بأصوات تشبهه وتجانسه ، يستدل بها على قصد السخف وتعمد الفحش ، وهذا عندى بعيد من السداد ، وغيره من الأقوال أولى منه بالاعتماد).
و يقول معلقا على قول بعض المفسرين لقوله تعالى فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً : (و فى هذا القول بعض التخليط ، والذي أذهب إليه فى ذلك ما ذكرته فى كتابى الكبير على شرح واستقصاء ، وهو أن يكون المراد بقوله تعالى : فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ واللّه أعلم : أي أخذنا أسماعهم ، فبطل استماعهم).
ويقول معقبا على قول من فسروا العجل بالطين فى قوله تعالى فى سورة الأنبياء خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ : (فأما من قال من أصحاب التفسير إن العجل هاهنا اسم من أسماء الطين ، وأورد عليه شاهدا من الشعر ، فلا اعتبار بقوله ، ولا التفات إلى شاهده ، فإنه شعر مولد).
و قصد الشريف الرضى بالشعر المولد هو هذا البيت الذي ذكره بعض المفسرين مستشهدا على أن العجل اسم من أسماء الطين :
(2/103)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 104
و النّبع فى الصخرة الصماء منبته والنخل ينبت بين الماء والعجل
و الشريف هنا يبدو ناقدا أديبا لغويا دقيقا ، فهو لا يحتج بشعر من لا يحتج بشعرهم من المولدين ، وقد لاحظنا أنه فى «المجازات النبوية» و«تلخيص البيان» لم يستشهد إلا بشعر عربى فصيح صحيح ، فلم يستشهد مرة واحدة ببيت مولد.
ونراه فى مجازات سورة الزمر يسوقه القول إلى بيت الأعشى :
فتى لو ينادى الشمس ألقت قناعها أو القمر الساري لألقى المقالدا
فيقول : (و قال بعض العلماء : ليس قول الشاعر هاهنا «ينادى الشمس» من النداء الذي هو رفع الصوت ، وإنما هو من المجالسة. تقول : ناديت فلانا ، إذا جالسته فى النادي ، فكأنه قال : لو يجالس الشمس لألقت قناعها شغفا به ، وتبرجا له. وهذا من غريب القول).
وفى مجازات سورة الحشر نراه يقول فى مجاز قوله تعالى : وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ : (... المعنى أنهم استقروا فى الإيمان ، كاستقرارهم فى الأوطان.
و هذا من صميم البلاغة ، ولباب الفصاحة. وقد زاد اللفظ المستعار هاهنا معنى الكلام رونقا. ألا ترى كم بين قولنا : استقرّوا فى الإيمان ، وبين قولنا : تبوّءوا الإيمان.
وأنا أقول أبدا : إن الألفاظ خدم للمعانى ، لأنها تعمل فى تحسين معارضها ، وتنميق مطالبها). فقوله رضى اللّه عنه : «و أنا أقول أبدا» يحمل معنى قيامه بقضية البلاغة ، وخدمة الألفاظ للمعانى ، مع مضيه فى هذه الدعوة البيانية ، والزعامة البلاغية إلى حد المناداة على نفسه.
(2/104)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 105
فإذا تركنا «تلخيص البيان» جانبا لنكشف عما فى «المجازات النبوية» من استقلال فى الفكر ، واعتداد بالرأى لم تعوزنا الشواهد الكثر.
ففى مجاز قوله صلّى اللّه عليه وسلم : (لا إسلال ولا إغلال) يقول الشريف الرضى :
(و قد قال بعضهم : المراد بالإسلال هاهنا سل السيوف ، وبالإغلال لبس الدروع. وهذا القول غير معروف ، والقول الأول هو القول السّدد ، والصحيح المعتمد) «1».
وفى مجاز قوله صلّى اللّه عليه وسلم. (الولد للفراش وللعاهر الحجر) يرى بعضهم أن المراد بالحجر هنا هو الرجم بالأحجار إذا كان العاهر محصنا ، فإذا كان غير محصن فالمراد بالحجر حينئذ التعنيف به والغلظة عليه ، بتوفية الحد الذي يستحقه من الجلد ، ولكن الشريف الرضى لا يقبل هذا القول بل يرفضه قائلا : (و فى هذا القول تعسف واستكراه ، وإن كان داخلا فى باب المجاز ، لأن الغلظة على من يقام الحد عليه إذا كان الحد جلدا لا رجما لا يعبر عنها بالحجر ، لأن ذلك بعد عن سنن الفصاحة ، ودخول فى باب الفهاهة) «2» ، وفى مجاز قوله صلّى اللّه عليه وسلم : (تؤخرون الصلاة إلى شرق الموتى) نراه يقول : (و قد قيل فى ذلك أقوال كلها بعيدة عن المحجة) ثم يشرح الحديث بعد ذلك شرحا أدبيا بليغا فيقول : (و مع ذلك فيخرج الكلام من حيز الاستعارة غير قول واحد ، وهو أن يكون المراد أنهم يؤخرون الصلاة إلى أن لا يبقى من النهار إلا بقدر
__________
(1) المجازات النبوية ، طبع مصر ، ص 110.
(2) المصدر نفسه ص 112. [.....]
(2/105)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 106
ما بقي من نفس الميت الذي قد شرق بريقه ، وغرغر ببقية نفسه ، فشبه عليه الصلاة والسلام تلك البقية بشفافة الذّماء التي قد قرب انقضاؤها ، وحان فناؤها) «1».
ولعل من هذه الأمثلة يتضح ما ذهبنا إليه من اعتداد الشريف الرضى برأيه ، واستقلال شخصيته فى النقد استقلالا يبعده عن تقليد السابقين ، وترديد أقوال القائلين ، سواء أكانوا من رجال الفقه أم التفسير أم اللغة أم غيرهم. على أنه لا يخالف لمجرد المخالفة ، ولا يناقض لمحض المناقضة ، ولكنه يخالف ويعارض دائما حين يكون الحق دائما فى جانبه ، والصواب فى ناحيته رحمه اللّه! القاهرة رجب 1374 مارس 1955 محمد عبد الغنى حسن
__________
(1) المصدر نفسه ص 223.
(2/106)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 113
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ومن السورة التي يذكر فيها البقرة
... ولكنهم لما لم يعلموا هذه الآلات فى مذاهب الاستدلال بها ، كانوا كمن فقد أعيانها ، ورمى بالآفات فيها. وكذلك قوله تعالى : وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ «1» لأن الطبع من الطابع ، والختم من الخاتم ، وهما بمعنى واحد. وإنما فعل سبحانه ذلك بهم عقوبة لهم على كفرهم.
[سورة البقرة (2) : آية 7]
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)
و قوله سبحانه : وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [7] «2» استعارة أخرى. لأنهم كانوا على الحقيقة ينظرون إلى الأشخاص ، ويقلّبون الأبصار ، إلّا أنهم لما لم ينتفعوا بالنظر ، ولم يعتبروا بالعبر وصف سبحانه أبصارهم بالغشي ، وأجراهم مجرى الخوابط الغواشي. أو يكون تعالى كنى هاهنا بالأبصار عن البصائر ، إذ كانوا غير منتفعين بها ، ولا مهتدين بأدلتها. لأن الإنسان يهدى ببصيرته إلى طرق نجاته ، كما يهدى ببصره إلى مواقع خطواته.
[سورة البقرة (2) : آية 10]
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)
وقوله تعالى. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [10] والمرض فى الأجسام حقيقة وفى القلوب استعارة ، لأنه فساد فى القلوب كما أنه فساد فى الحقيقة ، وإن اختلفت جهة الفساد فى الموضعين.
[سورة البقرة (2) : آية 15]
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
وقوله سبحانه : اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [15] وهاتان استعارتان. فالأولى منهما إطلاق صفة الاستهزاء سبحانه ، والمراد بها أنه تعالى يجازيهم على استهزائهم بإرصاد العقوبة لهم ، فسمى الجزاء على الاستهزاء باسمه ، إذ كان واقعا فى مقابلته ، والوصف بحقيقة الاستهزاء غير جائز عليه تعالى ،
__________
(1) سورة التوبة الآية رقم 87 ، وفى سورة «المنافقون» (فطبع على قلوبهم) بالفاء لا بالواو الآية رقم 3.
(2) ملحوظة. يشير الرقم بين حاصرتين بعد الآية هكذا [] إلى عددها من السورة.
(2/113)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 114
لأنه عكس أوصاف الحليم ، وضد طريق الحكيم. والاستعارة الأخرى قوله تعالى : وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي يمدّ لهم كأنه يخليهم والامتداد فى عمههم والجماح فى غيهم ، إيجابا للحجة ، وانتظارا للمراجعة ، تشبيها بمن أرخى الطّول للفرس أو الراحلة ، ليتنفس خناقها ، ويتسع مجالها.
[سورة البقرة (2) : آية 9]
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9)
وربما جعل قوله سبحانه : يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا «1» على أنه مستعار فى بعض الأقوال ، وهو أن يكون المعنى أنهم يمنّون أنفسهم ألّا يعاقبوا ، وقد علموا أنهم مستحقون للعقاب ، فقد أقاموا أنفسهم بذلك مقام المخادعين. ولذلك قال سبحانه :
وَ ما يَخْدَعُونَ «2» إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ [9].
[سورة البقرة (2) : آية 16]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)
وقوله سبحانه : أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ ، وَما كانُوا مُهْتَدِينَ [16] وهذه استعارة. والمعنى أنهم استبدلوا الغى بالرشاد ، والكفر بالإيمان ، فجسرت صفقتهم ، ولم تربح تجارتهم. وإنما أطلق سبحانه على أعمالهم اسم التجارة لما جاء فى أول الكلام بلفظ الشّرى تأليفا لجواهر «3» النظام ، وملاحمة بين أعضاء الكلام.
[سورة البقرة (2) : آية 20]
يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
وقوله سبحانه : يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ [20]. وهذه استعارة. والمراد يكاد
__________
(1) كان من حق هذه الآية فى الترتيب أن تأتى قبل الآية العاشرة التي سبق الحديث عنها فى قوله تعالى :
(فى قلوبهم مرض إلخ) ولا أدرى أكان ذلك سهوا من المؤلف رضى اللّه عنه ، أم سهوا من الناسخ حيث وضعها فى غير موضعها ، وأنزلها فى غير ترتيبها.
(2) فى الأصل «و ما يخادعون» على أنها قراءة نافع وابن كثير وأبى عمرو ليتجانس اللفظان فى الموضعين. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر «يخدعون» كما أثبتناه. وكما نقرؤه فى المصحف الذي بين أيدينا.
(3) فى الأصل «بجواهر» وهى خطأ فى النسخ.
(2/114)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 115
يذهب بأبصارهم من قوة إيماضه وشدة التماعه. والدليل على ذلك قوله تعالى فى النور «1» :
يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ [43] ومحصّل «2» المعنى : تكاد أبصارهم تذهب عند رؤية البرق ، فجعل تعالى الفعل للبرق دونها لما كان السبب فى ذهابها.
[سورة البقرة (2) : آية 22]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
وقوله سبحانه : الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ، وَالسَّماءَ بِناءً [22] وهذه استعارة. لأنه سبحانه شبّه الأرض فى الامتهاد بالفراش ، والسماء فى الارتفاع بالبناء.
[سورة البقرة (2) : آية 29]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
وقوله تعالى : ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [29] أي قصد إلى خلقها كذلك. لأن الحقيقة فى اسم الاستواء الذي هو تمام بعد نقصان ، واستقامة بعد اعوجاج ، من صفات الأجسام ، وعلامات المحدثات.
[سورة البقرة (2) : آية 42]
وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
وقوله تعالى : وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ [42] وهذه استعارة. والمراد بها :
ولا تخلطوا الحق بالباطل ، فتعمى مسالكه ، وتشكل معارفه. وذلك مأخوذ من الأمر الملتبس ، وهو المختلط المشتبه. ويقول القائل : قد ألبس علىّ هذا الأمر. إذا انغلقت أبوابه عليه ، وانسدّت مطالع فهمه.
[سورة البقرة (2) : آية 61]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61)
وقوله سبحانه : وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [61] وهذه استعارة.
والمراد بها صفة شمول الذلة لهم ، وإحاطة المسكنة بهم ، كالخباء المضروب على أهله ، والرواق المرفوع لمستظله.
[سورة البقرة (2) : آية 66]
فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
وقوله تعالى : فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها [66] أي للأمم التي
__________
(1) أي فى سورة النور. آية رقم 43.
(2) فى الأصل : ويحصل المعنى. وهو تحريف من الناسخ لا يستقيم به المعنى.
(2/115)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 116
تشاهدها ، والأمم التي تكون بعدها. أو للقرى التي تكون أمامها ، وللقرى التي تكون خلفها. ولقول العرب : كذا بين يدى ، كذا وجهان : أحدهما أن تكون بمعنى تقدّم الشيء للشىء. يقول القائل لغيره : أنا بين يديك. أي قريب منك. وقد مضى فلان بين يديك ، أي تقدّم أمامك.
[سورة البقرة (2) : آية 74]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
وقوله تعالى فى وصف الحجارة : وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [74] وهذه استعارة. والمراد ظهور الخضوع فيها لتدبير اللّه سبحانه بآثار الصنعة وأحلام الصنعة «1».
[سورة البقرة (2) : آية 81]
بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81)
وقوله تعالى : بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [81] وهذه استعارة فيها كناية عجيبة عن عظم الخطيئة ، لأن الشيء لا يحيط بالشيء من جميع جهاته إلا بعد أن يكون سابغا غير قالص «2» ، وزائدا غير ناقص.
[سورة البقرة (2) : آية 88]
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88)
وقوله تعالى : وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ [88]. وهذه استعارة على التأويلين جميعا.
إما أن تكون غلف جمع أغلف ، مثل أحمر وحمر ، يقال سيف أغلف. أو تكون جمع غلاف ، مثل حمار وحمر ، وتخفف «3» فيقال حمر. وكذلك يجمع غلاف ، فيقال غلف وغلف بالتثقيل والتخفيف. قال أبو عبيدة : كل شىء فى غلاف فهو أغلف ، يقال : سيف أغلف ، وقوس غلفاء ، ورجل أغلف : إذا لم يختتن. فمن قرأ غلف ، على جمع أغلف ، فالمعنى أن المشركين قالوا : قلوبنا فى أغطية عما يقوله ، يريدون النبي عليه السلام. ونظير ذلك قوله سبحانه حاكيا عنهم :
__________
(1) هكذا بالأصل. ولم نهتد إلى وجه الصواب فيها ، ولعلها : «و إحكام الصفة».
(2) قلص الثوب بعد غسله - انكمش ، فهو قالص.
(3) فى الأصل «و تخفيف» وهو تحريف من الناسخ لا معنى له ، والصواب ما أثبتناه.
(2/116)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 117
وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [5] الآية «1». ومن قرأ : قلوبنا غلف على جمع غلاف بالتثقيل والتخفيف ، فمعنى ذلك : قالوا قلوبنا فى أوعية فارغة لا شىء فيها. فلا تكثر علينا من قولك ، فإنا لا نعى منه شيئا. فكان قولهم هذا على طريق الاستعفاء من كلامه ، والاحتجاز عن دعائه.
[سورة البقرة (2) : آية 93]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
وقوله سبحانه : وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [93] وهذه استعارة.
والمراد بها صفة قلوبهم بالمبالغة فى حب العجل ، فكأنها تشرّبت حبّه فمازجها ممازجة المشروب ، وخالطها مخالطة الشيء الملذوذ. وحذف حبّ العجل لدلالة الكلام عليه ، لأن القلوب لا يصح وصفها بتشرّب العجل على الحقيقة.
و قوله سبحانه : بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [93] استعارة أخرى. لأن الإيمان على الحقيقة لا يصحّ عليه النطق ، فالأمر إنما يكون بالقول. فالمراد إذا بذلك - واللّه أعلم - أن الإيمان إنما يكون دلالة على صدّ الكفر والضلال ، وترغيبا فى اتباع الهدى والرشاد ، وأنه لا يكون ترغيبا فى سفاهة ، ولا دلالة على ضلالة. فأقام تعالى ذكر الأمر هاهنا مقام ذكر الترغيب والدلالة ، على طريق المجاز والاستعارة ، إذ كان المرغّب فى الشيء والمدلول عليه ، قد يفعله كما يفعله المأمور به والمندوب إليه.
[سورة البقرة (2) : آية 102]
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102)
وقوله تعالى : وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [102] هذه استعارة. لأن بيع نفوسهم على الحقيقة لا يتأتى «2» لهم. والمراد به - واللّه أعلم - أنهم لما أوبقوا أنفسهم بتعلم السحر ، واستحقوا العقاب على ما فى ذلك من عظيم الوزر ، كانوا كأنهم قد رضوا بالسّحر ثمنا لنفوسهم ، إذ عرّضوها بعمله للهلاك ، وأوبقوها «3» لدايم العقاب.
__________
(1) سورة فصلت. الآية رقم 5.
(2) فى الأصل «لا تأتى» وهو تحريف من الناسخ.
(3) فى الأصل : «و أرقوها» وهو تحريف لعل صوابه ما أثبتناه. [.....]
(2/117)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 118
و كانت كالأعلاق الخارجة عن أبدانهم بأنقص الأثمان ، وأدون الأعواض.
[سورة البقرة (2) : آية 112]
بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
وقوله سبحانه : بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [112] أي أقبل على عبادة اللّه سبحانه ، وجعل توجّهه إليه بجملته لا بوجهه دون غيره. والوجه هاهنا استعارة.
[سورة البقرة (2) : آية 115]
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)
وقوله تعالى : فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [115] أي جهة التقرب إلى اللّه.
والطريق الدالة عليه ، ونواحى مقاصده ومعتمداته الهادية إليه.
[سورة البقرة (2) : آية 130]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
وقوله تعالى : إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [130] والتقدير : سفه نفسا ، على أحد التأويلات. وهذه استعارة. لأنه تعالى علق السفه بالنفس. وقولنا : نفس فلان سفيهة :
مستعارة ، وإنما السفه صفة لصاحب النفس لا للنفس.
[سورة البقرة (2) : آية 133]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
و قوله : إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ [133] أي ظهرت له علاماته ، ووردت عليه مقدماته ، فهى استعارة. لأن الموت لا يصح عليه الحضور على الحقيقة.
[سورة البقرة (2) : آية 138]
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)
وقوله تعالى : صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [138] أي دين اللّه ، وجعله بمنزلة الصبغ لأن أثره ظاهر ، ووسمه لائح. وهذا من محض الاستعارة.
[سورة البقرة (2) : آية 150]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
وقوله سبحانه : فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [150] فهذه استعارة على قول من قال : إن الشطر هاهنا البعد. أي ولّ وجهك جهة بعده. إذ لا يصح أن تولى وجهك جهة بعد المسجد على الحقيقة.
[سورة البقرة (2) : آية 168]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
وقوله تعالى : وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [168] أي لا تنجذبوا فى قياده ، لأن المنجذب فى قياد «1» غيره تابع لخطواته. وهذه من شرائف الاستعارة. فهى أبلغ عبارة
__________
(1) فى الأصل «فى قيادة». وقد جعلناها «قياد» بدلا من «قيادة» تمشيا مع ما جرى عليه المؤلف فى قوله : (لا تنجذبوا فى قياده).
(2/118)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 119
عن التحذير من طاعة الشيطان فيما يأمر به ، وقبول قوله فيما يدعو إلى فعله. فهذه من شرائف الاستعارات.
[سورة البقرة (2) : الآيات 174 الى 175]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
وقوله تعالى : ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [174]. وهذه استعارة. كأنهم إذا أكلوا ما يوجب العقاب بالنار كان ذلك المأكول مشبها بالأكل من النار. وقوله سبحانه : فِي بُطُونِهِمْ : زيادة معنى ، وإن كان كل آكل إنما يأكل فى بطنه ، وذلك أنه أفظع سماعا ، وأشدّ إيجاعا. وليس قول الرجل للآخر : إنك تأكل النار ، مثل قوله : إنك تدخل النار فى بطنك.
وقوله تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ [175] وقد مضى نظير ذلك ، وأمثاله كثيرة فى هذه السورة وغيرها.
[سورة البقرة (2) : الآيات 187 الى 188]
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
وقوله تعالى فى ذكر النساء : هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [187].
واللباس هاهنا مستعار ، والمراد به قرب بعضهم من بعض واشتمال بعضهم على بعض ، كما تشتمل الملابس على الأجسام «1». وعلى هذا المعنى كنوا عن المرأة بالإزار.
وقوله سبحانه : عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ، فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ [187] وهذه استعارة ، لأن خيانة الإنسان نفسه لا تصح على الحقيقة ، وإنما المراد أنه سبحانه خفّف عنهم التكليف فى ليالى الصيام ، بأن أباحهم فيها مع أكل الطعام وشرب الشراب الإفضاء إلى النساء ، ولو منعهم من ذلك لعلم أن كثيرا منهم يخلع عذار الصبر ، ويضعف عن مغالبة النفس ، فيواقع المعصية بفعل ما حظر عليه من غشيان
__________
(1) استشهد ابن قتيبة فى كتابه «تأويل مشكل القرآن» بقول النابغة الجعدي :
إذا ما الضجيع ثنى جيدها تثنث عليه فكانت لباسا على أن اللباس معناه أن المرأة والرجل يتضامان فيكون كل واحد منها للآخر بمنزلة اللباس.
(2/119)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 120
النساء ، فيكون قد كسب نفسه العقاب ، ونقصها الثواب. فكأنه قد خانها فى نفى المنافع عنها ، أو جرّ المضار إليها. وأصل الخيانة فى كلامهم : النقص ، فعلى هذا الوجه تحمل خيانة النفس.
وقوله تعالى : حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [187]. وهذه استعارة عجيبة. والمراد بها على أحد التأويلات : حتى يتبين بياض الصبح من سواد الليل. والخيطان هاهنا مجاز. وإنما شبّها بذلك لأن خيط الصبح يكون فى أول طلوعه مستدقا خافيا ، ويكون سواد الليل منقضيا مولّيا ، فهما جميعا ضعيفان ، إلا أن هذا يزداد انتشارا ، وهذا يزداد استسرارا.
وقوله تعالى : وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ [188].
وقوله تعالى :
ه : رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً [250] فهذه استعارة. كأنهم قالوا :
أمطرنا صبرا ، واسقنا صبرا. وفى قوله : أفرغ ، زيادة فائدة على قوله : أنزل ، لأن الإفراغ يفيد سعة الشيء وكثرته وانصبابه وسعته.
__________
(1) فى الأصل «الغنى لنفسه» وهو تحريف من الناسخ ، فاللّه غنى بنفسه لا غنى لنفسه.
(2) فى الأصل «توفيه» بالهاء لا بالتاء المربوطة كما أصلحناه.
(2/120)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 121
[سورة البقرة (2) : آية 257]
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)
و قوله سبحانه : اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [257] وهذه استعارة. والمراد بها إخراج المؤمنين من الكفر إلى الإيمان ، ومن الغى إلى الرشاد ، ومن عمياء «1» الجهل إلى بصائر العلم.
وكلّ ما فى القرآن من ذكر الإخراج من الظلمات إلى النور فالمراد به ما ذكرنا.
وذلك من أحسن التشبيهات. لأن الكفر كالظلمة التي يتسكع فيها الخابط ، ويضل القاصد. والإيمان كالنور الذي يؤمه الحائر ، ويهتدى به الجائر. لأن عاقبة الإيمان مضيئة بالإيمان والثواب ، وعاقبة الكفر مظلمة بالجحيم والعذاب. وفى لسانهم وصف الجهل بالعمى والعمه ، ووصف العلم بالبصر والجلية. يقال : قد غمّ عليه أمره ، وأظلم عليه رأيه. إذا كان جاهلا بما يرتئيه ويفعله. ويقال فى نقيض ذلك : هو على الواضحة من أمره ، والجلية من رأيه. إذا كان عالما بما يورد ويصدر ، فيما يأتى ويذر.
[سورة البقرة (2) : آية 283]
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
وقوله سبحانه : وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [283]. وذلك مثل قوله تعالى :
وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ لأن الآثم والكاسب صاحب القلب ، دون القلب على ما تقدم من القول.
__________
(1) جرى الناسخ على عدم إثبات همزة الممدود فكتب «عميا» بدون همزة. وقد همزنا ما أغفله فى جميع المواطن بالكتاب ، فلا حاجة إلى التنبيه عليه.
(2/121)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 122
ومن السورة التي يذكر فيها «آل عمران»
[سورة آل عمران (3) : آية 7]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7)
قوله تعالى : مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ [7]. وهذه استعارة.
والمراد بها أن هذه الآيات جماع الكتاب وأصله. فهى بمنزلة الأم ، وكان سائر الكتاب يتبعها ويتعلق بها ، كما يتبع الولد آثار أمه ، ويفزع إليها فى مهمّه.
وقوله تعالى : وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [7]. وهذه استعارة.
والمراد بها المتمكنون فى العلم ، تشبيها برسوخ الشيء الثقيل فى الأرض الخوّانة. وهو أبلغ من قوله : والثابتون فى العلم.
[سورة آل عمران (3) : آية 12]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12)
وقوله تعالى : وَتُحْشَرُونَ «1» إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ [12] وهذه استعارة. والمعنى :
بئس ما يمتهد ويفرش. ونظيره قوله وَساءَتْ مُرْتَفَقاً ، وقوله سبحانه : وَبِئْسَ الْقَرارُ.
[سورة آل عمران (3) : آية 22]
أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)
وقوله تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [22] وهذه استعارة ، والمراد فسدت أعمالهم فبطلت. وذلك مأخوذ من الحبط ، وهو داء ترم له أجواف الإبل ، فيكون سبب هلاكها ، وانقطاع آكالها.
__________
(1) فى الأصل «و يحشرون» بياء الغائبين لا بتاء المخاطبين كما هو الصواب فى القراءة عن ابن عباس التي رواها عكرمة وسعيد بن جبير. وفى رواية أبى صالح أن اليهود لما فرحوا بما أصاب المسلمين يوم أحد نزلت الآية : (قل للذين كفروا سيغلبون ويحشرون إلى جهنم وبئس المهاد) يعنى قريشا. وهى قراءة نافع.
(2/122)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 123
[سورة آل عمران (3) : آية 27]
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)
وقوله تعالى : تُولِجُ «1» اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [27] وهذه استعارة ، وهى عبارة عجيبة عن إدخال هذا على هذا ، وهذا على هذا. والمعنى أن ما ينقصه من النهار يزيده فى الليل ، وما ينقصه من الليل يزيده فى النهار. ولفظ الإيلاج هاهنا أبلغ ، لأنه يفيد إدخال كلّ واحد منهما فى الآخر ، بلطيف الممازجة ، وشديد الملابسة.
[سورة آل عمران (3) : آية 39]
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
وقوله تعالى : مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ [39] وهذه استعارة. لأن المراد بهذا القول عيسى عليه السلام. والعلماء مختلفون فى هذه اللفظة ، وقد استقصينا الكلام على ذلك فى كتاب «حقائق التأويل». فمن بعض ما قيل فى ذلك أن بشارة اللّه تعالى سبقت بالمسيح عليه السلام فى الكتب المتقدمة ، والنذرات السالفة ، فأجرى تعالى اسم «الكلمة» عليه لتقدّم البشارة به. والبشارة إنما تكون بالكلام.
[سورة آل عمران (3) : آية 154]
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)
وقوله تعالى : وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [54]. وهذه استعارة. لأن حقيقة المكر لا تجوز عليه تعالى. والمراد بذلك إنزال العقوبة بهم جزاء على مكرهم. وإنما سمّى الجزاء على المكر مكرا للمقابلة بين الألفاظ على عادة العرب فى ذلك.
قد استعارها لسانهم ، واستعادها بيانهم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 72 الى 73]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73)
و قوله تعالى : آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [72] وهذه استعارة. والمراد أول النهار. ولم يقل رأس النهار. لأن الوجه والرأس وإن اشتركا فى كونهما أول الشيء ، فإن فى الوجه زيادة فائدة ، وهى أنّ به تصح المواجهة.
ومنه تعرف حقيقة الجملة.
__________
(1) فى الأصل : يولج بالياء المثناة التحتية ، وهو تحريف من الناسخ للآية الكريمة. والصواب :
تولج بالتاء المثناة الفوقية. أما «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» بالياء المثناة التحتية ، فهى فى سورة الحج ولقمان والحديد وفاطر.
(2/123)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 124
و قوله سبحانه : وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [73] وهذه استعارة. والمراد بها إما سعة عطائه ، وعظيم إحسانه ، أو اتساع طرق علمه ، وانفساح أقطار سلطانه وعزه.
وقوله سبحانه : وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ... الآية [77] وهذه استعارة.
وحقيقتها : ولا يرحمهم اللّه يوم القيامة. كما يقول القائل لغيره إذا استرحمه : انظر إلىّ نظرة.
لأن حقيقة النظر تقليب العين الصحيحة فى جهة المرئي التماسا لرؤيته. وهذا لا يصح إلا على الأجسام ، ومن يدرك بالحواس ، ويوصف بالحدود والأقطار. وقد تعالى اللّه سبحانه عن ذلك علوا كبيرا.
[سورة آل عمران (3) : آية 103]
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
وقوله تعالى : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً [103] وهذه استعارة. ومعناها :
تمسكوا بأمر اللّه لكم ، وعهده إليكم. والحبال : العهود ، فى كلام العرب. وإنما سميت بذلك لأن المتعلق بها ينجو مما يخافه ، كالمتشبث بالحبل إذا وقع فى غمرة ، أو ارتكس فى هوة. فالعهود يستأمن بها من المخاوف ، والحبال يستنقذ بها من المتالف. فلذلك وقع التشابه بينهما.
وقوله تعالى : وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [103]. وهذه استعارة. لأنه تعالى شبّه المشفى - بسوء عمله - على دخول النار ، بالمشفي - لزلة قدمه - على الوقوع فى النار.
[سورة آل عمران (3) : آية 109]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
وقوله سبحانه : وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [109] على قراءة من قرأ بفتح التاء وكسر الجيم. وهذه استعارة. والمراد بها أن الأشياء كلها تنتهى إلى أن تزول عنها أيدى المالكين والمدبّرين ، ويخلص ملكها وتدبيرها لرب العالمين.
(2/124)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 125
[سورة آل عمران (3) : آية 112]
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)
وقوله تعالى : ضُرِبَتْ «1» عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا ، إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ، وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ [112] وقد مضى الكلام على مثل ذلك فى «البقرة» فلا معنى لإعادته.
[سورة آل عمران (3) : آية 127]
لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127)
و قوله تعالى : لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [127] أي ينقص عددا من أعدادهم ، فيوهن عضدا من أعضادهم. وهذا من محض الاستعارة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 143 الى 144]
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
وقوله تعالى : وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ ، فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [143] وهذه استعارة ، لأن الموت لا يلقى «2» ولا يرى. وإنما أراد سبحانه رؤية أسبابه ، من صدق مصاع «3» ، وتتابع قراع. أو رؤية آلاته ، كالرماح المشرعة والسيوف المخترطة.
وقوله سبحانه : أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [144] وهذه استعارة. والمراد بها الرجوع عن دينه ، والتقاعس عن اتّباع طريقه. فشبّه سبحانه الرجوع فى الارتياب ، بالرجوع على الأعقاب.
[سورة آل عمران (3) : آية 156]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
و قوله سبحانه : وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى [156] وهذه استعارة. لأن الضرب هاهنا عبارة عن الإنجاد فى السير ، والإيغال فى الأرض ، تشبيها للخابط فى البر بالسابح فى البحر ، لأنه يضرب بأطرافه فى غمرة الماء شقّا»
لها ، واستعانة على قطعها.
__________
(1) فى أصل المخطوط «و ضربت» بالواو. وهو تحريف فى النسخ ، وصحة الآية «ضربت ...»
بغير واو.
(2) فى الأصل «لا تلقى» بالتاء وهو تحريف من الناسخ : والصواب ما أثبتناه.
(3) المصاع : مصدر ماصع : أي قاتل وجالد.
(4) فى الأصل «سعا» بدون إعجام. والسابح فى الماء يضربه ليشق طريقه فيه.
(2/125)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 126
[سورة آل عمران (3) : آية 163]
هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163)
وقوله سبحانه : هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ. [163]
و هذه استعارة. لأن الإنسان غير الدرجة. وإنما المراد بذلك : هم ذوو درجات متفاوتة عند اللّه ، فالمؤمن درجته مرتفعة ، والكافر درجته متّضعة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 185 الى 188]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188)
وقوله تعالى : وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ [185] وهذه استعارة. لأن الغرور لا متاع له على الحقيقة ، وإنما المراد بذلك أن ما يستمتع به الإنسان من حطام الدنيا ظلّ زائل ، وخضاب ناصل.
وقوله تعالى فى صدر هذه الآية : كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [185] مستعار أيضا ، لأن حقيقة الذوق ما أدرك بحاسة ، وإنما حسن وصف النفس بذلك لما يحسّ به من كرب الموت وعذابه ، فكأنها تحسّه بذوقه.
وقوله : وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [186]. فهذه استعارة. لأن الأمور لا عزم لها ، وإنما العزم للموطّن نفسه على فعلها ، وهو الإنسان.
فالمراد : فإن ذلك من قوة الأمور. لأن العازم على فعل الأمر قويّ عليه.
و قوله تعالى : فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ [187]. وهذه استعارة. والمراد بها : أنهم غفلوا عن ذكره ، وتشاغلوا عن فهمه «1» ، يعنى الكتاب المنزل عليهم ، فكان كالشىء الملقى خلف ظهر الإنسان ، لا يراه فيذكره ، ولا يلتفت إليه فينظره ..
وقوله : فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [187]. ومنجاة من العقاب.
والمفازة : الأرض البعيدة التي إذا قطعها الإنسان فاز بقطعها ، وأمن من خوفها.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 197]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197)
وقوله تعالى : لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ، مَتاعٌ قَلِيلٌ [196 ، 197] وهذه استعارة. والمراد بالتقلب هاهنا كثرة الاضطراب فى البلاد ، والتقلقل فى الأسفار ، والانتقال من حال إلى حال.
__________
(1) فى الأصل «فمه» وهو تحريف ، فإن طريقة الناسخ فى كتابة الهاء أن لا يبين كتابتها فتبدو كأنها قنطرة.
(2/126)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 127
ومن السورة التي يذكر فيها «النساء»
[سورة النساء (4) : آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)
قوله تعالى : إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ، وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [10] وهذه استعارة ، وقد مضى الكلام على نظيرها فى «البقرة». والمعنى أنهم لما أكلوا المال المؤدى إلى عذاب النار ، شبّهوا من هذا الوجه بالآكلين من النار.
[سورة النساء (4) : آية 15]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15)
وقوله تعالى : فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ [15] وهذه استعارة.
لأن المتوفّى ملك الموت. فنقل الفعل إلى الموت على طريق المجاز والاتساع. لأن حقيقة التوفى هو قبض الأرواح من الأجسام.
[سورة النساء (4) : آية 33]
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33)
وقوله سبحانه : وَالَّذِينَ عَقَدَتْ «1» أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [33]. وهذه استعارة. والمراد بها - واللّه أعلم - أن من عقدتم بينكم وبينه عقدا ، فأدّوا إليه ما يستحقه بذلك العقد عليكم. وإنما نسب المعاقدة إلى الأيمان على عادة العرب فى ذلك. يقول القائل : أعطانى فلان صفقة يمينه على كذا. وأخذت يد فلان مصافحة على كذا. وعلى هذا النحو أيضا إضافة الملك إلى الأيمان فى قوله تعالى : «و ما ملكت أيمانكم» لأن الإنسان فى الأغلب إنما يقبض من المال المستحق بيمينه ، ويأخذ السلع المملوكة بيده.
[سورة النساء (4) : الآيات 46 الى 47]
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47)
وقوله سبحانه : يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [46]. وهذه استعارة. والمراد بها - واللّه أعلم - أنهم ينكسون الكلام عن حقائقه ، ويزيلونه عن جهة صوابه ، حملا له على أهوائهم ، وعطفا عن آرائهم.
__________
(1) فى الأصل «و الذين عاقدت» بفعل المفاعلة ، وهى قراءة. كما أن هناك قراءة «عقدت» بتشديد القاف ، رواها على بن كبشة عن حمزة.
(2/127)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 128
و قوله تعالى فى هذه الآية : لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ [46] استعارة أخرى. والمراد بها : يميلون بكلامهم إلى جهة الاستهزاء بالمؤمنين ، والوقيعة فى الدين.
وقوله تعالى : مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها [47]. وهذه استعارة. وهى عبارة عن مسخ الوجوه. أي نزيل «1» تخاطيطها ومعارفها ، تشبيها بالصحيفة المطموسة ، التي عميت سطورها ، وأشكلت حروفها.
[سورة النساء (4) : آية 77]
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)
وقوله تعالى : قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى [77].
وهذه استعارة. والمراد بها تخسيس قدر ما يصحب الإنسان من الدنيا ، وأن المتعة به قليلة ، والشوائب كثيرة.
[سورة النساء (4) : آية 90]
إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)
وقوله تعالى : حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ [90]. فهذه استعارة. والمراد بها صفة صدورهم بالضيق على القتال. وذلك مأخوذ من الحصار ، وهو تضييق المذهب ، والمنع من التصرف.
وقوله : فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ [90] الآية وهذه استعارة ، وحقيقتها ، إن طلبوا منكم المسالمة ، وسألوكم الموادعة.
وفى قوله سبحانه : وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ عبارة عن طلبهم السلم عن ذل واستكانة ، وخضوع وضراعة.
[سورة النساء (4) : آية 128]
وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)
وقوله تعالى : وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ [128] وهذه استعارة. وليس المراد أن محضرا أحضر الأنفس شحّها ، ولكن الشح لما كان غير مفارق لها ، ولا متباعد عنها ، كان كأنه قد أحضرها ، وحمل على ملازمتها.
[سورة النساء (4) : آية 157]
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما
قتلوه وما صلبوه
وقوله تعالى : فَلا تَقْعُدُوا «2» مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [140].
وهذه استعارة. والمراد بالخوض هاهنا مناقلة الحديث ، والضرب فى أقطاره ، والتفسّح فى أعطانه ، استثارة لكرائمه ، وبحثا عن غوامضه. تشبيها بخائض الماء ، الذي يثير قراره ، ويسبر غماره «3».
وقوله تعالى : ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ ، وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً [157].
وفى هذه الآية استعارتان : إحداهما قوله سبحانه : إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ لأن الظن جعل هاهنا بمنزلة الداعي الذي يطاع أمره ، والقائد الذي يتبع أثره ، مبالغة فى صفة الظن بشدة الاستيلاء عليهم وقوة الغلبة على قلوبهم. والاستعارة الأخرى أن يكون قوله تعالى : وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً راجعا إلى الظن لا إلى المسيح عليه السلام.
فكأنه سبحانه قال : وما قتلوا الظن يقينا : كما يقول القائل : قتلت الخبر علما. ومن أمثالهم : (قتل أرضا عالمها) و(قتلت أرض أهلها) والمراد بقولهم قتلت الخبر علما : أي استقصيت معرفته ، واستخرجت دخيلته «4». فلم يفتنى شىء من علمه ، فكنت بذلك كأنى قاتل له. أي لم أبق شيئا يعلم من كنهه ، كما لم يبق القاتل من المقتول شيئا من
__________
(1) هنا خمس كلمات متقطعة غير واضحة بالأصل.
(2) فى لأصل (فلا تقعد) بخطاب الواحد ، وهو تحريف وليس هناك فى القراءات شىء مثل هذا.
ويؤيد صيغة الجمع قوله تعالى بعد هذا : (إنكم إذا مثلهم).
(3) فى الأصل «عماره» بدون نقط العين المعجمة.
(4) فى الأصل «ذخيلته» بإعجام الذال. والصواب بالدال المهملة.
(2/128)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 130
نفسه. وعلى هذا قولهم : أصاب فلان شاكلة الأمر وطبّق مفصل الرأى .....
حقيقته ، وبلغ مص .... ة «1» والشاكلة : الخاصرة هاهنا ، وهى من مقاتل الحيوان.
[سورة النساء (4) : آية 171]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)
وقوله تعالى : إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [171] وقد مضى كلامنا على معنى تسمية المسيح عليه السلام بكلمة اللّه.
وقوله تعالى : وَرُوحٌ مِنْهُ [171] هاهنا استعارة. والمراد بذلك أن الناس ينتفعون بهديه ، ويحيون من موت الضلالة برشده ، كما تحيا «2» الأجسام بأرواحها ، وتتصرف بحركاتها.
__________
(1) هنا فى موضع النقط كلمات لم تتبين بالأصل.
(2) فى الأصل «يحيا ، ويتصرف» وهو تحريف.
(2/129)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 131
ومن السورة التي يذكر فيها «المائدة»
[سورة المائدة (5) : آية 2]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)
قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ [2]. وهذه استعارة ، والمراد مستبعدات اللّه التي أشعرها للناس ، أي بينها لهم. من قولهم : أشعرت البدنة ، إذا جرحتها فى سنامها ليسيل دمها ، فيعلم أنها هدى لبيت اللّه سبحانه : وهذا الفعل علامة لها ، ودلالة عليها.
[سورة المائدة (5) : آية 16]
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
وقوله تعالى : يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ [16] وهذه استعارة.
والسلام هاهنا جمع سلامة. فالمراد أنه تعالى يدل من أطاعه على طريق نجاته ، وسبيل أمنته ، لأن طاعته تعالى إمام «1» السلامة ، فمن اتبع قياده نجا ، ومن تقاعس عنه ضل وغوى.
[سورة المائدة (5) : آية 19]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
وقوله تعالى : قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ [19] وهذه استعارة. والمراد على انقطاع الإرسال إلى الأمم و... الزمان من .... «2»
الرسل. تشبيها بحال إرسال الأنبياء إلى أممهم ثم حال توفيهم بعد أداء شرائعهم بثقوب النار ثم خمودها ، واضطرامها ثم فتورها.
[سورة المائدة (5) : آية 21]
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21)
وقوله تعالى : وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ [21]. وهذه استعارة. ونظيرها قوله تعالى : انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي لا تولوا عن دينكم
__________
(1) فى الأصل «إدام» ولا معنى للأدام هنا لأنه ما يؤتدم به. ولعل ما استظهرناه هو الصواب ، لأن الإمام. له مكان القيادة. فكأن الطاعة تقود إلى السلامة.
(2) موضع النقط كلمات لم تبين بالأصل.
(2/130)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 132
و تشكوا بعد يقينكم ، فتكونوا كالمقهقر «1» الراجع ، والمتقاعس الناكص.
[سورة المائدة (5) : آية 30]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30)
وقوله تعالى : فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ [30] وهذه استعارة. والمراد : سولت له وقربت عليه نفسه ففعل. وطوّعت فعّلت. من الطوع. أي سهلت نفسه عليه ذلك ، حتى أتاه طوعا ، وانقاد إليه سمحا.
[سورة المائدة (5) : آية 32]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
وقوله تعالى : أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [32] وأحياها هنا استعارة.
لأن إحياء «2» النفس بعد موتها لا يفعله إلا اللّه تعالى. وإنما المراد : من استبقاها وقد استحقت القتل ، واستنقذها وقد أشرفت على الموت. فجعل سبحانه فاعل ذلك بها كمحييها بعد موتها. إذ كان الاستنقاذ من الموت كالإحياء بعد الموت.
[سورة المائدة (5) : آية 41]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41)
وقوله سبحانه : مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [41] وهذه استعارة. لأن صفة الإيمان والكفر إنما يوصف بها الإنسان دون القلب. والمراد :
أنهم آمنوا بالظواهر ، وكفروا بالبواطن.
[سورة المائدة (5) : آية 48]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
قوله سبحانه «3» : وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [48]. وهذه استعارة. وقد تقدم مثلها .. والمعنى : مصدقا بما سلف قبله من الكتاب الذي هو الإنجيل الصحيح. واستعير ذكر اليدين هاهنا ، كما يقول القائل إذا سأله غيره عن راكب مرّ به : هو بين يديك. أي قد سار أمامك.
ومهيمنا عليه : أي شاهدا عليه. فهذه أيضا استعارة أخرى. والمراد : أن ما فى هذا الكتاب من وضوح الدلالة يقوم مقام النطق بصحة الشهادة.
__________
(1) هكذا بالأصل «و لعلها كالمتقهقر».
(2) بالأصل «إحيا» بحذف همزة الممدود.
(3) هكذا بالأصل بدون واو. والصواب «و قوله» بالواو عطفا على ما قبلها من الاستعارات.
(2/131)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 133
و قوله تعالى : وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [48]. وهذه استعارة. والمراد : ولا تطع أمرهم ، ولا تجب داعيهم ، فأقام سبحانه أهواءهم مقام الدعاة إلى الرّدى ، والهداة إلى العمى.
وقوله تعالى : اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
«1» [48]. وهذه استعارة عجيبة : والمعنى :
فبادروا فعل الخيرات إن كنتم على غير أمان من حضور الأجل ، وتضييق الأمل. وذلك شبيه لسباق الخيل ، لأن كل واحد من فرسانها يشاحّ غيره على بلوغ الغاية المقصودة ، وينافسه فى الإسراع إلى البغية المطلوبة.
[سورة المائدة (5) : آية 54]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)
وقوله سبحانه : فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [54]. وهذه استعارة. لأن الحبّ الذي هو ميل الطباع لا يجوز على القديم سبحانه ..... «2»
[سورة المائدة (5) : آية 64]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
و قوله تعالى : وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ، وَلُعِنُوا بِما قالُوا ، بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ [64]. وهذه استعارة. ومعناها أن اليهود أخرجوا هذا القول مخرج الاستبخال للّه سبحانه ، فكذبهم تعالى بقوله : بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وليس المراد بذكر اليدين هاهنا الاثنتين اللتين هما أكثر من الواحدة ، وإنما المراد به المبالغة فى وصف النعمة. كما يقول القائل : ليس لى بهذا الأمر يدان ، وليس يريد به الجارحتين ، وإنما يريد المبالغة فى نفى القوة على ذلك الأمر. وربما قيل إن المراد بذلك نعمة الدنيا ونعمة الآخرة. واللّه أعلم أىّ ذلك أصوب.
وقد أشبعنا الكلام على هذا المعنى فى كتابنا الكبير.
وقوله تعالى : كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [64] وهذه استعارة.
__________
(1) فى الأصل «و استبقوا الخيرات» بالواو لا بالفاء وهو تحريف من الناسخ.
(2) هنا سطران غير واضحين ، وثانيهما مطموس المعالم.
(2/132)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 134
لأن الحرب لا نار لها على الحقيقة ، وإنما شبهت بالنار لاحتدام قراعها ، وجدّ مصاعها ، وأنها تأكل أهلها ، كما تأكل النار حطبها.
[سورة المائدة (5) : آية 66]
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)
و قوله تعالى : وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [66]. فهذه استعارة. لأن التوراة لا يصح عليها القيام ، وإنما المراد لو أنهم اتبعوا حكمها ..... «1» وقوله تعالى : لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [66] استعارة أخرى على أحد التأويلين ، وهو أن يكون المراد بهذا القول العبارة عن سعة الرزق ورفاهة العيش. كما يقول القائل : فلان مغمور فى النعيم والنعمة من قرنه إلى قدمه. والتأويل الآخر لأكلوا من فوقهم ، أي من ثمار الشجر التي تفوت بسطة اليد ، ومن تحت أرجلهم ، أي من نبات الأرض الذي يباشر موطىء القدم. وقيل المراد بذلك ما يكون عن مساقط الغيث من إخصاب منابت الأرض.
فهذا كقوله تعالى لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «2».
[سورة المائدة (5) : آية 89]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
و قوله تعالى : وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [89]. على قراءة من قرأ عقدتم ، وعقدّتم بالتخفيف والتشديد ، دون من قرأ عاقدتم. فهذه استعارة. والمراد بها تأكيد الأيمان حتى تكون بمنزلة العقد المؤكد والحبل المحصد. أو يكون المراد أنكم عقدتموها على شىء خلافا لليمين اللغو التي ليست معقودة على شىء ، لأن الفقهاء يسمون اليمين التي على المستقبل يمينا معقودة ، فهى التي يتأتى فيها البر والحنث ، وتجب فيها الكفارة. واليمين على الماضي عندهم ضربان : لغو ، وغموس. فاللغو كقول القائل :
__________
(1) هنا ألفاظ مطموسة. [.....]
(2) سورة الأعراف. الآية رقم 96.
(2/133)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 135
و اللّه ما فعلت كذا. فى شىء يظن أنه لم يفعله ، وو اللّه لقد فعلت كذا. فى شىء يظن أنه قد فعله «1».
فهو اليمين على الماضي إذا وقعت كذبا. نحو قول القائل : واللّه ما فعلت. وهو يعلم أنه قد فعل. وو اللّه لقد فعلت. وهو يعلم أنه لم يفعل. فهذه اليمين كفارتها التوبة والاستغفار لا غير.
[سورة المائدة (5) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)
وقوله تعالى : لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ [94] وهذه استعارة. لأن الفارس هو الذي ينال القنيص برمحه. ولكن الرمح لما كان مباشرا حسن لهذه الحال أن يسمى نائلا.
[سورة المائدة (5) : آية 108]
ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)
و قوله تعالى : ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها [108]. وهذه استعارة. لأن الشهادة لا وجه لها. وإنما المراد أن يأتوا بالشهادة على جليتها وحقيقتها.
وخبر تعالى عن ذلك بالوجه لأن به تعرف حقيقة الجملة ، ويفهم كنه الصورة ، كما قلنا فيما تقدم. وهذه من الاستعارات البديعة.
[سورة المائدة (5) : آية 116]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116)
وقوله تعالى حاكيا عن المسيح عليه السلام : تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ، وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [116]. وهذه استعارة. لأن القديم سبحانه لا نفس له. والمراد : تعلم ما عندى ولا أعلم ما عندك ، وتعلم حقيقتى ولا أعلم حقيقتك ، أو تعلم مغيبى ولا «2» أعلم مغيبك. فكأن فحوى ذلك : تعلم ما أعلم ، ولا أعلم ما تعلم. وقد استوفينا الكلام على ذلك فى (حقائق التأويل). __________
(1) هنا سطر مطموس
(2) فى الأصل «لا أعلم» بدون واو.
(2/134)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 136
ومن السورة التي يذكر فيها الأنعام
[سورة الأنعام (6) : الآيات 45 الى 46]
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
قوله تعالى «1» : فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [45] وهذه استعارة. لأن الأصل فى هذه اللفظة : دابرة الفرس ، وجمعها دوابر ، وهى ما يلى حافره من خلفه. ودابرة الطائر : هى الشاخصة التي خلف رجله ، وتدعى الصّيصيّة «2» أيضا.
فالمراد بقوله سبحانه : فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا [45] واللّه أعلم : أي قطعت عنهم الأمداد اللاحقة بهم من خلفهم ، والتالون لهم فى غيهم وضلالهم. أو قطع خلفهم.
من نسلهم ، فلم تثبت لهم ذرية ، ولم يبق لهم بقية.
وقوله سبحانه : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ [46] وهذه استعارة. والمراد بالأخذ هاهنا إبطال حواسهم. وإذا بطلت فكأنها قد أخذت منهم ، وغيّبت عنهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 59]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)
وقوله تعالى : وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [59] وهذه استعارة. والمراد : وعنده الوصلة إلى علم الغيب ، فإذا شاء فتحه لأنبيائه وملائكته «3» ، وإن شاء أغلق عنهم علمه. ومنعهم فهمه. وعبر تعالى عن ذلك بالمفاتح ، وهى أحسن عبارة ، وأوقع استعارة. لأن كل ما يتوصل به إلى فتح المبهم ، وبيان المستعجم سمّى بذلك. ألا ترى إلى قول الرجل لصاحبه إذا أشكل عليه أمر أو اختلّ له حفظ : افتح علىّ. أي :
بيّن لى وفهّمنى ما عزب عنى.
__________
(1) هنا ورقة ضائعة من الأصل من أول سورة الأنعام إلى الآية رقم 45.
(2) الصيصية والصيصة : شوكة الحائك ، وشوكة الديك أو الطائر. والجمع صياص.
(3) فى الأصل «و مليكته» وهى طريقة الناسخ فى الإملاء.
(2/135)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 137
[سورة الأنعام (6) : آية 68]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
وقوله تعالى : وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [68] فهذه استعارة. والمراد بها إثارة أحاديث الآيات ليستشفّوا بواطنها ، ويعلموا حقائقها ، كالخابط فى غمرة الماء ، لأنه يثير قعرها ، ويسبر غمرها. وقد مضى الكلام على نظير ذلك فى (النساء).
[سورة الأنعام (6) : آية 80]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80)
وقوله سبحانه : وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [80] وهذه استعارة. لأن صفة الشيء بأنه يسع غيره. لا يطلق إلا على الأجسام التي فيها الضيق والاتساع ، والحدود والأقطار. تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا. فالمراد أن علمه سبحانه يحيط بكل شىء ، فلا تخفى عليه خافية ، ولا تدق عنه غامضة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 92 الى 96]
وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
وقوله سبحانه : وَلِتُنْذِرَ «1» أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [92] وهذه استعارة. والمراد بأم القرى مكة ، وإنما سماها سبحانه بذلك ، لأنها كالأصل للقرى ، فكل قرية فإنما هى طارئة عليها ، ومضافة إليها. وقد روى فى تقدم اختطاطها ما لا يحتمل كتابنا هذا ذكره.
و قوله تعالى : وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ [93] وهذه استعارة عجيبة. لأنه سبحانه شبه الذين يعتورهم كرب الموت وغصصه بالذين تتقاذفهم غمرات الماء ولججه. وقد سميت الكربة غمرة لأنها تغمر قلب الإنسان ، آخذة «2» بكظمه ، وخاتمة «3».
على متنفسه. والأصل فى جميع ذلك غمرة الماء.
وقوله تعالى : لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [94] على قراءة من قرأ برفع النون من بينكم. وهذه استعارة. لأنه لا فصائل «4» هناك على الحقيقة فتوصف بالتقطّع ، وإنما المراد :
__________
(1) بالأصل «لتنذر» بغير واو. والصواب ما أثبتناه من نص الآية الكريمة.
(2 - 3) فى الأصل «آخذه» و«خاتمه» بدون نقط على التاء المربوطة ولعلها : «و جاثمة»
(4) فى الأصل «لا فضايل» بالضاد المعجمة. وليس المقام مقام فضائل ورذائل وإنما هو مقام فصائل ووصائل.
(2/136)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 138
لقد زال ما كان بينكم من شبكة المودة وعلاقة الألفة ، التي تشبّه لاستحكامها بالحبال المحصدة ، والقرائن المؤكدة.
وقوله تعالى : يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ [95] فهذه استعارة على بعض الأقوال ، وهو أن يكون معناها أنه سبحانه يشق الحبة الميتة ، والنواة اليابسة ، فيخرج منها ورقا خضرا «1» ، ونباتا ناضرا ، ويخرج الحبّ اليابس الذاوي «2» من النبت الحي النامي. وقال بعضهم : يخرج الإنسان الحي من النطفة وهى موات ، ويخرج النطفة الموات من الإنسان الحي. واللّه أعلم بالصواب.
وقوله سبحانه : فالق الإصباح وجاعل «3» اللّيل سكنا [96] وهذه استعارة.
و المعنى : شاقّ الصبح ومستخرجه من غسق الليل. وقوله سبحانه : فالِقُ الْإِصْباحِ أبلغ من قوله شاقّ الإصباح ، إذ كانت قوة الانفلاق أشد من قوة الانشقاق. ألا تراهم يقولون : انشقّ الظفر ، وانفلق الحجر ؟ وقوله تعالى وجاعل اللّيل سكنا استعارة أخرى. ومعناها على أحد القولين أنه سبحانه جعل الليل بمنزلة الشيء المحبوب الذي تسكن إليه النفوس وتحبّه «4» القلوب. يقال : فلان سكن فلان. على هذا المعنى. والتأويل الآخر يخرج الكلام عن معنى الاستعارة. وهو أن يكون المراد أنه تعالى جعل الليل مظنة لانقطاع الأعمال ، والسكون بعد الحركات.
__________
(1) الورق الخضر هو الأخضر. ووزنها مثل فرح.
(2) فى الأصل الداوي بالدال المهملة. والصواب إعجامها.
(3) هكذا بالأصل على قراءة رويس عن يعقوب. وهى قراءة أهل المدينة. أما قراءتنا نحن «وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً» فهى قراءة الحسن وعيسى بن عمر وحمزة والكسائي.
(4) فى الأصل «و تحبقه». والقاف زيادة من الناسخ حرف بها الكلم عن موضعه ...
(2/137)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 139
[سورة الأنعام (6) : آية 100]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
وقوله سبحانه : وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [100] فى قراءة من قرأ : وخرقوا بالتخفيف ، وفى قراءة من قرأ خرّقوا بالتثقيل. فهذه استعارة. والمراد أنهم دعوا له سبحانه بنين وبنات بغير علم ، وذلك مأخوذ من «الخرق» وهى الأرض الواسعة ، وجمعها خروق ، لأن الريح تتخرق فيها ، أي تتسع. والخرق من الرجال : الكثير العطاء ، فكأنه يتخرق. والخرقة : جماعة الجراد مثل الحرقة ، والخريق : الريح الشديد الهبوب.
فكأن معنى قوله تعالى : وَخَرَقُوا لَهُ أي اتّسعوا فى دعوى البنين والبنات له ، وهم كاذبون فى ذلك. ومن قرأ وخرّقوا «1» فإنما أراد تكثير الفعل من هذا الجنس.
والاختراق ، والاختلاق ، والاختراع ، والانتسال بمعنى واحد ، وهو الادعاء للشىء على طريق الكذب والزور.
[سورة الأنعام (6) : آية 112]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112)
وقوله سبحانه : يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [112] وهذه استعارة. لأن الزخرف فى لغة العرب : الزينة. ومن ذلك قولهم : دار مزخرفة أي مزيّنة.
فكأنه تعالى قال : يزينون لهم القول ليغتروا به ، وينخدعوا بظاهره ، كما يستغرّ بظاهر جميل ، على باطن مدخول.
[سورة الأنعام (6) : آية 110]
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
وقوله تعالى : وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [110] وهذه استعارة. لأن تقليب القلوب والأبصار على الحقيقة وإزالتها عن مواضعها ، وإقلاقها عن مناصبها لا يصح والبنية صحيحة والجملة حيّة متصرفة. وإنما المراد - واللّه أعلم - أنا نرميها بالحيرة والمخافة ، جزاء على الكفر والضلالة. فتكون الأفئدة مسترجعة لتعاظم أسباب المخاوف ، وتكون الأبصار منزعجة لتوقع طلوع المكاره. وقد
__________
(1) وقرىء : «و حرفوا» بالحاء المهملة والفاء. أي زوروا. انظر «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» طبع دار الكتب العربية الكبرى ، ج 2 ص 201. [.....]
(2/138)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 140
قيل إن «1» المراد بذلك تقليبها على قراميص «2» الجمر فى نار جهنم ، وذلك يخرج الكلام عن حيز الاستعارة إلى حيز الحقيقة.
[سورة الأنعام (6) : آية 113]
وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
وقوله تعالى : وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [113].
وهذه استعارة. والمعنى : ولتميل إليه أفئدة هؤلاء المذكورين. ويقال : صغى فلان إلى فلان. أي مال إليه. وصغوه معه : أي ميله. ومنه أصغى بسمعه إلى الكلام. إذا أماله إلى جهته ، ليقرب من استماعه. وميل القلب إلى المعتقدات ، كميل السمع إلى المسموعات.
[سورة الأنعام (6) : آية 127]
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127)
وقوله تعالى : لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ [127]. وهى استعارة. والمراد : لهم محل الأمنة والسلامة والمنجاة من المخافة. وتلك صفة الجنة. والسلام هاهنا : جمع سلامة «3».
[سورة الأنعام (6) : آية 130]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130)
وقوله تعالى : الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
[130] وهذه استعارة. لأنهم لما اغتروا بالحياة الدنيا حسن أن يقال إنها غرتهم. ولما كان فيها ما تميل إليه شهواتهم جاز أن يقال : إنها استمالت شهواتهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 153]
وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
وقوله تعالى : وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [153] وهى استعارة.
والسبل التي هى الطرق لا تتفرق بهم ، وإنما هم الذين يفارقون نهجها «4» ، ويتبعون عوجها.
__________
(1) كتب الناسخ «أن» بوضع همزة فوقها فتحة ، وعجيب أن يكون ذلك بعد مادة القول.
(2) القراميص : جمع قرماص وهو فى الأصل الحفرة الواسعة الجوف الضيقة الرأس يستدفىء فيها الصرد ، أو هى موضع خبز الملة.
(3) ويصح أن يكون السلام اسما من اسم اللّه تعالى. فتكون دار السلام دار اللّه. كما يقال للكعبة بيت اللّه.
(4) فى الأصل «بهجتها» وهو تحريف من الناسخ. ولعل الصواب نهجها ، أو محجتها.
(2/139)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 141
[سورة الأنعام (6) : آية 164]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
وقوله سبحانه : وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [164] فهذه استعارة. والمعنى : ولا تحمل حاملة حمل أخرى. يريد تعالى فى يوم القيامة. أي لا يخفف أحد عن أحد ثقلا ، ولا يشاطره حملا. لأن كل إنسان فى ذلك اليوم مشغول بنفسه ، ومقروح «1» بحمله. وليس أن هناك على الحقيقة أحمالا على الظهور ، وإنما هى أثقال الآثام والذنوب.
ونظير ذلك قوله تعالى : وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً «2».
__________
(1) هكذا بالأصل ، ولعلها «مفدوح» لأن الحمل الفادح هو الذي يثقل صاحبه فيعيا به فهو مفدوح.
يقال : فدحه الأمر.
(2) سورة البقرة الآية رقم 48 ، والآية رقم 123 وهما من المتشابه.
(2/140)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 142
ومن السورة التي يذكر فيها «الأعراف»
[سورة الأعراف (7) : آية 9]
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)
قوله : وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ [7]. فهذه استعارة. لأن الخسران فى التعارف إنما هو النقص فى أثمان المبيعات. وذلك يخص الأموال لا النفوس. إلا أنه سبحانه لما جاء بذكر الموازين وثقلها وخفتها جاء بذكر الخسران بعدها ، ليكون الكلام متفقا ، وقصص الحال متطابقا.
فكأنه سبحانه جعل نفوسهم لهم بمنزلة العروض المملوكة ، إذ كانوا يوصفون بأنهم يملكون نفوسهم ، كما يوصفون بأنهم يملكون أموالهم.
وذكر خسرانهم لها لأنهم عرّضوها للخسار ، وأوجبوا لها عذاب النار. فصارت فى حكم العروض المتلفات ، وتجاوزوا حد الخسران فى الأثمان ، إلى حد الخسران فى الأعيان.
[سورة الأعراف (7) : آية 16]
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
وقوله سبحانه حاكيا عن إبليس : قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [16] وهذه استعارة. والصراط هاهنا كناية عن الدين ، جعله اللّه سبحانه طريقا للنجاة والمفاز «1» ، فى دارى القرار والمجاز ، وإنما قال صراطك. لما كان الدين كالطريق المؤدية إلى رضا اللّه سبحانه ومثوبته «2». الموصلة إلى نعيمه وجنته. فكان إبليس - لعنه اللّه - إنما يوعد بالقعود على طريق الدين ليضل عنه كل قاصد ، ويردّ عنه كل
__________
(1) فى الأصل «و المفار» بالراء المهملة. وهو تحريف من الناسخ.
(2) فى الأصل «و مصوبته» ولا معنى لها هنا لأن المصوبة معناها المصيبة وضعف العقل وليس هذا جزاء رضا اللّه سبحانه وتعالى.
(2/141)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 143
وارد ، بمكره وخدائعه ، وتلبيسه «1» ووساوسه. تشبيها بالقاعد على مدرجة بعض السبل ، ليخوف «2» السالكين منها ، ويعدل بالقاصدين عنها. والمراد : لأقعدن لهم على صراطك المستقيم ، فلما حذف الجارّ انتصب الصراط.
والحذف هاهنا أبلغ فى الفصاحة ، وأعرق فى أصول العربية. ونظيره قول الشاعر «3» :
كما عسل الطريق الثعلب أي عسل فى الطريق.
وكل ما فى القرآن من ذكر سبيل اللّه سبحانه ، فالمراد به الطريق المفضية إلى طاعته عاجلا ، وإلى جنته آجلا.
[سورة الأعراف (7) : آية 22]
فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
وقوله سبحانه : فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ [22]. وهذه استعارة. والمراد أنه أوقعهما فى أهوائه بغروره لهما. وكل واقع فى مثل ذلك فإنه نازل من علو إلى استفال ، ومن كرامة إلى إذلال. فلذلك قال تعالى : فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ. وقد استقصينا الكلام على ذلك فى كتابنا الكبير ، عند القول فيما اختلف العلماء فيه من ذنوب الأنبياء عليهم السلام.
[سورة الأعراف (7) : آية 26]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
وقوله تعالى : يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ، ذلِكَ خَيْرٌ [26]
__________
(1) فى الأصل «و تلبيته» ولا معنى لها. والصواب ما أثبتناه ، لأن تلبيس إبليس هو ما يدلس به على الناس ليضلهم عن سبيل اللّه.
(2) فى الأصل «لتخوف» وهو تحريف ، لأن القاعد هو الذي يخوف السالكين.
(3) هو الشاعر ساعدة بن جؤية يصف رمحا. والبيت كاملا هو :
لدن بهز الكف يعسل متنه فيه ، كما عسل الطريق الثعلب انظر ابن هشام فى «أوضح المسالك» ج 2 ص 16.
(2/142)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 144
و قد قرئ : ورياشا «1». وهما جميعا استعارة هاهنا «2». لأن المراد بهما اللباس. وسمى اللباس ريشا ورياشا تشبيها بريش الطائر الذي يستر جملته. ومن كلام العرب : أعطيته رجلا بريشه. أي بكسوته.
وقال المفسرون : معنى لباس التقوى ما كان من الملابس يستر العورة ، لأن ستر العورة من أسباب التقوى. وقرئ : ولباس التّقوى. نصبا بأنزلنا عليكم. والرفع فيه على معنى الابتداء. ويكون خير خبرا له. فيكون المعنى : ولباس التقوى المشار إليه خير.
وهذا أسدّ القولين فى هذا المعنى.
[سورة الأعراف (7) : آية 29]
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
وقوله تعالى : وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [29] وهذه استعارة.
لأن الوجه لا يصح عليه القيام. والمعنى : فوجّهوا وجوهكم عند كل مسجد. ويجوز أن يكون معنى ذلك : فتوجّهوا بجملتكم نحو كل مسجد. لأن وجه الشيء عبارة عن جملته.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 40 الى 41]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
وقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ [40] وهذه استعارة. والمراد لا يصلون إلى الجنة ولا يتسهل لهم السبيل إليها ، ولا يستحقون بأعمالهم للدخول إليها. ومثل ذلك قوله سبحانه : فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ «3» أي سهّلنا خروجه من السماء إلى الأرض ، ورفعنا الحواجز بينه وبين الخلق.
وقوله تعالى : لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [41] وهذه استعارة.
وقد مضى فى (آل عمران) إلا «4» أن الزيادة هاهنا قوله سبحانه : وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ
__________
(1) قرأ ذلك الحسن وعاصم من رواية المفضل الضبي ، كما قرأه أبو عمرو من رواية الحسين بن على الجعفي
(2) الاستعارة فى قوله تعالى «قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً» لا تتضح إلا إذا كان اللباس هو المطر الذي به ينبت القطن والكتان. أي أنزلنا عليكم مطرا ينتج القطن والنبات الذي تتخذون منه ملابسكم - انظر القرطبي ج 7 ص 184.
(3) سورة القمر. الآية رقم 11. [.....]
(4) فى الأصل «لأن الزيادة» وهو تحريف من الناسخ وصوابه «إلا أن ..» كما أثبتناه.
(2/143)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 145
فكأنه جعل لهم من النار أمهدة مفترشة «1» وأغشية مشتملة ، فيكون استظلالهم بحرها ، كاستقرارهم على جمرها. نعوذ باللّه من ذلك.
[سورة الأعراف (7) : آية 43]
وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
وقوله سبحانه : وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [43]. وهذه استعارة. لأنه ليس هناك شىء يتأتى «2» نزعه على الحقيقة. والمعنى : أزلنا ما فى صدورهم من الغل بإنسائهم إياه ، وبإحداث «3» أبدال له تشغل أماكنه من قلوبهم ، وتشفع مواقعه من صدورهم. وقال بعض المفسرين : معنى ذلك : أهل الجنة لا يحسد بعضهم بعضا على علو المنزلة فيها ، والبلوغ إلى مشارف رتبها. والحسد : الغل.
وقوله تعالى : وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [43] وهذه استعارة خفية. وقد تكون استعارة خفية ، واستعارة جلية. وذلك أن حقيقة الميراث فى الشرعهو ما انتقل إلى الإنسان من ملك الغير بعد موته على جهة الاستحقاق.
فأما صفة اللّه تعالى بأنه الوارث لخلقه كقوله : وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ «4» وكقوله :
وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «5» فهو مجاز. والمراد : أنه الباقي بعد فناء خلقه ، وتقوّض سمائه وأرضه.
وقد استعمل ذلك أيضا فى نزول قوم ديار قوم بعدهم ، وأخذ قوم أموال قوم بعد إجلائهم وحربهم «6». فقال سبحانه فى هذه السورة : وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [137]. وقال تعالى فى
__________
(1) فى الأصل «مفوننه» وهو تحريف.
(2) فى الأصل «يثانى» وهو تحريف.
(3) فى الأصل «و بأحداب» وهو تحريف.
(4) سورة القصص. الآية رقم 58.
(5) سورة آل عمران. الآية رقم 180 وسورة الحديد. الآية رقم 10.
(6) فى الأصل «و حرمبم» وهو تحريف صوابه ما أثبتناه ، مما يجزم به السياق.
(2/144)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 146
موضع آخر : وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها «1» وليس يصح فى إيراث الجنة مثل هذه المعاني التي ذكرناها ، لأن الجنة لا يسكنها قوم بعد قوم قد فارقوها وانتقلوا عنها. فقوله سبحانه : أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها على الأصل الذي قدّمناه استعارة. ويكون المعنى الذي يسوغ هذه الاستعارة أن هؤلاء المؤمنين لما عملوا فى الدار الدنيا أعمالا استحقوا عليها الجزاء والثواب ، ولم يصحّ أن يوفر عليهم ذلك إلا فى الجنة ، وهى من الدار الآخرة ، فكأنهم استحقوا دخولها. فحسن من هذا الوجه أن يوصفوا بأنهم أورثوها ، وإن لم يكن سكناهم لها بعد سكنى قوم آخرين انتقلوا عنها. وسوّغ ذلك أيضا اختلاف حال الدارين ، وانتقالهم من الأولى إلى الآخرة.
فكأنّ ما عملوه فى الدار الأولى كان سببا لما وصلوا إليه فى الدار الآخرة ، كما يستحقّ الميراث بالسبب.
[سورة الأعراف (7) : آية 45]
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45)
وقوله تعالى : الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً [45] وهذه استعارة ، فإن «2» سبيل اللّه سبحانه : دينه. ومعنى ويبغونها عوجا أي يبتغون عنها المتحاول ، ويطلبون منها الفسح والمخارج ، ويوهمون بالشبهات أنها معوجة غير قويمة ، ومضطربة غير مستقيمة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 53 الى 54]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)
وقوله تعالى : خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ [53] وقد مضى نظير ذلك فى أول السورة.
وقوله سبحانه : يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ [54] «3».
__________
(1) سورة الأحزاب. الآية رقم 27.
(2) فى الأصل «بأن» وهو تحريف.
(3) هنا قطعة ناقصة من الأصل تبلغ قدر ست ورقات من الآية رقم 53 من الأعراف إلى الآية رقم 64 من سورة التوبة.
(2/145)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 147
ومن السورة التي يذكر فيها التوبة
«1» على الحقيقة هى التقارب بالحدود مثل المسامتة ، وهى المماثلة فى السمت الذي هو الجهة ، وذلك من صفات الأجسام ، وذوات الحدود والأقطار. فالمراد إذن بالمحادّة هاهنا كون الإنسان فى غير الحد الذي فيه أولياء اللّه سبحانه. فكأنهم فى حد ، وأولياء اللّه سبحانه فى حد. وكذلك الكلام فى مشاقّة اللّه تعالى على أحد التأويلين ، وهو أن يكون الإنسان فى شق أعداء اللّه وحربه ، لا فى شق أوليائه وحزبه.
وحقيقة الكلام أن يكون المراد به محادّة أولياء اللّه على الصفة التي ذكرناها فقال تعالى :
يُحادِدِ اللَّهَ كما قال : إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «2» أي يؤذون أولياء اللّه ورسوله ، لأن الأذى لا يجوز على من لا تلحقه المنافع والمضار ، والمساءات والمسارّ.
[سورة التوبة (9) : آية 64]
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64)
وقوله سبحانه : يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [64] وهذه استعارة. لأن السورة نطقها من جهة البرهان لا من جهة اللسان.
فكأنه سبحانه أراد أنّ الناس يعلمون بهذه السورة النازلة فى المنافقين بواطن نفوسهم ، وعقائد قلوبهم.
__________
(1) هنا بداية القسم الموجود من سورة التوبة ، أما ما قبل ذلك فمفقود مع آخر قسم من سورة الأعراف.
(2) سورة الأحزاب ، الآية رقم 57.
(2/146)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 148
[سورة التوبة (9) : آية 87]
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87)
[و قوله سبحانه «1»] : رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ [87]. [الخوالف النساء «2»] المقيمات فى دار الحي بعد رحيل الرجال. وإنما سمى النساء خوالف تشبيها لهن بالخوالف ، التي واحدتهن خالفة ، وهى الأعمدة تكون فى أواخر بيوت الحي المضروبة.
فشبّههنّ - لكثرة لزوم البيوت - بالخوالف التي تكون فى البيوت.
وقد قيل إن الخوالف أيضا زوايا البيوت ، واحدتها خالفة. والمعنى واحد. وقد يجوز أن يكون المراد بقوله تعالى : رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ حقيقة الخوالف التي هى أعمدة البيوت. أي رضوا بأن يكونوا فى بيوتهم ، فيكونوا - بالملازمة لها - كخوالفها وأعمدتها.
و قد يجوز أيضا أن يكون الخوالف هاهنا جمع فرقة خالفة. وهى الجماعة التي تقعد عن الغزو ، كالشيوخ ، والنساء ، وذوى العاهات ، والولدان. ومما يقوى ذلك قوله تعالى أمام هذا الكلام : فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ [83].
وكنت سمعت شيخنا أبا الفتح عثمان بن جنى «3» النحوي - رحمه اللّه - يقول ذلك ، ويذهب إلى مثله أيضا فى قوله سبحانه : وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ «4».
ويقول : هى جمع فرقة كافرة. إلا أن الكلام يكون على القول الأول استعارة. ويكون على هذا القول حقيقة.
__________
(1) هذه زيادة ليست بالأصل يقتضيها السياق.
(2) هذا السطر ممحو ، وقد استظهرناه من السياق الذي يفسر الخوالف بالنساء المقيمات فى دار الحي. [.....]
(3) أبو الفتح عثمان بن جنى إمام من أئمة النحو. وقد اشتهر بشرحه لديوان المتنبي ، وبكتابه «الخصائص» فى اللغة وهو مشهور. وكان المتنبي يقول : ابن جنى أعرف بشعرى منى ، وقد كان ابن جنى أستاذا للشريف الرضى ، ونقل هذا عنه كثيرا فى كتابه «المجازات النبوية». توفى سنة 392 ه.
(4) سورة الممتحنة آية رقم 10.
(2/147)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 149
[سورة التوبة (9) : آية 98]
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
و قوله سبحانه : وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ ، عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [98]. وهد استعارة ....... «1» عليهم أيام السوء ، لأن الأيام والشهور قد تسمى دوائر ، على طريق الاستعارة. فليس لأنها ترجع بأعيانها ، وإنما تعود أشباهها وأمثالها ، فشهر كشهر ، ويوم كيوم ، وساعة كساعة ، وسنة كسنة. يقال دارت السنون ، ودارت الشهور على هذا المعنى. إلا أن هذه اللفظة ، أعنى الدائرة والدوائر ، قد اختص ذكرها بالمواضع المكروهة. فيقال : دارت عليهم الدوائر ، إذا أهلكتهم الأيام ، وأفنتهم الأعوام.
ويقال : دارت لهم الدنيا. إذا وصفوا بمواتاة الإقبال ، وانتظام الأحوال. فكأنّ التمييز فى الخير أو الشر إنما يقع بقولنا : دارت لهم ، ودارت عليهم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 109 الى 111]
أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
وقوله سبحانه : أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ ، فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ [109] وهذه استعارة.
و المراد بها ذكر ما بناه المنافقون من مسجد الضرار «2» ، بعد ما بنى المؤمنون من المسجد المعروف بمسجد قباء «3». لأن المؤمنين وضعوا هذا البناء ، وهم مؤمنون متقون ، عارفون موقنون ، فكأنهم وضعوه على قواعد من الإيمان ، وأساس من الرضوان. والمنافقون إنما وضعوا ذلك البناء كيدا للمؤمنين ، وإرصادا للمسلمين. فكأنهم وضعوه على شفا
__________
(1) هنا سطران ممحوان محوا تاما.
(2) مسجد الضرار ، هو المسجد الذي بناه المنافقون بقباء لإضرار المسلمين وتفريق كلمتهم ، وقد سألوا النبي عند رجوعه من تبوك أن يأتى مسجدهم هذا ليصلى فيه ، فأنزل اللّه فيه قوله تعالى : الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً. وقد أمر النبي عليه السلام بهدم هذا المسجد الظالم أهله ، فحرق وهدم واتخذ موضعه مكانا للقمامة.
(3) مسجد قباء هو المسجد الذي أسسه النبي على التقوى من أول يوم نزل فيه قباء ، وهى بلدة على بعد ميلين من جنوب المدينة.
(2/148)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 150
جرف هار متقوض ، وأساس واه منتقض ، فكأنما انهار بهم فى نار جهنم ، أي أسقطهم ذلك الفعل فى عذاب النار ، ودائم العقاب. وهذه من أحسن الاستعارات.
و قوله تعالى : لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ [110] فهذه استعارة. ومعناها أن ذكر البنيان الذي بنوه لا يزال ريبة فى قلوبهم ، يخافون معها إنزال اللّه بهم ضروب العقاب ، أو بسط المؤمنين عليهم لما ظاهروهم من العناد والشقاق. فهم أبدا بنفوسهم مستريبون ، وعليها خائفون مشفقون. فلا يزالون على ذلك إلا أن تقطع قلوبهم حسرة ، وتزهق نفوسهم خيفة.
وقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [111] وهذه استعارة. وذلك أنه سبحانه لما أمرهم ببذل نفوسهم وأموالهم فى الجهاد عن دينه ، والمنافحة عن رسوله عليه السلام ، وضمن لهم على ذلك الخلود فى النعيم ، والأمان من الجحيم ، كانت نفوسهم وأموالهم بمنزلة العروض المبيعة ، وكانت الأعواض المضمونة عنها بمنزلة الأثمان المنقودة ، وكانت الصفقة رابحة لزيادة الأثمان على السلع ، وإضعاف الأعواض على القيم.
وجملة هذا الباب أن العبادات كلّها كالتجارات ، فى أنها طلب للمنافع. فالعبادات «1» طلب لمنافع الآخرة ، والتجارات طلب لمنافع الدنيا.
[سورة التوبة (9) : الآيات 117 الى 118]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
و قوله تعالى : مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ [117] وهذه استعارة.
لأن حقيقة الزّيغ الاعوجاج والميل. والمراد : من بعد ما كادت قلوبهم تزول من عظم الخيفة ،
__________
(1) فى الأصل «بالعبادات» وهو تحريف من الناسخ
(2/149)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 151
و تقنط من نزول الرحمة ، فتكون بذلك كالشىء الزائغ بعد الاستقامة ، والمستمال بعد الثبات والرصانة.
ومن الدليل على ذلك قوله تعالى بعد هذه الآية : حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ [118] فهذه أيضا استعارة. لأن النفس بالحقيقة لا توصف بالضّيق والاتساع ، وإنما المراد بذلك المراد بالقول الأول من أنه عبارة عن انضغاط القلوب بشدة الكرب ، وبلوغها منقطع الصبر.
[سورة التوبة (9) : آية 120]
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
و قوله : سبحانه : ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [120] وهذه استعارة. والمراد بها أنهم لا ينبغى لهم أن يكرموا أنفسهم عما يبذل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فيه نفسه ، ولا يحفظوا مهجهم فى المواطن التي تحضر فيها مهجته ، اقتداء به ، واتباعا لأثره. وهذه لفظة يستعملها أهل اللسان كثيرا ، فيقولون : رغبت بنفسي عن الضيم ، وأرغب بك يا فلان عن القتل ، أي أضنّ بنفسي عن أن تذل ، وأنفس بمثلك عن أن يقتل.
فالظاهر يدل على أنهم رضوا بنفوسهم عن نفس النبي صلّى اللّه عليه وسلم. والمراد :
وما كان لهم أن يرغبوا بالنفوس. عن .... «1» التي ينزلها نفسه ويعرض فيها مهجته.
[سورة التوبة (9) : الآيات 124 الى 125]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125)
وقوله سبحانه : وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ، وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ [124] ، [125] وهذه
__________
(1) بياض بالأصل. ويصح أن توضع هنا كلمة المواطن ، أو المواضع ، أو المنازل ، أو ما إليها من هذا الباب.
(2/150)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 152
استعارة ظاهرة. وذلك أن السّورة لا تزيد الأرجاس «1» رجسا ، ولا القلوب مرضا ، بل هى شفاء للصدور ، وجلاء للقلوب. ولكن المنافقين لما ازدادوا عند نزولها عمى وعمها وازدادت قلوبهم ارتيابا ومرضا ، حسن أن يضاف ذلك إلى السورة ، على طريق لأهل اللسان معروفة.
وقد استقصينا الكلام على ذلك فى عدة مواضع من كتابنا الكبير. فمن أراد بلوغ أقاصى هذه الطريقة ، والضرب فى أقطارها والتفسح فى أعطانها ، فليتتبع مواضعها من ذلك الكتاب بمشيئة اللّه.
[سورة التوبة (9) : آية 128]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128)
وقوله تعالى : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ [128] وهذه استعارة. والمراد بأنفسكم هاهنا - واللّه أعلم - أي من جنس أنفسكم وخلقكم ، لتكونوا إليه أسكن ، وإلى القبول منه أقرب. ويجوز أن يكون من أنفسكم أي من قبيلكم وعشيرتكم ، كما يقول القائل : فلان من أنفس بنى فلان. أي من صميم أنسابهم ، وليس من وسائطهم وملاصقهم.
وقد يجوز أن يكون المراد برسول من أنفسكم ، أي من أشقائكم وأعزّائكم ، كما يقول القائل لذى ودّه والقريب من قلبه : أنت من نفسى ، وأنت من قلبى. أي أنت شقيق النفس ، وقسيم القلب.
ومما يقوّى ذلك قوله سبحانه : عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [128] أي بحبّه لكم ، وميله إليكم ، يعزّ عليه أن تعنتوا وتعاندوا فتحرموا الثواب ، وتستحقوا «2» العقاب ، فهو حريص على إيمانكم رأفة بكم وإشفاقا عليكم.
__________
(1) فى الأصل «لا تزيد الأرجاس إلا رجسا» وإلا زائدة من الناسخ بها ينقلب المعنى إلى الضد.
والصواب حذفها كما أثبتناه.
(2) فى الأصل «و يستحقوا» بضمير الغائبين والصواب «و تستحقوا» بضمير المخاطبين كما أثبتناه
(2/151)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 153
ومن السورة التي يذكر فيها «يونس» عليه السلام
[سورة يونس (10) : الآيات 2 الى 3]
أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3)
قوله سبحانه وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [2] وهذه استعارة. لأن المراد بالقدم هاهنا : السابقة فى الإيمان ، والتقدم فى الإخلاص.
والعبارة عن ذلك بلفظ القدم غاية فى البلاغة ، لأن بالقدم يكون السبق والتقدم.
فسمّيت قدما لذلك. وإن كان التأخر أيضا يكون بها «1» ، كما يكون التقدم بخطوها ، فإنما سميت بأشرف حالاتها وأنبه متصرفاتها. وقال بعضهم : إيمانهم فى الدنيا هو قدمهم فى الآخرة. لأن معنى القدم فى العربية : الشيء تقدمه أمامك ليكون عدّة لك ، حتى تقدم عليه.
وقال بعضهم : ذكر القدم هاهنا على طريق التمثيل والتشبيه ، كما تقول العرب :
قد وضع فلان رجله فى الباطل ، وتخطى «2» إلى غير الواجب. ومعناه أنه انتقل إلى فعل ذلك ، كما ينتقل الماشي ، وإن لم يحرك قدمه ، ولم ينقل خطاه.
وقوله سبحانه : ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [3] وهذه استعارة. لأن حقيقة الاستواء إنما يوصف بها الأجسام التي تعلو البساط وتميل وتعتدل. والمراد بالاستواء هاهنا :
__________
(1) فى الأصل «بهما» بضمير المثنى. وهو تحريف من الناسخ. والصواب «بها» بضمير المفردة العائد على القدم.
(2) فى الأصل هكذا «و تحطا» بدون إعجام وبرسم الفعل بألف بدل الياء.
(2/152)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 154
الاستيلاء بالقدرة والسلطان ، لا بحلول القرار والمكان. كما يقال :
استوى «1» فلان الملك على سرير ملكه. بمعنى استولى على تدبير الملك ، وملك مقعد الأمر والنهى. وحسن صفته بذلك وإن لم يكن له فى الحقيقة سرير يقعد عليه ، ولا مكان عال يشار إليه. وإنما المراد نفاذ أمره فى مملكته ، واستيلاء سلطانه على رعيته.
فإن قيل : فاللّه سبحانه مستول على كل شىء بقهره وغلبته ، ونفاذ أمره وقدرته ، فما معنى اختصاص العرش بالذكر هاهنا ؟ قيل - كما ثبت - أنه تعالى رب لكل شىء. وقد قال فى صفة نفسه ، رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ «2» فإن قيل : فما معنى قولنا عرش اللّه ، إن لم يرد بذلك كونه عليه ؟ قيل كما يقال : بيت اللّه وإن لم يكن فيه ، والعرش فى السماء تطوف به الملائكة تعبدا ، كما أن البيت فى الأرض تطوف به الخلائق تعبدا.
[سورة يونس (10) : آية 10]
دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10)
وقوله سبحانه : وَتَحِيَّتُهُمْ «3» فِيها سَلامٌ [10] وهذه استعارة على بعض الأقوال.
كأنّ المعنى أن بشراهم بالسلامة من المخاوف عند دخول الجنة تجعل مكان التحية لهم. لأن لكل داخل دارا تحية يلقى بها ، ويؤنس بسماعها. والسلام هاهنا من السلامة ، لا من التسليم.
__________
(1) ومنه قول الراجز :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق انظر «القرطبي» ج 7 ص 220.
(2) سورة التوبة. الآية رقم 129 ، والنمل الآية رقم 26 ، والمؤمنون. الآية 86 ، ونصها هنا قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ.
(3) فى الأصل «تحيتهم» بغير واو. والصواب «و تحيتهم» بالواو عطفا على ما قبلها ، وهو قوله تعالى : دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ. [.....]
(2/153)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 155
[سورة يونس (10) : آية 24]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
وقوله سبحانه : حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ ، وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها [24]. وهذه استعارة حسنة ، لأن الزخرف فى كلامهم اسم للزّينة واختلاف الألوان المونقة.
وقوله سبحانه : أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها [24]. أي لبست زينتها بألوان الأزهار ، وأصابيغ «1» الرياض ، كما يقال : أخذت المرأة قناعها. إذا لبسته. وتقول لها :
خذى عليك ثوبك. أي البسيه.
وقوله تعالى : خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ «2» أي البسوا ثيابكم.
وقوله سبحانه : فَجَعَلْناها حَصِيداً [24]. استعارة أخرى ، لأن الحصيد من صفة النبات ، لا من صفة الأرض. والمعنى : فجعلنا نباتها كذلك. فاكتفى بذكر الأرض من ذكر النبات لأن النبات فيها ، ومنشؤه منها.
[سورة يونس (10) : آية 27]
وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27)
وقوله سبحانه : كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً [27]. على قراءة من قرأ بتحريك الطاء. وهذه استعارة. لأن الليل على الحقيقة لا يوصف بأن له قطعا متفرقة ، وأجزاء متنصفة. وإنما المراد - واللّه أعلم - أن الليل لو كان مما يتبعض وينفصل لأشبه سواد وجوههم أبعاضه وقطعه. ونصب سبحانه (مظلما) على أنه حال من الليل.
وفيه زيادة معنى. لأن الليل قد سمى ليلا وإن كان مقمرا ، فإنما قال سبحانه : مظلما ، على أن التشبيه إنما وقع به أسود ما يكون جلبابا ، وأبهم أثوابا.
[سورة يونس (10) : آية 67]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
وقوله سبحانه : هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً [67]
__________
(1) فى الأصل «و أصابيع» بالعين المهملة. ولعلها كما أثبتناه بالغين المعجمة ، جمعا لأصباغ مثل أزهار وأزاهير. فتكون جمع الجمع لصبغ.
(2) سورة الأعراف. الآية رقم 31.
(2/154)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 156
و هذه استعارة عجيبة. وقد أومأنا إلى نظيرها فيما تقدم. وذلك أنه سبحانه - إنما سمّى النهار مبصرا ، لأن الناس يبصرون فيه ، فكأن ذلك صفة الشيء بما هو سبب له ، على طريق المبالغة. كما قالوا : ليل أعمى ، وليلة عمياء. إذا لم يبصر الناس فيها شيئا لشدة إظلامها.
[سورة يونس (10) : آية 71]
وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71)
وقوله : فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً [71]. على قراءة من قرا : فَأَجْمِعُوا «1». من الجمع ، لا على قراءة من قرأ :
فَأَجْمِعُوا من الإجماع. وهذه استعارة. والمعنى : اشتوروا فى أمركم ، وأجمعوا له بالكم ، وبالغوا فى قدح الرأى بينكم ، حتى لا يكون أمركم غمة عليكم «2». أي مغطى تغطية حيرة ، ومبهما إبهام جهالة ، فيكون عليكم كالغمة العمياء ، والطخية الظلماء.
وذلك مأخوذ من قولهم : غمّ الهلال. إذا تغطى ببعض الموانع التي تمنع من رؤيته. ثم افعلوا بي ما أنتم فاعلون.
وهذه حكاية لقول نوح عليه السلام لقومه. ويخرج الكلام منه على الاستقلال لكيدهم ، وقلة الحفل باستجماعهم واحتشادهم.
[سورة يونس (10) : آية 88]
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88)
و قوله سبحانه. رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ [88]. وهذه استعارة. لأن حقيقة الطمس محو الأثر. من قولهم : طمست الكتاب. إذا محوت سطوره. وطمست الريح ربع الحىّ. إذا محت رسومه. فكأنّ موسى عليه السلام إنما دعا اللّه سبحانه بأن يمحو معارف أموالهم بالمسح لها ، حتى لا يعرفوها ، ولا يهتدوا إليها ، وتكون منقلبة عن حال الانتفاع بها ، لأن الطمس تغيّر حال الشيء إلى الدثور والدروس.
__________
(1) هى قراءة عاصم الجحدري ، بوصل الألف وفتح الميم. من جمع يجمع
(2) ومنه قول الشاعر الجاهلى طرفة :
لعمرك ما أمرى على بغمة نهارى ، ولا ليلى على بسرمد
(2/155)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 157
و قوله تعالى : وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ [88] استعارة اخرى. إما أن يكون المراد بها ما يراد بالختم والطبع. لأن معنى الشد يرجع إلى ذلك. أو يكون المراد به تثقيل العقاب على القلوب ، بالإيلام لها ، ومضاعفة الغم والكرب عليها. ويكون ذلك على معنى قول النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «اللّهمّ اشدد وطأتك على مضر» «1» أي غلّظ عليهم عقابك ، وضاعف عليهم عذابك.
[سورة يونس (10) : آية 105]
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
وقوله سبحانه : وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [105] وهذه استعارة. وقد أومأنا إلى مثلها فيما تقدم. والمراد بها : استقم على دينك ، واثبت على طريقك. وخص الوجه بالذكر ، لأن به يعرف توجه الجملة نحو الجهة المقصودة وقد يجوز أن يكون المراد بذلك - واللّه أعلم - أقم وجهك أي قوّمه نحو القبلة التي هى الكعبة. مستمرا على لزومها ، وغير منحرف عن جهتها.
__________
(1) هذا الحديث فى مسند ابن حنبل ج 12 ص 250 بتحقيق المحدث الجليل الصديق الشيخ أحمد محمد شاكر. وقد ذكر الشيخ أن إسناده صحيح. وقد رواه ابن سعد فى الطبقات ، ورواه مسلم والبخاري فى صحيحيهما. ونص الحديث فى المسند : (لما رفع النبي صلّى اللّه عليه وسلم رأسه من الركعة الأخيرة من صلاة الصبح قال : «اللهم أنج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبى ربيعة والمستضعفين بمكة. اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف).
(2/156)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 158
ومن السورة التي يذكر فيها «هود» عليه السلام
[سورة هود (11) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
قوله تعالى : الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [1] وهذه استعارة. لأن آيات القرآن لما ورد فى بعضها ذكر الحلال والحرام ، واستمرت على ذلك بين وعد مقدم ، ووعيد مؤخر ، ونذارة مبتدأ بها ، وبشارة معقب بذكرها شبه القرآن - لذلك - بالعظائم المفصلة ، التي توافق فيها بين الأشكال تارة ، وتؤلف بين الأضداد تارة ليكون ذلك أحسن فى التنضيد ، وأبلغ فى الترصيف. وهذه من بدائع الاستعارات.
[سورة هود (11) : آية 5]
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5)
و قوله سبحانه : أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ، أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ [5] وهذه استعارة. لأن حقيقة الشيء لا تتأتى فى الصدور. والمراد بذلك - واللّه أعلم - أنهم يثنون صدورهم على عداوة اللّه ورسوله ، صلّى اللّه عليه وآله. وذلك كما يقول القائل : هذا الأمر فى طىّ ضميرى. أي قد اشتمل عليه قلبى. فيكون قوله تعالى : يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ بمنزلة قوله يطوون صدورهم.
ولفظ يثنون أعذب استماعا وأحسن مجازا.
وقيل أيضا : بل معنى ذلك أن المنافقين كانوا إذا اجتمعوا تخافتوا بينهم فى الكلام ، وحنوا ظهورهم تطامنا عند الحوار ، خوفا من رمق العيون ، ومراجم الظنون ، لوقوع ما يتفاوضونه فى أسماع المسلمين. فإذا انحنت ظهورهم ، انثنت صدورهم. فأعلمنا اللّه سبحانه أنهم وإن أغلقوا أبوابهم ، وأسدلوا ستورهم ، واستغشوا ثيابهم - بمعنى اشتملوا بها ، وبمعنى أدخلوا رءوسهم فيها على ما قاله بعضهم - فأنه تعالى يعلم غيب صدورهم ، ودخائل
(2/157)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 159
قلوبهم ، ومرامز أعينهم ، ومحاذف «1» ألسنتهم.
[سورة هود (11) : الآيات 9 الى 10]
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)
و قوله سبحانه وتعالى : وَلَئِنْ أَذَقْنَا «2» الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ [9] وهذه استعارة لأن إذاقة الرحمة ونزعها ليسا بحقيقة هاهنا. وإنما المراد بذلك أنا إذا رحمنا الإنسان بعد توبته من مواقعة [فى ] «3» بعض الذنوب فقبلنا متابه ، وأسقطنا عقابه ، ثم واقع بعد ذلك ذنبا آخر ، واستحق أن نعاقبه وأن نزيل رحمتنا عنه ، يئس من الرحمة وقنط من المغفرة. وليس الأمر كذلك ، لأنه إذا عاود الإقلاع ، أمن الإيقاع.
وقد أخرج هذا الكلام مخرج الذم لمن يواقع المعصية ، فيقنط من قبول التوبة.
فمعنى أذقنا الإنسان منا رحمة. أي عرّفناه أنا قد رحمناه. إذ قد أوجبنا قبول التوبة إذا أخلص العبد فيها ، وأتى بها على شروطها وحدودها.
ومعنى ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ أي أزلنا عنه رحمتنا لأجل اقترافه المعصية التي اقترفها فى المانى «4». وقد يجوز أن يكون المراد بالرحمة هاهنا - واللّه أعلم - النعمة والسرّاء. ويكون انتزاعها منه بمعنى إبداله بها الشدة والضرّاء ، إجراء له فى مضمار الابتلاء والاختبار ، أو مصلحة يكون معها أقرب إلى الإصلاح «5» والرشاد. ومما يقوّى ذلك قوله تعالى بعد هذه الآية : وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي ، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [10]
__________
(1) هكذا بالأصل. ولعلها مرامى الالسنة بالكلام كما يحذف بالحجر أي يرمى به
(2) فى الأصل «و إذا أذقنا» وهو تحريف من الناسخ الذي كثر تحريفه حتى فى النص القرآنى.
والصواب «و لئن أذقنا».
(3) هذه اللفظة بالأصل. ولعلها زائدة لأن المعنى يستقيم بدونها ، ولهذا وضعناها بين حاصرتين.
(4) هكذا بالأصل ، ولم نهتد إلى تصويب لها.
(5) فى المتن : الإصلاح ، وقد غيرت فى الهامش إلى «الصلاح» بدلا منها.
(2/158)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 160
[سورة هود (11) : آية 28]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28)
وقوله سبحانه : وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ [28] الآية. وهذه استعارة. لأن الرحمة لا توصف بالعمى وإنما يوصف الناس بالعمى عن تمييز مواقعها ، وإدراك مواضعها. فلما وصفوا بالعمى عنها حسن أن يوصف بذلك فى القلب «1». كما يقال : أدخلت الخاتم فى أصبعى ، والمغفر فى رأسى. وإنما الأصبع دخلت فى الخاتم ، والرأس دخل فى المغفر. وقد يجوز أن يكون قوله سبحانه : فَعُمِّيَتْ «2» عَلَيْكُمْ.
بمعنى خفيت عليكم ، كما يقول القائل : قد عمى علىّ خبرهم. وعمى علىّ أثرهم. أي خفى عنى الأثر والخبر.
[سورة هود (11) : آية 31]
وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
وقوله سبحانه : وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ «3» تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً [31]. وهذه استعارة. كما يقول القائل : اقتحمت فلانا «4» عينى ، واحتقره طرفى.
إذا قبح فى منظر عينه خلقة ، وصغر دمامة. ليس أن العين على الحقيقة يكون منها الاحتقار ، أو يجوز عليها الاستصغار.
[سورة هود (11) : آية 34]
وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
و قوله سبحانه : وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ ، إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [34] وذكر الإغواء هاهنا من قبيل الاستعارة وإن لم يكن من صريحها. وكذلك لفظ المكر ، والاستهزاء ، وما يجرى هذا المجرى. لأن المراد بمعاني هذه الألفاظ غير المراد بظواهرها. فالمتعارف من الإغواء هو الدعاء إلى الغى والضلال. وذلك غير جائز على اللّه سبحانه ، لقبحه وورود أمره بضده. والمراد إذن بالإغواء هاهنا تخييبه سبحانه
__________
(1) ليس القلب هنا بمعنى الجارحة التي فى الجسم ، ولكنه القلب اللفظي والمعنوي ، كما تقول : أدخلت الخاتم فى الأصبع بدلا من أدخلت الأصبع فى الخاتم.
(2) فعميت بالتشديد هى قراءة الأعمش وحمزة والكسائي.
(3) فى الأصل «الذي» بصيغة المفرد ، وهو تحريف من الناسخ. والصواب» للذين بصيغة الجميع.
(4) فى الأصل : فلان وهو تحريف من الناسخ [.....]
(2/159)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 161
لهم من رحمته ، لكفرهم وذهابهم عن أمره. ومن الشاهد على ذلك قوله تعالى : «1» فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ ، فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا. أي خيبة من الرحمة ، وارتكاسا فى النقمة. وقد جاء لفظ الإغواء والمراد به التخييب فى كثير من منثور كلامهم ، ومنظوم أشعارهم.
ويجوز أن يكون الإغواء هاهنا بمعنى الإهلاك لهم. ويجوز أن يكون بمعنى الحكم بالغواية عليهم.
[سورة هود (11) : آية 37]
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
وقوله سبحانه : وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا [37]. وهذه استعارة.
و معناها : واصنع الفلك بأمرنا ، ونحن نرعاك ونحفظك. ليس أنّ هناك عينا تلحظ ، ولا لسانا يلفظ. وذلك كما يقول القائل : أنا بعين اللّه. أي بمكان من حفظ اللّه. ومن كلامهم للظّاعن المشيّع والحميم المودّع : صحبتك عين اللّه. أي رعاية اللّه وحفظه.
[سورة هود (11) : آية 44]
وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
وقوله سبحانه : وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي ، وَغِيضَ الْماءُ ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ [44]. الآية. وهذه استعارة. لأن الأرض والسماء لا يصح أن تؤمرا وتخاطبا. لأن الأمر والخطاب لا يكونان إلا لمن يعقل ، ولا يتوجهان إلا لمن يعى ويفهم.
فالمراد إذن بذلك : الإخبار عن عظيم قدرة اللّه سبحانه ، وسرعة مضى أمره ، ونفاذ تدبيره.
نحو قوله : إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «2».
وهذا إخبار عن وقوع أوامره من غير معاناة ولا كلفة ، ولا لغوب ولا مشقة.
__________
(1) سورة مريم الآية رقم 59.
(2) سورة النحل. آية رقم 40.
(2/160)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 162
و فى هذا الكلام أيضا فائدة أخرى لطيفة. وهو أن قوله سبحانه : يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ. أبلغ من قوله : يا أرض اذهبي بمائك. لأن فى الابتلاع دليلا «1» على إذهاب الماء بسرعة. ألا ترى أن قولك لغيرك : ابلع هذا الطعام ، أبلغ من قولك له :
كل هذا الطعام ، إذا أردت منه إيصاله إلى جوفه بسرعة ؟ وكذلك الكلام فى قوله سبحانه :
وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي. لأن لفظ الإقلاع هاهنا أبلغ من لفظ الانجلاء. لأن فى الإقلاع أيضا معنى الإسراع بإزالة السحاب ، كما قلنا فى الابتلاع. وذلك أدلّ على نفاذ القدرة ، وطواعية الأمور ، من غير وقفة ولا لبثة ، هذا إلى ما فى المزاوجة بين اللفظين من البلاغة العجيبة ، والفصاحة الشريفة. إذ يقول سبحانه : يا أرض ابلعي ، ويا سماء أقلعى : ومثل هذا فى القرآن أكثر من أن يشار إليه.
[سورة هود (11) : آية 58]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58)
وقوله سبحانه : وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [58]. وهذه استعارة. لأن العذاب فى الحقيقة لا يوصف بالغلظ والدقة ، لأنه الألم الذي يلحق الحي فى قلبه أو جسمه.
وإنما وصفه تعالى بالغلظ على طريقة كلام العرب ، لأنهم يصفون الأمر الهين بالضئولة والدقة ، كما يصفون الأمر الشاق بالغلظ والشدة ، حملا لذلك على عرفهم فى المراعاة للشىء الغليظ الكثيف ، وقلة الحفل بالشيء الدقيق الضئيل. ألا ترى إلى قولهم : عرض فلان دقيق ، وقدره ضئيل ؟ وإلى قولهم فى مقابلة ذلك : لقى فلان فلانا بكلام غليظ ، وقول ثقيل.
وقد يجوز أيضا - واللّه أعلم - أن يكون المراد بعذاب غليظ هاهنا الصفة لعذاب الآخرة.
والعذاب إنما يقع بالآلات المستعظمة والأعيان «2» المستفظعة ، مثل مقامع الحديد ، والحجارة
__________
(1) فى الأصل «دليل» بالرفع وهو تحريف من الناسخ ، لأنه اسم أن مؤخرا فهو واجب النصب.
(2) فى الأصل «كالأعيان». ولا محل للتشبيه هنا بعد أن مثل بمقامع الحديد والحجارة المحماة بعد ذلك.
(2/161)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 163
المحمّاة بالجحيم. فوصف سبحانه العذاب الغليظ ، لأنه واقع بالأشياء الغليظة ، والآلات الثقيلة ، فيكون ذلك مجازا من هذا الوجه.
و مما يقوّى أن المراد بقوله تعالى : وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ عذاب الآخرة ، قوله تعالى : وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا «1» وهذه النجاة من عذاب الدنيا. ثم قال تعالى : وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فدلّ على أن النجاة من العذاب الأول غير النجاة من العذاب الآخر. وأن الأول عذاب الدنيا ، والثاني عذاب الآخرة ، لأن العطف بالواو يقضى بذلك ، وإلّا كان وجه الكلام : فلما جاء أمرنا نجّينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا من عذاب غليظ ، ولم يكن لقوله تعالى :
وَ نَجَّيْناهُمْ ثانيا معنى.
[سورة هود (11) : آية 80]
قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
وقوله سبحانه حاكيا عن لوط عليه السلام : قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [80] وهذه استعارة والمراد بها : لو كنت آوى إلى كثرة من قومى ، وعدد من أهلى. وجعلهم ركنا له ، لأن الإنسان يلجأ إلى قبيلته ، ويستند إلى أعوانه ومنعته ، كما يستند إلى ركن البناء الرصين ، والنضد الأمين «2».
وجاء جواب لو هاهنا محذوفا. والمعنى ، لو أننى على هذه الصفة لحلت بينكم وبين ما هممتم به من الفساد وأردتموه من ذنوب فحشاء. والحذف هاهنا أبلغ ، لأنه يوهم المتوعّد بعظيم الجزاء ، وبغليظ النكال ، ويصرف وهمه الى ضروب العقاب ، ولا يقف به عند جنس من أجناس المخوفات المتوقعات.
__________
(1) سورة هود. الآية رقم 58.
(2) النضد من الجبل : ما تراكم منه. والجمع أنضاد.
(2/162)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 164
و ليس مخرج هذا الكلام من لوط عليه السلام ، على ما ظنّه من لا معرفة له ، وقدح فيه بأن قال : ألم يكن يأوى إلى اللّه سبحانه ؟ فما معنى هذا القول الذي قاله ؟ وذلك أن لوطا على ما ذكرنا إنما أراد الأعوان من قومه ، والأركان المستند إليهم من قبيلته ، وهو يعلم أن له من معونة اللّه سبحانه أشد الأركان ، وأعز الأعوان ، إلا أن من تمام إزاحة العلة فى التكليف حضور الناصر ، وقرب المعاضد والمرافد.
[سورة هود (11) : الآيات 83 الى 84]
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
وقوله سبحانه فى صفة الحجارة المرسلة على قوم لوط : مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ ، وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [83] وهذه استعارة. لأن حقيقة التسويم هى العلامات التي يعلّم بها الفرسان والأفراس فى الحرب ، للتمييز بين الشعارات ، والتفريق بين الجماعات.
قال اللّه سبحانه : يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ «1» وقرئ «2» مُسَوِّمِينَ بفتح الواو. وقال اللّه سبحانه : وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ «3» والمعنى أنه سبحانه لما جعل تلك الحجارة حربا لهم وأعوانا عليهم وصفها بوصف رجال «4» الحرب وخيولهم ، فكأنها مرسلة من عند اللّه ، أي من عند ملائكة اللّه الذين تولّوا الرمي بها ، إرسال الخيول المسوّمة على أعدائها ، وإن لم يكن هناك تسويم على الحقيقة.
وقد قال بعضهم : إن تلك الحجارة كانت على الحقيقة معلّمة بعلامات تدل على أنها أعدت للعذاب ، وأفردت للعقاب. وذلك أملأ للقلوب ، وأعظم فى الصدور.
__________
(1) فى الأصل «يمددكم بخمسة آلاف ...» بدون ذكر لفظة ربكم وقد أغفلها الناسخ غفر اللّه له جريا على عادته من الإغفال والإهمال. وهذه هى الآية رقم 125 من سورة آل عمران.
(2) مسومين بالفتح هى قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي ونافع أما مسومين بكسر الواو فهى قراءة أبى عمرو وابن كثير وعاصم.
(3) سورة آل عمران. الآية رقم 14.
(4) فى الأصل «الرجال الحرب» وهو تحريف من الناسخ.
(2/163)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 165
و قوله سبحانه : «1» وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ [84].
وهذه استعارة من وجهين : أحدهما وصف اليوم بالإحاطة ، وليس بجسم فيصح وصفه بذلك. والوجه الآخر : أن لفظ محيط هاهنا كان يجب أن يكون من نعت العذاب ، فيكون منصوبا. فجعله - سبحانه - من نعت اليوم فجاء مجرورا ، فأما وصف اليوم بالإحاطة - وإن لم يتأتّ فيه ذلك - فالمراد به - واللّه أعلم - أنّ العذاب لما كان يعمّ المستحقّين له فى يوم القيامة حسن وصف ذلك اليوم بأنه محيط بهم أي أنه كالسياج المضروب بينهم وبين الخلاص من العذاب والإفلات من العقاب. وأما نقل نعت العذاب إلى نعت اليوم ، فالوجه فيه أن العذاب لما كان واقعا فى ذلك اليوم كان ذلك اليوم كالمحيط به ، لأنه ظرف لحلوله ، ووقت لنزوله.
[سورة هود (11) : الآيات 86 الى 87]
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
و قوله سبحانه : بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [86] وهذه استعارة. لأن حقيقة البقية تركة «2» شىء من شىء قد مضى ، ولا يجوز إطلاقه على اللّه سبحانه. فإذن يجب أن يكون المراد غير هذه الحقيقة. وقد قيل فى معنى ذلك وجوه : أحدها بقية اللّه من نعمته خير لكم. وقد قيل : بقية اللّه طاعة اللّه ، وذلك لأنها تبقى رضاه وثوابه أبدا ما بقيت. وقيل بقية اللّه أي عفو اللّه عنكم ورحمته بكم «3» بعد استحقاقكم العذاب ، كما يقول العرب المتحاربون بعضهم لبعض ، إذا استحرّ فيهم القتل ، وأعضلهم الخطب : البقية! البقيّة! أي نسألكم البقية علينا والمكافأة لنا. والبقية هاهنا والإبقاء بمعنى واحد.
__________
(1) فى الأصل «إنى أخاف عليكم» بدون واو وهى ناقصة من الناسخ.
(2) فى الأصل «تركه» بالهاء لا بالتاء المربوطة.
(3) فى الأصل «و رحمته لكم».
(2/164)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 166
و قوله سبحانه : أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا ، أَوْ أَنْ «1» نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا [87] وهذه استعارة. لأن الصلاة لا يصح منها الأمر على الحقيقة ، وإنما أطلق عليها ذلك ، لأنها بمنزلة الآمر بالخير ، والناهي عن الشر.
وقيل : المراد بذلك : أدينك يأمرك بهذا ؟ أي فى شريعتك ودينك الأمر بهذا ؟ فإذا كان ذلك فى عقد الدين حسن أن يضاف الأمر به إلى الدين :
وفى هذا الكلام أيضا مجاز آخر. وهو أنه تعالى قال : أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا [87] وليس يصح على ظاهر الكلام أن يؤمر شعيب بأن يترك قومه شيئا هم عليه ، وإنما المعنى - واللّه أعلم - أصلاتك تأمرك أن تأمرنا بترك ما يعبد آباؤنا ؟ فاكتفى بذكر الأمر الأول عن ذكر الأمر الثاني ، لأنه كالمعلوم من فحوى الكلام.
وهذا من غوامض أسرار القرآن.
[سورة هود (11) : آية 92]
قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
وقوله سبحانه : أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ، وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا [92]. فهذه استعارة. لأن اللّه سبحانه لا يجوز عليه أن يجعل ظهريا على الحقيقة. فالمراد أنكم جعلتم أمر اللّه سبحانه وراء ظهوركم. وهذا معروف فى لسان العرب أن يقول الرجل منهم لمن أغفل قضاء حاجته ، أو ثنى عطفا على عذله وعتابه : جعلت حاجتى وراء ظهرك ، وتركت مقالى دبر أذنك. أي لم تعن بحاجتي ، ولم تصغ إلى معاتبتى.
[سورة هود (11) : آية 94]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94)
وقوله سبحانه وتعالى : وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ، فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ [94]. وهذه استعارة ، لأن حقيقة الأخذ إنما يوصف بها الأجسام. والصيحة عرض من الأعراض ، لأنها بعض الأصوات ، إلا أنها أقوى للأسماع صكا وقرعا ،
__________
(1) فى الأصل «و أن نفعل ...» وهو تحريف من الناسخ. [.....]
(2/165)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 167
و أبلغ فى القلوب وجلا وروعا .. والمراد أن هلاكهم لما كان عن الصيحة حسن أن يقال :
إنها أخذتهم بمعنى ذهبت بنفوسهم ، وأتت على جمعهم.
[سورة هود (11) : الآيات 98 الى 100]
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
و قوله تعالى : فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ، وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [98 - 99] فقوله تعالى : وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وبِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ استعارتان. لأنه تعالى جعل فرعون فى تقدمه قومه إلى النار بمنزلة الفارط «1» المتقدم للوارد إلى الورد ، كما كان فى الدنيا متقدمهم إلى الضلالة ، وقائدهم إلى الغواية ، وجعل النار بمنزلة الماء الذي يورد ، ثم قال تعالى :
وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ لأنه ورد لا يجيز «2» ، الغصة ، ولا ينقع الغلة.
وقد اختلف العلماء فى قوله تعالى : وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ. وهل ذلك ذم لنار جهنم على الحقيقة أو المجاز ، فقال أبو على «3» محمد بن عبد الوهاب الجبّائى : ذلك على طريق المجاز ، والمعنى بئس وارد النار. وقال أبو القاسم البلخي «4» : بل ذلك على طريق الحقيقة.
فأما قوله سبحانه : وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [99] فإنما قلنا إنه استعارة ، لأن حقيقة الرّفد العطية. يقال رفده يرفده رفدا ورفدا بفتح الراء وكسرها. ولكن اللعنة لما جعلت بدلا من الرفد لهم عند انتقالهم من
__________
(1) الفارط : اسم فاعل من فرط بمعنى سبق وتقدم ، انظر القاموس المحيط.
(2) هكذا بالأصل
(3) أبو على محمد الجبائي كان رأسا من رءوس المعتزلة وشيخ علماء الكلام فى عصره. وتنسب إليه طائفة «الجبائية» والجبائي نسبة إلى «جبى» من قرى البصرة. توفى سنة 303 ه. وذكر ابن حوقل فى «المسالك والممالك» أن جبى مدينة ورستاق عريض مشتبك العمائر بالنخل وقصب السكر وغيرهما ، ومنها أبو على الجبائي الشيخ الجليل إمام المعتزلة ورئيس المتكلمين فى عصره.
(4) أبو القاسم البلخي هو عبد اللّه بن أحمد الكعبي ، كان رأس طائفة من المعتزلة يقال لهم الكعبية.
والكعبي نسبة إلى بنى كعب ، والبلخي نسبة إلى بلخ إحدى مدن خراسان. توفى سنة 317 ه.
(2/166)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 168
دار إلى دار ، على عادة المنتجع المسترفد أو الرجل المتزود ، جاز أن يسمى رفدا ، على طريق المجاز ، كما قال تعالى : فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» والبشارة فى الأعم الأغلب إنما تكون بالخير لا بالشر. ولكن لما جعل إخبارهم باستحقاق العذاب فى موضع البشارة لغيرهم باستحقاق الثواب جاز أن يسمى فى ذلك بشارة.
وقوله سبحانه : ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ [100].
وهذه استعارة. والمعنى : منها قائم البناء ، خال من الأهل ، ومنها منقوض الأبنية ، ملحق بالأرض ، تشبيها بالزرع المحصود. إلى هذا المعنى يومىء قوله تعالى : وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ «2». وقوله سبحانه : وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها «3». والعروش الأبنية. أي خالية من أهلها ، على ما فيها من بواقى أبنيتها.
وقد يجوز أن يكون ذلك كناية عن أهل القرى ، فكأنه سبحانه شبّه الأحياء الباقين بالزرع النامي ، وشبّه الأموات الهالكين بالزرع الذاوي. وذلك أحسن تمثيل ، وأوقع تشبيه.
[سورة هود (11) : آية 119]
إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
وقوله سبحانه : وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [119]. وهذه استعارة. والمراد هاهنا بتمام كلمة اللّه سبحانه صدق وعيده الذي تقدّم الخبر به ، وتمام وقوع مخبره مطابقا لخبره.
__________
(1) سورة آل عمران. الآية رقم 21.
(2) سورة الحج. الآية رقم 45.
(3) سورة البقرة. الآية رقم 259.
(2/167)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 169
ومن السورة التي يذكر فيها «يوسف عليه السلام»
[سورة يوسف (12) : آية 4]
إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4)
قوله : يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [4]. وهذه استعارة ، لأن الكواكب والشمس والقمر مما لا يعقل ، فكان الوجه أن يقال. ساجدة. ولكنها لما أطلق عليها فعل من يعقل ، جاز أن توصف «1» بصفة من يعقل ، لأن السجود من فعل العقلاء. وهذا كقوله سبحانه :
يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ ، لا يَحْطِمَنَّكُمْ «2» فلما كانت النمل فى هذا القول مأمورة أمر من يعقل جرى الخطاب عليها جريه على من يعقل. مثل ذلك قوله تعالى : وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا «3» لأنها لما شهدت عليهم شهادة العقلاء المخاطبين أجروا - كما فى هذا الخطاب - مجرى العقلاء المخاطبين. ومن الشاهد على ذلك قول عبدة بن الطبيب.
إذ أشرف الدّيك يدعو بعض أسرته لدى الصّباح وهم قوم معازيل «4»
__________
(1) فى الأصل «يوصف» وهو تحريف من الناسخ.
(2) سورة النمل الآية رقم 18 وتكلمة الآية لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ.
(3) سورة فصلت. الآية رقم 21.
(4) هذا البيت من قصائد «المفضليات» للضبى والقصيدة كلها كاملة فى ديوان المفضليات بتحقيق الأستاذين أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون - ص 133 - 143 ج 1. وترجمة عبدة بن الطبيب فى اللآلى ، والأغانى ، والإصابة ، والشعر والشعراء لابن قتيبة ، وهو صاحب البيت المشهور فى الرثاء :
فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
(2/168)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 170
فلما جعله بمنزلة الداعي جعل الديكة بمنزلة القوم المدعوّين ، وجعلهم أسرة له ، وأسرة الرجل قومه ورهطه. والمعازيل الذين لا سلاح معهم. فكأنه جعله مستنصرا من لا نصرة له ولا غناء عنده. وقريب من ذلك قوله تعالى : فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ «1» على أحد القولين. فكأنه سبحانه ردّ خاضعين إلى أصحاب الأعناق لا إلى الأعناق ، لأن الخضوع منهم يكون على الحقيقة.
وقد يجوز أيضا أن يكون قوله فى ذكر الكواكب والشمس والقمر : رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ إنما حسن على تأويل تلك الرؤيا. وتأويلها يتناول من يعقل من إخوة يوسف وأبويه. فجرى الوصف على تأويل الرؤيا ، ومصير العقبى. وهذا موضع حسن ، ولم يمض لى كمن «2» تقدم.
[سورة يوسف (12) : آية 18]
وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18)
وقوله سبحانه : وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [18] وهذه استعارة. لأن الدم لا يوصف بالكذب على الحقيقة. والمراد بذلك - واللّه أعلم - بدم مكذوب فيه ، والتقدير بدم ذى كذب. وإنما يوصف الدم بالمصدر الذي هو (كذب) على طريق المبالغة.
لأن الدعوى التي «3» علقت بذلك الدم كانت غاية فى الكذب.
وقال بعضهم : قد يجوز أيضا أن يكون «كذب» هاهنا صفة لقول محذوف يدلّ عليه الحال. فكأنّ التقدير : وجاءوا على قميصه بدم ، وجاءوا بقول كذب ، إذ كانت إشارتهم إلى آثار الدم فى القميص قد صحبها قول منهم يؤكد تلك الحال ، وهو قولهم :
إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ [17]. والقول الأول
__________
(1) سورة الشعراء. الآية رقم 4.
(2) هكذا بالأصل. وصوابه كما تقدم.
(3) فى الأصل «الذي» وهو خطأ ، فالدعوى مؤنثة لا مذكرة. وهو تحريف من الناسخ. [.....]
(2/169)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 171
أصوب. ومن غرائب التفسير ما روى عن أبى عمرو بن «1» العلاء أنه قال : سمعت بعض الرواة يقول : بدم كدب بالإضافة من الدال «2». وقال : هو الجدى فى كلام الكنعانيين ، وأنشد لبعضهم :
ظلّت دماء بنى عوف كأنهم عند الهياج رعاة بين أكداب
و قيل : إنهم لطخوا قميص يوسف عليه السلام بدم ظبى ذبحوه.
وقوله سبحانه : قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [18] وهذه استعارة. وحقيقة التسويل تزيين الإنسان لغيره أمرا غير جميل. جعل سبحانه أنفسهم لمّا قوى فيها الإقدام على ذلك الأمر المذموم بمنزلة الغير الذي يحسّن لهم فعل القبيح ، ويحملهم على ركوب العظيم.
[سورة يوسف (12) : آية 30]
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30)
وقوله سبحانه : قَدْ شَغَفَها حُبًّا [30] وهذه استعارة. والمراد بها أن حبه تغلغل إليها ، حتى أصاب شغافها ، وهو غشاء قلبها. كما تقول : بطنت الرّجل. إذا أصبت بطنه. ويقال : معنى شغفها أي سلب شغاف قلبها ، على طريق المبالغة فى وصف حبها له ، كما تقول : سلبت الرّجل إذا أخذت سلبه.
[سورة يوسف (12) : آية 44]
قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44)
وقوله سبحانه : قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ ، وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ [44] وهذه أبلغ استعارة وأحسن عبارة لأن أحد الأضغاث : ضغث. وهو الخليط من الحشيش المضموم بعضه إلى بعض ، كالحزمة وما يجرى مجراها ، فشبه سبحانه اختلاط الأحلام ، وما مر به الإنسان من المحبوب والمكروه ، والمساءة والسرور باختلاط الحشيش المجموع من أخياف «3» عدة ، وأصناف كثيرة.
__________
(1) أبو عمرو بن العلاء. واسمه زبان بن عمار كان إماما فى اللغة والأدب وكان أعلم الناس بالأدب والقرآن والشعر وأعراب الجاهلية. توفى سنة 154 بالكوفة. وله ترجمة موجزة فى «المزهر» للسيوطى. وانظر «الأعلام» للزركلى.
(2) وقرأ الحسن وعائشة «بدم كدب» بالوصف لا بالإضافة ، وبالدال المهملة أي بدم طرى.
يقال للدم الطري : الكدب.
(3) الأخياف : جمع خيف وهو كل هبوط وارتقاء فى سفح الجبل ، أو ما ارتفع عن مسيل الماء.
(2/170)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 172
[سورة يوسف (12) : آية 48]
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
وقوله سبحانه : ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ [48]. وهذه استعارة. والمراد بالسّبع الشداد : السّنون المجدبة.
ومعنى يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ ، أي ينفد فيهن ما ادخرتموه لهن من السنين المخصبة.
وجرى على ذلك عادة العرب فى قولهم : أكلت آل فلان السّنة. يريدون مسّهم الضر فى عام الجدب ، وزمان الأزل «1». حتى كأنهم ليسمون السنة المجدبة : الضّبع.
فيقولون : أكلتهم الضّبع. أي نهكتهم سنة الجدب.
وقال بعضهم : إنما نسب تعالى الأكل إليهن لأن الناس يأكلون فيهن ما ادخروه ، ويستنفدون ما أعدوه. كما يقال : يوم آمن. وليل خائف. أي يأمن الناس فى هذا ، ويخافون فى هذا.
[سورة يوسف (12) : الآيات 52 الى 53]
ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
و قوله سبحانه : لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ «2» [52]. [و هذه استعارة. لأنه تعالى أقام كيد الخائنين ] «3» مقام الخابط فى طريق ، ليصل إلى مضرة المكيدة وهو غافل عنه. فأعلمنا سبحانه أنه لا يهديه ، بمعنى لا يوفقه لإصابة الغرض ، ولا يسدده لبلوغ المقصد ، بل يدعه يخبط فى ضلاله ، ويتسكع فى متاهه ، لأنه كالسّارى فى غير طاعة اللّه ، فلا يستحق أن يهدى لرشد ، ولا يتسدد لقصد.
وقوله سبحانه : وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ، إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي [53]. وهذه استعارة. لأن النفس لا يصحّ أن تأمر على الحقيقة.
__________
(1) الأزل : الضيق والشدة والداهية.
(2) أصل الآية كاملة : ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ.
(3) كرر الناسخ هذه العبارة المحصورة بين حاصرتين مرة أخرى فى أثناء النسخ.
(2/171)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 173
و لكن الإنسان لما كان يتبع دواعيها إلى الشهوات ، وينقاد بأزمتها إلى المقبّحات ، كانت بمنزلة الآمر المطاع ، وكان الإنسان بمنزلة السامع المطيع. وإنما قال سبحانه : لَأَمَّارَةٌ.
ولم يقل لآمرة ، مبالغة فى صفتها بكثرة الدفع فى المهاوى ، والقود إلى المغاوى. لأن «فعّالا» «1» من أمثلة الكثير ، كما أن «فاعلا» من أمثلة القليل.
[سورة يوسف (12) : آية 76]
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
و قوله سبحانه : نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ [76]. وهذه استعارة. لأنه ليس هناك على الحقيقة بناء يوطد ، ولا درجات تشيد. وإنما المراد به تعلية «2» معالم الذكر فى الدنيا ، ورفع منازل الثواب فى الآخرة.
[سورة يوسف (12) : آية 82]
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82)
وقوله سبحانه : وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها ، وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها [82].
وهذه استعارة من مشاهير الاستعارات. والمراد : واسأل أهل القرية التي كنا فيها ، وأصحاب العير التي أقبلنا فيها. ومما يكشف عن ذلك قوله تعالى فى السورة التي يذكر فيها الأنبياء عليهم السلام : وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ «3». والقرية هى الأبنية المفروشة ، والخطط المسكونة لا يصح منها عمل الخبائث ، فعلم أن المراد بذلك أهلها. ومن الشاهد على ذلك أيضا.
قوله سبحانه : إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ «4». وقال بعضهم :
إن القرية هى الجماعة المجتمعة ، لا الأبنية المشيدة. وذلك مأخوذ من قولهم : قرى الماء فى الحوض. إذا جمعه. والعير : هى الإبل وفيها أصحابها. وإنما أنث سبحانه ضمير القرية
__________
(1) فعال : أي الصيغة التي على وزن فعال. وهذه تدل على الكثرة والمبالغة فالرجل القتال هو الكثير القتل.
(2) فى الأصل (لعلبه) بدون إعجام الحروف.
(3) سورة الأنبياء. الآية رقم 74.
(4) سورة الأنبياء. الآية رقم 77.
(2/172)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 174
بقوله : الَّتِي كُنَّا فِيها على اللفظ كما يقول القائل : قامت تلك الطائفة ، وتفرقت تلك الجماعة ، على اللفظ. ويحسن منه أن يقول عقيب هذا الكلام : وأكلوا ، وشربوا ، وركبوا ، وذهبوا ، حملا على المعنى دون اللفظ. كما قال تعالى : مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ. ثم قال سبحانه : إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ على المعنى.
وكذلك القول فى العير ، فإنما أنّث ضميرها على اللفظ ، لأن العير مؤنثة.
قال تعالى فى هذه السورة : وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ [94].
[سورة يوسف (12) : آية 87]
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)
وقوله سبحانه : وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [87] وهذه استعارة. والمراد ولا تيئسوا من فرج اللّه. والرّوح هو تنسيم الريح ، التي يلذّ شميمها ، ويطيب نسيمها. فشبه تعالى الفرج الذي يأتى بعد الكربة ، ويطرق بعد اللزبة «1» بنسيم الريح الذي ترتاح القلوب له ، وتثلج الصدور به. ومثل ذلك ما جاء فى الخبر : (الريح من نفس اللّه) «2» أي من تنفيسه عن خلقه. يريد سبحانه أن القلوب تستروح إليها ، كما يستروح المكروب إلى نفسه ، وذو الخناق إلى تنفسه.
[سورة يوسف (12) : آية 107]
أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107)
وقوله سبحانه : أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ [107]. وهذه استعارة. والمراد بذلك المبالغة فى صفة العذاب بالعموم لهم ، والإطباق عليهم ، كالغاشية التي تشتمل على الشيء ، فتجلله من جميع جنباته ، وتستره عن العيون من كل جهاته.
__________
(1) اللزبة : الشدة والقحط. يقال سنة لزبة أي شديدة.
(2) وفى «نهاية الأرب» ج 1 ص 95 روى عن رسول اللّه أنه قال (الريح من روح اللّه تعالى تأتى بالرحمة وتأتى بالعذاب ، فلا تسبوها ، واسألوا اللّه خيرها ، واستعيذوا باللّه من شرها) أخرجه البيهقي فى سننه.
(2/173)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 175
ومن السورة التي يذكر فيها «الرعد»
[سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 6]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6)
قوله تعالى : أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [5]. وجديد هاهنا استعارة. لأن أصله هاهنا مأخوذ من الجدّ ، وهو القطع. يقال : قد جدّ الثوب ، فهو جديد بمعنى مجدود. إذا قطع من منسجه ، أو قطع لاستعمال لابسه. والمراد - واللّه أعلم - إنا لفى خلق جديد ، أي قد فرغ من استئنافه ، وأعيد إلى موضع ثوابه وعقابه ، فصار كالثوب الذي قطع «1» منسجه بعد الفراغ من عمله.
وقوله سبحانه وتعالى : وَيَسْتَعْجِلُونَكَ «2» بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ [6]. وهذه استعارة والمراد بها مضىّ المثلات - وهى العقوبات - للأمم السالفة قبلهم ، وتقدّمها أمامهم. وقولهم : خلت الدار. أي مضى سكانها عنها. وخلوا هم. أي مضوا عن الدار وتركوها. وقولهم : القرون الخالية. أي الماضية.
و العقوبات على الحقيقة لم تمض «3» ، وإنما مضى المعاقبون بها. فكأنّهم ذكّروا بالعقوبات الواقعة قبلهم ليعتبروا بها. __________
(1) هكذا بالأصل ولعلها : قطع من منسجه.
(2) بالأصل : «يستعجلونك» بدون واو. وقد تركها الناسخ جريا على عادته ... [.....]
(3) فى الأصل : لم يمض وهو تحريف من الناسخ. والعقوبات هى المثلات التي قال اللّه فيها إنها قد خلت من قبلهم.
(2/174)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 176
[سورة الرعد (13) : آية 8]
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8)
وقوله سبحانه : اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ، وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ [8]. وهذه استعارة عجيبة. لأن حقيقة الغيض إنما يوصف بها الماء دون غيره.
يقال : غاض. الماء وغضته «1» ولكن النطفة لما كانت تسمّى ماء ، جاز أن توصف الأرحام بأنها تغيضها فى قرارتها ، وتشتمل على نفاعاتها «2». فيكون ما غاضته «3» من ذلك الماء سببا لزيادة ، بأن يصير مضغة ، ثم علقة ثم خلقة مصوّرة. فذلك معنى قوله : وَما تَزْدادُ.
وقيل أيضا : معنى ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ. أي ما تنقص بإسقاط العلق ، وإخراج الخلق.
ومعنى : ما تَزْدادُ أي ما تلده لتمام ، وتؤدى خلقه على كمال. فيكون الغيض هاهنا عبارة عن النقصان ، والازدياد عبارة عن التمام.
[سورة الرعد (13) : آية 13]
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13)
وقوله سبحانه : وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ، وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [13].
و هذه استعارة. لأن التسبيح فى الأصل تنزيه اللّه سبحانه عن شبه المخلوقات ، وتبرئته من مدانس الأعمال ، وقبائح الأفعال. وهذا لا يتأتى من الرعد ، الذي هو اصكاك أجرام السحاب بعضها ببعض. فالمراد - واللّه أعلم - أن أصوات الرعود تقوى بها الدلالة على عظيم قدرة اللّه سبحانه ، وبعده عن شبه الخليقة المقدّرة ، وصفات البريّة المدبّرة. إذ كان الرعد كما قلنا إنما تغلظ أصواته ، وتعظم هزّاته على حسب تعاظم صفحات السحاب الممتدة ، وتراكم الغيوم المطبقة. وهى مع هذه الأحوال ، من ثقل أجرامها ، وتكاثف غمامها معلقة بمناطات الهواء الرقيق ، لو لا دعائم القدرة وسماكها ، وعلائق الجبرية ومساكها لما حمل عشر معشارها ، ولا استقل ببعض أجزائها.
__________
(1) غاض الماء : نقص. وغضته أنا أي نقصته ..
(2) النفاعات : جمع نفاعة وهو الشيء الذي ينتفع به.
(3) فى الأصل ما غضته. وهو تحريف من الناسخ.
(2/175)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 177
و من عجيب أحواله أنه أيضا مع ما ذكرنا من تثاقل أردافه ، وتعاظل «1» التفافه ينفشّ «2» انفشاش الهباء المتداعى ، والغثاء المتلاشى. إن فى ذلك لعبرة لأولى الأبصار.
ومعنى تسبيح الرعد بحمده سبحانه : دلالته على أفعاله التي يستحق بها الحمد ، كما يقول القائل : هذه الدار تنطق بفناء أهلها. أي تدل على ذلك بخلاء ربوعها ، وتهدّم عروشها.
وقد يجوز أن يكون معنى : وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ أن الرعد يضطر الناس إلى تسبيح اللّه سبحانه عند سماعه ، فحسن وصفه بالتسبيح لأجل ذلك ، إذ كان هو السبب فيه. وهذا معروف فى كلامهم.
[سورة الرعد (13) : آية 15]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15)
و قوله تعالى وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ، وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [15]. وهذه استعارة. لأن أصل السجود فى اللغة الخضوع والتذلل.
إمّا باللسان الناطق عن الجملة أو بآثار الصنعة وعجائب الخلقة. ثم نقل فصار اسما لهذا العمل المخصوص الذي هو من أركان الصلاة ، لأنه يدل على تذلّل الساجد لخالقه ، بتطامن شخصه ، وانحناء ظهره. وقد ذكر فى بعض الأخبار أن جدنا جعفر «3» بن محمد عليهما السلام سئل عن العلة فيما كلف اللّه سبحانه من أعمال الصلاة وسائر العبادات ، فقال : أراد اللّه
__________
(1) التعاظل : هو تكاثر الشيء وركوب بعضه فوق بعض. ومنه المعاظلة فى الكلام أي تعقيده وموالاة بعضه فوق بعض.
(2) انفش : أي سكن ولان بعد شدة.
(3) جعفر بن محمد هو أبو عبد اللّه جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن الحسين رضى اللّه عنهم. وهو سادس الأئمة الاثني عشر. وكان واسع العلم ، أخذ عنه أبو حنيفة ومالك وجابر بن حيان.
ولقب بالصادق لأنه لم يعهد عليه كذبة قط. توفى سنة 148 ه بالمدينة.
(2/176)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 178
سبحانه بذلك إذلال الجبارين. فإذا تمهد ما ذكرنا كان فى ذكر «الظلال» فائدة حسنة ، وهو أن الظل الذي هو فى سجود الشخص وهو غير قائم بنفسه ، إذا ظهرت فيه أعلام الخضوع للخالق تعالى بما فيه من دلائل الحكمة وعجائب الصنعة ، كان ذلك أعجب من ظهور هذه الحال فى البنية القائمة بنفسها ، والمعروفة بشخصها.
[سورة الرعد (13) : آية 17]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17)
وقوله سبحانه : كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ ، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً ، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ [17].
وهذه استعارة. والمراد بضرب الأمثال - واللّه أعلم - معنيان : أحدهما أن يكون تعالى أراد بضربها تسييرها «1» فى البلاد ، وإدارتها على ألسنة الناس. من قولهم : ضرب فلان فى الأرض. إذا توغل فيها وأبعد فى أقاصيها. ويقوم قوله تعالى : يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ مقام قوله ضرب بها فى البلاد.
والمعنى الآخر فى ضرب المثل أن يكون المراد به نصبه للناس بالشهرة ، لتستدل عليه خواطرهم ، كما تستدل على الشيء المنصوب نواظهرهم. وذلك مأخوذ من قولهم : ضربت الخباء. إذا نصبته ، وأثبتّ طنبه «2» ، وأقمت عمده. ويكون قوله سبحانه :
كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ [17]. إلى هذا الوجه. أي ينصب منارهما ، ويوضح أعلامهما ، ليعرف المكلفون الحق بعلاماته فيقصدوه ، ويعرفوا الباطل فيجتنبوه.
[سورة الرعد (13) : آية 33]
أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)
و قوله سبحانه : أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [33] وهذه استعارة.
__________
(1) فى الأصل : تسيرها وهو تحريف فى النسخ.
(2) الطنب : حبل طويل يشد به سرادق البيت. والجمع أطناب.
(2/177)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 179
و المراد به أنه تعالى محص على كل نفس ما كسبت ، ليجازيها به. وشاهد ذلك قوله سبحانه : وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً «1».
أي ما دمت له مطالبا ، ولأمره مراعيا ، لا تمهله للحيلة ، ولا تنظره للغيلة «2». وقد استقصينا الكلام على ذلك فى كتابنا الكبير.
وإذا لم يصح إطلاق صفة القيام على اللّه سبحانه حقيقة ، فإن المراد بها قيام إحصائه على كل نفس بما كسبت ، ليطالبها به ، ويجازيها عنه بحسبه. والقيام والدوام هاهنا بمعنى واحد. والماء الدائم هو القائم الذي لا يجرى.
[سورة الرعد (13) : آية 41]
أَ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41)
وقوله سبحانه : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [41].
وهذه استعارة. وقد اختلف الناس فى المراد بها ، فقال قوم : معنى ذلك نقصان أرض المشركين ، بفتحها على المسلمين. وقال آخرون : المراد بنقصانها : موت أهلها ، وقيل موت علمائها.
وعندى فى ذلك قول آخر ، وهو أن يكون المراد بنقص الأرض - واللّه أعلم - موت كرامها. وتكون الأطراف هاهنا جمع طرف. لا جمع طرف ، والطّرف هو الشيء الكريم.
ومنه سمّى الفرس طرفا ، إذ كان كريما. وعلى ذلك قول أبى الهندي «3» الرياحي :
شربنا شربة من ذات عرق بأطراف الزجاج من العصير
أي بكرائم الزجاج. ولم يمض فى هذا القول لأحد.
__________
(1) سورة آل عمران الآية رقم 75.
(2) الغيلة بكسر الغين : الخديعة والاحتيال.
(3) فى الأصل : أبو الهند وهو تحريف من الناسخ. واسمه عبد المؤمن بن عبد القدوس ، وهو من بنى زيد بن رياح. وقد ترجم له ابن قتيبة فى «الشعر والشعراء» ص 663 من طبعة عيسى الحلبي بتحقيق الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر ، وذكر صاحب «العقد الفريد» خبرا له وطرفا من أقواله ونوادر شرابه.
جزء 6 ص 342.
(2/178)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 180
ومن السورة التي يذكر فيها «إبراهيم عليه السلام»
[سورة إبراهيم (14) : آية 5]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
قوله سبحانه : وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [5] وهذه استعارة. والمراد بها - واللّه أعلم - التذكير بأيام نقم اللّه التي أوقعها بالماضين ، كعاد وثمود ومن جرى مجراهم : وهذا كقولنا : أيام العرب. وإنما تريد به الأيام التي كانت فيها الوقائع المشهورة والملاحم العظيمة. وقد يجوز أن يكون الأيام هاهنا عبارة عن أيام النعم ، كما قلنا إنها عبارة عن أيام النقم. فيكون المعنى : فذكّرهم بالأيام التي أنعم اللّه فيها عليهم وعلى الماضين من آبائهم بوقم «1» الأعداء ، وكشف اللأواء ، وإسباغ النعماء. ألا ترى أن أيام العرب التي هى عبارة عن الوقائع يكون فيها لبعضهم الظهور على بعض ، فذلك من النعم ، وعلى بعضهم السّوء والدائرة ، وتلك من النقم ؟ فالأيام إذن تذكرة لمن أراد التذكرة بالإنعام والانتقام.
[سورة إبراهيم (14) : آية 9]
أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
وقوله سبحانه : جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ [9] وهذه استعارة ، على وجه واحد من وجوه التأويلات التي حملت عليها هذه الآية. وذلك أن يكون المعنى ما ذهب إليه بعضهم من أن الأيدى هاهنا عبارة عن حجج الرسل عليهم السلام ، والبينات التي جاءوا بها قومهم ، وأكّدوا بها شرعهم. لأن بذلك يتم لهم السلطان عليهم والتدبير لهم ، وقد سمّوا السلطان يدا فى كثير من المواضع ، فقالوا : ما لفلان على فلان يد ، أي سلطان. ويقولون : قد زالت يد فلان الأمير. إذا عزل عن ولايته ،
__________
(1) وقم العدو : قهره وأذله ، ووقم الرجل : رده عن حاجته أقبح رد.
(2/179)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 181
بمعنى زال سلطانه عن رعيته. ويقولون : أخذت هذا الأمر باليد. أي بالسلطان. فالحجج التي جاء بها الأنبياء أممهم قد تسمى أيديا على ما ذكرناه ، فلما وصف الكفار على هذا التأويل بأنهم ردّوا أيدى الأنبياء - عليهم السلام - فى أفواههم ، كان المراد بذلك ردّ حججهم من حيث جاءت ، وطريق مجيئها أفواههم فكأنهم ردّوا عليهم أقوالهم ، وكذّبوا دعواهم.
وفى هذا التأويل بعد وتعسّف ، إلا أننا ذكرناه لحاجتنا إليه ، لما ذهبنا مذهب من حمل قوله سبحانه : فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ على الاستعارة لا على الحقيقة.
فإذا حملت الآية على حقيقة الأيدى التي هى الجوارح كان المراد بها مختلفا «1» فيه.
فمن العلماء من قال : المراد بذلك أنهم كانوا يعضّون أناملهم تغيظا «2» على الرسل عليهم السلام ، كما يفعل المغيظ المحنق ، والواجم المفكر.
وقال بعضهم : المراد بذلك أن المشركين أو مأوا إلى أفواه الأنبياء ، بالتسكيت لهم ، والقطع لكلامهم.
وقال بعضهم : بل المراد بذلك ضرب من الهزء «3» يفعله المجّان والسفهاء ، إذا أرادوا الاستهزاء ببعض الناس ، وقصدوا الوضع منه ، والإزراء عليه. فيجعلون أصابعهم فى أفواههم ويتبعون هذا الفعل بأصوات تشبهه وتجانسه ، يستدل بها على قصد السخف ، وتعمد الفحش. وهذا عندى بعيد من السداد ، وغيره من الأقوال أولى منه بالاعتماد.
__________
(1) فى الأصل : مختلف فيه. وهو تحريف من الناسخ. [.....]
(2) فى الأصل : تغيضا بالضاد المعجمة لا بالظاء المعجمة.
(3) الهزء بفتح الهاء والهزء بضمها : السخرية.
(2/180)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 182
و قد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك أن الكفار كانوا إذا بدأ عليهم الرسل بالكلام سدّوا بأيديهم أسماعهم دفعة ، وأفواههم دفعة ، إظهارا منهم لقلة الرغبة فى سماع كلامهم وجواب مقالهم ، ليدلّوهم - بهذا الفعل - على أنهم لا يصغون لهم إلى مقال ، ولا يجيبونهم عن سؤال ، إذ قد أبهموا طريقى السماع والجواب ، وهما الآذان والأفواه. وشاهد ذلك قوله سبحانه حاكيا عن نوح عليه السلام يعنى قومه : وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ ، وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً «1» فيكون معنى رد أيديهم فى أفواههم على القول الذي قلنا أن يمسكوا أفواههم بأكفهم ، كما يفعل المظهر الامتناع من الكلام. ويكون إنما ذكر تعالى ردّ الأيدى هاهنا - وهو يفيد فعل الشيء ثانيا بعد أن فعل أولا - لأنهم كانوا يكثرون هذا الفعل عند كلام الرسل عليهم السلام.
فوصفوا فى هذه الآية بما قد سبق لهم مثله ، وألف منهم فعله ، فحسن ذكر الأيدى بالرد على الوجه الذي أومأنا إليه. وأيضا فقد يقول القائل لغيره : اردد إليك يدك. بمعنى اقبضها وكفها. لا يريد غير ذلك.
[سورة إبراهيم (14) : آية 14]
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14)
وقوله سبحانه : ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ [14]. وهذه استعارة.
لأن المقام لا يضاف إلّا إلى من يجوز عليه القيام. وذلك مستحيل على اللّه سبحانه ، فإذن المراد به يوم القيامة ، لأن الناس يقومون فيه للحساب ، وعرض الأعمال على الثواب والعقاب ، فقال سبحانه فى صفة ذلك اليوم : يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «2».
وإنما أضاف تعالى هذا المقام إلى نفسه فى هذا الموضع ، وفى قوله :
__________
(1) سورة نوح عليه السلام. الآية رقم 7.
(2) سورة المطففين. الآية رقم 6.
(2/181)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 183
وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «1» لأن الحكم فى ذلك اليوم له خالصا ، لا يشاركه فيه حكم [حاكم ] «2» ، ولا يحادّه أمر آمر. وقد يجوز أن يكون المقام هاهنا معنى آخر ، وهو أن العرب تسمى المجامع التي تجتمع فيها لتدارس مفاخرها ، وتذاكر مآثرها «مقامات» و«مقاوم».
فيجوز أن يكون المراد بالمقام هاهنا الموضع الذي يقصّ فيه سبحانه على بريّته محاسن أعمالهم ، ومقابح أفعالهم ، لاستحقاق ثوابه وعقابه ، واستيجاب رحمته وعذابه ، وقد يقولون : هذا مقام فلان ومقامته ، على هذا الوجه ، وإن لم يكن الإنسان المذكور فى ذلك المكان قائما ، بل كان قاعدا أو مضطجعا. ومن الشاهد على ذلك قوله تعالى فى قصة سليمان عليه السلام :
أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ «3» أي من مجلسك. سماه مقاما - مع ذكره أنّ سليمان عليه السلام كان جالسا فيه - لأنه قال قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ. وإنما سماه مقاما ، لأن القاعد إذا قام بعد قعوده ففيه يكون قيامه. وهذا من غرائب القرآن الكريم. وقد استقصينا الكلام على ذلك فى كتابنا الكبير.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 17 الى 18]
يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)
وقوله سبحانه : وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ ، وَما هُوَ بِمَيِّتٍ ، وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ [17] فهذه استعارة. لأن المراد بذلك لو كان الموت الحقيقي ولم يكن «4» سبحانه ليقول : وَما هُوَ بِمَيِّتٍ ، وإنما المعنى أن غواشى الكروب ، وحوازب الأمور
__________
(1) سورة الرحمن. الآية رقم 46.
(2) لفظة «حاكم» ناقصة من الأصل. وقد وضعناها بين حاصرتين ، لأن السياق يقتضيها.
(3) سورة النمل. الآية رقم 39.
(4) هذه العبارة غير واضحة كما هى. والمقصود أن الموت هنا مجاز لا حقيقة ، ولو كان الموت هنا حقيقة لم يكن سبحانه ليقول : (و ما هو بميت). ولعل الواو زائدة فى قوله «و لم يكن»
(2/182)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 184
تطرقه من كل مطرق ، وتطلع عليه من كل مطلع. وقد يوصف المغموم بالكرب ، والمضغوط بالخطب بأنه فى غمرات الموت ، مبالغة فى عظيم ما يغشاه ، وأليم ما يلقاه.
و قوله سبحانه : أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ [18] فى هذه الآية استعارتان إحداهما «1» قوله تعالى : اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ «2».
[سورة إبراهيم (14) : آية 37]
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
وقوله سبحانه : فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [37]. وهذه من محاسن الاستعارة. وحقيقة الهوىّ النزول من علو إلى انخفاض كالهبوط. والمراد به هاهنا المبالغة فى صفة الأفئدة بالنّزوع إلى المقيمين بذلك المكان. ولو قال سبحانه : تحنّ إليهم ، لم يكن فيه من الفائدة ما فى قوله سبحانه : تَهْوِي إِلَيْهِمْ لأن الحنين قد يوصف به من هو مقيم فى مكانه ، والهوىّ يفيد انزعاج الهاوي من مستقرّه.
[سورة إبراهيم (14) : آية 43]
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43)
وقوله تعالى : لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ [43] وهذه استعارة.
والمراد بها صفة قلوبهم بالخلوّ من عزائم الصبر والجلد ، لعظيم الإشفاق والوجل. ومن عادة العرب أن يسمّوا الجبان يراعة جوفاء ، أي ليس بين جوانحه قلب.
وعلى ذلك قول جرير يهجو قوما ويصفهم بالجبن :
قل لخفيف القصبات الجوفان جيئوا بمثل عامر والعلهان «3»
__________
(1) فى الأصل : أحدهما. بالتذكير وهو تحريف من الناسخ.
(2) هنا ورقة ضائعة من الأصل. من الآية 18 إلى الآية 37.
(3) ورد هذا البيت فى ديوان جرير هكذا.
ويلكمو يا قصبات الجوفان جيئوا بمثل قعنب والعلهان
(2/183)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 185
و إنما وصف الجبان بأنه لا قلب له ، لأن القلب محل الشجاعة ، وإذا نقى المحل فأولى أن ينتفى الحالّ فيه. وهذا على المبالغة فى صفته بالجبن. ويسمون الشيء إذا كان خاليا «هواء» ، أي ليس فيه ما يشغله إلا الهواء.
وعلى هذا قول اللّه سبحانه : «1» وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً أي خاليا من التجلد ، وعاطلا من التصبّر. وقيل أيضا : إن معنى ذلك أنّ أفئدتهم منحرفة «2» لا تعى شيئا ، للرعب الذي دخلها ، والهول «3» الذي استولى عليها. فهى كالهواء الرقيق فى الانحراف ، وبطلان الضبط والامتساك.
[سورة إبراهيم (14) : آية 46]
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46)
وقوله سبحانه : وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ [46]. وهذه استعارة على إحدى القراءتين. وهما : لتزول. بكسر اللام الأولى وفتح اللام الأخرى. ولتزول.
بفتح اللام الأولى وضم الأخرى. وقرأنا بهذه القراءة للكسائى «4» وحده ، وقرأنا لبقية السبعة القراءة الأولى.
فمعنى القراءة الأولى أن يكون موضع «أن» فيها موضع نعم ، لأنها قد ترد «5» بهذا المعنى مثقلة : كقوله : (إنّ وراكبها «6»).
__________
(1) سورة القصص. الآية رقم 10.
(2) فى الأصل : مستحرفة.
(3) فى الأصل : والقول الذي استولى عليها. ولا معنى للقول هنا. وإنما هو الهول المقابل للرعب. [.....]
(4) الكسائي : هو على بن حمزة الكوفي ، أحد القراء السبعة. وإمام مدرسة فى النحو واللغة مشهورة. وكان مؤدبا للرشيد العباسي وابنه الأمين. توفى سنة 189 بمدينة الري.
(5) فى الأصل : قد تردد. وهو تحريف من الناسخ.
(6) هذا هو ما ردّ به ابن الزبير رضى اللّه عنه لمن قال له : لعن اللّه ناقة حملتنى إليك. فقال ابن الزبير : إنّ وراكبها. أي : نعم! ولعن راكبها. وهو من شواهد كتب معانى الحروف. انظر «مغنى اللبيب» ج 1 ص 36.
(2/184)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 186
و يجوز أن ترد مخففة. لأنّ «أن» على أصلها قد تأتى مخففة ومثقلة. ويكون المعنى واحدا.
وكذلك «أن» المفتوحة. قال الشاعر «1» :
أكاشره وأعلم أن كلانا على ما ساء صاحبه حريص
و أراد «أنّ كلانا» فخفف. فإذا تقرر ذلك صار تقدير الكلام فى الآية : ونعم كان مكرهم لتزول منه الجبال. وقد وردت هذه اللام فى موضع ليس ، لأن الحفيفة فيه تحمل «2».
قال الفرّاء «3» : سمعت العرب تقول : الكراء حينئذ لرخيص. ولم يقل : إن الكراء لرخيص. فيكون المراد : إن الجبال تزول من مكرهم استعظاما واستفظاعا ، لو كانت مما يعقل الحال ، ويقدر على الزوال. وهذه اللام هاهنا تومىء إلى معنى «تكاد» «4» ....
__________
(1) تعبت كثيرا فى معرفة اسم هذا الشاعر وفى العثور على هذا البيت فى المراجع الكثيرة فلم أهتد بعد طول بحث .. فلعل اللّه يوفق من يدلنا عليه فنشكر صنيعه.
(2) هنا الكلام ناقص ، ولعل الناسخ أراد أن يكتب «لأن الخفيفة فيه تحمل محمل ما ، وتكون اللام للجحود». وعبارة القرطبي فى هذا المقام واضحة دالة على الغرض حيث يقول فى جزء 9 ص 380 :
(إن : بمعنى ما. أي ما كان مكرهم لتزول منه الجبال. لضعفه ووهنه). ثم زاد القرطبي خمسة مواطن فى القرآن جاءت فيها «إن» بمعنى «ما» وهذا هو أحدها.
(3) الفراء هو يحيى بن زياد أبو زكريا إمام الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة والأدب. وكان فوق علمه باللغة والنحو فقيها متكلما مفسرا. وقد عهد إليه الخليفة المأمون بتربية ولديه. توفى سنة 207.
و هناك فراء آخر اسمه الحسين بن مسعود البغوي اشتهر بالفقه والحديث والتفسير وتوفى سنة 510 ه وليس هو المقصود هنا ، فقد ولد بعد وفاة الشريف الرضى بثلاثين عاما.
(4) هنا قطعة مفقودة من الكتاب تبلغ ورقة تقريبا.
(2/185)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 187
ومن السورة التي يذكر فيها الحجر
[سورة الحجر (15) : آية 72]
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
... وقوله سبحانه : لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [72]. وهذه استعارة. والمراد بها صفتهم بالتردد فى غيّهم ، والتسكع فى ضلالهم. فشبه تعالى المتلدد «1» فى غمرات الغى ، بالمتردد فى غمرات السكر.
[سورة الحجر (15) : آية 88]
لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
وقوله سبحانه : وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [88] وهذه استعارة. والمراد بها. ألن كنفك لهم ، ودم على لطفك بهم. وجعل سبحانه خفض الجناح هاهنا فى مقابلة قول العرب إذا وصفوا الرجل بالحدة عند الغضب : قد طار طيرة ، وقد هفا حلمه ، وقد طاش وقاره. فإذا قيل : قد خفض جناحه ، فإنما المراد به وصف الإنسان بلين الكنف ، والكظم عند الغضب. وذلك ضد وصفه بطيرة المغضب ، ونزوة المتوثب.
[سورة الحجر (15) : آية 91]
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
وقوله سبحانه : الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [91]. وهذه استعارة على أحد التأويلين. وهو أن يكون المعنى أنهم جعلوا القرآن أقساما مجزأة ، كالأعضاء المعضّاة «2» ، فآمنوا ببعض ، وكفروا ببعض. وقيل : جعلوه أقساما ، بأن قالوا : هو سحر وكهانة ، وكذب وإحالة.
وأما التأويل الآخر فى معنى (عضين) فيخرج به اللفظ عن أن يكون مستعارا «3» ، وذلك
__________
(1) المتلدد فى المكان : المتلبث به. أو المتحير المتلفت يمينا وشمالا.
(2) المعضاة : أي المجزأة المقسمة.
(3) فى الأصل : مستعار ، بالرفع وهو تحريف من الناسخ.
(2/186)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 188
أن يكون معناها على ما قاله بعض المفسرين معنى الكذب. قال : وهو جمع عضة ، كما كان فى القول الأول ، إلا أن العضة هاهنا معناها الكذب والزور ، وفى القول الأول معناها التجزئة والتقسيم. وقد ذكر ثقات أهل اللغة فى العضة وجوها. فقالوا : العضة النميمة ، والعضة الكذب ، وجمعه عضون. مثل عزة وعزون ، والعضة السّحر ، والعاضه الساحر.
وقد يجوز أن يكون جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ جمع عضة ، من السحر. أي جعلوه سحرا وكهانة ، كما قال سبحانه حاكيا عنهم إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ «1».
وإِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ «2».
[سورة الحجر (15) : آية 94]
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
وقوله سبحانه : فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [94]. وهذه استعارة. لأن الصّدع على الحقيقة إنما يصح فى الأجسام لا فى الخطاب والكلام. والفرق ، والصّدع ، والفصل فى كلامهم بمعنى واحد. ومن ذلك قولهم للمصيب فى كلامه : قد طبّق المفصل. ويقولون : فلان يفصل الخطاب. أي يصيب حقائقه ، ويوضح غوامضه.
فكأن المعنى فى قوله سبحانه : فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أي : أظهر القول وبينه فى الفرق بين الحق والباطل. من قولهم صدع الرداء. إذا شقه شقه شقا بينا ظاهرا. ومن ذلك صدع الزجاجة. إذا استطار فيها الشق ، واستبان فيها الكسر. وإنما قال سبحانه :
__________
(1) سورة المدثر. الآية رقم 24.
(2) سورة الأنعام. الآية رقم 7. وسورة هود. الآية رقم 7. وسورة سبأ. الآية رقم 43. وسورة الصافات. الآية رقم 15.
(2/187)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 189
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ولم يقل : فبلغ ما تؤمر ، لأن الصدع هاهنا أعم ظهورا ، وأشد تأثيرا.
وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك - واللّه أعلم - أن بالغ فى إظهار أمرك ، والدعاء إلى ربك ، حتى يكون الدين فى وضوح الصبح ، لا يشكك نهجه ، ولا يظلم فجه. مأخوذا ذلك من «1» «الصّديع» ، لشأنه ووضوح إعلانه.
__________
(1) الصديع : الصبح. سمى بذلك لانصداعه عن ظلمات الليل.
(2/188)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 190
ومن السورة التي يذكر فيها «النّحل»
[سورة النحل (16) : آية 2]
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
قوله سبحانه : يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [2] وهذه استعارة. لأن المراد بالروح هاهنا الوحى الذي يتضمن إحياء الخلق والبيان عن الحق. ومثل ذلك قوله سبحانه : وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «1» ومثله قوله سبحانه فى المسيح عليه السلام : إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ «2» فسماه تعالى روحا على هذا المعنى ، لأن به حيا «3» أمته ، وبقاء شريعته. وقد مضى معنى ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب.
فأما قوله سبحانه : وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ «4» فإنما أراد بذلك الروح التي خلقها ليحيى عباده بها ، وأضافها إلى نفسه كما أضاف الأرض إلى نفسه ، إذ يقول تعالى : أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها «5».
وكان شيخنا أبو الفتح عثمان بن «6» جنىّ رحمه اللّه يقول : معنى قولهم فى القسم :
لعمر اللّه ما قلت ذلك ، ولأفعلن ذلك. إنما يريدون به القسم بحياة يحيى اللّه بها ، لا حياة يحيى بها ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. فكان المقسم إذا أقسم بهذه الحياة دخل ما يخصه منها فى جملة قسمه ، وجرى ذلك مجرى قوله : لعمرى. فيصير مقسما بحياته التي أحياه اللّه بها.
__________
(1) سورة الشورى الآية رقم 52. [.....]
(2) سورة. النساء الآية رقم 171.
(3) هكذا بالأصل. ولعلها «حياة» أو «إحياء».
(4) فى الأصل : فنفخ بالفاء ، وصحة الآية : ونفخ بالواو. سورة السجدة آية رقم 9.
(5) سورة النساء. الآية رقم 97.
(6) تقدمت ترجمته فى مجازات سورة التوبة.
(2/189)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 191
و العمر هاهنا هو العمر. ومعناه الحياة.
وكنت أستحسن هذا القول منه جدا ، وله نظائر كنت أسمعها منه عند قراءتى عليه.
وكان - عفا اللّه عنه - كثير الاستنباط للخبايا ، والاستطلاع للخفايا.
[سورة النحل (16) : آية 7]
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7)
وقوله سبحانه : إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [7] وهذه استعارة على أحد التأويلين. وهو أن يكون المعنى : أنكم لا تبلغون هذا البلد إلا بأنصاف أنفسكم ، من عظم المشقة ، وبعد الشقة ، لأن الشق أحد قسمى الشيء. ومنه قولهم : شقيق النفس أي قسيمها ، فكأنه من الامتزاج بها شق منها. وعلى ذلك قول الشاعر «1» :
من بنى عامر لها نصف قلبى قسمة مثلما يشقّ الرّداء
فأما من حمل قوله تعالى : إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ على أن معناه المشقة والنصب والكد والدأب ، كان الكلام على قوله حقيقة ، وخرج عن حد الاستعارة. فكأنه سبحانه قال :
إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بمشقة الأنفس.
[سورة النحل (16) : آية 9]
وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
وقوله سبحانه : وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ [9] وهذه استعارة. لأن الجائر هو الضال نفسه. يقال : جار عن الطريق. إذا ضل عن نهجه ، وخرج عن سمته. ولكنهم لما قالوا : طريق قاصد. أي مقصد فيه ، جاز أن يقولوا : طريق جائر أي يجار فيه.
[سورة النحل (16) : الآيات 25 الى 26]
لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26)
وقوله سبحانه : لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ [25]. وهذه استعارة لأن الأوزار على الحقيقة هى الأثقال ، واحدها وزر. والمراد بها هاهنا : الخطايا والآثام ، لأنها تجرى مجرى الأثقال التي تقطع المتون ، وتنقض الظهور.
وفى معنى ذلك قولهم : فلان خفيف الظهر. إذا وصفوه بقلة العدد والعيال ، أو بقلة الذنوب والآثام.
__________
(1) لم أهتد إلى اسم هذا الشاعر بعد طويل بحث فى المراجع والمظان وكتب الشواهد والتفسير واللغة وغيرها. واللّه يجزل شكر من يدلنا عليه!.
(2/190)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 192
و قوله سبحانه : فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ [26] وهذه استعارة. لأن الإتيان هاهنا ليس يراد به الحضور عن غيبة ، والقرب بعد مسافة. وإنما ذلك كقول القائل : أتيت من جهة فلان. أي جاءنى المكروه من قبله. وأتى فلان من مأمنه.
أي ورد عليه الخوف من طريق الأمن ، والضر من مكان النفع.
[سورة النحل (16) : آية 28]
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
وقوله سبحانه فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [28]. وهذه استعارة.
وليس هناك شىء يلقى على الحقيقة. وإنما المراد بذلك طلب المسألة عن ذل واستكانة ، والتماس وشفاعة. لأن من كلامهم أن يقول القائل : ألقى إلىّ فلان بيده. أي خضع لى ، وسلّم لأمرى. وقد يجوز أيضا أن يكون معنى فألقوا السّلم. أي استسلموا وسلّموا.
فكانوا كمن طرح آلة المقارعة ، ونزع شكّة المحاربة. وفى معنى ذلك قوله سبحانه :
وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «1» أي لا تستسلموا لها ، وتوقعوا نفوسكم فيها.
[سورة النحل (16) : آية 40]
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
وقوله سبحانه «2» : إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [40].
وهذه استعارة. لأنه ليس هناك شىء على الحقيقة يؤمر ولا قول يسمع. وإنما هذا القول عبارة عن تحقيق الإرادة وسرعة وجود المراد ، من غير معاناة ولا مشقة ، فهو إخبار عن نفاذ قدرته تعالى. فإذا أراد أمرا كان لوقته ، من غير أن يبطىء إيجاده ، أو يتقاعس إنفاذه. وذلك بمنزلة قول أحدنا : «كن» فى خفة اللفظ به ، وسرعة التعبير عنه ، من غير كلفة تلحقه ، ولا مشقة تعترضه.
وقيل إن معنى قوله سبحانه : (كن) علامة للملائكة يدلهم بها عند سماعهم لها على أنه سيحدث كذا ، ويفعل كذا ، من محكمات التقدير ، ومبرمات التدبير.
__________
(1) سورة البقرة. الآية رقم 195.
(2) فى الأصل : «إنما أمرنا» وهو تحريف من الناسخ لكلام اللّه تعالى. والصحيح : «إنما قولنا لشىء إلخ - سورة النحل الآية رقم 40.
(2/191)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 193
[سورة النحل (16) : آية 48]
أَ وَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48)
وقوله سبحانه : أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ [48]. وهذه استعارة. لأن المراد بها رجوع الظلال من موضع إلى موضع.
والظلال على الحقيقة لا تتفيأ ولا تنقل ، وإنما ترد الشمس عليها ، ثم ترجع إلى ما كانت عليه ، بعد أن تزول الشمس عنها ، والشمس هى المتنقلة عليها ، والظلال قائمة بحالها.
[سورة النحل (16) : آية 69]
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
وقوله تعالى فى صفة النحل العسّالة : فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [69]. وفى هذه الآية استعارتان : إحداهما قوله تعالى : فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ، على قول من جعل ذللا حالا للسّبل ، لا حالا للنحل. والذّلل : جمع ذلول ، وهى الطرق الموطّأة للقدم ، السهلة على الحافر والمنسم ، تشبيها لها بالإبل الذلل ، وهى التي قد عوّدت الترحل ، وألفت المسير.
و الاستعارة الأخرى قوله سبحانه : يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ والمراد بذلك العسل. والعسل عند المحققين من العلماء غير خارج من بطون النحل ، وإنما تنقله بأفواهها من مساقطه ومواقعه من أوراق الأشجار ، وأضغاث النبات. لأنه يسقط كسقوط الندى فى أماكن مخصوصة ، وعلى أوصاف معلومة ، والنحل مهملة تتبع تلك المساقط ، وتعهد تلك المواقع ، فتنقل العسل بأفواهها إلى كواراتها «1» المواضع «2» المعدّة لها. فقال سبحانه : يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها والمراد من جهة بطونها. وجهة بطونها : أفواهها.
وهذا من غوامض هذا البيان ، وشرائف هذا الكلام.
__________
(1) الكوارات بضم الكاف وتشديد الواو جمع كوارة ، وهى بيت يتخذ للنحل من القضبان أو الطين تأوى إليه. أو هى عسلها فى الشمع.
(2) هكذا بالأصل ولعلها «و المواضع» بواو عاطفة.
(2/192)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 194
[سورة النحل (16) : الآيات 86 الى 87]
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87)
وقوله سبحانه : فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ [86] وهذه استعارة.
و المراد بإلقاء القول - واللّه أعلم - إخراج الكلام مع ضرب من الخضوع والاستكانة والإسرار والخفية ، كما قال سبحانه : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ «1» وفى هذا الكلام مفعول محذوف. فكأنه قال تعالى : تلقون إليهم الأخبار بالمودة. وهذا القول نزل فى قوم من المؤمنين كانوا يجتمعون مع قوم من المنافقين بأرحام تلفّهم ، وخلل «2» تولد عنهم ، فيتسقطونهم ليعرفوا منهم أخبار النبي صلّى اللّه عليه وسلم والمؤمنين ، فنهوا عن مناقشتهم والاجتماع معهم. فكأن المعنى :
تلقون إليهم الأسرار بالمودة التي بينكم ، على سبيل الإسرار والإخفاء.
وقد قيل إن المراد : تلقون «3» إليهم المودة ، فقال تعالى : بالمودّة ، كما قال سبحانه :
تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «4» أي تنبت الدهن على أحد التأويلين ، ونظير التأويل الأول قوله سبحانه فى ذكر الشياطين : يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ «5» أي يطلبون سماع الأخبار على وجه الاستخفاء والاستسرار. وهذا الوجه لا يصح «6» فى قوله تعالى : فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ [86] لأن الحال التي أخبر سبحانه بأن هذا يجرى فيها هى حال القيامة ، وتلك حال لا يجوز فيها الاستسرار لقول ، ولا الكتمان لسر ، لأن السرائر مظهرة والضمائر مصحرة. «7» وإنما المراد بهذا الكلام ما يقوله المعبودون لمن عبدهم من الأمة ، إذ يقول سبحانه : وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ ، قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ [86]
__________
(1) سورة الممتحنة. الآية رقم 1.
(2) الخلل : جمع خلة وهى الصداقة والصحبة.
(3) فى الأصل : يلقون.
(4) سورة المؤمنون. الآية رقم 20 [.....]
(5) سورة الشعراء. الآية رقم 223
(6) فى الأصل : من قوله تعالى. وهو تحريف من الناسخ صوابه ما أثبتناه
(7) أصحر الأمر : أظهره وأعلنه فى غير خفاء
(2/193)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 195
فقال المعبودون لهم فى الجواب عن ذلك : إنكم لكاذبون ، أي فى أنّا دعوناكم إلى العبادة ، أو فى قولكم إننا آلهة. وقد يجوز أيضا أن يكون التكذيب من العابدين للمعبودين ، فكأنهم قالوا لهم : كذبتم فى ادعائكم أنكم تستحقون العبادة من دون اللّه تعالى. فلم يبق إذن إلا الوجه الأول فى معنى إلقاء القول ، وهو أن يكون على وجه الخضوع والضراعة ، ويكون سبب هذه الاستكانة الخوف من اللّه سبحانه ، لا خوف بعض الشركاء من بعض. ومثل ذلك قوله سبحانه عقب هذه الآية : وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ [87] أي استسلموا له عن ضرع ذلة ، وانقطاع حيلة. ومن ذلك قولهم : ألقى فلان يد العاني. أي ذلّ ذلّ الأسير ، وخضع خضوع المقهور.
[سورة النحل (16) : آية 94]
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94)
وقوله سبحانه : وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ ، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها [94] وهذه استعارة. لأن المراد بالقدم هاهنا الثبات فى الدين. ولما كان أصل الثبات فى الشيء والاستقرار عليه إنما يكون بالقدم ، حسن أن يعبر عن هذا المعنى بلفظ القدم وكأن المراد بقوله تعالى : فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها أي يضعف دينكم ، ويضطرب يقينكم ، فيكون كالقدم الزّالة ، والقائمة المائدة.
[سورة النحل (16) : الآيات 102 الى 103]
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
وقوله سبحانه : قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [102] وهذه استعارة.
لأن المراد بذلك جبريل عليه السلام ، والتقديس : الطهارة. وإنما سمّى روح القدس لأن حياة الدين وطهارة المؤمنين إنما تكون بما يحمله إلى الأنبياء عليهم السلام من الأحكام والشرائع ، والآداب والمصالح.
وقوله سبحانه : لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ، وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [103] وهذه استعارة. لأن المراد باللسان هاهنا جملة القرآن وطريقته ، لا العضو
(2/194)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 196
المخصوص الذي يقع الكلام به. وذلك كما يقول العرب فى القصيدة : هذه لسان فلان.
أي قوله. قال شاعرهم :
لسان السّوء تهديها إلينا وحنت وما حسبتك أن تحينا «1»
أي مقالة السوء. ومثل ذلك قول الآخر «2» :
ندمت على لسان كان منى وددت بأنه فى جوف عكم
أي على قول سبق منى ، لأن الندم إنما يكون على الفعال والكلام ، لا على الأعضاء والأعيان.
وإنما سمى القول لسانا ، لأنه إنما يكون باللسان ، ويصدر عن اللسان.
[سورة النحل (16) : آية 112]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112)
و قوله سبحانه : وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ [112] وهذه استعارة. لأن حقيقة الذوق إنما تكون فى المطاعم والمشارب ، لا فى الكسى والملابس. وإنما خرج هذا الكلام مخرج الخبر عن العقاب النازل بهم ، والبلاء الشامل لهم. وقد عرف فى لسانهم أن يقولوا لمن عوقب على جريمة ، أو أخذ بجريرة : ذق غبّ فعلك ، واجن ثمرة جهلك. وإن كانت عقوبته ليست مما يحسّ بالطعم ، ويدرك بالذوق. فكأنّه سبحانه لما شملهم بالجوع والخوف على وجه العقوبة حسن أن
__________
(1) روى هذا البيت هنا على هذه الصورة. وفى «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبى جزء 10 ص 179 روى هكذا :
لسان الشر تهديها إلينا وخنت وما حسبتك أن تخونا ولم تذكر كتب الشواهد اسم قائل هذا البيت.
(2) هو الحطيئة الشاعر كما جاء فى «لسان العرب» مادة : لسن. إلا أنه روى فى اللسان هكذا :
ندمت على لسان فات منى فليت بأنه فى جوف عكم والعكم بكسر العين : العدل الذي توضع فيه الأشياء (الغرارة) أو الكارة.
(2/195)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 197
يقول تعالى : فأذاقهم ذلك ، أي أوجدهم مرارته كما يجد الذائق مرارة الشيء المرير ، ووخامة الطعم الكريه. وإنما قال سبحانه : لِباسَ الْجُوعِ ولم يقل : طعم الجوع والخوف ، لأن المراد بذلك - واللّه أعلم - وصف تلك الحال بالشمول لهم ، والاشتمال عليهم ، كاشتمال الملابس على الجلود ، لأن ما يظهر منهم عن مضيض الجوع وأليم الخوف ، من سوء الأحوال ، وشحوب الألوان ، وضئولة الأجسام ، كاللباس الشامل لهم ، والظاهر عليهم. وقد استقصينا الكلام على ذلك فى كتابنا الكبير.
(2/196)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 198
ومن السورة التي يذكر فيها «بنو إسرائيل»
«1»
[سورة الإسراء (17) : الآيات 12 الى 13]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13)
قوله سبحانه وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [12] وفى هذه الآية استعارتان إحداهما : قوله سبحانه : فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ. والآية العلامة. والمراد بمحوها - واللّه أعلم - على قول بعضهم أي جعلنا ظلمة الليل مشكلة ، لا يفهم معناها ، ولا يعلم فحواها ، لما استأثر اللّه تعالى بعلمه من المصلحة المستسرّة فى ذلك.
وحقيقة المحو طمس أثر الشيء. من قولهم : محوت الكتاب. إذا طمست سطوره ، حتى يشكل على القارئ ، ويخفى على الرائي «2».
وقال قوم : آية الليل القمر خاصّة. ومحوه : تصيير تلك الطمسة فى صفحته ، حتى نقص نوره عن نور الشمس ، لما يعلم اللّه سبحانه من المصلحة فى ذلك. وآية النهار الشمس. وقال آخرون : بل آيتا الليل والنهار ضوء هذا فى الجملة ، وظلمة هذا فى الجملة. لأن الضوء علامة النهار ، والظلمة علامة الليل ، على ما قدمنا ذكره. والاستعارة الأخرى قوله تعالى : وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً وفى ذلك وجهان : أحدهما أن يكون المراد أنا
__________
(1) هى سورة «الإسراء». وقد سميت من قديم سورة بنى إسرائيل. وقد قال ابن مسعود رضى اللّه عنه فى بنى إسرائيل ، والكهف ، ومريم : إنهن من العتاق الأول ، وهن من تلادى. يريد من قديم كسبه. انظر القرطبي ج 10 ص 203.
(2) فى الأصل «على الرأى» وهو تحريف من الناسخ.
(2/197)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 199
جعلناها مكشوفة القناع مبينة الإبصار ، على خلاف آية الليل إذ جعلناها مشرجة «1» الغلاف ، بهيمة الأطراف.
والوجه الآخر أن يكون معنى مبصرة أي يبصر الناس فيها ، ويهتدون بها كما تقدم قولنا فى قولهم : نهار صائم ، وليل نائم. أي أهل هذا صيام ، وأهل هذا نيام. وكما يقولون : رجل مخبث. إذا كان أهله وولده خبثاء. ورجل مضعف. إذا كانت دوابه وظهوره ضعفاء. فعلى هذا يسمى النهار مبصرا ، إذا كان أهله بصراء. وقد مضى الكلام على مثل ذلك فيما تقدم.
وقوله سبحانه : وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [13] وهذه استعارة.
والمراد بالطائر هاهنا - واللّه أعلم - ما يعمله الإنسان من خير وشر ، ونفع وضر. وذلك مأخوذ من زجر الطير على مذاهب العرب. لأنهم يتبركون بالطائر المتعرض من ذات اليمين ، ويتشاءمون بالطائر المتعرض من ذات الشمال.
ومعنى ذلك أنه سبحانه يجعل عمل الإنسان من الخير والشر كالطوق فى عنقه بإلزامه إياه ، والحكم عليه به. وقال بعضهم : معنى ذلك أنا جعلنا لكل إنسان دليلا من نفسه على ما بيّناه له ، وهديناه إليه. والعرب تقيم العنق والرقبة مقام الإنسان نفسه. فيقولون :
لى فى رقبة فلان دم ، ولى فى رقبته دين. أي عنده. وفلان أعتق رقبة. إذا أعتق عبدا أو أمة. ويقول الداعي فى دعائه : اللهم أعتق رقبتى من النار. وليس يريد العنق المخصوصة ، وإنما يريد الذات والجملة.
وجعل سبحانه الطائر مكان الدليل الذي يستدل به على استحقاق الثواب والعقاب ، على عادة العرب التي ذكرناها فى التبرك بالسانح ، والتشاؤم بالبارح.
__________
(1) أشرج الشيء : ضم بعضه إلى بعض وأحكم شده.
(2/198)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 200
[سورة الإسراء (17) : آية 24]
وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24)
وقوله سبحانه : وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [24]. وهذه استعارة عجيبة ، وعبارة شريفة. والمراد بذلك : الإخبات للوالدين ، وإلانة القول لهما ، والرفق واللطف بهما.
وخفض الجناح فى كلامهم عبارة عن الخضوع والتذلل ، وهما ضد العلو والتعزز.
إذ كان الطائر إنما يخفض جناحه إذا ترك الطيران ، والطيران هو العلوّ والارتفاع. وقد يستعار ذلك لفرط الغضب والاستشاطة «1». فيقال : قد طار فلان طيرة «2». إذا غضب واستشاط. وقد أومأنا إلى هذا المعنى فيما تقدم من هذا الكتاب.
وإنما قال سبحانه : وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [24]. ليبين تعالى أن سبب الذل لهما الرأفة والرحمة ، لئلا يقدر أنه الهوان والضراعة. وهذا من الأغراض الشريفة ، والأسرار اللطيفة.
[سورة الإسراء (17) : آية 29]
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29)
وقوله سبحانه : وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [29] وهذه استعارة. وليس المراد بها اليد التي هى الجارحة على الحقيقة ، وإنما الكلام الأول كناية عن التقتير ، والكلام الآخر كناية عن التبذير وكلاهما مذموم ، حتى يقف كل منهما عند حده ، ولا يجرى إلا إلى أمده. وقد فسّر هذا قوله سبحانه : وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ، وَلَمْ يَقْتُرُوا ، وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً «3».
__________
(1) فى الأصل «الاستشاط» وهو تحريف من الناسخ. لأن الفعل استشاط ، والمصدر استشاطة.
مثل استقام استقامة.
(2) فى الأصل «طيره» بالهاء وهو تحريف. والصواب بالتاء المربوطة المنقوطة.
(3) سورة الفرقان. الآية رقم 67.
(2/199)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 201
[سورة الإسراء (17) : الآيات 46 الى 47]
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47)
وقوله سبحانه : وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ، وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [46]. وهذه استعارة. لأنه ليس هناك على الحقيقة كنان على قلب ، ولا وقر فى سمع. وإنما المراد أنهم - لاستثقالهم سماع القرآن عند أمر اللّه سبحانه نبيه عليه السلام بتلاوته على أسماعهم وإفراغه فى آذانهم - كالذين على قلوبهم أكنّة دون علمه ، وفى آذانهم وقر دون فهمه ، وإن كانوا من قبل نفوسهم أتوا ، وبسوء اختيارهم أخذوا. ولو لم يكن الأمر كذلك لما ذمّوا على اطراحه ، ولعذروا بالإضراب عن استماعه.
وقوله سبحانه : نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ ، إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى [47] وهذه استعارة لأن النّجوى مصدر كالتقوى. وإنما وصفوا بالمصدر ، لما فى هذه الصفة من المبالغة فى ذكر ما هم عليه ، من كثرة تناجيهم ، وأسرار المكايد بينهم. والصفة بالمصادر تدلّ على قوة الشيء الموصوف بذلك. مثل قولهم : رجل رضا ، وقوم عدل. وما يجرى هذا المجرى.
[سورة الإسراء (17) : آية 59]
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59)
وقوله سبحانه : وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [59]. وهذه استعارة. والمعنى :
جعلنا الناقة آية مبصرة. أي مبصرة للعاشى «1». ومذكّرة للناسى ، ومظنة لاعتبار المعتبر ، وتفكر المفكر. لأن من عجائب تلك الناقة تمخض الصخرة بها من غير حمل بطن ، ولا فرع فحل. وأنها كانت تقاسم ثمود الورد ، فلها يوم ولثمود يوم.
قال سبحانه : لَها شِرْبٌ ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ «2» فإذا كان يومها
__________
(1) العاشى : اسم فاعل من عشا عن الشيء ، أي أعرض وصدر عنه إلى غيره.
(2) سورة الشعراء الآية رقم 155.
(2/200)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 202
شربت فيه الماء ، مثلما كانت ثمود تأخذ أشقاصها «1» وزروعها ، وأصرامها «2» وشروبها. وهذا من صوادح العبر ، وقوارع النذر.
وقال بعضهم : يجوز أن يكون معنى مبصرة هاهنا أي ذات إبصار. والتأويلان يؤولان إلى معنى واحد.
[سورة الإسراء (17) : آية 62]
قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62)
وقوله سبحانه عن إبليس : لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [62] وهذه استعارة على بعض التأويلات فى هذه الآية. وهو أن يكون الاحتناك هاهنا افتعالا من الحنك. أي لأقودنهم إلى المعاصي ، كما تقاد الدابة بحنكها ، غير ممتنعة على قائدها. وهى عبارة عن الاستيلاء عليهم ، والملكة لتصرفهم ، كما يملك الفارس تصرّف فرسه ، بثني العنان تارة ، وبكبح اللجام مرة.
وقال يعقوب «3» فى «إصلاح المنطق» : [يقال : حنك الدابة يحنكها حنكا ، إذا شدّ فى حنكها الأسفل حبلا يقودها به. وقد احتنك الدابة «4» مثل حنكها] إذا فعل بها ذلك.
وقال بعضهم : لأحتنكنّ ذرّيّته. أي لألقينّ فى أحناكهم حلاوة المعاصي ، حتى يستلذوها ، ويرغبوا فيها ويطلبوها. والقول الأول أحبّ إلىّ.
__________
(1) الأشقاص : جمع شقص بكسر الشين ، وهو القطعة من الشيء أو من الأرض. [.....]
(2) الأصرام : جمع صرم بكسر الصاد ، وهو الجماعة من الشيء أو من البيوت.
(3) هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق ، المعروف بابن السكيت ، وكان أبوه من أصحاب الكسائي المشهور فى اللغة والنحو. أما صاحبنا فقد شهد له المؤرخون بالعلم الغزير فى اللغة والشعر والثقة فى الرواية.
وكتابه «إصلاح المنطق» يقول فيه المبرد : «ما رأيت للبغداديين كتابا أحسن من كتاب يعقوب بن السكيت فى المنطق». توفى سنة 244. وقد طبع «إصلاح المنطق» طبعة موثقة بتحقيق الأستاذين أحمد محمد شاكر ، وعبد السلام محمد هارون.
(4) فى «إصلاح المنطق» ص 82 (و قد احتنك دابته).
(2/201)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 203
و قال بعضهم : لأستأصلنّ ذريته بالإغواء ، ولأستقصينّ إهلاكهم بالإضلال ، لأن اتباعهم غيه وطاعتهم أمره يؤولان بهم إلى موارد الهلاك ، وعواقب البوار.
وقال الشاعر :
نشكو إليك سنة قد أجحفت واحتنكت أموالنا وجلّفت «1»
أي أهلكت أموالنا.
ويقال : احتنكه إذا استأصله وأهلكه. ومن ذلك قولهم : احتنك الجراد الأرض.
إذا أتى على نبتها.
وقيل أيضا : المراد بذلك لأضيّقن عليهم مجارى الأنفاس من أحناكهم ، بإيصال الوسوسة لهم ، وتضاعف الإغواء عليهم ، ويقال : احتنك فلان فلانا. إذا أخذ بمجرى النفس من حنكه ، فكان كالشبا «2» فى مقلته والشجا «3» فى مسعله.
[سورة الإسراء (17) : آية 78]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78)
و قوله سبحانه أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ [78] وهذه استعارة. لأن الدالك : المائل فى كلامهم. فكأنه سبحانه أمر بإقامة الصلاة عند ميل الشمس. فقيل عند ميلها للزوال ، وقيل عند ميلها للغرب. والشمس على الحقيقة لا تميل عن موضعها ولا تزول عن مركزها ، وإنما تعلو أو تنخفض ، وترتفع بارتفاع الفلك وانخفاضه ، وسيره وحركاته.
[سورة الإسراء (17) : آية 81]
وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81)
وقوله سبحانه : وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [81]
__________
(1) ورد هذا الرجز فى «مجازات القرآن» لأبى عبيدة هكذا :
نشكو إليك سنة قد أجحفت جهدا إلى جهد بنا فأضعفت واحتنكت أموالنا وجلفت انظر «مجازات القرآن» لأبى عبيدة. طبعة سامى الخانجى ص 384. والرجز كذلك فى «الجامع لأحكام القرآن» ج 10 ص 287. ولم ينسبه أبو عبيدة ولا القرطبي لقائله.
(2) الشبا : جمع شباة وهى حد السيف أو قدر ما يقطع به منه.
(3) فى الأصل السجا بالسين المهملة. ولعله تحريف من الناسخ. فإن الشجا بالشين المعجمة ما يعترض الحلق فيشجى به.
(2/202)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 204
و هذه استعارة. لأنهم يقولون : زهقت نفس فلان إذا خرجت. ومنه قوله تعالى : وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ «1» فالمراد - واللّه أعلم - وهلك الباطل إنّ الباطل كان هلوكا. تشبيها له بمن فاضت نفسه ، وانتقضت بنيته. لأن الباطل لامساك لذمائه ، ولا سماك لبنائه.
[سورة الإسراء (17) : آية 84]
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84)
و قوله سبحانه : قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ [84] وهذه استعارة. لأن الأولى أن يكون المراد هاهنا بالشاكلة - واللّه أعلم - الطريقة التي تشاكل أخلاق الإنسان ، وتوافق طبيعته. وذلك مأخوذ من الشاكلة ، وجمعها شواكل ، وهى الطرق المتّسعة «2» عن المحجة العظمى. فكأن الدنيا هاهنا مشبّهة بالطريق الأعظم ، وعادات الناس فيها ، وطبائعهم التي جبلوا عليها مشبهة بالطرق المختلجة من ذلك الطريق ، الذي هو المعمود وإليه الرجوع.
وقال بعضهم : الشاكلة العلامة ، وأنشد :
بدت شواكل حبّ كنت تضمره فى القلب أن هتفت فى الدّار ورقاء «3»
فكأنه تعالى قال : كلّ يعمل على الدلالة التي نصبت لاستدلاله ، والأمارة التي رفعت لاهتدائه.
[سورة الإسراء (17) : آية 100]
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)
وقوله سبحانه : قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ [100] وهذه استعارة ، والمراد بالخزائن هاهنا المواضع التي جعلها اللّه سبحانه وتعالى
__________
(1) سورة التوبة. الآية رقم 55.
(2) هكذا بالأصل. ولعلها : المتشعبة.
(3) لم أهتد إلى قائل هذا البيت.
(2/203)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 205
جعات «1» لدرور الرزق ومنافع الخلق. وإلى تلك المواضع ترفع الأيدى عند السؤال والرغبات ، واستدراك «2» الخير والبركات.
[سورة الإسراء (17) : آية 106]
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106)
و قوله سبحانه : وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ [106] وهذه استعارة ، ومعنى فرقناه : أي بيّناه للناس بنصوع مصباحه ، وشدوخ أوضاحه ، حتى صار كمفرق الفرس فى وضوح مخطّه «3» أو كفرق الصبح فى بيان منبلجه.
وقال بعضهم : معنى فرقناه أي فصّلناه سورا وآيات. وذلك بمنزلة فرق الشعر ، وهو تمييز بعضه من بعض ، حتى يزول التباسه ، ويتخلص التفافه.
__________
(1) هكذا بالأصل. ولم أوفق إلى تحقيقها ، ولما كان الناسخ ضبط آخرها بكسرتين ، فهى جمع مؤنث سالم منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة على أنها مفعول به لجعل. ولعلها «جفنات».
(2) هكذا بالأصل ، ولا معنى لها ولعلها «و استدرار»
(3) المخط هو مكان الخط أو الفرق فى مفرق الحصان.
(2/204)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 206
ومن السورة التي يذكر فيها «الكهف»
[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2)
قوله سبحانه : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ، قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [1] وهذه استعارة. لأن حقيقة العوج أن يكون فيما يصح عليه أن ينصاب أو يميل ويضطرب ويستقيم. وهذه من صفات الأجسام ، لا من صفات الكلام.
فنقول : إنما وصف القرآن - واللّه أعلم - بأنه قيّم لا عوج فيه ، ذهابا إلى نفى الاختلاف عن معانيه ، والتناقض فى أوضاعه ومبانيه. وأنه غير ناكب عن المنهاج ، ولا مستمر على الاعوجاج.
[سورة الكهف (18) : آية 5]
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5)
وقوله سبحانه : كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [5] ووصف الكلمة هاهنا بالكبر استعارة. والمراد أن معناها فظيع ، وفحواها عظيم. وتقدير الكلام : كبرت الكلمة كلمة.
وللنصب هاهنا وجهان : أحدهما أن يكون على تفسير المضمر. مثل قولهم : نعم رجلا زيد ، وبئس صاحبا عمرو. والوجه الآخر أن يكون على التمييز فى الفعل المنقول ، نحو :
ساءت مرتفقا ، وتصبّب عرقا.
[سورة الكهف (18) : آية 8]
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)
وقوله سبحانه : وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً [8] وهذه استعارة.
لأن المراد بالجرز هاهنا الأرض التي لا نبات فيها ، وذلك مأخوذ من قولهم :
ناقة جروز. إذا كانت كثيرة الأكل ، لا يكاد لحياها يسكنان من قضم الأعلاف «1» ،
__________
(1) فى الأصل : الأحلاف. ولا معنى له هاهنا والأعلاف جمع علف ، وهو ما تعلفه الدابة.
(2/205)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 207
و نشط «1» الأعشاب. ومن ذلك قولهم : سيف جراز. إذا كان يبرى المفاصل ، ويقط الضرائب.
وإنما سمّيت تلك الأرض جرزا إذ كانت كأنّها تأكل نبتها ، فلا تدع منه نابغة ، ولا تترك طالعة. ونظير ذلك قولهم : أرض جدّاء : لا ماء فيها. تشبيها بالناقة التي لا لبن فيها ، وهى الجدّاء «2».
[سورة الكهف (18) : آية 11]
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11)
وقوله سبحانه : فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً [11].
وهذه استعارة. لأن المراد بها منع آذانهم من استماع الأصوات ، وهمس الحركات.
قال بعضهم : وذلك كالضرب على الكتاب لتشكل حروفه ، فتمتنع على القارئ قراءته.
و إنما دلّ تعالى على عدم الإحساس بالضّرب على الآذان ، دون الضرب على الأبصار ، لأن ذلك أبلغ فى الغرض المقصود ، من حيث كانت الأبصار قد يضرب عليها من غير عمى ، ولا يبطل إدراك بقية الحواس جملة ، وذلك عند تغميض الإنسان عينه. وليس كذلك منع الاستماع من غير صمم ، لأنه إذا ضرب عليها من غير صمم بالنوم الذي هو السهو على صفة دل ذلك على عدم الإحساس من كل جارحة يصح بها الإدراك. ولأن الأذن لما كانت طريقا إلى الأنباء ثم ضرب عليها ، لم يكن سبيل إلى الانتباه ، فبطل استماعهم. وفى هذا القول بعض التخليط.
__________
(1) نشطت الدابة العشب : إذا أكلته بسرعة وخفة. وقد نشطت الدابة : أي سمنت. [.....]
(2) الناقة الجداء : هى الصغيرة الثدي ، أو المقطوعة الأذن ، أو التي ذهب لبنها. انظر الفيروزآباذى مادة «جدد».
(2/206)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 208
و الذي أذهب إليه فى ذلك ما ذكرته فى كتابى الكبير على شرح واستقصاء ، وهو أن يكون المراد بقوله تعالى : فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ واللّه أعلم ، أي أخذنا أسماعهم.
ويكون ذلك من قول القائل : قد ضرب فلان على مالى. أي أخذه وحال بينى وبينه ، فأما تشبيه ذلك بالضرب على الكتاب حتى تشكل حروفه على المتأمل ففيه بعد وتعسّف.
وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك : وضربناهم على آذانهم ، من الضرب الحقيقي ، تشبيها بمن ضرب على سماخه «1» ، فهو موقوذ «2» مأموم «3» ، ومشدوه «4» مغمور.
[سورة الكهف (18) : آية 14]
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14)
وقوله سبحانه : وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [14]. الآية. وهذه استعارة. لأن الربط هو الشدّ. يقال : ربطت الأسير. إذا شددته بالحبل والقدّ»
.
و المراد بذلك : شددنا على قلوبهم كما تشد الأوعية بالأوكية «6» ، فتنضمّ على مكنونها ، ويؤمن التبدد على ما استودع فيها. أي فشددنا على قلوبهم لئلا تنحلّ معاقد صبرها «7» وتهفو عزائم جلدها. ومن ذلك قول القائل لصاحبه :
ربط اللّه على قلبك بالصبر.
__________
(1) السماخ والصماخ واحد. وهو خرق الأذن الباطن الماضي إلى تجويف الرأس.
(2) الموقوذ : المضروب ضربا شديدا حتى أشرف على الموت.
(3) أمه : شجه ، فهو مأموم.
(4) المشدوه : المشدوخ الرأس.
(5) القد : السير من الجلد.
(6) الأوكية : جمع وكاء ، وهو رباط القربة أو ما تشد به.
(7) فى الأصل : صعرها. وهو تحريف ، وقد أصلحناه من السياق فى لفظة الجلد المقابلة.
(2/207)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 209
[سورة الكهف (18) : الآيات 16 الى 17]
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17)
و قوله سبحانه : فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً [16]. وفى هذه الآية استعارتان : إحداهما قوله تعالى : يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ والرحمة هاهنا بمعنى النعمة. ولم يكن هناك مطوى فينشر ، ولا مكنون فيظهر. وإنما المراد بذلك : يسبغ اللّه عليكم نعمته ، على وجه الظهور والشياع ، دون الإخفاء والإسرار. فيكون ذلك كنشر الثوب المطوى وإظهار الشيء الخفي ، فى شياع الأمر ، وانتشار الذكر. والاستعارة الأخرى قوله تعالى : وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً [16]. وأصل المرفق ما ارتفق به. وهو مأخوذ من المرفقة. وهى التي يرتفق عليها ، أي يعتمد عليها بالمرفق.
ويقال مرفق ، ومرفق بمعنى واحد. وقد قرىء بهما جميعا بمعنى واحد. فكأنه قال :
يهيىء لكم من أمركم ما تعتمدون عليه وتستندون إليه ، ويكون لظهوركم عمادا ، ولأعضادكم سنادا.
وقوله سبحانه : وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ ، وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ ، وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ [17]. وفى هذه الآية استعارتان : أولاهما قوله تعالى فى ذكر الشمس : تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ لأن التزاور أصله الميل ، وهو مأخوذ من الزّور ، وهو الصدر. فكأنه سبحانه قال : إن الشمس تميل عن هذا الموضع ، كما يميل المتزاور عن الشيء بصدره ووجهه. ويبين بذلك عن موضع الكهف المشار إليه من جهات المشرق والمغرب أن الشمس لا يلحقه ثوبها عند الشروق ، ولا ينفض عليه «1» ... آخر الغروب.
__________
(1) هنا لفظة غير واضحة بالأصل.
(2/208)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 210
و الاستعارة الأخرى قوله تعالى : وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ. وفى ذلك قولان : أحدهما أن يكون المراد أنها تقرضهم فى ذات الشمال ، أي أنها تجوزهم عادلة بمطرح شعاعها عنهم. من قولهم : قرضت الشيء بالمقراض. إذا قطعته به. والمقراض متجاوز لأجزائه أولا حتى ينتهى إلى آخره. والقول الثاني : أن يكون المراد أنها تعطيهم القليل من شعاعها عند مرها بهم ، ثم تسترجعه عند انصرافها عنهم. تشبيها بقرض المال الذي يعطيه المعطى ليستردّه ، ويقدمه ليرتجعه. ومعنى قرض المال أيضا مأخوذ من القطع ، لأن المقرض يعطى للمقترض شقة من ماله ، وقطعة من حاله.
[سورة الكهف (18) : الآيات 21 الى 22]
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22)
وقوله سبحانه : وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [21].
وهذه استعارة. والمراد - واللّه أعلم - وكذلك أطلعنا عليهم. إلا أن فى لفظ الإعثار فائدة ، وهى مصادفة الشيء عن غير طلب له ولا إحساس به ، وهو «أفعلنا» من الإعثار.
و أصله أن الساعي فى طريقه إذا صدّ قدمه ، أو نكب أصبعه شىء ، ففى الأغلب أنه يقف عليه متأملا له ، وناظرا إليه. فكأنه استفاد علم ذلك من غير أن تتقدم معرفته به. ومن ذلك قول القائل لغيره : لأعثرنّ عليك بخطيئة فأعاقبك. أي لأقفن على ذلك منك.
وعلى هذا قوله سبحانه : فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً «1». أي اطّلع على ذلك منهما ، واستفيد العلم به من باطن أمرهما.
وقوله سبحانه : وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ [22].
وهذه استعارة لأن الرجم هاهنا هو القذف بالظن ، والقول بغير علم. ومن عادة
__________
(1) سورة المائدة. الآية رقم 107.
(2/209)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 211
العرب أن تسمى القائل بالظن راجما وقاذفا ، وتسمى السّابّ الشاتم راميا راجما.
ويقولون : هذا الأمر غيب مرجّم. أي يرميه الناس بظنونهم ، ويقدرونه بحسابهم.
ومرجّم إنما جاء لتكثير العمل ، كأنه يرمى من هاهنا ، ومن هاهنا. وإنما سمى الظان راجما لأنه يوجه الظن إلى غير جهة مطلوبة ، بل يظن هذا ، ويظن هذا ، كالراجم الذي لا يعلم مواقع أحجاره إذا رمى بها فى الجهات. فتارة تقع يمينا وتارة تقع شمالا.
[سورة الكهف (18) : الآيات 28 الى 29]
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29)
و قوله سبحانه : وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [28] وهذه استعارة. على أحد التأويلات فى هذه الآية. وهو أن يكون المراد بذلك : أننا تركنا قلبه غفلا من السّمات التي تتسم بها قلوب المؤمنين ، فتدل على زكاء أعمالهم ، وصلاح أحوالهم. كقوله سبحانه : أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ «1» وذلك تشبيه بالبعير إذا أغفل فترك بلا سمة يعرف بها ، على عادة العرب فى إقامة السّمات مقام العلامات المميزة بين أموالهم فى الموارد والمراعى وتعريف الضوالّ.
وفى هذه الآية أقوال أخر ، القول الذي قدمناه أدخلها فى باب الاستعارة. منها أن يكون معنى أَغْفَلْنا قَلْبَهُ أي نسبناه إلى الغفلة. كقول القائل أكفرت فلانا. إذا نسبته إلى الكفر ، وأبخلته إذا نسبته إلى البخل.
ومنها أن يكون المراد : سميناه غافلا بتعرضه للغفلة ، فكأن المعنى : حكمنا عليه بأنه غافل. كما يقول القائل : قد حكمت على فلان بأنه جاهل. أي لما ظهر الجهل منه وجب هذا القول فيه.
ومنها أن يكون ذلك من باب المصادفة. فيكون المعنى : صادفنا قلبه غافلا. كقول
__________
(1) سورة المجادلة الآية رقم 22
(2/210)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 212
القائل أحمدت فلانا. أي وجدته محمودا. وذلك يؤول إلى معنى العلم. فكأنه تعالى قال : علمناه غافلا. وعلى هذا قول عمرو بن معديكرب «1» لبنى سليم : (للّه درّكم يا بنى سليم! واللّه لقد قاتلناكم فما أجبنّاكم ، وهاجيناكم فما أفحمناكم ، وسألناكم فما أبخلناكم) أي لم نصادفكم على هذه الصفات ، من الجبن عند النزال ، والبخل عند السؤال ، والعىّ عند المقال «2».
وعلى ذلك قول نافع «3» بن خليفة الغنوىّ.
سألنا فأحمدنا ابن كلّ مرزّأ جواد وأبخلنا ابن كلّ بخيل
أي وجدنا هذا محمودا ، ووجدنا هذا بخيلا مذموما.
و فيما علقته عن قاضى القضاة أبى الحسين عبد الجبار «4» بن أحمد - أدام اللّه توفيقه - عند قراءتى عليه كتابه الموسوم «بتقريب الأصول» فى أخريات من الكلام فى
__________
(1) عمرو بن معديكرب الزبيدي كان فارسا من فرسان اليمن وصاحب غارات مشهورة. وقد على النبي عليه السلام سنة 9 ه فأسلم وقومه ، ولما توفى النبي ارتد عن الإسلام ، ثم رجع إليه فحسن إسلامه وشهد واقعة القادسية وسائر الفتوح. ومن شعره قصيدته التي يقول فيها :
إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع وتوفى سنة 21 ه على مقربة من مدينة الري.
(2) كان مقتقضى الترتيب هنا أن يقول : من الجبن عند النزال ، والعي عند المقال ، والبخل عند السؤال ، ليصح التقسيم.
(3) نافع بن خليفة الغنوي شاعر روى القالي قطعة من شعره فى «ذيل الأمالى» ص 116 ، كما ذكر الجاحظ فى «البيان والتبيين» أبياتا من شعره ج 1 ص 176. وقد جهدت - بعد جهد العلامة عبد العزيز الميمنى - فى معرفة شىء عنه فلم أوفق. ويقول عنه فى «سمط اللآلى» : (و نافع لم أعرفه ، ولا ذكره الآمدى) ج 3 من السمط ص 55. [.....]
(4) هو أبو الحسين الشافعي المعتزلي. وكان أحد شيوخ المؤلف. قرأ عليه فى مجازات القرآن وفى المجازات النبوية. وكان شيخ الاعتزال فى عصره. ويلقب بقاضى القضاة ولا يطلقون هذا اللقب على غيره.
توفى بالري سنة 415. انظر الأعلام للزركلى ، والغدير ج 4 للأمينى ص 163. وقد كان فى الأصل «أبو الحسن» فأصلحناه عن «الأعلام»
(2/211)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 213
التعديل والتجوير ، أنه لو لم يكن الأمر على ما قلناه فى إغفال القلب من أن المراد بذلك مصادفته غافلا ، وكان على ما قاله الخصوم من أنه تعالى صدف به عن أمره ، وصرفه عن ذكره لوجب أن يقول سبحانه : فاتّبع هواه. لقول القائل : أعطيته فأخذ ، وبسطته فانبسط ، وأكرهته فأذل. أي كانت هذه الأفعال منه مسببة عن أفعالى به.
لأن هذا وجه الكلام فى الأغلب الأعرف. فلما جاء بالواو صار كأنه قال : ولا تطع من غفل قلبه عن ذكرنا واتبع هواه. لأنه إذا وجد غافلا فهو الذي غفل ، والفعل حينئذ له ومنسوب إليه.
وقوله سبحانه : إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها ، وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً [29]. وفى هذه الآية استعارتان : أولاهما قوله تعالى : أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها والسرادق هو الفسطاط المحيط به. فوصفه «1» - سبحانه - النار بالإحاطة والاشتمال فلا ينجو منها ناج ، ولا يطلق منها عان. وذلك كقوله تعالى : وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً «2».
أي حبسا تحصرهم ، وطولا تقصرهم ، ومثل قوله سبحانه أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها قوله : إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ، فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ «3» والمؤصدة : المغلقة المطبقة. من قولهم أوصدت الباب وأصّدته «4». إذا أغلقته وأطبقته. وقرىء : عمد وعمد.
والمراد بقوله سبحانه : فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ مثل المراد فى قوله : أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها
__________
(1) هكذا بالأصل. وهو تحريف من الناسخ صوابه «فوصف».
(2) سورة الإسراء. الآية رقم 8.
(3) سورة الهمزة الآيتان 8 ، 9.
(4) ويقال أيضا آصد الباب على وزن أفعل مثل أصد بالتضعيف.
(2/212)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 214
تشبيها بتمديد الأخبية والسرادقات بالأطناب ، وإقامتها على الأعماد.
والاستعارة الأخرى قوله تعالى : وَساءَتْ مُرْتَفَقاً والمرتفق : المتكأ ، وهو ما يعتمد عليه بالمرفق ، ومنه المرفقة وهى المخدّة. وذلك نظير قوله سبحانه : وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ «1» فلما جاء سبحانه بذكر السرادق جاء بذكر المرافق ، ليتشابه الكلام.
[سورة الكهف (18) : آية 31]
أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)
وروى عن بعضهم أنه قال : معنى مرتفقا. أي مجتمعا ، كأنه ذهب إلى معنى : وساءت مرافقه. والمرافقة لا تكون إلا بالاجتماع جماعة. وهذا القول يخرج الكلام عن حدّ الاستعارة فيدخله فى باب الحقيقة. والوجه الأول أقوى. ويشهد له قوله سبحانه :
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ ، نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً [31] فجاء بذكر الارتفاق لما قدّم ذكر الاتكاء. وهذا أوضح «2» مشاهد.
[سورة الكهف (18) : آية 33]
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33)
وقوله سبحانه : كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [33].
وهذه استعارة. لأن الظلم هاهنا ليس على أصله فى اللغة ، ولا على عرفه فى الشريعة. لأنه فى اللغة اسم لوضع الشيء فى غير موضعه. وفى الشريعة اسم للضرر المفعول ، لا على وجه الاستحقاق ، ولا فيه استجلاب نفع ، ولا دفع ضرر.
والمراد بقوله تعالى هاهنا : وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أي لم تمنع منه شيئا. وإنما حسن أن يعبر عن هذا المعنى باسم الظلم من حيث كان ثمر تلك الجنة التي هى البستان كالمستحق لمالكها. فإذا أخذ حقه على كماله وتمامه حسن أن يقال : إنها لم تظلم منه شيئا. أي لم
__________
(1) سورة الرعد. الآية رقم 20 وفى سورة آل عمران. آية رقم 197 قوله تعالى «ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد» فالآيتان متشابهتان إلا فى «ثم» بدلا من الواو.
(2) هكذا بالأصل. ولعلها : واضح.
(2/213)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 215
تمنع منه مستحقا ، فتكون فى حكم الظالم إذ أضرت بمالكها فى نقصان زروعها ، وإخلاف ثمارها. ومما يقوّى ذلك قوله سبحانه : آتَتْ أُكُلَها. أي أعطت أكلها. فلما جاء بلفظ الإعطاء حسن أن يجىء بلفظ الظلم. ومعناه هاهنا المنع. فكأنه تعالى قال : أعطت ما استحق عليها ، ولم تمنع منه شيئا.
[سورة الكهف (18) : الآيات 56 الى 57]
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57)
وقوله تعالى : وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [56] وهذه استعارة. وأصل الدّحض الزّلق. ومكان دحض : أي مزلق. فكأنه سبحانه قال :
ليزلّوا الحق بعد ثباته ، ويزيلوه عن مستقراته. فيكون كالكسير بعد قوته ، والمائل بعد استقامته.
وقوله سبحانه : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ [57]. وهذه استعارة. لأن المراد بذكر اليدين هاهنا ما كسبه الإنسان من العمل الذي يجر العقاب ، ويوجب النكال. ومثله فى القرآن كثير. كقوله سبحانه :
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ «1» وذلك على طريقة للعرب معروفة. وهو أن يقولوا للجانى المعاقب : هذا ما جنت يداك. وهذا ما كسبت يداك. وإن لم تكن جنايته عملا بيد ، بل كانت قولا بفم. لأن الغالب على أفعال الفاعلين أن يفعلوها بأيديهم ، فحمل الأمر على الأعرف ، وخرج على الأكثر. وعلى هذا المعنى تسمى النعمة يدا ، لأن المنعم فى الأغلب يعطى بيده ما ينعم به ، وإن لم يقع ذلك فى كل حال ، وإنما الحكم للأظهر ، والقول على الأكثر.
[سورة الكهف (18) : آية 77]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77)
وقوله سبحانه : فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ [77] وهذه استعارة. لأن الإرادة على حقيقتها لا تصح على الجماد. والمعنى : يكاد أن ينقضّ ، أي
__________
(1) سورة آل عمران. الآية رقم 182.
(2/214)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 216
يقارب أن ينقضّ. على التشبيه بحال من يريد أن يفعل فى الباني ، لأنه لما ظهرت فيه أمارات الانقضاض ، من ميل بعد انتصاب ، واضطراب بعد ثبات ، حسن أن يطلق عليه إرادة الوقوع ، على طريقة الاتساع «1».
وترد فى كلامهم كاد بمعنى أراد ، وأراد بمعنى كاد. وجاء فى القرآن العظيم قوله تعالى :
كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ «2» أي أردنا ليوسف.
وقوله سبحانه : إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها «3» معناه - على أحد الأقوال - أريد أخفيها. ومما ورد فى أشعارهم شاهدا على ذلك قول عمر بن أبى ربيعة :
كادت وكدت ، وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصّبابة ما مضى «4»
فقال : وتلك خير إرادة ، والإشارة إلى كادت ، وكدت.
وأوضح من هذا قول الأفوه الأودى «5»
فإن تجمّع أوتاد وأعمدة وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا
أي الذي أرادوا.
__________
(1) فى الأصل. «الأتسباع» وهو تحريف من الناسخ.
(2) سورة يوسف. الآية رقم 76.
(3) سورة طه. الآية رقم 15.
(4) هذا البيت لم ينسب لقائله فى «شرح شواهد الكشاف» المسمى «تنزيل الآيات ، على الشواهد من الأبيات» للعلامة محب الدين أفندى ، ولم ينسبه القرطبي لأحد وإنما نقل عن الأنبارى قوله :
وشاهد هذا قول الفصيح من الشعر - انظر «جامع أحكام القرآن» ج 11 ص 184.
(5) هو صلاءة بن عمرو بن مالك. وهو شاعر يمانى جاهلى اشتهر بالسيادة والقيادة. وهذا البيت من قصيدة مشهورة يقول فيها :
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا وقبل بيت الشاهد هذا البيت :
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد وقد نسبه صاحب «شواهد الكشاف» للراقدة الأودى ، وهو تحريف مطبعى ، لأن مثل هذا لا يخفى على العلامة محب الدين.
(2/215)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 217
فأما قول الشاعر «1».
يريد الرمح صدر أبى براء ويرغب عن دماء بنى عقيل
فليس يصح حمله على مقاربة الفعل ، كما قلنا فى قوله سبحانه : جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ لأنه لا يستقيم على الكلام أن يقول : يكاد الرمح صدر أبى براء. وإنما ذلك على سبيل الاستعارة ، لأن صاحب الرمح إذا أراد ذلك كان الرمح كأنه مريد له. فأما قول الراعي يصف الإبل :
فى مهمه فلقت به هاماتها فلق الفؤوس إذا أردن نصولا «2»
فإنه بمعنى مقاربة الفعل ، لأن الفؤوس إذا فلقت فى نصبها قاربت أن تسقط ، فجعل ذلك كالإرادة منها. والنصول هاهنا مصدر نصل نصولا ، مثل وقع وقوعا. وهذا البيت من أقوى الشواهد على الآية.
[سورة الكهف (18) : آية 99]
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99)
وقوله سبحانه : وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [99] وهذه استعارة.
لأن أصل الموجان من صفات الماء الكثير ، وإنما عبّر سبحانه بذلك عن شدة اختلافهم ودخول بعضهم فى بعض لكثرة أضدادهم ، تشبيها بموج البحر المتلاطم ، والتفاف الدبا «3» المتعاظل.
__________
(1) لم ينسب هذا البيت لقائله فى «جامع أحكام القرآن» ج 11 ص 26 ، وكذلك لم ينسبه ابن مطرف الكناني فى كتابه «القرطين» طبع الخانجى ص 269 واكتفى بما أنشده السجستاني عن أبى عبيدة. وكذلك لم ينسبه ابن قتيبة فى «تأويل مشكل القرآن» ولا «لسان العرب». وأبو براء هو عامر بن مالك ولقبه ملاعب الأسنة. وترى أخباره فى «الشعر والشعراء» لابن قتيبة صفحات 231 ، 235 ، 295 ، 340 ، 341. وقد كان البيت فى الأصل : «تريد الريح ... إلخ» فأصلحناه عن القرطبي وابن مطرف الكناني. [.....]
(2) لم ينسب هذا البيت لقائله فى القرطبي ج 11 ص 26.
(3) الدبا : الجراد الصغير ، أو النمل. والمتعاظل : المتراكب بعضه فى بعض
(2/216)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 218
[سورة الكهف (18) : آية 101]
الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101)
وقوله سبحانه : الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي [101] وهذه استعارة. وليس المراد أن عيونهم على الحقيقة كانت فى غطاء يسترها وحجاز يحجزها.
وإنما المعنى أنهم كانوا ينظرون فلا يعتبرون ، أو تعرض لهم العبر فلا ينظرون. ومن الدليل على ذلك قوله تعالى : عَنْ ذِكْرِي لأن الأعين لا توصف بأنها فى غطاء عن ذكر اللّه تعالى ، لأن ذلك من صفات ذوى العيون. وإنما المراد أن أعينهم كانت تذهب صفحا عن مواقع العبر ، فلا يفكرون فيها ، ولا يعتبرون بها ، فيذكرون اللّه سبحانه عند إجالة أفكارهم ، وتصريف خواطرهم. وهذا من غرائب القرآن وعجائبه ، وغوامض هذا الكلام ومناسبه.
[سورة الكهف (18) : الآيات 104 الى 105]
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105)
وقوله سبحانه : الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [104] وهذه استعارة. وأصل الضلال ذهاب القاصد عن سنن «1» طريقه.
فكأنّ سعيهم لما كان فى غير الطريق المؤدية إلى رضا اللّه سبحانه ، حسن أن يوصف بالضلال ، والعدول عن سنن الرشاد.
وقوله سبحانه : أُولئِكَ «2» الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ ، فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ، فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [105]. وفى هذه الآية استعارتان إحداهما قوله سبحانه : بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ وتأويل لقائه هاهنا على وجهين : أحدهما أن يكون فيه مضاف محذوف. فكأنه تعالى قال : ولقاء ثوابه وعقابه. أو جنّته وناره.
والوجه الآخر أن يكون معنى ذلك رجوعهم إلى دار لا أمر فيها لغير اللّه سبحانه. فيصيرون إليها من غير أن يكون لهم عنها محيص ، أودونها محيد. وذلك مأخوذ من مقابلتك الشيء من غير أن تصرف عنه وجهك يمينا ولا شمالا.
__________
(1) فى الأصل «سر» وهو تحريف من الناسخ.
(2) فى الأصل بدئت الآية بغير لفظة أولئك وهو تحريف من الناسخ.
(2/217)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 219
يقول القائل : لقيت فلانا. أي قابلته بجملتى. وتقول : دارى تلقاء دار فلان. أي مقابلتها. فكانت كل واحدة منهما كالمقبلة على الأخرى. فلما كان لا أحد يوم القيامة يستطيع انصرافا عن الوجهة التي أمر اللّه سبحانه بجمع الناس إليها ، وحشرهم نحوها ، سمّى ذلك لقاء اللّه سبحانه على السّعة والمجاز.
و الاستعارة الأخرى قوله سبحانه : فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً والمراد بذلك - واللّه أعلم - أنا لا نجد لهم أعمالا صالحة تثقل «1» بها موازينهم يوم القيامة.
والميزان إذا كان ثقيلا سمّى مستقيما ، وقائما. وإذا كان خفيفا سمّى عادلا ، ومائلا.
وقد يجوز أن يكون معنى ذلك أنهم لا اعتداد بهم ، ولا نباهة لذكرهم فى يوم القيامة.
كما يقال فى التحقير للشىء : هذا لا وزن له ولا قيمة. وكما تقول : فلان عندى بالميزان الراجح ، إذا كان كريما عليك ، أو حبيبا إليك.
__________
(1) فى الأصل : يثقل بالياء وهى تحريف.
(2/218)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 220
ومن السورة التي يذكر فيها «مريم عليها السلام»
[سورة مريم (19) : آية 4]
قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
قوله سبحانه : قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [4] وهذه من الاستعارات العجيبة. والمراد بذلك : العبارة عن تكاثر الشّيب فى الرأس حتى يقهر بياضه ، وينصل سواده.
وفى هذا الكلام دليل على سرعة تضاعف الشيب وتزيّده وتلاحق مدده ، حتى يصير فى الإسراع والانتشار كاشتعال النار ، يعجز مطفيه ، ويغلب متلافيه.
[سورة مريم (19) : آية 23]
فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23)
وقوله سبحانه : فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ [23]. وهذه استعارة.
والمعنى : فجاء بها المخاض ، أو ألجأها المخاض إلى جذع النخلة ، لتجعله سنادا لها ، أو عمادا لظهرها. وهى التي لجأت إلى النخلة ، ولكنّ ضرب المخاض لما كان سببا لذلك ، حسن أن ينسب الفعل إليه فى إلجائها ، والمجيء بها
[سورة مريم (19) : آية 50]
وَ وَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
وقوله سبحانه : وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا ، وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [50] وهذه استعارة. والمراد بذكر اللسان هاهنا - واللّه أعلم - الثناء الجميل «1» الباقي فى أعقابهم ، والخالف فى آبائهم «2». والعرب تقول : جاءنى لسان فلان. يريد مدحه أو ذمه. ولما كان مصدر المدح والذم عن اللسان عبروا عنهما باسم اللسان.
وإنما قال سبحانه : لِسانَ صِدْقٍ. إضافة للسان إلى أفضل حالاته ، وأشرف متصرفاته ، لأن أفضل أحوال اللسان أن يخبر صدقا ، أو يقول حقا.
__________
(1) فى الأصل : (الجل) وهو تحريف من الناسخ.
(2) أي الباقي فى آبائهم.
(2/219)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 221
ومن السورة التي يذكر فيها موسى عليه السلام وهى «طه»
[سورة طه (20) : آية 15]
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15)
قوله سبحانه : إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [15] وهذه استعارة على أحد التأويلين. وهو مما سمعته من شيخنا أبى الفتح النحوي «1» ، عفا اللّه عنه. قال : الذي عليه حذّاق أصحابنا : أنّ كاد هاهنا على بابها من معنى المقاربة. إلا أن قوله تعالى : أخفيها يؤول إلى معنى الإظهار. لأن المراد به : أكاد أسلبها خفاءها. والخفاء : الغشاء والغطاء. مأخوذ من خفاء «2» القربة ، وهو الغشاء الذي يكون عليها.
فإذا سلب عن الساعة غطاؤها المانع من تجليها ظهرت للناس فرأوها. فكأنه تعالى قال : أكاد أظهرها. قال لى : وأنشدنى أبو على «3» منذ أيام بيتا هو من أنطق الشواهد على الغرض الذي رمينا. وكان سماعى ذلك من أبى الفتح رحمه اللّه ، وأبو على حينئذ باق لم يمت. وهو قول الشاعر «4».
لقد علم الأيقاظ أخفية الكرى تزجّجها من حالك واكتحالها
__________
(1) هو أبو الفتح عثمان بن جنى إمام النحو المشهور وأستاذ المؤلف ، وقد سبق تعريفنا به فى هوامش مجازات سورة التوبة.
(2) الخفاء : الغطاء : وجمعه أخفية.
(3) أبو على هو أبو على الفارسي ، واسمه الحسن بن أحمد بن عبد الغفار ، كان إماما فى العربية. وكان يسأل فى كل بلد يحل فيه عن مسائل من اللغة والنحو والصرف فيجيب إجابات سديدة. وصنف فى أسئلة كل بلد كتابا. وقد تعاصر المؤلف وابن جنى وأبو على الفارسي. وكان المؤلف شابا ناشئا حين تقدمت السن بأبى على الفارسي الذي توفى سنة 377 ه على حين أن الشريف الرضى ولد سنة 359 ه.
(4) هذا البيت لم يذكر له قائل. وهو من أبيات الشواهد فى «لسان العرب» ولم ينسب لقائله.
وأخفية النور : أكمته. وأخفية الكرى : الأعين.
(2/220)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 222
و معناه : لقد علم الأيقاظ عيونا. فجعل العين للنوم فى أنها مشتملة عليه ، كالخفاء للقربة فى أنه مشتمل عليها.
وقول الشاعر : أخفية الكرى من الاستعارات العجيبة ، والبدائع الغريبة. وقوله :
تزجّجها من حالك واكتحالها. يعود على العيون. كأنه قال : تزجّج العيون واكتحالها من سواد الليل. وهذا لا يكون إلا مع السهر وامتناع النوم ، لأن العيون حينئذ بانفتاحها تكون كالمباشرة لسواد الظلماء ، فيكون كالكحل لها.
والتزجّج : اسوداد العينين من الكحل. يقال : زجّجت «1» المرأة عينها وحاجبها.
إذا سودتهما بالإثمد.
وعلى التأويل الآخر يبعد الكلام عن طريق الاستعارة. وهو أن يكون أكاد هاهنا بمعنى أريد ، كما قلنا فيما مضى «2». ومن الشواهد على ذلك قول الشاعر :
أ منخرم شعبان لم تقض حاجة من الحاج كنا فى الأصم «3» نكيدها
أي كنا نريدها فى رجب. ويكون «أخفيها» على موضوعه من غير أن يعكس عن وجهه. ويكون المعنى : إن الساعة آتية أريد أستر وقت مجيئها ، لما فى ذلك من المصلحة. لأنه إذا كان المراد بإقامتها المجازاة على الأفعال ، والمؤاخذة بالأعمال ، كانت
__________
(1) ومنه قول الشاعر الراعي النميري :
إذا ما الغانيات برزن يوما وزججن الحواجب والعيونا وهذا البيت من شواهد النحو فى باب المفعول معه. انظر «أوضح المسالك ، إلى ألفية ابن مالك» الشاهد 259.
(2) فى الآية رقم 77 من سورة الكهف.
(3) الأصم : شهر رجب. وسمى بذلك لأنه كان لا يسمع فيه صوت السلاح لكونه شهرا حراما.
انظر لسان العرب. وقال الخليل : إنما سمى بذلك لأنه كان لا يسمع فيه صوت مستغيث ، ولا حركة قتال ، ولا قعقعة سلاح ، لأنه من الأشهر الحرم. [.....]
(2/221)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 223
الحكمة فى إخفاء وقتها ، ليكون الخلق فى كل حين وزمان على حذر من مجيئها ، ووجل من بغتتها «1» ، فيستعدوا قبل حلولها ، ويمهدوا قبل نزولها.
ويقوى ذلك قوله سبحانه : لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [15].
[سورة طه (20) : الآيات 21 الى 22]
قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22)
و قوله سبحانه : قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ ، سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى [21] وهذه استعارة. لأن المراد بالسيرة هاهنا الطريقة والعادة. وأصل السيرة مضىّ الإنسان فى تدبير بعض الأمور على طريقة حسنة أو قبيحة. يقال : سار فلان الأمير فينا سيرة جميلة. وسار بنا سيرة قبيحة. ولكن موسى عليه السلام لما كان يصرف عصاه - قبل أن تنقلب «2» حية - فى أشياء من مصالحه ، كما حكى سبحانه عنه بقوله : هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها ، وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي «3» وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) ثم قلبت حية ، جاز أن يقول تعالى : سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى أي إلى الحال التي كنت تصرفها معها فى المصالح المذكورة ، لأن تصرفها فى تلك الوجوه كالسيرة لها ، والطريقة المعروفة منها.
والمراد : سنعيدها إلى سيرتها الأولى. فانتصبت السيرة بإسقاط الجار «4».
وقوله سبحانه : وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [22] وهذه استعارة. والمراد بها - واللّه أعلم - وأدخل يدك فى قميصك مما يلى إحدى جهتى يديك.
وسميت تلك الجهتان جناحين ، لأنهما فى موضع الجناحين من الطائر. ويوضح عما ذكرنا قوله سبحانه فى مكان آخر : وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ «5» والجيب فى جهة إحدى اليدين.
__________
(1) فى الأصل : بعثتها ، وهو تحريف من الناسخ.
(2) فى الأصل : (تعلب) وهى تحريف.
(3) سورة طه. الآية رقم 18.
(4) إذا نزع الخافض ، أو سقط الجار انتصب الاسم بعده بدلا من جره.
(5) سورة النمل. الآية رقم 12.
(2/222)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 224
[سورة طه (20) : الآيات 27 الى 28]
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
و قوله سبحانه : وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي ، يَفْقَهُوا قَوْلِي [27] ، [28] وهذه استعارة. والمراد بها إزالة لفف «1» كان فى لسانه ، فعبر عنه بالعقدة. وعبر عن مسألة إزالته بحل العقدة ، ملاءمة بين النظام ، ومناسبة بين الكلام.
وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك إزالة التقية عن لسانه وكفايته سطوة فرعون وغواته ، حتى يؤدى عن اللّه سبحانه آمنا ، ويقول متمكنا ، فلا يكون معقود اللسان بالتقية ، ومعكوم الفم بالخوف والمراقبة. وذلك كقول القائل : لسان فلان معقود : إذا كان خائفا من الكلام. ولسان فلان منطلق : إذا كان مقداما على المقال.
[سورة طه (20) : آية 39]
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39)
وقوله سبحانه : وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [39]. وفى هذه الآية استعارتان. إحداهما قوله سبحانه : وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وليس المراد أن هناك شيئا يلقى عليه فى الحقيقة ، ولكن المعنى أننى جعلتك بحيث لا يراك أحد إلا أحبك ، ومال قلبه نحوك ، حتى أحبك فرعون وامرأته ، فتبنّياك وربّياك ، واسترضعا لك ، وكفلاك. وهذا كقول القائل : على وجه فلان قبول. وليس هناك على الحقيقة شىء يوما إليه. إلا أن كل ناظر ينظر إليه يقبله ، قلبه وتسر به نفسه.
و الاستعارة الأخرى قوله سبحانه : وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي والمراد بذلك - واللّه أعلم - أن تتربى بحيث أرعاك وأراك. وليس أن هاهنا شيئا يغيب عن رؤية اللّه سبحانه ، ولكن هذا الكلام يفيد الاختصاص بشدة الرعاية ، وفرط الحفظ والكلاءة «2». ولما كان الحافظ للشىء فى الأغلب يديم مراعاته بعينه ، جاء تعالى باسم العين بدلا من ذكر الحفظ والحراسة ، على طريق المجاز والاستعارة.
__________
(1) اللفف : التواء عصب فى اللسان يعطله عن الكلام.
(2) فى الأصل «و الكلاية» والصواب همزها.
(2/223)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 225
و يقول العربي لغيره : أنت منى بمرأى ومسمع. يريد بذلك أنه متوفر عليه برعايته ، ومنصرف إليه بمراعاته.
[سورة طه (20) : آية 41]
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
وقوله سبحانه : وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [41] وهذه استعارة. والمراد بها : واصطنعتك لتبلغ رسالتى ، وتنصرف على إرادتى ومحبتى ، وقال بعضهم : معنى لنفسى هاهنا : أي لمحبتى.
وإنما جاز أن يوقع النفس موقع المحبة لأن المحبة أخص شىء بالنفس ، فحسن أن تسمى بالنفس. وقد «1» يجوز أن يكون ذلك على معنى قول القائل : اتخذت هذا الغلام لنفسى ، أي جعلته خاصا لخدمتى ، لا يشاركنى فى استخدامه أحد غيرى. وسواء قال : اتخذته أو اتخذته لنفسى ، فى فائدة الاختصاص ، ليس أن هناك شيئا يتعلق بالنفس على الحقيقة.
[سورة طه (20) : آية 50]
قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50)
وقوله سبحانه : قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [50] وهذه استعارة على أحد التأويلين. والمراد بها - واللّه أعلم - أنه أكمل لكل شىء صورته ، وأتقن خلقته ، وهذا يعم كلّ مصوّر من حيوان وجماد وغير ذلك. فلا معنى لحمل من حمله على الحيوان فقط.
وعندى فى ذلك وجه آخر ، وإن كان الكلام يخرج به من باب الاستعارة.
و هو أن يكون فى الكلام تقدير وتأخير. فكأنه سبحانه قال : ربّنا الذي أعطى خلقه كل شىء ، ثم هداهم إلى مطاعمهم ومشاربهم ، ومناكحهم ، ومساكنهم وغير ذلك من مصالحهم. ويكون ذلك نظير قوله تعالى : وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ «2». ويكون المراد أنه سبحانه أعطى خلقه فى أول خلقهم
__________
(1) فى الأصل «فقد» ولا معنى للعطف بالفاء هنا.
(2) سورة إبراهيم. الآية رقم 34.
(2/224)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 226
كلّ «1» ما تزاح به عللهم ، ويتكامل معه خلقهم ، من سلامة الأعضاء ، واعتدال الأجزاء ، وترتيب المشاعر والحواس ، ومواقع الأسماع والأبصار ، ثم هداهم من بعد لمصالحهم ، ودلهم على مناكحهم ، وأجراهم فى مضمار التكليف إلى غاياتهم.
[سورة طه (20) : آية 53]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53)
وقوله سبحانه : الّذى جعل لكم الأرض مهادا «2» [53] وقد قرىء مهدا. وهذه استعارة. والمراد بها تشبيه الأرض بالمهاد المفترش ، ليمكن الاستقرار عليها ، والتقلب فيها. وقد مضى نظير هذه الاستعارة فيما تقدم. ومعنى المهاد والمهد واحد. وهو مثل الفرش والفراش. إلا أن المهد ربما استعمل فى رسم الآلة التي يجعل فيها الصبى الصغير ليحفظه ، وهو يؤول إلى معنى الفراش. والمهد أيضا : مصدر مهد ، يمهد ، مهدا. إذا مكّن موضعا لقدمه ، ومضجعا لجنبه.
[سورة طه (20) : آية 111]
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111)
و قوله سبحانه : وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ، وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً [111] وهذه استعارة. والمراد بها ما يظهر فى الوجوه يوم القيامة من آثار الضرع ، وأعلام الجزع. وذلك مأخوذ من تسميتهم الأسير «العاني». ومنه ما جاء فى بعض الكلام : النساء عوان عند أزواجهن. أي أسراء فى أيدى الأزواج. وعلى ذلك قول القائل : هذه المرأة فى حبال فلان. لأنه بما عقده من نكاحها كالآسر «3» لها ، والمالك «4» لرقها. فكأن الوجوه خضعت من خشية اللّه تعالى خضوع الأسير الذليل ، فى يد الآسر العزيز.
__________
(1) كتبها الناسخ «كلما» موصولة ، ولا محل للوصول هنا. فإن كل مضافة إلى ما التي بمعنى الذي.
(2) قرأ الكوفيون هنا وفى سورة الزخرف : مهدا ، أي كالمهد. وقرأ الباقون : مهادا وهو اسم ما يمهد كالفراش أو جمع مهد. انظر «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» للبيضاوى ج 4 ص 24.
(3) فى الأصل : (كالأسر) وهو تحريف من الناسخ.
(4) فى الأصل : (و الملك) وهو تحريف أيضا.
(2/225)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 227
ومن السورة التي يذكر فيها «الأنبياء عليهم السلام»
[سورة الأنبياء (21) : آية 11]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11)
قوله سبحانه : وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً [11] وحقيقة القصم كسر الشيء الصلب. وجعل هاهنا مستعارا للعبارة عن إهلاك الجبارين من أهل القرى أصلب ما كانوا عيدانا ، وأمنع أركانا.
[سورة الأنبياء (21) : آية 15]
فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)
و قوله سبحانه : فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ [15] وفى هذه الآية استعارتان. لأنه سبحانه جعل القوم الذين أهلكهم بعذابه بمنزلة النبات المحصود ، الذي أنيم بعد قيامه ، وأهمد بعد اشتطاطه واهتزازه.
والاستعارة الأخرى قوله تعالى : خامِدِينَ والخمود من صفات النار ، كما كان الحصيد من صفات النبات. فكأنه سبحانه شبّه همود أجسامهم بعد حراكها بخمود النار بعد اشتعالها. وقد يجوز أيضا - واللّه أعلم - أن يكون المراد تشبيههم بالنبات الذي حصد ثم أحرق. فيكون ذلك أبلغ فى صفتهم بالهلاك والبوار ، وامّحاء المعالم والآثار. لاجتماع صفتى الحصد والإحراق. وقال سبحانه : حَصِيداً خامِدِينَ. ولم يقل خامدا ، كما قال تعالى : فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ «1» ولم يقل خاضعة. لأنه سبحانه ردّ معنى خاضعين على أصحاب الأعناق ، لا على الأعناق. وكذلك يجوز رد معنى خامدين على القوم الذين أهلكوا ، لا على النبات الذي به شبّهوا.
__________
(1) سورة الشعراء. الآية رقم 4. [.....]
(2/226)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 228
و قيل معنى : حَتَّى «1» جَعَلْناهُمْ حَصِيداً أي سلطنا عليهم السيف يختليهم كما تختلى الزروع بالمنجل. وقد جاء فى الكلام : جعله اللّه حصيد سيفك ، وأسير خوفك.
[سورة الأنبياء (21) : آية 18]
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
و قوله سبحانه : بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ، وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [18]. وهذه استعارة. لأن حقيقة القذف من صفات الأشياء الثقيلة ، التي يرجم بها ، كالحجارة وغيرها. فجعل - سبحانه - إيراد الحق على الباطل بمنزلة الحجر الثقيل ، الذي يرضّ ما صكّه ، ويدمغ ما مسّه. ولما بدأ تعالى بذكر قذف الحق على الباطل وفىّ الاستعارة حقها ، وأعطاها واجبها ، فقال سبحانه :
فَيَدْمَغُهُ ولم يقل فيذهبه ويبطله. لأن الدمغ إنما يكون عن وقوع الأشياء الثقال ، وعلى طريق الغلبة والاستعلاء. فكأن الحق أصاب دماغ الباطل فأهلكه. والدماغ مقتل. ولذلك قال سبحانه من بعد : فَإِذا هُوَ زاهِقٌ والزاهق : الهالك.
[سورة الأنبياء (21) : آية 30]
أَ وَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30)
وقوله سبحانه : أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [30]. وهذه استعارة. لأن الرّتق هو سد خصاصة «2» الشيء ، ويقال :
رتق فلان الفتق. إذا سدّه. ومنه قيل للمرأة : رتقاء. إذا كان موضع مرّها من الذّكر ملتحما. وأصل ذلك مأخوذ من قولهم : رتق فتق الخباء والفسطاط وما يجرى مجراهما. إذا خاطه. فكأن السموات والأرض كانتا كالشىء المخيط الملتصق بعضه ببعض ، ففتقهما سبحانه ، بأن صدع ما بينهما بالهواء الرقيق ، والجو الفسيح.
__________
(1) فى الأصل : (فجعلناهم) وهو تحريف من الناسخ. لأن الآية التي يبين المؤلف المجاز فيها هى قوله تعالى : «فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ».
(2) فى الأصل «حصاصه» بدون نقط.
(2/227)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 229
و روى عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب - صلوات اللّه عليه وآله - معنى أن السموات كانت لا تمطر ، والأرض لا تنبت. ففتق اللّه سبحانه السماء بالأمطار ، والأرض بالنبات «1».
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 32 الى 33]
وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
وقوله سبحانه : وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [32] وهذه استعارة. لأن حقيقة السقف ما أظلّ الإنسان ، من علو بيت أو خباء ، أو ما يجرى مجرى ذلك. فلما كانت السماء تظل من تحتها ، وتعلو على أرضها ، حسن أن تسمّى «2» سقفا لذلك. ومعنى محفوظا : أي تحفظ «3» مما لا يمكن أن تحفظ من مثله سائر السقوف ، من الانفراج والانهدام والتشعث والاسترمام. وقد قيل : معنى ذلك حفظ السماء من مسارق السمع ، وتحصينها بمقاذف الشهب.
وقوله سبحانه : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [33]. وهذه استعارة. لأن أصل السبح هو التقلب والانتشار فى الأرض.
ومنه السباحة فى الماء. ولا يكون ذلك إلا من حيوان يتصرف. ولكن اللّه سبحانه لما جعل الليل والنهار والشمس والقمر مسخرة للتقلب فى هذا الفلك الدائر والصفيح السائر ، تتعاقب فيه وتتغاير ، وتتقارب وتتباعد ، حسن أن يعبّر عنها بما يعبر به عن الحيوان المتصرف ، وزيدت على ذلك شيئا ، فعبر عنها بالعبارة عن الحيوان المميز. فقيل : يسبحون ، ولم يقل :
تسبح ، لأنها فى الجري على الترتيب المتقن والتقدير المحكم أقوى تصرفا من الحيوان غير المميز. ولأن اللّه سبحانه أضاف إليها الفعل على تدبير ما يعقل ، فحسن أن يعبر عنها بالعبارة
__________
(1) نسب الشريف الرضى هذا الكلام للأمام على بن أبى طالب. وهذا التفسير منسوب لابن عباس رضى اللّه عنه ، كما ذكرنا ذلك فى مقدمة الكتاب ، وانظر «مناهل العرفان فى علوم القرآن» للزرقانى ج 1 ص 483. ورواية الإمام السيوطي فى «الإتقان» تؤيد قولنا ، انظر ص 187 ج 2 من كتاب «الإتقان فى علوم القرآن» للسيوطى.
(2) فى الأصل : يسمى بالياء وهو تحريف.
(3) فى الأصل : (يحفظ) بالياء وهو تحريف.
(2/228)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 230
عما يعقل مثل قوله تعالى : إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «1». ومثل قوله سبحانه : قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ «2» فقال : ادخلوا ولم يقل ادخلن. لأن خطابها لما خرج على مخرج خطاب من يعقل كان الأمر لها على مثال أمر من يعقل. وقد مضى الكلام على ذلك فيما تقدم.
[سورة الأنبياء (21) : آية 37]
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
وقوله سبحانه : خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [37]. وهذه استعارة. والمراد أن الإنسان خلق مستعجلا بطلب «3» ما يؤثره ، واستطراف ما يحذره. واللّه سبحانه إنما يعطيه ما طلب ، ويصرف عنه ما رهب ، على حسب ما يعلمه من مصالحه ، لا على حسب ما يسنح من مآربه.
وقيل ذلك على طريق المبالغة فى وصف الإنسان بالعجلة ، كما يقال فى الرجل الذكي :
إنما هو نار تتوقد ، وللإنسان البليد : إنما هو حجر جلمد.
فأما من قال من أصحاب التفسير : إن العجل هاهنا اسم من أسماء الطين ، وأورد عليه شاهدا من الشعر ، فلا اعتبار بقوله ، ولا التفات إلى شاهده ، فإنه شعر مولد «4» وقول فاسد.
[سورة الأنبياء (21) : آية 46]
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46)
و قوله سبحانه : وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ [46]. ولفظ النفحة هاهنا مستعار. والمراد بها إصابة الشيء اليسير من العذاب.
__________
(1) سورة يوسف. الآية رقم 4.
(2) سورة النمل. الآية رقم 18.
(3) فى الأصل : (يطلب) بالياء المثناة التحتية. وهو تحريف.
(4) أما الشعر الذي أنشدوه ليثبتوا به أن العجل هو الطين ، فهو قول الشاعر :
والنبع فى الصخرة الصماء منبته والنخل ينبت بين الماء والعجل انظر «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبى ج 11 ص 289.
(2/229)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 231
يقال : نفح فلان فلانا بيده. ونفح الفرس فلانا بحافره. إذا أصابه إصابة خفيفة ، ولم يبلغ فى إيلامه الغاية. فكأن النفحة هاهنا قدر يسير من العذاب ، يدل واقعه على عظيم متوقعه «1» ، [و] شاهده على فظيع غائبه.
[سورة الأنبياء (21) : آية 65]
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)
وقوله سبحانه : ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ ، لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ [65] وهذه استعارة. والمراد بها وصف ما لحقهم من الخضوع والاستكانة والإطراق عند لزوم الحجة ، فكأنهم شبّهوا بالمتردي على رأسه ، تدويخا بنصوع البيان ، وإبلاسا عند وضوح البرهان.
[سورة الأنبياء (21) : آية 74]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74)
و قوله سبحانه : وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ [74] ولفظ القرية هاهنا مستعار. والمراد به الجماعة التي كانت تعمل الخبائث من أهل القرية. وكشف سبحانه عن ذلك بقوله : إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ وفى هذا الكلام خبر عجيب ، لأنه تعالى جعل ما يلى لفظ القرية مؤنثا ، إذ كانت مؤنثة ، فقال : الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ. وجعل بقية الكلام مذكرا ، فقال : إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ لأن المراد به مذكر ، فصار الكلام فى الآية على قسمين : قسم عائد إلى اللفظ ، وقسم عائد على المعنى. وهذا من عجائب القرآن.
[سورة الأنبياء (21) : آية 79]
فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79)
وقوله سبحانه : وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ، وَكُنَّا فاعِلِينَ [79] ويسبح هاهنا استعارة. وقد مضى من الكلام فى «الرعد» على قوله تعالى : وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ «2» ما هو بعينه تأويل تسبيح الجبال هاهنا. وقد قيل فى ذلك وجه آخر يخرج به
__________
(1) فى الأصل بدون واو. وقد أثبتناها بين حاصرتين ، لأن بها يستقيم نسق الكلام.
(2) سورة الرعد الآية رقم 13.
(2/230)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 232
الكلام من حد الاستعارة. وهو أن يكون قوله تعالى : يُسَبِّحْنَ هاهنا مأخوذا من التسبيح ، وهو الإبعاد فى السير ، والتصرف فى الأرض. لا من التسبيح. فكأنه تعالى قال : وسخّرنا مع داود الجبال يسرن فى الأرض معه ، ويتصرفن على أمره ، طاعة له. ونظير ذلك قوله سبحانه فى «سبأ» : يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ «1» أي سيرى معه. والتأويب السير.
و إنما قال تعالى : يُسَبِّحْنَ عبارة عنها بتكثير الفعل من السّبح.
وقال سبحانه : إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا «2» أي تصرفا ومتسعا. ومجالا ومنفسحا.
[سورة الأنبياء (21) : آية 91]
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)
وقوله سبحانه : وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها ، فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا [91].
وهذه استعارة. والمراد هاهنا بالروح : إجراء روح المسيح عليه السلام فى مريم عليها السلام ، كما يحرى الهواء بالنفخ. لأنه حصل معها من غير علوق من ذكر ، ولا انتقال من طبق إلى طبق. وأضاف تعالى الروح إلى نفسه ، لمزية الاختصاص بالتعظيم ، والاصطفاء بالتكريم. إذا كان خلقه المسيح عليه السلام ، من غير توسط مناكحة ، ولا تقدم ملامسة.
[سورة الأنبياء (21) : آية 93]
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93)
وقوله سبحانه : وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ، كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ [93]. وهذه استعارة. والمراد بها : أنهم تفرقوا فى الأهواء ، واختلفوا فى الآراء ، وتقسمتهم المذاهب ، وتشعبت بهم الولائج «3». ومع ذلك فجميعهم راجع إلى اللّه سبحانه ، على أحد وجهين :
__________
(1) سورة سبأ. الآية رقم 10.
(2) سورة المزمل. الآية رقم 7.
(3) الولائج : جمع وليجة ، وهى بطانة الإنسان ومن يتخذه معتمدا عليه من غير أهله. [.....]
(2/231)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 233
إمّا أن يكون ذلك رجوعا فى الدنيا. فيكون المعنى : أنهم وإن اختلفوا فى الاعتقادات صائرون إلى الإقرار بأن اللّه سبحانه خالقهم ورازقهم ، ومصرفهم ومدبرهم. أو يكون ذلك رجوعا فى الآخرة ، فيكون المعنى أنهم راجعون إلى الدار التي جعلها اللّه تعالى مكان الجزاء على الأعمال ، وموفّى الثواب والعقاب وإلى حيث لا يحكم فيهم ، ولا يملك أمرهم إلا اللّه سبحانه.
وشبّه تخالفهم فى المذاهب ، وتفرقهم فى الطرائق ، مع أن أصلهم واحد ، وخالقهم واحد ، بقوم كانت بينهم وسائل متناسجة ، وعلائق متشابكة ، ثم تباعدوا تباعدا قطع تلك العلائق ، وشذب تلك الوصائل ، فصاروا أخيافا «1» مختلفين ، وأوزاعا «2» مفترقين.
[سورة الأنبياء (21) : آية 98]
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98)
وقوله سبحانه : إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [98] هذه استعارة. لأن الحصب هو ما يرمى به من الحصباء ، وهى الحصا الصغار. يقال : حصب فلان فلانا. إذا قذفه بالحصا. ويقولون : حصبنا الجمار. أي قذفنا فيها بالحصبات «3». فشبّه سبحانه قذفهم فى نار جهنم بالحصباء التي يرمى بها. من ذلّ مقاذفهم ، وهوان مطارحهم.
وفى ذلك أيضا معنى لطيف ، وهو أنه سبحانه لما قال : إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ والمراد هاهنا - واللّه أعلم - بما تعبدون : الأصنام ، والأغلب
__________
(1) الأخياف : المختلفون. يقال : هم إخوة أخياف ، أي أمهم واحدة والآباء شتى.
(2) الأوزاع : الجماعات. ولا واحد لها.
(3) فى الأصل «بالحصيات» بالياء المثناة التحتية. وهو تحريف ، والصواب بالحصبات. بالباء الموحدة التحتية.
(2/232)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 234
عليها أن تكون «1» من الحجارة ، حسن أن يسمّى الرمي بها فى نار جهنم حصبا ، وتسميتها حصبا إذ كانت حجارة ومن جنس الحصباء ، وجاز أن يسمّى قذف العابدين لها فى النار أيضا بذلك ، حملا على حكمها ، وإدخالا فى جملتها.
والفائدة فى قذف الأصنام مع عابديها فى نار جهنم أن يكون من زيادات عقابهم ، ورجحانات عذابهم ، لأنهم إذا كثرت مشاهدتهم لها فى أحوال العذاب كان ذلك أعظم لحسرتهم على عبادتها ، وندمهم على الدعاء إليها.
وقد قيل أيضا إنها إذا حميت بوقود النار - نعوذ باللّه منها - لصقت بأجسامهم ، فكانت من أقوى أسباب الإيلام لهم. وعلى هذا التأويل حمل جماعة من المفسرين قوله تعالى : فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ «2» وقوله سبحانه : يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ «3». وهذه استعارة والمراد بها على أحد القولين : إبطال السماء ونقض بنيتها ، وإعدام جملتها. من قولهم :
طوى الدّهر آل فلان. إذا أهلكهم «4» ، وعفّى آثارهم. وعلى القول الآخر يكون الطّىّ هاهنا على حقيقته فيكون المعنى : إن عرض السموات يطوى «5» حتى يجتمع بعد انتثاره ، ويتقارب بعد تباعد أقطاره. فيصير كالسجل المطوى ، وهو ما يكتب فيه من جلد ، أو قرطاس ، أو ثوب ، أو ما يجرى مجرى ذلك. والكتاب هاهنا مصدر ، كقولهم :
__________
(1) فى الأصل : (أن يكون) وهو تحريف من الناسخ.
(2) سورة البقرة. الآية رقم 24.
(3) «للكتاب» بالإفراد ، هى قراءة نافع أما قراءة الجمع «للكتب» فهى قراءة حفص وحمزة والكسائي ويحيى وخلف
(4) فى : الأصل (أهلكم) وهو تحريف من الناسخ.
(5) فى الأصل : (تطوى) وهو تحريف.
(2/233)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 235
كتبت ، كتابة ، وكتابا ، وكتبا. فيكون المعنى : يوم نطوى السماء كطى السجل ليكتب فيه ، فكأنه قال تعالى : كطى السجل للكتابة ، لأن الأغلب فى هذه الأشياء التي أومأنا إليها أن تطوى قبل أن تقع الكتابة فيها ، لأن ذلك الطى أبلغ فى التمكن منها.
(2/234)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 236
ومن السورة التي يذكر فيها «الحج»
[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
قوله تعالى : يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [1].
وهذه استعارة. لأن حقيقة الزلزلة هى حركة الأرض على الحال المفزعة. ومثل ذلك قولهم :
زلزل اللّه قدمه. وكان الأصل : أزلّ اللّه قدمه. بمعنى أزالها عن ثباتها واستقامتها ، وأسرع تعثرها وتهافتها. ثم ضوعف «1» ذلك ، فقيل : زلزل اللّه قدمه. كما قيل : دكّه اللّه ، ودكدكه. فالمراد بزلزلة الساعة - واللّه أعلم - رجفان القلوب من خوف ... «2» وزلات الأقدام من روعة موقعها. ويشهد بذلك قوله سبحانه : وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى
«3» [2] يريد تعالى من شدة الخوف والوجل ، والذهول والوهل.
[سورة الحج (22) : آية 5]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
وقوله سبحانه : وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [5] وهذه استعارة. لأن المراد هاهنا باهتزاز الأرض - واللّه أعلم - تشبيهها بالحيوان الذي همد بعد حراكه ، وخشع بعد تطالّه وإشرافه ، لعلّة «4» طرأت عليه ، فأصارته إلى ذلك ، ثم أفاق من تلك الغمرة ، وصحا من تلك السّكرة ، فتحرك بعد هموده ، واستهب «5» بعد ركوده. وكذلك حال الأرض إذا أماتها الجدب ، وأهمدها المحل ثم حالها إذا نضحها الغيث بسجاله ، وبلّها القطر ببلاله ،
__________
(1) التضعيف فى تصريف الأفعال معروف مثل : زلزل فى زل ، وصلصل فى صل.
(2) هنا بياض بالأصل.
(3) سورة الحج. الآية رقم 2.
(4) في الأصل : (لعله) وهو تحريف.
(5) كذا بالأصل.
(2/235)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 237
و اهتزت بالنبات ناضرة ، ورطبت بعد الجفوف متزيلة «1» ذلك تقدير العزيز العليم.
[سورة الحج (22) : آية 9]
ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9)
و قوله سبحانه : ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [9] وهذه استعارة.
والمراد بها - واللّه أعلم - الصفة بالإعراض عن سماع الرشد ، ولىّ العنق عن اتباع الحق. لأن المستقبل لسماع الشيء الذي لا يلائمه فى الأكثر يصرف دونه بصره ، ويثنى عنه عنقه.
والعطف : جانب القميص ، وبه سمى شق الإنسان عطفا ، لأن منه يكون ابتداء انعطافه ، وأول انحرافه. ومثل ذلك قوله سبحانه : وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ «2».
[سورة الحج (22) : آية 11]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11)
وقوله سبحانه : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ [11] وهذه استعارة. والمراد بها - واللّه أعلم - صفة الإنسان المضطرب الدين ، الضعيف اليقين ، الذي لم تثبت «3» فى الحق قدمه ، ولا استمرت عليه مريرته ، فأوهى شبهة تعرض له ينقاد معها ، ويفارق دينه لها ، تشبيها بالقائم على حرف مهواة. فأدنى عارض يزلقه ، وأضعف دافع يطرحه.
[سورة الحج (22) : الآيات 18 الى 19]
أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
و قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ [18] الآية.
وهذه استعارة.
والمراد - واللّه أعلم - بسجود الشمس والقمر والنجوم والشجر وما ليس بحيوان مميز ما يظهر فيه من آثار الخضوع للّه سبحانه ، وعلامات التدبير ، ودلائل التصريف
__________
(1) هكذا بالأصل. ولم أدر وجه الصواب فيه. [.....]
(2) سورة الإسراء. الآية رقم 83 وسورة فصلت. الآية رقم 51.
(3) فى الأصل : (لم يثبت) وهو تحريف من الناسخ. فالقدم مؤنثة.
(2/236)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 238
و التسخير ، فيحسن لذلك أن يسمّى ساجدا على أصل السجود فى اللغة ، لأنه الخضوع والاستكانة. أو يكون ذلك على معنى آخر ، وهو أن الذي يظهر فى الأشياء التي عدّدها ، من دلائل الصنعة ، وأعلام القدرة ، يدعو العارفين الموقنين إلى السجود ، ويبعثهم على الخضوع ، اعترافا له سبحانه بالاقتدار ، وإخباتا له بالإقرار. وذلك كما تقدّم من قولنا فى تسبيح الطير والجبال.
وقوله سبحانه : فَالَّذِينَ «1» كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ [19] وهذه استعارة. والمراد بها أن النار - نعوذ باللّه منها - تشتمل عليهم اشتمال الملابس على الأبدان ، حتى لا يسلم منها عضو من أعضائهم ، ولا يغيب عنها شىء من أجسادهم.
وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك - واللّه أعلم - أن سرابيل القطران التي ذكرها سبحانه ، فقال سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ «2» إذا لبسوها واشتعلت النار فيها صارت كأنها ثياب من نار ، لإحاطتها بهم واشتمالها عليهم.
[سورة الحج (22) : آية 46]
أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
وقوله سبحانه : فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [46] وهذه استعارة. لأن المراد بها ذهول القلوب عن التفكر فى الأدلة التي تؤدى إلى العلم. وذلك فى مقابلة قوله تعالى : ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى «3» فإذا وصف القلب عند تبيين الأشياء بالرؤية «4» والإبصار ، جاز أن يوصف عند الغفلة والذهول
__________
(1) فى الأصل : «و الذين» بالواو ، وهو تحريف من الناسخ.
(2) سورة إبراهيم. الآية رقم 50.
(3) سورة النجم الآية رقم 11.
(4) فى الأصل : «بالروية بدون همز الواو. وهو تحريف يضيع المعنى.
(2/237)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 239
بالعمى والضلال. وإنما جعلت القلوب هاهنا بمنزلة العيون ، لأن بالقلوب يوصل إلى المعلومات ، كما أن بالعيون يوصل إلى المرئيات. ولأن الرؤية «1» ترد فى كلامهم بمعنى العلم.
ألا تراهم يقولون : هذا الشيء منى بمرأى ومسمع. أي بحيث أعرفه وأعلمه ، ولا يريدون بذلك نظر العين ، ولا سمع الأذن.
و فى قوله سبحانه : فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ معنى عجيب ، وسر لطيف. وذلك أن سبحانه لم يرد نفى العمى عن الأبصار جملة. وكيف يكون ذلك وما يعرض من عمى كثير منها أشهر من أن نومئ «2» إليه ، وندل «3» عليه ؟ وإنما المراد - واللّه أعلم - أن الأبصار إذا كانت معها آلة الرؤية من سلامة الأحداق ، واتصال الشعاعات لم يجز أن لا ترى ما لا مانع لها من رؤيته. والقلوب بخلاف هذه الصفة بها ، قد يكون فيها آلة التفكر والنظر من سلامة البنية ، وصحة الروية وزوال الموانع العارضة ، ثم هى مع ذلك لاهية عن النظر ، ومتشاغلة عن التفكر. فلذلك أفردها اللّه سبحانه بصفة العمى عن الأبصار على الوجه الذي بيّناه مع الفائدة.
فأما الفائدة فى قوله سبحانه : وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [46] والقلب لا يكون إلا فى الصدر ، فإن هذا الاسم الذي هو القلب لما كان فيه اشتراك بين مسمّيات كقلب الإنسان ، وقلب النخلة ، والقلب الذي هو الصميم والصريح. من قولهم هو عربىّ «4» قلبا ، والقلب الذي هو مصدر قلبت الشيء أقلبه قلبا ، حسن أن يزال اللّبس بقوله تعالى : الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ احترازا من تجويز الاشتراك.
__________
(1) فى الأصل : «الروية» وهو تحريف سبق فى رقم 3.
(2) فى الأصل «يومى» بدون نقط.
(3) فى الأصل : «و يدل» بدون نقط.
(4) فى الأصل «عرى» وهو تحريف من الناسخ. وفى «الأساس» للزمخشرى : هو أعرابى قلب. أي محض واسط فى قومه.
(2/238)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 240
[سورة الحج (22) : آية 55]
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
و قوله سبحانه : حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً ، أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [55]. وهذا من أحسن الاستعارات. لأن العقيم المرأة التي لا تلد ، فكأنه سبحانه وصف ذلك اليوم بأنه لا ليل بعده ولا نهار ، لأن الزمان قد مضى ، والتكليف قد انقضى. فجعلت الأيام بمنزلة الولدان للّيالى ، وجعل ذلك اليوم من بينها عقيما ، لأنه لا ينتج ليلا بعده ، ولا يستخلف بدلا له. وقد يجوز أيضا أن يكون المراد - واللّه أعلم - أن ذلك اليوم لا خير بعده لمستحقى العقاب الذين قال اللّه سبحانه فى ذكرهم : وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً الآية ، فوصفه بالعقم لأنه لا ينتج لهم خيرا ، ولا ينتج لهم فرحا.
[سورة الحج (22) : آية 72]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
وقوله سبحانه : وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ [72]. وهذه استعارة. والمراد بها - واللّه أعلم - أن الكفار عند مرور الآيات بأسماعهم يظهر فى وجوههم من النكرة لسماعها والإعراض عن تأملها ، ما لا يخفى على المخالط لهم ، والناظر إليهم. وذلك كقول القائل : عرفت فى وجه فلان الشرّ. أي استدللت منه على اعتقاد المكروه ، وإرادة فعل القبيح.
ويحتمل قوله تعالى : «المنكر» هاهنا وجهين : أحدهما أن يكون المنكر ما ينكره الغير من أمرهم. والآخر أن يكون ما ينكرونهم هم من الهجوم عليهم ، بتلاوة القرآن. وصوادع البيان
(2/239)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 241
ومن السورة التي يذكر فيها «قد أفلح المؤمنون»
[سورة المؤمنون (23) : آية 12]
وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)
قوله سبحانه : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [12] وهذه استعارة.
لأن حقيقة السلالة هى أن تسلّ الشيء من الشيء. فكأن آدم عليه السلام لما خلق من أديم الأرض كان كأنّه انسلّ منها ، واستخرج من سرها. وقد صار ذلك عبارة عن محض الشيء ومصاصه «1» ، وصفوته ولبابه. ليس أن هناك شيئا استل من شىء على الحقيقة.
وقد تسمّى النطفة سلالة على هذا المعنى. ويسمى ولد الرّجل سلالة أيضا على مثل ذلك.
[سورة المؤمنون (23) : آية 17]
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17)
وقوله سبحانه : وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ ، وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ [17]. وهذه استعارة. لأن المراد بالطرائق هاهنا السموات السبع ، مشبّهة بطرائق النّعل ، وواحدتها : طريقة. وقد يجمع أيضا على طريق. فهى قطع الجلود يجعل بعضها فوق بعض وينتظم بالخرز. ويقال : طارقت النعل. من ذلك.
[سورة المؤمنون (23) : آية 27]
فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
وقوله سبحانه : اصْنَعِ «2» الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا [27] وهذه استعارة. والقول فيها كالقول فى : وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي «3». على حدّ سواء. فكأنه سبحانه قال :
واصنع الفلك بحيث نرعاك ونحفظك ، ونمنع منك من يريدك.
__________
(1) المصاص من الشيء : خالصه. يقال : فلان مصاص قومه. إذا كان أخلصهم نسبا. ومثله :
المصة. انظر القاموس المحيط واللسان.
(2) فى الأصل : «و اصنع» بالواو. وهو تحريف من الناسخ.
(3) سورة طه. الآية رقم 39. وقد تقدم الكلام عن هذه الآية فى سورة طه.
(2/240)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 242
أو يكون المعنى : واصنع الفلك بأعين أوليائنا من الملائكة والمؤمنين. فإنا نمنعك بهم ، ونشدك بمعاضدتهم ، فلا يصل إليك من أرادك ، ولا تبلغك مرامى من كادك.
[سورة المؤمنون (23) : آية 41]
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
وقوله سبحانه : فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [41] وهذه استعارة.
والمراد بها - واللّه أعلم - أنه عاجلهم بالاستئصال والهلاك ، فطاحوا كما يطيح الغثاء إذا سال به السيل. والغثاء : ما حملت السيول فى ممرها من أضغاث النبات ، وهشيم الأوراق وما يجرى مجرى ذلك. فكأن أولئك القوم هلكوا ، ولم يحسّ لهم أثر ، كما لا يحسّ أثر ما طاح به السيل من هذه الأشياء المذكورة.
والعرب يعبرون عن هلاك القوم بقولهم : قد سال بهم السيل. فيجوز أن يكون قوله سبحانه : فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً. كناية عن الهلاك ، كما كنوا بقولهم : سال بهم السيل عن الهلاك. والمعنى : فجعلناهم كالغثاء الطافح فى سرعة انجفاله «1» ، وهوان فقدانه.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 62 الى 63]
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63)
وقوله سبحانه : وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ «2» لا يُظْلَمُونَ [62]. وهذه استعارة. والنطق لا يوصف به إلا من يتكلم بآلة.
و سمعت قاضى القضاة «3» أبا الحسن يجيب بذلك من يسأله : هل يجوز أن يوصف القديم تعالى بأنه ناطق ، كما يوصف بأنه يتكلم ؟ فمنع من ذلك ، وقال : ما قدمت ذكره. فوصف سبحانه القرآن بالنطق مبالغة فى وصفه بإظهار البيان. وإعلان البرهان ، وتشبيها باللسان الناطق ، فى الإبانة عن ضميره ، والكشف عن مستوره.
وقوله سبحانه : بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا [63] وهذه استعارة. والمراد
__________
(1) الانجفال : الهرب فى إسراع. [.....]
(2) فى الأصل : «فهم» بالفاء. وهو تحريف من الناسخ.
(3) تقدمت ترجمتنا له عند الكلام فى مجازات سورة الكهف.
(2/241)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 243
بها أن القوم الذين قال سبحانه فيهم أمام هذه الآية هم الموصوفون بقوله تعالى : بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا أي فى حيرة تغمرها ، وغمة تسترها. والغمر جمع غمرة. وهو ما وقع الإنسان فيه من أمر مذهل ، وخطب مدلّه ، مشبه بغمرات الماء التي تغمر الواقع فيها ، وتأخذ بكظم «1» المغمور بها.
[سورة المؤمنون (23) : آية 71]
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
وقوله سبحانه : وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [71]. وهذه استعارة. والمراد بها : ولو كان الحق موافقا لأهوائهم لعاد كلّ إلى ضلاله ، وأوقع كل فى بطله ، لأن الحق يدعو إلى المصالح والمحاسن. والأهواء تدعو إلى المفاسد والمقابح ، فلو اتبع الحقّ قائد الهوى لشمل الفساد ، وعمّ الاختلاط ، وخفضت أعلام الهداية ، ورفع «2» منار الغواية.
[سورة المؤمنون (23) : آية 103]
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103)
و قوله سبحانه : وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ [103] وهذه استعارة على أحد التأويلين. وهو أن يكون معنى الموازين هاهنا المعادلة بين الأعمال بالحق «3» ...
__________
(1) الكظم بفتح الكاف والظاء : مخرج النفس. جمعه أكظام وكظام.
(2) فى الأصل «و رفعت» وهو تحريف من الناسخ. لأن المنار مذكر.
(3) هنا قطعة ناقصة من الأصل تبلغ ورقة تقريبا من الآية رقم 103 من سورة المؤمنون ، إلى الآية 24 من سورة النور.
(2/242)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 244
ومن السورة التي يذكر فيها «النور»
[سورة النور (24) : آية 24]
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)
... [و قوله سبحانه : يَوْمَ تَشْهَدُ] «1» عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [24]. وهذه استعارة على أحد التأويلات الثلاثة ، وهو أنه سبحانه يجعل فى الأيدى التي بسطت إلى المحظورات ، والأرجل التي سعت إلى المحرمات ، علامة تقوم مقام النطق المصرّح ، واللسان المفصح ، فى الشهادة على أصحابها ، والاعتراف بذنوبها.
فأما شهادة الألسنة فقد قيل إن المراد بها إقرارهم على نفوسهم بما واقعوه من المعاصي ، إذ علموا أن الكذب لا ينفعهم ، والجحود لا يغنى عنهم.
وليس ذلك بمناقض لقوله سبحانه : الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «2» لأنه قد قيل فى ذلك إنه جائز أن تخرج ألسنتهم من أفواههم فتنطق بمجرّدها ، من غير اتصال بجوزاتها ولهواتها. فيكون ذلك أعجب لها ، وأبلغ فى معنى شهادتها. ويختم فى تلك الحال على أفواههم.
و قيل يجوز أن يكون الختم على الأفواه إنما هو فى حال شهادة الأيدى والأرجل ، بعد ما تقدم من شهادة الألسن.
وأما التأويلان الآخران فى معنى شهادة الأيدى والأرجل ، فالكلام يخرج بهما عن حد الاستعارة إلى الحقيقة. وذلك أنهم قالوا : إن اللّه سبحانه يبنى الأيدى والأرجل بنية تكون هى الناطقة بما تشهد به عليهم ، من غير أن يكون النطق منسوبا إليهم.
__________
(1) ما بين حاصرتين ، هو من القطعة الناقصة من الأصل وقد أكملناه.
(2) سورة يس. الآية رقم 65.
(2/243)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 245
[سورة النور (24) : آية 31]
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
وقوله سبحانه : وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ [31] وهذه استعارة. والمراد بها :
إسبال الخمر التي هى المقانع على فرجات الجيوب ، لأنها خصاصات «1» إلى الترائب والصدور ، والثدي والشعور. وأصل الضرب من قولهم : ضربت الفسطاط. إذا أقمته بإقامة أعماده ، وضرب أوتاده. فاستعير هاهنا كناية عن التناهى فى إسبال الخمر ، وإضفاء الأزر.
[سورة النور (24) : آية 35]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
وقوله سبحانه : اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [35] وهذه استعارة. والمراد بذلك عند بعض العلماء أنه هادى أهل السموات والأرض بصوادع برهانه ، ونواصع بيانه ، كما يهتدى بالأنوار الثاقبة ، والشّهب اللامعة.
وقال بعضهم : المراد بذلك - واللّه أعلم - اللّه منوّر السموات والأرض بمطالع نجومها ، ومشارق أقمارها وشموسها.
وقوله سبحانه : يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ [35] وهذه مبالغة فى وصف الزيت بالصفاء والخلاصة ، على طريق المجاز والاستعارة ، حتى يقارب أن يضىء من غير أن يتصل بنار ويناط بذلك.
[سورة النور (24) : آية 37]
رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37)
وقوله سبحانه : يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ [37] وهذه استعارة.
والمراد بتقلب القلوب هاهنا : تغيّر الأحوال عليها ، من الخوف والرجاء ، والسرور والغم ، إشفاقا من العقاب ، ورجاء للثواب. والأولى صفة أعداء اللّه ، والأخرى صفة أولياء اللّه.
وأما تقلّب الأبصار فالمراد به تكرير لحظ المؤمنين إلى مطالع الثواب ، وتكرير لحظ الكافرين إلى مطالع العقاب.
__________
(1) الخصاصات : جمع خصاصة بفتح الخاء ، وهو الخرق فى الباب أو البرقع وغيرهما. والجمع خصاص وخصاصات.
(2/244)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 246
[سورة النور (24) : آية 39]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39)
وقوله سبحانه : وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً ، حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ، وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ ، وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ [39].
قوله تعالى : وَوَجَدَ اللَّهَ استعارة ومجاز. والمعنى : فوجد وعيد اللّه سبحانه عند انتهائه إلى منقطع عمله السيّء ، فكاله بصواعه ، وجازاه بجزائه. وذلك يكون يوم المعاد ، وعند انقطاع تكليف العباد.
وقد قيل أيضا : إن الضمير في قوله تعالى : عِنْدَهُ يعود إلى الكافر لا إلى عمله ، فكأنه تعالى قال : فوجد اللّه قريبا منه ، أي وجد عقابه مرصدا له ، فأخذه من كثب ، وجازاه بما اكتسب. وذلك كقول القائل : اللّه عند لسان كل قائل. أي يجازيه على قول الحق بالثواب ، وعلى قول الباطل بالعقاب. والقولان جميعا يؤولان إلى معنى واحد.
[سورة النور (24) : الآيات 43 الى 44]
أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44)
و قوله سبحانه : وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ ، وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ [43]. وهذه استعارة على بعض التأويلات. لأن الجبال هاهنا يراد بها السحاب الثّقال ، تشبيها لها بكثائف أطوادها ، ومشارف هضابها.
و يكون الضمير فى قوله سبحانه : مِنْ جِبالٍ فِيها عائدا على السماء لا على الجبال.
فكأنّ التقدير : وينزل من جبال من السماء من برد ، يريد من السحاب المشبهة بالجبال.
وتكون الفائدة فى قوله من جبال فى السماء تخصيص تلك الجبال من جبال الأرض.
لأنا لو جعلنا الضمير الذي فيها عائدا على الجبال أوهم أنها جبال تنزل إلى الأرض من السماء. فإذا جعلنا الضمير عائدا إلى السماء أمن الالتباس ، وكان فى ذلك أيضا تعجّب لنا
(2/245)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 247
من وصف جبال فى السماء على طريق التشبيه ، لأن الجبال على الحقيقة لا تكون إلا فى قرارات الأرض ، وصفحات التّرب.
وقوله سبحانه : يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ [44] وهذه استعارة. والمراد بها طرد النهار بالليل ، وطرد الليل بالنهار. فكنى عن ذلك سبحانه باسم التقليب. وليس المراد تقليب «1» الأعيان ، بل تغاير الأزمان.
__________
(1) أي ليس المراد التقليب المادي للأشياء العينية الذاتية.
(2/246)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 248
ومن السورة التي يذكر فيها «الفرقان»
[سورة الفرقان (25) : آية 12]
إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12)
قوله تعالى : إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [12] وفى هذه الآية استعارتان. إحداهما قوله سبحانه : إِذا رَأَتْهُمْ وهو فى صفة نار جهنم ، نعوذ باللّه منها ، ولا تصحّ صفة الرّؤية عليها. وإنما المراد - واللّه أعلم - إذا كانت منهم بمقدار مسافة لو كان بها من يوصف بالرؤية لرآهم. وهذا من لطائف التأويل ، وغرائب التفسير.
وقد يجوز أيضا أن يكون معنى ذلك : إذا قربت منهم ، وظهرت لهم. من قولهم :
دور بنى فلان تتراءى. أي تتقارب. وفى الحديث : لا تتراءى نارا هما «1» أي لا تتدانى.
والاستعارة الأخرى قوله سبحانه : سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وهاتان الصفتان من صفات الحيوان ، ويختص التغيظ بالإنسان ، لأن الغيظ من أعلى منازل الغضب ، والغضب
__________
(1) الحديث بأكمله فى «صحيح أبى داود» الجزء الأول. باب على ما يقال المشركون ، كتاب الجهاد. ص 261 ونصه : (حدثنا هناد بن السرى ثنا أبو معاوية عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبد اللّه. قال : بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود ، فأسرع فيهم القتل قال : فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فأمر لهم بنصف العقل ، وقال : أنا برىء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ، قالوا يا رسول اللّه لم ؟ قال : لا تراءى ناراهما) وفى سنن النسائي ج 2 ص 245 جاء هذا الحديث فى باب القود بغير حديدة. كتاب القسامة. وقد أورد المؤلف هذا الحديث فى كتابه «المجازات النبوية» وتحدث عما فيه من مجاز حديثا رائعا.
صفحة 200 من المجازات النبوية. طبعة القاهرة سنة 1356 سنة 1937 ، وجاء هذا الحديث فى «لسان العرب» وفسره صاحب اللسان ثم قال : وقال أبو عبيد : معنى الحديث أن المسلم لا يحل له أن يسكن بلاد المشركين ، فيكون معهم بقدر ما يرى كل واحد منهم نار صاحبه.
(2/247)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 249
لا يوصف بحقيقته إلا الناس. والزفير قد يشترك فى الصفة به الإنسان وغير الإنسان. وإنما المراد بهاتين الصفتين المبالغة فى وصف النار بالاهتياج والاضطرام ، على عادة المغيظ والغضبان.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 23 الى 25]
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25)
وقوله تعالى : وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباد استقرار وسكون ، وإنما يريد أنه قصد إلى سبّه ، وتظاهر بثلبه. وقال الشاعر : «1»
فإنّ أباكم تارك ما سألتمو فمهما أتيتم فاقدموه على علم
يقال : قدمت هذا الأمر. وأنا أقدمه. إذا أتيته وقصدته. وقد ذكر بعض العلماء فى ذلك وجها آخر. قال : إنما قال سبحانه : وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ لأنه عاملهم معاملة القادم من غيبة. أو كان - بطول إمهاله لهم - كالغائب عنهم ثم قدم ، فرآهم على خلاف ما أمرهم به ، واستعملهم فيه ، فأحبط أعمالهم الفاسدة ، وعاقبهم عقاب العاند عن الطاعة ، المرتكس فى الضّلالة. والمعتمد على القول الأول.
وقوله تعالى : فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [23] مجاز آخر. وذلك أنه لم يجعل عملهم على الحقيقة هباء منثورا ، وهو الغبار الدقيق هاهنا. ومنه الهابى. وإنما أراد سبحانه أنه أبطل ذلك العمل فعفا رسمه ، وسقط حكمه ، وبطل بطلان الغبار المحق ، والغثاء المتفرق.
__________
(1) لم أعثر على اسم صاحب هذا البيت فى كثير من المراجع.
(2/248)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 250
و قوله تعالى : أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [24] وهذه استعارة. لأن المقيل من صفات المواضع التي ينام فيها ، ولا نوم فى الجنة. وتقدير الكلام :
وأحسن موضع قائلة. فكأن ذلك المكان من وثارة مهاده ، وبرد أفيائه ، يصلح أن ينام فيه لو كان ذلك جائزا. وهذا كقوله سبحانه فى ذكر أصحاب الجنة : وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا «1» أي مثل أوقات البكرة والعشىّ المعهودين فى حال الدنيا. لأن الجنة لا يوصف زمانها بالأيام والليالى ، لأن ذلك من صفات الزمان الذي تتعاقب عليه الشمس طالعة وغاربة ، فيسمّى نهارا بطلوعها ، ويسمّى ليلا بقبوعها «2» وقوله سبحانه : وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [25].
وهذه استعارة. والمراد بها - واللّه أعلم - على أحد القولين صفة السماء فى ذلك اليوم بتعاظم الغمام فيها ، وانتشاره فى نواحيها. كما يقول القائل : قد تشققت الغمائم بالبرق ، وتشققت السحاب بالرعد. إذا كثر ذلك فيها. ليس أن هناك تشققا على الحقيقة ، فى قول أهل الشرع. وقيل أيضا : إن المراد بذلك انتقاض بنية السماء وتغيرها إلى غير ماهى عليه الآن ، كما تظهر فى البناء آثار التداعي ، وأعلام التهافت ، من تثلّم أطراف ، وتفطّر أقطار ، فيكون ذلك مؤذنا بانقضاضه ، ومنذرا بانتقاضه.
وقال سبحانه : يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ «3».
وقال تعالى : يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ «4». ويكون انتقاض
__________
(1) سورة مريم. الآية رقم 62.
(2) القبوع : الاختفاء ومنه : قبع النجم أي ظهر ثم خفى.
(3) سورة إبراهيم. الآية رقم 48. [.....]
(4) سورة الأنبياء. الآية رقم 104 وقد سبق الحديث عن قراءة «للكتاب» و«للكتب» بالمفرد والجمع ، فى سورة الأنبياء.
(2/249)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 251
بنية السماء عن ظهور الغمام الذي آذننا سبحانه بمجيئه يوم القيامة ، إذ يقول عزّ من قائل : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ «1».
ومعنى تشقّق السماء بالغمام. أي عن الغمام. كما يقول القائل : رميت بالقوس ، وعن القوس. بمعنى واحد.
[سورة الفرقان (25) : آية 43]
أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43)
وقوله تعالى : أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [43].
وهذه استعارة على أحد التأويلين. وهو أن يكون فى الكلام تقديم وتأخير. فكأنه تعالى قال : أرأيت من اتخذ هواه إلاهه. معنى ذلك أنه جعل هواه آمرا يطيعه ، وقائدا يتبعه ، فكأنه قد عبده لفرط تعظيمه له.
ومن أمثالهم : الهوى إله معبود. على المعنى الذي ذكرنا. وذكر أحمد بن يحيى البلاذري «2» فى كتاب (الأشراف) أن هذه الآية نزلت فى الحارث بن قيس بن عدىّ السّهمى ، وهو من عبدة الأوثان ، لأنه كان كلما رأى حجرا أحسن من الذي اقتناه لعبادته أخذه واطّرح ما عبده.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 47]
أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47)
و قوله سبحانه : أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ، ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ، ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً [45] وفى هذه الآية استعارتان. إحداهما قوله تعالى «3» [ : أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ [45] أي ] ألم تر إلى فعل
__________
(1) سورة البقرة ، الآية رقم 210.
(2) هو المؤرخ الجغرافى النسابة : جالس الخليفة المتوكل العباسي ، ومدح المأمون ، ومات فى أيام المعتمد. سنة 279 ه. ومن كتبه «فتوح البلدان» وهو مصدر وثيق للفتوحات الإسلامية : وقد طبع بأوربا والقاهرة. وكتاب «الأشراف».
(3) ما بين حاصرتين ليس فى الأصل ، وقد وضعناه ، لأن السياق يقتضيه.
(2/250)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 252
ربك أو إلى حكمة ربك فى مد الظل ، فحذف هذه اللفظة لدلالة الكلام عليها ، إذ كان اللّه سبحانه لا يدرك بالمشاعر ، ولا يرى بالنواظر. وقد يجوز أن يكون معنى الرؤية هاهنا معنى العلم. فكأنه سبحانه قال : ألم تعلم حكمة ربك فى مدّ الظل ؟ وإنما أقام سبحانه الرؤية هاهنا مقام العلم لتحقّق المخاطب الذي هو النبي صلّى اللّه عليه وسلم وجهة اللّه تعالى فى ذلك الفعل ، فقامت معرفة قلبه مقام رؤية عينه ، قطعا باليقين ، وبعدا عن الظنون.
والاستعارة الأخرى قوله تعالى : ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا وهذه استعارة على القلب. لأن الظل فى الشاهد يدل على الشمس ، وذلك أن الظل لا يكون إلا وهناك شمس طالعة ، فيوصف ما لم تطلع عليه لحاجز يحجز ، أو مانع يمنع بأنه ظل. وقد قيل : إن الظل ما كان بالغداة ، والفيء ما كان بالعشيّ. وقيل : إن الظل ما نسخته الشمس ، والفيء ما نسخ الشمس ، فعلى هذا القول يجوز أن يكون معنى قوله تعالى : وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أي دائما لا ترد الشمس عليه فتزيله وتذهب به ، ثم جعلنا الشمس عليه دليلا.
أي دللناها عليه ، فهى تتحيّف من أقطاره ، وتنتقص من أطرافه ، حتى تستوفى أجمعه ، وتكون بدلا منه. فهذا معنى قوله تعالى : ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً [46].
ويجوز أن يكون معنى دلالة الشمس على الظل أنه لو لا الشمس لم يعرف الظل.
ويجوز أن يقول : لو لا الظل لم تعرف الشمس.
وقوله سبحانه : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً ، وَالنَّوْمَ سُباتاً ، وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً [47]. وفى هذه الآية استعارتان. فإحداهما قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً. والمراد باللباس هاهنا - واللّه أعلم - تغطية ظلام الليل النّشوز والقيعا [ن «1» ، و] أشخاص الحيوان كما تغطّى الملابس الضّافية ، وتستر الجنن الواقية.
وهذه العبارة من أفصح العبارات عن هذا المعنى.
__________
(1) ما بين حاصرتين ليس بالأصل المخطوط.
(2/251)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 253
و معنى السّبات : قطع الأعمال ، والرّاحة من الأشغال. والسّيت فى كلامهم :
القطع.
والاستعارة الأخرى قوله تعالى : وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً والنشور فى الحقيقة :
الحياة بعد الموت. وهو هاهنا مستعار الاسم لتصرّف الحىّ وانبساطه ، تشبيها للنوم بالممات ، واليقظة بالحياة. وذلك من أوقع التشبيه ، وأحسن التمثيل.
[سورة الفرقان (25) : آية 49]
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49)
وقوله سبحانه : لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً [49] وهذه استعارة. وقد مضت الإشارة إلى نظيرها فى (الأعراف) «1».
و وصف البلدة بالموت هاهنا محمول على أحد وجهين : إما أن تكون إنما شبّهت بالميت من فرط يبسها ، لتسلّط المحل عليها ، وتأخر الغيث عنها. أو يكون فيها من النبات والشجر لما مات لانقطاع الماء عنه حسن أن توصف هى بالموت لموت بنيها ، لأنها كالأم التي تكلفه ، والظّئر التي ترضعه.
[سورة الفرقان (25) : آية 53]
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53)
وقوله سبحانه : وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ [53] وهذه استعارة. والمراد بذلك - واللّه أعلم - أنه خلّاهما من مذاهبهما ، وأرسلهما فى مجاريهما ، كما تمرج الخيل أي «2» تخلّى فى المروج مع مراعيها.
فكان وجه الأعجوبة من ذلك أنه سبحانه مع التخلية بينهما فى تقاطعهما ، والتقائهما فى مناقعهما ، لا يختلط الملح بالعذب ، ولا يلتبس العذب بالملح.
__________
(1) وهى فى الأوراق المفقودة من الكتاب.
(2) فى الأصل «أن» وهو تحريف من الناسخ.
(2/252)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 254
و لغة أهل تهامة «مرجه» ولغة أهل نجد «أمرجه» وقال أبو عبيدة «1» : إذا تركت الشيء وخليته فقد مرجته. ومنه قولهم : مرج الأمير الناس. إذا خلّاهم بعضهم على بعض. والأمر المريج : المختلط الملتبس.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 61 الى 62]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)
وقوله سبحانه : تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً ، وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً [61] وقد قرىء : سرجا ، على الجمع. وهى قراءة حمزة والكسائىّ من السبعة.
و الباقون يقرءون : سراجا على التوحيد.
فمن قرأ «سرجا» أراد النجوم ، ومن قرأ «سراجا» أراد الشمس ، ويقوّى ذلك قوله سبحانه فى موضع آخر : وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً «2». ويقوّى قراءة من قرأ «سرجا» أن النجوم من شعائر الليل ، والسّرج بأحوال الليل أشبه منها بأحوال النهار.
وإنما شبهت النجوم بالسّرج لاهتداء الناس بها فى الظّلماء ، كما تهتدى بالمصابيح الموضوعة ، والنيران المرفوعة.
وقوله سبحانه : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً [62]. وهذه استعارة ، ومعنى خلفة - فى بعض الأقوال - أي جعل الليل والنهار يتخالفان ، فإذا أتى هذا ذهب هذا ، وإذا أدبر هذا أقبل هذا.
وقيل : خلفة أي يخلف أحدهما الآخر ، فيكون ذلك من الخلافة لا من المخالفة.
__________
(1) هو معمر بن المثنى النحوي البصري ، كان إماما فى اللغة والأدب. وقال فيه الجاحظ : لم يكن فى الأرض أعلم بجميع العلوم منه. واشتهر بحفظ حديث رسول اللّه. وقد استقدمه الرشيد إلى بغداد سنة 188 ه وقرأ عليه أشياء من كتبه. وتوفى سنة 209 ه.
(2) سورة نوح. الآية رقم 16.
(2/253)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 255
و قيل : خلفة. أي أحدهما «1» أسود ، والآخر أبيض. وهو أيضا راجع إلى معنى المخالفة.
[سورة الفرقان (25) : آية 73]
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73)
وقوله تعالى : وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً [73] وهذه استعارة. والمراد - واللّه أعلم - لا يصمّون عن قوارع النّذر ، ولا يعشون عن مواقع العبر.
__________
(1) فى الأصل : «إحداهما» وهو تحريف من الناسخ.
(2/254)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 256
ومن السورة التي يذكر فيها «الشعراء»
[سورة الشعراء (26) : آية 61]
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
قوله سبحانه «1» : فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ ، قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [61] وهذه استعارة. والمراد بها : العبارة عن التقارب والتداني. وإنما قلنا إن اللفظ مستعار ، لأنه قد يحسن أن يوصف به الجمعان ، وإن لم ير بعضهم بعضا بالموانع ، من مثار العجاج ، ورهج الطّراد. لأن المراد به تقارب الأشخاص ، لا تلاحظ الأحداق ، وذلك كقولهم فى الحيّين المتقاربين : تتراءى ناراهما. أي تتقابل وتتقارب. لكون النارين بحيث لو كان بدلا منهما إنسانان لرأى كل واحد منهما صاحبه. وقد أومأنا إلى ذلك فيما مضى «2».
ويقال أيضا : قوم رئاء ، على وزن فعال أي يقابل بعضهم بعضا. وكذلك بيوتهم رئاء إذا كانت متقابلة. ذكر ذلك أحمد بن يحيى ثعلب «3».
ومن هذا الباب الحديث المشهور عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وهو قوله : (أنا
__________
(1) فى الأصل : «و لما» بالواو وهو تحريف من الناسخ والصواب فلما. بالفاء.
(2) فى الكلام فى مجازات سورة الفرقان. الآية رقم 12.
(3) لم نجد لذلك ذكرا فى «مجالس ثعلب» التي نشرتها «دار المعارف» بتحقيق الأستاذ عبد السلام محمد هارون. ووجدنا ذلك فى «الأساس» للزمخشرى. وثعلب هو إمام الكوفيين فى النحو واللغة.
اشتهر بالرواية والحفظ والصدق وكان ثقة. ومات بصدمة فرس سقط بسببها فى هوة فتوفى على الأثر سنة 291 ه.
(2/255)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 257
برىء من كل مسلم مع مشرك. قيل : ولم يا رسول اللّه ؟ .... «1» لا تراءى ناراهما. وقد استقصينا الكلام على معنى هذا الخبر فى كتاب «مجازات الآثار النبوية».
[سورة الشعراء (26) : آية 118]
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)
و قوله سبحانه فَافْتَحْ بَيْنِي «2» وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً ، وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [118] وهذه استعارة. والمراد بها - واللّه أعلم - فاحكم بيننا وبينهم حكما «3» قاطعا ، وأمرا فاصلا : بفتح الباب المبهم بعد ما استصعب رتاجه ، وأعضل علاجه.
ويقال للحاكم : الفتّاح ، لأنه يفتح وجه الأمر بعد اشتباهه واستبهام أبوابه. وقال تعالى : وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ «4» وقال بعض بنى ذهل بن زيد بن نهد «5» :
وعمّى الّذى كانت فتاحة» قومه إلى بيته حتّى يجهّز غاديا
أي كان الحكم بين قومه فيه وفى أهل بيته إلى حين وفاته. وقال فتاحة قومه بكسر الفاء ، لأنها فى معنى الولاية والزعامة وما يجرى مجراهما.
[سورة الشعراء (26) : آية 148]
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148)
وقوله سبحانه : وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ [148] وهذه استعارة. والمراد بالهضيم هاهنا على بعض الأقوال - واللّه أعلم - الذي قد ضمن «7» بدخول بعضه فى بعض ، فكأنّ بعضه هضم بعضا لفرط تكاثفه ، وشدة تشابكه.
__________
(1) هنا نقص. وقد ذكرنا نص الحديث كاملا فى أول سورة الفرقان. [.....]
(2) فى الأصل «بيننا» وهو تحريف من الناسخ.
(3) مطموسة بالأصل. والسياق يدل عليها.
(4) سورة سبأ. الآية رقم 26.
(5) لم أهتد إلى اسم هذا الشاعر.
(6) وفى «اللسان» الفتاحة بالضم : الحكم ، والفتاحة والفتاحة أن تحكم بين خصمين.
والفتاحة : الحكومة. قال الأشعر الجعفي :
ألا من مبلغ عمرا رسولا فإنى عن فتاحتكم غنى والفتاح : الحاكم. وأهل اليمن يقولون للقاضى : الفتاح.
(7) هكذا بالأصل. ولعلها. ضم.
(2/256)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 258
و قيل : الهضيم اللطيف. وذلك أبلغ فى صفة الطّلع الذي يراد للأكل. وذلك مأخوذ من قولهم : فلان هضيم الحشا. أي لطيف البطن. وأصله النقصان من الشيء.
كأنه نقص من انتفاخ بطنه ، فلطفت معاقد خصره. ومنه قوله تعالى : فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً «1» أي نقصا وثلما.
وقيل الهضيم الذي قد أينع وبلغ. وقيل أيضا هو الذي إذا مسّ تهافت من كثرة مائه ، ورطوبة «2» أجزائه.
والقولان الأخيران يخرجان الكلام عن حد الاستعارة.
[سورة الشعراء (26) : آية 219]
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
وقوله تعالى : وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [219] وهذه استعارة. وليس هناك تقلّب منه على الحقيقة. وإنما المراد به تقلّب أحواله بين المصلّين وتصرّفه فيهم بالركوع والسجود ، والقيام والقعود. وذهب بعض علماء الشيعة فى تأويل هذه الآية مذهبا آخر ، فقال : المراد بذلك تقلّب الرسول صلّى اللّه عليه وسلم فى أصلاب الآباء المؤمنين. واستدل بذلك على أن آباءه «3» إلى آدم عليه السلام مسلمون ، لم تختلجهم خوالج الشرك ، ولم تضرب فيهم أعراق الكفر ، تكريما له عليه السلام عن أن يجرى إلا فى منزهات الأصلاب ، ومطهّرات الأرحام. وهذا الوجه يخرج به الكلام عن أن يكون مستعارا.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 223 الى 225]
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225)
وقوله سبحانه : يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ [223] وهذه استعارة على أحد التأويلين. وهو أن يكون المراد بها أنهم يشغلون أسماعهم ، ويديمون إصغاءهم ليسمعوا من أخبار السماء ما يموّهون به على الضّلّال من أهل الأرض ، وهم عن السمع
__________
(1) سورة طه. الآية رقم 112
(2) فى الأصل : «و لطوته» وهو تحريف والرطوبة مناسبة هنا لكثرة الماء.
(3) فى الأصل : «أباه» بالمفرد وهو تحريف بدليل قوله بعد ذلك : مسلمون.
(2/257)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 259
بمعزل ، وعن العلم بمزجر. وذلك كقول القائل لغيره : قد ألقيت إليك سمعى. أي صرفته إلى حديثك ، ولم أشغله بشىء غير سماع كلامك.
والتأويل الآخر أن يكون السّمع هاهنا بمعنى المسموع ، كما يكون العلم بمعنى المعلوم «1» فيكون التأويل أن الشياطين يلقون ما يدّعون أنهم يستمعونه إلى كل أفاك أثيم ، من أعداء النبي صلّى اللّه عليه وعلى آله. على طريق الوسوسة واعتماد القدح فى الشريعة. وهذا الوجه يخرج الكلام عن حد الاستعارة.
وقوله سبحانه : وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ [224 ، 225]. وهذه استعارة. والمراد بها - واللّه أعلم - أن الشعراء يذهبون فى أقوالهم المذاهب المختلفة ، ويسلكون الطرق المتشعبة. وذلك كما يقول الرّجل لصاحبه إذا كان مخالفا له فى رأى ، أو مباعدا له فى كلام : أنا فى واد ، وأنت فى واد. أي أنت ذاهب فى طريق وأنا ذاهب فى طريق. ومثل ذلك قولهم : فلان يهبّ مع كل ريح ، ويطير بكل جناح. إذا كان تابعا لكل قائد ، ومجيبا لكل ناعق.
وقيل إن معنى ذلك تصرّف الشاعر فى وجوه الكلام من مدح وذم ، واستزادة ، وعتب ، وغزل ، ونسيب ، ورثاء ، وتشبيب. فشبّهت هذه الأقسام من الكلام بالأودية المتشعبة ، والسبل المختلفة.
ووصف الشعراء بالهيمان فيه «2» فرط مبالغة فى صفتهم بالذهاب فى أقطارها ، والإبعاد فى غاياتها. لأن قوله سبحانه : يَهِيمُونَ أبلغ فى هذا المعنى من قوله : يسعون ، ويسيرون. ومع ذلك فالهيمان صفة من صفات من لا مسكة له ولا رجاحة معه ، فهى مخالفة لصفات ذى الحلم الرزين ، والعقل الرصين.
__________
(1) فى الأصل. «الملوم» وهو ظاهر التحريف.
(2) فى الأصل «فيها» وهو تحريف.
(2/258)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 260
ومن السورة التي يذكر فيها «النمل»
[سورة النمل (27) : آية 7]
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
قوله تعالى : إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً [7] وهذه استعارة على القلب.
والمراد بها - واللّه أعلم - إنى رأيت نارا فآنستنى فنقل فعل الإيناس إلى نفسه على معنى :
إنى وجدت النار مؤنسة لى ، كما سبق من قولنا فى تأويل قوله تعالى : وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا «1» أي وجدناه غافلا ، على بعض الأقوال.
وقريب من ذلك قوله تعالى : وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا «2» ولم تغرّهم هى ، وإنما اغتروا بها هم ، فلما كانت سببا للغرور حسن أن ينسب إليها ويناط بها.
وحقيقة الإيناس هى الإحساس بالشيء من جهة يؤنس بها ، وما أنست به فقد أحسست به مع سكون نفسك إليه.
[سورة النمل (27) : آية 32]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)
وقوله سبحانه حاكيا عن ملكة سبإ : ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ [32] وهذه استعارة. والمراد بقطع الأمر - واللّه أعلم - الرجوع بعد إجالة الآراء ، ومخض الأقوال إلى رأى واحد يصحّ العزم على فعله ، والعمل عليه دون غيره ، تشبيها بالإسداء والإلحام فى الثوب النسيج ، ثم القطع له بعد الفراغ منه. فكأنها أجالت الرأى عند ورود ما ورد عليها من دعاء سليمان عليه السلام لها إلى الإيمان به ، والاتباع له ، فميلت «3» بين الامتناع
__________
(1) سورة الكهف. الآية رقم 28.
(2) سورة الأعراف. الآية رقم 51.
(3) ميلت : أي شكت انظر القاموس المحيط. [.....]
(2/259)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 261
والإجابة ، والمخاشنة والملاينة. فلما قوى فى نفسها أمر الملاطفة عزمت على فعله ، فحسن أن يعبّر عن ذلك بقطع الأمر ، لما أشرنا إليه.
وعلى هذا قول الرجل لصاحبه : لا أقطع أمرا دونك. أي لا أقرر العزم على شىء حتى أفاوضك فيه وأوافقك عليه. وقد يجوز أن يكون ذلك كناية عن الاستعجال بفعل الأمر تشبيها بسرعة قطع الشيء المستدقّ كالحبل وغيره. ومنه قولهم : صرم الأمر. أي فرغ من فعله بسرعة. والصّريمة من ذلك. وفصل الأمر أيضا قريب منه.
[سورة النمل (27) : آية 40]
قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
وقوله سبحانه : أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [40] وهذه استعارة.
لأن المراد بارتداد الطّرف هاهنا التقاء الجفنين بعد افتراقهما. وذلك أبلغ ما يوصف به فى السرعة. وليس هناك على الحقيقة شىء ذهب عنه ثم رجع إليه. ولكن جفن العين لمّا كان ينفتح وينطبق ، أقام الانفتاح مقام الخروج ، والانطباق مقام الرجوع.
وقيل فى ذلك وجه آخر. وهو أن فى مجرى عادة الناس أن يقول القائل لغيره إذا كان على انتظار أمر يرد عليه من جهته : أنا ممدود الطرف إليك ، وشاخص البصر نحوك.
فإذا كان امتداد الطرف بمعنى الانتظار مستعملا ، جاز أن يجعل ارتداده عبارة عن زوال الانتظار. فكأنه قال : أنا آتيك به قبل أن تتكلف أمر انتظار ، وتعدّ الأوقات.
والقول الأول أولى بالاعتماد ، وأخلق بالصواب «1».
[سورة النمل (27) : آية 66]
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)
وقوله تعالى : بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها ، بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ [66] وهذه استعارة. لأن العمى هنا ليس يراد به فقد الجارحة المخصوصة ، وإنما
__________
(1) فى الأصل : «بالصوب» وهو تحريف.
(2/260)
تلخيص البيان، متن، ص: 262
يراد به التعامي عن الحق، والذهاب صفحا عن النظر والفكر، إمّا قصدا وتعمدا، أو جهلا وعمى.
وإنما أجرى الجهل مجرى العمى فى هذا المعنى، لأن كل واحد منهما يمنع بوجوده من إدراك الشي ء على ما هو به. إذ الجهل مضادّ للعلم والمعرفة، والعمى مناف للنظر والرؤية. وإنما قال سبحانه: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ ولم يقل: عنها، لأن المراد أنهم يشكّون فيها، ويمترون فى صحّتها، فهم فى عمى منها ولا يصلح أن يكون فى هذا الموضع: عنها. لأنه ليس المراد ذكر عماهم عن النظر إليها، وإنما القصد ذكر عماهم بالشك فيها. وهذا من لطائف المعاني «1».
[سورة النمل (27): آية 72]
قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)
و قوله سبحانه: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ [72] وهذه استعارة. لأن حقيقة الرّدف هى حمل الإنسان غيره مما يلى ظهره على مركوب «2» ....
فالمراد بقوله سبحانه: رَدِفَ لَكُمْ هاهنا - واللّه أعلم - أي عسى أن يكون العذاب الذي تتوقعونه قد قرب منكم. وهو فى آثاركم، ولا حق بكم.
و قد قيل أيضا إن المراد بردف لكم. أي ردفكم. فصار العذاب فى الالتصاق بكم كالمرادف لكم. والمعنى واحد.
___________
(1) فى الأصل: «المغالى» وهو تحريف بين.
(2) هنا سطر غير واضح الكلام ولا ملتثم السياق.
(2/261)
تلخيص البيان، متن، ص: 263
[سورة النمل (27): آية 76]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)
و قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [76] وهذه استعارة. لأن القصص كلام مخصوص، ولا يوصف به إلا الحىّ الناطق المميّز. ولكن القرآن لما تضمن نبأ الأوّلين، ومصادر أمور الآخرين، كان كأنّه يقصّ على من آمن به عند تلاوته له قصص من تقدمه «1» ...
___________
(1) هنا ضاع من الأصل أربع ورقات تقريبا. من الآية 76 من سورة النمل إلى الآية 26 من سورة الأحزاب.
(2/262)
تلخيص البيان، متن، ص: 264
«و من السورة التي يذكر فيها الأحزاب»
[سورة الأحزاب (33): آية 26]
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26)
وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [26] وهذه استعارة. والمراد بها: أنه تعالى ألقى الرعب فى قلوبهم من أثقل جهاته، وعلى أقطع بغتاته. تشبيها بقذفه الحجر إذا صكّت الإنسان على غفلة منه. فإن ذلك يكون أملأ لقلبه، وأشدّ لروعه.
[سورة الأحزاب (33): آية 30]
يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)
و قوله سبحانه: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [30] وهذه استعارة على قراءة من قرأ: مُبَيِّنَةٍ بكسر الياء، فكأنه تعالى جعل الفاحشة تبيّن حال صاحبها، وتشير إلى ما يستحقه من العقاب عليها. وهذا من أحسن الأعراض، وأنفس جواهر الكلام «1» ...
[سورة الأحزاب (33): آية 46]
وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46)
و قوله سبحانه وتعالى: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [46] وهذه استعارة. والمراد بالسراج المنير هاهنا: أنّه عليه السلام يهتدى به فى ضلال الكفر، وظلام الغىّ، كما يستصبح بالشهاب فى الظلماء، وتستوضح الغرة فى الدهماء.
[سورة الأحزاب (33): آية 72]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)
و قوله سبحانه: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها، وَأَشْفَقْنَ مِنْها، وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا [72]. وهذه استعارة. وللعلماء فى ذلك أقوال نحن نستقصى ذكرها عند البلوغ إليها من الكتاب الكبير
___________
(1) هنا عشرة أسطر محيت أنصافها بحال لا يستقيم معها تبين النص.
(2/263)
تلخيص البيان، متن، ص: 265
بتوفيق اللّه ومشيئته، إلا أننا نشير إلى بعض ذلك هاهنا إشارة تليق بغرض هذا الكتاب فى طريقة الاختصار، وخوف الإكثار «1» ....
و قال بعضهم: المراد بذلك تفخيم شأن الأمانة وأن منزلتها منزلة ما لو عرض على هذه الأشياء المذكورة مع عظمها، وكانت تعلم ما فيها، لأبت [أن «2»] تحملها وأشفقت كل الإشفاق منها. إلا أن هذا الكلام خرج مخرج الواقع لأنه أبلغ من المقدر. وقال بعضهم: عرض الشي ء على الشي ء ومعارضته سواء. والمعارضة، والمقابلة، والمقايسة، والموازنة بمعنى واحد. فأخبر اللّه سبحانه عن عظم أمر الأمانة وثقلها، وأنها إذا قيست بالسماوات والأرض والجبال «3» ووزنت بها رجحت عليها. ولم تطق حملها، ضعفا عنها.
و ذلك معنى قوله تعالى: فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها ومن كلامهم: فلان يأبى الضيم. إذا كان لا يحتمله. فالإباء هاهنا هو ألّا يقام بحمل الشي ء. والإشفاق فى هذا الموضع هو الضعف عن الشي ء، ولذلك كنى به عن الخوف الذي هو ضعف القلب. فقالوا:
فلان مشفق من كذا. أي خائف منه، يقول سبحانه: فالسموات والأرض والجبال لم تحمل الأمانة ضعفا عنها، وحملها الإنسان، أي تقلّدها وقارف «4» المآثم فيها، للمعروف من كثرة جهله، وظلمه لنفسه.
___________
(1) وهنا بضعة أسطر ممحوة الأنصاف.
(2) ليست بالأصل. وقد زدناها لأن السياق يتطلبها.
(3) فى الأصل «وزنت» بواو واحدة. وهو تحريف، لأنها معطوفة على الفعل قيست.
(4) فى الأصل «و تعارق» وهو تحريف. ولعل الصواب ما استظهرناه. فإن مقارفة الآثام هى ركوبها واقترافها.
(2/264)
تلخيص البيان، متن، ص: 266
ومن السورة التي تذكر فيها «سبأ»
[سورة سبإ (34): آية 23]
وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا، قالَ رَبُّكُمْ [23] الآية «1» وهذه استعارة، على قراءة من قرأ: فزّع بالزاي والعين، وفرّع بالراء والعين.
فالمراد بقراءة من قرأ: فزع بالعين غير معجمة، أي أزيل الفزع عن قلوبهم. كما تقول: قذّيت عينه. إذا أزلت القذى عنها. وهو كقولهم: رغّب عنه. إذا رفعت الرغبة عنه. خلافا لقولهم: رغب فيه، إذا صرفت الرغبة إليه. فالرغبة فى أحد الأمرين منقطعة، وفى الآخر منصرفة. والمراد بقراءة من قرأ: فرّغ بالغين معجمة، قريب من المراد بقراءة الأولى. كأنه سبحانه قال: حتى إذا أخرج ما كان فى قلوبهم من الخوف والوجل ففرغت منها.
و إنما قال: عن قلوبهم. لأنه سبحانه أقام ذلك مقام التفريج عن قلوبهم. فكما حسن أن يقال: فرّج عن قلبه، فكذلك حسن أن يقال: فرّغ عن قلبه.
و هذا موضع سرّ لطيف، ومعنى عجيب.
[سورة سبإ (34): آية 31]
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
و قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [31] وهذه استعارة. والمراد بها ما تقدم القرآن من الكتب، فكأنها كانت مشيرة إليه، ومصرفة بين يديه. وقد مضى الكلام على نظائر ذلك فيما تقدم.
___________
(1) تكملة الآية: «قالُوا الْحَقَّ. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ».
(2/265)
تلخيص البيان، متن، ص: 267
[سورة سبإ (34): آية 33]
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)
و قوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً [33]. وهذه استعارة. والمراد بمكر الليل والنهار: ما يتوقع من مكرهم فى الليل والنهار، فأضاف تعالى المكر إليهما لوقوعه فيهما. وفيه أيضا زيادة فائدة، وهى دلالة الكلام على أن مكرهم كان متصلا غير منقطع فى الليل والنهار، كما يقول القائل:
ما زال بنا سير الليل والنهار حتى وردنا أرض بنى فلان. وهذا دليل على اتصال سيرهم فى الليل والنهار، من غير إغباب، ولا إراحة ركاب.
[سورة سبإ (34): آية 46]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46)
[و] «1» قوله سبحانه: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [46] وهذه استعارة. والمراد أنه عليه السلام بعث ليقدّم الإنذار أمام وقوع العقاب، إزاحة للعلة، وقطعا للمعذرة. وقد تقدمت إشارتنا إلى نظائر هذه الاستعارة فى عدة مواضع من هذا الكتاب.
[سورة سبإ (34): آية 49]
قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49)
و قوله سبحانه: قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ [49] وهذه استعارة.
لأن الإبداء والإعادة يكونان فى القول، ويكونان فى الفعل. فأما كونهما فى الفعل فبقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ «2» وأما كونهما فى القول فإن القائل يقول: سكت فلان فلم يعد ولم يبدئ. أي لم يتكلم ابتداء، ولا أحار جوابا. وهاتان الصفتان يستحيل أن يوصف بهما الباطل - الذي هو عرض من الأعراض - إلا على طريق الاتساع والمجاز.
و إنما المراد أن الحق قوى وظهر، والباطل ضعف واستتر، ولم يبق له بقية يقوى بها
___________
(1) ليست هذه الواو بالأصل. وقد نسيها الناسخ.
(2) سورة الروم. الآية رقم 27.
(2/266)
تلخيص البيان، متن، ص: 268
بعد ضعفه، ويجبر بعد وهنه. أي ما تقوم «1» له قائمة فى بدء ولا عود. والبدء: الحال الأولى. والعود: الحال الأخرى. وكذلك الإبداء والإعادة.
و يجوز أن يكون لذلك وجه آخر، وهو أن يكون المعنى أن الباطل كان عند غلبة الحق وظهوره بمنزلة الواجم الساكت، والحائر الذاهل، الذي لا قدرة له على الحجاج، ولا قوة له على الانتصار. كقولهم: سكت فما أعاد ولا أبدأ. عند وصف الإنسان بالحيرة، أو غلبة الفكرة.
و قد قيل أيضا فى ذلك وجه آخر يخرج به الكلام عن حيز الاستعارة. وهو أن يكون المراد أن صاحب الباطل لا يبدئ ولا يعيد عند حضور صاحب الحق، ضعفا عن حجاجه، وضلالا عن منهاجه. فجعل المضاف هاهنا فى موضع المضاف إليه. وذلك كثير فى كلامهم.
[سورة سبإ (34): آية 53]
وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53)
و قوله تعالى: وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [53] وهذه استعارة.
و المراد بذلك - واللّه أعلم - أنهم يقولون ما لا يعلمون، ويظنون ولا يتحققون. فهم بمنزلة الرامي غرضا بينه وبينه مسافة متباعدة، فلا يكون سهمه أبدا إلا قاصرا عن الغرض، وعادلا عن السّدد.
___________
(1) فى الأصل: «يقوم».
(2/267)
تلخيص البيان، متن، ص: 269
ومن السورة التي يذكر فيها الملائكة «1» عليهم السلام
[سورة فاطر (35): آية 10]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
قوله سبحانه: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [10] وهذه استعارة. وليس المراد أن هناك على الحقيقة شيئا يوصف بالصعود، ويرتقى من سفال إلى علو. وإنما المراد أن القول الطيب والعمل الصالح متقبلان عند اللّه تعالى، واصلان إليه سبحانه. بمعنى أنهما يبلغان رضاه، وينالان زلفاه. وأنه تعالى لا يضيعهما ولا يهمل الجزاء عليهما. وهذا كقول القائل لغيره: قد ترقّى الأمر إلى الأمير. أي بلغه ذلك على وجهه، وعرفه على حقيقته. وليس يريد به الارتقاء الذي هو الارتفاع، وضده الانخفاض.
و وجه آخر: قيل إن معنى ذلك صعود الأقوال والأعمال إلى حيث لا يملك الحكم فيه إلا اللّه سبحانه. كما يقال: ارتفع أمر القوم إلى القاضي. إذا انتهوا إلى أن يحكم بينهم، ويفصل خصامهم. ووجه آخر: قيل إن اللّه سبحانه لما كان موصوفا بالعلو على طريق الجلال والعظمة، لا على طريق المدى والمسافة، فكل ما يتقرب به إليه من قول زكى، وعمل مرضى فالإخبار «2» عنه يقع بلفظ الصعود والارتفاع، على طريق المجاز والاتساع.
[سورة فاطر (35): آية 18]
وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
و قوله سبحانه: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى [18]
___________
(1) هى سورة فاطر. وهى السورة الخامسة والثلاثون من القرآن. وقد ذكرت الملائكة فيها فى قوله تعالى فى أولها: «الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ».
[.....]
(2) فى الأصل «و الأخبار» بالواو. والفاء هنا هى الصحيح.
(2/268)
تلخيص البيان، متن، ص: 270
وقد مضى نظير هذا الكلام فى الأنعام، وفى بنى إسرائيل، وتركنا الإشارة إليه هناك لما جاءت فى هذا الموضع زيادة حققت الكلام بالاستعارة، فاحتجنا إلى العبارة عنها أسوة بنظائرها «1». فنقول: إن قوله سبحانه :
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل حاملة حمل غيرها يوم القيامة. يقال:
وزر، يزر وزرا. إذا حمل. والاسم الوزر. ومن ذلك أخذ اسم الوزير، لأنه حامل الثّقل عن الأمير. والمعنى: ولا يحمل مذنب ذنب غيره، ولا يؤخذ بجرمه وجنايته.
و الزيادة فى هذا الموضع قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى فشبّه تعالى استغاثة المثقّل من الآثام باستغاثته من الإعياء.
لأن من عادة من تلك حاله أن يطلب من يشاطره الحمل، ويخفف عنه الثّقل. فأما فى ذلك اليوم فلا يهم كلّ امرئ إلا نفسه، ولا يعنيه «2» إلا أمره، ولا يعين أحد أحدا، ولا يخفف مدعوّ من داع ثقلا، ولو كان أولى الناس بأمره، وأقربهم التياطا به، وانتياطا «3» بنسبه.
و إنما قاله سبحانه: مثقلة. ولم يقل: مثقل. لأنه ردّ ذلك إلى النفس، ولم يردده إلى الشخص.
[سورة فاطر (35): آية 43]
اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)
و قوله سبحانه: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [43] وهذه استعارة.
___________
(1) فى الأصل «نظائرها» بدون باء. وهو تحريف من الناسخ.
(2) فى الأصل: «و لا يعينه» من الإعانة. وهو تحريف.
(3) انتاط به: أي تعلق به. ولاحظ هنا الجناس الناقص بين التياط وانتياط. وذلك من براعات الشريف الرضى.
(2/269)
تلخيص البيان، متن، ص: 271
والمراد أن اللّه سبحانه يعاقب المشركين على مكرهم بالمؤمنين، فكأنما مكروا بأنفسهم، ووجّهوا الضرر إليهم، لا إلى غيرهم، إذ كان المكر عائدا بالوبال عليهم. ومعنى لا يحيق أي لا يحلّ «1»، ولا ينزل، ولا يحيط إلا بهم.
وهذه الألفاظ كلها بمعنى واحد.
___________
(1) فى الأصل: «لا يجعل» وهو تحريف من الناسخ.
(2/270)
تلخيص البيان، متن، ص: 272
ومن السورة التي يذكر فيها «يس»
[سورة يس (36): الآيات 8 الى 9]
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)
قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ، وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا، وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا، فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [7، 8].
وهاتان استعارتان. ومن أوضح الأدلة على ذلك أنّ الكلام كلّه فى أوصاف القوم المذمومين. وهم فى أحوال الدنيا دون أحوال الآخرة.
(2/271)
ألا ترى قوله تعالى بعد ذلك: وَسَواءٌ عَلَيْهِمْأَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [10]. وإذا كان الكلام محمولا على أحوال الدنيا دون أحوال الآخرة، وقد علمنا أن هؤلاء القوم الذين ذهب الكلام إليهم كان الناس يشاهدونهم غير مقمحين بالأغلال ولا مضروب عليهم بالأسداد، علمنا أن الكلام خرج مخرج قوله سبحانه: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ «1» وكأنّ ذلك وصف لما كان عليه الكفار عند سماع القرآن من تنكيس الأذقان، ولىّ الأعناق، ذهابا عن الرشد، واستكبارا عن الانقياد للحق، وضيق صدور بما يرد عليهم من مواقع البيان، وقوارع القرآن. وقد اختلف فى معنى الإقماح. فقال قوم: هو غض الأبصار، واستشهدوا بقول بشر بن أبى «2» خازم فى ذكر السفينة.
___________
(1) سورة البقرة. الآية رقم 7.
(2) البيت فى «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبى ج 15 ص 8 منسوبا إلى بشر فقط من غير ذكر لأبيه.
و فى كتاب «القرطين» لابن مطرف ج 2 ص 87 لم ينسب لقائله. ولكن مصحح الكتاب نسبه فى الهامش إلى بشر بن أبى حازم بالحاء المهملة كما جاء مثل ذلك فى كتاب «الحماسة» لابن الشجري طبع حيدر أباد ص 5، 304 أما فى صفحة 103، 269 فجاء بغير ذلك. والصواب بالخاء المعجمة والزاى. وله ترجمة فى «الشعر والشعراء» لابن قتيبة ص 227، والخزانة ج 2 ص 261 - 264، ومختارات ابن الشجري ج 2 ص 19 - 33 والمفضليات بتحقيق الأستاذين أحمد محمد شاكر، وعبد السلام هارون.
(2/272)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 273
ونحن على جوانبها قعود نغضّ الطّرف كالإبل القماح
وقال قوم : المقمح : الرافع رأسه متعمدا. فكأنّ هؤلاء المذمومين شبّهوا على المبالغة فى وصف تكارههم للإيمان ، وتضايق صدورهم لسماع القرآن ، بقوم عوقبوا فجذبت أذقانهم بالأغلال إلى صدورهم مضمومة إليها أيمانهم ، ثم رفعت رءوسهم ، ليكون ذلك أشدّ لإيلامهم ، وأبلغ فى عذابهم.
وقيل : إن المقمح الغاضّ بصره بعد رفع رأسه ، فكأنه جامع بين الصفتين جميعا.
وقيل إن قوله تعالى : فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ يعنى به أيمانهم المجموعة بالأغلال إلى أعناقهم ، فاكتفى بذكر الأعناق من الأيمان لأن الأغلال تجمع بين الأيمان والأعناق.
وكذلك معنى السّدّ المجعول بين أيديهم ومن خلفهم ، إنما هو تشبيه بمن قصر خطوه وأخذت عليه طرقه. ولما كان ما يصيبهم من هذه المشاق المذكورة والأحوال المذمومة إنما هو عقيب تلاوة القرآن عليهم ، ونفث قوارعه فى أسماعهم ، حسن أن يضيف سبحانه ذلك إلى نفسه ، فيقول : إنا جعلناهم على تلك الصفات.
سورة يس
وقد قرىء سدّا بالفتح ، وسدا بالضم. وقيل إن السدّ بالفتح ما يصنعه الناس ، والسّدّ بالضم ما يصنعه اللّه تعالى.
وقال بعضهم : المراد بذكر السد هاهنا : الإخبار عن خذلان اللّه سبحانه إياهم ، وتركه نصرهم ومعونتهم ، كما تقول العرب فى صفة الضال المتحير : فلان لا ينفذ فى طريق يسلكه ، ولا يعلم أمامه أم وراءه خير له. وعلى ذلك قول الشاعر : «1»
__________
(1) لم أهتد إلى اسم الشاعر بعد طويل بحث ورجوع إلى كتب الشواهد والدواوين. والشكر أجزل الشكر لمن يهدينا إليه.
(2/273)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 274
فأصبح لا يدرى وإن كان حازما أقدّامه خير له أم وراؤه.
و أما قوله سبحانه : فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ فهو أيضا فى معنى الختم والطّبع ، وواقع على الوجه الذي يقعان عليه. وقد تقدم إيماؤنا إليه.
[سورة يس (36) : آية 37]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
وقوله سبحانه : وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ [37].
وهذه استعارة. والمراد نخرج منه النهار ، ونستقصى تخليص أجزائه ، حتى لا يبقى من ضوء النهار شىء مع ظلمة الليل ، فإذا الناس قد دخلوا فى الظلام. وهذا معنى قوله تعالى : فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ كما يقال : أفجروا. إذا دخلوا فى الفجر ، وأنجدوا. وأتهموا.
إذا دخلوا نجدا وتهامة.
و السّلخ : إخراج الشيء مما لابسه والتحم به. فكل واحد من الليل والنهار متصل بصاحبه اتصال الملابس بأبدانها ، والجلود بحيوانها. ففى تخليص أحدهما من الآخر - حتى لا يبقى معه منه ظرف ، ولا عليه منه أثر - آية باهرة ، ودلالة قاهرة «1». فسبحان اللّه رب العالمين.
[سورة يس (36) : آية 52]
قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
وقوله سبحانه فى ذكر البعث : قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ، هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [52] وهذه استعارة. لأن المرقد هاهنا عبارة عن الممات ، فشبّهوا حال موتهم بحال نومهم ، لأنها أشبه الأشياء بها. وكذلك قوة شبه حال الاستيقاظ بحال الإحياء والإنشار. وعلى ذلك قوله عليه السلام : (إنّكم تموتون كما تنامون ، وتبعثون كما تستيقظون) «2». وقال بعضهم : الاستعارة هاهنا أبلغ من الحقيقة. لأن
__________
(1) هكذا بالأصل. ولا معنى للدلالة القاهرة. ولعلها طاهرة.
(2) هذا الحديث من خطبة له عليه السلام ، وهى أول خطبة خطبها بمكة حين دعا قومه إلى الإسلام.
وهى فى كتاب «جمهرة خطب العرب» ج 1 ص 51. وقد نقلها عن «السيرة الحلبية» ج 1 ص 272 ، وعن «الكامل» لابن الأثير ج 2 ص 27.
(2/274)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 275
النوم أكثر من الموت ، والاستيقاظ أكثر من الإحياء بعد الموت. لأن الإنسان الواحد يتكرر عليه النوم واليقظة مرات ، وليس كذلك حال الموت والحياة.
[سورة يس (36) : آية 66]
وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
و قوله سبحانه : وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ ، فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ [66]. وهذه استعارة. والمراد بالطمس هاهنا : إذهاب نور الأبصار حتى يبطل إدراكها ، تشبيها بطمس حروف الكتاب ، حتى تشكل قراءتها.
وفيه أيضا زيادة معنى ، لأنه يدلّ على محو آثار عيونهم ، مع إذهاب أبصارها ، وكسف أنوارها. وقيل معنى الطّمس إلحام الشقوق التي بين الأجفان حتى تكون مبهمة ، لا شقّ فيها ، ولا شفر لها. يقولون : أعمى مطموس وطميس ، إذا كان كذلك.
[سورة يس (36) : آية 68]
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68)
وقوله سبحانه : وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ [68] وقرىء :
ننكّسه بالتشديد. وهذه استعارة. والمراد - واللّه أعلم - أنّا نعيد الشيخ الكبير إلى حال الطفل الصغير فى الضّعف بعد القوّة ، والتثاقل بعد النهضة ، والإخلاق «1» بعد الجدّة.
تشبيها بمن انتكس على رأسه ، فصار أعلاه سفلا ، وأسفله علوا.
[سورة يس (36) : الآيات 70 الى 71]
لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71)
وقوله سبحانه : لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ [70] وهذه استعارة. والمراد بالحي هاهنا : الغافل الذي يستيقظ إذا أوقظ ، ويتّعظ إذا وعظ.
فسمّى سبحانه المؤمن «2» الذي ينتفع بالإنذار حيا لنجاته ، وسمّى الكافر الذي لا يصغى إلى الزواجر ميتا لهلكه.
وقوله سبحانه : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ [71] وهذه استعارة. والمراد بذكر الأيدى هاهنا قسمان من أقسام اليد فى اللغة
__________
(1) الإخلاق : كون الشيء خلقا باليا بعد جدته.
(2) فى الأصل : «للون» وهو تحريف من الناسخ. والتصويب مما يقتضيه السياق والمقابلة بين المؤمن والكافر ، والحي والميت.
(2/275)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 276
العربية. إما أن تكون بمعنى القوة ، وبمعنى تحقيق الإضافة. فكأنه سبحانه قال :
أولم يروا أنا خلقنا لهم أنعاما اخترعناها بقوة تقديرنا ، ومتقن تدبيرنا.
أو يكون المعنى أنّ هذه الأنعام مما تولّينا خلقه من غير أن يشاركنا فيه أحد من المخلوقين. لأن المخلوقين قد يعملون سفائن البحر ، ولا يعملون سفائن البرّ ، التي هى الأنعام المذللة ظهورها ، والمحلّلة لحومها. فهذا وجه فائدة الإضافة فى قوله تعالى : مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا. واللّه أعلم.
(2/276)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 277
ومن السورة التي يذكر فيها «الصافات»
[سورة الصافات (37) : الآيات 48 الى 49]
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
قوله تعالى : وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ ، كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [48 ، 49] وهذه استعارة. والمراد بالقاصرات الطّرف هاهنا : اللواتى جعلن نظرهن مقصورا على أزواجهنّ. أي حبسن النظر عليهم ، فلا يتعدينهم إلى غيرهم. وجىء بذكر الطّرف على طريق المجاز. وإلا فحقيقة المعنى أنهن حبسن الأنفس على الأزواج عفّة ودينا ، وخلقا وصونا.
وإنما وقعت الكناية عن هذا المعنى بقصر الطّرف ، لأن طماح الأعين فى الأكثر يكون سببا لتتبّع النفوس وتطرّب القلوب ، وعلى هذا قول الشاعر :
وإنّك إن أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر «1»
و الطرف هاهنا واحد فى تأويل الجميع : ونظيره قوله سبحانه : خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ «2». أي على أسماعهم ، أو مواضع استماعهم.
__________
(1) البيت هو أحد بيتين أنشدتهما امرأة أمام أبى الغصن الأعرابى ، وكان قد خرج حاجا ، فمر بقباء ، وإذا جارية كأن وجهها سيف صقيل ... والقصة كاملة فى الجزء الرابع من «عيون الأخبار» لابن قتيبة ص 22. وفى «شرح شواهد الكشاف» للعلامة محب الدين ص 134 أنه من أبيات «الحماسة». وفى «شرح الحماسة» للمرزوقى ج 3 ص 1238 لم يذكر اسم قائله. وإنما اكتفى بقوله : وقال آخر. ولم يتعرض العلامة المرزوقي لتحقيق اسم هذا الشاعر أو الشاعرة ، وإنما اكتفى بشرح البيتين شرحا أديبا. وهما :
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر رأيت الذي لاكله أنت قادر عليه ، ولا عن بعضه أنت صابر
(2) سورة البقرة. الآية رقم 7. [.....]
(2/277)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 278
ومن السورة التي يذكر فيها «ص»
[سورة ص (38) : آية 12]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12)
قوله تعالى : وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ [12] وهذه استعارة على بعض الأقوال ، وهو أن يكون معنى ذى الأوتاد يعنى ذو الملك الثابت ، والأمر الواطد ، والأسباب التي بها يثبت السلطان ، كما يثبت الخباء بأوتاده ، ويقوم على عماده.
وقد يجوز أيضا أن يكون معنى ذى الأوتاد ، أي ذو الأبنية المشيّدة ، والقواعد الممهدة ، التي تشبّه بالجبال فى ارتفاع الرءوس ورسوخ الأصول. لأن الجبال تسمى أوتاد الأرض.
قال سبحانه : وَالْجِبالَ أَوْتاداً «1».
[سورة ص (38) : آية 15]
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15)
وقوله سبحانه : وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ [15].
وقرىء : من فواق «2» بالضم. وقد قيل إنهما لغتان ، وذلك قول الكسائي.
و قال أبو عبيدة : من فتح أراد مالها من راحة ، ومن ضمّ أراد مالها فى إهلاكهم من مهلة بمقدار فواق الناقة ، وهى الوقفة التي بين الحلبتين. والموضع الذي يحقق الكلام بالاستعارة على قراءة من قرأ من فواق بالفتح ، أن يكون سبحانه وصف تلك الصيحة بأنها لا إفاقة من سكرتها ، ولا استراحة من كربتها ، كما يفيق المريض من علته ، والسكران من نشوته. والمراد أنه لا راحة للقوم منها. فجعل سبحانه الراحة لها على طريق المجاز والاتساع. ومثله كثير فى الكلام.
__________
(1) فى سورة «عم» قوله تعالى : «أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ، وَالْجِبالَ أَوْتاداً» الآية 7.
(2) الضم هو قراءة حمزة والكسائي. وبقية القراء قرءوها بفتح الفاء. وقال الجوهري : الفواق بالفتح والفواق بالضم ما بين الحلبتين من الوقت. وفى الحديث الشريف : (العيادة قدر فواق الناقة) انظر «الجامع لأحكام القرآن» ج 15 ص 156.
(2/278)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 279
[سورة ص (38) : آية 23]
إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23)
وقوله سبحانه : إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ ، فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ [23]. وهذا الكلام داخل فى حيّز الاستعارة. لأن النعاج هاهنا كناية عن النساء. وقد جاءت فى أشعارهم الكناية عن المرأة بالشاة ، وعلى ذلك قول الأعشى.
فرميت غفلة عينه عن شاته فأصبت حبة قلبها وطحالها «1»
أي : عن امرأته. وقال عنترة :
يا شاة ما قنص لمن حلّت له حرمت علىّ وليتها لم تحرم «2»
و ربما سمّوا الظّبية نعجة ، والظّبية شبيهة بالمرأة ، فتكون اللفظة مستعارة على هذا التركيب.
و إنما شبّهت النساء بالنعاج لأن النعاج يرتبطن للاحتلاب والاستنتاج ، والنساء يصطفين للاستمتاع والاستيلاد.
وقوله تعالى فى ذكر الخيل حاكيا عن سليمان عليه السلام لما عرضت عليه ، فكاد أن يفوته للشّغل بها وقت صلاة كان يصلّيها ، فضرب رءوسها وعراقيبها بالسيف ، على ما وردت به الأخبار :
[سورة ص (38) : آية 33]
رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33)
رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ [33] وهذه استعارة. لأن المسح هاهنا - فى أكثر أقوال أهل التأويل -
__________
(1) هذا البيت من قصيدة للأعشى يمدح بها قيس بن معديكرب. ومطلعها :
رحلت سمية غدوة أجمالها غضبى عليك ، فما تقول بدالها وتبلغ أبياتها 54 بيتا ، كما فى ديوانه الكبير الذي نشرته مكتبة الآداب بتحقيق الدكتور م. محمد حسين - ص 27. والعرب تكنى بالشاة عن المرأة والزوجة. والأعشى من شعراء العصر الجاهلى الذين اشتهروا بشعر الخمر ووصف مجالسها وآلاتها مما كان له أثر فى الشعراء بعده كالأخطل وأبى نواس.
(2) قال ابن مطرف الكناني فى شرح هذا البيت : (يعرض بجارية يقول : أي صيد أنت لمن حل له أن يصيدك ، فأما أنا فإن حرمة الجوار قد حرمتك على) ، وتجد شرحه فى «شرح القصائد العشر» للإمام التبريزي ص 200. وقال بعض النحاة : إن «ما» زائدة والأصل يا شاة قنص.
(2/279)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 280
كناية عن الضّرب بالسيف. وامتسح رأسه : إذا فعل به ذلك. وهذه الباء هاهنا للإلصاق. فكأنه تعالى قال : وألصق السيف بسوقها وأعناقها. كما يقول القائل :
مسحت يدى بالمنديل. أي ألصقتها به. وعلى ذلك قول الشاعر «1» :
نمشّ «2» بأعراف الجياد أكفّنا إذا نحن قمنا عن شواء مضهّب
أي نلصق أيدينا بأعرافها ، كما نلصقها بالمناديل التي تمسح بها الأيدى. وقد صرّح بذلك الشاعر الآخر «3» فقال :
أعرافهنّ لأيدينا مناديل
و الشاهد الأعظم على ذلك ما ورد فى التنزيل من قوله سبحانه : وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ «4» على قراءة من قرأ : وَأَرْجُلَكُمْ حرّا. أي ألصقوا المسح بهذه المواضع. وهذه الآية يستدل بها أهل العراق على أنّ استيعاب الرأس بالمسح ليس بواجب ، خلافا لقول مالك. وقال لى الشيخ أبو بكر محمد
__________
(1) هو امرؤ القيس بن حجر الكندي ، أمير شعراء الجاهلية.
(2) فى الأصل «نمس» بالسين المهملة وهو تحريف من الناسخ ، كما أنه ترك كلمة مضهب بدون نقط على الضاد المعجمة. والبيت من بائية امرئ القيس التي يقول فى مطلعها :
خليلى مرا بي على أم جندب نقض لبانات الفؤاد المعذب انظر «شعراء النصرانية» للأب لويس شيخو اليسوعى. ص 23.
(3) هو عبدة بن الطبيب الشاعر الجاهلى. والبيت كاملا هو :
ثمت قمنا إلى جرد مسومة أعرافهن لأيدينا مناديل ويقول ابن قتيبة فى «الشعر والشعراء» إنه أخذه من قول امرئ القيس :
نمش بأعراف الجياد أكفنا إذا نحن قمنا عن شواء مضهب
(4) سورة المائدة. الآية رقم 6.
(2/280)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 281
ابن موسى «1» الخوارزمي - أدام اللّه توفيقه - عند بلوغي عليه فى القراءة من مختصر أبى جعفر الطحاوي «2» إلى هذه المسألة : سألت أبا على الفارسي النحوي «3» وأبا الحسن على ابن عيسى الرماني «4» : هل يقتضى ظاهر الآية إلصاق الفعل بجميع المحل أو بالبعض ؟
فقالا جميعا : إذا ألصق الفعل ببعض المحل تناوله الاسم. قال : وهذا يدل على الاقتصار على مسح بعض الرأس كما يقوله أصحابنا.
[سورة ص (38) : آية 45]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45)
و قوله سبحانه : وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ [45] وهذه استعارة. والمراد بها - واللّه أعلم - أولى القوى فى العبادة ، والبصائر فى الطاعة.
ولا يجوز أن يكون المراد بالأبصار هاهنا الجوارح والحواس ، لأن سائر الناس يشاركون الأنبياء عليهم السلام فى خلق ذلك لهم. ولا يحسن مدح الإنسان بأن له يدا وقدما وعينا وفما. وإنما يحسن أن يمدح بأن له نفسا شريفة ، وهمة منيفة ، وأفعالا جميلة ، وخلالا محمودة.
وقيل أيضا معنى أولى الأيدى : أي أولى النّعم فى الدين ، لأن ورود اليد بمعنى النعمة
__________
(1) كدت أيأس من الحصول على ترجمة له إلى أن وجدته «فى تاريخ بغداد» ج 3 ص 247.
قالوا : ما شاهد الناس مثله فى حسن الفتوى والإصابة فيها وحسن التدريس ، وقد دعى إلى ولاية الحكم مرارا فامتنع منه. توفى سنة 403 ه أي قبل وفاة الشريف الرضى بثلاث سنوات.
(2) هو الإمام أبو جعفر الطحاوي المصري ، برع فى الفقه والحديث ، وإليه انتهت رياسة الحنفية بمصر ، وتفقه فى مذهب الإمام أبى حنيفة حتى صار إماما. توفى سنة 321 ه
(3) هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي كان إماما فى النحو والعربية. وتقدمت ترجمته فى الهامش عند الكلام على سورة طه.
(4) هو مفسر ونحوى كبير ، ولد ببغداد وتوفى بها سنة 384 ه وله كتب «التفسير» و«شرح أصول ابن السراج» و«شرح سيبويه» و«معانى الحروف» وترجمته فى «بغية الوعاة» و«ابن خلكان» و«الأعلام» للزركلى.
(2/281)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 282
مشهور فى كلامهم ، فإنهم أسدوا إلى الناس أيديا بدعايتهم إلى الإيمان ، وافتلاتهم من حبائل الضّلال.
[سورة ص (38) : آية 75]
قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75)
و أما قوله سبحانه وتعالى فى هذه السورة : ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [75] فقد مضى من الكلام على قوله تعالى فى يس : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ «1» ما هو بعينه الكلام على هذا الموضع ، فلا فائدة فى إعادته. وجملته أن المراد بقوله تعالى : لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ مزية الاختصاص بخلق آدم عليه السلام من غير معونة معين ، ولا مظاهرة ظهير.
__________
(1) سورة يس. الآية رقم 71.
(2/282)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 283
ومن السورة التي يذكر فيها «الزّمر»
[سورة الزمر (39) : آية 5]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
قوله تعالى : يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ ، وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [5] وهذه استعارة. والمعنى : يعلى هذا على هذا. وذلك مأخوذ من قولهم : كار العمامة على رأسه يكورها. إذا أرادها عليه. وقد قالوا : طعنه فكوّره. أي صرعه. ومنه قول أبى كبير الهذلي «1» :
متكورين على المعاري بينهم ضرب كتعطاط المزاد الأنجل
و منه الحديث المأثور : (نعوذ باللّه من الحور بعد الكور) «2» أي من الإدبار بعد الإقبال. وقيل من القلة بعد الكثرة. لأنهم يسمّون القطيع الكثير من البقر وغيرها كورا.
ومنه قول أبى ذؤيب «3» فى صفة الثور :
__________
(1) أبو كبير الهذلي هو عامر بن الحليس. وهو شاعر جاهلى. وله ترجمة فى «الشعر والشعراء» و«الإصابة» و«الخزانة» و«اللآلى». وزعموا أنه تزوج أم الشاعر «تأبط شرا» وكان هذا غلاما صغيرا فلما رآه يكثر الدخول على أمه تنكر له ... والقصة كاملة فى كتاب «ديوان الهذليين» ج 2 ص 88 ومتكورين أي بعضهم على بعض ، والمعاري : السوءات. والتعطاط من العط ، وهو الشق ، والأنجل :
الواسع. [.....]
(2) فى «أساس البلاغة» : «و أعوذ باللّه من الحور بعد الكور». والباطل فى حور - بالضم - وهما النقصان ، كالهون والهون. والحديث كاملا فى «المجازات النبوية» طبع القاهرة. صفحة 113 ، ونصه :
(اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر. وكآبة المنقلب ، والحور بعد الكور. وسوء المنظر فى الأهل والمال).
(3) هو أبو ذؤيب الهذلي خويلد بن خالد ، جاهلى إسلامى ، وكان راوية للشاعر الهذلي ساعدة بن جؤية. وقالوا : إنه خرج مع عبد اللّه بن الزبير فى مغزى نحو المغرب فمات. وهو صاحب العينية المشهورة التي يرثى بها سبعة من أبنائه ماتوا فى يوم واحد ، ومطلعها :
أمن المنون وريبها نتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع وشعره فى «ديوان الهذليين» طبع دار الكتب المصرية.
(2/283)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 284
و لا شبوب من الثيران أفرده عن كوره كثرة الإغراء والطّرد
أي عن سربه الكثير.
فيجوز أن يكون معنى يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ على قول من يقول : طعنه فكوّره ، يريد : فصرعه. أي يلقى الليل على النهار ، ويلقى النهار على الليل.
ويكون المعنى على قول من يذهب إلى أن الكور اسم للكثرة ، أي يكثر أجزاء الليل على أجزاء النهار ، حتى يخفى ضوء النهار وتغلب ظلمة الليل. ويكوّر النهار على الليل. أي يكثر أجزاء النهار ، حتى تظهر وتنتشر وتتلاشى فيها أجزاء الليل وتضمحل.
[سورة الزمر (39) : آية 42]
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
وقوله سبحانه : اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [42] وفى هذا الكلام استعارة خفية. وذلك أنّ قوله تعالى : اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها أي يقبضها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها منسوق تعبير. فظاهر الخطاب يقتضى أنه سبحانه يتوفّى الأنفس التي لم تمت فى منامها أيضا. ونحن نجد أمارة بقاء نفس النائم فى جسده بأشياء كثيرة. منها ظهور التنفس والحركة وحذف لسانه بالكلمة بعد الكلمة ، وغير ذلك مما يجرى مجراه. فيكون معنى توفّى النفس النائمة هاهنا اقتطاعها عن الأفعال التمييزية ، والحركات الإرادية ، كالعزوم «1» والقصود وترتيب القيام والقعود ، إلى غير ذلك مما فى معناه.
وقال بعضهم : الفرق بين قبض النوم وقبض الموت أن قبض النوم يضاد اليقظة
__________
(1) جمع عزم وهو ما يعزم الإنسان عليه من قصد ونية.
(2/284)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 285
وقبض الموت [يضاد الحياة] «1». وقبض النوم تكون الروح معه فى البدن ، وقبض الموت تخرج الروح معه من البدن.
[سورة الزمر (39) : آية 56]
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)
وقوله سبحانه : أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [56] وهذه استعارة. وقد اختلف فى المراد بالجنب هاهنا. فقال قوم : معناه فى ذات اللّه.
وقال قوم : معناه فى طاعة اللّه ، وفى أمر اللّه. لأنه ذكر الجنب على مجرى العادة فى قولهم : هذا الأمر مغال فى جنب ذلك الأمر أي فى جهته. لأنه إذا عبّر عنه بهذه العبارة دل «2» على اختصاصه به من وجه قريب من معنى صفته.
وقال بعضهم : معنى فى جنب اللّه. أي فى سبيل اللّه ، أو فى الجانب الأقرب إلى مرضاته ، بالأوصل إلى طاعاته.
ولما كان الأمر كلّه يتشعب إلى طريقين : إحداهما هدى ورشاد ، والأخرى غىّ وضلال ، وكلّ واحد منهما مجانب لصاحبه ، أو هو فى جانب ، والآخر فى جانب ، وكان الجنب والجانب بمعنى واحد ، حسنت العبارة هاهنا عن سبيل اللّه بجنب اللّه ، على النحو الذي ذكرناه.
[سورة الزمر (39) : آية 63]
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63)
وقوله تعالى : لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [63] وهذه استعارة. والمقاليد :
المفاتيح. قال أبو عبيدة : واحدها مقليد ، وواحد الأقاليد إقليد. وهما بمعنى واحد. وقال غيره : واحدها قلد على غير قياس.
__________
(1) ما بين حاصرتين ليس فى الأصل ، وقد زدناها ، لأن الكلام يستقيم بها. ولعل الناسخ نسيها وهو يكتب فأسقطها من مكانها
(2) فى الأصل : (و دل) بالواو ولا معنى لها.
(2/285)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 286
وقال أبو عمرو بن العلاء «1» : وجهه فى العربية أن يكون الواحد على لفظ مقلد ثم تجمع مقالد. فمن شاء أن يشبع كسرة اللام قال مقاليد. كما قالوا : درهم ودراهيم.
قال : وسمعت أبا المنذر يقول : واحد المفاتيح مفتاح. وواحد المفاتح مفتح. والمعنيان جميعا واحد.
والمراد بمقاليد السموات والأرض هاهنا - واللّه أعلم - أي مفاتيح خيراتهما ، ومعادن بركاتهما ، من إدرار الأمطار ، وإيراق الأشجار ، وسائر وجوه المنافع ، وعوائد المصالح.
و قد وصف سبحانه السماء فى عدة مواضع بأنّ لها خزائن وأبوابا ، فحسن على مقتضى الكلام أن توصف بأن لها مقاليد وأغلاقا.
قال سبحانه : لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ «2» وقال تعالى : فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ «3» وقال عزّ من قائل : وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «4».
وقالوا : خزائن السموات الأمطار ، وخزائن الأرض النبات. وقد يجوز أن يكون معنى : لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي طاعة السموات والأرض ومن فيهن.
كما يقال : ألقى فلان إلى فلان مقاليده. أي أطاعه ، وفوّض إليه أمره.
وعلى ذلك قول الأعشى «5» :
__________
(1) هو زبان بن عمار التميمي البصري. كان إماما فى اللغة والأدب والشعر ورواية الأخبار. وقد تلقى أخباره عن أعراب أدركوا الجاهلية. توفى بالكوفة سنة 154 ه
(2) سورة الأعراف : الآية رقم 39.
(3) سورة القمر : الآية رقم 11.
(4) سورة المنافقون. الآية رقم 7.
(5) سبقت ترجمته فى الحديث عن مجازات سورة ص. والبيت من قصيدة للأعشى يمدح بها «هوذة ابن على الحنفي» ويذم «الحارث بن وعلة بن مجالد الرقاشي». ومطلعها :
أجدك ودعت الصبا والولائدا وأصبحت بعد الجور فيهن قاصدا
(2/286)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 287
فتى لو ينادى الشّمس ألقت قناعها أو القمر السّارى لألقى المقالدا
أي لسلم العلوّ إليه ، واعترف له به.
وقال بعض العلماء : ليس قول الشاعر هاهنا : ينادى الشمس ، من النداء الذي هو رفع الصوت ، وإنما هو من المجالسة. تقول : ناديت فلانا. إذا جالسته فى النادي. فكأنه قال : لو يجالس الشمس لألقت قناعها شغفا به ، وتبرجا له. وهذا من غريب القول.
[سورة الزمر (39) : آية 67]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
وقوله سبحانه : وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [67] وهاتان استعارتان. ومعنى قبضته هاهنا أي ملك له وخالص ، قد ارتفعت عنه أيدى المالكين من بريته ، والمتصرفين فيه من خليقته. وقد ورث تعالى عباده ما كان ملكهم فى دار الدنيا من ذلك ، فلم يبق ملك إلا انتقل ، ولا مالك إلا بطل.
وقيل أيضا : معنى ذلك أن الأرض فى مقدوره ، كالذى يقبض عليه القابض ، فتستولى عليه كفه ، ويجوزه ملكه ، ولا يشاركه فيه غيره.
ومعنى قوله تعالى : وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ أي مجموعات فى ملكه ، ومضمومات بقدرته. واليمين هاهنا بمعنى الملك. يقول القائل : هذا ملك يمينى. وليس يريد اليمين التي هى الجارحة. وقد يعبرون عن القوة أيضا باليمين. فيجوز على هذا التأويل أن يكون معنى قوله سبحانه : مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ أي يجمع أقطارها ويطوى انتشارها بقوته ، كما قال سبحانه : يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ «1». وقيل فى اليمين هاهنا وجه آخر. وهو أن تكون بمعنى القسم. لأنه سبحانه لما قال فى «الأنبياء» : يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ
__________
(1) للكتاب ، أو للكتب ، على قراءتى الإفراد والجمع ، كما سبق القول فى سورة الأنبياء.
آية 104.
(2/287)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 288
كان التزامه تعالى فعل ما أوجبه على نفسه بهذا الوعد كأنه قسم أقسم به ليفعلنّ ذلك. فأخبر سبحانه فى هذا الموضع من السورة الأخرى أن السموات مطويات بيمينه ، أي بذلك الوعد الذي ألزمه نفسه سبحانه. وجرى مجرى القسم الذي لا بد أن يقع الوفاء به ، والخروج منه.
والاعتماد على القولين المتقدمين أولى.
(2/288)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 289
ومن حم وهى السورة التي يذكر فيها «المؤمن»
[سورة غافر (40) : آية 7]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7)
قوله تعالى : رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [7] وهذه استعارة. لأن حقيقة السعة إنما توصف بها الأودعية والظروف التي هى أجسام ، ولها أقدار ومساحات ، واللّه سبحانه يتعالى عن ذلك.
والمراد - واللّه أعلم - أنّ رحمتك وعلمك وسعا كلّ شىء ، فنقل الفعل إلى الموصوف على جهة المبالغة كقولهم : طبت بهذا الأمر نفسا. وضقت به ذرعا. أي طابت نفسى ، وضاق ذرعى. وجعل العلم موضع المعلوم ، كما جاء قوله سبحانه : وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ «1» أي بشىء من معلومه.
[سورة غافر (40) : آية 15]
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15)
وقوله سبحانه : رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ [15]. وفى هذه الآية استعارتان.
إحداهما قوله تعالى : رَفِيعُ الدَّرَجاتِ والمعنى : أن منازل العز ، ومراتب الفضل التي يخصّ بها عباده الصالحين ، وأولياءه المخلصين رفيعة الأقدار ، مشرفة المنار.
فالدرجات المذكورة هى التي يرفع عباده إليها ، لا التي يرتفع هو بها. تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
__________
(1) سورة البقرة. الآية رقم 255.
(2/289)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 290
والاستعارة [ «1» الأخرى ] قوله سبحانه : يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ والرّوح هاهنا كناية عن الوحى كقوله تعالى : وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «2» وإنما سمّى روحا لأن الناس يحيون به من موت الضلالة ، وينشرون من مدافن الغفلة. وذلك أحسن تشبيه ، وأوضح تمثيل.
[سورة غافر (40) : آية 19]
يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
وقوله سبحانه : يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [19] وهذه استعارة. والمراد بخائنة الأعين - واللّه أعلم - الرّيب فى كسر الجفون ، ومرامز العيون.
وسمّى سبحانه ذلك خيانة ، لأنه أمارة للريبة ، ومجانب للعفة.
وقد يجوز أن تكون خائنة الأعين هاهنا صفة لبعض الأعين بالمبالغة فى الخيانة ، على المعنى الذي أشرنا إليه. كما يقال : علّامة ، ونسّابة.
وأنشدوا قول الشاعر «3» فى مثل ذلك :
حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن للغدر خائنة مغلّ الأصبع
أي لم تكن موصوفا بالمبالغة فى الخيانة. ومعنى مغلّ الأصبع : أي سارق مختلس.
__________
(1) هذه اللفظة ساقطة من الأصل ، وهى ضرورية فى معرض تفصيل الاستعارتين.
(2) سورة الشورى. الآية رقم 52. [.....]
(3) لم ينسبه المؤلف لقائله. وفى «شرح شواهد الكشاف» للعلامة محب الدين : أنه للشاعر الكلابي. وقد استشهد به الإمام الزمخشري فى تفسيره عند ما تحدث عن قوله تعالى فى سورة النساء :
(و لا تزال تطلع على خائنة منهم).
(2/290)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 291
وأضاف الأغلال إلى الأصبع ، كما أضاف الآخر «1» الخيانة إلى اليد فى قوله :
أولّيت العراق ورافديه فزاريّا أحذّ يد القميص
أي خفيف اليد فى السرقة والأخذ الخفيف السريع. وعنى برافديه : دجلة والفرات.
وإنما ذكرت اليد والأصبع فى هذين الموضعين ، لأن فعل السارق والمختلس فى الأكثر إنما يكون باستعمال يده ، واستخدام أصابعه.
__________
(1) هو الشاعر الفرزدق. والبيت من أبيات فى ديوانه ، وقد أشار إليه ابن قتيبة فى مقدمته لكتابه «الشعر والشعراء» ص 34 ، وهو يتحدث عن التكلف وضرورات القافية. والفرزدق يخاطب الخليفة يزيد بن عبد الملك شاكيا عمر بن هبيرة.
وفى «أساس البلاغة» للزمخشرى روى هذا البيت هكذا :
بعثت على العراق ورافديه فزاريا أحذ يد القميص
(2/291)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 292
ومن حم وهى السورة التي تجب فيها «السجدة»
«1»
[سورة فصلت (41) : آية 5]
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5)
قوله تعالى : وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [5] وهذه استعارة. والأكنّة جمع كنان ، وهو الستر والغطاء. مثل : عنان ، وأعنّة.
وسنان ، وأسنّة.
وليس هناك على الحقيقة شىء مما أشاروا إليه. وإنما أخرجوا هذا الكلام مخرج الدلالة على استثقالهم ما يسمعونه من قوارع القرآن ، وبواقع البيان. فكأنهم من قوة الزهادة فيه ، وشدّة الكراهية له ، قد وقرت أسماعهم عن فهمه ، وأكنّت قلوبهم دون علمه.
و ذلك معروف فى عادات الناس أن يقول القائل منهم لمن يشنأ كلامه ، ويستثقل خطابه : ما أسمع قولك ، ولا أعى لفظك. وإن كان صحيح حاسّة السمع. إلا أنه حمل الكلام على الاستثقال والمقت.
وعلى هذا قول الشاعر «2» :
وكلام سيّىء قد وقرت أذنى عنه ، وما بي من صمم
__________
(1) هى سورة فصلت ، وهى السورة الحادية والأربعون من القرآن.
(2) لم أهتد إلى اسم هذا الشاعر ، وقد ورد هذا البيت فى «أساس البلاغة» للزمخشرى مادة «وقر» ولم يذكر قائله. وروايته فى الأساس هكذا :
كم كلام سيىء قد وقرت أذنى عنه ، وما بي من صمم
(2/292)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 293
[سورة فصلت (41) : آية 11]
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11)
وقوله تعالى : ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [11]. وهذه استعارة. فليس هناك - على الحقيقة - قول ولا جواب ، وإنما ذلك عبارة عن سرعة تكوين السموات والأرض. كما قال تعالى :
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1» ولو لم يكن المراد ما ذكرنا لكان فى هذا الكلام أمر للمعدوم ، وخطاب لغير الموجود. وذلك يستحيل من من فعل الحكيم سبحانه.
ومعنى قوله تعالى : قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ أنهما جرتا على المراد ، ووقفتا عند الحدود والأقدار ، من غير معاناة طويلة ، ولا مشقة شديدة. فكانت فى ذلك جارية مجرى الطائع المميّز إذا انقاد إلى ما أمر به ، ووقف عند ما وقف عنده.
وقال بعضهم : معنى قوله سبحانه : ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أي : كونا على ما أريد منكما من لين وشدة ، وسهل وحزونة ، وصعب وذلول ، ومبرم وسحيل «2».
و الكره والشدة بمعنى واحد فى اللغة العربية. يقول القائل منهم لغيره : أنا أكره فراقك. أي يصعب علىّ أن أفارقك.
وقال سبحانه : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ «3» أي شديد عليكم. ومعنى الطوع هاهنا : التشهد «4» والانقياد من غير إبطاء ولا اعتياص.
وإنما قال سبحانه : قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ لأنه جعل السموات والأرض كلّها كالواحدة والأرض جميعا كذلك ، فحسن أن يعبر عنهما بعبارة الاثنين دون عبارة الجميع.
__________
(1) سورة النحل الآية رقم 40.
(2) المبرم : الخيط أو الحبل الذي فتل فتلتين ، والسحيل : الحبل الذي فتل فتلا واحدا.
(3) سورة البقرة. الآية رقم 216.
(4) هكذا بالأصل. ولعلها التسهل.
(2/293)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 294
وأما قوله سبحانه : قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فكان وجه الكلام أن يكون طائعتين ، أو طائعات ردا على معنى التأنيث. فالمراد به - واللّه أعلم - عند بعضهم : قالتا أتينا بمن فينا من الخلق طائعين. فكان (طائعين) وصفا للخلق المميزين ، لا وصفا للسموات والأرض.
وقال بعضهم : لمّا تضمّن الكلام ذكر السموات والأرض فى الخطاب لهما ، والكناية عنهما بما يخاطب به أهل التمييز ويكنى به عن السامعين الناطقين ، أجريتا فى رد الفعل إليهما مجرى العاقل اللبيب ، والسامع المجيب. وذلك مثل قوله تعالى :
وَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «1». ولو أجرى اللفظ على حقيقته ، وحمل على محجّته لقيل ساجدات. ولكن المراد بذلك لما كان ما أشرنا إليه حسن ، أن يقال ساجدين ، وطائعين.
[سورة فصلت (41) : آية 17]
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17)
و قوله سبحانه : وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [17] وهذه استعارة. والمراد بالعمى هاهنا ظلام البصيرة ، والمتاه فى الغواية. فإن ذلك أخفّ على الإنسان وأشد ملاءمة للطباع ، من تحمل مشاق النظر ، والتلجيج فى غمار الفكر.
[سورة فصلت (41) : آية 23]
وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)
وقوله تعالى : وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ [23] وهذه استعارة. لأن الظن الذي ظنوه على الحقيقة لم يردهم بمعنى يهلكهم. وإنما أهلكهم اللّه سبحانه جزاء على ما ظنوه به من الظنون السيئة ، ونسبوه إليه من الأفعال القبيحة. فلما كان ذلك الظن سببا فى هلاكهم جاز أن ينسب إليه الهلاك الواقع بهم.
__________
(1) سورة يوسف. الآية رقم 4.
(2/294)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 295
[سورة فصلت (41) : آية 39]
وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
وقوله سبحانه : وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [39] وهذه استعارة. وقد مضى الكلام على نظيرها فى «الحج». إلا أن هاهنا زيادة ، وهى صفة الأرض بالخشوع ، كما وصفت هناك بالهمود. واللفظان جميعا يرجعان إلى معنى واحد ، وهو ما يظهر على الأرض من آثار الجدب ، وأعلام المحل ، فتكون كالإنسان الخاشع الذي قد سكنت أطرافه ، وتطأطأ استشرافه.
[سورة فصلت (41) : الآيات 41 الى 42]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
وقوله سبحانه : وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [41] ، [42] وهذه استعارة. وقد قيل فيها أقوال :
منها أن يكون المراد بذلك أن هذا الكتاب العزيز لا يشبهه شىء من الكلام المتقدم له ، ولا يشبهه شىء من الكلام الوارد بعده. فهذا معنى : مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ لأنه لو أشبهه شىء من الكلام المتقدم أو الكلام المتأخر لأبطل معجزته ، وفصم حجته.
فكأن الباطل قد أتاه من إحدى الجهتين المذكورتين ، إما من جهة أمامه ، وإما من جهة ورائه. وهذا معنى عجيب.
وقال بعضهم : معنى ذلك أنه لا تعلق به الشّبهة من طريق المشاكلة ، ولا الحقيقة من جهة المناقضة ، فهو الحق الخالص الذي لا يشوبه شائب ، ولا يلحقه طالب.
وقال بعضهم : معنى ذلك أن الشيطان والإنسان لا يقدران على أن ينتقصا منه حقا ، ولا يزيدا فيه باطلا.
وقال بعضهم : معنى ذلك أنه لا باطل فيه من الإخبار عمّا كان وما يكون. فكأنّ المراد بقوله سبحانه : لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أي من جهة ما أخبر عنه
(2/295)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 296
من الأمور الواقعة. وبقوله : وَلا مِنْ خَلْفِهِ أي من جهة ما أخبر عنه من الأمور المتوقعة.
[سورة فصلت (41) : آية 44]
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44)
و قوله سبحانه : أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [44] وهذه استعارة.
والمراد بها - واللّه أعلم - صفتهم بالتباعد عن طريق الرشد ، والإعراض عن دعاء الحق.
كأنهم من شدة الذهاب بأسماعهم ، والانصراف بقلوبهم ينادون من مكان بعيد. فالنداء غير مسمع لهم ، ولا واصل إليهم. ولو سمعوه لضلّ عنهم فهمه ، للصدّ «1» المنفرج بينهم وبينه.
[سورة فصلت (41) : آية 51]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51)
وقوله سبحانه وتعالى : وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ ، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [51] وهذه استعارة ، والمراد بها صفة الدعاء بالسّعة والكثرة ، وليس يراد العرض الذي هو ضد للطول. وذلك أن صفة الشيء بالعرض تفيد فيه معنى الطول ، لأنه لو لم يكن مع العرض طول لكان العرض هو الطّول.
ألا ترى أنهم يصفون الرّمح بالطول ، ولا يصفونه بالعرض إذ كان طوله أضعاف عرضه.
ويصفون الإزار بأنه عريض إذ كان عرضه مقاربا لطوله.
وقد استقصينا شرح ذلك فى كتابنا الكبير ، واقتصرنا منه هاهنا على البلغة الكافية ، والنكتة الشافية.
__________
(1) غير واضحة بالأصل ، ولعلها للبعد.
(2/296)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 297
ومن حم عسق وهى السورة التي يذكر فيها «الشورى»
[سورة الشورى (42) : آية 13]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
قوله تعالى : أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [13] وهذه استعارة. والمراد بإقامة الدين إعلان شعاره ، وإعلاء مناره ، والدوام على اعتقاده ، والثبات على العمل بواجباته.
وقد مضى الكلام على نظائر هذه الاستعارة فيما تقدم.
[سورة الشورى (42) : آية 16]
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن ْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16)
وقوله سبحانه : حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [16] وهذه استعارة. والدحض :
الزّلق. فكأنه تعالى قال : حجتهم ضعيفة غير ثابتة ، وزالّة غير متماسكة ، كالواطىء الذي تضعف قدمه فيزلق عن مستوى الأرض ، ولا يستمر على الوطء.
وداحضة هاهنا بمعنى مدحوضة. وإذا نسب الفعل إليها فى الدحوض كان أبلغ فى ضعف سنادها ، ووهاء عمادها. فكأنها هى المبطلة لنفسها من غير مبطل أبطلها ، لظهور أعلام الكذب فيها ، وقيام شواهد التهافت عليها. وأطلق تعالى اسم الحجة عليها وهى شبهة ، لاعتقاد المدلى بها أنها حجة ، وتسميته لها بذلك فى حال النزاع والمناقلة.
وأيضا فإن المتكلم بها لما أوردها مورد الحجة ، وأسلكها طريقها ، وأقامها مقامها ، جاز أن يطلق عليها اسمها.
[سورة الشورى (42) : آية 20]
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
وقوله سبحانه : مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ
(2/297)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 298
كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها ، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ
[20] وهذه استعارة. والمراد بحرث الآخرة والدنيا كدح الكادح لثواب الآجلة وحطام العاجلة ، فهذا من التشبيه العجيب ، والتمثيل المصيب. لأن الحارث المزدرع إنما يتوقع عاقبة حرثه ، فيجنى ثمرة غراسه ، ويفوز بعوائد ازدراعه.
وقيل معنى : نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ أي نعطيه بالحسنة عشرا إلى ما شئنا من الزيادة على ذلك. ومن عمل للدنيا دون الآخرة أعطيناه نصيبا من الدّنيا دون الآخرة.
[سورة الشورى (42) : آية 28]
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
وقوله سبحانه : وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [28] وهذه استعارة. وليس المراد أن هناك رحمة كانت مطويّة فنشرت ، وخفيّة فأظهرت.
وإنما معنى الرحمة هاهنا الغيث المنزّل لإحياء الأرض ، وإخراج النّبت. ونشره عبارة عن إظهار النفع به ، وتعريف الخلق عواقب المصالح بموقعه.
[سورة الشورى (42) : آية 45]
وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45)
وقوله تعالى : وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [45] وهذه استعارة. وقد أشرنا إليها فيما تقدم لمعنى جرّ ذكرها.
والمراد بذلك أن نظرهم نظر الخائف الذليل ، والمرتاب الظّنين. فهو لا ينظر إلا مسترقا ، ولا يغضى إلا مشفقا. وهذا معنى قولهم : فلان لا يملأ عينيه من فلان. إذا وصفوه بعظم الهيبة له ، وشدّة المخافة منه. فكأنهم لا ينظرون بمتّسعات عيونهم ، وإنما ينظرون بشفافاتها «1». من ذلّهم ومخافتهم.
__________
(1) لعلها جمع شفافة وهى بقية الشيء.
(2/298)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 299
وقد يجوز أن يكون الطرف هاهنا بمعنى العين نفسها. فكأنه تعالى وصفهم بالنظر من عين ضعيفة ، على المعنى الذي أشرنا إليه ، أو يكون الطرف مصدر قولك : طرفت ، أطرف ، طرفا. إذا لحظت. فيكون المعنى أن لحظهم خفىّ ، لأن نظرهم استراق - كما قلنا أولا - من عظيم الخيفة ، وتوقّع العقوبة.
(2/299)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 300
ومن حم وهى السورة التي يذكر فيها «الزخرف»
[سورة الزخرف (43) : آية 5]
أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5)
قوله سبحانه : أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [5] وهذه استعارة. ويقال : ضربت عنه وأضربت عنه بمعنى واحد.
وسواء قولك ذهبت عنه صفحا ، وأعرضت عنه صفحا ، وضربت وأضربت عنه صفحا ، ومعنى صفحا هاهنا أي أعرضت عنه بصفحة وجهى.
والمراد - واللّه أعلم - أفنعرض عنكم بالذّكر ، فيكون الذّكر مرورا بصفحه عنكم من أجل إسرافكم وبغيكم ؟ أي لسنا نفعل ذلك ، بل نوالى تذكيركم لتتذكروا ، ونتابع زجركم لتنزجروا. ولما كان سبحانه يستحيل أن يصف نفسه بإعراض الصفحة ، كان الكلام محمولا على وصف الذّكر بذلك على طريق الاستعارة.
[سورة الزخرف (43) : آية 11]
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11)
و قوله سبحانه : وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ [11] وهذه استعارة. وقد مضى مثلها فيما تقدم ، إلا أن هاهنا إبدال لفظة مكان لفظة. لأن ما مضى «1» من نظائر هذه الاستعارة إنما يكون يرد بلفظ إحياء الأرض بعد موتها. وورد ذلك هاهنا بلفظ الإنشار بعد الموت. وهو أبلغ. لأن الإنشار صفة تختص بها الإعادة بعد الموت ، والإحياء قد يشترك فيه ما يعاد من الحيوان بعد موته ، وما يعاد من النبات والأشجار بعد تسلبه «2» وجفوفه. يقال : قد أحيا اللّه الشجر.
__________
(1) فى الأصل. (لأن أمضى) وهو تحريف من الناسخ.
(2) هكذا بالأصل. ولعلها (تلبده).
(2/300)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 301
كما يقال : قد أحيا البشر. ولا يقال : أنشر اللّه النبات ، كما يقال : أنشر الأموات.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 28]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
وقوله سبحانه : وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [28] وهذه استعارة. لأن الكلام الذي هو الأصوات المقطّعة ، والحروف المنظومة ، لا يجوز عليه البقاء. وإنما المراد - واللّه أعلم - أن إبراهيم عليه السلام جعل الكلمة التي قالها لأبيه وقومه وهى قوله : إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [26 ، 27] باقية فى عقبه ، بأن وصّى بها ولده ، وأمرهم أن يتواصوا بها ما تناقلتهم الأصلاب ، وتناسختهم الأدوار. وهذه الكلمة هى «1» كلمة الإخلاص والتوحيد. واللّه أعلم.
[سورة الزخرف (43) : آية 45]
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
وقوله سبحانه : وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [45] وهذا الكلام أيضا داخل فى قبيل الاستعارة. لأن مسألة الرسل الذين درجت قرونهم وخلت أزمانهم غير ممكنة. وإنما المراد - واللّه أعلم - واسأل أصحاب من أرسلنا من قبلك من رسلنا ، أو استعلم ما فى كتبهم ، وتعرّف حقائق سننهم.
وذلك على مثال : وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «2».
وقال بعضهم : مسألة الرسل هاهنا بمعنى المسألة عنهم ، عليهم السلام ، وعمّا أتوا به من شريعة ، وأقاموه من عماد سنّة. وقد يأتى فى كلامهم : اسأل كذا. أي اطلبه ، واسأل عنه.
قال سبحانه : وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا «3» أي مسئولا عنه.
__________
(1) فى الأصل «و هى» والواو زائدة من الناسخ. [.....]
(2) سورة يوسف. الآية رقم 82.
(3) سورة الإسراء. الآية رقم 34.
(2/301)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 302
وقال تعالى : وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ «1» أي سئل عن قتلها ، وطلب بدمها. فكأنه تعالى قال لنبيه عليه السلام : واسأل عن سنن الأنبياء قبلك ، [و] «2» شرائع الرسل الماضين أمامك ، فإنك لا تجد فيها إطلاقا لعبادة معبود إلا اللّه سبحانه. وقد استقصينا الكلام على ذلك فى كتابنا الكبير.
__________
(1) سورة التكوير. الآيتان 8 ، 9.
(2) ليست الواو بالأصل ، وقد وضعناها لأن السياق يقتضيها عطفا على ما قبلها.
(2/302)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 303
ومن حم وهى السورة التي يذكر فيها «الدخان»
[سورة الدخان (44) : آية 4]
فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
قوله سبحانه : فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [4] وهذه استعارة ، وقد مضى الكلام على مثلها فى بنى إسرائيل. والمراد - واللّه أعلم - تبيين كل أمر حكيم فى هذه الليلة ، حتى يصير كفرق الصبح فى بيانه ، أو مفرق الطريق فى اتضاحه. ومنه قولهم : فرقت الشعر. إذا خلصت بعضه من بعض ، وبيّنت مخطّ وسطه بالمدرى «1» أو بالأصبع.
[سورة الدخان (44) : آية 19]
وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19)
وقوله سبحانه : وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ [19] وهذه استعارة. والمراد بالعلوّ هاهنا : الاستكبار على اللّه سبحانه ، وعلى أوليائه.
ويوصف المستكبر فى كلامهم بأن يقال : قد شمخ بأنفه. وهذه الصفة مثل وصفه بالعلو. لأن الشامخ : العالي.
وقال سبحانه : إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ «2» أي تجبّر فيها ، واستكبر على أهلها. وليس يراد بذلك العلوّ الذي هو الصعود. وإنما يراد به العلوّ الذي هو الاستكبار والعتوّ. وضدّ وصفهم المستكبر بالعلو والتطاول وصفهم المتواضع بالخشوع والتضاؤل.
[سورة الدخان (44) : آية 29]
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)
وقوله سبحانه : فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ [29] وهذه استعارة. وقد قيل فى معناها أقوال : أحدها أن البكاء هاهنا بمعنى الحزن ، فكأنه
__________
(1) المدرى : المشط الذي يدرى به الرأس ويمشط.
(2) سورة القصص. الآية رقم 4.
(2/303)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 304
تعالى قال : فلم تحزن عليهم السماء والأرض بعد هلاكهم وانقطاع آثارهم. وإنما عبّر سبحانه عن الحزن بالبكاء لأن البكاء يصدر عن الحزن فى أكثر الأحوال. ومن عادة العرب أن يصفوا الدّار إذا ظعن عنها سكّانها ، وفارقها قطّانها بأنها باكية عليهم ، ومتوجعة لهم. على طريق المجاز والاتساع. بمعنى ظهور علامات الخشوع والوحشة عليها ، وانقطاع أسباب النعمة والأنسة عنها.
ووجه آخر وهو أن يكون المعنى : لو كانت السموات والأرض من الجنس الذي يصح منه البكاء لم تبكيا عليهم ، ولم تتوجّعا لهم ، إذ كان اللّه سبحانه عليهم ساخطا ، ولهم ماقتا.
ووجه آخر ، قيل معنى ذلك : ما بكى عليهم من السموات والأرض ما يبكى على المؤمن عند وفاته ، من مواضع صلواته ، ومصاعد أعماله ، على ما ورد الخبر به. «1»
و فى ذلك وجهان آخران يخرج بهما الكلام عن طريق الاستعارة ، فأحدهما أن يكون المعنى : فما بكى عليهم أهل السماء والأرض. ونظائر ذلك فى القرآن كثيرة. والآخر أن يكون المعنى أنه لم ينتصر أحد لهم ، ولم يطلب طالب بثأرهم.
ومضى فى أشعار العرب : بكينا فلانا بأطراف الرماح ، وبمضارب الصفاح. أي طلبنا دمه ، وأدركنا ثأره.
__________
(1) روى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «ما من مؤمن إلا وله فى السماء بابان : باب ينزل منه رزقه ، وباب يدخل منه كلامه وعمله ، فإذا مات فقداه فبكيا عليه. ثم تلا قوله تعالى فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ انظر «الجامع لأحكام القرآن» ج 16 ص 140 وقال على وابن عباس رضى اللّه عنهما : إنه يبكى عليه مصلاه من الأرض ، ومصعد عمله من السماء. (نفس المصدر السابق).
(2/304)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 305
ومن حم ومن السورة التي يذكر فيها «الجاثية»
[سورة الجاثية (45) : آية 18]
ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18)
قوله تعالى : ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها [18] وهذه استعارة.
لأن الشريعة فى أصل اللغة اسم للطريق المفضية إلى الماء المورود. وإنما سمّيت الأديان شرائع لأنها الطرق الموصّلة إلى موارد الثواب ، ومنافع العباد ، تشبيها بشرائع المناهل التي هى مدرجة إلى الماء ، ووصلة إلى الرّواء.
[سورة الجاثية (45) : آية 29]
هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
وقوله سبحانه : هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [29] وهذه استعارة. وقد مضت الإشارة إلى نظيرها فيما تقدم. والمعنى أن الكتاب ناطق من جهة البيان ، كما يكون الناطق من جهة اللّسان. وشهادة الكتاب ببيانه ، أقوى من شهادة الإنسان بلسانه.
(2/305)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 306
ومن حم وهى السورة التي يذكر فيها «الأحقاف»
[سورة الأحقاف (46) : آية 4]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)
قوله تعالى : ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [4] وهذه استعارة على أحد التأويلات. وهو أن يكون معنى : أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي شىء يستخرج من العلم بالكشف والبحث ، والطّلب والفحص ، فتثور حقيقته ، وتظهر خبيئته ، كما تستثار الأرض بالمحافر ، فيخرج نباتها ، وتظهر نثائلها «1». أو كما يستثار القنيص من مجاثمه ، ويستطلع من مكامنه.
و سائر التأويلات فى الآية تخرج الكلام عن حيّز الاستعارة. مثل تأويلهم ذلك على معنى خاصة «2» من علم. أي بقية من علم ، وما يجرى هذا المجرى.
وأنشد أبو عبيدة للراعى «3» فى صفة ناقة :
وذات أثارة أكلت عليها نباتا فى أكمته قفارا
__________
(1) النثائل : جمع نثيلة ونثالة وهى التراب المستخرج من الحفر.
(2) الخاصة : البقية من الشيء. انظر «القرطبي «ج 16 ص 182.
(3) هو الراعي النميري حصين بن معاوية. ولقب بهذا اللقب لأنه كان يصف راعى الإبل فى شعره وكان معاصرا للشاعر جرير فى العصر الأموى ودخل معه فى مهاجاة لأنه اتهمه بالميل إلى الفرزدق. والبيت فى «مقاييس اللغة» لأحمد بن فارس ج 1 ص 56 بتحقيق الأستاذ عبد السلام محمد هارون. وقد ورد فى المقاييس هكذا :
وذات أثارة أكلت عليها نباتا فى أكمته تؤاما وقد رواه القرطبي فى «الجامع» ج 16 ص 182 كما. رواه الشريف هنا.
(2/306)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 307
أي ذات بقية من شحم رعت عليها هذا النبات المذكور. وقوله قفارا أي خاليا من الناس ، ليس به راعية غيرها ، فهو أهنأ لها ، وأرفق بها.
وقال صاحب «الغريب «1» المصنف» : يقال سمنت الناقة على أثارة ، أي على سمن متقدم قد كان قبل ذلك.
__________
(1) هو أبو عبيد القاسم بن سلام ، اشتغل بالحديث والفقه واللغة والأدب وهو صاحب كتاب «غريب الحديث» وكتاب «غريب المصنف» المشار إليه هنا بالتعريف. وقد اشتغل فى تأليفه أربعين عاما. وتوفى سنة 223 ه. وأخباره فى «وفيات الأعيان» و«الفهرست» و«طبقات الأدباء» و«تاريخ آداب اللغة العربية» وهناك «الغريب المصنف» أيضا لأبى عمرو إسحاق بن مرار الشيباني ، كما فى «كشف الظنون» والمقصود هنا كتاب أبى عبيد ، كما فى «المجازات النبوية» للمؤلف ص 220.
(2/307)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 308
ومن السورة التي يذكر فيها «محمد» صلّى اللّه عليه وعلى آله وسلّم
[سورة محمد (47) : آية 4]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4)
قوله سبحانه : فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها [4] وهذه استعارة. والمراد بالأوزار هاهنا الأثقال ، وهى آلة الحرب وعتادها ، من الدروع ، والمغافر ، والرماح ، والمناصل وما يجرى هذا المجرى ، لأن جميع ذلك ثقل على حامله ، وشاقّ»
على مستعمله.
وعلى هذا قول الأعشى.
وأعددت للحرب أوزارها رماحا طوالا وخيلا ذكورا «2»
و من نسج داود موضونة تساق مع الحي عيرا فعيرا
و المراد بذلك فى الظاهر : الحرب ، وفى المعنى : أهل الحرب ، لأنهم الذين يصحّ وصفهم بحمل الأثقال ووضعها ، ولبس الأسلحة ونزعها.
[سورة محمد (47) : آية 21]
طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21)
وقوله سبحانه : فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ [21].
وهذه استعارة ، لأن العزم لا يوصف بحقيقته إلا الإنسان المميز الذي يوطّن النفس على فعل الأمر قبل وقته ، عقدا بالمشيئة على فعله. فيصح أن يسمّى عازما عليه ،
__________
(1) فى الأصل «و ساق» بالسين المهملة. وهو تحريف.
(2) فى «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبى ج 16 ص 229 ، روى البيتان هكذا :
و أعددت للحرب أوزارها رماحا طوالا وخيلا ذكورا ومن نسج داود يحدى بها على أثر الحي عيرا فعيرا وفى الديوان ص 99 ، روى البيتان كما فى رواية الشريف الرضى هنا.
(2/308)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 309
و إنما قال تعالى : عَزَمَ الْأَمْرُ مجازا. أي قويت العزائم على فعله ، فصار كالعازم فى نفسه.
وقال بعضهم : معنى عزم الأمر ، أي جدّ الأمر ، ومنه قول النابغة الذبياني «1».
حياك ود فأنا لا يحلّ لنا لهو النساء لأن الدين قد عزما
أي استحكم وجدّ ، وقوى واشتدّ.
[سورة محمد (47) : آية 24]
أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)
وقوله سبحانه : أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [24] وهذه استعارة. والمراد : أم قلوبهم كالأبواب المقفلة ، لا تنفتح لوعظ واعظ ، ولا يلج فيها عذل عاذل. وفى لغة العرب أن يقول القائل إذا وصف نفسه بضيق الصدر ، وتشعّب الفكر :
قلبى مقفل ، وصدرى ضيّق. وإذا وصف غيره بضد هذه الصفات : قال انفتح قلبه ، وانفسح صدره.
وقد يجوز أيضا أن يكون المعنى أن «2» ....
__________
(1) انظر القصيدة فى شعر النابغة بديوان «فحول الشعراء» المطبوع فى بيروت سنة 1352 ه ص 93. ومطلع القصيدة :
بانت سعاد وأمسى حبلها انجذما واحتلت الشرع فالأجزاع من أضما [.....]
(2) هنا قدر ورقتين ضائعتين من الأصل ، من الآية 24 من سورة محمد إلى الآية 15 من سورة ق.
(2/309)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 310
ومن السورة التي يذكر فيها «ق»
[سورة ق (50) : آية 16]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
[وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ] [16] .... وأراد سبحانه أنه يعلم غيب الإنسان ووساوس إضماره ، ونجىّ أسراره. فكأنه باستبطانه ذلك منه أقرب إليه من وريده. لأن العالم بخفايا قلبه ، أقرب إليه من عروقه وعصبه.
وليس القرب هاهنا من جهة المسافة والمساحة ، ولكن من جهة العلم والإحاطة.
[سورة ق (50) : آية 19]
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
وقوله تعالى : وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ، ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [19] وهذه استعارة. والمراد بسكرة الموت هاهنا : الكرب الذي يتغشى المحتضر عند الموت ، فيفقد له تمييزه ، ويفارق معه معقوله. فشبّه تعالى ذلك بالسّكرة من الشراب ، إلا أن تلك السّكرة منعمة ، وهذه السّكرة مؤلمة.
وقوله تعالى : بِالْحَقِّ يحتمل معنيين : أحدهما أن يكون جاءت بالحق من أمر الآخرة ، حتى عرفه الإنسان اضطرارا ، ورآه جهارا. والآخر أن يكون المراد بِالْحَقِّ هاهنا أي بالموت الذي هو الحق.
[سورة ق (50) : آية 22]
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
وقوله سبحانه : لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [22]. وهذه استعارة والمراد بها ما يراه الإنسان عند زوال التكليف عنه من أعلام السّاعة ، وأشراط القيامة ، فتزول عنه اعتراضات الشكوك ، ومشتبهات الأمور ، يصدّق بما كذّب ، ويقرّ بما جحد ، ويكون كأنه قد نفذ «1» بصره بعد وقوف ،
__________
(1) فى الأصل «نفد» بالدال المهملة وهو تحريف فاحش من النساخ لأنه ليس القصد نفاد البصر وضياعه ، بل القصد نفوذه وحدته.
(2/310)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 311
و أحدّ بعد كلال ونبوّ. فهذا معنى قوله سبحانه : فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.
[سورة ق (50) : آية 30]
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
وقوله تعالى : يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ
[30].
وهذه استعارة. لأن الخطاب للنار والجواب منها فى الحقيقة لا يصحان. وإنما المراد - واللّه أعلم - أنها فيما ظهر من امتلائها ، وبان من اغتصاصها بأهلها ، بمنزلة الناطقة بأنه لا مزيد فيها ، ولا سعة عندها. وذلك كقول الشاعر : «1»
امتلأ الحوض وقال قطنى مهلا رويدا قد ملأت بطني
و لم يكن هناك قول من الحوض على الحقيقة ، ولكن المعنى أن ما ظهر من امتلائه فى تلك الحال جار مجرى القول منه ، فأقام تعالى الأمر المدرك بالعين ، مقام القول المسموع بالأذن.
وقيل : المعنى أنا نقول لخزنة جهنم هذا القول ، ويكون الجواب منهم على حدّ الخطاب. ويكون ذلك من قبيل : وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «2» فى إسقاط المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. وذلك كقولهم : يا خيل اللّه اركبي. والمراد يا رجال اللّه اركبي.
وعلى القول الأول يكون مخرج هذا القول لجهنم على طريق التقرير لاستخراج الجواب بظاهر الحال ، لا على طريق الاستفهام والاستعلام. إذ كان اللّه سبحانه قد علم امتلاءها قبل أن يظهر ذلك فيها. وإنما قال سبحانه هذا الكلام ليعلم الخلائق صحة وعده ، إذ يقول تعالى : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «3». والوجه
__________
(1) لم أهتد إلى اسم قائل هذا الرجز. وفى «الجامع لأحكام القرآن» ج 17 ص 18 لم ينسبه لقائله. بل قال : إنه لشاعر.
(2) سورة يوسف : الآية رقم 82.
(3) سورة هود. الآية رقم 119.
(2/311)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 312
[فى قوله «1»] تعالى فى الحكاية عن جهنم : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ بمعنى لا من مزيد فىّ.
و ليس ذلك على طريق طلب الزيادة ، وهذا معروف فى الكلام. ومثله قوله عليه السلام :
(و هل ترك «2» عقيل لنا من دار ؟ ) أي ما ترك لنا دارا.
[سورة ق (50) : آية 37]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
وقوله سبحانه وتعالى : إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [37] وهذه استعارة. وقد مضى نظير لها فيما تقدم. والمعنى أنه بالغ فى الإصغاء إلى الذكرى ، وأشهدها قلبه ، فكان كالملقى إليها سمعه ، دنوّا من سماعها ، وميلا إلى قائلها.
والمراد بقوله تعالى : إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [37] أي عقل ولبّ. [و] «3» يعبّر عنهما بالقلب ، لأنهما يكونان بالقلب. أو يكون المعنى : لمن كان به قلب ينتفع به. لأن من القلوب مالا ينتفع به ، إذا كان مائلا إلى الغىّ ، ومنصرفا عن الرّشد.
__________
(1) مطموسة فى الأصل.
(2) قاله عليه السلام حين فتح مكة. فقد مضى الزبير بن العوام برايته حتى ركزها عند قبة رسول اللّه ، وكان معه أم سلمة وميمونة رضى اللّه عنهما ، وقيل : يا رسول اللّه! ألا تنزل منزلك من الشعب ؟
فقال : وهل ترك لنا عقيل منزلا ؟ وكان عقيل بن أبى طالب قد باع منزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ومنزل إخوته. والرجال والنساء بمكة. فقيل : يا رسول اللّه! فانزل فى بعض بيوت مكة فى غير منازلك ، فقال! : لا أدخل البيوت! فلم يزل مضطربا بالحجون لم يدخل بيتا ، وكان يأتى المسجد من الحجون لكل صلاة. انظر الخبر فى «إمتاع الأسماع» للمقريزى المؤرخ ، ج 1 ص 381.
(3) ليست بالأصل ، والسياق يقتضيها.
(2/312)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 313
ومن السورة التي يذكر فيها «الذاريات»
[سورة الذاريات (51) : آية 34]
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)
قوله سبحانه فى صفة حجارة القذف : مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ [34] وهذه استعارة. والمسوّمة : المعلمة. وأصل ذلك مستعمل فى تسويم الخيل للحرب. أي تعليمها بعلامات تتميز بها من خيل العدو. شبّهت هذه الحجارة بها لأنها معلّمة بعلامات تدلّ على مكروه المصابين ، وضرر المعاقبين ، كما كانت الخيل المسوّمة تدل على ذلك فى لقاء الأعداء. وإرسال هذه للعراك كإرسال تلك للهلاك.
وقيل : إن التسويم فى تلك الحجارة هو أن تجعل نكتة سوداء فى الحجر الأبيض ، أو نكتة بيضاء فى الحجر الأسود.
وقيل : كان عليها أمثال الطوابيع والخواتيم. وقد تكلمنا على نظير هذه الاستعارة فى «هود».
والمراد بقوله تعالى : عِنْدَ رَبِّكَ أي خلقها سبحانه كذلك من غير أن يفعلها فاعل ، أو يجعلها جاعل. فلأجل هذه الحال وجب أن يجعل لها تعالى هذا الاختصاص بقوله : عِنْدَ رَبِّكَ. وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك أنها مسوّمة فى سلطان اللّه تعالى وملكوته. وفى موضع العقاب المعدّ للمذنبين من خلقه.
[سورة الذاريات (51) : آية 39]
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)
وقوله تعالى : فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [39] وهذه استعارة.
وقد قيل : إن المراد بها أنه أعرض بجنوده الذين هم كالركن له ، والحجارة
(2/313)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 314
دونه. وقد يسمّى أعوان المرء وأنصاره أركانه واعتماده «1» ، إذ كان بهم يصول ، وإليهم يؤول.
وقيل أيضا معنى ذلك فتولّى «2» وسلطانه ، فإن ذلك كالركن له والمانع منه. ونظيره قوله سبحانه حاكيا عن لوط عليه السلام : لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ «3» أي إلى عزّ دافع ، وسلطان قامع.
[سورة الذاريات (51) : آية 41]
وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)
و قوله سبحانه : وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [41] وهذه استعارة.
ومعنى العقيم هاهنا التي لا تحمل القطار ، ولا تلقح الأشجار ، ولا تعود بخير ، ولا تنكشف عن عواقب نفع. فهى كالمرأة التي لا يرجى ولدها ، ولا ينمى عددها.
__________
(1) هكذا بالأصل. ولعلها «و أعماده».
(2) بياض بالأصل.
(3) سورة هود. الآية رقم 80.
(2/314)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 315
ومن السورة التي يذكر فيها «الطّور»
[سورة الطور (52) : آية 32]
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32)
قوله تعالى : أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا ، أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [32] وهذه استعارة. أي كانوا حكماء عقلاء كما يدّعون ، فكيف تحملهم أحلامهم وعقولهم على أن يرموا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بالسّحر والجنون ، وقد علموا بعده عنهما ، ومباينته لهما ؟
و هذا القول منهم سفه «1» وكذب ، وهاتان الصفتان منافيتان لأوصاف الحلماء ، ومذاهب الحكماء.
ومخرج قوله سبحانه : أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا مخرج التبكيت لهم ، والإزراء عليهم. ونظير هذا الكلام قوله سبحانه حاكيا عن قوم شعيب عليه السلام :
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا «2» أي دينك وما جئت به من شريعتك التي فيها الصلوات وغيرها من العبادات ، تحملك على أمرنا بترك ما يعبد آباؤنا «3». وقد مضى الكلام على ذلك فى موضعه.
[سورة الطور (52) : آية 49]
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)
وقوله سبحانه : وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ [49] وقرئ : «4» وَإِدْبارَ النُّجُومِ بكسر الهمزة. وهذه استعارة على القراءتين جميعا.
__________
(1) فى الأصل «صفه» بالصاد. وهو تحريف بالغ.
(2) سورة هود. الآية رقم 87.
(3) كرر الناسخ هذه العبارة من قوله : أي دينك إلى قوله ما يعبد آباؤنا. [.....]
(4) قرأ السبعة : وإدبار بكسر الهمزة على أنها مصدر للفعل أدبر. وقرأ سالم بن أبى الجعد ويعقوب وسلام وأيوب : وأدبار بالفتح. انظر القرطبي ج 17 ص 80.
(2/315)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 316
فمن قرأ بفتح الهمزة كان معناه : وأعقاب النجوم. أي أواخرها إذا انصرفت.
كما يقال : جاء فلان فى أعقاب القوم. أي فى أواخرهم. وتلك صفة تخصّ الحيوان المتصرف الذي يوصف بالمجيء والذّهاب ، والإقبال والإدبار. ولكنها استعملت فى النجوم على طريق الاتساع. فأمّا قراءة من قرأ : وَإِدْبارَ النُّجُومِ بالكسر فمعناه قريب من المعنى الأول. فكأنه سبحانه وصفها بالإدبار بعد الإقبال. والمراد بذلك الأفول بعد الطلوع ، والهبوط بعد الصعود.
(2/316)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 317
ومن السورة التي يذكر فيها «النّجم»
[سورة النجم (53) : آية 11]
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11)
قوله سبحانه : ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [11] وهذه استعارة. والمراد - واللّه أعلم - أن ما اعتقده القلب من صحة ذلك المنظر الذي نظره ، والأمر الذي باشره لم يكن عن تخيّل وتوّهم ، بل عن يقين وتأمّل. فلم يكن بمنزلة الكاذب من طريق تعمّد الكذب ، ولا من طريق الشكوك والشّبه.
[سورة النجم (53) : آية 17]
ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17)
وقوله سبحانه : ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [17] وهذه استعارة. وهى قريبة المعنى من الاستعارة الأولى. والمراد بذلك - واللّه أعلم - أن البصر لم يمل عن جهة المبصر «1» إلى غيره ميلا يدخل عليه به الاشتباه ، حتى يشكّ فيما رآه. ولا طغى ، أي لم يجاوز المبصر ويرتفع عنه ، فيكون مخطئا لإدراكه ، ومتجاوزا لمحاذاته.
فكأن تلخيص المعنى أن البصر لم يقصر عن المرئىّ فيقع دونه ، ولم يزد «2» عليه فيقع وراءه ، بل وافق موضعه ، ولم يجاوز موقعه. وأصل الطغيان طلب العلو والارتفاع ، من طريق الظلم والعدوان ، وهو فى صفة البصر خارج «3» على المجاز والاتساع.
__________
(1) فى الأصل «البصر» وهو تحريف من الناسخ.
(2) فى الأصل «و لم يرد» بالراء المهملة ، وهو تحريف.
(3) أي سائر على طريق المجاز والاتساع فى التعبير.
(2/317)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 318
ومن السورة التي يذكر فيها «انشقاق القمر»
[سورة القمر (54) : الآيات 11 الى 12]
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)
قوله تعالى : فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [11 ، 12] وهذه استعارة. والمراد - واللّه أعلم - بتفتيح أبواب السماء تسهيل سبل الأمطار حتى لا يحبسها حابس ، ولا يلفتها لافت. ومفهوم ذلك إزالة العوائق عن مجارى العيون من السماء ، حتى تصير بمنزلة حبيس فتح عنه باب ، أو معقول أطلق عنه عقال. وقوله تعالى : فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي اختلط ماء الأمطار المنهمرة ، بماء العيون المتفجرة ، فالتقى ماءاهما على ما قدره اللّه سبحانه ، من غير زيادة ولا نقصان. وهذا من أفصح الكلام ، وأوقع العبارات عن هذه الحال.
[سورة القمر (54) : آية 25]
أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25)
وقوله سبحانه : أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [25] ولفظ إلقاء الذّكر هاهنا مستعار : والمراد به أن القرآن لعظم شأنه ، وصعوبة أدائه ، كالعبء الثقيل الذي يشقّ على من حمّله ، وألقى عليه ثقله.
و كذلك قال تعالى : إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا «1». وكذلك قول القائل :
(ألقيت على فلان سؤالا ، وألقيت عليه حسابا) أي سألته عما يستكدّ له هاجسه ، ويستعمل به خاطره.
[سورة القمر (54) : آية 46]
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46)
وقوله سبحانه : بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [46] وهذه استعارة. لأن المرارة لا يوصف بها إلا المذوقات والمتطعمات ، ولكنّ الساعة لما كانت مكروهة عند مستحقّى العقاب ، حسن وصفها بما يوصف به الشيء المكروه المذاق.
ومن عادة من يلاقى ما يكرهه ، ويرى ما لا يحبّه ، أن يحدث ذلك تهيّجا فى وجهه ، يدل
__________
(1) سورة المزمل. الآية رقم 5.
(2/318)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 319
على نفور جأشه ، وشدة استيحاشه ، فكذلك هؤلاء إذا شاهدوا أمارات العذاب ، ونوازل العقاب ، ظهر فى وجوههم ما يستدل به على فظاعة الحال عندهم ، وبلوغ مكروهها من قلوبهم ، فكانوا كلائك «1» المضغة المقرة ، «2» وذائق الكأس الصّبرة ، فى فرط التقطيب ، وشدة التهيج. وشاهد ذلك قوله سبحانه : تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ «3».
__________
(1) اللائك : اسم فاعل من لاك يلوك أي مضغ.
(2) المقرة على وزن فرحة : المرة الطعم يقال : مقر الشيء مقرا إذا صار مرا
(3) سورة المؤمنون. الآية رقم 104.
(2/319)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 320
ومن السورة التي يذكر فيها «الرحمن» سبحانه
[سورة الرحمن (55) : الآيات 6 الى 7]
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7)
قوله تعالى : وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [6] وهذه استعارة : والنجم هاهنا ما نجم من النبات. أي طلع وظهر. والمراد بسجود النبات والشجر - واللّه أعلم - ما يظهر عليها من آثار صنعة الصانع الحكيم ، والمقدّر العليم ، بالتنقل من حال الإطلاع ، إلى حال الإيناع ، ومن حال الإيراق إلى حال الإثمار ، غير ممتنعة على المصرّف ، ولا آبية على المدبّر.
وقوله سبحانه : وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ [7] ولفظ الميزان هاهنا مستعار ، على أحد التأويلين. وهو أن يكون معناه العدل الذي تستقيم «1» به الأمور ، ويعتدل عليه الجمهور. وشاهد ذلك قوله تعالى : وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ «2» أي بالعدل فى الأمور.
وروى عن مجاهد «3» أنه قال : القسطاس : العدل بالرومية. ويقال : قسطاس ، وقسطاس. بالضم والكسر ، كقرطاس وقرطاس.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 19 الى 20]
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20)
وقوله تعالى : مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ [19] ، [20] وهذه استعارة. والمراد بها أنه سبحانه أرسل البحرين طاميين ، وأمارهما مائعين ،
__________
(1) فى الأصل «يستقيم» وهو تحريف.
(2) سورة الإسراء. الآية رقم 35.
(3) هو من المفسرين الأولين للقرآن الكريم ، والمشهور أنه أول من دون فى التفسير ، وتفسيره غير موجود ، ولعل الموجود هو تفسير ابن عباس رواه مجاهد. وذكر ابن عطية فى «مقدمته» أن صدر المفسرين والمؤيد فيهم هو على بن أبى طالب رضى اللّه عنه ، ويتلوه عبد اللّه بن عباس ، ويتلوه مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما ويذكر ابن عطية أن مجاهدا قرأ على ابن عباس قراءة تفهم ووقوف عند كل آية. وذكر جورجى زيدان أن مجاهدا توفى سنة 104 ه. انظر «تاريخ آداب اللغة العربية» ج 1 ص 205 ، و«مقدمتان فى علوم القرآن» بتحقيق المستشرق أرثر جفرى ، ونشر مكتبة الخانجى.
(2/320)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 321
و هما يلتقيان بالمقاربة ، لا بالممازجة ، فبينهما حاجز يمنعهما من الانحراق «1» ويصدّهما عن الاختلاط.
ومعنى قوله تعالى : لا يَبْغِيانِ أي لا يغلب أحدهما على الآخر ، فيقلبه إلى صفته ، إمّا الملح على العذب ، أو العذب على الملح. وكنى تعالى بلفظ البغي عن غلبة أحدهما على صاحبه. لأن الباغي فى الشاهد اسم لمن تغلّب من طريق الظلم بالقوة والبسطة ، والتطاول والسطوة.
و قد مضى الكلام على مثل هذه الاستعارة فيما تقدم. إلّا أن فيها هاهنا زيادة أوجبت إعادة ذكرها.
[سورة الرحمن (55) : آية 27]
وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27)
وقوله سبحانه : وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [22] وهذه استعارة. وقد تقدم الكلام على نظيرها. والمراد : وتبقى ذات ربّك وحقيقته.
ولو كان الكلام محمولا على ظاهره لكان فاسدا مستحيلا على قولنا وقول المخالفين.
لأنه لا أحد يقول من المشبّهة والمجسّمة ، الذين يثبتون للّه سبحانه أبعاضا مؤلفة «2» ، وأعضاء مصرّفة إنّ وجه اللّه سبحانه يبقى ، وسائره يبطل ويفنى. تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
و من الدليل على أن المراد بوجه اللّه هاهنا ذات اللّه قوله سبحانه : ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ألا ترى أنه سبحانه لما قال فى خاتمة هذه السورة : تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ قال :
ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [78] ولم يقل (ذو) لأن اسم اللّه غير اللّه ، ووجه
__________
(1) هكذا بالأصل ولعلها الانجراف أو الإغراق.
(2) فى الأصل «و مؤلفة» بواو قبل الصفة. وهى زائدة من الناسخ.
(2/321)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 322
اللّه هو اللّه ، وهذا واضح البيان ، وقد مضى الكلام على هذا المعنى فيما تقدم.
[سورة الرحمن (55) : آية 31]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31)
وقوله سبحانه : سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [31] وهذه استعارة. وقد كان والدي الطاهر الأوحد ، ذو المناقب ، أبو أحمد الحسين «1» ، بن موسى الموسوي ، رضى اللّه عنه وأرضاه ، سألنى عن هذه الآية فى عرض كلام جرّ ذكرها ، فأجبته فى الحال بأعرف الأجوبة المقولة فيها. وهو أن يكون المراد بذلك : سنعمد لعقابكم ونأخذ فى جزائكم على مساوئ أعمالكم ، وأنشدته بيت جرير كاشفا عن حقيقة هذا المعنى.
وهو قوله :
ألان وقد فرغت إلى نمير فهذا حين صرت لها عذابا
فقال : فرغت إلى نمير ، كما يقول : عمدت إليها. فأعلمنا أن معنى فرغت هاهنا معنى عمدت وقصدت. ولو كان يريد الفراغ من الشغل لقال : فرغت لها ، ولم يقل فرغت إليها.
وقال بعضهم : إنما قال سبحانه : سَنَفْرُغُ لَكُمْ ولم يقل : سنعمد. لأنه أراد أي سنفعل فعل من يتفرغ للعمل من غير تمجيع «2» فيه ، ولا اشتغال بغيره عنه ، ولأنه لما كان الذي يعمد إلى الشيء ربما قصّر فيه لشغله معه بغيره ، وكان الفارغ له - فى الغالب - هو المتوفّر عليه دون غيره ، دللنا بذلك على المبالغة فى الوعيد من الجهة التي هى أعرف عندنا ، ليقع الزجر بأبلغ الألفاظ ، وأدلّ الكلام على معنى الإبعاد.
و قال بعضهم : أصل الاستعارة موضوع على مستعار منه ومستعار له ، فالمستعار منه
__________
(1) كان نقيب العلويين فى بغداد. وهو والد الشريفين : الرضى ، والمرتضى. وقد تعرض للقبض عليه من قبل عضد الدولة بن بويه سنة 369 ه ثم أطلقه ابنه شرف الدولة بن بويه ، وعزل عن النقابة سنة 384 ه ثم أعيد إليها سنة 394 ه وأضيف إليه الحج والمظالم ، فلم يزل على ذلك إلى أن توفى ضريرا سنة 400 ه فرثاه ولداه كما رثاه أبو العلاء المعرى ، ومهيار الديلمي ، وجماعة من الشعراء. [.....]
(2) التمجيع : الممازحة والمماجنة فى العمل وعدم أخذه مأخذ الجد.
(2/322)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 323
أصل ، وهو أقوى. والمستعار له فرع ، وهو أضعف. وهذا مطّرد فى سائر الاستعارات ، فإذا تقرر ذلك كان قوله تعالى : سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ من هذا القبيل.
فالمستعار منه هاهنا ما يجوز فيه الشغل ، وهو أفعال العباد ، والمستعار له ما لا يجوز فيه الشغل ، وهو أفعال اللّه تعالى. والمعنى الجامع لهما الوعيد ، إلا أن الوعيد بقول «1» القائل :
سأتفرع لعقوبتك ، أقوى من الوعيد بقوله : سأعاقبك. من قبل أنه كأنما قال : سأتجرد لمعاقبتك ، كأنه يريد استفراغ قوّته فى العقوبة له.
ثم جاء القرآن على مطرح كلام العرب ، لأن معناه أسبق إلى النفس ، وأظهر للعقل ، والمراد به تغليظ الوعيد ، والمبالغة فى التحذير. ومثل ذلك قوله تعالى فى المدّثّر ، عليه الصلاة والسلام : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «2» فالمستعار منه هاهنا ما يجوز فيه المنع ، وهو أفعال العباد ، والمستعار له ما لا يجوز فيه المنع ، وهو أفعال القديم سبحانه كما قلنا أولا.
والمعنى الجامع لهما التخويف والتهديد.
والتهديد بقول القائل : ذرنى وفلانا - إذا أراد المبالغة فى وعيده - أقوى من قوله :
خوّف فلانا من عقوبتى ، وحذّره من سطوتى. وهذا بيّن بحمد اللّه تعالى.
و قد يجوز أن يكون لذلك وجه آخر ، وهو أن يكون معنى قوله تعالى : سَنَفْرُغُ لَكُمْ أي سنفرّغ لكم ملائكتنا الموكّلين بالعذاب ، والمعدين لعقاب أهل النار.
ونظير ذلك قوله تعالى : وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا «3» أي جاء ملائكة ربّك.
ويكون تقدير الكلام : وجاء ملائكة ربّك وهم صفّا صفّا. كما تقول : أقبل القوم وهم
__________
(1) فى الأصل «يقول» على أنها فعل مضارع. وهو تحريف من الناسخ.
(2) سورة المدثر. الآية رقم 11.
(3) سورة الفجر. الآية رقم 22.
(2/323)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 324
زحفا زحفا. والملك هاهنا لفظ الجنس ، وإنما أعيد ذكر الملك ليدل على المحذوف الذي هو اسم الملائكة ، لأنه ما كان يسوغ أن يقول : وجاء ربك وهم صفّا صفّا ، ويريد الملائكة على التقدير الذي قدرناه ، لأن الكلام كان يكون ملبسا ، والنظام مختلا مضطربا.
وقد يجوز أيضا أن يكون المعنى : وجاء أمر ربك ، والملك صفّا صفّا. كلا القولين جائز.
وقرأنا «1» حمزة والكسائي : سيفرغ لكم ، بالياء وفتحها ، وقرأنا «2» : سنفرغ لكم بالنون كقراءة السبعة.
__________
(1) هكذا في الأصل ، ولعلها «و قرأ حمزة والكسائي» كما فى القرطبي ج 17 ص 169.
(2) ليس قوله «و قرأنا» واضحا لأن هذه قراءة ابن شهاب والأعرج ، كما فى «الجامع لأحكام القرآن».
(2/324)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 325
ومن السورة التي يذكر فيها «الواقعة»
[سورة الواقعة (56) : آية 2]
لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2)
قوله «1» تعالى : لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [2] وهذه استعارة. والمراد أنها إذا وقعت لم ترجع عن وقوعها ، ولم تعدل عن طريقها ، كما يقولون : قد صدق فلان الحملة «2» ولم يكذب. أي ولم يرجع على عقبه ، ويقف عن وجهة عزمه جبنا وضعفا ، أو وجلا وخوفا.
و كاذبة هاهنا مصدر ، كقولك : عافاه اللّه عافية ، فيكون كذب كذبا وكاذبة. [و] «3» تلخيص المعنى : ليس لوقعتها كذب ولا خلف. وقيل أيضا : ليس «4» لها قضية كاذبة ، لإخبار اللّه سبحانه بها ، وقيام الدلائل عليها ، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ..
وذلك فى كلامهم أظهر من أن يتعاطى بيانه.
وقيل أيضا : ليس لها نفس كاذبة فى الخبر «5» عنها ، والإعلام بوقوعها.
والمعنيان واحد.
__________
(1) فى الأصل «و قوله» بواو قبل الكلمة وهى زيادة من الناسخ.
(2) فى الأصل «الجملة» بالجيم المعجمة ، وهو تحريف من الناسخ.
(3) ليست هذه الواو بالأصل وهى ضرورية.
(4) مطموسة بالأصل وهى مفهومة من السياق.
(5) فى الأصل «الخير» بالياء المثناة التحتية. وهى تحريف.
(2/325)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 326
ومن السورة التي يذكر فيها «الحديد»
[سورة الحديد (57) : آية 3]
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
قوله تعالى : هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ، وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [3].
وهذه استعارة عليه سبحانه ، كإطلاقنا لذلك على غيره ، لأنه سبحانه لا يأتى بالكلام المستعار والمجاز عليه - كما قلنا فى أول هذا الكتاب - ولكن لأن ذلك اللفظ أبعد فى البلاغة منزعا ، وأبهر فى الفصاحة مطلعا.
والواحد منّا - فى الأكثر - إنما يستعير أغلاق الكلام ، ويعدل عن الحقائق إلى المجازات ، لأن طرق القول ربما ضاق بعضها عليه فخالف إلى «1» .... بقية الكلام ، وربما استعصى بعضها على فكره فعدل إلى المطاوعة.
معنى قوله تعالى : هُوَ الْأَوَّلُ أي الذي لم يزل قبل الأشياء كلها ، لا عن انتهاء مدة ، وَالْآخِرُ أي الذي لا يزال بعد الأشياء كلّها ، لا إلى انتهاء غاية.
وَ الظَّاهِرُ المتجلى للعقول بأدلّته ، وَالْباطِنُ أي الذي لا تدركه «2» أبصار بريّته.
و قال بعضهم : قد يجوز أن يكون معنى الظاهر هاهنا أي العالم بالأشياء كلها. من قولهم :
ظهرت على أمر فلان أي علمته. ويكون الظاهر مخصوصا بما كان فى الوجود والجهر ، ويكون الباطن مخصوصا بما كان فى العدم والسر «3».
__________
(1) هنا لفظة غير واضحة.
(2) فى الأصل (لا يدركه).
(3) فى الأصل «و الستر» وهو تحريف. [.....]
(2/326)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 327
و تلخيص معنى الظاهر والباطن أنه العالم بما ظهر وما بطن ، وما استسرّ وما علن.
[سورة الحديد (57) : آية 10]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
وقوله سبحانه : وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [10] وهذه استعارة على ما تقدم فى كلامنا من نظير ذلك. والمعنى أن الخلائق إذا فنوا وانقرضوا خلّوا ما كانوا يسكنونه ، وزالت أيديهم عما كانوا يملكونه «1» ..... إلا اللّه سبحانه ، وصار تعالى كأنه قد ورث عنهم ما تركوه «2» .... خلفوه. لأنه الباقي بعد فنائهم ، والدائم بعد انقضائهم.
[سورة الحديد (57) : آية 12]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
وقوله سبحانه : يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [12] وهذه استعارة على أحد التأويلين «3» ....
[سورة الحديد (57) : آية 15]
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
وقوله سبحانه : مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [15] وهذه استعارة. ومعنى مولاكم : أي أملك بكم ، وأولى بأخذكم. وهذا بمعنى المولى «4» من طريق الرق ، لا المولى من جهة العتق. فكأنّ النار - نعوذ باللّه منها - تملكهم رقا ، ولا تحررهم عتقا.
[سورة الحديد (57) : آية 29]
لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
وقوله سبحانه : وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [29] وهذه استعارة.
ومعنى بيد اللّه ، أي فى ملك اللّه وقدرته ، يبسطه إذا شاء على حسب المصالح والمفاسد ، والمغاوى والمراشد. وقد مضى الكلام على نظائرها.
__________
(1 - 2) هنا ألفاظ ممحوة.
(3) هنا بضعة أسطر مبتورة الأطراف غير واضحة المعالم.
(4) فى الأصل «بمعنى أولى» وهو تحريف واضح.
(2/327)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 328
ومن السورة التي يذكر فيها «المجادلة»
[سورة المجادلة (58) : آية 7]
أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
قوله سبحانه : ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ ، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا [7] وظاهر هذا الكلام محمول على المجاز والاتساع ، لأن المراد به إحاطته تعالى بعلم نجوى المتناجين ، ومعاريض المتخافتين ، فكأنه سبحانه يعلم جميع ذلك ، سامع للحوار ، وشاهد للسّرار.
ولو حمل هذا الكلام على ظاهره لتناقض. ألا ترى أنه تعالى لو كان رابعا لثلاثة فى مكان على معنى قول المخالفين ، استحال أن يكون سادسا لخمسة فى غير ذلك المكان إلا بعد أن يفارق المكان الأول ، ويصير إلى المكان الثاني ، فينتقل كما تنتقل الأجسام ، ويجوز عليه الزوال والمقام. وهذا واضح بحمد اللّه وتوفيقه.
[سورة المجادلة (58) : آية 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
وقوله سبحانه : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [12] وهذه استعارة. وقد مضت لها نظائر كثيرة.
والمراد بقوله تعالى : بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ أي أمام نجواكم ، وذلك كقوله سبحانه :
وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ «1» أي مطرقة أمام الغيث الوارد ، ومبشّرة بالخير الوافد.
[سورة المجادلة (58) : آية 16]
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16)
وقوله سبحانه : اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [16] وهذه استعارة. والكلام وارد فى شأن المنافقين.
والمراد أنهم جعلوا إظهار الإيمان الذين «2» يبطنون ضدّه جنّة يعتصمون بها ويستلئمون «3»
__________
(1) سورة الأعراف. الآية رقم 56.
(2) هكذا بالأصل. والصواب : الذي
(3) بالأصل : يستلمون ، وهو تحريف ويستلئم : أي يلبس الدرع
(2/328)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 329
فيها ، تعوّذا بظاهر الإسلام الذي يسع من دخل فيه ، ويعيذ «1» من تعوّد به.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 21 الى 22]
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
وقوله سبحانه : كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [21] وهذه استعارة. والمراد بالكتابة هاهنا الحكم والقضاء. وإنما كنى تعالى عن ذلك بالكتابة ، مبالغة فى وصف ذلك الحكم بالثبات ، وأنّ بقاءه كبقاء المكتوبات.
وقوله سبحانه : أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [22] وفى هذا الكلام استعارتان ، إحداهما قوله تعالى : أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ ومعناه أنه ثبّته فى قلوبهم ، وقرّره فى ضمائرهم ، فصار كالكتابة الباقية ، والرّقوم الثابتة ، على ما أشرنا إليه من الكلام على الاستعارة المتقدمة. وذلك كقول القائل : هو أبقى من النقش فى الحجر ، ومن النقش فى الزّبر.
و الاستعارة الأخرى قوله تعالى : وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ولذلك وجهان : إمّا أن يكون المراد بالروح هاهنا القرآن ، لأنه حياة فى الأديان ، كما أنّ الروح حياة فى أمر الأبدان. وقال سبحانه : وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «2» والمراد القرآن.
والوجه الآخر أن يكون الروح هاهنا معنى النّصر والغلبة والإظهار للدولة. وقد يعبّر عن ذلك بالريح. والرّوح والريح يرجعان إلى معنى واحد. وقال سبحانه : وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ «3» أي دولتكم واستظهاركم.
__________
(1) فى الأصل «و يعيد» بالدال المهملة ، وهو تحريف من الناسخ.
(2) سورة الشورى. الآية رقم 52.
(3) سورة الأنفال الآية رقم 46.
(2/329)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 330
ومن السورة التي يذكر فيها «الحشر»
[سورة الحشر (59) : آية 9]
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
قوله تعالى : وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [9] الآية. وهذه استعارة لأن تبوّؤ الدار هو استيطانها والتمكن فيها ، ولا يصحّ حمل ذلك على حقيقته فى الإيمان. فلا بدّ إذن من حمله على المجاز والاتساع.
فيكون المعنى أنهم استقروا فى الإيمان كاستقرارهم فى الأوطان. وهذا من صميم البلاغة ، ولباب الفصاحة. وقد زاد اللفظ المستعار هاهنا معنى الكلام رونقا. ألا ترى كم بين قولنا : استقرّوا فى الإيمان ، وبين قولنا : تبوّءوا الإيمان.
وأنا أقول أبدا إن الألفاظ خدم للمعانى ، لأنها تعمل فى تحسين معارضها ، وتنميق مطالعها.
[سورة الحشر (59) : آية 21]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
وقوله سبحانه : لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [21] وهذا القول على سبيل المجاز. والمعنى أن الجبل لو كان مما يعى القرآن ويعرف البيان ، لخشع فى «1» سماعه ، ولتصدّع من عظم شأنه ، على غلظ أجرامه ، وخشونة أكنافه. فالإنسان أحق بذلك منه ، إذ كان واعيا لقوارعه ، وعالما بصوادعه.
__________
(1) كذا بالأصل. ولعلها «من».
(2/330)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 331
ومن السورة التي يذكر فيها «الامتحان»
«1»
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [1] وهذه استعارة على أحد التأويلين ، وهو أن يكون المعنى : تلقون إليهم بالمودة ليتمسّكوا «2» بها منكم. كما يقول القائل : ألقيت إلى فلان بالحبل ليتعلق به ، وسواء قال : ألقيت بالحبل ، أو ألقيت الحبل. وكذلك لو قال : ألقيت إلى فلان بالمودة ، أو ألقيت إليه المودة. وكذلك قولهم : رميت إليه بما فى نفسى ، وما فى نفسى ، بمعنى واحد.
وقال الكسائي : تقول العرب : ألقه من يدك وألق به من يدك ، واطرحه من يدك ، واطرح به من يدك ، كلام عربى صحيح. وقد قيل : إن فى الكلام مفعولا محذوفا ، فكأنه تعالى قال : تلقون إليهم أسرار النبي صلّى اللّه عليه وسلم بالمودة التي بينكم. وهذه الآية نزلت فى قوم من المسلمين ، كانوا يخالّون قوما من المنافقين ، فيتسقّطونهم أسرار النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، استزلالا لهم ، واستغمارا لعقولهم.
وقوله سبحانه : وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ [2] وهذه استعارة.
لأن بسط الألسن على الحقيقة لا يتأتّى كما يتأتّى بسط الأيدى ، وإنما المراد إظهار الكلام السيّء فيهم بعد زمّ الألسن عنهم ، فيكون الكلام كالشىء الذي بسط بعد انطوائه ، وأظهر بعد إخفائه.
وقد يجوز أيضا أن يكون تعالى إنما حمل بسط الألسن على بسط الأيدى ، ليتوافق الكلام ، ويتزاوج النظام ، لأن الأيدى والألسن مشتركة فى المعنى المشار إليه ، فللأيدى الأفعال وللألسن الأقوال. وتلك ضررها بالإيقاع ، وهذه ضررها بالسّماع.
__________
(1) هى سورة الممتحنة.
(2) فى الأصل «ليتسمكوا» وهو تحريف من الناسخ.
(2/331)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 332
[سورة الممتحنة (60) : آية 10]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
وقوله سبحانه : وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [10] وقرأ أبو عمرو وحده تُمْسِكُوا بالتشديد ، وقرأ بقية السبعة تُمْسِكُوا بالتخفيف. وهذه استعارة. والمراد بها : لا تقيموا على نكاح المشركات ، وخلاط الكافرات ، فكنى سبحانه عن العلائق التي بين النساء والأزواج بالعصم ، وهى هاهنا بمعنى الحبال ، لأنها تصل بعضهم ببعض ، وتربط بعضهم إلى بعض. وإنما سميت الحبال عصما ، لأنها تعصم المتعلق بها والمستمسك بقوّتها. وقال الشاعر :
وآخذ من كل حىّ عصم
أي حبالا. وهى بمعنى العهود فى هذا الشعر.
وقال أبو عبيدة : العصمة : الحبل والسّبب. وقال غيره : العصم : العقد. فكأنه تعالى قال : ولا تمسّكوا بعقد الكوافر ، أي بعقود نكاحهن. وأبو حنيفة يستشهد بهذه الآية على أنه لا عدّة فى الحربية إذا خرجت إلى دار الإسلام مسلمة ، وبانت من زوجها بتخليفها له فى دار الحرب كافرا : ويقول إن فى الاعتداد منه تمسّكا بعصمة الكافر التي وقع النهى عن التمسك بها. ويذهب أن الكوافر هاهنا جمع فرقة كافرة ، كما أن الخوارج جمع فرقة خارجة. ليصحّ حمل الكوافر على الذكور والإناث.
ويكون قوله تعالى : وَلا تُمْسِكُوا خطابا للنبى صلّى اللّه عليه وسلم والمؤمنين. والمعنى :
و لا تأمروا النساء بالاعتداد من الكفار ، فتكونوا كأنكم قد أمرتموهنّ بالتمسك بعصمهم.
وقال أبو يوسف «1» ومحمد «2» يجب عليها العدّة.
__________
(1) أبو يوسف هو يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الكوفي ، صاحب الإمام أبى حنيفة النعمان.
تولى القضاء ببغداد فى أيام المهدى والهادي والرشيد وهو أول من لقب بقاضى القضاة فى الإسلام ، وأول من وضع الكتب فى الفقه الحنفي. توفى سنة 182 ه.
(2) محمد هو محمد بن الحسن بن واقد الشيباني ، كان إماما فى الفقه والأصول ، وهو صاحب أبى حنيفة وناشر علمه ومذهبه. تولى القضاء فى زمن الرشيد ، ثم صحبه إلى خراسان فمات فى الري سنة 189 ه. [.....]
(2/332)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 333
ومن السورة التي يذكر فيها «الصف»
[سورة الصف (61) : آية 5]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5)
قوله سبحانه : فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [5] وهذه استعارة. وكنا أغفلنا الكلام على نظيرها فى آل عمران. وهو قوله تعالى : رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا «1» لأن ذلك أدخل فى باب الكلام على الآي المتشابهة ، وأبعد من الكلام على الألفاظ المستعارة. إلا أننا رأينا الإشارة إلى هذا المعنى هاهنا ، لأنه مما يجوز أن يجرى فى مضمار كتابنا هذا ، فنقول :
إن المراد بقوله تعالى : رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا أي لا تحمّلنا من التكاليف ما لا طاقة لنا به ، فتزيغ قلوبنا ، أي تميل عن طاعتك ، وتعدل عن طريق مرضاتك ، فتصادفها زائغة ، أو يحكم عليها الزيغ عند كونها زائغة.
و قد يجوز أن يكون المراد بذلك : أي أدم لنا ألطافك وعصمك لتدوم قلوبنا على الاستقامة ، ولا تزيغ «2» عن مناهج الطاعة. وحسن أن يقال : لا تزغ قلوبنا بمعنى الرغبة فى إدامة الألطاف ، لما كان إعدام تلك الألطاف فى الأكثر يكون عنه زيغ القلوب ، ومواقعة الذنوب.
وقد استقصينا الكلام على ذلك فى كتابنا الكبير.
وأما قوله تعالى فى هذه السورة : فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ فهو أوضح فيما يذهب إليه من الأول ، لأنه سبحانه لما زاغوا عن الحق حكم عليهم بالزّيغ عنه ، وحكمه
__________
(1) سورة آل عمران الآية رقم 8.
(2) فى الأصل «و لا تزغ» وهو تحريف إذ لا محل لجزم الفعل هنا.
(2/333)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 334
بذلك أن يأمر أولياءه بذمّهم ولعنهم والبراءة منهم عقوبة لهم على ذميم فعلهم. وقد يجوز أن يكون معنى ذلك أنهم لما زاغوا عن الحق خذلهم وأبعدهم وخلّاهم واختيارهم ، وأضاف سبحانه الفعل إلى نفسه على طريق الاتساع ، لما كان وقوع الزّيغ منهم مقابلا لأمره لهم باتباع الحقّ ، وسلوك الطريق النهج. كما قال تعالى : فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي «1» أي وقع نسيانكم لذكرى ، فى مقابلة أمر أولئك العباد الصالحين لكم بأن تسلكوا الطريق الأسلم ، وتتّبعوا الدين الأقوم.
ومن السورة التي يذكر فيها «الجمعة»
[سورة الجمعة (62) : آية 7]
وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)
قوله سبحانه : وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [7] وهذه استعارة. والمراد : ولا يتمنّون الموت أبدا خوفا مما فرط منهم من الأعمال السيئة ، والقبائح المجترحة. ونسب تعالى تلك الأفعال إلى الأيدى لغلبة الأيدى على الأعمال ، وإن كان فيها ما يعمل بالقلب واللسان.
ومن السورة التي يذكر فيها «المنافقون»
[سورة المنافقون (63) : آية 7]
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7)
قوله تعالى : وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ [7] وهذه استعارة. والمراد بخزائن السموات والأرض مواضع أرزاق العباد ، من مدارّ السحاب ، ومخارج الأعشاب ، وما يجرى مجرى ذلك من الأرفاق.
وقال بعضهم : المراد بالخزائن هاهنا مقدورات اللّه سبحانه ، لأن فيها كلّ ما يشاء
__________
(1) سورة المؤمنون الآية رقم 110.
(2/334)
تلخيص البيان، متن، ص: 335
إخراجه، من مصالح العباد، ومنافع البلاد. وقد مضى الكلام على هذا المعنى فيما تقدّم.
ومن السورة التي يذكر فيها «التغابن»
[سورة التغابن (64): الآيات 8 الى 9]
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
قوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا [8] وهذه استعارة.
والمراد بالنور هاهنا القرآن. وإنما سمّى نورا لأن به يهتدى فى ظلم الكفر والضلال، كما يهتدى بالنور الساطع، والشهاب اللامع. وضياء القرآن أشرف من ضياء الأنوار، لأن القرآن يعشو إليه القلب، والنور يعشو إليه الطّرف.
وقوله سبحانه: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ [9] فذكر التغابن هاهنا مجاز، والمراد به - واللّه أعلم - تشبيه المؤمنين والكافرين بالمتعاقدين والمتبايعين، فكأن المؤمنين ابتاعوا دار الثواب، وكأنّ الكافرين اعتاضوا منها دار العقاب، فتفاوتوا فى الصّفقة، وتغابنوا فى البيعة، فكان الربح مع المؤمنين، والخسران مع الكافرين.
ويشبه ذلك قوله تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ؟ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ «1» الآية.
وليس فى السورة التي يذكر فيها «الطلاق»»
شى ء من الغرض الذي نقصده فى هذا الكتاب.
_________
(1) سورة الصف. الآيتان 10، 11.
(2) يرى المؤلف رضى اللّه عنه أن سورة الطلاق ليس فيها شىء من مجازات القرآن.
(2/335)
تلخيص البيان، متن، ص: 336
ومن السورة التي يذكر فيها «التحريم»
[سورة التحريم (66): آية 4]
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)
قوله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [4] وهذه استعارة.
ومعنى صغت قلوبكما: أي مالت وانحرفت.
قال النضر بن «1» شميل: يقال قد صغوت إليه وصغيت، وصغيت، وأصغيت إليه، وهو الكلام. ولم تمل قلوبهما على الحقيقة، وإنما اعتقد قلباهما خلاف الاستقامة فى طاعة النبي صلّى اللّه عليه وعلى آله وسلّم، فحسن أن يوصف بميل القلبين من هذا الوجه.
و ذلك كقول القائل: قد مال إلى فلان قلبى. إذا أحبه. وقد نفر عن فلان قلبى.
إذا أبغضه. والقلب فى الأمرين جميعا بحاله، لم يخرج عن نياطه، ولم يزل عن مناطه.
و إنما قال سبحانه: قلوبكما، والخطاب مع امرأتين، لأن كل شيئين من شيئين تجوز العبارة عنهما بلفظ الجمع فى عادة العرب. قال الراجز «2».
_________
(1) هو النضر بن شميل بن خرشة التميمي المازني وكان عالما بأيام العرب ورواية الحديث واللغة.
اتصل بالخليفة المأمون العباسي فأكرمه وقربه إليه. توفى بمرو سنة 203 ه.
(2) لم يذكر القرطبي اسم هذا الراجز. وقد نسبه محقق «الجامع لأحكام القرآن» للشاعر الخطام المجاشعي ونبه على ذلك فى هامش الجزء الخامس ص 73. ولم يذكر ابن مطرف الكناني فى «القرطين» اسم الشاعر واكتفى بقوله: أنشدنى بعضهم، وكذلك فعل العلامة محب الدين فى «شرح شواهد الكشاف» ص 318.
و الخطام اسمه بشر - كما كتب ذلك بخطه عبد القادر البغدادي، على هامش «المؤتلف والمختلف» للآمدى ص 112 - وهو شاعر إسلامى اشتهر بالرجز.
والقذف (بفتحتين وبضمتين): البعيد من الأرض. والمرت (بفتح الميم وسكون الراء): الأرض لا ماء فيها ولا نبات. والظهر: ما ارتفع من الأرض.
(2/336)
تلخيص البيان، متن، ص: 337
ومهمهين قذفين مرتين ظهراهما مثل ظهور التّرسين
وقال اللّه سبحانه فى موضع آخر: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما «1» وإنما أراد سبحانه قطع يمين السارق، ويمين السارقة. وذلك مشهور فى اللغة.
[سورة التحريم (66): آية 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (8)
و قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [8] وهذه استعارة. لأن نصوحا من أسماء المبالغة. يقال: رجل نصوح. إذا كان كثير النصح لمن يستنصحه. وذلك غير متأت فى صفة التوبة على الحقيقة. فنقول: إن المراد بذلك - واللّه أعلم - أنّ التوبة لما كانت بالغة غاية الاجتهاد فى تلافى ذلك الذّنب «2»، كانت كأنها بالغة غاية الاجتهاد فى نصح صاحبها، ودلالته على طريق النجاة بها. فحسن أن تسمّى «نصوحا» من هذا الوجه.
و قال بعضهم: النّصوح: هى التوبة التي يناصح الإنسان فيها نفسه، ويبذل مجهوده فى إخلاص الندم، والعزم على ترك معاودة الذنب. وقرأ أبو بكر بن عياش «3» عن عاصم «4»: نَصُوحاً بضم النون. على المصدر. وقرأ بقية السبعة نَصُوحاً بفتح النون على صفة التوبة.
_________
(1) سورة المائدة. الآية رقم 38.
(2) فى الأصل «المذنب» وهو تحريف.
(3) أبو بكر بن عياش. واسمه شعبة هو إمام فى اللغة والقراءات، وكان راوى عاصم وإماما من أئمة السنة توفى سنة 193 ه. له ترجمة موجزة فى «الأعلام»، و«النشر»، و«القراءات واللهجات» لعبد الوهاب حمودة، و«الفهرست» لابن النديم.
(4) هو عاصم بن أبى النجود الكوفي الأسدى أحد القراء السبعة، كان ثقة فى القراءات. وله اشتغال بحديث رسول اللّه. توفى سنة 127 ه وقد روى عنه أبو بكر بن عياش. وله ترجمة فى «تهذيب التهذيب» و«الوفيات» و«الأعلام» للزركلى، و«القراءات واللهجات «لعبد الوهاب حمودة.
(2/337)
تلخيص البيان، متن، ص: 338
[سورة التحريم (66): آية 10]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
و قوله سبحانه: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ، كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما [10] وهذه استعارة. لأن وصف المرأة بأنها تحت الرجل ليس يراد به حقيقة الفوق والتّحت، وإنما المراد أنّ منزلة المرأة منخفضة عن منزلة الرجل، لقيامه عليها، وغلبته على أمرها. كما قال سبحانه: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ «1». وكما يقول القائل: فلان الجندىّ تحت يدى فلان الأمير. إذا كان من شحنة عمله، أو متصرفا على أمره. وكما يقول الآخر: لا آخذ رزقى من تحت يدى فلان. إذا كان هو الذي يلى إطلاق رزقه، وتوفية مستحقه. وذلك مشهور فى كلامهم.
ومن السورة التي يذكر فيها «الملك»
[سورة الملك (67): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1)
قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [1] وهذه استعارة. وقد مضت لها نظائرها فيما تقدم. والمراد بذكر اليد هاهنا استيلاء الملك وتدبير الأمر. يقال: هذه الدار فى يد فلان أي فى ملكه. وهذا الأمر فى يد فلان أي هو المدبّر له.
فمعنى بِيَدِهِ الْمُلْكُ أي هو مالك الملك، ومدبّر الأمر.
[سورة الملك (67): آية 4]
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
وقوله سبحانه: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [4] وهذه من الاستعارات المشهورة. والمراد بها - واللّه أعلم - أي كرّر أيها الناظر
_________
(1) سورة النساء. الآية رقم 34.
(2/338)
تلخيص البيان، متن، ص: 339
بصرك إلى السماء مفكرا فى عجائبها، ومستنبطا غوامض تركيبها، يرجع إليك بصرك بعيدا مما طلبه، ذليلا «1» بفوت ما قدّره.
والخاسئ فى قول قوم: البعيد. من قولهم: خسأت الكلب. إذا أبعدته. وفى قول قوم: هو الذليل «2». يقال رجل خاس أي ذليل، وقد خسى أي خضع وذلّ.
و الحسير: البعير المعيى، الذي قد بلغ السير مجهوده، واعتصر عوده. فتلخيص المعنى أن البصر يرجع بعد سروحه فى طلب مراده، وإبعاده فى غايات مرامه، كالّا معيى «3»، بعيدا من إدراك بغيته، خائبا من نيل طلبته.
[سورة الملك (67): الآيات 7 الى 8]
إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهاأَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)
و قوله سبحانه فى صفة نار جهنم نعوذ باللّه منها: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ، تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [7، 8] الآية.
وفى هذا الكلام استعارتان. إحداهما قوله تعالى: سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ والشهيق: الصوت الخارج من الخوف عند تضايق القلب من الحزن الشديد، والكمد الطويل. وهو صوت مكروه السماع. فكأنه سبحانه وصف النار بأنّ لها أصواتا مقطعة تهول من سمعها، ويصعق من قرب منها.
والاستعارة الأخرى قوله سبحانه: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ من قولهم:
تغيظت القدر. إذا اشتد غليانها، ثم صارت الصفة به مخصوصة بالإنسان المغضب. فكأنه سبحانه وصف النار - نعوذ باللّه منها - بصفة المغيظ الغضبان، الذي من شأنه إذا بلغ ذلك الحد أن يبالغ فى الانتقام، ويتجاوز الغايات فى الإيقاع والإيلام.
وقد جرت عادتهم فى صفة الإنسان الشديد الغيظ بأن يقولوا: يكاد فلان يتميز غيظا.
_________
(1) فى الأصل «دليلا» بالدال المهملة وهو تحريف من الناسخ.
(2) فى الأصل «الدليل» بالدال المهملة، وهو تحريف. [.....]
(3) الكال: هو الذي أدركه الكلال. والمعيي: هو الذي أدركه الإعياء.
(2/339)
تلخيص البيان، متن، ص: 340
أي تكاد أعصابه المتلاحمة تتزايل، وأخلاطه المتجاورة تتنافى وتتباعد، من شدة اهتياج غيظه، واحتدام طبعه. فأجرى سبحانه هذه الصفة - التي هى أبلغ صفات الغضبان - على نار جهنم لما وصفها بالغيظ، ليكون التمثيل فى أقصى منازله، وأعلى مراتبه.
[سورة الملك (67): آية 15]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
و قوله سبحانه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها [15] وهذه استعارة. لأن الذّلول من صفة الحيوان المركوب. يقال: بعير ذلول. وفرس ذلول. إذا أمكن من ظهره، وتصرّف على مراده راكبه.
و ضدّ ذلك وصفهم للمركوب المانع ظهره، والممتنع على راكبه بالصّعب والمصعب.
و المعنى: أنه سبحانه جعل الأرض للناس كالمركوب الذلول، ممكنة من الاستقرار عليها، والتصرّف فيها، طائعة غير مانعة، ومذعنة غير مدافعة.
و المراد بقوله تعالى: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها أي فى ظهورها وأعاليها، وأعلى كلّ شى ء منكب له.
و قال بعضهم: معنى ذلك أنه سبحانه لما أصابنا فى بعض الأحيان بالرجفات والزلازل التي لا قرار معها على وجه الأرض، وخلق الجبال الخشن الملامس، الصعبة المسالك لتكون للأرض ثقلا، وللخلق معقلا، أعلمنا سبحانه أنه لو لا ما أنعم به علينا من تسكين الأرض وتوطئتها، ونفى الحزونة «1» والوعوث عن أكثرها حتى أمكنت من التصرف على ظهرها، لما كان عليها مثبت قدم، ولا مسرح نعم. وقد استقصينا الكلام على ذلك فى كتابنا الكبير.
_________
(1) الحزونة: غلظ الأرض، والوعوث: صعوبة الطريق وتعسر السلوك فيه.
(2/340)
تلخيص البيان، متن، ص: 341
[سورة الملك (67): آية 22]
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
وقوله سبحانه:أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [22] وهذه استعارة، والمراد بها صفة من يخبط فى الضلال، وينحرف عن طريق الرشاد. لأنهم يصفون من تلك حاله بأنه ماش على وجهه. فيقولون: فلان يمشى على وجهه، ويمضى على وجهه، إذا كان كذلك.
وإنما شبّهوه بالماشي على وجهه، لأنه لا ينتفع بمواقع بصره، إذ كان البصر فى الوجه.
وإذا كان الوجه مكبوبا على الأرض كان الإنسان كالأعمى الذي لا يسلك جددا، ولا يقصد سددا.
ومن الدليل على أن قوله تعالى:أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ من الكنايات عن عمى البصر، قوله تعالى فى مقابلة ذلك: أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا لأن السّوىّ ضدّ المنقوص فى خلقه، والمبتلى فى بعض كرائم جسمه.
ومن السورة التي يذكر فيها «ن والقلم»
[سورة القلم (68): آية 42]
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42)
قوله سبحانه: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [42] وهذه استعارة. والمراد بها الكناية عن هول الأمر وشدته، وعظم الخطب وفظاعته. لأن من عادة الناس أن يشمّروا عن سوقهم عند الأمور الصّعبة، التي يحتاج فيها إلى المعاركة، ويفزع عندها إلى الدفاع والممانعة. فيكون تشمير الذيول عند ذلك أمكن للقراع، وأصدق للمصاع.
وقد جاء فى أشعارهم ذكر ذلك فى غير موضع. قال قيس «1» بن زهير بن جذيمة العبسي:
_________
(1) قيس بن زهير هو صاحب الفرسين: داحس والغبراء وبسببهما قامت الحرب بين عبس وذبيان ودامت أربعين سنة. وتجد أخباره فى «اللسان» و«أيام العرب» و«الشعر والشعراء» و«شعراء النصرانية» وغيرها.
(2/341)
تلخيص البيان، متن، ص: 342
فإن «1» شمّرت لك عن ساقها فويها ربيع فلا تسأم «2»
وقال الآخر «3»:
قد شمّرت عن ساقها فشدّوا وجدّت الحرب بكم فجدّوا
[سورة القلم (68): آية 44]
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44)
وقوله سبحانه: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [44] وهذه استعارة. ولها نظائر فى القرآن. منها قوله تعالى: وَذَرْنِي «4» وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا وقوله سبحانه: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «5» ومعنى ذلك أن الكلام خرج على مذهب للعرب معروف، وغرض مقصود. يقول قائلهم لمخاطبه إذا أراد تغليظ الوعيد لغيره: ذرنى وفلانا فستعلم ما أنزله به. فالمراد إذن بهذا الخطاب النبي صلّى اللّه عليه وعلى آله. فكأنه تعالى قال له: ذر عقابى وهؤلاء المكذبين. أي «6» اترك مسألتى فى التخفيف عنهم، والإبقاء عليهم. لأن اللّه سبحانه لا يجوز عليه المنع، فيصح معنى قوله تعالى لنبيّه عليه السلام: ذرنى وكذا، لأنه المالك لا ينازع، والقادر لا يدافع.
[سورة القلم (68): آية 51]
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)
وقوله تعالى: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [51]
_________
(1) فى الأصل «فإذا» وهو تحريف من الناسخ به ينكسر الوزن.
(2) هكذا بالأصل. وفى «شعراء النصرانية» ص 927 يروى هكذا:
فإن شمرت لك عن ساقها فويها ربيع ولم يسأموا
(3) هو رويشد بن رميض العنبري المعروف بشريح بن ضبيعة، كما فى هامش «العقد الفريد» ج 4 ص 120 طبع لجنة التأليف والترجمة. وفى «شرح ديوان الحماسة» للمرزوقى بتحقيق أحمد أمين وعبد السلام هارون أن اسمه رشيد بن رميض، لا رويشد. ويرجح الأستاذ هارون أنه العنزي، لا العنبري، نسبة إلى بنى عنزة، ص 354.
(4) فى الأصل: فذرنى بالفاء. وهو تحريف. والصواب بالواو. سورة المزمل. الآية رقم 11.
(5) سورة المدثر. الآية رقم 11.
(6) فى الأصل «أ نترك» وهو تحريف من الناسخ.
(2/342)
تلخيص البيان، متن، ص: 343
وهذه استعارة. والمراد بالإزلاق هاهنا: إزلال القدم حتى لا يستقر على الأرض. وذلك خارج على طريقة للعرب معروفة. يقول القائل منهم: نظر إلىّ فلان نظرا يكاد يصرعنى به. وذلك لا يكون إلا نظر المقت والإبغاض، وعند النزاع والخصام. وقال الشاعر «1»:
يتقارضون إذا التقوا فى موقف نظرا يزيل مواقف الأقدام
و قد أنكر بعض العلماء أن يكون المراد بقوله تعالى: لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ الإصابة بالعين، لأن هذا من نظر السخط والعداوة، وذلك من نظر الاستحسان والمحبّة.
ومن السور التي يذكر فيها «الحاقة»
[سورة الحاقة (69): آية 6]
وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6)
قوله تعالى: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ [6] وهذه استعارة.
والمراد بالصّرصر: الباردة. وهو مأخوذ من الصّرّ، والعاتية: الشديدة الهبوب التي ترد بغير ترتيب، مشبّهة بالرجل العاتي، وهو المتمرد الذي لا يبالى على ما أقدم، ولا فيما ولج ووقع.
[سورة الحاقة (69): الآيات 10 الى 11]
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11)
وقوله سبحانه: فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً [10] وهذه استعارة. والمراد بالرابية هاهنا: العالية القاهرة. من قولهم: ربا الشي ء إذا زاد. والرّبا مأخوذ من هذا. فكأن تلك الأخذة كانت قاهرة لهم، وغالبة عليهم.
و قوله سبحانه: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [11] وهذه استعارة.
_________
(1) لم يذكر «لسان العرب» اسم الشاعر وفى شرح «شواهد الكشاف» لم ينسب لقائل أيضا. انظر اللسان مادة قرض. وقد استشهد الزمخشري بهذا البيت فى حديثه عن هذه الآيات بالذات، ولكنه روى «نظرا يزل» بدلا من «يزيل».
(2/343)
تلخيص البيان، متن، ص: 344
والمراد بها قريب من المراد بالاستعارتين الأوليين «1»، وهو تشبيه للماء فى طموّ أمواجه، وارتفاع أثباجه بحال الرجل الطاغي، الذي علا متجبرا، وشمخ متكبرا.
و قال بعضهم: معنى طغى الماء أي كثر على خزّانه، فلم يضبطوا مقدار ما خرج منه كثرة، لأن للماء خزنة، وللرياح خزنة من الملائكة عليهم السلام، يخرجون منهما على قدر ما يراه اللّه سبحانه من مصالح العباد، ومنافع البلاد، على ما وردت به الآثار.
[سورة الحاقة (69): آية 21]
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21)
وقوله تعالى: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [21] وهذه استعارة. وكان الوجه أن يقال: فى عيشة مرضيّة. ولكن المعنى خرج على مخرج قولهم: شعر شاعر، وليل ساهر.
إذا شعر فى ذلك الشعر وسهر فى ذلك الليل، فكأنهما وصفا بما يكون فيهما، لا بما يكون منهما. فبان أنّ تلك العيشة لما كانت بحيث يرضى الإنسان فيها حاله جاز أن توصف هى بالرضا. فيقال راضية. على المعنى الذي أشرنا إليه. وعلى ذلك قول أوس بن حجر «2».
جدلت على ليلة ساهرة بصحراء شرج إلى ناظره «3»
وصف الليلة بصفة الساهر فيها، وظاهر الصفة أنها لها.
وقال بعضهم: إنما قال تعالى: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ لأنها فى معنى: ذات رضى، كما قيل: لابن، وتامر. أي ذو لبن، وتمر.
وكما قالوا لذى الدّرع: دارع، ولذى النّبل: نابل، ولصاحب الفرس: فارس. وإنما
_________
(1) فى الأصل «الأولتين» وهو تحريف شنيع من الناسخ.
(2) هو أوس بن حجر بن مالك التميمي، كان شاعر تميم فى الجاهلية، وعمر طويلا، ولم يدرك الإسلام. وفى شعره رقة وحكمة. وهو صاحب الأبيات المشهورة التي أولها:
أيتها النفس أجملى جزعا إن الذي تحذرين قد وقعا
(3) البيت فى «الأغانى» ج 11 ص 72. وفى مخطوطتنا هذه «حدلت» بالحاء المهملة، وفى أصول «الأغانى» خذلت بالخاء والذال المعجمتين. وجدلت: صرعت. وشرج، وناظرة: اسما مكان بأرض بنى أسد.
(2/344)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 345
جاءوا به على النّسب ، ولم يجيئوا به على الفعل. وعلى ذلك قول النابغة الذّبيانى «1» :
كلينى لهمّ يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب
أي : ذى نصب. قال فكأن العيشة أعطيت من النعيم حتى رضيت ، فحسن أن يقال : راضية ، لأنها بمنزلة الطالب للرضا ، كما أنّ الشهوة بمنزلة الطالب المشتهى.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 44 الى 45]
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)
وقوله سبحانه : وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [44 ، 45] وهذه استعارة على أحد التأويلات ، وهو أن يكون المراد باليمين هاهنا القوة والقدرة.
فيكون المعنى : أنه لو فعل ما نكره فعله لا نتقمنا منه عن قدرة ، وعاقبناه عن قوة.
و قد يجوز أن تكون اليمين هاهنا راجعة على النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فيكون المعنى : لو فعل ذلك لسلبناه قدرته ، وانتزعنا منه قوّته. ويكون ذلك كقوله سبحانه : تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «2» أي تنبت الدّهن على بعض التأويلات.
وكقول الشاعر «3» :
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج أي نرجو الفرج.
__________
(1) هو أشهر من أن نعرف به هنا ، وهو من شعراء الجاهلية المقدمين ، وأخباره مع النعمان بن المنذر واعتذاراته له معروفة متعالمة. [.....]
(2) سورة المؤمنون. الآية رقم 20.
(3) هو النابغة الجعدي كما فى «معجم ياقوت» و«تاج العروس» وقد نقل ذلك عنهما محقق «معجم ما استعجم» للبكرى ص 1029. والبيت كاملا هو :
نحن بنو جعدة أرباب الفلج نضرب بالبيض ونرجو بالفرج والفلج بفتحتين : اسم مكان لبنى جعدة من قيس ببلاد نجد.
وفى «القرطين» لابن مطرف : نضرب بالسيف ، مثل رواية مخطوطتنا هذه. ج 2 ص 30.
(2/345)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 346
ومن السورة التي يذكر فيها «سأل سائل»
[سورة المعارج (70) : الآيات 15 الى 17]
كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)
قوله تعالى : كَلَّا إِنَّها لَظى ، نَزَّاعَةً لِلشَّوى ، تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى [17] وهذه استعارة. والمراد بدعائها من أدبر وتولّى - واللّه أعلم - أنه لما استحقها بإدباره عن الحق صارت كأنها تدعوه إليها ، وتسوقه نحوها. وعلى ذلك قول ذى الرّمة «1» فى صفة الثور :
غدا بوهنين مجتازا لمرتعه بذي الفوارس تدعو أنفه الرّبب
و الرّبب جمع ربّة ، وهى نبت من نبات الصيف.
يقول لما وجد رائحة الربب مضى نحوها فكأنها دعته إلى أكلها. وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك أنها لا يفوتها ذاهب ، ولا يعجزها هارب. فكأنها تدعو الهارب منها فيجيبها ، مدّا له بأسبابها ، وردّا له إلى عذابها.
و قال بعض المفسرين : إنه تخرج عنق من النار ، فتتناول الكافر حتى تقحمه فيها ، فكأنها بذلك الفعل داعية له إلى دخولها.
وقد يجوز أن يكون المراد أنها تدعو من أدبر عن الحق. بمعنى أنها تخوّفه بفظاعة الخبر عنها ، وتغليظ الوعيد بها ، فكأنها تستعطفه إلى الرشد «2» ، وتستصرفه عن الغى.
وحكى عن المبرّد أنه قال : تدعو من أدبر وتولّى. أي تعذّبه. وحكى عن الخليل أن أعرابيا قال لآخر : دعاك اللّه. أي عذبك اللّه. وقال ثعلب : معنى دعاك اللّه. أي أماتك اللّه. فعلى هذا القول يدخل الكلام فى باب الحقيقة ، ويخرج عن حيز الاستعارة.
__________
(1) هو أبو الحارث غيلان بن عقبة. شاعر فحل اشتهر بالتشبيب وبكاء الأطلال ذاهبا مذهب الجاهلين. توفى بأصبهان سنة 117 ه.
(2) كانت بالأصل : (الرتبة) وهى تحريف. فصوبناها على طريق المقابلة مع الغى.
(2/346)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 347
ومن السورة التي يذكر فيها «نوح» عليه السلام
[سورة نوح (71) : آية 13]
ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13)
قوله سبحانه : ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [13] وهذه استعارة. لأن الوقار هاهنا وضع وضع الحلم مجازا. يقال : رجل وقور. بمعنى حليم.
فأما حقيقة الوقار الذي هو الرزانة والثقل فلا يجوز أن يوصف بها القديم سبحانه ، لأنها من صفات الأجسام ، وإنما يجوز وصفه تعالى بالوقار ، على معنى الحلم كما ذكرنا.
والمعنى أنه يؤخر عقاب المذنبين مع الاستحقاق ، إمهالا للتوبة ، وإنظارا للفيئة والرجعة.
لأن الحليم فى الشاهد اسم لمن يترك الانتقام عن قدرة. ولا يسمى غير القادر إذا ترك الانتقام حليما ، للعلّة التي ذكرناها. وقوله تعالى : لا تَرْجُونَ هاهنا أي لا تخافون. فكأنه سبحانه قال : ما لكم لا تخافون للّه حلما ؟ وإنما أخّر عقوبتكم ، إمهالا لكم ، وإيجابا للحجة عليكم.
وإلّا فعقابه من ورائكم ، وانتقامه قريب منكم.
و قد جاء فى شعر العرب لفظ الرجاء ، والمراد به الخوف. ولا يرد ذلك إلا وفى الكلام حرف نفى. لا يقال : فلان لا يرجو فلانا بمعنى يخافه ، بل يقال : فلان لا يرجو فلانا. أي لا يخافه. وقال الهذلي أبو ذؤيب «1» :
إذا لسعته الدّبر «2» لم يرج لسعها وحالفها فى بيت نوب عواسل «3»
أراد : لم يخف لسعها.
__________
(1) أبو ذؤيب الهذلي : تقدمت الإشارة إليه والترجمة له فى الحديث عن مجازات سورة الزمر.
(2) الدبر : جماعة النحل والواحدة دبرة.
(3) فى الأصل «عوامل» والتصويب عن «ديوان الهذليين» ورواية ابن قتيبة فى «تأويل مشكل القرآن» عوامل بالميم كما فى الأصل. ص 147.
(2/347)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 348
و قال الآخر «1» :
لا ترتجى حين تلاقى الذائدا أخمسة لاقت معا أو واحدا
أي لا تخاف. وقال بعض العلماء : إنما كنوا عن الخوف بالرجاء فى هذه المواضع ، لأن الراجي ليس يستيقن ، فمعه طرف من المخافة. وقال بعضهم : الوقار هاهنا بمعنى العظمة وسعة المقدرة. وأصل الوقار ثبوت ما به يكون الشيء عظيما من الحلم والعلم اللذين يؤمن معهما الخرق والجهل.
ومن ذلك قول القائل : قد وقر قول فلان فى قلبى. أي ثبت واستقرّ ، أو خدش وأثر.
[سورة نوح (71) : آية 17]
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17)
وقوله سبحانه : وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [17] وهذه استعارة. لأن حقيقة الإنبات إنما تجرى على ما تطلعه الأرض من نباتها ، وتخرجه عند ازدراعها. ولما كان سبحانه يخرج البريّة من مضايق الأحشاء ، إلى مفاسح الهواء ، ويدرجهم من الصغر إلى الكبر ، وينقلهم من الهيئات والصور ، كل ذلك على وجه الأرض ، جاز أن يقول سبحانه :
وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ.
وقال بعضهم قد يجوز أن يكون المراد بذلك خلق آدم عليه السلام من الطين ، وهو أصل الخليقة. فإذا خلقه سبحانه من طين الأرض كان نسله مخلوقين منها ، لرجوعهم إلى الأصل المخلوق من طينها. فحسن أن يقول سبحانه : وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي استخرجكم من طين الأرض. ونباتا هاهنا مصدر وقع مخالفا لما يوجبه بناء فعله. وكان الوجه أن يكون : إنباتا. لأنه فى الظاهر مصدر أنبتكم. وقد قيل إن هناك فعلا محذوفا
__________
(1) لم ينسب فى «أساس البلاغة» لقائله. وروى فى الأساس هكذا :
لا ترتجى حين تلاقى الذائدا أسبعة لاقت معا أم واحدا
(2/348)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 349
جرى المصدر عليه ، فكأنه تعالى قال : واللّه أنبتكم من الأرض فنبتّم نباتا. لأن أنبت يدل على نبت من جهة أنه مضمن به.
[سورة نوح (71) : الآيات 19 الى 20]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20)
وقوله سبحانه : وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً ، لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً [19 ، 20] وهذه استعارة. والمراد بالبساط هاهنا : المكان الواسع المستوي.
مشبّه بالبساط ، وهو النمط الذي يمد على الاستواء فيجلس عليه.
وقال الأصمعى «1» : وبنو تميم خاصة يقولون بساط ، بفتح الباء. وقال الشاعر : «2»
و دون يد الحجّاج من أن ينالنى بساط لأيدى الناعجات «3» عريض
و تصيير الأرض بساطا ، كتصييرها فراشا ومهادا.
وهذه الألفاظ الثلاثة ترجع إلى معنى واحد :
ومن السورة التي يذكر فيها «الجن»
[سورة الجن (72) : آية 11]
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11)
قوله سبحانه : وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً [11] وهذه استعارة. والمراد بذلك - واللّه أعلم - كنا ضروبا مختلفة ، وأجناسا مفترقة.
__________
(1) هو أبو سعيد عبد الملك بن قريب الراوية المشهور وأحد علماء اللغة الأثبات. ونسب إلى جده «أصمع» وكان يتلقى الأخبار مشافهة من البوادي ويتحف بها الخلفاء فيكافأ عليها بأجزل الهبات. قال فيه الأخفش : ما رأينا أحدا أعلم بالشعر من الأصمعى. وقد انفرد برواية قصائد جمعها المستشرق الألمانى وليم أهلورت. وتوفى بالبصرة سنة 216.
(2) هو العديل بن الفرخ ، ولقبه العباب : والعباب اسم كلب له فلقب باسم كلبه. وكان هجا الحجاج ابن يوسف فطلبه فهرب منه إلى قيصر ملك الروم ، فقال أبياتا منها هذا البيت. وأخباره فى «الشعر والشعراء» ص 375 ، و«الأغانى» ج 20 و«الخزانة» ج 2.
(3) فى «الشعر والشعراء» «اليعملات» والناعجات هى النياق البيض. واليعملات : جمع يعملة وهى الناقة المطبوعة على العمل.
(2/349)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 350
و الطرائق : جمع طريقة. وهى - فى هذا الموضع - المذهب والنحلة. والقدد : جمع قدّة ، وهى القطعة من الشيء المقدود طولا ، مثل فلذة وفلذ ، وقربة وقرب. وقد غلب على ما كان من القطع طولا لفظ القدّ ، وعلى ما كان من القطع عرضا لفظ القطّ. فكأنه سبحانه شبه اختلافهم فى الأحوال ، وافتراقهم فى الآراء بالسّيور المقدودة ، التي تتفرق عن أصلها ، وتتشعب بعد ائتلافها.
[سورة الجن (72) : آية 15]
وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)
وقوله سبحانه : أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[15] وهذه استعارة.
والمراد أن نار جهنم - ونعوذ باللّه منها - يستدام وقودها بهم ، كما يستدام وقود النار بالحطب ، لأن كل نار لا بدّ لها من حشاش يحشها ، ووقود يمدها.
[سورة الجن (72) : آية 19]
وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19)
و قوله سبحانه : وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [19] وهذه استعارة. واللّبد هاهنا كناية عن الجماعات المتكاثرة التي تظاهرت من الكفار على النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، أي اجتمعوا عليه متألبين ، وركبوه مترادفين.
فكانوا كلبد الشّعر ، وهى طرائقه وقطعه التي يركب بعضها بعضا. وواحدتها لبدة.
ومنه قيل : لبدة الأسد. وهى الشعر المتراكب على مناكبه. وذلك أبلغ ما شبّهت به الجموع المتعاظلة ، والأحزاب المتألفة.
وقال بعض أهل التأويل : المراد بذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لما صلّى الصبح ببطن نخلة «1» منصرفا من حنين ، وقد حضره الوفد من الجن - وخبرهم مشهور - كادوا يركبون منكبه ، ويطأون أثوابه ، لما سمعوا قراءته ، استحسانا لها ، وارتياحا إليها ، وتعجبا منها.
روى عن ابن عباس فى هذا المعنى - وهو أغرب الأقوال - أن هذا الكلام من صلة كلام الجن لقومهم لما رجعوا إليهم ، فقالوا إنّا سمعنا قرآنا عجبا. وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم لما قام ببطن «2» نخلة يصلى بأصحابه عجب الجن الحاضرون من طواعيتهم له فى
__________
(1 - 2) فى الأصل «بطن نحلة» بالحاء المهملة وهو تحريف والتصويب عن «معجم ما استجم» للبكرى.
(2/350)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 351
الركوع والسجود والقيام والعقود ، فلما رجعوا إلى قومهم قالوا فى جملة ما قصّوه عليهم : وأنّه لما قام عبد اللّه يدعوه - أي يصلى له - كادوا يكونون عليه لبدا. أي كاد أصحابه يركبونه تزاحما عليه ، وتدانيا إليه ، واحتذاء لمثاله ، واستماعا لمقاله.
ومن السورة التي يذكر فيها «المزمل» عليه الصلاة والسلام
[سورة المزمل (73) : الآيات 5 الى 7]
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7)
قوله تعالى : إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [5] وهذه استعارة. لأن القرآن كلام ، وهو عرض من الأعراض. والثقل والخفة من صفات الأجسام ، والمراد بها صفة القرآن بعظم القدر ، ورجاحة الفضل «1» ، كما يقول القائل : فلان رصين رزين. وفلان راجح ركين. إذا أراد صفته بالفضل الراجح ، والقدر الوازن.
وقوله سبحانه إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [6] وقرىء : وطأ «2» بالقصر. وهذه استعارة.
والمراد بناشئة الليل هاهنا ما ينشأ فعله ، أي يبتدأ به من عمل الليل ، كالتهجد فى أثنائه ، والتلاوة فى آنائه. ومعنى أَشَدُّ وَطْئاً فى قول بعضهم ، أي أشد مواطاة ، وهو مصدر. يقال : واطاه ، مواطاة ، ووطاء. أي يواطىء فيها السمع القلب ، واللسان
__________
(1) فى الأصل «الفصل» بالصاد المهملة.
(2) قرأ أبو العالية وأبو عمرو ومجاهد وابن أبى إسحاق وحميد وابن عامر والمغيرة وأبو حيوة «وطاء» بالمد. وقرأ الباقون «وطأ» بفتح الواو وسكون الطاء ، على وزن بحر. انظر «القرطبي» ج 19 ص 39. [.....]
(2/351)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 352
العمل ، لقلة الشواغل العارضة ، واللوافت الصارفة ، ولأن البال فيها أجمع ، والقلب أفرغ ، فالقراءة فيها أقوم ، والصلاة أسلم.
ومن جعل وطاء هاهنا اسما «1» لما يستوطى ويفترش ، كالمهاد وما يجرى مجراه ، فأنه ذهب إلى أن عمل الليل أوعث مقاما ، وأصعب مراما. وعندهم أن كل ما ينشأ بالليل من قراءة ، أو تهجد ، أو طروق ، أو ترحل أشقّ على فاعله ، وأصعب على مستعمله ، لأن الليل موحش هائل ، ومخوف محاذر. [فكل «2»] ما وقع فيه مما أومأنا إليه كان كالنسيب له ، والشبيه به.
و من قرأ وطأ بالقصر فالمعنى فيه قريب من المعنى الأول. والمراد أن قيام الليل أشد وطأ عليك أي أصعب وأشق ، كما يقول القائل : هذا الأمر شديد الوطأة علىّ. إذا وصف بلوغه منه وصعوبته عليه ومع أن عمل الليل أشد كلفة ومشقة فهو أقوم صلاة وقراءة ، للمعنى الذي قدمنا ذكره.
وقوله سبحانه : إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا [7] وهذه استعارة. والمراد بها المضطرب الواسع ، والمجال الفاسح. وذلك مأخوذ من السباحة فى الماء ، وهى الاضطراب فى غمراته ، والتقلب فى جهاته. فكأنه سبحانه قال : إن لك فى النهار متصرفا ومتسعا ، ومذهبا منفسحا ، تقضى فيه أوطارك ، وتبلغ آرابك.
[سورة المزمل (73) : آية 17]
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17)
وقوله سبحانه : فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً [17] وهذه استعارة. والمراد بها : أن الولدان الذين هم الأطفال لو جاز أن يشيبوا الرائع خطب ،
__________
(1) فى الأصل «السماء» وهو تحريف من الناسخ.
(2) ليست بالأصل ، ويبدو أنها مطموسة ، وقد زدناها لأن النص يتطلبها.
(2/352)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 353
أو طارق كرب ، لشابوا فى ذلك اليوم لعظيم أهواله ، وفظاعة أحواله. وذلك كقول القائل : قد لقيت من هذا الأمر ما تشيب منه النواصي - كناية عن فظيع ما لاقى ، وعظيم ما قاسى.
ومن السورة التي يذكر فيها «المدثر» عليه السلام
[سورة المدثر (74) : آية 4]
وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
قوله سبحانه : وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ [4] وهذه استعارة على بعض التأويلات ، وهو أن تكون الثياب هاهنا كناية عن النفس أو عن الأفعال والأعمال الراجعة إلى النفس.
قال الشاعر «1» :
ألا أبلغ أبا حفص رسولا فدى لك من أخى ثقة إزارى
قيل : أراد فدى لك نفسى. وكذلك قول الفرزدق :
سكّنت جروتها «2» وقلت لها اصبري وشددت فى ضيق المقام إزارى
__________
(1) هو بقيلة الأكبر الأشجعى ، وكنيته أبو المنهال. شاعر إسلامى. وله خبر مع عمر بن الخطاب بشأن رجل كان واليا على مدينتهم اسمه جعدة بن عبد اللّه ، وكان له شأن غير مرضى مع النساء. فأرسل الشاعر بقيلة أبياتا إلى عمر يستعديه على هذا الوالي. والقصة كاملة فى «لسان العرب». وذكر ابن مطرف الكناني فى «القرطين» الأبيات فى ص 80 ج 2 ولم ينسبها لقائلها واكتفى بقوله : روى فى بعض الحديث أن رجلا كتب إلى عمر بن الخطاب. وفى مادة أزد فى «لسان العرب» أن اسمه نفيلة ، والتصويب عن «المؤتلف والمختلف» ص 62 حيث ورد فى باب الباء لا النون.
(2) فى ديوان الفرزدق ص 322.
فضربت جروتها وقلت لها اصبري وشددت فى ضيق المقام إزارى وضرب الجروة : كناية عن العزم والتصميم على الأمر.
(2/353)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 354
أي شددت نفسى ، وذمرت قلبى. والإزار والثياب يتقارب معناهما. وعلى هذا فسّروا قول امرئ القيس :
فسلىّ ثيابى من ثيابك تنسل «1»
أي نفسى من نفسك ، أو قلبى من قلبك.
ويقولون : فلان طاهر الثياب ، أي طاهر النفس ، أو طاهر الأفعال. فكأنه سبحانه قال : ونفسك فطهّر ، أو أفعالك فطهّر.
وقد يجوز أن يكون للثياب هاهنا معنى آخر ، وهو أن اللّه سبحانه سمّى الأزواج لباسا فقال تعالى : هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ ، وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ «2» واللباس والثياب بمعنى واحد.
فكأنه سبحانه أمره أن يستطهر النساء. أي يختارهن طاهرات من دنس الكفر ، ودرن العيب ، لأنهن مظانّ الاستيلاد ، ومضامّ الأولاد.
[سورة المدثر (74) : آية 34]
وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34)
و قوله سبحانه : وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ [34] وهذه استعارة ، والمراد بها انكشاف الصبح بعد استتاره ، ووضوحه بعد التباسه ، تشبيها بالرجل المسفر الذي قد حطّ لثامه ، فظهرت مجالى وجهه ، ومعالم صورته.
__________
(1) البيت بكماله هو :
وإن تك قد ساءتك منى خليقة فسلى ثيابى من ثيابك تلسل
(2) سورة البقرة. الآية رقم 187.
(2/354)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 355
ومن السورة التي يذكر فيها «القيامة»
[سورة القيامة (75) : الآيات 14 الى 15]
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)
قوله تعالى : بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
[14 ، 15] وهذه استعارة. والمراد - واللّه أعلم - أن الإنسان حجة على نفسه فى يوم القيامة ، وشاهد عليها بما اقترفت من ذنب ، واحتملت من وزر. وإن ألقى معاذيره. أي هو وإن تعلّق بالمعاذير ولفّق الأقاويل شاهد على نفسه بما يوجب العقاب ، ويجر النكال.
وقال الكسائي : المعنى : بل على نفس الإنسان بصيرة. فجاء على التقديم والتأخير.
أي عليه من الملائكة رقيب يرقبه ، وحافظ يحفظ عمله. وقال أبو عبيدة : جاءت هذه الهاء فى بصيرة ، والموصوف بها مذكّر ، كما جاءت فى علّامة ، ونسّابة ، وراوية ، وطاغية.
والمراد بها المبالغة فى المعنى الذي وقع الوصف به.
ووجه المبالغة فى صفة الملك المحصى لأعمال المكلّف بأنه بصيرة أنّ ذلك الملك يتجاوز علم الظواهر إلى علم السرائر ، بما جعل اللّه تعالى له على ذلك من الأدلة ، وأعطاه من أسباب المعرفة. فهو للعلة التي ذكرناها يوفى على كل رقيب حافظ ، ومراع ملاحظ.
و التأويل الآخر يخرج به الكلام عن حيّز الاستعارة. وهو أن تكون المعاذير هاهنا من أسماء السّتور. لأن أهل اليمن يسمّون السّتر بالمعذار. فكأن المراد أن الإنسان رقيب على نفسه ، وعالم بمستسر غيبه ، فيما يفارقه من معصية ، أو يقاربه من ريبة ، وإن ألقى ستوره مستخفيا ، وأغلق أبوابه متواريا.
[سورة القيامة (75) : الآيات 29 الى 30]
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)
وقوله سبحانه : وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ [29 ، 30]
(2/355)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 356
و هذه استعارة على أكثر الأقوال. والمراد بها - واللّه أعلم - صفة الشّدّتين المجتمعتين على المرء من فراق الدنيا ، ولقاء أسباب الآخرة. وقد ذكرنا فيما تقدم مذهب العرب فى العبارة عن الأمر الشديد ، والخطب الفظيع ، بذكر الكشف عن الساق ، والقيام عن ساق. فلا فائدة فى تكرير ذلك وإعادته.
وقد يجوز أن يكون السّاق هاهنا جمع ساقة كما قالوا : حاجة وحاج. وغاية وغاى.
والساقة : هم الذين يكونون فى أعقاب الناس يحفّزونهم على السّير ، وهذا فى صفة أحوال الآخرة وسوق الملائكة السابقين بالكثرة ، حتى يلتفّ بعضهم ببعض من شديد الحفز ، وعنيف السير والسّوق. ومما يقوّى ذلك قوله تعالى : إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ.
والوجه الأول أقرب ، وهذا الوجه أغرب.
ومن السورة التي يذكر فيها «هل أتى على الإنسان»
[سورة الإنسان (76) : آية 7]
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7)
قوله سبحانه : وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً [7] وهذه استعارة. وحقيقة الاستطارة من صفات ذوات الأجنحة. يقال : طار الطّائر ، واستطرته أنا إذا بعثته على الطيران. ويقولون أيضا من ذلك على طريق المجاز : استطار لهيب النار. إذا انتشر وعلا ، وظهر وفشا. فكأنه سبحانه قال : يخافون يوما كان شرّه فاشيا ظاهرا ، وعاليا منتشرا.
[سورة الإنسان (76) : آية 10]
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)
وقوله سبحانه : إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً [10] وهذه استعارة.
لأن العبوس من صفة الإنسان القاطب المعبّس. فشبّه سبحانه ذلك اليوم - لقوّة دلائله
(2/356)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 357
على عظيم عقابه ، وأليم عذابه - بالرجل العبوس الذي يستدلّ بعبوسه وقطوبه على إرصاده بالمكروه ، وعزمه على إيقاع الأمر المخوف. وأصل العبوس تقبيض الوجه ، وهو دليل السخط ، وضده الاستبشار والتطلّق وهما دليلا الرضا والخير.
وكما سمّت العرب اليوم المحمود طلقا ، فكذلك سمّت اليوم المذموم عبوسا. ويقال :
يوم قمطرير وقماطر «1» إذا كان شديدا ضرّه ، طويلا شرّه.
[سورة الإنسان (76) : آية 14]
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14)
وقوله سبحانه : وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها ، وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا [14] وهذه استعارة. والمراد بتذليل القطوف - وهى عناقيد الأعناب وواحدها قطف «2» - أنها جعلت قريبة من أيديهم ، غير ممتنعة على مجانيهم ، لا يحتاجون إلى معاناة فى اجتنائها ، ولا مشقة فى اهتصار أفنانها ، فهى كالظّهر الذلول الذي يوافق صاحبه ، ويواتى راكبه.
والتذليل هاهنا مأخوذ من الذّلّ بكسر الذال ، وهو ضد الصعوبة. والذّل - بضم الذال - ضدّ العز والحميّة.
[سورة الإنسان (76) : آية 27]
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)
وقوله سبحانه : إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ، وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا [27] وهذه استعارة. وقد مضى الكلام على نظيرها فيما تقدم. والمراد باليوم الثقيل هاهنا :
استثقاله من طريق الشدة والمشقة ، لا من طريق الاعتماد بالأجزاء الثقيلة. وقد يوصف الكلام بالثقيل على هذا الوجه ، وهو عرض من الأعراض ، فيقول القائل : قد ثقل علىّ خطاب فلان. وما أثقل كلام فلان.
__________
(1) قماطر : بضم القاف.
(2) القطف بكسر القاف : العنقود ساعة يقطف ، أو اسم للثمار المقطوفة. والجمع قطوف ، وقطاف.
(2/357)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 358
ومن السورة التي يذكر فيها «المرسلات»
[سورة المرسلات (77) : آية 8]
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)
قوله سبحانه : فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ [8] وهذه استعارة. والمراد بطمس النجوم - واللّه أعلم - محو آثارها ، وإذهاب أنوارها ، وإزالتها عن الجهات التي كان يستدلّ بها ، ويهتدى بسمتها. فصارت كالكتاب المطموس الذي أشكلت «1» سطوره ، واستعجمت حروفه.
والطمس فى المكتوبات حقيقة. وفى غيرها استعارة.
ومن السورة التي يذكر فيها «عمّ يتساءلون»
[سورة النبإ (78) : الآيات 6 الى 7]
أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7)
قوله تعالى : أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ، وَالْجِبالَ أَوْتاداً [6 ، 7] وهاتان استعارتان ، وقد مضى الكلام على الأولى منهما. أما معنى كون الجبال أوتادا فلأنّ بها مساك الأرض وقوامها ، واعتدالها وثباتها ، كما يثبت البيت بأوتاده ، والخباء على أعماده.
ومن السورة التي يذكر فيها «النازعات»
[سورة النازعات (79) : الآيات 13 الى 14]
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
قوله سبحانه : فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [13 ، 14] وهذه استعارة. لأن المراد بالساهرة هاهنا - على ما قال المفسرون واللّه أعلم - الأرض.
قالوا إنما سمّيت ساهرة على مثال : عيشة راضية. كأنه جاء على النسب : ذات السّهر وهى الأرض المخوفة. أي يسهر فى ليلها ، خوفا من طوارق شرّها.
__________
(1) أشكل الأمر ، على وزن أكرم : التبس.
(2/358)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 359
و قيل أيضا : إنما سمّيت الأرض ساهرة لأنها لا تنام عن إنماء نباتها وزروعها ، فعملها فى ذلك ليلا كعملها فيه نهارا.
ومن السورة التي يذكر فيها «عبس»
و لم نجد فى السورة التي يذكر فيها : عَبَسَ وَتَوَلَّى «1» شيئا من المعنى الذي قصدنا له.
ومن السورة التي يذكر فيها «إذا الشمس كوّرت»
[سورة التكوير (81) : الآيات 8 الى 9]
وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
قوله تعالى : وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [8 ، 9] وهذه استعارة.
والمراد - واللّه أعلم - أنها سئلت لا لاستخراج الجواب منها ، ولكن لاستخراج الجواب من قاتلها. ويكون ذلك على جهة التوبيخ للقاتل إذ قتل من لا يعرب عن نفسه ، ولم يذنب ذنبا يؤخذ بجريرته. وقيل معنى سئلت أي طلب بدمها ، كما يقول القائل : سألت فلانا حقى عليه. أي طالبته به.
وإنما سميت موءودة للثّقل الذي يلقى عليها من التراب. وتقول : آدنى هذا الأمر.
أي أثقلنى. ومنه قوله تعالى وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ «2» أي لا يثقله ذلك ، كما يثقل أحدنا فى الشاهد حفظ المتشعبات ، وضبط المنتشرات.
[سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 16]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16)
و قوله سبحانه : فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ [15 ، 16] وهاتان استعارتان. فهما جميعا فى صفة النجوم. فأما الخنّس فالمراد بها التي تخنس نهارا ، وتطلع ليلا. والخنّس جمع خانس وهو الذي يقبع ويستسرّ ، ويخفى ويستتر. وأما الكنّس
__________
(1) ليس فى سورة عبس شىء من المجازات والاستعارات التي تتبعها المؤلف رحمه اللّه فى القرآن الكريم.
(2) سورة البقرة. الآية رقم 255.
(2/359)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 360
فجمع كانس ، وهو أيضا المتوارى المستخفى ، مشبّها بانضمام الوحشية إلى كناسها ، وهو الموضع الذي تأوى إليه من ظلال شجر. وألفاف خمر «1». وجمعه كنّس.
فشبه سبحانه انقباء النجوم فى بروجها ، بتوارى الوحوش فى كنسها.
[سورة التكوير (81) : آية 18]
وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18)
وقوله تعالى : وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [18] وهذه من الاستعارات العجيبة.
والتنفس هاهنا عبارة عن خروج ضوء الصبح من عموم غسق الليل. فكأنه متنفّس من كرب ، أو متروّح من همّ ، ومن ذلك قولهم : قد نفّس عن فلان الخناق. أي انجلى كربه ، وانفسح قلبه. وقد يجوز أن يكون معنى إِذا تَنَفَّسَ أي إذا انشق وانصدع.
من قولهم : تنفّس الإناء إذا انشق ، وتنفست القوس إذا انصدعت. وهذا التأويل يخرج اللفظ من باب الاستعارة. وقد استقصينا الكلام على هذا المعنى ، فى كتابنا الكبير ، عند موضع اقتضى ذكره.
ومن السورة التي يذكر فيها «الانفطار»
و ليس فى السورة التي يذكر فيها إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ شىء من غرض كتابنا «2» هذا.
__________
(1) هكذا بالأصل ، ولعلها ثمر.
(2) ليس فى سورة الانفطار شىء من المجاز.
(2/360)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 361
ومن السورة التي يذكر فيها «المطففون»
و بقية المفصل إلى آخر القرآن العظيم
[سورة المطففين (83) : آية 15]
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)
قوله سبحانه : كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [15] وهذه استعارة مجاز ، لأن الحجاب لا يطلق إلا على من يصح عليه الظهور والبطون ، والاستتار والبروز.
وذلك من صفة الأجسام المحدثة ، والأشخاص المؤلفة. والمراد بذكر الحجاب هاهنا أنهم ممنوعون من ثواب اللّه سبحانه ، مذودون عن دخول جنته ، ودار مقامته. وأصل الحجب المنع. ومنه قولنا فى الفرائض : الإخوة يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس. أي يمنعونها من الثلث ، ويردّونها إلى السدس. ومن ذلك أيضا قولهم : حجب فلان عن باب الأمير. أي ردّ عنه ، ودفع دونه. ويجوز أن يكون كذلك معنى آخر ، وهو أن يكون المراد أنهم غير مقربين عند اللّه سبحانه بصالح الأعمال واستحقاق الثواب. فعبّر سبحانه عن هذا المعنى بالحجاب. لأن المبعد المقصى يحجب عن الأبواب ، ويبعد من الجناب.
ومن السورة التي يذكر فيها «الانشقاق»
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 3 الى 4]
وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وقوله تعالى : وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ [3 ، 4] وهذه استعارة. والمراد بها بعث الأموات ، وإعادة الرفات. فكأن الأرض كانت حاملا بهم فوضعتهم ، أو حاملة لهم فألقتهم ، فكانوا كالجنين المولود ، والثقل المنبوذ.
[سورة الانشقاق (84) : آية 17]
وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17)
وقوله سبحانه : وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ [17] وهذه استعارة. ومعنى «وسق» هاهنا أي ضم وجمع. فكأنه يضم الحيوانات الإنسية إلى مساكنها ، والحيوانات الوحشية إلى
(2/361)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 362
موالجها ، والطيور إلى أوكارها ومواكنها «1». فكأنه ضم ما كان بالنهار منتشرا ، وجمع ما كان متبددا متفرقا. والأوساق مأخوذة من ذلك ، لأنها الأحمال التي يجمع فيها الطعام وما يجرى مجراه. ويقال : طعام موسوق. أي مجموع فى أوعيته.
وقد قيل : إن معنى «وسق» أي طرد. والوسيقة : الطريدة. فكأن الليل يطرد الحيوانات كلها إلى مثاويها ، ويسوقها إلى مخافيها.
[سورة الانشقاق (84) : آية 19]
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19)
وقوله سبحانه : لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [19] وهذه استعارة على بعض التأويلات. والمراد بها لتنقلبنّ من حال شديدة إلى حال مثلها ، من حال الموت وشدته ، إلى حال الحشر وروعته.
وقيل : لتركبن سنّة من كان قبلكم من الأمم.
وقيل : المراد بذلك تنقّل الناس فى أحوال الأعمار ، وأطوار الخلق والأخلاق. والعرب تسمى الدواهي «بنات طبق». وربما سمّوا الداهية : أم طبق. قال الشاعر «2».
قد طرّقت ببكرها أمّ طبق فنتجوها خبرا ضخم العنق.
موت الإمام فلقة من الفلق
__________
(1) الموكن والموكنة بكسر الكاف فيهما : عش الطائر. [.....]
(2) هو خلف الأحمر. وأصله مولى لأبى بردة من فرغانة ، ولكنه حفظ كلام العرب وشعرهم وأخبارهم ، حتى صار يقول الشعر فيجيده وينحله الشعراء المتقدمين. وكان الأصمعى من رواته ، كما سمع هو من حماد الرواية. وأخباره فى «طبقات الأدباء» و«الشعر والشعراء» و«العقد الفريد» و«الفهرست».
وتوفى سنة 180 ه.
وأم طبق : هى الداهية. والخبر : الناقة الغزيرة اللبن ، والفلقة : الداهية. وفى «ثمار القلوب» للثعالبى : قال الأصمعى : أول من نعى المنصور بالبصرة خلف الأحمر ، وكنا فى حلقة يونس ، فجاء خلف الأحمر فسلم ، ولم يكن الخبر فشا ، ثم قال : «قد طرقت ببكرها أم طبق». فقال يونس : وما ذاك يا أبا محرز ؟
فقال : «فنتجوها خبرا ضخم العنق». فقال : لم أدر بعد! فقال : «موت الإمام فلقة من الفلق».
فارتفعت الضجة بالبكاء والاسترجاع - ص 207 من «الثمار».
وانظر الخبر فى «لسان العرب» مادة طبق. وفى الورقة 60 من كتاب «المعول عليه ، فى المضاف والمضاف إليه» للمحبى ، وهو مخطوط مصور بمجمع اللغة العربية
(2/362)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 363
و الفلق أيضا من أسماء الدواهي. واحدها فلقة وفليقة.
[سورة الانشقاق (84) : آية 23]
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23)
وقوله سبحانه : وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ [23] وهذه استعارة. والمراد بها ما يسرّون فى قلوبهم ، ويكنّون فى صدورهم.
يقول : القائل أوعيت هذا الأمر فى قلبى. أي جعلته فيه كما يجعل الزاد فى وعائه ، ويضمّ المتاع فى عيابه ، فالقلوب أوعية لما يجعل فيها من خير أو شر ، وعلم أو جهل ، أو باطل أو حق.
ومن السورة التي يذكر فيها «الطارق»
[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَ السَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2)
وقوله سبحانه : وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ ، وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ [1 ، 2] وهذه استعارة. لأن الطارق هاهنا كناية عن النجم. فحقيقة الطارق هو الإنسان الذي يطرق ليلا. فلما كان النجم لا يظهر إلا فى حال الليل حسن أن يسمّى طارقا.
وأصل الطّرق : الدقّ. ومنه المطرقة. قالوا : وإنما سمّى الآتي بالليل طارقا ، لأنه يأتى فى وقت يحتاج فيه إلى الدق أو ما يقوم مقامه للتنبيه على طروقه ، والإيذان بوروده.
[سورة الطارق (86) : الآيات 6 الى 7]
خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7)
و قوله سبحانه : خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ [6 ، 7] وهذه استعارة. وحقيقة هذا الماء أنه مدفوق لا دافق. ولكنه خرج على مثل قولهم : سرّ كاتم ، وليل نائم. وقد مضت لهذه الآية نظائر كثيرة.
وعندى فى ذلك وجه آخر ، وهو أن هذا الماء لما كان فى العاقبة يؤول إلى أن يخرج منه الإنسان المتصرف ، والقادر المميز ، جاز أن يقوى أمره فيوصف بصفة الفاعل لا صفة
(2/363)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 364
المفعول ، تمييزا له عن غيره من المياه المهراقة ، والمائعات المدفوقة. وهذا واضح لمن تأمّله.
[سورة الطارق (86) : الآيات 11 الى 12]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12)
وقوله سبحانه : وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ ، وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ [11 ، 12] وهذه استعارة. والمراد بها صفة السماء بأنها ترجع بدرور «1» الأمطار ، وتعاقب الأنواء ، مرة بعد مرة ، وتعطى الخير حالة بعد حالة.
وقد قيل : إن الرّجع الماء نفسه. وأنشدوا للمتنخل «2» الهذلي يصف السيف :
أبيض كالرّجع رسوب إذا ما ثاخ فى محتفل يختلى
و المراد بالأرض ذات الصّدع : انصداعها عن النبات ، وتشققها عن الأعشاب. وأنشد صاحب «العين «3»» لبعض العرب :
وجاءت سلتم لا رجع فيها ولا صدع فتحتلب الرّعاء
فالرجع : المطر ، والصّدع : العشب ، والسّلتم : السنة المجدبة.
ومن السورة التي يذكر فيها «الغاشية»
[سورة الغاشية (88) : الآيات 2 الى 3]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3)
وقوله سبحانه : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ، عامِلَةٌ ناصِبَةٌ [2 ، 3] وهذه استعارة.
والمراد بالوجوه هاهنا أرباب الوجوه. ومثل ذلك قوله تعالى : فى السورة التي يذكر فيها
__________
(1) درت الأمطار درورا : هطلت.
(2) هو مالك بن عويمر الهذلي ، من أشهر شعراء بنى هذيل. والبيت فى «ديوان الهذليين» ج 2 ص 12. والرجع : الغدير فيه ماء المطر. وثاخ مثل ساخ : أي غاب. والمحتفل : معظم الشيء.
ويختلى : يقطع. والرسوب : الذي إذا وقع غمض مكانه لسرعة قطعه.
(3) هو الخليل بن أحمد الفراهيدى إمام اللغة والأدب وواضع علم العروض ، وكان أستاذا لسيبويه النحوي المشهور ، ولد فى البصرة ومات بها سنة 170 ه وعاش حياته فقيرا صابرا. قال فيه النضر بن شميل :
ما رأى الراءون مثل الخليل ، ولا رأى الخليل مثل نفسه. واشتهر بكتاب «العين» فى اللغة ، وهو لا يزال مخطوطا.
(2/364)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 365
القيامة : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «1» والدليل على ما قلنا إضافته سبحانه النظر إليها ، والنّظر إنما يصح من أربابها لا منها. لأنه تعالى قال عقب ذلك : وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ «2»
[سورة الغاشية (88) : الآيات 8 الى 11]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11)
وكذلك قوله تعالى هاهنا : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ، لِسَعْيِها راضِيَةٌ [8 ، 9] والرّضا والسخط إنما يوصف به أصحاب الوجوه.
فانكشف الكلام على الغرض المقصود.
وقوله تعالى : فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ، لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً [10 ، 11] وهذه استعارة. وقد مضت لها نظائر كثيرة جدا فيما تقدم من كلامنا. أي لا تسمع فيها كلمة ذات لغو. فلما كان صاحب تلك الكلمة يسمّى لاغيا بقولها ، سمّيت هى لاغية ، على المبالغة فى وصف اللغو الذي فيها.
وقال بعضهم : معنى ذلك : لا يسمع فيها نفس حالفة على كذب ، ولا ناطقة برفث. لأن الجنة لا لغو فيها ولا رفث ، ولا فحش ولا كذب.
ومن السورة التي يذكر فيها «الفجر»
[سورة الفجر (89) : آية 4]
وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
و قوله سبحانه : وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [4] وهذه استعارة. والمراد بسرى الليل دوران فلكه ، وسيران نجومه حتى يبلغ غايته ، ويسبق فى قاصيته ، ويستخلف النهار موضعه.
[سورة الفجر (89) : آية 10]
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10)
وقوله سبحانه : وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ [10] وهذه استعارة. والمراد وفرعون ذى الملك المتقرم «3» والأمر المتوطد ، والأسباب المتمهدة التي استقر بها بنيانه ، وتمكن سلطانه ، كما تنبت البيوت بالأوتاد المضروبة ، والدعائم المنصوبة. وقد مضى نظير ذلك.
__________
(1) سورة القيامة. الآيتان رقم 22 ، 23.
(2) سورة القيامة. الآيتان 24 ، 25.
(3) المتقرم : المتأصل فى السيادة والمجد.
(2/365)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 366
[سورة الفجر (89) : آية 13]
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13)
وقوله سبحانه : فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ [13] وهذه من مكشوفات الاستعارة. والمراد بها العذاب المؤلم ، والنكال المرمض. لأن السّوط فى عرف عادة العرب يكون على الأغلب سببا للعقوبات الواقعة ، والآلام الموجعة.
وقال بعضهم : يجوز أن يكون معنى سَوْطَ عَذابٍ أي أوقع عذاب يخالط اللحوم والدماء ، فيسوطها سوطا ، إذا حرّك ما فيها وخلطه. فالسّوط على هذا القول هاهنا مصدر وليس باسم.
ومن السورة التي يذكر فيها «البلد»
[سورة البلد (90) : آية 6]
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6)
وقوله سبحانه يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً [6] وهذه استعارة. وقد مضى نظير لها. والمراد باللّبد هاهنا المال الكثير الذي قد تراكب بعضه على بعض ، كما تلبّدت طرائق الشّعر ، وسبائخ «1» القطن.
و قد يجوز أن يكون ذلك مأخوذا من قولهم : رجل لبد. إذا كان لازما لبيته لا يبرحه. وبه سمّى نسر لقمان لبدا ، لمماطلته للعمر ، وطول بقائه على الدهر. فكأنه قال : أهلكت مالا كان باقيا لى ، وثابتا عندى.
[سورة البلد (90) : الآيات 10 الى 11]
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)
وقوله سبحانه : وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [10 ، 11] وهذه استعارة. والمراد بالنّجدين هاهنا الطريقان المفضيان إلى الخير والشر. والنّجد : المكان العالي ، وإنما سمّى تعالى هذين الطريقين بالنجدين ، لأنه بيّنهما للمكلّفين بيانا واضحا ليتّبعوا سبيل الخير ، ويجتنبوا سبيل الشر. فكأنه تعالى بفرط البيان لهما قد رفعهما للعيون ، ونصبهما للناظرين.
__________
(1) سبائخ القطن : ما تناثر أو انتفش منه. يقال : طارت سبائخ القطن. انظر «المحيط».
(2/366)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 367
و قوله سبحانه : فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [11] استعارة أخرى.
[سورة البلد (90) : الآيات 13 الى 14]
فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
وفسّر تعالى المراد بالعقبة فقال : فكّ رقبة أو أطعم فى يوم ذى مسغبة [13 ، 14] الآية.
وقرىء فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ «1» فشبه سبحانه هذا الفعل - لو فعله الإنسان - باقتحام العقبة ، أي صعودها أو قطعها. لأن الإنسان ينجو بذلك كالناجى من الطريق الشاق ، إذا اقتحم عقبته ، وتجاوز مخافته. وحسن تمثيل هذا الفعل هاهنا بالعقبة لما شبّه سبحانه سبيلى الخير والشر بالنّجدين اللذين هما الطريقان الواضحان والعقاب «2» إنما تكون فى طريق السالكين ، وسبيل المسافرين. وعليها يكون بهر الأنفاس ، وشدة الضغاط والمراس.
ومن السورة التي يذكر فيها «الضحى»
[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2)
وقوله تعالى : وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى [1 ، 2] وهذه استعارة. ومعنى سجى ، أي سكن. والليل لا يسكن ، وإنما تسكن حركات الناس فيه ، فأجرى سبحانه صفة السكون عليه لما كان السكون واقعا فيه. وقد مضى الكلام على نظائر ذلك.
ومن السورة التي يذكر فيها «الانشراح»
[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)
وقوله سبحانه : أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ، وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [1 ، 2 ، 3] وهذا القول مجاز واستعارة ، لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلم لا يجوز أن ينتهى عظم ذنبه إلى حال إنقاض الظّهر ، وهو صوت تقعقع العظام من ثقل
__________
(1) قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «فك رقبة أو أطعم» على أنها أفعال ماضية وتكون «رقبة» منصوبة على أنها مفعول به للفعل «فك» ، وقرأ الباقون «فك رقبة أو إطعام» على أنهما مصدران.
وتكون كلمة «رقبة» مجرورة على أنها مضاف إليه.
(2) العقاب أي العقبات.
(2/367)
تلخيص البيان ، متن ، ص : 368
الحمل. لأن هذا القول لا يكون إلا كناية عن الذنوب العظيمة ، والأفعال القبيحة. وذلك غير جائز على الأنبياء عليهم السلام ، فى قول من لا يجيز عليهم الصغائر ولا الكبائر ، وفى قول من يجيز عليهم الصغائر دون الكبائر. لأن اللّه سبحانه قد نزّههم عن موبقات الآثام ، ومسحقات «1» الأفعال ، إذ كانوا أمناء وحيه ، وألسنة أمره ونهيه ، وسفراءه إلى خلقه.
وقد استقصينا الكلام على ذلك فى باب مفرد من كتابنا الكبير.
فنقول : إن المراد هاهنا بوضع الوزر ليس على ما يظنه المخالفون من كونه كناية عن الذنب ، وإنما المراد به ما كان يعانيه النبي صلّى اللّه عليه وسلم من الأمور المستصعبة ، والمواقف المخطرة فى أداء الرسالة ، وتبليغ النذارة «2» ، وما كان يلاقيه عليه السلام من مضار قومه ، ويتلقّاه من مرامى أيدى معشره. وكلّ ذلك حرج فى صدره ، وثقل على ظهره. فقرّره اللّه سبحانه بأنه أزال عنه تلك المخاوف كلها ، وحطّ عن ظهره تلك الأعباء بأسرها ، وأذاله من أعدائه ، وفضّله على أكفائه ، وقدّم ذكره على كل ذكر ، ورفع قدره على كل قدر ، حتى أمن بعد الخيفة ، واطمأنّ بعد القلقة.
__________
(1) فى الأصل «و مستحقات» وهو تحريف من الناسخ. والأفعال المسحقة هى التي توجب السحق والهلاك
(2) أي الإنذار ، كالبشارة ، وهى تقديم البشرى.
(2/368)