[الجزء الاول]
بسم الله الرحمن الرحيم
تصدير
كتاب معانى القرآن من أهم الكتب التي ألّفها أبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء إمام الكوفة فى النحو واللغة، المتوفى سنة 207 وهو من الكتب التي تقوم الدار بطبعها ونشرها، جريا على منهجها فى إحياء الآداب العربية، ونشر الكتب القيّمة الأصيلة.
وقد عهدت الدار فى تحقيق هذا الكتاب إلى العالمين الجليلين الأستاذ أحمد يوسف نجاتى، والأستاذ محمد على النجار. وللأستاذين مكانتهما العلميّة السامية من البصر بالفقه والتفسير، والتمكن من اللغة والنحو والصرف مارسا كلّ ذلك بحثا وتدريسا واستيعابا، مع الاطلاع الوافر الغزير فى علوم العربية وآدابها عامّة.
وقد قاما بهذه المهمّة فى صبر وأناة، مع دقّة وأمانة فكان لعملهما التوفيق وللكتاب هذا المظهر الجليل. وقد رجعا فى تحقيق هذا الكتاب إلى النّسخ الآتية:
1- نسخة مصوّرة عن الأصل المحفوظ بمكتبة بغداد لى بالمكتبة السليمانية بإستانبول رقم 66 وهى مكتوبة بخط قديم قريب من الكوفىّ، كتبت فى القرن الرابع الهجري، وعلى بعض أجزائها تملّكات وسماعات وأقدم سماع منها مؤرّخ سنة 381 هـ، لعلى بن الحسين بن محمد بن الحسن بن إبراهيم المعروف بابن الطهراني(مقدمة/3)
الورّاق، عن أبى عبد الله محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده، عن الأصم النيسابورىّ محمد بن يعقوب، عن محمد بن الجهم السّمرىّ، عن الفرّاء.
والموجود من هذه النسخة عشرة أجزاء من تجزئة المؤلّف. ويبدو أنها صحيحة الكتابة والضبط والمقابلة غير أنها ناقصة من آخرها، إذ تنتهى عند بدء الكلام على سورة الإنسان كما أن بها عدّة خروم فى مواضع متفرقة، وبيانها:
(أ) خرم وقع ما بين ورقتى 32 و 33، عند تفسير قوله تعالى: تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ (سورة البقرة 266) ، إلى قوله تعالى: وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً (سورة النساء 36) .
(ب) خرم آخر ما بين ورقتى 38 و 39 عند تفسير قوله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ (النساء 114) ، إلى قوله تعالى: وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً (سورة الأعراف 160) .
(ج) خرم آخر وقع بين ورقتى 157 و 158 عند تفسير قوله تعالى: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (سورة الذاريات 39) ، إلى قوله تعالى: وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (سورة النجم 20) .
وتقع هذه النسخة فى 222 ورقة وسطور صفحاتها بين 24- 28 سطرا، ومتوسط كلمات السطر 16 كلمة، وهى محفوظة فى الدار برقم 24986 ب. وقد رمز لهذه النسخة بالحرف (ا) .
2- نسخة مصورة عن المخطوط المحفوظ بمكتبة نور عثمانية بإستانبول رقم 320، والموجود منها مجلد واحد، يبدأ من أوّل الكلام على سورة الزمر،(مقدمة/4)
وينتهى إلى آخر القرآن الكريم، كتبت فى القرن السادس تقريبا، وهى بدون تاريخ، ويبدو عليها الصحة وضبط الشكل، وفى مواضع منها «بلاغات» بقراءة النسخة من جماعة من العلماء ذكرت أسماؤهم، ويقع هذا المجلد فى 151 ورقة، وأسطر كل صفحة من 18- 24 سطرا، ومتوسط الكلمات فى السطر الواحد ثمانى كلمات، وهذه النسخة محفوظة بالدار برقم 24987 ب، وقد رمز إليها بالحرف (ب) .
3- نسخة مصوّرة عن المخطوط رقم 459 بمكتبة نور عثمانية بإستانبول، مكتوبة بخطّ نسخ جميل، من خطوط القرن الثاني عشر تقريبا، ولكنها كثيرة التحريف والتصحيف، على رغم جمال خطّها. وتقع فى 189 ورقة، وأسطر كل صفحة 30 سطرا، ومتوسط الكلمات فى السطر الواحد 20 كلمة، وهذه النسخة محفوظة بالدار برقم 24771 ب، وقد رمز إليها بالحرف (ح) .
4- نسخة كاملة فى مكتبة المرحوم العلامة محمود الشنقيطى، مكتوبة بقلم معتاد بخط حديث فى أوّل القرن الرابع عشر للهجرة. ويبدو من مراجعتها أنها منسوخة من النسخة السابقة، وتقع فى 222 ورقة من القطع الكبير، وتتراوح سطور كل صفحة بين 32- 35 سطرا، ومتوسط كلمات السطر الواحد 20 كلمة.
وبأوّلها تملّك ووقفيّة بخط الشنقيطى مؤرّخان سنة 1309. ويوجد فى أوراقها اضطراب فى التجليد نشأ عنه تقديم بعضها على بعض، وذلك فيما بين سورتى الروم والأحزاب. وهذه النسخة محفوظة بالدار برقم 10 تفسير، وقد رمز إليها بالحرف (ش) .(مقدمة/5)
5- قطعه بخط ناسخ النسخة السابقة، وتحتوى على الجزء الأخير من سورة عبس، وتنتهى بختم القرآن الكريم- وهى محفوظة بمكتبة العلّامة الشنقيطى- وبأوّلها تملّك مؤرّخ سنة 1310 وهو تاريخ نسخها أيضا، وتقع فى 15 ورقة من قطع النسخة السابقة، وهى محفوظة بالدار برقم 11 تفسير «ش» .
وقد رأت الدار أن تقدّم هذا الكتاب لقرّاء العربية فى ثلاثة أجزاء، مذيلّة بالفهارس التفصيلية، وستتابع نشر الجزأين التاليين إن شاء الله، ومنه العون والحول والتوفيق.
ديسمبر سنة 1955 محمد أبو الفضل إبراهيم مدير القسم الأدبى(مقدمة/6)
مقدمة
الفرّاء
هو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمىّ. وهذه النسبة إلى الدّيلم، وهو إقليم فى البلاد الفارسية، ويقال للجيل الذي يسكن هذا الإقليم أيضا ويذكر أن زيادا أباه حضر الحرب مع الحسين بن علىّ رضى الله عنهما، وقطعت يده فى هذه الحرب. ومن ثمّ لقّب «الأقطع» . ويقول ابن خلّكان:
«وهذا فيه عندى نظر، لأن الفرّاء عاش ثلاثا وستين سنة، فتكون ولادته سنة أربع وأربعين ومائة، وحرب الحسين كانت سنة إحدى وستين للهجرة، فبين حرب الحسين وولادة الفرّاء أربع وثمانون سنة، فكم قد عاش أبوه؟ فإن كان الأقطع جدّه فيمكن. والله أعلم» .
ويظهر أن أسرته دخلت فى الإسلام لأوّل دخول الديلم والفرس فى الإسلام، كما يدل عليه أسماء آبائه العربية. وهم موال لمنقر من تميم، أو لأسلم من أسد، على خلاف فى ذلك. ومما يذكر أنه ابن خالة محمد بن الحسن صاحب أبى حنيفة.
تلقيبه الفرّاء:
والفرّاء قد علمت أنه لقبه لا اسمه. والمعروف فى الفرّاء من يخيط الفراء أو يبيعها كما يتبادر من صيغة النسب كبزّاز وعطّار، ولم يكن صاحبنا ولا أحد آبائه فى شىء من هذا. فقيل: إنه أطلق عليه لأنه كان يفرى الكلام، أي يحسن(مقدمة/7)
تقطيعه وتفصيله فهو فعّال من الفري صيغة مبالغة، وهمزته بدل من الياء لا من الواو كما هو فى مذهبه الأوّل.
وفى أنساب السمعاني: «قال أبو الفضل الفلكىّ: لقّب بالفرّاء لأنه كان يفرى الكلام. هكذا قال فى كتاب الألقاب» .
ويقول ابن الأنبارى فى الأضداد 13: «وبعض أصحابنا يقول: إنما سمى الفرّاء فرّاء لأنه كان يحسن نظم المسائل، فشبّه بالخارز الذي يخرز الأديم، وما عرف ببيع الفراء ولا شرائها قطّ. وقال بعضهم: سمى فرّاء لقطعه الخصوم بالمسائل التي يعنت بها، من قولهم: قد فرى إذا قطع قال زهير:
ولأنت تفرى ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفرى
معناه: تخرز ما قدّرت. والخلق: التقدير» .
ولا يعرف متى أطلق عليه هذا اللقب، ولا بدّ أنه حين اكتمل وبدا نضجه وغلبته للخصوم.
مولده ونشأته:
وكانت ولادة الفرّاء بالكوفة سنة 144 هـ فى عهد أبى جعفر المنصور. ونشأ بها وتربّى على شيوخها. وكانت الكوفة أحد المصرين اللذين كانا مقرّ العلم ومربى العلماء، والمصر الآخر البصرة. وكانت الكوفة حافلة بالشيوخ فى فروع العلم المعروفة فى ذلك العصر. ومن شيوخه فيها قيس بن الربيع، ومندل بن علىّ، وأبو بكر بن عيّاش والكسائىّ، وسفيان بن عيينة. ويقال إنه أخذ عن يونس بن حبيب البصرىّ، وإنه كان يلازم كتاب سيبويه.(مقدمة/8)
وكان الفرّاء قوىّ الحفظ، لا يكتب ما يتلقاه عن الشيوخ استغناء بحفظه.
ويقول هنّاد بن السرىّ «1» : «كان الفرّاء يطوّف معنا على الشيوخ، فما رأيناه أثبت سوداء فى بيضاء قط، لكنه إذا مرّ له حديث فيه شىء من التفسير أو متعلّق بشىء من اللغة قال للشيخ: أعده علىّ. وظننّا أنه كان يحفظ ما يحتاج إليه» .
وبقيت له قوّة الحفظ طوال حياته، وكان يملى كتبه من غير نسخة، ولم يقتن كتبا كثيرة. ويقول ثعلب: «لما مات الفرّاء لم يوجد له إلا رءوس أسفاط فيها مسائل تذكرة وأبيات شعر» . والأسفاط جمع السّفط وهو ما يوضع فيه الطّيب وغيره، وهو المعروف بالسّبت.
وقد بلغ الفرّاء فى العلم المكانة السامية والغاية التي لا بعدها، وكان زعيم الكوفيين بعد الكسائي. ويقول ثعلب: «لولا الفرّاء لما كانت عربيّة لأنه خلّصها وضبطها. ولولا الفرّاء لسقطت العربيّة لأنها كانت تتنازع ويدّعيها كلّ من أراد، ويتكلم الناس فيها على مقادير عقولهم وقرائحهم فتذهب» .
وفى تاريخ بغداد: «وكان يقال: النحو الفرّاء، والفرّاء أمير المؤمنين فى النحو» .
ويبين عن مبلغه فى العلم قصة ثمامة بن الأشرس المعتزلي، فقد كان الفرّاء يتردّد على باب المأمون حتى لقيه ثمامة، وهنا يقول هذا الرجل عن الفرّاء «2» :
«فرأيت أبّهة أديب، فجلست إليه ففاتشته عن اللغة فوجدته بحرا، وفاتشته عن النحو فشاهدته نسيج وحده، وعن الفقه فوجدته رجلا فقيها عارفا باختلاف القوم، وبالنحو ماهرا، وبالطب خبيرا، وبأيام العرب وأشعارها حاذقا. فقلت:
__________
(1) تاريخ بغداد 14/ 152.
(2) ابن خلكان 5: 225 (طبعة مكتبة النهضة 1949) .(مقدمة/9)
من تكون؟ وما أظنك إلا الفرّاء، فقال: أنا هو. فدخلت فأعلمت أمير المؤمنين المأمون، فأمر بإحضاره، وكان سبب اتصاله به» .
وقد استقرّ به المقام فى بغداد، ونرى له مع الرشيد قصّة إذ لحن أمامه، واعتذر بأنه يجرى على أساليب العامة وهجة الحديث، ولا يتكلف الإعراب.
ولا نرى له ذكرا فى أيام الأمين. حتى إذا جاء المأمون كان اتصاله به- على ما سبق فى قصّة ثمامة- وقد وكل إليه المأمون تعليم ابنيه، وكلّفه تأليف الحدود فى العربية، وأفرد له بيتا فى القصر، وكفاه كلّ مؤنة فيه.
وفى ابن النديم «1» «كان أكثر مقامه ببغداد. كان يجمع طوال دهره، فإذا كان آخر السنة خرج إلى الكوفة وأقام بها أربعين يوما فى أهله يفرّق فيهم ما جمعه ويبرّهم» .
وفاته:
وكانت وفاة الفرّاء فى طريقه فى عودته من مكّة سنة 207 هـ، وفى أنساب السمعاني سنة 209 هـ.
تآليفه:
أورد له ابن النديم:
(1) آلة الكتاب.
(2) الأيام والليالى. ومنه نسخة فى دار الكتب فى المجموعة رقم 13 أدب ش.
وأخرى فى مكتبة لاله لى برقم 1903 وثالثة فى مكتبة سليم آغا باستانبول.
برقم 894
__________
(1) الفهرست 66- 77 (طبع أوربا) .(مقدمة/10)
(3) البهاء، أو البهي. (ويذكر ابن خلكان أنه أصل الفصيح لثعلب) .
(4) الجمع والتثنية فى القرآن.
(5) الحدود، وهو فى قواعد العربية، فيذكر حدّ التثنية وطريقة العرب فيها، والإعراب، وهكذا، ويذكر أنها ستون حدّا.
(6) حروف المعجم، نقل عنه ابن رشيق فى العمدة 1/ 100 فى مبحث القافية.
(7) الفاخر فى الأمثال. من نسخة فى مكتبة الفاتح باستانبول رقم 4009 (8) فعل وأفعل.
(9) اللغات.
(10) المذكر والمؤنث. من نسخة ضمن مجموعة لغوية فى مكتبة مصطفى الزرعى فى بيروت وأخرى فى مكتبة حلب برقم 1345 (11) المشكل الصغير.
(12) المشكل الكبير. ويبدو أنه فى مشكل القرآن كمشكل ابن قتيبة.
(13) المصادر فى القرآن.
(14) معانى القرآن (وهو هذا الكتاب) .
(15) المقصور والممدود. منه نسخة فى مكتبة بروسّه بتركيا.
(16) النوادر.
(17) الوقف والابتداء.
معانى القرآن
كان هذا التركيب يعنى به ما يشكل فى القرآن ويحتاج إلى بعض العناء فى فهمه. وكان هذا بإزاء معانى الآثار، ومعانى الشعر، أو أبيات المعاني. ويقول(مقدمة/11)
الطحاوىّ فى مقدمة كتاب (معانى الآثار) - على ما فى كشف الظنون-.
«إنه سأله بعض أصحابه تأليفا فى الآثار المأثورة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأحكام التي يتوهّم فيها أهل الإلحاد والزّندقة أن بعضها ينقض بعضا لقلّة علمهم بناسخها ومنسوخها» .
وقد كتب فى معانى الشعر ثعلب، وأبو الحسن الأخفش سعيد بن مسعده، والأشناندانى، وكذا ابن قتيبة فى كتاب المعاني الكبير. وكتب فيها أيضا أبو عبيد القاسم بن سلّام. ومن قبيل معانى القرآن مجاز القرآن لأبى عبيدة.
وقد كتب فى معانى القرآن كثير من الفحول. يقول الخطيب فى تاريخ بغداد فى صدد الحديث عن معانى القرآن لأبى عبيد، وأنه احتذى فيه من سبقه:
«وكذلك كتابه فى معانى القرآن. وذلك أن أوّل من صنّف فى ذلك- أي فى معانى القرآن- من أهل اللغة أبو عبيدة معمر بن المثنّى، ثم قطرب بن المستنير، ثم الأخفش. وصنف من الكوفيين الكسائىّ، ثم الفرّاء. فجمع أبو عبيد من كتبهم، وجاء فيه بالآثار وأسانيدها، وتفاسير الصحابة والتابعين والفقهاء» .
سبب تأليفه:
ومعانى القرآن للفرّاء له قصة. ففى فهرست ابن النديم: «قال أبو العباس ثعلب: كان السبب فى إملاء كتاب الفرّاء فى المعاني أن عمر بن بكير كان من أصحابه، وكان منقطعا إلى الحسن بن سهل، فكتب إلى الفرّاء: إن الأمير الحسن بن سهل ربما سألنى عن الشيء بعد الشيء من القرآن، فلا يحضرنى فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لى أصولا أو تجعل فى ذلك كتابا أرجع إليه فعلت.(مقدمة/12)
فقال الفرّاء لأصحابه: اجتمعوا حتى أملّ عليكم كتابا فى القرآن. وجعل لهم يوما.
فلما حضروا خرج إليهم، وكان فى المسجد رجل يؤذّن ويقرأ بالناس فى الصلاة، فالتفت إليه الفرّاء فقال له: اقرأ بفاتحة الكتاب، ففسّرها، ثم توفّى «1» الكتاب كلّه: يقرأ الرجل ويفسّر الفرّاء. فقال أبو العباس: لم يعمل أحد قبله، ولا أحسب أن أحدا يزيد عليه» .
وفى تاريخ بغداد عن أبى بديل الوضّاحى: «فأردنا أن نعدّ الناس الذين اجتمعوا لإملاء كتاب المعاني فلم يضبط. قال: فعددنا القضاة فكانوا ثمانين قاضيا» .
ولم نقف على أمر عمر بن بكير الذي صنع الكتاب لأجله.
روايته:
اتفق الكتّاب على أن راوى الكتاب محمد بن الجهم السّمّرى. وكان الفرّاء بملي فى المجلس ويكتب الحاضرون، ويبدو أن السمّرىّ كان له مزيد عناية بالكتابة، وكان ملازما للمجلس، فكان يدوّن، ونسبت رواية الكتاب لذلك إليه، وعسى أن يكون الفرّاء يطلع على ما يدوّن ويقرّه. وكان الكتاب ينسخ فى حياة الفرّاء، فهى نسخة السمري فيما يظهر. على أن هناك نسخة أخرى لم تشتهر.
ففى تاريخ بغداد عن محمد بن الجهم: «كان الفرّاء يخرج إلينا وقد لبس ثيابه فى المسجد الذي فى خندق عبويه، وعلى رأسه قلنسوة كبيرة. فيجلس فيقرأ أبو طلحة الناقط عشرا من القرآن، ثم يقول له: أمسك. فيملى من حفظه المجلس، ثم يجىء سلمة- يريد سلمة بن عاصم من جلّة تلامذة الفرّاء- بعد
__________
(1) أي استوفاه. وفى ابن خلكان: «مرّ فى» .(مقدمة/13)
أن ننصرف نحن، فيأخذ كتاب بعضنا فيقرأ عليه، ويغير ويزيد وينقص. فمن هنا وقع الاختلاف بين النسختين» .
يقول السمّرىّ فى صدر الكتاب: «هذا كتاب فيه معانى القرآن، أملاه علينا أبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء- يرحمه الله- عن حفظه من غير نسخة، فى مجالسه أوّل النهار من أيام الثلاثاوات والجمع فى شهر رمضان وما بعده من سنة اثنتين، وفى شهور سنة ثلاث وشهور من سنة أربع ومائتين» . فقد أملاه إذن قبل أن يرد المأمون بغداد من خراسان، إذ كان دخوله بغداد سنة 204. وإذا كان الفرّاء ألّف (الحدود) والمأمون فى بغداد فإن (المعاني) يكون تأليفه قبل تأليف (الحدود) . وفى تاريخ بغداد ما يقضى بخلاف هذا ففيه فى الكلام على الحدود: «فبعد أن فرغ من ذلك- أي الحدود- خرج إلى الناس وابتدأ يملى كتاب المعاني» . ويبدو أن هذا كلام غير دقيق.
السّمرىّ راوية الكتاب
وهنا يحسن أن نعرض لحياة السّمرى. فهو أبو عبد الله محمد بن الجهم ابن هارون الكاتب. والسمري نسبة إلى سمّر: بلد بين البصرة وواسط.
وقد ولد السمّرىّ فى حدود سنة 188، فقد كانت وفاته سنة 277 وله تسع وثمانون سنة.
وفى غاية النهاية فى طبقات القرّاء لابن الجزرىّ أن وفاته كانت سنة ثمان ومائتين. ويبدو أن هذا سهو من الكاتب، أو أن فى الكلام سقطا والأصل:
سنة ثمان وسبعين ومائتين.(مقدمة/14)
وقد أخذ السّمرىّ عن الفرّاء وهو لا يزال حدثا، فقد مات الفرّاء وله تسع عشرة سنة، إذ كانت وفاة الفرّاء سنة 207 هـ.
ونرى فى صدر الكتاب السند الآتي: «حدّثنا أبو منصور نصر مولى أحمد ابن رسته، قال: حدّثنا أبو الفضل يعقوب بن يوسف بن معقل النيسابورىّ سنة إحدى وسبعين ومائتين، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن الجهم السّمرىّ سنة ثمان وستين ومائتين» .
ولا يعرف راوى هذا الإسناد القائل: حدّثنا، وهو من تلاميذ أبى منصور.
فأما أبو منصور فلم نقف له على ترجمة، وفى (تاج العروس) تحدّث عن مولاه فقال: «أبو حامد أحمد بن محمد بن رسته الصوفي الأصبهانى، يعرف بالحمال.
روى عنه أبو بكر بن مردويه» . وأبو الفضل يعقوب بن يوسف بن معقل ذكره الخطيب فى تاريخ بغداد 14/ 286 وقال فيه: «ورد بغداد، وحدّث بها عن إسحاق بن راهويه» .
محمد على النجّار أحمد يوسف نجاتى(مقدمة/15)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
تاريخ تدوين هذا التفسير
بسم الله الرّحمن الرّحيم [به «1» الإعانة بدءا وختما، وصلّى الله على سيّدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم.
حدّثنا أبو منصور نصر مولى أحمد بن رسته، قال: حدّثنا أبو الفضل يعقوب بن يوسف بن معقل النّيسابورىّ، سنه إحدى وسبعين ومائتين، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن الجهم بن هارون السّمّرىّ «2» ، سنة ثمان وستين ومائتين، قال] :
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله وبارك وسلّم على محمد خاتم النبيين، وعلى آله، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. وإياه نسأل التوفيق والصواب، وحسن الثواب، والعصمة من الخطايا والزّلل، فى القول والعمل. قال:
هذا كتاب فيه معانى القرآن، أملاه علينا أبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء- يرحمه الله- عن حفظه من غير نسخة، فى مجالسه أوّل النهار من أيام الثّلاثاوات والجمع فى شهر رمضان، وما بعده من سنة اثنتين، وفى شهور سنة ثلاث، وشهور من سنة أربع ومائتين. [قال «3» ] :
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ، قال:
تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه
أمّ الكتاب
قال: فأول ذلك اجتماع القراء وكُتّابِ المصاحف «4» على حذف الألف من «بسم الله الرحمن الرّحيم» ، [وفى فواتح الكتب، وإثباتهم الألف
__________
(1) ما بين المربعين من نسختى ج، ش.
وتشديد ثانيه وفتحه-: بلد بين واسط والبصرة.
ابن الجهم، وهو أبو الفصل يعقوب بن يوسف.
(2) هذه النسبة إلى «سمر» - بكسر أوّله.
(3) سقط فى أ. والقائل هو الراوي عن محمد.
(4) بهامش نسخة أ: «الكتب» .(1/1)
فى قوله «1» ] : «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» «2» [وإنما حذفوها من «بسم الله الرحمن الرحيم» أول السور والكتب] «3» لأنها وقعت في موضع معروف لا يجهل القارئ معناه، ولا يحتاج إلى قراءته، فاستُخِفّ طرحُها لأن من شأن العرب الإيجاز وتقليلَ الكثير إذا عُرِف معناه. وأثبتت فى قوله: «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ» لأنها لا تلزم هذا الاسم، ولا تكثر معه ككثرتها مع الله تبارك وتعالى. ألا ترى أنك تقول: «بسم الله» عند ابتداء كل فعل تأخذ فيه: من مأكَلٍ أو مشرب أو ذبيحة. فخفّ عليهم الحذف لمعرفتهم به.
وقد رأيت بعض الكتّاب تدعوه معرفته بهذا الموضع إلى أن يحذف الألف والسين من «اسم» لمعرفته بذلك، ولعلمه بأن القارئ لا يحتاج إلى علم ذلك. فلا تَحذِفنّ ألف «اسم» إذا أضفته إلى غير الله تبارك وتعالى، ولا تَحذِفَنّها مع غير الباء من الصفات «4» وإن كانت تلك الصفةُ حرفًا واحدا، مثل اللام والكاف. فتقول: لاسم الله حلاوة في القلوب، وليس اسم كاسم الله فتثبت الألف في اللام وفي الكاف لانهما لم يستعملا كما استعملت الباء في اسم اللَّه. ومما كثر فِي كلام العرب فحذفوا منه أكثر من ذا قولهم: أيش عندك فحذفوا إعراب «5» «أي» وإحدى ياءيه، وحذفت الهمزة من «شيء» ، وكُسرت الشين وكانت مفتوحة في كثير من الكلام لا أُحْصِيه.
فإن قال قائل: إنما حذفنا الألف من «بسم الله» لأن الباء لا يُسكت عليها، فيجوز ابتداء الاسم بعدها. قيل له: فقد كتبت العرب في المصاحف وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا «6» بالألف والواو لا يُسكت عليها في كثير من أشباهه. فهذا يبطل «7» ما ادّعى.
__________
(1) ما بين المربعين ساقط من ج، ش. والذي فيهما: «بخلاف قوله «فسبح ... » إلخ.
(2) آخر سورة الحاقة، وآية 74 من الواقعة.
(3) مابين المربعين فى أ.
(4) الصفة عند الكوفيين حرف الجرّ والظرف.
(5) يريد بإعراب الحرف حركته.
(6) آية 32 سورة الكهف، و 13 سورة يس. [.....]
(7) فى ش: «تبطيل» ويبدو أنه تصحيف عما أثبتناه.(1/2)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ ... (2)
اجتمع القراء على رفع «الْحَمْدُ» . وأما أهل البدو فمنهم من يقول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» .
ومنهم من يقول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» . ومنهم من يقول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» فيرفع الدال واللام.
فأما من نصب فإنه يقول: «الْحَمْدُ» ليس باسم إنما هو مصدر يجوز لقائله أن يقول: أحمد الله، فإذا صلح مكان المصدر (فعل أو يَفْعل) «1» جاز فيه النصب من ذلك قول الله تبارك وتعالى: «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ» «2» يصلح مكانها في مثله من الكلام أن يقول: فاضربوا الرقاب. ومن ذلك قوله:
«مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ» «3» يصلح أن تقول في مثله من الكلام: نعوذ بالله. ومنه قول العرب: سَقْيًا لك، ورَعْيًا لك يجوز مكانه:
سقاك الله، ورعاك الله.
وأما من خفض الدال من «الْحَمْدُ» فإنه قال: هذه كلمة «4» كثرت على ألسن العرب حتى صارت كالاسم الواحد فثقُل عليهم أن يجتمع في اسم واحد من كلامهم ضَمَّةٌ بعدها كسرة، أو كَسْرة بعدها ضمة، ووجدوا الكسرتين قد تجتمعان في الاسم الواحد مثل إِبِلٍ فكسروا الدال ليكون على المثال من أسمائهم.
__________
(1) يريد الماضي أو المضارع، والأمر عند الكوفيين قطعة من المضارع.
(2) آية 4 سورة محمد.
(3) آية 79 سورة يوسف.
(4) يريد جملة الحمدلة. وإطلاق الكلمة على الجملة مجاز.(1/3)
وأما الذين رفعوا اللام فإنهم أرادوا المثال الأكثر من أسماء العرب الذي يجتمع فيه الضمتان مثلُ: الحُلُم والعُقُب «1» .
ولا تُنْكرن أن يجعل الكلمتان كالواحدة إذا كثر بهما الكلام. ومن ذلك قول العرب: «بأَبَا» إنما هو «بِأَبِي» الْيَاءُ من المتكلم ليست من الأب فلما كثر بهما الكلام توهموا أنهما حرف واحد فصيروها ألفا ليكون على مثال:
حُبْلَى وسَكْرى وما أشبهه من كلام العرب. أنشدني أبو ثَرْوان:
قال الجواري ما ذَهَبْتَ مَذْهَبَا ... وعِبْننِي ولم أكنُ مُعَيَّبَا
هل أنت إلا ذاهب لتلعبا ... أريت إن أعطيت نَهْدًا كَعْثَبَا «2»
أذاك أم نُعطيكَ هَيْدًا هَيْدَبَا «3» ... أَبْرَدَ في الظَّلماء من مَسِّ الصّبا
فقلت: لا، بل ذاكما يا بِيبا «4» ... أجدرُ «5» ألا تَفْضَحَا وتَحْرَبَا
«هل أنت إلا ذاهب لتلعبا» «6» ذهب ب «هل» إلى معنى «ما» .
__________
(1) العقب: العاقبة. ويقال فيه العقب بضم فسكون.
(2) يصف الركب (أي الفرج) . والنهد: المرتفع المشرف ومنه نهد الثدي (كمنع ونصر) نهودا إذا كعب وارتفع وأشرف. وكعثب نهد: ناتى مرتفع فإن كان لا صقا فهو هيدب. والكعثب والكثعب: الكرب الضخم الممتلى الشاخص المكتنز الناتئ. والكعثب أيضا صاحبته يقال: امرأة كعثب وكثعب أي ضخمة الركب.
(3) الهيد الهيدب: الذي فيه رخاوة مثل ركب العجائز المسترخى لكبرها.
(4) «يا بيبا» أصله: يا بأبى، و «يا» للنداء المراد منه التنبيه، وقد تستعمل فى موضعه «وا» كقول الراجز:
وا بأبى أنت وفوك الأشنب
(5) فى الأصول: «أحذر» وهو تصحيف. «وتحربا» : أي تغضبا. وحرب كفرح:
اشتدّ غضبه.
(6) أعاد هذا الشطر ليتكلم على شىء فيه. يريد أن الغرض من الاستفهام النفي كقوله تعالى: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» .(1/4)
(عَلَيْهِمْ) و (عَلَيْهِمْ) وهما لغتان لكل لغة مذهبٌ في العربية.
فأما من رفع الهاء فإنه يقول: أصلها رفعٌ في نصبها وخفضها ورفعها فأما الرفع فقولهم: «هُم قالوا ذاك» ، في الابتداء ألا ترى أنها مرفوعة لا يجوز فتحها ولا كسرها. والنصب في قولك: «ضربهم» مرفوعة «1» لا يجوز فتحها ولا كسرها فتركت في «عَلَيْهِمْ» على جهتها الأولى.
وأما من قال: «عَلَيْهِمْ» فإنه استثقل الضمة في الهاء وقبلها ياء ساكنة، فقال:
«عَلَيْهِمْ» لكثرة دور المكنى «2» في الكلام. وكذلك يفعلون بها إذا اتصلت بحرف مكسور مثل «بهم» و «بهم» ، يجوز فيه الوجهان مع الكسرة والياء «3» الساكنة.
ولا تبال أن تكون الياء مفتوحا ما قبلها أو مكسورا فإذا انفتح ما قبل الياء فصارت ألفًا في اللفظ لم يُجْز في «هم» إلا الرفع مثل قوله تبارك وتعالى:
«وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» «4» ولا يجوز: «مولاهم الحق» ، وقوله «فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» «5» لا يجوز: «فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» .
ومثله مما قالوا فيه بالوجهين إذا وليته «6» ياء ساكنة أو كسرة، قوله:
«وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ» «7» و «حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا» «8» يجوز رفع الألف من «أم» و «أمها» وكسرها في الحرفين جميعا لمكان الياء. والكسرة مثل قوله تبارك وتعالى: «فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ» «9» ، وقول من رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أُوصى امْرَأً بأمه) . فمن رفع قال: الرفع هو الأصل فى الأمّ
__________
(1) كأن الأصل: «هى مرفوعة» فحذف المبتدأ للعلم به. والحديث عن الهاء.
(2) يريد بالمكنى: الضمير.
(3) أي فى «عليهم» . [.....]
(4) آية 30 سورة يونس.
(5) آية 90 سورة الأنعام.
(6) كذا فى الأصول. والولي: القرب والاتصال من قبل ومن بعد، وإن اشتهر فيما يجىء بعد. فقوله: «وليته» أي اتصلت به، والمقام يقضى أنها اتصلت به قبله.
(7) آية 4 من سورة الزخرف.
(8) آية 59 سورة القصص.
(9) آية 11 سورة النساء.(1/5)
والأمهات. ومن كسر قال: هي كثيرة المجرى في الكلام فاستثقل ضَمَّةَ قبلها ياء ساكنة أو كسرة. وإنما يجوز كسر ألف «أم» إذا وليها «1» كسرة أو ياء فإذا انفتح ما قبلها فقلت: فلان عند أمه، لم يجز أن تقول: عند إِمه، وكذلك إذا كان ما قبلها مضموما لم يجز كسرها فتقول: أتبعت أمه، ولا يجوز الكسر.
وكذلك إذا كان ما قبلها حرفا مجزوما لم يكن في الأم إلا ضم الألف كقولك:
من أمه، وعن أمه. ألا ترى أنك تقول: عنهم ومنهم [واضربهم] «2» . ولا تقول:
عنهم ولا منهم، ولا اضربهم. فكل موضع حسن فيه كسر الهاء مثل قولهم: فيهم وأشباهها، جاز فيه كسر الألف من «أم» وهي قياسها. ولا يجوز أن تقول:
كتب إلى إِمه ولا على إِمه لأن الذي قبلها ألف في اللفظ وإنما هي ياء في الكتاب: «إلى» «3» و «على» . وكذلك: قد طالت يدا أُمه بالخير. ولا يجوز أن تقول: يدا إِمه. فإن قلت: جلس بين يدي أمِّه جاز كسرها وضمها لأن الذي قبلها ياء. ومن ذلك أن تقول: هم ضاربو أُمّهاتهم برفع الألف لا يكون غيره. وتقول: ما هم بضاربي أمهاتهم وإمهاتهم يجوز الوجهان جميعا «4» لمكان الياء. ولا تُبال «5» أن يكون ما قبل ألف «أم» موصولا بها «6» أو منقطعا منها الوجهان يجوزان فيه تقول: هذه أم زيد وإِمُّ زيد. وإذا ابتدأتها لم تكن إلا مرفوعة، كما كانت «هُم» لا تكون إلا مرفوعة في الابتداء، فأما «هم» فلا تكسر إلا مع حرف يتصل بها لا يفرق بينه وبينها مثل «بهم» .
__________
(1) كذا فى الأصول. وانظر ما كتب آنفا فى التعليق.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
وقوله بعد: «ولا اضربهم» .
(3) فى أ: «مثل إلى» .
(4) «جميعا» ساقط من أ.
(5) فى ج، ش: «يقال» . وهو تحريف عما أثبت.
(6) يريد الوصل والانقطاع فى الرسم والخط.(1/6)
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
وقوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ... (7)
بخفض «غَيْرِ» لأنها نعت للذين، لا للهاء والميم من «عَلَيْهِمْ» . وإنما جاز أن تكون «غَيْرِ» نعتًا لمعرفة لأنها قد أضيفت إلى اسم فيه ألف ولام، وليس بمصمودٍ «1» له ولا الأول أيضا بمصمود له، وهي في الكلام بمنزلة قولك: لا أمرّ إلا بالصادق غيرِ الكاذب كأنك تريد بمن يصدق ولا يكذب. ولا يجوز أن تقول: مررت بعبد الله غير الظريف إلا على التكرير لأن عبد الله موقّت «2» ، و «غَيْرِ» في مذهب «3» نكرةٍ غير موقتة، ولا تكون نعتا إلا لمعرفة غير موقتة. «4» والنصب جائز فى «غَيْرِ» ، تجعله قطعا «5» من «عَلَيْهِمْ» . وقد يجوز أن تجعل «الَّذِينَ» قبلها في موضع توقيت، وتخفض «غَيْرِ» على التكرير: «صراط غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» .
__________
(1) أي لم يقصد به قصد قوم بأعيانهم، لأن «الذين» مع كونه معرفة فتعريفه بالصلة فهو قريب من النكرة لأنه عام. و «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ ... » أيضا لم يقصد به معين فمن ثم صلح أن تكون (غير) وصفا للمعرفة. ويرى بعضهم أن (غيرا) وإن كانت فى الأصل نكرة إلا أنها هنا قريب من المعرفة، لأنها إذا وقعت بين متضادين وكانا معرفتين تعرفت بالإضافة، أو قربت من المعرفة كقولك: تعجبنى الحركة غير السكون، فالحركة دأب الحي غير الميت، وكذلك الحال هنا لأن المنعم عليهم والمغضوب عليهم متضادان معرفتان. ويجوز فى «غَيْرِ» فى الآية أن تكون بدلا من «الَّذِينَ» أو من الهاء فى «عَلَيْهِمْ» .
(2) يعنى كونه علما معينا معرّفا بالعلمية. [.....]
(3) المذهب: مكان الذهاب يراد به الطريق. أي أن «غَيْرِ» فى طريق النكرة، وهذا كناية عن أنها نكرة.
(4) قال المبرد: والفراء يأبى أن يكون «غَيْرِ» نعتا إلا للذين لأنها بمنزلة النكرة، وقال الأخفش: «غَيْرِ» بدل قال ثعلب: وليس بممتنع ما قال، ومعناه التكرير، كأنه أراد صراط غير المغضوب عليهم.
(5) يريد بالقطع أنه منصوب حالا من الهاء فى «عَلَيْهِمْ» كأنه قيل:
أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم. وجوز أن يكون منصوبا بالاستثناء من «الَّذِينَ» أو من الضمير فى «عَلَيْهِمْ» أي إلا المغضوب عليهم.(1/7)
وأما قوله تعالى: وَلَا الضَّالِّينَ» (7) فإن معنى «غَيْرِ» معنى «لَا» فلذلك ردّت عليها «وَلَا» . هذا كما تقول:
فلان غير محسن ولا مُجْمِلٍ فإذا كانت «غَيْرِ» بمعنى سوى لم يجز أن تُكَرَّ عليها «لَا» ألا ترى أنه لا يجوز: عندي سوى عبد الله ولا زيد.
وقد قال بعض من «1» لا يعرف العربية: إن معنى «غَيْرِ» في «الْحَمْدُ» «2» معنى «سوى» ، وإن «لَا» صلة في الكلام، واحتَّج بقول الشاعر «3» :
في بئرِ لا حُورٍ سرى وما شعر
وهذا [غير] جائز لأن المعنى وقع على ما لا يتبين فيه عمله، فهو جحد محض. وإنما يجوز أن تجعل «لَا» صلة إذا اتصلت بجَحْد قبلها مثل قوله:
ما كان يرضى رسول الله دينهم ... والطيبان أبو بكر ولا عمر «4»
فجعل «لَا» صلة لمكان الجحد الذي في أول الكلام هذا التفسير أوضح أراد فى بئر لا حور، «لَا» الصحيحة في الجحد لأنه أراد في: بئر ماء لا يُحير عليه شيئًا كأنك قلت: إلى غير رشد توجه وما درى. والعرب تقول: طحنت الطاحنةُ فما أحارت شيئا «5» أي لم يتبين لها أثر عمل.
__________
(1) هو أبو عبيدة. وانظر اللسان (غير) .
(2) أي سورة الفاتحة. والحمد من أسمائها.
(3) هو العجاج، من أرجوزة له طويلة يمدح بها عمر بن عبيد الله بن معمر، وكان عبد الملك بن مروان وجهه لقتال أبى فديك الحروري فأوقع به وبأصحابه. ومطلعها:
قد جبر الدين الإله فجبر ... وعور الرحمن من ولى العور
وقوله: «فى بئر لا حور» يريد فى بئر نقص سرى الحروري وما شعر يقول: نقص الحروري ومادرى.
ويقال: فلان يعمل فى حور أي فى نقصان. وهذا على ما يرى أبو عبيدة. ويرى الفرّاء أن الحور الرجوع ولا للنفى، أي سرى فى بئر غير رجوع، أي بئر منسوبة إلى عدم الرجوع لأنها لا ترجع عليه بخير. والحور يأتى فى معنى النقصان ومعنى الرجوع، فأخذ أبو عبيدة بالأول، والفرّاء بالثاني. وانظر الخزانة 2/ 95 والبيت محرف فى الأصل والتصويب من ديوان العجاج.
(4) من قصيدة لجرير فى هجو الأخطل. وانظر الديوان طبعة الصاوى 263.
(5) أي ما ردت شيئا من الدقيق، والمراد أنه لم يتبين لها أثر عمل كما قال المؤلف.(1/8)
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
ومن سورة البقرة
«1»
قوله تعالى: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ ... (2)
الهجاء موقوف فِي كل القرآن، وليس بجزم يسمّى جزما، إنما هُوَ كلام جزمه نية الوقوف على كل حرف منه فافعل ذلك بجميع الهجاء فيما قل أو كثر. وإنما قرأت القراءُ «آلم اللَّهُ» في «آل عِمْرانَ» ففتحوا الميم لأن الميم كانت مجزومة لنية الوقفة «2» عليها، وإذا كان الحرف ينوى به الوقوف نوى بما بعده الاستئناف، فكانت القراءة «ال م الله» فتركت العرب همزة الألف من «الله» فصارت فتحتها في الميم لسكونها، ولو كانت الميم جزما مستحِقّا للجزم لكسرت، كما في «قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ» «3» . وقد قرأها رجل من النحويين، - وهو أبو جعفر الرؤاسي وكان رجلا صالحا- «آلم أَلله» بقطع الألف، والقراءة بطرح الهمزة. قال الفراء:
وبلغني عن عاصم أنه قرأ بقطع «4» الألف.
__________
(1) فى ج، ش: فاتحة البقرة.
(2) فى ج، ش: «الوقف» . فتح الميم فى «الم الله» أوّل سورة آل عمران هو قراءة العامة قال النحاس فى إعراب القرآن له: «وقد تكلم فيها النحويون القدماء فمذهب سيبويه أن الميم فتحت لالتقاء الساكنين، واختاروا لها الفتح كى لا يجمع بين كسرة وياء وكسرة قبلها ... ... وقال الكسائي: حروف التهجي إذا لقيتها ألف الوصل فحذفت ألف الوصل حركتها بحركة الألف فقلت: الم الله، والم اذكر، والم اقتربت» .
وقال العكبري فى إعراب القرآن له: «وقيل فتحت لأن حركة همزة «الله» ألقيت عليها، وهذا بعيد لأن همزة الوصل لا حظ لها فى الثبوت فى الوصل حتى تلقى حركتها على غيرها. وقيل الهمزة فى «الله» همزة قطع، وإنما حذفت لكثرة الاستعمال، فلذلك ألقيت حركتها على الميم لأنها تستحق الثبوت، وهذا يصح على قول من جعل أداة التعريف «أل» .
(3) آية 27 سورة يس.
(4) قراءة عاصم كقراءة الرؤاسى، وهذه القراءة على تقدير الوقف على «الم» كما يقدرون الوقف على أسماء الأعداد فى نحو واحد، اثنان، ثلاثة، اربعة وهم واصلون.(1/9)
وإذا كان الهجاء أوّل سورة فكان حرفا واحدا مثل قوله «ص» و «ن» و «ق» كان فيه وجهان في العربية إن نويت به الهجاء تركته جزمًا وكتبته حرفًا واحدا، وإن جعلته اسما للسورة أو في مذهب قَسَم كتبته على هجائه «نون» و «صاد» و «قاف» وكسرت الدال من صاد، والفاء من قاف، ونصبت النون الآخرة من «نون» فقلت: «نون والقلم» و «صاد والقرآن» و «قاف» لأنه قد صار كأنه أداة كما قالوا رجلان، فخفضوا النون من رجلان لأن قبلها ألفًا، ونصبوا النون في «المسلمون والمسلمين» لأن قبلها ياء وواوا.
وكذلك فافعل ب «يس وَالْقُرْآنِ» فتنصب النون من «يس» وتجزمها.
وكذلك «حم» و «طس» ولا يجوز ذلك فيما زاد على هذه الأحرف مثل «طا سين ميم» لأنها لا تشبه الأسماء، و «طس» تشبه قابيل. ولا يجوز ذلك في شيء من القرآن مثل «الم» و «المر» ونحوهما.
وقوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ ... (2)
يصلح فيه ذلِكَ من جهتين، وتصلح فيه «هذا» من جهة فأما أحد الوجهين من «ذلِكَ» فعلى معنى: هذه الحروف يا أحمد «1» ، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أُوحِيه إليك. والآخر أن يكون «ذلِكَ» على معنى يصلح فِيهِ «هَذَا» لأن قوله «هَذَا» و «ذلِكَ» يصلحان في كل كلام إذا ذكر ثم أتبعته بأحدهما بالأخبار عنه. ألا ترى أنك تقول: قد قدم فلان فيقول السامع: قد بلغنا ذلك، وقد بلغنا هذا الخبر، فصلحت فيه «هذا» لأنه قد قرب من جوابه، فصار كالحاضر الذي تشير إليه، وصلحت فيه «ذلِكَ» لانقضائه، والمنقضي كالغائب. ولو كان شيئًا قائما يرى لم يجز مكان «ذلِكَ» «هذا» ،
__________
(1) فى ج، ش «محمد» .(1/10)
ولا مكان «هذا» «ذلِكَ» وقد قال الله جل وعز: «وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ» إلى قوله: «وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ» ثم قال: «هذا ذِكْرُ» «1» .
وقال جل وعز في موضع آخر: «وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ» ثم قال:
«هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ» «2» . وقال جل ذكره: «وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ» ثم قال: «ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ» «3» . ولو قيل في مثله من الكلام في موضع «ذلِكَ» : هذا» أو فى موضع «هذا» : «ذلِكَ» لكان صوابا.
وفي قراءة عبد الله بن مسعود «هَذَا فَذُوقُوهُ» وفي قراءتنا «ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ» «4» .
فأما ما لا يجوز فِيهِ «هذا» في موضع «ذلِكَ» ولا «ذلِكَ» في موضع «هذا» فلو رأيت رجلين تنكر أحدهما لقلت للذي تعرف: مَن هذا الذي معك؟ ولا يجوز هاهنا: مَن ذلك؟ لأنك تراه بعينه.
وأما قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) فإنه رفع من وجهين ونصب من وجهين إذا أردت ب «الْكِتابُ» أن يكون نعتا ل «ذلِكَ» كان الهُدَى في موضع رفع لأنه خبر ل «ذلِكَ» كأنك قلت: ذلك هُدًى لا شك فيه «5» . وإن جعلت لا رَيْبَ فِيهِ خبره رفعت أيضا (هُدىً) تجعله تابعا لموضع «لا رَيْبَ فِيهِ» كما قال الله عز وجل: «وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ» «6» كأنه قال: وهذا كتاب، وهذا مبارك، وهذا من صفته كذا وكذا. وفيه وجه ثالث من الرفع: إن شئت رفعته على الاستئناف لتمام ما قبله، كما قرأت القرّاء «الم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ» »
بالرفع
__________
(1) الآيات 45- 49 سورة ص. [.....]
(2) آية 52، 53 سورة ص.
(3) آية 19 سورة ق.
(4) آية 14 سورة الأنفال.
(5) وجملة «لا ريب فيه» على هذا اعتراض أو حال.
(6) آية 92 و 155 سورة الأنعام.
(7) آية 1- 3 سورة لقمان.(1/11)
والنصب. وكقوله في حرف عَبْد اللَّه: «أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخٌ» «1» وهي في قراءتنا «شَيْخاً» .
فأما النصب في أحد الوجهين فأن تجعل «الْكِتابُ» خبرا ل «ذلِكَ» فتنصب «هُدىً» على القطع لأن «هُدىً» نكرة اتصلت بمعرفة قد تم خبرها فنصبتها لأن النكرة لا تكون دليلا على معرفة. وإن شئت نصبت «هُدىً» على القطع «2» من الهاء التي في «فِيهِ» كأنك قلت: لا شك فيه هاديا.
واعلم أن «هذا» إذا كان بعده اسم فيه الألف واللام جرى على ثلاثة معان:
أحدها- أن ترى الاسم الذي بعد «هذا» كما ترى «هذا» ففعله حينئذ مرفوع «3» كقولك: هذا الحمار فارهٌ. جعلت الحمار نعتًا لهذا إذا «4» كانا حاضرين، ولا يجوز هاهنا النصب «5» . والوجه الآخر- أن يكون ما بعد «هذا» واحدا يؤدّي عن جميع جنسه، فالفعل حينئذ منصوب كقولك: ما كان من السباع غير مخوف فهذا الأسد مخوفا ألا ترى أنك تخبر عن الأسْد كلِّها بالخوف. والمعنى الثالث- أن يكون ما بعد «هذا» واحدا لا نظير له فالفعل حينئذ أيضا منصوب. وإنما نصبت الفعل لأن «هذا» ليست بصفة للأسد إنما دخلت تقريبا «6» ، وكان الخبر بطرح «هذا» أجود ألا ترى إنك لو قلت: ما لا يضر «7» من السباع فالأسد ضارّ، كان أبين. وأما معنى التقريب: فهذا أول ما أخبركم عنه، فلم يجدوا بدّا من أن
__________
(1) آية 72 سورة هود.
(2) يريد بالقطع الحال.
(3) يعنى أن مدلول «هذا» والاسم المحلى بأل بعده واحد مساو له، بأن يكون هو إياه لا يزيد عنه، ومراده بفعله الاسم الواقع بعد المحلى بأل، وعبر عنه بفعله لأنه من أحواله وصفاته، وقد يكون حدثا من أحواله وصفاته نحو الفراهة والإخافة، والضياء والنور فى الأمثلة التي أتى بها.
(4) كذا فى الأصول.
والأنسب (إذ) .
(5) عدم جواز النصب هنا أنه لو نصب «فاره» حالا، لتعين أن يكون «الحمار» خبر الاسم الإشارة فتكون الجملة الاسمية لا فائدة فيها لأنك تخبر عن شىء مشاهد بنفسه.
(6) انظر فى التقريب عند الكوفيين الهمع 1/ 113
(7) كذا بالأصول، وقد يكون الأصل: ما لا يضرى من السباع فالأسد ضار.(1/12)
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
يرفعوا هذا «بالأسد» ، وخبره منتظر، فلما شغل الأسد بمرافعة «1» «هذا» نصب فعله الذي كان يرافعه لخلوته «2» . ومثله «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «3» فإذا أدخلت عليه «كان» ارتفع بها والخبر منتظر يتم به الكلام فنصبته لخلوته.
وأما نصبهم فعل الواحد الذي لا نظير له مثل قولك: هذه الشمس ضياءً للعباد، وهذا القمر نورًا فإن القمر واحد لا نظير له، فكان أيضا عن قولك «هذا» مستغنيا ألا ترى أنك إذا قلت: طلع القمر، لم يذهب الوهم إلى غائب فتحتاج أن تقول «هذا» لحضوره، فارتفع بهذا ولم يكن نعتا، ونصبت خبره للحاجة إليه.
وقوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ... (7)
انقطع معنى الختم عند قوله: «وَعَلى سَمْعِهِمْ» . ورفعت «الغشاوة» ب «عَلى» ، ولو نصبتها بإضمار «وجعل» لكان صوابا. وزعم المفضَّل «4» أن عاصم بن أبي النَّجُود كان ينصبها، على مثل قوله في الجاثية: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً» «5» ومعناهما واحد، والله أعلم. وإنما يحسن الإضمار في الكلام الذي يجتمع ويدل أوله على أخره كقولك: قد أصاب فلان المال، فبنى الدور والعبيد والإماء واللباس الحسن فقد ترى البناء لا يقع على العبيد والإماء ولا على الدواب ولا على الثياب، ولكنه من صفات اليسار
__________
(1) «بمرافعة» كذا فى ش. وفى غيرها: «بمرافعه» . هذا ومذهب الكوفيين ومنهم الفراء أنّ المبتدأ والخبر ترافعا يعنى أن المبتدأ رفع الخبر والخبر رفع المبتدأ لأن كلا منهما طالب للآخر ومحتاج إليه وبه صار عمدة. [.....]
(2) أي عدم اشتغاله بمرافع.
(3) «الله» مبتدأ و «غفور رحيم» خبران، فإذا دخل على الجملة كان يكون لفظ الجلالة مرفوعا بها، وينصب ما بعده.
(4) هو المفضل الضبّىّ. كان من أكابر علماء الكوفة، توفى سنة 171 هـ.
(5) آية 23 من السورة المذكورة.(1/13)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
فحسن الإضمار لمّا عرف. ومثله فى سورة الواقعة: «يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ» «1» ثم قال: «وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. وَحُورٌ عِينٌ» فخفض بعض القراء، ورفع بعضهم الحور العين.
«2» قال الذين رفعوا: الحور العين لا يطاف بهن فرفعوا على معنى قولهم: وعندهم حُورٌ عينٌ، أو مع ذلك حور عينٌ فقيل «3» : الفاكهة واللحم لا يطاف بهما إنما يطاف بالخمر وحدها- والله أعلم- ثم أُتبع آخر الكلام أوله. وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم، وأنشدني بعض بني أسد يصف فرسه:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وماءً باردًا ... حتَّى شَتَتْ هَمَّالةً عَيْنَاهَا «4»
والكتاب أعرب وأقوى في الحجة من الشعر. وأمّا ما لا يحسن فيه الضمير «5» لقلة اجتماعه، فقولك: قد أعتقت مباركا أمس وآخر اليوم يا هذا وأنت تريد: واشتريت آخر اليوم لأن هذا مختلف لا يعرف أنك أردت ابتعت. ولا يجوز أن تقول:
ضربت فلانا وفلانا وأنت تريد بالآخر: وقتلت فلانا لأنه ليس هاهنا دليل.
ففي هذين الوجهين ما تعرف به ما ورد عليك إن شاء الله.
وقوله: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ ... (16)
ربما قال القائل: كيف تربح التجارة وإنما يربح الرجل التاجر؟ وذلك من كلام العرب: ربح بَيْعُك وخسر بيعُك، فحسن «6» القول بذلك لأن الربح والخسران إنما يكونان في التجارة، فعلم معناه. ومثله من كلام العرب: هذا ليل نائم. ومثله من كتاب الله: «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ» «7» وإنما العزيمة للرجال، ولا يجوز الضمير «8»
__________
(1) آية 22 من السورة المذكورة.
(2) كذا فى أ. وفى ش، ج: «وقال» .
(3) هذا توجيه الخفض فى «حور عين» بالحمل على الفاكهة واللحم، فقد خفضا مع أنهما لا يشتركان مع الأكواب فى الطواف بهما، وإنما هو إتباع الآخر الأوّل على تقدير عامل مناسب، فليكن هذا هنا.
(4) انظر الخزانة 1/ 499.
(5، 8) يريد بالضمير المحذوف.
(6) كذا فى أ، ب. وفى ش، ج: «وحسن» .
(7) آية 21 سورة محمد.(1/14)
إلا في مثل هذا. فلو قال قائل: قد خسر عبدك لم يجز ذلك، (إن كنت) «1» تريد أن تجعل العبد تجارةً يُربَح فيه أو يُوضَع «2» لأنه قد يكون العبد تاجرا فيربح أو يُوضَع، فلا يعلم معناه إذا ربح هو من معناه إذا كان مَتْجُورًا فيه. فلو قال قائل: قد ربحت دراهمُك ودنانيرُك، وخسر بَزُّك ورقيقك كان جائزا لدلالة بعضه على بعض.
وقوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ... (17)
فإنما ضرب المثل- والله أعلم- للفعل لا لاعيان الرجال، وإنما هو مَثَل للنفاق فقال: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ولم يقل: الذين استوقدوا. وهو كما قال الله: «تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» «3» . وقوله: «مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ» «4» فالمعنى- والله أعلم-: إلا كبعث نفس واحدة ولو كان التشبيه للرجال لكان مجموعا «5» كما قال: «كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ» «6» أراد الْقِيمَ «7» والأجسام، وقال: «كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ» «8» فكان مجموعا إذ «9» أراد تشبيه أعيان الرجال فأجْر الكلام على هذا. وإن جاءك تشبيه جمع الرجال موحّدا فى شعر فأجْر الكلام على هذا. وإن جاءك تشبيه جمع الرجال موحَّدا في شعر فأجِزْه. وإن جاءك التشبيه للواحد مجموعا في شعر فهو «10» أيضا يراد به الفعل فأجزه كقولك: ما فِعْلك إلا كفعل الحَمِير، وما أفعالكم إلا كفعل الذِّئب فابنِ على «11» هذا، ثم تُلْقِي الفعلَ فتقول: ما فعلك إلا كالحَميرِ وكالذئب.
وإنما قال الله عز وجل: «ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» لأن المعنى ذهب إلى المنافقين فجمع لذلك. ولو وُحِّد لكان صوابا كقوله: «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعامُ الْأَثِيمِ.
__________
(1) فى الأصول: «وإن كنت» وما أثبتناه أوفق.
(2) أوضع فى تجارته (بضم الهمزة) ، ووضع (كعنى وكوجل) خسر فيها. وفى ج، ش: «تربح وتوضع» .
(3) آية 19 سورة الأحزاب. [.....]
(4) آية 28 سورة لقمان.
(5) العبارة فى ج، ش: «ولو كان التشبيه للرجال أراه لكان مجموعا ... إلخ» .
(6) آية 4 سورة المنافقون.
(7) القيم (جمع قامة أو قيمة) : وهى قوام الإنسان وقدّه وحسن طوله.
(8) آية 7 سورة الحاقة.
(9) فى الأصول: «إذا» والمقام للتعليل.
(10) كذا فى الأصول. والأنسب: «وهو» .
(11) فى ج، ش: «هذين» .(1/15)
كَالْمُهْلِ تغلى فِي الْبُطُونِ» «1» و «يَغْلِي» فمن أنّث ذهب إلى الشجرة، ومن ذَكَّر ذهب إلى المهل. ومثله قوله عز وجل: «أَمَنَةً نُعاساً تغشى طائِفَةً مِنْكُمْ» «2» للأمنة، و «يَغْشى» للنعاس.
وقوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) رفعن وأسماؤهن «3» في أول الكلام منصوبة لأن الكلام تم وانقضت به آية، ثم استؤنفت «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ» في آية أخرى، فكان أقوى للاستئناف، ولو تم الكلام ولم تكن آية لجاز أيضا الاستئناف قال الله تبارك وتعالى: «جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً. رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ» «4» «الرَّحْمنِ» يرفع ويخفض في الإعراب، وليس الذي قبله بآخر آية. فأما ما جاء في رءوس الآيات مستأنفا فكثير من ذلك قول الله: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ» إلى قوله: «وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» «5» . ثم قال جل وجهه: «التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ» بالرفع فى قراءتنا، وفي حرف ابن مسعود «6» «التائبين العابدين الحامدين» . وقال: «أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ» «7» . يُقرأ بالرفع والنصب على ما فسرت لك. وفي قراءة عبد الله: «صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا» بالنصب.
ونصبُه على جهتين إن شئت على معنى: تركهم صمًّا بكما عميا، وإن شئت اكتفيت بأن توقع الترَك عليهم في الظلمات، ثم تستأنف «صُمًّا» بالذمّ لهم.
والعرب تنصب بالذمّ وبالمدح لأن فيه مع الأسماء مثل معنى قولهم: وَيْلا له، وَثَوَابًا له، وَبُعْدًا وسقيا ورعيا.
__________
(1) آية 43- 45 سورة الدخان.
(2) آية 154 سورة آل عمران.
(3) كأنه يريد الضمير المنصوب فى قوله: «وتركهم» وجعله أسماءهم إذ كان ضميرا مجموعا، فكأنه عدّة ضمائر، كل ضمير اسم، أو أراد بالمنصوبة غير المرفوعة.
(4) آية 37 سورة النبأ.
(5) آية 111 سورة التوبة.
(6) فى ج، ش: «وفى قراءة عبد الله» . [.....]
(7) آية 125- 126 سورة الصافات.(1/16)
وقوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ ... (19)
مردود على قوله: «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً» . أَوْ كَصَيِّبٍ:
أو كمثل صيِّب، فاستُغني بذكر «الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً» فطُرِح ما كان ينبغي أن يكون مع الصيب من الأسماء، ودل عليه المعنى لأن المثل ضرب للنفاق، فقال:
فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ فشبه الظلمات «1» بكفرهم، والبرق «2» إذا أضاء لهم فمشوا فيه بإيمانهم، والرعد ما أتى في القرآن من التخويف. وقد قيل فيه وجه آخر قيل: إن الرعد إنما ذُكِر مَثَلا لخوفهم من القتال إذا دُعُوا إليه. ألا ترى أنه قد قال في موضع آخر: «يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ» «3» أي يظنون أنهم أبدًا مغلوبون.
ثم قال: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ فنصب «حَذَرَ» على غير وقوعٍ من الفعل عليه لم ترد يجعلونها حذرا، إنما هو كقولك: أعطيتك خَوْفًا وفَرَقًا. فأنت لا تعطيه الخوف، وإنما تعطيه من أجل الخوف فنصبه على التفسير ليس بالفعل، كقوله جل وعز: «يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً» «4» . وكقوله: «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً» «5» والمعرفة والنكرة تفسِّران في هذا الموضع، وليس نصبه على طرح «مِنَ» . وهو «6» مما قد يستدل به المبتدئ للتعليم.
وقوله: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ ... (20)
والقراء تقرأ «يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ» بنصب الياء والخاء والتشديد. وبعضهم ينصب الياء ويخفض الخاء ويشدد الطاء فيقول: «يَخْطَفُ» . وبعضهم يكسر
__________
(1، 2) الأولى عكس التشبيه، فالكفر مشبه بالظلمات، والإيمان مشبه بالبرق.
(3) آية 4 سورة المنافقون.
(4) آية 90 سورة الأنبياء.
(5) آية 55 سورة الأعراف.
(6) يريد أنه قد يقرب المفعول لأجله للمبتدىء بما يصلح فيه تقدير من.(1/17)
الياء والخاء ويشدد فيقول: «يَخْطَفُ» . وبعضٌ من قراء أهل المدينة يسكن الخاء والطاء فيجمع بين ساكنين فيقول: «يَخْطَفُ» . فأما من قال: «يَخْطَفُ» فإنه نقل إعراب التاء المدغمة إلى الخاء إذ كانت منجزمة. وأما من كسر الخاء فإنه طلب كسرة الألف التي في اختطف والاختطاف وقد قال فيه بعض النحويين: إنما كسرت الخاء لأنها سكنت وأُسكنت التاء بعدها فالتقى ساكنان فخفضتَ الأوّل كما قال: اضربِ الرجل فخفضتَ الباء لاستقبالها اللام.
وليس الذي قالوا بشيء لأن ذلك لو كان كما «1» قالوا لقالت العرب في يَمُدّ:
يَمِدّ لأن الميم [كانت «2» ] ساكنة وسكنت الأولى من الدالين. ولقالوا في يَعَضّ:
يَعِضّ. وأما من خفض الياء والخاء فإنه أيضا من طَلَبِه كسرة الألف لأنها كانت في ابتداء الحرف مكسورة. وأما من جمع بين الساكنين فإنه كمن بني على التبيان «3» إلا أنه إدغام خفيّ. وفي قوله: «أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى» «4» وفى قوله: «تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ» «5» مثل ذلك التفسير إلا أن حمزة الزيات قد قرأ: «تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ» بتسكين الخاء، فهذا معنى «6» سوى ذلك «7» وقوله: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ... (20)
فيه لغتان: يقال: أضاءَ القمر، وضاءَ القمر فمن قال ضاء القمرُ قال:
يضوء ضَوءا. والضّوء فيه لغتان: ضم الضاد وفتحها.
يضوء ضَوءا والضّوء فيه لغتان، ضم الضاد وفتحها.
وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ فيه لغتان: أظلم الليل «8» وظلم.
__________
(1) فى ج، ش: «على ما» .
(2) ساقط من أ.
(3) يريد بالتبيان الإظهار وعدم الإدغام.
(4) آية 35 سورة يونس.
(5) آية 49 سورة يس.
(6) يريد أنه جاء فى معنى الغلبة أي يغلبون فى الجدل والخصومة. يقال: خاصمت فلانا فخصمته، أخصمه، بالكسر فى المضارع، وهذا مما شذ. والقياس الضم فى المضارع. وانظر اللسان (خصم) والطبري فى تفسير الآية.
(7) ما بين النجمتين ساقط من ش، ج.
(8) الليل: ساقط من ش، ج. [.....](1/18)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
وقوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ ... (20)
المعنى «1» - والله أعلم-: ولو شاء الله لاذهب سمعهم. ومن شأن العرب أن تقول «2» : أذهبت بصره بالألف إذا أسقطوا الباء. فإذا أظهروا الباء أسقطوا الألف من «أذهبت» . وقد قرأ بعض القرّاء: «يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ» «3» بضم الياء والباء في الكلام. وقرأ بعضهم: «وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ» «4» . فترى- والله أعلم- أن الذين ضموا على معنى الألف شبَّهوا دخول الباء وخروجها من هذين الحرفين بقولهم: خذ بالخطام، وخذ الخطام، وتعلقت بزيد، وتعلقت زيدا. فهو «5» كثير في الكلام والشعر، ولستُ أستحبُّ ذلك «6» لقلَّته، ومنه «7» قوله: «آتِنا غَداءَنا» «8» المعنى- والله أعلم- ايتنا بغدائنا فلما أسقطت الباء زادوا ألفا في فعلت، ومنه قوله عز وجل:
«قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً» «9» المعنى- فيما جاء «10» - ايتوني بِقطر أُفرِغ عليه، ومنه قوله: «فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ» «11» المعنى- والله أعلم- فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة.
وقوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ... (23)
الهاء كناية عن القرآن فأتوا بسورة من مثل القرآن. وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ يريد آلهتكم. يقول: استغيثوا بهم وهو كقولك للرجل: إذا لقيت العدو خاليا فادع المسلمين. ومعناه: فاستغث واستعن «12» بالمسلمين.
__________
(1) فى ش، ج: «ومعناه» .
(2) فى ش، ج: «أن يقولوا» .
(3) آية 43 سورة النور. وهذه قراءة أبى جعفر.
(4) آية 20 سورة المؤمنون. وهذه قراءة ابن كثير وأبى عمرو.
(5) يريد المشبه به من قولهم: خذ بالخطام وما بعده.
(6) يريد الجمع بين صيغة الإفعال والباء.
وهو المشبه.
(7) رجوع لأصل الكلام فى قوله: «ومن شأن العرب ... » .
(8) آية 62 سورة الكهف.
(9) آية 96 سورة الكهف.
(10) «فيما جاء» : ساقط من ج، ش.
(11) آية 23 سورة مريم.
(12) «واستعن» : ساقطة من ج، ش.(1/19)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
وقوله: النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ... (24)
الناس وقودها والحجارة وقودها. وزعموا أنه كبريت يُحمى، وأنه أشدّ الحجارة حرّا إذا أحميت. ثم قال: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ يعنى النار «1» .
وقوله: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً اشتبه عليهم، فيما ذكر في لونه «2» ، فإذا ذاقوه عرفوا أنه غير الذي كان قبله.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها ... (26)
فإن قال قائل: أين الكلام الذي هذا جوابه، فإنا لا نراه فى سورة البقرة؟
فذكِر لنا «3» أن اليهود لما قال الله: «مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً» «4» قال أعداء الله: وما هذا من الأمثال؟ وقالوا مثل ذلك عند إنزاله: «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً» - إلى قوله- «ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ» «5» لذِكر الذباب والعنكبوت فأنزل الله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها. فالذى «فَوْقَها» يريد أكبر منها، وهو العنكبوت والذباب. ولو جعلت في مثله من الكلام «فَما فَوْقَها» تريد أصغر منها لجاز ذلك. ولست أستحسنه «6» لأن البعوضة كأنها غاية في الصغر، فأحَبُّ إلىّ أن أجعل «فَما فَوْقَها» أكبر
__________
(1) فى ج، ش: «وأنه أشدّ الحجارة حرا يحمى، فهى أشدّ الحجارة حرا إذا أحميت. «وأتوا به متشابها» .
(2) فى ج، ش: «اشتبه عليهم، يريد على أهل الجنة فى لونه» . [.....]
(3) فى ج، ش: «فى سورة البقرة أن اليهود» . وهذا جواب السؤال السابق.
(4) آية 41 سورة العنكبوت.
(5) آية 73 سورة الحج.
(6) فى ج، ش: «أستحبه» .(1/20)
منها. ألا ترى أنك تقول: يُعْطى من الزكاة الخمسون فما دونها. والدرهم فَمَا فوقه فيضيق الكلام «1» أن تقول: فوقه فيهما. أو دونه فيهما. وأما موضع حسنها في الكلام فأن يقول القائل: إن فلانا لشريف، فيقول السامع: وفوق ذاك يريد المدح. أو يقول: إنه لبخيل، فيقول الآخُر: وفوق ذاك، يريد بكليهما معنى أكبر. فإذا عرفت أنت الرجل فقلت: دون ذلك فكأنّك تحطّه عن غاية الشرف أو غاية البُخل. ألا ترى أنك إذا قلت: إنه لبخيلٌ وفوق ذاك، تريد فوق البخل، وفوق ذاك، وفوق الشرف. وإذا قلت: دون ذاك، فأنت رجلٌ عرفته فأنزلتَه قليلا عن دَرَجته. فلا تقولنّ: وفوق ذاك، إلا في مدح أو ذمّ.
قال الفرّاء: وأما نصبهم «بَعُوضَةً» فيكون من ثلاثة أوجه:
أوّلها: أن تُوقع الضّرب على البعوضة، وتجعل «ما» صلة كقوله: «عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ» «2» [يريد عن «3» قليل] المعنى- والله أعلم- إن الله لا يستحيى أن يضرب بعوضة فما فوقها مثلا.
والوجه الآخر: أن تجعل «ما» اسما، والبعوضة صلة «4» فتعرّبها بتعريب «ما» . وذلك جائز فى «مِنْ» و «ما» لأنهما يكونان معرفة في حال ونكرة في حال كما قال حسَّان بن ثابت:
فَكَفَى بِنا فَضْلا عَلَى مَنْ غَيْرِنا ... حُبُّ النَّبِيءِ محمّد إيّانا «5»
__________
(1) فى ج، ش: «فيضيق الكلام هاهنا أن تقول» .
(2) آية 40 سورة المؤمنون.
(3) ساقط من أ.
(4) فى ج، ش: «صلة له» .
(5) نسب هذا البيت لغير حسان أيضا، ويرى النحاة أن «من» فى البيت نكرة موصوفة، و «غيرنا» بالجرّ نعت لها، والتقدير على قوم غيرنا. وقد روى «غيرنا» بالرفع على أن «من» اسم موصول و «غير» خبر لمبتدإ محذوف «هو غيرنا» والجملة صلة.
وانظر الخزانة 2/ 545 وما بعدها.(1/21)
[قال الفراء: ويروى:
... على مَنْ غَيْرُنا «1» ] والرفع فى «بَعُوضَةً» هاهنا جائز، لأن الصلة تُرفَعُ، واسمها «2» منصوب ومخفوض.
وأما الوجه «3» الثالث- وهو أحبها إلي- فأن تجعل المعنى على: إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها. والعربُ إذا ألْقَتْ «بَيْنَ» من كلام تصلُح «إِلَى» في آخره نصبوا الحرفين المخفوضين اللذين خفض أحدهما ب «بين» والآخر ب «إلى» . فيقولون: مُطرْنا ما زُبالَةَ فالثّعْلبية «4» ، وله عشرون ما ناقةً فجملا، وهي أحسن الناس ما قَرْنًا فقدَمًا «5» . يراد به ما بين قرنها إلى قدمها.
ويجوز أن تجعل القرن «6» والقدم معرفة، فتقول: هي حسنةٌ ما قرنها فقدمها.
فإذا لم تصلح «إلى» في أخر الكلام لم يجزْ سقوطُ «بين» من ذلك أن تقول:
داري ما بَيْنَ الكوفة والمدينة. فلا يجوز أن تقول: داري ما الكوفة فالمدينة لأن «إلى» إنما تصلح إذا كان ما بين المدينة والكوفة كلُّه من دارك، كما كان المطر آخذا ما بين زُبالَة إلى الثَّعلبية. ولا تصلح الفاء مكانَ الواو فيما لا تصلح فيه «إلى» كقولك: دار فلان بَيْنَ الحيرة فالكوفة مُحالٌ. وجلست بين عبد الله فزيدٍ محالٌ، إلا أن يكون مقعدُك آخذًا للفضاء الذي بينهما. وإنما امتنعت الفاءُ من الذي «7» لا تصلح فيه «إلى» لأن الفعل فيه لا يأتي فيتّصل، و «إلى»
__________
(1) ما بين المربعين ساقط من ج، ش.
(2) يريد باسم الصلة الموصول.
(3) انظر فى هذا الخزانة 4/ 399.
(4) زبالة (كشمامة) ، والثعلبية (بفتح أوّله) :
موضعان من منازل طريق مكة من الكوفة.
(5) يشار إلى البيت:
يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم ... ولا حبال محب واصل تصل
أراد ما بين قرنا فلما أسقط «بين» نصب «قرنا» على التمييز لنسبة «أحسن» . [.....]
(6) فى ش: «مكان القرن» .
(7) ج، ش: « ... الفاء التي لا ... » .(1/22)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
محتاج إلى اسمين يكون الفعل بينهما كطَرْفةِ عَيْنٍ، وإن قَصُر قدرُ الذي بينهما مما يوجد «1» ، فصلحت الفاءُ في «إلى» لأنك تقول: أخذ المطرُ أوَلَه فكذا وكذا إلى آخره. فلما كان الفعل كثيرا شيئًا بعد شيء في المعنى كان فيه تأويلٌ من الجزاء. ومثله أنهم قالوا: إن تأتني فأنت مُحسنُ. ومحال أن تقول: إن تأتني وأنت محسن فرضُوا بالفاء جوابا في الجزاء ولم تصلح الواو.
قال الكسائي: سمعت أعرابيا ورأى الهلال فقال: الحمد لله ما إِهلالك إلى سَرارِك. يريد ما بين إِهلالِك إلى سرارك فجعلوا النصب الذي كان يكون في «بَيْنَ» فيما بعده إذا سقطت ليُعلم أن معنى «بَيْنَ» مُرادٌ. وحكى الكسائي عن بعض العرب: الشنق ما خمسا إِلَى خمس وعشرين. يريد ما بين خمس إِلَى خمس وعشرين. والشَّنَق: ما لم تجب فيه الفريضة من الإبل. والأوْقاصُ «2» في البقر.
وقوله: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ... (26)
كأنه قال- والله أعلم- ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد يضل به هذا ويهدي به هذا. قال الله: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ.
وقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً ... (28)
على وجه التعجُّب والتوبيخ لا على الاستفهام المحض [أي «3» ] وَيْحكم كيف تكفرون! وهو كقوله: «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ» «4» . وقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ
__________
(1) فى ج، ش: «الذي بينهما فصلحت» .
(2) الأوقاص (جمع وقص بالتحريك) : ما بين الفريضتين مما لم تجب فيه الزكاة كالشنق.
(3) زيادة يقتضيها السياق. (انظر تفسير الطبري ج 1 ص 149) والعبارة فى ج، ش: « ...
المحض، وهو كقوله: فأين أي ويحكم كيف تذهبون» .
(4) آية 26 التكوير.(1/23)
وَكُنْتُمْ أَمْواتاً. المعنى- والله أعلم- وقد كنتم، ولولا إضمار «قد» لم يجز مثله في الكلام «1» . ألا ترى أنه قد قال فى سورة يوسف: «إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ» «2» . المعنى- والله أعلم- فقد كَذَبتْ. وقولك للرجل: أصبحت كَثُرَ مالُك، لا يجوز إلا وأنت تريدُ: قد كَثُرَ مالُك لانهما جميعا قد كانا، فالثاني حال للأوّل، والحالُ لا تكون إلا بإضمار «قد» أو بإظهارها ومثله في كتاب الله:
«أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ» «3» يريد- والله أعلم-[جاءوكم قد حصرت صدورهم «4» ] . وقد قرأ بعض القرّاء- وهو الحسن البصري- «خصرة صدورهم» .
كأنه لم يعرف الوجه في «5» أصبح عبد الله قام أو أقبل أخذ شاة، كأنه يريدُ فقد أخَذَ شاة. وإذا كان الأول لم يَمْضِ لم يجز الثاني بقَدْ ولا بغير قد، مثل قولك: كاد قام، ولا أراد قام لأن الإرادة شيء يكون ولا يكون الفعل، ولذلك كان محالا قولك: عسى قام لأن عسى وإن كان لفظها على فَعَلَ فإنها لمستقبل «6» ، فلا يجوز عسى قد قام، ولا عسى قام، ولا كاد قد قام، ولا كاد قام لأن ما بعدهما لا يكون
__________
(1) جرى الفراء فى هذا على القاعدة المقررة عند الجمهور أن الجملة الفعلية الماضوية المثبتة إذا وقعت حالا فلا بد من «قد» ظاهرة أو مقدرة لتقربه من الحال نحو «وقد فصل لكم ما حرم عليكم» ، «وقد بلغني الكبر» . فإن لم تكن ظاهرة قدرت نحو «أو جاءوكم حصرت صدورهم» ، «هذه بضاعتنا ردت إلينا» وذلك أيضا قول المبرد وأبى على الفارسي. قال أبو حيان: «والصحيح جواز وقوع الماضي حالا بدون «قد» ولا يحتاج إلى تقديرها لكثرة ورود ذلك، وتأويل الكثير ضعيف جدا لأنا إنما نبنى المقاييس العربية على وجود الكثرة. وهذا مذهب الأخفش، ونقل عن الكوفيين، بل نقله بعضهم عن الجمهور أيضا.
(2) آية 27 من السورة المذكورة.
(3) آية 90 سورة النساء.
(4) ما بين المربعين ساقط من أ.
(5) فى ج، ش «كأنه لم يعرف إجازة أصبح ... إلخ» .
(6) فى أ: «لمستقبل فيستقبل» .(1/24)
ماضيا فإن جئت بيكون مع عسى وكاد صلح ذلك فقلت: عسى أن يكون قد ذهب كما قال الله: «قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ» «1» .
وقوله: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ يعني نُطَفا «2» ، وكل ما فارق الجسد من شعر أو نُطْفة فهو ميتة والله أعلم. يقول: فأحياكم من النُّطَف، ثُم يميتكم بعد الحياة، ثم يحييكم للبعث.
وقوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ ... (29)
الاستواء في كلام العرب على جهتين: إحداهما أن يستوى الرجل [و] «3» ينتهى شبابُه، أو يستوي عن اعْوِجاج، فهذان وجهان. ووجه ثالث أن تقول: كان مقبلا على فلان ثم استوى على يُشاتمني وإلى سَوَاءٍ «4» ، على معنى أَقْبَلَ إلى وعليّ فهذا معنى قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ والله أعلم. وقال «5» ابن عباس: ثم استوى إلى السماء: صعِد، وهذا كقولك للرجل: كان قائما فاستوى قاعدا، وكان قاعدا فاستوى قائما. وكلٌّ في كلام العرب جائزٌ.
فأما قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ فإن السماء في معنى جمع، فقال «فَسَوَّاهُنَّ» للمعنى المعروف أنهنّ سبعُ سَمَوَاتٍ. وكذلك الأرض يقع عليها- وهى واحدة- الجمع. ويقع عليهما التوحيدُ وهما مجموعتان، قال الله عز وجل: «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» «6» . ثم قال: «وَما بَيْنَهُما» ولم يقل بينهن، فهذا دليل على ما (قلت «7» لك) .
__________
(1) آية 72 سورة النمل.
(2) فى ش: «يعنى النطف» . [.....]
(3) فى الأصول «أو» بدل الواو.
(4) فى ج، ش: «استوى علىّ وإلىّ يشاتمنى» وكذا فى اللسان.
(5) فى أ: «وقد قال» .
(6) آية 5 سورة والصافات.
(7) فى أ: (أخبرتك) .(1/25)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
وقوله: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ... (31)
فكان عَرَضَهُمْ «1» على مذهب شخوص العالمين «2» وسائر العالم، ولو قُصِد قَصْد الأسماء بلا شخوص جاز فيه «عرضهنّ» و «عرضها» . وهي في حرفِ عبد الله «ثم عرضهن» وفي حرف أبي «ثم عرضها» ، فإذا قلت «عرضها» جاز أن تكون للأسماء دون الشخوص وللشخوص دون الأسماء.
وقوله: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ ... (33)
إن همزت قلت أَنْبِئْهُمْ ولم يجز كسر الهاء والميم لأنها همزة وليست بياء فتصير مثل «عليهم» . وإن ألقيت الهمزة فأثبت الياء أو لم تثبتها جاز رفعُ «هُمْ» وكسرها على ما وصفت لك في «عليهم» و «عليهم» .
وقوله: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا ... (35)
إن شئت جعلت فَتَكُونا جوابا نصبا، وإن شِئتَ عطفتَه على أول الكلام فكان جزْما مثل قول امرئ القيس:
فقلتُ له صَوِّبْ ولا تجهدنه ... فيذرك من أخرى القطاة فتزلق «3»
__________
(1) «عرضهم» : ساقط من ج، ش.
(2) فى أ: «الآدميين» .
(3) من قصيدته التي أولها:
ألا أنعم صباحا أيها الربع وانطق وحدّث حديث الركب إن شئت واصدق
والضمير فى «له» يعود للغلام المذكور فى بيت قبله. وانظر ديوان امرئ القيس برواية الطوسي المخطوط بالدار. ووقع فى سيبويه 1/ 452 نسبته الى عمرو بن عمار الطائي. ويقال: صوب الفرس أرسله فى الجري. وجهد دابته «كمنع» وأجهدها: بلغ جهدها وحمل عليها فى السير فوق طاقتها.
وأذرت الدابة راكبها: صرعته، وطعنه فأذراه عن فرسه أي صرعه. والقطاة: العجز أو ما بين الوركين، أو مقعد الرديف من الدابة خلف الفارس. وزلق كفرح ونصر: زل وسقط. ويروى الشطر الثاني:
فيذرك من أعلى القطاة فتزلق(1/26)
فجزم. ومعنى الجزم كأنه تكرير النهى، كقول القائل: لا تذهب ولا تعرض لأحد. ومعنى الجواب والنصب لا تفعل هذا فيُفعلَ بك مجازاةً، فلما عُطف حرفُ على غير ما يشاكله وكان في أوله حادثٌ لا يصلح في الثاني نُصِبَ. ومثله قوله: «وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي» «1» و «لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ» «2» و «فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ» «3» . وما كان من نفي ففيه ما في هذا، ولا يجوز الرفع في واحد من الوجهين إلا أن تريد الاستئناف بخلاف المعنيين كقولك للرجل: لا تركب إلى فلان فيركبُ إليك تريد لا تركب إليه فإنه سيركب إليك، فهذا مخالف للمعنيين لأنه استئناف، وقد قال الشاعر:
أَلَمْ تَسْألِ الَّرْبعَ الْقَدِيمَ فَيَنْطِقُ ... وَهَلْ تُخْبِرَنْكَ الْيَوْمَ بَيْدَاءَ سَمْلَقُ «4»
أراد: ألم تسأل الربع فإنه يخبرك عن أهله، ثم رجع إلى نفسه فأكذبها، كما قال زهير بن أبي سُلْمَى المُزَنيّ:
قِفْ بِالدِّيَارِ التي لَمْ يَعْفُها الْقِدَمُ ... بَلَى وغَيَّرها الأرْواحُ والدِّيَمُ
فأكذب نفسه. وأما قوله: «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ» «5» فإنّ جوابه قوله: «فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» والفاء التي فى قوله: «فَتَطْرُدَهُمْ»
__________
(1) آية 81 سورة طه.
(2) آية 61 سورة طه.
(3) آية 129 سورة النساء.
(4) البيت مطلع قصيدة لجميل بن معمر العذرى، ويروى صدره:
ألم تسأل الربع القواء فينطق والقواء: القفر الذي لا ينبت. والبيداء: القفر الذي يبيد من سلكه أي يهلكه. والسملق: الأرض التي لا تنبت شيئا أو السهلة المستوية الخالية. وانظر الخزانة 3/ 601
(5) آية 52 سورة الأنعام.(1/27)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
جواب لقوله: «مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» ففى قوله: «فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» الجزم والنصب على ما فسرت لك، وليس في قوله: «فَتَطْرُدَهُمْ» إلا النصب، لأن الفاء فيها مردودة على محلٍّ وهو قوله: «مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ» و «عَلَيْكَ» لا تشاكل الفعل، فإذا كان ما قبل الفاء اسما لا فعل فيه، أو محلا مثل قوله: «عندك وعليك وخلفك» ، أو كان فعلا ماضيا مثل: «قام وقعد» لم يكن في الجواب بالفاء إلا النصب. وجاز في قوله:
فَيُذْرِكَ مِنْ أُخْرى الْقَطَاةِ فَتَزْلِقُ لان الذي قبل الفاء يفعل والذي بعدها يفعل، وهذا مشاكل بعضه لبعض لأنه فعل مستقبل فيصلح أن يقع على أخره ما يقع على أوله، وعلى أوله ما يقع على أخره لأنه فعل مستقبل «1» .
وقوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ ... (37)
ف آدَمُ مرفوع والكلمات في موضع نصب. وقد قرأ بعض القراء: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فجعل الفعل للكلمات، والمعنى- والله أعلم- واحد لأن ما لقيك فقد لقينه، وما نالك فقد نلته. وفي قراءتنا: «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «2» وفي حرف عبد الله: «لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمون» .
وقوله: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ «3» ] ... (40)
المعنى لا تنسوا نعمتي، لتكن منكم على ذُكْر، وكذلك كل ما جاء من ذكر النعمة فإن معناه- والله أعلم- على هذا: فاحفظوا ولا تَنْسَوْا. وفي حرف عبد الله:
__________
(1) «لأنه فعل مستقبل» ساقط من ج، ش. [.....]
(2) آية 124 سورة البقرة.
(3) زيادة فى أ.(1/28)
«ادَّكروا» «1» . وفي موضع آخر: «2» : «وَتَذَكروا ما فيه» . ومثله في الكلام أن تقول: اذكُرْ مَكاني مِنْ أبيك» .
وأما نصب الياء من «نِعْمَتِيَ» فإن كل ياء كانت من المتكلم ففيها لغتان:
الإرسالُ والسكون، والفتح، فإذا لَقيتها ألفٌ ولام، اختارت العربُ اللغة التي حركت فيها الياء وكرِهوا الأخرى لأن اللام ساكنة فتسقط الياء عندها لسكونها، فاستقبحوا أن يقولوا: نعمتي «3» الّتي، فتكون كأنها مخفوضة على غير إضافة، فأخذوا بأوثق الوجهين وأبينهما. وقد يجوز إسكانها عند الألف واللام وقد قال اللَّه:
«يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» «4» فقرئت بإرسال الياء ونصبها، وكذلك ما كان فِي القرآن مما فِيهِ ياء ثابتة ففيه الوجهان، وما لم تكن فيه الياء لم تنصب.
وأمَّا قوله: «فَبَشِّرْ عِبادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ» «5» . فإن هذه بغير ياء، فلا تنصب ياؤها وهي محذوفة وعلى هذا يقاس كل ما فِي القرآن منه. وقوله: «فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ» «6» زعم الكسائي أن العرب تستحب نصب الياء عند كل ألف مهموزة سوى الألف واللام، مثل قوله: «إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» «7» و «إِنِّي أَخافُ اللَّهَ» «8» . ولم أر ذلك عند العرب رايتهم يرسلون الياء فيقولون: عندي أبوك، ولا يقولون: عندي أَبُوك بتحريك الياء إلا أن يتركوا الهمز فيجعلوا الفتحة فِي الياء فِي هذا ومثله. وأما قولهم: لِيَ ألفان، وَبِي أخواك كفيلان،
__________
(1) ذكر هذه القراءة البيضاوي ولم ينسبها. ونسبها ابن خالويه إلى يحيى بن وثاب.
(2) «فى موضع آخر» : ساقط من ج، ش، وهو يشير إلى قراءة ابن مسعود فى آية 63 سورة البقرة: «واذكروا ما فيه لعلكم تتقون» .
(3) رسم فى أ: «نعمت» تحقيقا لحذف الياء فى اللفظ.
(4) آية 53 سورة الزمر.
(5) آية 17، 18 سورة الزمر.
(6) آية 36 سورة النمل.
(7) آية 72 سورة يونس.
(8) آية 48 سورة الأنفال، وآية 16 سورة الحشر. وفتح الياء قراءة نافع.(1/29)
فإنهم ينصبون فِي هذين لقلتهما «1» ، [فيقولون: بي أخواك، ولي ألفان، لقلتهما «2» ] والقياس فيهما وفيما قبلهما واحد.
وقوله: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا ... (41)
وكل ما كان فِي القرآن من هذا قد نُصِبَ فِيهِ الثَّمَنُ وأدخلت الباء فِي المبيع أو المشترى، فإن ذلك أكثر ما يأتي فِي الشيئين لا يكونان ثَمَنًا معلوما مثل الدنانير والدراهم فمن ذلك: اشتريتُ ثوبا بكساء أيَّهما شئتَ تجعله ثَمَنًا لصاحبه لأنه ليس من الأثمان، وما كان ليس من الأثمان مثل الرقيق والدور وجميع العروض فهو على هذا. فإن جئت إلى الدراهم والدنانير وضعت الباء فى الثّمن، كما قال فى سورة يوسف: «وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ» «3» لأن الدراهم ثمنٌ أبدا، والباء إنما تدخل فِي الأثمان، فذلك قوله: «اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا» «4» ، «اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ» «5» ، [اشتروا الضلالة بالهدى «6» ] «وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ» «7» ، فأدخل الباء فِي أي هذين شئت حَتَّى تصير إلى الدنانير والدراهم فإنك تُدخل الباء فيهن مع العُروض، فإذا اشتريت أحدهما [يعني الدنانير والدراهم] «8» بصاحبه أدخلت الباء فِي أيهما شئت لأن كل واحد منهما فِي هذا الموضع بيعٌ «9» وثمنٌ، فإن أحببت أن تعرف فرق ما بين العُروض وبين الدراهم، فإنك تعلم أن من اشترى عَبْدا بألف درهم معلومة، ثُمَّ وجد به عيبا فرده لم يكن له على البائع «10» أن يأخذ ألفه بعينه، ولكن ألفا. ولو اشترى عَبْدا بجارية ثُمَّ وجد به عيبا لم يرجع بجارية أخرى مثلها، فذلك دليل على أن العُروض ليست بأثمان.
__________
(1) أي لقلة (لى) و (بي) فكلاهما حرفان، فلو سكنت الياء خفيت فتبدو الكلمتان كأنهما حرف واحد.
(2) ما بين المربعين ساقط من أ.
(3) آية 20 من السورة المذكورة.
(4) آية 9 سورة التوبة. [.....]
(5) الآية 86 من البقرة.
(6) زيادة خلت منها الأصول.
(7) الآية 175 من البقرة.
(8) ساقط من أ.
(9) يراد بالبيع المبيع.
(10) فى الأصول «المشترى» والتصويب وجد بهامش نسخة (أ) .(1/30)
وقوله: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ «1» (36) فإنه خاطب آدم وامرأته، ويقال أيضا: آدم وإبليس، وقال: «اهْبِطُوا» يعنيه ويعني ذريته، فكأنه خاطبهم. وهو كقوله: «فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» «2» . المعنى- والله أعلم- أَتَيْنا بما فينا من الخلق طائعين. ومثله قول إِبْرَاهِيم: «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ» . ثم قال:
«وَأَرِنا مَناسِكَنا» «3» وفي قراءة عَبْد اللَّه «وأرهم مناسكهم» فجمع قبل أن تكون ذريته. فهذا ومثله فِي الكلام مما تتبين به المعنى أن تقول للرجل: قد تزوّجت وولد لك فكثرتم وعززتم.
وقوله: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ... (48)
فإنه قد يعود على اليوم والليلة ذِكْرُهما مرة بالهاء وحدها ومرة بالصفة فيجوز ذلك «4» كقولك: لا تجزى نفس عن نفس شيئًا وتضمر الصفة، ثم
__________
(1) يلاحظ أن هذه الآية ليست فى موضعها من الترتيب والأصول كلها على هذا الوضع.
(2) آية 11 سورة فصلت.
(3) آية 128 سورة البقرة.
(4) مراده بالصفة حرف الجر كما هو اصطلاح الكوفيين، وهو هنا (فى) المتصل بالضمير العائد على اليوم (فيه) فحذف الجار والمجرور لأن الظروف يتسع فيها ما لا يتسع فى غيرها. والحذف هنا فيه خلاف بين النحويين، قال البصريون: التقدير «واتقوا يوما لا تجزى فِيهِ نفس عن نفس شيئا» ثم حذف فيه كما قال:
ويوما شهدناه سليما وعامرا قليلا سوى طعن النهال نوافله
أي شهدنا فيه.
وقال الكسائي: هذا خطأ لا يجوز (فيه) والتقدير «واتقوا يوما لا تجزيه نفس» ، ثم حذف الضمير المنصوب، وإنما يجوز حذف الهاء لأن الظروف عنده لا يجوز حذفها، قال: لا يجوز هذا رجل قصدت، ولا رأيت رجلا أرغب، وأنت تريد قصدت إليه وأرغب فيه. قال: ولو جاز ذلك لجاز (الذي تكلمت زيد) بمعنى تكلمت فيه.
وقال الفراء: يجوز حذف (الهاء) و (فيه) ، وحكى جواز الوجهين عن سيبويه والأخفش والزجاج.(1/31)
تظهرها فتقول: لا تجزى فِيهِ نفس عن نفس شيئا. وكان الكسائي لا يجيز إضمار الصفة فِي الصلات ويقول: لو أجزت إضمار الصفة هاهنا لأجزت: أنت الَّذِي تكلمتُ وأنا أريد الَّذِي تكلمتُ فِيهِ. وقال غيره من أهل البصرة: لا نجيز الهاء ولا تكون، وإنما يضمر فِي مثل هذا الموضع الصفة. وقد أنشدني بعض العرب:
يا رُبَّ يَوْم لو تَنَزّاهُ «1» حول ... أَلْفَيْتَني ذا عنزٍ وذا طول
وأنشدني آخر:
قد صَبَّحت «2» صبَّحها السلامُ ... بِكَبِدٍ خالَطها سَنامُ
فِي ساعة يُحَبُّها الطعامُ ولم يقل يُحَبّ فيها. وليس يدخل على الكسائي ما أدخل على نفسه لأن الصفة فِي هذا الموضع والهاء متفق معناهما، ألا ترى أنك تقول: آتيك يوم الخميس، وفي يوم الخميس، فترى المعنى واحدا، وإذا قلت: كلمتُك كان غير كلّمتُ فيك، فلما اختلف المعنى لم يجز إضمار الهاء مكان «فِي» ولا إضمار «فِي» مكان الهاء.
وقوله: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ ... «3» (41)
فوحد الكافر وقبله جمعٌ وذلك من كلام العرب فصيحٌ جيدٌ فِي الاسم إذا كان مشتقًّا من فِعْل، مثل الفاعل والمفعول يرادُ به ولا تكونوا أول من يكفر فتحذف «من» ويقوم الفعل مقامها فيؤدي الفعلُ عن مثل
__________
(1) فى ج، ش: «تذراه» ولم نعثر على هذا البيت فيما لدينا من مراجع.
(2) صبحت أنت بالتصبيح يريد به الغداء مجازا، من قولهم: صبح القوم وصبحهم سقاهم الصبوح، وهو ما يشرب صباحا من لبن أو خمر.
(3) هذه الآية ليست على الترتيب وكذا ما بعدها.(1/32)
ما أدّت «من» عَنْهُ من التأنيث والجمع وهو فِي لفظ توحيدٍ. ولا يجوز فِي مثله من الكلام أن تقول: أنتم أفضلُ رجلٍ، ولا أنتما خير رَجُل لأن الرجل يثنى ويجُمع ويُفرد [فُيعَرف «1» ] واحدُه من جمعه، والقائم قد يكون لشيء ولمن فيؤدي عَنْهُمَا وهو موحَّد ألا ترى أنك قد تقول: الجيْشُ مقبلٌ والجُنْد منهزمٌ، فتوحِّد الفعل لتوحيده، فإذا صرت إلى الأسماء قلت: الجيش رجالٌ والجند رجالٌ ففي هذا تبيان «2» وقد قال الشاعر:
وإذا هُمُ طَعِمُوا فَأَلامُ طاعِمٍ ... وإذا هُمُ جاعُوا فشَرُّ جِيَاعِ «3»
فجمعه وتوحيده جائز حسنٌ.
وقوله: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) إن شئت جعلت «وَتَكْتُمُوا» فِي موضع جزم تريد به: ولا تلبسوا الحق بالباطل ولا تكتموا الحق، فتُلقي «لا» لمجيئها فِي أول الكلام. وفي قراءة أَبي:
«ولا تكونوا أوّل كافر به وتشتروا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا» فهذا دليلٌ على أن الجزم فى قوله: «وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ» مستقيم صوابٌ، ومثله: «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ» «4» وكذلك قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» «5» وإن شئت جعلت هذه الأحرُفَ المعطوفة بالواو نصبًا على ما يقولُ النحويّون من الصَّرْف فإن قلت: وما الصّرف؟
__________
(1) ساقط من أ. [.....]
(2) راجع تفسير الطبري ج 1 ص 199 طبع بولاق فى هذا البيان فعبارته أوضح.
(3) من ثلاثة أبيات فى نوادر أبى زيد 152، نسبها إلى رجل جاهلىّ.
(4) آية 188 سورة البقرة.
(5) آية 27 سورة الأنفال.(1/33)
قلت: أن تأتي بالواو «1» معطوفةً على كلامٍ فى أوّله حادثة لا تستقيم إعادتُها على ما عُطِف عليها، فإذا كان كذلك فهو الصَّرْفُ «2» كقول الشاعر «3» :
لا تَنْهَ عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فَعلتَ عظِيمُ
ألا ترى أنه لا يجوز إعادة «لا» فِي «تأتي مثله» فلذلك سُمّي صَرْفًا إذْ كان «4» مَعطوفًا ولم يستقم أن يُعاد فِيهِ الحادث الَّذِي قبله. ومثله من الأسماء التي نصبتها العربُ وهي معطوفة على مرفوع قولهم: لو تُركت والأسد لأكلك، ولو خُلِّيت ورأيَك لَضَلَلْتَ: لمَّا لم يحسن فِي الثاني أن تقول: لو تُركت وتُرك رأيُك لضللت تهبّيوا أن يعطِفوا حرفًا لا يستَقيمُ فِيهِ ما حَدَثَ فِي الَّذِي قبله. قال «5» : فإنّ العرب تجيزُ الرفع لو تُرك عَبْد الله والأسد لأكله، فهل «6» يجوز فِي الأفاعيل «7» الّتي نصبت بالواو على الصرف أن تكون مردودة على ما قبلها وفيها معنى الصرف؟ قلت: نعم العرب تقول: لستُ لابي إِنْ لم أقتلك أو تذهب نفسي، ويقولون: والله لاضربنك أو تسبقني فِي الأرض، فهذا مردودٌ على أول الكلام، ومعناه الصرف لأنه لا يجوز على الثاني إعادة الجزم بِلَمْ، ولا إعادة اليمين على والله لتسبقني، فتجد ذلك إذا امتحنت الكلام. والصرف فِي غير «لا» كثير إلا أنا أخّرنا ذكره حتى تأتى مواضعه.
__________
(1) فى ش، ج: «الواو» .
(2) يسمى الكوفيون هذه الواو (واو الصرف) إرشاد بصرفه عن سنن الكلام إلى أنها غير عاطفة، وشرط هذه الواو أن يتقدمها نفى أو طلب.
(3) نسبه سيبويه فى كتابه 1/ 424 (باب الواو) للأخطل. ويروى لأبى الأسود الدؤلي فى قصيدة طويلة.
(4) فى أ: «كان به» .
(5) كأن الأصل: «قال قائل» .
(6) فى ش، ج: «وهل» .
(7) الأفاعيل جمع أفعال جمع فعل، عبر به إشارة إلى كثرة الوارد منه.(1/34)
وقوله: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها ... «1» (72)
وقوله: «وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» «وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ» «2» يقول القائل: وأين جواب «إِذْ» وعلام عُطِفت؟ ومثلها «3» فى القرآن كثير بالواو ولا جواب معها ظاهر؟ والمعنى- والله أعلم- على إضمار «وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ» أو «إذ كنتم» فاجتزئ بقوله: «اذْكُرُوا» فِي أول الكلام، ثُمَّ جاءت «إِذْ» بالواو مردودةً على ذلك. ومثله من غير «إِذْ» قول اللَّه: «وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً» «4» وليس قبله شيءٌ تراه ناصبًا لصالح فعُلم بذكر النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم والمُرسَل إليه أن فِيهِ إضمار أرسلنا، ومثله قوله: «وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ» «5» «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً» «6» «وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ» «7» يجرى هذا على مثل ما قال فِي «ص» : «وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ» «8» ثُمَّ ذكر الأنبياء الذين من بعدهم بغير «وَاذْكُرْ» لأن معناهم مُتّفق معروفٌ، فجاز ذلك. ويستدل على أن «واذكروا» مضمرة مع «إِذْ» أنه قال:
«وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ» «9» «وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ» «10» فلو لم تكن هاهنا «وَاذْكُرُوا» لاستدْلَلت على أنها تُراد لانّها قد ذُكرت قبلَ ذلك. ولا يجوزُ مثلُ ذلك فِي الكلام بسقوط الواو إلا أن يكون معه جوابه متقدمًا أو متأخِّرا كقولك: ذكرتُك إذ احتجت إليك «11» أو إذ احتجت ذكرتك.
__________
(1) كذا فى الأصل، ويلاحظ أن هذه الآية على غير ترتيب.
(2) آية 50 سورة البقرة.
(3) فى ش، ج «منها» . [.....]
(4) آية 73 سورة الأعراف.
(5) آية 76 سورة الأنبياء.
(6) آية 87 من سورة الأنبياء.
(7) آية 16 سورة العنكبوت.
(8) آية 45 من السورة المذكورة.
(9) آية 26 سورة الأنفال.
(10) آية 86 سورة الأعراف.
(11) «إليك أو إذ احتجت» : ساقط من ج، ش.(1/35)
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
وقوله: فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) يقال: قد كانوا فِي شُغل من أن ينظروا، مستورين بما اكتنفهم من البحر أن يروا فرعون وغرفة، ولكنه فِي الكلام كقولك: قد ضُرِبتَ وأهلك يَنْظُرون فما أتَوْك ولا أغاثوك يقول: فهم قريبٌ بمرأى ومسمع. ومثله فِي القرآن: «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ» «1» ، وليس هاهنا رؤيةٌ إنما هُوَ علمٌ، فرأيت يكونُ على مذهبين: رؤية العلم ورؤية العين كما تقول: رأيتُ فرعون أعتى الخلق وأخْبَثَه، ولم تره إِنما هُوَ بلغك «2» ففي هذا بيانٌ.
وقوله: «وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ... (51)
ثُمَّ «3» قال فِي موضع أخر: «وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ «4» فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» ، فيقول القائل: كيف ذكر الثلاثين وأتمها بالعشر «5» والأربعون «6» قد تكمل بعشرين وعشرين، أو خمسةٍ وعشرين وخمسة عشر؟ قيل:
كان ذلك- والله أعلم- أن الثلاثين كانت عدد شهر، فذكرت الثلاثون منفصلة لمكان الشهر وأنها ذو القعدة وأتممناها بعشر من ذي الحجة، كذلك قال المفسرون.
ولهذه القصة خصت العشر والثلاثون بالانفصال.
وقوله: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
__________
(1) آية 45 سورة الفرقان.
(2) العبارة فى ج، ش: «ولم تره ونظرت. هذا بيان» ووجد بهامش نسخة أبعد قوله: بلغك «ونظرت إلى ... ولم تأت إنما هو العلم» . وفى موضع النقط كلمة غير واضحة، قد تكون: منزلك.
(3) فى أ: «و» .
(4) آية 142 سورة الأعراف.
(5) فى أ: «بعشر» .
(6) فى ش، ج: «أربعون» . [.....](1/36)
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
ففيه وجهان:
أحدهما- أن يكون أراد وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعنى التوراة، ومحمدا صلى اللَّه عليه وسلم الْفُرْقانَ، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وقوله: «وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» كأنه خاطبهم فقال: قد آتيناكم علم مُوسَى ومحمد عليهما السلام «لعلكم تهتدون» لأن التوراة أنزلت جملةً ولم تنزل مُفرقة كما فُرق القرآن فهذا وجه.
والوجه الآخر- أن تجعل التوراة هدًى والفرقان كمثله، فيكون: ولقد آتينا موسى الهدى كما آتينا محمّدا صلى اللَّه عليه وسلم الهدى. وَكُلُّ ما جاءت به الأنبياء فهو هُدًى ونورٌ. «1» وإن العرب لتجمع بين الحرفين وإنهما لواحِد إذا اختلف لفظاهما «2» كما قال عدي بْن زَيْدُ:
وقدمت «3» الأديم لراهشيه ... وأَلْفَى قَوْلها كذِبًا ومَيْنَا
وقولهم «4» : بعدا وسحقا، والبعد والسحق واحد، فهذا وجه آخر. وقال بعض المفسّرين: الكتاب التّوراة، والفرقان انفراق البحر لبنى إسرائيل. وقال بعضهم:
الفرقان الحلال والحرام الَّذِي فى التّوراة.
وقوله: الْمَنَّ وَالسَّلْوى ... (57)
بلغنا أن المنّ هذا «5» هذا الّذى يسقط على الثّمام «6» والعشر، وهو حلو كالعسل وكان بعض المفسرين يسميه الترنجبين «7» الَّذِي نعرف. وبلغنا أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلّم
__________
(1) يبدو أن هنا سقطا، وأن الأصل كما يؤخذ من إعراب القرآن للنخاس: «ويجوز أن يكون الفرقان هو الكتاب، أعيد ذكره تأكيدا» وانظر القرطبي 1/ 399.
(2) فى ش، ج: لفظهما» .
(3) كذا فى الأصول. والرواية المشهورة «وقددت» بمعنى شقت وقطعت، والراهشان عرقان فى باطن الذراعين.
(4) فى أ: «قوله» .
(5) سقط فى أ.
(6) الثمام: نبت ضعيف له خوص أو شبيه بالخوص. والعشر: شجر من العضاه كبار الشجر وله صمغ حلو.
(7) الترنجبين: تأويله عسل الندى، وهو طلى يقع من السماء ندى شبيه بالعسل جامد متحبب يقع على بعض الأشجار بالشام وخراسان.(1/37)
قال: (الكمأة «1» من المن وماؤها شفاء للعين) . وأما السَّلْوَى فطائِر كان يسقط عليهم لما أَجَموا «2» المنّ شبيهٌ بهذه السماني، ولا واحد للسّلوى.
وقوله: وَقُولُوا حِطَّةٌ ... (58)
يقول- والله أعلم- قولوا: ما أمرتم به أي هى حطة فحالفوا إلى كلام بالنبطية، فذلك قوله: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ.
وبلغني أن ابن عَبَّاس قال: أمروا أن يقولوا: نستغفر اللَّه فإن يك كذلك فينبغي أن تكون «حِطَّةٌ» منصوبة فِي القراءة «3» لأنك تقول: قلت لا إله إلا اللَّه، فيقول القائل: قلت كلمة صالحة، وإنما تكون الحكاية إذا صلح قبلها إضمارُ ما يرفع أو يخفض أو ينصب، فإذا ضممت ذلك كله فجعلته كلمة كان منصوبا بالقول كقولك: مررت بزيد، ثُمَّ تجعل هَذِهِ كلمةً فتقول: قلت كلاما حسنا ثُمَّ تقول:
قلت زَيْد قائم، فيقول: قلت كلاما «4» . وتقول: قد ضربت عمرا، فيقول أيضا:
قلت كلمة صالحة.
فأما قول اللَّه تبارك وتعالى: «سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ» «5» إلى آخر ما ذكر من العدد فهو رفع لأن قبله ضمير أسمائهم سيقولون: هَم ثلاثة، إلى آخر الآية.
وقوله: «وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ» «6» رفع أي قولوا: اللَّه واحدٌ، ولا تقولوا
__________
(1) هذا الحديث رواه الشيخان وغيرهما. وانظر الجامع الصغير فى حرف الكاف.
(2) أجم الطعام واللبن وغيرهما: كرهه ومله من المداومة عليه.
(3) النصب على وجهين أحدهما- إعمال الفعل فيها وهو «قولوا» أي قولوا كلمة تحط عنكم أو زاركم. والثاني- أن تنسب على المصدر بمعنى الدعاء والمسألة أي حط اللهم أوزارنا وذنوبنا حطة. وبالنصب قرأ ابن أبى عبلة وطاوس اليماني. والقراءة العامة بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أي مسئلتنا حطة، أو أمرك حطة قال النيسابورى: وأصله النصب، ومعناه اللهم حط عنا ذنوبنا فرفعت لإفادة الثبوت.
(4) ما بين النجمتين ساقط من ج، ش.
(5) آية 22 سورة الكهف.
(6) آية 171 سورة النساء.(1/38)
الآلهة ثلاثةٌ. وقوله: «قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ» «1» ففيها وجهان: إن أردت: ذلك الَّذِي قُلْنَا معذرة إلى ربكم رفعت، وهو الوجه. وإن أردت: قُلْنَا ما قُلْنَا معذرة إلى اللَّه فهذا وجهُ نصب «2» . وأما قوله: «وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا» «3» فإن العرب لا تقوله إلا رفعًا وذلك أن القوم يؤمرون بالأمر يكرهونه فيقول أحدهم: سمعٌ وطاعةٌ، أي قد دخلنا أول هذا الدين على أن نسمع ونُطيعَ فيقولون: علينا ما ابتدأناكم به، ثُمَّ يخرجون فيخالفون، كما قال عز وجل:
«فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ [بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ] » [أي] فإذا خرجوا من عندك بدلوا «4» . ولو أردت فِي مثله من الكلام: أي نطيع، فتكون «5» الطاعة جوابا للأمر بعينه جازَ النصبُ، لأن كل مصدر وقع موقع فعل ويفعل جاز نصبهُ، كما قال اللَّه تبارك وتعالى: «مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ» «6» [معناه والله أعلم:
نعوذ بالله أن نأخذ] . ومثله فِي النور: «قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ»
«7» الرفع على ليكن منكم ما يقوله أهل السمع والطاعة. وأما قوله فِي النحل: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» «8» فهذا قول أَهْل الجحد لانهم قَالُوا لم ينزل شيئا، إنما هَذَا أساطير الأولين وأما الذين آمنوا فإنهم أقروا فقالوا: أنزل ربنا خيرًا «9» ، ولو رُفع خيرٌ على: الَّذِي أنزله خير لكان صوابا، فيكون بمنزلة قوله:
«يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ» «10» و «قُلِ الْعَفْوَ» النّصب على الفعل: ينفقون
__________
(1) آية 164 سورة الأعراف. [.....]
(2) فى ش، ج: «النصب» .
(3) آية 81 سورة النساء.
(4) فى الأصول: «فإذا خرجوا من عندك بدلوا» ، وقد زدنا «أي» وأكلنا الآية كما ترى، ليكون هذا تفسيرا لها.
(5) فى أ: «تكون» .
(6) آية 79 سورة يوسف.
وما بين المربعين ساقط من أ.
(7) آية 53 من السورة المذكورة.
(8) آية 24 وما بين النجمتين ساقط من ج، ش.
(9) يشير إلى قوله تعالى: «قالُوا خَيْراً» آية 30 من سورة النحل.
(10) آية 219 سورة البقرة.(1/39)
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
العفو، والرفعُ على: الَّذِي ينفقون عفو الأموال. وقوله: «قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ» «1» فأما السلام (فقول يقال) «2» ، فنصب لوقوع الفعل عليه، كأنك قلت: قلت كلامًا.
وأما قوله: «قالَ سَلامٌ» فإنه جاء فيه نحن «سَلامٌ» وأنتم «قَوْمٌ مُنْكَرُونَ» .
وبعض المفسرين يقول: «قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ» يريد سلموا عليه فرد عليهم، فيقول القائل: ألا كان السلام رفعًا كله أو نصبًا كله؟ قلت: السلام على معنيين:
إذا أردت به الكلام نصبته، وإذا أضمرت معه «عليكم» رفعته. فإن شئت طرحت الإضمار من أحد الحرفين وأضمرته فِي أحدهما، وإن شئت رفعتهما معا، وإن شئت نصبتهما جميعا. والعرب تقول إذا التقوا فقالوا سلام: سلامٌ، على معنى قَالُوا السلام عليكم فرد عليهم الآخرون. والنصب يجوز فِي إحدى القراءتين «قَالُوا سلامًا قال سلامًا» . وأنشدني بعضُ بني عُقَيْل:
فقلنا السَّلام فاتقت من أميرها ... فما كَانَ إلا ومؤها بالحواجب
فرفع السلام لأنه أراد سلمنا عليها فاتقت أن ترد علينا. ويجوز أن تنصب السلام على مثل قولك «3» : قُلْنَا الكلام، قُلْنَا السلام، ومثله: قرأت «الْحَمْدَ» «4» وقرأت «الحمد» إذا قلت قرأت «الحمد» أوقعت عليه الفعل، وإذا رفعت جعلته حكاية «5» على قرأتُ «الْحَمْدُ لِلَّهِ» .
وقوله: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً ... (60)
معناه- والله أعلم- فضرب فانفجرت، فعُرِف بقوله: «فَانْفَجَرَتْ» أنه قد ضرب، فاكتفى بالجواب لأنه قد أدى عن المعنى، فكذلك قوله: «أَنِ اضْرِبْ
__________
(1) آية 69 سورة هود.
(2) فى ج، ش: «فتسليمهم» بدل «فقول يقال» .
(3) «قلنا الكلام» : ساقط من ج، ش.
(4) فى ش، ج: «الحمد لله» .
(5) سقط هذا الحرف فى أ. [.....](1/40)
بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ» «1» ومثله (فِي الكلام) «2» أن تقول: أَنَا الَّذِي أمرتك بالتجارة فاكتسبت الأموال، فالمعنى فتجَرت فاكتسبت.
وأما قوله: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ ... (60)
فإن القائل يقول: وما حاجة القوم إلى أن يعلموا مشاربهم ونحن نرى الأنهار قد أجريت لقوم بالمن من اللَّه والتفضل على عباده، ولم يقل: قد علم كل أناسٍ مشربهم، لغيرهم؟ وإنما كان ذلك- والله أعلم- لأنه حجرٌ انفجرت منه اثنتا عشرة عينا على عدد الأسباط لكل سِبْطٍ عين، فإذا ارتحل القوم أو شربوا ما يكفيهم عاد الحجر كما كان وذهبت العيونُ، فإذا احتاجوا انفجرت العيونُ من تلك المواضع، فأتى كل سِبْطٍ عَيْنَهم التي كانوا يشربون منها.
وأما قوله: وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها ... (61)
فإن الفوم فيما ذكر لغةٌ قديمة (وهي) «3» الحِنْطَة والخُبْز جميعا قد ذُكِرا. قال بعضهم:
سمعنا (العرب «4» من) أهل هذه اللغة يقولون: فَوِّموا لنا بالتشديد لا غير «5» ، يريدون اختبزوا وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه «وَثُومِهَا» بالثاء، فكأنّه أشبهُ المعنيين بالصواب لأنه مع ما يشاكله: من العدس وَالْبَصَلِ وشِبْهه. والعرب تُبدل الفاء بالثاء فيقولون: جدث وجَدَفٌ، ووقعوا فِي عاثُور شَرٍّ «6» وعافُور شرٍّ، والأثاثي والأثافيّ. وسمعت كثيرًا من بْني أسد يسمّى (المغافير «7» المغاثير) .
__________
(1) آية 63 سورة الشعراء.
(2، 3، 4) سقط فى أ.
(5) «لا غير» : سقط من ج، ش.
(6) وقعوا فى عاثور شر: أي فى اختلاط من الأمر وشدّة.
(7) فى أ: «يقولون:
المغاثير والمغافير» . والمغافير: صمغ يسيل من شجر الرمث والعرفط وهو حلو يؤكل غير أن رائحته ليست بطيبة.(1/41)
وقوله: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ... (61)
أي الَّذِي هُوَ أقرب، من الدُّنُوِّ، ويقال من الدَّناءة. والعرب تقول:
إنه لَدنيٌّ [ولا يهمزون «1» ] يُدَنَّى فِي الأمور أي «2» يتَّبِع خَسيَسها وأصاغرها. وقد كان زُهير «3» الفُرْقُبي يَهْمِز: «أَتَسْتَبْدِلُونَ الّذى هو أدنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ولم نر العرب تهمزُ أَدْنَى إذا كان من الحسة، وهم فِي ذلك يقولون إنه لدانىء خَبِيثٌ [إذا كان ماجنا «4» ] فيهمزون. وأنشدني بعض بني كلاب:
باسِلَةُ الْوَقْعِ سَرَابِيلُها ... بيضٌ إلى دانئها الظّاهر «5»
يعنى «6» الدروع «7» على خاصتها- يعني الكتيبة- إلى الخسيس منها، فقال: دانئها يريد الخسيس. وقد كُنَّا نسمع المشيخة يقولون: ما كنت دانِئًا ولقد دنات، والعرب تترك الهمزة. ولا أراهم رووه إلّا وقد سمعوه.
وقوله: اهْبِطُوا مِصْراً ... (61)
كتبت بالألف، وأسماءُ البلدان لا تنصرف خَفَّت أو ثَقُلت، وأسماء النساء «8» إذا خَفَّ منها شيءٌ جرى «9» إذا كان على ثلاثة أحْرفٍ وأوسطها ساكن مثل دعد وهند
__________
(1) «ولا يهمزون» ساقط من أ.
(2) سقط فى ش، ج.
(3) هو من القرّاء النحويين، وكان فى زمن عاصم، ويعرف بالكسائي. وانظر طبقات القراء لابن الجزري رقم 1301.
والفرقبىّ نسبة إلى فرقب، كقنفذ. وفى القاموس: فرقب موضع ومنه الثياب الفرقبية: ثياب بيض من كتان. وقال شارحه: وردت هذه النسبة فى الثياب والرجال، فيمكن أن تكون إلى موضع، أو يكون الرجل منسوبا إلى حمل الثياب.
(4) ما بين المربعين ساقط من أومن عبارة الفراء المنقولة فى اللسان. وهو صحيح لغة، قال فى اللسان: دنؤ الرجل دناءة إذا كان ماجنا.
(5) البيت من قصيدة طويلة للأعشى قالها فى منافرة عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة العامرىّ مطلعها:
شأقتك من قتلة أطلالها ... بالشط فالوتر إلى حاجر
وبسل الرجل بسولا فهو باسل وبسل إذا عبس غضبا أو شجاعة. والسربال: الدرع أو كل ما لبس والجمع سرابيل، والمراد هنا الدروع كما قال المؤلف.
(6) فى ج، ش: «وفسر فقال يعنى ... إلخ» .
(7) فى ج، ش: «فى خاصتها» .
(8) فى ج، ش: «الناس» .
(9) أي (انصرف) ونون. وهذا اصطلاح الكوفيين. فالجارى عندهم المنصرف، وغير الجاري هو الممنوع من الصرف. ويعبرون أيضا بالمجرى وغير المجرى، من الإجراء. [.....](1/42)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
وَجُمْلُ. وإنما انصرفت إذا سمى بها النساء لأنها تردد وتكثر بها التسمية فتخف لكثرتها، وأسماء البلدان لا تكاد تعود «1» . فإن شئت جعلت الألف التي فى «مصرا» ألفا يُوقَفُ عليها، فإذا وصلت لم تنوِّن فيها، كما كتبوا «سلاسلا» وَوارِيرَ»
«2» بالألف، وأكثر القراء على ترك الإجراء فيهما. وإن شئت جعلت «مِصْر» غير المصر التي تُعرَف، يريد اهبطوا مِصرًا من الأمصار، فإن الَّذِي سألتم لا يكون إلا فِي القرى والأمصار. والوجه الأول أحب إلى لأنها فِي قراءة عَبْد اللَّه «اهْبِطوا مِصْرَ» بغير ألف، وفي قراءة أُبَيٍّ: «اهْبِطُوا فَإِنّ لَكُمْ ما سَأَلْتُم وَاسْكُنُوا مِصْر» «3» وتصديق ذلك أنها فِي سورة يوسف بغير ألف: «ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ» «4» .
وقال الأعمش وسئل عَنْهَا فقال: هِيَ مصر التي عليها صالح بْن عليّ «5» .
وقوله: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ ... (63)
يقول: بجدٍّ وبتأدية ما افترض عليكم فِيهِ.
وقوله: فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها ... (66)
يعني المسخة التي مُسِخوها جُعلت نكالا لما مضى من الذنوب ولما يعمل بعدها: ليخافوا أن يعملوا بما عمل الذين مُسِخوا فَيْمسخوا.
وقوله: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ ... (67)
وهذا فِي القرآن كثير بغير الفاء، وذلك لأنه جوابٌ يستغنى أولهُ عن آخره بالوقفة عليه، فيقال: ماذا قَالَ لك؟ فيقول القائل: قال كذا وكذا فكأنّ «6» حسن
__________
(1) أي تتكرر فى الذكر والكلام.
(2) آية 4 وآية 15 سورة الإنسان.
(3) هذه القراءة المنسوبة لأبى لم نقف عليها فى غير أصول الفرّاء مما بين أيدينا من المراجع.
(4) آية 99 من السورة المذكورة.
(5) صالح بن على بن عبد الله بن العباس أوّل من ولى مصر من قبل أبى العباس السفاح سنة 133 وتوفى بقنسرين وهو عامل على حمص سنة 154.
(6) فى ج، ش: «فلما حسن السكوت ... إلخ» .(1/43)
السكوت يجوز به طرح الفاء. وأنت تراه فِي رءوس الآيات- لأنها فصولٌ- حَسَنًا «1» من ذلك: «قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا» «2» والفاء حسنة مثل قوله: «فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا» «3» ولو كان على كلمة واحدة لم تُسقط العرب منه الفاء. من ذلك: قُمتُ ففَعَلْت، لا يقولون: قمت فعلت، ولا قلت قال، حَتَّى يقولوا: قُلْتُ فقال، وَقُمْتُ فقام لأنها نَسَقٌ وليست باستفهام يوقف عليه ألا ترى أنه: «قالَ» فرعون «لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ. قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» «4» فيما لا أحصيه. ومثله من غير الفعل كثيرٌ فِي كتاب اللَّه بالواو وبغير الواو فأما الذي بالواو فقوله: «قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ» «5» ثُمَّ قَالَ بعد ذلك: «الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ» . وقال فِي موضع آخر: «التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ» «6» وقال فِي غير هذا: «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» «7» ثُمَّ قال فِي الآية بعدها: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا» ولم يقل: وإنّ.
فاعْرِفْ بما جَرى تفسير ما بقي، فإنه لا يأتي إلا على الَّذِي أنْبَاتك به من الفصول أو الكلام المكتفى يأتي له جوابٌ. وأنشدني بعضُ العرب:
لما رأيتُ نَبَطًا أنْصَارا ... شَمَّرتُ عن رُكْبَتِيَ الإزَارَا
كُنْتُ لها مِنَ النَّصارى جَارَا وقوله: لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ ... (68)
والعَوان ليست بنَعْتٍ لِلْبِكْرِ لأنها ليست بَهرِمَة ولا شابةً انقطع الكلام عند قوله: وَلا بِكْرٌ ثم استأنف فقال: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ والعوان يقال منه
__________
(1) فى ش، ج: «حسنة» .
(2) آية 31 و 32 سورة الذاريات.
(3) آية 27 سورة هود.
(4) آية 25 و 26 سورة الشعراء.
(5) آية 15 و 17 سورة آل عمران.
(6) آية 112 سورة التوبة.
(7) آية 10 سورة البروج.(1/44)
قد عوَّنَت. والفارِضُ: قد فرضت، وبعضهم: قد فرَضت (وأما البكر فلم «1» ) نسمع فيها بِفعْل. والبِكر يُكْسر أوّلها إذا كانت بِكرْا من النساء «2» . والبكر مفتوح أَوّلَه من بِكَارَة الإبل. ثم قال «بَيْنَ ذلِكَ» و «بَيْنَ» لا تصلح إلا مع اسمين فما زاد، وإنّما صلحت مع «ذلِكَ» وحْدَه لأنه فِي مذهب اثنين، والفعلان قد يجمعان ب «ذلك» و «ذاك» ألا ترى أنك تقول: أظنُّ زيدا أخاك، وكان زيدٌ أخاك، فلا بد لكان من شيئين، ولا بد لأظن من شيئين «3» ، ثُمَّ يجوز أن تقول: قد كان ذاك، وأظنُّ ذلك. وإنما المعنى فِي الاسمين اللذين ضَمَّهما ذلك: بين الهرم والشباب. ولو قال فِي الكلام: بين هاتين، أو بين تَيْنِك، يريد الفارض والبكر كان صوابا، ولو أعيد ذكرهما «4» (لم يظهر إلا بتثنية) «5» لانهما اسمان ليسا بفعلين، وأنت تقول فِي الأفعال فتوحِّد فعلهما بعدها.
فتقول: إِقْبالك وإِدْبارُك يَشُقُّ على، ولا تقول: أخوك وأبوك يزورُنِي. ومما يجوز أن يقع عليه «بَيْنَ» وهو واحدٌ فِي اللفظ مما يؤدي عن الاثنين «6» فما زاد قوله:
«لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» «7» ولا يجوز: لا نفرق بين رَجُل منهم لأن أحدا لا يُثَنّى كما يثنى الرجل ويُجَمع، فإن شئت جعلت أحدا فِي تأويل اثنين، وإن شئت فِي تأويل أكثر من ذلك قول اللَّه عزّ وجل: «فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» «8» وتقول: بَيْنَ أَيِّهِم الْمَالُ؟ وبين من قسم المال؟ فتجرى «من» و «أى» .
مجرى «9» أحد لانهما قد يكونان لواحد ولجمع.
__________
(1) فى ش، ج: «ولم» . [.....]
(2) فى ج، ش: «من الجواري» .
(3) فى ج، ش: «بين هاتين من شيئين» . ولا وجه له.
(4) أي ضميرهما.
(5) فى ج، ش: «لم تكن إلا بتثنية» .
(6) ساقط من ج.
(7) آية 126 سورة البقرة.
(8) آية 47 سورة الحاقة.
(9) فى ش، ج: «على مجرى» .(1/45)
وقوله: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها ... (69)
اللَّوْنُ مرفوعٌ لأنك لم ترد أن تجعل «ما» صلةً فتقول: بين لنا ما لونها «1» ولو قرأ به قارئٌ كان صوابا، ولكنه أراد- والله أعلم-: ادع لنا ربك يبين لنا أي شيءٍ لونُها، ولم يصلح للفعل الوقوع على أي لأن أصل «أي» تفرق «2» جمع من الاستفهام، ويقول القائل: بين لنا أسوداءُ هِيَ أم صَفْراء؟ فلما لم يصلح للتَّبَيُّن أن يقع على الاستفهام فِي تفرقه لم يقع على أيّ لأنها جمعُ ذلك المتفرق، وكذلك ما كان فِي القرآن مثله، فأعمل فِي «ما» «وأي» الفعل الَّذِي بعدهما، ولا تعمل الَّذِي قبلهما إذا كان مُشتقًّا من العِلْم كقولك:
ما أعلم أَيُّهم قال ذاك، ولا أعلمنّ أَيُّهم قال ذاك، وما أدري أَيَّهم ضربت، فهو فِي العلم والأخبار والأنباء وما أشبهها على ما وصفت لك. منه قول اللَّه تبارك وتعالى: «وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ» «3» «وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ» «4» «ما» «5» الثانية رفعٌ، فرفعتها بيوم كقولك: ما أدراك أيُّ شيء يومُ الدين، وكذلك قول اللَّه تبارك وتعالى: «لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى» «6» رفعته بأَحْصَى، وتقول إذا كان الفعل واقعا على أيّ «7» : ما أدري أَيَّهم ضربت. وإنما امتنعت من أن توقع على أي
__________
(1) «لونها» بالنصب فى المثال مفعول يبين، وتكون «ما» زائدة. ما بين النجمتين ساقط من نسخ ج، ش.
(2) يريد أن أيا نابت عن جمع من الاستفهام متفرّق. فبدل أن يقال: بين أسوداء هى أم صفراء أم حمراء. يقال: بين أي شىء لونها، فتغنى أي عن هذا الجمع من الاستفهام، فمن ثمّ كان أصلا لها.
وعبارة الطبري: «لأن أصل «أي» و «ما» جمع متفرق الاستفهام» . ويريد الطبري بالأصل ما يوضع له اللفظ ويدل عليه، وهذا غير ما يريد الفراء. وكل صحيح.
(3) آية 10 سورة القارعة.
(4) آية 17 سورة الانفطار.
(5) فى ش، ج: «وموضع ما» .
(6) آية 12 سورة الكهف. [.....]
(7) أي: اسم استفهام عما يعقل وعما لا يعقل، وأدوات الاستفهام (كغيرها من المعلقات) تعلق العامل عن العمل لفظا لأن لها صدر الكلام، فلو أعمل ما قبلها فيها أو فيما بعدها لخرجت عن أن يكون لها صدر الكلام. ولا يكون التعليق إلا فى أفعال القلوب التي تلغى نحو علم وظن، ولذلك لا تقول: لأضربن أيهم قام (بالرفع) لأنه فعل مؤثر لا يجوز إلغاؤه فلا يجوز تعليقه.
وقال الفرّاء: «أي» يعمل فيه ما بعده ولا يعمل فيه ما قبله، وإنما يرفعها أو ينصبها ما بعدها كقوله تعالى: «لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى» فرفع، وقوله: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» -(1/46)
الفعل الَّذِي قبلها من العلم وأشباهه لأنك تجد الفعل غير واقع على أي فِي المعنى ألا ترى أنك إذا قلت: اذهب فاعلم أيهما قام أنك تسأل غيرهما عن حالهما فتجد الفعل واقعا على الَّذِي أعلمك، كما أنك تقول: سل أَيُّهُمْ قام، والمعنى: سل الناس أيُّهُمْ قام. ولو أوقعت الفعل على «أَيَّ» فقلت: أسأل أيَّهُمْ قام لكنت كأنك تضمر أيًّا مرة أخرى لأنك تقول: سل زيدًا أيُّهُمْ قام، فإذا أوقعت الفعل على زَيْدُ فقد جاءت «أي» بعده. فكذلك «أي» إذا أوقعت عليها الفعل خرجت من معنى الاستفهام، وذلك أن أردته، جائز، تقول: لاضْرِبَنَّ أيَّهُم يقول ذاك لأن الضرب لا يقع على [اسم ثُمَّ يأتي بعد ذلك استفهام، وذلك لأن الضرب لا يقع على «1» ] اثنين، وأنت تقول فِي المسألة: سل عَبْد اللَّه عن كذا، كأنك قلت:
سله عن كذا، ولا يجوز ضربت عَبْد اللَّه كذا وكذا إلا أن تريد صفة الضرب، فأما الأسماء فلا. وقول اللَّه: «ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا» «2» من نصب أيًّا أوقع عليها النزع وليس باستفهام، كأنه قال: ثُمَّ لنستخرجن العاتي الَّذِي هُوَ أشد. وفيها وجهان من الرفع أحدهما أن تجعل الفعل مكتفيا بمن فِي الوقوع عليها، كما تقول: قد قتلنا من كل قوم، وأصبنا «3» من كل طعام، ثُمَّ تستأنف أيّا فترفعها بالذي بعدها، كما قال جل وعز: «يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ»
__________
- فنصب، وقال الفراء أيضا: «أي» إذا أوقعت الفعل المتقدّم عليها خرجت من معنى الاستفهام، وذلك أن أردته جائز، يقولون: لأضربن أيهم يقول ذلك (بالنصب) . وقال الكسائي: تقول لأضربن أيهم فى الدار (بالنصب) ولا تقول: ضربت أيهم فى الدار، ففرق بين الواقع والمنتظر.
والكوفيون يجرون «أيا» مجرى من وما فى الاستفهام والجزاء، فإذا وقع عليها الفعل وهى بمعنى الذي نصبوها لا محالة، فيقولون: اضرب أيهم أقبح، وأكرم أيهم هو أفضل. وحكى أنهم قرءوا بالنصب فى الآية «ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا» .
(1) ما بين المربعين ساقط فى أ.
(2) آية 69 سورة مريم.
(3) فى ج، ش: وأكلنا.(1/47)
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
«أَيُّهُمْ أَقْرَبُ» «1» أي ينظرون أيهم أقرب «2» . ومثله «يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ» «3» . وأما الوجه، الآخر فإن فِي قوله تعالى: «ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ» لننزعن من الذين تشايعوا على هذا، ينظرون بالتشايع أيهم أشد وأخبث، وأيهم أشد على الرَّحْمَن عتيًّا، والشيعة «4» ويتشايعون سواء فِي المعنى. وفيه «5» وجه ثالث من الرفع أن تجعل «ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ» بالنداء أي لننادين «أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا» وليس هذا الوجه يريدون. ومثله مما تعرفه به قوله: «أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً» «6» فقال بعض المفسرين «أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا» : ألم يعلم، والمعنى- والله أعلم- أفلم ييأسوا علما بأن اللَّه لو شاء لهدى الناس جميعا. وكذلك «لَنَنْزِعَنَّ» يقول يريد ننزعهم بالنداء.
وقوله: مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها ... (71)
غير مهموز يقول: ليس فيها لون غير الصّفرة. وقال بعضهم: هِيَ صفراء حَتَّى ظلفها وقرنها أصفران.
وقوله: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها ...
(72)
يقال: إنه ضرب بالفخذ اليمنى، وبعضهم يقول: ضُرِب بالذَّنَب.
ثُمَّ قال اللَّه عز وجل: «كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى»
معناه والله أعلم اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
فيحيا كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
أي اعتبروا ولا تجحدوا بالبعث، وأضمر
__________
(1) آية 57 سورة الإسراء.
(2) «أيهم أقرب» ابتداء وخبر فى موضع نصب بالفعل المضمر الذي دل عليه الكلام التقدير: ينظرون أيهم أقرب. ولا يعمل الفعل فى لفظ أي لأنها استفهام.
(3) آية 44 سورة آل عمران.
(4) فى الأصول: «التشيعة» ويبدو أن ما أثبت هو الصواب.
(5) فى ج، ش: «وفيها» .
(6) آية 31 سورة الرعد.(1/48)
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
فيحيا، كما قال: «أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ» «1» والمعنى- والله أعلم- فضرب البحر فانفلق.
وقوله: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ ... (73)
تذكير مِنْهُ على وجهين إن شئت ذهبت به- يعني «مِنْهُ» «2» - إلى أن البعض حَجرٌ، وذلك مذكر، وإن شئت جعلت البعض جمعا فِي المعنى فذكَّرته بتذكير بعض، كما تقول للنسوة: ضربني بعضُكنّ، وإن شئت أنثته هاهنا بتأنيث المعنى كما قرأت القرّاء: «وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ» «3» «ومن تقنت» بالياء والتاء، على المعنى، وهي فِي قراءة أَبيّ: «وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ منها الأنْهَارُ» .
وقوله: لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ ... (78)
فالأماني على وجهين فِي المعنى، ووجهين فِي العربية فأما فِي العربية فإن من العرب من يخفف الياء فيقول: «إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ» ومنهم من يشدد، وهو أجودُ الوجهين.
وكذلك ما كان مثل أمنية، ومثل أضحية، وأغنية، ففي جمعه وجهان: التخفيف والتشديد، وإنما تشدد لأنك تريد الأفاعيل، فتكون مشددة لاجتماع الياء من جمع «4» الفعل والياء الأصلية. وإن خففت «5» حذفت ياء الجمع فخففت الياء الأصلية، وهو كما يقال: القَراقير «6» والقراقر، (فمن قال الأماني بالتخفيف) «7» فهو الَّذِي يقول القراقر، ومن شدد الأماني فهو الَّذِي يقول القراقير. والأمنية فِي المعنى التلاوة، كقول اللَّه عز وجل:
«إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» «8» أي فِي تلاوته، والأماني أيضا أن يفتعل
__________
(1) آية 63 سورة الشعراء.
(2) يعنى «منه» ليست فى ج، ش، ويبدو أنها تفسير لعبارة المؤلف من المستملي.
(3) آية 31 سورة الأحزاب. و «يقنت» حملا على لفظ «من» وبالتاء من فوق حملا على المعنى. [.....]
(4) فى أ: «جميع» يريد الحادثة فى صيغة الأفاعيل.
(5) فى ج، ش: «وإذا خففت ... » .
(6) قراقير وقراقر جمع قرقور بالضم وهى السفينة العظيمة الطويلة.
(7) فى أ: «فمن خفف الأمانى» .
(8) آية 52 سورة الحج.(1/49)
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
الرجل الأحاديث المفتعلة قال بعض العرب لابن دأب «1» وهو يحدث الناس «2» : أهذا شيء رويته أم شيء تَمنَّيته؟ يريد افتعلته، وكانت أحاديث يسمعونها من كبرائهم ليست من كتاب اللَّه «3» . وهذا أبين الوجهين.
وقوله: إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ... (80)
يقال «4» : كيف جاز فِي الكلام: لاتينك أياما معدودة، ولم يبين عددها؟ وذلك أنهم نَوَوُا الأيام التي عبدوا فيها العجل، فقالوا: لن نُعذَّب فِي النار إلا تلك الأربعين الليلة التي عبدنا فيها العجل. فقالوا: لن نُعذَّب فِي النار إلا تلك الأربعين الليلة التي عبدنا فيها العجل. فلما كان معناها مؤقتا معلوما عندهم وصفوه بمعدودة ومعدودات، فقال اللَّه: قل يا مُحَمَّد: هَلْ عندكم من اللَّه عهدٌ بهذا الَّذِي قلتم أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ.
وقوله: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ... «5» (76)
هذا من قول اليهود لبعضهم أي لا تحدثوا المسلمين بأنكم تجدون صفة مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلم فِي التوراة وأنتم لا تؤمنون به، فتكون لهم الحجة عليكم. أَفَلا تَعْقِلُونَ قال اللَّه: «أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ» هذا جوابهم من قول اللَّه.
وقوله: وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ ... (85)
إن شئت جعلت هُوَ كناية عن الإخراج وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ أي وهو محرم عليكم يريد: إخراجهم محرم عليكم، ثم أعاد الإخراج
__________
(1) ابن دأب: أبو الوليد عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب المدني، كان يضع الشعر وأحاديث السمر وكلاما ينسب إلى العرب، فسقط، وذهبت روايته. وتوفى سنة 171 هـ.
(2) زيادة فى أ.
(3) فى ج، ش: «من كتب الله» .
(4) فى أ: «فقال» .
(5) يلاحظ أن هذه الآية والتي تليها ليست على الترتيب من الآية السابقة.(1/50)
مرة أخرى تكريرا على «هُوَ» لما حال (بين «1» الإخراج وبين «هُوَ» كلام) ، فكان رفع الإخراج بالتكرير على «هُوَ» وإن شئت جعلت «هُوَ» عمادا ورفعت الإخراج بمحرم «2» كما قال اللَّه جل وعز: «وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ» «3» فالمعنى- والله أعلم- ليس بمزحزحه من العذاب التعمير فإن قلت: إن العرب إنما تجعل العماد فِي الظَّنّ لأنه ناصب، وفي «كان» و «ليس» لانهما يرفعان، وفي «إنّ» وأخواتها لانهن ينصِبْن، ولا ينبغي للواو وهي لا تنصب ولا ترفع ولا تخفض أن يكون لها عمادٌ، قلت: لم يوضع العماد على أن يكون لنصب أو لرفع أو لخفض، إنما وضع فِي كل موضع يبتدأ فِيهِ بالاسم قبل الفعل، فإذا رَأَيْت الواو فِي موضع تطلب الاسم دون الفعل صلح فِي ذلك العمادُ كقولك: أتيت زيدا وأبوه قائم، فقبيحٌ أن تقول: أتيت زيدا وقائم أَبُوهُ، وأتيت زَيْدًا ويقوم أَبُوهُ لأن الواو تطلب الأب، فلما بدأت بالفعل وإنما تطلب الْوَاوُ الاسم أدخلوا لها «هو» لأنّه اسم. قال الفرّاء «4» : سمعت بعض العرب يقول:
كَانَ مرة وهو ينفع النّاس أحسابهم «5» . وأنشدنى بعض العرب:
__________
(1) فى ش، ج: «بينهما كلام» .
(2) مراده بالعماد الضمير المسمى عند البصريين ضمير فصل، وسمى ضمير فصل لأنه فصل بين المبتدأ والخبر أو بين الخبر والنعت. ويسميه الكوفيون عمادا لأنه يعتمد عليه فى الفائدة إذ به يتبين أن الثاني خبر لا تابع. وبعض الكوفيين يسميه دعامة لأنه يدعم به الكلام أي يقوى به ويؤكد.
وقد قال النحاس: وزعم الفراء أن «هو» عماد، وهذا عند البصريين خطأ لا معنى له لأن العماد لا يكون فى أوّل الكلام.
(3) آية 96 من سورة البقرة.
(4) «قال الفراء» : ساقط من أ. [.....]
(5) هكذا المثال فى جميع الأصول.(1/51)
فأَبِلغْ أَبَا يحيى إذا ما لقيتهُ ... على العيس فِي آباطها عرق يبسُ «1»
بأن السلامي الَّذِي بضريةٍ ... أمير الحمى قد باع حقي بني عبس «2»
بِثَوْبٍ ودِينارٍ وشاةٍ ودِرهمٍ ... فَهَل هُوَ مَرفوعٌ بما هاهنا رَأْسُ
فجعل مع «هَل» العماد وهي لا ترفع ولا تنصب لأن هَلْ تطلب الأسماء أكثر من طلبها فاعلا «3» قال: وكذلك «ما» و «أما» ، تقول: ما هُوَ بذاهب أحدٌ، وأما هُوَ فذاهبٌ زَيْدُ، لقبح أمّا ذاهب فزيد.
وقوله: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً ... (81)
وضعت بَلى لكل أقرار فِي أوله جحد، ووضعت «نعم» للاستفهام الذي لا جحد فيه، ف «بَلى» بمنزلة «نعم» إلا أنها لا تكون إلا لما فِي أوله جحد قال اللَّه تبارك وتعالى: «فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ» «4» ف «بَلى» لا تصلح فى هذا الموضع. وأما الجحد فقوله: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ. قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ» «5» ولا تصلح هاهنا «نعم» أداة وذلك أن الاستفهام يحتاج إلى جواب ب «نعم» و «لا» ما لم يكن فِيهِ جحدٌ، فإذا دخل الجحد فِي الاستفهام لم يستقم أن تقول «6» فِيهِ «نعم» فتكون كأنك مقر بالجحد وبالفعل الَّذِي بعده ألا ترى أنك لو قلت لقائل قال لك: أما لك مالٌ؟ فلو قلت «نعم» كنت مقرًّا بالكلمة بطرح الاستفهام وحده، كأنك قلت «نعم» مالي مالٌ، فأرادوا أن يرجعوا عن الجحد ويقرّوا بما
__________
(1) عرق يبس: جاف.
(2) السلامى: نسبة إلى سلام: موضع بنجد. وضرية: قرية قديمة فى طريق مكة من البصرة من نجد، أو أرض بنجد ينزلها حاج البصرة. وفى البيت إقواء لأن روىّ قافية البيت الأوّل والثالث مرفوع والثاني مجرور.
(3) كذا. والوجه: فعلا، وعذره أن الفاعل حليف الفعل ورديفه. وفى الأصول: «فاعل» وكأن وجهه أن كلا يطلب الآخر، فهل تطلب الفاعل، والفاعل يطلبها، ولا يطلبها الاسم.
(4) آية 44 سورة الأعراف.
(5) آية 8، 9 سورة الملك.
(6) «أن تقول» : ساقط من ج، ش.(1/52)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
بعده فاختاروا «بَلى» «1» لأن أصلها كان رجوعا مَحْضا عن الجحد إذا قَالُوا: ما قال عَبْد اللَّه بل زيدٌ، فكانت «بل» كلمة عطف ورُجوع لا يصلح الوقوف عليها، فزادوا فيها ألفا يصلح فيها الوقوف عليه، ويكون رجوعا عن الجحد فقط، وإقرارا بالفعل الَّذِي بعد الجحد، فقالوا: «بَلى» ، فدلت «2» على معنى الإقرار والأنعام، ودّل لفظ «بل» على الرجوع عن الجحد فقط.
وقوله: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ... (83)
رفعت تَعْبُدُونَ لأن دخول «أن» يصلح فيها، فلما حذف الناصب رُفِعت، كما قال اللَّه: «أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ» «3» (قرأ الآية) «4» وكما قال:
«وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ» «5» وفي قراءة عَبْد اللَّه «وَلا تَمْنُنْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ» فهذا وجه من الرفع، فلما لم تأت بالناصب رفعت. وفي قراءة أُبيٍّ: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُوا» ومعناها الجزم بالنهي، وليست بجواب لليمين. ألا ترى أنه قد قال: «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» «6» فأمروا، والأمر لا يكون جوابا لليمين لا يكون فِي الكلام أن تقول: والله قم، ولا أن تقول: والله لا تقم. ويدل على أنه نهى وجزمٌ أنه قال: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً كما تقول: افعلوا ولا تفعلوا، أو لا تفعلوا وافعلوا. وإن شئت جعلت
__________
(1) هذا على رأى من يقول: إن أصل «بلى» . «بل» والألف فى آخرها زائدة للوقف، فلذا كانت للرجوع بعد النفي، كما كانت للرجوع عند الجحد فى: ما قام زيد بل عمرو، وقال قوم: إن «بلى» أصل الألف.
(2) أي الألف.
(3) آية 64 سورة الزمر.
(4) أي قرأ الفرّاء الآية كلها، وهذا من المستملي. وسقط هذا فى ش، ج.
(5) آية 6 سورة المدثر.
(6) آية 63 من سورة البقرة.(1/53)
«لا تَعْبُدُونَ» جوابا لليمين لأن أخذ الميثاق يمينٌ، فتقول: لا يعبدون، ولا تعبدون، والمعنى واحد. وإنما جاز أن تقول لا يعبدون ولا تعبدون وهم غيب كما قال: «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سيغلبون» «1» و «سَتُغْلَبُونَ» بالياء والتاء «سَيُغْلَبُون» بالياء على لفظ الغيب، والتاء على المعنى لأنه إذا أتاهم أو لقيهم صاروا مخاطبين «2» . وكذلك قولك: استحلفت عَبْد اللَّه ليقومن لغيبته، واستحلفتُه لتقومن (لاني) «3» قد كنت خاطبته. ويجوز فِي هذا استحلفت عَبْد اللَّه لأقومن أي قلت له: احلف لأقومن، كقولك: قُلْ لأقومن «4» . فإذا قلت: استحلفت فأوقعت فعلك على مستحلفٍ جاز فعلُه أن يكون بالياء والتاء والألف، وَإِذَا كان هُوَ حالفا وليس معه مستحلف كان بالياء وبالألف ولم يكن بالتاء من ذلك حلف عَبْد اللَّه ليقومن فلم يقم، وحلف عَبْد اللَّه لأقومن لأنه كقولك قال لأقومن، ولم يجز بالتاء لأنه لا يكون مخاطبا لنفسه لأن التاء لا تكون إلا لرجل تخاطبه، فلما لم يكن مستحلف سقط الخطاب.
وقوله: «قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ» «5» فيها ثلاثة أوجه: «لتبيّتنّه» و «ليبيّتنّه» و «لَنُبَيِّتَنَّهُ» بالتاء والياء والنون. إذا جعلت «تَقاسَمُوا» على وجه فعلوا «6» ، فإذا جعلتها فِي موضع جزمٍ «7» قلت: تقاسموا لتبيتنه ولنبيتنه، ولم يجز بالياء، ألا ترى أنك تقول للرجل: احلف لتقومن، أو احلف لأقومن، كما تقول: قل لأقومن. ولا يجوز أن تقول للرجل احلف ليقومن، فيصير كأنه لآخر، فهذا ما فِي اليمين.
__________
(1) آية 12 سورة آل عمران. [.....]
(2) فى أ: «الذي تلقاهم به فصاروا مخاطبين» .
(3) كذا فى الأصول، وفى الطبري: «لأنك» ولكل وجه.
(4) وجدت العبارة الآتية بهامش نسخة (أ) ولم يشر إلى موضعها: «ولا يجوز احلف لأقومنّ، ولكن احلف لتقومنّ، وقل لأقومنّ» .
(5) آية 49 سورة النمل.
(6) أي فعلا ماضيا فى معنى الحال كأنه قال: قالوا متقاسمين بالله.
(7) أي فعل أمر أي قال بعضهم لبعض احلفوا.(1/54)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
وقوله: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ ... (89)
[إن شئت] رفعت المصدق ونويت أن يكون نعتًا للكتاب لأنه نكرة، ولو نصبته على أن تجعل المصدق فعلا للكتاب لكان صوابا «1» . وفي قراءة عَبْد اللَّه فِي آل عِمْرَانَ: «ثُمَّ جاءكم رسول مصدقا» «2» فجعله فعلا. وإذا كانت النكرة قد وصلت بشيء سوى نعتها ثُمَّ جاء النعت، فالنصب على الفعل أمكن منه إذا كانت نكرة غير موصولةٍ، وذلك لأن صلة النكرة تصير كالموقته لها، ألا ترى أنك إذا قلت: مررت برجل فِي دارك، أو بعبدٍ لك فِي دارك، فكأنك قلت: بعبدك أو بساس دابتك، فقس على هذا وقد قال بعض الشعراء:
لو كان حَيٌّ ناجيًا لَنَجا ... من يومه المزلم الأعصم «3»
فنصب ولم يصل النكرة بشيء وهو جائز. فأما قوله: «وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا» «4» فإن نصب اللسان على وجهين أحدهما أن تضمر شيئًا يقع عليه المصدق، كأنك قلت: وهذا يصدّق التوراة والإنجيل «لِساناً عَرَبِيًّا» (لأن التوراة والإنجيل لم يكونا عربيين) «5» فصار اللسان العربي «6» مفسرا. وأما الْوَجْهُ الآخر فعلى ما فسّرت «7»
__________
(1) يريد المؤلف أنه حال من كتاب، وجاز ذلك لأنه قد تخصص بالوصف فقرب من المعرفة.
وفى ج، ش: «لأنه نعت للكتاب وهما جميعا نكرتان كان صوابا» .
(2) «مصدقا» بالنصب قراءة شاذة، وحسن نصبه على الحال من النكرة كونها فى قوّة المعرفة من حيث أريد بها شخص معين، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
(3) البيت من قصيدة طويلة للمرقش الأكبر، وهو عوف بن سعد بن مالك شاعر جاهلى قالها فى مرثية عم له. والمزلم: الوعل، وزلمتا العنز زنمتاها، والزلمة تكون للمعز فى حلوقها متعلقة كالقرط، وإن كانت فى الأذن فهى زنمة. والأعصم من الظباء والوعول ما فى ذراعيه أو فى أحدهما بياض.
(4) آية 12 سورة الأحقاف.
(5) فى أ: «لأن التوراة لم تكن عربية، ولا الإنجيل» .
(6) سقط فى أ.
(7) فى ج. وش: «وصفت» .(1/55)
لك، لما وصلت الكتاب بالمصدق أخرجت «لسانا» مما فِي «مصدق» من الراجع من ذكره «1» . ولو كان اللسان مرفوعا لكان صوابًا على أنه نعتٌ وإن طال.
وقوله: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ... (90)
معناه- والله أعلم- باعوا به أنفسهم. وللعرب فِي شروا واشتروا مذهبان، فالأكثر منهما أن يكون شروا: باعوا، واشتروا: ابتاعوا، وربما جعلوهما جميعا فِي معنى باعوا، وكذلك البيع يقال: بعت الثوب. على معنى أَخْرَجَتهُ من يدي، وبعته: اشتريته، وهذه اللغة فِي تميم وربيعة. سمعت أَبَا ثروان يقول لرجل: بع لي تمرا بدرهم. يريد اشتر لي وأنشدني بعض ربيعة «2» :
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له ... بتاتًا ولم تضرب له وقت موعدٍ
على معنى لم تشتر له بتاتا قال الفراء: والبتات الزاد. وقوله: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا «أن يكفروا» فِي موضع خفض ورفع فأما الخفض فأن ترده على الهاء التي فِي «به» على التكرير على كلامين «3» كأنك قلت أشتروا أنفسهم بالكفر «4» . وأما الرفع فأن يكون مكرورا أيضا على موضع «ما» التي تلى «بئس «5» » .
ولا يجوز أن يكون رفعًا على قولك بئس الرجل عَبْد اللَّه، وكان الكسائي يقول ذلك «6» قال الفراء: وبئس لا يليها مرفوعٌ موقّت ولا منصوب موقّت، ولها
__________
(1) يريد أن (لسانا) حال من المضمر الذي فى مصدق. [.....]
(2) البيت لطرفة من معلقته.
(3) فى نسخة (أ) على كلامهم.
(4) يريد أن المصدر من أن والفعل فى محل جر بدل من الهاء فى «به» والبدل على نية تكرار العامل.
(5) وجه الرفع أن يكون المصدر فى محل رفع على أنه المخصوص بالذم، وفى الآية أعاريب أخرى فى كتب التفسير.
(6) الكسائي يقول:
«ما» و «اشتروا» بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه، والتقدير: بئس اشتراؤهم أن يكفروا. وهذا مردود فإن «نعم» و «بئس» لا يدخلان على اسم معين معروف، والشراء قد تعرف بإضافته إلى الضمير.(1/56)
وجهان فإذا وصلتها بنكرة قد تكون معرفة بحدوث ألفٍ ولام فيها نصبت تلك النكرة، كقولك: بئس رجلا عمرو، ونعم رجلا عمرو، وإذا أوليتها معرفة فلتكن غير موقتة، فِي سبيل النكرة، ألا ترى أنك ترفع فتقول: نعم الرجل عمرو «1» ، وبئس الرجل عمرو «2» ، فإن أضفت النكرة إلى نكرة رفعت ونصبت، كقولك: نعم غلام سفر زَيْدُ، وغلام سفر زَيْدُ وإن أضفت إلى المعرفة شيئا رفعت، فقلت: نعم سائس الخيل زَيْدُ، ولا يجوز النصب إلا أن يضطر إليه شاعر، لانهم حين أضافوا إلى النكرة رفعوا، فهم إذا أضافوا إلى المعرفة أحرى ألا ينصبوا. وإذا أوليت نعم وبئس من النكرات ما لا يكون معرفة مثل «مثل» و «أى» كان الكلام فاسدًا خطأ أن تقول: نعم مثلك زَيْدُ، ونعم أي رَجُل زَيْدُ لأن هذين لا يكونان مفسرين «3» ، ألا ترى أنك لا تقول: [لله] «4» درك من أي رجل، كما تقول: لله درك من رَجُل، ولا يصلح أن تولي نعم وبئس «الَّذِي» ولا «من» ولا «ما» إلا أن تنوي بهما الاكتفاء «5» دون أن يأتي بعد ذلك اسم مرفوع «6» . من ذلك قولك: بئسما صنعت، فهذه مكتفية، وساء ما صنعت. ولا يجوز ساء ما صنيعك. وقد أجازه الكسائي فِي كتابه على هذا المذهب. قال الفراء: ولا نعرف ما جهته، وقال «7» : أرادت العرب أن تجعل «ما» بمنزلة الرجل حرفا تاما، ثُمَّ أضمروا لصنعت «ما» كأنه قال: بئسما ما صنعت، فهذا قوله وأنا لا أجيزه. فإذا جعلت «نعم» (صلة لما) «8» بمنزلة قولك «كلما» و «إنما» كانت بمنزلة «حبذا» فرفعت بها الأسماء من ذلك قول اللَّه عز وجل:
«إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ» رفعت «هِيَ» ب «نعما» ولا تأنيث فِي «نعم»
__________
(1، 2) فى أ: «عبد الله» .
(3) لاشتراط النحاة فى فاعل نعم وبئس أن يكون غير متوغل فى الإبهام بخلاف نحو «غير» و «مثل» و «أي» .
(4) زيادة يقتضيها المثال.
(5) أي الاستغناء عن المخصوص. وهذا إذا كان هذان اللفظان موصولين بما يوصل به الذي.
(6) أي مخصوص.
(7) أي الكسائىّ.
(8) كذا فى الأصول. والوجه فى العبارة:
«موصولة بما» أو «جعلت ما صلة نعم» كما سيأتى له. وقد ركب الفراء متن التسامح فى هذا.(1/57)
ولا تثنية إذا جعلت «ما» صلة لها فتصير «ما» مع «نعم» بمنزلة «ذا» من «1» «حبذا» ألا ترى أن «حبذا» لا يدخلها تأنيث ولا جمعٌ. ولو جعلت «ما» على جهة الحشو «2» كما تقول: عما قليل آتيك، جاز فِيهِ التأنيث والجمع، فقلت: بئسما رجلين أنتما، وبئست ما جارية جاريتك. وسمعت العرب تقول فِي «نعم» المكتفية بما: بئسما «3» تزويج ولا مهر، فيرفعون التزويج ب «بِئْسَمَا» .
وقوله: بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ... (90)
موضع «أن» جزاء، وكان الكسائي يقول فِي «أن» : هِيَ فِي موضع خفض، وأنما هِيَ جزاءٌ «4» .
إذا كان الجزاء لم يقع عليه شيء قبله (وكان) «5» ينوى بها الاستقبال كسرت «إن» وجزمت بها فقلت: أكرمك إن تأتني. فإن كانت ماضية قلت: أكرمك أن تأتيني. وأبين من ذلك أن تقول: أكرمك أن أتيتني كذلك قال الشاعر:
أتجزع أن بان الخليط المودّع ... وحبل الصفا من عزّة المتقطع
يريد أتجزع بأن، أو لأن كان ذلك. ولو أراد الاستقبال ومحض الجزاء لكسر «إن» وجزم بها، كقول اللَّه جل ثناؤه: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا» «6» فقرأها القراء بالكسر، ولو قرئت بفتح «أن» على معنى [إذ لم يؤمنوا «7» ] ولأن لم يؤمنوا، ومن أن لم يؤمنوا [لكان صوابا] «8» وتأويلُ «أن» فِي موضع نصب، لأنها إنما كانت «9» أداة بمنزلة «إذ» فهي فِي موضع نصب إذا ألقيت الخافض وتمّ
__________
(1) فى ش، ج: «مع» .
(2) يريد بالحشو أنها زائدة غير كافة عن العمل. [.....]
(3) يريد رفع التزويج ببئس، و «ما» لا موضع لها لتركيبها مع بئس تركيب «ذا» مع «حب» .
(4) فى ش، ج بعد هذا زيادة: «فى قول الفراء» .
(5) فى أ: «فكان» .
(6) آية 6 سورة الكهف.
(7) ساقط من أ.
(8) زيادة تقتضيها العبارة.
(9) فى ج، ش: «إنما أداة إلخ» . وكتب فى ش فوق السطر «هى» بين «إنما» و «أداة» .(1/58)
ما قبلها، فإذا جعلت لها الفعل أو أوقعته عليها أو أحدثت لها خافضا فهي فِي موضع ما يصيبها من الرفع والنصب والخفض «1» .
وقوله: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ... (89)
وقبلها «وَلَمَّا» وليس للأولى جوابٌ، فإن الأولى صار جوابها كأنه فِي الفاء التي فِي الثانية، وصارت كَفَرُوا بِهِ كافية من جوابهما جميعا. ومثله فِي الكلام:
ما هُوَ إلا أن أتاني عَبْد اللَّه فلما قعد أوسعت له وأكرمته. ومثله قوله: «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ» فى البقرة «2» «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ» فى «طه» «3» اكتفى بجوابٍ واحد لهما جميعا «4» «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» فِي البقرة «فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى» فِي «طه» . وصارت الفاء فِي قوله «فَمَنْ تَبِعَ» كأنها جواب ل «فإما» ، ألا ترى أن الواو لا تصلحُ فِي موضع الفاء، فذلك دليل على أن الفاء جواب وليست بنَسَقٍ «5» .
وقوله: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) يقول القائل: هَلْ كان لهم قليل من الإيمَان أو كثير؟ ففيه وجهان من العربية: أحدهما- ألا يكونوا آمنوا قليلا ولا كثيرا. ومثله مما تقوله العرب بالقلة على أن ينفوا الفعل كله قولهم: قل ما رأيتُ مثل هذا قط. وحكي الكسائي عن العرب: مررتُ بِبلادٍ قل ما تُنبت إلا البصل والكرّاث. أي ما تنبت
__________
(1) راجع الطبري فى تفسير قوله تعالى: «أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ» سورة «الزخرف» ففيه الكلام على فتح همزة «إن» وكسرها.
(2) آية 38 من السورة المذكورة.
(3) آية 123 من السورة المذكورة.
(4) زيادة فى أ.
(5) فى جواب «لما» وجه آخر انظره فى تفسير الطبري.(1/59)
إلا هذين. وكذلك قول العرب: ما أكاد أَبرحُ منزلي وليس يبرحه وقد يكون أن يبرحه قليلا. والوجه الآخر- أن يكونوا يصدقون بالشيء قليلا ويكفرون بما سواه: بالنبي صلى اللَّه عليه وسلم فيكونون كافرين وذلك أنه يقال: من خلقكم؟
ومن رزقكم؟ فيقولون: اللَّه تبارك وتعالى، ويكفرون بما سواه: بالنبي صلى اللَّه عليه وسلّم وبآيات اللَّه، فذلك قوله: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ. وكذلك قال المفسرون فِي قول اللَّه: «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» «1» على هذا التفسير.
وقوله: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ... (90)
لا يكون باؤ مفردة حَتَّى توصل بالباء. فيقال: باء بإثم يبوء بوءا.
وقوله بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ أن اللَّه غضب على اليهود فِي قولهم: «يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ» «2» . ثُمَّ غضب عليهم فِي تكذيب مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلّم حين دخل المدينة، فذلك قوله: «فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ» .
وقوله: وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ ... (91)
يريد سواه، وذلك كثير فِي العربية أن يتكلم الرجلُ بالكلام الْحَسَن فيقول السامع: ليس وراء هذا الكلام شيءٌ، أي ليس عنده شيءٌ سواه.
وقوله: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ ... (91)
يقول القائل: إنما «تَقْتُلُونَ» للمستقبل فكيف قال: «مِنْ قَبْلُ» ؟ ونحن لا نجيز فِي الكلام أَنَا أضربك أمس، وذلك جائز إذا أردت بتفعلون الماضي،
__________
(1) آية 106 سورة يوسف.
(2) . 64 سورة المائدة. [.....](1/60)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)
ألا ترى أنك تعنف الرجل بما سلف من فعله فتقول: ويحك لم تكذب! لم تبغض نفسك إلى الناس! ومثله قول اللَّه: «وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ» «1» .
ولم يقل ما تلت الشياطين، وذلك عربي كثير فِي الكلام أنشدني بعض العرب:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ... ولم تجدي من أَنْ تُقِرِّي بها «2» بُدًّا
فالجزاء للمستقبل، والولادة كلها قد مضت، وذلك أن المعنى معروف ومثله فِي الكلام: إذا نظرت فِي سير «3» عمر رحمه الله لم يسىء المعنى لم تجده أساء فلما كان أمر عُمَر لا يشك فِي مضيه لم يقع فِي الوهم أنه مستقبل فلذلك صلحت «مِنْ قَبْلُ» . مع قوله: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ وليس الذين خوطبوا بالقتل هُمُ القتلة، إنما قتل الأنبياء أسلافهم الذين مضوا فتولوهم على ذلك ورضوا به فنسب القتل إليهم.
وقوله «4» : سَمِعْنا وَعَصَيْنا ... (93)
معناه سمعنا قولك وعصينا «5» أمرك.
وقوله: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ... (93)
فإنه أراد: حب العجل، ومثل هذا مما تحذفه العرب كثير قال الله:
«وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها» «6» والمعنى سل أهل القرية وأهل العير وأنشدني المفضّل:
__________
(1) . 102 سورة البقرة.
(2) فى تفسير الطبري وفى المغني «به» أي بهذا الكلام، وهو لم تلدنى لئيمة. وقائله زائد بن صعصعة الفقعسي يعرض بزوجته وكانت أمها سرية وقبله:
رمتنى عن قوس العدوّ وباعدت ... عبيدة زاد الله ما بيننا بعدا
(مغنى اللبيب ج 1: 25) .
(3) فى ج، ش: سيرة.
(4) فى ج، ش:
«وأما قوله» .
(5) فى ش، ج: «ولكن عصينا» .
(6) آية 82 سورة يوسف.(1/61)
حَسِبْتَ بُغَامَ راحِلَتي عَنَاقًا ... وما هِيَ وَيْبَ غيرك بالعناق «1»
ومعناه «2» : بغام عناق ومثله من كتاب اللَّه: «وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ» معناه والله أعلم: ولكن البر «3» برُّ من فعل هذه الأفاعيل التي وصف اللَّه. والعرب قد تقول: إذا سرك أن تنظر إلى السخاء فانظر إلى هرم أو إلى حاتم.
وأنشدني بعضهم «4» :
يَقُولون جاهِدْ يا جَمِيلُ بغَزْوَةٍ ... وإنّ جهادا طىّء وقتالها
يجزىء ذكر الاسم من فعله «5» إذا كان معروفا بسخاء أو شجاعة وأشباه ذلك.
وقوله: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ... (94)
يقول: إن كان الأمر على ما تقولون من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهوديا أو نصرانيا فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فأبوا، وذلك أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: (والله لا يقوله أحد إلا غص بريقه) «6» . ثُمَّ إنه وصفهم فقال: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا معناه والله أعلم: وأحرص من الذين أشركوا على الحياة. ومثله أن تقول: هذا أسخى
__________
(1) البيت من أبيات لذى الخرق الطهوىّ يخاطب ذئبا تبعه فى طريقه، وقبله:
ألم تعجب لذئب بات يسرى ... ليؤذن صاحبا له باللحاق
و «ويب» كلمة مثل «وبل» تقول: ويبك وويب زيد كما تقول ويلك معناه: ألزمك الله ويلا نصب نصب المصادر. فإن جئت باللام رفعت، قلت: ويب لزيد ونصبت منونا فقلت ويبا لزيد.
وبغام الناقة صوت لا تفصح به. والعناق: الأنثى من المعز.
(2) فى ج، ش: «أراد بغام راحلتى بغام عناق إلخ» .
(3) «معناه والله أعلم ولكن البر» ساقط من ج، ش.
(4) فى ج، ش: بعض العرب.
(5) فى الطبري: «من ذكر فعله» .
(6) هكذا نص الحديث فى كل الأصول، ورواية البيهقىّ عن ابن عباس مرفوعا: (لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه) ولهذا الحديث روايات أخرى تطلب من مظانها.(1/62)
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
الناس ومن هرم. لأن التأويل للأول هُوَ أسخى من الناس ومن هرم ثُمَّ إنه وصف المجوس فقال: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وذلك أن تحيتهم فيما بينهم: (زِهُ «1» هَزَارْ سَالْ) . فهذا تفسيره: عش ألف «2» سنة.
وأما قوله: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ، ... (97)
[يعنى القرآن] «3» عَلى قَلْبِكَ [هذا أمر] «4» أمر اللَّه به محمدا صلى الله عليه وسلّم فقال: قل لهم لما قالوا عدوّنا جبريل وأخبره اللَّه بذلك، فقال: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ يعني قلب مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلم، فلو كان فِي هذا الموضع «على قلبي» وهو يعني محمدًا صلى اللَّه عليه وسلم لكان صوابا. ومثله فِي الكلام: لا تقل للقوم إن الخير عندي، وعندك أما عندك فجاز لأنه كالخطاب، وأما عندي فهو قول المتكلم بعينه. يأتي هذا من تأويل قوله:
«سَتُغْلَبُونَ» و «سَيَغْلِبُونَ» «5» بالتاء والياء.
وقوله: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ... (102)
(كما تقول فِي ملك سُلَيْمَان) «6» . تصلح «فِي» و «على» فِي مثل هذا الموضع تقول: أتيته فِي عهد سليمان وعلى عهده سواء.
__________
(1) زه معناها فى العربية: عش، وهزار معناها: ألف، وسال معناها: سنة.
(2) فى تفسير الطبري: عن ابن عباس فى قوله «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» قال هو قول الأعاجم: سال زه نوروز مهرجان، وعن ابن جبير قال: هو قول أهل الشرك بعضهم لبعض إذا عطس:
زه هزار سال. [.....]
(3) ساقط من أ.
(4) ساقط من أ.
(5) آية 12 سورة آل عمران، والقراءة بياء الغيبة أي بلغهم أنهم سيغلبون، وبتاء الخطاب أي قل لهم فى خطابك إياهم ستغلبون.
(6) سقط ما بين القوسين فى أ.(1/63)
وقوله: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ... (102)
القراء يقرءون «الْمَلَكَيْنِ» من الملائكة. وكان ابن عَبَّاس يقول:
«الْمَلَكَيْنِ» من الملوك.
وقوله: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ ... (102)
أما السحر فِمن عمل الشياطين، فيتعلمون من الملكين كلاما إذا قيل أخذ «1» به الرجل عن امرأته. ثُمَّ قال: ومن قول الملكين إذا تعلم منهما ذلك: لا تكفر.
إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ، فَيَتَعَلَّمُونَ ليست بجواب لقوله: وَما يُعَلِّمانِ إنما هى مردودة على قوله: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فيتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم فهذا وجه. ويكون «فَيَتَعَلَّمُونَ» متصلة بقوله: «إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ» فيأبون فيتعلمون ما يضرهم، وكأنه أجود الوجهين فِي العربية «2» . والله أعلم.
وقوله: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ... (106)
أو ننسئها- أَوْ نُنْسِها عامة القراء يجعلونه من النسيان، وفي قراءة عَبْد اللَّه: / «مَا ننسك من آية أو ننسخها نجىء بمثلها أو خير منها» وَفِي قراءة سالم مَوْلَى أبي حُذَيْفة: «ما ننسخ من آية أو ننسكها» ، فهذا يقوي النسيان.
والنسخ أن يعمل بالآية ثُمَّ تنزل الأخرى فيعمل بها وتترك الأولى. والنسيان هاهنا على وجهين: أحدهما- على الترك نتركها فلا ننسخها كما قال اللَّه جل ذكره:
«نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ» «3» يريد تركوه فتركهم. والوجه الآخر- من النسيان الذي
__________
(1) أخذ (بتشديد الخاء) : حبس ومنع. وقد أخذت الساحرة الرجل تأخيذا.
(2) لعل الوجه الأوّل هو ما أشار إليه المؤلف أوّلا، وهو عطف «فيتعلمون» على موضع «ما يعلمان» وقد أجازه بعضهم لأن قوله: «وما يعلمان» وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الإيجاب فى التعليم. وهناك أعاريب أخرى.
(3) آية 67 سورة التوبة.(1/64)
ينسى، كما قال اللَّه: «وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ» «1» وكان بعضهم يقرأ: «أَوْ نَنْسَأْهَا» يهمز يريد نؤخرها من النسيئة وكل حسن. حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: «2» وَحَدَّثَنِي قَيْسٌ «3» عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بإسناد برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا يَقْرَأُ فَقَالَ: (يَرْحَمُ اللَّهُ هَذَا، هَذَا أَذْكَرَنِي آيَاتٍ قَدْ كُنْتُ أُنِسِيتَهُنَّ) .
وقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ... (102)
من فِي موضع رفع وهي جزاء «4» لأن العرب «5» إذا أحدثت على الجزاء هذه اللام صيّروا فعله على جهة فعل. ولا يكادون يجعلونه على يفعل كراهة أن يحدث على الجزاء حادث وهو مجزوم ألا ترى أنهم يقولون: سل عما شئت، وتقول: لا آتيك ما عشت، ولا يقولون ما تعش لأن «ما» فِي تأويل جزاء
__________
(1) آية 24 سورة الكهف.
(2) فى ج، ش: «قال حدثنا قيس» .
(3) هو قيس ابن الربيع الأسدىّ الكوفىّ. مات سنة 165 هـ. وانظر الخلاصة والتهذيب وتاريخ بغداد.
(4) «ولقد علموا لمن اشتراه ما له فى الآخرة من خلاق» اللام للقسم و «من» اسم موصول مبتدأ وجملة «اشتراه» صلة الموصول، وجملة «ما له فى الآخرة من خلاق» مبتدأ وخبر، و «من» زائدة فى المبتدأ «خلاق» للتوكيد، و «فى الآخرة» متعلق بمحذوف حال منه، ولو أخر عنه لكان صفة له، وهذه الجملة فى محل رفع خبر المبتدأ «من» والجملة كلها «لمن اشتراه ما له فى الآخرة من خلاق» فى محل نصب سادة مسدّ مفعولى «علموا» . هذا هو الظاهر عند النحويين وقال الفرّاء: إن «من» أداة شرط مبتدأ، واللام فى «لمن» موطئة للقسم.
والمشهور أن اللام الداخلة على «قد» فى مثل الآية إنما هى لام القسم، أما اللام الداخلة على أداة الشرط فهى للإيذان بأن الجواب بعدها مرتب على قسم قبلها لا على الشرط، ولذلك تسمى اللام المؤذنة، وتسمى الموطئة أيضا لأنها وطأت الجواب للقسم أي مهدته له. وحيث أغنى جواب القسم عن جواب الشرط لزم كون فعل الشرط ماضيا ولو معنى كالمضارع المنفي بلم غالبا- هذا- وقد يغنى عن القسم جوابه لدليل يدل عليه كما إذا وقع بعد «لقد» أو بعد «لئن» نحو «ولقد صدقكم الله وعده» و «لئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون» . وراجع إعراب الآية فى تفسير الطبري.
(5) فى ج، ش: «إلا أن العرب» .(1/65)
وقد وقع ما قبلها عليها، فصرفوا الفعل إلى فعل لأن الحزم لا يستبين فِي فعل، فصيروا حدوث اللام- وإن كانت لا تُعِّرب شيئًا- كالذي يُعَرِّب، ثُمَّ صيروا جواب الجزاء بما تُلْقي به اليمين- يريد تستقبل به- إما بلامٍ، وإما ب «لا» ، وإما «إن» وإمّا ب «ما» فتقول فِي «ما» : لئن أتيتني ما ذلك لك بضائع، وفي «إن» : لئن أتيتني إن ذلك لمشكور لك- قال الفراء: لا يكتب لئن إلا بالياء ليفرق بينها وبين لأن «1» - وفي «لا» : «لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ» «2» وفى اللام «وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ» «3» وإنما صيروا جواب الجزاء كجواب اليمين لأن اللام التي دخلت فِي قوله: «وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ» وفي قوله:
«لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ» «4» وفى قوله: «لَئِنْ أُخْرِجُوا» إنما هِيَ لام اليمين كان موضعها فِي آخر الكلام فلما صارت فِي أوله صارت كاليمين، فلقُيت بما يُلْقَى به اليمين، وإن أظهرت الفعل بعدها على يفعل جاز ذلك وجزمته فقلت: لئن تقم لا يقم إليك، وقال الشاعر «5» :
لئن تَكُ قد ضاقْت عليكم بيوتُكم ... ليعلم ربّى أنّ بيتي واسع
__________
(1) ما بين الخطين ساقط من ج، ش.
(2، 3) آية 12 سورة الحشر. [.....]
(4) آية 81 من سورة آل عمران: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ» اللام للابتداء وتوكيد معنى القسم الذي فى ضمن أخذ الميثاق، وجواب القسم جملة «لتؤمنن به» و «ما» جعلها الفراء شرطية، والأولى أن تكون موصولا مبتدأ خبره محذوف. وقال العكبري: وفى الخبر وجهان أحدهما أنه «من كتاب وحكمة» أي الذي أوتيتموه من الكتاب، والنكرة هنا كالمعرفة. والثاني أن الخبر جملة القسم المحذوف وجوابه الذي هو جملة «لتؤمنن به» . وراجع السمين والزمخشري فى الآية.
(5) البيت للكميت بن معروف، وهو شاعر مخضرم، والشاهد فيه أن فعل الشرط المحذوف جوابه قد جاء مضارعا فى ضرورة الشعر، والقياس «لئن كانت» . وفيه شاهد آخر وهو أن المضارع الواقع جوابا للقسم إن كان للحال لا للمستقبل وجب الاكتفاء فيه باللام، وامتنع توكيده بالنون كما هنا فإن المعنى: ليعلم الآن ربى.(1/66)
وأنشدني بعضُ «1» بني عقيل:
لئِن كَانَ ما حُدِّثْتُهُ اليومَ صادِقًا ... أَصُمْ فِي نهار الْقَيْظِ للشَّمسِ بادِيَا
وأَرْكَبْ حمارًا بين سرجٍ وفروةٍ ... وأعْرِ من الخاتام صُغْرَى شماليا «2»
فألقى جواب اليمين من الفعل، وكان الوجه فِي الكلام أن يقول: لئن كان كذا لاتينك، وتوهم إلغاء اللام كما قال الآخر «3» :
فَلا يَدْعُنِي قَوْمِي صَرِيحًا لِحُرَّةٍ ... لئنْ كُنتُ مقتولا ويَسْلَمُ عامِرُ
فاللام فِي «لئن» ملغاة، ولكنها كثرت فِي الكلام حَتَّى صارت بمنزلة «4» «إن» ، ألا ترى أن الشاعر قد قال:
فَلئِنْ قومٌ أصابُوا غِرَّةً ... وأَصَبْنا من زمانٍ رَقَقَا «5»
لَلَقدْ كانوا لدى أزماننا ... لصنيعين لبأس وتقى «6»
__________
(1) يريد امرأة منهم. ويقول الفراء فى سورة الإسراء فى هذين البيتين: «وأنشدتنى امرأة عقيلية فصيحة» .
(2) الشاهد أنه جاء الفعل «أصم» جوابا مجزوما لإن الشرطية بعد تقدم القسم المشعر به اللام الموطئة، وهو قليل فى الشعر. وقيل إن اللام زائدة. و «ما» عبارة عن الكلام. والقيظ:
شدة الحر. والبادي: البارز. وركوب الحمار بين الفروة والسرج هيئة من يندد به ويفضح بين الناس.
وأعر: مضارع أعراه أي جعله عاريا. والخاتام لغة فى الخاتم. وصغرى الشمال خنصرها فإن الخاتم يكون زينة للشمال، واليمين لها فضيلة اليمين. يقول: إن كان ما نقل لك عنى من الحديث صحيحا فجعلنى الله صائما فى تلك الصفة الشاقة، وأركبنى حمارا للخزى والفضيحة وجعل شمالى عارية من حسنها وزينتها بقطعها.
(خزانة الأدب ج 4: 538) .
(3) قائله قيس بن زهير العبسي، وتقدير البيت: لئن قتلت و «عامر» سالم من القتل فلست بصريح النسب حر الأم وأراد عامر بن الطفيل. و «يسلم» على القطع والاستئناف، ولو نصب بإضمار «أن» لأن ما قبله من الشرط غير واجب لجاز. (هامش سيبويه ج 1: 427) .
وقال ابن مالك: وقد يستغنى بعد «لئن» عن جواب لتقدم ما يدل عليه فيحكم بأن اللام زائدة، فمن ذلك قول عمر بن أبى ربيعة:
ألمم بزينب إن البين قد أفدا ... قل الثواء لئن كان الرحيل غدا
ومثله: فلا يدعنى قوم ... البيت. وقال فى شرح الكافية: لا قسم فى مثل هذه الصورة، فلا يكون إلا شرط.
(4) فى ج، ش: «كأنها» .
(5) «غرة» فى شعراء ابن قتيبة 1/ 47:
«عزة» . الرقق: رقة الطعام وقلته، وفى ماله رقق أي قلة، وذكره القراء بالنفي فقال: يقال ما فى ماله رقق، أي قلة.
(6) كذا. والمعنى غير واضح. وقد يكون الأصل: للقد أ ... ...(1/67)
فأدخل على «لقد» لا ما أخرى لكثرة ما تلزم العرب اللام فِي «لقد» حَتَّى صارت كأنها منها. وأنشدني بعض بْني أسد:
لددتهم النصيحة كل لَدٍّ ... فمجوا النصح ثُمَّ ثنوا فقاءوا
فلا والله لا يلفى لما بي ... ولا للمابهم أبدًا دَواءُ «1»
ومثله قول الشاعر:
كما ما امرؤ في معشر غير رهطه ... ضعيف الكلام شخصه متضائل
قال: «كما» ثُمَّ زاد معها «ما» أخرى لكثرة «كما» فِي الكلام فصارت كأنها منها. وقال الأعشى:
لَئِنْ مُنِيتَ بِنا عَن غِبِّ مَعْرَكةٍ ... لا تُلْفِنَا مِن دِماءِ القومِ نَنْتَفِلُ «2»
فجزم «لا تلفنا» والوجه الرفع كما قال اللَّه: «لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ» «3» ولكنه لما جاء بعد حرفٍ يُنْوى به الجزمُ صُيِّر جزما جوابا للمجزوم وهو فِي معنى رفع. وأنشدني القاسم بْن مَعْنٍ (عن العرب) «4» :
__________
(1) البيتان من قصيدة طويلة لمسلم بن معبد الوالبي. والشاهد فى قوله: «للما» حيث كررت فيه اللام للتأكيد وهى حرف واحد بدون ذكر مجرور الأولى، وهو على غاية الشذوذ والقلة، والقياس (لما بهم لما بهم) . ولددتهم هنا بمعنى ألزمتهم يقول: ألزمتهم النصيحة كل الإلزام فلم يقبلوا، ولا يوجد شفاء لما بي من الكدر ولا لما بهم من داء الحسد. ويروى عجز البيت:
وما بهم من البلوى دواء وانظر الخزانة 1/ 364.
(2) منيت: أي بليت وقدر لك. و «عن غب معركة» «عن» بمعنى بعد، والغب: العاقبة.
وانتقل من الشيء: انتفى منه وتنضل. والشاهد فى البيت أن الشرط قد يجاب مع تقدم القسم عليه، وهو قليل خاص بالشعر.
وقال ابن هشام: إن اللام فى «لئن» زائدة وليست موطئة كما زعم الفراء.
(3) . 12 آية سورة الحشر.
(4) سقط فى أ.(1/68)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
حلفت له إن تدلج الليل لا يزل ... أمامك بيت من بيوتى سائر «1»
والمعنى حلفت له لا يزال أمامك بيتٌ، فلما جاء بعد المجزوم صير جوابا للجزم. ومثله فِي العربية: آتيك كى (إن تحدّثنى «2» بحديث أسمعه منك، فلما جاء بعد المجزوم جزم) .
وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا ... (104)
هُوَ «3» من الارعاء والمراعاة، (وفي) «4» قراءة عَبْد اللَّه «لا تقولوا راعُونا» وذلك أنها كلمة باليهودية شتم، فلما سمعت اليهود أصحاب مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلم يقولون:
يا نبي اللَّه راعنا «5» ، اغتنموها فقالوا: قد كُنَّا نسبه فِي أنفسنا فنحن الآن قد أمكننا أن نظهر له السَّبَّ، فجعلوا يقولون لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: راعِنا، ويضحك بعضهم إلى بعض، ففطن لها رَجُل «6» من الأنصار، فقال لهم: والله لا يتكلم بها رجل
__________
(1) البيت شاهد على جزم «لا يزل» فى ضرورة الشعر بجعله جواب الشرط وكان القياس أن يرفع ويجعل جوابا للقسم، لكنه جزم للضرورة، فيكون جواب القسم محذوفا مدلولا عليه بجواب الشرط.
وتدلج: مضارع أدلج أي سار الليل كله. وأراد بالبيت جماعة من أقاربه يقول: إن سافرت بالليل أرسلت جماعة من أهلى يسيرون أمامك يخفرونك ويحرسونك إلى أن تصل إلى مأمنك.
(2) فى ج، ش: «إن تحدث بحديث أسمعه منك، فلما جاء بعد الجزم جزم» . [.....]
(3) فى ج: «وهو» .
(4) فى ج: «وهو فى» .
(5) راعنا: أمر من المراعاة وهى الحفظ. وفى الصحاح: «أرعيته سمعى أي أصغيت إليه، ومنه قوله تعالى: «راعِنا» قال الأخفش: «هو فاعلنا من المراعاة على معنى أرعنا سمعك، ولكن الياء ذهبت للأمر» . والأقرب أن المراعاة هنا مبالغة فى الرعي أي حفظ المرء غيره، وتدبير أموره. وقراءة عبد الله بن مسعود «راعونا» على إسناد الفعل إلى ضمير الجمع للتوقير.
(6) هو سعد بن معاذ الأنصاري الأوسى رضى الله عنه وكان يعرف لغتهم. شهد بدرا وأحدا، وتوفى سنة خمس من الهجرة بسبب جرح أصابه فى غزوة الخندق.(1/69)
إلا ضربت عنقه، فأنزل اللَّه «1» «لا تَقُولُوا راعِنا» ينهى المسلمين «2» عَنْهَا إذ كانت سبا عند اليهود. وقد قرأها الْحَسَن الْبَصْرِيّ: «لا تَقُولُوا راعِنا» بالتنوين، يقول:
لا تقولوا حُمْقا، وينصب بالقول كما تقول: قَالُوا خيرا وقالوا شرا.
وقوله: وَقُولُوا انْظُرْنا أي انتظرنا. وانْظُرْنا: أخِّرنا، (قال اللَّه) «3» :
« [قالَ] أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» يريد «4» أخّرنى، وفى سورة الحديد [يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ] «لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ» «5» خفيفة الألف على معنى الانتظار. وقرأها حمزة الزيات: «لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا» على معنى التأخير.
وقوله: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ ... (105)
معناه: ومن المشركين «6» ، ولو كانت «المشركون» رفعًا مردودة على «الَّذِينَ كَفَرُوا» كان صوابا [تريد ما يود الذين كفروا ولا المشركون] «7» ، ومثلها فى المائدة: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً] مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ «8» ، قرئت بالوجهين: [والكفار، والكفار] «9» ، وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه: «ومن الكفار أولِياء» . وكذلك قوله:
__________
(1) فى ش، ج زيادة قبل الآية: «ينهى المسلمين» .
(2) فى نسخة أ: «ينهى المسلم» .
(3) فى أ: «كقوله» .
(4) فى ج، ش: «يقول» .
(5) آية 13 من السورة المذكورة.
(6) «ومن المشركين» ساقط من أ.
(7) ما بين المربعين ساقط من أ.
(8) آية 57 من السورة المذكورة.
(9) ساقط من أ.(1/70)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
«لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ» «1» فِي موضع خفض على قوله:
«مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» : ومن المشركين، ولو كانت رفعا كان صوابا ترد على الذين كفروا.
وقوله: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ ... (108)
أَمْ (فِي المعنى) «2» تكون ردا على الاستفهام على جهتين إحداهما: أن تفرق «3» معنى «أي» ، والأخرى أن يستفهم بها. فتكون «4» على جهة النسق، والذي يُنوى بها الابتداء إلا أنه ابتداء متصل بكلام. فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلامٌ، ثُمَّ استفهمت لم يكن إلا بالألف أو بهل ومن ذلك قول اللَّه: «الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ» «5» ، فجاءت «أَمْ» وليس قبلها استفهام، فهذا دليل على أنها استفهام مبتدأ على كلامٍ قد سبقه. وأما قوله:
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ فإن شئت جعلته على مثل هذا، وإن شئت قلت: قبله استفهام فرد عليه وهو قول اللَّه: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . وكذلك قوله: «مَا لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ. أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ» «6» فإن شئت جعلته استفهاما مبتدأ قد سبقه كلامٌ، وإن شئت جعلته مردودا على قوله: «ما لَنا لا نَرى رِجالًا»
وقد قرأ بعض
__________
(1) آية 1 سورة البينة. [.....]
(2) سقط فى أ.
(3) فى الطبري: «تعرّف» .
(4) هذا إيضاح لجهتى (أم) . فهى فى الجهة الأولى أداة نسق، وفى الجهة الثانية ليست أداة نسق بل ينوى بها الابتداء على ما وصف.
(5) آية 3 سورة السجدة.
(6) آية 62، 63 سورة ص.(1/71)
القرّاء: «أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا» يستفهم فى «أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا» بقطع الألف لينسّق عليه «أَمْ» لأن أكثر ما تجىء مع الألف وكل صواب. ومثله: «أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي» ثُمَّ قال: «أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا» والتفسير فيهما واحد. وربما جعلت العرب «أَمْ» إذا سبقها استفهام لا تصلح أي فِيهِ على جهة بل فيقولون: هَلْ لك قبلنا حق أم أنت رَجُل معروفٌ بالظلم.
يريدون: بل أنت رجلٌ معروف بالظلم وقال الشاعر:
فو الله ما أدْرِي أَسَلْمَى تَغَوّلَتْ «1» ... أَمِ النَّوْمُ أَمْ كُلُّ إِلَيّ حَبِيبٌ
معناه [بل كل إلى حبيب] «2» .
وكذلك تفعل العرب فِي «أو» فيجعلونها نسقًا مفرقة لمعنى ما صلحت فِيهِ «أحَدٌ» ، و «إحدى» كقولك: اضرب أحدهما زيدا أو عمرا، فإذا وقعت فِي كلام لا يراد به أحدٌ وإن صلحت جعلوها على جهة بل كقولك فِي الكلام:
اذهب إلى فلانٍ أو دع ذلك فلا تبرح اليوم. فقد دلك هذا على أن الرجل قد رجع عن أمره الأول وجعل «أو» فِي معنى «بل» ومنه قول اللَّه:
«وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» وأنشدني بعض العرب «3» :
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشمس فِي رونق الضحى ... وصورتها أو أنت فِي العين أملح «4»
يريد: بل أنت.
__________
(1) تغوّلت المرأة: تلونت.
(2) الزيادة من تفسير الطبري.
(3) آية 147 سورة والصافات.
(4) قرن الشمس: أعلاها. «وصورتها» بالجرّ عطف على قرن. وأملح: من ملح الشيء (بالضم) ملاحة أي بهج وحسن منظره. والبيت نسبه ابن جنى فى المحتسب إلى ذى الرمة، ولم نجده فى ديوانه.(1/72)
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)
وقوله: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) و «سَواءَ» «1» فِي هذا الموضع قصد، وقد تكون «سَواءَ» «2» فِي مذهب غير كقولك للرجل: أتيت سواءك.
وقوله: كُفَّاراً ... (109)
هاهنا «3» انقطع الكلام، ثم قال: حَسَداً كالمفسر لم ينصب على أنه نعت للكفار «4» ، إنما هُوَ كقولك للرجل: هُوَ يريد بك الشر حسدا وبغيا.
وقوله: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ... (109)
من قبل أنفسهم لم يؤمروا به فِي كتبهم.
وقوله: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ... (111)
يريد يهوديًّا، فحذف الياء الزائدة ورجع إلى الفعل من اليهودية. وهي فِي قراءة أَبِي وعبد اللَّه: «إلا من كان يهوديًّا أو نصرانيّا» وقد يكون أن تجعل اليهود جمعًا واحده هائد (ممدود «5» ، وهو مثل حائل ممدود) «6» - من النوق- وحُول، وعائط «7» وعُوط وعيط وعوطط.
__________
(1) فى ج: «سواء للسبيل» .
(2) كذا فى أ، وفى ج: «على» .
(3) «هاهنا» ساقط من أ.
(4) فى القرطبي: «حسدا» مفعول له أو مصدر دل ما قبله على الفعل.
(5) فى أ: «وهود، مثل حائل» . [.....]
(6) الناقة الحائل: التي حمل عليها الفحل فلم تلقح.
(7) العائط من النوق: الحائل.(1/73)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
وقوله: أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ (114) هذه «1» الروم كانوا غزوا بيت المقدس فقتلوا وحرقوا وخربوا المسجد. وإنما أظهر اللَّه عليهم المسلمين فِي زمن عُمَر- رحمه اللَّه- فبنوه، (ولم) «2» تكن الروم تدخله إلا مستخفين، لو علم بهم لقتلوا.
وقوله: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ... (114)
يقال: إن مدينتهم الأولى أظهر اللَّه عليها المسلمين فقتلوا مقاتلهم، وسبوا الذراري والنساء، فذلك الخزي.
وقوله: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) يقول فيما وعد اللَّه المسلمين من فتح الروم، ولم يكن بعد «3» .
وقوله: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) يريد مطيعون، وهذه خاصة لأهل الطاعة ليست بعامة.
وقوله: فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) رفع ولا يكون نصبا، إنما «4» هى مردودة على «يَقُولُ» [فإنما يقول فيكون] «5» .
وكذلك قوله: «وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ» «6» رفعٌ لا غير. وأما التي فِي النحل: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» فإنها نصب «7» ،
__________
(1) فى ج: «فهذه» .
(2) فى ج: «فلم» .
(3) فى ج، ش: «ولما يكن بعد» .
(4) فى ج، ش: «إنها مردودة» .
(5) ما بين المربعين من ج، ش.
(6) آية 73 سورة الأنعام.
(7) قوله: «نصب» هذا فى قراءة ابن عامر والكسائي عطفا على «أن نقول» . والباقون بالرفع على معنى فهو يكون.(1/74)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
وكذلك التي فِي «يس» نصبٌ لأنها مردوةٌ على فعل قد نُصب بأن، وأكثر القراء على رفعهما. والرفع صوابٌ، وذلك أن تجعل الكلام مكتفيا عند قوله:
«إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ» فقد تم الكلام، ثُمَّ قال: فسيكون ما أراد اللَّه.
وإنه لاحب الوجهين إليّ، وإن كان الكسائي لا يُجيز الرفع فيهما ويذهب إلى النّسق.
وقوله: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ... (118)
يقول: تشابهت قلوبهم «1» فِي اتفاقهم على الكفر. فجعله اشتباها. ولا يجوز تشابهت بالتثقيل لأنه لا يستقيم دخول تاءين زائدتين فِي تفاعلت ولا فِي أشباهها.
وإنما يجوز الادغام إذا قلت فِي الاستقبال: تتشابه (عن قليل) «2» فتدغم التاء الثانية عند الشين.
وقوله: وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) قرأها ابن عَبَّاس [وأبو جَعْفَر] «3» مُحَمَّد بْن علىّ بن الحسين جزما، وقرأها بعض أَهْل المدينة جزما، وجاء التفسير بِذَلِك، [إلا أن التفسير «4» ] على فتح التاء على النهى.
والقراء [بعد] «5» على رفعها على الخبر: ولست تسئل، وَفِي قراءة أبي «وما تسئل» وَفِي قراءة عَبْد اللَّه: «ولن تسال» وهما شاهدان «6» للرفع.
وقوله: وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ ... (123)
يقال: فدية.
__________
(1) سقط فى أ.
(2) كأنه يريد: عن قليل من العرب أو من القرّاء، وهو متعلق بقوله:
«يجوز الإدغام ... » .
(3) ساقط من أ.
(4، 5) ما بين المربعين ساقط من أ.
«بعد» ساقط من أ.
(6) فى ج، ش: «وكلاهما يشهد» . [.....](1/75)
وقوله: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ ... (124)
يقال: أمره بخلالٍ عشرٍ من السنة خمس فِي الرأس، وخمس فِي الجسد فأما اللاتي فِي الرأس فالفرق «1» ، وقص الشارب، والاستنشاق، والمضمضة، والسواك.
وأما اللاتي فِي الجسد فالختان، وحلق العانة، وتقليم الأظافر، ونتف الرفغين يعني الإبطين. قال الفرّاء: ويقال للواحد رفع «2» والاستنجاء.
فَأَتَمَّهُنَّ: عمل بهن فقال اللَّه تبارك وتعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً:
يهتدى بهداك ويستنّ بك، فقال: ربّ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي على المسألة «3» .
وقوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ... (124)
يقول: لا يكون للمسلمين إمام مشرك. وفي قراءة عَبْد اللَّه: «لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِون» . وقد فسر هذا لأن «4» ما نالك فقد نلته، كما تقول: نلت خيرك، ونالني خيرك.
وقوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ ... (125)
يثوبون إليه- من المثابة والمثاب- أراد: من كل مكان. والمثابة «5» فِي كلام العرب كالواحد مثل المقام والمقامة.
__________
(1) أي فرق الشعر. وهو تفريقه فى وسط الرأس، لا يترك جملة واحدة، ليكون ذلك أعون على تسريحه وتنظيفه.
(2) ما بين النجمتين ساقط من ج، ش.
(3) أي مسألة من إبراهيم ربه، سأله إياها أن يكون من ذرّيته مثاله: من يؤتم به ويقتدى به ويهتدى بهديه.
(4) كذا والأحسن: «بأن» .
(5) المثابة فى اللغة: مجتمع الناس بعد تفرقهم كالمثاب، والموضع الذي يئاب إليه أي يرجع إليه مرة بعد أخرى. وقوله: «كالواحد» يريد به المثاب. وهو يريد الردّ على من زعم أن تأنيث مثابة لمعنى الجماعة كالسيارة. وانظر تفسير الطبري.(1/76)
وقوله: وَأَمْناً ... (125)
يقال «1» : إن من جنى جناية أو أصاب حدّا ثُمَّ عاذ بالحرم لم يُقَم عليه حده حَتَّى يخرج من الحرم، ويؤمر بأَلا يخالط ولا يبايع، وأن يضيق عليه (حَتَّى يخرج) «2» ليقام عليه الحد، فذلك أمنه. ومن جنى من أهل الحرم جناية أو أصاب حدّا أقيم عليه فِي الحرم.
وقوله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ... (125)
وقد قرأت القراء بمعنى «3» الجزم [والتفسير مع أصحاب الجزم] «4» ، ومن قرأ «وَاتَّخِذُوا» ففتح الخاء كان خبرا يقول «5» : جعلناه مثابة لهم واتخذوه مصلى، وكل صواب إن شاء اللَّه.
وقوله: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ ... (125)
يريد: من الأصنام ألا «6» تعلق فِيهِ.
وقوله: لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ ... (125)
يعنى أهله وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ يعنى أهل الإسلام.
__________
(1) فى أ: «يقول» .
(2) فى ج: «فيخرج» .
(3) فى ج، ش: «بعد بالجزم» يريد بالجزم الأمر.
(4) ما بين المربعين فى ج، ش.
(5) فى أ: «أي» .
(6) كذا فى ج. وفى أ: «لا» وقوله: «ألا تعلق» أي إرادة ألا تعلق.(1/77)
وقوله: وَمَنْ كَفَرَ ... (126)
من قول الله تبارك وتعالى فَأُمَتِّعُهُ على الخبر. وفي قراءة أَبِي «وَمَن كَفَرَ فَنُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ» (فهذا وجه) «1» . وكان ابن عَبَّاس يجعلها متصلة بمسئلة إبراهيم «2» صلى الله عليه على معنى: رب «وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ» (منصوبة موصولة) «3» . يريد ثُمَّ أَضْطَرِرْه فإذا تركت التضعيف نصبت، وجاز فِي هذا المذهب كسر الراء فِي لغة الَّذِين يقولون مُدِّهِ. وقرأ يحيى بْن وَثَّاب:
«فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ» بكسر الألف كما تقول: أَنَا أعلم ذاك.
وقوله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ (127) يقال هى إساس «4» البيت. واحدتها قاعدة، ومن النساء «5» اللواتي قد قعدن عن المحيض قاعد بغيرها. ويقال لامرأة الرجل قعيدته.
وقوله: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا ... (127)
يريد: يقولان ربنا. وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه «ويقولان ربنا» .
__________
(1) سقط فى أ.
(2) فى الطبري: كان ابن عباس يقول: ذلك قول إبراهيم يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا بتخفيف التاء وسكون العين وفتح الراء من اضطره، وفصل ثم اضطره بغير قطع همزتها على وجه الدعاء من إبراهيم ربه لهم والمسألة.
(3) (منصوبة) أي مفتوحة الراء، و (موصولة) أي بهمزة الوصل لا بهمزة القطع. [.....]
(4) هو جمع أس، بضم الهمزة. وهذا الضبط عن اللسان فى قعد. وضبط فى أ: «آساس» وهو جمع أس أيضا.
(5) يريد: والواحدة من النساء ... أي الواحدة من القواعد بهذا المعنى.(1/78)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
وقوله: وَأَرِنا مَناسِكَنا ... (128)
وفى قراءة عبد الله: «وأرناهم مناسكهم» ذهب إلى الذرية. «وَأَرِنا» ضمهم إلى نفسه، فصاروا كالمتكلمين عن أنفسهم يدلك على ذلك قوله: وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا رجع إلى الذرية خاصة.
وقوله: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ... (130)
العرب توقع سفه على (نفسه) وهي معرفة. وكذلك قوله: «بَطِرَتْ مَعِيشَتَها» «1» وهي من المعرفة كالنكرة، لأنه مفسر، والمفسر فِي أكثر الكلام نكرة كقولك:
ضِقت به ذَرْعا، وقوله: «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً» «2» فالفعل للذرع لأنك تقول: ضاق ذرعي به، فلما جعلت الضيق مسندا إليك فقلت: ضقت جاء الذّرع مفسرا لأن الضيق فِيهِ كما تقول: هُوَ أوسعكم دارا. دخلت الدار لتدل على أن السعة فيها لا فِي الرجل وكذلك قولهم: قد وجعت بطنك، ووثقت رأيك- أو- وفقت، [قال أَبُو عَبْد اللَّه «3» : أكثر ظني وثقت بالثاء] «4» إنما الفعل للأمر، فلما أسند الفعل إلى الرجل صلح النصب فيما عاد بذكره على التفسير ولذلك لا يجوز تقديمه، فلا يقال: رأيه سفه زيدٌ، كما لا يجوز دارا أنت أوسعهم لأنه وإن كان معرفة فإنه فِي تأويل نكرة، ويصيبه النصب فِي موضع نصب النكرة ولا يجاوزه.
__________
(1) آية 58 سورة القصص.
(2) آية 4 سورة النساء.
(3) هو محمد بن الجهم السمري مستملى الفراء وراوى الكتاب عنه.
(4) ما بين الخطين ساقط من ج، ش- هذا- وجاء فى اللسان مادة «وفق» : «وفق أمره يفق قال الكسائي يقال رشدت أمرك ووفقت رأيك، ومعنى وفق أمره وجده موافقا، وقال اللحيائى:
وفقه وفهمه» .(1/79)
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
وقوله: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ ... (132)
فِي مصاحف أهل المدينة «وأوصى» وكلاهما صوابٌ كثير فى الكلام.
وقوله: وَيَعْقُوبُ ... (132)
أي ويعقوب وصى بهذا أيضا. وَفِي إحدى القراءتين قراءة عَبْد اللَّه أو «1» قراءة أُبَيٍّ: «أن يا بني إن اللَّه اصطفى لكم الدين» يوقع وصى على «أَنْ» يريد وصاهم «بأن» ، وليس فِي قراءتنا «أن» ، وكل صواب. فمن ألقاها قال: الوصية قول، وكل كلام رجع إلى القول جاز فِيهِ دخول أن، وجاز إلقاء أن كما قال اللَّه عز وجل فِي النساء «2» : «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» لأن الوصية كالقول وأنشدني الكسائي:
إني سأُبدي لك فيما أبدى ... لي شجنان شجن بنجد
وشجن لي ببلاد السِنْد لأن الإبداء فِي المعنى بلسانه ومثله قول اللَّه عز وجل «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً» «3» لأن العدة قول. فعلى هذا يبنى ما ورد من نحوه.
وقول النحويين: إنما أراد: أن فألقيت ليس بشيء لأن هذا لو كان لجاز إلقاؤها مع ما يكون فِي معنى القول وغيره.
__________
(1) أو هنا للشك. فقد كان المؤلف حين الكتابة لهذا غير متثبت من الأمر، وفى الحق أن هذه قراءة الرجلين معا، كما فى البحر والقرطبىّ.
(2) آية 11 منها.
(3) آية 29 سورة الفتح.(1/80)
وإذا كان الموضع فِيهِ ما يكون معناه معنى القول ثُمَّ ظهرت فِيهِ أن فهي منصوبة الألف. وإذا لم يكن ذلك الحرف يرجع إلى معنى القول سقطت أن من الكلام.
فأما الَّذِي يأتي بمعنى القول فتظهر فِيهِ أن مفتوحة فقول اللَّه تبارك وتعالى:
«إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ» «1» جاءت أن مفتوحة لأن الرسالة قول.
وكذلك قوله «فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ. أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا» «2» والتخافت قول. وكذلك كل ما كان فِي القرآن. وهو كثير. منه قول اللَّه «وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» «3» .
ومثله: «فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ [عَلَى الظَّالِمِينَ] » «4» الأذان قول، والدعوى قول فِي الاصل.
وأما ما ليس فِيهِ معنى القول فلم تدخله أن فقول اللَّه «وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا» «5» فلمّا لم يكن فى «أَبْصَرْنا» كلام يدل على القول أضمرت القول فأسقطت أن لأن ما بعد القول حكاية لا تحدث معها أن. ومنه قول اللَّه «وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ» «6» . معناه: يقولون أخرجوا. ومنه قول اللَّه تبارك وتعالى: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا» . معناه يقولان «رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا» وهو كثير. فقس بهذا ما ورد عليك.
__________
(1) آية 1 سورة نوح.
(2) آية 23- 24 سورة القلم.
(3) آية 10 سورة يونس.
(4) آية 44 سورة الأعراف.
(5) آية 12 سورة السجدة. [.....]
(6) آية 93 سورة الأنعام.(1/81)
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
[وقوله: ... قالوا نعبد إلهك وإله ءابائك إبراهيم وإسمعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون 133] .
قرأت القرّاء نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ، وبعضهم قرأ «وإله أبيك» واحدا. وكأن الَّذِي قال: أبيك (ظن أن العم لا يجوز فِي الآباء) «1» فقال «وإله أبيك إِبْرَاهِيم» ، ثُمَّ عدد بعد الأب العم. والعرب تجعل الأعمام كالآباء، وأهل الأم كالأخوال. وذلك كثير فِي كلامهم.
وقوله: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ... (135)
أمر اللَّه محمدا صلى اللَّه عليه وسلم. فإن نصبتها ب (نكون) «2» كان صوابا وإن نصبتها بفعل مضمر كان صوابا كقولك بل نتّبِع «مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» ، وإنما أمر اللَّه النَّبِيّ محمدا صلى اللَّه عليه وسلم فقال «قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» .
وقوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ... (136)
يقول لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى
وقوله: صِبْغَةَ اللَّهِ ... (138)
نَصْب، مردودة «3» على المِلَّة، وإنما قيل «صِبْغَةَ اللَّهِ» لأن بعض النصارى كانوا إذا وُلد المولود جعلوه فِي ماء لهم يجعلون ذلك تطهيرا له كالختانة. وكذلك
__________
(1) فى ج، ش: «ظن أن العرب لا تجوز إلا فى الآباء» . وليس له معنى.
(2) كذا فى البحر. أي نكون ذوى ملة إبراهيم. وفى نسخ الفراء: «بيكون» ولعل المراد إن صحت: يكون ما تختاره، مثلا:
(3) يريد أنها بدل من «مِلَّةِ إِبْراهِيمَ» .(1/82)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
هِيَ فِي إحدى القراءتين. قل «صِبْغَةَ اللَّهِ» وهي الختانة، اختتن إِبْرَاهِيم صلى اللَّه عليه وسلم فقال: قل «صِبْغَةَ اللَّهِ» يأمر بها مُحَمَّدا صلى اللَّه عليه وسلم فجرت الصبغة على الختانة لصبغهم الغلمان فِي الماء، ولو رفعت الصبغة والملة كان صوابا كما تقول العرب: جدك لا كدك، وجدك لا كدك. فمن رفع أراد: هِيَ ملة إِبْرَاهِيم، هِيَ صبغة الله، هو جدّك. ومن نصب أضمر مثل الَّذِي قلت لك من الفعل.
وقوله: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ... (143)
يعنى عدلا «1» لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ يقال: إن كل نبي يأتي يوم القيامة فيقول: بلغت، فتقول أمته: لا، فيكذبون الأنبياء، «2» (ثُمَّ يجاء بأمة مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلم فيصدقون الأنبياء ونبيهم) ، ثُمَّ يأتي النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم فيصدق أمَّته، فذلك قوله تبارك وتعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً، ومنه قول اللَّه: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً] » «3» .
وقوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ... (143)
أسند الإيمَان إلى الأحياء من المؤمنين، والمعنى فيمن مات من المسلمين قبل أن تحول القبلة. فقالوا للنبي صلى اللَّه عليه وسلم: كيف بصلاة إخواننا الذين ماتوا على القبلة الأولى؟ فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ
__________
(1) كذا فى أصول الكتاب بالإفراد. ووجه ذلك أن عدلا فى الأصل مصدر، فيصلح للفرد والجمع.
وفى غير هذا الكتاب: «عدولا» .
(2) سقط ما بين القوسين فى أ.
(3) آية 41 من سورة النساء.(1/83)
يريد إيمانهم لانهم داخلون معهم فِي الملة، وهو كقولك للقوم: قد قتلناكم وهزمناكم، تريد: قتلنا منكم، فتواجههم بالقتل وهم أحياء.
وقوله: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ... (144)
يريد: نحوه وتلقاءه، ومثله فِي الكلام: وَلِّ وجهك شطره، وتلقاءه، وتُجَاهه.
وقوله: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ... (145)
أجيبت (لئن) بما يجاب به لو. ولو فِي المعني ماضية، ولئن مستقبلة، ولكن الفعل ظهر فيهما بفعل فأُجيبتا بجواب واحدٍ، وشُبِّهت كل واحدة بصاحبتها. والجواب فى الكلام فى (لئن) بالمستقبل مثل قولك: لئن قمت لأقومنَّ، ولئن أحسنت لتُكرمنّ، ولئن أسأت لا يُحْسَنْ إليك. وتجيب لو بالماضي فتقول: لو قمت لقمت، ولا تقول: لو قمت لأقومنَّ. فهذا الَّذِي عليه يُعمل، فإذا أُجيبت لو بجواب لئن فالذي قلت لك من لفظ فعليهما بالمضي، ألا ترى أنك تقول: لو قمت، ولئن قمت، ولا تكاد ترى (تفعل تأتي) «1» بعدهما، وهي جائزة، فلذلك قال «وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا» «2» فأجاب (لئن) بجواب (لو) ، وأجاب (لو) بجواب (لئن) فقال «وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ» «3» الآية
__________
(1) كذا فى ش. وفى أ: «يفعل يأتى» وعلى هذا فقوله بعد: «وهى» راعى فيها الكلمة، فلذلك أنث.
(2) آية 51 سورة الروم.
(3) آية 103 سورة البقرة.(1/84)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
وقوله: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ... (147)
المعنى أنهم لا يؤمنون بأن القبلة التي صرف إليها مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلم قبلة إِبْرَاهِيم صلى اللَّه عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء، ثم استأنف (الحقّ) فقال: يا مُحَمَّد هُوَ «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» ، إنها قبلة إِبْرَاهِيم فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ: فلا تشكن فِي ذلك. والممتري: الشاك.
وقوله: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ ...
(148)
يعنى قبلةوَ مُوَلِّيها
: مستقبلها، الفعل لكلٍ، يريد: مولٍ وجهه إليها.
والتولية فِي هذا الموضع إقبال، وفي «يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ» «1» ، «ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ» «2» انصراف. وهو كقولك فِي الكلام: انصرف إلى، أي أقبل إلى، وانصرف إلى أهلك أي اذهب إلى أهلك. وقد قرأ ابن عَبَّاس وغيره «هُوَ مُوَلاها» ، وكذلك قرأ أبو «3» جَعْفَر مُحَمَّد بْن علي، فجعل الفعل واقعا عليه. والمعنى واحد. والله أعلم.
وقوله: يْنَ ما تَكُونُوا ...
(148)
إذا رأيت حروف الاستفهام قد وصلت ب (ما) ، مثل قوله: أينما، ومتى ما، وأي ما، وحيث «4» ما، وكيف ما، و «أَيًّا مَا تَدْعُوا» «5» كانت جزاء ولم تكن استفهاما.
فإذا لم توصل ب (ما) كان الاغلب عليها الاستفهام، وجاز فيها الجزاء.
__________
(1) آية 111 سورة آل عمران.
(2) آية 25 سورة التوبة.
(3) هو الإمام الباقر، لقب بذلك لأنه بقر العلم، أي شقه وعرف ظاهره وخفيه. وانظر طبقات القراء لابن الجزرىّ الترجمة رقم 3254
(4) كذا فى الأصول، ولا تعرف هذه الأداة فى أدوات الاستفهام. [.....]
(5) آية 110 سورة الإسراء.(1/85)
فإذا كانت جزاء جزمت الفعلين: الفعل الَّذِي مع أينما وأخواتها، وجوابه كقولهَ يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ»
«1» فإن أدخلت الفاء فِي الجواب رفعت الجواب فقلت فِي مثله من الكلام: أينما تكن فآتيك. كذلك قول اللَّه- تبارك وتعالى- «وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ» .
فإذا كانت استفهاما رفعت الفعل الَّذِي يلي أَيْنَ وكيف، ثُمَّ تجزم الفعل الثاني ليكون جوابا للاستفهام، بمعنى الجزاء كما قال اللَّه تبارك وتعالى: «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» «2» ثُمَّ أجاب الاستفهام بالجزم فقال- تبارك وتعالى- «يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» «3» .
فإذا أدخلت فِي جواب الاستفهام فاءً نصبت كما قال اللَّه- تبارك وتعالى- «لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ» «4» فنصب.
فإذا جئت إلى العطوف التي تكون فى الجزاء وقد أجبته بالفاء كان لك فِي العطف ثلاثة أوجه إن شئت رفعت العطف مثل قولك: إن تأتني فإني أهل ذاك، وتُؤْجَرُ وتحمد، وهو وجه الكلام. وإن شئت جزمت، وتجعله كالمردود على موضع الفاء. والرفعُ على ما بعد الفاء. وقد قرأت القراء «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ» «5» . رفع وجزم. وكذلك «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ
__________
(1) آية 148 سورة البقرة.
(2) آية 10 سورة الصف.
(3) آية 12 سورة الصف.
(4) آية 10 سورة المنافقين. وقد عدّ لولا فى أدوات الاستفهام، وهذا المعنى ذكره الهروي، كما فى المغني، ومثل له بالآية. وقال الأمير فى كتابته على المغني: «الاستفهام هنا بعيد جدّا» أي والقريب فى الآية معنى العرض أو التحضيض.
(5) آية 186 سورة الأعراف.(1/86)
فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ» «1» جزم ورفع. ولو نصبت على ما تنصب عليه عطوف الجزاء إذا استغنى لأصبت كما قال الشاعر «2» :
فإن يهلك النعمان تعر مطِيَّةٌ ... وتُخْبَأَ فِي جوفِ العِيابِ قُطُوعُها «3»
وإن جزمت عطفا بعد ما نصبت ترده على الأول، كان صوابا كما قَالَ بعد هَذَا البيت:
وتنحط حصان آخر اللّيل نحطه ... تقصم منها- أو تكاد- ضلوعها «4»
وهو كثير فِي الشعر والكلام. وأكثر ما يكون النصب فِي العطوف إذا لم تكن فِي جواب الجزاء الفاءُ، فإذا كانت الفاءُ فهو الرفع والجزم.
وإذا أجبت الاستفهام بالفاء فنصبت فانصب العطوف، وإن جزمتها فصواب. من ذلك قوله فِي المنافقين «لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ» «5» رددت «وَأَكُنْ» على موضع الفاء لأنها فِي محل جزمٍ إذ كان الفعل إذا «6» وقع موقعها بغير الفاء جزم. والنصب على أن ترده على ما بعدها، فتقول:
«وأكون» وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود «وأكون» بالواو، وقد قرأ بها بعض «7» القراء. قال: وأرى ذلك صوابا «8» لأن الواو ربما حذفت من الكتاب
__________
(1) آية 271 سورة البقرة.
(2) هو النابغة الذبيانىّ. وانظر الديوان له وشرحه فى مجموعة الدواوين الخمسة. وهذا الشعر يقوله فى مدح النعمان بن الحارث الأصغر الغساني.
(3) القطوع: جمع قطع. وهو كالطنفسة. والعياب: جمع عيبة وهو ما يوضع فيه الثياب. يقول: إن هلك النعمان ترك كل وافد الرحلة ولم يستعمل مطيته وخبأ فى جوف العياب الطنفسة التي توضع على الرحل استعدادا للرحيل.
(4) تنحط: تزفر من الحزن. والحصان: المرأة العفيفة. يقول: إذا تذكرت الحصان معروفه هاج لها حزن وزفرات تنكسر لها ضلوعها أو تكاد تنكسر. وخص آخر الليل لأنه وقت الهبوب من النوم.
(5) آية 10 سورة المنافقين.
(6) سقط فى أ.
(7) يريد أبا عمرو بن العلاء، وانظر البيضاوي، والبحر 8/ 275
(8) يريد دفع ما يرد على قراءة أبى عمرو أنها مخالفة لرسم المصحف إذ ليس فيه: «أَكُونَ» بالواو. فذكر أن الواو قد تحذف فى الرسم وهى ثابتة فى اللفظ. [.....](1/87)
وهي تراد لكثرة ما تنقص وتزاد فِي الكلام ألا ترى أنهم يكتبون «الرحمن» وسليمن بطرح الألف والقراءة بإثباتها فلهذا جازت. وقد أسقطت الواو من قوله «سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ» «1» ومن قوله «وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ» «2» الآية، والقراءة على نيَّة إثبات الواو. وأسقطوا من الايكة ألفين فكتبوها فِي موضع ليكة «3» ، وهي فِي موضع آخر الايكة «4» ، والقراء «5» على التمام، فهذا شاهد على جواز «وأكون من الصالحين» .
وقال بعض الشعراء «6» :
فأَبلُوني بَلِيَّتَكُم لَعَلِّي ... أصلكم وأَسْتَدْرِجْ نَوَيّا
فجزم (وأستدرج) ، فإن شئت رددته إلى موضع الفاء المضمرة فِي لعلى، وإن شئت جعلته فِي موضع رفع فسكنت الجيم لكثرة توالي الحركات. وقد قرأ بعض القراء «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» بالجزم وهم ينوون الرفع، وقرءوا «أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ» والرفع أحبّ إلىّ من الجزم.
__________
(1) آية 18 سورة القلم.
(2) آية 11 سورة الإسراء.
(3) كما فى آية 176 من الشعراء، وآية 13 من ض.
(4) كما فى آية 78 من الحجز، وآية 14 من ق.
(5) قرأ الحرميان: ابن كثير ونافع، وابن عامر: ليكة بفتح اللام وسكون الياء وفتح التاء، فى الموضعين اللذين سقط فيها الألفان، وكأن الفرّاء ينكر هذه القراءة كما أنكرها بعض النحويين. وانظر البحر 7/ 37
(6) هو أبو داود الإيادىّ، كما فى الخصائص 1/ 176، يقوله فى قوم جاورهم فأساءوا جواره، ثم أرادوا مصالحته. وقوله: «فأبلونى» من أبلاه إذا صنع به صنعا جميلا. والبلية اسم منه.
و «نويا» يريد نواى، والنية: الوجه الذي يقصد. و «أستدرج» : أرجع أدراجى من حيث كنت. يقول: أحسنوا الصنيع بي واجبروا ما فعلتم معى، فقد يكون هذا حافزا لى أن أصالحكم أو أرجع إلى ما كنت عليه. وانظر التعليق على الخصائص فى الموطن السابق طبعة الدار.(1/88)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
وقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ... (150)
يقول القائل: كيف استثنى الذين ظلموا فِي هذا الموضع؟
ولعلهم توهّموا أن ما بعد إلا يخالف ما قبلها فإن كان ما قبل إلا فاعلا كان الَّذِي بعدها خارجا من الفعل الَّذِي ذكر، وإن كان قد نفى عما قبلها الفعل ثبت لما بعد إلا كما تقول: ذهب الناس إلا زَيْدًا، فزيد خارج من الذهاب، ولم يذهب الناس إلا زَيْدُ، فزيد ذاهب، والذهاب مثبت لزيد.
فقوله «1» «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا» [معناه «2» : إلا الذين ظلموا منهم] ، فلا حجة لهم «فَلا تَخْشَوْهُمْ» وهو كما تقول فِي الكلام: الناس كلهم [لك] «3» حامدون إلا الظالم لك المعتدي عليك، فإن ذلك لا يعتد بعداوته ولا بتركه الحمد لموضع العداوة.
وكذلك الظالم لا حجة له. وقد سمي ظالما.
وقد قال بعض النحويين «4» : إلا فى هذا الموضع بمنزلة الواو كأنه قال: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ» ولا للذين ظلموا. فهذا صواب فِي التفسير، خطأ فِي العربية إنما تكون إلا بمنزلة الواو إذا عطفتها على استثناء قبلها، فهنالك تصير بمنزلة الواو كقولك: لي على فلان ألف إلا عشرة إلا مائة، تريد: (إلّا) الثانية أن ترجع على الألف، كأنك أغفلت المائة فاستدركتها فقلت: اللهمّ
__________
(1) هذا أخذ منه فى الردّ على الاعتراض السابق وكأن هنا سقطا فى الكلام. وفى هامش أفى هذا الموطن سطران لم تحسن قراءتهما. وكأن فيهما هذا السقط.
(2) زيادة من اللسان فى إلا فى آخر الجزء العشرين.
(3) زيادة من اللسان فى الموطن السابق.
(4) القائل بهذا أبو عبيدة، وقد أبطل الزجاج والفراء هذا القول.(1/89)
إلا مائة. فالمعنى له على ألف ومائة، وأن تقول: ذهب الناس إلا أخاك، اللهم إلا أباك، فتستثني الثاني، تريد: إلا أباك وإلا أخاك كما قال الشاعر «1» :
ما بالمدينة دار غير واحدةٍ ... دار الخليفة إلا دار مروانا
كأنه أراد: ما بالمدينة دار إلا دار الخليفة ودار مروان.
وقوله: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ ...
(148)
العرب تقول: هذا أمر ليس له وجهة، وليس له جهة، وليس له وجه وسمعتهم يقولون: وجه الحجر، جهة ماله، ووجهة ماله، ووجه ماله. ويقولون:
ضعه غير هذه الوضعة، والضِّعة، والضَعَة. ومعناه: وجه الحجر فله جهة وهو مثل، أصله فِي البناء يقولون: إذا رَأَيْت الحجر فِي البناء لم يقع موقعه فأدره فإنك ستقع على جهته «2» . ولو نصبوا على قوله: وجهه جهته لكان صوابا.
وقوله: وَاخْشَوْنِي ... (150)
أثبتت فيها الياء ولم تثبت فِي غيرها، وكل ذلك صواب، وإنما استجازوا حذف الياء لأن كسرة النون تدل عليها، وليست تهيب العرب حذف الياء من آخر الكلام إذا كان ما قبلها مكسورا، من ذلك «رَبِّي أَكْرَمَنِ- وأَهانَنِ» فى سورة «الفجر» «3» وقوله: «أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ» «4» ومن غير النون «الْمُنادِ» «5» و «الدَّاعِ» «6» وهو كثير، يكتفي من الياء بكسرة ما قبلها، ومن الواو بضمة ما قبلها مثل قوله:
__________
(1) نسب فى كتاب سيبويه 1/ 373 إلى الفرزدق. وانظر فى تخريج إعرابه السيرافي على الكتاب 3/ 306 من التيمورية.
(2) وهذا المثل أورده الميدانىّ فى حرف الواو، وقال بعد أن أورد نحو ما ذكر هنا: «يضرب فى حسن التدبير، أي لكل أمر وجه، لكن الإنسان ربما عجز ولم يهتد إليه» .
(3) آيتا 15، 16 من السورة.
(4) آية 126 سورة النمل. [.....]
(5) آية 41 سورة ق.
(6) آيتا 6، 8 سورة القمر.(1/90)
«سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ» «1» - «وَيَدْعُ الْإِنْسانُ» «2» وما أشبهه، وقد تسقط العرب الواو وهي واو جماع، اكتفى بالضمة قبلها فقالوا فِي ضربوا: قد ضرب، وفي قَالُوا: قد قال ذلك، وهى فى هوازن وعليا قيس أنشدني بعضهم:
إذا ما شاء ضروا من أرادوا ... ولا يألو لهم أحد ضرارا «3»
وأنشدني الكسائي:
مَتَى تقول خلت من أهلها الدار ... كأنهم بجناحي طائر طاروا
وأنشدني بعضهم:
فلو أن الأطباء كان عندي ... وكان مع الأطباء الأساة «4»
وتفعل ذلك فِي ياء التأنيث كقول عنترة:
إن العدو لهم إليك وسيلة ... إن يأخذوك تكحلي وتخضب «5»
يحذفون (ياء التأنيث) «6» وهي دليل على الأنثى اكتفاء بالكسرة.
__________
(1) آية 18 سورة العلق.
(2) آية 11 سورة الإسراء.
(3) أورده البغدادىّ فى شرح شواهد المغني 2/ 859 وقال: «وهذا البيت مشهور فى تصانيف العلماء، ولم يذكر أحد منهم قائله» .
(4) بعده:
إذا ما أذهبوا ألما بقلبي ... وإن قيل: الأساة هم الشفاة
والأساة جمع آس، وهو هنا من يعالج الجرح. وانظر الخزانة 2/ 385.
(5) نسب هذا البيت فى أبيات أخر الجاحظ فى البيان 3/ 176 وفى الحيوان 4/ 363 إلى خزز بن لوذان، وكذلك رجّح صاحب الأغانى 10/ 180 طبعة الدار نسبتها إلى خزز. وذكر صاحب الخزانة 3/ 11 عن الصاغاني أن الشعر فى ديوانى الرجلين. وانظر اللسان (نعم) .
(6) نسخة أ: (الياء) . والحق أن لا حذف فى البيت لأن القافية مطلقة، والياء ثابتة فى اللفظ، كما يجب أن تثبت فى الكتابة. نعم هناك طريقة فى الإنشاء تقطع الترنم، فتسكن الياء. وقد روى أحد الأبيات التي منها هذا بالإسكان. وانظر سيبويه 2/ 302.(1/91)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
وقوله: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ ... (150)
جواب لقوله: (فاذكرونى أذكركم) : كما أرسلنا، فهذا جواب (مقدم ومؤخر) «1» .
وفيها وجه آخر: تجعلها من صلة ما قبلها لقوله: «أَذْكُرْكُمْ» ألا ترى أنه قد جعل لقوله: «فَاذْكُرُونِي» جوابا مجزوما، (فكان فِي ذلك دليل) «2» على أن الكاف التي فى (كما) لما قبلها لأنك تقول فِي الكلام: كما أحسنت فأحسن. ولا تحتاج إلى أن تشترط ل (أحسن) لأن الكاف شرط، معناه افعل كما فعلت. وهو فِي العربية أنفذ «3» من الوجه الأول مما جاء به التفسير وهو صواب بمنزلة جزاء يكون له جوابان مثل قولك: إذا أتاك فلان فأته ترضه. فقد صارت (فأته) و (ترضه) جوابين.
وقوله: وَاشْكُرُوا لِي ... (152)
العرب لا تكاد تقول: شكرتك، إنما تقول: شكرت لك، ونصحت لك.
ولا يقولون: نصحتك، وربما قيلتا قال بعض الشعراء:
هُمْ جمعوا بؤسى ونعمى عليكم ... فهلا شكرت القوم إذ لم تقاتل
وقال النابغة:
نصحت بني عوفٍ فلم يتقبلوا ... رسولي ولم تنجح لديهم وسائلي
__________
(1) أي مقدّم فى اللفظ، مؤخر فى النية. والعبارة فى الطبرىّ 2/ 22: «وزعموا أن ذلك من المقدّم الذي معناه التأخير» .
(2) فى ج، وش «فكان ذلك دليلا» .
(3) فى ج، وش: «أقعد» .(1/92)
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
وقوله: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ ... (154)
رفع بإضمار مكنى من أسمائهم كقولك: لا تقولوا: هُمْ أموات بل هُمْ أحياء.
ولا يجوز فِي الأموات النصب لأن القول لا يقع على الاسماء إذا أضمرت وصوفها أو أظهرت كما لا يجوز قلت عَبْد اللَّه قائمًا، فكذلك لا يجوز نصب الأموات لأنك مضمر لاسمائهم، إنما يجوز النصب فيما قبله القول إذا كان الاسم فِي معنى قولٍ من ذلك: قلت خيرا، وقلت شرا. فترى الخير والشر منصوبين لانهما قول، فكأنك قلت: قلت كلاما حسنا أو قبيحا. وتقول: قلت لك خيرا، وقلت لك خير، فيجوز، إن جعلت الخير قولا نصبته كأنك قلت: قلت لك كلاما، فإذا رفعته فليس بالقول، إنما هُوَ بمنزلة قولك: قلت لك مال.
فابن على ذا ما ورد عليك من المرفوع قوله: «سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ» «1» و «خَمْسَةٌ» و «سَبْعَةٌ» ، لا يكون نصبا لأنه إخبار عَنْهُمْ فِيهِ أسماء مضمرة كقولك:
هُمْ ثلاثة، وهم خمسة. وأمّا قوله- تبارك وتعالى-: «وَيَقُولُونَ طاعَةٌ» «2» فإنه رفع على غير هذا المذهب. وذلك أن العرب كانوا يقال لهم: لا بد لكم من الغزو فِي الشتاء والصيف، فيقولون: سمع وطاعة معناه: منا السمع والطاعة، فجرى الكلام على الرفع. ولو نصب على: نسمع سمعا ونطيع طاعة كان صوابا.
وكذلك قوله تبارك وتعالى فى سورة مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلم: «فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» «3» . عيّرهم وتهدّدهم بقوله: «فَأَوْلى لَهُمْ» ، ثُمَّ ذكر ما يقولون فقال: يقولون إذا أمروا «طاعَةٌ» . «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ» نكلوا
__________
(1) آية 22 سورة الكهف.
(2) آية 81 سورة النساء.
(3) آية 21 من السورة. [.....](1/93)
وكذبوا فلم يفعلوا. فقال اللَّه تبارك وتعالى «فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» ، وربما قال بعضهم: إنما رفعت الطاعة بقوله: لهم طاعة، وليس ذلك بشيء.
والله أعلم. ويقال أيضا: «وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ» و «طاعَةٌ» فأضمر الواو، وليس ذلك عندنا من مذاهب العرب، فإن يك موافقا للتفسير فهو صواب.
وقوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ ... (155)
ولم يقل (بأشياء) لاختلافها. وذلك أن من تدل على أن لكل صنف منها شيئًا مضمرًا: بشيء من الخوف وشيء من كذا، ولو كان بأشياء «1» لكان صوابًا.
وقوله: قالُوا إِنَّا لِلَّهِ ... (156)
لم تكسر العرب (إنا) «2» إلا فِي هذا الموضع مع اللام فِي التوجع خاصة. فإذا لم يقولوا (لله) فتحوا فقالوا: إنا لزيد محبّون، وإنا لربّنا حامدون عابدون.
وإنما كسرت فى «إِنَّا لِلَّهِ» لأنها استعملت فصارت كالحرف الواحد «3» ، فأشير إلى النون بالكسر «4» لكسرة اللام التي فِي «لِلَّهِ» كما قالوا: هالك وكافر، كسرت الكاف
__________
(1) قرأ الضحاك (بأشياء) على الجمع، كما فى الطبري.
(2) المراد بالكسر هنا إمالة النون من (إنا) إلى الكسر كما فى النحاس عن الكسائي: إن الألف ممالة إلى الكسرة، وأما على أن تكسر فمحال لأن الألف لا تحرك البتة، وإنما أميلت فى «إنا لله» لكسرة اللام فى لله إلخ. وكذا الكلام على ما يأتى فى هالك وكافر من أن الكسر فى الألف إمالته مع الكاف.
(3، 4) يريد أن (نالله) كالكلمة الواحدة، فوقعت الألف فى (نا) قبل الكسرة (كسرة لام لله) متصلّة، وهذا سبب من أسباب الإمالة نحو عالم وكاتب، وإن كان (نا) مما عد مشبها للحرف الذي لا إمالة فيه لأنه مبنىّ أصلىّ فهو اسم غير متمكن، ولكنهم استثنوا من المشبه للحرف (ها) للغائبة، (نا) للتكلم المعظم نفسه أو معه غيره خاصة، فإنهم طردوا الإمالة فيهما لكثرة استعمالهما إذا كان قبلهما كسرة أو ياء، فقالوا: مرّ بنا وبها، ونظر إلينا وإليها، بالإمالة لوقوع الألف مسبوقة بالكسرة أو الياء مفصولة بحرف.(1/94)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)
من كافر لكسرة الألف لأنه حرف واحد، فصارت «إِنَّا لِلَّهِ» كالحرف الواحد لكثرة استعمالهم إياها، كما قَالُوا: الحمد لله.
وقوله: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ... (158)
كان المسلمون قد كرهوا الطواف بين الصفا والمروة لصنمين كانا عليهما، فكرهوا أن يكون ذلك تعظيما للصنمين، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) وقد قرأها بعضهم «1» «ألا يطوف» وهذا يكون على وجهين أحدهما أن تجعل «لا» مع «أن» صلة على معنى الالغاء كما قال: «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» والمعنى: ما منعك أن تسجد. والوجه الآخر أن تجعل الطواف بينهما يرخص فِي تركه.
والأول المعمول به.
وقوله: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً ... (158)
تنصب على (جهة فعل) «2» . وأصحاب عَبْد اللَّه «3» وحمزة «ومن يطوع» لأنها فِي مصحف «4» عَبْد اللَّه «يتطوع» .
وقوله: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) قال ابن عَبَّاس: «اللَّاعِنُونَ» كل شيء على وجه الأرض إلا الثقلين.
[و] «5» قال عبد الله بن مسعود: إذا تلا عن الرجلان فلعن أحدهما صاحبه وليس أحدهما
__________
(1) فى القرطبي: «روى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما) وهى قراءة ابن مسعود» .
(2) يريد فتح العين فى «تطوع» على أنه فعل ماض. وفى أ: «جهة ومن تطوع خيرا فعل» .
(3) لا ندرى ماذا يريد بأصحاب عبد الله، فإن قراءة «يطوع» تنسب لحرة والكسائي.
(4) فى ج، ش: مصاحف.
(5) زيادة خلت منها الأصول.(1/95)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)
مستحق اللعن رجعت اللعنة على المستحق لها، فإن لم يستحقها واحد منهما رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل اللَّه تبارك وتعالى. فجعل اللعنة من المتلاعنين من الناس على ما فسر.
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) ف «الْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ» فى موضع خفض تضاف اللعنة إليهم على معنى: عليهم لعنة اللَّه ولعنة الملائكة ولعنة الناس. وقرأها الْحَسَن «لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعون» وهو جائز فِي العربية وإن كان مخالفا للكتاب «1» . وذلك أن قولك (عليهم لعنة اللَّه) كقولك يلعنهم اللَّه ويلعنهم الملائكة والناس. والعرب تقول: عجبت من ظلمك نفسك، فينصبون النفس لأن تأويل الكاف رفع. ويقولون: عجبت من غلبتك نفسك، فيرفعون النفس لأن تأويل الكاف نصب. فابن على ذا ما ورد عليك.
ومن ذلك قول العرب: عجبت من تساقط البيوت بعضها على بعض، وبعضها على بعض. فمن رفع رد البعض إلى تأويل «2» البيوت لأنها رفع ألا ترى أن المعنى: عجبت من أن تساقطت بعضها على بعض. ومن خفض أجراه على لفظ البيوت، كأنه قال: من تساقط بعضها على بعض.
وأجود ما يكون فِيهِ الرفع أن يكون الأول الَّذِي فِي تأويل رفع أو نصب قد كنى عَنْهُ مثل قولك: عجبت من تساقطها. فتقول هاهنا: عجبت من
__________
(1) أي رسم المصحف. وفى القرطبىّ 2/ 190: «وقراءة الحسن هذه مخالفة للصاحف» .
(2) أي محلها فى الإعراب.(1/96)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
تساقطها بعضها على بعض لأن الخفض إذا كنيت عَنْهُ قبح أن ينعت بظاهر، فرد إلى المعنى الَّذِي يكون رفعا فِي الظاهر، والخفض جائز. وتعمل فيما تأويله النصب بمثل هذا فتقول: عجبت من إدخالهم بعضهم فِي إثر بعض تؤثر النصب فِي (بعضهم) ، ويجوز الخفض.
وقوله: وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ ... (164)
تأتي مرة جنوبا، ومرة شمالا، وقبولا، ودبورا. فذلك تصريفها.
وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ... (165)
يريد- والله أعلم- يحبون الأنداد، كما يحب المؤمنون اللَّه. ثُمَّ قال:
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ من أولئك لأندادهم.
وقوله: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ ... (165)
يوقع «يَرَى» على «أن القوّة لله وأن الله» وجوابه متروك. والله أعلم.
(وقوله) «1» : «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ» «2» وترك الجواب فِي القرآن كثير لأن معاني «3» الجنة والنار مكرر «4» معروف. وإن شئت كسرت إن وإن وأوقعت «يَرَى» على «إِذْ» فِي المعنى. وفتح إن وإن مع الياء أحسن من كسرها.
ومن قرأ «ولو ترى الذين ظلموا» بالتاء كان وجه الكلام أن يقول «أَنَّ الْقُوَّةَ ... » بالكسر «وَأَنَّ ... » لأن «ترى» قد وقعت على (الذين ظلموا)
__________
(1) يبدو أن هنا سقطا، والأصل: ومنه قوله. وهذا سقط فى ش.
(2) آية 31 سورة الرعد.
(3) فى ش: «معنى» . وكأنها مصلحة عن «معانى» .
(4) أي أمر مكرر. [.....](1/97)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
فاستؤنفت «إن- (وإن) «1» » ولو فتحتهما على تكرير الرّؤية من «ترى» ومن «يَرَى» لكان صوابا كأنه قال: «وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ» يرون «أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» .
وقوله: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ ... (170)
تنصب هذه الواو لأنها ولو عطف أدخلت عليها ألف الاستفهام، وليست ب (أو) التي واوها ساكنة لأن الألف من أو لا يجوز إسقاطها، وألف الاستفهام تسقط فتقول: ولو كان، أو لو كان إذا استفهمت.
وإنما غيّرهم اللَّه بهذا لما قَالُوا «بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا» قال اللَّه تبارك وتعالى: يا مُحَمَّد قل «أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ» فقال «آباؤُهُمْ» لغيبتهم، ولو كانت «آباؤكم» لجاز لأن الأمر بالقول يقع مخاطبا مثل قولك: قل لزيد يقم، وقل له قم. ومثله «أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ» «2» ، «أَوَلَمْ يَسِيرُوا» «3» .
ومن «4» سكن الواو من قوله: «أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ» «5» فى الواقعة وأشباه «6» ذلك فِي القرآن، جعلها «أو» التي تثبت الواحد من الاثنين. وهذه الواو فِي فتحها بمنزلة قوله «أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ» «7» دخلت ألف الاستفهام على «ثُمَّ» وكذلك «أَفَلَمْ يَسِيرُوا» «8» .
__________
(1) سقط ما بين القوسين فى أ.
(2) آية 21 سورة لقمان.
(3) آية 9 سورة الروم.
(4) من هؤلاء ابن عامر، ونافع فى رواية قالون، وأبو جعفر. وانظر البحر 7/ 355.
(5) آية 48 سورة الواقعة.
(6) كالآية 17 من الصافات.
(7) آية 51 سورة يونس.
(8) آية 109 سورة يوسف.(1/98)
وقوله: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ ... (171)
أضاف المثل إلى الذين كفروا، ثُمَّ شبههم بالراعي. ولم يقل: كالغنم. والمعنى- والله أعلم- مثل الذين كفروا (كمثل البهائم) «1» التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت، فلو قال لها: أرعى أو اشربي، لم تدر ما يقول لها. فكذلك مثل الذين كفروا فيما يأتيهم من القرآن وإنذار الرَّسُول. فأضيف التشبيه إلى الراعي، والمعنى- والله أعلم- فِي المرعى. وهو ظاهر فِي كلام العرب أن يقولوا:
فلان يخافك كخوف الأسد، والمعنى: كخوفه الأسد لأن الأسد هُوَ المعروف بأنه «2» المخوف «3» . وقال الشاعر «4» :
لقد خفت حَتَّى ما تزيد مخافتي ... على وعلٍ فِي ذي المطارة عاقِل «5»
والمعنى: حَتَّى ما تزيد مخافة وعلٍ على مخافتي. وقال الآخر «6» :
كانت فريضة ما تقول كما ... كان الزناء فريضة الرجم
والمعنى: كما كان الرجم فريضة الزناء. فيتهاون الشاعر بوضع الكلمة على صحتها لاتضاح المعنى عند العرب. وأنشدني بعضهم:
إن سراجًا لكريم مفخره ... تَحْلَى بِهِ الْعَيْنُ إذا ما تجهره «7»
والعين لا تحلى به، إنما يحلى هُوَ بها.
__________
(1) فى أ: «كالبهائم» .
(2) فى أ: «أنه» .
(3) فى أ: «مخوف» .
(4) هو النابغة الذبيانىّ. وانظر الديوان.
(5) ذو المطارة: اسم جبل. وفى معجم البلدان فى رواية البيت: من ذى مطارة. و (عاقل) : صفة وعل. يقال: عقل الظبى والوعل إذا امتنع وصعد فى الجبل العالي. وانظر أمالى ابن الشجري 1/ 52
(6) هو النابغة الجعدىّ. وانظر اللسان (زنى) والإنصاف 165، والخزانة 4/ 32. [.....]
(7) يقال: حلى الشيء بعيني إذا أعجبك، ومن ثم كان ما فى البيت من المقلوب. ويقال:
جهرت فلانا إذا راعك وأعجبك. والرجز فى اللسان (حلى) ، وهو فى مدح من يدعى سراجا.(1/99)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
وفيها معنى آخر: تضيف المثل إلى (الَّذِينَ كفروا) ، وإضافته فِي المعنى إلى الوعظ كقولك مثل وعظ الذين كفروا وواعظهم كمثل الناعق كما تقول:
إذا لقيت فلانا فسلم عليه تسليم الأمير. وإنما تريد به: كما تسلم على الأمير.
وقال الشاعر:
فلست مُسَلِّمًا ما دمتُ حيًّا ... عَلَى زَيْدٍ بتَسليم الأمير
وكل صواب.
وقوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) رفع وهو وجه الكلام لأنه مستأنف خبرٍ، يدلّ عليه قوله «فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ» كما تقول فِي الكلام: هُوَ أصم فلا يسمع، وهو أخرس فلا يتكلم. ولو نصب على الشتم مثل الحروف «1» فى أوّل سورة البقرة فِي قراءة عَبْد اللَّه «وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُما بُكْما عُمْيًا» لجاز.
وقوله: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ... (173)
نصب لوقوع «حَرَّمَ» عليها. وذلك أن قولك «إِنَّما» على وجهين:
أحدهما أن تجعل «إِنَّما» حرفا واحدا، ثُمَّ تعمل الأفعال التي تكون بعدها [فِي] «2» الاسماء، فإن كانت رافعة رفعت، وإن كانت ناصبة نصبت فقلت: إنما دخلت دارك، وإنما أعجبتني دارك، وإنما مالي مالك. فهذا حرف واحد.
__________
(1) يريد بالحروف الكلمات الثلاث: صما وبكما وعميا. وفى أ: «الحرف» .
(2) زيادة يقتضيها السياق، خلت منها الأصول.(1/100)
وأمّا الوجه الآخر فأن يجعل «ما» منفصلة من (إن) فيكون «ما» على معنى الَّذِي، فإذا كانت كذلك وصلتها بما يوصل به الَّذِي، ثُمَّ يرفع الاسم الَّذِي يأتي بعد الصلة كقولك إن ما أخذت مالك، إن ما ركبت دابتك. تريد: إن الَّذِي ركبت دابتك، وإن الَّذِي أخذت مالك. فأجرهما على هذا.
وهو فِي التنزيل فِي غير ما موضع من ذلك قوله تبارك وتعالى: «أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» «1» ، «إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ» «2» فهذه حرف واحد، هِيَ وإن، لأن «الَّذِي» لا تحسن فِي موضع «ما» .
وأما التي فِي مذهب (الَّذِي) فقوله: «إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ» «3» معناه:
إن الذي صنعوا كيد ساحرٍ. ولو قرأ قارئ «إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ» نصبا كان صوابا إذا جعل إن وما حرفا واحدا. وقوله «إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ» «4» قد «5» نصب المودة قوم، ورفعها آخرون على الوجهين اللذين فسرت لك. وَفِي قراءة عَبْد اللَّه «إنّما مَوَدَّةُ بَيْنِكم فِي الحياة الدنيا» «6» فهذه حجة لمن رفع المودة لأنها مستأنفة لم يوقع الاتخاذ عليها، فهو بمنزلة قولك: إن الَّذِي صنعتموه ليس بنافع، مودة بينكم ثُمَّ تنقطع بعد. فإن شئت رفعت المودة ب «بين» وإن شئت أضمرت لها اسما قبلها يرفعها كقوله «سُورَةٌ أَنْزَلْناها» «7» وكقوله «لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ» «8» .
__________
(1) آية 171 سورة النساء، وهذه أمثلة لإنما التي هى حرف واحد. وأما الأخرى فستذكر عند قوله:
وأما التي فى مذهب الذي إلخ.
(2) آية 12 سورة هود.
(3) آية 69 سورة طه.
(4) آية 25 سورة العنكبوت.
(5) فى ج، ش: «وقد» .
(6) فى نسخ الأصل:
«مودة بينهم» على الغيبة وهى قراءة أبى.
(7) آية 1 سورة النور.
(8) آية 35 سورة الأحقاف. و (بلاغ) خبر مبتدأ محذوف قدّره بعضهم بقوله تلك الساعة بلاغ لدلالة قوله (إلا ساعة من نهار) وقيل تقديره: هذا (أي القرآن أو الشرع بلاغ) وانظر العكبري والسمين.(1/101)
فإذا رَأَيْت «إنما» فِي آخرها اسم من الناس وأشباههم مما يقع عليه «من» فلا تجعلن «ما» فِيهِ على جهة (الَّذِي) لأن العرب لا تكاد تجعل «ما» للناس.
من ذلك: إنما ضربت أخاك، ولا تقل: أخوك لأن «ما» لا تكون للناس.
فإذا كان الاسم بعد «إنما» وصلتها من غير الناس جاز فِيهِ لك الوجهان فقلت: إنما سكنت دارك. وإن شئت: دارك.
وقد تجعل العرب «ما» فِي بعض الكلام للناس، وليس بالكثير. وفي قراءة عبد اللَّه «وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَالذَّكَرَ وَالأنثَى» «1» وفي قراءتنا «وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» فمن جعل «ما خَلَقَ» للذكر والأنثى جاز أن يخفض «الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» كأنه قال والذي خلق: الذكر والأنثى. ومن نصب «الذَّكَرَ» جعل «ما» و «خَلَقَ» كقوله: وخلقه الذكر والأنثى، يوقع خلق عليه. والخفض فِيهِ على قراءة عَبْد اللَّه حسن، والنصب أكثر.
ولو رفعت «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ» كان وجها. وقد قرأ بعضهم «2» :
«إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ» ولا يجوز هاهنا إلا رفع الميتة والدم لأنك إن جعلت «إِنَّما» حرفا واحدا رفعت الميتة والدم لأنه فعل لم يسم فاعله، وإن جعلت «ما» على جهة (الذي) رفعت الميتة والدم لأنه خبر ل (ما) .
وقوله: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ... (173)
الإهلال: ما نودي به لغير اللَّه على الذباح [وقوله] «3» فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [ (غير) «4» فِي هذا الموضع حال للمضطر كأنك قلت: فمن اضطرّ لا باغيا
__________
(1) آية 3 سورة الليل. فى الشواذ قراءة الحسن «والذكر والأنثى» بالكسر كما فى قراءة عبد الله.
وعند الكسائي «ما خلق الذكر والأنثى» بالكسر أيضا، فالأولى بإسقاط «وما خلق» .
(2) هو أبو جعفر. وانظر القرطبي 2/ 216.
(3، 4) زيادة فى أ. [.....](1/102)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
ولا عاديا] فهو له حلال. والنصب هاهنا بمنزلة قوله «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ» «1» ومثله «إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ» «2» و «غَيْرِ» هاهنا لا «3» تصلح «لا» فِي موضعها لأن «لا» تصلح فِي موضع غير. وإذا رَأَيْت «غَيْرَ» يصلح «لا» فِي موضعها فهي مخالفة «لِغَيْرِ» التي لا تصلح «لا» فِي موضعها.
ولا تحل الميتة للمضطر إذا عدا على الناس بسيفه، أو كان فِي سبيل من سبل المعاصي. ويقال: إنه لا ينبغي لآكلها أن يشبع منها، ولا أن يتزود منها شيئًا.
إنما رخص له فيما يمسك نفسه.
وقوله: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ... (175)
فِيهِ وجهان: أحدهما معناه: فما الَّذِي صبرهم على النار؟. والوجه الآخر: فما أجرأهم على النار! قال الكسائي: سألني قاضي اليمن وهو بمكة، فقال: اختصم إلى رجلان من العرب، فحلف أحدهما على حق صاحبه، فقال له: ما أصبرك على اللَّه! وفي هذه أن يراد بها: ما أصبرك على عذاب اللَّه، ثُمَّ تلقى العذاب فيكون كلاما كما تقول: ما أشبه سخاءك بحاتم.
وقوله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ... (177)
إن شئت رفعت «الْبِرَّ» وجعلت «أَنْ تُوَلُّوا» فِي موضع نصب. وإن شئت نصبته وجعلت «أَنْ تُوَلُّوا» فِي موضع رفع كما قال: «فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ» «4»
__________
(1) آية 1 سورة المائدة.
(2) آية 53 سورة الأحزاب.
(3) كذا فى الأصول.
فإن صح هذا فالمعنى أن (غيرا) هنا تساوى فى المعنى (لا) كما قدر قبل، وقوله: «تصلح لا ... » تفسير لهذا. وأقرب من هذا أن تكون (لا) زيدت فى النسخ.
(4) آية 17 سورة الحشر.(1/103)
فِي كثير من القرآن. وفي إحدى القراءتين «لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ» ، فلذلك اخترنا الرفع فِي «الْبِرُّ» ، والمعنى فِي قوله «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» أي ليس البر كله فِي توجهكم إلى الصلاة واختلاف القبلتين وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ثُمَّ وصف ما وصف إلى آخر الآية. وهي «1» من صفات الأنبياء لا لغيرهم.
وأما قوله: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فإنه من كلام العرب أن يقولوا:
إنما البر الصادق الَّذِي يصل رحمه، ويخفى صدقته، فيجعل الاسم خبرا للفعل والفعل خبرًا للاسم لأنه أمر معروف المعنى.
فأما الفعل الَّذِي جعل خبرا للاسم فقوله: «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ» »
ف (هو) كناية عن البخل. فهذا لمن جعل «الَّذِينَ» فِي موضع نصب وقرأها «تحسبن» بالتاء. ومن قرأ بالياء جعل «الَّذِينَ» فِي موضع رفع، وجعل (هُوَ) عمادا للبخل المضمر، فاكتفى بما ظهر فى «يَبْخَلُونَ» من ذكر البخل ومثله فِي الكلام:
هُمُ الملوك وأبناء الملوك لهم ... والآخذون به والساسة الأول «3»
قوله: به يريد: بالملك، وقال آخر:
إذا نهى السفيه جرى إليه ... وخالف والسفيه إلى خلاف «4»
يريد إلى السفه.
__________
(1) كأنه يريد أن هذه الصفات جميعها لا تكمل إلا للأنبياء. والحق أن اجتماعها كاملة جدّ عسير.
(2) آية 180 سورة آل عمران.
(3) آخر قصيدة القطامىّ التي أوّلها:
إنا محيوك فاسلم أيها الطلل ... وإن بليت وإن طالت بك الطيل
وهذا فى مدح قريش وبنى أمية وعبد الواحد الأموى، وانظر الديوان.
(4) «إليه» فى أ «عليه» . وانظر الخزانة 2/ 382(1/104)
وأما الأفعال التي جعلت أخبارا للناس فقول الشاعر:
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحي ... ولكنما الفتيان كلّ فتى ندى
فجعل «أن» خبرا للفتيان.
وقوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ (من) فِي موضع رفع، وما بعدها صلة لها، حتى ينتهى إلى قوله وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ فتردّ «الْمُوفُونَ» على «مَنْ» و «الْمُوفُونَ» من صفة «مَنْ» كأنه: من آمن ومن فعل وأوفى. ونصبت «الصَّابِرِينَ» لأنها من صفة «مَنْ» وإنما نصبت لأنها من صفة اسم واحد، فكأنه ذهب به إلى المدح والعرب تعترض من صفات الواحد إذا تطاولت بالمدح أو الذم، فيرفعون إذا كان الاسم رفعا، وينصبون بعض المدح، فكأنهم ينوون إخراج المنصوب بمدحٍ مجددٍ غير متبع لأول الكلام من ذلك قول الشاعر «1» :
لا يبعدن قومي الذين هُمْ ... سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك ... والطيّبين معاقد الأزر
وربما رفعوا (النازلون) و (الطيبون) ، وربما نصبوهما على المدح، والرفع على أن يتبع آخر الكلام أوله. وقال بعض الشعراء:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة فِي المزدحم
وذا الرأي حين تغم الأمور ... بذات الصليل وذات اللّجم «2»
__________
(1) أي الشخص الشاعر، وهى الخرنق ترثى زوجها ومن قتل معه. وانظر الخزانة 2/ 301، وأمالى ابن الشجري 1/ 344
(2) ورد هذا الشعر فى الخزانة 1/ 216، والإنصاف 195 غير منسوب. و (تغم الأمور) :
تلتبس وتبهم ولا يهتدى فيها لوجه الصواب، وذات الصليل: الكتيبة يسمع فيها صليل السيوف، وذات اللجم: الكتيبة أيضا فيها الخيل بلجمها، والقرم: السيد المعظم.(1/105)
فنصب (ليث الكتيبة) و (ذا الرأي) على المدح والاسم قبلهما مخفوض لأنه من صفة واحدٍ، فلو كان الليث غير الملك لم يكن إلا تابعا كما تقول مررت بالرجل والمرأة، وأشباهه. قال: وأنشدني بعضهم:
فليت التي فيها النجوم تواضعت ... على كل غث منهم وسمين
غيوث الحيا فِي كل محلٍ ولزبةٍ ... أسود الشرى يحمين كل عرين «1»
فنصب. ونرى أن قوله: «لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ» «2» أنّ نصب «الْمُقِيمِينَ» على أنه نعت للراسخين، فطال نعته ونصب على ما فسرت لك.
وفي قراءة عبد اللَّه «والمقيمون والمؤتون» وفي قراءة أَبِي «وَالْمُقِيمِينَ» ولم يجتمع فِي قراءتنا وفي قراءة أَبِي إلا على صوابٍ. والله أعلم.
حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ: قال: وقد حدّثنى أبو معاوية «3» الصرير عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قوله: «إِنْ هذانِ لَساحِرانِ» «4» وَعَنْ قوله:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ» «5» وعن قوله: «وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ» فقالت: يا بن أخى «6» هذا كان خطأ من الكاتب.
__________
(1) تواضعت: هبطت، واللزبة الشدّة، المحل القحط، الحيا بالقصر المطر. والذي فى الطبري:
غيوث الورى فى كل محل وأزمة
(2) آية 162 سورة النساء.
(3) هو محمد بن خازم الكوفىّ، من كبار المحدّثين. قال أبو داود: قلت لأحمد: كيف حديث أبى معاوية عن هشام بن عروة؟ قال: فيها أحاديث مضطربة.
وبهذا تعرف ضعف هذه الرواية، فلا يعوّل عليها، وكيف يقرّ الكاتب على الخطأ بإن كان ثم خطأ، وقد قام على كتاب القرآن الثقات الأثبات. وانظر الطبري فى تفسير آية «لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» فى النساء والإتقان فى النوع الحادي والأربعين. وانظر ترجمة أبى معاوية فى تهذيب التهذيب.
(4) آية 63 سورة طه. [.....]
(5) آية 69 سورة المائدة.
(6) كذا فى الأصول: تريد أخاها فى الإسلام وفى القرابة، لأنه زوج أختها أسماء. وفى الطبري 6/ 18: «أختى» وقد يكون ما هنا محرّفا عن «أختى» .(1/106)
وقال فِيهِ الكسائي «وَالْمُقِيمِينَ» موضعه خفض يرد على قوله: «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» : ويؤمنون بالمقيمين الصلاة هُمْ والمؤتون الزكاة.
قال: وهو بمنزلة قوله: «يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ» «1» وكان النحويّون يقولون «الْمُقِيمِينَ» مردودة على «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ- إلى الْمُقِيمِينَ» وبعضهم «لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ» ومن «الْمُقِيمِينَ» وبعضهم «مِنْ قَبْلِكَ» ومن قبل «الْمُقِيمِينَ» .
وإنما امتنع من مذهب المدح- يعني الكسائي- الَّذِي فسرت لك، لأنه قال: لا ينصب الممدوح إلا عند تمام الكلام، ولم «2» يتمم الكلام فى سورة النساء.
ألا ترى أنك حين قلت «لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ- إلى قوله «وَالْمُقِيمِينَ- والْمُؤْتُونَ» كأنك منتظر لخبره «3» ، وخبره فِي قوله «أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً» والكلام أكثره على ما وصف الكسائي. ولكن العرب إذا تطاولت الصفة جعلوا الكلام فِي الناقص وفي التام كالواحد ألا ترى أنهم قَالُوا فِي الشعر:
حَتَّى إذا قملت «4» بطونكم ... ورأيتم أبناءكم شبوا
وقلبتم ظهر المجن لنا ... إن اللئيم العاجز الخب
فجعل جواب (حَتَّى إذا) بالواو، وكان ينبغي ألا يكون فِيهِ واو، فاجتزئ بالاتباع ولا خبر بعد ذلك. وهذا أشدّ مما وصفت لك.
__________
(1) آية 61 سورة التوبة.
(2) فى الطبري: «لما» .
(3) فى ج وش: لخبرهم وخبرهم إلخ.
(4) قلت بطونكم: كثرت قبائلكم. وقلب ظهر المجن- والمجن الترس-: المنابذة بالعداء والخب: اللئيم الماكر. والبيتان فى الإنصاف 189، والخزانة 4/ 414، واللسان (قمل) من غير عزو.(1/107)
ومثله فى قوله «حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها» «1» ومثله فِي قوله «فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ» «2» جعل بالواو. وَفِي قراءة عَبْد اللَّه «فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ وَجَعَلَ السِّقَايَةَ» «3» وفي قراءتنا بغير واو. وكل عربي حسن.
وقد قال بعضهم: «وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى - وَالصَّابِرِينَ» فنصب الصابرين على إيقاع الفعل عليهم. والوجه أن يكون نصبا على نية المدح لأنه من صفة شيء واحد. والعرب تقول فِي النكرات كما يقولونه فِي المعرفة، فيقولون: مررت برجل جميل وشابًا بعد، ومررت برجل عاقل وشرمحًا «4» طوالا وينشدون قوله:
ويأوي إلى نسوةٍ بائساتٍ «5» ... وشعثًا مراضيع مثل السعالي
(وشعثٍ) فيجعلونها خفضا بإتباعها أول الكلام، ونصبا على نية ذم فِي هذا الموضع.
وقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ... (178)
فإنه نزل فِي حيين من العرب كان لاحدهما طول على الآخر فِي الكثرة والشرف، فكانوا يتزوجون نساءهم بغير مهور، فقتل الأوضع من الحيّين من
__________
(1) آية 73 سورة الزمر.
(2) آية 104 سورة الصافات، وتله للجبين: صرعه عليه وأسقطه على شقه.
(3) آية 70 سورة يوسف.
(4) الشرمح من الرجال القوى الطويل.
(5) لأمية بن أبى عائذ الهذلىّ. وهو فى وصف صائد وإعساره. البؤس: شدّة الحاجة والفقر.
ويروى: عطل: جمع عاطل وهن اللواتى لا حلى عليهن، وشعث جمع شعثاء، وشعثها من قلة التعهد بالدهن والنظافة، والسعالى ضرب من الغيلان، الواحد سعلاة. وانظر الخزانة 1/ 417، وأشعار الهذليين طبع الدار 1/ 172. والبيت فى المرجع الأخير فيه بعض تغيير.(1/108)
الشريف قتلى، فأقسم الشريف ليقتلن الذكر بالأنثى والحر بالعبد وأن يضاعفوا الجراحات، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى هذا على نبيه، ثُمَّ نسخه قوله «وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» «1» إلى آخر الآية. فالأولى منسوخة لا يحكم بها «2» .
وأما قوله: فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ فإنه رفع. وهو بمنزلة الأمر فِي الظاهر كما تقول: من لقي العدو فصبرا واحتسابا. فهذا نصب ورفعه جائز. وقوله تبارك وتعالى «فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ» رفع ونصبه جائز. وإنما كان الرفع فِيهِ وجه الكلام لأنها عامة فيمن فعل ويراد بها من لم يفعل. فكأنه قال: فالأمر فيها على هذا، فيرفع. وينصب الفعل إذا كان أمرا عند الشيء يقع ليس بدائم مثل قولك للرجل: إذا أخذت فِي عملك فجدا جدا وسيرا سيرا.
نصبت لأنك لم تنوبه العموم فيصير كالشيء الواجب على من أتاه وفعله ومثله قوله: «وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» «3» ومثله «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» «4» ومثله فِي القرآن كثير، رفع كله لأنها عامة.
فكأنه قال: من فعل هذا فعليه هذا.
وأمّا قوله: «فَضَرْبَ الرِّقابِ» «5» فإنه حثهم على القتل إذا لقوا العدو ولم يكن الحث كالشيء الَّذِي يجب بفعلٍ قبله فلذلك نصب، وهو بمنزلة قولك:
إذا لقيتم العدوّ فتهليلا وتكبيرا وصدقا عند تلك الوقعة (- قال الفراء:
ذلك وتلك لغة قريشٍ، وتميم تقول ذاك وتيك الوقعة «6» -) كأنه حث لهم، وليس بالمفروض عليهم أن يكبروا، وليس شيء من هذا إلا نصبه جائز
__________
(1) آية 45 سورة المائدة.
(2) هذا قول أهل العراق. وجمهور الفقهاء يرون أن الآية محكمة، وأن آية المائدة تبينها، أو هى فى شريعة التوراة، وانظر القرطبي 2/ 246
(3) آية 95 سورة المائدة. [.....]
(4) آية 229 سورة البقرة.
(5) آية 4 سورة محمد صلى الله عليه وسلم.
(6) ما بين الخطين زيادة فى ج وش.(1/109)
على أن توقع عليه الأمر فليصم ثلاثة أيام، فليمسك إمساكا بالمعروف أو يسرح تسريحا بإحسان.
وقوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ... (179)
يقول: إذا علم الجاني أنه يقتص منه: إن قتل قتل انتهى عن القتل فحيي.
فذلك «1» قوله: «حَياةٌ» .
وقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ ... (180)
معناه فِي كل القرآن: فرض عليكم.
وقوله: الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ... (180)
كان الرجل يوصى بما أحب من ماله لمن شاء من وارثٍ أو غيره، فنسختها آية المواريث «2» . فلا وصية لوارثٍ، والوصية فِي الثلث لا يجاوز، وكانوا قبل هذا يوصى «3» بماله كلّه وبما أحبّ منه.
و «الْوَصِيَّةُ» مرفوعة ب (كتب) ، وإن شئت جعلت (كتب) فِي مذهب قيل فترفع الوصية «4» باللام فِي «الوالدين» كقوله تبارك وتعالى:
«يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» «5» .
__________
(1) فى أ: «وذلك» .
(2) هذا القول يقتضى أن الوصية فى الآية منسوخة مطلقا مع أن آية المواريث نسخت وصية الوالدين فقط وأما وصية الأقربين فليست بمنسوخة لأن الأقربين فى الآية هم الطبقة بعد الورثة. هذا هو المعتمد فى تفسير الآية وعليه أهل العلم واختاره الطبري.
(3) أي الواحد منهم.
(4) أي أن الوصية مبتدأ، وخبره «لِلْوالِدَيْنِ» والخبر والمبتدأ عند الكوفيين مترافعان، فرافع الوصية هو الخبر وصدره اللام. فهذا وجه مقاله.
(5) آية 11 سورة النساء.(1/110)
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
وقوله: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً ... (182)
والعرب «1» تقول: وصيتك وأوصيتك، وفي إحدى القراءتين «وأوصى بها إِبْرَاهِيم» «2» بالألف. والجنف: الجور. فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ وإنما ذكر الموصى وحده فإنه إنما قال «بَيْنَهُمْ» يريد أهل المواريث وأهل الوصايا فلذلك قال «بَيْنَهُمْ» ولم يذكرهم لأن المعنى يدل على أن الصلح إنما يكون فِي الورثة والموصى لهم.
وقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ... (183)
يقال: ما كتب على الذين قبلنا، ونحن نرى النصارى يصومون أكثر من صيامنا وفي غير شهرنا،؟ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قال: وحدثني مُحَمَّد «3» بْن أبان الْقُرَشِيّ عن أَبِي أمية الطنافسي عن الشَّعْبِيّ أنه قال: لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الَّذِي يشك فِيهِ فيقال: من شعبان، ويقال: من رمضان. وذلك أن النصارى فرض عليهم شهر رمضان كما فرض علينا، فحولوه إلى الفصل «4» . وذلك أنهم كانوا ربما صاموه فِي القيظ فعدوه ثلاثين يوما، ثُمَّ جاء بعدهم قرن منهم فأخذوا بالثقة فِي أنفسهم فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثُمَّ لم يزل الآخر يستن سنة الأول حَتَّى صارت إلى خمسين. فذلك قوله «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» .
__________
(1) يريد أنه قرىء فى الآية موص بسكون الواو وتخفيف الصاد من أوصى، وموص بفتح الواو وشدّ الصاد، وهذه قراءة حمزة والكسائي وأبى بكر عن عاصم، والأولى قراءة الآخرين. وانظر القرطبي 2/ 296.
(2) الآية 132 من سورة البقرة. وانظر ص 80 من هذا السفر.
(3) هو الواسطىّ الطحان. مات سنة 139. وانظر الخلاصة.
(4) يريد أحد فصول السنة الأربعة وتسمى الأزمنة الأربعة أيضا وانظر المصباح (زمن) والمراد:
الفصل المعين الذي يؤقتون به صومهم.(1/111)
وقوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ... (180)
نصبت على أن كل ما «1» لم تسم فاعله إذا كان فيها اسمان أحدهما غير صاحبه رفعت واحدا ونصبت الآخر كما تقول: أعطى عَبْد اللَّه المال. ولا تبال أكان المنصوب معرفة أو نكرة، فإن كان الآخر نعتا للأول وكانا ظاهرين رفعتهما جميعا فقلت: ضرب عَبْد اللَّه الظريف، رفعته لأنه عَبْد اللَّه. وإن كان نكرة نصبته فقلت: ضرب عَبْد اللَّه راكبا ومظلوما وماشيا وراكبا.
قوله: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ... (184)
رفع على ما فسرت لك فِي قوله «فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ» ولو كانت نصبا كان صوابا.
وقوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ... (184)
يقال: وعلى الذين يطيقون الصوم ولا يصومون أن يطعم «2» مسكينا مكان كل يومٍ يفطره. ويقال: على الذين يطيقونه الفدية يريد الفداء. ثُمَّ نسخ هذا فقال تبارك وتعالى: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ من الإطعام.
وقوله: شَهْرُ رَمَضانَ ... (185)
رفع مستأنف أي: ولكم «3» «شَهْرُ رَمَضانَ» الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وقرأ الْحَسَن نصبا على التكرير «4» «وَأَنْ تَصُومُوا» شهر رمضان «خَيْرٌ لَكُمْ» والرفع أجود.
__________
(1) فى ش، ج: «من» .
(2) فى ش، ح: «ولكم» وهو تحريف. وانظر البحر المحيط فى تفسير الآية. [.....]
(3) أي الواحد منهم.
(4) المعروف فى التكرير أنه البدل. وقد وجه هذا فى البحر بأن «شَهْرُ رَمَضانَ» بدل من «أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» . والوجه الذي ذكره المؤلف لا يأتى على التكرير. بل على التقديم والتأخير، إذ يربط «شَهْرُ رَمَضانَ» بقوله: «وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ» وكأن هنا سقطا. والأصل بعد قوله: «التكرير» أو على التقديم والتأخير، أو أن التكرير محرف عن التأخير.(1/112)
وقد تكون نصبا من قوله «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ» «شَهْرُ رَمَضانَ» توقع الصيام عليه: أن تصوموا شهر رمضان.
وقوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ دليل على نسخ الإطعام. يقول: من كان سالما ليس بمريض أو مقيما ليس بمسافر فليصم وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ قضى ذلك. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ فِي الإفطار فِي السفر وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ الصوم فيه.
وقوله: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ... (185)
«1» فِي قضاء ما أفطرتم. وهذه اللام فِي قوله «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ» لام كي لو ألقيت كان صوابا. والعرب تدخلها فِي كلامها على إضمار فعلٍ بعدها. ولا تكون شرطا «2» للفعل الَّذِي قبلها وفيها الواو. ألا ترى أنك تقول: جئتك لتحسن إلىّ، ولا تقول جئتك ولتحسن إلى. فإذا قلته فأنت تريد: ولتحسن إلى «3» جئتك. وهو فِي القرآن كثير. منه قوله «وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ «4» لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» ومنه قوله «وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» «5» لو لم تكن فِيهِ الواو كان شرطا، على قولك: أريناه ملكوت السَّمَوَاتِ ليكون. فإذا كانت الواو فيها فلها فعل مضمر بعدها «وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» أريناه. ومنه (فِي غير) «6» اللام قوله «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ» «7» ثم قال «وَحِفْظاً» «8» لو لم تكن الواو كان الحفظ منصوبا ب «زَيَّنَّا» . فإذا كانت فِيهِ الواو وليس قبله شيء ينسق عليه
__________
(1) فى أ: «و» .
(2) أي علة.
(3) سقط فى أ.
(4) آية 113 سورة الأنعام.
(5) آية 75 منها.
(6) فى أ: «بغير» .
(7) آية 6 سورة الصافات.
(8) آية 7 منها.(1/113)
فهو دليل على أنه منصوب بفعلٍ مضمرٍ بعد الحفظ كقولك فِي الكلام: قد أتاك أخوك ومكرما لك، فإنما ينصب المكرم على أن تضمر أتاك بعده.
وقوله: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ... (186)
قال المشركون للنبي صلى اللَّه عليه وسلم: كيف يكون ربنا قريبا يسمع دعاءنا، وأنت تخبرنا «1» أن بيننا وبينه سبع سَمَوَاتٍ غلظ كل سماءٍ مسيرة خمسمائة عامٍ وبينهما مثل ذلك؟ فأنزل اللَّه تبارك وتعالى «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ» أسمع ما يدعون فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي يقال: إنها التلبية.
وقوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ... (187)
وفي قراءة عَبْد اللَّه «2» «فلا رفوث ولا فسوق» «3» وهو الجماع فيما ذكروا رفعته ب «أُحِلَّ لَكُمْ» لأنك لم تسم فاعله.
وقوله: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ... (187)
يقول: عند الرخصة التي نزلت ولم تكن قبل ذلك لهم. وقوله وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يقال: الولد، ويقال: «اتبعوا» بالعين «4» . وسئل عَنْهُمَا ابن عَبَّاس فقال: سواء.
وقوله: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ... (187)
__________
(1) فى أ: «تخبر» .
(2) كأن هنا سقطا. والأصل بعد «عبد الله» : «الرفوث إلى نسائكم» فقد نقلت هذا القراءة عن ابن مسعود.
(3) آية 197 من البقرة.
(4) قراءة الحسن كما فى القرطبي: اتبعوا، بالعين وذكرها الطبري ولم ينسبها إلا أنه ذكر سؤال ابن عباس عنها. [.....](1/114)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
فقال رَجُل «1» للنبي صلى اللَّه عليه وسلم: أهو الخيط الابيض والخيط الاسود؟
فقال لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنك لعريض القفا هُوَ الليل من النهار) .
وقوله: وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ وفي قراءة أَبِي «ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولا تدلوا بها إلى الحكام» فهذا مثل قوله «وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ» «2» معناه: ولا تكتموا. وإن شئت جعلته إذا ألقيت منه «لا» نصبا على الصرف كما تقول: لا تسرق وتصدق. معناه: لا تجمع بين هذين كذا وكذا وقال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم «3»
والجزم فِي هذا البيت جائز أي لا تفعلن واحدا من هذين.
وقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ... (189)
سئل النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم عن نقصان القمر وزيادته ما هُوَ؟ فأنزل «4» اللَّه تبارك وتعالى: ذلك لمواقيت حجكم وعمرتكم وحل ديونكم وانقضاء عدد نسائكم.
وقوله: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ... (189)
وذلك أن أهل الجاهلية- إلا قريشا ومن ولدته قريش من العرب- كان الرجل منهم إذا أحرم «5» فِي غير أشهر الحج فِي بيت مدرٍ أو شعرٍ أو خباءٍ نقب فى بيته
__________
(1) هو عدىّ بن حاتم. وانظر البخاري فى الصوم، وفى تفسير سورة البقرة.
(2) آية 42 فى هذه السورة.
(3) انظر 34 من هذا الجزء.
(4) أي أنزل معنى هذا الكلام، لا لفظه كما لا يخفى.
(5) أي بالعمرة. وكان ذلك زمن الحديبية. وهذا أحد ما جاء فى سبب نزول الآية. انظر تفسير الطبري 2/ 109(1/115)
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)
نقبا من مؤخّره فخرج منه ودخل ولم يخرج من الباب، وإن كان من أهل الأخبية والفساطيط خرج من مؤخرة ودخل منه. فبينما رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو محرم ورجل محرم يراه، دخل من باب حائط فاتبعه ذلك الرجل، فقال له: تنح عني. قال: ولم؟ قال دخلت من الباب وأنت محرم. قال: إني قد رضيت بسنتك وهديك. قال له النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم: (إني أحْمَس) «1» قال: فإذا كنت أحمس فِإني أحمس. فوفق اللَّه الرجل، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
وقوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ. (191)
فهذا وجه قد قرأت به العامة. وقرأ أصحاب عَبْد اللَّه «ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه، فإن قتلوكم فقتلوهم» والمعنى هاهنا: فإن بدءوكم بالقتل فاقتلوهم. والعرب تقول: قد قتل بنو فلان إذا قتل منهم الواحد.
فعلى «2» هذا قراءة أصحاب عَبْد الله. وكلّ حسن.
وقوله: فَإِنِ انْتَهَوْا فلم يبدءوكم فَلا عُدْوانَ على الذين انتهوا، إنما العدوان على من ظلم: على من بدأكم ولم ينته.
فإن قال قائل: أرأيت قوله «فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» أعدوان هُوَ وقد أباحه اللَّه لهم؟ قُلْنَا: ليس بعدوان فِي المعنى، إنما هُوَ لفظ على مثل ما سبق «3» قبله
__________
(1) هو وصف من الحماسة بمعنى التشدّد فى الدين والصلابة فيه. وجمعه الأحامس، وقد غلب هذا الوصف على قريش ومن لحق بهم من خزاعة وغيرهم لأنهم كانوا يتشدّدون فى دينهم فى الجاهلية.
(2) فمعنى «فإن قتلوكم» على هذه القراءة: فإن قتلوا واحدا منكم. وبهذا يندفع سؤال بعضهم:
إذا قتلوهم كيف يقتلونهم. وانظر تفسير الطبري 2/ 122
(3) فى أ: «نسق» .(1/116)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
ألا ترى أنه قال: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ فالعدوان من المشركين فِي اللفظ ظلم فِي المعنى والعدوان الَّذِي أباحه اللَّه وأمر به المسلمين إنما هُوَ قصاص. فلا «1» يكون القصاص ظلما، وإن كان لفظه واحدا.
ومثله قول اللَّه تبارك وتعالى: «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» «2» وليست من اللَّه على مثل معناها من المسيء لأنها «3» جزاء.
وقوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ... (196)
وفي قراءة عَبْد اللَّه «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ إلى البيت لله» «4» فلو قرأ قارئ «وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ» فرفع العمرة «5» لأن المعتمر إذا أتى البيت فطاف به وبين الصفا والمروة حل من عمرته. والحج يأتي فِيهِ عرفاتٍ وجميع المناسك وذلك قوله «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ» يقول: أتموا العمرة إلى البيت «6» فِي الحج إلى أقصى مناسكه.
فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ العرب تقول للذي يمنعه من الوصول إلى إتمام حجه أو عمرته خوف أو مرض، وكل «7» ما «8» لم يكن مقهورًا كالحبس والسجن (يقال للمريض) «9» : قد
__________
(1) الأسوغ: «ولا» كما هو الأقرب إلى ما فى أ.
(2) آية 40 سورة الشورى.
(3) فى أ «لأنه» .
(4) الذي فى الطبري: «فى قراءة عبد الله: وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت» . ويدل قول الطبري على أن ابن مسعود يقرأ بنصب العمرة، على خلاف ما فى الشواذ لابن خالويه فإنه ذكر قراءة عبد الله: والعمرة لله بالرفع.
(5) هنا حذف «بعد العمرة» . والأصل: جاز. ويتعلق به قوله بعد: «لأن المعتمر ... »
وقد قرأ بالرفع على رضى الله عنه والشعبي، ورويت أيضا عن ابن مسعود. وانظر الشواذ لابن خالويه والبحر 2/ 72
(6) كأن «فى» محرّفة عن واو العطف. [.....]
(7) معطوف على «الذى يمنعه من الوصول ... » .
(8) أوقع «ما» موقع من ذهابا إلى الوصف كقوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء ...
(9) هذا تأكيد لقوله قبل: «العرب تقول ... » فقوله: «قد أحصر ... » مقول «تقول» .(1/117)
أحصر، وفي الحبس والقهر: قد حصر. فهذا فرق بينهما. ولو نويت فِي قهر السلطان أنها علة مانعة ولم تذهب إلى فعل الفاعل جاز لك أن تقول: قد أحصر الرجل.
ولو قلت فِي المرض وشبهه: إن المرض قد حصره أو الخوف، جاز أن تقول:
حصرتم. وقوله «وَسَيِّداً وَحَصُوراً» «1» [يقال] «2» إنه المحصر عن النساء لأنها علة وليس بمحبوسٍ. فعلى هذا فابن.
وقوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ... (196)
«ما» فِي موضع رفع لأن أكثر ما جاء من أشباهه فِي القرآن مرفوع.
ولو نصبت على قولك: أهدوا «فَمَا اسْتَيْسَرَ» «3» .
وتفسير الهدى فى هذا الموضع بدنة «4» أو بقرة أو شاة.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدى صام ثلاثة أيام يكون أخرها يوم عرفة، واليومان فِي العشر، فأما السبعة فيصومها إذا رجع فِي طريقه، وإن شاء إذا وصل إلى أهله و «السبعة» فيها الخفض على الاتباع للثلاثة. وإن نصبتها «5» فجائز على فعل «6» مجدد كما تقول فِي الكلام: لا بد من لقاء أخيك وزيدٍ وزيدا.
وقوله: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يقول: ذلك لمن كان من الغرباء من غير أهل مكة، فأما أهل مكة فليس ذلك عليهم. و «ذلِكَ» فِي موضع رفع. وعلى تصلح فِي موضع اللام أي ذلك على الغرباء.
__________
(1) آية 39 سورة آل عمران.
(2) زيادة من اللسان فى حصر.
(3) الجواب محذوف أي جاز مثلا. وفى الطبري: «ولو قيل: موضع (ما) نصب بمعنى فإن أحصرتم فأهدوا ما استيسر من الهدى لكان غير مخطئ قائله» .
(4) يراد بالبدنة هنا الناقة أو البعير.
(5) وهى قراءة زيد بن على، كما فى البحر.
(6) تقديره: صوموا، أو ليصوموا.(1/118)
وقوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ معناه: وقت الحج هذه الأشهر. فهي وإن كانت «فِي» تصلح فيها فلا يقال إلا بالرفع، كذلك كلام العرب، يقولون: البرد شهران، والحرّ شهران، لا ينصبون لأنه مقدار الحج. ومثله قوله: «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ» «1» ولو كانت الأشهر أو الشهر معروفة على هذا المعنى لصلح «2» فِيهِ النصب. ووجه الكلام الرفع لأن الاسم إذا كان فِي معنى صفةٍ «3» أو محل قوى إذا أسند إلى شيء ألا ترى أن العرب يقولون: هُوَ رَجُل دونك وهو رَجُل دون، فيرفعون إذا أفردوا، وينصبون إذا أضافوا. ومن كلامهم المسلمون جانب، والكفار جانب، فإذا قَالُوا: المسلمون جانب صاحبهم نصبوا. وذلك أن «4» الصاحب يدل على محل كما تقول: نحو صاحبهم، وقرب صاحبهم. فإذا سقط الصاحب لم تجده محلا تقيده قرب شيء أو بعده.
والأشهر المعلومات شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. والأشهر الحرم المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة. وإنما جاز أن يقال له أشهر وإنما هما شهران وعشر من ثالثٍ لأن العرب إذا كان الوقت لشيء يكون فِيهِ الحج وشبهه جعلوه فِي التسمية للثلاثة والاثنين، كما قال اللَّه تبارك وتعالى: «وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ» وإنما يتعجل فِي يومٍ ونصف، وكذلك هُوَ فِي اليوم الثالث من أيام التشريق وليس منها شيء تام، وكذلك تقول العرب: له اليوم يومان منذ لم أره، وإنما هُوَ يوم وبعض آخر، وهذا ليس بجائزٍ فِي غير المواقيت لأن العرب قد تفعل الفعل فِي أقل من الساعة، ثُمَّ يوقعونه على اليوم وعلى
__________
(1) آية 12 سورة سبأ.
(2) ذلك أن الظرف سبيله عنده أن يكون معروفا حتى يصح التوقيت به، فالنكرة غير المحصورة لا تصلح لذلك.
(3) الصفة هنا الجارّ والمجرور. والمحل الظرف.
وهذا عند الكوفيين.
(4) فى أ: «لأن» .(1/119)
العام والليالي والأيام، فيقال: زرته العام، وأتيتك اليوم، وقتل فلان ليالي الحجاج أمير، لأنه «1» لا يراد أول الوقت وآخره، فلم يذهب به على معنى العدد كله، وإنما يراد به (إذ ذاك الحين) «2» .
وأما قوله: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ يقال: إن الرفث الجماع، والفسوق السباب، والجدال المماراة فِي الْحَجِّ فالقراء على نصب ذلك كله بالتبرئة «3» إلا مجاهدا فإنه رفع الرفث والفسوق ونصب الجدال. وكل ذلك جائز. فمن نصب أتبع أخر الكلام أوّله، ومن رفع بعضا ونصب بعضا فلان التبرئة فيها وجهان: الرفع بالنون «4» ، والنصب بحذف النون. ولو نصب الفسوق والجدال بالنون لجاز ذلك فِي غير القرآن لأن العرب إذا بدأت بالتبرئة فنصبوها لم تنصب بنونٍ، فإذا عطفوا عليها ب «لا» كان فيها وجهان، إن شئت جعلت «لا» معلقة يجوز حذفها فنصبت على هذه النية بالنون لأن «لا» فى معنى صلة، وإن نويت بها الابتداء كانت كصاحبتها، ولم تكن معلقة فتنصب بلا نونٍ قال فِي ذلك الشاعر:
رأت إبلى برمل جدود أ [ن] لا ... مقيل لها ولا شربًا نقوعا «5»
فنون فى الشرب، ونوى ب «لا» الحذف كما قال الآخر:
فلا أب وابنا مثل مروان وأبنه ... إذا هُوَ بالمجد ارتدى وتأزّرا «6»
__________
(1) سقط فى أ. [.....]
(2) فى الطبري: «إذ ذاك، وفى ذلك الحين» .
(3) يعنى: بلا التبرئة. وهى لا النافية للجنس.
(4) يعنى نون التنوين يقال: نون الاسم ألحقه التنوين قال فى التاج: وتزاد- أي النون- للصرف فى كل اسم منصرف.
(5) جدود: موضع فى أرض بنى تميم على سمت اليمامة. والمقيل: موضع القيلولة، وهى الاستراحة نصف النهار. والشرب: النصيب من الماء، والنقوع: المجتمع. وترى زيادة النون فى «أن» وهى لا بدّ منها، وقد سقطت من الأصول.
(6) ورد هذا البيت فى سيبويه 1/ 349. وهو من أبياته الخمسين التي لا يعرف قائلها. ونسبه ابن هشام لرجل من بنى عبد مناة يمدح مروان بن الحكم وابنه عبد الملك، ونسب فى شرح شواهد الكشاف للفرزدق وانظر الخزانة 2/ 102، والعيني على هامشها 2/ 355(1/120)
وهو فِي مذهبه بمنزلة المدعو «1» تقول: يا عمرو والصلت أقبلا. فتجعل الصلت تابعا لعمرو وفيه الألف واللام لأنك نويت به أن يتبعه «2» بلا نية «يا» فِي الألف واللام. فإن نويتها قلت: يا زيد ويا أيها الصّلت أقبلا. فإن حذفت «يا أيها» وأنت تريدها نصبت كقول اللَّه عز وجل «يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ» «3» نصب الطير على جهتين: على نية النداء المجدد له إذ لم يستقم دعاؤه بما دعيت به الجبال، وإن شئت أوقعت عليه فعلا: وسخرنا له «الطَّيْرَ» فتكون النية على سخرنا. فهو فِي ذلك متبع كقول الشاعر:
ورأيت زوجك فِي الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا «4»
وإن شئت رفعت بعض «5» التبرئة ونصبت بعضا، وليس من قراءة القراء ولكنه يأتي فِي الأشعار قال أمية:
فلا لغو ولا تأثيم فيها ... وما فاهوا به لهم مقيم «6»
وقال الآخر «7» :
ذاكم- وجدكم- الصغار بعينه ... لا أم لي إن كان ذاك ولا أب
__________
(1) أي المنادى.
(2) فى أ. «تتبعه» .
(3) آية 10 سورة سبأ.
(4) فالتقدير: وحاملا رمحا لأن الرمح لا يتقلد وإنما يتقلد السيف. والبيت ورد فى اللسان (قلد) غير معزوّ. وفيه: «يا ليت» فى مكان: «رأيت» .
(5) قوله: بعض التبرئة يعنى ما بعد لا التبرئة.
(6) هذا من قصيدة يذكر فيها أوصاف الجنة وأهلها وأحوال يوم القيامة، وأوّلها:
سلامك ربنا فى كل فجر ... بريئا ما تليق بك الذموم
وانظر العيني على هامش الخزانة 2/ 346.
(7) هو رجل من مذحج عند سيبويه 1/ 352.
وقيل فى نسبته غير ذلك. وانظر العيني على هامش الخزانة 2/ 339. وكان لقائل هذا الشعر أخ يسمى جندبا، وكان أهله يؤثرونه عليه ويفضلونه، فأنف من ذلك وقال هذه.(1/121)
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
وقبله:
وإذا تكون شديدةٌ أُدْعَى لها ... وإذا يحاسُ الحيس يدعى جندب «1»
وقوله: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ... (200)
كانت العرب إذا حجوا فِي جاهليتهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل، فذكر أحدهم أَبَاه بأحسن أفاعيله: اللهم كان يصل الرحم، ويقري الضيف. فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: «فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» فأنا الَّذِي فعلت ذلك بكم وبهم.
وقوله: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا ... (200)
كان أهل الجاهلية يسألون المال والإبل والغنم فأنزل «2» الله: «منهم من يسئل الدنيا فليس له فِي الآخرة خلاق» يعني نصيبا.
وقوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ ... (203)
هى العشر [و] «3» المعلومات: أيام التشريق كلها، يوم النحر وثلاثة أيام التشريق.
فمن المفسرين من يجعل المعدودات أيام التشريق أيضا، وأما المعلومات «4» فإنهم
__________
(1) الحيس: لبن وأقط وسمن وتمر يصنع منه طعام لذيذ. وقد أورد هذا البيت ليبين أن الروىّ مرفوع إذ لا شك فى رفع «جندب» ويروى: وإذا تكون كريهة.
(2) أي أنزل ما يقوم بهذا المعنى. [.....]
(3) زيادة يقتضيها السياق.
(4) المذكورة فى الآية 28 من الحج: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» .(1/122)
يجعلونها يوم النحر ويومين من أيام التشريق لأن الذبح إنما يكون فى هذه الثلاثة الأيام، ومنهم من يجعل الذبح فِي آخر أيام التشريق فيقع عليها المعدودات والمعلومات فلا تدخل فيها العشر.
وقوله: لِمَنِ اتَّقى ... (203)
يقول: قتل «1» الصيد فى الحرم.
وقوله: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ ... (204)
كان ذلك رجلا يعجب النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم حديثه، ويعلمه أنه معه ويحلف على ذلك فيقول: (اللَّه يعلم) . فذلك قوله «وَيُشْهِدُ اللَّهَ» أي ويستشهد اللَّه. وقد تقرأ «وَيُشْهِدُ اللَّهَ» رفع «عَلى ما فِي قَلْبِهِ» .
وقوله: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ ... (204)
يقال للرجل: هُوَ ألد من قوم لد، والمرأة لداء ونسوة لد، وقال الشاعر:
اللد أقران الرجال اللد ... ثُمَّ أردى بهم من يردى «2»
ويقال: ما كنت ألد فقد لددت، وأنت تلد. فإذا غلبت الرجل فِي الخصومة (قلت: لددته) «3» فأنا ألدّه لدّا.
__________
(1) هذا مفعول «اتقى» .
(2) فى اللسان: ألد أقران الخصوم اللد ألدّ أي أغلب فى الخصومة، وأقران مفعوله و «أردّى» أي أرمى. يقال: ردى فلانا بحجر: رماه به.
ولم نجد الشطر الثاني فى كتاب مما بيدنا مع أشد البحث.
(3) فى ج. وش: فقد لددته.(1/123)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
وقول اللَّه تبارك وتعالى: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ نصبت، ومنهم من يرفع «وَيُهْلِكَ» رفع لا يردّه على «لِيُفْسِدَ» ولكنه يجعله مردودا على قوله: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ- وَيُهْلِكَ» والوجه الأول أحسن.
وقوله: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ ... (205)
من العرب من يقول: فسد الشيء فسودا، مثل قولهم: ذهب ذهوبا وذهابا، وكسد كسودا وكسادا.
وقوله: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ... (208)
أي لا تتبعوا آثاره فإنها معصية.
وقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ ... (210)
رفع مردود على (الله) تبارك وتعالى، وقد خفضها بعض «1» أهل المدينة. يريد «فِي ظللٍ من الغمام وفي الملائكة» . والرفع أجود لأنها فِي قراءة عَبْد اللَّه «هَلْ يَنْظُرونَ إِلّا أن يأتيهم اللَّه والملائكة فى ظلل من الغمام» .
وقوله: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ ... (211)
لا تهمز «2» فِي شيءٍ من القرآن لأنها لو همزت كانت «اسأل» بألفٍ. وإنما (ترك همزها) «3» فِي الأمر خاصة لأنها كثيرة الدور فى الكلام فلذلك ترك همزه كما
__________
(1) هو أبو جعفر يزيد بن القعقاع. وانظر البحر 2/ 125
(2) أي الكلمة «سلى» .
(3) فى ج. وش: «تزول همزتها» .(1/124)
قَالُوا: كل، وخذ، فلم يهمزوا في الأمر، وهمزوه فِي النهى وما سواه. وقد تهمزه العرب. فأما فِي القرآن فقد جاء بترك الهمز. وكان حمزة الزيات يهمز الأمر إذا كانت فِيهِ الفاء أو الواو مثل قوله: «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها» «1» ومثل قوله:
«فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ» «2» ولست أشتهى ذلك لأنها لو كانت مهموزة لكتبت فيها الألف كما كتبوها فِي قوله «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً» «3» ، «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا» «4» بالألف.
وقوله: كَمْ آتَيْناهُمْ ... (211)
معناه: جئناهم به [من آية] «5» . والعرب تقول: أتيتك بآيةٍ، فإذا ألقوا الباء قَالُوا: آتيتك آية كما جاء فِي الكهف «آتِنا غَداءَنا» «6» والمعنى: ايتنا بغدائنا.
وقوله: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا ... (212)
ولم يقل «زينت» وذلك جائز، وإنما ذكر الفعل والاسم مؤنث لأنه مشتق من فعل فِي مذهب مصدر. فمن أنث أخرج الكلام على اللفظ، ومن ذكر ذهب إلى تذكير المصدر. ومثله «فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى» «7» و «قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ» «8» ، «وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ» «9» على ما فسرت لك.
فأما فِي الاسماء الموضوعة فلا تكاد العرب تذكر فعل مؤنثٍ إلا فى الشعر لضرورته.
__________
(1) آية 82 سورة يوسف.
(2) آية 94 سورة يونس.
(3) آية 77 سورة طه.
(4) آية 13 سورة يس.
(5) زيادة فى أ.
(6) آية 62 سورة الكهف. [.....]
(7) آية 275 سورة البقرة.
(8) آية 104 سورة الأنعام.
(9) آية 67 سورة هود.(1/125)
وقد يكون الاسم غير مخلوقٍ من فعلٍ، ويكون فِيهِ معنى تأنيثٍ وهو مذكر فيجوز فِيهِ تأنيث الفعل وتذكيره على اللفظ مرة وعلى المعنى مرّة من ذلك قوله عز وجل «وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ» «1» ولم يقل «كذبت» ولو قيلت لكان صوابا كما قال «كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ» «2» و «كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ» «3» ذهب إلى تأنيث الأمة، ومثله من الكلام فِي الشعر كثير منه قول الشاعر:
فإن كلابا هذه عشر أبطن ... وأنت برىء من قبائلها العشر «4»
وكان ينبغي أن يقول: عشرة أبطنٍ لأن البطن ذكر، ولكنه فِي هذا الموضع فِي معنى قبيلة، فأنث لتأنيث القبيلة فِي المعنى. وكذلك قول الآخر:
وقائع فِي مضرٍ تسعة ... وفي وائلٍ كانت العاشره
فقال: تسعة، وكان ينبغي له أن يقول: تسع لأن الوقعة أنثى، ولكنه ذهب إلى الأيام لأن العرب تقول فِي معنى الوقائع: الأيام فيقال هُوَ عالم بأيام العرب، يريد وقائعها. فأما قول اللَّه تبارك وتعالى: «وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» «5» فإنه أريد به- والله أعلم-: جمع الضياءان. وليس قولهم: إنما ذكر فعل الشمس لأن الوقوف لا يحسن فِي الشمس حَتَّى يكون معها القمر بشيءٍ «6» ، ولو كان هذا على ما قيل لقالوا: الشمس جمع والقمر. ومثل هذا غير جائز، وإن شئت ذكّرته
__________
(1) آية 66 سورة الأنعام.
(2) آية 105 سورة الشعراء.
(3) آية 160 سورة الشعراء.
(4) فى العيني: «قائله رجل من بنى كلاب يسمى النوّاح» وورد فى اللسان (بطن) من غير عزو.
(5) آية 9 سورة القيامة.
(6) خبر قوله: «ليس قولهم..» .(1/126)
لأن الشمس اسم مؤنث ليس فيها هاء تدل على التأنيث، والعرب ربما ذكرت فعل المؤنث إذا سقطت منه علامات التأنيث. قال الفراء: أنشدني بعضهم:
فهي أحوى من الربعي خاذلة ... والعين بالإثمد الحاري مكحول «1»
ولم يقل: مكحولة والعين أنثى للعلة التي أنبأتك بها. قال: وأنشدني بعضهم:
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها «2»
قال: وأنشدني يونس- يعني النحوي الْبَصْرِيّ- عن العرب قول الأعشى:
إلى رجلٍ منهم أسيفٍ كأنما ... يضم إلى كشحيه كفا مخضبا «3»
وأما قوله: «السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ» «4» فإن شئت جعلت السماء مؤنثة بمنزلة العين فلما لم يكن فيها هاء مما يدل على التأنيث ذكر فعلها كما فعل بالعين والأرض فى البيتين.
__________
(1) فى سيبويه 1/ 240، وهو فيه لطفيل الغنوي. والشطر الأوّل فيه هكذا:
إذ هى أحوى من الربعىّ حاجبه وكذلك هو فى ديوان طفيل 29، وقبله- وهو أوّل القصيدة-:
هل حبل شماء قبل البين موصول ... أم ليس للصرم عن شماء معدول
أم ما تسائل عن شماء ما فعلت ... وما تحاذر من شماء مفعول
وتراه يشبه شماء بأحوى من الظباء، وهو الذي فى ظهره وجنبتى أنفه سواد، وذكر أن حاجب عينه وعينه مكحولان، واقتصر فى الخبر على أحدهما، ورواية الفرّاء: «خاذلة» فى مكان «حاجبه» والخاذلة:
الظبية تنفرد عن صواحباتها، وتقوم على ولدها، وذلك أجمل لها. شبهها أولا بالظبى، ثم راعى أنها أنثى فجعلها ظبية. فقوله: «خاذلة» ليس من وصف «أحوى» وإنما هو خبر ثان.
(2) هذا فى سيبويه 1/ 240، وقد نسب لعامر بن جوين الطائي. وقال الأعلم: «وصف أرضا مخصبة لكثرة ما نزل بها من الغيث. والودق: المطر. والمزنة: السحاب» . وانظر الخزانة 1/ 21.
(3) البيت فى ديوان الأعشى طبع أوربا:
أرى رجلا منكم أسيفا ...
والأسيف من الأسف وهو الحزن. وقوله: «كأنما يضم ... » أي كأنه قطعت يده فخضبت كفه بالدم، فهو لذلك أسيف حزين.
(4) آية 18 سورة المزمّل.(1/127)
ومن العرب من يذكر السماء لأنه جمع كأن واحدته سماوة أو سماءة. قال:
وأنشدني بعضهم:
فلو رفع السماء إليه قوما ... لحقنا بالسماء مع السحاب «1»
فإن قال قائل: أرأيت الفعل إذا جاء بعد المصادر المؤنثة أيجوز تذكيره بعد الأسماء كما جاز قبلها؟ قلت: ذلك قبيح وهو جائز. وإنما قبح لأن الفعل إذا أتى بعد الاسم كان فِيهِ مكنى من الاسم فاستقبحوا أن يضمروا مذكرا قبله مؤنث، والذين استجازوا ذلك قَالُوا: يذهب به إلى المعنى، وهو فِي التقديم والتأخير سواء قال الشاعر:
فإن تعهدي لامرئ لمةً ... فإن الحوادث أزرى بها «2»
ولم يقل: أزرين بها ولا أزرت بها. والحوادث جمع ولكنه ذهب بها إلى معنى الحدثان. وكذلك قال الآخر:
هنيئا لسعدٍ ما اقتضى بعد وقعتى ... بناقة سعد والعشية بارد
كأن العشية فِي معنى العشي ألا ترى قول اللَّه «أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا» «3» وقال الآخر:
إن السماحة والشجاعة ضمنا ... قبرا بمرو على الطريق الواضح»
__________
(1) ورد فى اللسان (سما) من غير عزو. [.....]
(2) فى سيبويه 1/ 239، وفيه بدل الشطر الأول:
فإما ترى لمتى بدّلت وهو من قصيدة للأعشى فى الصبح المنير 120 يمدح فيها رهط قيس بن معديكرب ويزيد بن عبد المدان.
واللمة: الشعر يلم بالمنكب. وإزراء الحوادث بها: تغييرها من السواد إلى البياض. وقوله: «فإن تعهدى» أي إن كنت تعهدين ذلك فيما مضى من الزمن.
(3) آية 11 سورة مريم.
(4) لزياد الأعجم فى رثاء المغيرة بن المهلب. وبعده:
فإذا مررت بقبره فاعقر به ... كوم الهجان وكل طرف سابح
وانظر الأغانى 14/ 102، وذيل الأمالى 8.(1/128)
ولم يقل: ضمنتا، والسماحة والشجاعة مؤنثتان للهاء التي فيهما. قال: فهل يجوز أن تذهب بالحدثان إلى الحوادث فتؤنث فعله قبله فتقول أهلكتنا الحدثان؟ قلت نعم أنشدني الكسائي:
ألا هلك الشهاب المستنير ... ومدرهنا الكمىّ إذا نغير «1»
وحمال المئين إذا ألمت ... بنا الحدثان والأنف النصور
فهذا كافٍ مما يحتاج إليه من هذا النوع.
وأما قوله: «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ» «2» ولم يقل «بطونها» والأنعام هِيَ مؤنثة لأنه ذهب به إلى النعم والنعم ذكر. وإنما جاز أن تذهب به إلى واحدها لأن الواحد يأتي فِي المعنى على معنى الجمع كما قال الشاعر:
إذا رَأَيْت أنجمًا من الأسد ... جَبْهته أو الخرات والكتد «3»
بال سهيل فِي الفضيخ ففسد ... وطاب ألبان اللقاح فبرد
ألا ترى أن اللبن جمع يكفى من الألبان. وقد كان الكسائي يذهب بتذكير الأنعام إلى مثل قول الشاعر:
ولا تذهبن عيناك فِي كل شرمح ... طوالٍ فإن الأقصرين أمازره «4»
__________
(1) ورد البيتان فى اللسان (حدث) من غير عزو. وفيه «وهاب» بدل «حمال» فى البيت الثاني.
(2) آية 66 سورة النحل.
(3) الأسد أحد البروج الاثني عشر. والخرات أحد نجمين من كواكب الأسد يقال لهما الخراتان. والتاء فى الخرات أصلية على أحد وجهين، ومن ثم كتبت التاء مفتوحة، كما فى اللسان (جبه) . قال ابن سيده: لا يعرف الخراتان إلا مثنى. والكتد- بفتحتين- نجم أيضا من الأسد. والفضيخ البسر المشدوخ. يقول: لما طلع سهيل ذهب زمن البسر وأرطب فكأنه بال فيه. واللقاح: النوق إلى أن يفصل عنها ولدها. وذلك عند طلوع سهيل. فيرد:
صار هنيئا. رجع بقوله فبرد إلى معنى اللبن، والألبان تكون فى معنى واحد.
(4) الشرمح من الرجال القوى الطويل. والأمازر جمع أمزر وهو اسم تفضيل للمزير وهو الشديد القلب القوى النافذ. وقبل البيت:
إليك ابنةَ الأعيار خافي بسالة ال ... رجال وأصلال الرجال أقاصره
ونقل عن الفراء أن المزير الظريف وأنشد البيت كما فى اللسان.(1/129)
ولم يقل: أمازرهم، فذكر وهو يريد أمازر ما ذكرنا. ولو كان كذلك لجاز أن تقول هُوَ أحسنكم وأجمله، ولكنه ذهب إلى أن هذا الجنس يظهر مع نكرةٍ غير مؤقتة يضمر فيها مثل معنى النكرة فلذلك قَالَتِ العرب: هُوَ أحسن الرجلين وأجمله لأن ضمير الواحد يصلح فِي معنى الكلام أن تقول هُوَ أحسن رَجُل فِي الاثنين، وكذلك قولك هِيَ أحسن النساء وأجمله. من قال وأجمله قال: أجمل شيء فِي النساء، ومن قال: وأجملهن أَخْرَجَهُ على اللفظ واحتج بقول الشاعر:
مثل الفراخ نتقت حواصله «1» ولم يقل حواصلها. وإنما ذكر لأن الفراخ جمع لم يبن على واحده، فجاز أن يذهب بالجمع إلى الواحد. قال الفراء: أنشدني المفضل:
ألا إن جيراني العشية رائح ... دعتهم دواعٍ من هوى ومنازح
فقال: رائح ولم يقل رائحون لأن الجيران قد خرج مخرج الواحد من الجمع إذ لم يبن جمعه على واحده.
فلو قلت: الصالحون فإن ذلك لم يجز لأن الجمع منه قد بنى على صورة واحدة. وكذلك الصالحات نقول، ذاك غير جائز لأن صورة الواحدة فِي الجمع قد ذهب عَنْهُ توهم الواحدة. ألا ترى أن العرب تقول: عندي عشرون صالحون فيرفعون ويقولون عندي عشرون جيادا فينصبون الجياد لأنها لم تبن على واحدها، فذهب بها إلى الواحد ولم يفعل ذلك بالصالحين قال عنترة:
فيها اثنتان وأربعونَ حَلُوبةً ... سُودا كخافية الغراب الأسحم «2»
__________
(1) «نتقت» أي سمنت. وانظر رسالة الغفران 416.
(2) من معلقته. والضمير فى «فيها» يرجع إلى «حمولة أهلها» فى قوله:
ما راعنى إلا حمولة أهلها ... وسط الديار تسف حب الخمخم
والحمولة: الإبل عليها الأثقال، يريد تهيؤ أهلها للسفر. والحلوبة الناقة ذات اللبن، والسود من الإبل عزيزة. وانظر الحزانة 3/ 310(1/130)
فقال: سودا ولم يقل: سود «1» وهي من نعت الاثنتين والاربعين للعلة التي أخبرتك بها. وقد قرأ بعض القرّاء «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا» ويقال إنه مجاهد فقط.
وقوله: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ... (213)
ففيها معنيان أحدهما أن تجعل اختلافهم كفر بعضهم بكتاب بعضٍ «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» للإيمان بما أنزل كله وهو حق. والوجه الآخر أن تذهب باختلافهم إلى التبديل كما بدلت التوراة. ثُمَّ قال «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» به للحق مما اختلفوا فِيهِ. وجاز «2» أن تكون اللام فِي الاختلاف ومن فِي «3» الحق كما قال اللَّه تعالى: «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ» والمعنى- والله أعلم- كمثل المنعوق به لأنه وصفهم فقال تبارك وتعالى: «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ» كمثل البهائم، وقال الشاعر «4» :
كانت فريضة ما تقول كما ... كان الزناء فريضة الرجم
وإنما الرجم فريضة الزناء، وقال:
إن سراجًا لكريم مفخره ... تَحْلَى بِهِ الْعَيْنُ إذا ما تجهره
__________
(1) وقد روى هذا فى البيت أي رفع سود.
(2) يريد أن الأصل فى تأليف الآية:
فهدى الله الذين آمنوا مما اختلفوا فيه للحق، فجعل كل الحرفين من واللام فى مكان صاحبه، على طريقة القلب المكانىّ. وقد أبان أن هذا منهج مألوف فى القرآن وكلام العرب.
(3) سقط هذا الحرف (فى) فى أ.
(4) انظر ص 99 من هذا الجزء لهذا البيت وما بعده.(1/131)
والعين لا تحلى إنما يحلى بها سراج، لأنك تقول: حليت بعيني، ولا تقول حليت عيني بك إلا فِي الشعر.
وقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ ... (214)
استفهم بأم فِي ابتداءٍ ليس قبله ألف «1» فيكون أم ردا عليه، فهذا مما أعلمتك «2» أنه يجوز إذا كان قبله كلام يتصل به. ولو كان ابتداء ليس قبله كلام كقولك للرجل: أعندك خير؟ لم يجز هاهنا أن تقول: أم عندك خير.
ولو قلت: أنت رَجُل لا تنصف أم لك سلطان تدل به، لجاز ذلك إذ تقدمه كلام فاتصل به.
وقوله: أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [معناه «3» :
أظننتم أن تدخلوا الجنة ولم يصبكم مثل ما أصاب الذين قبلكم] فتختبروا. ومثله:
«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» «4» وكذلك فِي التوبة «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ» «5» .
وقوله: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ ... (214)
قرأها القراء بالنصب إلا مجاهدا وبعض «6» أهل المدينة فإنهما رفعاها.
ولها وجهان فِي العربية: نصب، ورفع. فأما النصب فلان الفعل الَّذِي قبلها مما يتطاول «7» كالترداد. فإذا كان الفعل على ذلك المعنى نصب بعده بحتى وهو
__________
(1) يريد همزة الاستفهام. [.....]
(2) انظر ص 72 من هذا الجزء.
(3) زيادة فى أ.
(4) آية 142 سورة آل عمران.
(5) آية 16 من السورة.
(6) هو نافع.
(7) قوله «يتطاول كالترداد» يعنى ما فيه امتداد الفعل قال ابن عادل فى تفسيره عن الزجاج:
«أصل الزلزلة فى اللغة من زلّ الشيء عن مكانه. فإذا قلت: زلزلته فتأويله أنك كررت تلك الإزالة فضوعف لفظه كمضاعفة معناه لأن ما فيه تكرير تكرر فيه الفعل نحو صرّ وصر صر وصل وصلصل وكف وكفكف» . قال الطبري: الزلزلة فى هذا الموضع الخوف لا زلزلة الأرض، فلذلك كانت متطاولة، وكان النصب فى يقول أهم.(1/132)
فِي المعنى ماضٍ. فإذا كان الفعل الَّذِي قبل حَتَّى لا يتطاول وهو ماضٍ رفع الفعل بعد حَتَّى إذا كان ماضيا.
فأما الفعل الَّذِي يتطاول وهو ماضٍ فقولك: جعل فلان يديم النظر حَتَّى يعرفك ألا ترى أن إدامة النظر تطول. فإذا طال ما قبل حَتَّى ذهب بما بعدها إلى النصب إن كان ماضيا بتطاوله. قال: وأنشدني [بعض العرب وهو] «1» المفضل:
مطوت بهم حَتَّى تكل غزاتهم ... وحتى الجياد ما يقدن بأرسان «2»
فنصب (تكل) والفعل الَّذِي أداه قبل حَتَّى ماض لأن المطو بالابل يتطاول حَتَّى تكل عَنْهُ. ويدلك على أنه ماض أنك تقول: مطوت بهم حَتَّى كلت غزاتهم.
فبحسن «3» فعل مكان يفعل تعرف الماضي من المستقبل. ولا يحسن مكان المستقبل فعل ألا ترى أنك لا تقول: أضرب زيدا حَتَّى أقر، لأنك تريد: حَتَّى يكون ذلك منه.
وإنما رفع مجاهد لأن فعل يحسن فِي مثله من الكلام كقولك: زلزلوا حَتَّى قال الرَّسُول. وقد كان الكسائي قرأ بالرفع دهرا ثُمَّ رجع إلى النصب. وهي في قراءة عَبْد اللَّه: «وزلزلوا ثُمَّ زلزلوا ويقول الرَّسُول» وهو دليل على معنى النصب.
__________
(1) زيادة فى أ.
(2) البيت لامرئ القيس: المطو: الجدّ والنجاء فى السير. والغزاة جمع غاز، والذي فى ديوانه:
حتى تكل مطيهم، والذي فى اللسان فى (مطا) : «غريهم» بالراء وهو تحريف صوابه: «غزيهم» بالزاي كما فى اللسان (غزا) والغزىّ: الغزاة. وأراد بقوله: ما يقدن إلخ أن الجياد بلغ بها الإعياء أشدّه فعجزت عن السير.
(3) فى الأصول: «فيحسن» وهو تحريف.(1/133)
ولحتى ثلاثة معان فِي يفعل، وثلاثة معان فِي الاسماء.
فإذا رَأَيْت قبلها فعل ماضيا وبعدها يفعل فِي معنى مضى وليس ما قبل (حَتَّى يفعل) يطول «1» فارفع يفعل بعدها كقولك جئت حَتَّى أكون معك قريبا، وكان أكثر النحويين ينصبون الفعل بعد حَتَّى وإن كان ماضيا إذا كان لغير الأول، فيقولون: سرت حَتَّى يدخلها زَيْدُ فزعم الكسائي أنه سمع العرب تقول: سرنا حَتَّى تطلع لنا الشمس بزبالة «2» ، فرفع والفعل للشمس، وسمع: إنا لجلوس فما نشعر حتى يسقط حجر بيننا، رفعا. قال: وأنشدني «3» الكسائي:
وقد خضن الهجير وعمن حَتَّى ... يفرج ذاك عنهن المساء
وأنشد (قول الآخر) «4» :
وننكر يوم الروع ألوان خيلنا ... من الطعن حَتَّى نحسب الجون أشقرا «5»
فنصب هاهنا لأن الإنكار يتطاول. وهو الوجه الثاني من باب حَتَّى.
وذلك أن يكون ما قبل حَتَّى وما بعدها ماضيين، وهما مما يتطاول، فيكون يفعل فِيهِ وهو ماضٍ فِي المعنى أحسن من فعل، فنصب وهو ماضٍ لحسن يفعل فِيهِ. قال الكسائي: سمعت العرب تقول: إن البعير ليهرم حَتَّى يجعل إذا شرب الماء مجه. وهو أمر قد مضى، و (يجعل) فيه أحسن من (جعل) . وإنّما حسنت
__________
(1) هذا خبر ليس.
(2) زبالة كثمالة منزلة من مناهل طريق مكة.
(3) فى أ: «أنشدنا» .
(4) سقط ما بين القوسين فى ش.
(5) من قصيدة للنابغة الجعدىّ فى مدح الرسول عليه الصلاة والسلام، ومطلعها:
خليلى عوجا ساعة وتهجرا ... ولوما على ما أحدث الدهر أو ذرا
وقبل بيت الشاهد:
وإنا لقوم ما نعوّد خيلنا ... إذا ما التقينا أن تحبد وتنفرا
[.....](1/134)
لأنها صفة تكون فِي الواحد على معنى الجميع، معناه: إن هذا ليكون كثيرا فِي الإبل.
ومثله: إن الرجل ليتعظم حتى يمر فلا «1» يسلم على الناس. فتنصب (يمر) لحسن يفعل فِيهِ وهو ماضٍ وأنشدني أَبُو ثروان:
أحب لحبها السودان حَتَّى ... أحب لحبها سود الكلاب «2»
ولو رفع لمضيه فِي المعنى لكان صوابا. وقد أنشدنيه بعض بني أسد رفعا. فإذا أدخلت فِيهِ «لا» اعتدل «3» فِيهِ الرفع والنصب كقولك: إن الرجل ليصادقك حَتَّى لا يكتمك سرا، ترفع لدخول «لا» إذا كان المعنى ماضيا. والنصب مع دخول لا جائز.
ومثله ما يرفع وينصب إذ دخلت «لا» فِي قول اللَّه تبارك وتعالى:
«وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ» «4» رفعا ونصبا. ومثله: «أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً» «5» ينصبان ويرفعان، وإذا ألقيت منه «لا» لم يقولوه إلا نصبا وذلك أن «ليس» تصلح مكان «لا» فيمن رفع بحتّى وفيمن رفع ب (أن) ألا ترى أنك تقول: إنه ليؤاخيك حَتَّى ليس يكتمك شيئًا، وتقول فِي «أن» : حسبت أن لست تذهب فتخلفت. وكل موضع حسنت فِيهِ «ليس» مكان «لا» فافعل به هذا: الرفع مرة، والنصب مرة. ولو رفع الفعل
__________
(1) فى أ: «فما» .
(2) ورد فى عيون الأخبار 4/ 43 غير معزوّ.
(3) أي جاز على اعتدال واستواء.
(4) آية 17 سورة المائدة، قرأ بالرفع أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب، على أن أن المخففة من الثقيلة. وقرأ الباقون بالنصب، فتكون أن هى الثنائية الناصبة للمضارع.
(5) آية 89 سورة طه. والرفع هو قراءة الجمهور. وهو الوجه. وورد النصب فى قراءة أبى حيوة وغيره. وهى قراءة شاذة. والرؤية عليه بصرية. وانظر البحر 6/ 269(1/135)
فِي «أن» بغير «لا» لكان صوابا كقولك حسبت أن تقول ذاك لأن الهاء تحسن فِي «أن» فتقول حسبت أنه يقول ذاك وأنشدنى القاسم «1» بن معن:
إنى زعيم يا نوي ... قة إن نجوت من الزواح «2»
وسلمت من عرض الحتو ... ف من الغدو إلى الرواح «3»
أن تهبطين بلاد قو ... م يرتعون من الطلاح «4»
فرفع (أن تهبطين) ولم يقل: أن تهبطى.
فإذا كانت «لا» لا تصلح مكانها «ليس» فِي «حَتَّى» ولا فِي «أن» فليس إلا النصب، مثل قولك: لا أبرح حَتَّى لا أحكم أمرك. ومثله فِي «أن» : أردت أن لا تقول ذاك. لا يجوز هاهنا الرفع.
والوجه الثالث فِي يفعل من «حَتَّى» أن يكون ما بعد «حَتَّى» مستقبلا، - ولا تبال كيف كان الَّذِي قبلها- فتنصب كقول الله جل وعز «لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى» «5» ، و «فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي» «6» وهو كثير فى القرآن.
وأمّا الأوجه الثلاثة فِي الاسماء فأن ترى بعد حَتَّى اسما وليس قبلها شيء يشاكله يصلح عطف ما بعْد حَتَّى عليه، أو أن ترى بعدها اسما وليس قبلها شىء.
__________
(1) هو قاضى الكوفة، من ذرية عبد الله بن مسعود رضى الله عنه. توفى سنة 175، وانظر شذرات الذهب.
(2) فى ش: الزراح. وهو شدة الضعف فى الإبل حتى تلصق بالأرض فلم يكن بها تهوض، والزواح هو الذهاب، وأزاحه عن موضعه: نحاه. وكتب على هامش أ، جأى الموت وهو تفسير للزواح.
(3) «من الغدو» فى أ، ش: «مع الغدوّ» . والعرض: ما يحدث من أحداث الدهر. والحتوف جمع الحنف وهو الموت.
(4) الطلاح واحدها طلحة وهى شجرة طويلة لها طل يستظل بها الإنسان والإبل.
(5) آية 91 سورة طه.
(6) آية 80 من سورة يوسف.(1/136)
فالحرف بعد حَتَّى مخفوض فِي الوجهين من ذلك قول اللَّه تبارك وتعالى «تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ» «1» و «سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ» «2» لا يكونان إلا خفَضا لأنه ليس قبلهما اسم يعطف عليه ما بعد حَتَّى، فذهب بحتى إلى معنى «إلى» . والعرب تقول: أضمنه حَتَّى الاربعاء أو الخميس، خفضا لا غير، وأضمن القوم حَتَّى الاربعاء.
والمعنى: أن أضمن القوم فِي الاربعاء لأن الأربعاء يوم من الأيام، وليس بمشاكل للقوم فيعطف عليهم.
والوجه الثاني أن يكون ما قبل حتى من الأسماء عددا يكثر ثُمَّ يأتي بعد ذلك الاسم الواحد أو القليل من الاسماء. فإذا كان كذلك فانظر إلى ما بعد حَتَّى فإن كانت الاسماء التي بعدها قد وقع عليها من الخفض والرفع والنصب ما قد وقع على ما قبل حَتَّى ففيها وجهان: الخفض والاتباع لما قبل حتى من ذلك: قد ضرب القوم حَتَّى كبيرهم، وحتى كبيرهم، وهو مفعول به، فِي الوجهين قد أصابه الضرب.
وذلك أن إلى قد تحسن فيما قد أصابه الفعل، وفيما لم يصبه من ذلك أن تقول:
أعتق عبيدك حَتَّى أكرمهم عليك. تريد: وأعتق أكرمهم عليك، فهذا مما يحسن فِيهِ إلى، وقد أصابه الفعل. وتقول فيما لا يحسن فِيهِ أن يصيب الفعل ما بعد حَتَّى:
الأيام تصام كلها حَتَّى يوم الفطر وأيام التشريق. معناه يمسك عن هذه الأيام فلا تصام. وقد حسنت فيها إلى.
والوجه الثالث أن يكون ما بعد حَتَّى لم يصبه شيء مما أصاب ما قبل حَتَّى فذلك خفض لا يجوز غيره كقولك: هُوَ يصوم النهار حَتَّى الليل، لا «3» يكون الليل إلا خفضا، وأكلت السمكة حَتَّى رأسها، إذا لم يؤكل الرأس لم يكن إلا خفضا.
__________
(1) آية 43 سورة الذاريات.
(2) آية 5 سورة القدر.
(3) فى ش، ج: «ولا» . [.....](1/137)
وأما قول الشاعر:
فيا عجبا حَتَّى كليب تسبني ... كأن أباها نهشل أو مجاشع «1»
فإن الرفع فِيهِ جيد وإن لم يكن قبله اسم لأن الاسماء التي تصلح بعد حَتَّى منفردة إنما تأتي من المواقيت كقولك: أقم حَتَّى الليل. ولا تقول أضرب حَتَّى زيدٍ لأنه ليس بوقت فلذلك لم يحسن إفراد زَيْدُ وأشباهه، فرفع بفعله، فكأنه قال:
يا عجبا أتسبني اللئام حَتَّى يسبني كليبي «2» . فكأنه عطفه على نية أسماء قبله. والذين خفضوا توهموا فِي كليبٍ ما توهموا فِي المواقيت، وجعلوا الفعل كأنه مستأنف بعد كليبٍ كأنه قال: قد انتهى بي «3» الأمر إلى كليبٍ، فسكت، ثم قال: تسبنى.
وقوله: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ ... (205)
تجعل «ما» فِي موضع نصب وتوقع عليها «يُنْفِقُونَ» ، ولا تنصبها ب (يسألونك) لأن المعنى: يسألونك أي شيء ينفقون. وإن شئت رفعتها من وجهين أحدهما أن تجعل «ذا» اسما يرفع ما، كأنك قلت: ما الَّذِي ينفقون.
والعرب قد تذهب بهذا وذا إلى معنى الَّذِي فيقولون: ومن ذا يقول ذاك؟
فِي معنى: من الَّذِي يقول ذاك؟ وأنشدوا «4» :
«5»
عَدَسْ ما لعبادٍ عليكِ إمارة ... أمِنتِ وهذا تحملين طليق
__________
(1) من قصيدة للفرزدق هجا بها جريرا. وكليب رهط جرير. ونهشل ومجاشع ابنا دارم بن مالك ابن حنظلة. ومجاشع قبيلة الفرزدق، وانظر الخزانة 3/ 169
(2) كذا فى ش، ج. والأنسب:
«كليب» .
(3) فى ش، ج: «فى» .
(4) فى أ: «أنشدونا» .
(5) عدس:
اسم صوت لزجر البغل. وعباد هو ابن زياد. وهذا من شعر قاله يزيد بن مفرّغ الحميرى فى عباد. وكان يزيد قد أكثر من هجوه، حتى حبسه وضيق عليه، حتى خوطب فى أمره معاوية فأمر بإطلاق سراحه، فلما خرج من السجن قدّمت له بغلة فركبها فنفرت، فقال هذا الشعر. وانظر الخزانة 2/ 514.(1/138)
كأنه قَالَ: والذي تحملين طليق. والرفع الآخر أن تجعل كل استفهام أوقعت عليه فعلا بعده رفعا لأن الفعل لا يجوز تقديمه قبل الاستفهام، فجعلوه بمنزلة الَّذِي إذ لم يعمل فِيهِ «1» الفعل الَّذِي يكون بعدها. ألا ترى أنك تقول: الَّذِي ضربت أخوك، فيكون الَّذِي فِي موضع رفع بالأخ، ولا يقع الفعل الَّذِي يليها عليها.
فإذا نويت ذلك رفعت قوله: قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ كما قال الشاعر:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضى أم ضلال وباطل «2»
رفع النحب لأنه نوى أن يجعل «ما» فِي موضع رفع. ولو قال: أنحبا فيقضي أم ضلالا وباطلا كان أبين فِي كلام العرب. وأكثر العرب تقول: وأيهم لم أضرب وأيهم إلا قد ضربت رفعا للعلة من الاستئناف من حروف الاستفهام وألا يسبقها شيء.
ومما يشبه الاستفهام مما يرفع إذا تأخر عَنْهُ الفعل الَّذِي يقع عليه قولهم: كل الناس ضربت. وذلك أن فِي (كل) مثل معنى هَلْ أحد [إلا] «3» ضربت، ومثل معنى أي رَجُل لم أضرب، وأي بلدة لم أدخل ألا ترى أنك إذا قلت: كل الناس ضربت كان فيها معنى: ما منهم أحد إلا قد ضربت، ومعنى أيهم لم أضرب. وأنشدني أَبُو ثروان:
وقالوا تعرفها المنازل من منى ... وما كل من يغشى منى أَنَا عارف «4»
__________
(1) فى الخزانة 2/ 557: «فيها» وهذا أولى لقوله: «بعدها» .
(2) من قصيدة للبيد، ومنها البيت المشهور:
ألا كل شىء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل
وانظر الخزانة 2/ 556
(3) زيادة يقتضيها السياق.
(4) لمزاحم العقيلىّ من قصيدة غزلية. وانظر الكتاب 1/ 36، 37، وشواهد المغنى للبغدادى 2/ 1075(1/139)
رفعا، ولم أسمع أحدا نصب كل. قال: وأنشدونا:
وما كلّ من يظّنّنى أنا معتب ... وما كل ما يروى على أقول «1»
ولا تتوهم أنهم رفعوه بالفعل الَّذِي سبق أليه لانهم قد أنشدونا:
قد عَلِقت أمُّ الْخِيَار تَدَّعِي ... عليَّ ذَنْبا كله لم أصنع «2»
رفعا. وأنشدنى أبو الجرّاح:
أرجزا تريد أم قريضا ... أم هكذا بينهما تعريضا
كلاهما أجد مستريضا «3» فرفع كلا وبعدها (أجد) لأن المعنى: ما منهما واحد إلا أجده هينا مستريضا.
ويدلك على أن فِيهِ ضمير جحد قول الشاعر:
فكلهم حاشاك إلا وجدته ... كعين الكذوب جهدها واحتفالها
__________
(1) «يظننى» : ينهمنى، من الاظنان، وهو افتعال من الظن، فأصله: اظتنان فأبدلت التاء ظاء وأدغمت فيها الظاء. و «معتب» أي مرضيه ومزيل ما يعتب علىّ فيه. والبيت ورد فى اللسان (ظن) غير معزوّ.
(2) هذا الرجز لأبى النجم العجلىّ، وأم الخيار زوجه، وانظر الكتاب 1/ 44، والخزانة 1/ 173، ومعاهد التنصص فى الشاهدين 13، 25.
(3) ينسب هذا الرجز إلى الأغلب العجلى. وهو راجز مخضرم، أدرك الإسلام فحسن إسلامه.
ذكره فى الإصابة تحت رقم 223، وفيها أن عمر كتب إلى المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة أن يستنشد من قبله من الشعراء ما قالوه فى الإسلام، فلما سأل الأغلب ذلك قال هذا الرجز، وإن كان فى الإصابة فيه «قصيدا» بدل «قريضا» والشطر الثاني:
لقد طلبت هينا موجودا وقال ابن برى- كما فى اللسان (روض) - «نسبه أبو حنيفة للأرقط. وزعم أن بعض الملوك أمره أن يقول فقال هذا الرجز» وأبو حنيفة هو الدينوري، والأرقط يريد حميدا الراجز. وقد جعل الرجز غير القريض وهو الشعر. وقوله: «تعريضا» أي غير بين فى أحد الضربين، من قولهم: عرض بالكلام إذا ورى فيه ولم يبنه. و «مستريضا» أي واسعا ممكنا. وقوله: «أجد» فى اللسان (راض) : «أجيد» .
وانظر الهمع 1/ 97.(1/140)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
وقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ... (217)
وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه «عن قتال فِيهِ» فخفضته على نية (عن) مضمرة.
قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ففي الصد وجهان: إن شئت جعلته مردودا على الكبير، تريد: قل القتال فِيهِ كبير وصد عن سبيل اللَّه وكفر به.
وإن شئت جعلت الصد كبيرا تريد: قل القتال فِيهِ كبير وكبير الصد عن سبيل اللَّه والكفر به.
وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ مخفوض بقوله «1» : يسألونك عن القتال وعن المسجد.
فقال الله تبارك وتعالى: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ أهل المسجد مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ من القتال فِي الشهر الحرام. ثُمَّ فسر فقال تبارك وتعالى: وَالْفِتْنَةُ- يريد الشرك- أشد من القتال فِيهِ.
وقوله: قُلِ الْعَفْوَ ... (219)
وجه الكلام فِيهِ النصب، يريد: قل ينفقون العفو. وهو فضل المال [قد] «2» نسخته الزكاة [تقول: قد عفا] «3» .
وقوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى ... (220)
يقال للغلام يتم ييتم يتمًا ويتمًا. قال: وحكى لى يتم ييتم.
وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ترفع الإخوان على الضمير «4» (فهم) كأنك قلت (فهم إخوانكم) ولو نصبته كان صوابا يريد: فإخوانكم تخالطون، ومثله
__________
(1) فى ش: «لقوله» .
(2، 3) زيادة فى أ، والأنسب وصلها بقوله: وهو فضل المال. [.....]
(4) فى أ: «ضمير» .(1/141)
«فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ» «1» ولو نصبت هاهنا على إضمار فعل (ادعوهم إخوانكم ومواليكم) «2» . وفي قراءة عَبْد اللَّه «إِن تعذبهم فعبادُكَ» وفي قراءتنا «فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ» «3» .
وإنما يرفع من ذا ما كان اسما يحسن فِيهِ «هُوَ» مع المرفوع. فإذا لم يحسن فِيهِ «هُوَ» أجريته على ما قبله فقلت: إن اشتريت طعاما فجيدا، أي فاشتر الجيد، وإن لبست ثيابا فالبياض، تنصب لأن «هو» لا يحسن هاهنا، والمعنى فى هذين هاهنا مخالف للأول ألا ترى أنك تجد القوم إخوانا وإن جحدوا، ولا تجد كل ما يلبس بياضا، ولا كل ما يشترى جيدا. فإن نويت أن ما ولى شراءه فجيد رفعت إذا كان الرجل قد عرف بجودة الشراء وبلبوس البياض.
وكذلك قول اللَّه «فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا» «4» نصب لأنه شيء ليس بدائم، ولا يصلح فِيهِ «هُوَ» ألا ترى أن المعنى: إن خفتم أن تصلوا قياما فصلوا رجالا أو ركبانا [رجالا يعني: رجالة] «5» فنصبا لانهما حالان للفعل لا يصلحان خبرا.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ المعنى فِي مثله من الكلام: اللَّه يعلم أيهم يفسد وأيهم يصلح. فلو وضعت أيا أو من مكان الأوّل «6» رفعته، فقلت: أنا أعلم أيّهم قام من القاعة، قال [الفراء] «7» سمعت العرب تقول: ما يعرف أىّ من أىّ. وذلك أن (أىّ) و (من) استفهامان، والمفسد خبر. ومثله ما أبالي قيامك أو قعودك، ولو جعلت فِي الكلام استفهاما بطل الفعل عَنْهُ فقلت: ما أبالي أقائم أنت أم قاعد. ولو ألقيت الاستفهام اتصل الفعل بما قبله فانتصب.
والاستفهام كله منقطع مما قبله لخلقة الابتداء به.
__________
(1) آية 5 سورة الأحزاب.
(2) جواب لو محذوف تقديره: كان صوابا.
(3) آية 118 سورة المائدة.
(4) آية 239 سورة البقرة.
(5) زيادة فى أ.
(6) يريد بالأوّل الذي يلى مادة العلم.
(7) زيادة فى أ.(1/142)
وقوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ... (220)
يقال: قد عنت الرجل عنتا، وأعنته اللَّه إعناتا.
وقوله: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ... (221)
يريد: لا تزوجوا. والقراء على هذا. ولو كانت: ولا تنكحوا المشركات أي لا تروّجوهن المسلمين كان صوابا. ويقال: نكحها نكحا ونكاحا.
وقوله: وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ... (221)
كقوله: وإن أعجبتكم. ولو وإن متقاربان فِي المعنى. ولذلك جاز أن يجازى «1» لو بجواب إن، وإن بجواب لو فِي قوله: «وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ» «2» . وقوله: «فَرَأَوْهُ» يعنى بالهاء الزّرع.
وقوله: حَتَّى يَطْهُرْنَ ... (222)
بالياء. وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه إن شاء اللَّه «يتطهرن» بالتاء، والقراء بعد يقرءون «حتى يطهرن، ويطهرن» [يطهرن] «3» : ينقطع عنهن الدم، ويتطهرن:
يغتسلن بالماء. وهو أحب الوجهين إلينا: يطهرن.
فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ولم يقل: فِي حيث، وهو الفرج. وإنما قال:
من حيث كما تقول للرجل: ايْت زيدا من مأتاه أي من الوجه الَّذِي يؤتى منه.
فلو ظهر الفرج ولم يكن عَنْهُ قلت فِي الكلام: ايْت المرأة فِي فرجها. فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ يقال: ايت الفرج من حيث شئت.
__________
(1) فى أ: «يجاب» .
(2) آية 51 سورة الروم.
(3) زيادة يقتضيها للسياق.(1/143)
وقوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ... (223)
[أي] «1» كيف شئتم. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ، قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنِي شَيْخٌ عَنْ مَيْمُونِ «2» بْنِ مِهْرَانَ قَالَ قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْيَهُودَ تَزْعُمُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَتَى امْرَأَتَهُ مِنْ وَرَائِهَا فِي قُبُلِهَا خَرَجَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ. قَالَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذَبَتْ يَهُودُ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ يقول: ايت الْفَرْجَ مِنْ حَيْثُ شِئْتَ «3» .
وقوله: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا ... (224)
يقول: لا تجعلوا الحلف بالله مانعا معترضا أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ يقول: لا يمتنعن أحدكم أن يبر ليمين إنّ حلف عليها، ولكن ليكفر يمينه ويات الذي هو خير.
وقوله: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ... (225)
فِيهِ قولان. يقال: هُوَ «4» مما جرى فِي الكلام من قولهم: لا والله، وبلى والله.
والقول الآخر: الإيمَان أربع. فيمينان فيهما الكفارة والاستغفار، وهو قولك:
والله لا أفعل، ثُمَّ تفعل، وو الله لافعلن ثُمَّ لا تفعل. ففي هاتين الكفارة والاستغفار [لأن الفعل فيهما مستقبل] «5» . واللتان فيهما الاستغفار ولا كفّارة فيهما قولك: والله ما فعلت وقد فعلت، وقولك: والله لقد فعلت ولم تفعل. فيقال هاتان لغو إذ لم تكن فيهما كفارة. وكان القول الأول- وهو قول عَائِشَةَ: إن اللغو ما يجرى فِي الكلام على غير عقد- أشبه بكلام العرب.
__________
(1) زيادة فى أ.
(2) فى أ: «منصور» والصواب ما أثبت تبعا لما فى ش.
وميمون بن مهران الرقىّ يروى عن ابن عباس وأبى هريرة، ماتت سنة 117. وانظر الخلاصة.
(3) الظاهر أن هذا نهاية كلام ابن عباس. [.....]
(4) فى ش: «وهو» .
(5) زيادة فى ش.(1/144)
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
وقوله: تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ... (226)
التربّص إلى الأربعة. وعليه القرّاء. ولو قيل فِي مثله من الكلام: تربص أربعة أشهر كان صوابا كما قرءوا «أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ» «1» وكما قَالَ «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً» «2» والمعنى تكفتهم «3» أحياء وأمواتا.
ولو قيل فِي مثله من الكلام: كفات أحياءٍ وأمواتٍ كان صوابا. ولو قيل:
تربص: أربعة أشهر كما يقال فِي الكلام: بيني وبينك سير طويل: شهر أو شهران تجعل السير هُوَ الشهر، والتربص هُوَ الاربعة «4» . ومثله «فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ» «5» وأربع شهادات. ومثله «فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» «6» فمن رفع (مثل) فإنه أراد: فجزاؤه مثل ما قتل. قال: وكذلك رأيتها فِي مصحف عَبْد اللَّه «فَجَزاؤُهُ» بالهاء، ومن نصب (مثل) أراد: فعليه أن يجزى مثل ما قتل من النعم.
فَإِنْ فاؤُ يقال: قد فاءوا يفيئون فيئا وفيوءا. والفيء: أن يرجع إلى أهله فيجامع.
وقوله: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ... (228)
وفي قراءة عَبْد اللَّه «بردتهن» .
وقوله: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ ... (229)
وفي قراءة عَبْد اللَّه «إلا أن تخافوا» فقرأها حمزة على هذا المعنى «إِلَّا أَنْ يَخافا» ولا يعجبني ذلك. وقرأها بعض «7» أهل المدينة كما قرأها حمزة. وهي فِي قراءة أبيّ
__________
(1) آيتا 14، 15 سورة البلد.
(2) آيتا 25، 26 سورة المرسلات.
(3) فى أ: «تكفتهما» .
(4) جواب لو حذف أي جاز مثلا. ويكثر من المؤلف هذا.
(5) فى آية 6 سورة النور.
(6) آية 95 سورة المائدة.
(7) هو أبو جعفر يزيد بن القعقاع أحد القراء العشرة، وانظر البحر 2/ 197.(1/145)
«إلا أن يظنا ألا يقيما حدود اللَّه» والخوف والظن متقاربان فِي كلام العرب.
من «1» ذلك أن الرجل يقول: قد خرج عبدك بغير إذنك، فتقول أنت: قد ظننت ذاك، وخفت ذاك، والمعنى واحد. وقال الشاعر:
أتاني كلام عن نصيب يقوله ... وما خفت يا سلام أنك عائبي «2»
وقال الآخر:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمه ... تروى عظامي بعد موتى عروقها
[ولا تدفنني فِي الفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها] «3»
والخوف فِي هذا الموضع كالظن. لذلك رفع «أذوقها» كما رفعوا «4» «وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ» «5» وقد روى عَنْهُ صلى اللَّه عليه وسلم (أمرت بالسواك «6» حَتَّى خفت لأدْرَدَنَّ «7» ) كما تقول: ظن ليذهبن.
وأما ما قال حمزة فإنه إنّ كان أراد اعتبار قراءة عَبْد اللَّه فلم يصبه- والله أعلم- لأن الخوف إنما وقع على (أن) وحدها إذ قال: ألا يخافوا أن لا، وحمزة قد أوقع الخوف على الرجل والمرأة وعلى أن «8» ألا ترى أن اسمهما فِي الخوف مرفوع بما لم يسم فاعله. فلو أراد ألا يخافا على هذا، أو يخافا بذا، أو من ذا، فيكون على غير
__________
(1) فى ش، ج: «فى» وهو تحريف.
(2) كذا فى ش. وفى ج «عاينى» .
(3) سقط هذا البيت فى ش، ج، ولا بد منه لأنه موضع الشاهد. وهما لأبى محجن الثقفي.
(4) أي القراء.
(5) آية 71 سورة المائدة. [.....]
(6) فى ج: «بالسؤال» وما هنا عن ش. ويبدو فيه أثر الإصلاح.
(7) الدرد: ذهاب الأسنان. ولفظ الحديث فى الجامع الصغير: «أمرت بالسواك حتى خفت على أسنانى» .
(8) يريد أنه على قراءة حمزة (يخافا ألا يقيما) ببناء الفعل للمفعول يكون الفعل قد عمل فى نائب الفاعل: وفى أن ومعمولها، وكأن الفعل قد عمل فى أكثر من معمول واحد الرفع، وهذا غير مألوف إلا على وجه التبعية. والنحويون يصححون هذا الوجه بأن يكون (ألا يقيما) بدل اشتمال من نائب الفاعل.(1/146)
اعتبار قول عَبْد اللَّه [كان] «1» جائزا كما تقول للرجل: تخاف لأنك خبيث، وبأنك، وعلى أنك....
وقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما يقال كيف قال:
فلا جناح عليهما، وإنما الجناح- فيما يذهب إليه الناس- على الزوج لأنه أخذ ما أعطى؟
ففي ذلك وجهان:
أن يراد الزوج دون المرأة، وإن كانا قد ذكرا جميعا فى «2» سورة الرحمن «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ» «3» وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح لا من العذب. ومنه «نَسِيا حُوتَهُما» «4» وإنما الناسي صاحب مُوسَى وحده. ومثله فِي الكلام أن تقول: عندي دابتان أركبهما وأستقي عليهما، وإنما يركب إحداهما ويستقى على الأخرى وقد يمكن أن يكونا جميعا تركبان ويستقى عليهما. وهذا من سعة العربية التي يحتج بسعتها. ومثله من كتاب اللَّه «وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» «5» فيستقيم فِي الكلام أن تقول: قد جعل اللَّه لنا ليلا ونهارا نتعيش فيهما وننام فيهما. وإن شئت ذهبت بالنوم إلى الليل وبالتعيش إلى النهار.
والوجه الآخر أن يشتركا جميعا فِي ألا يكون عليهما جناح إذ كانت تعطي ما قد نفى عن الزوج فِيهِ الإثم، أشركت فِيهِ لأنها إذا أعطت ما يطرح فيه المأثم احتاجت هِيَ إلى مثل ذلك. ومثله قول اللَّه تبارك وتعالى: «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» «6» وإنما موضع طرح الإثم فِي المتعجل، فجعل
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) هذا استئناف كلام لذكر نظير لما سلف. وفى الطبري:
«كما قال فى سورة ... » .
(3) آية 22 سورة الرحمن.
(4) آية 61 سورة الكهف.
(5) آية 73 سورة القصص.
(6) آية 203 سورة البقرة.(1/147)
للمتأخر- وهو الَّذِي لم يقصر- مثل ما جعل على المقصر. ومثله فِي الكلام قولك: إن تصدقت سرا فحسن [وإن تصدقت جهرا فحسن] «1» .
وفي قوله «وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» وجه آخر وذلك أن يريد: لا يقولن هذا المتعجل للمتأخر: أنت مقصر، ولا المتأخر للمتعجل مثل ذلك، فيكون قوله «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» أي فلا يؤثمن أحدهما صاحبه.
وقوله: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا يريد: فلا جناح عليهما فِي أن يتراجعا «2» ، (أن) فِي موضع نصب إذا نزعت الصفة «3» ، كأنك قلت: فلا جناح عليهما أن يراجعها، قال وكان الكسائي يقول: موضعه خفض. قال الفراء: ولا أعرف ذلك.
وقوله إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما (أن) فِي موضع نصب لوقوع الظن عليها.
وقوله: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا (231) كان الرجل منهم إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها ما لم تغتسل من الحيضة الثانية. وكان إذا أراد أن يضر بها تركها حَتَّى تحيض الحيضة الثالثة ثُمَّ يراجعها، ويفعل ذلك فِي التطليقة الثانية. فتطويله لرجعتها هو الضرار بها.
وقوله: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ (232) يقول: فلا تضيقوا عليهن أن يراجعن أزواجهن بمهر جديد إذا بانت إحداهن من زوجها، وكانت هذه أخت معقل، أرادت أن تزوج زوجها الأوّل بعد ما انقضت عدتها فقال معقل لها: وجهي من وجهك حرام إن راجعته، فأنزل اللَّه عز وجل:
فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ.
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) كذا فى ج. وفى ش: «يراجعا» .
(3) يريد بها حرف الجرّ.(1/148)
وقوله ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ ولم يقل: ذلكم، وكلاهما صواب. وإنما جاز أن يخاطب القوم «بذلك» لأنه حرف قد كثر فِي الكلام حَتَّى توهم بالكاف أنها (من الحرف) «1» وليست بخطاب. ومن قال «ذلِكَ» جعل الكاف منصوبة «2» وإن خاطب امْرَأَة أو امرأتين أو نسوة. ومن قال «ذلكم» أسقط التوهم، فقال إذا خاطب الواحد: ما فعل ذلك الرجل، وذانك الرجلان، وأولئك الرجال. [و] «3» يقاس على هذا ما ورد. ولا يجوز أن تقول فِي سائر الاسماء إذا خاطبت إلا بإخراج «4» المخاطب فِي الاثنين والجميع والمؤنث كقولك للمرأة: غلامك فعل ذلك لا يجوز نصب الكاف ولا توحيدها فِي الغلام لأن الكاف هاهنا لا يتوهم أنها من الغلام.
ويجوز أن تقول: غلامك فعل ذاك وذاك، على ما فسرت لك: من الذهاب بالكاف إلى أنها من الاسم.
وقوله: الرَّضاعَةَ (233) القراء تقرأ بفتح الراء. وزعم الكسائي أن من العرب من يقول: الرضاعة بالكسر. فإن كانت فهي بمنزلة الوكالة والوكالة، والدلالة والدلالة، ومهرت «5» الشيء مهارة ومهارة والرضاع والرضاع فِيهِ مثل ذلك إلا أن فتح الراء أكثر، ومثله الحصاد والحصاد.
وقوله لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها يريد: لا تضارر «6» ، وهو فِي موضع جزم. والكسر فِيهِ جائز «لا تُضَارَّ والِدَةٌ» ولا يجوز رفع الراء على نية الجزم، ولكن يرفعه على
__________
(1) أي جزء من الكلمة التي تلحق بها وهى اسم الإشارة كذا وفروعها. ولا يريد بالحرف ما قابل الاسم.
(2) أي مفتوحة. [.....]
(3) زيادة يسيغها السياق.
(4) أي ذكره وإيراده.
(5) أي حذفته. ويقال أيضا: مهر فيه.
(6) فى ش، ج: «تضارّوهم» ويبدو أنه تحريف عما أثبتنا. وفى الطبري: «قرأ عامة قرّاء أهل الحجاز والكوفة والشام (لا تضارّ) بفتح الراء بتأويل لا تضارر على وجه النهى، وموضعه إذا قرى كذلك جزم ... » .(1/149)
الخبر. وأما قوله «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً» «1» فقد يجوز أن يكون رفعا على نية الجزم لأن الراء الأولى مرفوعة فِي الاصل، فجاز رفع الثانية عليها، ولم يجز (لا تضارّ) بالرفع لأن الراء إن كانت تفاعل فهي مفتوحة، وإن كانت تفاعل فهى مكسورة. فليس يأتيها الرفع إلا أن تكون فِي معنى رفع. وقد قرأ عُمَر بْن الخطاب «ولا يضارر كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ» .
ومعنى لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها يقول: لا ينزعن ولدها منها وهي صحيحة لها لبن فيدفع إلى غيرها. «وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ» يعني الزوج. يقول: إذا أرضعت صبيها وألفها وعرفها فلا تضارن «2» الزوج فِي دفع ولده إليه.
وقوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ (234) يقال: كيف صار الخبر عن النساء ولا خبر للأزواج، وكان ينبغي أن يكون الخبر عن الَّذِينَ؟ فذلك جائز إذا ذكرت أسماء ثُمَّ ذكرت أسماء مضافة إليها فيها معنى الخبر أن تترك الأول ويكون الخبر عن المضاف إليه. فهذا من ذلك لأن المعنى- والله أعلم- إنما أريد به: ومن مات عَنْهَا زوجها تربصت. فترك الأول بلا خبر، وقصد الثاني لأن فِيهِ الخبر والمعنى. قَالَ: وأنشدني بعضهم:
بني أسد إن ابن قيس وقتله ... بغير دم دار المذلة حلت «3»
فألقى (ابن قيس) وأخبر عن قتله أنه ذل. ومثله:
لعلى إن مالت بي الريح ميلة ... على ابن أبى ذبّان أن يتندّما «4»
__________
(1) آية 120 سورة آل عمران.
(2) فى ش: «تضارون» وهو تحريف.
(3) فى ج: «خلت» بدل «حلت» . وكأنه يريد: إن قتله دار المذلة حلت له، فجملة «حلت» خبر «دار المذلة» والرابط محذوف.
(4) أبو ذبان كنية عبد الملك بن مروان، كنى بذلك لبخر كان به من أثر فساد كان فى فمه. ويعنى الشاعر بابنه هشام بن عبد الملك. وانظر اللسان (ذنب) ، والحيوان 3/ 381.(1/150)
فقال: لعلى ثُمَّ قال: أن يتندما لأن المعنى: لعل ابن أَبِي ذبان أن يتندم إن مالت بي الريح. ومثله قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ «1» إلا أن الهاء من قوله وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ رجعت على (الذين) فكان الإعراب فيها أبين لأن العائد من الذكر قد يكون خبرا كقولك: عَبْد اللَّه ضربته.
وقال: وَعَشْراً ولم يقل: «عشرة» وذلك أن العرب إذا أبهمت العدد من الليالي والأيام غلبوا عليه الليالي حَتَّى إنهم ليقولون: قد صمنا عشرا من شهر رمضان- لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام. فإذا أظهروا مع العدد تفسيره كانت الإناث بطرح الهاء، والدّكران بالهاء كما قال اللَّه تبارك وتعالى: «سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً» «2» فأدخل الهاء فِي الأيام حين ظهرت، ولم تدخل فِي «3» الليالي حين ظهرن.
وإن جعلت العدد غير متّصل بالأيام كما يتصل الخافض بما بعده غلبت الليالي أيضا على الأيام. فإن اختلطا فكانت ليالي وأياما غلبت التأنيث، فقلت: مضى له سبع، ثُمَّ تقول بعد: أيام فيها برد شديد. وأما المختلط فقول الشاعر «4» :
أقامت ثلاثا بين يوم وليلة ... وكان النكير أن تضيف وتجارا
فقال: ثلاثا وفيها أيام. وأنت تقول: عندي ثلاثة بين غلام وجارية، ولا يجوز هاهنا ثلاث لأن الليالي من الأيام تغلب الأيام. ومثل ذلك فى الكلام أن تقول:
__________
(1) آية 240 سورة البقرة.
(2) آية 7 سورة الحاقة:
(3) سقط فى ج.
(4) هو النابغة الجعدي. والبيت من قصيدة مدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأوّلها:
خليلى عوجا ساعة وتهجرا ... ولو ما على ما أحدث الدهر أو ذرا
وقد وصف فى البيت الشاهد بقرة وحشية أكل السبع ولدها، فأقامت ثلاثة أيام تطلبه حتى وجدت شلوه وبقيته فأضافت أي حزنت وأشفقت أو ضافت أي تردّدت وذهبت هنا وهنا لا تلوى على شىء من فرط أساها، وحأرت وصاحت وكان هذا كل ما وسعها، ولم يكن لها نكير ما أصابها غير ما ذكر. وتضيف بضم التاء من أضاف، أو بفتحها من ضاف. وانظر شواهد العيني على هامش الخزانة 2/ 193(1/151)
عندي عشر من الإبل وإن عنيت أجمالا، وعشر من الغنم والبقر. وكل جمع كان واحدته بالهاء وجمعه بطرح الهاء، مثل البقر واحدته بقرة، فتقول: عندي عشر من البقر وإن نويت ذكرانا. فإذا اختلطا وكان المفسر من النوعين قبل صاحبه أجريت العدد فقلت: عندي خمس عشرة ناقة وجملا، فأنثت لأنك بدأت بالناقة فغلبتها.
وإن بدأت بالجمل قلت: عندى خمسة عشر جملا وناقة. فإن قلت: بين ناقة وجمل فلم تكن مفسرة غلبت التأنيث، ولم تبال أبدأت بالجمل أو بالناقة فقلت: عندي خمس عشرة بين جمل وناقة. ولا يجوز أن تقول: عندي خمس عشرة أمة وعبدا، ولا بين أمة وعبد إلا بالتذكير لأن الذكران من غير ما ذكرت لك لا يجتزأ منها بالإناث، ولأن الذكر منها موسوم بغير سمة الأنثى، والغنم والبقر يقع على ذكرها وأنثاها شاة وبقرة، فيجوز تأنيث المذكر لهذه الهاء التي لزمت المذكر والمؤنث.
وقوله مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ الخطبة مصدر بمنزلة الخطب، وهو مثل قولك:
إنه لحسن القعدة والجلسة يريد القعود والجلوس، والخطبة مثل الرسالة التي لها أول وأخر، قال: سمعت بعض العرب [يقول] «1» : اللهم ارفع عنا هذه الضغطة، كأنه ذهب إلى أن لها أولا وآخرا، ولو أراد مرة لقال: الضغطة، ولو أراد الفعل لقال الضغطة كما قال المشية. وسمعت آخر يقول: غلبني [فلان] «2» على قطعة لى من أرضى يريد أرضا مفروزة مثل القطعة لم تقسم، فإذا أردت أنها قطعة من شيء [قطع منه] «3» قلت: قطعة.
وقوله: أَوْ أَكْنَنْتُمْ للعرب فِي أكننت الشيء إذا سترته لغتان «4» : كننته وأكننته، قال: وأنشدوني «5» قول الشاعر:
ثلاث من ثلاث قدامياتٍ ... من اللاتي تكن من الصقيع
__________
(1) زيادة فى اللسان (خطب) .
(2، 3) زيادة فى اللسان (قطع) . [.....]
(4) كذا فى اللسان (كنن) . وفى الأصول: «إذا سرّته لغتان» .
(5) كذا فى اللسان. وفى الأصول: «أنشدنى» .(1/152)
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)
وبعضهم [يرويه] «1» تكن من أكننت. وأما قوله: «لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ» و «بَيْضٌ مَكْنُونٌ» فكأنه مذهب للشيء يصان، وإحداهما قريبة من الأخرى.
وقوله: وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا يقول: لا يصفنَّ أحدكم نفسه فِي عدتها بالرغبة فِي النكاح والإكثار منه. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنِي حِبَّانُ «2» عَنِ الْكَلْبِيِّ «3» عَنْ أَبِي «4» صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: السِّرُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ النِّكَاحُ. وَأَنْشَدَ عَنْهُ بَيْتَ امْرِئِ الْقَيْسِ:
أَلا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي ... كَبِرْتُ وَأَلا يَشْهَدَ السِّرَّ أَمْثَالِي «5»
قَالَ الفراء: وَيَرَى أَنَّهُ مِمَّا كَنَّى اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» «6» .
قوله: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ... (236)
بالرفع. ولو نصب كان صوابا على تكرير الفعل على النية، أي ليعط الموسع قدره، والمقتر قدره. وهو مثل قول العرب: أخذت صدقاتهم، لكل أربعين شاةً شاة ولو نصبت الشاة الآخرة كان صوابا.
__________
(1) زيادة فى اللسان.
(2) يبدو أنه حبان بن على العنزي الكوفي. كان وجها من وجوه أهل الكوفة، وكان فقيها. وتوفى بالكوفة سنة 171، وانظر تهذيب التهذيب.
(3) هو أبو النضر محمد بن السائب الكوفىّ. توفى سنة 146، وانظر الخلاصة.
(4) هو باذام مولى أم هانئ. وانظر الخلاصة.
(5) من قصيدته التي أوّلها:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان فى العصر الخالي
وبسبّاسة امرأة من بنى أسد. ويروى «اللهو» فى مكان «السر» ، وانظر الخزانة 1/ 28
(6) الغائط فى أصل اللغة: المطمئن الواسع من الأرض، ويكنى به عن العذرة لأنهم كانوا إذا أرادوا قضاء الحاجة أتوا الغائط من الأرض.(1/153)
وقوله مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ منصوب خارجا «1» من القدر لأنه نكرة والقدر معرفة.
وإن شئت كان خارجا «2» من قوله «مَتِّعُوهُنَّ» متاعا ومتعة.
فأمّا حَقًّا فإنه نصب من نية «3» الخبر لا أنه من نعت المتاع. وهو كقولك فِي الكلام: عَبْد اللَّه فِي الدار حقا. إنما نصب الحق من نية كلام المخبر كأنه قال: أخبركم خبرا حقا، وبذلك حقا وقبيح أن تجعله تابعا للمعرفات أو للنكرات لأن الحق والباطل لا يكونان فِي أنفس الاسماء إنما يأتي بالإخبار «4» . من ذلك أن تقول: لي عليك المال حقا، وقبيح أن تقول: لي عليك المال الحق، أو:
لي عليك مال حقّ، إلا أن تذهب به إلى أنه حق لي عليك، فتخرجه مخرج المال لا على مذهب الخبر.
وكل ما كان فِي القرآن مما فِيهِ من نكرات الحق أو معرفته أو ما كان فِي معنى الحق فوجه الكلام فِيهِ النصب مثل قوله «وَعْدَ الْحَقِّ» «5» و «وَعْدَ الصِّدْقِ» «6» ومثل قوله «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا» «7» هذا على تفسير الأوّل.
وأمّا قوله «هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ» «8» فالنصب فِي الحق جائز يريد حقا، أي أخبركم أن ذلك حق. وإن شئت خفضت الحق، تجعله من صفة اللَّه تبارك وتعالى. وإن شئت رفعته فتجعله من صفة الولاية. وكذلك قوله «وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» «9» تجعله من صفة اللَّه عز وجل. ولو نصبت كان صوابا، ولو رفع على نية الاستئناف كان صوابا كما قال «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
__________
(1) يريد أنه حال من «قدره» .
(2) يريد أنه مفعول مطلق.
(3) يوافق هذا قولهم: إنه مفعول مطلق مؤكد للجملة السابقة.
(4) كذا فى ش. وفى ج: «بأخبار» .
(5) آية 22 سورة إبراهيم.
(6) آية 16 سورة الأحقاف. [.....]
(7) آية 4 سورة يونس.
(8) آية 44 سورة الكهف.
(9) آية 30 سورة يونس.(1/154)
فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» «1» وأنت قائل إذا سمعت رجلا يحدث: [حقا أي] «2» قلت حقا، والحق، أي ذلك الحق. وأما قوله فِي ص: «قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ» «3» فإن الفرّاء قد رفعت الأول ونصبته. وروى عن مجاهد وابن عَبَّاس أنهما رفعا الأول وقالا تفسيره: الحق مني، وأقول الحق فينصبان الثاني ب «أقول» . ونصبهما جميعا كثير منهم فجعلوا الأول على معنى: والحقّ «4» «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ» وينصب الثاني بوقوع القول عليه. وقوله «ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ» «5» رفعه حَمْزَةُ والكسائي، وجعلا الحق هُوَ اللَّه تبارك وتعالى لأنها فِي حرف عَبْد اللَّه «ذلك عيسى ابن مريم قَالَ اللَّه» كقولك: كلمة اللَّه، فيجعلون (قال) بمنزلة القول كما قَالُوا: العاب والعيب.
وقد نصبه قوم يريدون: ذلك عِيسَى بْن مريم قولا حقا.
وقوله: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ... (237)
تماسوهن وتمسوهن واحد، وهو الجماع المماسة والمس.
وإنما قال إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ بالنون لأنه فعل النسوة، وفعل النسوة بالنون فِي كل حال. يقال: هن يضربن، ولم يضربن، ولن يضربن لأنك لو أسقطت النون منهن للنصب أو الجزم لم يستبن لهن تأنيث. وإنما قَالَتِ العرب «لن يعفوا» للقوم، و «لن يعفوا» للرجلين لانهم زادوا للاثنين فِي الفعل ألفا ونونا، فإذا أسقطوا نون الاثنين للجزم أو للنصب دلت الألف على الاثنين. وكذلك واو يفعلون تدل على الجمع إذا أسقطت النون جزما أو نصبا.
أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وهو الزوج.
__________
(1) آية 147 سورة البقرة.
(2) زيادة اقتضاها السياق خلت منها الأصول.
(3) آية 84.
(4) ونصبه على طرح الخافض على نية القسم أي بالحق.
(5) آية 34 سورة مريم.(1/155)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
وقوله: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ... (238)
فِي قراءة عَبْد اللَّه «وعلى الصلاة الوسطى» فلذلك آثرت القراء الخفض، ولو نصب على الحث عليها بفعل مضمر لكان وجها حسنا. وهو كقولك فِي الكلام: عليك بقرابتك والأم، فخصها بالبر.
وقوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً (240) وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه: «كتب عليهم الوصية لأزواجهم» «1» وفي قراءة أبي:
«يتوفون منكم ويذرون أزواجا فمتاع لأزواجهم» فهذه حجة لرفع الوصية. وقد نصبها قوم منهم حمزة على إضمار فعل كأنه أمر أي ليوصوا لأزواجهم وصيةً.
ولا يكون نصبا فى إيقاع «وَيَذَرُونَ» عليه.
غَيْرَ إِخْراجٍ يقول: من غير أن تخرجوهن ومثله فِي الكلام: أتيتك «2» رغبة إليك. ومثله: «وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» «3» لو ألقيت «مِنْ» لقلت: غير سوء. والسوء هاهنا البرص. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ، قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ، قَالَ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ «4» عَنْ يَزِيدَ «5» بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مِقْسَمٍ «6» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ كَأَنَّهُ قَالَ: تخرج بيضاء غير برصاء.
__________
(1) فى الأصلين: «عليكم الوصية لأزواجكم» وهو لا يتفق مع السياق.
(2) يريد أنه يستوى فى هذا المثال إظهار الحرف وحذفه. تقول أتيتك رغبة إليك، وللرغبة إليك.
وكذلك ما فى الآية: يستوى أن يقال: غير إخراج ومن غير إخراج.
(3) آية 12 سورة النمل.
(4) هو شريك بن عبد الله الكوفىّ. مات سنة 177. خلاصة.
(5) كان من أئمة الشيعة الكبار. يروى عن مولاه عبد الله بن الحارث مولى مقسم. كانت وفاته سنة 137 هـ.
(6) هو مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل. توفى سنة 101 هـ[.....](1/156)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
وقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ (245) تقرأ بالرفع والنصب. فمن رفع جعل الفاء منسوقة على صلة (الَّذِي) ، ومن نصب أخرجها من الصلة وجعلها جوابا ل (من) لأنها استفهام، والذي فِي الحديد «1» مثلها.
وقوله: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... (246)
(نقاتل) مجزومة لا يجوز رفعها. فإن قرئت بالياء «يقاتل» جاز رفعها وجزمها. فأما الجزم فعلى المجازاة بالأمر، وأما الرفع فأن تجعل (يقاتل) صلة للملك كأنك قلت: ابعث لنا الَّذِي يقاتل.
فإذا رَأَيْت بعد الأمر اسما نكرة بعده فعل يرجع بذكره أو يصلح فِي ذلك الفعل إضمار الاسم، جاز فِيهِ الرفع والجزم تقول فِي الكلام: علمني علما أنتفع به، كأنك قلت: علمني الَّذِي أنتفع به، وإن جزمت (أنتفع) على أن تجعلها شرطا للأمر وكأنك لم تذكر العلم جاز ذلك. فإن ألقيت «به» لم يكن إلا جزما لأن الضمير لا يجوز فى (أنتفع) ألا ترى أنك لا تقول: علمني علما أنتفعه.
فإن قلت: فهلا رفعت وأنت تريد إضمار (به) ؟
قلت: لا يجوز إضمار حرفين، فلذلك لم يجز فى قوله (نقاتل) إلا الجزم.
ومثله «اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ» «2» لا يجوز إلا الجزم لأن «يَخْلُ» لم يعد بذكر الأرض. ولو كان «أرضا تخل لكم» جاز الرفع والجزم كما قال: «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ» «3» ، وكما قال اللَّه تبارك وتعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ
__________
(1) آية 11
(2) آية 9 سورة يوسف.
(3) آية 129 سورة البقرة.(1/157)
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ» «1» ولو كان جزما كان صوابا لأن فِي قراءة عَبْد اللَّه:
«أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُنْ لَنَا عِيدًا» «2» وفي قراءتنا بالواو «تكون» .
ومنه ما يكون الجزم فِيهِ أحسن وذلك بأن يكون الفعل الَّذِي قد يجزم ويرفع فِي آية، والاسم الَّذِي يكون الفعل صلة له فِي الآية التي قبله، فيحسن الجزم لانقطاع الاسم من صلته من ذلك: «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي» «3» جزمه يحيى ابن وثاب والاعمش- ورفعه حمزة «يَرِثُنِي» لهذه العلة، وبعض القراء رفعه أيضا- لمّا كانت (وليا) رأس آية انقطع منها قوله (يرثنى) ، فحسن الجزم. ومن ذلك قوله: «وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ. يَأْتُوكَ» «4» على الجزم. ولو كانت رفعا على صلة «الحاشرين» قلت: يأتوك.
فإذا كان الاسم الَّذِي بعده فعل معرفة يرجع بذكره، مما جاز فِي نكرته وجهان جزمت فقلت: ابعث إلى أخاك يصب خيرا، لم يكن إلا جزما لأن الأخ معرفة والمعرفة لا توصل. ومنه قوله: «أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ» «5» الهاء معرفة و «غَداً» معرفة فليس فِيهِ إلا الجزم، ومثل قوله: «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ» «6» جزم لا غير.
ومن هذا نوع إذا كان بعد معرفته فعل لها جاز فِيهِ الرفع والجزم مثل قوله:
«فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ» «7» وقوله: «ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا» «8» ولو كان رفعا لكان صوابا كما قال تبارك وتعالى: «ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ» «9» ولم يقل: يلعبوا.
فأمّا رفعه فأن تجعل «يَلْعَبُونَ» فِي موضع نصب كأنك قلت فِي الكلام: ذرهم
__________
(1) آية 103 سورة التوبة.
(2) آية 114 سورة المائدة.
(3) آيتا 5 و 6 سورة مريم.
(4) آيتا 36، 37 سورة الشعراء.
(5) آية 12 سورة يوسف.
(6) آية 14 سورة التوبة.
(7) آية 64 سورة هود.
(8) آية 3 سورة الحجر.
(9) آية 91 سورة الأنعام.(1/158)
لاعبين. وكذلك دعهم وخلّهم واتركهم. وكل فعل صلح أن يقع «1» على اسم معرفة وعلى فعله ففيه هذان الوجهان، والجزم فِيهِ وجه الكلام لأن الشرط يحسن فِيهِ، ولأن الأمر فِيهِ سهل، ألا ترى أنك تقول: قل له فليقم معك.
فإن رَأَيْت الفعل الثاني يحسن فِيهِ محنة «2» الأمر ففيه الوجهان بمذهب كالواحد، وفي إحدى القراءتين: «ذَرْهُمْ يأكلون ويتمتّعون ويلهيهم الأَمَلُ» «3» .
وفيه «4» وجه آخر يحسن فِي الفعل الأوّل. من ذلك: أوصه يأت زيدا، أومره، أو أرسل «5» إليه. فهذا يذهب إلى مذهب القول، ويكون جزمه على شبيه بأمر ينوى له مجددا. وإنما يجزم على أنه شرط لأوله. من ذلك قولك: مر عَبْد اللَّه يذهب معنا ألا ترى أن القول يصلح أن يوضع فِي موضع (مر) ، وقال اللَّه تبارك وتعالى: «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ» »
ف «يَغْفِرُوا» فِي موضع جزم، والتأويل- والله أعلم-: قل للذين آمنوا اغفروا، على أنه شرط للامر فيه تأويل الحكاية. ومثله: «قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» «7» فتجزمه بالشرط «قل» ، وقال قوم: بنية الأمر فِي هذه الحروف: من القول والأمر والوصية. قيل لهم: إن كان جزم على الحكاية فينبغي لكم أن تقولوا للرجل فِي وجهه: قلت لك تقم، وينبغي أن تقول: أمرتك تذهب معنا، فهذا دليل على أنه شرط للأمر.
فإن قلت: فقد قال الشاعر:
فلا تستطل مني بقائي ومدتي ... ولكن يكن للخير فيك نصيب «8»
__________
(1) وذلك كالأمثلة السابقة نحو دع محمدا يأكل، فكلمة (دع) وقعت على المعرفة (محمد) وعلى فعله وهو (يأكل) وهو فعل محمد.
(2) المحنة: الاختبار، وهو اسم من الامتحان. [.....]
(3) آية 3 سورة الحجر.
(4) كذا فى ش. وفى ج: «منه» .
(5) فى الأصول: «فأرسل» .
(6) آية 14 سورة الجاثية.
(7) آية 53 سورة الإسراء.
(8) قال البغدادي فى شرح شواهد المغني 2/ 117 «خاطب هذا الشاعر ابنه بهذا البيت لما سمع أنه يتمنى موته. ولم أقف على قائله» .(1/159)
قلت: هذا مجزوم بنية الأمر لأن أول الكلام نهي، وقوله (ولكن) نسق وليست بجواب. فأراد: ولكن ليكن للخير فيك نصيب. ومثله قول الآخر:
من كان لا يزعم أني شاعر ... فيدن مني تنهه المزاجر
فجعل الفاء جوابا للجزاء، وضمّن (فيدن) لاما يجزم [بها] «1» . وقال الآخر:
فقلتُ ادعِي وَأَدْعُ فإنّ أندى ... لصوتٍ أن ينادي داعيان «2»
أراد: ولادع. وفي قوله (وادع) طرف من الجزاء وإن كان أمرا قد نسق أوله على أخره. وهو مثل قول اللَّه عز وجل: «اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ» «3» والله أعلم. وأما قوله: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ» «4» فليس تأويل جزاء، إنما هُوَ أمر محض لأن إلقاء الواو ورده إلى الجزاء (لا يحسن فليس إلى الجزاء) ألا ترى أنه لا يحسن أن تقول ذروني أقتله يدع كما حسن «اتّبعوا سبيلنا تحمل خطاياكم» .
والعرب لا تجازي بالنهي كما تجازي بالأمر. وذلك أن النهي يأتي بالجحد، ولم تجاز العرب بشيء من الجحود. وإنما يجيبونه بالفاء. وألحقوا النهي إذا كان بلا، بليس «5» وما وأخواتهن من الجحود. فإذا رَأَيْت نهيا بعد اسمه فعل فارفع ذلك الفعل. فتقول: لا تدعنه يضربه، ولا تتركه يضربك. جعلوه رفعا إذ لم يكن آخره يشاكل أوله إذ كان أوله جحد وليس فِي أخره جحد. فلو قلت: لا تدعه لا يؤذك جاز الجزم والرفع إذ كان أوله كآخره كما تقول فِي الأمر: دعه ينام، ودعه ينم إذ كان لا جحد فيهما. فإذا أمرت ثُمَّ جعلت فى الفعل (لا) رفعت لاختلافهما
__________
(1) زيادة فى شرح شواهد المغني للبغدادى 2/ 116.
(2) قائله الأعشى، ونسب إلى غيره. راجع العيني ج 4/ 392 هـ الخزانة.
(3) آية 12 سورة العنكبوت.
(4) آية 26 سورة غافر.
(5) هذا متعلق بقوله: «ألحقوا ... » ، وفى الأصلين ش، ج: «وبليس» .(1/160)
أيضا، فقلت: ايتنا لا نسيء إليك كقول اللَّه تبارك وتعالى: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً» «1» [لما كان] «2» أول الكلام أمرا وآخره نهيا فِيهِ (لا) فاختلفا، جعلت (لا) على معنى ليس فرفعت. ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: «فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ» «3» وقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» «4» رفع، ومنه قوله: «فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ» «5» ترفع، ولو نويت الجزاء لجاز فِي قياس النحو.
وقد قرأ يحيى بْن وثاب وحمزة: «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تخف دركا ولا تخشى» «6» بالجزاء المحض.
فإن قلت: فكيف أثبتت الياء فِي (تخشى) ؟ قلت: فِي ذلك ثلاثة أوجه إن شئت استأنفت «وَلا تَخْشى» بعد الجزم، وإن شئت جعلت (تخشى) فِي موضع جزم وإن كانت فيها الياء لأن من العرب من يفعل ذلك قال بعض «7» بني عبس:
ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بنى زياد
فأثبتت الياء فِي (يأتيك) وهي فِي موضع جزم لأنه رآها ساكنة، فتركها على سكونها كما تفعل بسائر الحروف. وأنشدني بعض بني حنيفة:
قال لها من تحتها وما استوى ... هزي إليك الجذع يجنيك الجنى
__________
(1) آية 132 سورة طه.
(2) زيادة يقتضيها السياق.
(3) آية 84 سورة النساء. [.....]
(4) آية 105 سورة المائدة.
(5) آية 58 سورة طه.
(6) آية 77 سورة طه.
(7) هو قيس بن زهير من قصيدة يقولها فيما كان قد شجر بينه وبين الربيع بن زياد العبسي من أجل درع أخذها الربيع من قيس، فأغار قيس على إبل الربيع وباعها فى مكة. وبعد البيت:
ومحبسها على القرشىّ تشرى ... بأدراع وأسياف حداد(1/161)
وكان ينبغي أن تقول: يجنك. وأنشدني بعضهم فِي الواو:
هَجَوْتَ زَبَّان ثُمَّ جئتَ معتذِرًا ... من سبّ زبان لم تهجو ولم تدع
والوجه الثالث أن يكون الياء صلة لفتحة الشين كما قال امرؤ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
فهذه الياء ليست بلام الفعل هِيَ صلة لكسرة اللام كما توصل القوافي بإعراب رويها مثل قول الأعشى:
بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا «1»
وقول الآخر:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلمي «2»
وقد يكون جزم الثاني إذا كانت فِيهِ (لا) على نية النهي وفيه معنى من الجزاء كما كان فى قوله «وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ» طرف من الجزاء وهو أمر. فمن ذلك قول الله تبارك وتعالى: «يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ» «3» المعنى والله أعلم: إن؟ تدخلن حطمتن، وهو نهي محض لأنه لو كان جزاء لم تدخله النون الشديدة ولا الخفيفة ألا ترى أنك لا تقول: إن تضربني أضربنك إلا فِي ضرورة شعر كقوله «4» :
فمهما تشأ منه فزارة تعطكم ... ومهما تشأ منه فزارة تمنعا
__________
(1) هذا صدر بيت عجزه:
واحتلت الغور فالجدّين فالفرعا
وانظر الصبح المنير 72
(2) مطلع معلقة زهير بن أبى سلمى، وعجزه:
بحومانة الدراج فالمنثلم
(3) آية 18 سورة النمل.
(4) نسب فى سيبويه 2/ 152 لابن الخرع، وهو عوف.
وقال البغدادي: «والبيت غير موجود فى ديوانه، وإنما هو من قصيدة للكميت بن ثعلبة أوردها أبو محمد الأعرابىّ فى كتابه فرحة الأديب» وانظر الخزانة 4/ 560، 561(1/162)
وقوله: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ ... (246)
جاءت (أن) فِي موضع، وأسقطت من آخر فقال فِي موضع آخر: «وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ» «1» وقال فِي موضع آخر: «وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ» «2» فمن ألقى (أن) فالكلمة على جهة العربية التي لا علة «3» فيها، والفعل فِي موضع نصب كقول اللَّه- عز وجل-: «فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ» «4» وكقوله:
«فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ» «5» فهذا وجه الكلام فى قولك: مالك؟ وما بالك؟
وما شأنك: أن تنصب فعلها «6» إذا كان اسما، وترفعه إذا كان فعلا أوله «7» الياء أو التاء أو النون أو الألف كقول الشاعر:
مالك ترغين ولا ترغو الخلف الخلفة: التي فِي بطنها ولدها.
وأما إذا قال (أن) فإنه مما ذهب إلى المعنى الَّذِي يحتمل دخول (أن) ألا ترى أن قولك للرجل: مالك لا تصلي فِي الجماعة؟ بمعنى ما يمنعك أن تصلي، فأدخلت (أن) فى (مالك) إذ وافق معناها معنى المنع. والدليل على ذلك قول اللَّه عز وجل:
«مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» «8» وفي موضع آخر: «مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ
__________
(1) آية 8 سورة الحديد.
(2) آية 12 سورة إبراهيم.
(3) أى لا ضعف فيها ولا دخل، إذ هو الوجه الكثير. وفى الطبرى: «وذلك هو الكلام الذى لا حاجة للتكلم به للاستشهاد على صحته لفشوّ ذلك على ألسن العرب» .
(4) آية 36 سورة المعارج.
(5) آية 88 سورة النساء.
(6) يريد الحدث الذى يلى العبارات السابقة فى صورة فعل اصطلاحىّ أو غيره. [.....]
(7) يريد الفعل المضارع.
(8) آية 12 سورة الأعراف.(1/163)
السَّاجِدِينَ» «1» وقصة إبليس واحدة، فقال فيها بلفظين ومعناهما واحد وإن اختلفا.
ومثله ما حمل على معنى هُوَ مخالف لصاحبه فِي اللفظ قول الشاعر «2» :
يقول إذا اقلولى عليها وأقردت ... ألا هَلْ أخو عيشٍ لذيذ بدائم
فأدخل الباء فِي (هَلْ) وهي استفهام، وإنما تدخل الباء فِي ما الجحد كقولك: ما أنت بقائل. فلما كانت النية فِي (هَلْ) يراد بها الجحد أدخلت لها الباء. ومثله قوله فِي قراءة عبد الله «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ» «3» : ليس للمشركين. وكذلك قول الشاعر:
فاذهب فأي فتى في الناس أحرزه ... من يومه ظلم دعج ولا جبل «4»
(رد عليه بلا) «5» كأن معنى أي فتى فِي الناس أحرزه معناه: ليس يحرز الفتى من يومه ظلم دعج ولا جبل. وقال الكسائي: سمعت العرب تقول: أَيْنَ كنت لتنجو مني! لأن المعنى: ما كنت لتنجو مني، فأدخل اللام فِي (أَيْنَ) لأن معناها جحد:
ما كنت لتنجو مني. وقال الشاعر:
فهذى سيوف يا صدى بْن مالك ... كثير ولكن أين بالسيف ضارب «6»
__________
(1) آية 32 سورة الحجر.
(2) هو الفرزدق. والبيت من قصيدة يهجو فيها جريرا ورهطه كليبا بإتيان الأتن. وقبله:
وليس كليبىّ إذا جنّ ليله ... إذا لم يجد ريح الأتان بنائم
وقوله: «يقول» أي الكليبىّ، و (اقلولى عليها) أي نزا عليها (وأقردت) : سكنت. وفى اللسان (فرد) :
«قال ابن برىّ: البيت للفرزدق. يذكر امرأة إذا علاها الفحل أقردت وسكنت وطلبت منه أن يكون فعله دائما متصلا» وهذا على رواية «تقول» . وقد علمت أن الأمر وراء ما ذكر ابن برىّ.
(3) آية 7 سورة التوبة.
(4) من قصيدة للمتنخل الهذلىّ فى رثاء ابنه أثيلة. يقول:
لا تقيه من موته الظلم الدعج يستتر بها من الهلاك ولا الجبال يتحصن بها. وانظر ديوان الهذليين طبع الدار 2/ 35، وقوله: «ولا جبل» فى اللسان (فلا) : «ولا خبل» وهو تحريف.
(5) هذه العبارة بين القوسين أثبتت فى ش، ج بعد قوله قبيل هذا: «ليس للمشركين» .
(6) فى أمالى ابن الشجري 1/ 267: «حداد» فى مكان «كثير» .(1/164)
أراد: ليس بالسيف ضارب، ولو لم يرد (ليس) لم يجز الكلمة لأن الباء من صلة (ضارب) ولا تقدم صلة اسم قبله ألا ترى أنك لا تقول: ضربت بالجارية كفيلا، حَتَّى تقول: ضربت كفيلا بالجارية. وجاز أن تقول: ليس بالجارية كفيل لأن (ليس) نظيرة ل (ما) لأنها لا ينبغي لها أن ترفع الاسم كما أن (ما) لا ترفعه.
وقال الكسائي فِي إدخالهم (أن) فِي (مالك) : هُوَ بمنزلة قوله: «ما لكم فِي ألا تقاتلوا» ولو كان ذلك على ما قال لجاز فِي الكلام أن تقول: مالك أن قمت، وما لك أنك قائم لأنك تقول: فِي قيامك، ماضيا ومستقبلا، وذلك غير جائز لأن المنع إنما يأتي بالاستقبال تقول: منعتك أن تقوم، ولا تقول: منعتك أن قمت.
فلذلك جاءت فِي (مالك) فِي المستقبل ولم تأت فِي دائم ولا ماض. فذلك شاهد على اتفاق معنى مالك وما منعك. وقد قال بعض النحويين: هِيَ مما أضمرت فِيهِ الواو، حذفت من نحو قولك فِي الكلام: مالك ولأن تذهب إلى فلان؟ فألقى الواو منها لأن (أن) حرف ليس بمتمكن فِي الاسماء.
فيقال: أتجيز أن أقول: مالك أن تقوم، ولا أجيز: مالك القيام [فقال] «1» :
لأن القيام اسم صحيح و (أن) اسم ليس بالصحيح. واحتج بقول العرب: إياك أن تتكلم، وزعم أن المعنى إياك وأن تتكلم. فرد ذلك عليه أن العرب تقول:
إياك بالباطل أن تنطق، فلو كانت الواو مضمرة فِي (أن) لم يجز لما بعد الواو من الأفاعيل أن تقع على ما قبلها ألا ترى أنه غير جائز أن تقول: ضربتك بالجارية وأنت كفيل، تريد: وأنت كفيل بالجارية، وأنك تقول: رأيتك وإيانا تريد، ولا يجوز رأيتك إيانا وتريد قال الشاعر:
فبح بالسرائر فِي أهلها ... وإياك فِي غيرهم أن تبوحا
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.(1/165)
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
فجاز أن يقع الفعل بعد (أن) على قوله (فِي غيرهم) ، فدلّ ذلك على أن إضمار الواو فى (أن) لا يجوز.
وأما قول الشاعر:
فإياك المحاين أن تحينا
فإنه حذره فقال: إياك، ثُمَّ نوى الوقفة، ثُمَّ استأنف (المحاين) بأمر آخر، كأنه قال: احذر المحاين، ولو أراد مثل قوله: (إياك والباطل) لم يجز إلقاء الواو لأنه اسم أتبع اسما فِي نصبه، فكان بمنزلة قوله فِي [غير] «1» الأمر: أنت ورأيك وكل ثوب وثمنه، فكما لم يجز أنت رأيك، أو كل ثوب ثمنه فكذلك لا يجوز:
(إياك الباطل) وأنت تريد: إياك والباطل.
وقوله: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ... (294)
وفي إحدى «2» القراءتين: إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ.
والوجه فِي (إلا) أن ينصب ما بعدها إذا كان ما قبلها لا جحد فِيهِ، فإذا كان ما قبل إلا فِيهِ جحد جعلت ما بعدها تابعا لما قبلها معرفة كان أو نكرة. فأما المعرفة فقولك: ما ذهب الناس إلا زَيْدُ. وأما النكرة فقولك:
ما فيها أحد إلا غلامك، لم يأت هذا عن العرب إلا بإتباع ما بعد إلا ما قبلها. وقال اللَّه تبارك وتعالى: «مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ» «3» لأن فِي (فعلوه) اسما معرفة، فكان الرفع الوجه فِي الجحد الَّذِي ينفي الفعل عَنْهُمْ، ويثبته لما بعد إلا. وهي فِي قراءة أَبِي «4» «ما فعلوه إلا قليلا» كأنه نفى الفعل وجعل ما بعد إلا كالمنقطع عن أول الكلام كقولك: ما قام القوم، اللهم إلّا رجلا أو رجلين.
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) هى قراءة ابن مسعود وأبىّ والأعمش كما فى البحر 2/ 266
(3) آية 66 سورة النساء.
(4) وهى أيضا قراءة ابن عامر.(1/166)
فإذا نويت الانقطاع نصبت، وإذا نويت الاتصال رفعت. ومثله قوله:
«فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ» «1» فهذا على هذا «2» المعنى، ومثله: «فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ» «3» ثُمَّ قال: «إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ» فأول الكلام- وإن كان استفهاما- جحد لأن لولا بمنزلة هلا ألا ترى أنك إذا قلت للرجل: (هلا قمت) أن معناه:
لم تقم. ولو كان ما بعد (إلا) فِي هاتين الايتين رفعا على نية الوصل لكان صوابا مثل قوله: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» «4» فهذا نية وصل لأنه غير جائز أن يوقف على ما قبل (إلا) .
وإذا لم تر قبل (إلا) اسما فأعمل ما قبلها فيما بعدها. فتقول: (ما قام إلا زَيْدُ) رفعت (زيدا) لإعمالك (قام) إذ لم تجد (قام) اسما بعدها. وكذلك: ما ضربت إلا أخاك، وما مررت إلا بأخيك.
وإذا كان الَّذِي قبل (إلا) نكرة مع جحد فإنك تتبع ما بعد إلا ما قبلها كقولك: ما عندي أَحد إلا أخوك. فإن قدمت إلا نصبت الَّذِي كنت ترفعه فقلت: ما أتاني إلا أخاك أحد. وذلك أن (إلا) كانت مسوقة على ما قبلها فاتبعه، فلما قدمت فمنع أن يتبع شيئًا هُوَ بعدها فاختاروا الاستثناء. ومثله قول الشاعر:
لمية موحشا طلل ... يلوح كأنه خلل «5»
__________
(1) آية 98 سورة يونس. [.....]
(2) يريد أن (لولا) فيه للتحضيض والتوبيخ. وفيهما معنى النفي لما يطلب بها.
(3) آية 116 سورة هود.
(4) آية 22 سورة الأنبياء.
(5) ينسب إلى كثير عزة. والخلل واحدها الخلة- بكسر الخاء وشدّ اللام- وهى بطانة كانت تغشى بها أجفان السيوف منقوشة بالذهب. وانظر العيني على هامش الخزانة 3/ 163، ويروى بدل البيت فى بعض الكتب.
لمية موحشا طلل قديم ... عفاه كل أسحم مستديم
وهو بهذه الصورة ينسب إلى ذى الرمة. وانظر الخزانة 1/ 531.(1/167)
المعنى: لمية طلل موحش، فصلح رفعه لأنه أتبع الطلل، فلمّا قدّم لم يجز أن يتبع الطلل وهو قبله. وقد يجوز رفعه على أن تجعله كالاسم يكون الطلل ترجمة عَنْهُ كما تقول: عندي خراسانية جارية، والوجه النصب فِي خراسانية. ومن العرب من يرفع ما تقدم فِي إلا على هَذَا التفسير. قال: وأنشدونا:
بالثني أسفل من جماء ليس له ... إلا بنيه وإلا عرسه شيع «1»
وينشد: إلا بنوه وإلا عرسه. وأنشد أَبُو ثروان:
ما كان منذ تركنا أهل أسنمةٍ ... إلا الوجيف لها رعى ولا علف «2»
ورفع غيره. وقال ذو الرمة:
مقزع أطلس الأطمار ليس له ... إلا الضراء وإلا صيدها نشب «3»
ورفعه على أنه بنى كلامه على: ليس له إلا الضراء وإلا صيدها، ثُمَّ ذكر فِي آخر الكلام (نشب) ويبينه أن تجعل موضعه فِي أول الكلام.
كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً وفي قراءة أَبِي كأين من فئة قليلة غلبت وهما لغتان. وكذلك وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ «4» هِيَ لغات كلها معناهن معنى كم. فإذا ألقيت (من) كان فِي الاسم النكرة النصب والخفض. من ذلك قول العرب: كم رجلٍ كريم قد رَأَيْت، وكم جيشا جرارا قد هزمت. فهذان وجهان، ينصبان ويخفضان والفعل فِي المعنى واقع. فإن كان الفعل ليس بواقع وكان للاسم جاز النصب أيضا
__________
(1) الثنى: منعطف الوادي ومنقطعه. وجماء موضع. والبيت فى وصف أسد من قصيدة طويلة لأبى زبيد الطائىّ مدونة فى الطرائف الأدبية للأستاذ عبد العزيز الميمنى 98.
(2) من قصيدة لجرير يمدح فيها يزيد بن عبد الملك ويهجو آل المهلب. و (أسنمة) موضع فى بلاد تميم. والرعي: الكلأ يرعى.
(3) من قصيدة التي أوّلها:
ما بال عينك منها الماء ينسكب ... كأنه من كلى مفرية سرب
وهو فى وصف صائد. والمقزع: الخفيف الشعر. وأطلس: أغبر. والأطمار واحدها الطمر، وهو الثوب الخلق. والضراء واحدها ضرو، وهو الكلب الضارى، يريد كلاب الصيد، والنشب: المال.
(4) آية 146 سورة آل عمران.(1/168)
والخفض. وجاز أن تعمل الفعل فترفع به «1» النكرة، فتقول: كم رَجُل كريم قد أتاني، ترفعه بفعله، وتعمل فِيهِ الفعل إن كان واقعا عليه فتقول: كم جيشا جرارا قد هزمت، نصبته بهزمت. وأنشدوا قول الشاعر:
كم عمة لك يا جرير وخالة ... فدعاء قد حلبت على عشارى «2»
رفعا ونصبا وخفضا، فمن نصب قال: كان أصل كم الاستفهام، وما بعدها من النكرة مفسر كتفسير العدد، فتركناها فِي الخبر على جهتها وما كانت عليه فِي الاستفهام فنصبنا «3» ما بعد (كم) من النكرات كما تقول: عندي كذا وكذا درهما، ومن خفض قال: طالت صحبة من للنكرة فِي كم، فلما حذفناها أعملنا إرادتها «4» ، فخفضنا «5» كما قَالَتِ العرب إذا قيل لاحدهم: كيف أصبحت؟ قال: خيرٍ عافاك اللَّه، فخفض، يريد: بخير. وأمّا من رفع فأعمل الفعل الآخر، [و] «6» نوى تقديم الفعل كأنه قال: كم قد أتاني رجل كريم. وقال امرؤ القيس:
تبوص وكم من دونها من مفازةٍ ... وكم أرض جدب دونها ولصوص «7»
فرفع على نية تقديم الفعل «8» . وإنما جعلت الفعل مقدما فِي النية لأن النكرات لا تسبق أفاعيلها ألا ترى أنك تقول: ما عندي شيء، ولا تقول ما شىء عندى.
__________
(1) فى اللسان: «فيه» .
(2) هو للفرزدق من قصيدة يهجو فيها جريرا. والفدع: اعوجاج وعيب فى القدم. والعشار جمع العشراء. وهى الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر.
(3) كذا فى اللسان (كمم) وفى الأصول: «فتكتبا» وهو تحريف.
(4) كذا فى اللسان. وفى الأصول: «أراد بها» وهو تحريف.
(5) حاصل هذا أن خفض تمييزكم الخبرية بالحرف (من) محذوفا. وهذا مذهب أصحابه الكوفيين.
والبصريون يرون الجر بإضافة كم.
(6) زيادة من اللسان. [.....]
(7) قبله مطلع القصيدة:
أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص ... فنقصر عنها خطوة أو تبوص
(تنوص) أي تتحول. «فتقصر عنها خطوة» أي تتأخر عنها «أو تبوص» البوص السبق والفوت، أي تسبقها. أي أنك لا توافقها فى السير معها، وهو يخاطب نفسه.
(8) يريد بالفعل فى البيت (دونها) فإنها فى معنى استقرّ دونها.(1/169)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ ... (258)
وإدخال العرب (إلى) فِي هذا الموضع على جهة التعجب كما تقول للرجل:
أما ترى إلى هذا! والمعنى- والله أعلم-: هَلْ رَأَيْت مثل هذا أو رَأَيْت هكذا! والدليل على ذلك أنه قال: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ فكأنه قال: هَلْ رَأَيْت كمثل الَّذِي حاج إِبْرَاهِيم فِي ربه «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها» وهذا فِي جهته بمنزلة ما أخبرتك به فِي مالك وما منعك. ومثله قول اللَّه تبارك وتعالى: «قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ» «1» ثُمَّ قال تبارك وتعالى: «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ» «2» فجعل اللام جوابا وليست فِي أول الكلام. وذلك أنك إذا قلت: من صاحب هذه الدار؟
فقال لك القائل: هِيَ لزيد، فقد أجابك بما تريد. فقوله: زَيْدُ ولزيدٍ سواء فِي المعنى. فقال: أنشدني بعض بني عامر:
فأعلم أنني سأكون رمسًا ... إِذَا سار النواجع لا يسير «3»
فقال السائرون لمن حفرتم ... فقال المخبرون لهم: وزير «4»
ومثله فِي الكلام أن يقول لك الرجل: كيف أصبحت؟ فتقول أنت: صالح، بالرفع، ولو أجبته على نفس كلمته لقلت: صالحا. فكفاك إخبارك عن حالك من أن تلزم كلمته. ومثله قول اللَّه تبارك وتعالى «مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ
__________
(1) آية 85 سورة المؤمنين.
(2) آية 86 سورة المؤمنين.
(3) «رمسا» أى مدفونا. والرمس فى الأصل الستر والدفن، فأطلق على اسم المفعول. ومن معانى الرمس التراب على القبر تعفوه المريح، ويجوز أن يراد هنا، أى يستحيل بعد ترابا. و «النواجع» جمع الناجعة، يريد الفرقة الناجعة أو القوم الناجعة، والناجع الذى يقصد بإبله المرعى والكلأ حيث يكون.
(4) وزير اسم الشاعر.(1/170)
رَسُولَ اللَّهِ» «1» وإذا نصبت أردت: ولكن كان رسول اللَّه، وإذا رفعت أخبرت، فكفاك الخبر مما قبله. وقوله: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ» «2» رفع وهُوَ أوجه من النصب، لأنه لو نصب لكان على: ولكن احسبهم أحياء فطرح الشكّ من هذا الموضع أجود. ولو كان نصبا كان صوابا كما تقول:
لا تظننه كاذبا، بل أظننه صادقا. وقال الله تبارك وتعالى: «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» «3» إن شئت جعلت نصب قادرين من هذا التأويل، كأنه فِي مثله من الكلام قول القائل: أتحسب أن لن أزورك؟ بل سريعا إن شاء اللَّه، كأنه قال: بلى فاحسبني زائرك. وإن كان الفعل قد وقع على (أَنْ لَنْ نجمع) فإنه فِي التأويل واقع على الاسماء. وأنشدني بعض «4» بني فقعس:
أجدك لن ترى بثعيلبات ... ولا بيدان ناجيةً ذمولا
ولا متداركٍ والشمس طفل ... ببعض نواشغ الوادي حمولا
فقال: ولا متداركٍ، فدل ذلك على أنه أراد ما أنت براءٍ بثعيلبات كذا ولا بمتداركٍ.
وقد يقول بعض النحويين: إنا نصبنا (قَادِرِينَ) على أنها صرفت «5» عن نقدر، وليس ذلك بشيء، ولكنه قد يكون فِيهِ وجه آخر سوى ما فسرت لك: يكون خارجا «6» من (نجمع) كأنه فِي الكلام قول القائل: أتحسب أن لن أضربك؟ بلى قادرا على قتلك، كأنه قال: بلى أضربك قادرًا على أكثر من ضربك.
__________
(1) آية 40 سورة الأحزاب.
(2) آية 169 سورة آل عمران.
(3) آية 4 سورة القيامة.
(4) الشعر للمرّار بن سعيد. وثعيلبات وبيدان موضعان. والناجية: الناقة السريعة. ونواشغ الوادي أعاليه. والحمول الهوادج، والإبل عليها الهوادج. وانظر الخصائص 1/ 388 طبعة الدار.
(5) يريد أن الأصل: بلى نقدر، ثم حوّل (نقدر) إلى (قادرين) وقوله: «وليس ذلك بشىء» لأنه لا وجه لنصب قادرين على هذا الوجه.
(6) يريد أنه حال من فاعل (نجمع) المقدرة بعد (بلى) .(1/171)
وقوله: كَمْ لَبِثْتَ وقد جرى الكلام بالإدغام للثاء لقيت التاء وهي مجزومة «1» .
وفي قراءة عَبْد اللَّه (اتختم العجل) «2» (وإنى عت بربي وربكم) «3» فأدغمت الذال أيضا عند التاء. وذلك أنهما متناسبتان فِي قرب المخرج، والثاء والذال مخرجهما ثقيل، فأنزل الادغام بهما لثقلهما ألا ترى أن مخرجهما من طرف اللسان. وكذلك الظاء تشاركهن فِي الثقل. فما أتاك من هذه الثلاثة الأحرف فأدغم. وليس تركك الادغام بخطأ، إنما هُوَ استثقال. والطاء والدال يدغمان عند التاء أيضا إذا أسكنتا كقوله: «أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ» «4» تخرج الطاء فِي اللفظ تاء، وهو أقرب إلى التاء من الأحرف الأول، تجد ذلك إذا امتحنت مخرجيهما.
وقوله: لَمْ يَتَسَنَّهْ جاء التفسير: لم يتغير [بمرور السنين عليه «5» ، مأخوذ من السنة] ، وتكون الهاء من أصله [من «6» قولك: بعته مسانهة، تثبت وصلا ووقفا. ومن وصله بغير هاء جعله من المساناة لأن لام سنة تعتقب عليها الهاء والواو] ، وتكون زائدةً صلةً بمنزلة قوله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «7» فمن جعل الهاء زائدة جعل فعلت «8» منه تسنيت ألا ترى أنك تجمع السنة سنوات فيكون تفعلت على صحة، ومن قال فِي [تصغير] «9» السنة سنينة وأن كان ذلك قليلا جاز أن يكون تسنيت تفعلت أبدلت النون بالياء لمّا كثرت النونات، كما قالوا تظنّيت وأصله الظن. وقد قالوا هو مأخوذ من قوله «مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» «10» يريد: متغير. فإن يكن كذلك فهو أيضا مما أبدلت نونه ياء. ونرى أن معناه مأخوذ من السنة أي لم تغيره السنون. والله أعلم.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ، قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ، قَالَ حَدَّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ رفعه إلى زيد
__________
(1) أي ساكنة.
(2) آية 92 سورة البقرة. [.....]
(3) آية 20 سورة الدخان.
(4) آية 22 سورة النمل.
(5، 6، 9) زيادة من اللسان.
(7) آية 90 سورة الأنعام.
(8) كذا فى الأصول. والمناسب: تفعلت.
(10) آية 20 سورة الحجر.(1/172)
ابن ثابت قال: كتب فى حجر؟؟؟ ها ولم؟؟؟ وَانْظُرْ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَنَقَطَ عَلَى الشِّينِ وَالزَّايِ أَرْبَعًا وَكَتَبَ (يَتَسَنَّهْ) بِالْهَاءِ. وإن شئت قرأتها فِي الوصل على وجهين: تثبت الهاء وتجزمها، وإن شئت حذفتها أنشدني بعضهم:
فليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا فِي السنين الجوائح «1»
والرجبية: التي تكاد تسقط فيعمد حولها بالحجارة. والسنهاء النخلة القديمة. فهذه قوة لمن أظهر الهاء إذا وصل.
وقوله وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ إنما أدخلت فِيهِ الواو لنية فعل بعدها مضمر كأنه قال: ولنجعلك آية فعلنا ذلك. وهو كثير فِي القرآن. وقوله «آيَةً لِلنَّاسِ» حين بعث أسود اللحية والرأس وبنو بنيه شيب، فكان آية لذلك.
وقوله «نُنْشِزُها» قرأها زَيْدُ بْن ثابت كذلك، والإنشاز نقلها إلى موضعها.
وقرأها ابن عَبَّاس «ننشرها» . إنشارها: إحياؤها. واحتج بقوله: «ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ» «2» وقرأها الْحَسَن- فيما بلغنا- (ننشرها) ذهب إلى النشر والطي. والوجه أن تقول: أنشر اللَّه الموتى فنشروا إذا حيوا، كما قال الأعشى:
يا عجبا للميت الناشر «3»
وسمعت بعض بْني الحارث يقول: كان به جرب فنشر، أي عاد وحيي. وقوله:
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ جزمها «4» ابن عبّاس، وهى فى قراءة
__________
(1) هذا الشعر لسويد بن الصامت الأنصارىّ الصحابىّ، يذكر نخله التي يدان عليها. والعرايا جمع العرية، وهى النخلة التي يوهب ثمرها لعامها. وانظر الإصابة، واللسان (عرى) .
(2) آية 22 سورة عبس.
(3) قبله:
حتى يقول الناس مما رأوا
وهو من قصيدته التي يقولها فى منافرة علقمة وعامر بن الطفيل. وانظر الصبح المنير 105
(4) يريد أنه سكن الميم فى اعلم على أنه أمر من علم والهمزة عليه همزة وصل.(1/173)
أَبِي وعبد اللَّه جميعا: (قيل له اعلم) ، واحتج ابن عَبَّاس فقال: أهو خير من إِبْرَاهِيم وأفقه؟ فقد قيل له: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ والعامة تقرأ: أعلم أن اللَّه وهو وجه حسن لأن المعنى كقول الرجل عند القدرة تتبين له من أمر اللَّه: (أشهد أن لا إله إلا اللَّه) والوجه الآخر أيضا بيّن.
وقوله فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ضم الصاد العامة. وكان أصحاب عَبْد اللَّه يكسرون الصاد. وهما لغتان. فأما الضم فكثير، وأما الكسر ففي هذيل وسليم. وأنشدني الكسائي عن بعض بني سليم:
وفرعٍ يصير الجيد وحف كأنه ... على الليت قنوان الكروم الدوالح «1»
ويفسر معناه: قطعهن، ويقال: وجههن. ولم نجد قطعهن معروفة من هذين الوجهين، ولكني أرى- والله أعلم- أنها إن كانت من ذلك أنها من صريت تصري، قدمت ياؤها كما قَالُوا: عثت وعثيت «2» ، وقال الشاعر:
صرت نظرة لو صادفت جوز دارع ... غدا والعواصي من دم الجوف تنعر «3»
والعرب تقول: بات يصرى فِي حوضه إذا استقى ثُمَّ قطع واستقى فلعله من ذلك.
وقال الشاعر:
يقولون إن الشأم يقتل أهله ... فمن لي إن لم آته بخلود
تعرب آبائي فهلا صراهم ... من الموت أن لم يذهبوا وجدودى
__________
(1) يريد بالفرع الشعر التام. والوحف: الأسود. والليت: صفحة العنق. ويريد بقنوان الكروم عناقيد العنب، وأصل ذلك كباسة النخل، والدوالح: المثقلات بحملها.
(2) يريد أنه يقال عنى أي أفسد، وذلك لغة أهل الحجاز، وعاث فى معناها وهى لغة التميميين، وكأنه يرى الأولى أصل الثانية كصرى وصار.
(3) صرت نظرة أي قطعت نظرة أي فعلت ذلك. والجوز: وسط الشيء. والعواصى جمع العاصي وهو العرق، ويقال: نعر العرق: فار منه الدم.(1/174)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
وقوله: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ...... (266)
ثم قال بعد ذلك (وأصابه الكبر) ثُمَّ قال (فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) فيقول القائل: فهل يجوز فِي الكلام أن يقول: أتود أن تصيب مالا فضاع، والمعنى: فيضيع؟ قلت: نعم ذلك جائز فِي وددت لأن العرب تلقاها مرة ب (أن) ومرة ب (لو) فيقولون: لوددت لو ذهبت عنا، [و] وددت أن تذهب عنا، فلما صلحت بلو وبأن ومعناهما جميعا الاستقبال استجازوا أن يردوا فعل بتأويل لو، على يفعل مع أن. فلذلك قال: فأصابها، وهي فِي مذهبه بمنزلة لو إذ ضارعت إن بمعنى الجزاء فوضعت فِي مواضعها، وأجيبت إن بجوابٍ لو، ولو بجواب إن قال اللَّه تبارك وتعالى «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ» «1» والمعنى- والله أعلم-: وإن أعجبتكم ثُمَّ قال وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا «2» [مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ] فأجيبت لئن بإجابة لو ومعناهما مستقبل. ولذلك قال فِي قراءة أَبِي وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُوا» «3» رده على تأويل: ودوا أن تفعلوا. فإذا رفعت (فيميلون) رددت على تأويل لو كما قال اللَّه تبارك وتعالى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ «4» وقال أيضا وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ «5» وربما جمعت العرب بينهما جميعا قال اللَّه تبارك وتعالى وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً» «6» وهو مثل جمع العرب بين ما وإن وهما جحد قال الشاعر:
__________
(1) آية 221 سورة البقرة. [.....]
(2) آية 51 سورة الروم.
(3) آية 102 سورة النساء.
(4) آية 9 سورة القلم.
(5) آية 7 سورة الأنفال.
(6) آية 30 سورة آل عمران.(1/175)
قد يكسب المال الهدان الجافي ... بغير لا عصفٍ ولا اصطراف «1»
وقال آخر:
ما إن رأينا مثلهن لمعشر ... سود الرءوس فوالج وفيول «2»
وذلك لاختلاف اللفظين يجعل أحدهما لغوا. ومثله قول الشاعر:
من النفر اللاء الذين إذا هُمْ ... تهاب اللئام حلقه الباب قعقعوا «3»
ألا ترى أنه قال: اللاء الذين، ومعنا هما الذين، استجيز جمعهما لاختلاف لفظهما، ولو اتفقا لم يجز. لا يجوز ما ما قام زَيْدُ، ولا مررت بالذين الذين يطوفون. وأما قول الشاعر:
كما ما امرؤ في معشر غير رهطه ... ضعيف الكلام شخصه متضائل
فإنما استجازوا الجمع بين ما وبين [ما] «4» لأن الأولى وصلت بالكاف، - كأنها كانت هِيَ والكاف اسمًا واحدا- ولم توصل الثانية، واستحسن الجمع بينهما. وهو فِي قول اللَّه كَلَّا لا وَزَرَ «5» كانت لا «6» موصولةً، وجاءت الأخرى مفردة فحسن اقترانهما. فإذا قال القائل: (ما ما قلت بحسنٍ) «7» جاز ذلك على غير عيب لأنه
__________
(1) نسب فى اللسان (هدن) إلى رؤبة. والهدان: الأحمق الثقيل. والعصف: الكسب، وكذلك الاصطراف.
(2) الفوالج جمع الفالج، وهو جمل ذو سنامين يجلب من السند للفحلة. والفيول جمع الفيل.
(3) ينسب هذا إلى أبى الربيس أحد اللصوص، يقوله فى عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، وكان قد سرق ناقة له. وقبله:
مطية بطال لدن شب همه ... قمار الكعاب والطلاء المشعشع
ويروى هذا الشعر لغير عبد الله بن جعفر. وانظر الخزانة 2/ 529.
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) آية 11 سورة القيامة.
(6) ذلك أن كلا مركبة عند الكوفيين من كاف التشبيه ولا النافية. وشدّدت اللام لتقوية المعنى.
وقد نسب هذا القول صاحب المغني إلى ثعلب.
(7) كذا فى ج. وفى ش: «يحسن» .(1/176)
يجعل ما الأولى جحدا والثانية فِي مذهب الَّذِي. [وكذلك لو قال: من من عندك؟
جاز لأنه جعل من الأول استفهاما، والثاني على مذهب الَّذِي] «1» . فإذا اختلف معنى الحرفين جاز الجمع بينهما.
وأما قول الشاعر:
كم نعمةٍ كانت لها كم كم وكم
إنما هذا تكرير حرف، لو وقعت «2» على الأول أجزأك من الثاني. وهو كقولك للرجل:
نعم نعم، تكررها، أو قولك: اعجل اعجل، تشديدا للمعنى. وليس هذا من البابين الأولين فِي شيء. وقال الشاعر: «3»
هلا سألت جموع كن ... دة يوم ولوا أَيْنَ أينا
وأما قوله: (لم أره منذ يوم يوم) فإنه ينوى بالثاني غير اليوم الأول، إنما هُوَ فِي المعنى: لم أره «4» منذ يوم تعلم. وأما قوله:
نحمى حقيقتنا وبع ... ض القوم يسقط بين بينا «5»
فإنه أراد: يسقط هُوَ لا بين هؤلاء ولا بين هؤلاء. فكان اجتماعهما فِي هذا الموضع بمنزلة قولهم: هُوَ جاري بيت بيت، ولقيته كفة كفة «6» لأن الكفتين واحدة منك وواحدة منه. وكذلك هُوَ جاري بيت بيت معناه: بيتي وبيته لصيقان.
__________
(1) زيادة فى ج.
(2) كذا. والأنسب: «وقفت» . [.....]
(3) هو عبيد بن الأبرص يقوله فى أبيات يردّ بها على إمرئ القيس بن حجر، وكان توعد بنى أسد قوم عبيد إذ قتلوا أبا امرئ القيس. وكندة قوم امرئ القيس. وانظر الأغانى (بولاق) 19/ 85
(4) من ذلك قول الفرزدق:
ولولا يوم يوم ما أردنا ... لقاءك والقروض لها جزاء
قال الشنتمرى «أي لولا نصرنا لك فى اليوم الذي تعلم ... » وانظر الكتاب 2/ 53
(5) من قصيدة عبيد التي منها البيت السابق. وحقيقة الرجل ما يحق عليه أن يحميه كالأهل والولد.
(6) أي كفاحا ومواجهة.(1/177)
قال: كيف قال قوله: فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ ... (265)
وهذا الأمر قد مضى؟ قيل: أضمرت (كان) فصلح الكلام. ومثله أن تقول: قد أعتقت عبدين، فإن لم أعتق اثنين فواحدا بقيمتهما، والمعنى إلّا أكن لأنه ماض فلا بد من إضمار كان لأن الكلام جزاء. ومثله قول الشاعر:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ... ولم تجدي من أن تقرى بها بدا «1»
وقوله: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ... (267)
فتحت (أن) بعد إلا وهي فِي مذهب جزاء. وإنما فتحتها لأن إلا قد وقعت عليها بمعنى خفضٍ يصلح. فإذا رَأَيْت (أن) فِي الجزاء قد أصابها معنى خفضٍ أو نصب أو رفع انفتحت. فهذا من ذلك. والمعنى- والله أعلم- ولستم بآخذيه إلا على إغماض، أو بإغماض، أو عن إغماض، صفة «2» غير معلومة. ويدلك على أنه جزاء أنك تجد المعنى: إن أغمضتم بعض الإغماض أخذتموه. ومثله قوله: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ «3» ومثله إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ «4» هذا كله جزاء، وقوله وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «5» ألا ترى أن المعنى: لا تقل إني فاعل إلا ومعها إن شاء اللَّه فلما قطعتها (إلا) عن معنى الابتداء، مع ما فيها من نية الخافض فتحت. ولو لم تكن فيها (إِلا) تركت على كسرتها من ذلك أن تقول:
أحسن إن قبل منك. فإن أدخلت (إلا) قلت: أحسن إلا ألا يقبل منك. فمثله
__________
(1) انظر ص 61 من هذا الجزء.
(2) يريد أن حرف الجر المحذوف فى (أن تغمضوا) يصح تقديره على أو عن أو الباء فهو غير معين.
(3) آية 229 سورة البقرة.
(4) آية 237 سورة البقرة.
(5) آية 24 سورة الكهف.(1/178)
قوله وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «1» ، وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ «2» هُوَ جزاء، المعنى:
إن تصوموا فهو خير لكم. فلما أن صارت (أن) مرفوعة ب (خير) «3» صار لها ما يرافعها إن فتحت وخرجت من حد الجزاء. والناصب كذلك.
ومثله من الجزاء الَّذِي إذا وقع عليه خافض أو رافع أو ناصب ذهب عَنْهُ الجزم قولك: اضربه من كان، ولا آتيك ما عشت. فمن وما فِي موضع جزاء، والفعل فيهما مرفوع «4» فِي المعنى لأن كان والفعل الَّذِي قبله قد وقعا على (من) و (ما) فتغير عن الجزم ولم يخرج من تأويل الجزاء قال الشاعر «5» :
فلست مقاتلا أبدًا قريشا ... مصيبا رغم ذلك من أصابا
فِي «6» تأويل رفع لوقوع مصيب على من.
ومثله قول اللَّه عز وجل وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ «7» إن جعلت (من) مردودة «8» على خفض (الناس) فهو من هذا، و (استطاع) فِي موضع «9» رفع، وإن نويت الاستئناف بمن كانت جزاء، وكان الفعل بعدها جزما، واكتفيت بما جاء قبله من جوابه. وكذلك تقول فِي الكلام: أيهم يقم فاضرب، فإن قدمت الضرب
__________
(1) آية 237 سورة البقرة.
(2) آية 184 سورة البقرة.
(3) فى ش، ج: (بخبر) .
(4) يريد أن الفعل لا يكون مجزوما، وإذا كان ماضيا لفظا فهو مراد به الاستقبال، فهو فى تأويل المضارع المرفوع. وفى الأصول: «موقوع» وهو تحريف.
(5) هو الحارث بن ظالم. والبيت من قصيدة مفضلية. وانظر شرح المفضليات لابن الأنبارى 517 [.....]
(6) يريد أن «أصاب» فى البيت فى موقع رفع لأن «من» مفعول «مصيب» وبهذا خرجت «من» عن معنى الجزاء، فلم يكن الفعل معها فى موضع الجزم.
(7) آية 97 سورة آل عمران.
(8) يريد أنها بدل من (الناس) .
(9) كأنه يريد أن (استطاع) فى مكان يستطيع المرفوعة.(1/179)
فأوقعته على أي قلت اضرب أيهم يقوم قال بعض العرب «1» : فأيُّهم ما أخذها ركب عَلَى أيِّهم يريدُ. ومنه قول الشاعر «2» :
فإني لاتيكم تشكر ما مضى ... من الأمر واستيجاب ما كان فِي غد
لأنه لا يجوز لو لم يكن جزاء أن تقول: كان فِي غد لأن (كان) إنما خلقت للماضي إلا فِي الجزاء فإنها تصلح للمستقبل. كأنه قال: استيجاب أي شيء كان فِي غد.
ومثل «3» إن فِي الجزاء فِي انصرافها عن الكسر إلى الفتح إذا أصابها رافع قول العرب: (قلت إنك قائم) فإنّ مكسورة بعد القول فِي كل تصرفه. فإذا وضعت مكان القول شيئا فِي معناه مما قد يحدث خفضا أو رفعا أو نصبا فتحت أن، فقلت:
ناديت أنك قائم، ودعوت، وصحت وهتفت. وذلك أنك تقول: ناديت زيدا، ودعوت زيدا، وناديت «4» بزيد، (وهتفت بزيد) «5» فتجد هذه الحروف تنفرد «6» بزيد وحده والقول لا يصلح فِيهِ أن تقول: قلت زيدا، ولا قلت بزيد. فنفذت الحكاية فِي القول ولم تنفذ فِي النداء لاكتفائه بالاسماء. إلا أن يضطر شاعر إلى كسر إن فِي النداء وأشباهه، فيجوز له كقوله: «7»
إني سأبدي لك فيما أبدى ... لي شجنان شجن بنجد
وشجن لي ببلاد الهند
__________
(1) فى اللسان (أىّ) : «أيهم ما أدرك يركب على أيهم يريد» .
(2) هو الطرماح بن حكيم الطائىّ. وقبله:
من كان لا يأتيك إلا لحاجة ... يروح بها فيما يروح ويغتدى
وانظر الديوان 146
(3) كذا فى ش. وفى ح: «مثله» .
(4) كذا. وقد يكون: «صحت» .
(5) زيادة فى ش.
(6) أي لا تحتاج إلى شىء وراءه، بخلاف القول، فلا تقول: قلت زيدا، وتسكت.
(7) انظر فى هذا الرجز ص 80 من هذا الجزء.(1/180)
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
لو ظهرت إن فِي هذا الموضع لكان الوجه فتحها. وفي القياس أن تكسر لأن رفع الشجنين دليل على إرادة القول، ويلزم من فتح أن لو ظهرت أن تقول:
لي شجنين «1» شجنا بنجد.
فإذا رَأَيْت القول قد وقع على شيء فِي المعنى كانت أن مفتوحة. من ذلك أن تقول: قلت لك ما قلت أنك ظالم لأن ما فِي موضع نصب. وكذلك قلت:
زَيْدُ صالح أنه صالح لأن قولك (قلت زَيْدُ قائم) فِي موضع نصب. فلو أردت أن تكون أن مردودة على الكلمة التي قبلها كسرت فقلت: قلت ما قلت: إن أباك قائم، (وهي الكلمة التي قبلها) «2» وإذا فتحت فهي سواها. قول اللَّه تبارك وتعالى فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا «3» وإنا، قد قرئ بهما. فمن فتح نوى أن يجعل أن فِي موضع خفض، ويجعلها تفسيرًا للطعام وسببه كأنه قال: إلى صبنا الماء وإنباتنا ما أنبتنا. ومن كسر نوى الانقطاع «4» من النظر عن إنا كأنه قال: فلينظر الانْسَان إلى طعامه، ثُمَّ أخبر بالاستئناف.
وقوله: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً ... (273)
ولا غير إلحاف. ومثله قولك فِي الكلام: قلما رَأَيْت مثل هذا الرجل ولعلك لم تر قليلا ولا كثيرا من أشباهه.
__________
(1) ونصبه بقوله: «سأبدى» .
(2) يريد أن إن وجملتها على هذا هى الكلمة التي قبلها، وهى (ما قلت) . فإن فتحت، فالمقول شىء آخر محذوف، وأنّ فى موقع الجر أي قلت كذا لأن أباك قائم. هذا وفى الأصل: «والكلمة هى التي قبلها» ويبدو أنه مغير عما أثبتنا.
(3) آية 24 سورة عبس. [.....]
(4) فى الأصل: «بالانقطاع» والوجه ما أثبت.(1/181)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
وقوله: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا ... (275)
أي فى الدنيا لا يَقُومُونَ فِي الآخرة إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ والمس: الجنون، يقال رَجُل ممسوس.
وقوله: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا ... (278)
يقول القائل: ما هذا الربا الَّذِي له بقية، فإن البقية لا تكون إلا من شيء قد مضى؟ وذلك «1» أن ثقيفا كانت تربى على قوم من «2» قريش، فصولحوا على أن يكون ما لهم على قريش من الربا لا يحط، وما على ثقيف من الربا موضوع عَنْهُمْ. فلما حل الاجل على قريش، وطلب منهم الحق نزل عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فهذه تفسير البقية. وأمروا بأخذ رءوس الأموال فلم يجدوها متيسرة، فأبوا أن يحطوا الربا ويؤخروا رءوس الأموال، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى:
[وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] .
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ من قريش فَنَظِرَةٌ يا ثقيف (إلى ميسرة) وكانوا محتاجين، فقال- تبارك وتعالى-: وَأَنْ تَصَدَّقُوا برءوس الأموال خَيْرٌ لَكُمْ.
__________
(1) هذا أخذ فى الجواب.
(2) هم بنو المغيرة من بنى مخزوم، كانت عليهم ديون لبنى عمرو بن عمير من ثقيف.(1/182)
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
وقوله: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ... (281)
حدّثنا محمد بن الجهم عن الْفَرَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ «1» بْنُ عَيَّاشٍ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَ بِهَا جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ هَذِهِ، ثُمَّ قَالَ: ضَعْهَا فِي «2» رَأْسِ الثَّمَانِينَ وَالْمِائَتَيْنِ مِنَ الْبَقَرَةِ، وقوله: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ... (282)
هذا الأمر ليس بفريضة، إنما هُوَ أدب ورحمة من اللَّه تبارك وتعالى. فإن كتب فحسن، وإن لم يكتب فلا بأس. وهو مثل قوله وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «3» أي فقد أبيح لكم الصيد. وكذلك قوله فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ «4» ليس الانتشار والابتغاء بفريضة بعد الجمعة، إنما هُوَ إذن.
وقوله وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ أمر الكاتب ألا يأبى لقلة الكتاب كانوا عَلَى عهد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ فأمر الَّذِي عليه الدين بأن يمل لأنه المشهود عليه.
ثُمَّ قال فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً يعنى جاهلا أَوْ ضَعِيفاً صغيرا أو امْرَأَة أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ يكون عييّا بالإملاء فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ يعني صاحب الدين. فإن شئت جعلت الهاء للذي ولي الدين، وإن شئت جعلتها للمطلوب.
كلّ ذلك جائز.
__________
(1) هو أحد الأعلام الثقات. مات سنة 193
(2) رأى الآية آخر كلمة فيها. كالقافية فى البيت. فرأس آية 280 هو «تَعْلَمُونَ» والمراد بالوضع فى هذه الكلمة الوضع عقبها. وبذلك تكون هذه الآية 281.
(3) آية 2 سورة المائدة.
(4) آية 10 سورة الجمعة.(1/183)
ثُمَّ قال تبارك وتعالى فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ أي فليكن رَجُل وامرأتان فرفع بالرد على الكون. وإن شئت قلت: فهو رَجُل وامرأتان.
ولو كانا نصبا أي فإن لم يكونا رجلين فاستشهدوا رجلا وامرأتين «1» . وأكثر ما أتى فِي القرآن من هذا بالرفع، فجرى هذا معه.
وقوله مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما بفتح أن، وتكسر. فمن كسرها «2» نوى بها الابتداء فجعلها منقطعة مما قبلها. ومن فتحها فهو أيضا على سبيل الجزاء إلا أنه نوى أن يكون «3» فِيهِ تقديم وتأخير. فصار الجزاء وجوابه كالكلمة الواحدة. ومعناه- والله أعلم- استشهدوا امرأتين مكان الرجل كيما تذكر الذاكرة الناسية إن نسيت فلما تقدم الجزاء اتصل بما قبله، وصار جوابه مردودا عليه.
ومثله فِي الكلام قولك: (إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيعطي) فالذي يعجبك الإعطاء إن يسأل، ولا يعجبك المسألة ولا الافتقار. ومثله: استظهرت بخمسة إجمال أن يسقط مُسْلِم فأحمله، إنما استظهرت بها لتحمل الساقط، لا لأن يسقط مُسْلِم. فهذا دليل على التقديم والتأخير.
ومثله فِي كتاب اللَّه وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا «4» ألا ترى أن المعنى: لولا أن يقولوا إن أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم: هلا أرسلت إلينا رسولا. فهذا مذهب بيّن.
__________
(1) الجواب محذوف، أي لجاز، مثلا.
(2) وهو حمزة. وفى هذه القراءة «فتذكر» بالرفع على الاستئناف.
(3) وذلك أن الفتح على تقدير (لأن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) والأصل فى هذا:
لأن تذكر إحداهما الأخرى إن تضل.
(4) آية 47 سورة القصص.(1/184)
وقوله: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا إلى الحاكم.
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً ترفع وتنصب «1» . فإن شئت جعلت تُدِيرُونَها فِي موضع «2» نصب فيكون لكان مرفوع ومنصوب. وإن شئت جعلت «تُدِيرُونَها» فِي موضع رفع «3» . وذلك أنه «4» جائز فِي النكرات أن تكون أفعالها تابعة لأسمائها لأنك تقول: إن كان أحد صالح ففلان، ثُمَّ تلقى (أحدا) فتقول: إن كان صالح ففلان، وهو غير موقت «5» فصلح نعته مكان اسمه إذ كانا جميعا غير معلومين، ولم يصلح ذلك فِي المعرفة لأن المعرفة موقتة معلومة، وفعلها «6» غير موافق للفظها ولا لمعناها.
فإن قلت: فهل يجوز أن تقول: كان أخوك القاتل، فترفع لأن الفعل معرفة والاسم معرفة فترفعا «7» للاتفاق إذا كانا معرفة كما ارتفعا للاتفاق فِي النكرة؟
قلت: لا يجوز ذلك من قبل أن نعت المعرفة دليل عليها إذا حصلت «8» ، ونعت النكرة متصل بها كصلة الَّذِي. وقد أنشدني المفضل الضبي:
أفاطم إني هالك فتبيني ... ولا تجزعي كل النساء يئيم
ولا أنبأن بأن وجهك شانه ... خموش وإن كان الحميم الحميم «9»
__________
(1) النصب قراءة عاصم، وقرأ عامة القراء بالرفع.
(2) أي على قراءة النصب إذ تكون الجملة صفة لتجارة المنصوبة خبرا، واسمها مستتر أي المعاملة والتجارة.
(3) أي على أن الجملة صفة لتجارة المرفوعة فاعلا لكان التامة. [.....]
(4) سقط فى ج.
(5) يريد بالموقت المعرفة.
(6) يريد بالفعل هنا الصفة.
(7) أي المعرفتان: وفى ح: «فترتفعا» .
(8) أي قومت. وفى ش، ح: «جعلت» ويبدو أنه تحريف عما أثبتنا.
(9) يقال خمشت المرأة وجهها إذا خدشته، ويكون ذلك عند الحزن، والحميم: القريب.
ينهاها عن الحزن ومظاهره على ميت، وإن كان حميما لها قريبا.(1/185)
فرفعهما. وإنما رفع الحميم الثاني لأنه تشديد «1» للأول. ولو لم يكن فِي الكلام الحميم لرفع الأول. ومثله فِي الكلام: ما كُنَّا بشيء حين كنت، تريد حين صرت وجئت، فتكتفي (كان) بالاسم «2» .
ومما يرفع من النكرات قوله وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ وفي قراءة عَبْد اللَّه وأبي «وإن كان ذا عسرة» فهما جائزان إذا نصبت أضمرت فِي كان اسما كقول الشاعر «3» :
لله قومى أي قوم لحرة ... إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا!
وقال آخر:
أعيني هلا تبكيان عفاقا «4» ... إذا كان «5» طعنا بينهم وعناقا
وإنما احتاجوا إلى ضمير الاسم فِي (كان) مع المنصوب لأن بنية (كان) على أن يكون لها مرفوع ومنصوب، فوجدوا (كان) يحتمل صاحبا مرفوعا فأضمروه مجهولا.
وقوله فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ» «6» فقد أظهرت الاسماء «7» . فلو قال: فإن كان نساء جاز الرفع «8» والنصب. ومثله «إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ» «9» ومثله
__________
(1) أى توكيد له.
(2) يريد بالاسم هنا فاعل كان التامة.
(3) فى سيبويه 1/ 22 عز ومثل هذا البيت إلى عمرو بن شأس. والبيت فيه:
بنى أسد هل تعلمون بلاءنا ... إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا
وقوله: «إذا كان يوما» أى إذا كان هو أى يوم الواقعة أو يوم القتال، مثلا.
(4) عفاق اسم رجل. وقد يكون هذا عفاق بن مرى الذى يقول فيه صاحب القاموس: «أخذه الأحدب بن عمرو الباهلى فى قحط وشواه وأكله» .
(5) أى إذا كان (هو) أى القتال والجلاد.
(6) آية 11 سورة النساء.
(7) يريد نون النسوة اسم كان. أى فإن كانت المتروكات أو الوارثات.
(8) فالرفع على أن كان تامة، والنصب على أنها ناقصة. [.....]
(9) الآية 29 سورة النساء.(1/186)
«إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً» «1» ومن قال (تكون ميتة) جاز فِيهِ الرفع والنصب. وقلت (تكون) لتأنيث الميتة، وقوله «إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ» «2» فإن قلت: إن المثقال ذكر فكيف قال (تَكُنْ) «3» ؟ قلت: لأن المثقال أضيف إلى الحبة وفيها المعنى كأنه قال: إنها إن تك حبة وقال الشاعر:
على قبضة مرجوة ظهرُ كَفّه ... فلا المرء مُسْتحيٍ ولا هُوَ طاعم
لأنه ذهب إلى الكف ومثله قول الآخر «4» :
وتشرق بالقول الَّذِي قد أَذَعتَه ... كما شَرِقت صدر القناة من الدم
وقوله:
أَبَا عرو لا تبعد فكل ابن حرة ... ستدعوه داعي موته فيجيب «5»
فأنث فعل الداعي وهو ذكر لأنه ذهب إلى الموتة. وقال الآخر «6» :
قد صرّح السير عن كتمان وابتذلت ... وقع المجاجن بالمهرية الذقن «7»
فأنث فعل الوقع وهو ذكر لأنه ذهب إلى المحاجن.
وقوله وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ أي لا يدع كاتب وهو مشغول، ولا شهيد.
__________
(1) آية 145 سورة الأنعام.
(2) آية 16 سورة لقمان. قرئ مثقال حبة بالرفع والنصب.
(3) أي التي هى أصل تك، فحذفت منها النون.
(4) هو الأعشى ميمون يقوله فى عمير- وهو جهام- وكان بينهما عداوة. وانظر الصبح المنير 94، والكتاب 1/ 25. وفى الشنتمرى فى حاشيته أن الأعشى يخاطب يزيد بن مسهر الشيباني، وهو خلاف ما ذكرناه.
(5) ذكره فى الخزانة 1/ 377 ولم يعزه.
(6) هو تميم بن أبى بن مقبل.
(7) كتمان: اسم موضع، وقيل: اسم جبل. والذقن جمع الذقون، وهى من الإبل: التي تميل ذقنها إلى الأرض، تستعين بذلك على السير، وقيل هى السريعة. أي ابتذلت المهرية- وهى المنسوبة إلى مهرة- الذقن بوقع المحاجن فيها تستحث على السير، فقلبه وأنث، وقوله، «صرح السير عن كتمان» أي كشف السير عن هذا المكان.(1/187)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
وقوله: فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ... (283)
وقرأ مجاهد «1» فرهن على جمع الرهان كما قال كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ «2» لجمع الثمار.
وقوله: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [وأجاز قوم (قلبه) بالنصب] «3» فإن يكن حقا فهو من جهة قولك: سفهت رأيك وأثمت قلبك.
وقوله: غُفْرانَكَ رَبَّنا ... (285)
مصدر وقع فِي موضع أمر فنصب. ومثله: الصلاة الصلاة. وجميع الاسماء من المصادر وغيرها إذا نويت الأمر نصبت. فأمّا الاسماء فقولك: اللَّه اللَّه يا قوم ولو رفع على قولك: هُوَ اللَّه، فيكون خبرا وفيه تأويل الأمر لجاز أنشدني بعضهم:
إن قوما منهم عمير وأشبا ... هـ عمير ومنهم السفّاح
لجديرون بالوفاء إذا قا ... ل أخو النجدة السلاح السلاح
ومثله أن تقول: يا هؤلاء الليل فبادروا، أنت تريد: هذا الليل فبادروا. ومن نصب الليل أعمل فيه فعلا مضمرا قبله. ولو قيل: غفرانك ربنا لجاز.
وقوله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.
الوسع اسم فِي مثل معنى الوجد والجهد. ومن قال فِي مثل الوجد: الوجد، وفي مثل الجهد: الجهد قال فِي مثله من الكلام: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» .
ولو قيل: وسعها لكان جائزا، ولم نسمعه «4» .
__________
(1) وهى قراءة حمزة والكسائي وخلف: وانظر القرطبي 7/ 49، وإتحاف فضلاء البشر 214
(2) آية 141 سورة الأنعام.
(3) زيادة يقتضيها السياق.
(4) هو قراءة ابن أبى عبلة.(1/188)
وقوله رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً والإصر: العهد كذلك، قال فِي آل عِمْرَانَ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي «1» والإصر هاهنا: الإثم إثم العقد إذا ضيعوا، كما شدد على بني إسرائيل.
وقد «2» قرأت القرّاء فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ يقول: فاعلموا أنتم به.
وقرأ قوم: فآذنوا أي فأعلمِوا.
وقال ابن عَبَّاس: فإن لم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة «3» وقال: قد يوجد الكاتب ولا توجد الصحيفة ولا الدواة.
__________
(1) آية 81
(2) كان حق هذه الآية ذكرها فيما سبق. ولكنه لا يلتزم الترتيب. [.....]
(3) كان حق هذه الآية ذكرها فيما سبق. ولكنه لا يلتزم الترتيب.(1/189)
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
ومن سورة آل عِمْرَانَ
ومن سورة آل عِمْرَانَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ... (2)
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الجهم عن الفراء الْحَيُّ الْقَيُّومُ قراءة العامة، وقرأها عُمَر بْن الخطاب وابن مَسْعُود «القيام» وصورة القيوم: الفيعول، والقيام الفيعال، وهما جميعا مدح. وأهل الحجاز أكثر شيء قولا: الفيعال من ذوات الثلاثة. فيقولون للصواغ: الصياغ.
وقوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ ... (7)
مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ يعني: مبينات للحلال والحرام ولم ينسخن. وهن الثلاث الآيات فِي الأنعام أولها: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ «1» والآيتان بعدها.
وقوله: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ. يقول: هنّ الأصل.
وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ وهن: المص، والر، والمر اشتبهن على اليهود لانهم التمسوا مدة أكل «2» هذه الأمة من حساب «3» الجمّل، فلمّا لم يأتهم على ما يريدون قَالُوا: خلط مُحَمَّد- صلى اللَّه عليه وسلم- وكفروا بمحمد صلى اللَّه عليه وسلم.
__________
(1) آية 151
(2) يجوز أن يقرأ بفتح الهمزة مصدرا، ويراد به العيش، فإن العيش يلزمه الأكل. ويجوز أن يقرأ بضم الهمزة، وهو الرزق. ويقال للميت: انقطع أكله، فهو رديف الحياة والعيش. وفى ش: «كل» وهو تحريف.
(3) هو الحساب المبنى على حروف أبجد.(1/190)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
فقال اللَّه: فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ يعني تفسير المدة.
ثُمَّ قال: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ثم استأنف «وَالرَّاسِخُونَ» فرفعهم «1» ب «يَقُولُونَ» لا بإتباعهم إعراب اللَّه. وفي قراءة أَبِي (ويقول الراسخون) وفي قراءة عَبْد اللَّه «إن تأويله إلا عند اللَّه، والراسخون فِي العلم يقولون» .
وقوله: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ... (1)
يقول: كفرت اليهود ككفر آل فرعون وشأنهم.
وقوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ ... (12)
تقرأ بالتاء والياء. فمن جعلها بالياء فإنه ذهب إلى مخاطبة اليهود، وإلى أن الغلبة على المشركين [بعد] «2» يوم أحد. وَذَلِكَ أنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما هزم المشركين يوم بدر وهم ثلاثمائة ونيف والمشركون ألف إلا شيئا قَالَت اليهود: هذا الَّذِي لا ترد له راية، فصدقوا. فقال بعضهم: لا تعجلوا بتصديقه حَتَّى تكون وقعة أخرى.
فلما نكب المسلمون يوم أحد كذبوا ورجعوا. فأنزل اللَّه: قل لليهود سيغلب المشركون ويحشرون إلى جهنم. فليس يجوز فِي هذا المعنى إلا الياء.
ومن قرأ بالتاء جعل اليهود والمشركين داخلين فِي الخطاب. فيجوز فِي هذا المعنى سيغلبون وستغلبون كما تقول فِي الكلام: قل لعبد اللَّه إنه قائم، وإنك قائم.
__________
(1) أي أن «الراسخون» مبتدأ خبره جملة «يقولون» وهذه الجملة هى الرافعة للمبتدأ كما أنها ارتفعت به لأن المبتدأ والخبر عندهم يترافعان. وقوله: «لا بإتباعهم إعراب الله» أي لا بالعطف على لفظ الجلالة.
(2) زيادة اقتضاها السياق.(1/191)
وفي حرف عَبْد اللَّه قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن تَنتَهُوا يُغْفَرْ لَكُم ما قَدْ سَلَفَ «1» وفي قراءتنا « [إِنْ يَنْتَهُوا] يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ» وفي الأنعام «هذا لله بزعمهم وهذا لشركائهم» «2» وفي قراءتنا «لِشُرَكائِنا» .
وقوله: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا ... (13)
يعنى النبىّ صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، والمشركين يوم بدر.
فِئَةٌ تُقاتِلُ قرئت بالرفع وهو وجه الكلام على معنى: إحداهما تقاتل فِي سبيل اللَّه وَأُخْرى كافِرَةٌ على الاستئناف كما قَالَ الشَّاعِر «3» :
فَكُنْتُ كذي رِجْلين رجلٌ صحيحة ... ورجل رمى فيها الزّمان فشلت
ولو خفضت لكان جيدا: ترده على الخفض الأول كأنك قلت: كذي رجلين: كذي رجلٍ صحيحةٍ ورجلٍ سقيمةٍ. وكذلك يجوز خفض الفئة والأخرى على أول الكلام.
ولو قلت: «فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ» كان صوابا على قولك «4» : التقتا مختلفتين. وقال الشاعر فِي مثل ذلك مما يستأنف:
إذا مت كان الناس نصفين شامت ... وآخر مثنٍ بالذي كنت أفعل «5»
__________
(1) آية 38 سورة الأنفال.
(2) آية 136 سورة الأنعام.
(3) هو كثير عزة.
والبيت من قصيدته التي مطلعها:
خليلىّ هذا ربع عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
(4) يريد أن انتصابهما على الحالية.
(5) يروى النحويون هذا البيت بتغيير فى قافيته، فهى عندهم: «أصنع» بدل «أفعل» ويروون:
«صنفان» فى مكان «نصفين» وينسب إلى العجير السلولي من شعراء الدولة الأموية. ورواية النحويين بقافية العين هى الصواب. ومطّلع القصيدة:
ألما على دار لزينب قد أتى ... لها باللوى ذى المرخ صيف ومربع
وقولا لها قد طالما لم تكلمى ... وراعك بالغيث الفؤاد المروع
وانظر سيبويه 1/ 36(1/192)
ابتدأ الكلام بعد النصفين ففسره. وأراد: بعض شامت وبعض غير شامت.
والنصب فيهما جائز، يردهما على النصفين. وقال الآخر:
حَتَّى إذا ما استقل النجم فِي غلس ... وغودر البقل ملوى ومحصود «1»
ففسر بعض البقل كذا، وبعضه كذا. والنصب جائز.
وكل فعل أوقعته على أسماء لها أفاعيل ينصب على الحال الَّذِي «2» ليس بشرط ففيه الرفع على الابتداء، والنصب على الاتصال بما قبله من ذلك: رَأَيْت القوم قائما وقاعدا، وقائم وقاعد لأنك نويت بالنصب القطع، والاستئناف فِي القطع «3» حسن.
وهو أيضا فيما ينصب بالفعل جائز فتقول: أظن القوم قياما وقعودا، وقيام وقعود، وكان «4» القوم بتلك المنزلة. وكذلك رَأَيْت القوم فِي الدار قياما وقعودا، وقيام وقعود، وقائما وقاعدا، وقائم وقاعد فتفسره بالواحد والجمع قال الشاعر:
وكتيبةٍ شعواء ذات أشلة ... فيها الفوارس حاسر ومقنع «5»
فإذا نصبت على الحال لم يجز أن تفسر الجمع بالاثنين، ولكن تجمع فتقول: فيها القوم قياما وقعودا.
__________
(1) استقل النجم: ارتفع وقد غلب النجم فى الثريا. والغلس: ظلام آخر الليل. والملوي:
اليابس الذابل وإن كان الوارد ألوى، والوصف ملو.
(2) سيذكر ما خرج بهذا، وهو الحال الذي هو شرط فيجب فيه النصب، نحو أكرم الجيش ظافرا وقاهرا لأعدائه، لأن المعنى على الشرط أي أكرمه إن ظفر وقهر الأعداء، فإذا قلت: رأيت الجيش راكبين وراجلين جاز الرفع والنصب لأن الحال ليس بشرط.
(3) يريد بالقطع أن الوصف ليس شرطا وقيدا فى الفعل قبله. [.....]
(4) كذا. وقد يكون الأصل: «أي كان» .
(5) «شعواء» : كثيرة متفرقة، من قولهم: شجرة شعواء: منتشرة الأغصان. و «أشلة» جمع شليل وهو الغلالة تلبس فوق الدرع، أو هو الدرع القصيرة تكون تحت الكبيرة. والحاسر: من لا مغفر له ولا درع. والمقنع هو المغطى بالسلاح.(1/193)
وأما الَّذِي على الشرط مما لا يجوز رفعه فقوله: اضرب أخاك ظالما أو مسيئا، تريد: اضربه فِي ظلمه وفي إساءته. ولا يجوز هاهنا الرفع فى حاليه لانهما متعلقتان بالشرط. وكذلك الجمع تقول: ضربت القوم مجرّدين أو لابسين، ولا يجوز: مجردون ولا لابسون إلا أن تستأنف فتخبر، وليس بشرط للفعل ألا ترى أنك لو أمرت بضربهم فى هاتين الحالين لم يكن فعلهم إلا نصبا فتقول:
اضرب القوم مجردين أو لابسين لأن الشرط فِي الأمر لازم. وفيما قد مضى يجوز أن تجعله خبرا وشرطا. فلذلك جاز الوجهان فِي الماضي.
وقوله: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ زعم بعض من روى عن ابن عَبَّاس أنه قال:
رأى المسلمون المشركين فى الحزر ستمائة وكان المشركون تسعمائة وخمسين، فهذا وجه. وروى قول آخر كأنه أشبه بالصواب: أن المسلمين رأوا المشركين على تسعمائة وخمسين والمسلمون قليل ثلاثمائة وأربعة عشر، فلذلك قال: «قَدْ كانَ لَكُمْ» يعنى اليهود «آيَةٌ» فِي قلة المسلمين وكثرة المشركين.
فإن قلت: فكيف جاز أن يقال «مِثْلَيْهِمْ» يريد ثلاثة أمثالهم؟ قلت:
كما تقول وعندك عَبْد: أحتاج إلى مثله «1» ، فأنت محتاج إليه وإلى مثله، وتقول:
أحتاج إلى مثلى عبدي، فأنت إلى ثلاثة محتاج. ويقول الرجل: معي ألف وأحتاج إلى مثليه، فهو يحتاج إلى ثلاثة. فَلَمَّا نوى أن يكون الألف داخلا فِي معنى المثل صار المثل اثنين والمثلان ثلاثة. ومثله فِي الكلام أن تقول:
أراكم مثلكم، كأنك قلت: أراكم ضعفكم، وأراكم مثليكم يريد ضعفيكم، فهذا على معنى الثلاثة.
__________
(1) فى القرطبي 4/ 6 بعد إيراد قول الفرّاء: «وهو بعيد غير معروف فى اللغة. قال الزجاج:
وهذا باب الغلط، فيه غلط فى جميع المقاييس لأنا إنما نعقل مثل الشيء مساويا له، ونعقل مثليه ما يساويه مرتين» .(1/194)
فإن قلت: فقد قال فى سورة الأنفال: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ «1» فكيف كان هذا هاهنا تقليلا، وفي الآية الأولى تكثيرا؟
قلت: هذه آية المسلمين أخبرهم بها، وتلك الآية لأهل الكفر. مع أنك تقول فِي الكلام: إني لأرى كثيركم قليلا، أي قد هون على، لا أني أرى الثلاثة اثنين.
ومن قرأ (ترونهم) ذهب إلى اليهود لأنه خاطبهم، ومن قال (يَرَوْنَهُمْ) فعلى ذلك كما قال: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ «2» وإن شئت جعلت (يرونهم) للمسلمين دون اليهود.
وقوله: وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ ... (14)
واحد القناطير قنطار. ويقال أنّه ملء مسك ثور ذهبا أو فضّة، ويجوز (القناطير) «3» فِي الكلام، والقناطير ثلاثة، والمقنطرة تسعة «4» . كذلك سمعت، وهو المضاعف.
وقوله: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ ... (15)
ثُمَّ قال لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ فرفع الجنات باللام «5» . ولم يجز ردها على أوّل الكلام لأنك حلت بينهما باللام، فلم يضمر خافض وقد حالت اللام
__________
(1) آية 44
(2) آية 22 سورة يونس. وتضرب الآية مثلا لما يسمونه الالتفات وهو الانتقال من الخطاب إلى الغيبة، وما جرى هذا المجرى. وهو من تلوين الخطاب.
(3) أي بالرفع عطفا على «حُبُّ الشَّهَواتِ» وقوله: «فى الكلام» أي فى غير القرآن إذ لم ترد بهذا القراءة. هذا والأقرب أن الأصل: «ويجوز القناطر فى الكلام» أي أنه يجوز حذف الياء فى الجمع فيقال القناطر. وهذا رأى الكوفيين: يجوز أن يقال فى العصافير العصافر.
(4) يرى الفرّاء أن معنى «القناطر المقنطرة» : القناطير التي بلغت أضعافها أي بلغت ثلاثة أمثالها.
وأقلّ القناطير ثلاثة، فثلاثة أمثالها تسعة. وفى القرطبي 4/ 31: «وروى عن الفرّاء أنه قال: القناطير جمع القنطار، والمقنطرة جمع الجمع فيكون تسع قناطير» .
(5) يريد أن «جنات» مبتدأ خبره «لِلَّذِينَ اتَّقَوْا» والمبتدأ والخبر عندهم يترافعان، فرافع المبتدأ هو الخبر.(1/195)
بينهما. وقد يجوز أن تحول باللام ومثلها بين الرافع وما رفع، والناصب وما نصب.
فتقول: رأيت لأخيك مالا، ولابيك إبلا. وترفع باللام إذا لم تعمل الفعل، وفي الرفع: قد كان لاخيك مال ولابيك إبل. ولم يجز أن تقول فِي الخفض: قد أمرت لك بألف ولاخيك ألفين، وأنت تريد (بألفين) لأن إضمار الخفض غير جائز ألا ترى أنك تقول: من ضربت؟ فتقول: زيدا، ومن أتاك؟ فتقول:
زَيْدُ. فيضمر الرافع والناصب. ولو قال: بمن مررت؟ لم تقل: زيدٍ لأن الخافض مع ما خفض بمنزلة الحرف الواحد. فإذا قدمت الَّذِي أخرته بعد اللام جاز فِيهِ الخفض لأنه كالمنسوق على ما قبله إذا لم تحل بينهما بشيء. فلو قدمت الجنات قبل اللام فقيل: (بخير من ذلكم جناتٍ للذين اتقوا) لجاز الخفض والنصب على معنى تكرير الفعل بإسقاط الباء كما قال الشاعر:
أتيت بعبد اللَّه فِي القد موثقا ... فهلا سعيدا ذا الخيانة والغدر «1» !
كذلك تفعل بالفعل إذا اكتسب الباء ثُمَّ أضمرا جميعا نصب كقولك: أخاك، وأنت تريد أمرر بأخيك. وقال الشاعر «2» [فِي] استجازة العطف إذا قدمته ولم تحل بينهما بشىء:
ألا يا لقوم كل ما حم واقع ... وللطير مجرى والجنوب مصارع «3»
__________
(1) فالأصل: فهلا أتيت بسعيد فلما حذف الخافض انتصب المخفوض. ومقتضى كلامه جواز الخفض، فيقال: فهلا سعيد أي فهلا أتيت بسعيد.
(2) هو البعيث. وانظر اللسان (حمم)
(3) حمّ: قدّر. والجنوب جمع الجنب، وهو جنب الإنسان. وانظر شرح شواهد الهمع 2/ 192(1/196)
أراد: وللجنوب مصارع، فاستجاز حذف اللام، وبها ترتفع المصارع إذ لم تحل بينهما بشيء. فلو قلت: (ومصارع الجنوب) لم يجز وأنت تريد إضمار اللام.
وقال الآخر «1» :
أوعدني بالسجن والأداهم ... رجلي ورجلي شثنة المناسم
أراد: أوعد رجلي بالأداهم.
وقوله: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ «2» والوجه رفع يعقوب.
ومن نصب «3» نوى به النصب، ولم يجز الخفض إلا بإعادة الباء: ومن وراء إِسْحَاق بيعقوب.
وكل شيئين اجتمعا قد تقدم [أحدهما] «4» قبل المخفوض الَّذِي ترى أن الإضمار فِيهِ يجوز على هذا. ولا تبال أن تفرق بينهما بفاعل أو مفعول به أو بصفة. فَمَنْ ذلك أن تقول: مررت بزيد وبعمرو ومحمد [أو] «5» وعمرو ومحمد. ولا يجوز مررت بزيد وعمرو وفي الدار محمدٍ، حَتَّى تقول: بمحمد. وكذلك: أمرت لاخيك بالعبيد ولابيك بالورق. ولا يجوز: لابيك الورق. وكذلك: مر بعبد اللَّه موثقا ومطلقا زيدٍ، وأنت تريد: ومطلقا بزيد. وإن قلت: وزيدٍ مطلقا جاز ذلك على شبيه بالنسق إذا لم تحل بينهما بشىء.
__________
(1) هو العديل بن الفرخ العجلىّ. كان الحجاج قد توعده ففرّ إلى قيصر ملك الروم. والأداهم جمع الأدهم وهو القيد، وشثنة أي غليظة خشنة. والمناسم جمع المنسم، وهو فى الأصل طرف خف البعير، استعاره لأسفل رجله. وانظر شرح شواهد الهمع 2/ 164
(2) آية 71 سورة هود.
(3) يريد أن من فتح «يعقوب» فهو منصوب لا مخفوض بالفتحة لامتناعه من الصرف للعلمية والعجمة. ونصبه على تقدير ناصب يوحى به المعنى، أي وهبنا له من وراء إسحاق يعقوب. وانظر اللسان فى عقب. [.....]
(4، 5) زيادة اقتضاها الساق.(1/197)
وقوله: قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» فيها ثلاثة أوجه أجودها الرفع، والنصب من جهتين: من وعدها إذ لم تكن النار مبتدأة، والنصب الآخر بإيقاع الأنباء عليها بسقوط الخفض. والخفض جائز لأنك لم تحل بينهما بمانع. والرفع على الابتداء.
فإن قلت: فما تقول فِي قول الشاعر:
الآن بعد لجاجتي تلحونني ... هلا التقدم والقلوب صحاح
بم رفع التقدم؟ قلت: بمعنى «2» الواو فِي قوله: (والقلوب صحاح) كأنه قال: العظة والقلوب فارغة، والرطب والحر شديد، ثُمَّ أدخلت عليها هلا وهي على ما رفعتها، ولو نصبت التقدم بنية فعل كما تقول: أتيتنا بأحاديث لا نعرفها فهلا أحاديث معروفة «3» .
ولو جعلت اللام فِي قوله: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ من صلة الأنباء جاز خفض الجنات والأزواج والرضوان.
وقوله: الَّذِينَ يَقُولُونَ ... (16)
إن شئت جعلته خفضا نعتا للذين اتقوا، وإن شئت استأنفتها فرفعتها إذ كانت آية وما هِيَ نعت له آية قبلها. ومثله قول الله تبارك وتعالى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ «4» فلمّا انقضت الآية قال (التّائبون العابدون) ، وهي في قراءة عبد الله «التائبين العابدين» .
__________
(1) آية 72 سورة الحج.
(2) يريد أن خبر المبتدأ فى مثل هذا- وهو الذي بعده واو هى نص فى المعية- هو معنى الاقتران والصحبة، فإذا قلت: كل رجل وصنعته. فكأنك قلت: كل رجل مع صنعته. وبذلك يستغنى عن تقدير الخبر الذي يقول به البصريون. وما ذكره هو مذهب الكوفيين.
وترى أنه يرى أن (هلا) تدخل على الجملة الاسمية.
(3) جواب لو محذوف: أي لجاز.
(4) آية 111 سورة التوبة.(1/198)
وكذلك: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ ... (17)
موضعها خفض، ولو كانت رفعا لكان صوابا. وقوله وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ المصلون بالأسحار، ويقول: الصلاة بالسحر أفضل مواقيت الصلاة. أخبرنا محمد ابن الجهم قال حدثنا الفراء قال حَدَّثَنِي شريك «1» عن السدي «2» فِي قوله «سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي» «3» قال: أخرهم إلى السحر.
وقوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ... (18)
قد فتحت القرّاء الألف من (أنه) ومن قوله إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «4» .
وإن شئت جعلت (أنه) على الشرط «5» وجعلت الشهادة واقعة على قوله: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» ، وتكون (أن) الأولى يصلح فيها الخفض كقولك: شهد اللَّه بتوحيده أن الدين عنده الإسْلام.
__________
(1) هو شريك بن عبد الله النخعىّ الكوفي. توفى سنة 177.
(2) هو أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبى كريمة الكوفىّ، مولى قريش. روى عن أنس وابن عباس. وهو منسوب إلى سدّة مسجد الكوفة، كان يبيع بها المقانع. وسدّة المسجد بابه أو ما حوله من الرواق. وكانت وفاته سنة 127.
(3) آية 98 سورة يوسف.
(4) على أن الواو تراد فى قوله «إِنَّ الدِّينَ» كأنه قال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وأن الدين عند الله الإسلام. وهذا توجيه الكسائي. قال: «أنصبهما جميعا، بمعنى شهد الله أنه كذا وأن الدين عند الله كذا» . وهذا التخريج فيه ضعف، فإن حذف العاطف فى الكلام ليس بالقويّ. وخير من هذا أن يخرج «إِنَّ الدِّينَ ... » على البدل من «أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» كما هو رأى ابن كيسان. وذلك أن الإسلام تفسير التوحيد الذي هو مضمون الكلام السابق، وانظر القرطبي 4/ 43.
(5) يريد بالشرط العلة والسبب، فلا يكون الفعل واقعا عليه إذ يكون التقدير: لأنه أو بأنه لا إله إلا هو.(1/199)
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)
وإن شئت استأنفت (إن الدين) بكسرتها، وأوقعت الشهادة على «أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» . وكذلك قرأها حمزة. وهو أحب الوجهين إلى. وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» . وكان الكسائي يفتحهما كلتيهما.
وقرأ ابن عَبَّاس بكسر الأول وفتح (أن الدين عند اللَّه الإسْلام) ، وهو وجه جيد جعل (إنه لا إله إلا هُوَ) مستأنفة معترضة- كأن الفاء تراد فيها- وأوقع الشهادة على (أن الدين عند الله) . ومثله فِي الكلام قولك للرجل: أشهد- إني أعلم الناس بهذا- أنك عالم، كأنك قلت: أشهد- إني «1» أعلم بهذا من غيري- أنك عالم. وإذا جئت بأنّ قد وقع عليها «2» العلم أو الشهادة أو الظن وما أشبه ذلك كسرت إحداهما ونصبت الّتي يقع عليها الظن أو العلم وما أشبه ذلك نقول للرجل:
لا تحسبن أنك عاقل إنك جاهل، لأنك تريد فإنك جاهل، وإن صلحت الفاء فِي إن السابقة كسرتها وفتحت الثانية. يقاس على هذه ما ورد.
وقوله وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ منصوب «3» على القطع لأنه نكرة نعت به معرفة. وهو فِي قراءة عَبْد اللَّه «القائم بالقسط» رفع لأنه معرفة نعت لمعرفة.
وقوله: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ (20) (ومن اتبعن) للعرب فِي الياءات التي فِي أواخر الحروف- مثل اتبعن، وأكرمن، وأهانن، ومثل قوله «دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ «4» - وَقَدْ هَدانِ» «5» - أن يحذفوا الياء مرة ويثبتوها مرة. فمن حذفها اكتفى بالكسرة التي قبلها دليلا عليها. وذلك
__________
(1) فى تفسير الطبري: «فإنى» وهو أنسب.
(2) أي على مثلها أي أن أخرى.
(3) أي (قائما) .
(4) آية 186 سورة البقرة. [.....]
(5) آية 80 سورة الأنعام.(1/200)
أنها كالصلة إذ سكنت وهي فِي آخر الحروف «1» واستثقلت فحذفت. ومن أتمها فهو البناء والأصل. ويفعلون ذلك فِي الياء وإن لم يكن قبلها نون فيقولون هذا غلامي قد جاء، وغلام قد جاء قال اللَّه تبارك وتعالى «فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ» «2» فِي غير نداء بحذف الياء. وأكثر ما تحذف بالإضافة فِي النداء لأن النداء مستعمل كثير فِي الكلام فحذف فِي غير نداء. وقال إبراهيم «رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ» «3» بغير ياء، وقال فى سورة الملك «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» «4» و «5» «نَذِيرِ» وذلك أنهن رءوس الآيات، لم يكن فِي الآيات قبلهن ياء ثانية فأجرين على ما قبلهن إذا كان ذلك من كلام العرب.
ويفعلون ذلك فِي الياء الاصلية فيقولون: هذا قاض ورام وداع بغير ياء، لا يثبتون الياء فِي شيء من فاعل. فإذا أدخلوا فِيه الألف واللام قَالُوا بالوجهين فأثبتوا الياء وحذفوها. وقال الله «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ» «6» فِي كل القرآن بغير ياء.
وقال فِي الأعراف «فَهُوَ الْمُهْتَدِي» «7» وكذلك قال «يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ» «8» و «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ» «9» . وأحب ذلك إلى أن أثبت الياء فِي الألف واللام لأن طرحها في قاض ومفترٍ وما أشبهه بما أتاها من مقارنة نون «10» الإعراب وهي ساكنة والياء ساكنة، فلم يستقم جمع بين ساكنين، فحذفت الياء لسكونها. فإذا أدخلت الألف واللام لم يجز إدخال النون، فلذلك أحببت إثبات الياء. ومن حذفها فهو يرى هذه العلة: قال: وجدت الحرف بغير ياء قبل أن تكون فِيهِ الألف واللام، فكرهت إذ دخلت أن أزيد فيه ما لم يكن. وكلّ صواب.
__________
(1) كذا فى ش. وفى ح: «الحرف» .
(2) آية 17 سورة الزمر.
(3) آية 40 سورة إبراهيم.
(4) آية 18.
(5) آية 17.
(6) آية 97 سورة الإسراء، وفيها:
ومن يهد بالواو، آية 17 سورة الكهف.
(7) آية 178.
(8) آية 41 سورة ق.
(9) آية 186 سورة البقرة.
(10) يريد التنوين، وجعله نون الإعراب لأنه يدخل فى المعرب وينكب عن المبنىّ.(1/201)
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
وقوله وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ وهو استفهام ومعناه أمر. ومثله قول اللَّه «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» «1» استفهام وتأويله: انتهوا. وكذلك قوله «هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ» «2» وهل تستطيع ربّك «3» إنما [هو] «4» مسألة. أو لا ترى أنك تقول للرجل: هَلْ أنت كاف عنا؟ معناه: اكفف، تقول للرجل: أَيْنَ أَيْنَ؟:
أقم ولا تبرح. فلذلك جوزى فِي الاستفهام كما جوزى فِي الأمر. وفي قراءة عَبْد اللَّه «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِنْ عَذَابٍ أليم. آمنوا» «5» ففسّر (هل أدلكم) بالأمر.
وفي قراءتنا على الخبر. فالمجازاة فِي قراءتنا على قوله (هل أدلكم) والمجازاة فِي قراءة عَبْد اللَّه على الأمر لأنه هُوَ التفسير.
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ (21) تقرأ: ويقتلون «6» ، وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه وقاتلوا فلذلك قرأها من قرأها (يقاتلون) ، وقد قرأ بها الكسائي دهرًا يقاتلون ثُمَّ رجع، وأحسبه رآها فِي بعض مصاحف عَبْد اللَّه وقتلوا بغير الألف فتركها ورجع إلى قراءة العامة إذ وافق الكتاب فِي معنى قراءة العامة.
وقوله: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ (25) قيلت باللام. و (فى) قد تصلح فِي موضعها تقول فِي الكلام: جمعوا ليوم الخميس. وكأن اللام لفعل مضمر فِي الخميس كأنهم جمعوا لما يكون يوم الخميس.
__________
(1) آية 91 سورة المائدة.
(2) آية 112 سورة المائدة.
(3) هذه قراءة الكسائي، بنصب «ربك» أي هل تستطيع سؤال ربك. [.....]
(4) زيادة اقتضاها السياق، وهى فى تفسير الطبري.
(5) آيتا 10، 11 سورة الصف.
(6) أي الثانية فى الآية.(1/202)
وإذا قلت: جمعوا فِي يوم الخميس لم تضمر فعلا. وفي قوله: جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ أي للحساب والجزاء.
وقوله: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ (26) اللَّهُمَّ كلمة تنصبها العرب. وقد قال بعض «1» النحويين: إنما نصبت إذ زيدت فيها الميمان لأنها لا تنادى بيا كما تقول: يا زَيْدُ، ويا عَبْد اللَّه، فجعلت الميم فيها خلفا من يا. وقد أنشدني «2» بعضهم:
وما عليك أن تقولي كلما ... صليت أو سبحت يا اللهم ما
أردد علينا شيخنا مسلما «3» ولم نجد العرب زادت مثل هذه الميم فِي نواقص الاسماء إلا مخففة مثل الفم وابنم وهم «4» ، ونرى أنها كانت كلمة ضم إليها أم، تريد: يا اللَّه أمنا بخير، فكثرت فِي الكلام فاختلطت «5» . فالرفعة التي فِي الهاء من همزة أم لما تركت «6» انتقلت إلى ما قبلها.
ونرى أن قول العرب: (هلم إلينا) مثلها إنما كانت (هَلْ) فضم إليها أم فتركت على نصبها. ومن العرب من يقول إذا طرح الميم: يا الله اغفر لى، ويا الله
__________
(1) هو الخليل. وانظر سيبويه 1/ 310
(2) يريد الردّ على الرأى السابق. وذلك أن الميم المشدّدة لو كانت خلفا من حرف النداء لما جمع بينهما فى هذا الرجز. ويجعل أصحاب هذا الرأى الرجز من الشاذ الذي لا يعوّل عليه.
(3) «يا اللهم ما» زيدت (ما) بعد اللهم. وقد ذكر ذلك الرضى فى شرح الكافية فى مبحث المنادى. والشيخ هنا الأب أو الزوج. وانظر الخزانة 1/ 358
(4) كأنه يريد هم الضمير، وأصلها هوم إذ هى جمع هو فحذفت الواو وزيدت الميم للجمعية وإن كان هذا الرأى يعزى إلى البصريين. وانظر شرح الرضى للكافية فى مبحث الضمائر.
(5) أي امتزجت بما قبلها، وهو لفظ الجلالة. وفى الطبري: «فاختلطت به» .
(6) أي الهمزة، يريد حذفها للتخفيف بعد نقل حركتها إلى ما قبلها.(1/203)
اغفر لي، فيهمزون ألفها ويحذفونها. فمن حذفها فهو على السبيل لأنها ألف ولام مثل الحارث من الاسماء. ومن همزها توهم أنها من الحرف إذ كانت لا تسقط منه أنشدني بعضهم:
مبارك هُوَ ومن سماه ... على اسمك اللهم يا أللَّه
وقد كثرت (اللهم) فِي الكلام حَتَّى خففت ميمها فِي بعض اللغات أنشدني بعضهم:
كحلفةٍ من أَبِي رياح ... يسمعها اللهم الكبار «1»
وإنشاد العامة: لاهه الكبار. وأنشدني الكسائي:
يسمعها اللَّه والله كبار وقوله تبارك وتعالى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ. (إذا «2» رَأَيْت من تشاء مع من تريد من تشاء أن تنزعه منه) . والعرب تكتفي بما ظهر فِي أول الكلام مما ينبغي أن يظهر بعد شئت. فيقولون: خذ ما شئت، وكن فيما شئت. ومعناه فيما شئت أن تكون فِيهِ. فيحذف الفعل بعدها قال تعالى: «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ» «3» وقال تبارك وتعالى فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ «4» والمعنى- والله أعلم-: فِي أي صورة شاء أن
__________
(1) هذا من قصيدة للأعشى أوّلها:
ألم تروا إرما وعادا ... أودى بها الليل والنهار
وقبل البيت:
أقسمتم حلفا جهارا ... أن نحن ما عندنا عرار
وأبو رياح رجل من بنى ضبيعة قتل رجلا فسألوه أن يحلف أو يدفع الدية فحلف ثم قتل فضربته العرب مثلا لما لا يغنى من الحلف. وانظر الخزانة 1/ 345، والصبح المنير 193. وقوله: والله كبار يقرأ لفظ الجلالة باختلاس فتحة اللام وسكون الهاء، وكبار مبالغة الكبير.
(2) كذا فى ش ج. ولم يستقم وجه المعنى فيه. وكأن الأصل: أن تؤتيه إياه. (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) أن تنزعه منه.
(3) آية 40 سورة فصلت.
(4) آية 8 سورة الانفطار.(1/204)
يركبك ركبك. ومنه قوله تعالى: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ «1» وكذلك الجزاء كله إن شئت فقم، وإن شئت فلا تقم المعنى: إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت ألا تقوم فلا تقم. وقال اللَّه فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «2» فهذا بين أن المشيئة واقعة على الإيمَان والكفر، وهما متروكان. ولذلك قَالَت العرب: (أيها شئت فلك) فرفعوا أيا لانهم أرادوا أيها شئت أن يكون لك فهو لك. وقالوا (بأيهم شئت فمر) وهم يريدون: بأيهم شئت أن تمر فمر.
وقوله: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ... (27)
جاء التفسير أنه نقصان الليل يولج فِي النهار، وكذلك النهار يولج «3» فِي الليل، حَتَّى يتناهى طول هذا وقصر هذا.
وقوله وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ذكر عن ابن عَبَّاس أنها البيضة: ميتة يخرج منها الفرخ حيا، والنطفة: ميتة يخرج منها الولد.
وقوله: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ ... (28)
نهى، ويجزم فِي ذلك. ولو رفع على الخبر «4» كما قرأ من قرأ: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها «5» .
وقوله إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً هى أكثر كلام العرب، وقرأه القرّاء. وذكر عن الْحَسَن ومجاهد أنهما قرءا «تقية» وكلّ صواب.
__________
(1) آية 39 سورة الكهف. [.....]
(2) آية 29 سورة الكهف.
(3) فى ج: «فيه» والوجه ما أثبت.
(4) والمعنى: لا ينبغى أن يكون ذلك. وجواب لو محذوف، أي لجاز.
(5) آية 233 سورة البقرة.(1/205)
وقوله: يَعْلَمْهُ اللَّهُ ... (29)
جزم على الجزاء. وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ رفع على الاستئناف كما قال اللَّه فِي سورة براءة قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ «1» فجزم الأفاعيل، ثُمَّ قال وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ رفعا على الائتناف «2» . وكذلك قوله فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ «3» ثم قال وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ ويمح فِي نية رفع مستأنفه وإن لم تكن فيها واو حذفت منها الواو كما حذفت فى قوله سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «4» . وإذا عطفت على جواب الجزاء جاز الرفع والنصب والجزم. وأما قوله وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ «5» وتقرأ جزما على العطف ومسكنه تشبه الجزم وهي فِي نية رفع تدغم الراء من يغفر عند اللام، والباء من يعذب عند الميم كما يقال أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ «6» وكما قرأ الْحَسَن شَهْرُ رَمَضانَ «7» .
وقوله: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ... (30)
ما فِي مذهب الَّذِي. ولا يكون جزاء لأن (تجد) قد وقعت على ما.
وقوله وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ فإنك تردّه أيضا على (ما) فتجعل (عملت) صلة لها فِي مذهب رفع لقوله (تودّ لو أنّ بينها) ولو استأنفتها فلم توقع عليها (تجد) جاز الجزاء تجعل (عملت) مجزومة. «8» ويقول فِي تود: تود بالنصب وتود. ولو كان التضعيف
__________
(1) آية 14 سورة التوبة.
(2) يقال: ائتنف الشيء واستأنفه، ومعناهما واحد.
(3) آية 24 سورة الشورى.
(4) آية 18 سورة العلق.
(5) آية 284 سورة البقرة.
(6) آية 1 سورة الماعون.
(7) آية 185 سورة البقرة.
(8) أي على أن ما جازمة يكون تودّ بالفتح، حرك بذلك للتخلص من الساكنين، وأوثر الفتح للخفة، ويجوز الكسر على أصل التخلص. وهذا على لغة الإدغام، ويجوز الفك فيقال: تودد، كما هو معروف.(1/206)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
ظاهرا لجاز تودد. وهى فى قراءة عَبْد اللَّه وما عملت من سوء ودت فهذا دليل «1» على الجزم، ولم أسمع أحدا من القراء قرأها جزما.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ... (33)
يقال اصطفى دينهم على جميع الأديان لانهم كانوا مسلمين، ومثله مما أضمر فِيهِ شيء فألقى قوله وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها «2» .
ثم قال ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ فنصب الذرية على جهتين إحداهما أن تجعل الذرية قطعا من الاسماء قبلها لانهن معرفة. وإن شئت نصبت على التكرير، اصطفى ذرية بعضها من بعض، ولو استأنفت فرفعت كان صوابا.
وقوله: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ... (35)
لبيت المقدس: لا أشغله بغيره.
وقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ... (36)
قد يكون من إخبار مريم فيكون وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ يسكن العين، وقرأ بها «3» بعض القراء، ويكون من قول اللَّه تبارك وتعالى، فتجزم التاء لأنه خبر عن أنثى غائبة.
__________
(1) وجه الدلالة أن جعل ما شرطية يصرف الماضي عن المضىّ الذي لا يستقيم هنا.
(2) آية 82 سورة يوسف. [.....]
(3) هى قراءة أبى بكر وابن عامر كما فى القرطبي.(1/207)
وقوله: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا ... (37)
من شدد جعل زكرياء فِي موضع نصب كقولك: ضمنها زكرياء، ومن خفف الفاء جعل زكرياء فِي موضع رفع. وفي زكريا ثلاث لغات: القصر فى ألفه، فلا يستبين فيها رفع ولا نصب ولا خفض، وتمد ألفه فتنصب وترفع بلا نون لأنه لا يجرى «1» ، وكثير من كلام العرب أن تحذف المدة والياء «2» الساكنة فيقال: هذا زكرى قد حاء فيجرى لأنه يشبه المنسوب من أسماء العرب.
وقوله: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ... (38)
الذرية جمع، وقد تكون فِي معنى واحد. فهذا من ذلك لأنه قد قال:
فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا «3» ولم يقل أولياء. وإنما قيل «طيبة» ولم يقل طيبا لأن الطيبة أخرجت على لفظ الذرّية فأنث لتأنيثها، ولو قيل ذرية طيبا كان صوابا.
ومثله من كلام العرب قول الشاعر:
أَبُوك خليفة ولدته أخرى ... وأنت خليفة ذاك الكمال
فقال (أخرى) لتأنيث اسم الخليفة، والوجه أن تقول: ولده آخر. وقال آخر.
فما تزدرى من حية جبلية ... سكاتٍ إذا ما عضّ ليس بأدردا «4»
__________
(1) الإجراء فى اصطلاح الكوفيين الصرف.
(2) لم تحذف الياء الساكنة فى الصورة التي أثبتها وفيها ياء مشدّدة تشبه ياء النسب. وقد اشتبه عليه الأمر بلغة رابعة، وهى تخفيف الياء فيكون منقوصا، ويقال: هذا زكر بتنوين الراء مكسورة.
وانظر اللسان.
(3) آية 5 سورة مريم.
(4) «جبلية» يقال للحية ابنة الجبل، فلذلك قال: جبلية. و «سكات» : لا يشعر به الملسوع حتى يلسعه. وأدرد: صفة من الدرد، وهو ذهاب الأسنان، ومؤنثه درداء. وانظر اللسان فى (سكت) .(1/208)
فقال: جبليّة، فأنّث لتأنيث اسم الحية، ثُمَّ ذكر إذ قال: إذا ما عض ولم يقل:
عضت. فذهب إلى تذكير المعنى. وقال الآخر «1» :
تجوب بنا الفلاة إلى سعيدٍ ... إذا ما الشاة فِي الأرطاة قالا
ولا يجوز هذا النحو إلا فِي الاسم الَّذِي لا يقع عليه فلان مثل «2» الدابة والذرية والخليفة فإذا سميت رجلا بشيء من ذلك فكان فِي معنى فلان لم يجز تأنيث فعله ولا نعته. فتقول فِي ذلك: حَدَّثَنَا المغيرة الضبي، ولا يجوز الضبية. ولا يجوز أن تقول: حدثتنا لأنه فِي معنى فلان وليس فِي معنى فلانة. وأما قوله «3» :
وعنترة الفلحاء جاء ملامًا ... كأنه فند من عماية أسود
فإنه قال: الفلحاء «4» فنعته بشفته. قال: وسمعت أبا ثروان يقول لرجل من ضبة وكان عظيم العينين: هذا عينان قد جاء، جعله كالنعت له. وقال بعض الأعراب لرجل أقصم «5» الثنية: قد جاءتكم القصماء، ذهب إلى سنّه.
__________
(1) هو الفرزدق. والشاة هنا الثور الوحشىّ. والأرطاة شجرة عظيمة. وقال من القيلولة. وانظر اللسان (شوه) .
(2) فى ج: «من» .
(3) هو شريح بن بجير الثعلبىّ، كان وقع بينه وبين بنى فزارة وعبس حرب فأعانه قومه. وقبل البيت:
ولو أن قومى قوم سوء أذلة ... لأخرجنى عوف بن عمرو وعصيد
وعوف وعصيد من فزارة، وعنترة من عبس. و «ملأما» : لابسا اللأمة وهى الدرع. والفند:
القطعة العظيمة الشخص من الجبل. وعماية: جبل عظيم بنجد. وقوله (كأنه) يقرأ باختلاس ضم الهاء.
وفى ج، ش: «كأنك» فإن صح هذا كان من باب الالتفات من الغيبة إلى الحطاب. وانظر اللسان (فلح) .
(4) هو وصف المؤنث من الفلح، وهو الشق فى الشفة السفلى، فأما الشق فى الشفة العليا فهو العلم.
(5) هو وصف من القصم، وهو تكسر الثنية من النصف.(1/209)
وقوله: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ ... (39)
يقرأ بالتذكير والتأنيث «1» . وكذلك فعل الملائكة وما أشبههم من الجمع: يؤنث ويذكر. وقرأت القراء يعرج الملائكة «2» ، وتَعْرُجُ و «تَتَوَفَّاهُمُ «3» - ويتوفاهم الملائكة» وكل صواب. فمن ذكر ذهب إلى معنى التذكير، ومن أنث فلتأنيث الاسم، وأن الجماعة من الرجال والنساء وغيرهم يقع عليه «4» التأنيث. والملائكة فِي هذا الموضع جبريل صلى اللَّه عليه وسلم وحده. وذلك جائز فِي العربية: أن يخبر عن الواحد بمذهب الجمع كما تقول فِي الكلام: خرج فلان فِي السفن، وإنما خرج فِي سفينة واحدة، وخرج على البغال، وإنما ركب بغلا واحدا. وتقول: ممن سمعت هذا الخبر؟
فيقول: من الناس، وإنما سمعه من رَجُل واحد. وقد قال اللَّه تبارك وتعالى:
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ «5» ، وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ «6» ومعناهما والله أعلم واحد:
وذلك جائز فِيما لم يقصد فِيهِ قصد واحدٍ بعينه.
وقوله وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ تقرأ بالكسر. والنصب فيها أجود فِي العربية. فمن فتح (أن) أوقع النداء عليها كأنه قال: نادوه بذلك أن اللَّه يبشرك. ومن كسر قال: النداء «7» فِي مذهب القول، والقول حكاية. فاكسر إن بمعنى الحكاية. وفي قراءة عَبْد اللَّه فناداه الملائكة وهو قائم يصلي فِي المحراب يا زكريا إن اللَّه يبشرك فإذا أوقع النداء على منادى ظاهر مثل (يا زَكَرِيَّا) وأشباهه كسرت (إن) لأن الحكاية تخلص، إذا كان ما فِيهِ (يا) ينادي بها، لا يخلص إليها رفع ولا نصب ألا ترى أنك تقول: يا زَيْدُ إنك قائم، ولا يجوز يا زَيْدُ أنك قائم. وإذا قلت:
__________
(1) قرأ العامة: «فنادته الملائكة» ، بالتأنيث، وقرأ حمزة والكسائي: «فناداه الملائكة» .
(2) آية 4 سورة المعارج.
(3) آية 28 سورة النحل.
(4) الضمير يعود على الجماعة، بتأويلها بالجمع. وهذا إن لم يكن الأصل: «عليها» . [.....]
(5) آية 33 سورة الروم.
(6) آية 8 سورة الزمر.
(7) فى ج، ش: «فى النداء» والوجه ما أثبت.(1/210)
ناديت زيدا أنه قائم فنصبت (زيدا) بالنداء جاز أن توقع النداء على (أن) كما أوقعته على زَيْد. ولم يجز أن تجعل إن مفتوحة إذا قلت يا زَيْدُ لأن زيدا لم يقع عليه نصب معروف. وقال فِي طه: «فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ» «1» فكسرت (إني) . ولو فتحت كان صوابا من الوجهين أحدهما أن تجعل النداء واقعا على (إن) خاصة لا إضمار «2» فيها، فتكون (أن) فِي موضع رفع. وإن شئت جعلت فِي (نودي) اسم مُوسَى مضمرا، وكانت (أن) فِي موضع نصب تريد: بأني أَنَا ربك. فإذا خلعت الباء نصبته. فلو قيل فِي الكلام: نودي أن يا زَيْدُ فجعلت (أن يا زيد) [هو المرفوع بالنداء] «3» كان صوابا كما قال الله تبارك وتعالى: «وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا» «4» .
فهذا ما فى النداء إذا أوقعت (إن) قيل يا زَيْد، كأنك قلت: نودي بهذا النداء إذا أوقعته على اسم بالفعل فتحت أن وكسرتها. وَإِذَا ضممت إِلَى النداء الَّذِي قد أصابه الفعل اسما منادى فلك أن تحدث (أن) معه فتقول ناديت أن يا زَيْدُ، فلك أن تحذفها من (يا زَيْدُ) فتجعلها فِي الفعل بعده ثُمَّ تنصبها.
ويجوز الكسر على الحكاية.
ومما يقوى مذهب من أجاز «إِنَّ الله يبشرك» بالكسر على الحكاية قوله:
«وَنادَوْا يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» «5» ولم يقل: أن ليقض علينا ربك. فهذا مذهب الحكاية. وقال فِي موضع أخر «وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا» «6» ولم يقل: أفيضوا، وهذا أمر وذلك أمر لتعلم أن الوجهين صواب.
__________
(1) آيتا 11، 12
(2) أي أن كلمة «نودى» ليس فيها مضمر مرفوع هو نائب الفاعل، وإنما المرفوع بها هو أنى....
(3) زيادة يقتضيها السياق.
(4) آيتا 104- 105 سورة والصافات.
(5) آية 77 سورة الزخرف.
(6) آية 50 سورة الأعراف.(1/211)
و «يبشرك» قرأها [بالتخفيف] «1» أصحاب عَبْد اللَّه فِي خمسة مواضع من القرآن: فِي آل عِمْرَانَ حرفان «2» ، وفي بني «3» إسرائيل، وفي الكهف «4» ، وَفِي مريم «5» . والتخفيف والتشديد صواب. وكأن المشدد على بشارات البشراء، وكأن التخفيف من وجهة الأفراح والسرور. وهذا شيء كان المشيخة يقولونه. وأنشدني بعض العرب:
بشرت عيالى إذ رأيت صحيفةً ... أتتك من الحجاج يتلى كتابها
وقد قَالَ بعضهم: أبشرت، ولعلها لغة حجازية. وسمعت سُفْيَان بْن عيينة يذكرها يبشر «6» . وبشرت لغة سمعتها من عكل، ورواها الكسائي عن غيرهم. وقال أَبُو ثروان:
بشرني بوجه حسن. وأنشدني الكسائي:
وإذا رَأَيْت الباهشين إلى العلى ... غبرا أكفهم بقاع ممحل «7»
فأعنهم وابشر بما بشروا به ... وإذا هُمْ نزلوا بضنك فانزل
وسائر القرآن يشدد فِي قول أصحاب عَبْد الله وغيرهم.
وقوله: يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً نصبت (مصدقا) لأنه نكرة، ويحيى معرفة.
وقوله: بِكَلِمَةٍ يعنى مصدّقا بعيسى.
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق. يريد بالتخفيف قراءة الفعل (يبشر) على وزن ينصر.
(2) هما فى آيتي 39، 45.
(3) فى آية 9.
(4) فى آية 2.
(5) فى آية 97. [.....]
(6) فى اللسان: «فليبشر» .
(7) هذا الشعر من قصيدة مفضلية لعبد قيس بن خفاف البرجمىّ، يوصى فيها ابنه جبيلا. والباهش هو الفرح، كما قال الضبىّ، أو هو المتناول. وقوله: «وابشر بما بشروا به» فى رواية المفضليات:
«وأيسر بما يسروا به» ، أي ادخل معهم فى الميسر ولا تكن بر ما تنكب عنهم فإن الدخول فى الميسر من شيمة الكرماء عندهم إذ كان ما يخرج منه يصرف لذوى الحاجات. وانظر شرح المفضليات لابن الأنبارى ص 753.(1/212)
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
وقوله: وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مردودات على قوله: مصدقا.
ويقال: إن الحصور: الَّذِي لا يأتي النساء.
وقوله: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ إذا أردت الاستقبال المحض نصبت (تكلم) وجعلت (لا) على غير معنى ليس. وإذا أردت: آيتك أنك على هَذِهِ الحال ثلاثة أيّام رفعت، فقلت: أن لا تكلّم الناس ألا ترى أنه يحسن أن تَقُولَ: آيتك أنك لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا. والرمز يكون بالشفتين والحاجبين والعينين. وأكثره فِي الشفتين. كل ذلك رمز.
وقوله: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ ... (45)
مما ذكرت «1» لك فِي قوله ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً قيل فيها (اسمه) بالتذكير للمعنى، ولو أنث كما قال ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً كان صوابا.
وقوله: (وجيها) قطعا «2» من عِيسَى، ولو خفضت على أن تكون نعتا للكلمة لأنها هِيَ عِيسَى كان صوابا.
وقوله: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ... (46)
والكهل «3» مردود على الوجيه. (ويكلّم الناس) ولو كان فِي موضع (ويكلم) ومكلما كان نصبا، والعرب تجعل يفعل وفاعل إذا كانا فِي عطوف مجتمعين فِي الكلام، قال الشاعر:
بتّ أعشّيها بعضب باتر ... يقصد فى أسوقها وجائر «4»
__________
(1) انظر ص 208 من هذا الجزء.
(2) أي نصب على القطع. يريد أنه حال.
(3) يريد أن «كهلا» معطوف على قوله: «وجيها» فى الآية السابقة.
(4) الضمير فى «أعشيها» للإبل، يريد أنه ينحرها للضيفان. ويروى:
بات يعشيها: يقصد ...
وانظر الخزانة 2/ 345(1/213)
وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)
وقال آخر:
من الذريحيات جعدا آركا ... يقصر يمشى ويطول باركا «1»
كأنه قال: يقصر ماشيا فيطول باركا. فكذلك (فعل) إذا كانت فِي موضع صلة لنكرة أتبعها (فاعل) وأتبعته. تقول فِي الكلام: مررت بفتى ابن عشرين أو قد قارب ذلك، ومررت بغلام قد احتلم أو محتلمٍ قال الشاعر:
يا ليتني علقت غير خارج ... قبل الصباح ذات خلقٍ بارج
أم الصبي قد حبا أو دارج «2»
وقوله: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ ... (49)
يذهب إلى الطين «3» ، وفي المائدة (فَتَنْفُخُ فِيها) «4» ذهب إلي الهيئة، فأنث لتأنيثها، وفي إحدى القراءتين (فأنفخها) وفي قراءة عَبْد اللَّه (فأنفخها) بغير فِي، وهو مما تقوله «5» العرب: رب ليلة قد بتّ فيها وبتّها.
__________
(1) قبله:
أرسلت فيها قطما لكالكا يقول: أرسل فى إبله فحلا قطما، وهو الصئول الهائج. والكالك: بضم اللام: الصلب الضخم.
والذريحيات: الحمر، يقال: أحمر ذريحىّ: شديد الحمرة. وآرك: يرعى الأراك أو يلزمه. وقوله:
يقصر يمشى ... أي يقصر إذا مشى لانخفاض بطنه وتقاربه من الأرض، فإذا برك رأيته طويلا لارتفاع سنامه، أي أنه عظيم البطن، فإذا قام قصر وإذا برك طال. وانظر اللسان (لكك) .
(2) «خارج» كذا بالخاء المعجمة هنا، وفى اللسان (درج) . والأقرب أنه (حارج) بالحاء المهملة أي آثم. و «بارج» أي ظاهر فى حسن. وقوله: «أم الصبى» المعروف فى الرواية «أم صبى» .
وعلقت: هويت وأحببت. ويقال: درج الصبى: مشى مشيا ضعيفا.
(3) فى الطبري: «الطير» وكل صحيح.
(4) آية 110
(5) من ذلك قول عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:
ومن ليلة قد بتها غير آثم ... بساجية الحجلين ريانة القلب
الحجل: الخلخال، والقلب: السوار. وانظر السمط 692(1/214)
ويقال فِي الفعل أيضا:
ولقد أبيت على الطوى وأظله «1»
تلقى الصفات وإن اختلفت فِي الأسماء والأفاعيل. وقال الشاعر:
إذا قَالَتْ حَذَامِ فأنصتُوها ... فإنّ القول ما قَالَتْ حذام «2»
وقَالَ اللَّه تبارك وَتعالى وَهو أصدق قيلا: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ «3» يريد: كالوا لهم، وقال الشاعر:
ما شق جيب ولا قامتك نائحة ... ولا بكتك جياد عند أسلاب «4»
وقوله: (وَما تَدَّخِرُونَ) هِيَ تفتعلون من ذخرت، وتقرأ «5» (وَمَا تَدخِرُونَ) خفيفة على تفعلون، وبعض العرب يقول: تدخرون فيجعل الدال والذال يعتقبان فِي تفتعلون من ذخرت، وظلمت «6» تقول: مظلم ومطلم، ومذكر ومدكر، وسمعت بعض بني أسد يقول: قد اتغر «7» ، وهذه اللغة كثيرة فيهم خاصة. وغيرهم: قد اثّغر.
فأمّا الذين يقولون: يدّخر ويدّكر ومدّكر فإنهم وجدوا التاء إذا سكنت واستقبلتها ذال دخلت التاء فِي الذال فصارت ذالا، فكرهوا أن تصير التاء ذالا فلا يعرف الافتعال من ذلك، فنظروا إلى حرف يكون «8» عدلا بينهما فِي المقاربة، فجعلوه مكان التاء ومكان الذال.
__________
(1) هذا شطر بيت لعنترة. وعجزه:
حتى أنال به كريم المأكل
(2) فقوله: أنصتوها أي أنصتوا إليها. والمشهور فى الرواية: فصدّقوها.
(3) آية 3 سورة المطففين. [.....]
(4) فقوله: قامتك أي قامت عليك.
(5) قرأ بهذا الزهري ومجاهد وأيوب السختياني.
(6) كذا، والتعاقب فيهما ليس بين الدال والذال، كما هو واضح بل بين الظاء والطاء.
(7) أي سقطت أسنانه الرواضع.
(8) وهو الدال، ففيها شبه بالتاء والذال.(1/215)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
وأما الذين غلبوا الذال فأمضوا القياس، ولم يلتفتوا إلى أنه حرف واحد، فأدغموا تاء الافتعال عند الذال والتاء والطاء.
ولا تنكرن اختيارهم الحرف بين الحرفين فقد قَالُوا: ازدجر ومعناها: ازتجر، فجعلوا الدال عدلا بين التاء والزاي. ولقد قال بعضهم: مزجر، فغلب الزاي كما غلب التاء. وسمعت بعض بني عقيل يقول: عليك بأبوال الظباء فاصعطها فإنها شفاء للطحل «1» ، فغلب الصاد على التاء، وتاء الافتعال تصير مع الصاد والضاد طاء، كذلك الفصيح من الكلام كما قال اللَّه عز وجل: (فمن اضطرّ فى مخمصة) «2» ومعناها افتعل من الضرر. وقال اللَّه تبارك وتعالى (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) «3» فجعلوا التاء طاء فِي الافتعال.
وقوله: وَمُصَدِّقاً (50) نصبت (مصدقا) على فعل (جئت) ، كأنه قال: وجئتكم مصدقا لما بين يدي من التوراة، وليس نصبه بتابع لقوله (وجيها) لأنه لو كان كذلك لكان (ومصدّقا لما بين يديه) .
وقوله: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ الواو فيها بمنزلة قوله وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ «4» .
وقوله: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ (52) يقول: وجد عِيسَى. والإحساس: الوجود، تقول فِي الكلام: هَلْ أحسست أحدا.
وكذلك قوله هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ «5» .
__________
(1) هو عظم الطحال. وهو مرض. وقوله: اصعطها: هو افتعال من الصعوط وهو لغة فى السعوط بإبدال السين صادا: وهو ما يستنشق فى الأنف.
(2) آية 3 سورة المائدة.
(3) آية 132 سورة طه.
(4) آية 75 سورة الأنعام.
(5) آية 98 سورة مريم.(1/216)
فإذا قلت: حسست، بغير ألف فهي فِي معنى الإفناء والقتل. من ذلك قول اللَّه عز وجل إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ «1» والحس أيضا: العطف والرقة كقول الكُميت:
هَلْ من بكى الدار راجٍ أن تحس له ... أو يبكى الدار ماء العبرة الخضل «2»
وسمعت بعض «3» العرب يقول: ما رَأَيْت عقيليا إلا حسست له، وحسست لغة.
والعرب تقول: من أَيْنَ حسيت هذا الخبر؟ يريدون: من أَيْنَ تخبرته؟ [وربما «4» قَالُوا حسيت بالخبر وأحسيت به، يبدلون من السين ياء] كقول أبي زبيد.
حسين به فهن إليه شوس «5» وقد تقول العرب ما أحست بهم أحدا، فيحذفون «6» السين الأولى، وكذلك فِي وددت، ومسست وهممت، قال: أنشدني بعضهم:
هَلْ ينفعنك اليوم إن همت بهمّ ... كثرة ما تأتى وتعقاد الرتم «7»
__________
(1) آية 152 سورة آل عمران.
(2) جاء فى اللسان (حسس) .
(3) هو أبو الجراح، كما فى اللسان.
(4) زيادة من اللسان. [.....]
(5) هذا عجز بيت صدره:
خلا أن العتاق من المطايا
وهو من أبيات يصف فيها الأسد. وصف ركبا يسيرون والأسد يتبعهم فلم يشعر به إلا المطايا. والشوس واحده أشوس وشوسا، من الشوس وهو النظر بمؤخر العين تكبرا أو تغيظا.
(6) أي بعد إلقاء حركتها على الحاء.
(7) ترى أن الفرّاء روى (همت) بسكون الميم وتاء المخاطبة. وأصله: هممت. والمعروف فى الرواية (همت) بتشديد الميم مفتوحة وتاء التأنيث الساكنة، والحديث على هذه الرواية عن الزوجة، وكان الرجل إذا أراد سفرا عقد غصنين، فإذا عاد من سفره وألفى الغصنين معقودين وثق بامرأته وإلا اعتقد أنها خانته فى غيبته. والرتم جمع رتمة، وهو خيط يعقد على الإصبع والخاتم للتذكر أو علامة على شىء، واستعمله فى عقد الغصنين إذ كان علامة على أمر نواه. وانظر اللسان فى رتم. وفيه «توصى» بدل «تأتى» .(1/217)
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
وقوله: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ المفسّرون يقولون: من أنصارى مع اللَّه، وهو وجه حسن. وإنما يجوز أن تجعل (إلى) موضع (مع) إذا ضممت الشيء إلى الشيء مما لم يكن معه كقول العرب: إن الذود إلى الذود إبل أي إذا ضممت الذود إلى الذود صارت إبلا. فإذا كان الشيء مع الشيء لم تصلح مكان مع إلى، ألا ترى أنك تقول: قدم فلان ومعه مال كثير، ولا تقول فِي هذا الموضع: قدم فلان وإليه مال كثير. وكذلك تقول: قدم فلان إلى أهله، ولا تقول: مع أهله، ومنه قوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «1» معناه: ولا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم.
والحواريون كانوا خاصة عِيسَى. وكذلك خاصة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقع عليهم الحواريون. وكان الزبير يقال له حواري رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وربما جاء فِي الحديث لابي بَكْر وعمر وأشباههما حواري. وجاء فِي التفسير أنهم سموا حواريين لبياض ثيابهم «2» .
ومعنى قوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ (54) نزل هذا فِي شأن عِيسَى إذ أرادوا قتله، فدخل بيتا فِيهِ كوة «3» وقد أيده اللَّه تبارك وتعالى بجبريل صلى اللَّه عليه وسلم، فرفعه إلى السماء من الكوة، ودخل عليه رَجُل منهم ليقتله، فألقى اللَّه على ذلك الرجل شبه عِيسَى بْن مريم. فلما دخل البيت فلم يجد فِيهِ عِيسَى خرج إليهم وهو يقول: ما فِي البيت أحد، فقتلوه وهم يرون أنه عِيسَى.
فذلك قوله وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ والمكر من الله استدراج، لا على مكر المخلوقين.
__________
(1) آية 2 سورة النساء.
(2) من التحوير أي التبييض. ويقال لمن يغسل الثياب: يحوّرها إذ كان يزيل درنها ويعيدها إلى البياض.
(3) بضم الكاف وفتحها، وهى الثقب فى الحائط.(1/218)
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
وقوله: إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ (55) يقال: إن هذا مقدم ومؤخر. والمعنى فِيهِ: إني رافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك فِي الدنيا. فهذا وجه.
وقد يكون الكلام غير مقدم ولا مؤخر فيكون معنى متوفيك: قابضك كما تقول: توفيت مالي من فلان: قبضته من فلان. فيكون التوفي على أخذه ورفعه إليه من غير موت.
وقوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ (59) هذا لقول «1» النصارى إنه ابنه إذ لم يكن أب، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى علوا
كبيرا إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ لا أَبَ له ولا أم، فهو أعجب أمرا من عِيسَى، ثُمَّ قال: خَلَقَهُ لا أن قوله «خَلَقَهُ» صلة لآدم إنما تكون الصلات للنكرات كقولك: رَجُل خلقه من تراب، وإنما فسّر أمر آدم حين ضرب به المثل فقال «خَلَقَهُ» على الانقطاع والتفسير، ومثله قوله مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ «2» ثم قال يَحْمِلُ أَسْفاراً والأسفار: كتب العلم يحملها ولا يدري ما فيها. وإن شئت جعلت «يَحْمِلُ» صلة للحمار، كأنك قلت:
كمثل حمار يحمل أسفارا لأن ما فِيهِ الألف واللام قد يوصل فيقال «3» : لا أمر إلا بالرجل يقول ذلك، كقولك بالذي يقول ذلك. ولا يجوز فِي زَيْدُ ولا عمرو أن يوصل كما يوصل الحرف فيه الألف واللام.
__________
(1) أي ردّ لقولهم.
(2) آية 5 سورة الجمعة.
(3) هذا على رأى الكوفيين. والبصريون يجعلون الجملة فى مثل هذا إذا أريد الجنس صفة، لا صلة.(1/219)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
وقوله: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ (60) رفعته بإضمار (هُوَ) ومثله فِي البقرة الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ «1» أي هُوَ الْحَق، أو ذلك الحق فلا تمتر.
وقوله: تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ (64) وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه إلى كلمة عدل بيننا وبينكم وقد يقال فِي معنى عدل سوى وسوى، قال اللَّه تبارك وتعالى فى سورة طه (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) «2» وسوى يراد به عدل ونصف بيننا وبينك.
ثم قال أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ فأن فِي موضع «3» خفض على معنى: تعالوا إلى ألا نعبد إلا اللَّه. ولو أنك رفعت (ما نعبد) «4» مع العطوف عليها على نية تعالوا نتعاقد لا «5» نعبد إلا اللَّه لأن معنى الكلمة القول، كأنك حكيت تعالوا نقول لا نعبد إلا اللَّه. ولو جزمت العطوف لصلح على التوهم لأن الكلام مجزوم لو لم تكن فِيهِ أن كما تقول: تعالوا لا نقل إلا خيرا.
ومثله مما يرد على التأويل قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ «6» فصيّر (ولا تكونن) نهيا فِي موضع جزم، والأول منصوب، ومثله وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ «7» فرد أن على لام كي لأن (أن) تصلح فى موقع
__________
(1) آية 147.
(2) آية 58.
(3) أي على أن المصدر بدل من «كلمة» .
(4) يريد (لا نعبد) . وإنما وضع فى التفسير (ما) موضع (لا) الواردة فى التلاوة ليحقق رفع الفعل، فإنه لا ينتصب بعد ما.
(5) فى الأصلين: «ألا» والوجه ما أثبت. [.....]
(6) آية 14 سورة الأنعام.
(7) آيتا 71- 72 سورة الأنعام.(1/220)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
اللام. فرد أن على أن مثلها يصلح فِي موقع اللام ألا ترى أنه قال فى موضع يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا «1» وفى موضع يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا «2» .
وقوله: لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ (65) فإن أهل نجران قَالُوا: كان إِبْرَاهِيم نصرانيا على ديننا، وقالت اليهود: كان يهوديا على ديننا، فأكذبهم اللَّه فقال وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أي بعد إِبْرَاهِيم بدهر طويل، ثُمَّ عيرهم أيضا.
فقال: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ (66) إِلَى آخر الآية. ثُمَّ بين ذلك.
فقال: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً (67) إلى آخر الآية.
وقوله: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يقول: تشهدون أن مُحَمَّدا صلى اللَّه عليه وسلم بصفاته فِي كتابكم. فذلك قوله:
(تشهدون) .
وقوله: لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ (71) لو أنك قلت فِي الكلام: لم تقوم وتقعد يا رَجُل؟ على الصرف «3» لجاز، فلو نصبت (وتكتموا) كان صوابا.
__________
(1) آية 8 سورة الصف.
(2) آية 32 سورة التوبة.
(3) الصرف هنا ألا يقصد الثاني بالاستفهام، فإنه إن قصد ذلك كان العطف، وكان حكم الثاني حكم الأوّل، ولم ينصب. والنصب عند البصريين بأن مضمرة بعد واو المعية. وانظر ص 34 من هذا الجزء.(1/221)
وقوله: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ (72) يعنى صلاة الصبح وَاكْفُرُوا آخِرَهُ يعني صلاة الظهر. هذا قالته اليهود لما صرفت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة فقالت اليهود: صلوا مع مُحَمَّد- صلى اللَّه عليه وسلم- الصبح، فإذا كانت الظهر فصلوا إلى قبلتكم لتشككوا أصحاب مُحَمَّد فِي قبلتهم لانكم عندهم أعلم منهم فيرجعوا إلى قبلتكم.
فأما قوله: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ (73) فإنه يقال: إنها من قول اليهود. يقول: ولا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم.
واللام بمنزلة قوله: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ «1» المعنى: ردِفكم.
وقوله: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ (73) يقول: لا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. أوقعت تُؤْمِنُوا على أَنْ يُؤْتى كأنه قال: ولا تؤمنوا أن يعطى أحد مثل ما أعطيتم، فهذا وجه.
ويقال: قد انقطع كلام اليهود عند قوله وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، ثُمَّ صار الكلام من قوله قل يا مُحَمَّد إن الهدى هدى اللَّه أن يؤتى أحد مثل ما أوتى أهل الإسْلام، وجاءت (أن) لأن فِي قوله قُلْ إِنَّ الْهُدى مثل قوله: إن البيان بيان اللَّه، فقد بين أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتى أهل الإسلام. وصلحت (أحد)
__________
(1) آية 72 سورة النمل.(1/222)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
لأن معنى أن معنى لا كما قال تبارك وتعالى يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «1» معناه:
لا تضلون. وقال تبارك وتعالى كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ «2» أن تصلح فِي موضع لا.
وقوله أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ فِي معنى حَتَّى وفي معنى إلا كما تقول فِي الكلام: تعلق به أبدا أو يعطيك حقك، فتصلح حَتَّى وإلا فِي موضع أو.
وقوله: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ (75) كان الاعمش وعاصم يجزمان الهاء فِي يؤده، و «نُوَلِّهِ «3» ما تَوَلَّى» ، و «أَرْجِهْ وَأَخاهُ» «4» ، و «خَيْراً يَرَهُ» ، و «شَرًّا «5» يَرَهُ» . وفيه لهما مذهبان أما أحدهما فإن القوم ظنوا أن الجزم فِي الهاء، وإنما هُوَ فيما قبل الهاء. فهذا وإن كان توهما، خطأ. وأما الآخر فإن من العرب من يجزم الهاء إذا تحرك ما قبلها فيقول ضربته ضربا شديدا، أو يترك الهاء إذ سكنها وأصلها الرفع بمنزلة رأيتهم وأنتم ألا ترى أن الميم سكنت وأصلها الرفع. ومن العرب من يحرك الهاء حركة بلا واو، فيقول ضربته (بلا واو) ضربا شديدا. والوجه الأكثر أن توصل بواو فيقال كلمتهو كلاما، على هذا البناء، وقد قال الشاعر فِي حذف الواو:
أَنَا ابن كلاب وابن أوس فمن يكن ... قناعه مغطيّا فإنّى لمجتلى «6»
__________
(1) آخر آية فى سورة النساء.
(2) آيتا 200، 201 سورة الشعراء.
(3) آية 115 سورة النساء.
(4) آية 111 سورة الأعراف.
(5) آيتا 7، 8 سورة الزلزلة.
(6) فى ج: «معطيا» وهو تصحيف عما أثبتناه.
والبيت فى اللسان (غطى) . ومغطيا: مستورا من قولهم: غطى الشيء: ستره وعلاه.(1/223)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
وأما إذا سكن ما قبل الهاء فإنهم يختارون حذف الواو من الهاء فيقولون: دعه يذهب، ومنه، وعنه. ولا يكادون يقولون: منهو ولا عنهو، فيصلون بواو إذا سكن ما قبلها وذلك أنهم لا يقدرون على تسكين الهاء وقبلها حرف ساكن، فلما صارت متحركة لا يجوز تسكينها اكتفوا بحركتها من الواو.
وقوله إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً يقول: ما دمت له متقاضيا. والتفسير فِي ذلك أن أهل الكتاب كانوا إذا بايعهم أهل الإسْلام أدى بعضهم الأمانة، وقال بعضهم: ليس للاميين- وهم العرب- حرمة كحرمة أهل ديننا، فأخبر اللَّه- تبارك وتعالى- أن فيهم أمانة وخيانة فقال تبارك وتعالى «وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» فِي استحلالهم الذهاب بحقوق المسلمين.
وقوله: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) تقرأ: تعلّمون و «1» تعلمون، وجاء فِي التفسير: بقراءتكم الكتب وعلمكم بها.
فكان الوجه (تعلمون) وقرأ الكسائي وحمزة (تعلمون) لأن العالم يقع عليه يعلم ويعلم.
وقوله: وَلا يَأْمُرَكُمْ ... (80)
أكثر القراء على نصبها يردونها على (أَنْ يُؤْتِيَهُ الله) : ولا أن يأمركم. وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه (ولن يأمركم) فهذا دليل على انقطاعها من النسق وأنها مستأنفة، فلما وقعت (لا) فِي موقع (لن) رفعت كما قال تبارك وتعالى (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً
__________
(1) فالتشديد قراءة ابن عامر وأهل الكوفة. والتخفيف قراءة أبى عمرو وأهل المدينة. وانظر القرطبى 4/ 123(1/224)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ «1» الْجَحِيمِ) وهى فى قراءة عَبْد اللَّه (ولن تسأل) وَفِي قراءة أبىّ (وما تسأل عن أصحاب الجحيم) .
وقوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ (81) ولما آتيتكم، قرأها يحيى بْن وثاب بكسر اللام يريد أخذ الميثاق للذين آتاهم، ثُمَّ جعل قوله (لتؤمنن به) من الأخذ «2» كما تقول: أخذت ميثاقك لتعملن لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف. ومن نصب اللام فِي (لما) جعل اللام لا ما زائدة إذ أوقعت على جزاء «3» صير على جهة فعل وصير جواب الجزاء باللام وبإن وبلا وبما، فكأن اللام يمين إذ صارت تلقى بجواب اليمين. وهو وجه الكلام.
وقوله: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً (83) أسلم أهل السَّمَوَاتِ طوعا. وأما أهل الأرض فإنهم لما كانت السنة فيهم أن يقاتلوا إن لم يسلموا أسلموا طوعا وكرها.
وقوله: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً (91) نصبت الذهب لأنه مفسر لا يأتي مثله إلا نكرة، فخرج نصبه كنصب قولك:
عندي عشرون درهما، ولك خيرهما كبشا. ومثله قوله (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) «4»
__________
(1) آية 119 سورة البقرة. [.....]
(2) يريد أنه جواب القسم الذي تضمنه قوله: أخذ الله ميثاق النبيين إذ كان ذلك فى معنى القسم.
(3) يريد أن (ما) فى (لما) على هذا شرطية، واللام موطئة للقسم، ولذلك أجيبت بما يجاب به القسم فى قوله: لتؤمنن به.
(4) آية 95 سورة المائدة.(1/225)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
وإنما ينصب على خروجه من المقدار الَّذِي تراه قد ذكر قبله، مثل ملء الأرض، أو عدل ذلك، فالعدل مقدار معروف، وملء الأرض مقدار معروف، فانصب ما أتاك على هذا المثال ما أضيف إلى شيء له قدر كقولك: عندى قدر قفيز «1» دقيقا، وقدر حملةٍ تبنا، وقدر رطلين عسلا، فهذه مقادير معروفة يخرج الَّذِي بعدها مفسرا لأنك ترى التفسير خارجا من الوصف يدل على جنس المقدار من أي شيء هُوَ كما أنك إذا قلت: عندي عشرون فقد أخبرت عن عدد مجهول قد تم خبره، وجهل جنسه وبقي تفسيره، فصار هذا مفسرا عَنْهُ، فلذلك نصب.
ولو رفعته على الائتناف لجاز كما تقول: عندي عشرون، ثُمَّ تقول بعد: رجال، كذلك لو قلت: ملء الأرض، ثُمَّ قلت: ذهب، تخبر على غير اتصال.
وقوله: وَلَوِ افْتَدى بِهِ الواو هاهنا قد يستغنى عَنْهَا، فلو قيل ملء الأرض ذهبا لو افتدى به كان صوابا. وهو بمنزلة قوله: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) «2» فالواو هاهنا كأن لها فعلا مضمرا «3» بعدها.
وقوله: إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ ... (93)
يذكر فِي التفسير أنه أصابه عرق النسا فجعل على نفسه إن برأ أن يحرم أحب الطعام والشراب إليه، فلما برأ حرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، وكان «4» أحب الطعام والشراب إليه.
__________
(1) القفيز: مكيال للحبوب.
(2) آية 75 سورة الأنعام.
(3) أي كأنّ الأصل: ولو افتدى به فلن يقبل منه فحذف الجواب للدليل عليه من الكلام السابق.
وكذلك قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ: فالتقدير وليكون من الموقنين أريناه ملكوت السموات والأرض.
(4) كذا فى ش، ج. يريد: كان كل منهما. وقد يكون الأصل: «كانا» .(1/226)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
وقوله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ... (96)
يقول: إن أول مسجد وضع للناس (لَلَّذِي ببكّة) وإنما سميت بكة لازدحام الناس بها يقال: بك الناس بعضهم بعضًا: إذا ازدحموا.
وقوله: هُدىً موضع نصب متبعة للمبارك. ويقال إنما قيل: مباركا لأنه مغفرة للذنوب.
وقوله: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ ... (97)
يُقَالُ: الآيات المقام والحجر والحطيم، وقرا ابن عَبَّاس «فِيهِ آية بينة» جعل المقام هُوَ الآية لا غير.
وقوله: وَمَنْ كَفَرَ يقول: من قَالَ ليس علي حج فَإِنَّمَا يجحد بالكفر فرضه لا يتركه «1» .
وقوله: مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً ... (99)
يريد السبيل فأنثها، والمعنى تبغون لها. وكذلك (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) »
: يبغون لكم الفتنة. والعرب يقولون: ابغني خادما فارها، يريدون: ابتغه لي، فإذا أرادوا:
ابتغ معي «3» وأعني على طلبه قَالُوا أبغني (ففتحوا الألف الأولى من بغيت، والثانية من أبغيت) «4» وكذلك يقولون: المسني «5» نارا وألمسني، واحلبني وأحلبني، وأحملني «6» واحملني،
__________
(1) كذا فى ش، ج. وكأنّ فى الكلام سقطا، والأصل: إذ لو آمن به لا يتركه.
(2) آية 47 سورة التوبة.
(3) فى ح: «معنى» وفى ش: «معنا» والأنسب ما أثبت.
(4) كذا ترى ما بين القوسين فى ش ج. ولم يستقم لنا وجه هذه العبارة. وقد يكون الأصل:
فكسروا الألف من ابغني الأولى وفتحوها من أبغنى الثانية.
(5) كذا، والظاهر أن ما هنا تحريف عن: اقبسنى نارا، وأقبسنى.
(6) فاحلبنى معناها: احلب لى، وأحلبنى: أعنّى على الحلب. وانظر اللسان (عكم) .(1/227)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
واعكمنى وأعكمنى «1» فقوله: احلبني يريد: احلب لي أي اكفنى الحلب، وأحلبنى:
أعنّى عليه، وبقيته على مثل هذا.
وقوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ... (103)
الكلام العربىّ هكذا بالباء، وربما طرحت العرب الباء فقالوا: اعتصمت بك واعتصمتك قال بعضهم:
إذا أنت جازيت الإخاء بِمِثْلِهِ ... وآسيتني ثُمَّ اعتصمت حباليا
فألقى الباء. وهو كقولك: تعلقت زيدا، وتعلقت بزيد. وأنشد بعضهم:
تعلقت هندا ناشئا ذات مئزرٍ ... وأنت وقد قارفت «2» لم تدر ما الحلم
وقوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ... (106)
لم يذكر الفعل أحد من القراء كما قيل (لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) «3» وقوله (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) «4» وإنما سهل التذكير فِي هذين لأن معهما جحدا، والمعنى فِيهِ: لا يحل لك أحد من النساء، ولن ينال اللَّه شيء من لحومها، فذهب بالتذكير إلى المعنى، والوجوه ليس ذلك فيها، ولو ذكر فعل الوجوه كما تقول:
قام القوم لجاز ذلك.
وقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ يقال: (أمّا) لا بدّ لها من الفاء جوابا فأين هِيَ؟ فيقال: إنها كانت مع قولٍ مضمر، فلما سقط القول سقطت الفاء معه، والمعنى- والله أعلم- فأما الذين اسودّت وجوههم فيقال: أكفرتم،
__________
(1) العكم: شدّ المتاع بثوب. فمعنى اعكمنى: شدّ لى المتاع، ومعنى أعكمنى: أعنّى على العكم. [.....]
(2) «ناشئا» هو حال من «هندا» وتراه من غير علم التأنيث. والناشئ: الذي جاوز حدّ الصغر. وقوله: «وقد قارفت» حال مقدّمة، والأصل: وأنت لم تدر ما الحلم وقد قارفت أي قاربت الحلم. يقال: قارف الشيء: قاربه.
(3) آية 37 سورة الحج.
(4) آية 52 سورة الأحزاب.(1/228)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
فسقطت الفاء مع (فيقال) . والقول قد يضمر. ومنه فِي كتاب اللَّه شيء كثير من ذلك قوله (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) «1» وقوله (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) «2» وفي قراءة عَبْد اللَّه «ويقولان ربنا» .
وقوله: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ ... (108)
يريد «3» : هذه آيات اللَّه. وقد فسر شأنها فِي أول البقرة.
وقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ... (110)
فِي التأويل: فِي اللوح المحفوظ. ومعناه أنتم خير أمة كقوله (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ) «4» ، و (إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) «5» فإضمار كان فِي مثل هذا وإظهارها سواء.
وقوله: يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ... (111)
مجزوم لأنه جواب للجزاء ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ مرفوع على الائتناف، ولأن رءوس الآيات بالنون، فذلك مما يقوى الرفع كما قال (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) «6» فرفع، وقال تبارك وتعالى (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) «7» .
__________
(1) آية 12 سورة السجدة.
(2) آية 127 سورة البقرة.
(3) يريد أنه وضع إشارة البعيد فى مكان إشارة القريب. والمسوّغ لهذا أن المشار إليه كلام، يجوز أن يراعى فيه انقضاؤه فيكون بعيدا. وانظر ص 10 من هذا الجزء.
(4) آية 86 سورة الأعراف.
(5) آية 26 سورة الأنفال.
(6) آية 36 سورة المرسلات.
(7) آية 36 سورة فاطر.(1/229)
وقوله: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ ... (112)
يقول: إلا أن يعتصموا بحبل من اللَّه فأضمر ذلك، وقال الشاعر «1» :
رأتني بحبليها فصَدَّت مخافةً ... وَفِي الحبل روعاء الفؤاد فروق
أراد: أقبلت بحبليها، وقال الآخر «2» :
حنتني حانيات الدهر حَتَّى ... كأني خاتلٍ أدنو لصيد
قريب الخطو يحسب من رآني ... ولست مقيدا أنى بقيد
يريد: مقيدا بقيد.
وقوله: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ ... (113)
ذكر أمة ولم يذكر بعدها أخرى، والكلام مبني على أخرى يراد لأن سواء لا بد لها من اثنين فما زاد.
ورفع الأمة على وجهين أحدهما أنك تكره على سواء كأنك قلت:
لا تستوي أمة صالحة وأخرى كافرة منها أمة كذا وأمة كذا، وقد تستجيز العرب إضمار أحد الشيئين إذا كان فِي الكلام دليل عليه، قال الشاعر «3» :
عصيت إليها القلب إنى لأمرها ... سميع فما أدرى أرشد طلابها
__________
(1) هو حميد بن ثور. والبيت من قصيدة له فى ديوانه المطبوع فى الدار ص 35. وهو فى وصف ناقته. يقال ناقة روعاء الفؤاد: حديدته ذكيته. وفروق: خائفة: كأنه يريد أنه جاء بالحبال التي يشد بها عليها الرحل للسفر فارتاعت لما هى بسبيله من عناء السير.
(2) هو أبو الطمحان القينى حنظلة بن الشرقىّ، وكان من المعمرين. و «حابل» أي ينصب الحبالة للصيد. وهى آلة الصيد. والرواية المشهورة «خاتل» من الختل وهو المخادعة. وانظر اللسان (ختل) وكتاب المعمرين لأبى حاتم 47.
(3) هو أبو ذؤيب الهذلىّ. والرواية المعروفة: «عصانى إليها القلب» . وانظر ديوان الهذليين (الدار) 1/ 72.(1/230)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
ولم يقل: أم غىّ، ولا: أم لا لأن الكلام معروف المعنى. وقال الآخر:
أراك فلا أدرى أهم هممته ... وذو الهم قدمًا خاشع متضائل
وقال الآخر «1» :
وما أدْرِي إِذَا يمَّمْتُ وجهًا ... أريدُ الخيرَ أيُّهما يليني
أألخير الَّذِي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي لا يأتليني
ومنه قول اللَّه تبارك وتعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً «2» ولم يذكر الَّذِي هُوَ ضده لأن قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «3» دليل على ما أضمر من ذلك.
وقوله: يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ السجود فِي هذا الموضع اسم للصلاة لا للسجود لأن التلاوة لا تكون فِي السجود ولا فِي الركوع.
وقوله تعالى: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ (118) وفي قراءة عَبْد اللَّه «وقد بدا البغضاء من أفواههم» ذكر لأن البغضاء مصدر، والمصدر إذا كان مؤنثا جاز تذكير فعله إذا تقدّم مثل وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ «4» وفَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ «5» وأشباه ذلك.
وقوله: ها أَنْتُمْ أُولاءِ (119) العرب إذا جاءت إلى اسم مكنى قد وصف بهذا وهاذان وهؤلاء فرقوا بين (ها) وبين (ذا) وجعلوا المكنى بينهما، وذلك فِي جهة التقريب «6» لا فى غيرها،
__________
(1) هو المثقب العبدىّ. وانظر الخزانة 4/ 429، وشرح ابن الأنبارى للمفضليات 574. [.....]
(2) آية 9 سورة الزمر.
(3) الآية السابقة.
(4) آية 67 سورة هود.
(5) آية 157 سورة الأنعام.
(6) يراد بالتقريب أن يكون محط الخبر هو مفيد الحدث من فعل أو وصف. ففى قولك هأنت ذا تغضب تقريب. والتقريب عندهم مما يكون فيه رفع ونصب ككان الناقصة. وانظر ص 12 من هذا الجزء.(1/231)
فيقولون: أَيْنَ أنت؟ فيقول القائل: هأنذا، ولا يكادون يقولون: هذا أَنَا، وكذلك التثنية والجمع، ومنه ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وربما أعادوا (ها) فوصلوها بذا وهذان وهؤلاء فيقولون: ها أنت هذا، وها أنتم هؤلاء، وقال اللَّه تبارك وتعالى فِي النساء: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ
«1» .
فإذا كان الكلام على غير تقريب أو كان مع اسم ظاهر جعلوا (ها) موصولة بذا، فيقولون: هذا هو، وهذان هما، إذا كان على خبر يكتفى كل واحد بصاحبه بلا فعل، والتقريب لا بد فِيهِ من فعل لنقصانه، وأحبوا أن يفرقوا بذلك بين معنى التقريب وبين معنى الاسم الصحيح.
وقوله: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً (120) إن شئت جعلت جزما وإن كانت مرفوعة، تكون كقولك للرجل: مد يا هذا، ولو نصبتها أو خفضتها كان صوابا لأن من العرب من يقول مد يا هذا، والنصب فِي العربية أهيؤها «2» ، وإن شئت جعلته رفعا وجعلت (لا) على مذهب ليس فرفعت وأنت مضمر للفاء كما قال الشاعر «3» :
فإن كان لا يرضيك حَتَّى تردني ... إلى قطري لا إخالك راضيا
وقد قرأ بعض القراء «لا يضركم» تجعله من الضير، وزعم الكسائي أنه سمع بعض أهل العالية يقول: لا ينفعني ذلك وما يضورني، فلو قرئت «لا يضركم» على هذه اللغة كان صوابا.
__________
(1) آية 109
(2) أي أحسنها، وهو اسم تفضيل لقولهم: هيىء للحسن فى كل شىء.
وأصله حسن الهيئة.
(3) هو سوّار بن المضرب السعدي التميمىّ. وكان هرب من الحجاج لما عزم عليه فى محاربة الخوارج وزعيمهم قطرىّ بن الفجاءة. وموطن الشاهد: «لا إخالك» إذ جاء مرفوعا مع وقوعه فى جواب إن.(1/232)
وقوله: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ (121) وفي قراءة عَبْد اللَّه «تبوي للمؤمنين مقاعد للقتال» والعرب تفعل ذلك، فيقولون:
ردفك وردف لك. قال الفراء قال الكسائي: سمعت بعض العرب يقول: نقدت لها مائة، يريدون نقدتها مائة، لامرأة تزوجها. وأنشدني الكسائي:
أستغفرُ اللَّه ذنبًا لستُ مُحْصِيهُ ... رَبّ الْعِبَادِ إليه الوجه والعمل
والكلام باللام كما قَالَ اللَّه تبارك وتعالى: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ «1» وفَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ «2» وأنشدني:
أستغفر اللَّه من جدى ومن لعبي ... وزري وكل امرئٍ لا بد متزر «3»
يريد لوزري. ووزري حين ألقيت اللام فِي موضع نصب، وأنشدني الكسائي:
إن أجز علقمة بْن سعدٍ سعيه ... لا تلقني أجزي بسعي واحد
لأحبني حب الصبي وضمني ... ضم الهدى «4» إلى الكريم الماجد
وإنما قال (لاحبني) لأنه جعل جواب إن إذ كانت جزاء كجواب لو.
وقوله: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما (122) وفي قراءة عَبْد اللَّه «والله وليهم» رجع بهما إلى الجمع كما قال اللَّه عز وجل:
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ «5» وكما قال: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «6» .
__________
(1) آية 29 سورة يوسف.
(2) آية 135 سورة آل عمران.
(3) متزر من اتزر: ارتكب الوزر وهو الإثم. وقوله من جدى ومن لعبى: الأشبه: فى جدى وفى لعبى.
(4) الهدىّ: العروس تزف الى زوجها.
(5) آية 19 سورة الحج.
(6) آية 9 سورة الحجرات. [.....](1/233)
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
وقوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ (128)
فى نصيبه وجهان إن شئت جعلته معطوفا على قوله: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ أي أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ وإن شئت جعلت نصبه على مذهب حَتَّى كما تقول: لا أزال ملازمك أو تعطيني، أو إلا أن تعطيني حقي.
وقوله: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ... (135)
يقال [ما قبل «1» إلا] معرفة، وإنما يرفع ما بعد إلا بإتباعه ما قبله إذا كان نكرة ومعه جحد كقولك: ما عندي أحد إلا أبوك، فإن معنى قوله: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ما يغفر الذنوب أحد إلا اللَّه، فجعل على المعنى. وهو فِي القرآن فِي غير موضع.
وقوله: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ ... (140)
وقرح. وأكثر القراء على فتح القاف. وقد قرأ أصحاب عَبْد اللَّه: قرح، وكأن القرح ألم الجراحات، وكأن القرح الجراح بأعيانها. وهو فِي ذاته مثل قوله:
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ «2» ووجدكم وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ «3» وجهدهم، ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها «4» [ووسعها] .
وقوله: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعلم المؤمن من غيره، والصابر من غيره.
وهذا فِي مذهب أي ومن كما قال: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى «5» فإذا جعلت
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق. وهذا ذكر اعتراض على رفع المستثنى، جوابه قوله بعد: «فإن معنى قوله ... » .
(2) آية 6 سورة الطلاق. والضمّ قراءة الجمهور، والفتح قراءة الحسن والأعرج، كما فى البحر.
(3) آية 79 سورة التوبة.
(4) آية 286 سورة البقرة.
(5) آية 12 سورة الكهف.(1/234)
مكان أىّ من الَّذِي أو ألفا ولا ما نصبت بما يقع عليه كما قال اللَّه تبارك:
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ «1» وجاز ذلك لأن فِي «الَّذِي» وفي الألف واللام تأويل من وأي إذ كانا فِي معنى انفصال من الفعل.
فإذا وضعت مكانهما اسما لا فعل فِيهِ لم يحتمل هذا المعنى. فلا يجوز أن تقول: قد سَأَلت فعلمت عَبْد اللَّه، إلا أن تريد علمت ما هُوَ. ولو جعلت مع عَبْد اللَّه اسما فِيهِ دلالة على أي جاز ذلك كقولك: إنما سَأَلت لأعلم عَبْد اللَّه من زَيْدُ، أي لاعرف ذا من ذا. وقول الله تبارك وتعالى: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ «2» يكون: لم تعلموا مكانهم، ويكون لم تعلموا ما هُمْ أكفار أم مسلمون. والله أعلم بتأويله.
وقوله: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ... (141)
يريد: يمحص اللَّه الذنوب عن الذين آمنوا، وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ: ينقصهم ويفنيهم.
وقوله: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) خفض الْحَسَن «ويعلم الصابرين» يريد الجزم. والقراء بعد تنصبه. وهو الَّذِي يسميه النحويون الصرف كقولك: «لم آته وأكرمه إلا استخف بي» والصرف أن يجتمع الفعلان بالواو أو ثُمَّ أو الفاء أو أو، وفي أوله جحد أو استفهام، ثُمَّ ترى ذلك الجحد أو الاستفهام ممتنعا أن يكر فِي العطف، فذلك الصرف. ويجوز فِيهِ الاتباع لأنه نسق فِي اللفظ وينصب إذ كان ممتنعا أن يحدث فيهما ما أحدث
__________
(1) آية 3 سورة العنكبوت.
(2) آية 45 سورة الفتح.(1/235)
فِي أوله ألا ترى أنك تقول: لست لابي إن لم اقتلك أو إن لم تسبقني فِي الأرض.
وكذلك يقولون: لا يسعني شيء ويضيق عنك، ولا تكر (لا) فِي يضيق. فهذا تفسير «1» الصرف.
وقوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) معناه: رأيتم أسباب الموت. وهذا يوم أحد يعني السيف وأشباهه من السلاح.
وقوله: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ... (144)
كل استفهام دخل على جزاء «2» فمعناه أن يكون فِي جوابه خبر يقوم «3» بنفسه، والجزاء شرط لذلك الخبر، فهو على هذا، وإنما جزمته ومعناه الرفع لمجيئه بعد الجزاء كقول الشاعر «4» :
حلفت له إن تدلج الليل لا يزل ... أمامك بيت من بيوتى سائر
ف (لا يزل) فِي موضع رفع إلا أنه جزم لمجيئه بعد الجزاء وصار كالجواب. فلو كان «أفإن مات أو قتل تنقلبون» جاز فِيهِ الجزم والرفع. ومثله أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «5» المعنى: أنهم الخالدون إن مت. وقوله: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً «6» لو تأخرت فقلت فِي الكلام: (فكيف إن كفرتم تتقون) جاز الرفع والجزم فِي تتقون.
__________
(1) انظر ص 34 من هذا الجزء.
(2) يريد بالجزاء أداة الشرط.
(3) كذا فى ج. وفى ش: «تقوم» .
(4) انظر ص 69 من هذا الجزء.
(5) آية 34 سورة الأنبياء.
(6) آية 17 سورة المزمل.(1/236)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
وقوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ... (146)
والربيون الألوف.
تقرأ: قُتِلَ وقاتل. فمن أراد قتل جعل قوله: فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ للباقين، ومن قال: قاتل جعل الوهن للمقاتلين. وإنما ذكر هذا لانهم قَالُوا يوم أحد: قتل مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلم، ففشلوا، ونافق بعضهم، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وأنزل: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ.
ومعنى وكأين: وكم.
وقد قال بعض المفسرين: «وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ» يريد «1» : و «معه ربيون» والفعل واقع على النبي صلى اللَّه عليه وسلم، يقول: فلم يرجعوا عن دينهم ولم يهنوا بعد قتله. وهو وجه حسن.
وقوله: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ... (147)
نصبت القول بكان، وجعلت أن فِي موضع رفع. ومثله فى القرآن كثير.
والوجه أن تجعل (أن) فِي موضع الرفع ولو رفع «2» القول وأشباهه وجعل النصب فى «أن» كان صوابا.
وقوله: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ ... (150)
رفع على الخبر، ولو نصبته «3» : (بل أطيعوا الله مولاكم) كان وجها حسنا.
__________
(1) يريد أن نائب الفاعل لقتل هو ضمير النبىّ. وجملة «معه ربيون كثير» حالية. [.....]
(2) بل قرأ بذلك حماد بن سلمة عن ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، كما فى البحر 3/ 75.
(3) نسبت هذه القراءة إلى الحسن البصري، كما فى البحر 3/ 76.(1/237)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
وقوله: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ ... (152)
يقال: إنه مقدم ومؤخر معناه: «حَتَّى إذا تنازعتم فى الأمر فشلتم» . فهذه الواو معناها السقوط: كما يقال: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ «1» معناه:
ناديناه. وهو فى «حَتَّى إِذا» و «فلمّا أن» «2» مقول، لم يأت فِي غير هذين. قَالَ اللَّه تبارك وتعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ «3» ثم قال: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ «4» معناه: اقترب، وقال تبارك وتعالى:
حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها «5» وفي موضع آخر: فُتِحَتْ «6» وقال الشاعر:
حَتَّى إذا قملت بطونكم ... ورأيتم أبناءكم شبوا
وقلبتم ظهر المجن لنا ... إن اللئيم العاجز الخب «7»
الخب «8» : الغدار، والخب: الغدر. وأما قوله: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ «9» وقوله: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ. وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ «10» فإنه كلام واحد جوابه فيما بعده، كأنه يقول: «فيومئذ يلاقى حسابه» . وقد قال بعض من روى عن قَتَادَة من البصريين إِذَا السّماء انشقّت. أذنت لربها وحقّت ولست أشتهى ذلك لأنها فِي مذهب «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» «11» و «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» «12» فجواب هذا بعده «عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ» «13» و «عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ» «14» .
__________
(1) آيتا 103، 104 من الصافات.
(2) فى الطبري «فلما» وهذا أولى لأن الآية السابقة ليس فيها (أن) . ولكنه يريد تعيين لما الحينية التي يأتى بعدها أن، احترازا من لما الجازمة أو التي بمعنى إلا.
(3) آية 96 سورة الأنبياء.
(4) آية 97 سورة الأنبياء.
(5) آية 73 سورة الزمر.
(6) آية 71 سورة الزمر.
(7) انظر فى البيتين ص 107 من هذا الجزء.
(8) وقد ورد فى الوصف الكسر.
(9) آيتا 1، 2 سورة الانشقاق.
(10) آية 3 من السورة السابقة.
(11) أول سورة التكوير. ويريد بمذهب سورتى التكوير والانفطار ورود الجملة الثانية بعد (إذا) مقرونة بواو العطف.
(12) أول سورة الانفطار. [.....]
(13) آية 14 سورة التكوير.
(14) آية 5 سورة الانفطار.(1/238)
وقوله: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ ... (153)
الإصعاد فِي ابتداء الأسفار والمخارج. تقول: أصعدنا من مكة ومن بغداد إلى خراسان، وشبيه ذلك. فإذا صعدت على السلم أو الدرجة ونحوهما قلت:
صعدت، ولم تقل أصعدت. وقرأ الحسن البصرىّ: «إذ تصعدون ولا تلوون» جعل الصعود فِي الجبل كالصعود فِي السلم.
وقوله: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ومن العرب من يقول: أخراتكم، ولا يجوز فِي القرآن لزيادة التاء فيها على كتاب المصاحف وقال الشاعر:
ويتقى السيف بأخراته ... من دون كف الجار والمعصم «1»
وقوله: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ الإثابة هاهنا [فِي] معنى عقاب، ولكنه كما قال الشاعر «2» :
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه ... أداهم سودًا أو محدرجة سمرا
وقد يقول الرجل الَّذِي قد اجترم إليك: لئن أتيتني لأثيبنك ثوابك، معناه: لأعاقبنك، وربما أنكره من لا يعرف مذاهب العربية. وقد قال اللَّه تبارك وتعالى:
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «3» والبشارة إنما تكون فِي الخير، فقد قيل ذاك فى الشرّ.
__________
(1) ورد فى اللسان (أخر) دون عزو.
(2) هو الفرزدق. وزياد هو ابن أبيه، كان توعد الفرزدق ثم أظهر الرضا عنه وأنه سيحبوه إن قصده، فلم يركن لذلك الفرزدق. والأداهم جمع أدهم وهو القيد. والمحدرجة: السياط، وهو وصف من حدرجه إذا أحكم فتله. وسوط محدرج: مغار محكم الفتل.
(3) آية 21 سورة آل عمران، 34 سورة التوبة.(1/239)
ومعنى قوله (غمّا بغمّ) ما أصابهم يوم أحد من الهزيمة والقتل، ثُمَّ أشرف عليهم خَالِد بْن الوليد «1» بخيله فخافوه، وغمهم ذلك.
وقوله: وَلا مَا أَصابَكُمْ (ما) فِي موضع خفض على «مَا فاتَكُمْ» أي ولا على ما أصابكم.
وقوله: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ ... (154)
تقرأ بالتاء «2» فتكون للأمنة وبالياء فيكون للنعاس، مثل قوله يَغْلِي فِي الْبُطُونِ «3» وتغلي، إذا كانت (تغلي) فهي الشجرة، وإذا كانت (يغلي) فهو للمهل.
وقوله: يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ، وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ترفع الطائفة بقوله (أهمتهم) بما «4» رجع من ذكرها، وإن شئت رفعتها «5» بقوله يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ولو كانت نصبا لكان صوابا مثل قوله فِي الأعراف: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ «6» .
وإذا رَأَيْت «7» اسما فِي أوله كلام وفي آخره فعل قد وقع على راجع ذكره جاز فِي الاسم الرفع والنصب. فمن ذلك قوله: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ «8» وقوله:
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ «9» يكون نصبا ورفعا. فمن نصب جعل الواو
__________
(1) أي وأبو سفيان كما فى القرطبي. وعند الطبري أن ذلك كان من إشراف أبى سفيان وعلوّه الجبل.
(2) أي تغشى.
(3) آية 45 سورة الدخان.
(4) يريد أن «طائفة» مبتدأ خبره جملة «أهمتهم» ورافع المبتدأ عندهم فى مثل هذا ما يعود على المبتدإ من الضمير.
(5) يريد على هذا الوجه أن تكون جملة «أهمتهم أنفسهم» صفة «طائفة» فأما الخبر فهو جملة: «يظنون» .
(6) آية 30.
(7) يريد ما يعرف فى النحو بحدّ الاشتغال.
(8) آية 47 سورة الذاريات.
(9) آية 48 من السورة السابقة. [.....](1/240)
كأنها ظرف للفعل متصلة بالفعل، ومن رفع جعل الواو للاسم، ورفعه بعائد ذكره كما قال الشاعر:
إن لم اشف النفوس من حي بكرٍ ... وعدى تطاه جرب الجمال «1»
فلا تكاد العرب تنصب مثل (عدى) فِي معناه لأن الواو لا يصلح نقلها إلى الفعل ألا ترى أنك لا تقول «2» : وتطأ عديا جرب الجمال. فإذا رَأَيْت الواو تحسن فِي الاسم جعلت الرفع وجه الكلام. وَإِذَا رَأَيْت الواو يحسن فِي الفعل جعلت النصب وجه الكلام. وإذا رَأَيْت ما قبل الفعل يحسن للفعل والاسم جعلت الرفع والنصب سواء، ولم يغلب واحد على صاحبه مثل قول الشاعر «3» :
إذا ابن أبى مُوسَى بلالا أتيته ... فقام بفأس بين وصليك جازر
فالرفع «4» والنصب فِي هذا سواء.
وأما قول اللَّه عز وجل: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ «5» فوجه الكلام فِيهِ الرفع لأن أما تحسن فى الاسم ولا تكون مع الفعل.
__________
(1) قبله:
ثكلتنى عند الثنية أمي ... وأتاها نعىّ عمىّ وخالى
ويريد بعدىّ المهلهل. والشعر فى الأغانى طبع الدار 5/ 58.
(2) وذلك أن هذه جملة حالية، وإذا كان صدرها مضارعا لا تدخل عليها الواو.
(3) هو ذو الرمة. وهذا من قصيدة فى مدح بلال بن أبى بردة بن أبى موسى الأشعرىّ أمير البصرة وقاضيها. وقبل البيت الشاهد:
أقول لها إذ شمر السير واستوت ... بها البيد واستنت عليها الحرائر
وهو يخاطب ناقته. وتشمير السير الارتفاع به والسير فيه، والحرائر جمع الحرور وهى ريح السموم، يدعو على ناقته أن تذبح إذا بلغته الممدوح لأنه يغنيه عنها بحبائه. وانظر ديوان ذى الرمة 253 والخزانة 1/ 450.
(4) من البين أنه على الرفع يقرأ «بلال» . وهو ما فى الديوان. ويقول صاحب الخزانة: «وقد رأيته مرفوعا فى نسختين صحيحتين من إيضاح الشعر لأبى علىّ الفارسىّ إحداهما بخط أبى الفتح عثمان ابن جنىّ» .
(5) آية 17 سورة فصلت.(1/241)
وأمّا قوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما «1» فوجه الكلام فِيهِ الرفع لأنه غير موقت فرفع كما يرفع الجزاء، كقولك: من سرق فاقطعوا يده. وكذلك قوله وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ «2» معناهُ والله أعلم من (قَالَ الشعر) «3» اتّبعه الغاوون.
ولو نصبت قوله (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) بالفعل كان صوابا.
وقوله وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ «4» العرب فِي (كل) تختار الرفع، وقع الفعل على راجع الذكر أو لم يقع. وسمعت العرب تقول وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ بالرفع وقد رجع ذكره. وأنشدوني «5» فيما لم يقع الفعل على راجع ذكره:
فقالوا تعرفها المنازل من منى ... وما كل من يغشى منى أَنَا عارف «6»
ألفنا ديارا لم تكن من ديارنا ... ومن يتألف بالكرامة يألف
فلم يقع (عارف) على كلّ وذلك أن فِي (كل) تأويل: وما من أحد يغشى مني أَنَا عارف، ولو نصبت لكان صوابا، وما سمعته إلا رفعا. وقال الآخر:
قد عَلِقت أمُّ الْخِيَار تَدَّعِي ... عليَّ ذَنْبا كله لم أصنع «7»
رفعا، وأنشدنيه بعض بني أسد نصبا.
__________
(1) آية 38 سورة المائدة.
(2) آية 224 سورة الشعراء.
(3) كذا فى ج. وفى ش: «قرأ الشعراء» والشعراء محرفة عن الشعر.
(4) آية 13 سورة الإسراء.
(5) كذا فى ج. وفى ش: «أنشدنى» .
(6) انظر ص 139 من هذا الجزء.
(7) انظر ص 140 من هذا الجزء.(1/242)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
وقوله قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ فمن رفع جعل (كل) اسما فرفعه باللام فِي لله كقوله «1» وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «2» ومن نصب (كله) جعله من نعت «3» الأمر.
وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ ... (156)
كان ينبغي فِي العربية أن يقال: وقالوا لإخوانهم إذ ضربوا فِي الأرض لأنه ماض كما تقول: ضربتك إذ قمت، ولا تقول ضربتك إذا قمت. وذلك جائز، والذي فِي كتاب اللَّه عربي حسن لأن القول وإن كان ماضيا فِي اللفظ فهو فِي معنى الاستقبال لأن (الذين) يذهب «4» بها إلى معنى الجزاء من من وما. فأنت تقول للرجل: أحبب من أحبك، وأحبب كل رَجُل أحبك، فيكون «5» الفعل ماضيا وهو يصلح للمستقبل إذ كان أصحابه غير موقّتين، فلو وقّته لم يجز. من ذلك أن تقول:
لاضربن هذا الَّذِي ضربك إذ سلمت عليك، لأنك قد وقته فسقط عَنْهُ مذهب الجزاء. وتقول: لا تضرب إلا الذي ضربك إذ سلمت عليه، فتقول (إذا) لأنك لم توقته. وكذلك قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «6» فقال
__________
(1) يريد أن رفع «كله» فى الآية على أنه مبتدأ خبره ما بعده يشبه ما فى الآية التالية إذ رفع (وجوههم) على أنه مبتدأ خبره (مسودة) . ويصح فى العربية نصب (وجوههم) على أنه بدل من الموصول.
(2) آية 60 سورة الزمر. [.....]
(3) يجعله البصريون توكيدا، كما هو معروف.
(4) يريد أن اسم الموصول إذا كانت صلته عامة أشبه الجزاء إذ كان يشترك فى الموصولية مع من وما: يأتيان موصولين كالذى، ويكونان للجزاء، والماضي فى حيز الجزاء للمستقبل، فإذا جاءت إذ فى حيز الذي كان للاستقبال.
(5) كذا فى ج. وفى ش: «فيقول» .
(6) آية 25 سورة الحج.(1/243)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
وَيَصُدُّونَ فردها على (كفروا) لأنها غير موقتة، وكذلك قوله إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ «1» المعنى: إلا الذين يتوبون من قبل أن تقدروا عليهم.
والله أعلم. وكذلك قوله إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً»
معناه: إلا من يتوب ويعمل صالحا. وقال الشاعر:
فإني لاتيكم تشكر ما مضى ... من الأمر واستيجاب ما كان فِي غد «3»
يريد به المستقبل: لذلك قال (كان فِي غد) ولو كان ماضيا لقال: ما كان فِي أمس، ولم يجز ما كان فِي غد. وأمّا قول الكميت:
ما ذاق بؤس معيشةٍ ونعيمها ... فيما مضى أحد إذا لم يعشق
فمن ذلك إنما أراد: لم يذقها فيما مضى ولن يذوقها فيما يستقبل إذا كان لم يعشق.
وتقول: ما هلك امرؤ عرف قدره، فلو أدخلت فِي هذا (إذا) كانت أجود من (إذ) لأنك لم تخبر بذلك عن واحد فيكون بإذا، وإنما جعلته كالدأب فجرى الماضي والمستقبل. ومن ذلك أن يقول الرجل للرجل: كنت صابرا إذا ضربتك لأن المعنى: كنت كلما ضربت تصبر. فإذا قلت: كنت صابرا إذ ضربت، فإنما أخبرت عن صبره فِي ضربٍ واحد.
وقوله: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ... (159)
العرب تجعل (ما) صلة فِي المعرفة والنكرة واحدا.
قال الله فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ «4» والمعنى فبنقضهم، وعَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ «5» والمعنى: عن قليل. والله أعلم. وربما جعلوه اسما وهى فى مذهب
__________
(1) آية 34 سورة المائدة.
(2) آية 60 سورة مريم.
(3) انظر ص 180 من هذا الجزء.
(4) آية 155 سورة النساء، 13 سورة المائدة.
(5) آية 40 سورة المؤمنين.(1/244)
الصلة فيجوز فيما بعدها الرفع على أنه صلة، والخفض على إتباع الصلة لما قبلها كقول الشاعر:
فَكَفَى بِنا فَضْلا عَلَى مَنْ غَيْرِنا ... حُبُّ النَّبِيّ محمدٍ إيانا «1»
وترفع (غير) إذا جعلت صلة بإضمار (هُوَ) ، وتخفض على الاتباع لمن، وقال الفرزدق:
إني وإياك إن بلغن أرحلنا ... كمن بواديه بعد المحل ممطور «2»
فهذا مع النكرات، فإذا كانت الصلة معرفة آثروا الرفع، من ذلك فَبِما نَقْضِهِمْ لم يقرأه أحد برفع ولم نسمعه. ولو قيل جاز. وأنشدونا بيت عدي «3» :
لم أر مثل الفتيان فى غير ال ... أيام ينسون ما عواقبها
والمعنى: ينسون عواقبها صلة لما. وهو مما أكرهه لأن قائله يلزمه أن يقول:
«أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ» «4» فأكرهه لذلك ولا أرده. وقد جاء، وقد وجهه بعض النحويين إلى: ينسون أي شيء «5» عواقبها، وهو جائز، والوجه الأول أحب إلى.
والقراء لا تقرأ بكل ما يجوز فِي العربية، فلا يقبحن عندك تشنيع مشنع مما لم يقرأه القرّاء مما يجوز.
__________
(1) انظر ص 21 من هذا الجزء.
(2) من قصيدة له يمدح فيها يزيد بن عبد الملك ابن مروان. فقوله «وإياك» خطاب ليزيد. أي إن بلغتك الإبل أرحلنا وأوصلتنا إليك عمنا الخير وفارقنا البؤس كمن مطر واديه بعد المحل. وانظر كتاب سيبويه 1/ 269.
(3) أي عدى بن زيد. وبعد البيت الشاهد:
يرون إخوانهم ومصرعهم ... وكيف تعتاقهم مخالبها
وغير الأيام صروفها وحوادثها المتغيرة. وانظر الخزانة 2/ 21، وأمالى ابن الشجري 1/ 74.
(4) آية 28 سورة القصص.
(5) يريد أن بعض النحويين جعل (ما) فى بيت عدىّ استفهامية لا موصولا، فعواقبها خبر (ما) وليست صلة. وهو غير ما أسلفه. [.....](1/245)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
وقوله: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ... (161)
يقرأ بعض أهل المدينة أن يغل يريدون «1» أن يخان. وقرأه أصحاب عَبْد اللَّه كذلك: أن يغل يريدون «2» أن يسرق أو يخون. وذلك جائز وإن لم يقل: يغلل فيكون مثل «3» قوله: فَإِنَّهُمْ لا يكذّبونك- ويُكَذِّبُونَكَ «4» وقرأ ابن عَبَّاس وأبو عَبْد الرَّحْمَن السلمي «أن يغل» ، وذلك أنهم ظنوا يوم أحد أن لن تقسم لهم الغنائم كما فعل يوم بدر. ومعناه: أن يتهم ويقال قد غل.
وقوله: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ ... (163)
يقول: هُمْ فِي الفضل مختلفون: بعضهم أرفع من بعض.
وقوله: وَيُزَكِّيهِمْ ... (164)
: يأخذ منهم الزكاة كما قال تبارك وتعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها» «5» .
وقوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ... (165)
يقول: تركتم ما أمرتم به وطلبتم الغنيمة، وتركتم مراكزكم، فمن قبلكم جاءكم الشر.
وقوله: قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا (167) يقول: كثروا، فإنكم إذا كثرتم دفعتم القوم بكثرتكم.
__________
(1) فهو مجهول غله أي خانه.
(2) فيغل على هذا مجهول أغله أي نسبه إلى الغلول وهو الخيانة أو السرقة، فيغل: يسرق أي ينسب إلى السرقة، أو يخوّن أي ينسب إلى الخيانة.
(3) يريد أن أغل وغلل فى تواردهما على معنى النسبة إلى الغلول مثل كذب وأكذب فى التوارد على معنى النسبة إلى الكذب كما جاءت القراءتان بهما فى الآية.
(4) آية 32 سورة الأنعام.
(5) آية 103 سورة التوبة.(1/246)
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
وقوله: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) وقوله: فَرِحِينَ ... (170)
[لو كانت رفعا على «بل أحياء فرحون» لجاز. ونصبها على الانقطاع من الهاء فِي «ربهم» . وإن شئت يرزقون فرحين] «1» «وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ» من أخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة للذي رأوا من ثواب اللَّه فهم يستبشرون بهم.
وقوله: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم «ولا حزن» «2» .
وقوله: وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) تقرأ بالفتح والكسر. من فتحها جعلها خفضا متبعة للنعمة. ومن كسرها استأنف. وهي قراءة عَبْد اللَّه «والله لا يضيع» فهذه حجة لمن كسر.
وقوله: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ ... (173)
و (الناس) فِي هذا الموضع واحد، وهو نعيم بْن مَسْعُود الأشجعي. بعثه أَبُو سُفْيَان وأصحابه فقالوا: شبّط محمدا- صلى اللَّه عليه وسلم- أو خوفه حَتَّى لا يلقانا ببدر الصغرى، وكانت ميعادا بينهم «3» يوم أحد. فأتاهم نعيم فقال: قد أتوكم فِي بلدتكم فصنعوا بكم ما صنعوا، فكيف بكم إذا وردتم عليهم فِي بلدتهم وهم أكثر وأنتم أقل؟
فأنزل اللَّه تبارك وتعالى:
__________
(1) سقط فى ش.
(2) كذا فى ش. وفى ج: «ولا يحزنون» .
(3) كذا فى ج، وفى ش: «يومهم» .(1/247)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ ... (175)
يقول: يخوّفكم بأوليائه «فلا تخافوهم» ومثل ذلك قوله: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ «1» معناه: لينذركم يوم التلاق. وقوله: «لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً» «2» المعنى: لينذركم بأسا شديدا البأس لا ينذر، وإنما ينذر به.
وقوله: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ... (178)
ومن قرأ «ولا تحسبن» قال «إنما» وقد قرأها بعضهم «ولا تحسبن الذين كفرا أنما» بالتاء والفتح على التكرير: لا تحسبنهم لا تحسبن أنما نملي لهم، وهو كقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ «3» على التكرير: هَلْ ينظرون إلا أن تأتيهم.
وقوله: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ... (179)
قال المشركون للنبي صلى اللَّه عليه وسلم: مالك تزعم أن الرجل منا فِي النار، فإذا صبأ إليك وأسلم قلت: هُوَ فِي الجنة، فأعلمنا من ذا يأتيك منا قبل أن يأتيك حَتَّى نعرفهم، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا تقولون أيها المشركون «حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» ثُمَّ قال: لم يكن اللَّه ليعلمكم ذلك فيطلعكم على غيبه.
وقوله: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ ... (180)
[يقال «4» : إنما «هُوَ» هاهنا عماد، فأين اسم هذا العماد؟ قيل: هُوَ مضمر، معناه: فلا يحسبن الباخلون البخل هُوَ خيرا لهم] فاكتفى بذكر يبخلون من البخل
__________
(1) آية 15 سورة غافر.
(2) آية 2 سورة الكهف.
(3) آية 18 سورة محمد.
(4) سقط فى ش.(1/248)
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
كما تقول فِي الكلام: قدم فلان فسررت به، وأنت تريد: سررت بقدومه، وقال الشاعر:
إذا نهى السفيه جرى إليه ... وخالف، والسفيه إلى خلاف «1»
يريد: إلى السفه. وهو كثير فِي الكلام.
وقوله: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ. يقال: هِيَ الزكاة، يأتي الَّذِي منعها يوم القيامة قد طوق شجاعا أقرع بفيه زبيبتان «2» يلدع خديه، يقول: أَنَا الزكاة التي منعتني.
وقوله: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. المعنى: يميت اللَّه أهل السَّمَوَاتِ وأهل الأرض ويبقى وحده، فذلك ميراثه تبارك وتعالى: أنه يبقى ويفنى كل شيء.
وقوله: سَنَكْتُبُ مَا قالُوا ... (181)
وقرىء «سيكتب ما قَالُوا» قرأها حمزة اعتبارا لأنها فِي مصحف عَبْد اللَّه.
وقوله: حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ... (183)
كان هذا. والقربان نار لها حفيف وصوت شديد كانت تنزل على بعض الأنبياء.
فلما قَالُوا ذلك للنبي صلى اللَّه عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى «قُلْ» يا محمد «قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ» وبالقربان الَّذِي قلتم «فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .
__________
(1) انظر ص 104 من هذا الجزء.
(2) هما النكتتان السوداوان فوق عين الحية وهو أوحش ما يكون من الحيات وأخبثه. والشجاع: الحية الذكر أو الذي يقوم على ذنبه ويواثب الراجل والفارس.
والأقرع: هو الذي تمرّط جلد رأسه لطول عمره وكثرة سمه. [.....](1/249)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
وقوله: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا ... (188)
يقول: بما فعلوا كما قال: لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا «1» وكقوله: «وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ» «2» وفي قراءة عَبْد اللَّه «فمن «3» أتى فاحشة فعله» . وقوله: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا قَالُوا: نَحْنُ أهل العلم الأول والصلاة الأولى، فيقولون ذلك ولا يقرون بمحمد صلى اللَّه عليه وسلم، فذلك قوله: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا.
وقوله: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ. يقول: ببعيد من العذاب.
(قال «4» قال الفراء: من زعم أن أو في هذه الآية على غير معنى بل فقد افترى على اللَّه لأن اللَّه تبارك وتعالى لا يشك، ومنه قول اللَّه تبارك وتعالى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ.)
وقوله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ يقول القائل:
كيف عطف بعلي على الاسماء؟ فيقال: إنها فِي معنى الاسماء ألا ترى أن قوله:
وَعَلى جُنُوبِهِمْ: ونياما، وكذلك عطف الاسماء على مثلها فِي موضع آخر، فقال: «دعانا لجنبه» ، يقول: مضطجعا «أو قاعدا أو قائما» فلجنبه، وعلى جنبه سواء.
وقوله: يُنادِي لِلْإِيمانِ. كما قال: «الَّذِي هَدانا لِهذا» «5» و «أَوْحى لَها» «6» يريد إليها، وهدانا إلى هذا.
__________
(1) آية 27 سورة مريم.
(2) آية 16 سورة النساء.
(3) كذا فى الأصول.
ولم يتبين لنا موطن هذه القراءة.
(4) ثبت ما بين القوسين فى الأصول. ولأوجه له هنا.
(5) آية 43 سورة الأعراف.
(6) آية 5 سورة الزلزلة.(1/250)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
وقوله: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) كانت اليهود تضرب فِي الأرض فتصيب الأموال، فقال الله عزّ وجلّ:
لا يغرّنك ذلك.
وقوله: مَتاعٌ قَلِيلٌ ... (197)
فِي الدنيا.
وقوله: نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ... (198)
و (ثوابا) «1» خارجان من المعنى: لهم ذلك نزلا وثوابا، مفسرا كما تقول: هُوَ لك هبةً وبيعا وصدقة.
وقوله: خاشِعِينَ لِلَّهِ ... (199)
معناه: يؤمنون به خاشعين «2» .
وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا ... (200)
مع نبيكم على الجهاد (وصابروا) عدوّكم فلا يكوننّ أصبر منكم.
__________
(1) أي فى قوله تعالى «ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» فى الآية 195 من هذه السورة.
(2) أي إنه حال من فاعل «يؤمن» .(1/251)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
ومن سورة النساء
وقوله تبارك وتعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ... (1)
قال (واحدة) لأن النفس مؤنثة، فقال: واحدة لتأنيث النفس، وهو [يعني] «1» آدم، ولو كانت (من نفس واحد) لكان صوابا، يذهب إلى تذكير الرجل «2» .
وقوله: وَبَثَّ مِنْهُما العرب تقول: بث اللَّه الخلق: أي نشرهم. وقال فى موضع آخر: كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ «3» ومن العرب من يقول: أبث اللَّه الخلق.
ويقولون: بثثتك ما فِي نفسي، وأبثثتك.
وقوله: الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ فنصب الأرحام يريد واتقوا الأرحام أن تقطعوها. قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْن عبد الله عن الأعمش عن إِبْرَاهِيم «4» أنه خفض الأرحام، قال: هُوَ كقولهم: بالله «5» والرحم وفيه قبح لأن العرب لا ترد مخفوضا على مخفوض وقد كنى عَنْهُ، وقد قال الشاعر «6» فى جوازه «7» :
__________
(1) ثبت فى ج، وسقط فى ش.
(2) وهى قراءة إبراهيم بن أبى عبلة كما فى القرطبي.
(3) آية 4 سورة القارعة.
(4) هو أبو عمران إبراهيم بن يزيد النخعىّ الكوفىّ. توفى سنة 96 هـ. وقراءة الخفض قراءة حمزة وقتادة والأعمش أيضا.
(5) يريد أن «الأرحام» معطوف على الضمير فى «به» .
(6) هو مسكين الدارمىّ. وانظر العينىّ على هامش الخزانة 4/ 164. [.....]
(7) كذا فى ج، وفى ش: «جوابه» وهو تحريف.(1/252)
نعلق فِي مثل السواري سُيُوفنا ... وما بينها والكَعْبِ غوط نفانف «1»
وإنما يجوز هذا فِي الشعر لضيقه.
وقرأ بعضهم «2» تَسائَلُونَ بِهِ يريد: تتساءلون به، فأدغم التاء عند السين.
وقوله: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ... (2)
يقول: لا تأكلوا أموال اليتامى بدل أموالكم، وأموالهم عليكم حرام، وأموالكم حلال.
وقوله: إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً الحوب: الإثم العظم. ورأيت بني أسد يقولون الحائب: القاتل، وقد حاب يحوب. وقرأ الْحَسَن (إنه كان حوبا كبيرا) وقوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ ... (3)
واليتامى فِي هذا الموضع أصحاب الأموال، فيقول القائل: ما عدل الكلام من أموال اليتامى إلى النكاح؟ فيقال: إنهم تركوا مخالطة اليتامى تحرجا، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: فإن كنتم تتحرجون من مؤاكلة اليتامى فاحرجوا «3» من جمعكم «4» بين النساء ثُمَّ لا تعدلون بينهن، فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ يعني الواحدة إلى الاربع.
فقال تبارك وتعالى: ما طابَ لَكُمْ ولم يقل: من طاب. وذلك أنه ذهب
__________
(1) السواري جمع السارية وهى الأسطوانة. والغوط: المطمئن من الأرض، والنفانف جمع النفنف وهو الهواء بين الشيئين. والبيت كناية عن طول قامتهم.
(2) هم السبعة عدا عاصما وحمزة والكسائىّ.
(3) الحرج: الضيق والقلق. والمراد به الكف عما يوجبه.
(4) كذا فى ج. وفى ش: «جمعهم» .(1/253)
إلى الفعل «1» كما قال أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يريد: أو ملك أيمانكم. ولو قيل «2» فِي هذين (من) كان صوابا، ولكن الوجه ما جاء به الكتاب. وأنت تقول فِي الكلام: خذ من عبيدي ما شئت، إذا أراد مشيئتك، فإن قلت: من شئت، فمعناه: خذ الَّذِي تشاء.
وأما قوله: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فإنها حروف لا تجرى «3» . وذلك أنهن مصروفات «4» عن جهاتهن ألا ترى أنهن للثلاث والثلاثة، وأنهن لا يضفن إلى ما يضاف إليه الثلاثة والثلاث. فكان لا متناعه من الإضافة كأن فِيهِ الألف واللام.
وامتنع من الألف واللام لأن فِيهِ تأويل الإضافة كما كان بناء الثلاثة أن تضاف إلى جنسها، فيقال: ثلاث نسوة، وثلاثة رجال. وربما جعلوا مكان ثلاث ورباع مثلث ومربع، فلا يجرى أيضا كما لم يجر ثلاث ورباع لأنه مصروف، فِيهِ من العلة ما فِي ثلاث ورباع. ومن جعلها نكرة وذهب بها إلى الاسماء أجراها.
والعرب تقول: ادخلوا ثلاث ثلاث، وثلاثا ثلاثا «5» . وقال الشاعر:
[وإن الغلام المستهام بذكره] ... قتلنا به من بين مثنى وموحد
بأربعةٍ منكم وآخر خامسٍ ... وسادٍ مع الإظلام فِي رمح معبد «6»
__________
(1) يريد الحدث والمعنى الذي فى طاب، ولم يذهب إلى الذوات. ويقرب من هذا ما يذكر من ملاحظة الوصف. وحمل كلام الفرّاء على أن (ما) عنده مصدرية. ويبين عنه قوله: «يريد: أو ملك أيمانكم» .
(2) وهى قراءة إبراهيم بن أبى عبلة كما فى القرطبي.
(3) الإجراء فى اصطلاح الكوفيين: صرف الاسم وتنوينه، وعدم الإجراء: منعه من الصرف.
(4) أي معدولات.
(5) ثبت فى ج، وسقط فى ش.
(6) ساد: لغة فى سادس. ولم يرد الشطر الأول فى أصول الكتاب. وقد جاء فى شرح التسهيل لأبى حيان فى مبحث «ما لا ينصرف» .(1/254)
فوجه الكلام ألا تجرى وأن تجعل معرفة لأنها مصروفة، والمصروف خلقته أن يترك «1» على هيئته، مثل: لكع «2» ولكاع. وكذلك قوله: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ «3» .
والواحد يقال فِيهِ موحد وأحاد ووحاد، ومثنى وثناء وأنشد بعضهم:
ترى النعرات الزرق تحت لبانه ... أحاد ومثنى أصعقتها صواهله «4»
وقوله: فَواحِدَةً تنصب على: فإن خفتم ألّا تعدلوا على الاربع فِي الحب والجماع فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم لا وقت «5» عليكم فِيهِ. ولو قال: فواحدة، بالرفع كان «6» كما قال فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ كان صوابا على قولك:
فواحدة (مقنع «7» ، فواحدة) رضا.
وقوله: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا: ألا تميلوا. وهو أيضا فِي كلام العرب:
قد عال يعول. وفي قراءة عَبْد اللَّه: (ولا يعل أن يأتيني بهم جميعا) «8» كأنه فى المعنى:
ولا يشقّ عليه أن يأتيني بهم جميعا. والفقر يقال منه عال يعيل عيله وقال الشاعر «9» :
ولا يدري الفقير مَتَى غناه ... ولا يدري الغنى مَتَى يعيل
__________
(1) كذا فى ش. وفى ج: «يتركه» .
(2) لكع يقال للئيم، ولكاع للئيمة، وهما لا يقالان إلا فى النداء فى مقام السب. ولكع معدول عن ألكع، ولكاع عن لكعاء.
(3) آية 1 سورة فاطر. [.....]
(4) البيت لتميم بن أبى بن مقبل. والنعرات جمع النعرة وهى ذبابة تسقط على الدواب فتؤذيها.
والصواهل واحدها الصاهلة، وهو مصدر على فاعلة بمعنى الصهيل. يريد أن صهيلة قتلها. وهو فى وصف فرس. وانظر اللسان (صهل) .
(5) أي لا حدّ لكم فى ملك اليمين.
(6) هذه الجملة بدل من الجملة قبلها. وجواب الشرط فى قوله: «كان صوابا» أو هى الجواب، والجملة الأخيرة بدل منها.
والأظهر سقوط «كان» .
(7) ثبت ما بين القوسين فى ج، وسقط فى ش.
(8) أي فى قوله تعالى: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً» آية 83 سورة يوسف.
(9) هذا هو أحيحة بن الجلاح الأوسىّ. وانظر اللسان (عيل) . والبيت من قصيدة فى جمهرة أشعار العرب.(1/255)
وقوله: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً (4) يعني أولياء النساء لا الأزواج: وذلك أنهم كانوا فِي الجاهلية لا يعطون النساء من مهورهن شيئًا، فأنزل اللَّه تعالى: أعطوهن صدقاتهن نحلة، يقول: هبة وعطية.
وقوله: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً. ولم يقل طبن. وذلك «1» أن المعنى- والله أعلم-: فإن طابت أنفسهن لكم عن شيء. فنقل الفعل من الأنفس إليهن فخرجت النفس مفسّرة كما قالوا: أنت حسن وجها، والفعل في الاصل للوجه، فلما حول إلى صاحب الوجه خرج الوجه مفسرا لموقع الفعل. ولذلك وحد النفس. ولو جمعت لكان صوابا ومثله ضاق به ذراعي «2» ، ثُمَّ تحول الفعل من الذراع إليك: فتقول «3» قررت به عينا. قال اللَّه تبارك وتعالى: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً «4» . وقال: سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً «5» وقال الشاعر «6» :
إذا التياز ذو العضلات قُلْنَا ... إليك إليك ضاق بها ذراعا «7»
وإنما قيل: ذرعا وذراعا لأن المصدر والاسم فِي هذا الموضع يدلان على معنى واحد، فلذلك كفى المصدر من الاسم.
وقوله: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ... (5)
السفهاء: النساء والصبيان الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً يقول التي بها تقومون قواما وقياما. وقرأ نافع الْمَدَنِيّ (قيما) والمعنى- والله أعلم- واحد.
__________
(1) أي دون «نفسا» .
(2) كذا فى ح. وفى ش: «ذرعى» .
(3) يبدو أن هذا مرتب على كلام سقط فى النسخ. والأصل: «وتقول: قرت عينك، ثم نحول الفعل» .
(4) آية 26 سورة مريم.
(5) آية 77 سورة هود.
(6) هو القطامي.
(7) هذا فى أبيات يصف بكرة أحسن القيام عليها حتى قويت وعزت على القوى أن يركيها. والتياز الرجل القوى. وانظر اللسان (تيز) .(1/256)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
والعرب تقول فِي جمع النساء (اللاتي) أكثر مما يقولون (التي) ، ويقولون (التي) ، ويقولون فِي جمع الأموال وسائر الأشياء سوى النساء (التي) أكثر مما يقولون فِيهِ «1» (اللاتي) .
وقوله: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً (6) يريد: فإن وجدتم. وفي قراءة عَبْد اللَّه «فإن أحستم «2» منهم رشدا» .
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ يعني الأوصياء واليتامى.
وقوله: وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا (أن) فِي موضع نصب. يقول: لا تبادروا كبرهم.
وقوله: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ هذا الوصى. يقول: يأكل قرضا.
وقوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ (7) ثُمَّ قال اللَّه تبارك وتعالى: نَصِيباً مَفْرُوضاً. وإنما نصب النصيب المفروض وهو نعت للنكرة لأنه أَخْرَجَهُ مخرج المصدر. ولو كان اسما صحيحا لم ينصب. ولكنه بمنزلة قولك: لك على حق حقا، ولا تقول: لك على حق درهما. ومثله عندي درهمان هبةً مقبوضة. فالمفروض فِي هذا الموضع بمنزلة قولك:
فريضة وفرضا.
وقوله: يُورَثُ كَلالَةً (12) الكلالة: ما خلا الولد والوالد.
وقوله: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ ولم يقل: ولهما وهذا جائز إذا جاء حرفان فِي معنى «3» واحد بأو أسندت التفسير إلى أيهما شئت. وإن شئت ذكرتهما فِيهِ
__________
(1) فى ح، ش: «فى» والوجه ما أثبت. [.....]
(2) كذا فى ج. وفى ش: «أحسنتم» وهو محرف عن «أحسبتم» . وهذا ما فى الطبري:
«أحسيتم» أي أحسستم.
(3) أي حكم.(1/257)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
جميعا تقول فِي الكلام: من كان له أخ أو أخت فليصله، تذهب إلى الأخ (و) «1» فليصلها، تذهب إلى الأخت. وإن قلت (فليصلهما) فذلك جائز.
وفى قراءتنا إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما «2» وفى إحدى «3» القراءتين فالله أولى بهم ذهب إلى الجماع لانهما اثنان غير موقتين. وفي قراءة عَبْد اللَّه (والذين «4» يفعلون منكم فاذوهما) فذهب إلى الجمع لانهما اثنان غير موقتين، وكذلك فِي قراءته:
(والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما) «5» .
وقوله: غَيْرَ مُضَارٍّ يقول: يوصى بذلك غير مضار.
ونصب قوله وصية من قوله: فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ- وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ مثل قولك: لك درهمان نفقةً إلى أهلك، وهو مثل قوله نَصِيباً مَفْرُوضاً.
وقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ... (13)
معناه: هذه حدود اللَّه.
وقوله: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ ... (15)
وفي قراءة عَبْد اللَّه واللاتي يأتين بالفاحشة والعرب تقول: أتيت أمرا عظيما، وأتيت بأمر عظيم، وتكلمت كلاما قبيحًا، وبكلام قبيح. وقال فِي مريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا «6» وجِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا «7» ولو كانت فِيه الباء لكان صوابًا.
وقوله: فأمسكوهن فى البيوت كن يحبسن فِي بيوت لهن إذا أتين «8» الفاحشة حتى أنزل الله تبارك وتعالى:
__________
(1) ثبت هذا الحرف فى ج. وسقط فى ش.
(2) آية 135 سورة النساء.
(3) هى قراءة أبى كما فى الطبري وأبى حيان.
(4) هذا فى الآية 16 من هذه السورة.
(5) هذا فى الآية 38 من سورة المائدة.
(6) آية 27 سورة مريم.
(7) آية 89.
(8) كذا فى ج. وفى ش: «أتيت» وهى محرفة عن «أتين» .(1/258)
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
قوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما.. (16)
فنسخت هذه الأولى.
وقوله: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ... (17)
يقول: قبل الموت. فمن تاب فِي صحته أو فِي مرضه قبل أن ينزل به الموت فتوبته مقبولة.
وقوله: يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ لا يجهلون أنه ذنب، ولكن لا يعلمون كنه ما فِيهِ كعلم العالم.
وقوله: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ... (18)
(الذين) فِي موضع خفض. يقول: إن أسلم الكافر فِي مرضه قبل أن ينزل به الموت كان مقبولا، فإذا نزل به الموت فلا توبة.
وقوله: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ... (19)
كان الرجل إذا مات عن امرأته وله ولد من غيرها وثب الولد فألقى ثوبه عليها، فتزوجها بغير مهر إلا مهر الأول، ثم أضرّ بها ليرثها ما ورثت من أَبِيهِ، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ (تعضلوهن) فِي موضع نصب بأن. وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه (ولا أن تعضلوهن) ولو كانت جزما على النهى كان صوابا.
وقوله: وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ ... (21)
الإفضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها.
وقوله مِيثاقاً غَلِيظاً الغليظ الذي أخذنه قوله تبارك وتعالى فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ.(1/259)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
وقوله: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ... (23)
أن فِي موضع رفع كقولك: والجمع بين الأختين.
وقوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ ... (24)
المحصنات: العفائف. والمحصنات: ذوات الأزواج التي أحصنهن أزواجهن.
والنصب «1» فِي المحصنات أكثر. وقد روى علقمة «2» : «المحصنات» بالكسر فِي القرآن كله إلا قوله وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ هذا الحرف الواحد لأنها ذات الزوج من سبايا المشركين. يقول: إذا كان لها فى زوج فِي أرضها استبرأتها بحيضة وحلت لك «3» .
وقوله كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ كقولك «4» : كتابا من اللَّه عليكم. وقد قَالَ بعض أهل النحو: معناه «5» : عليكم كتاب اللَّه. والأول أشبه بالصواب. وقلما تقول العرب:
زيدا عليك، أو زيدا دونك. وهو جائز كأنه منصوب بشيء مضمر قبله، وقال الشاعر «6» :
يا أيّها المائح دلوى دونكا ... إني رَأَيْت الناس يحمدونكا «7»
الدلو رفع، كقولك: زَيْدُ فاضربوه. والعرب تقول: الليل فبادروا، والليل فبادروا. وتنصب الدلو بمضمر فِي الخلفة كأنك قلت: دونك دلوى دونك.
__________
(1) يريد فتح الصاد.
(2) هو علقمة بن قيس من أعلام التابعين. مات سنة 62.
(3) كذا فى ح. وفى ش: «ذلك» وهو خطأ.
(4) يريد أنه منصوب على أنه مفعول مطلق مؤكد لما قبله فإن معنى «حرمت عليكم» كتب عليكم. [.....]
(5) يريد أن (على) فيه اسم فعل أمر، و (عليكم) بمعنى الزموا. و (كتاب الله) معموله.
(6) هو جاهلى من بنى أسيد بن عمرو بن تميم. وله قصة فى شرح التبريزي للحماسة 270 من طبعة بن.
وانظر الخزانة 3/ 17.
(7) المائح: اسم فاعل من الميح. وهو أن ينزل البئر فيملأ الدلو وذلك إذا قل ماؤها.(1/260)
وقوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ يقول: ما سوى ذلكم.
وقوله: وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ «1» يريد: سواه.
وقوله: أَنْ تَبْتَغُوا يكون موضعها رفعا يكون تفسيرا ل (ما) ، وإن شئت كانت خفضا، يريد: أحل الله لكم ماوراء ذلكم لأن تبتغوا. وإذا فقدت الخافض كانت نصبا.
وقوله: مُحْصِنِينَ يقول: أن تبتغوا الحلال غير الزنا. والمسافحة الزنا.
وقوله: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ... (25)
يقول: إنما يرخص لكم فِي تزويج الإماء إذا خاف أحدكم أن يفجر. ثُمَّ قَالَ:
وأن تتركوا تزويجهن أفضل.
وقوله: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ... (26)
وقال فِي موضع آخر وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ والعرب تجعل اللام التي على معنى كي فِي موضع أن فِي أردت وأمرت. فتقول: أردت أن تذهب، وأردت لتذهب، وأمرتك أن تقوم، وأمرتك لتقوم قال اللَّه تبارك وتعالى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «2» وقال فِي موضع آخر قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ «3» وقال يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا «4» وأَنْ يُطْفِؤُا «5» وإنما صلحت اللام فِي موضع أن فِي (أمرتك) «6» وأردت لانهما يطلبان المستقبل ولا يصلحان مع الماضي ألا ترى أنك تقول: أمرتك أن تقوم، ولا يصلح أمرتك أن قمت. فلما رأوا (أن) فى غير
__________
(1) آية 91 سورة البقرة.
(2) . 71 سورة الأنعام.
(3) آية 14 سورة الأنعام.
(4) آية 8 سورة الصف.
(5) آية 32 سورة التوبة.
(6) كذا فى ش، ج. وفى الخزانة 3/ 586: «أمرت» .(1/261)
هذين تكون للماضي والمستقبل استوثقوا لمعنى الاستقبال بكى وباللام التي فِي معنى كي. وربما جمعوا «1» بين ثلاثهن أنشدني أَبُو ثروان:
أردت لكيما لا ترى لي عثرة ... ومن ذا الَّذِي يعطي الكمال فيكمل «2»
فجمع (بين «3» اللام وبين كي) وقال اللَّه تبارك وتعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ «4» وقال الآخر فِي الجمع بينهن:
أردت لكيما أن تطير بقربتى ... فتتركها شنّا ببيداء بلقع «5»
وإنما جمعوا بينهنّ لا تفاقهن فِي المعنى واختلاف لفظهن كما قال رؤبة:
بغير لا عصفٍ ولا اصطراف «6» وربما جمعوا بين ما ولا وإن التي على معنى الجحد أنشدني الكسائي فِي بعض البيوت: (لا ما إن رَأَيْت مثلك) فجمع بين ثلاثة أحرف.
وربما جعلت العرب اللام مكان (أن) فيما أشبه (أردت وأمرت) مما يطلب المستقبل أنشدني الأنفى»
من بني أنف الناقة من بنى سعد:
__________
(1) كذا فى ش. وفى ج: «رجعوا» .
(2) ورد هذا البيت فى شواهد الهمع 2/ 5. وفيه: «ترانى عشيرتى» فى مكان: «ترى لى عثرة» . وفى الخزانة فى الموطن السابق: «لكيما أن» فى مكان: «لكيما» . وفى التذييل لأبى حيان:
«أرادت» فى مكان «أردت» .
(3) فى الخزانة: «بين اللام وكى وأن» . والجمع بين الثلاثة يأتى فى البيت الآتي.
(4) آية 23 سورة الحديد.
(5) الشنّ: القربة البالية. والبلقع: القفر. وانظر الخزانة 3/ 585. [.....]
(6) قبله:
قد يطلب المال الهدان الجافي
والهدان: الأحمق الثقيل فى الحرب. والعصف: الكسب. والاصطراف: افتعال من الصرف وهو التقلب والتصرف فى ابتغاء الكسب.
(7) فى الخزانة 3/ 586: «أبو الجرّاح الأنفى» . وأنف الناقة من تميم.(1/262)
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
ألم تسأل الأنفى يوم يسوقني ... ويزعم أني مبطل القول كاذبه
أحاول إعناتي بما قال أم رجا ... ليضحك مني أو ليضحك صاحبه
والكلام: رجا أن يضحك مني. ولا يجوز: ظننت لتقوم. وذلك أن (أن) التي تدخل مع الظن تكون مع الماضي من الفعل. فتقول: أظن (أن قد) «1» قام زَيْدُ، ومع المستقبل، فتقول: أظن أن سيقوم زَيْدُ، ومع الاسماء فتقول: أظن أنك قائم. فلم تجعل اللام فِي موضعها ولا كي فِي موضعها إذ لم تطلب المستقبل وحده.
وكلما رَأَيْت (أن) تصلح مع المستقبل والماضي فلا تدخلن عليها كي ولا اللام.
وقوله: فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً ... (30)
وتقرأ: نصليه «2» ، وهما لغتان، وقد قرئتا، من صليت وأصليت. وكأن صليت: تصليه على النار، وكأن أصليت: جعلته يصلاها.
وقوله: وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً (31) ومدخلا «3» ، وكذلك: أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ «4» وإدخال صدق. ومن قال: مدخلا ومخرجا ومنزلا فكأنه بناه «5» على: أدخلنى دخول صدق
__________
(1) كذا فى الخزانة، وفى الطبرىّ. وفى ش: «أقدم» . وفى ج: «أن تقدم» وكل هذا تحريف.
(2) هى قراءة الأعمش والنخعىّ على ما فى البحر 3/ 233، وقراءة حميد بن قيس، على ما فى القرطبي 5/ 253.
(3) وهى قراءة نافع وأبى جعفر. والضم قراءة أبى عمرو وأكثر الكوفيين.
(4) آية 80 سورة الإسراء.
(5) يريد أنه مصدر جاء على الفعل الثلاثي المفهوم من الرباعي.(1/263)
وأخرجني خروج صدق. وقد يكون إذا كان مفتوحا أن يراد به المنزل بعينه كما قال: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً «1» ولو فتحت الميم كانت كالدار والبيت. وربما فتحت العرب الميم منه، ولا يقال فِي الفعل منه إلا أفعلت. من ذلك قوله:
بمصبح الحمد وحيث يمسى «2» وقال الآخر «3» :
الحمد لله ممسانا ومصبحنا ... بالخير صبحنا ربي ومسانا
وأنشدني المفضل.
وأعددت للحرب وثابة ... جواد المحثة والمرود «4»
فهذا مما لا يبنى على فعلت، وإنما يبنى على أرودت. فلما ظهرت الواو فِي المرود «5» ظهرت فى المرود كما قَالُوا: مصبح وبناؤه أصبحت لا غير.
وقوله: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ (32) ليس هذا بنهي محرم إنما هُوَ من اللَّه أدب. وإنما قَالَتْ أم سلمة وغيرها:
ليتنا كُنَّا رجالا فجاهدنا وغزونا وكان لنا مثل أجر الرجال، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى
__________
(1) آية 29 سورة المؤمنون.
(2) «يمسى» كذا فى ش، ج، واللسان (صبح) . وفى الطبري: «نمسى» .
(3) هو أمية بن أبى الصلت. وانظر الخزانة 1/ 120.
(4) هذا من قصيدة لامرئ القيس. ويريد بالوثابة فرسا. وجواد المحثة أي سريعة إذا استحثثتها فى السير. وكذلك هى جواد عند المرود، أي عند الرفق بها، فهى جواد فى كل أحوالها. والمرود من أرود فى السير إذا رفق ولم يعنف. وقد روى بضم الميم وفتحها وانظر اللسان (رود) .
(5) كذا فى ش، ج. يريد أن المرود- بضم الميم- المبنى على أرود صحت الواو فيه حملا على فعله، فصحت أيضا فى المرود- بفتح الميم- لحمله على المضموم. وقد يكون: «أرود» .(1/264)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ وقد جاء «1» : لا يتمنين أحدكم مال أخيه، ولكن ليقل:
اللهم ارزقني، اللهم أعطني.
وقوله: فَالصَّالِحاتُ (34) وفي قراءة عَبْد اللَّه فالصوالح قوانت «2» تصلح فواعل وفاعلات فِي جمع فاعلة.
وقوله: بِما حَفِظَ اللَّهُ القراءة بالرفع. ومعناه: حافظات لغيب أزواجهن بما حفظهن اللَّه حين أوصى بهن الأزواج. وبعضهم يقرأ بِما حَفِظَ اللَّهُ فنصبه على أن يجعل الفعل واقعا كأنك قلت: حافظات للغيب بالذي يحفظ اللَّه كما تقول: بما أرضى اللَّه، فتجعل الفعل لما، فيكون فِي مذهب مصدر. ولست أشتهيه لأنه ليس بفعل لفاعل معروف، وإنما هُوَ كالمصدر.
وقوله: فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا يقول: لا تبغوا عليهن عللا.
وقوله: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ جاء التفسير أن معنى تخافون: تعلمون.
وهي كالظن لأن الظان كالشاك والخائف قد يرجو. فلذلك ضارع الخوف الظن والعلم ألا ترى أنك تقول للخبر يبلغك: أما والله لقد خفت ذاك، وتقول: ظننت ذلك، فيكون معناهما واحدا. ولذلك قال الشاعر:
ولا تدفننّى بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها «3»
وقال الآخر:
أتاني كلام عن نصيب يقوله ... وما خفت يا سلام أنك عائبى
__________
(1) أي فى الأثر. وقد نسب القرطبي قريبا من هذا الأثر إلى الكلبي، ولم نقف عليه فى الحديث.
(2) فى القرطبي زيادة: «حوافظ» . [.....]
(3) انظر ص 146 من هذا الجزء. وانظر أيضا الخزانة 3/ 550.(1/265)
كأنه قال: وما ظننت أنك عائبي. ونقلنا فِي الحديث أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: أمرت بالسواك حَتَّى خفت لأدردن. كقولك: حَتَّى ظننت لأدردن «1» .
وقوله: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها (35) يقول: حكما من أهل الرجل وحكما من أهل المرأة ليعلما من أيهما جاء النشوز.
فينبغي للحكم «2» أن يأتي الرجل فينتظر ما عنده هَلْ يهوى المرأة، فإن قال: لا والله مالي فِيها حاجة، علم أن النشوز جاء من قبله. ويقول حكم المرأة لها مثل ذلك، ثُمَّ يعلماهما «3» جميعا على قدر ذلك، فيأتيا الزوج فيقولا: أنت ظالم أنت ظالم اتق اللَّه، إن «4» كان ظالما. فذلك قوله إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إذا فعلا هذا الفعل.
وقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً (36) أمرهم بالإحسان إلى الوالدين. ومثله وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً «5» ولو رفع الإحسان «6» بالباء «7» إذ لم يظهر الفعل كان صوابا كما- تقول فِي الكلام: أحسن إلى أخيك، وإلى المسيء الإساءة.
__________
(1) انظر الموطن السابق.
(2) سقط فى ش.
(3) فى ش، ج: «يعلمهما» والوجه ما أثبت.
(4) كذا فى ش، ج. وفى ا: «إذ» .
(5) آية 23 سورة الإسراء.
(6) ثبت فى أ، ج. وسقط فى ش.
(7) يريد أن يكون «إحسان» بالرفع مبتدأ خبره (بالوالدين) . وقد قرأ بالرفع ابن أبى عيلة كما فى القرطبي.(1/266)
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى بالخفض. وفي بعض (مصاحف «1» أهل الكوفة وعتق المصاحف) ذا القربى مكتوبة بالألف. فينبغي لمن قرأها على الألف أن ينصب والجار ذا القربى فيكون مثل قوله حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى يضمر «2» فعلا يكون النصب به.
وَالْجارِ الْجُنُبِ: الجار الَّذِي ليس بينك وبينه قرابه وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ:
الرفيق وَابْنِ السَّبِيلِ: الضيف.
وقوله: فَساءَ قَرِيناً (38) بمنزلة قولك: نعم رجلا، وبئس رجلا. وكذلك وَساءَتْ مَصِيراً «3» وكَبُرَ مَقْتاً «4» وبناء نعم وبئس ونحوهما أن ينصبا ما وليهما من النكرات، وإن يرفعا ما يليهما من معرفة غير موقتة وما أضيف إلى تلك المعرفة. وما أضيف إلى نكرة كان فِيهِ الرفع والنصب.
فإذا مضى الكلام بمذكر قد جعل خبره مؤنثا مثل: الدار منزل صدق، قلت:
نعمت منزلا، كما قال (وَسَاءَتْ مصيرا) «5» وقال حَسُنَتْ مُرْتَفَقاً «6» ولو قيل:
وساء مصيرا، وحسن مرتفقا، لكان صوابا كما تقول: بئس المنزل النار، ونعم المنزل الجنة. فالتذكير والتأنيث على هذا ويجوز: نعمت المنزل دارك، وتؤنث فعل المنزل لما كان وصفا للدار. وكذلك تقول: نعم الدار منزلك، فتذكر فعل الدار إذ كانت وصفا للمنزل. وقال ذو الرمّة:
__________
(1) فى أبدل ما بين القوسين: «المصاحف» .
(2) نحو أخص، أو أكرموا.
(3) آية 97 سورة النساء.
(4) آية 3 سورة الصف.
(5) آية 97 سورة النساء.
(6) آية 31 سورة الكهف. [.....](1/267)
أو حرّة عيطل ثبجاء مجفرة ... دعائم الزور نعمت زورق البلد «1»
ويجوز أن تذكر الرجلين فتقول بئسا رجلين، وبئس رجلين، وللقوم: نعم قوما ونعموا قوما. وكذلك الجمع من «2» المؤنث. وإنما وحدوا الفعل وقد جاء بعد الاسماء لأن بئس ونعم دلالة على مدح أو ذم لم يرد منهما مذهب الفعل، مثل قاما وقعدا.
فهذا فِي بئس ونعم مطرد كثير. وربما قيل فِي غيرهما مما هُوَ فِي معنى بئس ونعم.
وقال بعض العرب: قلت أبياتا جاد أبياتا، فوحد فعل البيوت. وكان الكسائي يقول: أضمر «3» حاد بهن أبياتا، وليس هاهنا مضمر إنما هُوَ الفعل وما فِيهِ.
وقوله: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «4» إنما وحد الرفيق وهو صفة لجمع لأن الرفيق والبريد والرسول تذهب به العرب إلى الواحد وإلى الجمع. فلذلك قَالَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ولا يجوز فِي مثله من الكلام أن تقول: حسن أولئك رَجُلا، ولا قبح أولئك رجلا، إنما يجوز أن توحد صفة الجمع إذا كان اسما مأخوذا من فعل ولم يكن اسما مصرحا مثل رَجُل وامرأة، ألا ترى أن الشاعر قال:
وإذا هُمُ طَعِمُوا فَأَلامُ طاعِمٍ ... وإذا هُمُ جاعوا فشرّ جياع «5»
__________
(1) هذا من قصيدة له فى مدح بلال بن أبى بردة بن أبى موسى الأشعري. ويريد بالحرة ناقة كريمة. والثبجاء: الضخمة الثبج- بالتحريك- وهو الصدر، يريد أنها عظيمة الجوف، والعيطل:
الطويلة العنق. والمجفرة: العظيمة الجنب الواسعة الجوف. وأراد بدعائم الزور قوائمها. وهو منصوب من «مجفرة» على التشبيه بالمفعول به. والبلد: المفازة. جعلها زورقا وسفينة على التشبيه كما يقال:
الإيل سفن الصحراء. وانظر الخزانة 4/ 119.
(2) كذا فى أ، ح. وفى ش: «بين» .
(3) يريد أن الفاعل عنده محذوف وهو (بهن) والباء زائدة. والفراء يرى أن الفاعل ضمير مستتر فى الفعل.
(4) آية 69 سورة النساء.
(5) انظر ص 33 من هذا الجزء.(1/268)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
وقوله: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ «1» كذلك، وقد رفعها بعضهم ولم يجعل قبلها ضميرا تكون الكلمة خارجة من ذلك المضمر. فإذا نصبت فهي «2» خارجة من قوله وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً أي كبرت هذه كلمة.
وقوله: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ... (40)
ينصب الحسنة ويضمر فِي (تك) اسم مرفوع. وإن شئت رفعت «3» الحسنة ولم تضمر شيئًا. وهو مثل قوله وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ «4»
وقوله: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ ... (42)
(وتسوى) «5» ومعناه: لو يسوون بالتراب. وإنما تمنوا ذلك لأن الوحوش وسائر الدواب يوم القيامة يقال لها «6» : كوني ترابا، ثُمَّ يحيا أهل الجنة، فإذا رَأَى ذلك الكافرون «7» قال بعضهم لبعض: تعالوا فلنقل إذا سئلنا: والله ما كُنَّا مشركين،
__________
(1) آية 5 سورة الكهف.
(2) يريد أن فاعل «كبرت» ضمير تقديره (هى) يعود على المقالة المفهومة من قوله: «قالوا اتخذ الله ولدا» والبصريون يجعلون الفاعل ضميرا يعود على التمييز «كلمة» .
(3) وهى قراءة الحسن والحرميين: نافع وابن كثير، كما فى البحر 3/ 251.
(4) آية 280 سورة البقرة.
(5) يحتمل أن يريد: (تسوى) بفتح التاء وتشديد السين والواو، وهى قراءة نافع وابن عامر وأن يريد (تسوى) بفتح التاء والسين مخففة وشد الواو، وهى قراءة حمزة والكسائي. وهذا الوجه أقرب لأنهما كوفيان كالفراء، فهما أقرب إلى ما يريد.
(6) ثبت فى أ، ج. وسقط فى ش.
(7) كذا فى ش، ج، وفى أ: «الكافر» .(1/269)
فإذا سئلوا فقالوها «1» ختم على أفواههم وأذن لجوارحهم فشهدت عليهم. فهنالك يودون أنهم كانوا ترابا ولم يكتموا اللَّه حديثا. فكتمان الحديث هاهنا فِي التمني «2» .
ويقال: إنما المعنى: يومئذ «3» لا يكتمون اللَّه حديثا ويودون لو تسوى بهم الأرض.
وقوله: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ... (43)
نزلت فِي نفر من أصحاب مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلم شربوا وحضروا الصلاة مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قبل تحريم الخمر. فأنزل اللَّه تبارك وتعالى لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ولكن صلوها فِي رحالكم.
ثُمَّ قال وَلا جُنُباً أي لا تقربوها جنبا حَتَّى تَغْتَسِلُوا.
ثم استثنى فقال إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ يقول: إلا أن تكونوا مسافرين لا تقدرون على الماء ثم قال فَتَيَمَّمُوا والتيمم: أن تقصد الصعد الطيب حيث كان. وليس التيمم إلا ضربة للوجه وضربة لليدين للجنب وغير الجنب.
وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا ... (44)
أَلَمْ تَرَ فِي عامة القرآن: ألم تخبر. وقد يكون فى العربية: أما ترى، أما تعلم.
__________
(1) كذا فى ش، ج. وفى أ: «قالوها» .
(2) أي داخل فى المتمنى، إذ هو معطوف على: «لو تسوى بهم الأرض» الذي هو معمول الودادة. [.....]
(3) يريد أن هذه الجملة مستأنفة وليست متعلقا للودادة. وقد أخر فى التفسير الجملة الأولى عن هذه ليبين عن استقلالها، وأنها ليست من تابع الأولى.(1/270)
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
وقوله: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ ... (46)
إن شئت جعلتها متصلة بقوله (أَلَمْ تَرَ إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، من الذين هادوا يحرفون الكلم) وإن شئت كانت «1» منقطعة منها مستأنفة، ويكون المعنى: من الذين هادوا من يحرفون الكلم. وذلك من كلام العرب: أن يضمروا (من) فى مبتدأ الكلام. فيقولون: منا يقول ذلك، ومنا لا يقوله. وذلك أن (من) بعض لما هِيَ منه، فلذلك أدت عن المعنى المتروك قال اللَّه تبارك وتعالى:
وَما «2» مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وقال وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «3» وقال ذو الرمة:
فظلوا ومنهم دمعه سابق له ... وآخر يثنى دمعة العين بالهمل «4»
يريد: منهم من دمعه سابق. ولا يجوز إضمار (من) فِي شيء من الصفات إلا على المعنى «5» الَّذِي نبأتك به، وقد قالها الشاعر فِي (فِي) ولست أشتهيها، قال «6» :
لو قلت ما فِي قومها لم تأثم ... يفضلها فِي حسب وميسم «7»
ويروى أيضا (تيثم) لغة. وإنما جاز ذلك فِي (فِي) لأنك تجد معنى (من) أنه بعض ما أضيفت إليه ألا ترى أنك تقول فينا صالحون وفينا دون ذلك، فكأنك قلت: منا، ولا يجوز أن تقول: فِي الدار يقول ذلك وأنت تريد فِي الدار من يقول ذلك، إنما يجوز إذا أضفت (فى) إلى جنس المتروك.
__________
(1) كذا فى أ، ج، وفى ش: «كان» .
(2) آية 164 سورة الصافات.
(3) آية 71 سورة مريم.
(4) قبله:
بكيت على مىّ بها إذ عرفتها ... وهجت الهوى حتى بكى القوم من أجلى
وانظر الديوان 485
(5) كذا فى أ. وفى ش، ج: «هذا» .
(6) أي حكيم بن معية. وانظر الخزانة 2/ 311.
(7) «تأثم» كذا فى ا، ش. وفى ج: «تألم» .(1/271)
وقوله: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ يعنى: ويقولون (وراعنا) يوجهونها إلى شتم مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلم. فذلك اللي.
وقوله: (وأقوم) أي أعدل.
وقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها ... (47)
فِيهِ قولان أحدهما: أن يحول الوجه إلى القفا، والآخر: أن يجعل الوجه منبتا للشعر كما كان وجه القرد كذلك. فهو رده على دبره لأن منابت شعر الآدميين فِي أدبارهم، (وهذا) «1» أشبه بالصواب لقوله أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ يقول: أو نسلخهم «2» قردة.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ... (48)
فإن شئت جعلتها «3» فِي مذهب خفض ثُمَّ تلقى الخافض فتنصبها يكون فِي مذهب جزاء كأنك قلت: إن اللَّه لا يغفر ذنبا مع شرك ولا عن شرك.
وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ... (49)
جاءت اليهود بأولادها إلى النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم فقالوا «4» : هَلْ لهؤلاء ذنوب؟
قال: لا، قَالُوا: فإنا مثلهم ما عملناه بالليل كفّر عنا بالنهار، وما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل. فذلك تزكيتهم أنفسهم.
__________
(1) كذا فى ش، ج. وفى أ: «فهذا» .
(2) لسلخ: كشط الجلد عن الحيوان، فسلخهم إزالة إهابهم الآدمي ومظهرهم البشرى.
وجعلهم قردة. ولعل هذا محرف عن: «نمسخهم» .
(3) يريد «أن يشرك» أي المصدر المؤول فيها. والوجه الظاهر أنه مفعول «لا يغفر» .
(4) كذا فى ج، ش. وفى ا: «فقال» .(1/272)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
وقوله: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا الفتيل هُوَ ما فتلت بين إصبعيك من الوسخ، ويقال: هُوَ الَّذِي فِي بطن النواة.
وقوله: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ... (51)
فأما الجبت فحيي بْن أخطب. والطاغوت كعب بْن الاشرف.
وقوله: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) النقير: النقطة فِي ظهر النواة. و (إذًا) إذا استؤنف بها الكلام نصبت الفعل الَّذِي فِي أوله الياء أو التاء أو النون أو الألف فيقال: إذا أضربك، إذًا أجزيك. فإذا كان فيها فاء أو واو أو ثُمَّ أو (أو) حرف من حروف النسق، فإن شئت كان معناها معنى الاستئناف فنصبت بها أيضا. وإن شئت جعلت الفاء أو الواو إذا كانتا منها منقولتين «1» عَنْهَا إلى غيرها. والمعنى فى قوله (وإذا لا يؤتون) على: فلا يؤتون الناس نقيرا إذًا. ويدلك على ذلك أنه فِي المعنى- والله أعلم- جواب لجزاء مضمر، كأنك قلت: ولئن كان لهم، أو ولو كان لهم نصيب لا يؤتون الناس إذا نقيرا. وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه منصوبة فإذا لا يؤتوا الناس نقيرا وإذا رَأَيْت الكلام تاما مثل قولك: هَلْ أنت قائم؟ ثم قلت: فإذا أضربك، نصبت بإذًا ونصبت بجواب الفاء ونويت النقل. وكذلك الأمر والنهي يصلح فِي إذًا وجهان: النصب بها ونقلها «2» . ولو شئت رفعت بالفعل إذا نويت النقل فقلت:
__________
(1) يريد بنقل حرف العطف عن «إذا» تقديره مقرونا بالفعل بعدها، وتقدير «إذا» فى آخر الجملة- وبذلك تتأخر عن الصدر فتلغى.
(2) يكون النصب بوقوع تقدير النقل فى الجواب بعد الفا. [.....](1/273)
إيته فإذا يكرمك، تريد فهو يكرمك إذا، ولا تجعلها جوابها. وإذا كان قبلها جزاء وهي له جواب قلت: إن تأتني إذا أكرمك. وإن شئت: إذا أكرمك وأكرمك فمن جزم أراد أكرمك إذا. ومن نصب نوى فِي إذا فاء تكون جوابا فنصب الفعل بإذا. ومن رفع جعل إذا منقولة إلى آخر الكلام كأنه قال:
فأكرمك إذا «1» . وإذا رَأَيْت فِي جواب إذًا اللام فقد أضمرت لها (لئن) أو يمينا أو (لو) . من ذلك قوله عز وجل مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ «2» والمعنى- والله أعلم-: لو كان [معه] «3» فيهما إله لذهب كل إله بما خلق. ومثله وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ، وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا «4» ومعناه: لو فعلت لا تخذوك. وكذلك قوله كِدْتَ تَرْكَنُ «5» ثم قال: إِذاً لَأَذَقْناكَ، معناه لو ركنت لأذقناك إذًا. وإذا أوقعت (إذًا) على يفعل وقبله اسم بطلت فلم تنصب فقلت: إنا إذا أضربك. وإذا كانت فِي أول الكلام (إن) نصبت يفعل ورفعت فقلت: إنى إذا أو ذيك. والرفع جائز أنشدني بعض العرب:
لا تَترُكنِّي فِيهم شطيرًا ... إني إذًا أهلِكَ أو أطيرا «6»
__________
(1) هذا خلاف مذهب البصريين فليس عندهم إلا الجزم.
(2) آية 91 سورة المؤمنون.
(3) زيادة يقتضيها السياق.
(4) آية 73 سورة الإسراء.
(5) آية 74 من السورة السابقة.
(6) الشطير: الغريب. وانظر الخزانة 3- 574.(1/274)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
وقوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ... (54)
هذه اليهود حسدت النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم كثرة النساء، فقالوا: هذا يزعم أنه نبىّ وليس له هُمْ إلا النساء.
فأنزل اللَّه تبارك وتعالى فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وفي آل إِبْرَاهِيم سُلَيْمَان بْن دَاوُد، وكان له تسعمائة امْرَأَة، ولداود مائة امْرَأَة.
فلما تليت عليهم هذه الآية كذب بعضهم وصدق بعضهم.
وهو قوله: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ ... (55)
بالنبأ عن سُلَيْمَان وداود وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ بالتكذيب والإعراض.
وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً ... (71)
يقول: عصبًا «1» . يقول إذا دعيتم إلى السرايا، أو دعيتم لتنفروا جميعًا.
وقوله: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ... (72)
اللام التي فى (من) دخلت لمكان (إن) كما تقول: إن فيها لأخاك.
ودخلت اللام فى (ليبطّئنّ) وهي صلة لمن على إضمار شبيه باليمين كما تقول فِي الكلام: هذا الَّذِي ليقومن، وأرى رجلا ليفعلن ما يريد. واللام فِي النكرات إذا وصلت أسهل دخولا منها فِي من وما والَّذِي لأن الوقوف عليهن لا يمكن.
__________
(1) هذا تفسير «ثبات» . وواحده ثبة.(1/275)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
والمذهب فِي الرجل والذي واحد إذا احتاجا إلى صلة. وقوله: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ «1» من ذلك، دخلت اللام فِي (ما) لمكان إن، ودخلت فِي الصلة كما دخلت فِي ليبطئن. ولا يجوز ذلك فِي عَبْد اللَّه، وزيد أن تقول: إن أخاك ليقومن لأن الأخ وزيدا لا يحتاجان إلى صلة، ولا تصلح اللام أن تدخل فِي خبرهما وهو متأخر لأن اليمين إذا وقعت بين الاسم والخبر بطل جوابها كما تقول: زَيْدُ والله يكرمك، ولا تقول زَيْدُ والله ليكرمك.
وقوله: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ... (73)
العرب تنصب ما أجابت بالفاء فِي ليت لأنها تمن، وفي التمني معنى يسرني أن تفعل فأفعل. فهذا نصب كأنه منسوق كقولك فِي الكلام: وددت أن أقوم فيتبعني الناس. وجواب صحيح يكون لجحد ينوى فِي التمني لأن ما تمنى مما قد مضى فكأنه مجحود ألا ترى أن قوله يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فالمعنى: اكن معهم فأفوز. وقوله فِي الأنعام يَا لَيْتَنا»
نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ هِيَ فِي قراءة عَبْد اللَّه بالفاء نرد فلا نكذب بآيات ربنا فمن قرأها كذلك جاز النصب على الجواب، والرفع على الاستئناف «3» ، أي فلسنا نكذب. وفي قراءتنا بالواو. فالرفع فِي قراءتنا أجود من النصب، والنصب «4» جائز على الصرف كقولك: لا يسعنى شىء ويضيق عنك.
وقوله: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ ... (75)
و (المستضعفين) فى موضع خفض.
__________
(1) آية 111 سورة هود. والقراءة التي أوردها لمؤلف بتشديد (إن) وتخفيف ميم (لما) قراءة أبى عمرو والكسائىّ.
(2) آية 27.
(3) وهى قراءة نافع وأبى عمرو وابن كثير والكسائي.
(4) وهى قراءة حمزة، وحفص عن عاصم.(1/276)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
وقوله: الظَّالِمِ أَهْلُها خفض (الظالم) لأنه نعت للأهل، فلما أعاد الأهل على القرية كان فعل ما أضيف إليها بمنزلة فعلها كما تقول: مررت بالرجل الواسعة داره، وكما تقول: مررت برجلٍ حسنة عينه. وفي قراءة عَبْد اللَّه: «أخرجنا من القرية التي كانت ظالمة» . ومثله مما نسب الظلم إلى القرية وإنما الظلم لأهلها فِي غير موضع من التنزيل. من ذلك وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها «1» ومنه قوله:
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها «2» معناه: سل أهل القرية.
وقوله: فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ... (78)
يشدد ما كان من جمع مثل قولك: مررت بثياب مصبغةٍ وأكبشٍ مذبحةٍ.
فجاز التشديد لأن الفعل متفرق «3» فِي جمع. فإذا أفردت الواحد من ذلك فإن كان الفعل يتردد فِي الواحد ويكثر جاز فِيهِ التشديد والتخفيف مثل قولك: مررت برجل مشجج، وبثوب ممزق جاز التشديد لأن الفعل قد تردد فِيهِ وكثر.
وتقول: مررت بكبشٍ مذبوح، ولا تقل مذبح «4» لأن الذبح لا يتردد كتردد التخرق، وقوله: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ «5» يجوز فِيهِ التشديد لأن التشييد «6» بناء فهو يتطاول ويتردد. يقاس على هذا ما ورد.
__________
(1) من ذلك آية 4 سورة الأعراف.
(2) آية 82 سورة يوسف.
(3) كذا فى أ، ح. وفى ش: «مفرق» . [.....]
(4) كذا فى ا. وفى ش: «تقول» .
(5) آية 45 سورة الحج.
(6) فى ا، ح، وش: «التشديد» وهو تحريف عما أثبت.(1/277)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
وقوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ... (78)
وذلك أن اليهود لما أتاهم النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم بالمدينة قَالُوا: ما رأينا رجلا أعظم شؤما من هذا نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا. فقال اللَّه تبارك وتعالى:
إن أمطروا وأخصبوا قَالُوا «1» : هذه من عند اللَّه، وإن غلت أسعارهم قَالُوا: هذا من قبل مُحَمَّد (صلى اللَّه عليه وسلم) .
يقول اللَّه تبارك وتعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وقوله: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ (فمال) كثرت فِي الكلام، حَتَّى توهموا أن اللام متصلة ب (ما) وأنها حرف فِي بعضه. ولا تصال القراءة لا يجوز الوقف على اللام لأنها لام خافضة.
وقوله: طاعَةٌ (81) الرفع على قولك: منا طاعة، أو أمرك طاعة. وكذلك قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
«2» معناه- والله أعلم-: قولوا: سمع وطاعة. وكذلك التي فى سورة مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلم فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ «3» ليست بمرتفعة ب (لهم) . هى مرتفعة على الوجه الَّذِي ذكرت لك. وذلك أنهم أنزل عليهم الأمر بالقتال فقالوا:
سمع وطاعة، فإذا فارقوا محمّدا صلى اللَّه عليه وسلم غيروا قولهم. فقال اللَّه تبارك وتعالى فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وقد يقول بعض النحويين: وذكر فيها القتال،
__________
(1) كذا فى أ. وفى ح، ش: «فقالوا» .
(2) آية 53 سورة النور.
(3) آيتا 20، 21.(1/278)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
وذكرت «1» (طاعة) وليست فيها واو فيجوز هذا الوجه. ولو رددت الطاعة وجعلت كأنها تفسير للقتال جاز رفعها ونصبها أما النصب فعلى: ذكر فيها القتال بالطاعة أو على الطاعة. والرفع على: ذكر فيها القتال ذكر فيها طاعة.
وقوله: بَيَّتَ طائِفَةٌ القراءة أن تنصب التاء، لأنها على جهة فعل.
وفي قراءة عَبْد اللَّه: «بيت مبيت منهم» غير الَّذِي تقول. ومعناه: غيروا ما قَالُوا وخالفوا. وقد جزمها حمزة وقرأها بيت طائفة. جزمها لكثرة الحركات، فلما سكنت التاء اندغمت فِي الطاء.
وقوله: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ ... (83)
هذا نزل فِي سرايا كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يبعثها، فإذا غلبوا أو غلبوا بادر المنافقون إلى الاستخبار عن حال السرايا، ثُمَّ أفشوه قبل أن يفشيه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أو يحدّثه «2» ، فقال أَذاعُوا بِهِ يقول أفشوه. ولو لم يفعلوا حَتَّى يكون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الَّذِي يخبر به لكان خيرا لهم، أو ردوه إلى أمراء «3» السرايا. فذلك قوله وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ.
وقوله: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا قال المفسرون معناه: لعلمه الذين يستنبطونه إلا قليلا. ويقال: أذاعوا به إلا قليلا. وهو أجود الوجهين لأن علم السرايا
__________
(1) يريد فى هذا الوجه أن تكون «طاغة» عطفا على «القتال» فى قوله: «وذكر فيها القتال» وقد أفسد هذا بأنه ليس فى الآية عاطف.
(2) أي يحدّث به. يقال: حدثه الحديث وحدثه به.
(3) كذا فى أ. وفى ش، ح: «أمر» .(1/279)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
إذا ظهر علمه المستنبط وغيره، والإذاعة قد تكون في بعضهم دون بعض. فلذلك استحسنت الاستثناء من الإذاعة.
وقوله: يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها ... (85)
الكفل: الحظ. ومنه قوله: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ «1» معناه: نصيبين.
وقوله: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً المقيت: المقدر والمقتدر، كالذي يعطي كل رَجُل قوته. وجاء فِي الحديث: كفى بالمرء (إثما) «2» أن يضيع من يقيت، ويقوت «3» .
وقوله: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ... (86)
أي زيدوا عليها كقول القائل: السلام عليكم، فيقول: وعليكم ورحمة الله.
فهذه الزيادة أَوْ رُدُّوها قيل هذا للمسلمين. وأما أهل الكتاب فلا يزادون علي:
وعليكم.
وقوله: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ... (88)
إنما كانوا تكلموا فِي قوم هاجروا إلى المدينة من مكة، ثُمّ ضجروا منها واستوخموها «4» فرجعوا سرا إلى مكة. فقال بعض المسلمين: إن لقيناهم قتلناهم وسلبناهم، وقال بعض المسلمين: أتقتلون قوما على دينكم أن استوخموا المدينة فجعلهم اللَّه منافقين، فقال اللَّه فما لكم مختلفين فى المنافقين. فذلك قوله (فئتين) .
__________
(1) آية 28 سورة الحديد.
(2) ثبت فى أ، ج، وسقط فى ش.
(3) كذا فى أ، ج، وفى ش: «يقيت» بفتح الياء.
(4) كذا فى ش، ج. وفى أ: «استوخموا المدينة» .(1/280)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
ثُمَّ قال تصديقا لنفاقهم وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فنصب (فئتين) بالفعل «1» ، تقول: مالك قائما، كما قال اللَّه تبارك وتعالى فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ «2» فلا تبال أكان المنصوب معرفة أو نكرة يجوز فى الكلام أن تقول:
مالك الناظر فِي أمرنا، لأنه كالفعل الَّذِي ينصب بكان وأظن وما أشبههما.
وكل موضع صلحت فِيهِ فعل ويفعل من المنصوب جاز نصب المعرفة منه والنكرة كما تنصب كان وأظن لانهن نواقص فِي المعنى وإن ظننت أنهن تامات.
ومثل مال، ما بالك، وما شأنك. والعمل فِي هذه الأحرف بما ذكرت لك سهل كثير. ولا تقل: ما أمرك القائم، ولا ما خطبك القائم، قياسا عليهن لانهن قد كثرن، فلا يقاس الَّذِي لم يستعمل على ما قد استعمل ألا ترى أنهُمْ قَالُوا:
أيش عندك؟ ولا يجوز القياس على هذه فِي شيء من الكلام.
وقوله: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا يقول: ردهم إلى الكفر. وهي «3» فِي قراءة عَبْد اللَّه وأبي والله ركسهم.
وقوله: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ... (90)
يقول: إذا واثق القوم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا يقاتلوه ولا يعينوا عليه، فكتبوا صلحا لم يحل قتالهم ولا من أتصل بهم، فكان رأيه فِي قتال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كرأيهم فلا يحل قتاله. فذلك قوله (يصلون) معناه: يتصلون بهم.
__________
(1) يريد به متعلق الجارّ والمجرور. [.....]
(2) آية 36 سورة المعارج.
(3) يريد أن الثلاثىّ لغة فيه.(1/281)
وقوله أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، يقول: ضاقت صدورهم عن قتالكم أو قتال قومهم. فذلك معنى قوله حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أي ضاقت صدورهم.
وقد قرأ الْحَسَن «حصرة صدورهم» ، والعرب تقول: أتاني ذهب عقله، يريدون قد ذهب عقله. وسمع الكسائي بعضهم يقول: فأصبحت نظرت إلى ذات التنانير «1» . فإذا رَأَيْت فعل بعد كان ففيها قد مضمرة «2» ، ألا أن يكون مع كان جحد فلا تضمر فيها (قد مع جحد) «3» لأنها توكيد والجحد لا يؤكد ألا ترى أنك تقول:
ما ذهبت، ولا يجوز ما قد ذهبت.
وقوله: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ (91) معناه: أن يأمنوا فيكم ويأمنوا فِي قومهم. فهؤلاء بمنزلة الذين ذكرناهم فِي أن قتالهم حلال إذا لم يرجعوا.
وقوله: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ (92) مرفوع على قولك: فعليه تحرير رقبة. والمؤمنة: المصلية المدركة. فإن «4» لم يقل: رقبة مؤمنة، أجزأت الصغيرة التي لم تصل ولم تبلغ.
وقوله: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ كان الرجل يسلم فِي قومه وهم كفار فيكتم إسلامه، فمن قتل وهو غير معلوم إسلامه من هؤلاء أعتق قاتله رقبة ولم تدفع ديته إلى الكفار فيقووا بها على أهل الإسلام. وذلك إذا «5» لم
__________
(1) ذات التنانير: عقبة بحذاء زبالة.
(2) انظر ص 24 من هذا الجزء.
(3) زيادة فى ش، ج.
(4) كذا فى ش. وفى أ، ج: «فإذا» .
(5) كذا فى أ. وفى ش، ج: «أنه» .(1/282)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
يكن بين قومه وبين النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم عهد. فإن كان عهد جرى مجرى المسلم.
وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا (94) (فتثبتوا «1» - قراءة عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود وأصحابه. وكذلك التي فى الحجرات «2» . ويقرأان:
فتثبتوا) وهما متقاربتان «3» فِي المعنى. تقول للرجل: لا تعجل بإقامة حَتَّى تتبين وتتثبت.
وقوله: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ذكروا أنه رَجُل سلم على بعض سرايا المسلمين، فظنوا أنه عائذ بالإسْلام وليس بمسلم فقتل. وقرأه العامة: السلم. والسلم: الاستسلام والإعطاء بيده.
وقوله: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ (95) يرفع «4» (غير) لتكون كالنعت للقاعدين كما قال: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ وكما قال أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ «5» وقد ذكر أن (غير) نزلت بعد أن ذكر فضل المجاهد على القاعد، فكان الوجه فِيهِ الاستثناء والنصب»
. إلا أن اقتران (غير) بالقاعدين يكاد يوجب الرفع لأن الاستثناء ينبغي
__________
(1) ثبت ما بين القوسين فى أ. وسقط فى ش، ح.
(2) آية 6.
(3) كذا فى أ، ج. وفى ش: «مقاربتان» .
(4) كذا فى ش، ج. وفى أ: «ترفع» .
(5) آية 31 سورة النور.
(6) وهو قراءة نافع وابن عامر والكسائىّ.(1/283)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
أن يكون بعد التمام. فتقول «1» فِي الكلام: لا يستوي المحسنون والمسيئون إلا فلانا وفلانا. وقد يكون نصبا على أنه حال كما قال: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ «2» ولو قرئت خفضا «3» لكان وجها: تجعل «4» من صفة المؤمنين.
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ (97) إن شئت جعلت تَوَفَّاهُمُ فِي موضع نصب «5» . ولم تضمر تاء مع التاء، فيكون مثل قوله إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا «6» وإن شئت جعلتها رفعا تريد: إن الذين تتوفاهم الملائكة. وكل موضع اجتمع فِيهِ تاءان جاز فِيهِ إضمار إحداهما مثل قوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
«7» ومثل قوله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ «8» .
وقوله: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ (98) فِي موضع نصب على الاستثناء من مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ «9» .
وقوله: يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً (100) ومراغمة مصدران. فالمراغم: المضطرب والمذهب فِي الأرض.
__________
(1) كذا فى أ. وفى ش، ج: «فيقول» . [.....]
(2) آية 1 سورة المائدة.
(3) وقد قرأ بذلك الأعمش وأبو حيوة، كما فى البحر 3/ 330.
(4) كذا فى أ. وفى ش، ج: «تجعلوا» .
(5) يريد أن يكون (توفى) فى «توفاهم» فعلا ماضيا، فيكون مبنيا على الفتح، وعبر عن الفتح بالنصب.
(6) آية 70 سورة البقرة.
(7) من ذلك ما فى آية 152 سورة الأنعام.
(8) آية 57 سورة هود.
(9) أي فى الآية السابقة.(1/284)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
وقوله: فَلْتَقُمْ ... (102)
وكل لام أمر إذا استؤنفت ولم يكن قبلها واو ولا فاء ولا ثُمَّ كسرت. فإذا كان معها شيء من هذه الحروف سكنت. وقد تكسر مع الواو على الاصل.
وإنما تخفيفها مع الواو كتخفيفهم (وهو) قال ذاك، (وهي) قَالَتْ ذاك. وبنو سليم يفتحون اللام إذا استؤنفت فيقولون: ليقم زَيْدُ، ويجعلون اللام منصوبة فِي كل جهة كما نصبت تميم لام كي إذا قَالُوا: جئت لآخذ حقّى.
وقوله: طائِفَةٌ أُخْرى ولم يقل: آخرون ثُمَّ قال لَمْ يُصَلُّوا ولم يقل:
فلتصل. ولو قيل: «فلتصل» كما قيل «أخرى» لجاز ذلك. وقال فِي موضع آخر:
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «1» ولو قيل: اقتتلتا فِي الكلام كان صوابا.
وكذلك قوله هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ «2» ولم يقل: اختصما. وقال فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ «3» وفي قراءة أَبِي «عليه الضلالة» . فإذا ذكرت اسما مذكرا لجمع جاز جمع فعله وتوحيده كقول الله تعالى وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ «4» . وقوله: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ «5» وكذلك إذا كان الاسم مؤنثا وهو لجمع جعلت فعله كفعل الواحدة الأنثى مثل الطائفة والعصبة والرفقة. وإن شئت جمعته فذكرته على المعنى. كل ذلك قد أتى فِي القرآن.
__________
(1) آية 9 سورة الحجرات.
(2) آية 19 سورة الحج.
(3) آية 30 سورة الأعراف.
(4) آية 56 سورة الشعراء.
(5) آية 44 سورة القمر.(1/285)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
وقوله: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ ... (104)
قال بعض المفسرين: معنى ترجون: تخافون. ولم نجد معنى الخوف يكون رجاء إلا ومعه جحد. فإذا كان كذلك كان الخوف على جهة الرجاء والخوف، وكان الرجاء كذلك كقوله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ «1» :
هذه: للذين لا يخافون أيام اللَّه، وكذلك قوله: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً «2» :
لا نحافون لله عظمة. وهي لغة حجازية. وقال الراجز:
لا ترتجِي حِينَ تلاقي الذائدا ... أسَبْعَةً لاقَتْ معا أم واحدا «3»
وقال الهدلىّ «4» :
إِذَا لسعته النحلُ لَمْ يرجُ لَسْعها ... وخالفها فِي بيتِ نُوب عوامِلِ
ولا يَجوزُ: رجوتك وأنت تريد: خفتك، ولا خفتك وأنت تريد رجوتك.
وقوله: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
(112) يُقال: كيف قَالَ «بِهِ» وقد ذكر الخطيئة والإثم؟.
وَذَلِكَ جائز أن يُكْنَى عَن الفعلين وأحدهما مؤنث بالتذكير والتوحيد، ولو كثر لَجازَ الكناية عَنْهُ بالتوحيد لأن الأفاعيل يقع عليها فعل واحد، فلذلك جاز.
فإن شئت ضممت الخطيئة والإثم فجعلته كالواحد. وإن شئت جعلت الْهَاء للإثم
__________
(1) آية 14 سورة الجاثية. [.....]
(2) آية 13 سورة نوح.
(3) كأن هذا فى وصف إبل. والذائد وصف من ذاد الإبل إذا طردها وساقها ودفعها.
(4) هو أبو ذؤيب. فقوله: لم يرج لسعها: أي لم يخفه ولم يباله. و «خالفها» أي دخل عليها وأخد عسلها مراغما لها وهى لا تشتهى ذلك. ويروى «حالفها» أي لازمها. والنوب. النحل، و «عوامل» أي تعمل فى الأكل من الثمار والزهر. ويروى «عواسل» أي ذوات عسل.(1/286)
خاصَّة كما قَالَ وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «1» فجعله للتجارة. وَفِي قراءة عَبْد اللَّه وَإِذَا رأوا لَهْوًا أو تجارة انفَضُّوا إليها فجعله للتجارة فِي تقديمها وتأخيرها. ولو أتى بالتذكير فجعلا كالفعل الواحد لجاز. ولو ذكر عَلَى نِيَّة اللهو لجاز. وقال إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما «2» فثنى. فلو أتى فِي الخطيئة واللهو والإثم والتجارة مثنى لَجاز. وَفِي قراءة أبيّ إن يَكُن غنِيّ أو فقير فالله أولى بِهم وَفِي قراءة عبد الله إِنْ يَكُن غنيّ أو فقير فالله أولى بِهما فأما قول أبيّ (بِهم) «3» فإنه كقوله وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ «4» ذهبَ إلى الجمع، كذلك جاء فِي قراءة أبيّ، لأنه قد ذكرهم جَميعًا ثُمَّ وحّد الغنيّ والفقير وهما فِي مذهب الجمع كما تَقُولُ: أصبح الناس صائِمًا و «5» مفطرا، فأدّى اثنان عَن معنى الجمع.
وقوله: لَهَمَّتْ طائِفَةٌ ...
(113)
يريد: لقد همت طائفة فأضمرت «6» .
وقوله: أَنْ يُضِلُّوكَ
: يُخطِّئوكَ فِي حكمك.
وقوله: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ... (114)
(من) فِي موضع خفض ونصب الخفض: إلا فيمن أمر بصدقة. والنجوى هنا رجال كما قال وَإِذْ هُمْ نَجْوى «7» ومن جعل النجوى فعلا كما قال
__________
(1) آية 11 سورة الجمعة.
(2) آية 135 سورة النساء.
(3) ثبت فى ش، ج. وسقط فى أ.
(4) آية 26 سورة النجم.
(5) كذا فى ش، ج. وفى أ: «أو» .
(6) أى حذفت (قد) .
(7) آية 47 سورة الإسراء.(1/287)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ «1» ف (مَنْ) حينئذ فِي موضع رفع. وأمّا النصب فأن تَجعل النجوى فعلا. فإذا استثنيت الشيء من خلافه كَانَ الوجه النصب، كما قَالَ الشاعر «2» :
وقفتُ فيها أُصَيْلانًا أُسائلها ... عَيَّت جوابا وما بالربع مِن أحدِ «3»
إِلا الأوارِيّ لأيًا ما أُبيِّنها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد «4»
وقد يكون فِي موضع رفع وإن ردّت عَلَى خلافها كما قَالَ الشاعر «5» :
وبلد لَيْسَ بِهِ أنيسُ ... إلا اليعافِيرُ وَإِلا الْعِيسُ «6»
وقوله: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً ... (117)
يقول: اللات والعُزَّى وأشباههما من الآلهة المؤنثة. وقد قرأ ابن عباس إِن يدعون من دونه إلا أُثْنًا جمع الوثن فضم الواو فهمزها، كما قال وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ «7»
__________
(1) آية 7 سورة المجادلة.
(2) هو النابغة الذبيانىّ.
(3) هذا ثانى أبيات قصيدة مدح بها النعمان بن المنذر، واعتذر له فيها وكان واجدا عليه ومطلعها:
يا دارمية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد
وأصيلان تصغير أصيل وهو العشىّ.
(4) الأوارىّ جمع الآرى وهو محبس الدابة. والنؤى: الحفير حول الخيمة أو الخباء يمنع الماء.
والمظلومة: الأرض التي قد حفر فيها فى غير موضع الحفر. والجلد: الأرض الغليظة. [.....]
(5) هوجران العود النميرىّ. وانظر العيني على هامش الخزانة 3/ 107.
(6) اليعافير جمع اليعفور، وهو ولد الظبية. والعيس جمع أعيس وعيساء وهما وصفان من العيسة، بكسر العين. وهو بياض يخالطه شقرة. أراد بها بقر الوحش.
(7) آية 11 سورة المرسلات.(1/288)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
وقد قرئت إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أُنُثا جمع الإناث، فيكون مثل جَمع الثمار والثمر كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ «1» .
وقوله: نَصِيباً مَفْرُوضاً ... (118)
جعل الله لَهُ عَلَيْهِ السبيل فهو كالمفروض.
وقوله: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ ... (119)
وَفِي قراءة أُبَيّ «وأُضلهم وأُمَنِّيهم» .
وقوله: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا ... (125)
يقول القائل: ما هَذِه الخُلَّة؟ فذُكِر أنَّ إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان يضيف الضيفان ويُطعم الطعام، فأصابَ الناس سنة جدب فعزَّ الطعام. فبعث إبراهيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى خليل لَهُ بِمصر كانت الميرة من عنده، فبعث غلمانه معهم الغرائر والابل ليميره، فردّهم وقال: إِبْرَاهِيم لا يريد هَذَا لنفسه، إنما يريده لغيره. قَالَ:
فرجع غلمانه «2» ، فمرّوا ببطحاء «3» لينة. فاحتملوا من رملها فملئوا الغرائر استحياء من أن يردّوها فارغة، فرُدّوا عَلَى إِبْرَاهِيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبروه الخبر وامرأته نائمة، فوقع عَلَيْهِ «4» النوم هَمّا، وانتبهت والناس عَلَى الباب يلتمسون الطعام «5» . فقالت للخبّازين: افتحوا هذه الغرائر واعتجنوا، ففتحوها فإذا أطيب طعام، فعجنوا واختبزوا. وانتبه
__________
(1) آية 141 سورة الأنعام. والقراءة التي ذكرها قراءة حمزة والكسائي وخلف. ووافقهم الأعمش. والباقون يفتحون الثاء والميم. وانظر إتحاف فضلاء البشر 214
(2) كذا فى ج. وفى ش: «غلامه» .
(3) البطحاء: مسيل واسع فيه دقاق الحصى.
(4) كذا فى ج. وفى ش: «قائمة» .
(5) هو هنا القمح.(1/289)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
إِبْرَاهِيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجد ريح الطعام، فقال: من أين هَذَا؟ فقالت امرأة إِبْرَاهِيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا من عند خليلك الْمصْرِيّ. قَالَ فقال إِبْرَاهِيم:
هَذَا من عند خليلي الله لا من عند خليلي الْمصْرِيّ. قَالَ: فذلك خُلّته.
وقوله: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى ... (127)
(معناهُ: «1» قل الله يفتيكم فيهنَّ وما يُتلى) . فموضع (ما) رفع كأنه «2» قَالَ: يفتيكم فيهنّ ما يتلى عليكم. وإن شئت جعلت ما فِي موضع خفض «3» : يفتيكم الله فيهنّ وما يتلى عليكم غيرهنّ.
وقوله: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ فِي موضع خفض، عَلَى قوله «4» : يفتيكم فيهنّ وفى المستضعفين. وقوله: وَأَنْ تَقُومُوا (أن) موضع خفض عَلَى قوله: ويفتيكم فِي أن تقوموا لليتامى بالقسط.
وقوله: خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً ... (128)
والنشوز يكون من قِبَل المرأة والرجل. والنشوز هاهنا من الرجل «5» لامن المرأة.
ونشوزه أن تكون تَحته المرأة الكبيرة فيريد أن يتزوج عليها شَابَّةً فيؤثرها فِي القسمة والجماع. فينبغي لَهُ أن يقول للكبيرة: إني أريد أن أتزوج عليك شابَّة وأوثرها عليك، فإن هي رضيت صلح ذَلِكَ لَهُ، وإن لَمْ ترض فلها من القسمة ما للشابّة.
__________
(1) ثبت ما بين القوسين فى ج، وسقط فى ش.
(2) يريد أنه معطوف على فاعل «يفتيكم» وهو يعود على لفظ الجلالة. وسوّغ ذلك الفصل بقوله: «فيهنّ» .
(3) وهذا لا يجيزه البصريون لأنهم يوجبون فى العطف على الضمير المخفوض إعادة الخافض.
(4) يريد أنه معطوف على الضمير فى «فيهنّ» .
(5) كذا فى ج، وفى ش: «الرجال» .(1/290)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
وقوله: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ إنَّما عني بِهِ الرجل وامرأته الكبيرة.
ضنّ الرجل بنصيبه من الشابة، وضنّت الكبيرة بنصيبها منه «1» . ثُمَّ قَالَ: وإن رضيت بالإمرة «2» .
وقوله: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ ... (129)
إلى الشابة، فتهجروا الكبيرة كل الهجر فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وهي فِي قراءة أُبَيّ (كالمسجونة) .
وقوله: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ ... (135)
هَذَا فِي إقامة الشهادة عَلَى أنفسهم وَعَلَى الوالدين والاقربين. ولا تنظروا فِي غِنى الغَنِيّ ولا فقر الفقير فإن الله أولى بذلك.
فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى [أَنْ تَعْدِلُوا] فرارًا «3» من إقامة الشهادة. وقد يُقال:
لا تتبعوا الهوى لتعدلوا كما تَقُولُ: لا تتبِعنّ هواك لتُرضِي ربك، أي إني أنْهَاكَ عَن هَذَا كيما ترضِي ربك. وقوله وَإِنْ تَلْوُوا وَتَلُوا، قد قرئتا جَميعًا «4» . ونرى الَّذِينَ قالوا (تلوا) أرادوا (تلؤوا) فيهمزونَ الواو لانضمامها، ثُمَّ يتركون الْهَمْز فيتحوّل إعراب «5» الْهَمْز إلى اللام فتسقط الْهَمْزَةُ. إلا أن يكون المعنى فيها: وإن تلوا ذَلِكَ، يريد: تتولّوه أَوْ تُعْرِضُوا عنه: أو تتركوه، فهو وجه.
__________
(1) فى ش، ج: «منها» وهو غير مناسب للمقام. [.....]
(2) الإمرة: الإمارة والولاية. أي رضيت بسلطان الزوج عليها إذا أعطى نصيبها ضرتها.
والأقرب أن يكون هذا محرّفا عن: «بالأثرة» أي إيثار الزوج عليها ضرتها. وقوله: «وإن رضيت» شرط جوابه «فلا تميلوا» .
(3) هذا على أن (أن) فى (أن تعدلوا) فى معنى لئلا كما هو عند الكوفيين، أو على تقدير خشية، كما هو عند غيرهم. وأما المعنى الثاني فعلى تقدير لام الجر داخلة على (أن تعدلوا) .
(4) فالثانية قراءة ابن عامر وحمزة، ووافقهما الأعمش. والأولى قراءة الباقين.
(5) يريد حركتها، وهى الضمّ.(1/291)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ... (137)
وهم الذين آمنوا بموسى ثم كفرا من بعده بعزيز، ثم آمنوا بعزيز وكفروا بعيسى «1» . وآمنت اليهود بِموسى وكفرت بعيسى.
ثم قال: [ثُمَ] ازْدادُوا كُفْراً يعني اليهود: ازدادوا كفرًا بكفرهم بِمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ ... (141)
جَزْم. ولو نصبت «2» عَلَى تأويل الصرف كقولك فِي الكلام: ألم نستحوذ عليكم وقد منعناكم، فيكون مثل قوله وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ «3» وهي فِي قراءة أبي ومنعناكم من الْمُؤْمِنِين فإن شئت جعلت «ومنعناكم» فِي تأويل «وقد كنا منعناكم» وإن شئت جعلته مردودًا عَلَى تأويل الم كأنه قَالَ: أمَّا «4» استحوذنا عليكم ومنعناكم. وَفِي قراءة أُبيّ أَلَمْ تُنْهَيَا عَنِ تِلْكُمَا الشّجَرَةِ وَقِيلَ لَكُمَا «5» .
وقوله: فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ (145) يُقال الدرك «6» ، والدرَك، أي أسفل دَرَج فِي النار.
__________
(1) كذا فى ج. وفى ش: «بموسى» .
(2) أي «نمنعكم» وبه قرأ ابن أبى عبلة. كما فى البحر 3/ 375.
(3) آية 142 سورة آل عمران.
(4) سقط فى ش، وثبت فى ج.
(5) فى آية 22 سورة الأعراف.
(6) وهى قراءة عاصم وحمزة والكسائىّ وخلف. وفتح الراء قراءة الباقين.(1/292)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
وقوله: فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ... (146)
جاء فِي التفسير: من الْمُؤْمِنِين.
وقوله: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ... (148)
وَظَلَمَ «1» . وقد يكون مِنَ فِي الوجهين نصبًا عَلَى الاستثناء عَلَى الانقطاع من الأوّل. وإن شئت جعلت مِنَ رفعًا إِذَا قلت ظُلِمَ فيكون «2» المعنى:
لا يُحبُّ الله أن يجهر بالسوء من القول إلا المظلوم. وهو الضيف إِذَا أراد النزول عَلَى رجل فمنعه فقد ظلمه، ورخّص لَهُ أن يذكره بما فعل لأنه منعه حقَّه.
ويكون لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ كلامًا تامًّا، ثُمَّ يقول: إلا الظالِم فدعوه، فيكون مثل قول الله تبارك وتعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا «3» فإن الظالِمَ لا حُجَّةَ لَهُ، وكأنّه قَالَ إلا من ظلم فخلّوه. وهو مثل قوله فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ «4» ثُمَّ استثنى فقال إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ «5» فالاستثناء من قوله إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ وليست فِيهِ أسماء. وليس الاستثناء «6» من قوله لَسْتَ عَلَيْهِمْ
__________
(1) وهى قراءة زيد بن أسلم وابن أبى إسحاق وابن جبير وعطاء بن السائب.
(2) فيكون «من ظلم» على هذا مرفوعا بالجهر. وفى البحر 3/ 382: «وحسن ذلك كون الجهر فى حيز النفى، وكأنه قيل: لا يجهر بالسوء من القول إلا المظلوم» وردّ الطبرىّ هذا الوجه بأن الجهر لم يتوجه عليه النفى، ولم يكتف بوقوعه فى حيز النفى.
(3) آية 150 سورة البقرة.
(4) آية 21 سورة الغاشية. [.....]
(5) آية 23 سورة الغاشية.
(6) كذا فى ش. وفى ج: «استثناء» وكأنه لا يرى هذا الاستثناء لأن الرسول عليه الصلاة والسلام مسيطر فى دعوته على الجميع. ويرى بعضهم هذا الاستثناء، ويجعل هذا آية موادعة نسخت بآية السيف. وانظر البحر 8/ 465.(1/293)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
بِمُصَيْطِرٍ ومثله مِمّا يَجوز أن يستثنى (الاسماء «1» لَيْسَ قبلها) شيء ظاهر قولك:
إني لاكره الخصومة والمِرَاء، اللَّهُمَّ إِلا رَجلا يريد بذلك الله. فجازَ استثناء الرجل ولم يذكر قبله شيء من الاسماء لأن الخصومة والمِرَاء لا يكونان إلا بين الآدميّين.
وقوله: قُلُوبُنا غُلْفٌ (155) أي «2» أوعية للعلم تعلمه «3» وتعقله، فما لنا لا نفهمُ ما يأتي بِهِ (مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ اللَّه تبارك وتعالى بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا.
وقوله: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ ... (157)
الْهَاء هاهنا لعيسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً الْهَاء هاهنا للعلم، كما تَقُولُ قتلته علمًا، وقتلته يقينًا، للرأي والحديث والظنّ.
وقوله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ... (159)
معناهُ: من ليؤمنَّن بِهِ قبل موته. فجاء التفسير بوجهين أحدهما أن تكون الْهَاء فِي موته لعيسى، يقول: يؤمنونَ إِذَا أنزل «4» قبل موته، وتكون الملّة والدين واحدا.
__________
(1) سقط ما بين القوسين فى ج.
(2) جعل «غلف» جمع غلاف. وأصله غلف بضم للام فسكن للتخفيف. ويجعله بعضهم جمع أغلف، وهو المغطى خلقة، ويكون هذا كقوله تعالى: «وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ» .
(3) كذا فى ش. وفى ج: «تفهمه» .
(4) كذا فى ش. وفى ج: «نزل» .(1/294)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
ويُقال: يؤمن كل يهوديّ بعيسى عند موته «1» . وتَحقيق ذَلِكَ فِي قراءة أبي إِلا ليؤمنُنَّ بِهِ قبل موتهم.
وقوله: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ ... (163)
كما أوحينا إلى كلهم.
وقوله: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ ... (164)
نصبه من جهتين. يكون من قولك: كما أوحينا إلى رسل من قبلك، فإذا ألقيت (إلى) والإرسال «2» اتصلت بالفعل فكانت نصبًا كقوله يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً «3» ويكون نصبا من (قصصناهم) .
ولو كَانَ رفعًا كَانَ صوابًا بِمَا عاد من ذكرهم. وَفِي قراءة أُبي بالرفع وَرُسُلٌ قَدْ قَصَصْنَاهم عليك من قَبْل ورسلٌ لَمْ نقصصهم عليك.
وقوله: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ ... (170)
(خيرا) منصوب باتصاله «4» بالأمر لأنه من صفة الأمر وقد يستدل عَلَى ذَلِكَ ألم تر «5» الكناية عَن الأمر تصلح قبل الخير، فتقول للرجل: اتق الله هو خير لك أي
__________
(1) هذا هو الوجه الآخر. والهاء فى (موته) على هذا ترجع إلى «من ليؤمن» .
(2) كذا، يريد المرسلين وهو «رسل» مجرور إلى: يريد حذف الجارّ والمجرور. وقد يكون الأصل: «الرسل» .
(3) آية 31 سورة الإنسان. وهو يريد فى الآية أن الأصل:
(أعد للظالمين) فألقيت اللام فانتصب المجرور بها. وهذا أحد الوجوه فى الآية. وقدر بعضهم:
«وعذب الظالمين» فيكون من باب الاشتغال.
(4) كأنه يريد أنه نائب عن المصدر فنصب نصب المصدر لكونه إياه. وحاصل ذلك أنه مفعول مطلق. وعلل ذلك بأن الأصل: هو (أي الإيمان مثلا) خير، فانعقد من هذا اتحاد بين الإيمان وخير فلما حذف ضمير الإيمان وبقي خير الذي هو مرادف (إيمان) فكأنه قيل: آمنوا إيمانا. فانتصب خير كما ينتصب إيمان. ويذكر الناقلون مذهب الفراء أنه يقدر «آمنوا إيمانا خيرا» وهو يرجع إلى ما قلنا.
(5) فى ش، ج: «ترى» وهذا خطأ، أو أن الأصل «ألا ترى» .(1/295)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
الاتقاء خيرٌ لك، فإذا سقطت (هُوَ) اتصل بما قبله وهو معرفة فنصب، وليس نصبه عَلَى إضمار (يكن) لأن ذَلِكَ يأتي بقياس يبطل هَذَا ألا ترى أنك تَقُولُ:
اتق الله تكن محسنًا، ولا يَجوز أن تَقُولُ: اتق الله محسنًا وأنت تُضمر (تكن) ولا يصلح أن تَقُولُ: انصرنا أخانا (وأنت «1» تريد تكن أخانا) .
وقوله: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ ... (171)
أي تقولوا: هم ثلاثة كقوله تعالى سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ فكل ما رأيته بعد القول مرفوعًا ولا رافع معه ففيه إضمار اسم رافع لذلك الاسم.
وقوله: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ يصلح فى (أن) مِنْ وعن، فإذا ألقيتا كانت (أن) فِي موضع نصب. وَكَانَ الْكِسَائي يقول: هي فِي موضع خفض، فِي كَثِير من أشباهها.
وقوله: وَلا يَجِدُونَ ... (173)
ردّت عَلَى ما بعد الفاء فرفعت، ولو جزمت «2» عَلَى أن تردّ عَلَى موضع الفاء كَانَ صوابًا، كما قَالَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ «3» .
وقوله: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ... (176)
(هلك) فِي موضع جزم. وكذلك قوله وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ «4» لو كَانَ مكانهما يفعل كانتا جزمًا كما قال الكميت:
__________
(1) ثبت ما بين القوسين فى ج، وسقط فى ش.
(2) كأنه يريد أنّ هذه الجملة معطوفة على قوله فى الآية 172 «ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا» وما بين ذلك اعتراض، وإلا فلا يظهر وجه لما قال، فإن التلاوة هكذا:
«وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا» .
(3) آية 186 سورة الأعراف. [.....]
(4) آية 6 سورة التوبة.(1/296)
فإن أنت تفعل فللفاعلين ... أنت المجيزين تلك الغمارا «1»
وأنشد بعضهم:
صعدة نابتة فِي حائرٍ ... أَيْنَما الريحُ تُمَيِّلْها تَمِلْ «2»
إلا أن العرب تَختار إِذَا أتى الفعل بعد الاسم فِي الجزاء أن يَجعلوه «3» (فعل) لأن الجزم لا يتبين فِي فَعَل، ويكرهون أن يعترض شيء بين الجازم وما جزم. وقوله يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا معناهُ: أَلا تضلوا «4» . ولذلك صلحت لا فِي موضع أن. هَذِه محنة «5» ل (أن) إِذَا صلحت فِي موضعها لئلا وكيلا صلحت لا.
__________
(1) هذا من قصيدة يمدح فيها أبان بن الوليد بن عبد الملك. وانظر بعضها فى الخزانة 1/ 82 «والمجيزين» وصف «الفاعلين» والغمار جمع الغمار، وهو الماء الكثير يغمر من دخله ويغطيه.
(2) هذا من قصيدة لكعب بن جعيل. والصعدة: القناة التي تنبت مستوية فلا تحتاج إلى تثقيف، شبه بها المرأة. ووصف القناة أنها نبتت فى حائر وهو المكان المطمئن يتحير فيه الماء. وانظر الخزانة 1/ 457.
(3) ومن مجىء فعل الشرط المفصول باسم من أداة الشرط فعلا مضارعا شذوذا أو ضرورة قول عبد الله بن عنمة الضبىّ من أبيات:
يثنى عليك وأنت أهل ثنائه ... ولديك إن هو يستزدك مزيد
وحق فعل الشرط فى ذلك أن يكون ماضيا. كما أن حق أداة الشرط فيه أن تكون (إن) دون غيرها.
(4) قال الكسائي: المعنى يبين الله لكم لئلا تضلوا- ويردّ البصريون ذلك لأنهم لا يجيزون إضمار (لا) والمعنى عندهم: يبين الله لكم كراهة أن تضلوا، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وكذا فى الكشاف والبيضاوي. ورجح بأن حذف المضاف أسوغ وأشيع من حذف لا- وقال الطبري: وأن تضلوا فى موضع خفض عند بعضهم بمعنى يبين الله لكم بأن لا تضلوا، وأسقطت لا من اللفظ وهى مطلوبة فى المعنى لدلالة الكلام عليها والعرب تفعل ذلك، تقول: جئنك أن تلومنى بمعنى جئتك أن لا تلومنى، كما قال القطامي فى صفة ناقة:
رأينا ما يرى البضراء فيها ... فآلينا عليها أن تباعا
بمعنى الاتباع.
(5) المحنة: اسم بمعنى الامتحان والاختبار. أي يتعرف بهذا حال أن ومعناها.(1/297)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
من سورة المائدة
ومن قوله تبارك وتعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ... (1)
يعني: بالعهود. [والعقود] «1» والعهود واحد.
وقوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ وهي بقر الوحش والظباء والْحُمُر الوحشيَّة.
وقوله: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي موضع نصب بالاستثناء، ويَجوز الرفع، كما يَجوز: قام القوم إِلا زيدًا وَإِلا زيد. والمعنى فِيهِ: إِلا ما نبينه لكم من تَحريمِ ما يَحْرُم وأنتم مُحرمون، أو فِي الحرم. فذلك قوله غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ يقول: أحلّت لكم هَذِه غير مستحلّين للصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ. ومثله إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ «2» وهو «3» بمنزلة قولك (فِي قولك) «4» أحلّ لك هَذَا الشيء لا مفرطًا فِيهِ ولا متعدّيًا.
فإذا جعلت (غير) مكان (لا) صار النصبُ الَّذِي بعد لا فِي غير. ولو كَانَ (محلِّين الصيد) نصبت كما قَالَ الله جل وعز وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ وَفِي قراءة عبد الله (ولا آمِّي البيتِ الحرام) .
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ: يقضى ما يشاء.
وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ ... (2)
كانت عَامَّةُ العرب لا يرونَ الصفا والمروة من الشعائر «5» ، ولا يطوفونَ بينهما، فأنزلَ الله تبارك وتعالى: لا تستحلّوا ترك ذلك.
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق خلت منها ش، ج.
(2) آية 53 سورة الأحزاب.
(3) كذا فى ش بحرف العطف. وفى ج: «هو» دون حرف العطف.
(4) كذا. والأسوغ حذف ما بين القوسين.
(5) كذا فى ش. وفى ج «شعائر» .(1/298)
وقوله: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ: ولا القتال فِي الشهر الحرام.
وَلَا الْهَدْيَ وهو هَدْيُ المشركين: أن تعرضوا لَهُ ولا أن تخيفوا من قلّد بعيره. وكانت العرب إِذَا أرادت أن تُسافرَ فِي غير أشهر «1» الحُرُم قلّد أحدُهم بعيره، فيأمن بذلك، فقال: لا تخيفوا من قلّد. وَكَانَ أهلُ مكة يقلِّدونَ بلِحَاء «2» الشجر، وسائر العرب يقلدون بالوَبَر والشعر.
وقوله: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ يقول: ولا تَمْنَعُوا مَنْ أَمّ البيت الحرام أو أراده من المشركين. ثُمَّ نَسَخَتْ هَذِه «3» الآية التي فِي التوبة فَاقْتُلُوا «4» الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ إلى آخر الآية.
وقوله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ قرأها يَحْيَى بن وثَّاب والاعمش: ولا يُجْرِمنَّكم، من أجرمت، وكلام «5» العرب وقراءة القراء يَجْرِمَنَّكُمْ بفتح الياء. جاء التفسير: ولا يحملنَّكم بغض قوم. قَالَ الفراء: وسمعتُ العرب تَقُولُ:
فُلان جَرِيمة أهله، يريدونَ: كاسب لأهله، وخرج يجرمهم: يكسب لَهُم. والمعنى فيها متقارب: لا يكسبنَّكم بغضُ قوم أن تفعلوا شرًّا. ف (أن) فى موضع تصب.
فإذا جعلت «6» فِي (أن) (عَلَى) ذهبتَ إلى معنى: لا يحملنَّكم بغضهم عَلَى كذا وكذا، عَلَى أن لا تعدلوا، فيصلح طرح (عَلَى) كما تَقُولُ: حملتني أن أسألَ وَعَلَى أن أسأل.
__________
(1) كذا. والكوفيون يجيزون إضافة الموصوف للوصف.
(2) لحاء الشجر: قشره.
(3) كذا فى ج. وفى ش: «هى» . [.....]
(4) آية 5.
(5) فى اللسان (جرم) : «وقال أبو إسحق: يقال: أجرمنى كذا وجرمنى. وجرمت وأجرمت بمعنى واحد. وقيل فى قوله تعالى: (لا يَجْرِمَنَّكُمْ) : لا يدخلنكم فى الجرم كما يقال: آثمته أي أدخلته فى الإثم» وأبو إسحق هو الزجاج، وهو بصرى. فقول القرطبي: «ولا يعرف البصريون الضم» موضع نظر.
(6) أي إذا قدّرت حرف الجرّ المحذوف الداخل على (أن) هو (على) .(1/299)
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ وقد ثقّل «1» الشنآن بعضهم «2» ، وأكثر القُراء عَلَى تَخفيفه «3» .
وقد رُوي تَخفيفه وتثقيله عَن الاعمش وهو: لا يحملنكم بغض قومٍ، فالوجه إِذَا كَانَ مصدرًا أن يثقل، وَإِذَا أردت بِهِ بغيض قوم قلت: شنآن.
وأَنْ صَدُّوكُمْ فِي موضع نصب لصلاح «4» الخافض فيها. ولو كسرت «5» عَلَى معنى الجزاء لكان صوابًا. وَفِي حرف عبد الله إِنْ يَصدُّوكم فإن كسرت جعلت الفعل مستقبلا، وإن فتحت جعلته ماضيًا. وإن جعلته جزاء بالكسر صلح ذَلِكَ كقوله»
أَفَنَضْرِبُ «7» عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ وَإِن، تفتح وتكسر. وكذلك أَوْلِياءَ «8» إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ تكسر. ولو فتحت لكان صوابًا، وقوله باخِعٌ «9» نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [فِيهِ] «10» الفتح والكسر. وأما قوله بَلِ «11» اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ ف (أَنْ) مفتوحة لأن معناها ماضٍ كأنك قلت:
منّ عليكم أن هداكم. فلو نويت الاستقبال جاز الكسرُ فيها. والفتح الوجه «12» لمضي أوّل الفعلين. فإذا قلت: أكرمتك أن أتيتني، لَمْ يَجز كسر أن لأنّ الفعل ماضٍ.
وقوله: وَتَعاوَنُوا هُوَ فِي موضع جزم. لأنها أمر، وليست بمعطوفة على تَعْتَدُوا.
__________
(1) كذا فى ج. وفى ش: «تقول» وهو تحريف. وتثقيل الشنآن تحريك نونه بالفتح، وتخفيفه: تسكينها.
(2) من هؤلاء أبو عمرو والكسائىّ وابن كثير وحمزة وحفص.
(3) وهى قراءة ابن عامر وأبى بكر.
(4) كذا فى ج. وفى ش: «لصالح» .
(5) وهى قراءة ابن كثير وأبى عمرو.
(6) كذا فى ج. وفى ش: «قوله» .
(7) آية 6 سورة الزخرف. والكسر قراءة نافع وحمزة والكسائىّ وأبى جعفر وخلف. ووافقهم الحسن والأعمش. والباقون بالفتح، كما فى الإتحاف.
(8) آية 23 سورة التوبة.
(9) آية 3 سورة الشعراء.
(10) زيادة يقتضيها المقام.
(11) آية 17 سورة الحجرات. [.....]
(12) فى ش، ج: «والوجه» .(1/300)
وقوله: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ... (3)
ما فِي موضع رفع بِما لَمْ يسم فاعله.
وَالْمُنْخَنِقَةُ: ما اختنقت فماتت ولم تدرك.
وَالْمَوْقُوذَةُ: المضروبة حتى تموت ولم تذكّ.
وَالْمُتَرَدِّيَةُ: ما تردّى من فوق جبل أو بئر «1» ، فلم تدرك ذكاته.
وَالنَّطِيحَةُ: ما نُطِحت حَتَّى تَموت. كل ذَلِكَ محرّم إِذَا لَمْ تُدرك ذكاته.
وقوله: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ نصب ورفع.
وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ: ذبح للأوثان. و (ما ذبح) فِي موضع رفع «2» لا غير.
وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا رفع بِما لَمْ يسم فاعله. والاستقسام: أنّ سهامًا كانت تكون فِي الكعبة، فِي بعضها: أمرني ربي، (وَفِي موضعها: نهاني ربي «3» ) فكان أحدهم إِذَا أراد سفرًا أخرج سهمين فأجالهما، فإن خرج الَّذِي فِيهِ (أمرني ربي) خرج. وإن خرج الَّذِي فِيهِ (نهاني ربي) قعد وأمسكَ عَن الخروج.
قَالَ الله تبارك وتعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ والكلام منقطع عند الفسق، والْيَوْمَ منصوب ب (يئس) لا بالفسق.
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ نصب (اليوم) ب (أُحِلّ) .
وقوله: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ مثل قوله غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ يقول: غير معتمد لاثم. نصبت (غير) لأنها حال ل (مَنْ) ، وهي خارجة من الاسم الذي فى (اضطرّ) .
__________
(1) كذا فى ش، ج. والمناسب: «فى بئر» .
(2) أي بالعطف على «الميتة» .
(3) سقط ما بين القوسين فى ج. وقوله: «فى موضعها» كذا. والمناسب: فى بعضها.(1/301)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
وقوله: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ ... (4)
يعنى الكلاب. ومُكَلِّبِينَ نصب عَلَى الحال خارجة من (لكم) ، يعني بِمكلِّبين:
الرجال أصحاب الكلاب، يُقال للواحد: مكلِّب وكلّاب. وموضع (ما) رفع.
وقوله: (تعلّمونهنّ) : تؤدبونهنّ أَلا يأكلن صيدهنّ.
ثُمَّ قَالَ تبارك وتعالى فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ مِمَّا لَمْ يأكلن منه، فإن أكلَ فليس بِحلال لأنه إِنَّما أمسكَ عَلَى نفسه.
وقوله: وَأَرْجُلَكُمْ ... (6)
مردودة عَلَى الوجوه «1» . قَالَ الْفَرَّاءُ: وَحَدَّثَنِي قَيْسُ «2» بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ عَاصِمٍ «3» عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ (وَأَرْجُلَكُمْ) مُقَدِّمٌ «4» وُمُؤَخِّرٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ «5» بْنُ أبان القريشي عَنْ أَبِي «6» إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَ «7» الْكِتَابُ بِالْمَسْحِ، وَالسُنَّةُ الْغَسْلُ. قَالَ الفراء: وَحَدَّثَنِي أَبُو شِهَاب «8» عَن رجل عن
__________
(1) فى ش، ج «الوجه» . يريد أنها معطوفة على «وجوهكم» .
(2، 3) قيس بن الربيع الأسدى الكوفىّ. مات سنة 165. وعاصم هو ابن بهدلة الكوفىّ أحد القراء السبعة. مات سنة 129. وزرّهو ابن حبيش. وهو كوفىّ أيضا. مات سنة 82 هـ. وانظر الخلاصة.
(4) يريد عطف «أرجلكم» على «وجوهكم» وفيه تقديم «وامسحوا برءوسكم» وتأخير «أرجلكم» وهو ذكر للوجه السابق.
(5) مات سنة 139
(6) هو عمرو بن عبد الله السبيعىّ. مات سنة 127
(7) أي على قراءة «أرجلكم» بالخفض. وهى قراءة ابن كثير وحمزة وأبى عمرو.
(8) أبو شهاب: هو عبد ربه بن نافع الكنانىّ الحناط الكوفي نزيل المدائن. روى عن الأعمش وغيره وكان ثقة. توفى سنة 171 وهو أبو شهاب الأصغر. وأبو شهاب الأكبر هو موسى بن نافع الأسدى الحناط روى عن سعيد بن جبير وعطاء وغيرهما وثقه أبو نعيم، وقال أحمد: إنه منكر الحديث. توفى حوالى سنة 150 (خلاصة تذهيب الكمال) .(1/302)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
الشعبيّ قَالَ: نزل جبريل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمسح عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهما وَعَلَى جَميع الأنبياء. قَالَ الفراء: السنة الغسل.
وقوله: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ كناية عَن خلوة الرجل إِذَا أراد الحاجة.
وقوله: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ... (8)
لو لم تكن (هو) فى الكلام كانت (أقرب) نصبًا. يكنى عَن الفعل فِي هَذَا الموضع بِهو وبذلك تصلحان جَميعًا. قَالَ فِي موضع آخر إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ «1» وفى الصفّ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ «2» فلو لم تكن (هو) ولا (ذلك) فِي الكلام كانت نصبًا كقوله انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ «3» .
وقوله: يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ... (19)
معناهُ: كي لا تقولوا: مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ مثل ما قَالَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «4» .
وقوله: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ ... (20)
يعني السبعين الَّذِينَ اختارهم موسى ليذهبوا معه إلى الجبل، سمَّاهم أنبياء لِهذا.
وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً يقول: أحدكم فِي بيته مِلك، لا يُدخَل عَلَيْهِ إلا بإذن.
وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ظَلَّلَكُمْ بالغَمامِ الابيض، وأنزلَ عليكم المنّ وَالسَّلْوَى.
__________
(1) آية 12 سورة المجادلة.
(2) آية 11
(3) آية 171 سورة النساء. [.....]
(4) آية 176 سورة النساء.(1/303)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
وقوله: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ... (21)
ذُكِرَ أَنَّ الأرض المقدسة دِمَشْق وفِلسطون «1» وبعض الأرْدُنّ (مشددة النون) .
وقوله: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا ... (24)
فقال (أَنْتَ) ولو ألقيت (أنت) فقيل: اذهب وربك فقاتلا كَانَ صوابًا لأنه فِي إحدى القراءتين إنه يراكم وقبِيلُه بغير (هُوَ) وهي بهو «2» وفَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ أكثر فِي كلام العرب. وذلك أن المردود عَلَى الاسم المرفوع إِذَا أُضْمِرَ يكره لأن المرفوع خفيّ فِي الفعل، وليس كالمنصوب لأن المنصوب يظهر فتقول ضربته وضربتك، وتقول فِي المرفوع: قام وقاما، فلا ترى اسمًا «3» منفصلا فِي الاصل من الفعل، فلذلك أُوثِرَ إظهاره، وقد قال الله تبارك وتعالى أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا «4» ولم يقل (نحن) وكلّ صواب.
وَإِذَا فرقت بين الاسم المعطوف بشيء قد وقع عَلَيْهِ الفعل حسن بعضَ الْحَسَن.
من ذَلِكَ قولك: ضربتُ زيدًا وأنت. ولو لَمْ يكن زيد لقلت: قمت أنا وأنت، وقمت وأنت قليل. ولو كانت (إنا هاهنا قاعدين) «5» كان صوابا.
__________
(1) تراه عامله فى الإعراب كجمع المذكر السالم. وهو أحد الوجهين فيه. والوجه الآخر أن يلزم الياء والنون كغسلين.
(2) كذا فى ج. وفى ش: «هو» . يريد أن قراءة الآية السابقة (إنه يراكم هو وقبيله) أكثر لما فيها من الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه الذي هو ضمير الرفع، وكذلك الفصل فى الآية بعده.
(3) سقط فى ش.
(4) آية 67 سورة النمل.
(5) ذلك أن يكون الظرف (هاهنا) خبر إن و (قاعدين) حال من الضمير المستتر فى متعلق الخبر أو من اسم إن وهو ضمير المتكلمين.(1/304)
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
وقوله: أَرْبَعِينَ سَنَةً ... (26)
منصوبة بالتحريم «1» . ولو قطعت الكلام فنصبتها بقوله (يتيهون) كَانَ صوابًا.
ومثله فِي الكلام أن تَقُولُ: لاعطينَّك ثوبًا ترضى، تنصب الثوب بالإعطاء، ولو نصبته بالرضا تقطعه من الكلام من (لاعطينك) كَانَ صوابًا.
وقوله: فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ... (27)
ولم يقل: قَالَ الَّذِي لَمْ يتقبل منه (لأقتلنّك) لأن المعنى يدلّ عَلَى أن الَّذِي لَمْ يتقبّل منه هُوَ القائِل لحسده لاخيه: لاقتلنك. ومثله فِي الكلام أن تَقُولُ: إِذَا اجتمعَ السفيه والحليم حُمِد، تنوي بالحمد الحليم، وَإِذَا رأيت الظالِم والمظلوم أعَنْتَ، وأنت تنوي: أعنت المظلوم، للمعنى الَّذِي لا يُشْكِلُ. ولو قلت: مرّبى رجلٌ وامرأة فأعَنْتُ، وأنت تريد أحدهما لَمْ يَجز حَتَّى يبيّن لانهما لَيْسَ فيهما علامة تستدل بِهَا عَلَى موضع المعونة، إلا أن تريد: فأعنتهما جَميعًا.
وقوله: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ... (30)
يريد: فتابعته.
وقوله: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ... (32)
جواب لقتل ابن آدم صاحبه.
وقوله: وَمَنْ أَحْياها يقول: عفا عنها، والإحياء هاهنا العفو.
__________
(1) قال العكبري (أربعين سنة) ظرف لمحرمة، فالتحريم على هذا مقدّر، وجملة (يتيهون فى الأرض) حال من الضمير المجرور- وقيل هى ظرف ل «يتيهون» فالتحريم على هذا غير مؤقت.(1/305)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
وقوله: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ ... (33)
(أن) فِي موضع رفع.
فإذا أصابَ الرجل الدم والمال وأخاف السبيل صلب، وَإِذَا أصابَ القتل ولم يصب المال قتِل، وَإِذَا أصابَ المال ولم يصب القتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى «من خلاف» ويصلح مكان (من) عَلَى، والباء، واللام.
ونفيه أن يُقال: من قتله فدمه هدر «1» . فهذا النفي.
وقوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ... (38)
مرفوعان بِما عاد من ذكرهما. والنصبُ فيهما جائز كما يَجوز أزيد ضربته، وأزيدًا ضربته. وإنما تختار العرب الرفع فى «السارق والسارقة» لأنهما [غير] «2» موَقَّتين، فوجِّها توجيه الجزاء كقولك: مَنْ سرق فاقطعوا يده، ف (من) لا يكون إلا رفعًا، ولو أردت سارقًا بعينه أو سارقة بعينها كَانَ النصبُ وجه الكلام. ومثله وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما «3» وَفِي قراءة عبد الله «والسارقونَ والسارقات فاقطعوا أيمانهما» .
وإنّما قَالَ (أيديهما) لأن كل «4» شيء موحَّد من خَلْق الانْسَان إِذَا ذكر مضافًا إلى اثنين فصاعدًا جُمِع. فقيل: قد هشمت رءوسهما، وملاتَ ظهورهما وبطونَهما ضربَا. ومثله إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «5» .
__________
(1) فى اللسان (نفى) بعده: «أي لا يطالب قاتله بدمه» .
(2) سقط فى ش.
(3) آية 16 سورة النساء.
(4) كذا فى ج. وفى ش: «لكل» .
(5) آية 4 سورة التحريم.(1/306)
وإنَّما اختير الجمع عَلَى التثنية لأن أكثر ما تكون عَلَيْهِ الجوارح اثنين فِي الانْسَان:
اليدين والرجلين والعينين. فلمّا جرى»
أكثره عَلَى هَذَا ذهب بالواحد منه إِذَا أضيفَ إلى اثنين مذهب التثنية. وقد يَجوز تثنيتهما قَالَ أَبُو ذُؤيب:
فتخالسا نَفْسَيْهِما بنوافذ ... كنوافِذِ العُبُط التي لا ترقَع «2»
وقد يَجُوز هَذَا فيما لَيْسَ من خَلْق الانْسَان. وَذَلِكَ أن تَقُولُ للرجلين: خلَّيْتما نساءكما، وأنت تريد امرأتين، وخرقتما قُمُصكما.
وإنّما ذكرت ذَلِكَ لأن من النحويين من كَانَ لا يُجيزه إِلا فِي خَلْق الانْسَان، وَكُلٌّ سواء. وقد يَجوز أن تَقُولُ فِي الكلام: السارق والسارقة فاقطعوا يَمينهما «3» لأن المعنى: اليمين من كل واحد منهما كما قال الشاعر:
كلوا فِي نصف بطنِكم تعيشوا ... فإنَّ زمانكم زمن خميص «4»
__________
(1) يريد أن الجوارح لما كثر فيها التثنية غلبت هذه الجوارح على المفردة، فدخلت الأخيرة فى باب الأولى. فإذا أضيف اثنان من المفردة الى اثنين فكأنما أضفت أربعة، فجمع اللفظ لذلك.
(2) هذا من عينيته المشهورة التي يرثى بها بنيه. وهى فى المفصليات. وهو فى وصف فارسين يتنازلان. و «تخالسا نفسيهما» : رام كل منهما اختلاس نفس صاحبه وابتهاز الفرصة فيه. والنوافذ:
الطعنات النافذة. والعبط: جمع العبيط، وهو ما يشق، من العبط أي الشق. وفى أمالى ابن الشجري 1/ 12: «أراد: بطعنات نوافذ. والعبط جمع العبيط، وهو البعير الذي ينحر لغير داء» . وانظر شرح المفضّليات لابن الأنبارى 883، وديوان الهذليين (الدار) 1/ 20 [.....]
(3) كذا فى ج. وفى ش: «يدهما» .
(4) ويروى:
كلوا فى بعض بطنكم تعفوا
والخميص: الجائع طوى بطنه على غير زاد. وانظر الكتاب 1/ 108، والخزانة 3/ 379.(1/307)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
وقال الآخر «1» :
الواردونَ وتَيْم فِي ذرى سبأٍ ... قد عَضَّ أعناقَهم جِلْدُ الجواميسِ
من قَالَ: (ذَرَى) «2» جعل سبأ جِيلا، ومن قَالَ: (ذُرَى) أراد موضعًا.
ويَجوز فِي الكلام أن تَقُولُ: ائتني برأس شاتين، ورأس شاة. فإذا قلت:
برأس شاة فإنّما أردت رأسَيْ هَذَا الجنس، وَإِذَا قلت برأس شاتين فإنك تريد بِهِ الرأس من كل شاة قَالَ الشاعر فِي غير ذَلِكَ:
كأنّه وَجْه تركيَّيْنِ قد غَضِبا ... مستهدف لِطعانٍ غيرِ تذبيب «3»
وقوله: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ... (41)
إن شئت رفعت قوله «سمّاعون للكذب» بمن ولم تجعل (من) فِي المعنى متصلة بِما قبلها، كما قَالَ الله: «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» «4» وإن شئت كان
__________
(1) هو جرير. وهو من قصيدة فى هجاء تيم بن قيس من بكر بن وائل. والرواية فى الديوان 325:
تدعوك تيم وتيم فى قرى سبأ ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس
(2) الذرى- بالفتح-: الكنّ وما يستتر به. وتقول: أنا فى ذرى فلان أي فى ظله وحمايته، فإذا أريد بسبأ القبيلة المعروفة قرئ «ذرى سبأ» بالفتح أي أن تيما يحتمون بسبأ ويمتنعون بها، ولا عصمة لهم من أنفسهم. والذرى- بالضم- جمع الذروة. وذروة الشيء: أعلاه. وعلى هذه القراءة يكون سبأ اسما للمدينة المعروفة أي أن تيما فى أعالى هذه المدينة. وقد قرأ البغدادىّ «جبلا» واحد الجبال فضبط الأوّل بالضم والثاني بالفتح، والأشبه بالصواب ما جرينا عليه من قراءته: «جيلا» بالجيم المكسورة والياء المثناة الساكنة. وانظر الخزانة 3/ 371
(3) هكذا أنشده الفرّاء «تذبيب» وتابعه ابن الشجري فى أماليه 1/ 12، وقال: «ذب فلان عن فلان: دفع عنه. وذبب فى الطعن والدفع إذا لم يبالغ فيهما» وهذا يوافق ما فى اللسان: «ويقال طعان غير تذبيب إذا بولغ فيه» . وقال البغدادي فى الخزانة 3/ 372: «والبيت الشاهد قافيته رائية لا بائية» وأورد البيت فيه «غير منجحر» فى مكان «غير تذبيب» وهو من قصيدة للفرزدق يهجو بها جريرا، أوّلها:
ما تأمرون عباد الله أسألكم ... بشاعر حوله درجان مختمر
(4) آية 32 سورة فاطر.(1/308)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
المعنى: لا يَحزنك الَّذِينَ يُسارِعونَ فِي الكفر من هؤلاء ولا «من الذين هادوا» فترفع حينئذ (سمّاعون) عَلَى الاستئناف، فيكون مثل قوله «لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ» «1» ثم قال تبارك وتعالى: «طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ» ولو قيل: سماعين، وطوّافين لكان صوابًا كما قال: «مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا» «2» وكما قَالَ: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» «3» ثُمَّ قَالَ: «آخِذِينَ «4» ، وفاكِهِينَ «5» ، ومُتَّكِئِينَ» «6» والنصبُ أكثر. وقد قَالَ أيضًا فِي الرفع: «كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى» «7» فرفع «8» (نزَّاعة) عَلَى الاستئناف، وهي نكرة من صفة معرفة. وكذلك قوله:
«لا «9» تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ» وَفِي قراءة أبيّ «إنَّها «10» لإحدى الكُبَر نَذِير لِلبشرِ» بغير ألف. فما أتاكَ من مثل هذا فى الكلام نصبته ورفعته. ونصبه عَلَى القطع وَعَلَى الحال. وَإِذَا حسن فِيهِ المدح أو الذم فهو وجهٌ ثالث. ويصلح إِذَا نصبته عَلَى الشتم أو المدح أن تنصب معرفته كما نصبت نكرته. وكذلك قوله «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ للسّحت» عَلَى ما ذكرت لك.
وقوله: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ... (45)
تنصب (النفس) بوقوع (أنّ) عليها. وأنتَ فِي قوله (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بالأنف) إلى قوله (والجروح قصاص) بالخيار. إن شئت رفعت، وإن شئت
__________
(1) آية 58 سورة النور.
(2) آية 61 سورة الأحزاب.
(3) آية 15 سورة الذاريات.
(4) آية 16 سورة الذاريات.
(5) آية 18 سورة الطور وهى بعد قوله: «إن المتقين فى جنات ونعيم» وكأن الأمر اشتبه على المؤلف.
(6) آية 20 سورة الطور.
(7) آيتا 15، 16 سورة المعارج.
(8) وقرأ حفص من السبعة وبعض القرّاء من غيرهم بالنصب. [.....]
(9) آيتا 28، 29 سورة المدّثر.
(10) آيتا 35، 36 سورة المدّثر.(1/309)
نصبت. وقد نصب حَمْزَةُ ورفع الْكِسَائي. قَالَ الفراء: وحدّثنى إبراهيم «1» بن محمد ابن أَبِي يَحْيَى عَنْ أَبَانِ «2» بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم قرأ: (والعين بالعين) رَفْعًا. قَالَ الفراء: فإذا رفعت الْعَيْن أتبع الكلام العين، وإن نصبنه فجائز. وقد كَانَ بعضهم ينصب كله، فإذا انتهى إلى (والجروح قصاص) رفع. وكل صواب، إِلا أن الرفع والنصب فِي عطوف إِنّ وأنّ إنّما يسهلان إِذَا كَانَ مع الاسماء أفاعيل مثل قوله (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا ريب فيها) «3» كَانَ النصب سهلا لأن بعد الساعة خبرها. ومثله إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «4» ومثله وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ «5» فإذا لَمْ يكن بعد الاسم الثاني خبر رفعته، كقوله عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ «6» وكقوله فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ «7» وكذلك تَقُولُ: إِنَّ أخاكَ قائِم وزيد، رفعت (زيد) باتباعه الاسم المضمر فِي قائم. فابنِ عَلَى هَذَا.
وقوله «8» : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى ... (69)
فإن رفع (الصَّابِئِينَ) عَلَى أَنَّهُ عطف عَلَى (الذين) ، و (الذين) حرف عَلَى جهة واحدة «9» فِي رفعه ونصبه وخفضه، فلمّا كَانَ إعرابه واحدًا وَكَانَ نصب (إنّ) نصبا
__________
(1) يروى عنه الشافعي والثورىّ. مات سنة 184.
(2) كانت وفاته سنة 140 هـ.
(3) آية 32 سورة الجاثية. وقد قرأ حمزة بالنصب والباقون بالرفع.
(4) آية 128 سورة الأعراف. وقد قرأ بالنصب ابن مسعود.
(5) آية 19 سورة الجاثية.
(6) آية 3 سورة التوبة.
(7) آية 4 سورة التحريم.
(8) هذه الآية فصلت بين أجزاء الآية 45. وقد تكرر مثل هذا فى الكتاب.
(9) يريد أنه مبنىّ غير معرب فلا يتغير آخره.(1/310)
ضعيفًا- وضعفه أَنَّهُ يقع عَلَى (الاسم «1» ولا يقع عَلَى) خبره- جاز رفع الصابئين.
ولا أستحبُّ أن أقول: إنّ عبد الله وزيد قائمانِ لتبين الإعراب فِي عبد الله. وقد كَانَ الْكِسَائي يُجيزه لضعف إنّ. وقد أنشدونا هَذَا البيت رفعًا ونصبًا:
فمن يك أمسى بالمدينةِ رحلُهُ ... فإِنّي وقيَّارا بِهَا لغريب «2»
وَقيَّارٌ. لَيْسَ هَذَا بِحُجَّةِ للكسائي فِي إجازته (إنّ عمرًا وزيد قائمان) لأن قيارًا قد عطف عَلَى اسم مكنّى عَنْهُ، والمكنّى لا إعرابَ لَهُ فسهل ذَلِكَ (فِيهِ «3» كما سهلَ) فِي (الذين) إذا عطفت عليه (الصابئون) وهذا أقوى فِي الجواز من (الصابئون) لانّ المكنى لا يتبين فِيهِ الرفع فِي حال، و (الذين) قد يُقال: اللذونَ فيرفع فِي حال.
وأنشدني بعضهم:
وَإِلا فاعلموا أَنَّا وَأنْتُم ... بُغَاة ما حيينا فِي شِقَاقِ «4»
وقال الآخر:
يا لَيْتَنِي وأَنْتِ يا لَمِيسُ ... ببلدٍ لَيْسَ بِهِ أنِيس
وأنشدنى بعضهم:
يا ليتنى وهما نخلو بمنزلة ... حتى يرى بعضنا بعضا ونأتلف
__________
(1) سقط ما بين القوسين فى ج.
(2) من أبيات لضابئ بن الحارث البرجمىّ قالها فى سجنه فى المدينة على عهد عثمان رضى الله عنه.
أخذ لقذفه المحصنات. وقيار اسم فرسه. وفى نوادر أبى زيد أنه اسم جمله. وانظر الخزانة 4/ 323 والكتاب 1/ 8.
(3) سقط ما بين القوسين فى ح. [.....]
(4) هو لبشر بن خازم الأسدى. وقبله:
فإذ جزت نواصى آل بدر ... فأدّوها وأسرى فى الوثاق
وانظر الخزانة: / 315، والكتاب 1/ 290.(1/311)
قَالَ الْكِسَائي: أرفع (الصابِئون) عَلَى إتباعه الاسم الَّذِي فِي هادوا، ويجعله «1» من قوله (إِنَّا هدنا إليك) «2» لا من «3» اليهودية. وجاء التفسير بغير ذَلِكَ لأنه وصف الَّذِينَ آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ثُمَّ ذكر اليهود والنصارى فقال: من آمن منهم فله كذا، فجعلهم يهودا ونصارى.
وقوله «4» : فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ... (45)
كنى (عَن «5» [الفعل] بهو) وهي فِي الفعل الَّذِي يَجري منه فعل ويفعل، كما تَقُولُ:
قد قدمت القافلة ففرحت بِهِ، تريد: بقدومها.
وقوله (كفّارة له) يعني: للجارح والجاني، وأجر للمجروح.
وقوله: وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً ... (46)
ثم قال (ومصدّقا) فإن شئت جعل (مصدّقا) من صفة عيسى، وإن شئت من صفة الإنجيل.
وقوله وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ متبع للمصدق فِي نصبه، ولو رفعته عَلَى أن تتبعهما قوله (فيه هدى ونور) كان صوابا.
وقوله: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ ... (47)
قرأها حَمْزَةُ وغيره نصبًا «6» ، وجعلت اللام فِي جهة كى. وقرئت (وليحكم) جزما على أنها لام أمر.
__________
(1) فى الخزانة 4/ 334: «بجعله» .
(2) آية 156 سورة الأعراف.
(3) يريد أن «هادوا» فى قوله: «والذين هادوا» بمعنى تابوا ورجعوا إلى الحق، كما فى آية الأعراف، وليس معنى «الذين هادوا» الذين كانوا على دين اليهودية. والذين هادوا بالمعنى الأوّل يدخل فيه بعض الصابئين فيصح العطف، بخلافه على المعنى الثاني.
(4) تقدم بعض هذه الآية قبل الآية السابقة.
(5) فى الأصول: «عن ألهو» والظاهر أنه مغير عما أثبتنا.
(6) فالميم عنده مفتوحة. وقد كسر اللام.(1/312)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
وقوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ ... (49)
دليل على أنّ قوله (وليحكم) جزم. لأنه كلام معطوف بعضه عَلَى بعض.
وقوله: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ... (53)
مستأنفة فِي رفع. ولو نصبت «1» عَلَى الردّ عَلَى قوله (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أو أمر من عنده) «2» كَانَ صوابًا. وهي فِي مصاحف أهل المدينة (يقول «3» الَّذِينَ آمنوا) بغير واو.
وقوله: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ... (54)
خفض، تجعلها لعتا (لقوم) ولو نصبت عَلَى القطع «4» من أسمائِهم فِي (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) كَانَ وجهًا. وَفِي قراءة عبد الله (أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِين غُلظاء عَلَى الكافرين) أذلة: أي رحماء بهم.
وقوله: وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ ... (57)
وهي «5» فِي قراءة أُبيّ (ومن الكفار) ، ومن نصبها ردّها على (الذين اتخذوا) .
وقوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ ... (59)
(أنّ) فِي موضع نصب عَلَى قوله (هَلْ تَنْقِمُونَ منا) إلا إيماننا وفسقكم. (أن) فِي موضع مصدر، ولو استأنفت (وَإِنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون) فكسرت «6» لكان صوابا.
__________
(1) والنصب قراءة أبى عمرو ويعقوب.
(2) فى الآية السابقة 52.
(3) وقد قرأ بذلك ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر كما فى الإتحاف.
(4) يريد بذلك النصب على الحال. وقد صرح بذلك القرطبي، ويريد بأسمائهم الضمير فى الفعلين.
(5) يريد أن «الكفار» مجرور بالعطف على «الذين أوتوا الكتاب» المجرور بمن. ويذكر أن هذه القراءة يؤيدها قراءة أبىّ إذ صرّح بالجارّ. والجر على العطف قراءة أبى عمرو والكسائىّ ويعقوب. والنصب قراءة الباقين.
(6) ثبت فى ج وسقط فى ش.(1/313)
وقوله: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً ... (60)
نصبت (مثوبة) لأنها مفسرة كقوله (أَنَا «1» أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وأعزّ نفرا) .
وقوله مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ (من) فى موضع خفض تردّها على (بشرّ) وإن شئت استأنفتها فرفعتها كما قَالَ: «قُلْ «2» أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» ولو نصبت (من) عَلَى قولك: أُنبئكم (من) كما تَقُولُ: أنبأتك خيرًا، وأنبأتك زيدًا قائِمًا «3» ، والوجه الخفض. وقوله وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ عَلَى قوله «4» :
«وَجَعل منهم القِرَدَة [والخنازيرَ] «5» ومن عبد الطاغوتَ» وهي فِي قراءة أُبَيّ وعَبْد الله (وعبدوا) عَلَى الجمع، وَكَانَ أصحاب عبد الله يقرأون «وَعَبَد الطاغوتِ» عَلَى فَعَل، ويضيفونَها إلى الطاغوتِ «6» ، ويفسّرونَها: خَدَمة الطاغوت. فأراد قوم هَذَا المعنى، فرفعوا الْعَيْن فقالوا: عُبُد الطاغوتِ مثل «7» ثمار وثُمُر، يكون جمع جمع.
ولو قرأ قارئ (وعَبَد الطاغوتِ) كَانَ صوابًا جيّدًا. يريد عبدة الطاغوت فيحذف الْهَاء لمكان الإضافة كما قَالَ الشاعر:
قام وُلاها فسقَوها صَرْخدًا «8» يريد: ولاتها. وأما قوله (وعبد الطاغوت) فإن تكن «9» فِيهِ لغة مثل حَذِر وحَذُر وَعَجُلَ فهو وجه، وإلا فإنَّه أراد- والله أعلم- قول الشاعر «10» :
__________
(1) آية 34 سورة الكهف. [.....]
(2) آية 72 سورة الحجّ.
(3) حذف الجواب، أي لكان صوابا وهذا يتكرر منه.
(4) أي على حذف «من» الموصولة المعطوفة على «القردة» .
(5) زيادة فى اللسان (عبد) .
(6) وهذه قراءة حمزة.
(7) يريد أن عبدا جمع عباد الذي هو جمع عبد. وفى اللسان: «قال الزجاج: هو جمع عبيد كرغيف ورغف» .
(8) أراد بالصرخد الخمر. وصرخد فى الأصل موضع ينسب إليه الشراب.
(9) كذا فى ج.
وفى ش: «لم تكن» وفى اللسان: «قال الفرّاء: ولا أعلم له وجها إلا أن يكون عبد بمنزلة حذر وعجل» والظاهر أن هذا حكاية عما هنا بالمعنى.
(10) هو أوس بن حجر، كما فى اللسان.(1/314)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
أَبَنِي لُبَيْنَى إِنّ أمَّكُمُ ... أَمَةٌ وإِن أباكم عَبُد «1»
وهذا فِي الشعر يَجوز لضرورة القوافي، فأمّا فِي القراءة فلا.
وقوله: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ... (64)
أرادوا: ممسكة عَن «2» الإنفاق والإسباغ علينا. وهو كقوله وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ «3» فى الإنفاق.
بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ وَفِي حرف عبد الله بَلْ يداهُ بُسْطَانِ والعربُ تَقُولُ: الق أخاكَ بوجه مبسوط، وبوجه بُسْطٍ.
وقوله: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ... (6)
يقول: من قَطْر السماء ونبات الأرض من ثمارها وغيرها. وقد يقال: إن هَذَا عَلَى وجه التوسعة كما تَقُولُ: هُوَ فِي خير من قَرْنه إلى قَدَمه.
وقوله: فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ... (71)
__________
(1) قبله:
أبنى لبينى لست معترفا ... ليكون ألأم منكم أحد
يريد أن «عبد» فى البيت حرك بضم الباء للوزن والأسل فيها السكون.
(2) كذا فى ج. وفى ش: «على» .
(3) آية 29 سورة الإسراء.(1/315)
فقد يكون رفع الكثير من جهتين إحداهما أن تكر «1» الفعل عليها تريد: عمي وَصَمَّ كَثِير منهم، وإن شئت جعلت عَمُوا وَصَمُّوا فعلا للكثير كما قال الشاعر «2» :
يلوموننى فى اشترائى النخي ... ل أَهلِي فكلُّهم أَلْوَمُ
وهذا لمن قَالَ: قاموا قومك. وإن شئت جعلت الكثير مصدرًا فقلت أي ذَلِكَ كَثِير منهم «3» ، وهذا وجه ثالث. ولو نصبت «4» عَلَى هَذَا المعنى كَانَ صوابًا. ومثله قول الشاعر «5» .
وسوَّد ماءُ الْمَرْدِ فاها فلونه ... كلون النؤور وهي أدماء سَارُها
ومثله قول الله تبارك وتعالى: «وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» «6» إن شئت جعلت (وأسرّوا) فعلا لقوله «لاهية قلوبهم وأسرّوا النجوى» ثم تستأنف (الذين)
__________
(1) يريد أن يكون بدلا من الفاعل فى (عموا وصموا) .
(2) هو أحيحة بن الجلاح. وكان قومه لاموه فى اشتراء النخل. وقوله: «اشترائى» كذا فى ش، ج. ويروى: «اشتراء» وقوله: «ألوم» هكذا فى ش، ج. ورواية البيت هكذا لم يلاحظ فيها الشعر الذي هذا البيت منه. وإلا فهو فيه: «يعذل» فإن قافيته لامية. وبعده:
وأهل الذي باع يلحونه ... كما لحى البائع الأول
[.....]
(3) فيكون «كثير» خبر مبتدأ محذوف هو «ذلك» وهو العمى والصم. وبقدّره بعضهم:
«العمى والصم» .
(4) وبه قرأ ابن أبى عبلة كما فى البحر 3/ 534.
(5) هو أبو ذؤيب الهذلىّ. والبيت فى وصف ظبية. والمرد: الغض من ثمر الأراك، والنئور:
النيلج، وهو دخان الشحم، يعالج به الوشم فيخضر. وسارها أي سائرها. والأدماء من الأدمة، وهى فى الظباء لون مشرب بياضا.
(6) آية 3 سورة الأنبياء.(1/316)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
بالرفع. وإن شئت جعلتها خفضًا (إن «1» شئت) عَلَى نعت الناس فِي قوله «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حسابهم» وإن شئت كانت رفعًا كما يَجوز (ذهبوا قومك) .
وقوله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ... (73)
يكون مضافًا. ولا يَجوز التنوين فِي (ثَالِثُ) فتنصب الثلاثة. وكذلك «2» قلت: واحد من اثنين، وواحد من ثلاثة ألا ترى أَنَّهُ لا يكون ثانيًا لنفسه ولا ثالثًا لنفسه. فلو قلت:
أنت ثالث اثنين لَجَازَ أن تَقُولُ: أنت ثالث اثنين، بالإضافة، وبالتنوين ونصب الاثنين وكذلك لو قلت: أنت رابع ثلاثة جاز ذَلِكَ لأنه فعل واقع.
وقوله: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ لا يكون قوله (إله واحد) إلا رفعًا لأن المعنى: لَيْسَ إله إلا إله واحد، فرددت ما بعد (إلا) إلى المعنى ألا ترى أن (من) إِذَا فُقِدت من أوّل الكلام رفعت. وقد قَالَ بعضُ الشعراء:
ما من حوِيّ بين بدرٍ وصاحةٍ ... ولا شُعْبَةٍ إِلا شِبَاعٌ نسورها «3»
فرأيت الْكِسَائي قد أجازَ خفضه وهو بعد إلا، وأنزل (إلا) مع الجحود بمنزلة غير، وليس ذَلِكَ بشيء لأنه أنزله بمنزلة قول الشاعر:
أبنِي لُبَيْنَى لستُم بِيَدٍ ... إِلا يدٍ ليست لها عضد
__________
(1) كذا فى ش، ج. ويبدو أنها مزيدة فى النسخ.
(2) كذا فى ش، ج. وكأنه محرّف عن: «كأنك» .
(3) الحوىّ: واحد الحوايا. وهى حفائر ملتوية يملؤها المطر فيبقى فيها دهرا طويلا. والشعبة مسيل صغير. وبدر ماء مشهور بين مكة والمدينة أسفل وادي الصفراء. وصاحة: هضاب حمر فى بلاد باهلة بقرب عقيق المدينة.(1/317)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
وهذا جائز لأن الباء قد تكون واقعة فِي الجحد كالمعرفة والنكرة، فيقول: ما أنت بقائِم، والقائِم نكرة، وما أنت بأخينا، والأخ معرفة، ولا يَجوز أن تقول: ما قام من أخيكَ، كما تَقُولُ ما قام من رجل.
وقوله: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ... (75)
وقع «1» عليها التصديق كما «2» وقع عَلَى الأنبياء. وَذَلِكَ لقول الله تباركَ وتعالى:
«فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
«3» تَمَثَّلَ لَها» فلما كلَّمها جبريل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصدّقته وقع عليها اسم الرسالة، فكانت كالنبي.
وقوله: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ... (82)
نزلت فيمن أسلم من النصارى. ويُقال: هُوَ النَّجاشي وأصحابه. قَالَ الفراء ويُقال: النِّجَاشِيُّ.
وقوله: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا (87) هم نفرٌ من أصحاب النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرادوا أن يرفضوا الدُّنْيَا، ويُجبُّوا أنفسهم، فأنزلَ الله تبارك وتعالى: «لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا» أي لا تجبُّوا أنفسكم.
وقوله: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ... (89)
فِي حرف عبد الله: «ثلاثة أيام متتابعات» ولو نونت فِي الصيام نصبت الثلاثة كما قَالَ الله تبارك وتعالى: «أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً» «4» نصبت
__________
(1) أي يقع عليها هذه الصفة لاتصافها بها أي أنها تصدّق.
(2) كذا فى ج. وفى ش: «على» .
(3) آية 17 سورة مريم.
(4) آيتا 14، 15 سورة البلد.(1/318)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
(يتيمًا) بإيقاع الإطعام عَلَيْهِ. ومثله قوله: «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً» «1» : تكْفِتُهم «2» أحياء وأمواتًا. وكذلك قوله «فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» «3» ولو نصبت «4» (مثل) كانت صوابا. وهى فى قراءة عبد الله «فجزاؤه مثل ما قتل» وقرأها بعضُ أهل المدينة «فجزاءُ مِثلِ ما قَتَل» وكلُّ ذَلِكَ صواب.
وأما قوله «وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ» لو نوّنت فِي الشهادة جاز النصب فِي إعراب (الله) عَلَى: ولا نكتم الله شهادةً. وأمّا من استفهم بالله فقال (الله) فإنما يخفض (الله) فِي الإعراب كما يخفض القسم، لا عَلَى إضافة الشهادة إليه.
وقوله: الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ... (90)
الميسر: القمار كله، والأنصاب: الأوثان، والأزلام: سهام كانت فِي الكعبة يقتسمونَ بِهَا فِي أمورهم، وواحدها زلم.
وقوله: إِذا مَا اتَّقَوْا ... (93)
أي اتقَوا شرب الخمر، وآمنوا بتحريمها.
وقوله: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ ... (94)
فما نالته الأيدي فهو بَيْض النعام وفراخها، وما نالت الرماح فهو سائر الوحش.
__________
(1) آيتا 25، 26 سورة المرسلات.
(2) أي تضمهم، يقال: كعته أي ضمه وقبضه. والأرض تضم الأحياء على ظهرها فى دورهم، والأموات فى بطنها فى قبورهم. ويبين من هذا أن (كفاتا) مصدر كفت. وحمله على الأرض بتأويل:
ذات كفات. وانظر اللسان فى المادة.
(3) آية 95 سورة المائدة. [.....]
(4) قرأ بذلك السلمىّ كما فى البحر 4/ 19.(1/319)
قوله: فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ... (95)
يقول: من أصاب صيدًا ناسيًا لإحرامه معتمدًا للصيد حكم عَلَيْهِ حاكمانِ عدلانِ فقيهان يسألانه: أقتلت قبل هَذَا صيدًا؟ فإن قَالَ: نعم، لَمْ يحكما عَلَيْهِ، وقالا:
ينتقمُ الله منك. وإن قَالَ: لا، حكما عَلَيْهِ، فإن بلغَ قيمةُ حكمها ثَمن بَدَنة أو شاة حكما بذلك عليه هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ وإن لَمْ يبلغ ثمن شاة حكما عَلَيْهِ بقيمة ما أصاب:
دراهم، ثُمَّ قوّماهُ طعامًا، وأطعمه المساكين لكل مسكين نصفُ صاع. فإن لَمْ يَجد حَكَما عَلَيْهِ أن يصوم يومًا مكان كل نصف صاع.
وقوله: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً وَالْعَدْلُ: ما عادلَ الشيء من غير جنسه، والعدل المِثْل. وَذَلِكَ أن تَقُولُ: عندي عِدْلُ غلامك وَعِدْلُ شاتك إِذَا كَانَ غلامًا يعدل غلامًا أو شاة تعدل شاة. فإذا أردت قيمته من غير جنسه نضبت الْعَيْن.
وربما قَالَ بعضُ العرب: عِدله. وكأنه منهم غلط لتقارب معنى العَدْل من العِدل.
وقد اجتمعوا على واحد الأعدال أَنَّهُ عِدل. ونصبك الصيام عَلَى التفسير كما تَقُولُ: عندي رطلان عسلا، ومِلء بيت قَتّا «1» ، وهو مما يفسر للمبتدئ: أن ينظر إلى (مِنْ) فإذا حسنت فِيهِ ثُمَّ أُلقيت نصبت ألا ترى أنك تَقُولُ: عَلَيْهِ عَدْلُ ذَلِكَ من الصيام. وكذلك قول الله تبارك وتعالى «فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً» «2» .
__________
(1) القت: الرطبة واليابسة من علف الدواب.
(2) آية 91 سورة آل عمران.(1/320)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
وقوله: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ ... (96)
الصيد: ما صِدْته، وطعامه ما نضب «1» عَنْهُ الماء فبقي عَلَى وجه الأرض.
قوله: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ... (101)
خطبَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاس، وأخبرهم أنّ الله تبارك وتعالى قد فرض عليهم الحجّ، فقام رجل فقال: يا رسول الله (أَوَفي) «2» كل عام؟ فأعرض عَنْهُ.
ثُمَّ عاد (فقال «3» : أفي كل عام؟ فأعرضَ عَنْهُ، ثُمَّ عادَ) فقال لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما يؤمنك أن أقول (نعم) فيجب عليكم ثُمَّ لا تفعلوا فتكفروا؟ اتركوني ما تركتكم» .
و (أشياء) فِي موضع خفض لا تُجْرَى. وقد قَالَ فيها بعضُ النحويين:
إِنَّما كثرت فِي الكلام وهي (أفعال) فأشبهت فَعْلاء فلم تُصرف كما لَمْ تصرف حمراء، وجمعها أشاوَى- كما جمعوا عذراء عذَارَى، وصحراء صَحَارى- وأشياوات كما قيل:
حَمْرَاوات. ولو كانت عَلَى التوهم لكان أملك الوجهين بِهَا أن تُجْرَى لأن الحرف إِذَا كثر بِهِ الكلام خَفّ كما كثرت التسمية بيزيد فأجروهُ وَفِيهِ ياء زائدة تَمنع من الإجراء. ولكنا نرى أن أشياء جمعيت «4» عَلَى أفعِلاء كما جمع لَيِّن وأَلْيِناء، فحذف من وسط أشياء همزة، كَانَ ينبغي لَهَا أن تكون (أَشْيِئاء) فحذفت الْهَمْزَةُ لكثرتها. وقد قالت العرب: هَذَا من أبناوات سعد، وأُعيذكَ بأسَمَاوَاتِ الله، وواحدها أسماء وأبناء تجري، فلو مَنَعْتُ أشياء الْجَرْي لجمعهم إياها أشياوات لَمْ أُجر أسماء ولا أبناء لانهما جُمِعَتَا أسَمَاوَاتِ وأبناوات.
__________
(1) أي غار وذهب فى الأرض، وهنا حسر عنه ماء البحر.
(2) كذا فى ش. وفى ج: «أفي» .
(3) سقط ما بين القوسين فى ش، وثبت فى ج.
(4) أي جعلت على هذه الصيغة.(1/321)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
وقوله: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ ... (103)
قد اختُلِفَ فِي السائبةِ. فقيلَ: كَانَ الرجل يسيِّب من ماله ما شاء، يذهب بِهِ إلى الَّذِينَ يقومونَ عَلَى خدمة آلهتهم. قَالَ بعضهم: السائبة إِذَا ولدت الناقة عشرة «1» أبطن كلهنّ «2» إناث سيّبت فلم تركب ولم يجزّ لَهَا وَبَر، ولم يَشْرَب لبنها إلا ولدها أو ضيف حَتَّى تَموت، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء وبُحِرت أذن ابن «3» ابنتها- يريد: خرقت- فالبحيرة ابنة السائبة، وهي بمنزلة أمّها. وأمّا الوصيلة فمن الشاء. إِذَا ولدت الشاة سبعة أبطن عَنَاقين عَناقين «4» فولدت فِي سابعها عَناقًا وَجَدْيًا قيل: وصلت أخاها، فلا يشرب لبنها النساء وَكَانَ للرجال، وجرت مجرى السائِبة.
وأمّا الحامي فالفحلُ من الإبل كَانَ إِذَا لَقِح ولدُ ولده حَمَى ظهره، فلا يُركب ولا يجزّ لَهُ وَبَر، ولا يُمنع من مَرعًى، وأيّ إبل ضَرَب فيها لَمْ يُمنع.
فقال الله تبارك وتعالى مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ هَذَا أنتم جعلتموه كذلك.
قَالَ الله تبارك وتعالى وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ.
وقوله: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ... (105)
هَذَا أمرٌ من الله عَزَّ وَجَلَّ كقولك: عليكم «5» أنفسكم. والعرب تأمر من الصفات «6» بغليك، وعندك، ودونك، وإليك. يقولون: إليك إليك، يريدون: تأخّر
__________
(1) كذا فى ج. وفى ش: «عشر» .
(2) كذا فى ج. وفى ش: «كلهم» .
(3) كذا. وكأن الصواب حذف هذا اللفظ، كما يعلم مما بعد.
(4) العناق: الأنثى من ولد المعز.
(5) ثبت فى ج، وسقط فى ش.
(6) يريد الظروف وحروف الجرّ.(1/322)
كما تَقُولُ: وراءك وراءك. فهذه الحروف كثيرة. وزعم الْكِسَائي أَنَّهُ سمعَ:
بينكما البعير فحَذَاه. فأجازَ ذَلِكَ فِي كلّ الصفات التي قد تُفرد، ولم يُجِزه فِي اللام ولا فِي الباء ولا فِي الكاف. وسمع بعضُ العرب تَقُولُ «1» : كما أنت زيدًا، ومكانكَ زيدًا. قَالَ الفراء: وسمعتُ [بعض] «2» بني سُلَيْم يقول فِي كلامه: كما أنتَنِي، ومكانَكَني، يريد انتظرني فِي مكانك.
ولا تقدّمن ما نصبته هَذِه الحروف قبلها لانّها أسماء، والاسم لا يَنصب شيئًا قبله تَقُولُ: ضربًا زيدًا، ولا تَقُولُ: زيدًا ضربًا. فإن قلته نصبت زيدًا بفعل مضمر قبله كذلك قال الشاعر:
يا أيها المائِح دلوي دونكا إن شئت نصبت (الدلو) بمضمر قبله، وإن شئت جعلتها رفعًا، تريد: هذه دلوى فدونكا.
لا يَضُرُّكُمْ رفع، ولو جزمت كَانَ صوابًا كما قَالَ فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تخف، ولا تَخافُ «3» جائزان.
وقوله: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ... (106)
يقول: شاهدان أو وصيّان، وقد اختلفَ فِيهِ. ورفع الاثنين بالشهادة، أي ليشهدكم اثنان من المسلمين.
__________
(1) كذا فى ش، ج. فإن كان القائل امرأة فهو صحيح، وإلا فهو نصحيف عن «يقول» إلا أن يريد ببعض العرب جماعة منهم. [.....]
(2) زيادة يقتضيها السياق خلت منها نسختا ش، ج.
(3) آية 77 سورة طه.(1/323)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ من غير دينكم. هَذَا فِي السَّفَر، وله حديث طويل.
إلا أنّ المعنى فِي قوله مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فمن قال: الأوليان أراد وليّى الموروث يقومان مَقَام النصرانيين إِذَا اتُّهِمَا أنهما اختانا، فيحلفانِ بعد ما حلفَ النصرانيَّانِ وَظُهِرَ عَلَى خيانتهما، فهذا وجه قد قرأ بِهِ عليّ، وذُكِرَ عَن «1» أبيّ بن كعب. حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنه قال الأولين يَجْعَلُهُ نَعْتًا لِلَّذِينَ. وَقَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ الأَوْلَيَانِ صَغِيرَيْنِ كَيْفَ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا. وقوله اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ معناه: فيهم كما قال وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ «2» أي فِي مُلْك، وكقوله وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ «3» جاء التفسير: عَلَى جذوع النخل. وقرأ الْحَسَن (الأوّلان) يريد: استحقَّا بِما حقَّ عليهما من ظهور خيانتهما. وقرأ عبد الله بن مسعود الأوّلِين كقول ابن عباس. وقد يكون الْأَوْلَيانِ هاهنا النصرانيِّين- والله أعلم- فيرفعهما ب (اسْتَحَقَّ) ، ويَجعلهما الأولَيَيْن باليمين لأن اليمين كانت عليهما، وكانت البيِّنَة عَلَى الطالب فقيل الأوليان بِموضع اليمين. وهو عَلَى معنى قول الْحَسَن.
وقوله أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ غيرهم عَلَى «4» أيمانِهِم فتبطلها.
وقوله: قالُوا لا عِلْمَ لَنا ... (109)
قالوا: فيما ذكر من هول يوم القيامة. ثُمَّ قالوا: إلا ما علمتنا «5» ، فإن كانت على ما ذكر ف (ما) التي بعد (إلا) فِي موضع نصب لحسن السكوت عَلَى قوله:
(لا علم لنا) ، والرفع جائز.
__________
(1) كذا فى ج. وفى ش: «أن» .
(2) آية 102 سورة البقرة.
(3) آية 71 سورة طه.
(4) كذا. وهو لا يريد التلاوة فإنها: «بعد أيمانهم» وإنما يريد التفسير.
(5) ليس فى الآية (إلا ما علمتنا) والتلاوة (قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب) .(1/324)
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
وقوله: إِذْ أَيَّدْتُكَ ... (110)
عَلَى فعَّلْتُكَ كما تَقُولُ: قوّيتك. وقرأ مجاهد (آيدتك) عَلَى أفعلتك. وقال الْكِسَائي: فاعلتك، وهي تَجوز. وهي مثل عاونتك.
وقوله: فِي الْمَهْدِ يقول: صبيّا وَكَهْلًا فردّ الكهل عَلَى الصفة كقوله دَعانا «1» لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً.
وقوله: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ... (111)
يقول: ألهمتهم كما قَالَ وَأَوْحى «2» رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً أي ألهمها.
وقوله: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ... (112)
بالتاء والياء. قرأها أهلُ المدينة وَعَاصِم بن أبي النجود والأعمش بالياء:
يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ وقد يكون ذَلِكَ عَلَى قولِكَ: هَلْ يستطيع فلان القيام معنا؟
وأنت تعلم أَنَّهُ يستطيعه، فهذا وجه. وذُكِرَ «3» عَن عَليّ وعائشة رحمهما الله أنهما قرآ هَلْ تستطيعُ ربَّك بالتاء، وذكر عَن مُعاذ أَنَّهُ قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تستطيعُ ربَّكَ بالتاء، وهو وجه حسن. أي هَلْ تقدر عَلَى أن تسأل ربك أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ.
وقوله: تَكُونُ لَنا عِيداً ... (114)
(وتَكُنْ لَنا) . وهي فِي قراءة عبد الله تَكْن لنا عِيدًا بغير واو. وما كَانَ من نكرةٍ قد وقع عليها أمر جاز في الفعل بعده الجزم والرفع. وأمّا المائدة فذكر
__________
(1) آية 12 سورة يونس.
(2) آية 68 سورة النحل.
(3) كذا فى ج. وفى ش: «ذلك» .(1/325)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
أنَّها نزلت، وكانت خبزًا وسمكًا. نزلت- فيما ذكر- يوم الاحد مرَّتين، فلذلك اتخذوهُ عيدًا. وقال بعض المفسّرين: لم تنزل لأنه اشترط عليهم أَنَّهُ إن أنزلها فلم يؤمنوا عذبهم، فقالوا: لا حاجة لنا فيها.
وقوله: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ (116) عِيسَى فِي موضع رفع، وإن شئت نصبت «1» . وأمّا ابْنَ فلا يَجوز فِيهِ إلا النصب. وكذلك تفعل فى كل اسم دعوته باسمه ونسبته إلى أبيه كقولك:
يا زيدُ بن عبدِ الله، ويا زيدَ بنَ عبد الله. والنصب فِي (زيد) فِي كلام العرب أكثر.
فإذا رفعت فالكلام عَلَى دعوتين، وَإِذَا نصبت فهو دعوة. فإذا قلت: يا زيد أخا تَميم، أو قلت: يا زيد ابن الرجل الصالح رفعت الأوّل، ونصبت الثاني كقول الشاعر «2» :
يا زِبْرِقانُ أخا بني خَلَفٍ ... ما أنتَ وَيْلُ أبيك والْفَخْرُ
وقوله: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ (119) ترفع (اليوم) ب (هذا) ، ويَجوز أن تنصبه «3» لأنه مضاف إلى غير اسم كما قالت العرب: مضى يومئذ بما فِيهِ. ويفعلون ذَلِكَ بِهِ فِي موضع الخفض قَالَ الشاعر «4» :
رددنا لشعثاء الرسولَ ولا أرى ... كيومئذ شيئا تردّ رسائله
__________
(1) كذا فى ش. وفى ج: «نصب» .
(2) هو المخبل السعدىّ، يهجو الزبرقان بن بدر. وبنو خلف رهطه الأدنون من تميم. وانظر الكتاب 1/ 151، والخزانة 2/ 535.
(3) وهو قراءة نافع، ووافقه ابن محيصن.
(4) هو جرير. والبيت من قصيدته التي أوّلها:
ألم تر أن الجهل أقصر باطله ... وأمسى عماه قد تجلت مخابله.
[.....](1/326)
وكذلك وجه القراءة فِي قوله: مِنْ «1» عَذابِ يَوْمِئِذٍ وَمِنْ «2» خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ويَجوز خفضه فِي موضع الخفض كما جازَ رفعه فِي موضع الرفع. وما أُضيفَ إلى كلام لَيْسَ فِيهِ مخفوض فافعل بِهِ ما فعلت فِي هَذَا كقول الشاعر «3» :
عَلَى حينِ عاتبتُ المشيبَ عَلَى الصِّبا ... وقلتُ أَلَمَّا تَصْحُ والشيبُ وازعُ
وتفعل ذَلِكَ فِي يوم، وليلة، وحين، وغَداة، وَعَشِيَّةً، وزمن، وأزمان وأيام، وليال. وقد يكون قوله: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ كذلك. وقوله: هذا «4» يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ فيه ما فى قوله: يَوْمُ يَنْفَعُ وإن قلت «هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ» كما قَالَ الله: وَاتَّقُوا «5» يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ تذهب إلى النكرة كَانَ صوابًا.
والنصبُ فِي مثل هَذَا مكروهٌ فِي الصفة وهو عَلَى ذلك جائز، ولا يصلح فى القراءة.
__________
(1) آية 11 سورة المعارج. وقراءة فتح الميم من (يومئذ) فى الآيتين لنافع والكسائىّ. وقراءة الباقين كسر الميم.
(2) آية 66 سورة هود.
(3) هو النابغة الذبيانىّ. وانظر الكتاب 1/ 369، والخزانة 3/ 151.
(4) آية 35 سورة المرسلات.
(5) آية 123 سورة البقرة.(1/327)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
من سورة الأنعام
ومن سورة الأنعام:
قوله تبارك وتعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ (6) القرن ثمانون سنة. وقد قَالَ بعضهم: سبعون «1» .
وقوله «2» : وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا (9) : فِي صورة رجل لانَّهم لا يقدرون عَلَى النظر إلى صُورة المَلَك.
وقوله: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ (12) إن شئت جعلت (الرحمة) غاية كلام، ثُمَّ استأنفت بعدها لَيَجْمَعَنَّكُمْ وإن شئت جعلته «3» فِي موضع نصب كما قَالَ: كَتَبَ «4» رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ والعربُ تَقُولُ فِي الحروف التي يَصْلح معها جواب الأيْمان بأن المفتوحة وباللام. فيقولون: أرسلت إِلَيْهِ أن يقوم، وأرسلت إِلَيْهِ ليقومنّ.
وكذلك قوله: ثُمَّ «5» بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ وهو فِي القرآن كَثِير ألا ترى أنك لو قلت: بدا لَهُم أن يسجنوه كَانَ صوابًا.
وقوله: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ (14) مخفوض «6» فِي الإعراب تَجعله صفة من صفات الله تبارك وتعالى. ولو نصبته عَلَى المدح كَانَ صوابًا، وهو معرفة. ولو نويت الفاطر الخالق نصبته على القطع
__________
(1) والصحيح أن القرن مائة سنة، راجع ج 9 شرح القاموس.
(2) سقط ما بين القوسين فى ش، وثبت فى ج.
(3) أي «ليجمعنكم» .
(4) آية 54 سورة الأنعام.
(5) آية 35 سورة يوسف.
(6) أي «فاطر» .(1/328)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
إذ لَمْ يكن فِيهِ ألف ولام. ولو استأنفته فرفعته كَانَ صوابًا كما قَالَ:
رَبِّ السَّماواتِ «1» وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ:
وقوله: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ (18) كلُّ شيء قهر شيئًا فهو مُسْتَعلٍ عَلَيْهِ.
وقوله: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ (19) يريد: ومن بلغه القرآن من بعدكم، و (بلغ) صلة ل (من) . ونصبت (من) بالإنذار. وقوله: آلِهَةً أُخْرى ولم يقل: أُخَر لأن الآلهة جَمع، (والجمع) «2» يقع عَلَيْهِ التأنيث كما قَالَ الله تبارك وتعالى: وَلِلَّهِ «3» الْأَسْماءُ الْحُسْنى وقال الله تبارك وتعالى: فَما «4» بالُ الْقُرُونِ الْأُولى ولم يقل: الأوَل والأوّلين. وكلّ ذَلِكَ صواب.
وقوله: يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ (20) ذُكِرَ أنّ عمر بن الخطاب قَالَ لعبد الله بن سَلام: ما هذه المعرفة التي تعرفون بِهَا محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: والله لأنابه إِذَا رأيته أعرفُ مني بابني وهو يلعب مع الصبيان لاني لا أشكُّ فِيهِ أَنَّهُ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولستُ أدري ما صنع النساء فِي الابن. فهذه المعرفة لصفته فِي كتابِهم.
وجاء التفسير فِي قوله: خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ يُقال: لَيْسَ من مؤمن ولا كافر إلا لَهُ منزل فِي الجنة وأهل وأزواج، فمن أسلم وسعد صار إلى منزله وأزواجه
__________
(1) آية 37 سورة النبأ. وقراءة رفع «رب» و «الرحمن» عند نافع وابن كثير وأبى عمرو وأبى جعفر، وقراءة ابن عامر وعاصم ويعقوب بجرّهما.
(2) سقط ما بين القوسين فى ج، وثبت فى ش.
(3) آية 180 سورة الأعراف. [.....]
(4) آية 51 سورة طه.(1/329)
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
(ومن «1» كفر صار منزله وأزواجه) إلى من أسلم وسعد. فذلك قوله الَّذِينَ «2» يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ يقول: يرثونَ منازل الكفار، وهو قوله: الَّذِينَ «3» خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ.
وقوله: وَاللَّهِ رَبِّنا (23) تقرأ «4» : رَبِّنَا وربَّنا خفضًا ونصبًا. قَالَ الفراء: وَحَدَّثَنِي الْحَسَن بن عيَّاش «5» أخو أبي بكر بن عياش عَن الأعمش عَن الشعبي عَن عَلقمة «6» أَنَّهُ قرأ وَاللَّهِ رَبِّنا قَالَ: معناهُ: والله يا ربَّنا. فمن قَالَ رَبِّنا جعله محلوفا به.
وقوله: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ ... (32)
جعلت الدار هاهنا اسمًا، وجُعِلت الآخِرة من صفتها، وأضيفت فِي غير هَذَا الموضع «7» . ومثله مِمّا يُضاف إلى مثله فِي المعنى قوله (إِنَّ «8» هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ والحق هُوَ اليقين كما أنّ الدار هي الآخرة. وكذلك آتيتك بارحة الأولى، والبارحة الأولى. ومنه: يوم الخميس، وليلة الخميس. يُضاف الشيء إلى نفسه إِذَا اختلف لفظه كما اختلف الحق واليقين، والدار [و «9» ] الآخرة، واليوم والخميس.
فإذا اتفقا لَمْ تقل العرب: هَذَا حقُّ الحقّ، ولا يقين اليقين لانهم يتوهمون إذا
__________
(1) سقط ما بين القوسين فى ج، وثبت فى ش.
(2) آية 11 سورة المؤمنون.
(3) آية 15 سورة الزمر، 45 سورة الشورى.
(4) النصب قراءة حمزة والكسائىّ وخلف، والجر قراءة الباقين.
(5) هو أبو محمد الكوفىّ. روى عن الأعمش وغيره. مات سنة 172 هـ. وأخوه أبو بكر مات سنة 193
(6) هو علقمة بن قيس النخعىّ. مات سنة 62
(7) كما فى الآية 109 سورة يوسف. على أن ابن عامر قرأ هنا: «ولدار الاخرة» بالإضافة.
(8) آية 95 سورة الواقعة.
(9) سقطت الواو فى ش، ج. وما أثبتناه هو المناسب للمقام.(1/330)
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
اختلفا فِي اللفظ أنهما مختلفان فِي المعنى. ومثله فِي قراءة عَبْد اللَّه وَذَلِكَ «1» الدينُ القَيِّمَةُ وفى قراءتنا دِينُ الْقَيِّمَةِ والقَيِّمُ والقَيِّمة بمنزلة قولك: رجل راوية وَهَّابة للأموال ووهَّاب وراو، وشبهه.
وقوله: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ (33) قرأها العامَّة بالتشديد. قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ الأَسَدِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ «2» عَنْ نَاجِيَةَ «3» بْنِ كَعْبٍ عَنْ علىّ أنه قرأ «4» يُكَذِّبُونَكَ مُخَفَّفَةً.
ومعنى التخفيف- والله أعلم-: لا يجعلونك كذَّابًا، وإنَّما يريدونَ أن ما جئت بِهِ باطل لانهم لَمْ يجرّبوا عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذبًا فيكذبوه وإنَّما أكذبوه «5» أي ما جئت بِهِ كذب لا نعرفه. والتكذيب «6» : أن يُقال: كَذَبت. والله أعلم.
وقوله: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ... (35)
فافعل «7» ، مضمرة، بذلك. جاء التفسير، وَذَلِكَ معناهُ. وإنَّما تفعله العرب فِي كل موضع يُعرف فِيهِ معنى الجواب ألا ترى أنك تَقُولُ للرجل: إن استطعت أن تتصدق، إن رأيت أن تقوم مَعَنا، بترك الجواب لمعرفتك بِمعرفته به «8» . فإذا جاء
__________
(1) آية 5 سورة البينة.
(2) هو عمرو بن عبد الله الهمدانىّ الكوفىّ. توفى سنة 127 هـ.
(3) صحابىّ جليل. توفى فى أيام معاوية.
(4) وهى قراءة نافع والكسائىّ. [.....]
(5) كذا فى ج. وهو يوافق عبارة اللسان. وفى ش: «يكذبوه» .
(6) حاصل هذا أن التكذيب: النسبة إلى الكذب. والإكذاب للرجل أن يجد كلامه باطلا، وإن لم يكن القائل كاذبا فيه عارفا بكذبه.
(7) هذا جواب الشرط المحذوف.
(8) ثبت فى ج، وسقط فى ش.(1/331)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
ما لا يُعرف جوابه إلا بظهوره أظهرته كقولك للرجل: إن تقم تضب خيرًا، لا بدّ فِي هَذَا من جواب لأن معناهُ لا يُعرف إِذَا طُرِح.
وقوله: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ... (38)
(الطائر) مخفوض. ورفعه «1» جائز (كما «2» تَقُولُ: ما عندي من) رجل ولا امرأةٍ، وامرأةٌ من رفع قَالَ: ما عندي من رجلٍ ولا عندي امرأة. وكذلك قوله:
وَما «3» يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ ثُمَّ قَالَ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ، وَلا أَكْبَرَ، وَلا أَكْبَرَ إِذَا نصبت (أصغر) فهو فِي نية خفض، ومن رفع ردّه عَلَى المعنى.
وأمّا قوله وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ فإنّ الطائر لا يطير إلا بجناحيه. وهو فِي الكلام بِمنزلة قوله (لَهُ «4» تِسع وتسعونَ نَعْجَة [ولي نعجة] أنثى) ، وكقولك للرجل:
كلَّمْته بِفيّ، ومشيت إِلَيْهِ عَلَى رِجْلَيَّ، إبلاغًا فِي الكلام.
يُقال: إنّ كل صنف من البهائم أُمَّةٌ، والعربُ تَقُولُ صِنْف [وصَنْف «5» ] .
ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ حَشْرها: موتها، ثُمَّ تُحشر مع الناس فيُقال لَهَا:
كوني ترابًا. وعند ذَلِكَ يتمنّى الكافر أنه كان ترابا مثلها.
__________
(1) وبه قرأ الحسن وعبد الله بن أبى إسحاق.
(2) سقط ما بين القوسين فى ج، وثبت فى ش.
(3) آية 61 سورة يونس، وآية 3 سورة سبأ، والقراءة بالوجهين فى الآية الأولى. فقرأ حمزة ويعقوب وخلف بالرفع، والباقون بالفتح. فأما فى آية سبأ فقد اتفق على الرفع إلا فى رواية عن المطوعى كما فى الإتحاف.
(4) آية 23 سورة ص. وهذه قراءة ابن مسعود كما فى البديع.
(5) زيادة يقتضيها السياق.(1/332)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)
وقوله: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ ... (40)
العرب لها فى (أرأيت) لغتان، ومعينان.
أحدهما أن يسأل الرجل الرجل: أرأيت زيدًا بعينك؟ فهذه مهموزة. فإذا أوقعتها عَلَى الرجُل منه قلت: أرأيتكَ عَلَى غير هَذِه الحال؟ تريدُ: هَلْ رأيتَ نفسك عَلَى غير هَذِه الحال. ثم «1» تثنّى وتجمع، فتقول للرجلين: أرايتما كما، وللقوم:
أَرَأَيْتموكم، وللنسوة: أَرَأَيْتُنَّكُنَّ «2» ، وللمرأة: أَرَأَيْتِكِ، تخفض التاء والكاف، لا يَجوز إلا ذَلِكَ.
والمعنى الآخر أن تَقُولُ: أرأيتَكَ، وأنت تريد: أَخْبِرني (وتهمزها) «3» وتنصب التاء منها وتترك الْهَمْز إن شئت، وهو أكثر كلام العرب، وتترك التاء موحّدة مفتوحة للواحد والواحدة [والجميع «4» فِي] مؤنثه ومذكره. فتقول للمرأة: أرايتَكِ زيدًا هَلْ خرج، وللنسوة: أرايتَكُنَّ زيدًا ما فعل. وإنّما تركت العرب التاء واحدة لانهم لَمْ يريدوا أن يكون الفعل منها واقعًا عَلَى نفسها، فاكتَفْوا بذكرها فِي الكاف، ووجَّهوا التاء إلى المذكر والتوحيد إذ لَمْ يكن الفعل واقعًا. وموضع الكاف نصب وتأويله رفع كما أنك إِذَا قلت للرجل: دونك زيدًا وجدت الكاف فِي اللفظ خفضًا وَفِي المعنى رفعًا لانّها مأمورة.
والعرب إِذَا أوقعَتْ فِعْل شيء عَلَى نفسه قد كُنِّيَ فِيهِ عَن الاسم قالوا فِي الأفعال التامَّة غير ما يقولون فِي الناقصة. فيُقال للرجل: قتلتَ نفسك، وأحسنت إلى
__________
(1) سقط هذا الحرف فى ش، وثبت فى ج.
(2) رسم فى اللسان (رأى) : «أرأتن كن» وظاهر أن «أرأتن» تحريف عن «أرأيتن» .
(3) فى عبارة اللسان: «فتهمزها» .
(4) ثبت ما بين الجاصرين فى عبارة اللسان، وسقط فى ش، ج.(1/333)
فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
نفسكَ، ولا يقولون: قتلتكَ ولا أحسنتَ إليك. كذلك قَالَ الله تبارك وتعالى فَاقْتُلُوا «1» أَنْفُسَكُمْ فِي كَثِير من القرآن كقوله وَما «2» ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فإذا كَانَ الفعلُ ناقصًا- مثل حسبت وظننتُ- قالوا: أَظُنُّني خارجًا، وأَحْسبني خارجًا، ومتى تراك خارجًا. ولم يقولوا: متى ترى نفسك، ولا متى تظنّ نفسك. وَذَلِكَ أنّهم أرادوا أن يفرقُوا بين الفعل الَّذِي قد يُلْغَى، وبين الفعل الَّذِي لا يَجوز إلغاؤه ألا ترى أنك تَقُولُ: أنا- أظنّ- خارج، فتبطل (أظنّ) ويعمل فِي الاسم فعله.
وقد قَالَ الله تبارك وتعالى إِنَّ «3» الْإِنْسانَ لَيَطْغى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ولم يقل: رأى نفسه. وربما جاء فِي الشعر: ضربتَكَ أو شَبههُ من التامّ. من ذَلِكَ قول الشاعر «4» :
خُذَا حَذَرًا يا جارتَيَّ فإنَّني ... رأيتُ جِرَانَ الْعَوْدِ قد كَادَ يُصْلح
لقد كَانَ لي فِي ضَرّتين عدِمتُني ... وما كنت ألقى من رزينة أبرح
والعرب يقولون: عدِمتُنِي، ووجدتُني، وفقدتُني، وليس بوجه الكلام.
وقوله: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا ... (43)
معنى (فَلَوْلا) فهلا. ويكون معناها عَلَى معنى لولا «5» كأنك قلت: لولا عبد الله لضربتك. فإذا رأيت بعدها اسمًا واحدًا مرفوعًا فهو بِمعنى لولا التي جوابها اللام وَإِذَا لَمْ تَر بعدها اسمًا فهي استفهام كقوله: لَوْلا «6» أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ [فَأَصَّدَّقَ
__________
(1) آية 54 سورة البقرة. [.....]
(2) آية 101 سورة هود.
(3) آيتا 6، 7 سورة العلق.
(4) هو عامر بن الحارث النميرىّ عند صاحب القاموس تبعا للصاغاتىّ. وعند الجوهرى: المستورد.
وقد لقب جران العود لهذا الشعر. والعود: البعير المسنّ وجرانه مقدّم عنقه. كان له امرأتان لا ترضيانه، فاتخذ من جران العود سوطا قدّه من جران عود نحره، وهو أصلب ما يكون. فقوله: «يا جارتى» يريد زوجتيه.
(5) كذا فى ج. وفى ش: «لو لاك» .
(6) آية 10 سورة المنافقين.(1/334)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ] وكقوله: فَلَوْلا «1» إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ [تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ] وكذلك (لوما) فيها ما فِي لولا: الاستفهام والخبر.
وقوله: فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ (44) يعني أبواب الرزق والمطر وهو «2» الخير فِي الدُّنْيَا لنفتنهم فِيهِ. وهو مثل قوله:
حَتَّى «3» إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً ومثله وَأَنْ «4» لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ والطريقة طريقة «5» الشِرك أي لو استمروا عليها فعلنا ذَلِكَ بِهم.
وقوله: فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ المبلس: اليائس المنقطع رجاؤه. ولذلك قيل للذي يسكت عند انقطاع حجته ولا يكون عنده جواب: قد أبلس وقد قَالَ الراجز «6» :
يا صاحِ هَلْ تعرف رَسْمًا مُكْرَسَا ... قَالَ نعم أعرفه، وأبلسا
أي لَمْ يُحِرْ إليّ جوابًا.
وقوله: يَأْتِيكُمْ بِهِ (46) كناية عَن ذهاب «7» السمع والبصر والختم عَلَى الأفئدة. وإذا كنيت عَن الأفاعيل وإن كثرت وحَّدْت الكناية كقولك للرجل: إقبالك وإدبارك يؤذيني. وقد يُقال: إنَّ الْهَاء التي فِي «8» بِهِ كناية عن الهدى، وهو كالوجه الأوّل.
__________
(1) آيتا 76، 77 سورة الواقعة.
(2) ثبت فى ج، وسقط فى ش.
(3) آية 24 سورة يونس.
(4) آيتا 16، 17 سورة الجنّ
(5) هذا أحد وجهين فى تفسير الطريقة.
والوجه الآخر أنها طريقة الهدى والإسلام. والنعمة والخير يكونان للكافر استدراجا، وللمؤمن ابتلاه.
(6) هو العجاج. و «مكرسا» أي فيه الكرس- بكسر فسكون- أي أبوال الإبل وأبعارها يتلبد بعضها على بعض فى الدار.
(7) هذا تسمح فى التعبير، والمراد: كناية عن السمع والبصر الذاهبين والأفئدة المختوم عليها.
(8) كذا فى ج. وفى ش: «به» .(1/335)
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
وقوله: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ (51) يقول: يَخافونَ أن يحشروا إلى ربهم علمًا بأنه سيكون. ولذلك «1» فسّر المفسرون يَخافُونَ: يعلمون.
وقوله: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ (52) يقول القائل: وكيف يَطْرد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يدعو ربه حَتَّى يُنْهَى عَن ذَلِكَ؟ فإنه بلغنا أن عيينة بن حِصْن الفَزَاري دخل عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده سَلْمَان وبلال وصُهَيْب وأشباههم، فقال عُيينة: يا رسول الله لو نحَّيْتَ هَؤُلاءِ عنك لاتاك أشراف قومك فأسلموا. فأنزل الله تبارك وتعالى:
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ.
وقوله: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ (54) تكسر الألف من (أنّ) والتي بعدها «2» فى جوابها على الائتناف، وهي قراءة «3» القرّاء «4» .
وإن شئت فتحت الألف من (أنّ) تريد: كتب ربكم عَلَى نفسه أَنَّهُ من عمل.
ولك فى (أنّ) التي بعد الفاء الكسر والفتح. فأمّا من «5» فتح فإنه يقول: إنَّما يَحتاج الكتاب إلى (أنّ) مرة واحدة ولكن الخبر هُوَ موضعها، فلمّا دخلت فى ابتداء
__________
(1) كذا فى ش. وفى ج: «ذلك» . [.....]
(2) ثبت هذا الحرف فى ج، وسقط فى ش.
(3) كذا فى ج. وفى ش: «فى قراءة» .
(4) الكسر فى إنّ الأولى وإنّ الثانية قراءة ابن كثير وأبى عمرو وحمزة والكسائىّ.
(5) الفتح فى الموضعين قراءة ابن عامر وعاصم ويعقوب.(1/336)
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
الكلام أعيدت إلى موضعها كما قَالَ: أَيَعِدُكُمْ «1» أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ فلمّا كَانَ موقع أنّ: أيعدكم أنكم مخرجون إِذَا متم دخلت فِي أول الكلام وآخره. ومثله: كُتِبَ «2» عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ بالفتح. ومثله:
أَلَمْ «3» يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ ولك أن تكسر «4» (إِنَّ) التي بعد الفاء فِي هَؤُلاءِ الحروف عَلَى الاستئناف ألا ترى أنك قد تراه حسنًا أن تَقُولُ:
«كتب أَنَّهُ من تولاهُ فهو يضله» بالفتح. وكذلك «وأصلح فهو غفور رحيم» لو كَانَ لكان صوابًا. فإذا حسُنَ دخول (هُوَ) حسن الكسر.
وقوله: وليستبين سبيل المجرمين (55) ترفع (السبيل) بقوله: (وليستبين) لأن «5» الفعل لَهُ. ومن «6» أنَّثَ السبيل قَالَ:
وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ. وقد يجعل «7» الفعل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتنصب «8» السبيل، يراد بِهِ: ولتستبين يا مُحَمَّد سبيلَ المجرمين.
وقوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يقض الحقّ (57) كتبت بطرح الياء لاستقبالها الألف واللام كما كتب سَنَدْعُ «9» الزَّبانِيَةَ بغير واو، وكما كتب فَما «10» تُغْنِ النُّذُرُ بغير ياء عَلَى اللفظ. فهذه قراءة أصحاب «11»
__________
(1) آية 35 سورة المؤمنون.
(2) آية 4 سورة الحج.
(3) آية 63 سورة التوبة.
(4) فتح الأولى وكسر الثانية قراءة نافع وأبى جعفر.
(5) وهذه القراءة بالياء فى الفعل ورفع السبيل قراءة أبى بكر وحمزة والكسائىّ وخلف.
(6) وهذه قراءة ابن كثير وأبى عمرو وابن عامر وحفص.
(7) كذا فى ش. وفى ج: «جعل» .
(8) وهذه قراءة نافع وأبى جعفر.
(9) آية 18 سورة العلق.
(10) آية 5 سورة القمر. [.....]
(11) وهى قراءة أبى عمرو وحمزة والكسائىّ، فهى قراءة سبعية.(1/337)
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
عبد الله. وذُكِرَ عَن عَليّ «1» أَنَّهُ قَالَ: (يَقُصُّ الْحَقَّ) بالصاد. قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: وَحَدَّثَنِي سُفْيَانُ «2» بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو «3» بْنِ دِينَارٍ عَنْ رَجُلٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ (يَقْضِي بِالْحَقِّ) قَالَ الْفَرَّاءُ: وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ.
وقوله: وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ (59) يَجوز رفعها.
وقوله: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً (63) يُقال: خُفْيَة وخِفْية. وفيها لغة بالواو، - ولا تصلح فِي القراءة-: خُفوة وخِفوة كما قيل: قد حلّ حبوته وحبوته وحبيته.
وقوله: لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ (63) قراءة أهل الكوفة، - وكذلك هي فِي مصاحفهم- «أن «4» جِ ي ن ألف» وبعضهم «5» بالألف (أَنْجَانَا) وقراءة الناس (أنجيتنا) بالتاء.
وقوله: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ (65) كما فعل بقوم نوح: المطر والحجارة والطوفان أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ:
الخسف أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً: يخلطكم شيعا ذوى أهواء.
__________
(1) وهى قراءة نافع وابن كثير وعاصم.
(2) كانت وفاته سنة 198
(3) هو أبو محمد المكىّ. توفى سنة 116
(4) رسمها هكذا، يريد أنجانا بألف بعد الجيم ممالة، فرسمها ياء للدلالة على إمالتها. وهذه قراءة حمزة والكسائي وخلف.
(5) أي بعض أهل الكوفة وهو عاصم.(1/338)
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
وقوله: وَلكِنْ ذِكْرى (69) فِي موضع نصب أو رفع النصب بفعل مضمر (ولكن) نذكرهم (ذكرى) والرفع عَلَى قوله (ولكن) هُوَ (ذكرى) .
وقوله: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً ... (70)
يُقال: لَيْسَ من قوم إِلا ولَهم عيد فهم يَلْهُون فِي أعيادِهم، إلا أُمَّةَ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن أعيادهم بِرّ وصلاة وتكبير وخير.
وقوله: وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ أي ترتهن «1» (والعربُ «2» تَقُولُ: هَذَا عليك بَسْل أي حرام. ولذلك قيل: أسَد باسل أي لا يُقْرَب) والعربُ تَقُولُ: أعْطِ الراقِي بُسْلته، وهو أجر الرقْية.
وقوله: يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا ... (71)
كَانَ أَبُو بكر الصديق وامرأته يدعوان عبد الرحمن ابنهما إلى الإسلام. فهو قوله: إِلَى الْهُدَى ائْتِنا أي أطعنا، ولو كانت «إلى الهدى أن ائتنا» لكان صوابًا كما قَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ «3» فِي كَثِير من أشباهه، يجيء بأَنْ، ويطرحُها.
وقوله: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ ... (72)
مردودة عَلَى اللام التي فِي قوله: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ والعربُ تَقُولُ: أمرتك لتذهب (وأن «4» تذهب) فأَن فِي موضع نصب بالرد عَلَى الأمر. ومثله فى القرآن كثير.
__________
(1) فى ش، ج: «يرتهن» .
(2) ثبت ما بين القوسين فى ج، وسقط فى ش.
(3) آية 1 سورة نوح.
(4) ثبت ما بين القوسين فى ش، وسقط فى ج.(1/339)
وقوله: كُنْ فَيَكُونُ ... (73)
يقال إنّ قوله: فَيَكُونُ للصُّور خاصَّة، أي يوم يقول للصور: كُنْ فَيَكُونُ.
ويقال إن قوله: كُنْ فَيَكُونُ لقوله «1» هُوَ الحقّ من نعت القول، ثُمَّ تجعل فعله يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ يريد: يكون قوله الحقّ يومئذ. وقد يكون أن تقول:
وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ لكل شيء فتكون كلمة مكتفية وترفع القول بالحقّ، وتنصب (اليوم) لأنه محل لقوله الحقّ.
والعربُ تَقُولُ: نُفِخَ فِي الصورِ وَنُفِخَ، وَفِي قراءة عبد الله: كهيئة الطير فأنفخها فتكون طيرًا بإذني «2» وقال الشاعر:
لولا ابنُ جَعْدة لَمْ يُفتَح قُهُنْدُزكم ... ولا خُراسانُ حَتَّى يُنْفَخَ الصُّورُ «3»
ويُقال: إن الصُّور قَرن، ويُقال: هُوَ جَمع للصور «4» ينفخ فِي الصور فِي الموتى.
والله أعلم بصواب ذَلِكَ.
وقوله: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ... (74)
يُقال: آزر فِي موضع خفض ولا يُجْرى لأنه أعجميّ. وقد أجمع أهل النسب عَلَى أَنَّهُ ابن تَارَح، فكأن آزر لقب لَهُ. وقد بلغني أن معنى (آزر) فِي كلامهم مُعوج، كأنه عابه بزيغه وبِعِوجه عَن الحق. وقد قرأ بعضهم «5» لِأَبِيهِ آزَرَ بالرفع عَلَى النداء (يَا) وهو وجه حسن. وقوله: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً نصبت الأصنام بإيقاع الفعل عليها، وكذلك الآلهة.
__________
(1) يريد أن «قوله» فاعل «يكون» . و «الحق» نعمت القول. وقوله: «هو» المناسب: «و» .
(2) هذا فى الآية 110 سورة المائدة.
(3) القهندز كلمة أعجمية معناها الحصن أو القلعة فى وسط المدينة. وهو اسم لأربعة مواضع.
(4) كذا. والمراد أنه جمع مرادف للصور- بضم الصاد وفتح الواو- فى أنه جمع صورة. وقد يكون الأصل: «للصورة» . [.....]
(5) هو يعقوب.(1/340)
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)
وقوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ... (76)
يُقال: جنّ عَلَيْهِ الليل، وَأَجَنَّ، وَأَجَنَّهُ الليل وجَنّه الليل وبالألف «1» أجود إِذَا ألقيت (عَلَى) وهي أكثر من جنَّه الليل.
يُقال فِي قوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي قولان: إِنَّما قَالَ: هَذَا ربي استدراجًا للحجَّة عَلَى قومه ليعيب «2» آلهتهم أنّها ليست بشيء، وأن الكوكب والقمر والشمس أكبر منها ولسن بآلهة ويُقال: إنه قاله عَلَى الوجه «3» الآخر كما قَالَ الله تبارك وتعالى لِمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَمْ «4» يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى واحتجوا هاهنا بقول إِبْرَاهِيم: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ.
وقوله: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ (83) وَذَلِكَ أنهم قالوا لَهُ: أمَا تَخاف أن تخبلك آلهتنا لسبِّك إيّاها؟ فقال لَهُم:
أَفلا تخافون أنتم ذَلِكَ منها إذ سوّيتم بين الصغير والكبير والذكر والأنثى أن يغضب الكبير إذ سويتم بِهِ الصغير. ثُمَّ قَالَ لَهُم: أمن يعبد إلهًا واحدًا أحقّ أن يأمن أم من يعبد آلهة شَتَّى؟ قالوا: من يعبد إلها واحدا، فغضبوا على أنفسهم. فذلك قوله: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ.
__________
(1) سقط حرف العطف فى ش، وثبت فى ج.
(2) كذا فى ج. وفى ش: «يعيب» .
(3) يريد أن إبراهيم كان يعتقد ما ذكره أولا، يقولون: كان هذا فى صغره حيث لا يكون كفرو لا إيمان.
(4) آيتا 6، 7 سورة الضحى.(1/341)
وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
وقوله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ... (84)
هذه الهاء لنوح: و (هدينا) من ذريته داود وسليمان. ولو رفع داود وسليمان عَلَى هَذَا المعنى إذ لَمْ يظهر الفعل كَانَ صوابًا كما تَقُولُ: أخذت صدقاتِهم لكل مائة (شاةٍ «1» شاةٌ) وشاةٌ.
وقوله: وَالْيَسَعَ ... (86)
يشدّد «2» أصحاب عبد الله اللام، وهي أشبه بأسماء العجم من الذين «3» يقولون وَالْيَسَعَ لا تكاد العرب تدخل الألف واللام فيما لا يُجْرَى مثل يزيد ويعمر إلا فِي شعر أنشد بعضهم:
وَجَدْنَا الوليد بن اليزيد مباركًا ... شديدًا بَأحْنَاء الْخِلافَةِ كاهِله «4»
وإنَّما أَدْخل فِي يزيد الألف واللام لَمَّا أدخلها فِي الوليد. والعربُ إِذَا فعلت ذَلِكَ فقد أمسَّت الحرف مدحًا.
وقوله: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ ... (89)
يعني أهل مَكَّةَ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً يعنى أهل المدينة لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ بالآية «5» .
__________
(1) سقط ما بين القوسين فى ج، وثبت فى ش.
(2) هؤلاء عندهم تشديد اللام مفتوحة وسكون الياء. وهى قراءة حمزة والكسائي وخلف.
(3) هم أهل الحرمين وأبو عمرو وعاصم.
(4) من قصيدة لابن ميادة الرماح بن أبرد. والوليد بن يزيد هو الخليفة الأموىّ وقد قتل سنة 126 وقوله: «بأحناء الخلافة» فالأحناء جمع الحنو وهو الجهة، والجانب. ويروى: «بأعباء الخلافة» .
(5) كذا فى ج، وفى ش: «بالأمة» .(1/342)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
وقوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (91) ما عظّموهُ حقّ تعظيمه. وقوله تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ يقول: كيف قلتم: لَمْ يُنزل الله عَلَى بشر من شيء وقد أنزلت التوراة عَلَى موسى تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ والقِرطاس «1» فِي هَذَا الموضع صحيفة. وكذلك قوله: وَلَوْ «2» نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ يعنى: فى صحيفة.
تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً يقول: تبدونَ ما تُحبون، وتكتمونَ صفة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ أُمر مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول قُلِ اللَّهُ أي: أنزله الله عليكم. وإن شئت قلت: قل (هُوَ) الله.
وقد يكون قوله قُلِ اللَّهُ جوابًا لقوله: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى، قُلِ اللَّهُ أنزله. وإنما اخترت رفع اللَّهَ بغير الجواب لأن الله تبارك وتعالى الَّذِي أمر محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسألهم: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ وليست بِمسألة منهم فيجابوا، ولكنه جازَ لأنه استفهام، والاستفهام يكون لَهُ جواب.
وقوله: ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ لو كانت جزمًا لكان صوابًا كما قَالَ ذَرْهُمْ «3» يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا.
__________
(1) كذا فى ج، وفى ش: «القراطيس» .
(2) آية 7 سورة الأنعام.
(3) آية 3 سورة الحجر.(1/343)
وقوله: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى ... (92)
يُقال فِي التفسير: إنّ «1» أمّ القرى مَكَّة.
وقوله: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ الْهَاء تكون لِمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللتنزيل.
وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ... (93)
يُقال: إنَّها نزلت فِي مسيلمة الكذَّاب، وَذَلِكَ أنه ادّعى النبوة.
وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ ومن فِي موضع خفض. يريد: ومن أظلم من هَذَا ومن هَذَا الَّذِي قال: سأنزل مثل ما أنزل الله. نزلت فِي عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح.
وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يكتب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ كتب سَمِيعٌ عَلِيمٌ أو عَزِيزٌ حَكِيمٌ فيقول لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سواء حَتَّى أملّ عَلَيْهِ قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ «2» إلى قوله: ثُمَّ «3» أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فقال ابن أبي سَرْح فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ تعجُّبًا من تفصيل خَلق الانْسَان، قَالَ فقال لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هكذا أنزِلت عَليّ، فشكّ وارتدّ. وقال: لئن كَانَ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صادقًا لقد أوحي إليّ (كما «4» أوحي إِلَيْهِ) ولئن كَانَ كاذبًا لقد قلتُ مثل ما قَالَ، فأنزل الله تبارك وتعالى فِيهِ: وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ.
__________
(1) ثبت هذا الحرف فى ج، وسقط فى ش. [.....]
(2) آية 12 سورة المؤمنون.
(3) آية 14 سورة المؤمنون.
(4) سقط ما بين القوسين فى ش، وثبت فى ج.(1/344)
وقوله: وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ ويُقال: باسطو أيديهم بإخراج أنفس الكفار. وهو مثل قوله: يَضْرِبُونَ «1» وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ولو كانت (باسطون) كانت (أيدِيَهُمْ) ولو كانت «باسطو أيديهم أن أخرجِوا» كَانَ صوابًا. ومثله مما تركت فِيهِ أن قوله: يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا وَإِذَا طرحت من مثل هَذَا الكلام (أَن) ففيه القول مُضْمَرٌ كقوله: وَلَوْ «2» تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يقولون: رَبَّنا.
وقوله: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى ... (94)
وهو جمع. والعرب تَقُولُ: [قوم «3» ] فرادى وفرادُ يا هَذَا فلا يُجرونَها، شبهت بثُلاث ورُبَاع. وفرادى واحدها فَرْد، وفِرد، وفريد وفراد «4» للجمع، ولا يَجوز فرد فِي هَذَا المعنى. وأنشدني بعضهم:
ترى النُعَراتِ الزُّرْقِ تَحت لَبَانه ... فُرَادَ ومثْنَى أصعقتها صواهِله «5»
وقوله: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ... (94)
قرأ حمزة ومجاهد بَيْنَكُمْ يريد وصلكم. وَفِي قراءة عبد الله لَقَدْ تقطع ما بينكم وهو وجه الكلام. إِذَا جعل الفعل لبين ترك نصبًا كما قالوا: أتاني دونك من الرجال فترك نصبًا وهو فِي موضع رفع لأنه صفة. وإذا قالوا: هذا
__________
(1) آية 50 سورة الأنفال.
(2) آية 12 سورة السجدة.
(3) زيادة من اللسان فى عبارة الفرّاء (فرد)
(4) كذا فى ج. وفى ش: «فردان» وهو يوافق عبارة اللسان. وكأن الصواب ما أثبت.
يريد أن (فراد) تأتى فى التكرير عند الجمع، وليس كذلك فرد.
(5) «فراد» كذا فى اللسان، وهو المناسب. وفى ش، ج: «فرادى» . وتقدّم البيت.(1/345)
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
دون من الرجال رفعوه فِي موضع الرفع. وكذلك تَقُولُ: بين الرجلين بين بعيد، وبون بعيد إِذَا أفردته أجريته «1» فِي العربية وأعطيته الإعراب.
وقوله: فالِقُ الْإِصْباحِ ... (96)
والإصباح مصدر أصبحنا إصباحًا، والإصباح «2» صُبْح كل يوم بِمجموع.
وقوله: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً الليل فِي موضع نصب فِي المعنى. فردّ الشمس والقمر عَلَى معناهُ لِمَا فرق بينهما بقوله: سَكَناً فإذا لَمْ تفرق بينهما بشيء آثروا الخفض. وقد يَجوز أن ينصب وإن لَمْ يحل بينهما بشيء أنشد بعضهم:
وبينا نحنُ ننظره أتانا ... معلِّقَ شَكْوةٍ وزِنَادَ راع «3»
وتقول: أنت آخذٌ حقَّك وَحَقِّ غيرك فتضيف فِي الثاني وقد نوَّنت فِي الأول لأن المعنى فِي قولك: أنت ضارب زيدًا وضاربُ زيدٍ سواء. وأحسن ذلك أن تحول بينهما بشيء كما قَالَ امرؤ القيس:
فظلّ طُهَاةُ اللحم من بين مُنْضِج ... صفيفَ شِوَاءٍ أو قَدِيرٍ معجَّلِ «4»
فنصب الصفيف وخفض القدير على ما قلت لك.
__________
(1) ثبت فى ج، وسقط فى ش.
(2) وقد قرأ بهذا الحسن وعيسى بن عمر.
(3) نسبه سيبويه فى الكتاب 1/ 87 إلى رجل من قيس عيلان. وقوله: «ننظره» أي ننتظره.
والشكوة وعاء كالدلو أو كالقربة الصغيرة أو وعاء من أدم يبرد فيه الماء. وفى رواية «وفضة» فى مكان (شكوة) وهى خريطة كالجعبة من الجلد بحمل فيها الراعي متاعه وزاده.
(4) هذا من معلقته. يصف صيده وما فعل به. والصفيف: اللحم يشرح، أو هو الذي يغلى إغلاءة ثم يرفع، أو هو ما صف على الجمر ليشوى. والقدير: ما يطبخ فى القدر.(1/346)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
وقوله: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ ... (98)
يعنى فى الرحم «1» وَمُسْتَوْدَعٌ فى صلب الرجل. ويقرأ «2» فَمُسْتَقَرٌّ يعنى الولد فى الرحم وَمُسْتَوْدَعٌ فِي صلب الرجل. ورفعها عَلَى إضمار الصفة كقولك: رأيت الرجلين عاقل وأحمق، يريدُ منهما كذا وكذا.
وقوله: فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ ... (99)
يقول: رزق كل شيء، يريد ما ينبت ويصلح غذاء لكل شيء. وكذا جاء التفسير، وهو وجه الكلام. وقد يَجوز فِي العربية أن تضيف النبات إلى كل شيء وأنت تريد بكل شيء النبات أيضًا، فيكون مثل قوله: إِنَّ «3» هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ واليقين هُوَ الحق. وقوله: مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ الوجه الرفع فِي القنوان لأن المعنى: ومن النخل قِنوانه دانية. ولو نصب: وأخرج من النخل من طلعها قنوانًا دانية لَجَازَ فِي الكلام، ولا يقرأ بِهَا لمكان الكتاب «4» .
وقوله: وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ نصب، إلا أن جَمْع المؤنث بالتاء يَخفض فِي موضع النصب، ولو رفعت «5» الجنات تتبع «6» القنوان كان صوابا.
وقوله: وَ «7» فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ الوجه فِيهِ الرفع، تجعلها تابعة للقطع. ولو نصبتها وجعلتها تابعة للرواسي والانهار كَانَ صوابًا.
__________
(1) كذا فى ج. وفى ش: «الرجل» .
(2) وهى قراءة ابن كثير وأبى عمرو. [.....]
(3) آية 95 سورة الواقعة.
(4) يريد الكتابة ورسم المصحف.
(5) قرأ به الأعمش، ويروى عن عاصم.
(6) أي فى الإعراب لا فى حكمه «من النخل» . والتقدير: لهم جنات أو ثم جنات.
(7) آية 4 سورة الرعد.(1/347)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
وقوله: وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ يريد شَجرة الزيتون وشَجر الرمان، كما قَالَ:
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» يريد أهل القرية.
وقوله: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ يقول: انظروا إِلَيْهِ أول ما يَعْقِد (وَيَنْعِهِ) : بلوغه وقد قرئت (وَيُنْعِهِ «2» ، ويانِعِهِ «3» ) . فأمّا قوله: وَيَنْعِهِ فمثل نضجه، ويانعه مثل ناضجه وبالغه.
وقوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ (100) إن «4» شئت جعلت الْجِنَّ تفسيرًا للشركاء. وإن شئت جعلت نصبه عَلَى:
جعلوا الجنّ شركاء لله تبارك وتعالى.
وقوله: وَخَرَقُوا: واخترقوا وخلقوا واختلقوا، يريد: افْتَروْا.
وقوله: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ (102) يرفع خالِقُ عَلَى الابتداء «5» ، وَعَلَى أن يكون خبرًا. ولو نصبته إذ لَمْ يكن فِيهِ الألف واللام عَلَى القطع «6» كَانَ صوابًا، وهو مثل قوله: غافِرِ «7» الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ. وكذلك: فاطِرِ «8» السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لو نصبته إِذَا كَانَ قبله معرفة تامّة جاز ذلك لأنك قد تقول: الفاطر السموات، الخالق كل شىء،
__________
(1) آية 82 سورة يوسف.
(2) وهى قراءة ابن محيصن وابن أبى إسحق.
(3) وهى قراءة محمد بن السميفع.
(4) كذا فى ج. وفى ش: «وإن شئت» .
(5) وخبره «ذلكم الله ربكم» وفى الطبري: «يقول- تعالى ذكره-، الذي خلق كل شىء وهو بكل شى عليم هو الله ربكم» .
(6) يريد نصبه على الحال.
(7) آية 3 سورة غافر.
(8) آية 1 سورة فاطر.(1/348)
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
القابل التوب، الشديد العقاب. وقد يَجوز أن تَقُولُ: مررت بعبد الله مُحدِّثِ زيد، تَجعله معرفة وإن حسنت فِيهِ الألف واللام إِذَا كَانَ قد عُرِفَ بذلك، فيكون مثل قولك: مررت بوحشي قاتل حَمزة، وبابن ملجَم قاتِل عليّ، عرف بِهِ حَتَّى صارَ كالاسم لَهُ.
وقوله: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ (105) يقولون: تَعلَّمْتَ من يهود. وَفِي قراءة عبد الله وَلِيقولوا درس يعنون مُحمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو كما تَقُولُ فِي الكلام: قالوا لي: أساء، وقالوا لي:
أسأت. ومثله: قُلْ «1» لِلَّذِينَ كَفَرُوا سيغلبون وسَتُغْلَبُونَ.
وقرأ بعضهم «2» (دارست) يريدُ: جادلت اليهود وجادلوك. وكذلك قَالَ ابن عباس. وقرأها مُجَاهد (دارَسْت) وفسَّرها: قرأت عَلَى اليهود وقرءوا عليك.
وقد قرئت «3» (دُرِسَتْ) أي قرِئت وتليت. وقرءوا (دَرُسَتْ) وقرءوا (دَرَسَتْ) يريد: تقادمت، أي هَذَا الَّذِي يتلوه علينا شىء قد تطاول ومرّبنا.
وقوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ (109) المقسمونَ الكفار. سألوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأتيهم بالآية التي نزلت فِي الشعراء إِنْ «4» نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ
__________
(1) آية 12 سورة آل عمران. وقراءة الياء (سيغلبون) قراءة حمزة والكسائي وخلف. وقراءة التاء للباقين. وانظر ص 191 من هذا الجزء. [.....]
(2) من هؤلاء أبو عمرو وابن كثير، ووافقهما ابن محيصن واليزيدي.
(3) هى قراءة قتادة والحسن وزيد بن على.
(4) آية 4.
والمراد بالآية فى هذه الآية آية كونية ظاهرة يكون العلم عنها ضروريا. والظاهر أن المراد هنا ما يقترحونه من الآيات، وإن لم تكن ملجئة حتى تنسق مع ختام الآية. وجرى على ذلك البيضاوي.(1/349)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
فسألوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينزلها وحلفوا ليؤمنن، فقال المؤمنون:
يا رسول الله سل ربك ينزلها عليهم حَتَّى يؤمنوا، فأنزل الله تبارك وتعالى: قل للذين آمنوا: وما يُشعركم أنهم يؤمنون. فهذا وجه النصب فِي أنّ وما يُشعركم أنهم يؤمنون (و) نحن نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا، وقرأ بعضهم:
(إنها) مكسور الألف (إذا جاءت) مستأنفة، ويجعل قوله (وما يشعركم) كلامًا مكتفيًا. وهي فِي قراءة عبد الله: وما يشعركم «1» إِذَا جاءتهم أنهم لا يؤمنون.
و (لا) فِي هَذَا الموضع «2» صِلة كقوله: وَحَرامٌ «3» عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ: المعنى: حرامٌ عليهم أن يرجعوا. ومثله: مَا مَنَعَكَ «4» أَلَّا تَسْجُدَ معناهُ: أن تسجد.
وهي فِي قراءة أُبي: لعلها إِذَا جاءتهم لا يؤمنون وللعرب فِي (لعلّ) لغة بأن يقولوا: ما أدري أنك صاحبها، يريدون: لعلك صاحبها، ويقولون:
ما أدري لو أنّك صاحبها، وهو وجه جيد أن تَجعل (أَنّ) فِي موضع لعل.
وقوله: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ (111) هَذَا أمرٌ قد كانوا سألوهُ، فقال الله تبارك وتعالى: لو فعلنا بِهم ذَلِكَ لَمْ يؤمنوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.
وقوله: (قبلا) جمع قبيل. والقبيل: الكفيل. وإِنَّما اخترت هاهنا أن يكون الْقُبُلُ فِي معنى الكفالة لقولهم: أَوْ تَأْتِيَ «5» بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا يضمنون «6»
__________
(1) كذا فى ش. وفى ج: «يشعرهم» . وهذه القراءة تؤيد قراءة الفتح فى «أنها» .
(2) أي على القراءة الأولى.
(3) آية 95 سورة الأنبياء.
(4) آية 12 سورة الأعراف.
(5) آية 92 سورة الإسراء.
(6) كذا فى ج. وفى ش: «يمضون» .(1/350)
ذلك. وقد يكون (قبلا) : من قبل وجوههم كما تقول: أتيتك قُبُلا ولَمْ آتك دُبُرا. وقد يكون القبيل «1» جَميعًا للقبيلة كأنك قلت: أو تأتينا بالله والملائكة قبيلة قبيلة وجَماعة جَماعة. ولو قرئت «2» قَبَلا عَلَى معنى: معاينةً كَانَ صوابًا، كما تَقُولُ:
أنا لقيته قبلا.
وقوله: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ (112) نصبت العدوّ والشياطين بقوله: جعلنا.
وَقوله: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ فَإِنَّ إِبْلِيسَ- فِيمَا ذُكِرَ- جَعَلَ فِرْقَةً مِنْ شَيَاطِينِهِ مَعَ الإِنْسِ، وَفِرْقَةً مَعَ الْجِنِّ، فَإِذَا الْتَقَى شَيْطَانُ «3» الإِنْسِيِّ وَشَيْطَانُ الْجِنِّيِّ «4» قَالَ: أَضْلَلْتُ صَاحِبِي بِكَذَا وَكَذَا، فَأَضْلِلْ بِهِ صَاحِبَكَ، وَيَقُولُ «5» لَهُ (شَيْطَانُ «6» الْجِنِّيِّ) مِثْلَ ذَلِكَ. فَهَذَا وَحْيُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: حَدَّثَنِي بِذَلِكَ حَيَّانُ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وقوله: وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) الاقتراف: الكسب تَقُولُ العرب: خرج فلان يقترف «7» أهله.
وقوله: مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) من الشاكّين أنَّهم يعلمون أَنَّهُ مُنزل من ربك.
__________
(1) كذا فى ج. وفى ش: «القبيلة» .
(2) هى قراءة نافع وابن عامر وأبى جعفر.
(3) كذا فى ج. وفى ش: «شياطين» .
(4) كذا فى ج. وفى ش: «الجن» .
(5) فى ش، ج: «تقول» . [.....]
(6) كذا فى ج. وفى ش: «شياطين الجن» .
(7) فى الأساس: «يقترف لعياله» . وفى اللسان: «يقترف لعياله» . وكأن الحرف سقط هنا توسعا، والأصل: لأهله، وإلا فالاقتراف يتعدى إلى المال.(1/351)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
وقوله: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ (116) فى أكل الميتة يُضِلُّوكَ لأن أكثرهم كانوا ضُلالا. وَذَلِكَ أنهم قالوا للمسلمين: أتأكلونَ ما قَتَلتم ولا تأكلونَ ما قتلَ ربّكم! فأنزلت هَذِه الآية وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ.
وقوله: هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ (117) (من) فِي موضع «1» رفع كقوله: لِنَعْلَمَ «2» أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى إذا كانت (من) بعد العلم والنظر والدراية- مثل نظرت وعلمت ودريت- كانت فِي مذهب أيّ. فإن كَانَ بعدها فعل لَهَا رفعتها بِهِ، وإن كَانَ بعدها فعل يقع عليها نصبتها «3» كقولك:
ما أدرى من قام، ترفع (من) بقام، وما أدري من ضربت، تنصبها بضربت.
وقوله: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ (120) فأمّا ظَاهِره فالفجور والزنى، وأمّا باطنه فالمخالة: «4» أن تتخذ المرأة الخليل وأن يتخذها.
وقوله: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ (121) يقول: أكلكم ما لَمْ يذكر اسم الله عَلَيْهِ فسق أي كفر. وكنى عَن الأكل، كما قال:
فَزادَهُمْ «5» إِيماناً يريد: فزادهم قول الناس إيمانا.
__________
(1) على أنه اسم استفهام، فهو مبتدأ، وخبره جملة «يضل» . وجملة المبتدأ والخبر فى محل نصب علق عنه العامل. وهذا مبنى على جواز عمل اسم التفضيل فى المفعول به. وهو مذهب كوفى.
والبصريون يأبونه، ويجعلون «من» معمولا لفعل محذوف، تقديره: «يعلم» .
(2) آية 12 سورة الكهف.
(3) كذا فى ش. وفى ج: «نصبها» .
(4) كذا فى ج. وفى ش: «فالمخالفة» .
(5) آية 173 سورة آل عمران. يريد أن الضمير فى قوله: «وإنه لفسق» . عائد على الأكل المفهوم من قوله: «ولا تأكلوا» كما فى آية آل عمران هذه، فإن الضمير المستتر فى «فزادهم» يعود على الفول المفهوم من قوله: «قال لهم الناس» .(1/352)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
وقوله: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ (122) أي كَانَ ضالا فهديناه.
وقوله: نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ يعني إيمانه.
وقوله: الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ (124) أي من عند الله، كذلك قَالَ المفسرون. وهو فِي العربية كما تَقُولُ: سيأتيني رزق عندك، كقولك: سيأتيني الَّذِي عند الله. سيصيبهم «1» الصغار الَّذِي عنده، ولِمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينزله بِهم. ولا يَجوز فِي العربية أن تَقُولُ: جئتُ عند زيد، وأنت تريد: من عند زيد.
وقد يكون قوله: صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ أنَّهم اختاروا الكفر تَعزُّزًا وأَنَفةً من اتِّبَاع مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل الله ذَلِكَ صَغَارًا عنده.
وقوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ (125) [من «2» ] ومن فِي موضع رفع بالهاء التي عادت عليهما من ذكرهما.
وقوله: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً «3» قرأها ابن عباس وعمر (حرِجًا) . وقرأها الناس: حَرَجًا. والحرج- فيما فسر ابن عباس- الموضع الكثير الشجر الَّذِي لا تصل إِلَيْهِ الراعية. قَالَ: فكذلك صَدْر الكافر لا تصل إِلَيْهِ الحكمة. وهو فِي كسره وفتحه
__________
(1) هذا تفسير للآية: «سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله» .
(2) زيادة يقتضيها السياق.
(3) وهى قراءة نافع وأبى بكر وأبى جعفر.(1/353)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
بِمنزلة الوحَد «1» والوحِد، والفَرَد والفِرِد، والدَنَف والدِنِف: تقوله «2» العرب فِي معنى واحد.
وقوله: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ يقول: ضاق عَلَيْهِ المذهب فلم يَجد إِلا أَنْ يَصعد فِي السماء وليس يقدر. وتقرأ «3» كَأَنَّما يصَّاعَد يريد يتصاعد، (ويَصَّعَّدُ «4» ) مخففة.
وقوله: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ (128) يقول: قد أضللتم كثيرا.
وقوله: وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ فالاستمتاع من الإنس بالجِنّ أن الرجل كَانَ إِذَا فارق «5» فاستوحش أو قتل صيدًا من صيدهم فخاف قَالَ: أعوذ بسيد هَذَا الوادي، فيبيت آمنًا فِي نفسه. وأمّا استمتاع الجن بالإنس فما نالوا بِهم من تعظيم الإنس إيّاهم، فكان الجِنّ «6» يقولون: سُدْنا الجنّ والإنس.
وقوله: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
(130) فيقول القائل: إِنَّمَا الرسل من الإنس خاصة، فكيف قال للجنّ والإنس (منكم) ؟ قيل: هذا كقوله: مَرَجَ «7» الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ. ثم قال: يَخْرُجُ «8» مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ وإنّما يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح دون العَذْب.
فكأنك قلت: يخرج من بعضهما، ومن أحدهما.
__________
(1) فى ش، ج: «الواحد» .
(2) كذا فى ج. وفى ش: «تقول» .
(3) وهى قراءة أبى بكر والنخعي.
(4) هى قراءة ابن كثير. ووافقه ابن محيصن. [.....]
(5) كأنه يريد: فارق حيه أو رفقته.
(6) أي سادتهم وكبراؤهم الذين يستعاذ بهم.
(7) آية 19 سورة الرحمن.
(8) آية 22 سورة الرحمن.(1/354)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
وقوله: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ (131) إن شئت جعلت (ذَلِكَ) فِي موضع نصب، وجعلت (أن) مما يصلح فِيهِ الخافض فإذا حذفته كانت نصبًا. يريد: فعل ذَلِكَ أن لَمْ يكن مهلك القرى.
وإن شئت جعلت (ذَلِكَ) رفعًا عَلَى الاستئناف إن لَمْ يظهر الفعل. ومثله:
ذلِكَ «1» بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وذلِكَ «2» بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ. ومثله: ذلِكَ «3» لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ، وذلِكُمْ «4» وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ الرفع والنصب فيه كله جائز.
وقوله: مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ يقول: لَمْ يَكُنْ ليهلكهم بظلمهم وهم غافلونَ لَمَّا يأتهم رسول ولا حُجَّة. وقوله فِي هود: وَما «5» كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ يقول: لم يكن ليهلكهم بظلمهم، يقول: بشركهم (وأهلها مصلحون) يتعاطَون الحقّ فيما بينهم. هكذا جاء التفسير. وفيها وجه- وهو أحبّ إليّ من ذا لأن الشرك أعظم الذنوب- والمعنى والله أعلم: لم يكن ليهلكهم بظلم منه وهم مصلحون.
وقوله: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ (135) (من «6» تكون له) فِي موضع «7» رفع، ولو نصبتها «8» كَانَ صوابًا كما قَالَ الله تبارك وتعالى: وَاللَّهُ «9» يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ.
__________
(1) آية 10 سورة الحج.
(2) آية 182 سورة آل عمران.
(3) آية 52 سورة يوسف.
(4) آية 18 سورة الأنفال.
(5) آية 117.
(6) ثبت فى ج. وسقط فى ش.
(7) على أنه اسم استفهام مبتدأ. والفعل معلق.
(8) على أنه اسم موصول.
(9) آية 220 سورة البقرة.(1/355)
وقوله: مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِذَا «1» كَانَ الفعل فِي مذهب مصدر مؤنثًا مثل العاقبة، والموعظة، والعافية، فإنك إِذَا قدّمت فعله قبله أنَّثْتَهُ وذكّرته كما قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: فَمَنْ «2» جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ بالتذكير، وقال «3» : قَدْ «4» جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ بالتأنيث. وكذلك وَأَخَذَ «5» الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ وَأَخَذَتِ «6» فلا تهابنّ من هَذَا تذكيرًا ولا تأنيثا.
وقوله: هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ (136) وبرعمهم، وزِعْمِهم، ثلاث لغات. ولم يقرأ بكسر «7» الزَّاي أحدٌ نعلمه. والعربُ قد تَجعل الحرف فِي مثل هَذَا فيقولون: الفَتْك «8» والفُتْك والفِتْك، والوُدّ والوِدّ والوَدّ، فِي أشباه لَهَا. وأجود ذَلِكَ ما اختارته القرّاء الذين يؤثر عنهم القراءة. وَفِي قراءة عبد الله «وهذا لشركائِهم» وهو كما تَقُولُ فِي الكلام: قَالَ عبد الله: إِنّ لَهُ مالا، وإِنّ لي مالا، وهو يريد نفسه. وقد قَالَ الشاعر:
رَجُلانِ من ضَبَّةَ أَخبرانا ... إِنَّا رأينا رجلًا عُريانا
ولو قَالَ: أخبرانا أنّهما رأيا كان صوابا.
__________
(1) يذكر الوجه فى قراءتى «يكون» و «تكون» . والأولى قراءة حمزة والكسائي. والثانية قراءة الباقين. [.....]
(2) آية 275 سورة البقرة.
(3) كذا فى ج. وسقط هذا الفعل فى ش.
(4) آية 57 سورة يونس.
(5) آية 67 سورة هود.
(6) آية 94 سورة هود.
(7) وإنما قرى بفتحها وضمها. والضمّ قراءة الكسائي ويحيى بن وثاب والسلمى والأعمش، وهو لغة بنى أسد. والفتح قراءة الباقين، وهو لغة أهل الحجاز.
(8) هو مصدر فتك إذا ركب ما هتم به من الأمور ودعت إليه نفسه. وفى ش، وج: «القتل» وهو تحريف.(1/356)
وقوله: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ (137) وهم قوم كانوا يَخدمون آلهتهم، فزيَّنوا لَهُم دفن البنات وهنّ أحياء. وَكَانَ أيضًا أحدهم يقول: لئن وُلد لي كذا وكذا من الذكور لانحرنّ واحدًا. فذلك قتل أولادهم. والشركاء رفع لانهم الَّذِينَ زَيَّنوا.
وَكَانَ بعضهم يقرأ: «وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ» فيرفع القتل إِذَا لَمْ يسمّ فاعله، ويرفع (الشركاء «1» ) بفعل ينويه كأنه قَالَ: زيَّنه لَهم شركاؤهم. ومثله قوله: يُسَبِّحُ «2» لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ثم قال: رِجالٌ «3» لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ. وَفِي بعض «4» مصاحف أهل الشام (شركايهم) بالياء، فإن تكن مثبتة «5» عَن الأوّلين فينبغي أن يقرأ (زُيِّنَ) وتكون الشركاء هم الأولاد لانهم منهم فِي النسب والميراث. فإن كانوا يقرءون (زيّن) فلست أعرف جهتها إلا أن يكونوا فيها آخذين بلغة قوم يقولون: أتيتها عِشايا «6» ثُمَّ يقولون فِي تثنية (الحمراء «7» :
حمرايان) فهذا وجه أن يكونوا قالوا: «زُيِّنَ لكثيرٍ مِنَ المشركين قتل أولادهم
__________
(1) كذا فى ج. وسقط فى ش.
(2) آية 36 سورة النور. وفتح الباء فى «يسبح» قراءة ابن عامر وأبى بكر عن عاصم.
(3) آية 37 سورة النور.
(4) وعليها قراءة ابن عامر.
(5) كذا فى ج. وفى ش: «على» .
(6) أي يبقون حرف العلة فى الطرف بعد الألف الزائدة على أصله ولا يبدلونه همزة فيقولون بنيت بنايا لا بناء. وانظر فى هذه اللغة اللسان (حمو) . وهو يريد أنه اتباعا لهذه اللغة ولما ذكر بعد من قولهم فى تثنية حمراء: حمرايان ينطق بالهمزة ياء. وعلى ذلك فالشركاء يقال فيها الشركاى. ويحمل على هذا ما فى بعض مصاحف أهل الشام.
(7) فى ش: «أحمر أحمريان» وما هنا عن ج. [.....](1/357)
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
شركايهم» وإن شئت جعلت (زيّن) إِذَا فتحته فعلا لإبليس ثُمَّ تُخفض الشركاء باتباع الأولاد. وليس قول «1» من قَالَ: إنَّما أرادوا مثل قول الشاعر:
فزججتها متمكنًا ... زجّ الْقَلوصَ أبِي مزاده «2»
بشيء. وهذا مما كَانَ يقوله نَحْويُّو أهلِ الحجاز، ولم نَجد مثله فِي العربية.
وقوله: وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا (139) وَفِي قراءة عبد الله «خالصٌ لذكورنا» وتأنيثه لتأنيث الأنعام لأن ما فِي بطونِها مثلها فأنث لتأنيثها. ومن ذكره فلتذكير (ما) وقد قرأ بعضهم «خالصُهُ لذكورِنا» يضيفه إلى الْهَاء وتكون الهاء لِمَا. ولو نصبت الخالص «3» والخالصة «4» عَلَى القطع وجعلت خبر ما فِي اللام التي فى قوله (لذكورنا) كأنك قلت: ما فِي بطون هَذِه الأنعام لذكورنا خالصًا وخالصةً كما قَالَ: «وَلَهُ الدِّينُ واصبا «5» » والنصبُ فِي هَذَا الموضع قليل لا يكادونَ يقولون: عبد الله قائِمًا فيها، ولكنه قياس.
وقوله: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ إن شئت رفعت «6» الميتة، وإن شئت نصبتها «7» فقلت (ميتةً) ولك أن تَقُولُ تكن «8» ويكن بالتاء والياء.
__________
(1) قيل هذا فى توجيه قراءة ابن عامر ببناء «زين» للمفعول، ورفع «قتل» ونصب «أولادهم» ، وجرّ «شركائهم» .
(2) قيل المراد: زججت الكتيبة أي دفعتها. والقلوص:
الناقة الفتية، وأبو مزادة كنية رجل.
(3، 4) قرأ بنصب الخالص «خالصا» ابن جبير، وبنصب الخالصة «خالصة» ابن عباس والأعرج وقتادة وابن جبير فى رواية، كما فى البحر.
(5) آية 52 سورة النحل. وقد ترك جواب لو. وهو محذوف أي لساغ مثلا.
(6) هو قراءة ابن عامر.
(7) هى قراءة الباقين بعد ابن عامر وأبى جعفر.
(8) هى قراءة ابن عامر وأبى جعفر.(1/358)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
وقد تكون الخالصة مصدرا لتأنيثها كما تَقُولُ: العاقبة والعافية. وهو مثل قوله:
إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ «1» .
وقوله: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ (141) هَذِه الكروم، ثُمَّ قَالَ: وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً فى لونه وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ فِي طعمه، منه حلو ومنه حامض.
وقوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ هَذَا لِمَن حضره من اليتامى والمساكين.
وقوله: وَلا تُسْرِفُوا فِي أن تعطوا كله. وَذَلِكَ أن ثابت «2» بن قيس خلَّى بين النّاس وبين نَخله، فذُهِبَ «3» بِهِ كله ولم يبق لأهله منه شيء، فقال الله تبارك وتعالى:
وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.
وقوله: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً (142) يقول: وأَنشأ لَكم من الأنعام حمولة، يريدُ ما أطاقَ الحمل والعمل:
والفرش: الصغار. ثُمَّ قال:
وقوله: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ (143) فإنْ شِئتَ جعلت الثمانية مردودة عَلَى الحمولة. وإن شئت أضمرت لَهَا فعلا «4» .
وقوله: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ الذكر زوج، والأنثى زوج، ولو رفعت «5» اثنين واثنين
__________
(1) آية 46 سورة ص.
(2) هو ثابت بن قيس بن شماس الأنصارىّ الخزرجىّ، خطيب الأنصار، قتل فى وقعة اليمامة.
(3) كذا فى ش. وفى ج: «قد ذهب» .
(4) أي أنشأ.
(5) وقد قرأ بذلك أبان بن عثمان.(1/359)
لدخول (مِنْ) كَانَ صوابًا كما تَقُولُ: رأيت القوم منهم قاعد ومنهم قائم، وقاعدًا وقائِمًا.
والمعنى فى قوله: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ يقول: أجاءكم التحريم فيما حرمتم من السائبة والبَحِيرة والوَصِيلة والحام من الذكرين أم من الأنثيين؟ فلو قالوا: من قِبل الذكر حرم عليهم كل ذكر، ولو قالوا: من قبل الأنثى حرمت عليهم كل أنثى.
ثُمَّ قَالَ: أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ يقول أم حرّم عليكم اشتمال الرحم؟ فلو قالوا ذَلِكَ لحرّم عليهم الذكر والأنثى لأن الرحم يشتمل عَلَى الذكر والأنثى. و (ما) فى قوله: «أمّا اشتملت» فِي موضع نصب، نصبته بإتباعه «1» الذكرين والأنثيين.
وقوله: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا (144) يقول: أوَصَّاكُم الله بِهذا معاينة؟
وقوله: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً (145) ثُمَّ قَالَ جل وجهه: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً وإن شئت (تَكُون «2» ) وَفِي (الميتة) وجهان الرفع والنصب. ولا يصلح «3» الرفع فِي القراءة لأن الدم منصوب بالرد عَلَى الميتة وَفِيهِ ألف تَمنع من جواز الرفع. ويَجوز (أن تكون) لتأنيث الميتة، ثُمَّ تردّ «4» ما بعدها عليها.
__________
(1) أي عطفه على ما ذكر.
(2) وهى قراءة ابن عامر وأبى جعفر. [.....]
(3) بل يصلح الرفع، وقرأ به ابن عامر. وقوله: «أو دما» عطف على موضع «أن يكون» أي على المستثنى.
(4) كأنه يريد أنه يصح تأنيث (تكون) بالنظر إلى «ميتة» وإن عطف عليها «دما» المذكر، وهذا كما تقول جاءت هند ومحمد.(1/360)
ومن رفع (الميتة) جعل (يكون) فعلا لَهَا، اكتفى بيكون بلا فعل «1» . وكذلك (يكون) «2» فِي كل الاستثناء لا تَحتاج إلى فعل، ألا ترى أنك تَقُولُ: ذهب الناس إلا أن يكون أخاكَ، وأخوكَ. وإنّما استغنت كَانَ ويكون عَن الفعل كما استغنى ما بعد إلا عَن فعل يكون للاسم. فلما قيلَ: قام الناس إلا زيدًا وإلا زيد فنصب بلا فعل ورفع بلا فعل صلحت كَانَ تامة. ومن نصب: قَالَ كَانَ من عادة كَانَ عند العرب مرفوع ومنصوب، فأضمروا فِي كَانَ اسمًا مجهولا، وصيّروا الَّذِي بعده فعلا لذلك المجهول. وَذَلِكَ جائزٌ فِي كَانَ، وليس، ولم يزل، وَفِي أظنّ وأخواتها: أن تَقُولُ (أظنه زيد أخوك «3» و) أظنّه فيها زيد. ويَجوز فِي إنّ وأخواتها كقول الله تبارك وتعالى: يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ «4» وكقوله: إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «5» فتذكر الْهَاء وتوحدها، ولا يَجوز تثنيتها ولا جمعها مع جمع ولا غيره. وتأنيثها مع المؤنث وتذكيرها مع المؤنث جائز فتقول: إنّها ذاهبة جاريتك، وإنه ذاهبة جاريتك.
فإن قلت: كيف جاز التأنيث مع الأنثى، ولم تَجز التثنية مع الاثنين؟
قلت: لأن العرب إِنَّما ذهبت إلى تأنيث الفعل وتذكيره، فلمّا جازَ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ وَأَخَذَتِ جازَ التأنيث، والتذكير. ولَما لَمْ يَجز:
قاما أخواك ولا قاموا قومك، لَمْ يَجز تثنيتها ولا جَمعها.
فإن قلت: أتُجيز تثنيتها فِي قول من قَالَ: ذهبا أخواك؟ قلت: لا، من قِبل أن الفعل واحد، والألف التي فيها كأنّها تدلّ عَلَى صاحِبي الفعل، والواو فى الجمع
__________
(1) أي خبر. يريد: جعلها تامة.
(2) جعل (يكون) فى الآية استثناء، وجعل ضميرها الضمير المجهول، وهو ما يسمى ضمير الشأن. وهذا مذهب كوفى. والبصريون يجعلون الضمير فى «يكون» للمطعوم، ونحوه مما يفهم من المقام.
(3) سقط ما بين القوسين فى ج.
(4) آية 16 سورة لقمان.
(5) آية 9 سورة النمل.(1/361)
تدل عَلَى أصحاب الفعل، فلم يستقم أن يكنى عَن فعل واسم فِي عقدة، فالفعل واحد أبدًا لأن الَّذِي فِيهِ من الزيادات أسماء.
وتقول فِي مسألتين منه يستدل بِهما عَلَى غيرهما: إنَّها أسَد جاريتك، فأنثت لأن الأسد فعل «1» للجارية، ولو جعلت الجارية فعلا «2» للأسد ولِمثله من المذكر لَمْ يَجز إلا تذكير الْهَاء. وكذلك كل اسم مذكر شبهته بمؤنث فذكّر فيه الهاء، وكل مؤنث شبهته بِمذكر ففيه تذكير الْهَاء وتأنيثها فهذه واحدة. ومتى ما ذكَّرت فعل مؤنث فقلت: قام جاريتك، أو طالَ صلاتك، (ثُمَّ «3» أدخلت عَلَيْهِ إنه) لَم يَجز إلا تذكيرها، فتقول: إنه طال صلاتك فذكَّرتها «4» لتذكير الفعل، لا يَجوز أن تؤنث وقد ذكّر الفعل.
وَإِذَا رأيت الاسم مرفوعًا بالمحالّ- مثل عندك، وفوقك، وفيها- فأنِّثْ وذَكّر فِي المؤنث ولا تؤنث فِي المذكر. وَذَلِكَ أن الصفة لا يُقدر فيها عَلَى التأنيث كما يقدر (فِي «5» قام) جاريتك عَلَى أن تَقُولُ: قامت جاريتك. فلذلك كَانَ فِي الصفات الإجراء «6» عَلَى الاصل.
وَإِذَا أخليت كَانَ باسم واحد جازَ أن ترفعه «7» وتَجعل لَهُ الفعل. وإن شئت أضمرت فِيهِ مَجهولا ونصبت ما بعده فقلت: إِذَا كَانَ غدًا فأتنا. وتقول:
اذهب فليس «8» إلا أباكَ، وأبوك. فمن رفع أضمر أحدًا كأنه قَالَ: لَيْسَ أحد
__________
(1) أي خبر عنها. وذلك يجعل «جاريتك» مبتدأ مؤخرا، و «أسد» خبر مقدّم.
(2) بأن تكون خبرا عن «أسد» ويكون القصد مسبب ية الأسد بالجارية.
(3) ثبت ما بين القوسين فى ش، وسقط فى ج.
(4) كذا فى ش. وفى ج: «ذكرتها» .
(5) كذا فى ج. وفى ش: «مقام» .
(6) كذا فى ج. وفى ش: «للإجراء» .
(7) كذا فى ج. وفى ش: «تعرفه» . [.....]
(8) سقط هذا الحرف فى ش.(1/362)
إلا أبوك، ومن نصب أضمر الاسم المجهول فنصب لأن المجهول معرفة فلذلك نصبت. ومن قَالَ: إِذَا كَانَ غُدْوةً فأتنا لَمْ يَجز لَهُ أن يقول: إِذَا غدوةً كَانَ فأتنا، كذلك الاسم المجهول لا يتقدمه منصوبه. وَإِذَا قرنت بالنكرة فِي كَانَ صفة فقلت:
إن كَانَ بينهم شرّ فلا تقربهم، رفعت. وإن بدأت بالشر وأخرت الصفة كَانَ الوجه الرفع فقلت: إن كَانَ شر بينهم فلا تقربهم، ويَجوز النصب. قَالَ وأنشدني بعضهم:
فعينَيَّ هلا تبكيان عفاقا ... إذا كان طعنا بينهم وعناقا «1»
فإذا أفردت النكرة بكان اعتدلَ النصبُ والرفع. وَإِذَا أفردت المعرفة بكان كَانَ الوجه النصب يقولون: لو كَانَ إلا ظله لَخابَ ظله. فهذه عَلَى ما وصفت لك.
وقوله: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما (146) حَرَّمَ عليهم الثَّرْب «2» ، وشحوم الْكُلَى.
ثُمَّ قَالَ: إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما و (ما) فِي موضع نصب بالفعل بالاستثناء.
و (الْحَوَايَا) فِي موضع رفع، تردّها عَلَى الظهور: إِلا ما حملت ظهورهما أو حملت الحوايا، وهي المباعر «3» وبنات «4» اللبن. والنصبُ عَلَى أن تريد (أو شحوم الحوايا) فتحذف الشحوم وتكتفى بالحوايا كما قال: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ، يريد: واسأل أهل القرية.
وقوله: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ وهى الألية. و (ما) فى موضع نصب.
__________
(1) انظر ص 186 من هذا الجزء.
(2) هو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش.
(3) واحدها مبعر ومبعر بفتح الميم وكسرها. وهو حيث يجتمع البعر من الأمعاء.
(4) بنات اللبن: ما صغر من الأمعاء. وانظر اللسان (هو) .(1/363)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
وقوله: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً (151) إن شئت جعلت (لا تُشْرِكُوا) نهيًا أدخلت عَلَيْهِ (أَنْ) . وإن شئت جعلته خبرًا و (تشركوا) فِي موضع نصب كقولك: أمرتك ألا تذهبَ (نَصْب) إلى زيد، وأن لا تذهب (جَزْم) وإن شئت جعلت ما نسقته عَلَى (أَلَّا تشركوا به) بعضه جزمًا ونصبًا بعضه كما قَالَ: قُلْ «1» إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ، فنصب أوله ونَهى عَن آخره كما قَالَ الشاعر:
حجَّ وأوصى بسليمى الاعبدا ... ألا ترى ولا تكلم أحدا
ولا تُمَشِّ بفَضاء بعدَا فنوى الخبر فِي أوّله ونَهى فِي آخره. قَالَ: والجزم فِي هَذِه الآية أحبّ إليّ لقوله:
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
. فجعلت أوّله نهيا لقوله: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ.
وقوله: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً (153) تكسر «2» إِنَّ إِذَا نويت الاستئناف، وتفتحها من وقوع (أتل) عليها. وإن شئت جعلتها خفضًا، تريد ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ وأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ.
وقوله: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ يعني اليهودية والنصرانية. يقول: لا تتبعوها فتضلوا.
__________
(1) آية 14 سورة الأنعام.
(2) وهى قراءة حمزة والكسائي وخلف.(1/364)
وقوله: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ (154) تَمامًا عَلَى المحسن. ويكون المحسن فِي مذهب جَمع كما قَالَ: إِنَّ الْإِنْسانَ «1» لَفِي خُسْرٍ. وَفِي قراءة عبد الله تَمَامًا عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنوا تصديقًا لذلك.
وإن شئت جعلت (الَّذِي) عَلَى معنى «2» (ما) تريد: تَمامًا عَلَى ما أحسن موسى، فيكون المعنى: تَمامًا عَلَى إحسانه. ويكون (أحسن) مرفوعًا «3» تريد عَلَى الَّذِي هُوَ أحسن، وتنصب (أحسن) هاهنا تنوي بِهَا «4» الخفض لأن العرب تَقُولُ:
مررتُ بالذي هُوَ خيرٌ منك، وشرٌّ منك، ولا يقولون: مررتُ بالذي قائم لأن (خيرًا منك) كالمعرفة إذ لَمْ تدخل فِيهِ الألف واللام. وكذلك يقولون: مررتُ بالذي أخيك، وبالذي مثلك، إِذَا جعلوا صلة الَّذِي معرفة أو نكرة لا تدخلها الألف واللام جعلوها تابعة للذي أنشدني الْكِسَائي:
إن الزُّبَيْريَّ الَّذِي مِثْلَ الْحَلَمْ ... مَشَّى بأسلابك فِي أَهْلِ الْعَلَم «5»
وقوله: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ (155) جعلت مباركًا من نعت الكتاب فرفعته. ولو نصبته عَلَى الخروج «6» من الْهَاء فِي (أَنْزَلْنَاهُ) كان صوابا.
__________
(1) آية 2 سورة العصر.
(2) يريد أن تكون مصدرية.
(3) وبه قرأ يحيى بن يعمر وابن أبى إسحق كما فى القرطبي.
(4) سقط فى ش. والخفض على أنه نعت للذى.
(5) الحلم واحده حلمة، وهى الصغيرة من القردان أو دودة تقع فى الجلد فتأكله. يريد أن هذا الرجل الضعيف ابترك ثيابك وسلبك.
(6) يريد أن يكون حالا.(1/365)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
وقوله: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ (156) (أن) فِي موضع نصب من مكانين. أحدهما: أنزلناهُ لئلا تقولوا إِنَّما أنزلَ. والآخر من قوله: واتقوا أن تقولوا، (لا) يصلح فِي موضع (أن) هاهنا كقوله: يُبَيِّنُ «1» اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا يصلح فيه لا تضلون كما قال: سَلَكْناهُ «2» فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ.
وقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ (158) لقبض أرواحهم: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ: القيامة أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ:
طلوع الشمس من مغربها.
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ (159) قرأها عَليّ «3» (فارقوا) ، وقال: والله ما فرَّقوه ولكن فارقوه. وهم اليهود والنصارى. وقرأها الناس فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكلّ وجه.
وقوله: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ يقول من قتالِهم فِي شيء، ثُمَّ نسختها:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «4» .
وقوله: فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها (160) من خفض يريد: فله عشر حسناتٍ أمثالها. ولو قَالَ هاهنا: فله عشر مِثلها يريد عشر حسنات مثلها كَانَ صوابًا. ومن قَالَ:
__________
(1) آية 176 سورة النساء. [.....]
(2) آيتا 200، 201 سورة الشعراء.
(3) وهى قراءة حمزة والكسائي.
(4) آية 5 سورة التوبة.
.(1/366)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
عشرٌ أمثالها جعلهنّ من نعت العشر. و (مثل) يَجوز توحيده: أن تَقُولُ فِي مثله من الكلام: هم مثلكم، وأمثالكم قَالَ الله تبارك وتعالى: إِنَّكُمْ «1» إِذاً مِثْلُهُمْ فوحّد، وقال: ثُمَّ «2» لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ فجمع. ولو قلت: عَشْرٌ أَمثالها «3» كما تَقُولُ «4» : عندي خمسةٌ أثوابٌ لَجازَ.
وقوله: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ: بلا إله إلا الله، والسيئة: الشِّرك.
وقوله: دِيناً قِيَماً (161) و «5» «قيّما» . حَدَّثَنَا «6» مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي الْمِقْدَامِ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُذَيْفَةَ قَالَ: رَآنِي أَبِي حُذَيْفَةُ رَاكِعًا قَدْ صَوَّبْتُ رَأْسِي، قَالَ ارْفَعْ رَأْسَكَ، دينا قيما. (دينا قيما) منصوب على المصدر. ومِلَّةَ إِبْراهِيمَ كذلك.
وقوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ (165) جعلت أمة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلائف كل الأمم وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ فى الرزق (ليبلوكم) بذلك (فيما آتاكم) .
__________
(1) آية 140 سورة النساء.
(2) آية 38 سورة محمد.
(3) أي بالرفع. وقد قرأ بذلك الحسن وسعيد بن جبير والأعمش.
(4) سقط فى ج.
(5) الأولى قراءة الكوفيين وابن عامر. والثانية قراءة الباقين.
(6) هو محمد بن الجهم السمري راوى الكتاب.(1/367)
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
ومن سورة الأعراف
قلت: «1» أرأيت ما يأتي بعد حروف الهجاء مرفوعًا مثل قوله: المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ومثل قوله: الم «2» تَنْزِيلُ الْكِتابِ، وقوله: الر «3» كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ وأشباه ذَلِكَ بم رفعت الكتاب فِي هَؤُلاءِ الأحرف؟
قلت: رفعته بِحروف الهجاء التي قبله كأنك قلت: الألف واللام والميم والصاد من حروف المقطع كتابٌ أنزل إليك مجموعًا. فإن قلت: كأنك قد جعلت الألف واللام والميم والصاد يؤدّين عَن جَميع حروف المعجم، وهو ثلاثة أحرف أو أربعة؟ قلت: نعم، كما أنك تقول: اب ت ث ثَمانية وعشرون حرفًا، فتكتفي بأربعة أحرف من ثَمانية وعشرين. فإن قلت: إن ألف ب ت ث قد صارت كالاسم لحروف الهجاء كما تقول: قرأت الحمد، فصارت اسمًا لفاتِحة الكتاب. قلت: إن الَّذِي تَقُولُ ليقع فِي الوَهْم، ولكنك قد تَقُولُ: ابني فى اب ت ث، ولو قلت فِي حاط لجاز ولعلمت بأنه يريد: ابني فِي الحروف المقطعة.
فلما اكتفي بغير أوّلها علمنا أن أوّلها لَيْسَ لَهَا باسم وإن كان أوّلها آثر فِي الذكر من سائرها. فإن قلت: فكيف جاءت حروف (المص) (وكهيعص) مختلفة ثُمَّ أنزلا «4» منزل با تا ثا وهنّ متواليات؟ قلت: إِذَا ذكرن متواليات دللن على أب ت ث
__________
(1) كذا فى ش، ج. يريد أن سائلا معينا وجه إليه هذا السؤال. وقد يكون الأصل: «فإن قلت» كما هو الشائع فى مثل هذا.
(2) أوّل سورة السجدة.
(3) أوّل سورة هود.
(4) أي مجموعنا (المص) و (كهيعص) . والأنسب بالسياق: «أنزلن» .(1/368)
بعينها مقطّعة، وَإِذَا لَمْ يأتين متواليات دَللن عَلَى الكلام المتصل لا عَلَى المقطع.
أنشدني الحارثىّ:
تعلمت باجاد وآل مزامر ... وسوَّدتُ أثوابي ولست بكاتب «1»
وأنشدني بعض بني أسَد:
لَمَّا رأيت أمرها فِي حُطِّي ... وَفَنَكت فِي كذب ولط «2»
أخذتُ منها بقرونٍ شُمطِ ... ولم يزل ضربي لَهَا ومَعْطي
حَتَّى عَلَى الرأسِ دم يغطِي فاكتفى بحطي من أبي جاد، ولو قَالَ قائل: الصبي فِي هوّز أو كلمن، لكفى ذَلِكَ من أبي جاد.
وقد قال الكسائىّ: رفعت كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وأشباهه من المرفوع بعد الهجاء بإضمار (هَذَا) أو (ذَلِكَ) وهو وجه. وكأنه إِذَا أضمرَ (هَذَا) أو (ذَلِكَ) أضمر لحروف الهجاء ما يرفعها قبلها لأنها لا تكون إلا وَلَهَا موضع.
قَالَ: أفرأيت ما جاء منها لَيْسَ بعده «3» ما يرافعه مثل قوله: حم. عسق، ويس، وق، وص، مما يقل أو يكثر، ما موضعه إذ لم يكن بعده مرافع؟ قلت:
__________
(1) مرامر هو ابن مرة أو ابن مروة. وهو من أهل الأنبار، من أوّل من كتب بالعربية.
ويريد بآله حروف الهجاء لأنه اشتهر بتعليمها، أو لأنه سمى أولاده الثمانية بأسماء جملها، فسمى أحدهم أبجد وهكذا الباقي. وانظر اللسان فى مرر. [.....]
(2) كأنه يتحدّث عن امرأة لا يرضى خلقها، حاول إصلاحها فلم تنقد له ولم تتقدّم، كأنها تستمر فى أوّل وسائل تعلمها، كالصبى لا يعدو فى تعلمه حروف الهجاء. وفنكت فى الكذب: لجت فيه وتمادت.
واللط: ستر الخبر وكتمه. والمعط: الشدّ والجذب. والقرون الشمط: يريد خصل شعر رأسها المختلط فيه السواد والبياض، يريد أنها جاوزت عهد الشباب. وقوله: على الرأس، فعلى جارة. ويضح أن يقرأ: علا الرأس، فيكون (علا) فعلا و (الرأس) مفعول.
(3) فى ش، ج: «قبله» . وظاهر أنه سهو من الناسخ.(1/369)
قبله ضمير «1» يرفعه، بمنزلة قول الله تبارك وتعالى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ «2» المعنى والله أعلم: هَذِه براءة من الله. وكذلك سُورَةٌ أَنْزَلْناها «3» وكذلك كل حرف مرفوع مع القول ما ترى معه ما يرفعه فقبله اسم مضمر يرفعه مثل قوله: وَلا تَقُولُوا «4» ثَلاثَةٌ انْتَهُوا المعنى والله أعلم: لا تقولوا هم ثلاثة، يعني الآلهة، وكذلك قوله:
سَيَقُولُونَ «5» ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ المعنى والله أعلم: سيقولونَ هم ثلاثة.
وقد قيل فى (كهيعص) : إنه مفسّر لأسماء الله. فقيل: الكاف من كريم، وَالْهَاء من هاد، والعين والياء من عليم، والصاد من صدوق. فإن يك كذلك (فالذكر) مرفوع بضمير لا ب (كهيعص) . وقد قيل فى (طه) إنه: يا رجل، فإن يك كذلك فليس يَحتاج إلى مرافع لأن المنادي يرفع بالنداء وكذلك (يس) جاء فيها يا إنسان، وبعضهم: يا رجل، والتفسير فيها كالتفسير فِي طه.
وقوله: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ (2) يقول: لا يضيق صدرك بالقرآن بأن يكذبوك، وكما قَالَ الله تبارك وتعالى:
فَلَعَلَّكَ «6» باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. وقد قيل: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ: شك.
لِتُنْذِرَ بِهِ مؤخر، ومعناه: المص كتاب أنزل إليك لِتُنْذِرَ بِهِ فلا يكن فِي صدرك حرج منه.
وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ فِي موضع نصب ورفع. إن شئت رفعتها على الردّ على الكتاب كأنك قلت: كتاب حقّ وذكرى للمؤمنين والنصبُ يُرَاد به: لتنذر وتذكّر به المؤمنين.
__________
(1) يريد مبتدأ محذوفا.
(2) آية 1 سورة التوبة.
(3) آية 1 سورة النور.
(4) آية 171 سورة النساء.
(5) آية 22 سورة الكهف.
(6) آية 6 سورة الكهف.(1/370)
وقوله: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ (3) وإنما خاطب «1» النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده لأن ما أنذر بِهِ فقد أنذرت بِهِ أمته كما قال: يا أَيُّهَا «2» النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فخاطبه، ثُمَّ جعل الفعل للجميع، وأنت قد تَقُولُ للرجل: ويحك أما تتقون الله، تذهب إليه وإلى أهل بيته أو عشيرته. وقد يكون قوله: (اتبعوا) محكيا من قوله (لتنذر به) لأن الإنذار قول، فكأنه قيل لَهُ: لتقول لَهم اتبعوا كما قَالَ الله تبارك وتعالى: يُوصِيكُمُ «3» اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لأن الوصية قول.
ومثله: يا أَيُّهَا «4» النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ. ثم قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ «5» فجمع.
وقوله: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها (4) يُقال: إِنَّما أتاها البأس من قَبْل الإهلاك، فكيف تقدم الهلاك؟ قلت:
لأن الهلاك والبأس يقعان معًا كَمَا تَقُولُ: أعطيتني فأحسنت، فلم يكن الإحسان بعد الإعطاء ولا قبله: إنّما وقَعا معًا، فاستجيزَ ذَلِكَ. وإن شئت كَانَ المعنى:
وكم من قريةٍ أهلكناها فكان مجيء البأس قبل الإهلاك، فأضمرت كَانَ.
وإنَّما جازَ ذَلِكَ عَلَى شبيه بِهذا المعنى، ولا يكون فِي الشروط التي خَلَفْتها «6» بِمقدّم معروف أن يقدم المؤخر أو يؤخر المقدم مثل قولك: ضربته فبكى، وأعطيته
__________
(1) يريد أن الخطاب فى هذا للرسول صلى الله عليه وسلم إذ هو الموجه إليه الكلام من قبل فى قوله:
كتاب أنزل إليك، وكان وجه الخطاب على هذا: اتبع ما أنزل إليك من ربك، ويذكر المؤلف أنه ذهب بالخطاب إلى الرسول وأمّته.
(2) أول سورة الطلاق.
(3) آية 11 سورة النساء.
(4) أول سورة التحريم.
(5) آية 2 سورة التحريم.
(6) أي وقعت مكانها. ولو كان «خالفتها» كان المعنى أظهر. [.....](1/371)
فاستغنى، إلا أن تدع الحروف فِي مواضعها. وقوله: (أهلكناها فجاءها) قد يكونان خبرًا بالواو: أهلكناها وجاءها البأسُ بياتا.
وقوله: أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) ردّ الفعل إلى أهل القرية وقد قَالَ فى أولها (أهلكناها) ولم يقل: أهلكناهم فجاءهم، ولو قيل، كَانَ صوابًا. ولم يقل: قائلة، ولو قيل لكان صوابا.
وقوله: أَوْ هُمْ قائِلُونَ واو «1» مضمرة. المعنى أهلكناها فجاءها بأسنا بياتًا أو وهم قائلون، فاستثقلوا نسقًا عَلَى نسق، ولو قيل لكان جائزًا كما تَقُولُ فِي الكلام:
أتيتني واليًا، أو وأنا معزول، وإن قلت: أو أنا معزول، فأنت مضمو للواو.
وقوله: فَما كانَ دَعْواهُمْ (5) الدعوى فِي موضع نصب لكان. ومرفوع كَانَ قوله: إِلَّا أَنْ قالُوا فأن فِي موضع رفع. وهو الوجه فِي أكثر القرآن: أن تكون أن إِذَا كَانَ معها فعل، أن تَجعل مرفوعة والفعل منصوبًا مثل قوله: فَكانَ «2» عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ وما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا «3» أَنْ قالُوا. ولو جعلت الدعوى مرفوعة (وأن) فِي موضع نصب كَانَ صوابًا كما قَالَ الله تبارك وتعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا «4» وهي فِي إحدى «5» القراءتين: لَيْسَ البر بأن تولوا.
__________
(1) يريد: فيه واو ... أو هنا واو.
(2) آية 17 سورة الحشر.
(3) آية 25 سورة الجاثية.
(4) آية 77 سورة البقرة.
(5) نسبها فى البحر 2/ 2 إلى مصحف أبى وابن مسعود.(1/372)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
وقوله: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ (8) وإن «1» شئت رفعت الوزن بالحق، وهو وجه الكلام. وإن شئت رفعت الوزن بيومئذ، كأنك قلت: الوزن فِي يوم القيامة حقًّا، فتنصب الحق وإن كانت فِيهِ ألف ولام كما قال: فَالْحَقُّ «2» وَالْحَقَّ أَقُولُ الأولى منصوبة «3» بغير «4» أقول.
والثانية بأقول.
وقوله: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ ولم يقل (فذلك) فيوحِّد لتوحيد من، ولو وحّد لكان صوابا. و (من) تذهب بِهَا إلى الواحد وإلى الجمع.
وهو كثير.
وقوله: وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ (10) لا تهمز لأنها- يعني الواحدة- مفعِلة، الياء من الفعل، فلذلك لَمْ تهمز، إنّما يهمز من هَذَا ما كانت الياء فِيهِ زائدة مثل مدينة ومدائن، وقبيلة وقبائل لِمَا كانت الياء لا يعرف لَهَا أصل ثُمَّ قارفتها «5» ألف مجهولة أيضًا همزت، ومثل معايش من الواو مِمّا لا يُهمز لو جمعت، معونة قلت: (معاون) أو منارة قلت مناور. وَذَلِكَ أن الواو ترجع إلى أصلها لسكون الألف قبلها. وربما همزت العرب هَذَا وشبهه، يتوهمونَ أنها فعيلة لشبهها بوزنها فِي اللفظ وعدّة الحروف
__________
(1) ثبتت الواو فى ش، ج. والأولى حذفها.
(2) آية 84 سورة ص.
(3) أي فى غير قراءة عاصم وحمزة وخلف. أما هؤلاء فقراءتهم بالرفع.
(4) أي على أنه توكيد للجملة، كما تقول أنت أخى حقا. ويقول أبو حيان فى رده فى البحر 7/ 411: «وهذا المصدر الجائى توكيدا لمضمون الجملة لا يجوز تقديمه عند جمهور النحاة. وذلك مخصوص بالجملة التي جزءاها معرفتان جامدتان جمودا محضا» .
(5) فى ش، ط: «فارقتها» وقد رأينا أنه مصحف عما أثبتنا. والقراف المخالطة.(1/373)
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
كما جمعوا مسِيل الماء أمسله، شُبِّه بفعيل وهو مفعِل. وقد همزت العرب المصائب وواحدتها مصيبة شبهت بفعيلة لكثرتها فِي الكلام.
وقوله: قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ (12) المعنى- والله أعلم- ما منعكَ أن تسجد. و (أن) فِي هَذَا الموضع تصحبها لا، وتكون (لا) صلة. كذلك تفعل بِما كَانَ فى أوّله جحد. و «1» ربما أعادوا عَلَى خبره جحدًا للاستيثاق من الجحد والتوكيد لَهُ كما قالوا:
ما إن رأينا مثلهن لمعشر ... سود الرءوس فوالج وفيول «2»
و (ما) جحد و (إن) جحد فجمعتا للتوكيد. ومثله: وَما «3» يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ. ومثله: وَحَرامٌ «4» عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ. ومثله:
لِئَلَّا «5» يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ إِلا أن معنى الجحد الساقط فِي لئلا من أوّلها لا من آخرها المعنى: ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون. وقوله: مَا مَنَعَكَ (ما) فِي موضع رفع. ولو وضع لمثلها من الكلام جواب مصحح كَانَ رفعًا، وقلت:
منعني منك أنك بَخيل. وهو مما ذكر جوابه عَلَى غير بناء أوله، فقال: (أَنَا خَيْرٌ منه) ولم يقل: منعني من السجود أني خيرٌ منه كما تَقُولُ فِي الكلام: كيف بتّ البارحة؟ فيقول: صالِح، فيرفع أو تقول: أنا بِخير، فتستدلّ بِهِ عَلَى معنى الجواب، ولو صحح الجواب لقالَ صالِحًا، أي بتُّ صالِحًا.
__________
(1) الأظهر فى المعنى حذف الواو.
(2) الفوالج جمع الفالج بكسر اللام، وهو البعير ذو السنامين، والفيول جمع الفيل للحيوان المعروف.
(3) آية 109 سورة الأنعام.
(4) آية 95 سورة الأنبياء. [.....]
(5) آية 29 سورة الحديد.(1/374)
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
وقوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ (16) المعنى- والله أعلم-: لاقعدنَّ لَهُمْ عَلَى طريقهم أو فِي طريقهم. وإلقاء الصفة «1» من هَذَا جائز كما قَالَ: قعدت لك وجه الطريق، وَعَلَى وجه الطريق لأن الطريق صفة فِي المعنى، فاحتمل ما يَحْتَمِله اليوم والليلة والعام إِذَا قيل: آتيك غدًا أو آتيك فِي غد.
وقوله: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً (26) «ورياشا» «2» . فإن شئت جعلت رياش جَميعًا واحده الريش، وإن شئت جعلت الرياش مصدرًا فِي معنى الريش كما يُقال لِبْس ولباس قَالَ الشاعر «3» :
فلمّا كشفن اللِّبْسَ عَنْهُ مَسَحْنَهُ ... بأطرافِ طَفْلٍ زانَ غَيْلا مُوَشَّما
وقوله: وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى و «لباسَ «4» التقوى» يرفع بقوله: ولباس التقوى خير، ويَجعل (ذَلِكَ) من نعته. وهي فِي قراءة أبي وعبد الله جميعًا: ولباس التقوى خير. وفى قراءتنا (ذلك خير) فنصب اللباس أحب إليّ لأنه تابع الريش «5» ، (ذلك خير) فرفع خير بذلك.
__________
(1) يريد بها الكوفيون الظرف.
(2) هذه القراءة نسبها أبو عبيد إلى الحسن. وفى القرطبي نسبتها إلى عاصم من رواية المفضل الضبي وإلى أبى عمرو من رواية الحسين الجعفي.
(3) هو حميد بن ثور الهلالي. والبيت من ميمبته الطويلة. وهو يصف فرسا خدمته جوارى الحي.
فقوله: كشفن أي الجواري. وقوله: عنه أي عن الفرس. ولبسه: ما عليه من الجل والسرج. وقوله بأطراف طفل أي بأطراف بنان ناعم. وقوله: غيلا يريد ساعدا أو معصما ممتلئا، موشما أي مزينا بالوشم، يريد بنان الجواري.
(4) أي بالنصب. وهو قراءة نافع وابن عامر والكسائي. والضم قراءة الباقين.
(5) كذا فى ش. وفى ج: «الرياش» .(1/375)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
وقوله: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) يقول: بدأكم فِي الخلق شقيًا وسعيدًا، فكذلك تعودونَ عَلَى الشقاء والسعادة:
وقوله: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ (30) ونصب الفريق بتعودونَ، وهي فِي قراءة أُبَيّ: تعودونَ فريقين فريقًا هدى وفريقًا حقَّ عليهم الضلالة. ولو كانا رفعا كَانَ صوابًا كما قال تبارك وتعالى:
كَانَ «1» لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تقاتل فى سبيل الله وأخرى كافرةو «فئة» «2» ومثله: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ «3» . وقد يكون الفريق منصوبًا بوقوع «هَدَى» عَلَيْهِ ويكون الثاني منصوبًا بِمَا «4» وقع عَلَى عائد ذكره من الفعل كقوله: يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً «5» .
وقوله: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ (29) يقول: إِذَا أدركتك الصلاة وأنت عند مسجد فصلّ فِيهِ، ولا تقولن: آتي مسجد قومي. فإن كان فِي غير وقت الصلاة صليت حَيْثُ شئت.
وقوله: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ (32)
__________
(1) آية 13 سورة آل عمران.
(2) يريد رفع فئة فى الآية ونصبها. ويجوز فى الآية أيضا خفض فئة بدلا من «فئتين» . وانظر ص 192 من هذا الجزء.
(3) آية 7 سورة الشورى.
(4) يريد النصب على الاشتغال. والعامل هنا يقدر فى معنى المذكور أي أضل.
(5) آية 31 سورة الإنسان.(1/376)
نصبت خالصة عَلَى القطع «1» وجعلت الخبر فِي اللام التي فِي الَّذِينَ، والخالصة ليست بقطع من اللام «2» ، ولكنها قطع من لام أخرى مضمرة. والمعنى- والله أعلم-: قل هي للذين آمنوا فِي الحياة الدُّنْيَا يقول: مشتركة، وهي لَهم فِي الآخرة خالصة.
ولو رفعتها كَانَ صوابًا، تردّها «3» عَلَى موضع الصفة التي رفعت لأن تِلْكَ فِي موضع رفع.
ومثله فِي الكلام قوله: إنا بِخير كَثِير «4» صيدنا. ومثله قَوْل الله عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ «5» الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً.. المعنى: خلق هلوعًا، ثُمَّ فسر حال الهلوع بلا نصب لأنه نصب فِي أول الكلام. ولو رفع لجازَ إِلا أن رفعه عَلَى الاستئناف لأنه لَيْسَ معه صفة ترفعه. وإنّما نزلت هَذِه الآية أن قبائل من العرب فِي الجاهلية كانوا لا يأكلونَ أيام حجهم إلا القوت، ولا يأكلون اللحم والدسم، فكانوا يطوفون بالبيت عراةً، الرجالُ نَهارًا والنساء ليلا، وكانت المرأة تلبس شيئًا شبيهًا بالحَوْف «6» ليواريها بعض المواراة ولذلك قالت العامرية:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أُحله
قَالَ المسلمون: يا رسول الله، نحنُ أحق بالاجتهاد لربنا، فأرادوا أن يفعلوا كفعل أهل الجاهلية، فأنزل الله تبارك وتعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ يعنى اللباس. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا حَتَّى يبلغ بكم ذلكم تَحريم ما أحللتُ لكم، والإسراف هاهنا الغلوّ فى الدين.
__________
(1) أي على الحال.
(2) يريد أنها ليست حالا من الجار والمجرور فى «للذين آمنوا فى الحياة الدنيا» بل يقدر جار ومجرور آخر هو خبر بعد خبر أي لهم خالصة يوم القيامة، إذ كان هذا حكما لهم فى حال غير الحال الأولى.
(3) يريد أن تكون خبرا ثانيا. [.....]
(4) كذا فى ش. وفى ج: «وكثير» . وعلى النسخة الأخيرة يحتمل أن يكون شطر رجز.
(5) آيات 19، 20، 21 سورة المعارج.
(6) هو جلد يشقق كهيئة الإزار يلبسه الصبيان والحائض.(1/377)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
وقوله: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ (33) (والإثم) ما دون الحدّ (والبغي) الاستطالة عَلَى الناس.
وقوله: أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ (37) يُقال: ينالهم ما قضى الله عليهم فِي الكتاب من سواد الوجوه وزرقة الأعين.
وهو قوله: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «1» ويُقال هُوَ ما ينالهم فِي الدُّنْيَا من العذاب دون عذاب الآخرة، فيكون من قوله:
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ «2» مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ.
وقوله: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها (38) يقول: التي سبقتها، وهي أختها فِي دينها لا فِي النسب. وما كَانَ من قوله:
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً «3» فليس بأخيهم فِي دينهم ولكنه منهم.
وقوله: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ (40) ولا يَفَتَّح وتُفَتَّح. وإِنَّما يَجوز التذكير والتأنيث فِي الجمع لأنه يقع عَلَيْهِ التأنيث فيجوز فِيهِ الوجهان كما قَالَ: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ «4» و «يشهد» فمن ذكَّر قَالَ: واحد الألسنة ذكر فأبنى عَلَى الواحد إذ كَانَ الفعل يتوحد إِذَا تقدّم الاسماء المجموعة، كما تَقُولُ ذهب القوم.
__________
(1) آية 60 سورة الزمر.
(2) آية 21 سورة السجدة.
(3) آية 85 سورة الأعراف.
(4) آية 24 سورة النور. وقد قرأ بالياء حمزة والكسائي وخلف، وقرأ الباقون بالتاء.(1/378)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
ورُبَّما آثرت القراء أحد الوجهين، أو يأتي ذَلِكَ فِي الكتاب بوجه فيرى من لا يعلم أَنَّهُ لا يَجوز غيره وهو جائز. ومِمّا آثروا من التأنيث قوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ «1» فآثروا التأنيث. ومِمّا آثروا فِيهِ التذكير قوله: لَنْ «2» يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها والذي أتى فِي الكتاب بأحد الوجهين قوله: فُتِحَتْ «3» أَبْوابُها ولو أتى بالتذكير كَانَ صوابًا.
ومعنى قوله: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ: لا تصعد أعمالهم. ويُقال:
إن أعمال الفجار لا تصعد ولكنها مكتوبة فى صخرة تحبت الأرض، وهي التي قَالَ الله تبارك وتعالى: كَلَّا «4» إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ.
وقوله: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ الجمل هُوَ زوج الناقة. وقد ذكر عَن ابن عباس الْجُمَّلُ يعني الحبال «5» المجموعة. ويُقال الخياط والْمَخِيط ويُراد الإبرة. وَفِي قراءة عبد الله (الْمِخْيَط) ومثله يأتي عَلَى هذين المثالين يُقال: إزار ومِئزر، ولِحاف ومِلحف، وقِناع ومِقنع، وقِرام «6» ومِقرم.
وقوله: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ (48) وَذَلِكَ أنَّهم عَلَى سُور بين الجنة والنار يُقال لَهُ الأعراف، يرون أهل الجنة فيعرفونَهم ببياض وجوههم، ويعرفونَ أهل النار بسواد وجوههم، فذلك قوله:
__________
(1) آية 106 سورة آل عمران. يريد أن القراء اختاروا التأنيث مع احتمال الرسم للتذكير، كما أنهم فى الآيات التالية فى الحج آثروا التذكير مع احتمال الرسم للتأنيث. ولا يخفى أن القراءة مرجعها إلى التلقي.
(2) آية 37 سورة الحج.
(3) آية 71 سورة الزمر.
(4) آية 7 سورة المطففين.
(5) فى القرطبي: «وهو حبل السفينة الذي يقال له الفلس. وهو حبال مجموعة» .
(6) هو ثوب من صوف ملوّن يتخذ سترا.(1/379)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ. وأصحاب الأعراف أقوامٌ اعتدلت حسناتهم وسيئاتهم فقصَّرت بهم الحسنات عَن الجنة، ولم تبلغ بِهم سيئاتِهم النار، كانوا موقوفين ثُمَّ أدخلهم الله الجنة بفضل رحمته.
وقوله: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً (52) تنصب الهدى والرحمة عَلَى القطع من الْهَاء فِي فصّلناه. وقد تنصبهما عَلَى الفعل «1» . ولو خفضته عَلَى الاتباع للكتاب كَانَ صوابًا كما قَالَ الله تبارك وتعالى:
وَهذا «2» كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فجعله رفعًا بإتباعه للكتاب.
وقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ (53) الْهَاء فِي تأويله للكتاب. يريد عاقبته وما وعد الله فِيهِ.
وقوله: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ لَيْسَ بِمعطوفٍ عَلَى (فيشفعوا) ، إِنَّما المعنى- والله أعلم-: أو هَلْ نُردّ فنعمل غير الَّذِي كنا نعمل.
ولو نصبت (نردّ) على أن تجعل (أو) بِمنزلة حَتَّى، كأنه قَالَ: فيشفعوا لنا أبدًا حَتَّى نرد فنعمل «3» ، ولا نعلم قارئًا «4» قرأ بِهِ.
وقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) ذكرت قريبًا لأنه لَيْسَ بقرابة فِي النسب. قَالَ: ورأيتُ العرب تؤنث القريبة فِي النسب لا يَختلفونَ فيها، فإذا قالوا: دارك منّا قريب، أو فلانة منك قريب
__________
(1) كأنه يريد نصبه على أنه مفعول مطلق. أي هدينا به هدى ورحمنا به رحمة. [.....]
(2) آية 92 سورة الأنعام.
(3) جواب لو محذوف، أي لجاز.
(4) قرأ به ابن أبى إسحق، كما فى مختصر البديع 44.(1/380)
فِي القرب والبعد ذكَّروا وأنَّثوا. وَذَلِكَ أن القريب فِي المعنى وإن كَانَ مرفوعًا فكأنه فِي تأويل: هي من مكان قريب. فجعل القريب خَلَفًا من المكان كما قَالَ الله تبارك وتعالى: وَما «1» هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ وقال: وَما «2» يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً ولو أنَّث ذَلِكَ فبنى عَلَى بعدَتْ منك فهي بعيدة وقَرُبت فهي قريبة كَانَ صوابًا حسنًا. وقال عروة «3» :
عِشَّيَة لا عفراءُ مِنْكَ قريبة ... فتدنو ولا عفراء مِنك بعيد
ومن قَالَ بالرفع وذكَّر لَمْ يَجمع قريبًا [ولم] «4» يثنه. ومن قَالَ: إنّ عفراء منك قريبة أو بعيدة ثنَّى وجَمَع.
وقوله: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ نَشْرًا (57) والنَشْر من الرياح: الطيبة اللينة التي تنشئ السحاب. فقرأ بذلك أصحاب عبد الله. وقرأ غيرهم (بُشْراً) حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ الأَسَدِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ «5» الْهَمْدَانِيِّ عَنْ أَبِي «6» عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَرَأَ (بُشْرًا) يُرِيدُ بَشِيرَةً، وَ (بَشْرًا) كَقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وتعالى: (يُرْسِلَ الرِّياحَ «7» مُبَشِّراتٍ) .
__________
(1) آية 73 سورة هود.
(2) آية 63 سورة الأحزاب.
(3) هو عروة بن حزام العذرى. والبيت ورد فى اللآلى 401 مع بيت آخر هكذا:
عشية لا عفراء منك بعيدة ... فتسلو ولا عفراء منك قريب
وإنى لتغشانى لذكراك فترة ... لها بين جلدى والعظام دبيب
ويرى أن ما أورده المؤلف رواية فى البيت غير ما ورد فى اللآلى. وفى الأغانى (الساسى) 20/ 156 ستة أبيات على روى الباء يترجح أن تكون من قصيدة بيت الشاهد على ما روى فى اللآلى.
(4) سقط ما بين القوسين فى ش، ج. والسياق يقتضيه.
(5) هو عمرو بن عبد الله السبيعىّ أحد أعلام النابعين، توفى سنة 127
(6) هو عبد الله بن حبيب المقري الكوفىّ، من ثقات التابعين، مات سنة 85.
(7) آية 46 سورة الروم.(1/381)
وقوله: فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى جواب «1» لانزلنا فأخرجنا به. يُقال: إن الناس يَموتونَ وجَميع الخلق فِي النفخة الأولى. وبينها وبين الآخرة أربعون سنة. ويبعث الله المطرَ فيُمطر أربعين يومًا كمنّي الرجال، فينبتونَ فِي قبورهم كما ينبتونَ فِي بطونِ أمهاتِهم. فذلك قوله:
كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى كما أخرجنا الثمار من الأرض الميتة.
وقوله: وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً (58) قراءة «2» العامة وقرأ بعضُ «3» أهل المدينة: نَكَدا يريد: لا يخرج إلا فِي نَكَد.
والنِكد والنكَد مثل الدنِف والدَنف. قَالَ: وما أُبعد أن يكون فيها نكُد، ولم أسمعها، ولكني سمعتُ حذِر وحذُر وأشِر وأشُر وعجِل وعجُل.
وقوله: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ (59) تجعل «4» (غَيْرِ) نعتًا للإلَه. وقد يرفع: يجعل تابعًا للتأويل فِي إله ألا ترى أن الاله لو نزعت منه (مِنْ) كَانَ رفعًا. وقد قرى بالوجهين جَميعًا.
وبعضُ بني أَسَد وقُضَاعة إِذَا كانت (غير) فِي معنى (إِلا) نصبوها، تَمَّ الكلام قبلها أو لَمْ يتم. فيقولون: ما جاءني غيرَك، وما أتاني أحد غيرَك. قَالَ:
وأنشدنى المفضّل:
__________
(1) يريد قوله تعالى: كذلك نخرج الموتى، جعله جوابا لإنزال الماء فى الأرض المجدبة وترتب النبات وحياة الأرض عليه. كأنه يقول: إن كان من أمرنا أن ننزل الماء فنحيى به الأرض الجدبة فكذلك أمرنا أن نخرج الموتى ونحييهم إذ الأمران متساويان.
(2) يريد: بكسر الكاف.
(3) هو أبو جعفر.
(4) هذا على كسر «غير» وهى قراءة الكسائي وأبى جعفر. [.....](1/382)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)
لَمْ يمنع الشربَ منها غير أن هتفت ... حمامة من سحوق ذات أوقال «1»
فهذا نصبٌ وله الفعل والكلام ناقص. وقال الآخر:
لا عيبَ فيها غيرَ شُهْلةِ عينِها ... كذاكَ عِتَاق الطير شُهْلا عيونُها «2»
فهذا نصب والكلام تامّ قبله.
وقوله: أَوَعَجِبْتُمْ (63) هَذِه واو نَسَق أدخلت عَلَيْهِ ألف الاستفهام كما تدخلها عَلَى الفاء، فتقول:
أفعجبتم، وليست بأو، ولو أريد بِهَا أو لسكّنت الواو.
وقوله: أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُقال فِي التفسير: مع رجلٍ.
وهو فِي الكلام كقولك: جاءنا الخير عَلَى وجهك، وهُدِينا الخير عَلَى لسانِكَ، ومع وجهك، يَجوزان جَميعًا.
وقوله: قالَ الْمَلَأُ (66) هم الرجال لا يكون فيهم امرأة. وكذلك القوم، والنَفَر والرّهْط.
وقوله: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً (65) وقوله: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً (73) منصوب بضمير أرسلنا. ولو رفع إذ فقد الفعل كَانَ صوابًا كما قَالَ: فَبَشَّرْناها «3» بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ وقال أيضًا: فَأَخْرَجْنا «4» بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها
__________
(1) هو من قصيدة لأبى قيس بن الأسلت الأنصاري. وهو فى وصف ناقته. وسحوق يريد شجرة سحوقا أي طويلة. وأوقال جمع وقل وهو المقل أي الدوم إذا يبس. يريد أن الناقة كانت تشرب فلما سمعت صوت حمامة نفرت وكفت عن الشرب. يريد أنها يخامرها فزع من حدّة نفسها. وذلك محمود فيها.
وقوله: من سحوق، كذا فى ش، ج، يريد أن سماعها الحمامة من قبل الشجرة وجهتها. والمعروف: فى غصون.
(2) الشهلة فى العين أن يشوب سوادها زرقة. وقوله: شهلا فى اللسان (شهل) : «شهل» .
(3) آية 71 سورة هود وقد قرأ «يعقوب» بالنصب وحفص وابن عامر وحمزة، وقرأ الباقون بالرفع
(4) آية 27 سورة فاطر.(1/383)
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
ثم قال: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ فالوجه هاهنا الرفع لأن الجبال لا تتبع النبات ولا الثمار. ولو نصبتها عَلَى إضمار: جعلنا لكم (من الجبال جددًا بيضًا) كما قَالَ الله تبارك وتعالى: خَتَمَ «1» اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ أضمرَ لَهَا جَعَلَ إِذَا نصبت كما قَالَ: وَخَتَمَ «2» عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً والرفع فِي غشاوة الوجه. وقوله: وَمِنَ «3» النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ولم يقل:
ألوانهم، ولا ألوانها. وَذَلِكَ لِمكان (مِنْ) والعرب تُضمر من فتكتفي بِمن مِن مَنْ، فيقولون: مِنا مَنْ يقول ذَلِكَ ومِنّا لا يقوله. ولو جمع عَلَى التأويل كَانَ صوابًا مثل قول ذي الرّمة:
فظلُّوا ومنهم دمعه سابق له ... وآخر يثنى دمعة العين بالمهل «4»
وقوله: وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً كَانَ أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعًا.
وقوله: وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) يقول: قد كنت فيكم أمينًا قبل أن أُبعث. ويُقال: أمين عَلَى الرسالة.
وقوله: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ (78) والرجفة هي الزلزلة. والصاعقة هي النار. يُقال: أحرقتهم.
وقوله: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ يقول: رمادا جاثما.
__________
(1) آية 7 سورة البقرة.
(2) آية 23 سورة الجاثية.
(3) آية 28 سورة فاطر.
(4) المهل: التؤدة والسكينة. وفى الديوان 485: «بالهمل» . وكأنها الصحيحة لقوله بعد:
وهل هملان العين راجع ما مضى ... من الوجد أو مدنيك يا ميّ من أهلى(1/384)
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
وقوله: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ (79) يُقال: إنه لَمْ يعذب أمّة ونبيها فيها حتى يخرج عنها.
وقوله: أَخْرِجُوهُمْ (82) يعني لُوطًا أخرجوهُ وابنتيه.
وقوله: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ يقولون: يرغبون عَن أعمال قوم لوط ويتنزهونَ عنها.
وقوله: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها (85) وإصلاحها بعثة النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بالحلال وينهى عَن الحرام.
فذلك صلاحها. وفسادها العمل- قبل أن يبعث النَّبِيّ- بالمعاصي «1» .
وقول شعيب: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ لَمْ يكن لَهُ آية إلا النبوة. وَكَانَ لثمود الناقة، ولعيسى إحياء الموتى وشبهه.
وقوله: وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ (86) كانوا يقعدون لِمن آمن بالنبي عَلَى طرقهم يتوعدونهم بالقتل. وهو الإيعاد والوعيد. إِذَا كَانَ مبهمًا فهو بألف، فإذا أوقعته فقلت: وعدتك خيرًا أو شرًّا كَانَ بغير ألف كما قَالَ تبارك وتعالى: النَّارُ «2» وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا.
وقوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا (89) يريد: اقض بيننا، وأهل عُمَان يسمون القاضي الفاتح والفتّاح.
__________
(1) وهذا متعلق بقوله: «العمل» كما لا يخفى.
(2) آية 72 سورة الحج.(1/385)
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
وقوله: أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ (100) ثم قال: وَنَطْبَعُ ولم يقل: وطبعنا، ونطبعُ منقطعة عَن جواب لو يدلك عَلَى ذَلِكَ قوله: فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ألا ترى أَنَّهُ لا يَجوز فِي الكلام: لو سألتني لاعطيتك فأنتَ غنيّ، حَتَّى تَقُولُ: لو سألتني لاعطيتك فاستغنيت. ولو استقامَ المعنى فى قوله: فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أن يتصل بِما قبله جازَ أن تردّ يفعل عَلَى فعل فِي جواب لو كما قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: وَلَوْ «1» يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ فنذر مردودة على (لقضى) وفيها النون.
وسهَّل ذَلِكَ أن العرب لا تقول: وذرت، ولا ودعت، إنما يقال بالياء والألف والنون والتاء، فأوثرت عَلَى فعلت إِذَا جازت قَالَ الله تبارك وتعالى: تَبارَكَ «2» الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ ثم قال: وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً فإذا أتاك جواب لو آثرت فِيهِ (فعل «3» عَلَى يفعل) وإن قلته ينفعل جاز، وعطف فعل عَلَى يفعل ويفعل عَلَى فعل جائز، لأن التأويل كتأويل الجزاء.
وقوله: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ (105) ويقرأ «4» : حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ. وَفِي قراءة عبد الله: حَقِيقٌ بِأَنْ لَا أقول عَلَى الله فهذه حجة من «5» قرأ (عَلَى) ولم يضِف. والعربُ تجعل الباء فِي موضع عَلَى رميت عَلَى القوس، وبالقوس، وجئت عَلَى حال حسنة وبحال حسنة.
__________
(1) آية 11 سورة يونس.
(2) آية 10 سورة الفرقان.
(3) سقط ما بين القوسين فى ج، وثبت فى ش.
(4) وهى قراءة نافع. [.....]
(5) وهم أصحاب القراءة الأولى. وقوله: «ولم يضف» أي لم يجرّ بها ياء المتكلم كما فى قراءة نافع. وحروف الجر تسمى حروف الإضافة.(1/386)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)
وقوله: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ (107) هُوَ الذكر وهو أعظم الحيّات.
وقوله: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) فقوله: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ من «1» الملأ فَماذا تَأْمُرُونَ من كلام فرعون. جاز ذَلِكَ عَلَى كلامهم إياه، كأنه لَمْ يحك وهو حكاية. فلو صرّحت بالحكاية لقلت: يريد أن يخرجكم من أرضكم، فقال: فماذا تأمرونَ. ويحتمل القياس أن تَقُولُ عَلَى هَذَا المذهب: قلت لجاريتك قومي فَإِنِّي قائمة (تريد «2» : فقالت:
إني قائمة) وقلّما أتى مثله فِي شعر أو غيره، قَالَ عنترة:
الشاتِمَيْ عِرْضي ولم أشتِمْهُمَا ... والناذرَيْنِ إِذَا لقيتهما دمي «3»
فهذا شبيه بذلك لأنه حكاية وقد صار كالمتصل عَلَى غير حكاية ألا ترى أَنَّهُ أراد: الناذرين إِذَا لقينا عنترة لنقتلنه «4» ، فقال: إِذَا لقيتهما، فأخبر عَن نفسه، وإنما ذكراه غائبا. ومعنى لقيتهما: لقيانى.
__________
(1) أي صادر منهم إذ كان من كلامهم.
(2) ثبت ما بين القوسين فى ش، وسقط فى ج.
(3) البيت من معلقته. وكان قتل ضمضما المري أبا الحصين وهرم، فكانا ينالانه بالسب، ويتوعدانه بالقتل. وقبل البيت:
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر ... للحرب دائرة على ابني ضمضم
وبعده: إن يفعلا فلقد تركت أباهما ... جزر السباع وكل نسر قشعم
(4) فى ش، ج: «لقتلته» . وهو محرف عما أثبتنا.(1/387)
وقوله: أَرْجِهْ وَأَخاهُ (111) جاء التفسير: احبسهما عندك ولا تقتلهما، والإرجاء تأخير الأمر. وقد جزم الْهَاء حَمْزَةُ والاعمش «1» . وهي لغة للعرب: يقفونَ عَلَى الْهَاء المكنيّ عنها فِي الوصل إِذَا تحرك ما قبلها أنشدني بعضهم:
أنحي عَليّ الدهر رجلا ويدا ... يُقسم لا يُصلح إلا أفسدا
فيصلح اليوم ويُفسدهُ غدا
وكذلك بِهاء التأنيث فيقولون: هَذِه طلحة قد أقبلت، جزم أنشدني بعضهم:
لَمَّا رأى أن لادَعهْ ولا شِبَعْ ... مال إلى أرطاة حِقْف فاضطجع «2»
وأنشدني القَنَاني:
لستُ إذًا لزَعْبَلَهُ إنْ لَم أُغَيِّرْ بِكْلَتِي إن لَمْ أُساوَ بالطُوَل «3» بِكْلَتِي: طريقتي. كأنه «4» قَالَ: إن لَمْ أغيِّر بكلتي حَتَّى أساوي. فهذه لامرأة: امرأة طولى و [نساء «5» ] طول.
__________
(1) وهى أيضا قراءة حفص.
(2) هذا من رجز. وقبله:
يا رب أبّاز من العفر صدع ... تقبض الذئب إليه فاجتمع
يصف ظبيا أراده الذئب أن يفترسه فنجا منه. والأباز من وصف الظبى وهو الوثاب فعّال من أبز أي وثب. والعفر من الظباء ما يعلو بياضه حمرة. والصدع من الحيوان: الشاب القوىّ. وتقبض: جمع قوائمه ليثب على الظبى. والأرطاة شجرة يدبغ بقرظها. والحقف: المعوج من الرمل.
(3) زعبلة: اسم أبيها. وقد فسر البكلة بالطريقة. ويقول ابن برى- كما فى اللسان: بكل-:
«هذا البيت من مسدس الرجز جاء على التمام» .
(4) الأولى: «كأنها» ، لجان الشعر لامرأة، كما يذكر.
(5) زيادة يقتضيها السياق.(1/388)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)
وقوله: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) أدخل (أن) فى (إما) لأنها فِي موضع أمر بالاختيار. فهي فِي موضع نصب فِي قول القائل: اختر ذا أو ذا ألا ترى أن الأمر بالاختيار قد صلح فِي موضع إِمّا.
فإن قلت: إن (أو) فِي المعنى بِمنزلة (إمّا وإمّا) فهل يَجوز أن يقول يا زيد أن تقوم أو تقعد؟ قلت: لا يَجوز ذَلِكَ لأن أول الاسمين فِي (أو) يكون خبرًا يَجوز السكوت عَلَيْهِ، ثُمَّ تستدرك الشك فِي الاسم الآخر، فتُمضي الكلام عَلَى الخبر ألا ترى أنك تقبول: قام أخوكَ، وتسكت، وإن بدا لك قلت: أو أبوك، فأدخلت الشك، والاسم الأول مكتفٍ يصلح السكوت عَلَيْهِ. وليس يَجوز أن تَقُولُ: ضربت إمّا عبد الله وتسكت. فلمّا آذنت (إمّا) بالتخيير من أول الكلام أحدثْتَ لَهَا أن.
ولو وقعت إِمّا وإمّا مع فعلين قد وُصِلا باسم معرفة أو نكرة ولم يصلح الأمر بالتمييز فِي موقع إمّا لَمْ يحدث فيها أن كقول الله تبارك وتعالى: وَآخَرُونَ «1» مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ أَلا ترى أن الأمرَ لا يصلح هاهنا، فلذلك لَمْ يكن فِيهِ أن. ولو جعلت (أن) فِي مذهب (كي) وصيّرتها صلة ل (مرجون) يريد أُرجئوا أن يعذبوا أو يتاب عليهم، صلح ذَلِكَ فِي كل فعل تامّ، ولا يصلح فِي كَانَ وأخواتها ولا فِي ظننت وأخواتها. من ذَلِكَ أن تَقُولُ آتيكَ إما أن تعطي وإما أن تمنع.
وخطأ أن تَقُولُ: أظنكَ إمّا أن تُعطي وإمّا أن تمنع، ولا أصبحت إما أن تعطي وإما أن تمنع. ولا تُدخلنّ «2» (أو) عَلَى (إما) ولا (إما) عَلَى (أو) . وربما فعلت العرب ذَلِكَ لتآخيهما فِي المعنى عَلَى التوهّم فيقولون: عبد الله إما جالس أو ناهض،
__________
(1) آية 106 سورة التوبة.
(2) يريد: لا تجعل أحد الحرفين فى الموضع الذي يصلح له الآخر.(1/389)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)
ويقولون: عبد الله يقوم وإما يقعد. وَفِي قراءة أُبَيّ: وإِنّا «1» وإيّاكم لامَّا عَلَى هدى أو فِي ضلالٍ فوضع أو فِي موضع إِمّا. وقال الشاعر:
فقلت لَهن امشين إِمّا نلاقهِ ... كما قَالَ أو نشف النفوس فنعذرا «2»
وقال آخر «3» :
فكيفَ بنفس كلما قلت أشرفت ... عَلَى البرء من دهماء هِيض اندمالها
تُهاضُ بدارٍ قد تقادم عهدُها ... وإمّا بأمواتٍ ألمَّ خيالها
فوضع (وإِمّا) فِي موضع (أو) . وهو عَلَى التوهم إِذَا طالت الكلمة بعض الطول أو فرقت بينهما بشيء هنالك يَجوز التوهم كما تَقُولُ: أنت ضاربُ زيدٍ ظالِمًا وأخاهُ حين فرقت بينهما ب (ظالِم) جاز نصب الأخ وما قبله مخفوض. ومثله يَا ذَا «4» الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً وكذلك قوله إِمَّا «5» أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى.
وقوله: تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) وتَلْقَفُ «6» . يقال لقفت»
الشيء فأنا ألقفه لقفا، يجعلون مصدره لقفانا. وهى فى التفسير: تبتلع.
__________
(1) آية 24 سورة سبأ. وفى قراءتنا: «وإنا أو إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين» .
(2) «نلاقه» مجزوم فى جواب الأمر، وكذا المعطوف عليه «نشف» . وترى فى البيت أن:
«أو» خلفت «إما» . [.....]
(3) هو الفرزدق. والشعر مطلع قصيدة طويلة يمدح فيها سليمان بن عبد الملك ويهجو الحجاج. وقوله:
من دهماء أي من حب هذه المرأة. ويقال: هاض العظم: كسره بعد الجبر.
(4) آية 86 سورة الكهف.
(5) آية 65 سورة طه.
(6) والأولى- أي سكون اللام وتخفيف القاف- قراءة حفص عن عاصم. والثانية قراءة الباقين.
(7) كذا فى ج. وفى ش «تلقفت» .(1/390)
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
وقوله: فَوَقَعَ الْحَقُّ (118) معناهُ: أن السحرة قالوا: لو كَانَ ما صنع موسى سِحرًا لعادت حبالنا وعِصيّنا إلى حالها الأولى، ولكنها فُقدت. فذلك قوله (فَوَقَعَ الحق) : فتبين الحق من السحر.
وقوله: آمَنْتُمْ بِهِ (123) يقول: صدّقتموهُ. ومن قَالَ: آمنتم لَهُ يقول: جعلتم لَهُ الَّذِي أراد.
وقوله: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ (124) مشددة، وَ (لأصْلِبَنَّكم) بالتخفيف قرأها بعضُ «1» أهل مكة. وهو مثل قولك:
قتلت القوم وقتَّلتهم إِذَا فشا القتل جاز التشديد.
وقوله: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ (127) لك فى (ويذرك) النصبُ عَلَى الصرف لانّها فِي قراءة أُبَيّ (أتذرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأرض وَقَدْ تركوك أن يعبدوك) فهذا معنى الصرف. والرفع لِمن أتبع آخر الكلام أوّله كما قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ مَنْ «2» ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ بالرفع «3» . وقرأ ابن عباس (وإلا هتك) وفسّرها: ويذرك وعبادتك وقال: كَانَ فرعون يُعبد ولا يَعبد.
وقوله: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا (129) قَالَ: فأمَّا الأذى الأول فقتله الأبناء واستحياؤه النساء. ثُمَّ لَمّا قالوا لَهُ:
أتَذَرُ موسى وقومه ليفسدوا فِي الأرض قَالَ: أُعِيد عَلَى أبنائهم القتل وأستحيى النساء كما كَانَ فعل. وهو أذى بعد مجىء موسى.
__________
(1) هو ابن محيصن.
(2) آية 245 سورة البقرة.
(3) هو قراءة غير ابن عامر وعاصم ويعقوب. أما هؤلاء فقراءتهم النصب.(1/391)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
وقوله: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ (130) أخذهم بالسنين: القحط والجدوبة عامًا بعد عام.
وقوله: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ (131) والحسنة هاهنا الخفض «1» .
وقوله: لَنا هذِهِ يقولون: نستحقّها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يعنى الجدوبة يَطَّيَّرُوا يتشاءموا بِمُوسى كما تشاءمت اليهود بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة، فقالوا: غلت أسعارنا وقلّت أمطارنا مذ أتانا.
وقوله: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ (133) أرسل الله عليهم السماء سَبْتًا «2» فلم تقلع ليلا ونهارا، فضاقت بهم الأرض من تهدّم بيوتِهم وشُغُلهم عَن ضياعِهم، فسألوهُ أن يرفع عنهم، فرفع فلم يتوبوا، فأرسلَ الله عليهم (الجراد) فأكل ما أنبتت «3» الأرض فِي تِلْكَ السنة. وذاك أنهم رأوا من غِبّ ذَلِكَ المطر خصبًا لَمْ يروا مثله قطُّ، فقالوا: إنّما كَانَ هَذَا رحمةً لنا ولم يكن عذابًا. وضاقوا بالجراد فكان قدر ذراع فِي الأرض، فسألوهُ أن يكشف عنهم ويؤمنوا، فكشف «4» الله عنهم وبقي لَهُم ما يأكلونَ، فطغوا بِهِ وقالوا (لن نؤمن لك) فأرسل الله عليهم (القمل) وهو الدّبَى «5» الَّذِي لا أجنحة لَهُ، فأكل كلّ ما كَانَ أبقى الجراد، فلم يؤمنوا فأرسل الله (الضفادع) فكان أحدهم يصبح وهو عَلَى فراشه متراكب، فضاقوا بذلك، فلمّا كُشِفَ عنهم لَمْ يؤمنوا، فأرسل الله عليهم
__________
(1) كذا فى ش، وفى ج: «الخصب» . ومعناهما واحد.
(2) أي أسبوعا من السبت إلى السبت.
(3) كذا فى ج. وفى ش: «أنبت» .
(4) كذا فى ش. وفى ج: «فكشفه» .
(5) الدبى: الجراد قبل أن يطير، واحدة دباة.(1/392)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
(الدم) فتحوّلت عيونهم وأَنْهارُهم دمًا حَتَّى موتت الأبكارُ، فضاقوا بذلك وسألوهُ أن يكشفه عنهم فيؤمنوا، فلم يفعلوا، وَكَانَ العذاب يَمكث عليهم سبتًا، وبين العذاب إلى العذاب شهر، فذلك قوله آياتٍ مُفَصَّلاتٍ ثُمَّ وعد الله موسى أن يغرق فرعون، فسار موسى من مصر ليلا. وبلغ ذَلِكَ فرعون فأتبعه- يُقال فِي ألف ألف ومائة ألف سوى كتيبته التي هو فيها، ومُجَنِّبَتَيْه «1» - فأدركهم هُوَ وأصحابه مع طلوع الشمس. فضرب موسى البحر بعصاهُ فانفرج لَهُ فِيهِ اثنا عشر طريقًا. فلمّا خرجوا تبعه فرعون وأصحابه فِي طريقه، فلما كَانَ أوَلهم يَهُمّ بالخروج وآخرهم فِي البحر أطبقه الله تبارك وتعالى عليهم فغرَّقهم. ثُمَّ سأل موسى أصحابه أن يخرج فرعون ليعاينوهُ، فأخرج هُوَ وأصحابه، فأخذوا من الأمتعة والسلاح ما اتخذوا بِهِ العِجْل.
وقوله: عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ (148) كان جسدا مجوّفًا. وجاء فِي التفسير أَنَّهُ خار مرة واحدة.
وقوله: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ (149) من الندامة. ويُقال: أسقِط لغة. و (سُقِطَ فى أيديهم) أكثر وأجود. قالوا لئن لم ترحمنا ربّنا نصب «2» بالدعاء (لئن لَمْ ترحمنا ربنا) ويقرأ (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا) والنصبُ أحبّ إليّ لأنها فِي مصحف عبد الله (قالوا ربنا لئن لَمْ ترحمنا) .
وقوله: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ (150) تقول: عجلت الشيء: سبقته، وأعجلته استحثثته «3» .
__________
(1) تثنية مجنبة. وهى فرقة من الجيش، تكون فى إحدى جانبيه، وللجيش مجنبتان: اليمنى واليسرى. [.....]
(2) وهى قراءة حمزة والكسائىّ وخلف.
(3) فى ش، ج: «استحيته» وهو مصحف عما أثبتنا.(1/393)
وقوله: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ ذكر أنَّهما كانا لوحين. وجازَ أن يُقال الألواح للاثنين كما قَالَ فَإِنْ «1» كانَ لَهُ إِخْوَةٌ وهما أخوان وكما قَالَ إِنْ تَتُوبا «2» إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وهما قلبانِ.
وقوله تبارك وتعالى: قالَ ابْنَ أُمَّ يقرأ (ابن أمَّ، وَأُمِّ) بالنصب والْخفض «3» ، وَذَلِكَ أنه كثر فِي الكلام فحذفت العرب منه الياء. ولا يكادونَ يحذفونَ الياء إِلا من الاسم المنادى يضيفه المنادِي إلى نفسه، إلا قولهم: يا ابن عمّ ويا ابن أمّ. وذلك أنه يكثر استعمالهما فِي كلامهم. فإذا جاء ما لا يستعمل أثبتوا الياء فقالوا: يا ابن أبى، ويا ابن أخى، ويا ابن خالتى، فأثبتوا الياء. ولذلك قالوا: يا ابن أمّ، ويا ابن عمَّ فنصبوا كما تنصب المفرد فِي بعض الحالات، فيُقال: حسرتا، ويا ويلتا، فكأنّهم قالوا: يا أمّاه، ويا عمّاه. ولم يقولوا ذَلِكَ فِي أخ، ولو قيل كَانَ صوابًا. وَكَانَ هارون أخاهُ لابيه وأمّه. وإنّما قَالَ لَهُ (يا ابن أم) ليستعطفه عَلَيْهِ.
وقوله: فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ مِنْ أشمت، حَدَّثَنَا مُحَمَّد قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنَا سفيان بن عبينة عَن رجل- أظنه الأعرج «4» - عَن مجاهد أَنَّهُ قرأ (فلا تَشْمِت بيَ) ولم يسمعها من العرب، فقال الْكِسَائي: ما أدري لعلهم أرادوا (فلا تَشْمَت بِيَ الاعداءُ) فإن تكن صحيحة فلها نظائِر، العرب تَقُولُ فرغت: وفرِغْت. فمن قَالَ فرَغت قَالَ: أنا أفرغُ، ومن قَالَ فرِغت قَالَ أنَا أَفْرَغ، ورَكَنت وركِنْت وشمِلِهم شر، وشمَلهم، فِي كَثِير من الكلام. و (الأَعْدَاءَ) رفع لأن الفعل لَهُم، لمن قَالَ: تَشْمَت أو تشمت.
__________
(1) آية 11 سورة النساء.
(2) آية 4 سورة التحريم.
(3) الخفض أي كسر الميم قراءة ابن عامر وأبى بكر عن عاصم وحمزة والكسائىّ وخلف. والنصب قراءة الباقين.
(4) هو حميد بن قيس المكىّ القارئ توفى سنة 130 هـ.(1/394)
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
وقوله: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا (155) وجاء التفسير: اختارَ منهم سبعين رجلا. وإِنَّما استجيز وقوع الفعل عليهم إذ طرحت (من) لأنه مأخوذ من قولك: هَؤُلاءِ خير القوم، وخير من القوم. فلما جازت الإضافة مكان (مِن) ولم يتغير المعنى استجازوا أن يقولوا: اخترتكم رجلا، واخترت منكم رجلا.
وقد قَالَ الشاعر «1» :
فقلت لَهُ اخترها قَلُوصا سَمِينة ... ونابًا علينا مثل نابك فِي الْحَيَا
فقام إليها حبتر بسلاحه ... فلله عينا حَبْتَرٍ أيّما فتى
وقال الراجز «2» :
تحت الَّذِي اختار لَهُ الله الشجر
وقوله: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا وَذَلِكَ أن الله تبارك وتعالى أرسلَ عَلَى الَّذِينَ معه- وهم سبعون- الرجفة، فاحترقوا، فظنّ موسى أنّهم أهلكوا باتِّخَاذ أصحابِهم العجل، فقال: أتهلكنا بِما فعلَ السفهاء منا، وإِنّما أهلكوا بمسألتهم موسى (أرنا الله جهرة) .
__________
(1) هو الراعي النميرىّ. والشعر من قصيدة له يصف فيها أنه نزل به قوم ليلا فى سنة مجدبة وكانت إبله بعيدة عنه، فنحر ناقة من رواحلهم، وجاءت إبله فى الغدوة فأعطى رب الناقة ناقة مثلها، وزاده أخرى. والبيت الثاني فى الشعر قبل الأوّل إذ يذكر فيه أن حبترا نحر ناقة الضيف بعد أن أومأ إليه الراعي بذلك سرا لئلا يشعر صاحبها به. فأما البيت الأوّل فهو فى وصف ما حدث حين جاءت إبله فى صبح تلك الليلة. والقلوص: الفتية من الإبل. والناب: المسنة، والحيا: الشحم والسمن. وحبرّ ابن أخيه أو غلامه. وقوله: «ونابا» فى الحماسة وغيرها: «وناب» .
(2) هو العجاج. والرجز من أرجوزته الطويلة فى مدح عمر بن عبيد الله بن معمر.(1/395)
وقوله (ثم اتخذوا «1» العجل) ليس بمردود على قوله (فأخذتهم الصاعقة) ثُمَّ اتخذوا هَذَا مردود عَلَى فعلهم الأول. وفيه وجه آخر: أن تجعل (ثم) خبرًا مستأنفًا. وقد تستأنف العرب بثم والفعل الَّذِي بعدها قد مضى قبل الفعل الأول من ذَلِكَ أن تَقُولُ للرجل: قد أعطيتك ألفًا ثُمَّ أعطيتك قبل ذَلِكَ مالا فتكون (ثُمَّ) عطفًا عَلَى خبر المخبر كأنه قَالَ: أخبرك أني زرتك اليوم، ثُمَّ أخبرك أني زرتك أمس.
وأمّا قول الله عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَكُمْ «2» مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها فإن فِيهِ هَذَا الوجه لئلا يقول القائل: كيف قَالَ: خلقكم ثُمَّ جعل منها زوجها والزوج مخلوق «3» قبل الولد؟ فهذا الوجه المفسّر يدخل فِيهِ هَذَا المعنى. وإن شئت جعلت (ثم) مردودة عَلَى الواحدة أراد- والله أعلم- خلقكم من نفسٍ وحدها ثُمَّ جعل منها زوجها، فيكون (ثم) بعد خلقه آدم وَحده. فهذا ما فِي ثُمَّ. وخِلْقةُ ثُمَّ أن يكون آخِر. وكذلك الفاء. فأما الواو فإنك إنّ شئت جعلت الآخر هو الأوّل والأوّل الآخر. فإذا قلت: زرت عبد الله وزيدًا، فأيّهما شئت كان هو المبتدأ بالزيادة، وَإِذَا قلت: زرت عبد الله ثُمَّ زيدًا، أو زرت عبد الله فزيدًا كَانَ الأوّل قبل الآخِر، إلا أن تريد بالآخر أن يكون مردودًا عَلَى خبر المخبر فتجعله أوّلا.
__________
(1) يريد قوله تعالى فى الآية 153 من سورة النساء: (يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات) فإن ظاهر الآية أن اتخاذ العجل بعد أن أخذتهم الصاعقة لسؤال الرؤية، والواقع أن اتخاذ العجل سابق على هذا. فعنى المؤلف بتأويل الظاهر.
(2) آية 6 سورة الزمر.
(3) الأولى: مخلوقة فإن المراد بالزوج حوّاء.(1/396)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
وقوله: وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ (160) فقال: اثنتي عشرة والسبط ذكر لأن بعده «1» أمم، فذهب التأنيث إلى الأمم.
ولو كَانَ (اثني عشر) لتذكير السبط كَانَ جائزًا.
وقوله: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا (137) فتنصب مشارق ومغارب تريد: فِي مشارق الأرض وفى مغاربها، وتوقع «2» (وأورشا) على قوله الَّتِي بارَكْنا «3» فِيها. ولو جعلت (وأورثنا) واقعة عَلَى المشارق والمغارب لانهم قد أورثوها وتجعل (التي) من نعت المشارق والمغارب فيكون نصبًا «4» ، وإن شئت جعلت (التي) نعتًا للارض فيكون خفضًا.
وقوله: وَما ظَلَمُونا يقول: وما نقصونا شيئًا بِما فعلوا، ولكن نقصوا أنفسهم.
والعربُ تَقُولُ: ظلمت سِقاءك إِذَا سقيته «5» قبل أن يُمَخض ويَخرج زُبْده. ويُقال ظلم الوادي إِذَا بلغ الماء منه موضعًا لَمْ يكن ناله فيما خلا أنشدني بعضهم:
يكاد يطلع ظلمًا ثُمَّ يمنعه ... عَن الشواهِقِ فالوادِي بِهِ شِرق «6»
ويُقال: إنه لأظلم من حيَّة لانَّها تأتي الجُحْر ولم تَحفره فتسكنه. ويقولون:
ما ظلمك أن تفعل، يريدونَ: ما منعك أن تفعل، والأرض المظلومة: التي لَمْ ينلها
__________
(1) كذا فى الأصول اش، ج. والأعرب: «أمما» .
(2) كذا فى ا. وفى ش، ج: «ترفع» وهو تصحيف.
(3) أي الأرض التي باركنا فيها. [.....]
(4) جواب لو محذوف، أي لجاز.
(5) أي سقيت ما فيه من اللين ضيفا ونحوه.
(6) فى اللسان أن هذا فى وصف سيل. فقوله: يكاد يطلع أي السيل، أي يكاد السيل يبلغ الشواهق أي الجبال المرتفعة، ولكن الوادي يمنعه عنها فهو شرق بهذا السيل أي ضيق به كمن يغص بالماء.(1/397)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
المطر، وقال أَبُو الجراح: ما ظلمك أَنْ تفيء، لرجل شكا كثرة الأكل. ويُقال «1» صَعِق الرجل وصُعِق إِذَا أخذته الصاعقة، وَسَعِدَ وسُعِد ورَهِصت الدابة ورهصت «2» .
وقوله: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ (163) والعربُ تَقُولُ: يُسْبِتونَ ويَسْبِتونَ وسَبَت وأَسبت. ومعنى أسبتوا: دخلوا فِي السبت، ومعنى يَسْبِتون: يفعلونَ سبتهم. ومثله فِي الكلام: قد أجمعنا، أي مرَّت بنا جُمعة، وجَمّعنا: شهدنا الجمعة. قَالَ وقال لي بعضُ العرب: أترانا «3» أشهرنا مذ لم نلتق؟ أراد: مرّ بنا شهر.
وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ منصوب بقوله: لا تَأْتِيهِمْ.
وقوله: قالُوا مَعْذِرَةً (164) إعذارًا فعلنا ذَلِكَ. وأكثر كلام العرب أن ينصبوا المعذرة. وقد آثرت القراء رفعها. ونصبها جائز «4» . فمن رفع قَالَ: هي معذرة كما قال: إِلَّا ساعَةً «5» مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ.
وقوله: مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ (167) : الجزية إلى يوم القيامة.
__________
(1) كأن هذا أملاء على قوله تعالى فى الآية 143 من هذه السورة: «فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا» ، فأخر فى الكتابة إلى هذا الموضع. وكثيرا ما يحدث مثل هذا فى الكتاب، فيذكر الشيء فى غير موضعه.
(2) الرهص أن يصيب الحجر حافرا أو منسما فيذوى باطنه.
(3) ثبت فى ش، ج. وسقط فى ا.
(4) بل قرأ به حفص عن عاصم وزيد بن على وعيسى بن عمر وطلحة بن مصرف.
(5) آية 35 سورة الأحقاف.(1/398)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
وقوله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ (169) وخَلْفٌ»
أَضاعُوا الصَّلاةَ أي قرن، بِجزم اللام. والخلف: ما استخلفته، تقول: أعطاك الله خَلَفًا مما ذهب لك، وأنت خَلَف سَوْء، سمعته من العرب.
وقوله: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ (170) ويُقرأ يُمَسِّكُونَ «2» بِالْكِتابِ ومعناهُ: يأخذونَ بِما فِيهِ.
وقوله: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ (171) رفع الجبل عَلَى عسكرهم فرسخًا فِي فرسخ. نَتَقْنَا: رفعنا. ويُقال: امرأة مِنتاق إِذَا كانت كثيرة الولد.
وقوله: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ (176) : ركن إليها وسكن. ولغة يُقال: خلد إلى الأرض بغير ألف، وهي قليلة.
ويُقال للرجل إِذَا بقي سواد رأسه ولحيته: إِنّه مُخْلِد، وَإِذَا لَمْ تسقط أسنانه قيل:
إنه لَمخلد.
وقوله: أَيَّانَ مُرْساها (187) المرسى فى موضع رفع.
ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثقل عَلَى أهل الأرض والسماء أن يعلموه «3» .
وقوله: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ كأنّك حفيّ عنها مقدّم ومؤخر ومعناهُ يسألونَكَ عنها كأنك حفِيّ بِهَا. ويُقال فِي التفسير كأنك حَفِيّ أي كأنك عالم بها.
__________
(1) آية 59 سورة مريم.
(2) وهى قراءة أبى بكر عن عاصم.
(3) كذا فى الأصول. والأولى: «يعلموها» .(1/399)
وقوله: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ (188) يقول: لو كنت أعلم الغيب لاعددت للسنة المجدبة من السنة المخصبة، ولعرفتُ الغلاء فاستعددت له فى الرخص. هذا قول مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً (189) الماء خفيف عَلَى المرأة إِذَا حملت.
فَمَرَّتْ بِهِ فاستمرت بِهِ: قامت بِهِ وقعدت.
فَلَمَّا أَثْقَلَتْ: دنت ولادتها، أتاها إبليس فقال: ماذا فِي بطنك؟ فقالت:
لا أدري. قَالَ: فلعله بَهيمة، فما تصنعين لي إن دعوت الله لك حتى يجعله إنسانا؟ قالت: قل، قَالَ: تسمينه باسمي. قالت: وما اسمك؟ قَالَ: الحرث.
فسمَّته عبد الحارث، ولم تعرفه أَنَّهُ إبليس.
وقوله: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ (190) إِذْ قالت: عبد الحارث، ولا ينبغي أن يكون عبدًا إلا لله. ويقرأ «1» :
«شِرْكًا» .
وقوله: أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً (191) أراد الألهة ب (ما) ، ولم يقل: من، ثُمَّ جعل فعلهم كفعل الرجال.
وقال: وَهُمْ يُخْلَقُونَ ولا يملكون.
وقوله: وَلا يَسْتَطِيعُونَ (192) فجعل الفعل للرجال.
__________
(1) وهى قراءة نافع وأبى جعفر وأبى بكر عن عاصم.(1/400)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
وقوله: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى (193) يقول: إِنْ يَدْعُ المشركون الآلهة إلى الهدى لا يتبعوهم.
وقوله: سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ ولم يقل: أم صمتُّم.
وَعَلَى هَذَا أكثر كلام العرب: أن يقولوا: سواء عليّ أقمت أم قعدت. ويَجوز:
سواء عليّ أقمت أم أنت قاعد قَالَ الشاعر:
سواء إِذَا ما أصلح الله أمرهم ... علينا أدثر ما لهم أم أَصارِم «1»
وأنشدني الْكِسَائي:
سواء عليك النفْرُ أم بِتَّ ليلة ... بأَهل القِباب مِن نُمَيْرِ بنِ عامِرِ «2»
وأنشده بعضهم (أو أنت بائت) وجاز فيها (أو) لقوله: النفر لأنك تَقُولُ: سواء عليك الخير والشر، ويَجوز مكان الواو (أو) لأن المعنى جزاء كما تَقُولُ: اضربه قام أو قعد. ف (أو) تذهب إلى معنى العموم كذهاب الواو.
وقوله: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ (198) يريد الآلهة: أنّها صُوَر لا تُبصر. ولم يقل: وتراها لأن لَهَا أجسامًا وعيونًا.
والعرب تَقُولُ للرجل القريب من الشيء: هُوَ ينظر، وهو لا يراهُ، والمنازل تتناظر إِذَا كَانَ بعضها بحذاء بعض.
__________
(1) الدثر: المال الكثير. وأصارم جمع أصرام، وأصله أصاريم فحذفت الياء لضرورة الشعر.
والأصرام واحده الصرم. والصرم كالصرمة الفريق القليل العدد. يريد القطعة من الإبل القليلة.
(2) (النفر) يريد النفر من منى. ويوم النفر هو اليوم الثاني من أيام التشريق، وهو النفر الأوّل.
والنفر الآخر فى اليوم الثالث. [.....](1/401)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
وقوله: إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ (201) وقرأ إِبْرَاهِيم النخعيّ «1» (طَيْف) وهو اللمم والذنب فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ أي منتهون إذا أبصروا.
وقوله: وَإِخْوانُهُمْ (202) إخوان المشركين يَمُدُّونَهُمْ فِي الغيّ، فلا يتذكرون ولا ينتهونَ. فذلك قوله: ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ يعني المشركين وشياطينَهم. والعربُ تَقُولُ: قد قَصُر عَن الشيء وأقصر عَنْهُ. فلو قرئت (يُقْصِرُونَ «2» ) لكان صوابًا.
وقوله: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها (203) يقول: هلا افتعلتها. وهو من «3» كلام العرب جائز أن يُقال: اختار الشيء، وهذا اختياره.
وقوله: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا (204) قَالَ: كَانَ الناس يتكلمون فِي الصلاة المكتوبة، فيأتي الرجل القوم فيقول:
كم صليتم؟ فيقول: كذا وكذا. فنهوا عَن ذَلِكَ، فحرم الكلام فى الصلاة لما أنزلت هذه الآية.
__________
(1) وهى قراءة ابن كثير وأبى عمرو والكسائي ويعقوب.
(2) وهى قراءة عيسى بن عمر كما فى القرطبي.
(3) يريد أن الاجتباء فى الأصل الاختيار، وأريد به هنا الاختلاق والافتعال. وأراد أن يذكر أن هذا معروف فى كلام العرب أن يقال: اختار فلان الشيء إذا اختلقه واستحدثه. ومن هذا يعرف أن هنا سقطا فى الكلام من النساخ. والأصل: «جائز أن يُقال: اختار الشيء وهذا اختياره: إذا اختلقه» كما يؤخذ من الطبري. وفيه: «وحكى عن الفرّاء أنه كان يقول: اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته: إذا افتعلته من قبل نفسك» .(1/402)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
ومن سورة الأنفال
وقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ (1) نَزلت فِي أنفال أهل بدر. وَذَلِكَ أنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى قِلََّة الناس وكراهيتهم للقتال قَالَ: من قتل قتيلا فله كذا، ومن أسر أسيرًا فله كذا.
فلمّا فرغ من أهل بدر قام سعد بن مُعَاذ «1» فقال: يا رسول الله إن نفَّلت هَؤُلاءِ ما سمّيت لَهم بقي كَثِير من المسلمين بغير شيء، فأنزلَ الله تبارك وتعالى:
قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ: يصنع فيها ما يشاء، فسكتوا وَفِي أنفسهم من ذَلِكَ كراهية.
وهو قوله: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ (5) عَلَى كره منهم، فامض لأمر الله فِي الغنائم كما مضيت عَلَى مُخْرِجك وهم كارهون.
ويُقال فيها: يسألونَك عَن الأنفال كما جادلوكَ يوم بدر فقالوا: أخرجتنا للغنيمة ولم تعْلمنا قتالا فنستعدّ «2» لَهُ. فذلك قوله: يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ (6) وقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أمر المسلمين أن يتأسوا «3» فِي الغنائم بعد ما أمضيت لهم، أمرا ليس بواجب «4» .
__________
(1) هو سيد الأوس. شهد بدرا وأحدا، واستشهد زمن الخندق فقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:
«اهتز العرش لموت سعد بن معاذ» .
(2) كذا فى ا. وفى ج: «فيستعدّ» .
(3) أي يؤاسى بعضهم بعضا أي ينيله مما ناله ولا يضنّ عليه.
(4) كذا فى ا، ج. وفى ش: «بجواب» .(1/403)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
وقوله: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، ثم قال «1» أَنَّها لَكُمْ فنصب (إحدى «2» الطائفتين) ب «يعد» ثُمَّ كرّها عَلَى أن يعِدكم أن إحدى الطائفتين لكم كما «3» قَالَ:
فَهَلْ يَنْظُرُونَ «4» إِلَّا السَّاعَةَ ثم قال: أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فأن فِي موضع نصب كما نصبت الساعة وقوله: وَلَوْلا «5» رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ رفعهم ب «لولا» ، ثم قال: أَنْ تَطَؤُهُمْ فأن فى موضع رفع ب «لولا» .
وقوله: بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) ويقرأ (مردفين) «6» فأما (مردفين) فمتتابعين، و (مردَفين) فُعِل بِهم.
وقوله: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ (10) هذه الهاء للإرداف: ما جعل الله الإرداف إِلَّا بُشْرى.
وقوله: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ (11) بات المسلمونَ ليلة بدر عَلَى غير ماء، فأصبحوا مجنبِين، فوسوس إليهم الشيطانُ فقال: تزعمونَ أنكم عَلَى دين الله وأنتم عَلَى غير الماء وعدّوكم عَلَى الماء تصلون مجنبين، فأرسلَ الله عليهم السماء «7» وشربوا واغتسلوا وأذهبَ الله عنهم رِجْزَ الشيطان يعني وسوسته، وكانوا فِي رمل تغيب فِيهِ الأقدام فشدّده المطر حَتَّى اشتدّ عَلَيْهِ الرجال، فذلك قوله: وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ.
__________
(1، 2) سقط ما بين القوسين فى ا.
(3) سقط فى ا.
(4) آية 18 سورة محمد.
(5) آية 25 سورة الفتح.
(6) أي بفتح الدال: وهى قراءة نافع وأبى جعفر ويعقوب، والكسر قراءة الباقين.
(7) كذا فى ا. وفى ش، ج: «الماء» .(1/404)
ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
وقوله: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا (12) كَانَ الملك يأتي الرجل من أصحاب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول: سمعت «1» هَؤُلاءِ القوم- يعني أبا سفيان وأصحابه- يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشِفَنَّ، فيحدث المسلمونَ بعضهم بعضًا بذلك فتقوى أنفسهم. فذلك وحيه إلى الملائكة.
وقوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ علَّمهم مواضع الضرب فقال: اضربوا الرءوسَ والأيدي «2» والأرْجُل.
فذلك قوله: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ.
وقوله: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ (14) خاطب المشركين.
ثُمَّ قَالَ: وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ فنصب (أنّ) من جهتين.
أَمَّا إحداهما: وَذَلِكَ بأن للكافرينَ عذابَ النار، فألقيت الباء فنصبت. والنصب الآخر أن تضمر فعلا مثل قول الشاعر:
تسمع للأحشاء مِنْهُ لغطًا ... ولليدين جُسْأَةً وبَدَدَا «3»
أضمرَ (وترى لليدين) كذلك قال ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ واعلموا أَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ. وإن شئت جعلت (أن) فى موضع رفع تريد: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وذلكم (أنّ
__________
(1) سقط فى ش. [.....]
(2) هذا من ضرب البنان. والبنان جمع بنانة وهى أطراف أصابع اليدين والرجلين.
(3) اللغط: الأصوات المبهمة. والجسأة الصلابة والغلظ والخشونة. والبدد: تباعد ما بين اليدين.(1/405)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
للكافرين عذاب النّار) ومثله فِي كتاب الله تبارك وتعالى: خَتَمَ «1» اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ قرأها عَاصِم فيما حَدَّثَنِي المفضل، وزعم أن عاصمًا أخذها عَلَيْهِ مرتين بالنصب. وكذلك قوله: وَحُورٌ عِينٌ «2» .
وقوله: ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) ومُوهِنُ. فإن شئت أضفت، وإن شئت نوّنت ونصبت «3» ، ومثله: إِنَّ «4» اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ، وبالغ أمره وكاشِفاتُ «5» ضُرِّهِ، وكاشفات ضُرَّه.
وقوله: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى (17) دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر بكفّ من تراب فحثاهُ فِي وجوه القوم، وقال: شَاهت الوجوه، أي قبحت، فكان ذَلِكَ أيضًا سبب هزمهم «6» .
وقوله: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ (19) (قَالَ «7» أَبُو جهل يومئذ: اللَّهُمَّ انصر أفضل الدينين وأحقَّهُ بالنصر، فقال الله تبارك وتعالى إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ يعنى النصر.
__________
(1) آية 7 سورة البقرة.
(2) الآية 22 من سورة الواقعة. ويريد المؤلف قراءة أبى وعبد الله بن مسعود (وحورا عينا) على معنى: ويعطون هذا كله وحورا عينا كما فى البحر 8/ 206
(3) الإضافة والتنوين فى الوصفين من فعّل وأفعل وقرى بكل هذه الأوجه ما عدا النصب مع الوصف من أوهن.
(4) آية 3 سورة الطلاق. وقراءة حفص بالإضافة والباقين بالتنوين ونصب أمره.
(5) آية 38 سورة الزمر. قرأ بالتنوين أبو عمرو ويعقوب وقرأ الباقون بغير تنوين.
(6) كذا فى ش، ج. وفى ا: «هزيمتهم» .
(7) سقط ما بين القوسين فى ا.(1/406)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
وقوله «1» : وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: كسر ألفها أحب إِليّ من فَتَحها لأن فِي قراءة عبد الله: (وإِنّ الله لمع المؤمنين) فحسّن هذا كسرها بالابتداء. ومن فَتَحها أرادَ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ يريدُ: لكثرتها ولأن الله مع الْمُؤْمِنِين، فيكون موضعها نصبًا لأن الخفض يصلح فيها.
وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ (24) يقول: استجيبوا لله وللرسول إِذَا دعاكم إلى إحياء أمركم.
وقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ يحول بين المؤمن وبين المعصية، وبين الكافر وبين الطاعة و (أنه) مردود على (واعلموا) ولو استأنفت فكسرت لكان صوابًا.
وقوله: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ (25) أمرهم ثُمَّ نَهاهم، وَفِيهِ طَرَف من الجزاء وإن كان نهيا. ومثله قوله يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ «2» أمرهم ثُمَّ نَهاهم، وَفِيهِ تأويل الجزاء.
وقوله: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ (26) نزلت فى المهاجرين خاصّة.
وقوله: فَآواكُمْ يعنى إلى المدينة، وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ أي قوّاكم.
__________
(1) الفتح قراءة نافع وابن عامر وحفص، والكسر قراءة الباقين.
(2) آية 18 سورة النمل.(1/407)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
وقوله: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ (27) إن شئت جعلتها «1» جزمًا عَلَى النهي، وإن شئت جعلتها صرفًا ونصبتها قَالَ «2» :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فَعَلْتَ عَظِيمُ
وَفِي إحدى القراءتين (وَلا تَخونوا أماناتِكم) فقد يكون أيضًا هاهنا جزمًا ونصبًا.
وقوله: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً (29) يقول: فتحًا ونصرًا. وكذلك قوله يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يوم الفتح والنصر.
وقوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ (30) اجتمعَ نفرٌ من قريش فقالوا: ما ترونَ فِي مُحَمَّد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ويدخل إبليس عليهم فِي صورة رجل من أهل نَجد، فقال عَمْرو بن هشام «3» : أرى أن تَحبسوهُ فِي بيت وتُطَيِّنُوه عَلَيْهِ وتفتحوا لَهُ كُوَّة وتضيِّقوا عَلَيْهِ حَتَّى يَموت. فأبى ذَلِكَ إبليس وقال: بئس الرأي رأيك، وقال أَبُو البَخْتَرِيّ بن هشام: أرى أن يحمل عَلَى بعير ثُمَّ يطرد بِهِ حَتَّى يهلك «4» أو يكفيكموهُ بعض العرب، فقال إبليس: بئس الرأي! أتخرجونَ عنكم رجلا قد أفسدَ عامّتكم فيقع إلى غيركم! فعلّه يغزوكم بِهم. قَالَ الفاسق أَبُو جهل: أرى أن نَمشي إِلَيْهِ برجل من كل فخذ من قريش فنضر به بأسيافنا، فقال إبليس: الرأي ما رأى هَذَا «5» الفتى، وأتى جبريل عليه السلام إلى
__________
(1) أي تخونوا فى قوله: (وتخونوا أماناتكم) يحتمل أن يكون معطوفا على المجزوم بلا الناهية، ويحتمل أن يكون منصوبا بأن مضمرة بعد واو المعية، وهو ما يعرف عند الكوفيين بالنصب على الصرف.
(2) المشهور أن القائل هو أبو الأسود الدؤلي من قصيدة طويلة. وانظر الخزانة 3/ 618
(3) هو أبو جهل. [.....]
(4) كذا فى أ. وفى ش، ج: «يهم» .
(5) سقط فى أ.(1/408)
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخبر، فخرج من مكَّة هُوَ وَأَبُو بكر. فقوله (لِيُثْبِتُوكَ) :
ليحبسوك فى البيت. (أو يخرجوك) على البعير «1» (أو يقتلوك) .
وقوله: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ (32) فى (الحق) النصب والرفع «2» إن جعلت (هو) اسمًا رفعت الحق بهو. وإن جعلتها عمادًا بِمنزلة الصلة نصبت الحق. وكذلك فافعل فِي أخوات كَانَ، وأظنّ وأخواتها كما قَالَ الله تبارك وتعالى وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ «3» تنصب الحق لأن (رَأَيْتَ) من أخوات ظننت. وكل موضع صلحت فِيهِ يفعل أو فعل مكان الفعل «4» المنصوب ففيه العماد ونصب الفعل. وَفِيهِ رفعه بِهو عَلَى أن تجعلها اسمًا، ولا بدّ من الألف واللام إِذَا وجدت إليهما السبيل. فإذا قلت:
وجدت عبد الله هُوَ خيرًا منك وشرًا منك أو «5» أفضل منك، ففيما أشبه هَذَا الفعل النصب والرفع. النصب عَلَى أن ينوي الألف واللام، وإن لَمْ يمكن إدخالَهما. والرفع عَلَى أن تَجعل (هو) اسمًا فتقول: ظننت أخاكَ هُوَ أصغرُ منك وهو أصغرَ منك.
وَإِذَا جئت إلى الاسماء الموضوعة مثل عَمْرو، وَمُحَمَّد، أو المضافة مثل أبيك، وأخيك رفعتها، فقلت: أظنّ زيدًا هُوَ أخوك، وأظنَّ أخاكَ هُوَ زيد، فرفعت إذ لَمْ تأت بعلامة المردود، وأتيت بِهو التي هي علامة الاسم، وعلامة المردود أن يرجع كل فعل لَمْ تكن فِيهِ ألف ولام بألف ولام ويرجع عَلَى الاسم فيكون (هُوَ)
__________
(1) كذا بالأصل، والمعروف أن المراد إخراجه من وطنه مكة.
(2) النصب قراءة العامّة. والرفع قراءة زيد بن على والمطوعىّ عن الأعمش.
(3) آية 6 سورة سبأ.
(4) يريد بالفعل الخبر.
(5) كذا فى ا. وفى ش، ج: «و» .(1/409)
عماد للاسم و (الألف واللام) عماد للفعل. فلمّا لَمْ يُقدَر عَلَى الألف واللام ولم يصلح أن تُنويا فِي زيد لأنه فلان، ولا في الأخ لأنه مُضاف، آثروا الرفع وصلح فِي (أفضل منك) لأنك تلقى (من) فتقول: رأيتك أنت الافضل، ولا يصلح ذَلِكَ فِي (زيد) ولا فِي (الأخ) أن تنوي فيهما ألفا ولا ما. وَكَانَ الْكِسَائي يجيز ذَلِكَ فيقول: رأيتُ أخاكَ هُوَ زيدًا، ورأيتُ زيدًا هُوَ أخاكَ. وهو جائز كما جاز فِي (أفضل) للنية نية الألف واللام. وكذلك جاز فِي زيد، وأخيك. وَإِذَا أمكنتك الألف واللام ثُمَّ لَمْ تأت بِهما فارفع «1» فتقول «2» : رأيتُ زيدًا هُوَ قائم ورأيتُ عمرًا هُوَ جالس. وقال الشاعر:
أَجِدَّك لَن تزال نجِيَّ هَمّ ... تبيتُ اللَّيْلَ أنت لَهُ ضجيع
ويَجوز النصب فِي (ليت) بالعماد، والرفع لِمَنْ «3» قَالَ: ليتك قائمَا. أنشدني الْكِسَائي:
ليت الشباب هُوَ الرجِيعُ عَلَى الفتى ... والشيبُ كَانَ هُوَ البديءُ الأوّل «4»
ونصب فِي (ليت) عَلَى العماد ورفع فِي كَانَ عَلَى الاسم. والمعرفة والنكرة فِي هَذَا سواء.
وقوله: إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ (16) هُوَ استثناء والمتحيِّز غير مَن. وإن شئت جعلته من صفة «5» من، وهو عَلَى مذهب قولك: إِلا أن يوليهم يريد الكرَّّة، كما تَقُولُ فِي الكلام: عبد الله يأتيكَ إِلا ماشيًا، ويأتيكَ إِلا أن تمنعه الرحلة. ولا يكون (إلا) هاهنا عَلَى معنى قوله إِلى «6» طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ لأن (غير) فِي مذهب (لا) ليست فِي مذهب (إِلا) .
__________
(1) فى ج: «فارتفع» .
(2) فى ا: «فأقول» .
(3) هذا راجع للنصب.
(4) الرجيع: المرجوع فيه: أراد به المتأخر، والبديء: الأوّل.
(5) يريد بصفتها ما بعدها من فعل الشرط، وهو (يولهم) ، يريد الضمير فى الفعل.
(6) آية 53 سورة الأحزاب.(1/410)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
وقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ (41) دخلت (أنّ) فِي أوّله وآخره لأنه جزاء بِمنزلة قوله كُتِبَ «1» عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وبِمنزلة قوله أَلَمْ «2» يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ ويجوز فى (أنّ) الآخرة أن تكسر ألفها لأن سقوطها يَجوز ألا ترى أنك لو قلت:
(أعلموا أنّ ما غنمتم من شيء فلله خمسه) تصلح، فإذا صلح سقوطها صلح كسرها.
وقوله: وَلِذِي الْقُرْبى: قرابة رَسُول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ: يتامى الناس ومساكينهم، لَيْسَ فيها يتامى بني هاشم ولا مساكينهُم.
وقوله: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا (42) والعدوة: شاطئ الوادي الدُّنْيا مما يلى المدينة، والْقُصْوى مما يلي مكة.
وقوله وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعني أبا سفيان وَالْعِيرَ، كانوا عَلَى شاطئ البحر.
وقوله أَسْفَلَ مِنْكُمْ نصبت يريد: مكانا أسفلَ منكم. ولو وصفهم بالتسفل وأراد: والركب أشد تسفلا لَجازَ ورفع.
وقوله وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ كتابتها عَلَى الادغام بياء واحدة، وهي أكثر قراءة القراء. وقد قرأ بعضهم «3» (حيى عن بيّنة) بإظهارها. وإِنَّما أدغموا الياء مع الياء وَكَانَ ينبغي لَهم ألا يفعلوا لأن الياء الآخرة لزمها النصب فِي فَعَلَ، فأدغموا لَما التقى حرفان متحركان من جنس واحد. ويَجوز الادغام فِي الاثنين للحركة اللازمة للياء الآخرة، فتقول للرجلين: قد حَيّا، وحَيِيا. وينبغي للجمع ألا يدغم لأنّ ياءه
__________
(1) آية 4 سورة الحج. [.....]
(2) آية 63 سورة التوبة.
(3) هم نافع والبزىّ عن ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر ويعقوب وخلف.(1/411)
يصيبها الرفع وما قبلها مكسور، فينبغي لَهَا أن تسكن فتسقط بواو الجمع. وربما أظهرت العرب الادغام فِي الجمع إرادة تأليف الأفعال وأنْ تكون كلها مشدّدة.
فقالوا فِي حَيِيت حَيُّوا، وَفِي عيِيت عَيُّوا أنشدني بعضهم:
يَحِدن بِنَا عَن كلّ حَيٍّ كأنَّنا ... أخارِيس عَيُّوا بالسلام وبالنَّسْبِ «1»
يريد النّسَبَ. وقال الآخر:
مِن الَّذِينَ إِذَا قلنا: حَدِيثَكم ... عَيُّوا، وإن نحن حَدَّثناهُمُ شَغبوا «2»
وقد اجتمعت العرب عَلَى إدغام التحيَّة والتحيّات بِحركة الياء الأخيرة فيها كما استحبّوا إدغام عيَّ وَحَيَّ بالحركة اللازمة فيها. وقد يستقيم أن تدغم الياء والياء فِي يَحْيَا ويَعْيا وهو أقل من الادغام فِي حيّ لأن يحيا يسكن ياؤها إِذَا كانت فِي موضع رفع، فالحركة فيها ليست لازمة. وجواز ذَلِكَ أنك «3» إِذَا نصبتها كقول الله تبارك وتعالى أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى «4» استقام إدغامها هاهنا ثم نؤلّف الكلام، فيكون فِي رفعه وجزمه بالإدغام فتقول (هو يحىّ وَيُمِيتُ) أنشدني بعضهم:
وكأنها بين النساءِ سَبيِكةٌ ... تَمْشِي بِسُدَّةِ بَيْتها فَتُعِيُّ «5»
وكذلك يَحَيَّان ويَحَيُّون.
__________
(1) كأنه يصف إبلا سافروا عليها وتجنبوا الأحياء فى طريقهم. وأخاريس كأنه جمع أخرس، جمعه على أفاعل وأشبع الكسرة فتولدت الياء، وقد ذهب به مذهب الاسم فجمعه هذا الجمع، ولولا هذا لقال: خرس.
(2) «قلنا: حديثكم» أي هاتوا حديثكم أو حدّثوا حديثكم. يرميهم بالعيّ والشغب.
(3) سقط فى ش، ج. وثبت فى أ.
(4) آية 40 سورة القيامة.
(5) سدة البيت: فناؤه. يصف امرأة أنها منعمة يثقل عليها المشي، فلو مشت بفناء بيتها لحقها الإعباء والكلال.(1/412)
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
وقوله: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ (48) هَذَا إبليس تمثل فِي صورة رجل من بني كنانة يُقال لَهُ سُرَاقة بن جُعْشُم. قال الفرّاء: وقوله وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ «1» من قومي بني كنانة ألا يعرضوا لكم، وأن يكونوا معكم عَلَى مُحَمَّد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فلمّا عاين الملائكة عرفهم ف «نكص على عقبيه» ، فقال لَهُ الحرث «2» بن هشام: يا سراقة أفرارًا من غير قتال! فقال (إِنِّي أَرَى ما لا ترون) .
وقوله: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا (50) يريد: ويقولونَ، مضمرة كما قَالَ: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا «3» يريد يقولون: (ربّنا) . وَفِي قراءة عبد الله وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ «4» يقولان رَبَّنا.
وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) (أنّ) فى موضع نصب إذا جعلت (ذلك) نصبًا وأردت: فعلنا ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وب أَنَّ اللَّهَ. وإن شئت جعلت (ذلك) فِي موضع رفع، فتجعل (أنْ) فِي موضع رفع كما تَقُولُ: هَذَا ذاك.
وقوله: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ (52) يريد: كذّب هَؤُلاءِ كما كذّب آلُ فرعون، فنزل بهم كما نزل بآل فرعون.
__________
(1) كذا فى أ. وفى ش، ج: «بين» .
(2) هو أخو أبى جهل. أسلم يوم الفتح. واستشهد يوم اليرموك، وقيل: فى طاعون عمواس.
(3) آية 12 سورة السجدة.
(4) آية 127 سورة البقرة(1/413)
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
وقوله: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ (57) يريد: إن أسَرتهم يا مُحَمَّد فنكل بهم من خلفهم ممن تخاف نفضه للعهد فَشَرِّدْ بِهِمْ.
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فلا ينقضونَ العهد. وربما قرئت (مَنْ خَلْفَهُمْ) بكسر (من) «1» ، وليس لَهَا معنى أستحبه مع التفسير.
وقوله: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً (58) يقول: نقض عهد فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ بالنقض عَلى سَواءٍ يقول: افعل كما يفعلونَ سواء. ويُقال فِي قوله: عَلى سَواءٍ: جهرا غير سرّ. وقوله: تَخافَنَّ فِي موضع جزم. ولا تكاد العرب تدخل النون الشديدة ولا الخفيفة فِي الجزاء حَتَّى يصلوها ب (ما) ، فإذا وصلوها آثروا التنوين. وَذَلِكَ أنهم وجدوا ل (إما) «2» وهى جزاء شبيها ب (إما) من التخيير، فأحدثوا النون ليعلم بِهَا تفرقةُ بينهما ثُمَّ جعلوا أكثر جوابها بالفاء كذلك جاء التنزيل قَالَ: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ، فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ «3» ثم قال: فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ فاختيرت الفاء لانهم إِذَا نوَّنوا فِي (إِمّا) جعلوها صَدْرًا للكلام ولا يكادونَ يؤخرونها. لَيْسَ من كلامهم: اضربه إِمّا يقومَنّ إِنَّما كلامهم أن يقدّموها، فلمّا لزمت التقديم صارت كالخارج من الشرط، فاستحبوا الفاء فيها وآثروها، كما استحبوها فِي قولهم: أمّا أخوكَ فقاعد، حين ضارعتها.
وقوله: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) بالتاء لا اختلاف فيها. وقد قرأها حَمْزَةُ «4» بالياء. وَنَرَى أَنَّهُ اعتبرها بقراءة عبد الله.
وهي فِي قراءة عبد الله وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كفروا أنَّهم سبقوا إنهم لا يعجزون
__________
(1) نسب فى البحر 3/ 509 هذه القراءة إلى أبى حيوة وإلى الأعمش بخلاف عنه.
(2) فى ا: «إما» .
(3) آية 77 سورة غافر. [.....]
(4) وكذلك ابن عامر وحفص.(1/414)
فإذا لم تكن فيها (أنّهم) لَمْ يستقم للظنّ ألا يقع عَلَى شيء. ولو أراد: ولا يحسب الَّذِينَ كفروا أنهم لا يعجزون لاستقامَ «1» ، ويجعل لا (صلة) كقوله: وَحَرامٌ «2» عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ يريد: أنهم يرجعون. ولو كَانَ مع (سَبَقُوا) (أن) استقامَ ذَلِكَ، فتقول: ولا يحسب الَّذِينَ كفروا أن سبقوا.
فإن قَالَ قائل: أليس من كلام العرب عسيت أذهب، وأريد أقوم معك، و (أن) فيهما مضمرة، فكيف لا يَجوز أن تقول: أظن أقوم، وأظن قمت؟ قلت:
لو فعل ذَلِكَ فِي ظننت إِذَا كَانَ الفعل للمذكور أجزته وإن كَانَ اسمًا مثل قولهم: عسى «3» الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا، والْخِلْقة لانْ «4» ، فإذا قلت ذَلِكَ قلته فِي أظن فقلت: أظن أقوم، وأظن قمت لأن الفعل لك، ولا يَجوز أظن يقوم زيد، ولا عسيت يقوم زيد ولا أردت يقوم زيد وجاز والفعل لَهُ لأنك إِذَا حوّلت يفعل إلى فاعِل اتصلت بِهِ وهي منصوبة بصاحبها، فيقول: أريد قائِمًا والقيامُ لك. ولا تَقُولُ أريد قائمًا زيد، ومن قَالَ هَذَا القول قَالَ مثله فِي ظننت. وقد أنشدني بعضهم لذي الرُّمَّة:
أَظَنَّ ابْنُ طرثوث عتيبة ذاهبا ... بعاديّتى تكذابه وجعائله «5»
__________
(1) فيكون «أنهم لا يعجزون» سدّ مسدّ مفعولى «يحسبن» . وجملة «سبقوا» حال.
(2) آية 95 سورة الأنبياء.
(3) الغوير تصغير غار، والأبؤس جمع بأس وهو العذاب، أو بؤس وهو الشدّة. وهو مثل. وأصله أن قوما حذروا عدوّا لهم فاستكنوا منه فى غار، فقال بعضهم مشفقا: عسى الغوير أبؤسا، أي لعل البلاء يجىء من قبل الغار، فكان كذلك فقد احتال العدوّ حتى دخل عليهم من صدع كان بالغار، فأسروهم.
وقيل: إن الغار انهار عليهم. وقد قيل فى المثل غير هذا.
(4) كأنه يريد أن الأصل أن يقرن الخبر بأن، فكانت الخلقة فى الخبر والطبيعة فيه لأن.
(5) العادية: البئر القديمة. والجعائل جمع جعالة: وهى هنا الرشوة. كان ذو الرمة اختصم هو وابن طرثوث فى بئر وأراد أن يقضى له بها. ورواية الديوان 473: «لعل ابن طرثوث» .(1/415)
فهذا مذهب لقراءة حمزة يجعل (سبقوا) فِي موضع نصب: لا يَحسبن الَّذِينَ كفروا سابقين. وما أحبها لشذوذها «1» .
وقوله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ (60) يريد إناث الخيل. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ «2» أَبِي يَحْيَى رَفَعَهُ إلى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: الْقُوَّةُ: الرَّمْيُ.
وقوله تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ. ولو جعلتها «3» نصبًا من قوله: وَأَعِدّوا لَهم ولآخرين من دونِهم كَانَ صوابًا كقوله: وَالظَّالِمِينَ «4» أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. وقرأ أَبُو عبد الرحمن السُلَمِيّ: (ترهبونَ بِهِ عَدُوًّا لِلَّهِ وعدوّكم) كما قرأ بعضهم «5» فِي الصفّ (كونوا أَنْصَارًا لِلَّهِ) .
وقوله: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها (61) إن شئت جعلت (لَهَا) كناية عَن السلم لأنها مؤنثة. وإن شئت جعلته للفَعْلة كما قَالَ إِنَّ «6» رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ولم يذكر قبله إلا فعلا، فالهاء للفعلة.
__________
(1) إن كان يريد الشذوذ من جهة النقل فهذا غير صحيح فإنها قراءة سبعية متواترة. وإن أراد الشذوذ من جهة العربية فلها أكثر من وجه قياسى. وقد خرجت على أن المراد: ولا يحسبن من خلفهم أو فريق المؤمنين. وهذا غير ما ذكر المؤلف.
(2) هو محمد بن أبى يحيى الأسلمىّ المدني. مات سنة 146
(3) ظاهر الأمر عطف «وآخرين» على «عدوّ الله» . وأبدى المؤلف وجها آخر: أن يكون هذا موصولا فى المعنى بقوله: «أعدوا لهم» فيكون العامل فيه فعلا مقدّرا من معنى الكلام السابق.
والتقدير: راقبوا آخرين بما تعدونه لهم من سلاح.
(4) آية 31 سورة الإنسان.
(5) هم من عدا ابن عامر وعاصما وحمزة والكسائي وخلفا ويعقوب. وهذا فى الآية 14 من سورة الصف.
(6) آية 153 سورة الأعراف. والفعل السابق قوله: «ثم تابوا من بعدها» .(1/416)
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
وقوله: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ (63) : بين قلوب الأنصار من الأوس والخزرج كانت بينهم حرب، فلمّا دخل المدينة رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصلح الله بِهِ وبالإسلام ذات بينهم.
وقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ (64) جاء التفسير: يكفيكَ الله ويكفي من اتبعك فموضع الكاف فِي (حَسْبَكَ) خفض. و (مَنْ) فِي موضع نصب عَلَى التفسير كما قَالَ الشاعر:
إِذَا كانت الهيجاء وانشقّتِ العصا ... فحسبُك والضَّحاكَ سيفٌ مُهَنَّد «1»
وليس بكثير من كلامهم أن يقولوا: حسبك وأخاك، حَتَّى يقولوا: حسبك وحسب أخيك، ولكنا أجزناهُ لأن فِي (حسبك) معنى واقع من الفعل، رددناهُ «2» عَلَى تأويل الكاف لا عَلَى لفظها كقوله إِنَّا «3» مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ فردّ الأهل عَلَى تأويل الكاف.
وإن شئت جعلت (من) فى موضع رفع، وهو أحبّ الوجهين إليّ لأن التلاوة تدلّ عَلَى معنى «4» الرفع ألا ترى أَنَّهُ قَالَ:
إِنْ يكن منكم عشرون صبرون يغلبوا مائتين (65) فكان النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغْزِي أصحابه عَلَى أنَّ العشرة للمائة، والواحد للعشرة، فكانوا كذلك، ثُمَّ شقّ عليهم أن يُقْرِن «5» الواحد للعشرة فنزل:
__________
(1) نسبه فى ذيل الأمالى 140 إلى جرير. وقال فى السمط 899: «نسبه القالي لجرير.
وعليه العهدة» .
(2) أي رددنا المنصوب على تأويل الكاف وتقدير أنها منصوبة إذ هى فى معنى المفعول، فكأنه قيل: يكفيك. ولم يرد على لفظ الكاف فإن لفظها خفض بالإضافة. [.....]
(3) آية 33 سورة العنكبوت.
(4) وهو أن المؤمنين بإعانة الله يكفون الرسول عليه الصلاة والسلام غوائل الأعداء، والآية الآتية تدل على هذا إذ فيها أنه تعالى ضمن للقليل من المؤمنين النصرة على من يزيد عليهم أضعافا فى العدد من المشركين.
(5) يقال. أقرن الشيء: أطاقه وقدر عليه.(1/417)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ (66) فبين الله قوَّتهم أولا وآخرًا. وقد قَالَ هَذَا القول الْكِسَائي ورفع (من) .
وقوله: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى (67) معناهُ: ما كَانَ ينبغي لَهُ يوم بدر أن يقبل فداء الأسرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ: حَتَّى يغلب عَلَى كَثِير من فِي الأرض. ثُمَّ نزل:
قوله: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ (68) فِي فداء الأسرى والغنائم. وقد «1» قرئت (أُسَارى) ، وكلٌّ صواب. وقوله أَنْ يَكُونَ بالتذكير «2» والتأنيث كقوله يشهد «3» عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ و (تشهد) .
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ (72) ثم قال: أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ فِي المواريث، كانوا يتوارثونَ دون قراباتِهم ممن لَمْ يُهاجر.
وَذَلِكَ قوله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ يريد: من مواريثهم.
وكسر «4» الواو فِي الولاية أعجب إليَّ من فَتَحها لانَّها إنَّما تفتح أكثر من ذلك إذا كانت
__________
(1) وكلتا القراءتين سبعية.
(2) قرأ أبو عمرو ويعقوب بالتأنيث، والباقون بالتذكير.
(3) آية 24 سورة النور. وقراءة حمزة والكسائي وخلف بالياء، وقراءة الباقين بالتاء.
(4) وهو قراءة حمزة والأعمش.(1/418)
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
فى معنى النصرة، وَكَانَ الْكِسَائي يفتحها ويذهب بِهَا إلى النصرة، ولا أراهُ «1» علم التفسير. ويَخْتارونَ فِي وليته ولاية الكسر، وقد سمعنا هما بالفتح والكسر فى معنا هما جَميعًا، وقال الشاعر:
دعِيهمْ فَهُمْ أَلْبٌ عَلَيَّ وِلايَةٌ ... وَحَفْرُهُمُ أَنْ يَعْلَموا ذاكَ دائب «2»
ثُمَّ نزلت بعد:
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ، وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (75) فتوارثوا، ونسخت هَذِه الآخِرة الآية التي قبلها. وَذَلِكَ أَنَّ قوله: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) : إلا تتوارثوا «3» عَلَى القرابات تكن فتنة. وذكر أَنَّهُ فِي النصر: إلا تتناصروا «4» تكن فتنة.
__________
(1) لأن الولاية هنا فى الميراث لا فى النصرة، وإلا تعارض مع قوله: «وإن استنصروكم فى الدين فعليكم النصر» .
(2) ألب: أي مجتمعون، وقوله: علىّ ولاية: أي مجتمعون بالنصرة، يريد أنهم تألبوا وتناصروا عليه. وقوله. «حفرهم» كذا فى أ. وفى ش، ج: «خفرهم» .
(3) كذا فى أ. وفى ش، ج: «يتوارثوا» .
(4) كذا فى أ. وفى ش، ج: «يتناصروا» .(1/419)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
ومن سورة براءة
ومن سورة براءة «1» قوله: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مرفوعة، يضمر لَهَا (هَذِه) ومثله قوله: سُورَةٌ «2» أَنْزَلْناها. وهكذا كل ما عاينته من اسم معرفة أو نكرة جاز إضمار (هذا) و (هذه) فتقول إِذَا نظرت إلى رجل: جميلٌ والله، تريد: هَذَا جَميل.
والمعنى فِي قوله (بَرَاءَةٌ) أن العرب كانوا قد أخذوا ينقُضُون عهودًا كانت بينهم وبين النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنزلت عَلَيْهِ آيات من أوّل براءة، أُمِر فيها بنَبْذ عهودهم إليهم، وأن يَجعل الاجَلَ بينه وبينهم أربعةَ أشهر. فمن كانت مدّته أكثر من أربعة أشهر «3» حطّه إلى أربعة. ومن كانت مدّته أقل من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة. وبعث فِي ذَلِكَ أبا بكر وعليًّا رحمهما الله، فقرأها عليٌّ عَلَى الناس.
وقوله: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ (2) يقول: تَفَرَّقوا آمنين أربعة أشهر مدّتكم.
وقوله: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (3) تابع لقوله (براءة) . وجعل لمن لَمْ يكن لَهُ عهد خمسين يومًا أجلا. وكل ذلك من يوم النحر.
__________
(1) كذا فى ش، ج. وفى ا: «التوبة» .
(2) أوّل سورة النور.
(3) سقط فى أ. وثبت فى ش، ج. [.....](1/420)
وقوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ (5) عَن الَّذِينَ أجلهم خمسون ليلة. فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ومعنى الأشهر الحرم: المحرّم وحده. وجاز أن يقول: الأشهر الحُرُم للمحرم وحده لأنه متصلٌ بذي الحجة وذي القعدة وهما حرام كأنه قَالَ: فإذا انسلخت الثلاثة.
وقوله: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ (4) استثناء فِي موضع نصب. وهم قوم من بني كنانة كَانَ قد بقي من أجلهم تسعة أشهر.
قال الله تبارك وتعالى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ يقول: لا تحطّوهم إلى الاربعة.
وقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (5) فِي الأشهر الحرم وغيرها فِي الحل والحرم.
وقوله: وَاحْصُرُوهُمْ وحَصْرهم أن يُمنعوا من البيت الحرام.
وقوله: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ يقول: عَلَى طُرُقهم إلى البيت فقام رجل من الناس حين قرئت (براءة) فقال: يا ابن أبي طالب، فمن أراد منا أن يلقى رَسُول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بعض الأمر بعد انقضاء الاربعة فليس لَهُ عهد؟ قَالَ عَليّ:
بلى، لأن الله تبارك وتعالى قد أنزلَ:
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ (6) يقول: ردّه إلى موضعه ومأمنه.(1/421)
وقوله: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فِي موضع جزم وإن فُرِق بين الجازم والمجزوم ب (أحد) . وذلك سهل فى (إن) خاصة دون حروف الجزاء لانّها شرط وليست باسم، وَلَهَا عودة إلى الفتح فتلقى الاسم والفعل وتدور فِي الكلام فلا تعمل، فلم يحفلوا أن يفرقوا بينها وبين المجزوم بالمرفوع والمنصوب. فأمّا المنصوب فمثل قولك: إِنْ أخاكَ ضربتَ ظلمتَ. والمرفوع مثل قوله: إِنِ «1» امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ولو حولت (هَلَكَ) إلى (إنْ يهلك) لجزمته، وقال الشاعر «2» :
فان أنت تفعل فللفاعلي ... ن أَنْتَ المجيزين تِلْكَ الغِمَارا
ومن فرق بين الجزاء وما جزم بمرفوع أو منصوب لَمْ يفرق بين جواب الجزاء وبين ما ينصب بتقدمة المنصوب أو المرفوع تَقُولُ: إنْ عبدُ الله يَقُمْ يَقُمْ أبوه، ولا يَجوز أبوه يقم، ولا أن تَجعل مكان الأب منصوبًا بِجواب الجزاء. فخطأ أن تَقُولُ: إِن تأتني زيدًا تَضْرِب. وَكَانَ الْكِسَائي يُجيز تقدمة النصب فِي جواب الجزاء، ولا يَجوز تقدمة المرفوع، ويحتج بأن الفعل إِذَا كَانَ للأول عاد فِي الفعل راجع ذكر الأول، فلم يستقم إلغاء الأول. وأجازه فِي النصب لأن المنصوب لَمْ يعد ذكره فيما نصبه، فقال: كأن المنصوب لَمْ يكن فِي الكلام. وليس ذَلِكَ كما قَالَ لأن الجزاء لَهُ جواب بالفاء. فإن لَمْ يستقبل بالفاء استقبل بِجزم مثله ولم يلق باسم،
__________
(1) . 176 سورة النساء.
(2) هو الكميت بن زيد من قصيدته فى مدح أبان بن الوليد بن عبد الملك بن مروان. يقول:
إن تفعل هذه المكارم فأنت منسوب للفاعلين الأجواد. والغمار جمع الغمرة وهى الشدة. و «المجيزين» وصف من أجاز بمعنى جاز.(1/422)
إلا أن يضمر فِي ذَلِكَ الاسم الفاء. فإذا أضمرت الفاء ارتفعَ الجواب فِي منصوب الاسماء ومرفوعها لا غير. واحتج بقول الشاعر «1» :
وللخيلِ أَيّامٌ فَمَنْ يَصْطَبِرْ لَهَا ... وَيَعْرِفْ لَهَا أيامها الخير تعقب
فجعل (الخير) منصوبا ب (تعقب) . (والخير) فِي هَذَا الموضع نعت للأيام كأنه قَالَ: ويعرف لَهَا أيامها الصالحة تعقب. ولو أراد أن يجعل (الخير) منصوبا ب (تعقب) لرفع (تُعْقب) لأنه يريد: فالخير تعقبه.
وقوله: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ (7) عَلَى التعجب كما تَقُولُ: كيف يُسْتَبقَى مثلك أي لا ينبغي أن يستبقى. وهو فِي قراءة عبد الله (كيف يكون للمشركين عهد عند الله ولا ذمة) فجاز دخول (لا) مع الواو لأن معنى أول الكلمة جحد، وَإِذَا استفهمت بشيء من حروف الاستفهام فلك أن تدعه استفهامًا، ولك أن تنوي بِهِ الجحد. من ذَلِكَ قولك: هَلْ أنت إلا كواحد مِنّا؟! ومعناهُ: ما أنت إلا واحد منا، وكذلك تَقُولُ: هَلْ أنت بذاهب؟ فتدخل الباء كما تَقُولُ: ما أنت بذاهب. وقال الشاعر:
يقول إذا اقلولى عليها وأقردت ... ألا هَلْ أَخُو عيشٍ لَذِيذٍ بدائم «2»
وقال الشاعر:
فاذهب فأي فتى في الناس أحرزه ... من يومه ظلم دعج ولا جبل «3»
__________
(1) هو طفيل الغنوي. والبيت من قصيدة عدتها 76 بيتا، فالها فى غارة له على طيء أكثرها فى وصف الخيل. يقول: إن الخيل تنفع فى الغارات والدفاع عن الذمار وتبلى البلاء الحسن، فمن يعرف هذا لها ويصبر على العناية بها أعقبته الخير ودفعت عنه الضير. وأنظر الخزانة 3/ 642
(2، 3) انظر ص 164 من هذا الجزء.(1/423)
فقال: ولا جبل، للجحد وأوّله استفهام ونيَّته الجحد معناهُ لَيْسَ يحرزه من يومه شيء. وزعم الْكِسَائي أَنَّهُ سمع العرب تَقُولُ: أين كنت لتنجو مني، فهذه اللام إنَّما تدخل ل (ما) التي يُراد بِهَا الجحد كقوله: ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا «1» ، وَما كُنَّا «2» لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ.
وقوله: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ (8) اكتفى ب (كيف) ولا فعل معها لأن المعنى فيها قد تقدّم فِي قوله: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ وَإِذَا أعيد الحرف وقد مضى معناهُ استجازوا حذف الفعل كما قَالَ الشاعر «3» :
وخبرتماني أنّما الموتُ فِي القُرَى ... فكيفَ وهذي هَضْبَةٌ وكثيب
وقال الحطيئة:
فكيفَ ولم أَعْلَمْهُمُ خَذَلوكُمُ ... عَلَى معظم ولا أديمكم قدّوا «4»
__________
(1) آية 111 سورة الأنعام.
(2) آية 43 سورة الأعراف.
(3) هو كعب بن سعد الغنوي من قصيدة يرثى فيها أخاه أبا المغوار، وقد ذكره فى قوله:
وداع دعا: يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
فقلت: ادع أخرى وارفع الصوت جهرة ... لعل أبى المغوار منك قريب
يقول: إن الناس تعتقد أن فى الريف الوباء والمرض، وفى البادية الصحة وطيب الهواء، وقد مات أخوه وهو فى حر البادية بين هضبة وقليب، أي بئر لا نهر يجرى فى القرى. وورد الشطر الثاني فى اللسان (الألف اللينة) :
فكيف وهاتا روضة وكثيب.
(4) من قصيدته فى مدح بنى شماس بن لأى من بنى سعد. والمعظم بفتح الظاء وكسرها: الأمر العظيم.
يقول: إن بنى شماس يقومون بنصرة عشيرتهم، ومع ذلك يحسدهم قومهم. وقدّ الأديم: شقه.
يقول: لا يقدح فى عرضكم ولا يفسد أمركم.(1/424)
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)
وقال آخر:
فهل إلى عَيْش يا نصابُ وهل فأفرد الثانية لأنه يريد بِهَا مثل معنى الأول.
وقوله: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ (11) ثم قال: فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ معناهُ: فهم إخوانكم. يرتفع مثل هَذَا من الكلام بأن يضمر لَهُ اسمه مكنيًّا عَنْهُ. ومثله فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ «1» أي فهم إخوانكم. وَفِي قراءة أُبَيّ إِن تُعَذِّبْهُم فَعِبَادُكَ «2» أي فهم عبادك.
وقوله: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ (12) يقول: رءوس الكفر إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ: لا عهودَ لَهُم. وقرأ الْحَسَن «3» (لا إيمانَ لَهُمْ) يريدُ أنهم كفرة لا إسلام لَهُم. وقد يكون معنى الْحَسَن عَلَى: لا أمانَ لَهُم، أي لا تُؤمنوهم فيكون مصدر قولك: آمنته إيمانا تريد أمانا.
وقوله: وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ (13) ذَلِكَ أن خُزَاعة كانوا حلفاء للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت الديل بن بكر حلفاء لبني عبد شمس، فاقتتلت الديل وخزاعة، فأعانت قريش الديل عَلَى خُزاعة، فذلك قوله: بَدَؤُكُمْ أي قاتلوا «4» حلفاءكم.
__________
(1) آية 5 سورة الأحزاب.
(2) آية 118 سورة المائدة. وفى قراءتنا: «إن تعذبهم فإنهم عبادك» .
(3) وهى قراءة ابن عامر أيضا.
(4) كذا فى أ. وفى ش. ج: «قاتلوكم» .(1/425)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
وقوله: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ (14) ثُمَّ جزمَ ثلاثة أفاعيل بعده يَجوز فِي كلهن النصب والجزم والرفع.
ورفع قوله: وَيَتُوبُ اللَّهُ لأن معناهُ لَيْسَ من شروط الجزاء إنّما هو استئناف كقولك للرجل: ايتني أُعطك، وأُحِبُّك بعد، وأُكْرِمُكَ، استئناف لَيْسَ بشرط للجزاء. ومثله قَوْل الله تبارك وتعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ «1» تمّ الجزاء هاهنا، ثُمَّ استأنفَ فقال: وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ.
وقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ (16) من الاستفهام الَّذِي يتوسّط فِي الكلام فيجعل ب (أَمْ) ليفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ الَّذِي لَمْ يتّصل بكلام. ولو أريد بِهِ الابتداء لكان إِمّا بالألف وإِمّا ب (هَلْ) كقوله: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ «2» وأشباهه.
وقوله: وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً والوليجة: البطانة من المشركين يتخذونهم فيُفْشون إليهم أسرارهم، ويعلمونهم أمورهم. فنهوا عَن ذَلِكَ.
وقوله: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ (17) وهو يعني المسجد الحرام وحده. وقرأها مُجاهد «3» وعطاء بن أبي رَبَاح:
(مَسْجِد الله) . وربما ذهبت العرب بالواحد إلى الجمع، وبالجمع إلى الواحد ألا ترى الرجلَ عَلَى البِرذَون فتقول: قد أخذتَ فِي ركوب البراذين، وترى الرجل كثير الدراهم
__________
(1) آية 24 سورة الشورى. وقد رسم «يمح» دون واو فى المصحف مع نيتها، وقد دل على هذا قوله: «ويحق» بالرفع.
(2) أوّل سورة الإنسان. [.....]
(3) وقرأها كذلك أيضا ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب.(1/426)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
فتقول: إنه «1» لكثير الدرهم. فأدّى الجماع عَن الواحد، والواحد عَن الجمع. وكذلك قَوْل العرب: عَلَيْهِ أخلاقُ نعلين وأخلاق ثوب أنشدني أَبُو الجرّاح العُقَيْلي:
جاء الشتاءُ وقمِيصِي أخلاقْ ... شراذمٌ يضحكُ مِنْه التوّاقْ «2»
وقوله: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ (19) ولم يقل: سُقَاة الحاجّ وعامري ... كمن آمن، فهذا مثل قوله: وَلكِنَّ «3» الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ يكون المصدر يكفي من الاسماء، والأسماءُ من المصدر إِذَا كَانَ المعنى مستدلا عَلَيْهِ بِهما أنشدني الْكِسَائي:
لعمرُكَ ما الفِتيان أن تنبُت اللِّحى ... ولكنما الفِتيانُ كلُّ فتى ندِي
فجعل خبر الفتيان (أن) . وهو كما تَقُولُ: إِنَّما السخاء حاتم، وإنّما الشعر زُهَيْر.
وقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا (20) ثم قال: أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ فموضع الَّذِينَ رفع بقوله: «أعظم درجة» . ولو لم يكن فيه (أعظم) جاز أن يكون مردودًا بالخفض عَلَى قوله (كمن آمن) . والعرب تردّ الاسم إِذَا كَانَ معرفة عَلَى (من) يريدون التكرير «4» . ولا يكون نعتًا لأن (من) قد تكون معرفة، ونكرة، ومجهولة، ولا تكون نعتًا كما أن (الَّذِي) قد يكون نعتا
__________
(1) سقط فى ش، ج. وثبت فى أ.
(2) ثوب أخلاق: بال. والتوّاق: ابن الراجز. ويروى النوّاق بالنون. وانظر اللسان (توق) والخزانة فى الشاهد الرابع والثلاثين.
(3) آية 177 سورة البقرة.
(4) أي أن يكون بدلا من «من» .(1/427)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
للأسماء فتقول: مررت بأخيكَ الَّذِي قام، ولا تقول: مررت بأخيكَ مَنْ قام.
فلمّا لَمْ تكن نعتًا لغيرها من المعرفة لَمْ تكن المعرفة نعتا لَهَا كقول الشاعر «1» :
لسنا كمن جعلتْ إيادٍ دارها ... تكرِيتَ تنظُر حَبَّها أَنْ تَحْصُدا
إنما أراد تكرير الكاف عَلَى إياد كأنه قَالَ: لسنا كإياد.
وقوله: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ (25) نصبت المواطن لأن كل جمع كانت فِيهِ ألف قبلها حرفان وبعدها حرفان فهو لا يُجْرَى «2» مثل صوامع، ومساجد، وقناديل، وتَماثيل، ومحاريب. وهذه الياء بعد الألف لا يعتدّ بِهَا لأنها قد تدخل فيما ليست هي منه، وتَخرج مما هي منه، فلم يعتدّوا بِهَا «3» إذ لَمْ تثبت كما ثبت غيرها. وإنما منعهم من إجرائه أَنَّهُ مثال لَمْ يأت عَلَيْهِ شيء من الاسماء المفردة، وأنه غاية للجِماع إِذَا انتهى الجماع إِلَيْهِ فينبغي لَهُ ألا يجمع. فذلك أيضًا منعه من الانصراف ألا ترى أنك لا تَقُولُ: دراهمات، ولا دنانيرات، ولا مساجدات. وربما اضطُرَّ إِلَيْهِ الشاعر فجمعه. وليس يوجد فِي الكلام ما يَجوز فِي الشعر. قَالَ الشاعر:
فهنّ يجمعن حدائِداتِها «4» فهذا من المرفوض إلا فِي الشعر.
ونعت (المواطن) إِذَا لَمْ يكن معتلا جرى. فلذلك قال: (كثيرة) .
__________
(1) هو الأعشى. وإياد قبيلة كبيرة من معدّ كانوا نزلوا العراق واشتغلوا بالزرع. وتكريت: بلدة بين بغداد والموصل. وقوله: «تحصدا» المعروف: يحصدا. والحب جنس للحبة يصح تذكيره وتأنيثه. وانظر الخصائص (الدار) ج 2 ص 402.
(2) إجراء الاسم عند الكوفيين صرفه وتنوينه، وعدم إجرائه منع صرفه.
(3) فى ا: «إذا» .
(4) فى القرطبي:
فهنّ يعلكن حدائداتها
ونسبه فى اللسان (حدد) إلى الأحمر. وهو فى وصف الخيل.(1/428)
وقوله: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ وحُنَيْن وادٍ بين مكة والطائف. وجرى (حُنَيْنٍ) لأنه اسم لِمذكَّر. وَإِذَا سميت ماء أو واديًا أو جبلا باسم مذكر لا علة فِيهِ أجريته.
من ذَلِكَ حنين، وبَدْر، وأُحُد، وحِرَاء، وثَبِير، ودابِق «1» ، وواسط «2» . وإِنّما سمي واسطًا بالقصر الذي بناه الحجّاج بين الكوفة والبصرة. ولو أراد البلدة أو اسمًا مؤنثًا لقال:
واسطة. وربما جعلت العرب واسط وحُنين وبدر، اسمًا لبلدته التي هُوَ بِهَا فلا يَجرونه وأنشدني بعضهم:
نصروا نبِيَّهمُ وشَدّوا أَزْرَهُ ... بِحُنَيْنَ يوم تواكُلِ الأبْطَالِ «3»
وقال الآخر «4» :
ألسنا أكرم الثَّقَليْنِ رَجْلا ... وأعظمه ببطن حِرَاء نارا
فجعل حراء اسمًا للبلدة التي هُوَ بِهَا، فكان مذكرًا يسمى بِهِ مؤنّث فلم يُجْرَ.
وقال آخر:
لقد ضاع قوم قلدوك أمورهم ... بدابق إذ قيل العدوّ قريب
رأوا جسدًا ضخمًا فقالوا مقاتل ... ولم يعلموا أن الفؤاد نخيب «5»
ولو أردت ببدر البلدة لَجازَ أن تَقُولُ مررت ببدْرَ يا هذا.
__________
(1) دابق: قرية قرب حلب.
(2) بلد بين البصرة والكوفة بناه الحجاج.
(3) البيت لحسان بن ثابت.
(4) هو جرير كما فى معجم البلدان. ولم نجده فى ديوانه. وقوله: «رجلا» فهو بتسكين الجيم مخفف رجل بضمها. والأقرب أن يكون: رحلا بالحاء المهملة أي منزلا. ويروى: «طرا» .
(5) «جسدا» فى معجم البلدان لياقوت: «رجلا» . و «نخيب» : جبان من النخب- بسكون الخاء- وهو الجبن. [.....](1/429)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
وقوله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (28) لا تَكاد العرب تَقُولُ: نَجِسٌ إلا وقبلها رِجْس. فإذا أفردوها قالوا: نَجَس لا غير ولا يجمع ولا يؤنث. وهو مثل دَنَف «1» . ولو أُنِّث هُوَ ومثله كَانَ صوابًا كما قالوا: هي: ضيفته وضيفه، وهي أخته سَوْغه «2» وسَوْغته، وزوجه وزوجته.
وقوله: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ. قَالَ يومئذ رجل من المسلمين: والله لا نُغْلَب، وكره ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ المسلمون يؤمئذ عشرة آلاف، وقال بعضُ الناس: اثني عشر ألفًا، فهزموا هزيمة شديدة.
وهو قوله: وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ والباء هاهنا بمنزلة فِي كما تَقُولُ: ضاقت عليكم الأرض فِي رُحْبها وبُرحْبها. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي الْمُفَضَّلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ قُلْتُ لِلْبَرَاءِ «3» بْنِ عَازِبٍ: يَا أَبَا عُمَارَةَ أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ حَتَّى مَا بَقِيَ مَعَهُ مِنَّا إلا رجلان: أبو سفيان «4» بن الحرث آخِذًا بِلِجَامِهِ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ رِكَابِهِ آخِذًا بِثَفَرِهِ «5» . قَالَ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ لَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ:
شَاهَتِ الْوُجُوهُ،
أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ
قَالَ: فَمَنَحَنَا الله أكتافهم.
__________
(1) هو فى الأصل المرض الملازم، ويوصف به.
(2) أي ولدت على أثره ولم يكن بينهما ولد.
(3) هو من فضلاء الأوس. شهد أحدا والمشاهد. ونزل الكوفة، توفى سنة 71 أو 72.
(4) هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم.
(5) المروي أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فى هذا اليوم راكبا بغلة. فقوله: آخذا بثفره أي بثفر مركوبه. والثفر: السير فى مؤخر السرج. والذي فى سيرة ابن هشام أن الذي كان آخذا بالثفر أبو سفيان. فأما العباس فكان آخذا بحكمة البغلة. والحكمة- بالتحريك- طرفا اللجام.(1/430)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)
وقوله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً (28) يعني فقرًا. وَذَلِكَ لَمَّا نزلت: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا خاف أهل مكة أن تنقطع عنهم الميرة والتجارة. فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً. فذكروا أن تَبَالة «1» وجُرش أخصبتا، فأغناهم الله بِهما وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.
وقوله: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ (30) قرأها الثقات «2» بالتنوين وبطرح التنوين. والوجه أن ينوّن لأن الكلام ناقص (وابن) فِي موضع خبر لعزير. فوجه العمل فِي ذَلِكَ أن تنوِّن ما رأيت الكلام محتاجًا إلى ابن. فإذا اكتفى دون بن، فوجه الكلام ألا ينون. وَذَلِكَ مع ظهور اسم أبي الرجل أو كنيته. فإذا جاوزت ذَلِكَ فأضفت (ابن) إلى مكنى عَنْهُ مثل ابنك، وابنه، أو قلت: ابن الرجل، أو ابن الصالِح، أدخلت النون فِي التام منه والناقص. وَذَلِكَ أن حذف النون إِنّما كَانَ فِي الموضع الَّذِي يُجرى فِي الكلام كثيرًا، فيستخفّ طرحها فِي الموضع الَّذِي يستعمل. وقد ترى الرجل يذكر بالنسب إلى أبيه كثيرًا فيقال:
من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان، فلا يجري كثيرًا بغير ذَلِكَ. وربما حذفت النون وإن لَمْ يتمم الكلام لسكون الباء من ابن، ويستثقل النون إذ كانت ساكنة لقيت ساكنًا، فحذفت استثقالا لتحريكها. قَالَ: من ذلك قراءة القرّاء:
(عزيز ابن الله) . وأنشدني بعضهم:
لَتجِدّني بالأميرِ بَرّا ... وَبالقناة مِدْعَسا مكرّا «3»
إذا غطيف السلمىّ فرّا
__________
(1) تبالة: بلدة من أرض تهامة فى طريق اليمن. وجرش مخلاف أي إقليم من مخاليف اليمن.
(2) قرأ بالتنوين من العشرة عاصم والكسائي ويعقوب، وقرأ الباقون بطرح التنوين.
(3) المدعس: المطاعن. والمكر: الذي يكر فى الحرب ولا يفر.(1/431)
وقد سمعت كثيرًا من القراء الفصحاء يقرءونَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ.
فيحذفون النون من (أحد) . وقال آخر «1» :
كيْفَ نَومي عَلَى الفراشِ ولَمَّا ... تشملِ الشامَ غارةٌ شعواءُ
تُذْهل الشيخَ عَن بَنيهِ وَتُبْدِي ... عَن خِدَامِ العَقِيلةُ العذراء
أراد: عَن خدامٍ، فحذف النون للساكن إذ استقبلتها. وربما أدخلوا النون فِي التمام مع ذكر الأب أنشدني بعضهم:
جارية من قيس ابن ثعلبة ... كأنها حلْيَةُ سيف مُذْهَبه «2»
وقال آخر «3» :
وإلا يكن مال يثاب فإنه ... سيأتي ثنائي زيدًا ابنَ مُهَلْهِلٍ
وَكَانَ سبب قول اليهود: عُزَيْر ابن الله أن بُخْتَ نَصَّرَ قَتَل كلّ من كَانَ يقرأ التوراة، فأُتِيَ بِعُزَيْر فاستصغره فتركه. فلمّا أحياهُ الله أتته اليهود، فأملى عليهم التوراة عَن ظهر لسانه. ثُمَّ إن رجلا من اليهود قَالَ: إن أبي ذكر أن التوراة مدفونة فِي بستان لَهُ، فاستخرجت وقو بل بها ما أملى عزيز فلم يغادر منها حرفًا.
فقالت اليهود: ما جمع الله التوراة فِي صدر عُزَيْر وهو غلام إلا وهو ابنه- تعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيرا-.
__________
(1) هو عبيد الله بن قيس الرقيات من قصيدة يمدح فيها مصعب بن الزبير ويفتخر بقريش. ويريد بالغارة على الشام الغارة على عبد الملك بن مروان. وقوله: «خدام العقيلة» . فى الديوان: «براها العقيلة» والخدام جمع الخدمة وهى الخلخال. والبرى جمع البرة- فى وزان كرة- الخلخال أيضا.
(2) هذا مطلع أرجوزة للأغلب العجلى. وأراد بجارية امرأة اسمها كلبة كان يهاجيها وانظر الخزانة 1/ 332
(3) هو الحطيئة يمدح زيد الخيل الطائىّ.(1/432)
وقوله: وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ. وذُكِرَ أن رجلا دخل فِي النصارى وَكَانَ خبيثًا منكرًا فلبَّس عليهم، وقال: هُوَ هُوَ. وقال: هُوَ ابنه، وقال: هُوَ ثالث ثلاثة. فقال الله تبارك وتعالى فِي قولهم ثالث ثلاثة:
يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قولهم: اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.
وقوله: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (31) قَالَ: لَمْ يعبدوهم، ولكن أطاعوهم فكانت كالربوبية.
وقوله: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ (32) دخلت (إلّا) لأن فِي أَبيت طَرَفًا من الجحد ألا ترى أن (أبيت) كقولك:
لَمْ أفعل، ولا أفعل، فكانه بمنزلة قولك: ما ذهب إلا زيد. ولولا الجحد إِذَا ظهر أو أتى الفعل محتملا لضميره «1» لَمْ تُجِزْ دخول إلا كما أنك لا تقول: ضربت إلا أخاكَ، ولا ذهبَ إلا أخوك. وكذلك قَالَ الشاعر «2» :
وهل لِي أُمّ غيرها إِنْ تركتها ... أَبى اللهُ إِلا أن أكون لَهَا ابنما
وقال الآخر:
إِيَادًا وأَنْمَارها الغالبين ... إلا صدودًا وإلا ازورارا
أراد: غلبوا إلا صدودًا وإلا ازورارًا، وقال الآخر:
واعتلّ إلا كل فرع معرق ... مثلك لا يعرف بالتلهوق «3»
__________
(1) أي لمعناه. فكأن أبى ونحوه متضمن لمعنى لا فهو محتمل لهذا الحرف المضمر.
(2) هو المتلمس. والبيت من قصيدة له يرد فيها على من عيره أمه، مطلعها:
تعيرنى أمي رجال ولا أرى ... أخا كرم إلا بأن يتكرما
وهى فى مختارات ابن الشجري.
(3) التلهوق: التملق. ويقال أيضا للتكلف. [.....](1/433)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)
فأدخلَ (إِلا) لأن الاعتلال فِي المنع كالإباء. ولو أراد علة صحيحة لَمْ تدخل إلا لأنها لَيْسَ فيها معنى جحد. والعرب تَقُولُ: أعوذ بالله إلا منك ومن مثلك لأن الاستعاذة كقولك: اللَّهُمَّ لا تفعل ذا بي.
وقوله: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ (34) ولم يقل: ينفقونهما. فإن شئت وجَّهْت الذهب والفضة إلى الكنوز فكان توحيدها من ذَلِكَ. وإن شئت اكتفيتَ بذكر أحدهما من صاحبه كما قَالَ:
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «1» فجعله للتجارة، وقوله: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
«2» فجعله- والله أعلم- للاثم، وقال الشاعر «3» فِي مثل ذَلِكَ:
نحن بما عندنا وأنت بما عن ... دك راضٍ والرأي مختلفِ
ولم يقل: راضونَ، وقال الآخر:
إنّي ضمنت لمن أتاني ما جنى ... وأبي وَكَانَ وكنت غير غدور
ولم يقل: غَدورين، وَذَلِكَ لاتفاق المعنى يُكتفى بذكر الواحد. وقوله: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «4» إن شئت جعلته من ذَلِكَ: مما اكتفى ببعضه من بعض، وإن شئت جعلت الله تبارك وتعالى فِي هَذَا الموضع ذُكِر لتعظيمه، والمعنى للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قَالَ: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ «5» ألا ترى أنك قد تَقُولُ لعبدك «6» : قد أعتقك الله وأعتقتك، فبدأت بالله تبارك وتعالى تفويضًا إِلَيْهِ وتعظيمًا لَهُ، وإِنَّما يقصد قَصْد نفسه.
__________
(1) آية 11 سورة الجمعة.
(2) آية 112 سورة النساء.
(3) هو قيس بن الخطيم.
(4) آية 62 سورة التوبة.
(5) آية 37 سورة الأحزاب.
(6) كذا فى أ. وفى ش، ج: «لعبد» .(1/434)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)
وقوله: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ (36) جاء التفسير: فِي الاثني عشر. وجاء (فِيهِنَّ) : فِي الأشهر الحرم وهو أشبه بالصواب- والله أعلم- ليتبين بالنهي فيها عِظَمُ حُرْمَتها كما قال: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ «1» ثم قال: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى فعظِّمت، ولم يرخص فِي غيرها بترك المحافظة. وَيَدُلُّكَ عَلَى أَنَّهُ للاربعة- والله أعلم- قوله: (فيهن) ولم يقل (فيها) . وكذلك كلام العرب لِمَا بين الثلاثة إلى العشرة تَقُولُ: لثلاث ليال خلونَ، وثلاثة أيام خلون إلى العشرة، فإذا جُزت العشرة قالوا: خلت، ومضت. ويقولون لِمَا بين الثلاثة إلى العشرة (هنّ) و (هؤلاء) فإذا جزت العشرة قالوا (هي، وهذه) إرادة أن تعرف سِمة القليل من الكثير. ويَجوز فِي كل واحد ما جاز فِي صاحبه أنشدني أَبُو القمقام الفقعسيّ:
أصبحن فِي قَرْحٍ وفى دارتها ... سبع ليالٍ غير معلوفاتها «2»
ولم يقل: معلوفاتهن وهي سبع، وكل ذَلِكَ صواب، إلا أن المؤْثَر ما فسَّرت لك.
ومثله: وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ «3» فذكر الفعل لقلَّة النسوة ووقوع (هَؤُلاءِ) عليهن كما يقع عَلَى الرجال. ومنه قوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ «4» ولم يقل: انسلخت، وكل صواب. وقال الله تبارك وتعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ «5» لقلّتهن ولم يقل (تِلْكَ) ولو قيلت كَانَ صوابا.
__________
(1) آية 238 سورة البقرة.
(2) قرح: سوق وادي القرى، وهو واد بين المدينة والشام. وقوله: «أصبحن» فى اللسان (قرح) : «حبسن» .
(3) آية 30 سورة يوسف.
(4) آية 5 سورة التوبة.
(5) آية 36 سورة الإسراء.(1/435)
وقوله: الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً (36) يقول: جَميعًا. والكافة لا تكون مذكرة ولا مجموعة عَلَى عدد الرجال فتقول:
كافين، أو كافّات للنسوة، ولكنها (كافّة) بالهاء والتوحيد «1» فِي كل جهة لانّها وإن كانت عَلَى لفظ (فاعلة) فإنّها فِي مذهب مصدر مثل الخاصَّة، والعاقبة، والعافية. ولذلك لَمْ تُدخل فيها العرب الألف واللام لانّها آخر الكلام مع معنى المصدر. وهي فِي مذهب قولك: قاموا معًا وقاموا جَميعًا ألا ترى أن الألف واللام قد رُفِضت فِي قولك: قاموا معًا، وقاموا جميعًا، كما رفضوها فِي أجمعين وأكتعين وكلهم إذ كانت فِي ذَلِكَ المعنى. فإن قلت: فإن العرب قد تدخل الألف واللام فِي الجميع، فينبغي لَهَا أن تدخل فِي كافة وما أشبهها، قلت: لأن الجميع عَلَى مذهبين، أحدهما مصدر، والآخر اسم، فهو الَّذِي شبّه عليك. فإذا أردت الجميع الَّذِي فِي معنى الاسم جمعته وأدخلت فِيهِ الألف واللام مثل قوله: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ «2» ، وقوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «3» وأما الَّذِي فِي معنى معًا وكافَّة فقولك للرجلين: قاما جَميعًا، وللقوم: قاموا جَميعًا، وللنسوة: قمن جَميعًا، فهذا فِي معنى كلّ وأجمعين، فلا تدخله ألفا ولا ما كما لَمْ تدخل فِي أجمعين.
وقوله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ (37) كانت العربُ فِي الجاهلية إِذَا أرادوا الصَدَر عَن مِنًى قام «4» رجلٌ من بني كنانة يُقال لَهُ (نُعَيم بن ثعلبة) وَكَانَ رئيس الموسم، فيقول: أنا الَّذِي لا أعابُ ولا أجابُ ولا يردّ لي قضاء. فيقولون: صدقت، أنسئنا شهرًا، يريدون: أخَّرْ عنّا حرمة المحرم
__________
(1) كذا فى ش، ج. وفى أ: «على» .
(2) آية 56 سورة الشعراء.
(3) آية 45 سورة القمر. [.....]
(4) كذا فى أ. وفى ش، ج: «قدم» .(1/436)
واجعلها فِي صفر، وأَحِلّ المحرم، فيفعل ذَلِكَ. وإِنّما دعاهم إلى ذاك توالي ثلاثة أشهر حُرُم لا يُغيرونَ فيها، وإنما كَانَ معاشهم من الإغارة، فيفعل ذَلِكَ عامًا، ثُمَّ يرجع إلى المحرم فيحرِّمه ويُحل صَفَرًا، فذلك الانساء. تَقُولُ إِذَا أخرت الرجل بدَينه: أنساته، فإذا زدت فِي الاجل زيادة يقع عليها تأخير قلت: قد نسأت فِي أيامك وَفِي أَجَلك، وكذلك تَقُولُ للرجل: نسأ الله فِي أجلك لأن الاجل مزيد فِيهِ. ولذلك قيل للبن (نسأته) لزيادة الماء فِيهِ، ونُسئت المرأة إِذَا حبِلت أي جعل زيادة الولد فيها كزيادة الماء فِي اللبن، وللناقة: نسأتها، أي زجرتها ليزداد سيرها.
والنسيء المصدر، ويكون المنسوءَ مثل القتيل والمقتول.
وقوله: يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا قرأها ابن مسعود «1» يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وقرأها زيد بن ثابت «2» (يَضِلُّ) يجعل الفعل لَهُم، وقرأ الْحَسَن الْبَصْرِيّ «3» (يُضِلّ بِهِ الَّذِينَ كفروا) ، كأنه جعل الفعل لَهُم يُضِلُّون بِهِ الناس وينسئونه لهم.
وقوله: (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ) يقول: لا يخرجون من تَحريم أربعة.
وقوله: مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ (38) معناهُ والله أعلم: (تثاقلتم) فإذا وصلتها العرب بكلام أدغموا التاء فِي الثاء لأنها مناسبة لَهَا، ويحدثونَ ألفًا لَمْ يكن ليبنوا الحرف عَلَى الادغام فِي الابتداء والوصل.
وكأن إحداثهم الألف ليقع بِهَا الابتداء، ولو حذفت لاظهروا التاء لأنها مبتدأة،
__________
(1) وكذلك قرأها حفص وحمزة والكسائي وخلف.
(2) وقرأها كذلك الحرميان نافع وابن كثير وأبو عمرو.
(3) قرأها كذلك يعقوب.(1/437)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
والمبتدأ لا يكون إلا متحركًا. وكذلك قوله: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً «1» ، وقوله: وَازَّيَّنَتْ «2» المعنى- والله أعلم-: تزينت، وقالُوا اطَّيَّرْنا «3» معناهُ:
تطيرنا. والعربُ تَقُولُ: (حَتَّى إِذَا اداركوا) تجمع بين ساكنين: بين التاء من تداركوا وبين الألف من إِذَا. وبذلك كَانَ يأخذ أَبُو عَمْرو «4» بن العلاء ويردّ الوجه الأول، وأنشدني الْكِسَائي:
تُولِي الضجيع إِذَا ما استافها «5» خَصِرا ... عَذْبَ المذاقِ إِذَا ما اتّابع الْقُبَلُ
وقوله: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى (40) فأوقع (جعل) عَلَى الكلمة، ثُمَّ قَالَ: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا عَلَى الاستئناف، ولم تُرَد بالفعل. وكلمة الَّذِينَ كفروا الشرك بالله، وكلمة الله قول (لا إله إلا الله) .
ويَجوز (وَكَلِمَةُ «6» اللَّهِ هِيَ العليا) ولست أستحبّ ذَلِكَ لظهور الله تبارك وتعالى لأنه لو نصبها- والفعل فعله- كَانَ أجود الكلام أن يُقال: «وكلمته هي العليا» ألا ترى أنك تَقُولُ: قد أعتق أبوكَ غلامه، ولا يكادونَ يقولون: أعتق أبوكَ غلام أبيك. وقال الشاعر فِي إجازة ذَلِكَ:
متى تأتِ زيدًا قاعدًا عِنْدَ حوضه ... لِتهدِمَ ظلمًا حوضَ زيد تقارع
فذكر زيدًا مرتين ولم يُكَنِّ عنه فى الثانية، والكناية وجه الكلام.
__________
(1) آية 38 سورة الأعراف.
(2) آية 24 سورة يونس.
(3) آية 47 سورة النمل.
(4) إنما روى هذا الوجه عن أبى عمرو عصمة الفقيمي. وليس ممن تعتبر روايته. وانظر تفسير القرطبي 7/ 204
(5) استافها. شمها. والخصر: البارد. يريد ريقها.
(6) وقد قرأ بهذا يعقوب والحسن والأعمش فى رواية المطوّعى.(1/438)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
وقوله: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا (41) يقول «1» : لينفر منكم ذو العيال والميسرة، فهؤلاء الثقال. والخفاف: ذوو العسرة وقلَّة العيال. ويُقال: انْفِرُوا خِفافاً: نِشَاطًا (وَثِقَالا) وإن ثقل عليكم الخروج.
وقوله: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ (47) الإيضاع: السير بين القوم. وكتبت»
بلام ألف وألف بعد ذَلِكَ، ولم يكتب فِي القرآن لها نظير. و «3» ذلك أنهم لا يكادونَ يستمرونَ فِي الكتاب عَلَى جهة واحدة ألا ترى أنهم كتبوا فَما تُغْنِ النُّذُرُ «4» بغير ياء، وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ «5» بالياء، وهو من سوء هجاء الأوّلين. وَلا أَوْضَعُوا مجتمع عَلَيْهِ فِي المصاحف.
وأمّا قوله: أَوْ لا أَذْبَحَنَّه «6» فقد كتبت بالألف وبغير الألف. وقد كَانَ ينبغي للألف أن تُحذف من كله لانَّها لام زيدت عَلَى ألف كقوله: لاخوكَ خيرٌ من أبيك ألا ترى أَنَّهُ لا ينبغي أن تكتب بألف بعد لام ألف. وأما قوله
__________
(1) سقط فى ش، ج. وثبت فى أ.
(2) هذا على ما فى أكثر المصاحف. وقد كتبت فى بعضها واحدة، وطبع المصحف على هذا الوجه. فقوله بعد: «ولأوضعوا مجتمع عليه فى المصاحف» غير المروي عن أصحاب الرسم. والإجماع على «لأ اذبجنه» فتراه انعكس عليه الأمر: وفى المقنع 47: «وقال نصير: اختلفت المصاحف فى الذي فى التوبة، واتفقت على الذي فى النمل» .
(3) قال فى الكشاف: زيدت ألف فى الكتابة لأن الفتحة كانت تكتب ألفا فى الخط العربي، والخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن، وقد بقي من ذلك الألف أثر فى الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفا وفتحتها ألفا أخرى، ونحوها: أو لا أذبحنه فى سورة النمل، ولا آتوها فى الأحزاب ولا رابع لها فى القرآن.
(4) آية 5 سورة القمر. [.....]
(5) آية 101 سورة يونس.
(6) آية 21 سورة النمل.(1/439)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
(لا انفصام لها) «1» فتكتب بالألف لأن (لا) فى (انفصام) تبرئة، والألف من (انفصام) خفيفة. والعرب تَقُولُ: أوضع الراكب ووضعت الناقة فِي سيرها.
وربما قالوا للراكب وضع قَالَ الشاعر:
إِنِّي إِذَا ما كَانَ يوم ذو فزَعْ ... ألفيتني محتملا بذي أضع «2»
وقوله: (يبغونكم الفتنة) المعنى: يبغونَها لكم. ولو أعانوهم عَلَى بُغائها لقلت:
أبغيتك الفتنة. وهو مثل قولك: أَحِلبني واحلُبني.
وقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي (49) وَذَلِكَ لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجد «3» بن قيس: هَلْ لك فِي جِلاد بني الاصفر؟ - يعني الروم- وهي غزوة تبوك، فقال جدّ: لا، بَلْ تأذن لي، فأتخلف فإني رجل كِلف بالنساء أخافُ فتنة بنات الاصفر. وإِنَّما سمي الاصفرُ لأن حبشيًا «4» غلب عَلَى ناحية الروم وَكَانَ لَهُ بنات قد أخذن من بياض الروم وسواد الحبشة فكن صفرًا لُعسا «5» . فقال الله تبارك وتعالى أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا فِي التخلف عنك «6» . وقد عُذِل المسلمونَ فِي غزوة تبوك وثقل عليهم الخروج لبعد الشقة «7» ، وَكَانَ أيضًا زمان عسرة وأدرك الثمار وطاب الظل، فأحبّوا الإقامة، فوبّخهم الله.
__________
(1) آية 256 سورة البقرة.
(2) محتملا على صيغة اسم المفعول من احتمل إذا غضب واستخفه الغضب. وقوله: بذي كأنه يريد: بذي الناقة أو بذي الفرس. وقد يكون المراد: محتملا رحلى- على صيغة اسم الفاعل- بالبعير الذي أضعه. فذى هنا موصول على لغة الطائيين.
(3) كان سيد بنى سلمة من الأنصار. وكان ممن يرمى بالنفاق ومات فى خلافة عثمان.
(4) فى ا: «جيشا» .
(5) جمع لعساء. وهى التي فى لونها سواد، وتكون مشربة بحمرة.
(6) كذا فى أ. وفى ش، ج: «عندك» .
(7) كذا فى ش، ج. وفى ا: «المشقة» .(1/440)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
فقال عز وجل: (يا أَيُّهَا «1» الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ) .
ووصف «2» المنافقين فقال: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وسفرا قاصدا لاتّبعوك) .
وقوله: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ (45) أي لا يَسْتَأْذِنُكَ بعد غزوة تبوك فِي جِهاد الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ به.
ثم قال: إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ بعدها الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
وقوله: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ (52) : الظفر أو الشهادة، فهما الحسنيان. والعرب تدغم اللام من (هل) و (بل) عند التاء خاصة. وهو فِي كلامهم عالٍ كَثِير يقول: هَلْ تدري، وهتَّدْرِي. فقرأها القراء عَلَى ذَلِكَ، وإنَّما أستحبُّ فِي القراءة خاصَّة تبيان ذَلِكَ، لانَّهما منفصلانِ ليسا من حرف واحد، وإِنَّما بنى القرآن عَلَى الترسل والترتيل وإشباع الكلام فتبيانه أحب إليّ من إدغامه، وقد أدغم القرّاء «3» الكبار، وكلٌّ صواب.
وقوله: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً (53) وهو أمر فِي اللفظ وليس بأمر فِي المعنى لأنه أخبرهم أَنَّهُ لن يتقبّل منهم.
وهو فِي الكلام بِمنزلة إنْ فِي الجزاء كأنك قلت: إنْ أنْفَقْتَ طوعًا أو كرهًا فليس بمقبولٍ منك. ومثله اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ «4» لَيْسَ بأمر، إِنَّما هُوَ عَلَى تأويل الجزاء. ومثله قول الشاعر «5» :
أسِيئي بنا أو أحسني لا ملومةٌ ... لدينا ولا مَقْليّةٌ إن تقَلّتِ
__________
(1) سبق ذكر لهذه الآية.
(2) يريد أنهم وصفوا بما فى الآية الآتية. وهى فى الآية 42 من السورة.
(3) هم حمزة والكسائىّ وخلف فى رواية هشام.
(4) آية 80 سورة التوبة.
(5) هو جميل فى قصيدة يتغزل فيها بثينة. [.....](1/441)
وقوله: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا (54) (أنهم) فِي موضع رفع لأنه اسم للمنع كأنك قلت: ما منعهم أن تقبل منهم إلا ذاك. و (أن) الأولى فِي موضع «1» نصب. وليست بمنزلة قوله: وَما أَرْسَلْنا «2» قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ هَذِه فيها واو مضمرة، وهي مستأنفة «3» لَيْسَ لَهَا موضع. ولو لَمْ يكن فِي جوابها اللام لكانت أيضا مكسورة كما تَقُولُ: ما رأيت منهم رجلا إلا إنه لَيُحْسِن، وإلا إنه يحسن. يعرِّف أنها مستأنفة أن تضع (هُوَ) فِي موضعها فتصلح وَذَلِكَ قولك: ما رأيت منهم رجلا إلا هُوَ يفعل ذَلِكَ. فدلّت (هُوَ) عَلَى استئناف إنّ.
وقوله: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا (55) معناهُ: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم فِي الحياة الدُّنْيَا. هَذَا معناه، ولكنه أخِّر ومعناه التقديم- والله أعلم- لأنه إِنّما أراد: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم فِي الحياة الدُّنْيَا إنّما يريد الله ليعذبهم بِهَا فِي الآخرة. وقوله وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ أي تَخرج أنفسهم وهم كفار. ولو جعلت الحياة الدُّنْيَا مؤخّرة «4» وأردت:
إنّما يريد الله ليعذبهم بالإنفاق كرهًا ليعذبهم بذلك فِي الدُّنْيَا، لكان وجها حسنا.
__________
(1) إذ المصدر المؤول فيها مفعول ثان لمنع.
(2) آية 20 سورة الفرقان.
(3) يريد أنها فى صدر جملة وليست فى موضع المفرد. وجملتها فى موضع النصب لأنها حال.
(4) أي غير منوىّ تقديمها، كما فى الرأى السابق.(1/442)
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
وقوله: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً- أى حرزا- أَوْ مَغاراتٍ (57) وهي الغِيران واحدها غار فِي الجبال أَوْ مُدَّخَلًا يريد: سَرَبا فِي الأرض.
لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ مسرعين الجمح هاهنا: الإسراع.
وقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ (58) يقول: بعيبك، ويقولون: لا يقسم بالسَّوِيَّة.
فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا فلم يعيبوا.
ثُمَّ إِنّ الله تبارك وتعالى بيّن لَهُم لمن الصدقات.
فقال: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ (60) وهم أهل صُفَّة «1» رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كانوا لا عشائر لَهم، كانوا يلتمسونَ الفضل بالنهار، ثُمَّ يأوون إلى مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهؤلاء الفقراء.
وَالْمَساكِينِ: الطوّافين على الأبواب وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وهم السعاة.
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وهم أشراف العرب، كَانَ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يعطيهم ليجترّبه إسلام قومهم.
وَفِي الرِّقابِ يعنى المكاتبين وَالْغارِمِينَ: أصحاب الدَّيْن الَّذِين ركبهم فِي غير إفساد.
__________
(1) هى موضع مظلل من المسجد.(1/443)
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ: الجهاد وَابْنِ السَّبِيلِ: المنقطع بِهِ، أو الضيف.
(فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) نصب على القطع. والرفع فى (فريضة) جائز لو قرئ «1» بِهِ.
وهو فِي الكلام بِمنزلة قولك: هُوَ لك هبةً وهِبةٌ، وهو عليك صدقةً وصدقةٌ، والمالُ بينكما نصفين ونصفان، والمالُ بينكما شِقّ الشَعَرة وشقُّ....
وقوله: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ (61) اجتمعَ قوم عَلَى عَيب «2» النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول رجل منهم: إن هَذَا يبلّغ محمدا- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيقع بنا، ف يَقُولُونَ: إنما هُوَ أُذُنٌ سامعة إِذَا أتيناهُ صدّقَنا، فقولوا ما شئتم. فأنزلَ الله عَزَّ وَجَلَّ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ أي كما تقولون، ولكنه لا يصدقكم، إنما يصدّق المؤمنين.
وهو قوله: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ: يصدق بالله. وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ: يصدّق الْمُؤْمِنِين. وهو كقوله: لِلَّذِينَ «3» هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أي يرهبون ربهم.
وأمّا قوله: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فمتصل بِما قبله.
وقوله: وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا إن شئت خفضتها «4» تتبعها لخير، وإن شئت «5» رفعتها أتبعتها الأذن. وقد «6» يُقرأ: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ كقوله: قل أذن أفضل لكم و (خير) إِذَا خفض فليس عَلَى معنى أفضل إِذَا خفضت (خير) فكأنك قلت: أذن صلاح لكم، وَإِذَا قلت: (أذن خير لكم) ، فإنك قلت: أذن أصلح لكم. ولا تكون الرحمة إذا رفعت (خير) إلا رفعا. ولو نصبت الرحمة على
__________
(1) قرأ به إبراهيم بن أبى عبلة كما فى القرطبي.
(2) كذا فى أ. وفى ش، ج: «غيب» .
(3) آية 154 سورة الأعراف.
(4) والخفض قراءة حمزة.
(5) سقط فى أ.
(6) قرأ بهذا الحسن.(1/444)
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
غير هَذَا الوجه كَانَ صوابًا: (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ويؤمن للمؤمنين، ورحمة) يفعل ذَلِكَ. وهو كقوله: إِنَّا «1» زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً.
وقوله: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ (62) وحّد «2» (يرضوه) ولم يقل: يرضوهما لأن المعنى- والله أعلم- بمنزلة قولك:
ما شاء الله وشئتُ إنما يقصد بالمشيئة قصدُ الثاني، وقوله: «مَا شاءَ اللَّهُ» تعظيم لله مقدم قبل الأفاعيل كما تَقُولُ لعبدك: قد أعتقك الله وأعتقتُك. وإن شئت أردت: يرضوهما فاكتفيت بواحد كقوله:
نحن بِمَا عندنا وأنت بما عن ... دك راض والرأي مختلف
ولم يقل: راضون.
وقوله: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً (66) والطائفة واحد واثنان، وإِنَّما نزل فِي ثلاثة نفر استهزأ رجلان برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن، وضحك إليهما آخر، فنزل إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ يعنى الواحد الضاحك نُعَذِّبْ طائِفَةً يعني المستهزئين. وقد جاء وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ «3» يعني واحدًا. ويقرأ: «إن يُعْفَ عَن طائفة منكم تعذّب طائفة» .
و «إن يعف ... يعذّب طائفة» .
وقوله: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ (67) : يُمسكون عَن النفقة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عليه وسلم.
__________
(1) آيتا 5، 6 من سورة الصافات.
(2) كذا فى ش. وفى ا: «جديرأن» .
(3) آية 2 سورة النور. [.....](1/445)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
وقوله: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (69) أي فعلتم كأفعال الَّذِينَ من قبلكم.
وقوله: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ. يقول: رضوا بنصيبهم فِي الدُّنْيَا من أنصبائِهم فى الآخرة.
وقوله: فَاسْتَمْتَعْتُمْ أي أردتم ما أراد الَّذِينَ من قبلكم.
وقوله: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا يريد: كخوضهم الَّذِي خاضوا.
وقوله: وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ (70) يقال: إنها قريات قوم لوط وهود وصالِح. ويُقال: إنهم أصحاب لوط خاصَّة.
جُمعوا بالتاء عَلَى قوله: وَالْمُؤْتَفِكَةَ «1» أَهْوى. وكأنّ جمعهم إذ قيل الْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ عَلَى الشِيع والطوائف كما قيل: قتلت الفُدَيكات، نسبوا إلى رئيسهم أبي فديك» .
وقوله: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ (72) رفع بالاكبر، وَعُدِلَ عَن أن يُنْسَق عَلَى ما قبله وهو مما قد وعدهم الله تبارك وتعالى، ولكنه أوثر بالرفع لتفضيله كما تَقُولُ فِي الكلام: قد وصلتك بالدراهم والثياب، وَحُسْنُ رأيي خير لك من ذَلِكَ.
وقوله: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ (74) هَذَا تعيير لَهُمْ لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ عَلَى أهل المدينة وهم محتاجونَ، فأَثْرَوا من الغنائم، فقال: وَمَا نَقَمُوا إِلا الغِنى ف (أَنْ) فِي موضع نصب.
__________
(1) آية 53 سورة النجم.
(2) هو من رءوس الخوارج.(1/446)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
وقوله: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ (79) يراد بِهِ: المتطوعين «1» فأدغم التاء عند الطَّاء فصارت طاء مشددة. وكذلك (ومن «2» يَطَّوَّعْ خَيْرًا) ، (وَالْمُطَّهِّرِينَ) «3» .
ولمزهم إياهم: تنقُّصُهم وَذَلِكَ أنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حثّ الناس عَلَى الصدقة، فجاء عمر بصدقة وعثمان بن عفان بصدقة عظيمة، وبعض أصحاب النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ جاء رجل يُقال لَهُ أَبُو عُقَيل بصاع من تَمر، فقال المنافقون: ما أخرج هَؤُلاءِ صدقاتِهم إلا رِياء، وأمّا أَبُو عقيل فإنما جاء بصاعه ليُذْكر بنفسه، فأنزل الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ يعني المهاجرين وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ.
يعني أبا عقيل. والجُهْد لغة أهل الحجاز والوُجْد، ولغة غيرهم الجَهْد والوَجْد.
وقوله: فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) من الرجال، خلوف وخالفون، والنساء خوالف: اللاتي يخلُفن فِي البيت فلا يبرحن. ويُقال: عبد خالف، وصاحب خالف: إِذَا كَانَ مخالفًا.
وقوله: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ (90) وهم الَّذِينَ لَهُم عُذْر. وهو فِي المعنى المعتذرونَ، ولكن التاء أدغمت عند الذَّال فصارتا جميعًا (ذالا) مشددة، كما قيل يذّكرون ويذَّكَّر. وهو مثل (يخصّمون) «4» لمن فتح الخاء، كذلك فتحت الْعَين لأن إعراب التاء صار فِي الْعَين كانت- والله أعلم-
__________
(1) حكى فى الإعراب المفسر: المطوعين. ولولا هذا لقال: المتطوعون.
(2) فى الآية 158 من سورة البقرة. ويريد المؤلف قراءة حمزة والكسائي. وقراءة العامة: تطوع
(3) آية 108 سورة التوبة.
(4) فى آية 49 سورة يس.(1/447)
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
المعتذرون. وأمّا المعذِّر عَلَى جهة المْفَعِّل فهو الَّذِي يعتذر بغير عذر حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبُو حَفْصٍ الْخَرَّازُ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ «1» :
(الْمُعْذِرُونَ) ، وَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْمُعَذِّرِينَ ذَهَبَ إِلَى مَنْ يَعْتَذِرُ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَالْمُعْذِرُ:
الَّذِي قَدْ بَلَغَ أَقْصَى الْعُذْرِ. وَالْمُعْتَذِرُ قَدْ يَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُعْذِرِ، وَقَدْ يَكُونُ لا عُذْرَ لَهُ.
قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الَّذِي لا عُذْرَ لَهُ:
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ (94) ثم قال: (لا تعتذروا) لا عُذْرَ لَكُمْ. وقال لَبِيد فِي معنى الاعتذار بالإعذار إِذَا جعلهما واحدًا:
وقوما فقولا بالذي قد علمتما ... ولا تخمشا وجهًا ولا تحلقا الشعر
إلى الحول ثُمَّ اسمُ السَّلام عليكما ... ومَنْ يبكِ حولا كاملا فقد اعتذر
يريد: فقد أعذر.
وقوله: حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا (92) (يَجِدُوا) فِي موضع نصب بأن، ولو كانت رفعا على أن يجعل (لا) فِي مذهب (لَيْسَ) كأنك قلت: حزنًا أن لَيْسَ يَجدونَ ما يُنفقونَ، ومثله. قوله: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا «2» . وقوله: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ «3» .
وكل موضع صلحت (لَيْسَ) فِيهِ فِي موضع (لا) فلك أن ترفع الفعل الَّذِي بعد (لا) وتنصبه.
__________
(1) كذا فى أ. وفى ش، ج: «قال» .
(2) آية 89 سورة طه.
(3) آية 71 سورة المائدة.(1/448)
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
وقوله: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً (97) نزلت فِي طائفة من أعراب أَسَد وغَطَفان وحاضرى المدينة. و (أجدر) كقولك: أحرى، وأخلق.
وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا موضع (أن) نصب. وكل موضع دخلت فِيهِ (أن) والكلام الَّذِي قبلها مكتفٍ بما خفضه أو رفعه أو نصبه ف (أن) فِي موضع نصب كقولك: أتيتك أنك محسن، وقمت أنك مسيء، وَثَبَتُّ عندك أنك صديق وصاحب. وقد تبين لك أن (أن) فِي موضع نصب لأنك تضع فِي موضع (أن) المصدر فيكون نصبًا ألا ترى أنك تَقُولُ: أتيتك إحسانك، فدلّ الإحسان بنصبه عَلَى نصب أن. وكذلك الآخران.
وأمّا قوله: وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا فإن وضعك المصدر فِي موضع (أن) قبيح لأن أخلق وأجدر يطلبن الاستقبال من الأفاعيل فكانت ب (أن) تبين المستقبل، وَإِذَا وضعت مكان (أن) مصدرًا لَمْ يتبيّن استقباله، فلذلك قبح. و (أن) فِي موضع نصب عَلَى كل حال ألا ترى أنك تَقُولُ: أظن أنك قائم فتقضي عَلَى (أن) بالنصب، ولا يصلح أن تَقُولُ: أظن قيامك، فأظن نظير لخليق ولعسى (وجدير) «1» وأجدر وما يتصرف منهن فِي (أن) .
وقوله: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ (98) يعني: الموت والقتل.
يقول الله تبارك وتعالى: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وفتح السِّين من (السوء) هُوَ وجه الكلام، وقراءة أكثر القراء. وقد رفع مجاهد «2» السِّين فى موضعين: هاهنا وفى
__________
(1) سقط ما بين القوسين فى ش، ج. وثبت فى أ.
(2) وهى قراءة ابن كثير وأبى عمرو.(1/449)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
سورة الفتح «1» . فمن قَالَ: «دائِرَةُ السَّوْءِ» فإنه أراد المصدر من سؤته سَوْءًا ومساءة ومَسَائية وسوائية، فهذه مصادر. ومن رفع السِّين جعله اسمًا كقولك: عليهم دائرة البلاء والعذاب. ولا يَجوز ضم السِّين فِي قوله: ما «2» كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ ولا فى قوله: وَظَنَنْتُمْ «3» ظَنَّ السَّوْءِ لأنه ضد لقولك: هَذَا رجلُ صِدْق، وثوبُ صدق. فليس للسوء هاهنا معنى فِي عذاب ولا بلاء، فيضمّ.
وقوله: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ (100) إن شئت خفضت الأنصار تريد: من المهاجرين ومن الأنصار. وإن شئت رفعت (الأنصار) تُتبعهم قوله: (والسابقون) ، وقد قرأ بِهَا الْحَسَن الْبَصْرِيّ.
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ: من أحسن من بعدهم إلى يوم القيامة. ورفعت (السابقونَ وَالَّذِينَ اتبعوهم) بما عاد من ذكرهم فِي قوله: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ.
وقوله: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ (101) : مرنوا عليه وجرؤوا عليه كقولك: تمردوا.
وقوله: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ. يُقال: بالقتل وعذاب القبر.
وقوله: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً (102) يقول: خرجوا إلى بدر فشهدوها. ويُقال: العمل الصالِح توبتهم من تخلفهم عَن غزوة تَبُوكَ.
__________
(1) فى الآية 6. والكلام فى «دائرة السوء» فقط.
(2) آية 28 سورة مريم.
(3) آية 6 سورة الفتح. [.....](1/450)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
وَآخَرَ سَيِّئاً: تخلّفهم يوم تبوك عَسَى اللَّهُ عسى من الله واجب إن شاء الله. وَكَانَ هَؤُلاءِ قد أوثقوا أنفسهم بسَوَاري المسجد، وحلفوا ألا يفارقوا ذَلِكَ حَتَّى تنزل توبتهم، فلما نزلت قالوا: يا رسول الله خذ أموالنا شكرًا لتوبتنا، فقال: لا أفعلُ حَتَّى ينزل بذلك عليّ قرآن. فأنزل الله عَزَّ وجل:
قوله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً (103) فأخذ بعضًا.
ثُمَّ قَالَ: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ: استغفر لَهُم فإن استغفارك لَهُم تسكن إِلَيْهِ قلوبهم، وتطمئنُ بأن قد تابَ الله عليهم. وقد «1» قرئت (صلواتك) .
والصلاة أكثر.
وقوله: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ (106) هم ثلاثة نَفَرٍ مسمَّون، تخلّفوا عَن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غزوة تبوك، فلمّا رجع قَالَ: (ما عذركم) ؟ قالوا: لا عذر لنا إلا الخطيئة، فكانوا موقوفين حَتَّى نزلت توبتهم فِي قوله: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ (117) وقوله: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا (118) وهم كعب بن مالك، وهلال بن أُمَيَّة، ومرارة.
__________
(1) وهى قراءة غير حفص وحمزة والكسائي وخلف.(1/451)
وقوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً (107) هم بنو عَمْرو بن عوف من الأنصار، بنَوا مسجدهم ضرارًا لِمسجد قُبَاءَ.
ومسجد قباء أول مسجد بني عَلَى التقوى. فلمّا قدم النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غزوة تبوك أمر بإحراق مسجد الشقاق وهدمه.
ثُمَّ قال: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً (108) يعني مسجد بني عَمْرو. ثُمَّ انقطعَ الكلام فقال: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ. ثم قال: فِيهِ رِجالٌ الأولى صلة لقوله:
(تقوم) والثانية رفعت الرجال.
وقوله: أَسَّسَ (104) وأَسَّسَ «1» ، ويَجوز أساس، وآساس. ويخيَّل إليّ أني قد سمعتها فِي القراءة.
وقوله: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ (110) يعنى مسجد النفاق (ريبة) يقال: شكّا (إلا أن تقطّع) و (تقطّع) «2» معناهُ: إلا أن يموتوا. وقرأ الْحَسَن (إلى أن تَقَطَّع) بمنزلة حَتَّى، أي حَتَّى تَقَطَّع. وهي فِي قراءة عبد الله ولو قُطِّعت قلوبُهم حجة لمن قال إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ بضم التاء.
__________
(1) وهى قراءة نافع وابن عامر. والأولى بالبناء للفاعل قراءة الباقين.
(2) الجمهور على قراءة (تقطع قلوبهم) وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب كذلك إلا أنهم فتحوا التاء (تقطع قلوبهم) وروى عن يعقوب وأبى عبد الرحمن (تقطع) مخفف القاف مبنيا لما لم يسم فاعله. وروى عن شبل وابن كثير (تقطع قلوبهم) أي أنت تفعل ذلك بهم (من تفسير القرطبي) .(1/452)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)
وقوله: فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ (111) قراءة أصحاب عبد الله يقدمون المفعول بِهِ قبل الفاعل. وقراءة العوام «1» : (فَيَقْتُلون ويُقتلون) .
وقوله: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا خارج من قوله: بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ وهو كقولك:
عَليّ ألف درهم عِدَّةٌ صحيحة، ويَجوز الرفع لو قيل.
وقوله: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ (112) استؤنفت بالرفع لتمام الآية قبلها وانقطاع الكلام، فحسن الاستئناف.
وهي فِي قراءة عبد الله «التائبين العابدين» فِي موضع خفض لأنه نعت للمؤمنين:
اشترى من الْمُؤْمِنِين التائبين. ويَجوز أن يكون (التائبين) فِي موضع نصب عَلَى المدح كما قَالَ:
لا يبعدن قومي الَّذِينَ هم ... سم العداة وآفة الجزر «2»
النازلين بكل معترك ... والطيبينَ معاقِدَ الأزْر
وقوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ (115) سأل المسلمون النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمن مات من المسلمين وهو يصلي إلى القبلة الأولى، ويستحل الخمر قبل تَحريمها، فقالوا: يا رسول الله أمات إخواننا ضُلالا؟ فأنزلَ الله تبارك وتعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ يقول: ليسوا بضلال ولم يصرفوا عَن القبلة الأولى، ولم ينزل عليهم تحريم الخمر.
__________
(1) يريد غير حمزة والكسائي وخلف أصحاب القراءة الأولى.
(2) انظر ص 105 من هذا الجزء. وقد ضبط فيه «الجزر» و «الأزر» بضم ما قبل الروى.
والصواب تسكينها كما هنا.(1/453)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
وقوله: مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ (117) وكاد تزيغ «1» . [من] «2» قال: كادَ يَزِيغُ جعل فى (كاد يزيغ) اسمًا «3» مثل الَّذِي فِي قوله: عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ «4» وجعل (يزبغ) بِهِ ارتفعت القلوب مذكرًا كما قَالَ الله تبارك وتعالى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها «5» ولا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ «6» ومن قال (تزيغ) جعل فعل القلوب مؤنثًا كما قَالَ: نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا «7» وهو وجه الكلام، ولم يقل (يطمئن) وكل فعل كَانَ لِجماع مذكر أو مؤنث فإن شئت أنثت فعله إِذَا قدمته، وإن شئت ذكّرته.
وقوله: وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً (120) يريد بالموطئ الأرض وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً فِي ذهابِهم ومجيئهم إلا كتب لَهُم.
وقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً (122) لِمَا عُيِّر المسلمون بتخلفهم عن غزوة تبوك جعل النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبعث السرية فينفرونَ جَميعًا، فيبقى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده، فأنزل الله تبارك وتعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً يعني «8» : جميعًا ويتركوك وحدك.
ثُمَّ قَالَ: فَلَوْلا نَفَرَ معناهُ: فهلا نفر مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ليتفقّه الباقون الذين تخلفوا ويحفظوا عَلَى قومهم ما نزل عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من القرآن.
__________
(1) قراءة الياء لحفص وحمزة. وقراءة التاء للياقين.
(2) زيادة خلت منها الأصول.
(3) كأنه يريد: ضمير الشأن والحديث. وهذا تأويل البصريين.
(4) آية 11 سورة الحجرات.
(5) آية 37 سورة الحج.
(6) آية 52 سورة الأحزاب.
(7) آية 113 سورة المائدة.
(8) كذا فى ش، ج. وفى ا: «يريد» .(1/454)
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ يقول: ليفقِّهوهم. وقد قيل فيها: إن أعراب أسد قدموا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، فغلت الأسعار وملئوا الطرق بالعذرات، فأنزل الله تبارك وتعالى: فَلَوْلا نَفَرَ يقول: فهلا نفر منهم طائفة ثُمَّ رجعوا إلى قومهم فأخبروهم بما تعلّموا.
وقوله: يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ (123) يريد: الاقرب فالاقرب.
وقوله: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ (124) يعني: المنافقين يقول بعضهم لبعض: هَلْ زادتكم هَذِه إيمانًا؟
فأنزل الله تبارك وتعالى «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً ... وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ» والمرض هاهنا النفاق.
وقوله: أَوَلا يَرَوْنَ (126) (وترون) «1» بالتاء. وَفِي قراءة عبد الله «أو لا ترى أنهم» والعربُ تَقُولُ: ألا ترى للقوم وللواحد كالتعجب، وكما قيل «ذَلِكَ أزْكَى لهم، وذلكم» وكذلك (ألا ترى) و (ألا ترون) .
وقوله: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ (127) فيها ذكرهم وعيبهم قَالَ بعضهم لبعض هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ إن قمتم، فإن خفي لَهُم القيام قاموا.
فذلك قوله: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ دعاء عليهم.
__________
(1) قراءة الخطاب لحمزة ويعقوب، وقراءة الغيبة للباقين. [.....](1/455)
وقوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (128) يقول: لَمْ يبق بطن من العرب إلا وقد ولدوه. فذلك قوله مِنْ أَنْفُسِكُمْ.
وقوله: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ (ما) فِي موضع رفع معناهُ: عزيز عَلَيْهِ عنتكم. ولو كَانَ نصبًا: عزيزًا عَلَيْهِ ما عنتم حريصًا رءوفًا رحيمًا، كَانَ صوابًا، عَلَى قوله لقد جاءكم كذلك. والحريص الشحيح أن يدخلوا النار.(1/456)
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
ومن سورة يونس
قوله: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا (2) نصبت (عجبا) ب (كان) ، ومرفوعها أَنْ أَوْحَيْنا وكذلك أكثر ما جاء فِي القرآن إِذَا كانت (أن) ومعها فعل: أن يجعلوا الرفع فِي (أَنْ) ، ولو جعلوا (أَنْ) منصوبة ورفعوا الفعل كَانَ صوابًا.
وقوله: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا (4) رفعت المرجع ب (إِلَيْهِ) ، ونصبت قوله (وَعْدَ الله حقّا) بخروجه منهما «1» .
ولو كَانَ رفعًا كما تَقُولُ: الحق عليك واجب وواجبًا كَانَ صوابًا. ولو استؤنف (وعد الله حق) «2» كَانَ صوابًا.
(إِنَّهُ يبدأ الخلق) مكسورة لأنها مستأنفة. وقد فَتَحها بعضُ القرّاء «3» . ونُرى أَنَّهُ جعلها اسمًا للحق وجعل (وَعْدَ اللَّهِ) متصلا بقوله (إليه مرجعكم) ثم قال:
«حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ» ف (أَنَّهُ) فِي موضع رفع كما قَالَ الشاعر:
أحقًّا عباد الله أن لست لاقيا ... بُثَيْنَة أو يلقى الثريا رقيبُها «4»
وقال الآخر:
أحقا عباد الله جُرْأَةُ محلق ... عليّ وقد أعييت عادا وتبّعا «5»
__________
(1) يريد أنه مصدر مؤكد للجملة السابقة.
(2) وقرأ بهذا إبراهيم بن أبى عبلة.
(3) من هؤلاء أبو جعفر والأعمش.
(4) رقيب الثريا النجم الذي لا يطلع حتى تغيب الثريا.
وهو الإكليل. فقوله: أو يلقى الثريا كناية عن الاستحالة، يقول: إنه لا يلقاها أبدا.
(5) كأن محلقا رجل بعينه. وترى المصدر فى البيت صريحا، وما قبله المصدر فيه مؤول.(1/457)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
وقوله: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ (5) ولم يقل: وقدّرهما. فإن شئت جعلت تقدير المنازل للقمر خاصَّة لأن به تعلم الشهور. وإن شئت جعلت التقدير لَهما جَميعًا، فاكتفى بذكر أحدهما من صاحبه كما قَالَ الشاعر «1» :
رَماني بأمرٍ كنت منه ووالدي ... بريئًا ومن جُولِ الطَويّ رماني
وهو مثل قوله وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «2» ولم يقل: أن يرضوهما.
وقوله: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ (11) يقول: لو أجيب الناس فِي دعاء أحدهم على ابنه وشيهه بقولهم: أماتك الله، ولعنك الله، وأخزاكَ الله لهلكوا. و (استعجالهم) منصوب بوقوع الفعل: (يعجل) كما تَقُولُ: قد ضربت اليوم ضربتك، والمعنى: ضربت كضربتك، وليس المعنى هاهنا كقولك: ضربت ضربًا لأن ضربًا لا تضمر الكاف فِيهِ لأنك لَمْ تشبهه بشيء، وإنما شبهت ضربك بضرب غيرك فحسنت فِيهِ الكاف.
وقوله لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ويقرأ: (لَقَضى إليهم أجلهم) «3» . ومثله فَيُمْسِكُ «4» الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ و (قضى عليها الموت) .
__________
(1) هو ابن أحمر، أو هو الأزرق بن طرفة كما قال ابن برىّ. والطوىّ: البئر، وجولها: جدارها.
وقوله: من جول الطوىّ رمانى مثل. يريد أن ما رمانى به يعود قبحه عليه، فإن من كان فى البئر ورمى بشىء من جدارها عاد عليه ما رمى به إذ ينجذب إلى أسفل. ويروى: «ومن أجل الطوى» وهو الصحيح لأن الشاعر كان بينه وبين خصمه منازعة فى بئر. وانظر اللسان فى جال.
(2) آية 62 سورة التوبة.
(3) وهى قراءة ابن عامر ويعقوب. وما قبله قراءة الباقين.
(4) آية 42 سورة الزمر. وقد قرأ بالبناء للمفعول حمزة والكسائي وخلف، وقرأ الباقون بالبناء للفاعل ونصب الموت.(1/458)
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
وقوله: مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ (12) يقول: استمر عَلَى طريقته الأولى قبل أن يصيبه البلاء.
وقوله: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ (16) وقد ذكر عَن الْحَسَن أَنَّهُ قَالَ: «ولا أدرأتُكم بِهِ» فإن يكن فيها لغة سوى دريت وأدريت فلعلّ الْحَسَن ذهب إليها. وأمّا أن تصلح من دريت أو أدريت فلا لأن الياء والواو إِذَا انفتح ما قبلهما وسكنتا صحَّتا ولم تنقلبا إلى ألف مثل قضيت ودعوت.
ولعل الْحَسَن ذهب إلى طبيعته وفصاحته فهمزها لأنها تضارع درأت الحد وشبهه.
وربما غلطت العرب فِي الحرف إِذَا ضارعه آخر من الْهَمْز فيهمزونَ غير المهموز سمعت امرأة من طيئ تَقُولُ: رثأت زوجي بأبياتٍ. ويقولون لبَّأْت بالحج وحَلات السَويق فيغلطون لأن حَلات قد يُقال فِي دفع العِطاش من الإبل، ولبَّأت ذهب إلى اللبأ «1» الَّذِي يؤكل، ورثأت زوجي ذهبت إلى رثيئة اللبن وَذَلِكَ إِذَا حلبت الحليب عَلَى الرائب.
وقوله: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ (21) العرب تجعل (إِذَا) تكفي من فعلت وفعلوا. وهذا الموضع من ذَلِكَ:
اكتُفي ب (إِذَا) من (فعلوا) ولو قيل (من بعد ضراء مستهم مكروا) كَانَ صوابًا.
وهو فِي الكلام والقرآن كَثِير. وتقول: خرجت فإذا أنا بزيد. وكذلك يفعلونَ ب (إذْ) كقول الشاعر «2» :
بينما هنَّ بالأراكِ مَعًا ... إذ أتى راكب عَلَى جمله
__________
(1) هو أول اللبن عند الولادة.
(2) هو جميل بن معمر العذرىّ. وقوله: «بينماهن» فى رواية الخزانة 4/ 199: «بينما نحن» .(1/459)
وأكثر الكلام فِي هَذَا الموضع أن تطرح (إذ) فيقال:
بينا تَبغيه العَشَاء وطَوْفِه ... وقع العشاءُ بِهِ عَلَى سِرْحَانِ «1»
ومعناهما واحد ب (إذ) وبطرحها «2» .
وقوله: الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ (22) قراءة العامة. وقد ذكر عَن زيد بن ثابت (ينشركم) قرأها أَبُو جَعْفَر «3» المدني كذلك. وكل صواب إن شاء الله.
وقوله: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ يعني الفُلْك فقال: جاءتها، وقد قَالَ فِي أوّل الكلام وَجَرَيْنَ بِهِمْ ولم يقل: وجرَت، وكل صواب تَقُولُ: النساء قد ذهبت، وذهبن. والفلك تؤنث وتذكر، وتكون واحدة وتكون جمعًا.
وقال فِي يس فِي الْفُلْكِ «4» الْمَشْحُونِ فذكّر الفلك، وقال هاهنا: جاءتها، فأنث.
فإن شئت جعلتها هاهنا واحدة، وإن شئت: جماعًا. وإن شئت جعلت الْهَاء فِي (جَاءَتْهَا) للريح كأنك قلت: جاءت الريح الطيبة ريح عاصف. والله أعلم بصوابه. والعربُ تَقُولُ: عاصف وعاصفة، وقد أعصفت الريح، وعَصَفت.
وبالألف لغة لبني أسد أنشدني بعض بني دَبِير:
حَتَّى إِذَا أعصفت ريح مزعزِعة ... فيها قِطار ورعد صوته زجل «5»
__________
(1) التبغى: الطلب. والسرحان: الذئب. والطوف: الطواف. يريد أنه حين طلب الخير لنفسه أصابه الهلاك، وقد ضرب له مثلا من يبغى العشاء فيصادفه ذئب يأكله، وهو مثل لهم قال فى مجمع الأمثال: «يضرب فى طلب الحاجة يؤدّى صاحبها إلى التلف» . وفى أصله أقاويل مختلفة.
(2، 3) وكذلك ابن عامر.
(4) فى الآية 41 [.....]
(5) مزعزعة: شديدة تحريك الأشجار: وقطار جمع قطر، يريد: ما قطر وسال من المطر.
وزجل: مصوّت.(1/460)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
وقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ (23) إن شئت جعلت خبر (البغي) فِي قوله (على أنفسكم) «1» ثم تنصب «2» (متاع الحياة الدنيا) كقولك: مُتْعَةً فِي الحياة الدُّنْيَا. ويصلح الرفع «3» هاهنا عَلَى الاستئناف كما قَالَ لَمْ «4» يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ أي ذلك (بلاغ) وذلك (متاع الحياة الدنيا) وإن شئت جعلت الخبر فِي المتاع. وهو وجه الكلام.
وقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى (26) فِي موضع رفع. يُقال إن الحسنى الحسنة. (وزيادة) حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الأَحْوَصِ سَلامُ «5» بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصدّيق رحمه الله قال: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَيُقَالُ (للذين أحسنوا الحسنى) يريد حسنة مثل «6» حسناتهم (وزيادة) زيادة التضعيف كقوله فَلَهُ «7» عَشْرُ أَمْثالِها.
وقوله: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها (27) رفعت الجزاء بإضمار (لَهُم) كأنك قلت: فلهم جزاء «8» السيئة بمثلها كما قَالَ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ «9» وفَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ «10» والمعنى: فعليه صيام ثلاثة أيام، وَعَلَيْهِ فدية. وإن شئت رفعت الجزاء بالباء فِي قوله: جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها والأوّل أعجب إلىّ.
__________
(1) فى ش، ج قبلها: «إن شئت» وهى زيادة من الناسخ.
(2) وهى قراءة حفص وابن أبى اسحق.
(3) وهو قراءة العامة غير حفص.
(4) آية 45 سورة الأحقاف.
(5) هو الكوفي أحد الأثبات الثقات. توفى سنة 179 كما فى شذرات الذهب.
(6) كذا فى أ. وفى ش، ج: «من» .
(7) آية 160 سورة الأنعام.
(8) سقط فى أ
(9، 10) آية 196 سورة البقرة.(1/461)
وقوله: كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً و (قطعا) «1» . والقِطْع قراءة العامة.
وهي فِي مصحف أُبَيّ كأنما يَغْشَى وجوهَهم قِطع من الليل مظلم فهذه حجة لمن قرأ بالتخفيف. وإن شئت جعلت المظلم وأنت تَقُولُ قِطْع قطعًا «2» من الليل، وإن شئت جعلت المظلم نعتًا للقطع، فإذا قلت قطعًا كَانَ قطعًا من الليل خاصة.
والقطع ظلمة آخر الليل فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ «3» .
وقوله: فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ (28) ليست من زُلْت إنّما هي من زِلْتُ ذا من ذا: إِذَا فرقت أنت ذا من ذا.
وقال فَزَيَّلْنا لكثرة الفعل. ولو قَلَّ لقلت: زِلْ ذا من ذا كقولك: مِزْ ذا من ذا. وقرأ بعضهم فزايلنا بينهم وهو مثل قوله يُراؤُنَ
ويرءّون «4» وَلا تُصَعِّرْ «5» ، ولا تصاعر والعربُ تكاد توفّق بين فاعلت وفعّلت فِي كَثِير من الكلام، ما لَمْ تُرد فَعَلت بي وفعلتُ بك «6» ، فإذا أرادوا هذا لم تكن إلا فاعلت. فإذا أردت: عاهدتك وراءيتك وما يكون الفعل فِيهِ مفردًا فهو الَّذِي يحتمل فعلت وفاعلت. كذلك يقولون:
كالمت فلانًا وكلّمته، وكانا متصارمين فصارا يتكالمان ويتكلّمان.
__________
(1) هذه قراءة ابن كثير والكسائي ويعقوب.
(2) يريد أن يكون المظلم حالا من الليل، وكذا فى الوجه الآتي فى المتحرك. ولو كان «نعتا» كان أظهر، ويكون المراد بالنعت الحال.
(3) آية 81 سورة هود.
(4) آية 142 سورة النساء. وقد قرأ بتشديد الهمزة ابن أبى إسحق. [.....]
(5) آية 18 سورة لقمان. قرأ نافع وأبو عمرو والكسائي وخلف «تصاعر» والباقون «تصعر» .
(6) يعنى إذا كان الفعل بين اثنين.(1/462)
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
وقوله: هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ (30) قرأها عبد الله بن مسعود: (تتلو) «1» بالتاء. معناها- والله أعلم-: تتلو أي تقرأ كُلُّ نفس عملها فِي كتاب كقوله وَنُخْرِجُ «2» لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً وقوله فَأَمَّا «3» مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. وقوله اقْرَأْ «4» كِتابَكَ قوَّة لقراءة عبد الله. وقرأها مجاهد «5» (تبلو كل نفسٍ ما أسلفت) أي تخْبره وتراه. وكلٌّ حسن. حَدَّثَنَا مُحَمَّد قَالَ حَدَّثَنِي الفراء قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عَبْدِ الْعَزِيزِ التَّيْمِيّ عَن مُغيرة عَن مجاهد أَنَّهُ قرأ (تبلو) بالباء. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: حَدَّثَنِي بَعْضُ الْمَشْيَخَةِ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (تَبْلُو) تَخْبُرُ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ.
وقوله وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ (الحق) تجعله من صفات الله تبارك وتعالى. وإن شئت جعلته نصبًا تريد: ردوا إلى الله حقًّا. وإن شئت:
مولاهم حقًّا.
وكذلك قوله: فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ (32) فِيهِ ما فِي الأولى.
وقوله تعالى: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ (33) وقد يقرأ (كَلِمَةُ رَبِّكَ) و (كلمات ربك) . قراءة أهل المدينة عَلَى الجمع.
وقوله: عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ: حَقَّت عليهم لانهم لا يؤمنون، أو بأنهم لا يؤمنون، فيكون موضعها نصبًا إِذَا ألقيت الخافض. ولو كسرت فقلت:
__________
(1) وهى قراءة حمزة والكسائي وخلف.
(2) آية 13 سورة الإسراء.
(3) آية 19 سورة الحافة.
(4) آية 14 سورة الإسراء.
(5) هى قراءة غير حمزة والكسائي وخلف.(1/463)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
«إنهم» كَانَ صوابًا عَلَى الابتداء. وكذلك قوله آمَنْتُ «1» أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وكسرها أصحابُ»
عبد الله عَلَى الابتداء.
وقوله: أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى (35) يقول: تعبدونَ ما لا يقدر عَلَى النُقْلة من مكانه، إِلا أن يحول وتنقلوه.
وقوله: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى (37) المعنى- والله أعلم-: ما كَانَ ينبغي لمثل هَذَا القرآن أن يُفترى. وهو فِي معنى:
ما كَانَ هَذَا القرآن ليفترى. ومثله وَما كانَ «3» الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً أي ما كان ينبغى لَهُم أن ينفروا لانهم قد كانوا نَفَروا كافة، فدلّ المعنى عَلَى أَنَّهُ لا ينبغي لَهُم أن يفعلوا مرة أخرى. ومثله وَما كانَ «4» لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أي ما ينبغي لنبي أن يَغُلّ، ولا يُغَلَّ «5» . فجاءت (أنْ) عَلَى معنى ينبغي كما قال مَا لَكَ «6» أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ والمعنى: منعك، فأدخلت (أن) فِي (مالك) إذ كَانَ معناها: ما منعك. ويدلّ عَلَى أن معناهما واحد أَنَّهُ قَالَ لَهُ فِي موضع: (ما منعك) «7» ، وَفِي موضع (مالك) وقصة إبليس واحدة.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ (44) للعرب فِي (لكن) لغتان: تشديد النون وإسكانها. فمن شدّدها نصب بِهَا الاسماء، ولم يلها فَعَل ولا يَفْعَلُ. ومَنْ خفَّف نونها وأسكنها لم يعملها فى شىء اسم
__________
(1) آية 90 سورة يونس.
(2) وهى قراءة حمزة والكسائي وخلف.
(3) آية 122 سورة التوبة.
(4) آية 161 سورة آل عمران.
(5) يشير إلى القراءتين فى الآية. وانظر ص 246 من هذا الجزء.
(6) آية 32 سورة الحجر.
(7) كما فى الآية 12 من سورة الأعراف. [.....](1/464)
ولا فعل، وَكَانَ الَّذِي يعمل فِي الاسم الَّذِي بعدها ما معه، ينصبه أو يرفعه أو يخفضه من ذَلِكَ قوله وَلكِنَّ «1» النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَلكِنَّ «2» اللَّهَ رَمى (وَلكِنَّ «3» الشَّياطِينَ كَفَرُوا) رُفعِت هَذِه الأحرف بالأفاعيل التي بعدها. وأمّا قوله مَا كانَ «4» مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ فإنك أضمرت (كَانَ) بعد (لكن) فنصبت بِهَا، ولو رفعته عَلَى أن تضمر (هُوَ) : ولكن هُوَ رسول الله كَانَ صوابًا. ومثله (وَما كانَ «5» هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) و (تصديق) . ومثله (مَا كانَ «6» حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) (وتصديق) .
فإذا ألقيت من (لكن) الواو التي فِي أولها آثرت العرب تَخفيف نونها.
وَإِذَا أدخلوا الواو آثروا تشديدها. وإِنَّما فعلوا ذَلِكَ لأنها رجوع عمّا أصاب أول الكلام، فشبِّهت ببل إذْ كَانَ رجوعًا مثلها ألا ترى أنك تَقُولُ: لَمْ يقم أخوك بَلْ أبوك ثُمَّ تَقُولُ: لَمْ يقم أخوك لكن أبوك، فتراهما بِمعنى واحد، والواو لا تصلح فِي بَلْ، فإذا قالوا (ولكن) فأدخلوا الواو تباعدت من (بَلْ) إذ لَمْ تصلح الواو فِي (بَلْ) ، فآثروا فيها تشديد النون، وجعلوا الواو كأنها واو دخلت لعطف لا لِمعنى بَلْ.
وإنّما نصبت العرب بِهَا إِذَا شُددت نونها لأن أصلها: إن عبد الله قائم، فزيدت عَلَى (إن) لام وكاف فصارتا جميعًا حرفًا واحدًا ألا ترى أن الشاعر قَالَ:
ولكنني من حبّها لكميد «7»
__________
(1) الرفع والتخفيف قراءة الكسائىّ وحمزة وخلف. وقرأ الباقون بالتشديد والنصب.
(2) آية 17 سورة الأنفال. وقراءة الرفع والتخفيف لابن عامر وحمزة والكسائىّ وخلف.
(3) آية 102 سورة البقرة. والتخفيف والرفع للقرّاء الذين سلف ذكرهم آنفا.
(4) آية 40 سورة الأحزاب.
(5) آية 37 سورة يونس.
(6) آية 111 سورة يوسف.
(7) كميد وصف من كمد كفرح: أصابه الكمد وهو أشدّ الحزن. ويروى «لعميد» ، وهو فعيل فى معنى مفعول من عمده المرض أو العشق إذا فدحه وهدّه.(1/465)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
فلم تدخل اللام إلا لأن معناها إنّ.
وهى فيما وصلت به من أوّلها بمنزلة قول الشاعر:
لِهنَّكِ من عَبْسِيَّةٍ لوسِيمةٌ ... عَلَى هَنَواتٍ كاذبٍ من يقولها «1»
وصل (إنّ) هاهنا بلام وهاء كما وصلها ثَمَّ بلام وكاف. والحرف قد يوصل «2» من أوّله وآخره. فمما وصل من أوله (هذا) ، و (ها ذاك) ، وصل ب (ها) من أوله. ومما وصل من آخره. قوله: إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ «3» ، وقوله: لتذهبن ولتجلسن. وصل من آخره بنون وب (ما) . ونرى أن قول العرب: كم مالك، أنها (ما) وصلت من أولها بكاف، ثُمَّ إن الكلام كَثِر ب (كم) حَتَّى حذفت الألف من آخرها فسكنت ميمها كما قالوا: لِمَ قلت ذاك؟ ومعناهُ: لِمَ قلت ذاك، ولما «4» قلت ذاك؟
قَالَ الشاعر:
يا أبا الاسود لِم أسلمتني ... لِهموم طارقات وذِكر
وقال بعضُ العرب فِي كلامه وقيل لَهُ: منذكم قعد فلان؟ فقال: كَمُذْ أخذتَ فِي حديثك، فردُّه الكاف فِي (مذ) يدل عَلَى أن الكاف فِي (كم) زائدة. وإنهم ليقولون: كيف أصبحت، فيقول: كالخير، وكخير. وقيل لبعضهم: كيف تصنعونَ الأقِط؟ فقال: كهين.
وقوله: فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) (ثم) هاهنا عطف. ولو قيل: ثَمَّ الله شهيد عَلَى ما يفعلون. يريد:
هنالك الله شهيد على ما يفعلون «5» .
__________
(1) عبسية يريد امرأة من بنى عبس. والهنوات جمع هنة وهى ما يقبح التصريح به، يريد الفعلات القبيحة. وانظر الخزانة 4/ 326.
(2) فى ش، ج: «يوصل بها» .
(3) آية 93 سورة المؤمنون.
(4) تراه أثبت ألف ما مع الجارّ، وبعض النحويين يمنعه.
(5) حذف جواب لو على عادته، أي لجاز.(1/466)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
وقوله: إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) إن شئت جعلت (ماذا) استفهامًا محضًا عَلَى جهة التعجب كقوله: ويلَهم ماذا أرادوا باستعجال العذاب؟! وإن شئت عظّمت أمر العذاب فقلت: بِماذا استعجلوا! وموضعه رفع إِذَا جعلت الْهَاء راجعة عَلَيْهِ، وإن جعلت الْهَاء فِي (منه) للعذاب وجعلته «1» فِي موضع نصب أوقعت عَلَيْهِ الاستعجال.
وقوله: آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) (الآن) حرف بني عَلَى الألف واللام لَمْ تخلع «2» منه، وترك عَلَى مذهب الصفة لأنه صفة فِي المعنى واللفظ كما رأيتهم فعلوا فى (الذي) و (الذين) فتركوهما عَلَى مذهب الأداة، والألف واللام لهما غير مفارقتين. ومثله قول الشاعر:
فإن الألاءِ يعلمونك منهم ... كعلمي مظَّنُّوكَ ما دمت أشعرا «3»
فأدخل الألف واللام عَلَى (ألاء) ثُمَّ تركها مخفوضة فِي موضع النصب كما كانت قبل أن تدخلها الألف واللام. ومثله قوله:
وأنى حُبست اليوم والامس قبله ... ببابك حَتَّى كادت الشمس تغرب «4»
__________
(1) حذف جواب (إن) على عادته، أي لجاز. وقد يكون الجواب: «أوقعت» . وربما كان الأصل «جعلته» دون واو، وهو الجواب. وقوله: «أوقعت» تفسير وتعليل له.
(2) فى اللسان (أين) : «يخلعا» . [.....]
(3) «كعلمى» فى ا: «كعلم» .
(4) من قصيدة لنصيب يخاطب فيها عبد العزيز بن مروان وكان وفد عليه فى مصر فحجب عنه. وقبله:
ألا هل أتى الصقر ابن مروان أننى ... أرد لدى الأبواب عنه وأحجب
وقوله: «وأنى حبست اليوم» فالأقرب فتح «أن» عطفا على «أننى» فى البيت قبله. ويصح الرفع على الاستئناف.(1/467)
فأدخل الألف واللام عَلَى (أمس) ثُمَّ تركه مخفوضًا عَلَى (جهته الأولى) «1» . ومثله قول الآخر «2» :
تفقَّأ فوقه القَلَع السواري ... وَجُنَّ الخازبَازَ بِهِ جنونا
فمثل (الآن) بأنها كانت منصوبة «3» قبل أن تدخل عليها الألف واللام، ثُمَّ أدخلتهما فلم يغيراها. وأصل الآن إنما كَانَ (أوان) حذفت منها الألف وغيِّرت واوها إلى الألف كما قالوا فِي الراح: الرَيَاح أنشدني أَبُو القمقام الفقعسي:
كأن مَكَاكِيَّ الجِوَاء غُدَيَّةً ... نشاوَى تساقَوا بالرَيَاح الْمُفَلْفَل «4»
فجعل الرياح والاوان عَلَى جهة فَعَل ومرة عَلَى جهة فعال كما قالوا: زمن وزمان.
وإن شئت جعلت (الآن) أصلها من قولك: آن لك أن تفعل، أدخلت عليها الألف واللام، ثُمَّ تركتها عَلَى مذهب فَعَلَ فأتاها النصبُ من نصب فَعل. وهو وجه جيِّد كما قالوا: نَهَى رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن قيل وقال وكثرة السؤال،
__________
(1) فى اللسان: «جهة الألاء» .
(2) هو ابن أحمر الباهلي. وهو فى وصف الهجل المذكور فى البيت قبله:
بهجل من قسا ذفر الخزامى ... تهادى الجربياء به الحنينا
والهجل: المطمئن من الأرض. وقسا: موضع، والخزامى: نبت طيب الرائحة. والجربياء ريح الشمال. وتفقأ أصله: تنفقأ أي تنشق. والقلع: جمع القلعة وهى السحابة العظيمة، والسواري التي تأتى ليلا. والخازباز أراد به عشبا، أو ذبابا. والكلام فى صفة روض فى الهجل، ففيه العشب الذي جن وهو كناية عن طوله وعمومه، أو الذباب الذي يغشى الرياض، وجنونه هزجه وصوته. وانظر الخزانة 3/ 109
(3) يريد فتح الزاى فى الخازباز، وهذا إحدى اللغات فى الكلمة. ومن اللغات كسر الزاى.
ويقال أيضا الخزباز كقرطاس.
(4) المكاكي ضرب من الطيور. والجواء واد فى نجد. وغدية تصغير غدوة. والرياح الخمر، والمفلفل: الذي وضع فيه الفلفل. والبيت من معلقة امرئ القيس.(1/468)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)
فكانتا كالاسمين فهما منصوبتان. ولو خفضتا عَلَى أنهما أخرجنا من نِيَّة الفعل كَانَ صوابًا سمعتُ العرب تَقُولُ: من شُبَّ إلى دُبَّ بالفتح، ومن شُبٍّ إلى دُبٍّ يقول «1» : مذ كَانَ صغيرًا إلى أن دَبّ، وهو فَعَلَ.
وقوله: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ (54) يعني الرؤساء من المشركين، أسَرُّوها من سفلتهم الَّذِينَ أضلوهم، فأسروها أي أخفوها.
وقوله: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا (58) هَذِه قراءة العامة. وقد ذكر عَن زيد «2» بن ثابت أنه قرأ (فيذلك فلتفرحوا) أي يا أصحاب مُحَمَّد، بالتاء.
وقوله: هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ: يجمع الكفار. وقوّى قول زيد أنها فِي قراءة أُبَيّ (فبذلك فافرحوا) وهو «3» البناء الَّذِي خُلِق للأمر إِذَا واجهتَ بِهِ أو لَمْ تواجه إلا أن العرب حذفت اللام من فعل المأمور المواجه لكثرة الأمر خاصَّة فِي كلامهم فحذفوا اللام كما حذفوا التاء من الفعل. وأنت تعلم أن الجازم أو الناصب لا يقعان إلا عَلَى الفعل الَّذِي أوله الياء والتاء والنون والألف. فلما حُذفت التاء ذهبت باللام وأحدثت الألف «4» فِي قولك: اضرب وافرح لأن الضَّاد ساكنة فلم يستقم أن يُستأنف بحرف ساكن، فأدخلوا ألفًا خفيفة يقع بها الابتداء كما قال: (ادّاركوا) . (واثّاقلتم) . وَكَانَ الْكِسَائي يعيب قولهم (فلتفرحوا) لأنه وجده
__________
(1) كذا فى ش، ح. وفى ا: «يريد» .
(2) وهى قراءة رويس عن يعقوب.
(3) أي الأمر باللام كما جاء فى قراءة زيد.
(4) يريد همزة الوصل.(1/469)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
قليلا فجعله عيبًا، وهو الاصل. ولقد سمعت عَن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي بعض المشاهد (لتأخذوا مصافكم) «1» يريد بِهِ خذوا مصافكم.
وقوله: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً (61) يقول: الله تبارك وتعالى شاهد عَلَى كل شيء. (وما) هاهنا جحد لا موضع لَهَا.
وهي كقوله مَا يَكُونُ «2» مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ يقول: إلا هُوَ شاهدهم.
وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ و (أصغر وأكبر) . فمن نصبهما «3» فإنما يريد الخفض: يُتبعهما المثقال أو الذرة. ومن رفعهما أتبعهما معنى المثقال لأنك لو ألقيت من المثقال (من) كَانَ رفعًا. وهو كقولك: ما أتاني من أحد عاقلٍ وعاقلٌ. وكذلك قوله ما «4» لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ.
وقوله: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) (الَّذِينَ) فِي موضع رفع لأنه نعت جاء بعد خبر إنّ كما قَالَ إِنَّ «5» ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ وكما قَالَ قُلْ «6» إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ والنصب فِي كل ذَلِكَ جائز عَلَى الاتباع للاسم الأوّل وعلى تكرير (إنّ) .
__________
(1) المصاف جمع مصف، وهو الموقف فى الحرب وموضعها الذي تكون فيه الصفوف.
(2) آية 7 سورة المجادلة.
(3) وهم عامة القراء عدا حمزة ويعقوب وخلف، فقد قرءوا بالرفع.
(4) تكرّر هذا فى القرآن. ومنه الآية 65 سورة الأعراف. يريد أنه جاء فى «غيره» الرفع على المحل والجرّ على اللفظ. والجرّ قراءة الكسائىّ وأبى جعفر. والرفع قراءة الباقين. [.....]
(5) آية 64 سورة ص.
(6) آية 48 سورة سبأ.(1/470)
وَإِنَّمَا رفعت العرب النعوت إِذَا جاءت بعد الأفاعيل «1» فِي (إنّ) لانهم رأوا الفعل «2» مرفوعًا، فتوهّموا أن صاحبه مرفوع فِي المعنى- لانهم لَمْ يَجدوا فِي تصريف المنصوب اسمًا منصوبًا وفعله مرفوع- فرفعوا النعت. وَكَانَ الْكِسَائي يقول:
جعلته- يعني النعت- تابعًا للاسم المضمر فِي الفعل «3» وهو خطأ وليس بِجائز لأن (الظريف) «4» وما أشبهه أسماء ظاهرة، ولا يكون الظاهر نعتًا «5» لمكنيّ إلا ما كَانَ مثل نفسه وأنفسهم، وأجمعين، وكلهم لأن هَذِه إنّما تكون أطرافًا لأواخر الكلام لا يُقال مررت بأجمعين، كما يُقال مررت بالظريف. وإن شئت جعلت قوله الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ رفعا.
بقوله: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
(63) وذكر أن البشرى فِي الحياة الدُّنْيَا الرؤيا الصالِحة يراها المسلم أو ترى لَهُ، وَفِي الآخرة الجنة. وقد يكون قوله: هُمُ الْبُشْرى
ما بشرهم بِهِ فِي كتابه من موعوده، فقال وَ «6» يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ فِي كَثِير من القرآن.
ثُمَّ قَالَ (لا تبديل لكلمات الله) أي لا خُلْف لوعد الله.
وقوله: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ (65) المعنى الاستئناف. ولم يقولوا هم ذاك، فيكون حكاية. فأمَّا قوله وَقَوْلِهِمْ «7» إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ فإنها كسرت لأنها جاءت بعد القول، وما كان بعد القول من (إن)
__________
(1، 2، 3) يريد بالفعل والأفاعيل خبر إنّ.
(4) أي فى نحو قولك: إنّ محمدا قائم الظريف. ويريد بصاحب الفعل اسم إنّ.
(5) يريد بالنعت التابع الشامل للبدل والتوكيد والنعت.
(6) آية 2 سورة الكهف.
(7) آية 157 سورة النساء.(1/471)
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)
فهو مكسور عَلَى الحكاية فِي قَالَ ويقولون وما صُرِفَ من القول. وأمّا قوله مَا قُلْتُ «1» لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي فإنك فتحت (أن) لأنها مفسّرة ل (ما) ، (وما) قد وقع عليها القول فنصبها وموضعها نصب. ومثله فِي الكلام:
قد قلت لك كلامًا حسنا: أن أباك شريف وأنك عاقل، فتحت (أنّ) لأنها فسرت الكلام، والكلام منصوب. ولو أردت تكرير القول عليها كسرتها. وقد تكون (أن) مفتوحة بعد القول إِذَا كَانَ القول رافعًا لَهَا أو رافعة لَهُ من ذَلِكَ أن تَقُولُ:
قولُك مذ اليوم أن الناس خارجون كما تَقُولُ: قولك مذ اليوم كلام لا يفهم.
وقوله وَلا تَقُولَنَّ «2» لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ المعنى: لا تقولنَّ لشيءٍ: إِنِّي فاعلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا بالاستثناء: إلا أن تَقُولُ: إن شاء الله. ولو أردت:
لا تقولنّ لشيء إني فاعلٌ ذَلِكَ: لا تقل إلا أن يشاء الله. كَانَ كأنه أُمر أن يقول إن شاء الله وحدها، فلا بدّ من أن مفتوحة بالاستثناء خاصة ألا ترى أنك قد تأمره إِذَا حلف فتقول: قل إن شاء الله، فلمّا أريدت الكلمة وحدها لَمْ تكن إلا مكسورة.
وقوله: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ (69) ثم قال: مَتاعٌ فِي الدُّنْيا (70) أي ذلك متاع فى الدنيا. و «3» التي فِي النحل مثله، وهو كقوله (لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ) «4» كله مرفوع بشيء مضمر قبله إمّا (هُوَ) وإما (ذاك) .
__________
(1) آية 117 سورة المائدة.
(2) آيتا 23، 24 سورة الكهف.
(3) فى قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يفلحون. متاع قليل ولهم عذاب أليم» (آية 117) .
(4) آية 35 سورة الأحقاف.(1/472)
وقوله: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ (71) والإجماع: الإعداد والعزيمة عَلَى الأمر. ونصبت الشركاء بفعل مضمر كأنك قلت: فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم. وكذلك هي فِي قراءة عبد الله. والضمير «1» هاهنا يصلح إلقاؤه لأن معناه يشا كل ما أظهرت كما قَالَ الشاعر «2» :
ورأيت زوجك فِي الوغى ... متقلِّدًا سيفًا وَرُمْحًا
فنصبت الرمح بضمير الحمل غير أن الضمير صلح حذفه لانهما سلاح يعرف ذا بذا، وفعل هَذَا مع فعل هَذَا.
وقد قرأها الْحَسَن (وشركاؤكم) بالرفع، وإِنّما الشركاء هاهنا آلهتهم كأنه أراد: أجمعوا أمركم أنتم وشركاؤكم. ولست أشتهيه لِخلافه للكتاب، ولأن المعنى فِيهِ ضعيف لأن الآلهة لا تعمل ولا تُجْمع. وقال الشاعر:
يا ليت شِعْرِي والمنى لا تنفع ... هَلْ أَغدُوَنْ يومًا وأمريِ مُجْمَعُ
فإذا أردت جمع الشيء المتفرق قلت: جمعت القوم فهم مجموعون كما قَالَ الله تبارك وتعالى (ذَلِكَ «3» يَوْمٌ مَجْمُوعٌ له الناس وذلك يوم مشهود) وَإِذَا أردت كسب المال قلت: جَمَّعت المال كقول الله تبارك وتعالى الَّذِي «4» جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ وقد يَجوز جَمَع مالا وعدَّده. وهذا من نحو قتلوا وقتّلوا.
__________
(1) يريد الفعل المحذوف العامل للنصب، وهو هنا: «ادعوا» .
(2) هو عبد الله بن الزبعرى. وانظر كامل المبرّد بشرح المرصفى 3/ 234.
(3) آية 103 سورة هود. [.....]
(4) آية 2 سورة الهمزة. وقراءة التشديد لابن عامر وحمزة والكسائي من السبعة. وقرأ الباقون بالتخفيف.(1/473)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
وقوله ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وقد قرأها بعضهم «1» : (ثُمَّ أَفْضُوا إِليّ) بالفاء. فأما قوله (اقضوا إلىّ) فمعناهُ: امضوا إِليّ، كما يُقال قد قضى فلان، يُراد: قد مات ومضى.
وأمّا الإفضاء فكأنه قَالَ: ثُمَّ توجَّهُوا إِليّ حَتَّى تصلوا «2» ، كما تَقُولُ: قد أفضت إليّ الخلافة والوجع، وما أشبهه.
وقوله: بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ (74) يقول: لَمْ يكونوا ليؤمنوا لك يا مُحَمَّد بِما كذبوا بِهِ فِي الكتاب الأوّل، يعني اللوح المحفوظ.
وقوله: قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا (77) يقول القائل: كيف أدخل ألف الاستفهام فِي قوله (أسحر هذا) وهم قد قالوا (هَذَا سِحْرٌ) بغير استفهام؟
قلت: قد يكون هَذَا من قولهم عَلَى أَنَّهُ سحر عندهم وإن استفهموا كما ترى الرجل تأتيه الجائزة فيقول: أحقّ هَذَا؟ وهو يعلم أَنَّهُ حقّ لا شك فِيهِ. فهذا وجه.
ويكون أن تزيد الألف فِي قولهم وإن كانوا لَمْ يقولوها، فيخرج الكلام عَلَى لفظه وإن كانوا لَمْ يتكلموا بِهِ كما يقول الرجل: فلان أعلم منك، فيقول المتكلم: أقلتَ أحدٌ أعلم بذا مني؟ فكأنه هُوَ القائل: أأحد أعلم بِهذا مني. ويكون عَلَى أن تَجعل القول بِمنزلة الصلة لأنه فضل فِي الكلام ألا ترى أنك تَقُولُ للرجل:
أتقول عندك مال؟ فيكفيك من قوله أن تَقُولُ: ألك مال؟ فالمعنى قائم ظهرَ القولُ أو لم يظهر.
__________
(1) نسبها ابن خالويه فى البديع إلى أبى حيوة.
(2) فى ا: «تضلوا» ويبدو أنها مصحفة عما أثبتنا. وفى ش، ج: «تملوا» .(1/474)
فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)
وقوله: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا (78) اللفت: الصرف تَقُولُ: ما لفتك عَن فلان؟ أي ما صرفك عَنْهُ.
ويقول القائل: كيف قالوا (وتكون لكما الكبرياء فى الأرض) فإنّ «1» النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صُدِّق صارت مقاليدُ أمّته ومُلْكُهم إِلَيْهِ، فقالوه عَلَى مُلك ملوكهم من التكبر.
وقوله: مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ (81) (ما) فِي موضع الَّذِي كما تَقُولُ: ما جئت بِهِ باطل. وهي فِي قراءة عبد الله (ما جِئتم بِهِ سِحر) وإنما قال (السحر) بالألف واللام لأنه جواب لِكلام قد سبق ألا ترى أنهم قالوا لِما جاءهم بِهِ موسى: أهذا سحر؟ فقال: بَلْ ما جئتم بِهِ السحر. وكل حرف ذكره متكلم نكرة فرددْتَ عليها لفظها فِي جواب المتكلم زدت فيها ألفا ولاما كقول الرجل: قد وجدت درهمًا، فتقول أنت:
فأين الدرهم؟ أو: فأرني الدرهم. ولو قلت: فأرني درهمًا، كنت كأنك سألته أن يريكَ غير ما وجده.
وَكَانَ مُجاهد «2» وأصحابه يقرءون: ما جئتم بِهِ السحرُ: فيستفهم ويرفع السحر من نِيَّة الاستفهام، وتكون (ما) فِي مذهب أيّ كأنه قَالَ: أي شيء جئتم بِهِ؟
آلسحر هُوَ؟ وَفِي حرف أُبَيّ (ما أتيتم بِهِ سحر) قَالَ الفراء: وأشكّ فِيهِ.
وقد يكون (مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر) تجعل السحر منصوبًا كما تَقُولُ: ما جئت بِهِ الباطل والزور. ثُمَّ تجعل (ما) فِي معنى جزاء و (جئتم) فِي موضع جزم إِذَا نصبت، وتضمر الفاء فى قوله إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ فيكون جوابا للجزاء. والجزاء لا بدّله أن
__________
(1) هذا جواب السؤال.
(2) وهى قراءة أبى عمرو وأبى جعفر.(1/475)
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
يُجاب بِجزم مثله أو بالفاء. فإن كَانَ ما بعد الفاء حرفًا من حروف الاستئناف وَكَانَ يرفع أو ينصب أو يجزم صلح فِيهِ إضمار الفاء. وإن كَانَ فعلا أوّله الياء أو التاء أو كَانَ عَلَى جهة فَعَل أو فعلوا لَمْ يصلح فِيهِ إضمار الفاء لأنه يُجزم إِذَا لَمْ تكن الفاء، ويرفع إِذَا أدخلت الفاء. وصلح فيما «1» قد جُزِم قبُل أن تكون الفاءُ لأنها إن دخلت أو لم تدخل فما بعدها جزم كقولك للرجل: إن شئت فقم ألا ترى أنّ (قم) مجزومة ولو لَمْ يكن فيها الفاء، لأنك إِذَا قلت إن شئت قم جزمتها بالأمر، فكذلك قول الشاعر «2» :
من يفعلِ الحسناتِ اللهُ يشكرها ... والشرُّ بالشرِّ عِند اللَّهِ مثلانِ
ألا ترى أن قولك: (الله يشكرها) مرفوع كانت فِيهِ الفاء أو لَمْ تكن، فلذلك صلح ضميرها «3» .
وقوله: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ (83) ففسر المفسرون الذرية: القليل. وكانوا- فيما بلغنا- سبعين أهل بيت.
وإنما سموا الذرية لأن آباءهم كانوا من القبط وأمهاتهم كن من بنى إسرائيل، فسموا الذرّية كما قيل لأولاد أهل فارس الَّذِينَ سقطوا إلى اليمن فسموا ذراريهم الأبناء لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم.
وقوله: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ، وإنما قال (وملئهم) وفرعون واحد لأن الملك إِذَا ذُكِرَ بخوف أو بسفر أو قدوم من سفر ذهب الوهم إِلَيْهِ وإلى من معه ألا ترى أنك تَقُولُ: قدم الخليفة فكثر الناس، تريد: بمن معه، وقدم
__________
(1) يريد فعل الأمر فإنه عندهم فعل مضارع مجزوم بلام الأمر حذفت اللام وحرف المضارعة لكثرة الاستعمال.
(2) نسبه الكاتبون على شواهد سيبويه إلى عبد الرحمن بن حسان. ورواه جماعة لكعب بن مالك الأنصارىّ. ويرى بعضهم أن الرواية: «من يفعل الخير فالرحمن يشكره» فغيره النحويون. وانظر الخزانة 3/ 644
(3) أي إضمار الفاء.(1/476)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
فغلت الأسعار لأنك تنوي بقدومه قدوم من معه. وقد يكون أن تريد بفرعونَ آل فرعون وتحذف الآل فيجوز كما قال وَسْئَلِ «1» الْقَرْيَةَ تريد أهل القرية والله أعلم. ومن ذَلِكَ قوله: يا أَيُّهَا «2» النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ.
وقوله: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً (87) كَانَ فرعون قد أَمَر بتهديم المساجد، فأُمِر موسى وأخوه أن يُتَّخذ المساجد فِي جوف الدور «3» لتخفى من فرعون. وقوله: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً إلى الكعبة.
وقوله: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا (88) ثُمَّ قَالَ موسى (ربنا) فعلت ذَلِكَ بهم (لِيُضِلُّوا) الناس (عَن سبيلك) وتقرأ (لَيِضلُّوا) هم (عَن سبيلك) وهذه لام كي.
ثُمَّ استأنف موسى بالدعاء عليهم فقال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ. يقول:
غَيِّرها. فذُكر أنها صارت حجارة. وهو كقوله مِنْ «4» قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً.
يقول: نمسخها.
قوله: وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ. يقول: واختم عليها.
قوله: فَلا يُؤْمِنُوا. كلّ ذَلِكَ دعاء، كأنه قَالَ اللَّهُمَّ فَلا «5» يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ وإن شئت جعلت (فلا يؤمنوا) جوابا لمسئلة «6» موسى عليه
__________
(1) آية 82 سورة يوسف.
(2) أول سورة الطلاق.
(3) كذا فى ش، ج.
وفى ا: «البيوت» .
(4) آية 47 سورة النساء.
(5) فالفعل (يؤمنوا) مجزوم بلا التي للدعا.
(6) أي فى قوله: اطمس وما عطف عليه. [.....](1/477)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
السَّلام إيَّاه لأن المسألة خرجت عَلَى لفظ الأمر، فتجعل (فلا يؤمنوا) فِي موضع نصب عَلَى الجواب، فيكون كقول الشاعر «1» :
يَا ناقَ سِيرِي عَنَقًا فسِيحا ... إلى سُلَيْمَان فنستريحا
وليس الجواب يسهل فِي الدعاء لأنه لَيْسَ بشرط.
وقوله: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما (89) نُسبت الدعوة إليهما وموسى كَانَ الداعي وهارون المؤمّن، فالتأمين كالدعاء.
ويقرأ»
(دعواتكما) .
وقوله: فَاسْتَقِيما أُمِرَا بالاستقامة عَلَى أمرهما والثبات عَلَيْهِ إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة. ويُقال: إنه كَانَ بينهما «3» أربعون سنة.
قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ قرأها أصحاب «4» عبد الله بالكسر عَلَى الاستئناف. وتقرأ (أنه) عَلَى وقوع الإيمان عليها. زعموا أن فرعون قالها حين ألجمه الماء.
وقوله: فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ (93) يعني بني إسرائيل أنهم كانوا مجتمعين عَلَى الإيمان بِمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يُبْعث، فلمّا بُعث كذَّبه بعض وآمن بِهِ بعض. فذلك اختلافهم. و (العلم) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وصفته.
__________
(1) هو أبو النجم فى أرجوزة يمدح فيها سليمان بن عبد الملك. والعنق ضرب من سير الإبل.
(2) تنسب هذه القراءة إلى على وأبى عبد الرحمن السلمى.
(3) أي بين هذه الإجابة من الله وتأويلها أي وقوع مضمونها وهو هلاك فرعون وقومه.
(4) هذه قراءة حمزة والكسائي وخلف.(1/478)
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
وقوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ (94) قاله تبارك وتعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يعلم أَنَّهُ غير شاك، ولم يشكك عَلَيْهِ السَّلام فلم يسأل. ومثله فِي العربية أنك تَقُولُ لغلامك الَّذِي لا يشك فِي مُلكك إياه: إن كنت عبدي فاسمع وأطع. وقال الله تبارك وتعالى لنبيه عيسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَأَنْتَ «1» قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وهو يعلم أَنَّهُ لَمْ يقله، فقال الموفق معتذرًا بأحسن العذر: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ.
وقوله: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها (98) وهي فِي قراءة أُبَيّ (فهلا) ومعناها: أنهم لَمْ يؤمنوا، ثُمَّ استثنى قوم يونس بالنصب عَلَى الانقطاع مما قبله: ألا ترى أن ما بعد (إِلا) فِي الجحد يتبع ما قبلها، فتقول: ما قام أحد إلا أبوك، وهل قام أحد إلا أبوك لأن الأب من الاحد فإذا قلت: ما فيها أحد إلا كلبًا وحمارًا، نصبت لأنها منقطعة مما قبل إلا إذ لم تكن من جنسه، كذلك كان قوم يُونُس منقطعين من قوم غيره من الأنبياء.
ولو كَانَ الاستثناء هاهنا وقع عَلَى طائفة منهم لكان رفعًا. وقد يَجوز الرفع فيها كما أن المختلف فِي الجنس قد يتبع فِيهِ ما بعد إلا ما قبل إلا كما قَالَ الشاعر:
وبلدٍ ليس به أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
__________
(1) آية 116 سورة المائدة.(1/479)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
وهذا قوة للرفع، والنصب فِي قوله: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ.
لأن اتباع الظن لا ينسب إلى العلم. وأنشدونا بيت النابغة:
... ... وما بالربع من أحد «1» إلا أوارىّ ما إن لا أُبَيِّنها قَالَ الفراء: جمع فِي هَذَا البيت بين ثلاثة أحرف من حروف الجحد: لا، وإنْ، وما. والنصب فِي هَذَا النوع المختلف من كلام أهل الحجاز، والاتباع من كلام تَميم.
وقوله: وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) : العذاب والغضب. وهو مضارع لقوله الرجز، ولعلهما لغتانِ بدّلت السِّين زايًا كما قيل الأسد والأزد «2» .
__________
(1) ما أورده للنابغة من بيتين هما:
وقفتُ فيها أُصَيْلانًا أُسائلها ... عَيَّت جوابًا وما بالربع من أحد
إِلا أَواري ما إن لا أبينها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد
وقوله: «ما إن لا أبينها» . فالرواية المشهورة: «لأياما أبينها» . وتقدم البيتان فى ص 288 من هذا الجزء.
(2) وهو أبو حى من اليمن. ومن أولاده الأنصار.
تم بحمد الله وتوفيقه طبع الجزء الأوّل من كتاب معانى القرآن للفراء ويتلوه إن شاء الله الجزء الثاني، وأوّله سورة هود(1/480)
فهرس تفسير الفرّاء
تاريخ تدوين هذا التفسير 1 ألف (اسم) والكلام على حذفها وإثباتها 2 أم الكتاب تفسير «أم الكتاب» والكلام على «الْحَمْدُ لِلَّهِ» 3 الكلام على «عَلَيْهِمْ» ولغاته وعلى (أمّ) واللغات فيه 5 قوله تعالى: «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» ووجوه الإعراب فيه 7 قوله تعالى: «وَلَا الضَّالِّينَ» ووجوه الكلام فى «لَا» 8 سورة البقرة قوله تعالى: «الم» الاختلاف فى قراءته ورسمه 9 قوله تعالى: «ذلِكَ الْكِتابُ» والكلام على اسم الإشارة ووجوه صلاحيته 10 القول فى قوله: «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» ووجوه الإعراب فيه 11 قوله تعالى: «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ» الآية، ووجوه الإعراب فيه 13 قوله سبحانه: «فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ» والقول فى إسناد الفعل إلى غير من هو له 14 قوله عز وجل: «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً» وبيان أنه مثل للفعل لا للأعيان 15 قوله تعالى: «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ» ووجوه الإعراب فيه والقراءات 16 قوله تعالى: «أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ» وما بعده من الآيات 17 قوله تعالى: «يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ» ووجوه إعرابه وقراءاته 17(1/481)
قوله تعالى: «كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ. وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ» 18 قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ» . وقوله: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ» 19 قوله سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا» وفيه وجوه من المعاني 20 قوله تعالى: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً» ووجوه المعاني والإعراب فيه 23 قوله عز من قائل: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ» ومعانى الاستواء 25 قوله سبحانه «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ» . وقوله: «وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ» وما فى ذلك من وجوه المعاني واللغة والإعراب 26 قوله تعالى: «اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ» ومعانيه والكلام على الياء 28 قوله: «وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا» ووجوه المعاني والإعراب فيه وفى أمثاله 30 قوله تعالى: «وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» الآية وفيه معنيان 31 قوله تعالى: «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً» وفيه وجوه من الإعراب 31 قوله تعالى: «وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ» وفيه وجوه من المعاني والإعراب 32 قوله سبحانه: «وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ» وفيه الكلام على ما يسميه الكوفيون واو الصرف 33 قوله سبحانه: «وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً» الآية وفيه وجوه من المعاني فى «إِذْ» 35 معنى قوله تعالى: «وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» و «أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» وفيه وجوه من المعاني فى النظر والأربعين والإتمام بعشر 36 القول فى معانى قوله تعالى: «وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ» ، وقوله:
«الْمَنَّ وَالسَّلْوى» وما فى ذلك من خلاف فيهما 36 قوله تعالى: «وَقُولُوا حِطَّةٌ» فيه وجوه من المعاني والإعراب 38(1/482)
معنى قوله تعالى. «اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ» الآية إلى قوله: «اهْبِطُوا مِصْراً» وفيه وجوه من التفسير واللغة 40 قوله تعالى: «أَتَتَّخِذُنا هُزُواً» وما فيه من المعاني والإعراب والشواهد 43 تفسير الفارض والبكر والعوان 44 الفرق بين ما الاستفهامية وأي 46 قوله تعالى: «اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها»
وتفسير الضرب فيه 48 قوله تعالى: «لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ» وفيه فى الأمانى وجوه 49 معنى «أَيَّاماً مَعْدُودَةً» ومعنى «فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» 50 تفسير قوله تعالى: «وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ» وبيان العماد فى العربية 50 الكلام على «بلى» 52 وجه الرفع فى قوله تعالى: «لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ» ووجه الجزم ومعنى أخذ الميثاق 53 قوله تعالى: «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ» ووجه الرفع فى مصدق 55 قوله تعالى: «بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ» ومذهب العرب فى شروا ونعم وبئس 56 قوله تعالى: «بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» وفيه الكلام على الجزاء بأن وإن 58 قوله سبحانه: «فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ» فيه القول فى لما وجوابها وكون الثانية وجوابها جوابا للأولى 59 قوله تعالى: «فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ» فى معناه وجهان 59 قوله تعالى: «فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ» . وقوله: «وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ» ومعنى وراء 60 قوله تعالى: «فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ» فيه الكلام على تفعلون للماضى 60 قوله تعالى: «وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ» والكلام على حذف المضاف 61(1/483)
قوله تعالى: «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ» وامتناع اليهود عن تمنى الموت 62 قوله تعالى: «قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ» ومعنى الالتفات فيه 63 قوله: «وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ» وتعاقب على وفى فى الكلام 63 قوله تعالى: «فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما» الآية فيه وجهان من الإعراب 64 قوله تعالى: «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ» ومعنى «نُنْسِها» والقراءات فيه 64 قوله تعالى: «لَمَنِ اشْتَراهُ» ووجوه الإعراب فى اللام، ومن 65 قوله تعالى: «لا تَقُولُوا راعِنا» الآية، معنى «راعِنا» من قول اليهود وتفسير (انظرنا) 69 قوله تعالى: «وَلَا الْمُشْرِكِينَ» وإعرابه 70 قوله تعالى: «أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ» فيه بحث (أم) 71 تفسير (سواء) و (هودا) 73 قوله تعالى: «مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ» الآية والمراد بخائفين 74 معنى: «قانِتُونَ» وإعراب «كُنْ فَيَكُونُ» 74 القول فى «تَشابَهَتْ» وتشّابهت، وإعراب «وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ» 75 تفسير «كلمات» و «عَهْدِي» و «مَثابَةً» 76 تفسير «وَأَمْناً» وإعراب «وَاتَّخِذُوا» وتفسير «طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ» 77 تفسير «وَمَنْ كَفَرَ» و «إِذْ يَرْفَعُ» وما فيه من إعراب وقراءة 78 قوله تعالى «إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» وإعرابه ومعناه 79 قوله تعالى: «وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ» ووجوه الإعراب فيه 80 قوله تعالى: «بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» . وقوله: «لا نُفَرِّقُ» و «صِبْغَةَ اللَّهِ» وما فى ذلك من المعاني 82(1/484)
تفسير قوله سبحانه «أُمَّةً وَسَطاً» وقوله: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» وفيه معنى وجيه 83 معنى الشطر فى الآية 84 إعراب قوله: «وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» الآية 84 تفسير قوله تعالى: «وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ» وقوله: َ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ»
وفى ص 90 أيضا 85 إعراب قولهَ يْنَ ما تَكُونُوا»
وفيه بحث أين وأمثالها متصلة بما 85 القول فى إعراب قوله: «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» وفيه كلام على «إلا» الاستثنائية 89 قوله تعالى: «وَاخْشَوْنِي» والكلام على ياء المتكلم وواو الجمع والاكتفاء بالكسرة والضمة 90 القول فى إعراب قوله تعالى: «كَما أَرْسَلْنا» وقوله: «وَاشْكُرُوا لِي» 92 قوله تعالى: «وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ» والكلام على إعرابه وما يماثله 93 قوله تعالى: «إِنَّا لِلَّهِ» وبيان أن العرب لم تمل إن مع اللام إلا فى هذا الحرف 94 تفسير قوله تعالى: «فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» وقوله: «اللَّاعِنُونَ» 95 إعراب قوله تعالى: «عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ» 96 تفسير قوله تعالى: «تَصْرِيفِ الرِّياحِ» وقوله: «يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ» وإعراب قوله: «وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ» 97 إعراب قوله تعالى: «أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ» 98 تفسير قوله سبحانه: «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا» وفيه وجوه من العربية 99 إعراب قوله تعالى: «صُمٌّ بُكْمٌ» وقوله: «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ» وفيه الكلام على «إِنَّما» و «ما» 100 تفسير وإعراب قوله تعالى: «وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ» 102(1/485)
قوله تعالى: «فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ» وقوله: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ» وفيه وجوه من الإعراب والتأويل 103 قوله تعالى: «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ»
وما يماثله فى القرآن ووجوه إعرابه وشواهده 105 تفسير قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ» 108 قوله تعالى: «فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ» وتفسيره ووجوه إعرابه 109 معنى قوله تعالى: «حَياةٌ» وقوله: «كُتِبَ» حيث ورد فى القرآن، وقوله: «الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ» 110 معنى «جَنَفاً» والكلام على صيام من قبلنا، فى قوله تعالى: «كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ»
111 إعراب «أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» و «فَعِدَّةٌ» و «فِدْيَةٌ» و «شَهْرُ رَمَضانَ» 112 تفسير قوله: «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ» . وقوله تعالى: «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ» والكلام على لام كى 113 تفسير قوله تعالى: «فَإِنِّي قَرِيبٌ» وتفسير الرفث 114 قوله تعالى: «الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ» 114 قوله تعالى: «وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ» 115 تفسير قوله تعالى: «عَنِ الْأَهِلَّةِ» . وقوله «لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ من أبوابها» وما كان تفعله قريش 115 تفسير قوله تعالى: «وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» 116 تفسير قوله تعالى: «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ» ومذهب العرب فى الإحصار 117 إعراب قوله: «فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» . وقوله: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» .
وقوله: «لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ» 118 تفسير وإعراب قوله تعالى: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ» 119(1/486)
تفسير وإعراب قوله تعالى: «فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ» الآية. فيه كلام على «لا» التبرئة 120 تفسير قوله تعالى: «فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ» وفيه ما كانت تفعله العرب فى الجاهلية 122 قوله تعالى: «وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ» فيه الكلام على أيام التشريق 122 تفسير قوله سبحانه: «وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ» 123 قوله تعالى: «وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ» 124 قوله تعالى: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ» وما فيه من العربية 124 قوله تعالى: «سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ» الآية وما فيه من وجوه العربية 125 قوله تعالى: «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا» فيه وجوه من العربية والتفسير وبحث فى الضمير المفرد أريد به الجمع 125 تفسير قوله تعالى: «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ» 131 قوله تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ» فيه كلام على الاستفهام ابتداء 132 قوله تعالى: «وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ» وفيه الكلام على الفعل الذي يتطاول 132 لحتى ثلاثة معان. وهو بحث قيم 134 قوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ» وفيه بحوث عربية 138 تفسير وإعراب قوله تعالى: «قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» الآية 141 قوله تعالى: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى» الآية 141 قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ» وما فيه من الاستفهام المقدر 142 قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ» . وقوله: «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ» الآية 143 تفسير قوله تعالى: «حَتَّى يَطْهُرْنَ» . وقوله: «مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ» 143 تفسير قوله تعالى: «فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ» . وقوله: «وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ» 144(1/487)
تفسير قوله تعالى: «بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ» 144 تفسير قوله تعالى: «تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ» 145 وجوه القراءات فى قوله تعالى: «إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ» 145 تفسير قوله تعالى: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ» 147 تفسير قوله تعالى: «وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً» . وقوله: «فَلا تَعْضُلُوهُنَّ» 148 وجوه العربية فى قوله تعالى: «الرَّضاعَةَ» . وقوله: «لا تُضَارَّ والِدَةٌ» 149 قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ» . الآية وكيف صار الخبر عن النساء 150 قوله تعالى: «وَعَشْراً» وفيه الكلام على تأنيث العدد وتذكيره 151 قوله تعالى: «مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ» 152 تفسير قوله تعالى: «لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا» معنى السر 153 الإعراب فى قوله تعالى: «عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ» 153 قوله تعالى: «مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا» وما فيه من وجوه الإعراب 154 قوله تعالى: «مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ» . وقوله: «إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ» الآية 155 قوله تعالى: «وَالصَّلاةِ الْوُسْطى» . وقوله: «وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً» 156 قوله تعالى: «غَيْرَ إِخْراجٍ» وتفسيره وفيه الكلام على قوله تعالى: «مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» 156 قوله تعالى: «ابْعَثْ لَنا مَلِكاً» وفيه بحث فى إضمار حرفين وفى الاسم بعده فعل وهو نكرة أو معرفة بعد الأمر 157 العرب لا تجازى بالنهى كما تجازى بالأمر 160 وجوه الإعراب فى قوله تعالى: «وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ» . وقوله: «وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» وفى ثبوت (أن) وسقوطها 163 بحث فى مثل (ما أنت بقائل) ومثل (إياك أن تتكلم) 164(1/488)
قوله تعالى: «فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» وفيه بحث فى (إلا) 166 قوله تعالى: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ» الآية وفيه بحث فى (كم) و (كأين) 168 قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ» الآية، إدخال العرب (إلى) فِي هذا الموضع على جهة التعجب 170 إدغام التاء فى التاء المجزومة 172 قوله تعالى: «لَمْ يَتَسَنَّهْ» وفيه وجوه من العربية 172 قوله: «وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ» إدخال الواو لنية فعل مضمر بعدها 173 قوله تعالى: «فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ» وما فى هذا اللفظ من المعنى 174 قوله تعالى: «أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ» وفيها وجوه من التفسير والعربية 175 استجاز العرب الجمع بين كلمتين من لفظ واحد، أحدهما لغو أو اختلفا معنى، أو للتأكيد 176 قوله تعالى: «فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ» وقوله: «إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ» والكلام على إضمار كان، وأن بعد إلا 178 القول فى (إن) الجزائية و (أن) 180 قوله: «لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً» 181 قوله تعالى: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا. وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا» الربا فى الجاهلية 182 قوله تعالى: «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ» 183 قوله تعالى: «إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ» وتفسير آية الدين ووجوه الإعراب فيها 183 قوله تعالى: «فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ» 188 قوله تعالى: «غُفْرانَكَ» وما فيه من الإعراب 188 تفسير قوله تعالى: «وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً» 189(1/489)
سورة آل عمران قوله
تعالى: «الْحَيُّ الْقَيُّومُ» معنى القيوم 190 قوله تعالى: «مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ» 190 قوله تعالى: «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» 191 قوله تعالى: «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ» وتفسير القراءتين 191 قوله تعالى: «آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا» فيه وجوه من الإعراب 192 الحال الذي ينصب على غير الشرط 193 الحال الذي ينصب على الشرط 194 تفسير قوله تعالى: «يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ» 194 تفسير قوله تعالى: «الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ» 195 تحول اللام بين أوّل الكلام وآخره وفيه وجوه 195 قوله تعالى: «النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» فيه ثلاثة أوجه 198 قوله تعالى: «الَّذِينَ يَقُولُونَ» فيه وجهان 198 تفسير قوله تعالى: «وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ» 199 وجوه الإعراب فى قوله تعالى: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» 199 إن شئت استأنفت «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» 200 للعرب فى الياءات فى أواخر الحروف طريقان كقوله تعالى: «أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ» 200 قوله تعالى: «أَأَسْلَمْتُمْ» وتأويله 202 قوله تعالى: «وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ» ووجوه القراءات فيه 202 قوله تعالى: «لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ» والقول فى اللام 202 قوله تعالى: «قُلِ اللَّهُمَّ» والقول فى زيادة العرب الميم فى الأسماء 203 كثرت اللهم فى الكلام 204(1/490)
قوله تعالى: «تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ» واكتفاء العرب بما ظهر فى أوّل الكلام 204 تفسير قوله تعالى: «تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ» 205 قوله تعالى: «لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ» نهى وخبر 205 قوله تعالى: «يَعْلَمْهُ اللَّهُ» جزاء وما بعده استئناف 206 قوله تعالى: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ» ما فى مذهب الذي 206 قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ» وتفسيره وقوله «ذُرِّيَّةً» فى نصبه وجهان 207 قوله تعالى: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ» ووجه إسكان العين 207 قوله تعالى: «وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا» تشديدا وتخفيفا واللغات فى زكريا 208 قوله تعالى: «هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً» الذرّية جمع ومفرد 208 قوله تعالى: «فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ» بالتذكير والتأنيث 210 قوله تعالى: «أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ» بفتح أن وكسرها ووجه ذلك 210 «يُبَشِّرُكَ» بالتخفيف والتشديد وشواهد ذلك 212 قوله تعالى: «أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ» بنصب «تُكَلِّمَ» وبرفعه ووجه ذلك 213 قوله تعالى: «وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا» فيه أعاريب 213 قوله تعالى: «فَأَنْفُخُ فِيهِ» وفيه قراءتان 214 قوله تعالى: «وَما تَدَّخِرُونَ» تعاقب الدال والذال فى تفعلون 215 وجه نصب قوله تعالى: «ومُصَدِّقاً» 216 تفسير قوله تعالى: «فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ» واللغات فى أحس 216 تفسير قوله تعالى: «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ» وورود «إِلَى» موضع (مع) ومعنى الحواريين 218 تفسير قوله تعالى: «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ» ومعنى المكر 218 تفسير قوله تعالى: «إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ» 219(1/491)
تفسير قوله تعالى: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ» وبيان أن الصلات تكون للنكرات 219 تفسير قوله تعالى: «تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ» الآية وفيه وجوه من الإعراب 220 تفسير آيات من قوله تعالى: «لِمَ تُحَاجُّونَ» إلى قوله: «لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ» 221 تفسير قوله تعالى: «وَقالَتْ طائِفَةٌ» إلى قوله: «أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ» 222 قوله تعالى: «مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ» وفيه وجوه من العربية 223 تفسير قوله تعالى: «إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً» وقوله: «تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ» فيه قراءتان 224 قوله تعالى: «وَلا يَأْمُرَكُمْ» بالنصب والرفع 224 قوله تعالى: «لَما آتَيْتُكُمْ» فيه قراءتان 225 قوله تعالى: «فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً» والكلام على التمييز 225 تفسير قوله تعالى: «إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ» 226 تفسير قوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ» الآيات 227 قوله تعالى: «تَبْغُونَها عِوَجاً» فيه وجوه من العربية 227 قوله تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً» والكلام على الباء 228 قوله تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ» وجه التأنيث فى هذه الأحرف ووجه التذكير فى مثله 228 تأويل قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ» 229 قوله تعالى: «يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ» مجزوم وما بعده مستأنف ووجه ذلك 229 قوله تعالى: «إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ» وفيه إضمار 230 قوله تعالى: «لَيْسُوا سَواءً» الآية وفى رفع «أُمَّةٌ» وجهان 231 قوله تعالى: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ» وفيه الفرق بين (ها) و (ذا) 231(1/492)
قوله تعالى: «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا» وفيه أعاريب 232 قوله تعالى: «تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ» وفيه قراءتان ووجوههما وشواهد ذلك 233 قوله تعالى: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ» وقوله: «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» 234 قوله تعالى: «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ» فيه قراءتان وتفسير قوله تعالى:
«وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» 234 قوله تعالى: «وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» وقوله: «وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا» وبيان الصرف عند الكوفيين 235 قوله تعالى: «أَفَإِنْ ماتَ» وفيه معنى الاستفهام يدخل على جزاء 236 قوله تعالى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ» الآية وتفسير ذلك 237 قوله تعالى: «بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ» 237 تفسير قوله تعالى: «حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ» وفيه الكلام على طرح الواو 238 تفسير قوله تعالى: «إِذْ تُصْعِدُونَ» وفيه الإثابة بمعنى العقاب 239 قوله تعالى: «يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ» فيه قراءتان ووجوه من الإعراب 240 قوله تعالى: «وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ» فيه: الذين يذهب بها إلى معنى الجزاء 243 قوله تعالى: «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ» جعل العرب (ما) صلة 244 قوله تعالى: «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ» وفيه قراءتان وتفسيرهما 246 قوله تعالى: «فَرِحِينَ» وفيه وجوه، وقوله: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ» وتفسير (الناس) 247 تفسير آيات: «إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ» إلى قوله: «هُوَ خَيْراً لَهُمْ» 248 تفسير قوله تعالى: «سَيُطَوَّقُونَ» وقوله: «حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ» 249 تفسير قوله تعالى: «يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا» 250 تفسير قوله تعالى: «لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا» وقوله: «اصْبِرُوا وَصابِرُوا» 251(1/493)
سورة النساء قوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» إلى قوله: «تَسائَلُونَ بِهِ» 252 تفسير قوله تعالى: «وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ» 253 تفسير قوله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى» 253 قوله تعالى: «مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ» وبيان أن هذه حروف لا تجرى (لا تصرف) 254 تفسير قوله تعالى: «ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا» 255 تفسير قوله تعالى: «وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ» وقوله: «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ» 256 تفسير آيات: «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً» «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ» «يُورَثُ كَلالَةً» 257 تفسير قوله تعالى: «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ» 258 تفسير قوله تعالى: «لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً» وقوله: «وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ» 259 تفسير قوله تعالى: «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ» الآية 260 تفسير قوله تعالى: «لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ» وقوله: «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ» وفيه الكلام على اللام 261 تفسير قوله تعالى: «نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً» 263 تفسير قوله تعالى: «وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ» 264 تفسير قوله تعالى: «فَالصَّالِحاتُ» 265 تفسير قوله تعالى: «فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ» وقوله: «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» 266 قوله تعالى: «فَساءَ قَرِيناً» وفيه الكلام على نعم وبئس 267 تفسير قوله تعالى: «لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ» 269(1/494)
تفسير قوله تعالى: «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى» وقوله: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا» ومعنى (ترى) 270 قوله تعالى: «مِنَ الَّذِينَ هادُوا» إضمار (من) فى مبتدإ الكلام 271 تفسير قوله تعالى: «مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً» 272 تفسير وإعراب قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» وقوله:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ» 272 تفسير الجبت، والنقير وإعراب: «فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً» 273 تفسير قوله تعالى: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ» وقوله: «فَانْفِرُوا ثُباتٍ» 275 قوله تعالى: «وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ» وفيه وجوه من الإعراب 275 قوله تعالى: «يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ» نصب الفعل بعد الفاء فى جواب التمني 276 قوله تعالى: «فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ»
وفيه وجوه من اللغة 277 تفسير قوله تعالى: «وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» الآية 278 قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ طاعَةٌ» وفيه مثله وجوه من الإعراب 278 تفسير قوله تعالى: «وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ» 279 تفسير قوله تعالى: «يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها» وقوله: «إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ» 280 تفسير قوله تعالى: «فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ» الآية 280 تفسير قوله تعالى «إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ» الآية 281 قوله تعالى «أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ» وفيه إضمار قد 282 تفسير قوله تعالى: «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ» . 282
تفسير قوله تعالى: «إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا» 283 قوله تعالى: «غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» فيه الرفع والنصب 283 قوله تعالى: «الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ، وقوله تعالى: «يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً» 284(1/495)
قوله تعالى: «فَلْتَقُمْ» فيه الكلام على لام الأمر 285 قوله تعالى: «طائِفَةٌ أُخْرى» إذا ذكرت اسما مذكرا لجمع جاز جمع فعله وتوحيده 285 تفسير قوله تعالى: «وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ» 286 قوله تعالى: «وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً»
وفيه أعاريب 286 قوله تعالى: «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ» 287 تفسير قوله تعالى: «إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً» 288 تفسير قوله تعالى: «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا» تفسير الخلة 289 قوله تعالى: «يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ» وتفسير قوله «خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً» 290 تفسير قوله تعالى: «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ» الآية 291 قوله تعالى: «أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ» وفيه أعاريب 292 قوله تعالى: «لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ» الآية وفيه وجوه من الإعراب 293 تفسير قوله تعالى: «قُلُوبُنا غُلْفٌ» وقوله: «ما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ» 294 قوله تعالى: «لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ» وما فى الضمير من المعنى 294 قوله تعالى: «وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ» وقوله: «فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ» وفى ذلك أعاريب 295 قوله تعالى: «وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ» وقوله: «إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ» الآية 296 سورة المائدة تفسير قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» الآية 298 تفسير قوله تعالى: «لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ» الآية 298 تفسير قوله تعالى: «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ» وفيه قراءتان وإعرابان 299 قوله تعالى: «أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» وفيه وجوه من الإعراب 300(1/496)
تفسير قوله تعالى: «وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ» الآية وفيه أعاريب 301 قوله تعالى: «وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ» الآية 302 قوله تعالى: «وَأَرْجُلَكُمْ» وجه النصب 302 قوله تعالى: «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» وقوله: «إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ» وتفسير ذلك 303 قوله تعالى: «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا» وفيه وجوه من العربية 304 قوله تعالى: «أَرْبَعِينَ سَنَةً» وجهان فى نصبها 305 تفسير قوله تعالى: «قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ» وقوله: «وَمَنْ أَحْياها» 305 تفسير قوله تعالى: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» الآية 306 قوله تعالى: «السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ» الآية فيه وجوه من العربية 306 اختيار الجمع على التثنية فى مثل «أَيْدِيَهُما» 307 قوله تعالى: «وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ» فيه وجوه للرفع 308 قوله تعالى: «وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها» الآية وفيه وجوه من الإعراب 309 قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا» الآية ووجه الرفع فى «الصَّابِئُونَ» 310 قوله تعالى: «فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ» . وقوله: «وَمُصَدِّقاً» . وقوله:
«وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ» نصبا وجزما 312 قوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا» استئناف. وقوله: «أَذِلَّةٍ» يجوز فيه النعت والقطع 313 قوله تعالى: «وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ» 313 قوله تعالى: «مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ» الآية فيه أعاريب 314 قوله تعالى: «وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ» . وتفسير قوله: «لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ» 315 قوله تعالى: «فَعَمُوا وَصَمُّوا» رفع «كَثِيرٌ» من جهتين 315(1/497)
قوله تعالى: «ثالِثُ ثَلاثَةٍ» بالإضافة 317 تفسير قوله تعالى: «وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ» . وقوله: «ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ» 318 تفسير قوله تعالى: «لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ» . وإعراب قوله: «فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ» 318 تفسير قوله تعالى: «الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ» الآية وقوله تعالى: «تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ» 319 تفسير قوله تعالى: «فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» وقوله: «أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً» 320 تفسير قوله تعالى: «لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ» وفيه حديث: «اتركونى ما تركتكم» 321 إعراب «أَشْياءَ» وفيه وجوه من العربية 321 تفسير قوله تعالى: «ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ» الآية 322 قوله تعالى: «عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» والعربُ تأمر من الصفات بعليك وعندك إلخ 322 تفسير قوله تعالى: «شَهادَةُ بَيْنِكُمْ» فيه شهادة غير المسلم على وصية المسلم فى السفر 323 قوله تعالى: «إِذْ أَيَّدْتُكَ» الآية، وتفسير الوحى إلى الحواريين 325 تفسير قوله تعالى: «هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ» ووجه القراءتين. وقوله تعالى:
«تَكُونُ لَنا عِيداً» 326 قوله تعالى: «يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ» . وقوله تعالى: «هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ» وفى ذلك أعاريب 326 سورة الأنعام تفسير قوله تعالى: «مِنْ قَرْنٍ» . وقوله: «لَجَعَلْناهُ رَجُلًا» 328 قوله تعالى: «كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» فيه أن المفتوحة فى جواب الأيمان 328 قوله تعالى: «فاطِرِ السَّماواتِ» فيه وجوه من الإعراب 328(1/498)
قوله تعالى: «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» 329 تفسير قوله تعالى: «يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ» . وقوله: «خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» 329 قوله تعالى: «وَاللَّهِ رَبِّنا» وقوله «وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ» وفيهما وجوه من العربية 330 قوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ» فيه قراءتان 331 قوله تعالى: «فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً» العرب تضمر الجزاء فى الموضع الذي يعرف فيه 331 قوله تعالى: «وَلا طائِرٍ يَطِيرُ» وسنن العرب فى ذلك 332 قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ» وفيه للعرب لغتان ومعنيان 333 قوله تعالى: «فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا» معنى (لولا) 334 تفسير قوله تعالى: «فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ» المبلس المنقطع رجاؤه 335 قوله تعالى: «يَأْتِيكُمْ بِهِ» وفيه: إذا كنيت عن الأفاعيل وحدت الكناية ولو كثرت الأفاعيل 335 تفسير قوله تعالى: «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ» 336 قوله تعالى: «أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً» وجه العربية فى فتح أن وكسرها 336 إذا صلح (هو) بدل أن جاز الكسر 337 قوله تعالى: «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ» طرح الياء لاستقبالها أل 337 قوله تعالى: «وَلا حَبَّةٍ» يجوز رفعها، وقوله «تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً» يجوز الضم والكسر 338 تفسير قوله تعالى: «قُلْ هُوَ الْقادِرُ» الآية 338 أعياد الأمم لهو إلا أمة محمد فأعيادها برّ وصلاة وتكبير وخير 339 قوله تعالى: «أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ» ، وقوله «يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى» ، وقوله «وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ» 339(1/499)
تفسير قوله تعالى: «كُنْ فَيَكُونُ» وتفسير الصور 340 الوجه فى إعراب «آزَرَ» ومعناه 340 العربية فى قوله: «جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ» الآية 341 تفسير قوله تعالى: «وَتِلْكَ حُجَّتُنا» الآية 341 تفسير قوله تعالى: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ» فيه القول فى اليسع، وتفسير قوله تعالى «فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ» 342 تفسير قوله تعالى: «وَما قَدَرُوا اللَّهَ» الآيات وفيه وجوه من العربية 343 تفسير قوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» ، وسبب ردة عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح 344 قوله تعالى: «جِئْتُمُونا فُرادى» والقول فى «فُرادى» و «تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ» 345 قوله تعالى: «فالِقُ الْإِصْباحِ» وفيه أعاريب 346 تفسير قوله تعالى: «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ» وقوله «نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ» الآية وفيه من العربية وجوه 347 قوله تعالى: «خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» فيه وجوه من الإعراب 348 تفسير قوله تعالى: «وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ» فيه وجوه من المعاني 349 تفسير قوله تعالى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ» 349 تفسير قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ» الآية 350 تفسير قوله تعالى: «يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ» وقوله «وَلِيَقْتَرِفُوا» وقوله «مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ» 351 تفسير قوله تعالى: «يُضِلُّوكَ» وإعراب قوله «هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ» 352 تفسير قوله تعالى: «وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ» وقوله «وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» 352 قوله تعالى: «سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ» 353 قوله تعالى: «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ» الآية ومعنى «حَرَجاً» 353 تفسير قوله تعالى: «يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ» وقوله تعالى «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ» الآيات 354(1/500)
العربية فى قوله تعالى: «ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى» ومعان من التفسير 355 قوله تعالى: «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ» إِذَا كَانَ الفعل فِي مذهب مصدر مؤنثًا وتقدم فعله جاز تذكيره وتأنيثه 355 قوله تعالى: «بِزَعْمِهِمْ» فيه ثلاث لغات 356 تفسير قوله تعالى: «وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» وفيه أعاريب 357 قوله تعالى: «ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ» 358 قوله تعالى: «جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ» إلى قوله «حَمُولَةً وَفَرْشاً» 359 قوله تعالى: «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» 359 تفسير قوله تعالى: «قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ» 360 قوله تعالى: «قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً» فيه بحث فى تأنيث الفعل وتذكيره 360 قوله تعالى: «حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما» الآية وتفسير «شُحُومَهُما» 363 قوله تعالى: «قُلْ تَعالَوْا» الآيات، فيها أعاريب 364 قوله تعالى: «تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ» فيه من وجوه الإعراب أن «الَّذِي» يصح أن تكون مصدرية 365 قوله تعالى: «أَنْ تَقُولُوا» منصوب من مكانين، تفسير «أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ» و «الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ» 366 قوله تعالى: «فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» فيه وجوه من الإعراب 366 قوله تعالى: «دِيناً قِيَماً» وتفسير قوله تعالى «خَلائِفَ الْأَرْضِ» 367 سورة الأعراف الكلام على إعراب أوائل السور من الحروف وهو بحث قيم 368 تفسير كهيعص، طه، يس 370 تفسير قوله: «فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ» 370(1/501)
إنذار الله النبي إنذار للامة، قد يكون الفعل للجميع فى خطاب الواحد والعكس 371 قوله تعالى: «وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ» الآية
، وفيه تقديم أحد الفعلين وقد وقعا معا 371 تفسير وإعراب قوله تعالى: «أَوْ هُمْ قائِلُونَ. فَما كانَ دَعْواهُمْ» 372 مثل معايش لا يهمز إلا إذا كانت الياء زائدة 373 يجتمع حرفان للجحد للتوكيد 374 الصفة عند الكوفيين (الظرف) وذكر ما يجوز القاؤها فيه 375 تفسير وإعراب قوله تعالى: «وَرِيشاً» 375 نصب مثل قوله تعالى: «فَرِيقاً هَدى» وجواز رفعه 376 قوله تعالى: «خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ» جواز نصبه ورفعه 377 تفسير قوله تعالى: «نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ» وقوله: «لَعَنَتْ أُخْتَها» 378 قوله تعالى: «لا تُفَتَّحُ لَهُمْ» وجواز التذكير والتأنيث فى الجمع 378 قوله تعالى: «أَصْحابُ الْأَعْرافِ» وتفسير ذلك 379 إعراب: «هُدىً وَرَحْمَةً» وتفسير قوله: «إِلَّا تَأْوِيلَهُ» وقوله:
«إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ» 380 تفسير قوله تعالى: «يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً» 381 إعراب قوله تعالى: «ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» 382 واو نسق تدخل عليها همزة الاستفهام 383 قوله تعالى: «وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً» ينصب بفعل مقدر ورفعه جائز 383 قوله تعالى: «وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ» . معنى الرجفة 384 قوله تعالى: «لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» وقوله: «وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ» 385 قوله تعالى: «افْتَحْ بَيْنَنا» فى لغة أهل عمان اقض 385 قوله تعالى: «وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ» وفيه عطف فعل على يفعل وعكسه 386(1/502)
قوله تعالى: «حَقِيقٌ عَلى» والعرب تجعل الباء فى موضع على 386 قوله تعالى: «يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ» 387 قوله تعالى: «أَرْجِهْ وَأَخاهُ» العرب يقفونَ عَلَى الْهَاء المكنيّ عنها فِي الوصل 388 قوله تعالى: «إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ» القول فى إما وأو 389 قوله تعالى: «تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ» 390 قوله تعالى: «فَوَقَعَ الْحَقُّ» وقوله: «لَأُصَلِّبَنَّكُمْ» وقوله: «وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ» 391 تفسير قوله تعالى: «أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا» 391 تفسير قوله تعالى: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ» 392 قوله تعالى: «أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ» 393 قوله تعالى: «فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ» والقول فى أشمت وشمت 394 قوله تعالى: «وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ» وفيه استجاز العرب:
اخترت رجلا واخترت منكم 395 قوله تعالى: «ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ» ثم للاستئناف 396 قوله تعالى: «مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها» اللغة فى «ظلم» 397 قوله تعالى: «إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ» وقوله: «مَعْذِرَةً» رفعا ونصبا 398 قوله: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ» وقوله: «يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ- وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ» 399 تفسير قوله تعالى: «أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ» وقوله: «أَيَّانَ مُرْساها» 399 قوله تعالى: «حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ» وقوله: «جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ» 400 قوله تعالى: «سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ» 401 قوله تعالى: «وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» المراد الآلهة 401 قوله تعالى: «وَإِخْوانُهُمْ» وقوله: «اجْتَبَيْتَها» كان الناس يتكلمون فى الصلاة 402(1/503)
سورة الأنفال قوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» 403 قوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ» فى أمر الغنائم 403 قوله تعالى: «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ» ذكر حال المسلمين ليلة بدر 404 تفسير قوله تعالى: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ» حديث الملائكة للصحابة 405 قوله تعالى: «وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ» النصب على نزع الخافض 405 قوله تعالى: «إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ» 406 قوله تعالى: «اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ» وقوله: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً» 407 تفسير قوله تعالى: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا» ودخول إبليس فى تآمر المشركين على الرسول عليه السلام 408 قوله تعالى: «إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ» بالنصب والرفع على أن (هو) اسما أو عمادا 409 قوله تعالى «إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ» 410 قوله تعالى «: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ» يجوز فتح الآخرة وكسرها 411 قوله تعالى: «حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» يجوز الإدغام والإظهار وفيه شواهد 411 ظهور إبليس فى صورة رجل وقال: إنى جار لكم 413 تفسير واعراب قوله تعالى: «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ» 413 قوله تعالى: «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ» وقوله: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً» بيان أن العرب لا تكاد تدخل نون التوكيد فى الجزاء حتى يصلوها بما 414 قوله تعالى: «لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» الآية فى كلام العرب: عسيت أذهب 414(1/504)
قوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ» ومعنى القوة، وقوله: «فَاجْنَحْ لَها» كناية عن السلم لأنها مؤنثة 416 قوله تعالى: «وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ» وقوله: «حَسْبَكَ اللَّهُ» وتفسير وإعراب ذلك 417 كان صلى الله عليه وسلم يغزى أصحابه واحد بعشرة 417 قوله تعالى: «مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى» نزلت فى يوم بدر 418 قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا» الآية فى المواريث وفيه معنى الولاية بالفتح والكسر 418 سورة براءة قوله تعالى: «بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ» الآيات وفيه نبذ العهود التي كانت مع المشركين 418 قوله تعالى: «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ» وعموم قوله: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ» 421 إعراب قوله: «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ» والكلام على ما فيه من التنازع 422 قوله تعالى: «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ» والتعجب فيه على معنى الجحد 423 قوله تعالى: «كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ» استجازوا حذف الفعل إذا أعيد الحرف بعد مضى معناه 424 قوله تعالى: «فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ» وقوله: «فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ» 425 نقض قريش عهد النبي عليه السلام بقتالهم حلفاءه ونزول الآية فيهم 425 قوله تعالى: «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ» الآية وفيها جزم ثلاثة أفاعيل، ويجوز فيها النصب والجزم والرفع 426 قوله تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ» من الاستفهام الذي يتوسط الكلام 426 قوله تعالى: «مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ» تذهب العرب بالواحد إلى الجمع والعكس 426(1/505)
المصدر يكفى من الأسماء والعكس إذا كان المعنى مستدلا عليه بها 427 قوله تعالى: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ» الإجراء عند الكوفيين الصرف والتنوين 428 تفسير قوله تعالى: «وَيَوْمَ حُنَيْنٍ» وفيه أعاريب 429 قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» تقول العرب: رجس نجس 430 تفسير قوله تعالى: «إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ» وفيه معجزة لرسول الله يوم حنين 430 وقوله تعالى: «وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ» فيه وجوه من العربية وشواهدها 431 قوله تعالى: «وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ» فى يأبى طرف من الجحد لذا دخلت إلا 433 قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ» والكلام على توحيد الضمير 434 تفسير قوله تعالى: «مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ» الضمير عند العرب لما بين الثلاثة إلى العشرة وأكثر إفرادا وجمعا وتذكير الفعل وتأنيثه 435 تفسير قوله تعالى: «كَافَّةً» والكلام فى مثلها 436 الكلام على النسيء 436 قوله تعالى: «اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ» وأمثالها 437 قوله تعالى: «جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى» 438 قوله تعالى: «انْفِرُوا» الآية، وقوله: «وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ» وما فى ذلك من الرسم وفى أمثاله 439 تفسير قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي» وفيمن نزل 440 قوله تعالى: «لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ» . وقوله: «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا» الآية 441 قوله تعالى: «أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً» أمر
لفظا وهو بمنزلة الجزاء 441 قوله تعالى: «إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا» فيه الكلام على إن وأن بعد إلا 442(1/506)
قوله تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ» وتفسير أهلها 443 قوله تعالى: «وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ» ومن نزلت فيهم 444 قوله تعالى: «وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ» وبيان وجه توحيد الضمير 445 تفسير قوله تعالى: «إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ» وبيان هذه الطائفة 445 تفسير قوله تعالى: «كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» . وقوله «وَالْمُؤْتَفِكاتِ» 446 تفسير قوله تعالى: «الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ» وقوله: «فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ» وقوله: «الْمُعَذِّرُونَ» 447 الإعراب فى قوله تعالى: «حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» 448 تفسير قوله تعالى: «الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً» الآية، فيه: أجدر وأخلق يطلبن الاستقبال 449 قوله تعالى: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ» الآية وقوله: «وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ» 450 قوله تعالى: «خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً» نزلت فيمن شهد بدرا، وتخلف عن تبوك 450 تفسير قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً» الآية، وقوله: «وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ» نزلت فيمن تخلفوا عن تبوك 451 قوله تعالى: «الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً» الآية وفيه الكلام على مسجد قباء 452 قوله تعالى: «التَّائِبُونَ» الآية على الاستئناف، والخفض والنصب على النعت والمدح 453 تفسير قوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً» نزلت فيمن سأل عنهم المسلمون ممن صلى إلى القبلة فمات 453 قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ» وقوله: «وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً» وقوله: «لِيَنْفِرُوا كَافَّةً» 454 قوله تعالى: «يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ» الآيات 455 قوله تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» الآية 456(1/507)
سورة يونس إعراب قوله تعالى: «أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً» ، وقوله: «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» الآية 457 وجه توحيد الضمير فى قوله تعالى: «وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ» 458 قوله تعالى: «وَلا أَدْراكُمْ بِهِ» وفيه: تغلط العرب فتهمز مالا يهمز 459 قوله تعالى: «إِذا لَهُمْ مَكْرٌ» الآية، إذا الفجائية 459 قوله تعالى: «الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ» الآية، يقال: عصفت وأعصفت 460 تفسير وإعراب قوله تعالى: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى» الآية 461 قوله تعالى: «جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها» فيه وجهان من الإعراب 461 قوله تعالى: «فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ» من زلت لا من زلت وفيه قراءة 462 قوله تعالى: «هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ» وقوله تعالى: «حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ» بالإفراد والجمع 463 تفسير قوله تعالى: «وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى» أن بمعنى اللام 464 للعرب فِي لكن لغتان تشديد النون وإسكانها 464 إذا ألقيت الواو من (لكن) آثرت العرب تخفيفها 465 قد يوصل الحرف من أوله وآخره 466 قوله تعالى: «ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ» 466 قوله تعالى: «ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ» . الآن حرف بني عَلَى الألف واللام لَمْ تخلع منه 467 إيراد الكلام على مذهب فعل كما قالوا: نهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عَن قيل وقال» 468 قوله تعالى: «هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» فيه قراءتان ووجوه من العربية 469 قوله تعالى: «وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ» الآية وقوله: «الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ» 470(1/508)
العرب ترفع النعوت إِذَا جاءت بعد الأفاعيل فِي إنّ 471 قوله تعالى: َهُمُ الْبُشْرى»
الرؤيا الصالحة. وقوله: «إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ» استئناف 471 قوله تعالى: «مَتاعٌ فِي الدُّنْيا» وأمثاله مرفوع بمضمر 472 قوله تعالى: «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ» الضمير هاهنا يصلح إلقاؤه 473 قوله تعالى: «أَسِحْرٌ هذا» وجه الاستفهام هنا وفى شبهه 474 قوله تعالى: «ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ» فيه الرفع والنصب 475 تفسير قوله تعالى: «فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ» ومعنى الذرية هنا 476 تفسير قوله تعالى: «رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ» الآية ومعنى دعاء موسى عليه السلام 477 كيف نسبت الدعوة لموسى وهارون والداعي موسى إلخ 478 بنو إسرائيل كانوا مجتمعين على الإيمان بمحمد فلما بعث آمن بعض وكذب آخرون 478 قوله تعالى: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ» 479 قوله تعالى: «فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ» لولا للتحضيض 479 قوله تعالى: «وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ» ومعنى الرجس هنا 480(1/509)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
[الجزء الثاني]
بسم الله الرحمن الرحيم
ومن سورة هود
قوله: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [1] .
رَفَعْتَ الكتاب بالهجاء الَّذِي قبله، كأنَّك قلت: حروف الهجاء هذا القرآن. وإن شئت أضمرت لَهُ ما يرفعه كأنّك قلت: الر هذا الكتاب.
وقوله (ثُمَّ فُصِّلَتْ) بالحلال والحرام. والأمرُ والنهي. لذلك جاء قوله (أَلَّا تَعْبُدُوا) [2]
ثم قال (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) [3] .
أي فُصِّلت آياته ألَّا تعبدوا وأن استغفروا. فأن فِي موضع نصب بإلقائك الخافض «1» .
وقوله: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ [5] .
نزلت فِي بعض مَن كَانَ يَلْقَى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِما يُحبُّ، وينطوي لَهُ على العداوة والبغض. فذلك الثَّنْيُ هُوَ الإخفاء. وقال الله تبارك وتعالى أَلا حِينَ يستغشون ثيابهم يعلم الله ما يُخفونَ من عداوة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ) «2» حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ «3» عَنْ رَجُلٍ أَظُنُّهُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ (تَثْنُونِي صُدُورُهُمْ) وهو فِي العربية بِمنزلة تَنثني كما قال عنترة:
__________
(1) وهو الباء والأصل: بألا تعبدوا.. وأن استغفروا. وانظر الطبري.
(2) سقط ما بين القوسين فى ا. ومحمد هو ابن الجهم راوى الكتاب.
(3) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي توفى سنة 149 هـ. وانظر غاية النهاية تحت رقم 1959.(2/3)
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
وقولَك للشيء الَّذِي لا تناله ... إذا ما هُوَ احلولى أَلا ليتَ ذاليا «1»
وهو من الفعل: افعوعلت.
وقوله: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها [6] فمستقرها: حَيْثُ تأوي ليلًا أو نَهارًا. ومستودَعها:
موضعها الَّذِي تَموتُ فِيهِ أو تُدْفَن.
وقوله: لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سَاحِرٌ مبين [7] .
(وسِحْرٌ مُبِينٌ) . فمن قَالَ: (سَاحِرٌ «2» مُبِينٌ) ذهبَ إلى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قولهم. ومَن قال: (سِحْرٌ) ذهبَ إلى الكلام.
(حَدَّثَنَا «3» مُحَمَّدٌ قَالَ) حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو إِسْرَائِيلَ «4» عَنِ الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي رَزِينٍ «5» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ فِي ثَلاثَةِ مَوَاضِعَ سَاحِر: فِي آخِرِ الْمَائِدَةِ «6» وَفِي يُونُسَ «7» وَفِي الصَّفِّ «8» .
قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَمْ يَذْكُرِ الَّذِي «9» فِي هُودٍ. وَكَانَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ يَقْرَأُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ وَيَجْعَلُ هَذَا رَابِعًا يَعْنِي فِي هُودٍ.
وقوله: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا [11] فِي موضع نصب بالاستثناء من قوله: (وَلَئِنْ «10» أَذَقْناهُ) يعنى
__________
(1) قبله مطلع القصيدة. وهو:
ألا قاتل الله الطلول البواليا ... وقاتل ذكراك السنين الخواليا
وانظر مختار الشعر الجاهلى 380.
(2) الأولى: (ساحر) قراءة حمزة والكسائي وخلف والثانية: (سحر) قراءة الباقين.
(3) سقط ما بين القوسين فى ا.
(4) هو إسماعيل بن خليفة الكوفي مات سنة 169 هـ. وانظر الخلاصة. [.....]
(5) هو لقيط بن صبرة. وهو من الصحابة كما فى الخلاصة.
(6) فى الآية 110.
(7) ورد فى يونس فى الآيات 2، 76، 79.
(8) فى الآية 6.
(9) . 2: «التي»
(10) فى الآية 10(2/4)
الْإِنْسَان ثُمَّ استثنى من الْإِنْسَان لأنه فِي معنى الناس، كما قَالَ تبارك وتعالى: (وَالْعَصْرِ «1» إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) فاستثنى كثيرًا من لفظِ واحدٍ لأنه تأويل جِمَاع.
وقوله- عَزَّ وَجَلَّ-: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [12] .
يقول: يضيق صدرك بِما نوحيه إليك فلا تُلقيه إليهم مخافة أن يقولوا: لولا أنزل عليك كنزٌ. فإن فِي قوله: (أَنْ يَقُولُوا) دليلٌ على ذَلِكَ. وهي بِمنزلة قوله: (يُبَيِّنُ «2» اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) و (من) تحسن فيها ثُمَّ تُلْقَى، فتكون فِي موضع نصب كما قَالَ- عَزَّ وَجَلَّ: (يَجْعَلُونَ «3» أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) أَلا ترى أنَّ (مِنْ) تحسن فِي الْحَذَر، فإذا ألقيت انتصب بالفعل لا بإلقاء (من) كقول الشاعر «4» :
وأغفرُ عوراء الكريم اصطناعَه ... وأُعْرض عَن ذات اللئيم تَكَرُّمَا
وقوله: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [13] ثم قال جلّ ذكره: (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) [14] ولم يقل: لك وقد قَالَ فِي أوَّلِ الكلام (قُلْ) ولم يقل: قولوا وهو بِمنزلة قوله: (عَلى «5» خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) .
وقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها [15] ثم قال: (نُوَفِّ) لأن المعنى فيها بعد كانَ. وَكَانَ «6» قد يبطل فِي المعنى لأن القائل يقول: إن كنت تعطينى سألتك، فيكون كقولك: إن
__________
(1) فى أول سورة العصر.
(2) خاتمة سورة النساء.
(3) الآية 19 سورة البقرة.
(4) هو حاتم الطائي. وهو من قصيدة يتمدح فيها بمكارم الأخلاق. وقوله: «اصطناعه» فالرواية المشهورة:
«ادخاره» والعوراء الكلمة القبيحة. وانظر الخزانة فى الشاهد التاسع والسبعين بعد المائة.
(5) الآية 83 سورة يونس. وهو يريد بالتمثيل أنه إذا أسند إلى الرئيس فعل ذهب الوهم إلى من معه. وانظر ص 476 ج 1 من هذا الكتاب.
(6) فى ا: «كأن كان» يريد أن (كان) في الآية فى حكم المزيدة، فكأن فعل الشرط (يريد) فهو مضارع كالجواب فقد توافقا من هذه الجهة.(2/5)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
أعطيتني سألتك. وأكثر ما يأتي الجزاء على أن يتَّفق هُوَ وجوابه. فإن قلت: إن تفعل أفعل فهذا حسن. وإن قلت: إن فعلت أفعل كان مستجازا. والكلام إن فعلتَ فعلتُ. وقد قَالَ فِي إجازته زُهَير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلْنَه ... ولو نالَ أسباب السَّماء بسُلَّم «1»
وقوله: (وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) يقول: من أراد بعمله من أهل الْقِبلة ثواب الدُّنْيَا عُجِّلَ لَهُ ثوابُه ولم يُبخس أي لَمْ يُنْقَص فِي الدُّنْيَا.
وقوله: [أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ [17] (فالذي على «2» البينة من ربه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) يعني جبريل «3» عَلَيْهِ السَّلَام يتلو القرآن، الْهَاء للقرآن.
وتَبيانُ ذَلِكَ: ويتلو القرآن شاهد من الله (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) رفعتَ الكتاب بِمِن.
ولو «4» نصبت على: ويتلو من قبله كتابَ موسى (إِماماً) منصوب على «5» القطع من (كِتابُ مُوسى) فِي الوجهين. وقد قيل فى قوله: (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) : يعني الإنجيل يتلو القرآن، وإن كَانَ قد أُنْزِلَ قبله. يذهب إلى أَنَّهُ يتلوه بالتصديق. ثُمَّ قَالَ: ومن قَبْلِ الإنجيل كتاب موسى.
ولم يأت لقوله: (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) جواب «6» بيّن كقوله فى سورة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَفَمَنْ كانَ»
عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) وربما تركت العرب جواب
__________
(1) هو من معلقته.
(2) سقط ما بين القوسين فى ش، ج [.....]
(3) فى ا: «جبرئيل» وهو لغة فيه.
(4) جواب لو محذوف أي لجاز.
(5) أي على الحال.
(6) والجواب المحذوف أو الخبر: كمن كان يريد الدنيا كما فى البيضاوي.
(7) الآية 14(2/6)
الشيء المعروف معناهُ وإن تُرِكَ الجواب قَالَ الشَّاعِر «1» :
فأقسمُ لو شَيْء أتانا رَسولُه ... سِوَاك ولكن لَمْ نجد لك مَدْفَعا
وقال الله- تبارك وتعالى وهو أصدق من قول الشاعر-: (وَلَوْ أَنَّ «2» قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) فلم يؤت «3» لَهُ بِجوابٍ والله أعلم. وقد يفسره بعض النحويين يعني أن جوابه «4» : (وَهُمْ يكفرون ولو أنّ قرآنا) والأوَّل أشبه بالصواب. ومثله: (وَلَوْ تَرى «5» إِذِ الْمُجْرِمُونَ) (وَلَوْ يَرَى «6» الَّذِينَ ظَلَمُوا) وقوله فِي الزمر: (أَمَّنْ «7» هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) ولم يؤت لَهُ بِجواب. وكفى «8» قوله: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) من ذَلِكَ. فهذا مما تُركَ جوابه، وكفى منه ما بعده، كذلك قَالَ فِي هود: (مَثَلُ «9» الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا) ولم يقل: هَلْ يستوون. وَذَلِكَ أن الأعمى والأصمَّ من صفة واحد والبصير والسميع من صفة واحدٍ كقول القائل: مررتُ بالعاقل واللبيب وهو يعني واحدًا. وقال الشاعر «10» :
وما أدْرِي إِذَا يمَّمْتُ وجهًا ... أريدُ الخير أيُّهما يليني
أألخير الَّذِي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي لا يأتلينى
__________
(1) أي امرؤ القيس. يريد: لو شىء أتانا رسوله سواك دفعناه بدليل قوله: ولكن لم نجد لك مدفعا. وفي الديوان 242: «أجدك لو شىء ... »
(2) الآية 31 سورة الرعد.
(3) أي أن الجواب محذوف. وهو (لكان هذا القرآن) .
(4) هذا على أن جواب الشرط قد يتقدم وهو مذهب كوفى. وعند غيرهم أنه دليل الجواب.
(5) الآية 12 سورة السجدة. والجواب محذوف تقديره: لرأيت أمرا فظيعا.
(6) الآية 93 سورة الأنعام والجواب محذوف تقديره: لرأيت أمرا عظيما.
(7) الآية 9 سورة الزمر.
(8) فالجواب تقديره: كالعاصى. والمراد نفى استوائهما كما نفى استواء الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
(9) فى الآية 24 [.....]
(10) انظر ص 231 من الجزء الأول من هذا الكتاب.(2/7)
أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
قَالَ: أيُّهما وإنما ذكر الخير وحده لأن المعنى يُعرف: أن المبتغي للخير مُتّق للشر وكذلك قَوْل الله جل ذكره: (سَرابِيلَ «1» تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) [أي] وتقي البرد. وهو كذلك وإن لَمْ يُذكر.
وقوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) فيقال: مِن أصناف الكفار. ويُقال:
إن كلَّ كافر حِزْب.
وقوله: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ [20] .
هم رءوس الْكَفَرة الَّذِينَ يُضلون. وقوله: (مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) على وجهين. فسَّره بعض المفسرين: يضاعف لَهُم العذاب بِما كانوا يستطيعون السمع «2» ولا يفعلون. فالباء حينئذ كَانَ ينبغي لَهَا أن تدخل، لأنه قَالَ: (وَلَهُمْ «3» عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) فِي غير موضع من التنزيل أدخلت فِيهِ الباء، وسقوطها جائز كقولك «4» فِي الكلام: بأحسن ما كانوا يعملونَ وأحسنَ ما كانوا يعملون. وتقول فِي الكلام: لأجزيَّنك بِما عملت، وما عملت. ويُقال: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كانوا يبصرون: أي أضلَّهُم الله عَن ذَلِكَ فِي اللوح المحفوظ.
وقوله: (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ) [22] كلمة كانت فِي الأصل بِمنزلة لا بُدَّ أنَّك قائمٌ ولا محالة أنَّك ذاهب، فجرت على ذَلِكَ، وكثر استعمالهم إيَّاها، حَتَّى صَارت بِمنزلة حقًّا ألا ترى أن العرب تَقُولُ:
لا جَرَمَ لآتينك، لا جرمَ قد أحسنت. وكذلك فسّرها المفسرونَ بِمعنى الحقِّ. وأصلها من جرمت
__________
(1) الآية 81 سورة النحل.
(2) سقط في ا.
(3) الآية 10 سورة البقرة.
(4) الأولى: كقوله تعالى. فإن الاستعمالين واردان فى الكتاب العزيز فالأول فى الآية 96 سورة النحل، والثاني فى الآية 7 سورة العنكبوت.(2/8)
أي كسبت الذنب وجَرَّمته. وليس قول من قَالَ إنّ جَرَمت كقولك: حَقُقت أو حُقِقت بشيء وإنَّما لبس على قائله قول الشاعر «1» :
ولقد طَعنْتُ أبا عُيَيْنة طَعْنَةً ... جرَمت فزارةُ بعدها أن تغضبا
فرفعوا (فزارة) قالوا: نجعل الفعل لفزارة كأنه بِمنزلة حُقَّ لَهَا أو حقَّ لَهَا أن تغضب وفزارة منصوبة فِي قول الفراء أي جَرَمَتهم الطعنةُ أن يغضبوا.
ولكثرتها فى الكلام حذفت منها الميم فبنو فزارة يقولون: لا جَرَ أنك قائم. وتوصل من أوَّلها بذا، أنشدني بعضُ بني كلاب:
إن كلابًا وَالِدِي لاذا جَرَمْ ... لأَهْدِرَنَّ اليوم هدرًا صادقا «2»
هدر المعنَّى ذي الشقاشيق اللَّهُمَّ «3» وموضع أن مرفوع كقوله:
أحقًّا عبادَ الله جرأة محلق ... علي وقد أعييت عاد وتبعا
وقوله: وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ [23] .
معناهُ: تَخْشَعوا لربِّهم وإلى ربِّهم. وربَّما جعلت العرب (إلى) فِي موضع اللام. وقد قَالَ الله عزّ
__________
(1) هو أسماء بن الضريبة. وقيل: عطية بن عفيف. وقوله: «أن تغضبا» كذا فى الأصول. والرواية:
«يغضبوا» وقبله:
يا كرز إنك قد قبلت بفارس ... بطل إذا هاب الكمأة وجببوا
كان كرز قد طعن أبا عيينة حصن بن حذيفة الفزاري فى يوم الحاجر فقتل به فرثاه الشاعر. وقوله: «جببوا» أي فروا ونفروا من القتال. وانظر الخزانة 4/ 310، واللسان فى المادة.
(2) «هدرا صادقا» كذا فى الأصول، وهو لا يستقيم فى الرجز المعروف عن العرب. وقد كتبها بعض الفضلاء «هدرا فى النعم» ولم أقف على سنده. وهدر البعير ترديد صوته فى حنجرته.
(3) المعنى: فحل الإبل الذي حبس أو رغب عن ضرابه. والشقاشيق جمع شقشقة وهى كالرئة تخرج من فم البعير إذا هاج واغتلم. وأصله الشقاشق فزاد الياء. واللهم: الذي يلتهم كل شىء: يفتخر أنه من كلاب، وأنه سيصول في أقرانه كما يصول الفحل الهائج(2/9)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
وجلّ: (بِأَنَّ «1» رَبَّكَ أَوْحى لَها) وقال: (الْحَمْدُ «2» لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) وقال: (يَهْدِيهِمْ «3» إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) وقال: (فَأَوْحى «4» إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) وقد يَجوز فِي العربية أن تَقُولَ: فلان يُخْبِت إلى الله تريد: يفعل ذَلِكَ بوجهه إلى الله لأن معنى الإخبات الخشوع، فيقول: يفعله بوجهه إلى الله ولله. وجاء فِي التفسير: وأَخْبتوا فَرَقا «5» من الله فمن يشاكل معنى اللام ومعنى إلى إذا أردت بِهِ لمكان هذا ومن أجل هذا.
وقوله: (مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) [27] رفعَتَ الأراذل بالاتِّباع «6» وقد وقع الفعل فِي أول الكلام على اسمه. ولا تكادُ العرب تجعل المردود بإلا إلا على المبتدأ لا على راجع ذكره. وهو جائز. فمن البين الَّذِي لا نظر فِيهِ أن تَقُولُ: ما قام احد إلا زيد. وإن قلت: ما أحدٌ قام إلا زيد فرفعت زيدًا بِما عاد فِي فعل أحد فهو قليل وهو جائز. وإنَّما بَعُد على المبتدأ لأنه كناية، والكناية لا يُفرق فيها بين أحدٍ وبين عبد الله، فلمّا قبح أن تَقُولَ: ما قام هُوَ إلا زيد، وحسن: ما قام أحد إلا زيد تبيّن ذَلِكَ لأن أحدًا كأنه لَيْسَ فِي الكلام فحسُن الرد على الفعل. ولا يُقال للمعرفة أو الكناية أحد إذ شاكل «7» المعرفة كأنه «8» لَيْسَ فِي الكلام ألا ترى أنك تَقُولُ ما مررت بأحد إلا بزيد (فكأنك «9» قلت: ما مررت إلا بزيد) لأن أحدًا لا يُتَصوّر فِي الوهم أَنَّهُ مَعْمود «10» لَهُ. وقبيح أن تَقُولَ: لَيْسَ أحد مررت بِهِ إلا بزيد لأن الْهَاء لها صورة كصورة
__________
(1) الآية 5 سورة الزلزلة
(2) الآية 43 سورة الأعراف
(3) الآية 175 سورة النساء
(4) الآية 13 سورة إبراهيم
(5) أي خوفا
(6) الظاهر أنه يريد أنه مرفوع فى المعنى بالاتباع في قوله: «اتبعك» يريد أنه فاعل الاتباع فى الحقيقة وإن كان الفعل واقعا على (الذين) اسم الموصول فهو اسمه. [.....]
(7) أي الكناية
(8) أي كأن أحدا.
(9) سقط ما بين القوسين فى ش.
(10) في ا: «مصمود» والصمد والصمد: القصد(2/10)
المعرفة، وأنت لا تَقُولُ: ما قمت إلا زيد فهذا وجه قبحه. كذلك قَالَ: (ما نَراكَ) ثُمَّ كأنه حذف (نراك) وقال: (ما اتّبعك إلا الذين هم أراذلنا) فان على هذا ما ورد عليك إن شاء الله:
(بادِيَ الرَّأْيِ) لا تَهمز (بادِيَ) لأن المعنى فيما يظهرُ لنا [و «1» ] يبدو. ولو قرأت «2» (بادىء «3» الرأي) فهمزت تريد أوّل الرأي لكان صوابًا. أنشدني بعضهم:
أضحى لخالي شبهي بادي بدي ... وصار للفحل لساني ويدي «4»
فلم يهمز ومثله مما تقوله العرب فِي معنى ابدأ بِهذا أوّل، ثُمَّ يقولون. ابدأ بِهذا آثرًا ما وآثِر ذي أثيرِ (وأثير «5» ذي أثير) وإثرَ ذى أثير، وابدأ بهذا أوَّل ذاتِ يدين وأدْنَى دَنِيّ. وأنشدونا:
فقالوا ما تريد فقلت ألهو ... إلى الإصباح آثِر ذى أثير «6»
وقوله: بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ [27] مثل قوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ «7» إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) لأنَّهم كذبوا نوحًا وحده، وخرج على جهة الجمع، وقوله (فَإِلَّمْ «8» يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) فلكم أريد بِهَا النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله: (فَاعْلَمُوا) ليست للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إنَّما هي لكفّار مكة ألا ترى أنه قال (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) .
وقوله: (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) .
__________
(1) زيادة من اللسان فى (بدأ) و (بدا) .
(2) قرأ بالهمز أبو عمرو.
(3) كذا في ا. وفى ش، ج: «بادى بابتداء الرأى» وفيها تحريف.
(4) فى ا: «شبه» فى مكان «شبهى» يريد أن ظاهره فى الشبه لخاله، فى الفعل باليد أو اللسان فهو ينزع إلى الفحل أي إلى أبيه، وفي اللسان (بدا) أنه تعدى شرخ الشباب وصارت أعماله أعمال الفحولة والكهول.
(5) ما بين القوسين فى ب.
(6) هذا البيت من قصيدة لعروة بن الورد. كان قد سبى امرأة من كنانة وعاشرها مدة طويلة حتى كان له منها ولد. ثم عرفها أهلها وافتدوها منه بمال وتحينوا سكره فى ذلك، فلما أيقن أنه سيفارقها طلب أن يلهو بها ليلته. وانظر الأغانى (الدار) 3/ 87.
(7) أول سورة الطلاق.
(8) الآية 14 سورة هود.(2/11)
يعني الرسالة. وهي نعمة ورحمة. وقوله: (فَعُمِّيَتْ عليكم) قرأها يَحْيَى بن وثّاب والأعمش وَحَمْزَة «1» . وهي فِي قراءة أُبَيّ (فعمَّاهَا عَلَيْكُمْ) وسمعت العرب تَقُولُ: قد عُمِّيَ عليَّ الْخَبَر وَعَمِيَ عليَّ بِمعنى واحد. وهذا مِمَّا حوّلت العرب الفعل إِلَيْهِ وليس لَهُ، وهو فِي الأصل لغيره ألا ترى أن الرجل الَّذِي يَعْمَى عَن الخبر أو يُعَمَّى عَنْهُ، ولكنّه فِي جوازه مثل قول العرب:
دخل الخاتم فِي يدي والخُفّ فِي رِجْلي، وأنت تعلم أن الرجل التي تُدخل فِي الخفّ والأصبع فِي الخاتِم. فاستخفّوا بذلك إذا «2» كَانَ المعنى معروفًا لا يكُون لذا فِي حال، ولذا فِي حال إنَّما هُوَ لواحد. فاستجازوا ذَلِكَ لِهذا. وقرأه العامّة (فعميت) وقوله (أَنُلْزِمُكُمُوها) العرب تسكّن الميم التي من اللزوم فيقولون: أَنُلْزِمْكمُوهَا. وَذَلِكَ أن الحركات قد توالت فسَكنت الميم لحركتها وحركتين بعدها وأنَّها مرفوعة، فلو كانت منصوبة لَمْ يُسْتَثْقَلْ فتخفَّفَ. إنَّما يستثقلون كسرة بعدها ضمةٌ أو ضمةً بعدها كسرة أو كَسْرَتينِ متواليتين أو ضمَّتينِ متواليتين. فأمَّا الضمَّتان فقوله: (لَا يَحْزُنُهُمُ «3» ) جزموا النون لأن قبلها ضمَّة فخففت كما قَالَ (رُسْل) «4» فأمّا الكسرتان فمثل قوله الإبل إذا خُفّفت. وأمّا الضمة والكسرة فمثل قول الشاعر:
وناعٍ يُخَبِّرْنَا بِمُهْلَك سَيّدٍ ... تَقَطَّعَ «5» من وجدٍ عَلَيْهِ الْأَنَامِلُ
وإن شئتَ تُقطَّع. وقوله فِي الكسرتين:
إذا اعوججن قلت صاحب قوّم «6»
__________
(1) وكذلك قرأها الكسائي وحفص عن عاصم.
(2) ا: «إذ» [.....]
(3) الآية 103 سورة الأنبياء.
(4) ب: «وأما» .
(5) ضبط فى ا: «تقطع» بصيغة الماضي.
(6) هذا رجز بعده:
بالدون أمثال السفين العوم
قال الأعلم: «والدو: الصحراء. وأراد بأمثال السفين رواحل محملة تقطع الصحراء قطع السفين البحر» وانظر سيبوية 2/ 297.(2/12)
وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)
يريدُ صاحبي فإنّما يستثقل الضم والكسر لأن لمخرجيهما مؤونة على اللسان والشفتين تنطمّ «1» الرَّفعة بِهما فيثقل الضمَّة ويُمالُ أحد الشِّدْقين إلى الكسرة فترى ذَلِكَ ثقيلًا. والفتحة تَخرج من خَرْقِ الفم بلا كُلْفة.
وقوله: وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ [30] .
يقول: من يَمنعني من الله. وكذلك كل «2» ما كَانَ فِي القرآن منه فالنصر على جهة المنع.
وقوله: فَعَلَيَّ إِجْرامِي [35] .
يقول: فَعَليّ إثمي. وجاء فِي التفسير فَعَلَيَّ آثامي، فلو قرئت: أجرامي على التفسير كَانَ صوابًا.
وأنشدني أَبُو الجراح:
لا تَجعلوني كذوي الأجرام ... الدَّهْمَسِيَّيْنِ ذوِي ضِرغام «3»
فجمع الْجُرْم أجرامًا. ومثل ذلك (وَاللَّهُ «4» يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) و (أَسْرَارهم) وقد قُرئ بِهما «5» . ومنه (وَمِنَ «6» اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) و (أدبار السّجود) فمن قَالَ: (إِدْبَارَ) أراد المصدر. ومن قَالَ (أسرار) أراد جَمْع السِّر.
وقوله: (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) [36] يقول: (لا تستَكِنْ ولا تَحْزَن) .
وقوله: (بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) [37] كقوله (ارْجِعُونِ «7» ) يَخْرج على الجمع ومعناهُ واحد على ما فسَّرت لك من قوله (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) لنوح وحده، و (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) .
__________
(1) ش: «وضم» .
(2) سقط فى ا.
(3) «الدهمسيين» نسبة إلى الدهمسة وهى السرار أي الذين يتسترون لخبثهم. وضرغام علم. يريد آل هذا الرجل.
(4) الآية 26 سورة محمد.
(5) قرأ بكسر الهمزة حفص وحمزة والكسائي وخلف. وقرأ الباقون بفتحها.
(6) الآية 40 سورة ق. قرأ نافع وابن كثير وحمزة وأبو جعفر وخلف بكسر الهمزة، والباقون بفتحها.
(7) الآية 99 سورة المؤمنين.(2/13)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
وقوله: وَفارَ التَّنُّورُ [40] هو تنّور الخابر: إذا فار الماء من أَحرّ مكان فِي دارك فهي آية العذاب فأسر بأهْلِكَ. وقوله (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) والذكر والأنثى من كل نوع زوجان. وقوله (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) حَمَلَ معه امرأة لَهُ سِوَى التي هلكت، وثلاثةَ بَنينَ ونسوتهم، وثَمانين إنسانًا سوى ذَلِكَ. فذلك قوله (وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) و (الثمانون «1» ) هُوَ القليل.
وقوله: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ [41] (إن شئت جعلت مجراها ومرساها) فِي موضع رَفع بالياء كما تَقُولُ: إجراؤهَا وإرسَاؤَهَا بسم الله وبأمر الله. وإن شئت جعلت (بِسْمِ اللَّهِ) ابتداء مكتفيًا بنفسه، كقول القائل عند الذبيحة أو عند ابتداء المأكل وشبهه: بسم الله ويكون (مجريها ومرسيها) فِي موضع نصب يريد بسم الله فِي مجراها وَفِي مرساها. وسمعت العرب تَقُولُ:
الحمد لله سِرَارَكَ «2» وإهلالك «3» ، وسُمع منهم الحمدُ لله ما إهلالَك إلى سرارك يريدون ما بين إهلالك إلى سرارك.
والمجرى والمرسى ترفع ميميهما قرأ بذلك إِبْرَاهِيم النَّخْعِيّ والحسن وأهل المدينة. حَدَّثَنَا مُحَمَّد قَالَ:
حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو معاوية «4» عَن الأعمش عَن مسلم «5» بن صبيح عَن مسروق أَنَّهُ قَرأها (مَجْراها) بفتح الميم و (مرسها) بضم الميم. قَالَ: وَحَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَغَيْرُهُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ رَجُلٍ قَدْ سَمَّاهُ عَنْ عَرْفَجَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الله بن مسعود قرأها (مجراها) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَرَفْعِ الْمِيمِ مِنْ مُرْسِيهَا.
وقرأ مجاهد (مُجْرِيها ومُرسِيها) يَجعله من صفات الله عَزَّ وَجَلَّ، فيكون فِي مَوْضع خفض فِي الإعراب لأنه معرفة. ويكون نَصْبًا لأن مثله قد يكون نكرة لحسن الألف واللام فيهما ألا ترى
__________
(1) ب: «فالثمانون) .
(2) سرار القمر خفاؤه فى أواخر الشهر. وإهلاله حيث يظهر هلاله. يقال هذا عند رؤية الهلال.
(3) سرار القمر خفاؤه فى أواخر الشهر. وإهلاله حيث يظهر هلاله. يقال هذا عند رؤية الهلال. [.....]
(4) هو محمد بن خازم الضرير مات سنة 195 هـ كما فى الخلاصة.
(5) هو أبو الضحى العطار الكوفي توفى فى خلافة عمر بن عبد العزيز كما فى الخلاصة.(2/14)
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
أنك تَقُولُ فِي الكلام: بسم الله المجريها والمرساها. فإذا نزعت منه الألف واللام نصبته «1» . ويدلك على نكرته قوله: (هذا «2» عارِضٌ مُمْطِرُنا) وقوله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ «3» عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) فَأضافوهُ إلى معرفة، وجعلوهُ نعتًا لنكرة. وقال الشاعر «4» :
يا رُبَّ عابِطِنا لو كَانَ يأْمُلكم ... لا قى مباعدةً منكم وحرمانا
وقال الآخر:
وَيَا رب هاجي مِنْقَرٍ يبتغي بِهِ ... ليَكْرُم لَمّا أعوزته المكارِمُ
وسمع الْكِسَائي أعرابيًّا يقول بعد الفطر: رُبّ صائمه لن يصومه وقائمه لن يقومه.
وقوله: (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ [43] (قالَ) نوحٌ عَلَيْهِ السَّلَام (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) فَمَنْ فِي موضع نصب لأن المعصوم خِلاف للعاصم والمرحوم معصوم. فكأنه نصبه بِمنزلة قوله (مَا لَهُمْ بِهِ «5» مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ) ومَن استجازَ رفع الاتباع أو الرفعَ فِي قوله:
وبلدٍ لَيْسَ بِهِ «6» أنيسُ ... إلَّا الْيَعَافِيرُ وإلّا العيس
لم يجزله الرفع فِي (مَن) لأن الَّذِي قَالَ: (إِلَّا اليعافير) جعل أنيس الْبَرّ اليعافير والوحوش، وكذلك قوله (إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ) يقول: علمهم ظنّ وأنت لا يجوزُ لك فِي وجه أن تَقُولَ: المعصوم عَاصِم.
ولكن لو جعلت العاصم فِي تأويل معصوم كأنك قلت: لا معصوم اليوم من أمر الله لَجازَ رفع (مَن) ولا تنكرن أن يخرج المفعول على فاعل ألا ترى قوله (مِنْ «7» ماءٍ دافِقٍ) فمعناه والله أعلم: مدفوق
__________
(1) على أنه سال.
(2) الآية 24 سورة الأحقاف.
(3) الآية 24 سورة الأحقاف.
(4) هو جرير من قصيدة يهجو فيها الأخطل
(5) الآية 157 سورة النساء.
(6) فى ا: «بلد ليس بها» وبلد محرف عن بلدة كما هى رواية سيبويه 1/ 365. واليعافير أولاد الظباء واحدها يعفور. والعيس بقر الوحش لبياضها.
(7) الآية 6 سورة الطارق.(2/15)
وقوله (فِي عِيشَةٍ «1» راضِيَةٍ) معناها مرضيَّة، وقال الشاعر «2» :
دعِ المكارمَ لا ترحل لِبُغْيتها ... واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي
معناهُ المكسوّ. تستدلّ على ذَلِكَ أنك تَقُولُ: رضيتُ هذه المعيشة ولا تقول: رَضِيَتْ ودُفِق الماء ولا تَقُولُ: دَفَق، وتقول كُسِيَ العريان ولا تَقُولُ: كسا. ويقرأ (إِلَّا مَنْ رُحِم) أيضًا «3» .
ولو قيلَ لا عَاصِم اليوم من أمر الله إِلَّا من رُحِمَ كأنَّك «4» قلت: لا يعصم «5» اللهُ اليوم إِلَّا من رُحِمَ ولم نسمع «6» أحدًا قرأ بِهِ.
وقوله: (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) [44] وهو جبل بحضَنَين «7» من أرض الموْصِل ياؤه مشدّدة وقد حدِّثتُ أن بعض «8» القراء قرأ (عَلَى الْجُودِي) بإرسال الياء. فإن تكن صحيحة فهي مما كَثُر بِهِ الكلام عند أهله فخُفِّف، أو يكون قد سمي بفعل أنثى مثل حُطيِّ وأصِرّي وصَرِّي، ثُمَّ أُدخلت عَلَيْهِ الألف واللام. أنشدني بعضهم- وهو المفضّل-:
وكفرتَ قومًا هُمْ هَدَوْكَ لأقدِمي ... إذ كَانَ زَجْرَ أبيك سأسأ واربق «9»
__________
(1) الآية 21 سورة الحاقة.
(2) هو الحطيئة. والبيت من قصيدة يهجو فيها الزبرقان بن بدر التميمي.
(3) سقط فى ا.
(4) كذا فى ا. وفى شىء: «فإنك» . ويصح أن يكون جواب لو بإسقاط الفاء.
(5) ب: «يعصم» . [.....]
(6) فى الكشاف أنه قرىء به. ولم يذكر القارئ.
(7) كذا فى الأصول. ولم أقف عليه فى البلدان. وقد يكون: «بحصنين» تثنيه حصن لما يتحصن به. وفى القاموس أن حصنين بلد وقلعة بوادي لية ولية فى بلاد العرب وليس فى الموصل. ولم يعين البلد ولم يعرف أين هوه.
(8) هو الأعمش برواية المطوعى كما فى الإتحاف.
(9) «أقدمى» يقولها الفارس لفرسه يأمرها بالإقدام فى الحرب، وفى الحديث فى يوم بدر أنه سمع صوت يقول:
أقدم حيزوم وحيزوم فرس جبريل عليه السلام، وقد جعل هذا زجرا والمعروف فى زجر الفرس اجدم. وسأسأزجر الحمار. يقول كفرت قوما علموك الغزو ورشحوك للسيادة، وقد كنت قبل تركب الحمار وترعى الغنم. وقوله: اربق أي اربط الغنم فى حبل يجمعها.(2/16)
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
وأنشدني بعض بني أسَد:
لَمَّا رأيت أنّها فِي حُطّي ... وفَتكت فِي كذبي ولَطِّي «1»
والعرب إذا جعلت مثل حُطّي وأشباهه اسمًا فأرادوا أن يغيِّروه عَن مذهب الفعل حوّلوا الياء ألفًا فقالوا:
حُطَّا، أصِرًّا، وصِرَّا. وكذلك ما كَانَ من أسماء العجم آخره ياء مثل ماهي وشاهي وشُنِّي حوَّلوه إلى ألف فقالوا: ماها وشاها وشنَّا. وأنشدنا «2» بعضهم:
أتانَا حِمَاسٌ بابن ماها يسوقه ... لِتُبغِيه خيرًا وَلَيْسَ بفاعلِ
(وَحالَ «3» بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) أي حالَ بين ابن نوح وبين الجبل الماء.
وقوله: (يا أَرْضُ «4» ابْلَعِي) يُقالُ بَلِعَتْ وبَلَعَتْ.
وقوله: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [46] الَّذِي وعدتك أن أنجيهم ثُمَّ قَالَ عَزَّ وجلّ:
(إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) (وَعَامَّةُ الْقُرَّاءِ «5» عَلَيْهِ) حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: وَحَدَّثَنِي حِبَّانُ «6» عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِذَلِكَ يَقُولُ: سُؤَالُكَ إِيَّايَ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ. وَعَامَّةُ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ. (حَدَّثَنَا «7» الْفَرَّاءُ) قَالَ: وَحَدَّثَنِي «8» أَبُو اسحق الشَّيْبَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو رَوْقٍ «9» عَنْ مُحَمَّدِ «10»
__________
(1) تقدم هذا الرجز ببعض تغيير مع صلة له فى الجزء الأول ص 369.
(2) ا: «أنشد» .
(3) هذا فى الآية 43.
(4) فى الآية 44.
(5) سقط ما بين القوسين فى ا.
(6) ش: «حسان» .
(7) سقط ما بين القوسين فى ش.
(8) هو سليمان بن أبى سليمان فيروز مات سنة 138 كما فى الخلاصة.
(9) هو عطية بن الحارث الهمداني الكوفي كما فى الخلاصة.
(10) كانت وفاته سنة 131 هـ. [.....](2/17)
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
بْنِ حُجَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «1» يَقْرَأُ (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) (حَدَّثَنَا «2» الْفَرَّاءُ) قَالَ وَحَدَّثَنِي «3» ابْنُ أَبِي يَحْيَى عَنْ رَجُلٍ قَدْ سَمَّاهُ قَالَ، لَا أَرَاهُ إِلَّا ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَيْفَ أَقْرَؤُهَا؟ قَالَ (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) وقوله: (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ويُقرأ: تسأَلَنيِّ بإثبات الْيَاء وتشديد النون ويَجوز أن تقرأ (فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ) بنصب النون، ولا توقعها إلا على (ما) وليس فيها ياء فِي الكتاب والقراء قد اختلفوا فيما يكون فِي آخره الياء وتُحذف فِي الكتاب: فبعضهم يُثبتها، وبعضهم يلقيها من ذلك (أَكْرَمَنِ) «4» و (أَهانَنِ) «5» (فَمَا آتَانِ «6» اللهُ) وهو كثيرٌ فِي القرآن.
وقوله: (بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) [48] يعني ذُرِّية من معه من أهل السعادة. ثم قال: (وَأُمَمٌ) من أهل الشقاء (سَنُمَتِّعُهُمْ) ولو كانت (وَأُمَمًا سَنُمَتِّعهُمْ) نصبًا لجازَ توقع عليهم «7» (سَنُمَتِّعُهُمْ) كما قَالَ (فَرِيقاً «8» هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) .
وقوله: (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ [49] ) يصلح مكانها (ذَلِكَ) مثل قوله (ذلِكَ «9» مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) والعرب تفعل «10» هذا فِي مصادر الفعل إذا لَمْ يذكر مثل قولك: قد قَدِمَ فلان، فيقول الآخر: قد فرحت بِهَا وبه. فمَن أنّث ذهب بها إلى القدْمة، ومن ذكر ذهب إلى القدوم.
وهو مثل قوله (ثُمَّ تابُوا «11» مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا) .
__________
(1) وهى قراءة الكسائي
(2) ش: «حدثنى به»
(3) ش: «حدثنى به»
(4) الآية 15 سورة الفجر
(5) الآية 16 سورة الفجر
(6) الآية 36 سورة النمل
(7) ش: «أن توقع»
(8) الآية 30 سورة الأعراف
(9) الآية 100 سورة هود
(10) ش: «مثل هذا»
(11) الآية 153 سورة الأعراف(2/18)
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
وقوله: (مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ) يقول: لَمْ يكن عِلْمُ نوح والأمَمِ بعده من علمك ولا علم قَومك (مِنْ قَبْلِ هذا) يعني القرآن.
وقوله: يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً [52] يقول: يجعلها تَدِرُّ عليكم عند الحاجة إلى المطر، لا أن تَدِرّ ليلًا ونَهارًا. وقوله (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) ذكروا أَنَّهُ كَانَ انقطعَ عنهم الولد ثلاث سنين. وقال (قُوَّةً) لأن الولد والمال قوة.
وقوله: إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [54] كذَّبوه ثُمَّ جعلوه مختلِطًا «1» وَادَّعَوْا أنَّ آلهتهم هى التي خبلته لعيبه آلهتهم. فهنالك قَالَ: إني أُشهدُ الله وأُشهدكم أني برىء منها.
وقوله: وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً [57] رُفِع: لأنه جاء بعد الفاء. ولو جُزِمَ كَانَ كما قَالَ (مَنْ «2» يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ) كَانَ «3» صوابًا. وَفِي قراءة عبد الله (وَلَا تَنْقُصُوهُ) جزمًا.
ومعنى لا تضرّوهُ يقول: هلاككم إذا أهلككم لا ينقصه شيئا.
و (عاد) مُجْرًى «4» فِي كل القرآن لَمْ يُختلف فِيهِ. وقد يُتْرك إجراؤه، يُجعل اسمًا للأُمَّة التي هُوَ منها، كما قَالَ الشاعر:
أحقًّا عبادَ الله جرأة محلق ... علي وقد أعييت عاد وتبّعا
وسمع الكسائىّ بعض العرب يقول: إن عادَ وَتَبَّعَ أمَّتان.
وقوله: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [64] .
نصبت صالحًا وهودًا وما كَانَ على هذا اللفظ بإضمار (أرسلنا) .
__________
(1) يقال: اختلط:؟؟؟ عقله.
(2) الآية 186 سورة الأعراف. والجزم قراءة حمزة والكسائي وخلف كما فى الاتحاف.
(3) هذه الجملة بدل من قوله: «كان كما قال..» [.....]
(4) أي مصروف(2/19)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
وقد اختلف القراء فى (ثمود) فمنهم من أجراهُ فِي كلّ حال. ومنهم من لَمْ يُجرِهِ فِي حال.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنِي قيس عَن أبى إسحق عَن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخمىّ عَن أبيه أَنَّهُ كَانَ لا يُجري (ثَمود) فِي شيء من القرآن (فقرأ «1» بذلك حَمْزَةُ) ومنهم من أجرى (ثمود) فِي النصب لأنّها مكتوبة بالألف فِي كل القرآن إلا فِي موضع واحد (وَآتَيْنا «2» ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) فأخذ بذلك الْكِسَائي فأجراها فِي النصب ولم يُجرها فِي الخفض ولا فِي الرفع إِلَّا فى حرف واحد: قوله (أَلا إِنَّ «3» ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) فسألوهُ «4» عَن ذَلِكَ فقال:
قرئت فِي الخفض «5» من الْمُجْرَى وقبيح أن يَجتمعَ الحرف مرتين فِي موضعين ثُمَّ يَختلف، فأجريته لقربه منه.
وقوله: كَفَرُوا رَبَّهُمْ [68] جاء فِي التفسير: كفروا نعمة ربهم. والعربُ تَقُولُ: كفرتك.
وكفرت بك، وشكرتك وشكرتُ بك وشكرت لك. وقال الْكِسَائي: سمعتُ العرب تَقُولُ:
شكرتُ بالله كقولِهم: كفرت بالله.
وقوله: فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ [63] يقول: فما تزيدونني غير تَخسير لكم وتضليل لكم، أي كُلّما اعتذرتُم بشيء هُوَ يزيدكم تَخسيرًا. وليس غير تخسير لي أنا. وهو كقولك للرجل ما تزيدني إلَّا غضبًا أي غضبا عليك.
وقوله: سَلاماً قالَ سَلامٌ [69] قرأها «6» يحيى ابن وَثَّاب وإبراهيم النخعي. وذُكِرَ عَن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قرأ بِهَا. وهو فِي المعنى سلام كما قالوا حِلّ وَحَلَالٌ، وحرم وحرام لأن
__________
(1) سقط ما بين القوسين فى ا
(2) الآية 59 سورة الإسراء
(3) الآية 68 سورة هود
(4) ا: «فسألته»
(5) كذا فى الأصول. والأولى: «النصب»
(6) وهى قراءة حمزة والكسائي(2/20)
التفسير جاء: سَلَّمُوا عَلَيْهِ فردّ عليهم. فترى أن معنى سِلْم وسلام واحد والله أعلم. وأنشدني بعض العرب:
مررنا فقلنا إيه سِلْم فسلَّمت ... كما اكتلَّ بالبرق الغمامُ اللوائحُ «1»
فهذا دليلٌ على أنَّهم سَلَّموا فردَّت عليهم. وقرأهُ العامّة (قالوا سلاما قال سلام) نصبَ الأول ورفع الثاني. ولو كانا جَميعًا رفعًا ونصبًا كَانَ صوابًا. فمن رَفعَ أضمرَ (عليكم) وإن لَمْ يظهرها كما قَالَ الشاعر:
فقلنا السَّلام فاتقت من أميرها ... فما كَانَ إلا وَمْؤها بالحواجب «2»
والعربُ تَقُولُ: التقينا فقلنا: سَلامٌ سلام. وحُجَّة أخرى فِي رفعه الآخر «3» أن القوم سَلَّمُوا، فقال حين أنكرهم: هُوَ سلام إن شاء الله فمن أنتم لإنكاره إيَّاهم. وهو وجه حسن. ويُقال فِي هذا المعنى: نحن سِلْم لأن التسليم لا يكون من قومٍ عَدُوّ. وقوله: (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) أن فِي موضع نصب توقع «4» (لَبِثَ) عليها، كأنك قلت: فما أبطأ عَن مجيئه بعجل: فلمَّا ألقيت الصفة وقع الفعلُ عليها. وقد تكون رفعًا تجعل لبث فعلًا لأن كأنك قلت فما أبطأ مجيئُه «5» بعجلٍ حنيذ: والحنيذ: ما حَفَرت لَهُ فِي الأرض ثُمَّ غممته. وهو من فعل أهل البادية معروف. وهو محنوذ فى الأصل «6» فقيل: حنيذ، كما قيل: طَبيخ للمطبوخ، وقتيل للمقتول.
وقوله: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ [70] أي إلى الطعام. وذلك أنها كانت
__________
(1) إيه: طلب للحديث. واكتل الغمام: تبسم وهو تكشفه بضوء البرق
(2) أميرها: الذي له عليها الولاية والأمر يريد زوجها، ومؤها: إشارتها
(3) ش: «الأخرى» أي الكلمة الأخيرة
(4) ا: «بوقوع»
(5) فى الأصول: «عن مجيئه» وهو سهو من الناسخ
(6) ش: «الأرض»(2/21)
سُنَّة فِي زمانِهم إذا ورد عليهم القوم فأُتُوا بالطعام فلم يَمسّوه ظنّوا أنَّهم عَدُوٌّ أو لصوص. فهناك أوجس فِي نفسه خِيفةً فرأَوا ذَلِكَ فِي وجهه، فقالوا: لا تَخَفْ، فضحكت عند ذَلِكَ امرأته وكانت قائمة وهو قاعد (وكذلك هي فِي قراءة عبد الله: وامرأته قائمة وهو قاعد) مثبتة «1» فضحكت فبشرت بعد الضحك. وإنَّما ضحكت سرورًا بالأمن «2» فأتبعوها البشرى بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب.
وقد يقول بعض المفسرين: هذا مقدّم ومؤخّر. والمعنى فِيهِ: فبشَّرناها بإسحاق فضحكت بعد البشارة وهو مِمّا قد يَحتمله الكلام والله أعلم بصوابه. وأما قوله (فَضَحِكَتْ) : حاضت فلم نسمعهُ من ثقة وقوله (يَعْقُوب) يرفع وينصب وَكَانَ حَمْزَةُ ينوي بِهِ «3» الخفض يريد: ومن وراء إسحاق بيعقوب.
ولا يَجوز الخفض إلا بإظهار الباء. وَيَعْقُوب هاهنا ولد الولد والنصب فِي يَعْقُوب بِمنزلة قول الشَّاعِر «4»
جئني بِمثل بني بَدْرٍ لقومهم ... أَوْ مثلَ أُسرة منظور بن سَيَّار
أو عامِرَ بن طُفَيْل فِي مُركَّبِه ... أو حارثًا يوم نادى القومُ يا حارِ
وأنشدني بعضُ بني باهلة:
لو جيت بالْخُبْزِ لَهُ مُيَسِّرًا ... والبيضَ مطبوخًا معًا والسُّكَّرا «5»
لم يرضه ذلك حتى يسكرا
__________
(1) سقط ما بين القوسين فى ش [.....]
(2) كذا فى ش. وفى الطبري: «بالأمن منهم لما قالوا لابراهيم: لا تخف «وفى ا: «بالأمر»
(3) ا: «بها» أي بالكلمة
(4) هو جرير والبيتان من قصيدة فى ديوانه يهجو فيها الأخطل وبين البيت الأول والثاني بيت فى الديوان 242 وهو:
أو مثل آل زهير والقنا قيض ... والخيل فى رهج منها وإعصار
وقد ورد البيت الأول فى الكتاب لسيبوية 1/ 48
(5) فى الأصول: «بالخير» فى مكان «بالخبز» والظاهر ما أثبت(2/22)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
فنصب على قولك: وجِئتَ بالسكَّر، فلمّا لَمْ يُظهر الفعل مع الواو نصب كما تأمر الرجل بالمرور على أخيه فتقول: أخاكَ أخاكَ تريد: امرر به.
وقوله: هؤُلاءِ بَناتِي [78] قَالَ بعضهم: بَنات نفسه. ويُقال: بنات قومه. وَذَلِكَ جائزٌ فِي العربية لأن الله عَزَّ وَجَلَّ قَالَ (النَّبِيُّ «1» أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) وهو فِي بعض القراءة (وهو أب لَهُم) فهذا من ذلك.
وقوله: يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [72] وَفِي قراءة عبد الله (شَيْخٌ) فذكروا أنّها كانت بنت ثَمان وتسعين سنة، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام أكبر منها بسنة. ويُقال فِي قوله (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ) البركات: السعادة.
وقوله: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [74] ولم يقل: جادلنا. ومثله فِي الكلام لا يأتي إلا بفعل ماض كقولك. فلمّا أتاني أتيته. وقد يَجوز فلمّا أتاني أثبُ عَلَيْهِ كأنه قَالَ: أقبلت أَثِب عَلَيْهِ. وجداله إيَّاهم أَنَّهُ حين ذهبَ عَنْهُ الخوف قَالَ: ما خَطْبُكم أيُّها المرسلون، فلمّا أخبروهُ أنَّهم يريدونَ قوم لوط قَالَ: أتُهلكونَ قومًا فيهم لوط قالوا: نحن أعلم بمن فيها.
وقوله أَوَّاهٌ [75] دعَّاء ويقال: هُوَ الَّذِي يتأوَّهُ من الذنوب. فإذا كانت مِنْ يتأوَّه «2» من الذنوب فهي من أوِّهْ لَهُ وهي لغة فِي بني عَامِر أنشدني أَبُو الجراح:
فأوِّهْ من الذكرى إذا ما ذكرتها ... ومن بُعد أرض بيننا وسماء
__________
(1) الآية 6 سورة الأحزاب
(2) أي من هذا الفعل وفى ا: «ممن»(2/23)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
أَوِّهْ على فَعِّلْ يقول فِي يَفْعَلُ «1» : يتأوَّه. ويَجوز فِي الكلام لِمَنْ قَالَ: أَوَّهْ مقصورًا «2» أن يقول فِي يتفعّل يتأَوَّى ولا يقولها بالهاء.
وقوله: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [80] يقول: إلى عشيرة.
وقوله: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ [81] قراءتنا من أسريتُ بنصب الألف وهمزِهَا. وقراءة أهل «3» المدينة (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) من سَريت. وقوله: (بِقِطْعٍ) يقول: بظلمة من آخر الليل. وقوله: (إِلَّا امْرَأَتَكَ) منصوبة بالاستثناء: فأسْر بأهلك إلا امرأتَك. وقد كَانَ الْحَسَن يَرْفعها «4» يعطفها على (أَحَدٌ) «5» أي لا يلتفت منكم أحد إلّا امرأتك وليسَ فِي قراءة عبد الله (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) وقوله:
(إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) .
لَمَّا أَتَوْا لُوطًا أخبروهُ أن قومهم «6» هالكونَ من غَدٍ فِي الصبح، فقال لَهُم لوط: الآن الآن.
فقالت الملائكة: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ.
وقوله: مِنْ سِجِّيلٍ [82] يقال: من طين قد طُبخ حَتَّى صار بمنزلة الأرحاء (مَنْضُودٍ) يَقول:
يتلو بعضهُ بعضًا عليهم. فذلك نَضْدُه.
وقوله: مُسَوَّمَةً [83] زَعموا أنَّها كانت مخطَّطة بِحمرة وسواد فِي بياض، فذلك تسويمها أي
__________
(1) يريد المضارع. والأولى: «يتفعل» كالذى بعده
(2) ش: «مهموزا» ويريد بالقصر سكون الهاء وحبسها عن الحركة والهاء فى هذه الصيغة للسكت فلذلك جاء المضارع: يتأوى، بخلاف الصيغة الأولى
(3) سقط ما بين القوسين فى ا
(4) كذا فى الأصول. والأولى: «قومه»
(5) هى قراءة نافع وابن كثير وأبى جعفر
(6) هى أيضا قراءة «ابن كثير وأبى عمرو»(2/24)
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
علامتها «1» . ثم قال (مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) يقول: من ظالِمي أمَّتك يا مُحَمَّد. ويُقال «2» : ما هى من الظالمين يعنى قوم لوط الّذى لم يكن تخطئهم.
وقوله: إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ [84] يقول: كثيرةً أموالُكم فلا تنقصوا المكيالَ وأموالكم كثيرة يُقال رخيصةً أسعارُكم (ويُقال «3» ) : مدَّهِنين «4» حَسنةً سحنتكم.
وقوله: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ [86] .
يقول: ما أبقى لكم من الحلال خيرٌ لكم، ويقال بقيّة الله خير لكم أي مراقبة الله خير لكم.
وقوله: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ويقرأ (أَصَلاتُكَ «5» تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ [87] معناهُ: أَوْ تأمرك أن نترك أن تفعل (فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) فأن مردودة «6» على (نترك) .
وفيها وجه آخر تجعل الأمر كالنهي كأنه قَالَ: أصلواتك تأمرك بذا وتنهانا عَن ذا. وهي حينئذ مردودة عَلى (أن) الأولى لا إضمارَ فِيهِ كأنّك قلت: تنهانا أن نفعل فِي أموالنا ما نشاء كما تَقُولُ:
أضْرِبُكَ أن تسيئ كأنه قَالَ: أنْهَاكَ بالضربِّ عَن الإساءة. وتقرأ (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنَا مَا تَشَاء) و (نشاء) «7» جميعا.
__________
(1) ب: «علاماتها»
(2) ا: «بل» [.....]
(3) سقط ما بين القوسين في ا
(4) هذا الضبط من ا. والادهان استعمال الدهن أو التطلى به، وكان المعنى من الأول فان الدهن علامة الخصب، مقتضى الذي فى القاموس ضبطه: «مدهنين» بفتح الدال وتشديد الدال المفتوحة اسم مفعول من دهنه، وهم الذين تظهر عليهم آثار النعيم
(5) هى قراءة حفص وحمزة والكسائي وخلف كما فى الإتحاف
(6) يريد أنها متعلقة بنترك لا بتأمر
(7) فى الكشاف أنها قراءة ابن أبى عبلة(2/25)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
وقوله: (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) استهزاء منهم بِهِ.
وقوله: لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي [89] .
يقول: لا تحملنكم عداوتي أن يُصيبكم. وقد يكون: لا يكسبنكم. وقوله: (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) يقول: إنَّما هلكوا بالأمس قريبًا. ويُقال: إن دارهم منكم قريبة وقريب.
وقوله: أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا [92] : رميتم بأمر الله وراء ظهوركم كما تَقُولُ: تعظّمون أمر رهطي وتتركونَ أن تعظّموا الله وتخافوه.
وقوله: مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ [93] (مَن) فِي موضع رفع إذا جعلتها استفهامًا. ترفعها بعائد ذكرها. وكذلك قوله (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) وإِنَّما أدخلت العرب (هُوَ) فِي قوله (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) لأنَّهم لا يقولونَ: مَنْ قَائِمٌ وَلَا مَن قاعد، إنَّما كلامهم: من يقوم ومن قامَ أو من القائِم، فلمَّا لَمْ يقولوهُ لِمعرفة أو لِفعل أو يفعل أدخلوا هُوَ مع قائِم ليكونا جَميعًا فِي مقام فَعَل ويفعل لأنَّهما يقومان مقام اثنين. وقد يَجوز فِي الشعر وأشباهه من قائِم قَالَ الشاعر»
:
مَنْ شَارب مُرْبِح بالكَأس نَادَمني ... لا بالحَصُورِ وَلا فيها بسوَّار
وربما تهيَّبت العرب أن يستقبلوا مَنْ بنكرة فيخفضونها فيقولون: مِنْ رجلٍ يتصدَّق فيخفضونه على تأويل: هَل مِن رجلٍ يتصدق. وقد أنشدونا هذا البيت خَفْضًا ورفعًا:
مِنْ رسول إلى الثريّا ثأنى ... ضقت ذرعا بهجرها والكتاب «2»
__________
(1) هو الأخطل. والحصور: البخيل الممسك. والسوار: الذي تسور الخمرة فى رأسه سريعا فهو يعربد ويثب على من يشاربه. ويروى: «وشارب» . ويروى: «بسآر» والسآر: الذي يسئر فى الشراب أي يبقى منه
(2) من أبيات لعمر بن أبى ربيعة وانظر الديوان 430(2/26)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
وإن جعلتهما مَنْ ومِن «1» فِي موضع (الَّذِي) نصبت كقوله (يعلم «2» المفسد من المصلح) وكقوله (وَلَمَّا يَعْلَمِ «3» اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) .
وقوله: مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ [100] فالحصيدُ كالزرع المحصُود. ويُقال: حَصَدهم بالسِّيف كما يُحصد الزرع.
وقوله: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ [105] كتب بغير الياء وهو فِي موضع رفع، فإن أثبتَّ فِيهِ الياء إذا وصلت القراءة كَانَ صَوَابًا. وإن حذفتها فِي القطع والوصل كان صوابا. قد قرأ بذلك «4» القرّاء فمر حَذفها. إذا وصل قَالَ: الياء ساكنة، وكلّ ياء أو واو تسكنَان وما قبل الواو مضموم وما قبل الياء مكسور فإن العرب تحذفهما وتَجتزئ بالضمة من الواو، وبالكسرة من الياء وأنشدَ فِي بعضُهم:
كفاكَ كفٌّ ما تُليق دِرْهمًا ... جُودًا وأخرى تُعطِ بالسيفِ الدَّمَا «5»
ومَن وصل باليَاء وسكتَ بِحذفها قَالَ: هِيَ إذا وَصلتُ فِي موضع رفع فأثبتها وهي إذا سَكتُّ عليها تسكن فحذفتها. كما قيل: لَمْ يَرْم ولم يَقض. ومثله قوله: (مَا كُنَّا «6» نَبْغِ) كُتبت بحذف الياء فالوجه فيها أن تثبت الياء إذا وصَلت وتحذفها إذا وقفت. والوجه الآخر أن تَحذفها فِي القطع والوصل، قرأ بذلك حمزة. وهو جائز.
__________
(1) هما بدلان من الضمير فى (جعلتهما) يريد: (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) . وهذا مقابل قوله فيما سبق: «فى موضع إذا جعلتها استفهاما»
(2) الآية 220 سورة البقرة
(3) الآية 142 سورة آل عمران
(4) قرأ بإثبات الياء وصلا نافع وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر. وأثبتها فى الوصل والوقف ابن كثير ويعقوب وقرأ الباقون بحذف الياء. وصلا ووقفا
(5) يقال. ألاقه: حبسه. يصفه بالجود والغلظة على عدوه.
(6) الآية 64 سورة الكهف. وقد أثبت الياء فيها وصلا نافع وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر. وأثبتها فى الوصل والوقف ابن كثير ويعقوب. وحذفها وصلا ووقفا الباقون(2/27)
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
وقوله: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [106] فالزفير أوَّلُ نَهِيقِ الحمار وشبهه، والشهيق من آخره.
وقوله: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ [107] ، [108] .
يقول القائل: ما هَذَا الاستثناء وقد وعد الله أَهْلَ النار الخلود وأهلَ الجنَّة الخلود؟ ففي «1» ذَلِكَ معنيان أحدهما أن تَجْعَله استثناء يَستثنيه وَلَا يفعله كقولك: والله لأضربنّكَ إِلَّا أن أرى غير ذَلِكَ، وعزيمتك على ضربه، فكذلك قال (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) ولا يشاؤه والله أعلم، والقول الآخر أن العرب إذا استثنت شيئًا كبيرًا «2» مع مثله أو مع ما هُوَ أكبرُ منه كَانَ مَعْنى إلَّا ومعنى الواو سواء، فمن ذَلِكَ قوله (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) سِوَى ما يشاء من زيادة الخلود فيجعل (إِلَّا) مكان (سِوَى) فيصلح. وكأنّه قَالَ: خالدينَ فيها مقدارَ ما كانت السموات وَكَانَت الأرض سوى ما زادهم من الخلود «3» [و] الأبد. ومثله فِي الكلام أن تَقُولُ: لي عَلَيْكَ ألف إلا الألفين اللذين من قِبَل فلان أفلا ترى أَنَّهُ فِي المعنى: لي عَلَيْكَ سوى الألفين. وهذا أحَبّ الوجهين إليَّ، لأن الله عَزَّ وَجَلَّ لا خُلْف لوعده، فقد وصل الاستثناء بقوله (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) فاستدل على أن الاستثناء لهم بالخلود غير منقطع عنهم.
وقوله: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ [111] قرأت القراء بتشديد (لَمَّا) وتَخفيفها وتشديد «4» إن وتَخفيفها) فمن قَالَ (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا) جعل (ما) اسمًا للناس كما قَالَ (فَانْكِحُوا «5» مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) ثُمَّ جعَلَ اللام التي فيها جَوَابًا لإنّ، وجعل اللام الّتى فى (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) لاما دخلت على نيَّة يمين فيها: فيما بين ما وصلتها كما تَقُولُ هذا مَن ليذهبنَّ، وعندى ما لغيره خير منه.
__________
(1) شروع فى الجواب عن السؤال [.....]
(2) سقط فى ا
(3) زيادة من تفسير الطبري فى روايته لعبارة الفراء
(4) سقط ما بين القوسين فى ا
(5) الآية 3 سورة النساء(2/28)
ومثله (وَإِنَّ «1» مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) وأمّا مَن شدّد (لَمّا) فإنه- والله أعلم- أراد: لِمن مَا لَيُوَفِّينَّهم، فلمّا اجتمعت ثلاث «2» ميمَات حذف واحدة فبقيت اثنتان فأدغمت فِي صاحبتها كما قال الشاعر:
وإنى لممّا أُصدر الأمرَ وَجْهَهُ ... إذا هُوَ أعيا بالسبيل مصادرُه «3»
ثُمَّ يُخفّف «4» كما قرأ بعض القراء (والبغي «5» يعظكم) بِحذف الياء (عند «6» الياء) أنشدني الْكِسَائي:
وَأَشمتَّ الغداة بنا فأضحوا ... لَدَيَّ تَبَاشَرُونَ بِما لِقينَا
معناه (لديّ «7» ) يتباشرونَ فحذف لاجتماع الياءات ومثله:
كأنّ من آخرها القادم ... مخرم نجد قارع المخارم «8»
أراد: إلى القادم فحذف اللام عند اللام. وأمَّا مَن جعل (لَمَّا) بِمنزلة إلَّا فإنه وجه لا نعرفه وقد قالت العرب: بالله لمّا قمت عنا، وإلّا فمت عنا، فأمّا فى الاستثناء فلم يقولوه فِي شعر ولا غيره ألا ترى أن ذَلِكَ لو جاز لسمعت فِي الكلام: ذهب الناسَ لَمّا زيدا.
وأمّا الَّذِينَ خَفَّفوا (إن) فإنهم نصبوا كلا بِ (ليوفّينّهم) ، وقالوا: كأنّا قلنا: وإن ليوفّينّهم
__________
(1) الآية 72 سورة النساء
(2) وذلك أن نون (من) تقلب ميما
(3) «بالسبيل» كذا فى الأصول. وفى الطبري: «بالنهيل» ويبدو أنه الصواب. وعليه ففى العبارة قلب أي أعيا النبيل الحاذق بمصادره.
(4) أي فى البيت فيروى: «وإنى لما» كما هو فى الطبري.
(5) الآية 90 سورة النحل
(6) سقط ما بين القوسين فى ا
(7) سقط ما بين القوسين فى ا
(8) ورد فى اللسان فى (قدم) . وقادم الرحل: الخشبة التي فى مقدم كور البعير بمنزلة قربوس السرج ومخرم الأكمة والجبل منقطعه، وهى أفواه الفجاج. والفارع العالي.(2/29)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
كُلَّا. وهو وجه لا أشتهيه. لأن اللام إِنَّما «1» يقع الفعل الَّذِي بعدها عَلَى شيء قبله فلو رفعت كلّ لصلح ذَلِكَ كما يصلح أن تقول: إن زيد لقائِم ولا يصلح أن تَقُولُ: إن زيدًا لأضربُ لأن تأويلها كقولك: ما زيدًا إلا أضرب فهذا خطأ فِي إلَّا وَفِي اللام.
وقرأ الزهرىّ (وإنّ كلّا لمّا ليوفّينّهم) ينونها فجعل اللم «2» شديدًا كما قَالَ (وَتَأْكُلُونَ «3» التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا) فيكون فِي الكلام بِمنزلة قَوْلك: وإن كلا حقّا ليوفينهم، وإن كلا شديدًا ليوفينّهم. وإذا عجَّلت العرب باللام فِي غير موضعها أعادوها إِلَيْهِ كقولك: إنَّ زيدًا لإليكَ لمحسن، كَانَ موقع اللام فِي المحسن «4» ، فلمّا أدخلت فِي إليكَ أُعيدت فِي المحسن ومثله قول الشاعر:
ولو أنَّ قَوْمِي لَمْ يكونوا أَعِزَّة ... لَبَعْدُ لقد لاقيتَ لا بدّ مَصْرَعا «5»
أدخلها فِي (بَعد) وليس بِموضعها ومثله قول أبي الجراح: إني لبحمد الله لصالِح.
وقوله: زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [114] بضمّ اللام تَجعله واحدًا مثل الْحُلُم. والزُلَف جَمع زُلْفَة وزُلَف وهي قراءة العامَّة وهي ساعة من الليل ومعناهُ: طَرَفَيِ النَّهَارِ وصلاة الليل المفروضة: المغرب والعشاء وصلاة الفجر، وطرفي النهار: الظهر والعصر.
وقوله: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ [116] يقول لَمْ يكن منهم «6» أحد كذلك إلا قليلًا أي هَؤُلَاءِ كانوا ينهونَ فنجوا. وهو استثناء على الانقطاع مِمّا قبله كما قَالَ عزّ وجل (إِلَّا «7» قَوْمَ يُونُسَ) ولو كانَ رفعًا كَانَ صوابًا. وقوله: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ)
__________
(1) كذا فى الأصول. والمناسب: «لا» أو الأصل: «على شىء بعده» وقد يكون الأصل: «على شىء هو قبله» على كل شىء الفعل قبله. وراجع الطبري.
(2) ا: «اللام» [.....]
(3) الآية 19 سورة الفجر.
(4) ا: «لمحسن»
(5) فى الطبري: «مصرعى»
(6) فى الأصول: «منكم» والمناسب ما أثبت
(7) الآية 98 سورة يونس.(2/30)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
بقول: اتّبعوا فِي دنياهم ما عُوِّدوا من النعيم وإيثار اللذات على أمر الآخرة. ويُقال: اتّبعوا ذنوبَهم وأعمالَهم السّيئة إلى النار.
وقوله: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ [117] .
يقول: لَمْ يكن ليهلكهم وهم مصلحونَ فيكونَ ذَلِكَ ظلمًا. ويُقال: لَمْ يكن ليهلكهم وهم يتعاطونَ الحقّ فيما بينهم وإن كانوا مشركين والظلم الشرك.
وقوله: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ [118] إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [119] يقول: (لَا يَزالُونَ) يعني أهل الباطل (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) أهل الحقّ (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) يقول: للشقاء وللسعادة. ويُقال:
(وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) : للاختلاف والرحمة.
وقوله: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [119] : صارَ قوله عَزَّ وَجَلَّ (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) يمينًا كما تَقُولُ: حَلِفي لأضربنَّك، وبدا لي لأضربنّك. وكلّ فعل كَانَ تأويله كتأويل بلغني، وقيل لي، وانتهى إليّ، فإن اللام وأن تصلحان فِيهِ. فتقول: قد بدا لي لأضربنّك، وبد الى أن أضربك. فلو كَانَ: وَتَمَّت كلمة ربك أن يملأ جهنم كَانَ صوابًا وكذلك (ثُمَّ بَدا لَهُمْ «1» مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) ولو كَانَ أن يسجنوهُ كَانَ صوابًا.
وقال: (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ [120] ) فى «2» هذه السورة.
ومن سورة يوسف
قَوْلُ الله عَزَّ وَجَلَّ: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ [3]
__________
(1) الآية 35 سورة يوسف
(2) يذكر وجه تأنيث اسم الإشارة وأن المراد السورة(2/31)
(هذَا الْقُرْآنَ) منصوب بوقوع الفعل عَليه. كأنك قلت: بوحينا «1» إليك هذا القرآن.
ولو خفضت (هذا) و (القرآن) كَانَ صوابًا: تجعل (هذا) مكرورًا «2» على (ما) تَقُولُ: مررتُ بِما عندك متاعِك تجعل المتاع مردودًا على (مَا) ومثله فِي النحل: (وَلا تَقُولُوا»
لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) و (الْكَذِبِ) على ذَلِكَ.
وقوله: يَا أَبَتِ «4» لا تقفْ عليها بالهاء وأنت خافض لَهَا فِي الوصل لأن تِلْكَ الْخَفْضة تدلّ على الإضافة إلى المتكلم. ولو قرأ قارئ (يا أَبَتُ) لجازَ (وَكَانَ «5» الوقفُ عَلَى الْهَاء جائِزًا.
ولم يقرأ بِهِ أحد نعلمه. ولو قيل: يا أبَتَ لجاز) الوقوف عليها (بالهاء «6» ) من جهة، ولم يجز من أخرى. فأمّا جواز الوقوف على الْهَاء فأن تجعل الفتحة فيها من النداء ولا تنوي أن تصلها بألف الندبة فكأنه كقول الشاعر «7» :
كِلِينِي لِهَمٍّ يا أمَيْمَةَ نَاصِبِ
وأمّا الوجه الَّذِي لا يَجوز الوقف على الْهَاء فأن تنوي: يا أبتاهُ ثُمَّ تَحذف الْهَاء والألف لأنَّها فِي النِّيَّة متّصلة بالألف كاتّصالِها فِي الخفض بالياء من المتكلّم.
وأمّا قوله: (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) [4] فإن العرب تجعل العدد ما بين أحد عشر
__________
(1) لو أتى بمصدر (أَوْحَيْنا) لقال: «بإمحائنا» ولكنه أتى بمصدر الثلاثي إذ كان فى معنى الإيحاء.
(2) يريد أن يكون بدلا.
(3) الآية 116 سورة النحل
(4) قرأ بالخفض ابن كثير ويعقوب وهما يقفان بالهاء، كما فى الإتحاف.
(5) سقط ما بين القوسين فى ا.
(6) سقط ما بين القوسين فى ا، ب.
(7) هو النابغة. وعجزه:
وليل أقاسيه بطيء الكواكب
وقد روى «أميمة» بالضم والفتح وهو يريد رواية الفتح وانظر مختار الشعر الجاهلى 153. [.....](2/32)
إلى تسعة عشر منصوبًا فِي خفضه ورفعه. وَذَلِكَ أنَّهم جعلوا اسمين معروفين «1» واحدًا، فلم يضيفوا الأوَّل إلى الثاني فيخرجَ من معنى العدد. ولم يرفعوا آخره فيكون بِمنزلة بعلبكَ إذا رفعوا آخرها.
واستجازوا أن يضيفوا (بعل) إلى (بَكّ) لأن هذا لا يُعرف فِيهِ الانفصال من ذا، والخمسة تنفرد من العشرة والعشرة من الخمسة، فجعلوهما بإعراب واحد لأن معناهما فِي الأصل هذه عشرة وخمسة، فلمّا عُدِلا عَن جهتهما أُعطيا إعرابًا واحدًا فِي الصرف «2» كما كَانَ إعرابُهما واحدًا قبل أن يُصرفا.
فأمَّا «3» نصب كوكب فإنه خرج مفسِّرًا للنوع من كل عدد ليعرف ما أخبرتَ عَنْهُ. وهو فِي الكلام بِمنزلة قولك: عندي كذا وكذا دِرْهَمًا. خرج الدرهم مفسرًا لكذا وكذا لأنَّها واقعة على كلّ شيء. فإذا أدخلتَ فِي أحد عشر الألف واللام أدخلتهما فِي أوَّلها فقلت: ما فعلت الخمسةَ عَشَرَ.
ويَجوز ما فعلت الخمسة العشرَ، فأدخلت عليهما الألف واللام مرتين لتوهّمهم انفصَال ذا من ذا فِي حال. فإن قلت: الخمسة العشر لَمْ يجز لأن الأوّل غير الثاني ألا ترى أن قولهم: ما فعلت الخمسة الأثواب لمن أجازه تَجد الخمسة هي الأثواب ولا تَجد العشر الخمسة. فلذلك لَمْ تصلح إضافته بألف ولام. وإن شئت أدخلت الألف واللام أيضًا فِي الدرهم الَّذِي يَخرج مفسرًا فتقول: ما فعلت الخمسة العشر الدرهم «4» ؟. وإذا أضفت الخمسة العشر «5» إلى نفسك رفعت الخمسة. فتقول: ما فعلت خمسةُ عشري؟: ورأيتُ خمسةَ عَشْرِي، (ومررتُ بِخمسة «6» عشري) وإنَّما عُرِّبت الخمسة لإضافتك العشر، فلمّا أضيف العشر إلى الياء منك لَمْ يستقم للخمسة أن تُضاف إليها وبينهما عشر فأضيفت إلى عشر لتصير اسمًا، كما صارَ ما بعدها بالإضافة اسما. سمعتها من أبى فقعس الأسدى
__________
(1) ش: «مرفوعين» .
(2) يريد صرفهما عن حالة الإفراد إلى التركيب.
(3) ا: «وأما» .
(4) ا: «الدراهم» .
(5) ش، ب: «العشر الدرهم» .
(6) سقط ما بين القوسين فى ا، ش.(2/33)
وأبي الهيثم الْعُقَيْلِي: ما فعلت خمسةُ عشرِك؟ ولذلك لا يصلح للمفسر أن يصحبهما لأن إعرابيهما قد اختلفا. ب: اختلف، وإنَّما يخرج الدرهم والكوكب مفسرًا لهما جَميعًا كما يخرج الدرهم من عشرين مفسرًا لكلّها. فإذا أضفتَ العشرين دخلَتْ فِي الأسماء وبطلَ عنها التفسير. فخطأ أن تَقُولَ:
ما فَعَلَتْ عِشروك درهمًا، أو خمسة عشرك درهمًا. ومثله أنك تَقُولَ: مررتُ بضارب زيدًا.
فإذا أضفت الضارب إلى غير زيد لَمْ يصلح أن يقع عَلَى زيد أبدًا.
ولو نويت بِخمسة عشر أن تضيف الخمسة إلى عشر فِي شعر لجازَ، فقلت: ما رأيتُ خمسة عشرٍ قطُّ «1» خيرًا منها، لأنك نويت الأسماء ولم تنو العدد. ولا يَجوز للمفسر أن يدخل هاهنا كما لَمْ يَجز فِي الإضافة أنشدني الْعُكْليّ أَبُو ثرْوان:
كُلِّف من عَنائه وشِقْوته ... بنتَ ثَماني عَشرةٍ من حِجَّته «2»
ومن الْقُرَّاء «3» من يسكن الْعَين من عَشَر «4» فِي هذا النوع كله «5» ، إلا اثنا عشر. وَذَلِكَ أنَّهم استثقلوا كثرة الحركات، ووجدوا الألف فِي (اثنا) والياء فِي (اثنى) ساكنة فكرهوا تسكين العين وإلى جنبها ساكن (ولا يَجوز «6» تسكين الْعَين فِي مؤنث العدد لأن الشِّين من عشرة يسكن فلا يستقيم تسكين الْعَين والشين معًا) .
وأمّا قوله (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) فإن هذه النون والواو إنّما تكونان «7» فِي جَمع ذُكْران الجن والإنس وما أشبههم. فيُقال: الناس ساجدونَ، والملائكة والجن ساجدون: فإذا عدوت هذا
__________
(1) سقط فى ش وب.
(2) فى مختصر الشواهد للعينى فى باب العدد أنه رجز لم يدر راجزه. وقيل: قاله نفيع بن طارق.
(3) هو أبو جعفر كما فى الإتحاف.
(4) ش، ب: «عشرة» .
(5) سقط فى ا.
(6) سقط ما بين القوسين فى ش.
(7) ا: «يكون» .(2/34)
صار المؤنث والمذكر إلى التأنيث. فيقال: الْكِباش قد ذُبِّحن وذُبِّحت ومذبَّحات. ولا يَجوز مذبّحون. وإنَّما جازَ فِي الشمس والقمر والكواكب بالنون والياء لأنَّهم وُصفوا بأفاعيل الآدميين (ألا ترى «1» أن السجود والركوع لا يكون إلا من الآدميين فأُخرج فعلهم على فعال الآدميَّين) ومثله (وَقالُوا «2» لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) فكأنَّهم خاطبوا رجالًا إذ كلمتهم وكلّموها.
وكذلك (يا أَيُّهَا «3» النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) فَمَا أتاكَ مواقعًا لفعل الآدميين من غيرهم أجريته على هذا.
[قوله] «4» (يا بُنَيَّ) و (يا بُنيِّ) «5» لغتان، كقولك: يا أَبَتَ ويا أَبَتِ لأن مَن نصب أراد النُّدبة: يا أبتاهُ فحذفها.
وإذا تركت الْهَمْزَةَ من (الرُّؤْيَا) قالوا: الرّؤيا طلبًا «6» للهمزة. وإذا كَانَ من شأنِهم تَحويل الْهَمْزَةِ: قالوا: لا تقصص رُيّاك فِي الكلام، فأمّا فِي القرآن فلا يَجوز لِمخالفة الكتاب. أنشدني أَبُو الجرَّاح:
لِعرض من الأعراض يُمسي حَمَامُه ... ويُضحي على أفنانِهِ الغينِ يَهْتِفُ
أحبّ إلى قلبي من الديك رُيَّة ... وبابٍ إذا ما مال للغلق يَصرِف «7»
أراد: رُؤْية، فلمّا ترك الْهَمْز وجاءت واو ساكنة بعدها ياء تحولتا ياء مُشددَّة، كما يُقال: لويته لَيًّا وكويته كيًّا والأصلُ كَوْيا ولَوْيا. وإن أشرت «8» إلى الضمة قلت: ريّا فرفعت الرَّاء فجائز.
__________
(1) سقط ما بين القوسين فى ا [.....]
(2) الآية 21 سورة فصلت.
(3) الآية 18 سورة النمل.
(4) الفتح لحفص والكسر للباقين.
(5) الفتح لحفص والكسر للباقين.
(6) أي مراعاة لها كأنها موجودة، ومن ثم تجب القلب والإدغام.
(7) العرض: الوادي فيه شجر. والغين جمع الغيناء وهى الخضراء من الشجر وهو بدل من (أفنانه) و (يصرف) :
يصوت. وقوله: (رية) فى اللسان (عرض) : «رنة» ولا شاهد فيه.
(8) هو ما يسمى فى كتب النحو بالإشمام وهو أن تأتى بحركة بين الضمة والكسرة.(2/35)
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
وتكون هذه الضمة مثل قوله (وَحِيلَ «1» ) (وَسِيقَ «2» ) وَزَعَمَ الْكِسَائي أَنَّهُ سمع أعرابيًّا يقول (إِنْ كُنْتُمْ «3» لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) .
وقوله: (وكذلك يجتبيك ربّك) [6] جواب لقوله (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) فقيل لَهُ: وهكذا يَجْتَبيكَ رَبُّكَ. كذلك وهكذا سواء فِي المعنى. ومثله فِي الكلام أن يقول الرجل قد فعلت اليوم كذا وكذا من الخير فرأيت عاقبته محمودة، فيقول لَهُ القائل: هكذا السعادة، هكذا التوفيق و (كَذلِكَ) يصلح فيه. و (يَجْتَبِيكَ) بصطفيك.
قوله: (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) [8] والعُصْبَة: عَشرة فما زاد.
وقوله: (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) [9] جواب للأمر ولا يصلح الرفع فِي (يَخْلُ) لأنه لا ضمير فِيهِ. ولو قلت: أعِرْني ثوبًا ألبس لجازَ الرفع والجزم لأنّك تريد: أَلْبَسُه فتكون رفعًا من صلة النكرة. والجزم على أن تَجعله شرطًا.
قوله: (وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ) [10] واحدة «4» . وقد قرأ أهلُ الحجاز (غَيَابَاتِ) على الجمع (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) قرأهُ العامَّة بالياء لأن (بعض) ذكر وإن أُضيفَ إلى تأنيث. وقد قرأ «5» الْحَسَن- فيما ذُكِرَ «6» عَنْهُ- ب: ذكروا (تَلْتَقِطْهُ) بالتاء وَذَلِكَ أنه ذهب إلى السّيارة والعرب إذا أضافت المذكر إلى المؤنث وهو فعل لَهُ «7» أو هُوَ بعض لَهُ قالوا فِيهِ بالتأنيث والتذكير. وأنشدونا:
__________
(1) فى الآية 54 سورة سبأ.
(2) فى الآيتين 71، 73 سورة الزمر.
(3) الآية 43 سورة يوسف. وقد ضبط «للريا» بكسر الراء وفقا لما ا. وفى اللسان (رأى) ضبط بضم الراء.
(4) يريد (غيابة) بالإفراد. وهو مقابل (غيابات) فى القراءة الأخرى. والإفراد قراءة غير نافع وأبى جعفر.
أما هما فقرأ ا (غيابات) كما فى الإتحاف. وقوله «أهل الحجاز» فالأولى. «أهل المدينة» .
(5) سقط فى ا
(6) ا: «ذكروا» .
(7) سقط فى ا. [.....](2/36)
عَلَى قَبْضة مَوْجُوءة ظهرُ كَفّه ... فلا المرء مُسْتحيٍ ولا هُوَ طاعم «1»
ذهب إلى الكفّ وألغى الظهر لأن الكف يجزىء من الظهر فكأنه قَالَ: موجوءة كفُّه وأنشدني الْعُكْليّ أَبُو ثَرْوان:
أرى مَرَّ السنين أخذنَ مني ... كما أخَذ السِّرار من الهلِال
وقال ابن مقبل:
قد صرّح السير عَن كُتْمان وابتذلتْ ... وَقْعُ المحاجن بالْمَهْرِيَّة الذُّقُنِ «2»
أراد: وابتذلت المحاجن وألغى الوقع. وأنشدني الْكِسَائي:
إذا ماتَ منهم سَيّد قام سَيّد ... فَدَانَتْ لَهُ أهل الْقُرى والكنائسِ
ومنه قول الأعشى:
وَتَشرَقُ بالقول الَّذِي قد أَذَعتَه ... كما شَرِقت صدر القناة من الدَّم
وأنشدني يونس الْبَصْرِيّ:
لَمّا أتى خبرُ الزُّبَير تهدّمت ... سورُ المدينة والجبالُ الْخُشّعُ «3»
وإنّما جازَ هذا كله لأن الثاني يكفي من الأوّل ألا ترى أَنَّهُ لو قَالَ: تلتقطهُ السيَّارة لجاز وكفى من (بعض) ولا يجوز أن يقول: قد ضربتني غلامُ جاريتك لأنك لو ألقيت الغلام لَمْ تدل الجارية على معناه.
__________
(1) سبق ص 32 فى 187 من الجزء الأول. وفيه: «مرجوة» فى مكان «موجوءة» ويبدو أن الصواب ما هنا.
(2) انظر ص 187 من الجزء الأول.
(3) هو لجرير من قصيدة يهجو فيها الفرزدق. وكان قاتل الزبير بن العوام غدرا رجلا من رهط الفرزدق، فعيره جرير بهذا. وانظر الديوان 270.(2/37)
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
وقوله: لا تَأْمَنَّا [11] تشير «1» إلى الرَّفْعة، وإن تركت فصواب، كلٌّ قد قُرئ بِهِ وقد قرأ يَحْيَى بن وثّاب: (تيمنّا) .
وقوله يرتع ويلعب [12] مَنْ سَكّن الْعَين أخذه من القيد والرَّتْعَة «2» وهو يفعل حينئذ ومن قَالَ (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) فهو يفتعل من رعيت، فأسقط الياء للجزم.
وقوله: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [18] معناهُ: مكذوب: والعرب تَقُولُ للكذب. مكذوب وللضعف «3» : مضعوف، وليس لَهُ عَقْد رَأْي ومعقودُ رأْيٍ فيجعلونَ المصدر فِي كَثِير من الكلام مفعولًا. ويقولون: هذا أمر لَيْسَ لَهُ مَعْنِيّ يريدونَ مَعْنًى، ويقولون للجَلَد: مجلود قَالَ الشاعر:
إن أخا المجلود من صبرا «4» وقال الآخر «5» :
حَتَّى إذا لَمْ يتركوا لعظامه ... لَحمًا ولا لفؤادِهِ معقولَا
وقال أَبُو ثَرْوان: إنّ بني نُمَير لَيْسَ لحدّهم «6» مكذوبة ومعنى قوله (بِدَمٍ كَذِبٍ) أنهم قالوا ليعقوب: أكله الذئب. وقد غمسوا قميصه فِي دم جَدْيٍ. فقال: لقد كَانَ هذا الذئب رفيقًا بابْني، مزَّق جلده ولم يُمَزق ثيابه. قَالَ: وقالوا: اللصوص قتلوه، قَالَ: فلم تركوا قميصه! وإنّما يريدونَ الثيابَ. فلذلك قيل (بِدَمٍ كَذِبٍ) ويَجوز فِي العربية أن تَقُولُ: جاءوا على قميصه بدم كذبًا كما تَقُولُ: جاءوا بأمرٍ باطل وباطلا، وحق وحقا.
__________
(1) يريد الإشمام.
(2) هو الاتساع فى الخصب واللهو.
(3) فى الأصول: «للضعيف» وما أثبت عن اللسان فى حكاية كلام الفراء فى (كذب)
(4) الشطر فى اللسان (جلد) : واصبر فان أخا المجلود من صبرا.
(5) هو الراعي النميري.
(6) ب: «لجدهم» .(2/38)
وقوله: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) مثل قوله: (فَصِيامُ «1» ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) (فَإِمْساكٌ «2» بِمَعْرُوفٍ) ولو كَانَ:
فَصَبْرًا جَميلًا يكون كالآمر لنفسه بالصبر لجاز. وهي فِي قراءة أُبَيّ (فَصَبْرًا جَمِيلًا) كذلك على النصب بالألف.
وقوله: (يَا بُشْرى «3» [19] هذا غُلامٌ) (وَيَا بُشْرَايَ «4» ) بنصب الياء، وهي لغة فِي بعض قيس.
وَهُذَيْلٌ: يا بُشْرَى. كل ألف أضافها المتكلم إلى نفسه جعلتها ياء مشدَّدة. أنشدني القاسم بن مَعْن:
تَركوا هوَيّ وأعْنَقوا لَهواهم ... ففقدتهم ولكل جَنْب مَصْرع «5»
وقال لي بعض بني سُلَيم: آتيكَ بِمولَيَّ فإنَّهُ أروى منّى. قال:
أنشدنى المفضّل:
يطوّف بي عكبّ فِي مَعَدّ ... ويطعُن بالصُمُلَّة فِي قَفَيَّا
فإن لم تثأروا لي من عِكَبّ ... فلا أرويتما أبدًا صَدَيَّا «6»
ومن قرأ (يا بُشْرى) بالسكون فهو كقولك: يا بُنَيّ لا تفعل، يكون مفردًا فِي معنى الإضافة.
والعربُ تَقُولُ: يا نفسِ اصبري ويا نِفس اصبري وهو يعني نفسه فِي الوجهين و (يَا بُشْرَايَ) فِي موضع نصب. ومن قَالَ: يا بشَريَّ فأضافَ وغيَّرَ الألف إلى الياء فإنه طلب «7» الكسرة التي تلزم ما قبل
__________
(1) الآية 196 سورة البقرة، والآية 89 سورة المائدة.
(2) الآية 29، سورة البقرة.
(3) القراءة الأولى لعاصم وحمزة والكسائي، والأخرى للباقين.
(4) القراءة الأولى لعاصم وحمزة والكسائي، والأخرى للباقين.
(5) هو من عينية أبى ذؤيب المشهورة. [.....]
(6) الشعر للمنخل اليشكري. وعكب اللخمي صاحب سجن النعمان بن المنذر. والصملة: العصا. وقوله. «يثأروا» فى ش: «تثأروا» والرواية: «تثأرا» ليناسب قوله بعد: «فلا أرويتما» وفى الشعر:
ألا من مبلغ الحرين عتى ... مغلغلة وخص بها أبيا
والحران الحر وأخوه أبى وانظر اللسان (حرر) .
(7) يريد أنه مال إلى الكسرة فأتى بالياء التي هى مناسبة للكسرة.(2/39)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
الياء من المتكلم فِي كل حال ألا ترى أنك تقول: هذا غلامى فتحفض الميم فِي كل جهات الإعراب فحطُّوها إذا أضيفت إلى المتكلم ولم يحطُّوها عند غير الياء فِي قولك: هذا غلامك وغلامه لأن (يا بشرى) من البشارة والإعراب يتبيّن عند كل مكنّى إلّا عند الياء.
وقوله: (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) ذَلِكَ أن الساقي الَّذِي التقطه قَالَ للذين كانوا معه: إن سَألكم أصحابُكم عَن هذا الغلام فقولوا: أبضعَناهُ أهلُ الماء لنبيعهُ بِمصر.
وقوله: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ [20] قيلَ: عشرين. وإنَّما: قيلَ معدودة ليُستدل بِهِ على القلَّة لأنَّهم كانوا لا يَزِنُونَ الدراهم حَتَّى تبلغ أُوقِيَّة، والأُوقيَّة كانت وزن أربعين درهما.
وقوله: (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) يقول: لَمْ يعلموا منزلته من الله عَزَّ وجلّ.
وقوله: (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) [23] قرأها عبد الله بن مسعود وأصحابه حَدَّثَنَا الفرّاء قال: حدثنى بن أبى يحيى عن أبي حبيب عن الشّعبىّ عن عبد الله ابن مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى عليه وسلم (هَيْتَ) وَيُقَالُ: إِنَّهَا لُغَةٌ لِأَهْلِ حَوْرَانَ سَقَطَتْ إِلَى مَكَّةَ فَتَكَلَّمُوا بِهَا. وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقْرَءُونَ هِيتَ لَكَ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَلَا يَهْمِزُونَ وَذُكِرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَرَءَا (هِئْتُ لَكَ) يُرَادُ بِهَا: تَهَيَّأَتْ لَكَ وقد قَالَ الشاعر:
أنّ الْعِراق وَأَهْلَهُ ... سَلْمٌ عَلَيْكَ فَهَيْتَ هَيْتَا «1»
أي هَلُمَّ.
وقوله: (إِنَّهُ رَبِّي) يعني مولاهُ الَّذِي اشتراهُ. يقول: قد أحسنَ إليَّ فلا أخونُه.
وقوله: أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ [24] ذكروا أنُّهُ رأى صورة يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام.
__________
(1) قبله.
أبلغ أمير المؤمنين أخا العراق إذا أتيتا وهو يريد عليا رضي الله عنه. ويروى «عنق» إليك أي ماثلون فى مكان (أسلم عليك) ويروى (إن العراق) بكسر النون. وانظر الخصائص 1/ 279.(2/40)
وقوله: وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ [25] يعني يوسف وامرأة العزيز وجدا العزيز وابن عمّ لامرأته على الباب، فقالت: (مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) فقال: هى راودتنى عن «1» [نفسى فذكروا أن ابن عمّها قَالَ: (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فلمّا رأوا القميصَ مقدودًا من دُبر قَالَ ابن العم (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) ثُمَّ إن ابن العم طلبَ إلى يوسف فقال: (أَعْرِضْ عَنْ هذا) أي اكتمه، وقال للأخرى: (اسْتَغْفِرِي) زوجك (لِذَنْبِكِ) .
قوله: (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) [26] .
قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: وَحَدَّثَنِي قيس بْن الربيع عنْ أَبِي حصين عن سعيد ابن جُبَير فِي قوله:
(وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) قَالَ: صبيّ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي قيس عَن رجلٍ عَن مُجاهد أَنَّهُ رجلٌ. قَالَ:
وَحَدَّثَنِي مُعَلَّى بن هلال عَن أبي يَحْيَى عَن مُجاهد فى قوله: (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) قَالَ: حكم حاكم من أهلها.
ولو كَانَ فِي الكلام: (أَنْ إِنْ كَانَ قميصُه) لصلح لأن الشهادة تُستقبل ب (أن) ولا يُكتفى بالجزاء فإذا اكتفت فإنَّما ذهبَ بالشهادة إلى معنى القول كأنه قَالَ: وقال قائل من أهلها، كما قَالَ: (يُوصِيكُمُ «2» اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) فذهبَ بالوصية إلى القول، وأنشدني الْكِسَائي:
وخَبَّرْتُمَا أَن إِنَّمَا بَيْنِ بيَشَةٍ ... ونَجْرَان أَحْوَى «3» والمحَلِّ قريب
__________
(1) سقط ما بين القوسين فى ا
(2) الآية 11 سورة النساء.
(3) أحوى وصف من الحوة، وهو سواد يضرب إلى الخضرة ويوصف به الشجر الأخضر والنبات الأخضر، وكأنه يريد أن ما بين بيشة ونجران كثير الشجر والنبات.(2/41)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
(والجناب «1» خصيب) فأدخل (أن) على (إِنَّما) وهي بِمنزلتها قَالَ: وسمعتُ الفراء قَالَ: زعم القاسم بن مَعن أن بِئشة وزئنة أرضان مهموزتان.
وقوله: قَدْ شَغَفَها حُبًّا [30] أي قد خرق شَغَاف «2» قلبها وتقرأ «3» (قَدْ شَعَفَهَا) بالعين وهو من قولك: شُعِف بِهَا. كأنّه «4» ذَهَبَ بِهَا كلّ مذهب. والشَعَف: رءوس الجبال.
وقوله: (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) يُقال: اتخذت لَهُنّ مجلسًا. ويُقال: إنّ مُتْكًا غير مهموز، فسمعت «5» أَنَّهُ الْأُتْرُجُّ. وَحَدَّثَنِي شيخ من ثقات أهل البصرة أَنَّهُ قَالَ: الزُّمَاوَرْدُ «6» .
وقوله: وقطّعن أيديهنّ يقول: وَخَدشنها ولم يُبِنَّ أيديهن، مِن إعظامه، وذلك قوله:
(حاشَ لِلَّهِ) أعظمته أن يكون بشرًا، وقلن: هذا مَلَكٌ. وَفِي قراءة «7» عبد الله (حَاشَا لِلَّهِ) بالألف، وهو فِي معنى مَعَاذَ الله.
وقوله: (مَا هَذَا بَشَراً) نصبت (بَشَراً) لأن الباء قد استعملت فِيهِ فلا يكاد أهل الحجاز ينطقونَ إِلَّا بالباء، فلمّا حذفوها أحبُّوا أن يكون لَهَا أثر فيما خَرَجت منه فنصبوا عَلَى ذَلِكَ ألا ترى أن كلّ ما في القرآن أتى بالباء إِلَّا هذا، وقوله: (مَا هُنَّ «8» أُمَّهاتِهِمْ) وأمّا أهلُ نَجدٍ فيتكلمونَ بالباء وغير الباء فإذا أسقطوها رفعوا. وهو أقوى الوجهين فِي العربية. أنشدني بعضهم:
لَشتَّانَ ما أَنْوِي وينوي بنو أبى ... جميعا فما هذان مستويان
__________
(1) هذه رواية أخرى فى تمام البيت فى مكان «والمحل قريب» .
(2) شغاف القلب غلافه.
(3) ش: «يقرأ» وهى قراءة الحسن وابن محيصن.
(4) هذا تفسير لقراءة العين فى الآية.
(5) ا: «وسمعت» .
(6) هو طعام يتخذ من البيض واللحم.
(7) قرأ أبو عمرو بالألف فى الوصل.
(8) الآية 2 سورة المجادلة. [.....](2/42)
تَمَنَّوْا ليَ الموتَ الَّذِي يَشْعَب الفتى ... وكلُّ فتًى والموتُ يلتقيانِ «1»
وأنشدوني:
ركابُ حُسَيْلٍ أشهرَ الصيفِ بُدَّن ... ونَاقةُ عَمْرو ما يُحَلُّ لَهَا رَحْلُ
ويزعمُ حِسْلٌ أَنَّهُ فَرْع قومِهِ ... وما أنت فرع يا حُسيل ولا أصْلُ «2»
وقال الفرزدق:
أمَا نحنُ راءُو دارِها بعد هذه ... يدَ الدهر إلا أنْ يمرّ بِهَا سَفْرُ «3»
وإذا قدّمت الفعل قبل الاسم رفعت الفعل واسمه فقلت: ما سامعٌ هذا وما قائمٌ أخوك. وذلك أن الباء لم تستعمل هاهنا ولم تدخل ألا ترى أَنَّهُ قبيح أن تَقُولُ: ما بقائم أخوكَ لأنَّها إنَّما تقعُ فِي المنفيّ إذا سَبَق الاسم، فلمَّا لَمْ يمكن فِي (ما) ضمير الاسم قبح دخول الباء. وحسُنَ ذَلِكَ فِي (لَيْسَ) :
أن تَقُولُ: لَيْسَ بقائم أخوكَ لأن (لَيْسَ) فعل يقبل المضمر، كقولك: لست ولسنا ولم يُمكن ذَلِكَ فِي (ما) .
فإن قلت: فإني أراهُ لا يمكن فِي (لا) وقد أدخلت العرب الباء فِي الفعل التي تليها «4» فقالوا «5» :
لا بالْحَصُورِ ولا فِيهَا بسوَّارِ
قلت: إن (لا) أشبه بليس من (ما) ألا ترى أنك تَقُولُ: عبد الله لا قائم ولا قاعد، كما تَقُولُ:
عبد الله لَيْسَ قاعدًا ولا قائِمًا، ولا يَجوز عبد الله ما قائم ولا قاعد فافترقتا هاهنا.
__________
(1) ورد هذا البيت الثاني فى شواهد النحو فى مبحث المبتدأ، ونسبه العيني إلى الفرزدق. ويشعب: يفرق.
(2) فرع القوم: الشريف فيهم.
(3) من قصيدة له في مدح بنى ضبة. وانظر ديوانه 315: وقوله: «بها» فى ا: «لها» والسفر: المسافرون ويد الدهر: طول الدهر.
(4) أراد بالفعل الكلمة فأنث اسم الموصول لها. وأراد بالفعل هنا الوصف وفى ب: «الفعل يليها»
(5) الشطر من بيت تقدم للأخطل. ونسبه إلى العرب لما سمعهم ينشدونه هكذا ويقرونه(2/43)
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
ولو حملت الباء عَلَى (ما) إذا وليها الفعل تَتَوهّم فيها ما توهّمت فِي (لا) لكان وجهًا، أنشدتني امرأة من غَنِيّ:
أمَا واللهِ أنْ لو كنتَ حُرًّا ... وما بالحُرّ أنتَ ولا الْعَتِيقِ «1»
فأدخلت الباء فيما يلي (مَا) فإن ألقيتَها رفعت ولم يَقْوَ النصب لقلَّة هذا. قَالَ: وَحَدَّثَنَا الفراء قَالَ: وَحَدَّثَنِي دِعامة بن رجاء التَّيمي- وَكَانَ غرّا- عَن أبي الْحُويرث الحنفيّ أَنَّهُ قَالَ: (ما هذا بِشِرًى) أي ما هذا بِمشترِي.
وقوله: رَبِّ السِّجْنُ [33] السِّجن: الْمَحْبِسُ. وهو كالفعل. وكل موضع مشتق من فعلٍ فهو يقوم مقام الفعل كما قالت العرب: طلعت الشمسُ مَطْلَعًا وغَرَبت الشمس مغربا، فجعلوهما خلفًا من المصدر وهما اسمان، كذلك السِّجن. ولو فتحت السِّين لكان مصدرًا بينًا. وقد قرىء:
(ربّ السّجن) .
وقوله: فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ [34] ولم تكن منه مسألة إنما قال: (إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ) فجَعله الله دعاء لأن فِيهِ معنى الدعاء، فلذلك قال: (فاستجاب له) ومثله فِي الكلام أن تَقُولَ لعبدك: إلَّا تطِع تعاقَب، فيقول: إِذًا أطيعك كأنّك قلت لَهُ:
أطع فأجابك.
وقوله: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ [35] آيات البراءة قَدّ القميص من دبر (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) فهذه اللام فِي اليمين وَفِي كل ما ضارع القول. وقد ذكرناهُ. أَلَا ترى قوله:
(وَظَنُّوا «2» ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (وَلَقَدْ «3» عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ) دخلت هذه اللام و (ما) مع الظنّ (والعلم) لأنَّهما فِي معنى القول واليمين.
__________
(1) انظر الخزانة 2/ 133.
(2) الآية 48 سورة فصلت.
(3) الآية 102 سورة البقرة.(2/44)
وقوله: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [36] يقول: من العالِمينَ قد أحسنْتَ الْعِلْمَ. حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ:
حَدَّثَنَا ابن «1» الْغَسيل الْأَنْصَارِيّ عَن عكرمة قَالَ: الْحِين حينان: حين لا يدرك وهو قوله عَزَّ وَجَلَّ:
(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) (قَالَ «2» الفراء فهذا يقلّ ويكثر) ليست لَهُ غاية.
قَالَ عكرمة: وحينٌ يُدركَ وهو قوله: (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) يعني ستَّة أشهر.
وقوله: (إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) [37] يقول: بسببه وألوانه. وقوله: (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) العرب لا تَجمع اسمين قد كُنِّيَ عنهما لَيْسَ بينهما شىء إلّا أن ينووا التكرير وإفهام المكلّم فإذا أرادوا ذلك قالوا: أنت أنت فعلت، وهو هو أخذها. ولا يَجوز أن نَجعل الآخرة تَوكيدًا للأولى، لأن لفظهما واحد. ولكنهم إذا وصلوا الأول بناصب أو خافض أو رافع أدخلوا لَهُ اسمه فكان توكيدًا. أمّا المنصوب فقولك: ضربتك أنت، والمخفوض: مررت بك أنت، والمرفوع:
قمت أنت. وإنما فعلوا ذلك لأن الأول قلَّ واختلف لفظه، فأدخلوا اسمه المبتدأ. فإذا قالوا: أنت فينا أنت رَاغب ففرقوا بينهما بصفة «3» قالوا ذَلِكَ، وكأنه فِي مذهبه بِمنزلة قوله: (كُتِبَ «4» عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) كأنّ الأوّل مُلْغًى والاتّكاء والْخَبَر عَن الثاني. وكذلك قوله:
(أَيَعِدُكُمْ «5» أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ) ثم قال: (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) وهما جَميعًا فِي معنى واحد، إلا أن ذَلِكَ جازَ حينَ فُرق بينهما بإذا. ومثله: (وَهُمْ «6» بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) .
وقوله: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي) [38] تهمِز وتُثبت فيها الياء. وأصْحَابنا يروون عَن الأعمش
__________
(1) فى الأصول: «العسيل» والظاهر ما أثبت. والغسيل حنظلة بن أبى عامر الأنصاري، وأولاده ينسبون اليه.
وانظر التاج فى غسل.
(2) ما بين القوسين كتب فى ابعد قوله. «ستة أشهر» .
(3) يريد الجار والمجرور: (فينا) .
(4) الآية 4 سورة الحج.
(5) الآية 35 سورة المؤمنين.
(6) الآية 4 سورة لقمان. [.....](2/45)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
(مِلَّةَ آبَايَ إِبْرَاهِيم) و (دُعَايَ «1» إِلَّا فِرَارًا) بنصب الياء لأنَّه يترك الْهَمْز ويقصرُ الممدود فيصير بِمنزلة مَحْيَايَ وهدايَ.
وقوله: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ [41] ) ذكروا أَنَّهُ لَمّا عبَّر لَهما الرؤيا فقال للآخر:
تصلبُ رجعا عَن الرُّؤْيَا، فقالا: لَمْ نرَ شيئًا فقال يوسف: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) .
وقوله: (فَأَنْساهُ [42] الشَّيْطانُ) .
يقول: أنسى الشيطان يوسَف أن يَجعل ذكره ومستغاثه إلى الله. ويُقال: أنسى الشيطان الساقي أن يذكر أمر يوسف.
وقوله: (ذِكْرَ رَبِّهِ) يقول: ذكر يوسف لِمولاه.
وقوله: (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) ذكروا أَنَّهُ لبث سبعًا بعد خَمس والبضع ما دون العشرة.
وقوله: (إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ) [43] هُوَ من كلام العرب: أن يقول الرجل: إني أخرج إلى مكَّة وغير ذَلِكَ، فَعُلِمَ أَنَّهُ للنوم ولو أراد الخبر لقال: إني أفعلُ إني أقوم فيُستدلّ على أنها رُؤيا «2» لقوله: أرى، وإن لَمْ يذكر نومًا. وقد بيَّنها إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فقال: إِنِّي «3» أَرَى في المنام أنّى أذبحك) وقوله: أَضْغاثُ أَحْلامٍ [44] رفع، لأنهم أرادوا: ليس هذه بشى إِنَّما هي أضغاثُ أحلام «4» .
وهو كقوله: (مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «5» ) كفروا فقالوا: لَم يُنزل شيئًا، إنَّما هي
__________
(1) الآية 6 سورة نوح (1)
(2) كذا. والأولى: «بقوله» .
(3) الآية 102 سورة الصافات.
(4) سقط فى ا.
(5) الآية 24 سورة النحل.(2/46)
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
أساطير الأولين. ولو كَانَ (أضغاثَ أَحْلامٍ) أي أنك «1» رأيت أضغاثَ أحلام كَانَ صوابًا.
وقوله: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [45] الأمة: الحين من الدَّهْرِ. وقد ذُكِرَ عَن بعضهم «2» (بَعْدَ أَمَهٍ) وهو النسيان. يُقال رجلٌ مأموه كأنه الَّذِي لَيْسَ معه عقله وقد أمه الرجل.
وقوله: وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ [46] لو كَانَ الخضر منصوبة تُجعل نعتًا للسبع حسن ذَلِكَ. وهي إذ خُفَضت نعْت للسنبلات. وقال الله عَزَّ وَجَلَّ: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ «3» خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) ولو كانت (طباقٍ) كَانَ صوابًا وقوله: دَأَباً [47] وقرأ بعض «4» قرّائنا (سبع سنين دأبا) : فَعَلًا. وكذلك كل حرف فُتِحَ أوَّله وَسُكِّنَ ثانيه فتثقيله جائزٌ إذا كَانَ ثانيه همزة أو عينًا أو غينًا أو حاءً أو خاء أو هاء.
وقوله: يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ [48] يقول ما تقدَّمتم فِيهِ لَهُنَّ من الزرع.
وقوله: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ: [52] قَالَ ذَلِكَ يوسف لَمّا رجعَ إِلَيْهِ الساقي فأخبره «5» ببراءة النسوة إيَّاه. فقال يوسف (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) وهو متصل بقول امرأته (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذلِكَ) وربّما وُصل الكلامُ بالكلام، حَتَّى كأنه قولُ واحدٍ وهو كلام اثنين، فهذا من ذَلِكَ. وقوله (مِنْ أَرْضِكُمْ «6» بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ) اتّصل قول فرعون بقول الملأ: وكذلك قوله (إِنَّ «7» الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا
__________
(1) ش: «كأتك» .
(2) هو الحسن كما فى الإتحاف.
(3) الآية 15 سورة نوح.
(4) هو حفص.
(5) كذا. والمناسب: «بتبرئة»
(6) الآية 35 سورة الشعراء. يريد الفراء، أن قوله «يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره» من كلام فرعون، وقوله: «فَماذا تَأْمُرُونَ» من خطاب الملأ لفرعون. ويرى جمهور المفسرين أن الكل من كلام فرعون، وأنه غشيه الدهش حتى استأمر رعيته ونسى مكانه فيما يزعم فى الألوهية.
(7) الآية 34 سورة النمل.(2/47)
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)
قَرْيَةً أَفْسَدُوها) إلى قوله (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) انقطع كلامها عند قوله (أَذِلَّةً) ثم قال عزّ وجلّ (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) ويقال: إنه من قول سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام.
وقوله: قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ [51] لَمَّا دَعَا النسوة فبرّأته قالت: لَمْ يبق إلا أن يُقِبل عليّ بالتقرير فأقرَّت، فذلك قوله: (حَصْحَصَ الْحَقُّ) يقول: ضاق الكذب وتَبيَّن الحقّ.
وقوله: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [53] (ما) فِي موضع نصب. وهو استثناء منقطع مِمّا قبله: ومثله (إِلَّا حاجَةً «1» فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) ومثله فى سورة يس (فَلا صَرِيخَ «2» لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) إِنَّما هُوَ- والله أعلم- إلا أن يُرحموا. و (أن) تضارع (ما) إذا كانتا فِي معنى مصدر.
وقوله: وَلا تَقْرَبُونِ [60] فِي موضع جزم، والنون فِي موضع نصب حذفت ياؤها. ولو جعلتها رفعًا فنصبت النون كَانَ صوابًا على معنى قوله ولستم تقربونَ بعد هذه كقوله (فَبِمَ «3» تُبَشِّرُونَ) و (الَّذِينَ «4» كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) .
وقوله: وَقالَ لِفِتْيانِهِ [62] و (لِفِتْيَتِهِ) قراءتان «5» مستفيضتان.
وقوله: (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا) قيل فيها قولان: أحدهما أن يوسف خاف ألَّا يكون عند أبيه دراهم، فجعل البضاعة فِي رحالِهم ليرجعوا. وقيل إنَّهم إن عرفوا أنَّها بضاعتهم وقد اكتالوا ردُّوهَا على يوسف ولم يستحلّوا إمساكها.
__________
(1) الآية 68 سورة يوسف.
(2) الآيتان 43، 44. [.....]
(3) الآية 54 سورة الحجر.
(4) الآية 27 سورة النحل.
(5) القراءة الأولى لحفص وحمزة والكسائي وخلف. والثانية لغيرهم، كما فى الاتحاف.(2/48)
قوله: فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ [63] قرأ أصحابُ «1» عبد الله (يَكْتَلْ) وسائر الناس (نَكْتَلْ) كلاهما صواب من قال (نَكْتَلْ) جعله معهم فِي الكيل. ومن قَالَ (يَكْتَلْ) يصيبه كيل لنفسه فجعل الفعل لَهُ خاصة لأنَّهم يُزادونَ بِهِ كيلَ بعير.
[قوله] : فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً «2» [64] و (حفظا «3» وهي فِي قراءة عبد الله (والله خيرُ الحافظين) وهذا شاهدٌ للوجهين جَميعًا. وَذَلِكَ أنك «4» إذا أضفتَ أفضل إلى شيء فهو بعضه، وحذف المخفوض يَجوز وأنت تنويه. فإن شئتَ جعلته خيرهم حفظًا فحذفتَ الْهَاء والميم وهي تُنوي فِي المعنى وإن شئت جعلت (حافِظاً) تفسيرًا لأفضل. وهو كقولك: لك أفضلهم رجلًا ثُمَّ تلغِي الْهَاء والميم فتقول لك أفضل رجلًا وخير رجُلًا. والعربُ: تَقُولُ لك أفضلها كبشًا، وإنَّما هُوَ تفسير الأفضل.
حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو لَيْلَى السِّجِسْتَانِيُّ عَنْ أَبِي حَرِيزٍ «5» قَاضِي سِجِسْتَانَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ (فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً «6» وَقَدْ أَعْلَمْتُكَ أَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ (خَيْرُ الْحَافِظِينَ) وَكَانَ هَذَا- يَعْنِي أَبَا لَيْلَى- مَعْرُوفًا بِالْخَيْرِ. وَحَدَّثَنَا بِهَذَا الإِسْنَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَرَأَ (فَلَا أُقْسِمُ «7» بِمَوْقِعِ النُّجُومِ) (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) «8» يَقُولُونَ: مُؤَدُّونَ فِي السِّلاحِ أَدَّى يُؤَدِّي.
وقوله: يَا أَبانا مَا نَبْغِي [65] كقولك فِي الكلام ماذا تَبْغي؟ ثُمَّ قَالَ (هذِهِ بِضاعَتُنا) كأنهم طيّبوا بنفسه «9» . و (ما) استفهام فِي موضع نصب. ويكون معناها جحدًا كأنَّهم قالوا:
لسنَا نريدُ منكَ دراهم. والله أعلم بصواب ذلك.
__________
(1) وهى قراءة حمزة والكسائي وخلف.
(2) القراءة الأولى لحفص وحمزة والكسائي وخلف. والأخرى للباقين. لأ
(3) القراءة الأولى لحفص وحمزة والكسائي وخلف. والأخرى للباقين. لأ
(4) سقط فى ا.
(5) ش: «جرير» .
(6) ش: «حفظا» .
(7) الآية 75 سورة الواقعة. وهى قراءة حمزة والكسائي وخلف.
(8) الآية 56 سورة الشعراء. وهى قراءة عاصم وحمزة والكسائي وخلف وابن ذكوان وهشام.
(9) كذا. وكأن الباء زائدة.(2/49)
وقوله: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ [66] يقول: إِلَّا أَن يَأتيكم من الله مَا يَعذركم.
وقوله: يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ [67] يقول: لا تدخلوا مصر من طريق واحد.
كانوا صِبَاحًا تأخذهم الْعَين.
[وقوله] : وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ [68] يقول: إنه لذو علم لتعليمنا إيّاه ويُقال: إنه لذو حفظ «1» لِما علمناه.
وقوله: فَلا تَبْتَئِسْ [69] معناهُ: لا تستكن من الحزن والبُؤْس. يَقول: لا تَحْزن.
وقوله: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ [70] «2» جواب وربّما أدخلت العرب فِي مثلها الواو وهي جَواب على «3» حَالِها كقوله فِي أول السورة (فَلَمَّا «4» ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) والمعنى- والله أعلم-: أوحينا إِلَيْهِ. وهي فِي قراءة عبد الله (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ وَجَعَل السِّقَايَةَ) ومثله فِي الكلام: لَمَّا أتاني وأثِبَ عَلَيْهِ كأنه قَالَ: وثبتُ عَلَيْهِ.
وربّما أدخلت العرب فِي جواب لَمَّا لكن. فيقول الرجل: لَمَّا شتَمني لكن أثِبُ عَلَيْهِ، فكأنه استأنف الكلام استئنافًا، وتوهَّم أنّ ما قبله فِيهِ جوابه. وقد جاء (الشعر «5» فِي كل ذَلِكَ) قال امرؤ القيس:
فلمّا أَجزنا سَاحة الحيَّ وانتحى ... بنا بطنُ خَبْت ذي قِفافٍ عقنقل «6»
__________
(1) ا: «حظ» .
(2) فى الأصول: «جوابا» ولا وجه للنصب. [.....]
(3) ش: «فى» .
(4) الآية 10.
(5) كذا. والأنسب: «فى الشعر كل ذلك» .
(6) البيت من معلقته. «انتحى» : اعترض. والخبت: المتسع من بطون الأرض. والقفاف جمع قف وهو ما ارتفع من الأرض. والعقنقل: المنعقد المتداخل.(2/50)