الخناس في صدور النّاس عند الغفلة عن ذكر الله، فقال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» بإصغائكم إلى هذا البهتان، وهذا الخطاب عام أيضا للمؤمنين الموجودين عند نزول هذه الآية كافة وهو عام أيضا في كل من يأتي من المؤمنين إلى يوم القيامة «وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ» فيميل إليها «فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» كالشيطان، ومن كان كذلك فمأواه جهنم إذا لم يتب «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ» أيها الخائضون في الإفك «ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً» ولا قبلت توبته، بل بقي ملوثا بسوئها «وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ» من الذنوب بتوفيقه إلى التوبة وقبولها منه «وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لأقوالكم خيرها وشرها سرها وجهرها «عَلِيمٌ» (21) بأحوالكم وما في صدوركم قبل إظهارها، ويعلم ما تستحقونه من الثواب والعقاب. ولما حلف أبو بكر رضي الله عنه بان لا ينفق على مسطح لا شتراكه بالإفك أنزل الله جل شأنه الحكم الثامن والتاسع من الآيات البينات بقوله جل قوله «وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ» من الاليّة وهو القسم أي لا يحلف، والمراد بالضمير على ما أجمع عليه المفسرون أبو بكر رضي الله عنه، ولا يمنع خصوصها فيه عمومها في غيره، لأن العبرة لعموم اللّفظ لا لخصوص السّبب «أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» الّذين منهم مسطح المذكور ابن خالته، وهو مسكين مهاجر «وَلْيَعْفُوا» عمّا صدر منهم «وَلْيَصْفَحُوا» عما بدر منهم من السّوء «أَلا تُحِبُّونَ» أيها المؤمنون «أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ» بمقابل ما تغفرون بعضكم لبعض «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (22) لمن يجرؤ عليه وينسب له الشّريك والولد والصّاحبة وينكر وعده ويكذب رسله ويجحد كتابه إذا تاب وأناب، ألا فتخلقوا بأخلاق ربكم وليرحم بعضكم بعضا ابتغاء وجه الله وطلبا لمرضاته وطمعا في ثوابه. قال أكثر المفسرين إن المراد بهذه الآية أيضا ابو بكر رضي الله عنه والخطاب له خاصة، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأها عليه فقال بلى والله أحب مغفرة الله، وارجع نفقة مسطح التي كنت أنفقها عليه ولا أنزعها عنه أبدا. وهذه الآية في فضل أبي بكر على غيره(6/117)
بعد محمد صلّى الله عليه وسلم، لان الله تعالى ذكرها في معرض المدح وفي لفظ الجمع مما يدل على علو شأنه عند ربه، ويدخل في عمومها كلّ من حذا حذوه. ومن هنا أخذ الحكم الشّرعي وهو من حلف على يمين ورأى خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه بنص هذه الآية. وقد جاءت أحاديث الرّسول بمثلها كما قدمناه في الآية 222 من البقرة المارة. والحكم العاشر هو قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ» عن الفاحشة العفيفات عن قربانها نقيات القلوب من كل سوء، الطاهرات من كلّ عيب، كعائشة رضي الله عنها «الْمُؤْمِناتِ» بكل ما جاء عن الله المصدقات لرسوله وكتابه بعد نزول هذه الآيات المبرئات للسيدة عائشة مما رميت به «لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ»
(23) فيها أيضا، وهذا المعنى الكبير الغليظ خاص بمن يرمي السّيدة عائشة بعد إعلان نزاهتها من الله تعالى حقا وجمع الضّمير باعتبار ان رميها رمي لسائر أمهات المؤمنين ويدل على التخصيص قوله تعالى «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ» بما أشاروا فيها «وَأَرْجُلُهُمْ» على المشي بها لبعضهم المتفوه بالإفك جزاء «بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (24) من القبيح، لأنه رمي أي قذف يستوجب العقوبة سواء أكان بالكلام أم بالإشارة.
مطلب في كفر من يقذف السّيدة عائشة بعد بيان هذه الأحكام العشرة المبينة بالآيات في أول السّورة إلى هنا وقصة الإفك:
ومما يدل على تخصيص هذه الآيات بالسيدة عائشة لأن رميها بما بهت عليها كفر ورمي سائر النّساء من غير أمهات المؤمنين لا يعد كفرا، وإن رميها رضي الله عنها بعد نزول هذه الآيات كفر بلا خلاق، لأنه جحد لكلام الله، أما قبل نزولها فلا يعد كفرا بل يستحق الحد الشّرعي المار ذكره أول السّورة، ولأن رميها بعد النّزول يعد استباحة بقصد الطّعن بحضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم، مثل الخبيث عبد الله بن سلول الممعن في عداوة حضرة الرّسول، إذ كان مصرا على رمي السّيدة عائشة قبل نزول الآيات وبعدها، قاتله الله ولهذا لم يوفقه الله للتوبة ولا للإيمان ومات على نفاقه وإصراره، أما حسان ومسطح وحمنه فإنهم لم يستبيحوا ذلك ولم(6/118)
يقصدوا الطّعن بحضرة الرّسول، ولهذا وفقوا للتوبة والقبول، والأعمال بالنيات قال تعالى «يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ» وينالهم جزاؤهم بالعدل «وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ» (25) إذ ترتفع الشّكوك في ذلك اليوم، ويحصل العلم الضّروري لكل أحد بما أخبرت به الرّسل، هذا وإن الله تعالى لم يغلظ في القرآن شيئا من المعاصي تغليظه في رمي السّيدة عائشة، وفأوجز وأشبع، وفصل وأجمل، وأكد وكرر، وما ذلك إلّا لعلو منزلة بعلها صلّى الله عليه وسلم، والتنبيه بفضلها وكرامة أبيها، وقد برأها في هذه الآيات العظام. ثم بين تعالى استحالة وقوع هذه القرية على السّيدة عائشة على الظّنون والأفكار، وتنويها بطهارتها وطيب عنصرها بقوله عز قوله «الْخَبِيثاتُ» من النّساء «لِلْخَبِيثِينَ» من الرجال «وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ» لأن المجانسة من دواعي الانضمام والطّيور تقع على أشباهها «وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ» ولما كان حضرة الرّسول أطيب الطّيبين وأطهر الطّاهرين اختار له السّيدة عائشة من أطيب الطيبات وأزكى الزاكيات، وقد أظهر أن ما نسب إليها اختلاق باطل وزور محض وإفك مفترى وخرافة تافهة، ولذلك برأها الله تعالى بآيات بينات تنويها بعلو شأن بعلها وأبيها ونفسها مع انه جل ذكره برأ السّيد يوسف عليه السّلام بشاهد من أهل زليخا وبرأ موسى عليه السّلام باعتراف الباغية وبرأ مريم عليها السّلام بانطاق ابنها فكانت براءة عائشة أعظم للأسباب المارة «أُولئِكَ» إشارة إلى السّيدة عائشة وصفوان فقط والجمع يطلق على الاثنين فصاعدا كما نوهنا به في الآية 45 من سورة النمل ج 1 والآية 78 من سورة الأنبياء ج 2 وسيأتي نحوه في الآية 19 من سورة الحج «مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ» الأفاكون الخبثاء وأولئك «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» لذنوبهم «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» (26) في الآخرة، وهذا الحكم الحادي عشر وهو آخر ما نزل في السّيدة عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، وهي تلك الدّرة المصونة التي قبض حضرة فالرسول في حجرها، ودفن في بيتها، وكان ينزل الوحي في فراشها دون سائر نسائه، ولم يتزوج بكرا غيرها، وقد نوه حضرة الرّسول بفضلها، وأنزل الله الآيات بطهارتها وطيبها، فهل بعد هذا من فضل وكرامة(6/119)
واعلم أن تفسير (لا يَأْتَلِ) بصدر الآية 22 المارة كان جريا على ما قاله بعض المفسرين وهو لا يستقيم إلّا إذا قدر (لا) على فعل (يُؤْتُوا) المفيد للمنع من الحلف على الإعطاء، والمراد بالآية- والله أعلم- المنع من الحلف على ترك الإعطاء كما هو المفهوم من الآية، فيكون قد وضع النّفي مكان الإيجاب، ويجعل المنهي عنه مأمورا به وهو غير مراد، والأحسن الأولى بل الأصح الأعدل أن يؤوّل فعل (لا يَأْتَلِ) بفعل لا يقصر بالإحسان إذ يجوز لغة أن تقول افتعلت مكان فعلت لا العكس راجع الآية 22 من سورة البقرة في بحث حذف (لا) ولبحثها صلة في الآية 93 من سورة المائدة الآتية. وخلاصة قصة الإفك على ما ورد في الصحيحين أنه صلّى الله عليه وسلم خرج إلى غزوة بن المصطلق في هذه السّنة السّابعة من الهجرة وكانت عادته إذا سافر أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها أخذها معه، ولذلك فإنه استصحب السّيدة عائشة رضي الله عنها فيها لخروج سهمها، وذلك بعد نزول آية الحجاب، ولما قفل من غزوتة ودنا من المدينة قالت عائشة عند ما آذن أي أعلم بالرحيل مشيت حتى جاوزت الجيش فقضيت حاجتي ورجعت، التمست صدري فإذا العقد مقطوع، فرجعت ألتمسه، فحبسني ابتغاؤه، واحتمل الرّهط هودجي ورحلوه على بعيري يحسبون أني فيه، وساروا فوجدت عقدي ورجعت فعدت إلى منزلي
الذي كنت فيه وقعدت لظني أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي، فغلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطل السّهي قد عرّس (أي نزل آخر اللّيل) وراء الجيش فادّلج (بالتشديد بالدال وهو السّير آخر اللّيل والدّلجة بضم الدّال وفتحه السير أول اللّيل وبالتخفيف السّير كلّ اللّيل أو آخره راجع الآية 46 من سورة الرحمن المارة) فأصبح عند منزلي، فعرفني لأنه كان يراني قبل نزول الحجاب فاستيقظت على استرجاعه (أي قوله حين رآها متأثرا من نسيانهم إياها إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) فخمّرت وجهي بجلبابي، فأناخ راحلته ووطئ على يدها، فركبتها وانطلقت بي الرّاحلة حتى أتينا الجيش، وو الله لم يكلمني، ولا سمعت منه غير استرجاعه، فهلك من هلك في شأني، ولما قدمنا المدينة اشتكيت (أي مرضت) والنّاس يفيضون بالإفك فيّ من حيث لا أشعر، وقد رابني أني لا أرى اللّطف(6/120)
الذي كنت أراه من النّبي صلّى الله عليه وسلم، فلمّا نقهت (أي شفيت) خرجت وأم مسطح ليلا إلى المتبرز «محل قضاء الحاجة» قبل اتخاذ الكنف، فعثرت في مرطها، فقالت تعس مسطح، فقلت أتسبين رجلا شهد بدرا، فقالت أولم تسمعي ما قال؟
قلت وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا، واستأذنت رسول الله أن آتي أبوي، فأذن لي، فقلت لأمي ماذا يتحدث النّاس؟ فقالت هوني على نفسك، فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر الا أكثرن عليها، قلت سبحان الله ويتحدث النّاس فيه، فبكيت اللّيل كله، ثم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعا عليا وأسامة يستشيرهما، فقال أسامة لا نعلم والله إلّا خيرا، وقال علي غير مقالته الأولى لما رأى الرّسول قد أجهده الأمر، ولم ينزل عليه وحي من الله بذلك (لم يضيق الله عليك يا رسول الله والنّساء غيرها كثير واسأل جاريتها) فاستدعاها، وقال لها أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت لا والذي بعثك بالحق، ثم استدعى زينب بنت جحش وكانت تساميني من أزواجه فسألها فقالت يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت عليها إلّا خيرا، فعصمها الله بالدرع (وهذه المقالة من علي كرم الله وجهه لما بلغت عائشه رضي الله عنها، أغاظتها وصارت منذ ذلك اليوم لم تسم عليا باسمه بل تقول جاء النّبي ورجل وذهب ورجل) قالت ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرفأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأصبح عندي أبواي، وقد بكيت ليلتين ويوما حتى ظنّا أن البكاء فالق كبدي، فدخل رسول الله وجلس عندي وكان لم يجلس من يوم قيل ما قيل، فقال يا عائشة بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن ألمت بذنب فتوبي إلى الله، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه فقلص (أي انقطع) دمعي حتى ما أحس منه بقطرة، فقلت لأبي أجب رسول الله، فقال والله ما أدري ما أقول، فقلت لأمي أجيبي رسول الله قالت والله ما أدري ما أقول، فقلت لقد علمت أنكم سمعتم ما تحدث به النّاس حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فئمن قلت إني بريئة والله يعلم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم إني بريئة منه لتصدقني فو الله ما أجد لي ولكم مثلا(6/121)
إلا أبا يوسف إذ قال فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، ثم تحولت واضطجعت على فراشي وظننت بأن الرّسول سيرى رؤيا ببراءتي لا أن ينزل الله فيّ قرآنا، لأني أحقر من أن يتكلم الله فيّ قالت والله مارام رسول الله مجلسه ولا خرج أحد من البيت حتى أنزل الله هذه الآيات، فقال أبشري يا عائشة أما الله فقد براك، فقالت أمي قومي إلى رسول الله (أي لتقدم لحضرته الشّكر اللائق بمقامه تجاه بشارته لها) فقلت والله لا أقوم ولا أحمد إلّا الله الذي أنزل براءتي، وقالت أن الرّجل الذي قيل له ما قيل يعني صفوان بقول سبحان الله فو الذي نفسي بيده ما كشفت من كنف (أي ستر) أنثى قط، ثم قتل في سبيل الله. ومن قوة دينها رضي الله عنها أنها كانت تكره أن يسب حسان بحضرتها مع أنه من أهل الإفك ولقوله رحمه الله في ذلك:
هجرت محمدا وأجبت عنه ... وعند الله في ذلك جزاء
فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم فداء
(وفي رواية وقاد)
أتشتمه ولست له بكفء ... فشر كما لخيركما الجزاء (الفداء)
لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري لا تكدره الدّلاء
وقد اعتذر عما وقع منه في حديث الإفك الذي نقله الملعون ابن سلول، وقال رضي الله عنه فيها:
حصان ماتزنّ (تتهم) بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
أي جائعة لا تغتاب أحدا أبدا.
حليلة خير النّاس دنيا ومنصبا ... نبيّ الهدى ذي المكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤى بن غالب ... كرام المساعي مجدهم غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها «1» وطهرها من كلّ سوء وباطل
فإن كنت قد قلت الذي قد زعموا ... فلا رفعت سوطي إلي الأنامل
وكيف وودي ماحيبت ونعرتي ... لآل رسول الله زين المحافل
__________
(1) خيمها: طبيعتها وسجيتها، والخيمة معروفة.(6/122)
له رتب عال على النّاس كلهم ... تقاصرت عنه سورة المتطاول
فإن الذي قد قيل ليس بلائط ... ولكنه قول امرئ لي ما حل
(يقال محل به إذا سعى به إلى السّلطان فهو ماحل) ولاط بمعنى أصاب وأمر واقتضي وابتغي، والمراد به هنا الأوّل، أي ليس بصائب.
مطلب آداب الدّخول على الدّور وطوق الباب والدّخول بلا أذى والوقوف أمام باب الدّار وحومة النّظر إلى من فيها:
هذا إنهاء قصة الإفك ذكر الله شيئا من تأديبه إلى خلقه للمناسبة فقال أولا «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا» تستأذنوا، وأصل الاستئناس الاستعلام والاستكشاف، أي حتى تعلموا أيؤذن لكم أم لا، وطريقة الاستئذان بالدخول لدار الغير تكون بما هو متعارف بالبلدة من الألفاظ كالكلام والتسبيح والتكبير والتحميد والتصفيق والتنحنح وطرق الباب «وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها» بعد الاستئذان «ذلِكُمْ» الاستئذان قبل الدّخول والتسليم بعده «خَيْرٌ لَكُمْ» من أن تتهجموا البيوت بغتة على حين غرة من أهلها، ولا تدروا ما يصادفكم من القبول أو الرّد إذا دخلتم حال غفلة أهلها، فانتبهوا لهذا (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (27) هذه الآداب فتنقيّدون بها وتعلمونها غيركم «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً» يأذن لكم كأن يكون فيها امرأة شابة لأنها لا تأذن عادة بالدخول للبيت الذي هي فيه إذا كانت وحدها أو تكون خالية من أهلها «فَلا تَدْخُلُوها» لما في الدّخول من الرّيبة والتهمة في المرأة أو مظنة السّرقة أو الاطلاع على ما في البيت، ولهذا فاحذروا من الدّخول «حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ» من قبل من يملك الاستئذان والأذن من الخدم وأصحاب الدّار لا غيرهم، ولو فرض أن الشّابة الموجودة وحدها أذنت له فلا يجوز له الدّخول عليها خشية الفتنة أو تقول النّاس فيما لا يرضى، وكذلك لا يدخل بمطلق اذن العبد والجارية والصّغير حتى يستأذنا من أسيادهما وأهله لأنهم لا يملكون حق الأمر بالدخول، والصّغير والصّغيرة لا يعقلان ولا يعرفان المحاذير الناشئة عنه، وعلى هذا فليس لأحد الدخول إلّا إذا تحقق صدور الإذن من أهل(6/123)
القول في البيت، فلعله إذا دخل على اذن من لا يملك الإذن يلاقي ما لا يحب أو ما يكره من أهل البيت من وجود معذرة أو أمر ما، ولهذا قال تعالى «وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا» حالا ولا تقفوا ولا تتفجروا أو تغتاظوا أو تغتضبوا. واعلموا أن رجوعكم بسبب تلك الأعذار وبمطلق عذر يصدر عن أهل البيت «هُوَ أَزْكى لَكُمْ» وأطهر وأصلح لما فيه من البعد عن مواقع التهم وعن منع أهل البيت من أشغالهم، وقد تكون معذرتهم لا تمكنهم من قبولكم لأن للناس أحوالا يكرهون اطلاع الغير عليها أو تأخير إنجازها أو تهيثهم للقبول «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» (28) لا يخفى عليه شيء من أمر الدّاخل والمدخول عليه وصدقهما ونيتهما، ولما نزلت هذه الآية قالوا كيف بالبيوت بين مكة والشّام والمدينة ليس فيها مساكن، يريدون الخانات المعدة لنزول المسافرين وكانت تعمر من قبل أهل الخير ويوضع فيها الماء وتترك ماوى للغادين والبادين دون أجر ما بخلاف ما عليه الحالة الآن اللهم إلّا ما بقي من الخانات الموقوفة لهذه الغاية وما أحدثته وجددته الدّولة العثمانية على طريق الحاج من آثار من تقدمها من الحكومات التي كانت تعمل محلات هكذا لتسهيل أمر الحجاج والتيسير عليهم تأمينا لراحتهم، فأنزل الله ثابتا فيما هو غير مسكون فقال جل قوله «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ» بغير استئذان إذا تحققتم أن ليس فيها أحد لأن الأذن شرع على البيوت لوجود المخدرات فيها أو وجود أناس في حالة لا يجوز أن يطلع عليهم أحد معها، فإذا لم توجد هذه المحاذير فلا حاجة للاستئذان إذ قد يأتي الرّجل إلى أهل بيت لا يحبون دخوله عليهم مطلقا أو لا يريدون الزائر نفسه أو لوجود أحد يكرهه أو لا يحب أن يجلس معه أحد، فإذا أتقنت هذه الأعذار وغيرها مما يصح أن يكون عذرا جاز لكم الدّخول، ولا سيما إذا كان «فِيها مَتاعٌ لَكُمْ» وضعتموه قبلا أو وضعه أحد لكم كما هي العادة الآن أيضا، حيث يتركون في المنازل الواقعة على الطّرق وبالخاصة التي يرجعون إليها بعد قفولهم، حتى أن بعض النّاس في بلادنا يضعون بعض أثقالهم عند قبور الصّالحين وفي قببهم لاعتقادهم أن أحدا لا يجرؤ على أخذها، وهو كذلك لأن العقيدة فيهم والحمد لله(6/124)
سائدة، ففي هذه المواقع لا حاجة للاستئذان إذ لا يوجد فيها أحد غالبا، وإذا كان فيها قيما أو خادما فإنهم قد يودعون عنده بعض أشيائهم عند ظهورهم إلى المراعي ونزولهم للقرى وهكذا المساكن التي يأوون إليها بقصد اتقاء الحر والبرد أو الاستراحة والنّوم، فلا حاجة أيضا للاستئذان وهكذا كلّ محل يتحقق لكم أن لا أحد فيه جاز الدّخول إليه لمطلق منفعه، أما عبثا فلا، لصريح الآية
وتقييدها بالمتاع، إذ قد يجد العابث مالا يحب، وقال صلّى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما يريبك «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ» من أموركم وأعمالكم «وَما تَكْتُمُونَ» (29) من أسراركم ونياتكم. هذا هو الحكم الشّرعي في ذلك ولها آداب أخر منها أن لا يقف أمام الباب لئلا يطلع على من في الدّار بل على يمينه أو شماله أي الجهة التي لا يفتح إليها لئلا ينظر لمن يأذن له ولا ينظر من شقوقه فيطلع على من هو داخل الدّار، وإذا كان الباب مفتوحا فليرده ثم يطرقه، بتؤدة وسكون لا بشدة وغضب لما فيه من قلة أدب المستأذن وعدم احترام صاحب البيت وإيقاع الرّيب في قلبه، ولا يصح يا فلان، وإذا قيل له من أنت؟ فليقل فلان بن فلان أو يذكر شهرته إن كان معروفا بها ليعلم صاحب الدّار هويته، حتى إذا لم يحب دخوله أو عنده من لا يحبه اعتذر، أما إذا كان مجيئه مع الرسول فلا حاجة للاستئذان لأن الرّسول هو الآذن وإنما ذهب ليأتي به بإذن المرسل، وإذا كان في البيت محارمه ليستأذنهم أيضا لعلهم في حالة لا يحبون اطلاعه عليها، وإذا وقع بصره على صاحب الدّار يسلم عليه أولا ثم يستأذن بالدخول، ولا يستعجل بل ينتظر قليلا لعلهم يصلحون شأنهم ومحلهم لأجله أو أنفسهم من تبديل لباس لا يليق بهم لقاؤه به أو يزيلوا ما يكرهون أو ما يكرهه هو النّظر إليه وغير ذلك. ويجوز الدخول بلا استئذان إذا رأى حريقا أو طفلا على شفا حفرة أو رأس جدار أو أعمى عليهما أو سمع استغاثة داخلها أو علم وجود منكر فيها وكان يقدر على إزالته لإطفائه وتخليصه ومنعه، أو رأى عقربا او غيرها قريبا من نائم او غافل او صغير او مجنون، ففي هذه الأحوال له أن يدخل وان يستعين بغيره لدرأ هذه الأشياء، أخرج ابو داوود عن عبد الله بن يسرة قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا(6/125)
أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن او الأيسر ويقول السّلام عليكم. وذلك إن الدّور لم يكن عليها يومئذ ستور فإذا كان لها وراء الباب مانع من الاطلاع على داخلها وما وراءها فيجوز ان يقف أمامه لعدم المحذور، وأخرج ابو داود عن ابي هريرة قال قال صلّى الله عليه وسلم إذا دعي أحدكم فجاء مع الرّسول فإن ذلك إذن له. وأخرج مالك في الوطأ عن عطاء بن يسار ان رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال استأذن على أمي قال نعم، فقال إني معها في البيت، فقال صلّى الله عليه وسلم استأذن عليها، فقال الرّجل إني خادمها، فقال صلّى الله عليه وسلم استأذن عليها أتحب ان تراها عريانة؟ قال لا، قال فاستأذن عليها وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال اطلع رجل من حجر باب النّبي صلّى الله عليه وسلم ومع رسول الله مدري يرجل، وفي رواية يحك به رأسه، فقال صلّى الله عليه وسلم لو علمت انك تنظر لصقت به فيك، إنما جعل الإذن من أجل البصر، والمدري المشط والقرن وهنا يراد به الثاني لمناسبة الحال والله اعلم. ورويا عن ابي هريرة ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم ان يفقؤا عينه قال تعالى في الأدب الثالث «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ» عما لا يحل النّظر إليه قصدا روى مسلم عن جرير قال سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن نظرة النّجأة قال اصرف بصرك، وأخرج ابو داود والترمذي عن بريدة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلي يا علي لا تتبع النّظرة النّظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية وروى مسلم عن ابي سعيد الخدري ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لا ينظر الرّجل إلى عورة الرّجل ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يقضي الرّجل إلى الرّجل في ثوب واحد، ولا تقضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد أي لما في ذلك من الملامسة والنّظر إلى المنهي عنهما وفي ذكر الرّجل والمرأة إشارة إلى أن ذلك معفو في الأولاد والبنات الّذين هم دون البلوغ بل التمييز كما سيأتي في آخر هذه الآية «يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ» عما لا
يحل من الزنى واللّواطة والاستحلاب والسّحاق وابدائها للنظر إليها «ذلِكَ» غض البصر عن المحرمات وحفظ الفروج عن الزنى ودواعيه «أَزْكى لَهُمْ»(6/126)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
من دنس الإثم «إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ» (30) في اجالة النّظر وحركات الحواس والجوارح، فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم ونياتكم.
مطلب فيمن يجوز نظره ومن لا وستر الوجه وغيره وما هي الزينة التي لا يجوز النّظر إليها والنّكاح:
هذا ويجوز النّظر إلى وجوه المحارم وشعورهن واثديتهن واعضائهن وأقدامهن وكذلك الجواري المعروضات للبيع وإلى وجه الأجنبية وكفيها إذا أراد خطبتها، او كان شاهدا او حاكما يقضي عليها، أو إذا كانت محترفة، فلمن يشتري منها او يبيعها جواز النّظر إلى وجهها لمعرفتها فيما إذا كان وجب الرّدّ بالعيب والإشهاد على العقد او على نقد الثمن وغيره من متعلقات العقود.
قال تعالى «وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ» عما لا يحل من الزنى والسّحاق وإبدائه للنظر له كما تقدم في الأدب الثالث «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ» الخفية التي لم يبح كشفها للاجانب «إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ» المؤمنات بدليل الإضافة ولم يذكر في هذه الآية العم والحال مع أنهما من المحارم في جواز النّظر أيضا وهو قول الحسن البصري وقال لأن الآية لم يذكر فيها الرّضاع وهو كالنسب وجاء في آية الأحزاب 54 لا جناح عليهن في آبائهن ولم يذكر فيها البعولة ولا أبناءهم، وقد ذكروا هنا إذ قد يذكر البعض لينبه به على الجملة، قال الشّعبي إنما لم يذكرهما الله لئلا يصفهم العم والخال عند أولادهما، ومعناه ان القرابات تشارك الأم والأب في المحرمية إلّا العم والخال وأبناءهما فإذا رآها العم والخال فلربما يصفانهما لا بينهما فيقربان تصورهما إليهما بالوصف من نظرهما إليهما وهو ليس بحرام، إلا أنه من الدلالات المبغية على وجوب الاحتياط عليهن في التستر وهي من المروءة والغيرة، أخرج الترمذي عن أم سلمة قالت كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعنده ميمونة بنت الحارث إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليها فقال صلّى الله عليه وسلم احتجبا منه، فقلنا يا رسول(6/127)
الله أليس بأعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال صلّى الله عليه وسلم أفعمياوان أنتما ألستما تبصران وذلك لأن النّظر كما هو محرم على الرّجال محرم على النّساء. وأخرجه ابو داود أيضا وقدم غض البصر على حفظ الفرج، لأن النّظر بريد الزنى ورائد الفجور وبذر الهوى طموح العين، وفيه قيل:
كل الحوادث مبداها من النّظر ... ومعظم النّار من مستصغر الشّرر
والمرء مادام ذا عين يقلّبها ... في أعين العين موقوف على الخطر
كم نظرة فعلت في قلب فاعلها ... فعل السّهام بلا قوس ولا وتر
يسر ناظره ماضر خاطره ... لا مرحبا بسرور جاء في الضّرر
والمراد بالزينة هنا الأساور والخلاخل في الأيدي والأرجل والخضاب فيها والقرط في الأذنين والخواتم في الأصابع والقلائد في الأعناق والصّوافن في الشّعر والشّعر نفسه سواء المسترسل وغيره، ومن هذا بدوا الأعضاء بسبب تضييق اللباس وما يضعنه على الثدايا والأرداف بقصد تصغيرهما وتكبيرهما وكلّ ما يطلق عليه اسم الزينة. واعلم أنه كما لا يجوز إبداء شيء من ذلك لا يجوز النّظر إليه ممن لا يحل له وقد يجوز إبداء شيء من ذلك للحاجة كأن كانت تمتهن أو للضرور كالشهادة والحكم والحاكم والطّبيب المسلم، لأن إبداء الوجه بشيء من ذلك يستلزم إبداء الكحل في العينين، وإظهار الكفين يستوجب إظهار الخواتم والخضاب في ظاهرهما وباطنهما، ولا يعني هذا جواز نظر الأجنبي الى هذا الظّاهر دون حاجة كلا بل لا يجوز النّظر مطلقا لما فيه من الفتنة ولما يجر وراءه من العواقب السّيئة فكم نظرة أحرقت قلب ناظرها في الدّنيا وجسمه في النّار بالآخرة باتباع نفسه هواها، وإذا كان إبداء الزينة منهن عنه فإن إبداء الوجه الذي كله زينة خلقة وحلية يكون منهى عنه من باب أولى فيثبت بهذا وبما قدمناه في الآية 59 من سورة الأحزاب أن ستر الوجه واجب، والنّظر إليه غير جائز، والسّفور حرام بالكتاب والسّنة واجماع الأمة تدبر، ولا تلفت الى أقوال الزائغين عن السّداد من أهل العتو والفساد بلا حجة ولا برهان اتباعا لما تسوله أنفسهم الخبيثة وما يوسوس له إليهم قرناؤهم من الجن والإنس والشّياطين وأهل البغي والعناد أولئك(6/128)
الّذين غضب الله عليهم وأصمهم وأعمى أبصارهم، والمراد بالجيوب في الآية هو شق الثوب مما يلي الصّدر وكانوا يتوسعون بذلك لإخراج الثدي لإرضاع الولد حتى تبدو صدورهن منها وكن يسدلن الخمر سدلا وهي الملافع وراءهن، فأمرهن الله في هذه الآية أن يسدلن بعضها على صدورهن كي تكون كالمقانع يغطين النّحر والعنق والصّدر والأذان وما فيهما من الأقراط وما على صدورهن من الحلي وعلى أكتافهن من الشّعر حتى لا يبقى إلّا تدويرة الوجه فيسدلن عليه شيئا من طرفه الآخر لأن الوجه والكفين وإن كانا ليسا من العورة في الصّلاة ففي خارجها عورة يحرم النّظر إليها خشية الافتتان. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت يرحم الله نساء المهاجرين الأوّل، لما أنزل الله (وَلْيَضْرِبْنَ) إلخ الآية، شققن مروطهن فاختمرن بها.
والمرط كساء من صوف أو خز او كنان «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ» من الجواري، فكل هؤلاء يجوز النّظر لهم إلى محارمهم عدا ما بين السّرّة والرّكبة، أما المملوكون المذكورون فلهم النّظر للزينة الظّاهرة فقط سواء كانوا فحولا أو خصيين أو عنينين، قال سعيد بن المسيب لا تغرنكم سورة النّور فإنها في الإماء دون الذكور، وظاهر القرآن يؤيد ذلك، لأن الآية مسبوقة لما قبلها أي معطوفة على نسائهن، والمراد بهن الأحرار فناسب عطف النّساء المملوكات عليهن. وقال بعضهم إذا كان العبد عفيفا جاز له الدّخول على سيدته والنّظر إليها إلّا ما بين السّرّة والرّكبة مستدلين بأن السّيدة عائشة رضي الله عنها أباحت لعبدها النّظر إليها، ويروى ذلك عن أم سلمة أيضا، وروى أنس أن الرّسول أتى فاطمة بعبد وقال إنه ليس عليك بأس إنما هو غلامك، إلا أن هذه الرّوايات لم تثبت صحتها ثبوتا يركن إليه ويمكن جعلها حجة للاستدلال، وعلى فرض صحتها فأين العفة المطلوبة بالعبد الآن، وأين عبيدنا وخدمنا من عبيدهم وخدمهم، ونساؤنا من فاطمة وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهن، على أن قوله صلّى الله عليه وسلم للسيدة فاطمة لا بأس عليك إنه غلامك على فرض صحته يصرف إلى نظر الوجه واليدين إذ لا يمكن حجبهما عن الخادم الأمين لضرورة الأخذ والعطاء، أما نساء الرّسول صلّى الله عليه وسلم فلا قياس عليهن، لأنهن أمهات المؤمنين أجمع ولا يمنع النّاس من النّظر إلى أمهاتهم، ومع هذا كن(6/129)
يحتجبن. إن هؤلاء المارين كلهم بمثابة قسم واحد ممن يباح النّظر إليهم من الأقارب ثم بين القسم الثاني من الأجانب بقوله عز قوله «أَوِ التَّابِعِينَ» الّذين يتبعون الناس لأجل تناول فضلات طعام وخلقان ملابسهم من الشّيوخ الطّاعنين في السنّ الّذين قنت شهواتهم والمسوحين الّذين قطعت مذاكيرهم أو خصائهم، والبله الّذين لا يعرفون أمر النّساء والمعتوهين والمجانين وأشباههم المرادين في قوله تعالى «غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ» الّذين لا حاجة لهم بالنساء ولا يعرفون شيئا من أمورهن ولا تحثهم أنفسهم بفاحشة ما، ولا يصفون للأجانب ما يرون منهن، فهؤلاء لا بأس بان ينظروا من النّساء ما ينظر منهن محارمهن، أما المجبوب الذي قطع ذكره فقط والمخصى والمخنّث الذي لا ينتشر ذكره فهم من أولي الإربة أي الحاجة بالنساء، فلا يجوز تمكينهم من النّظر إلى النّساء لأنهم يشتهون ويعرفون أمور النّساء ويصفونهم للأجانب ولبعضهم، ثم بين الأجانب الآخرين الّذين هم من القسم الثاني الّذين يجوز لهم النّظر بقوله جل قوله «أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ» أي لم يقدروا على الوطء لعدم الشّهوة ويدخل فيهم كلّ من لم يبلغ سن المراهقة والتمييز وهو الأولى لأن المراهقين قد يعرفون شيئا من ذلك فينبغي التحاشي عن اطلاعهم على الأجانب وعدم التساهل بشأنهم، والشّر أوله نظرة والنّار أولها شرارة، والحرب أولها كلام، ألا فليحذرن اللائي يذهبن إلى الحمام من ذلك، «وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ» معطوفة على ولا يبدين لأنهن إذا ضربن الأرجل حال مشيهن بأرجلهن «لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ» وهو ظهور الخلخال وصوته إذ في باطنه حصى ليصوت عند ضرب الرجل بالأرض فتتنبه الرّجال للنظر إليهن فيكن كأنّهن قد عرضن أنفسهن بذلك «وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً» رجالا ونساء أحرارا وعبيدا «أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ» مما صدر منكم من ذلك، ولا تعودوا اليه أبدا، وان ما وقع منكم من ذلك قبل صدور هذه الآية فهو عفو، أما بعدها فلا، إذ جاءكم النّهي من ربكم، فاتعظوا أو لا تفعلوا منه شيئا، واعملوا بما أمرتم به «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (31) فتفوزون بخير الدّنيا والآخرة، وانما وصى الله عباده بالتوبة(6/130)
لأنهم لا يخلون من خطأ وإن حرصوا كلّ الحرص، وقد وعدهم بالفلاح ترغيبا لملازمتهم التوبة وأحوج النّاس إليها من يرى نفسه أن ليس له حاجة بها، لأنه غافل لاه والغافل أكثر النّاس وقوعا بالخطا. وبعد أن ذكر الله تعالى هذه الآداب الثلاثة المحتوية على آداب ثلاثة شرع يبين احكاما أخر غير الأحد عشر الأولى فقال جل قوله «وَأَنْكِحُوا الْأَيامى» الغير متزوجين رجالا أو نساء «مِنْكُمْ» أيها الأحرار «وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ» عبيدكم المذكورين «وَإِمائِكُمْ» عبداتكم الصّالحات «إِنْ يَكُونُوا» هؤلاء الأيامى «فُقَراءَ» لا مال لهم فاعطوهم على فقرهم وزوجوهم «يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» الوافر العميم، واحذروا أن يمنعكم الفقر من التزويج والزواج، فإن الله وعد عليهما الغنى
«وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» (32) ؟؟ بهم قادر على سد حاجتهم بل على إغنائهم من فضله وكرمه وإعطائهم أكثر منكم، الا لا يمتنع الرّجل أن يزوج ابنته من الفقير لأن الله قد يغنيه بمقتضى هذه الآية، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال قال صلّى الله عليه وسلم يا معشر الشّباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء أي قطع لمادة الشّهوة، لأن الوجاء رض الخصيتين وهو نوع من الخصاء. والباءة النّكاح. وأخرج أبو داود والنّسائي عن معقل بن يسار قال قال صلّى الله عليه وسلم تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة وروى مسلم عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الدّنيا متاع وخير متاعها المرأة الصّالحة. وقال بعضهم في تفسير قوله تعالى (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) أي مع المرأة الصّالحة كما أشرنا بهذا في الآية 98 من ج 2 هذا وإن الله تعالى كما وعد على الزواج الغنى وعد على الطّلاق الغني أيضا، راجع الآية 130 من سورة النساء المارة الحكم الشّرعي يسن على التأكيد لمن تتوق نفسه الجماع أن يتزوج، وإذا خاف من عدم الوقوع بالحرام وجب عليه إذا كان قادرا على المهر والنّفقة بنسبة أمثاله، وإلّا فعليه إدامة الصّيام كسرا لشهوته، ومن لا تتوق نفسه ذلك وهو في أمن من الوقوع في الحرام فهو بالخيار قال تعالى «وَسَيِّداً وَحَصُوراً» يمدح سيدنا يحيى عليه السّلام لأنه لا يأتي النّساء ولا يرغب فيهن مع قدرته على الزواج(6/131)
وتغلبه على نفسه، وهو عليه السّلام مخصوص بذلك من عموم الأنبياء قال تعالى (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) أي اللاتي لا يتزوجن كما سيأتي بحثهن في الآية 91 من هذه السّورة ويفهم من حمد سيدنا يحيى وعدم ندب القواعد للزواج جواز عدمه للقادر عليه الحافظ لنفسه، إلا أن الزواج أفضل لما فيه من التكاثر الذي ندب إليه حضرة المصطفى بحديثه الآنف الذكر، يؤيده الخبر الوارد لا رهبانية في الإسلام.
وتفيد هذه الآية ان أمر تزويج الأيامى منوط بأوليائهم، والعبيد والإماء إلى ساداتهم، بدليل مخاطبتهم بذلك بقوله جل قوله (وَأَنْكِحُوا) وعليه فلا يجوز زواجهم بغير إذنهم وهو كذلك، ويدل عليه قوله تعالى (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) الآية 15 من النّساء المارة وهذه تؤكد تلك لشمولها الأحرار أيضا وبما أخرجه ابو داود والترمذي عن أبي موسى الأشعري، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا نكاح إلّا بولي، ولهما عن عائشة عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال أيما امرأة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها باطل ثلاثا فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن تشاحّوا فالسلطان ولي من لا ولي له. ولهذا قال الإمام مالك عليه الرّحمة إن كانت المرأة دنيّة يجوز لها تزويج نفسها، أي لأن أوليائها منها براء لدناءتها وإن كانت شريفة فلا.
مطلب ارجاء زواج الفقير لفناه. وجواز الكاتبة ندبا. وفي معنى (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) . ومعنى قوله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) :
قال تعالى «وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» فيتزوجوا حينذاك وإلا فعليهم ملازمة التقوى والصّبر والصّيام ومداومة العمل والتكسّب، حتى إذا من الله عليهم تزوجوا «وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ» بلا أجل أو الى أجل قليل أو كثير «مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» من العبيد والإماء «فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً» قدرة على الكسب وأمانة على الوفاء وديانة تحفظهم من النّكث والنّقض وتجربة ليطمئن لها المكاتب.
وعلى هذا إذا وثقتم بهم وكاتبتموهم فأعينوهم امتثالا لأمره تعالى المنوه به في قوله «وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ» أي من الزكاة، لأنهم من(6/132)
الأصناف الثمانية الآتي ذكرهم في الآية 62 من سورة التوبة إعانة لهم على أداء بدل المكاتبة لكم، ومن الإعانة أن تحطوا عنهم منها ابتغاء وجه الله، وقد نزلت هذه الآية في صبيح غلام حويطب بن عبد العزّى حين سأل مولاه أي يكاتبه فأبى فلما نزلت كاتبه على مئة دينار، ثم وهب له منها عشرين فأداها له، وقتل في واقعة حنين في السّنة الثامنة من الهجرة بعد فتح مكة، وقد أشار الله تعالى إليها بقوله جل قوله (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) الآية 27 من سورة التوبة الآتية، وسيأتي ذكر القصة بحذافيرها هناك إن شاء الله. والحكم الشّرعي هو ان الأمر بالمكاتبة على طريق النّدب والاستحباب، لأن الأمر معلق على فعل الخير والصّارف له من الوجوب التقييد لأن الأمر لا يكون للوجوب إلّا إذا كان خالصا من القيد والتخصيص والتعليق، لهذا فإن الأحب للسيد ان يكاتب عبده طلبا لتحريره وابتغاء لوجه الله، لأن المكاتبة تقدمة للعتق الذي رتب عليه الأجر الكثير. روى أن سيرين أبا محمد العابد المشهور دفين الزبير من أعمال ولاية البصرة في العراق، سأل سيده أنس بن مالك ان يكاتبه، فأبى عليه، فراجع عمر رضي الله عنه فاستدعى أنا وأمره بمكاتبته، فلم يفعل، فضربه بالدرة وتلا عليه هذه الآية، إلا أن هذا لا يستدعي الوجوب لأن غاية ما فيه أن عمر توهم فيه الصّلاح وأحب ان يعتق فكان منه ما كان من الزهد والتقوى والمؤلفات، رحمه الله رحمة واسعة ورضي الله عن سيدنا عمر ما أحد نظره وأصوب فراسته. وكيفية المكاتبة ان يقول السيد لعبده كاتبتك على الف درهم تؤديها لي أقساطا كلّ شهر كذا او كلّ سنة فإذا أديتها كاملة فأنت حر فإذا أدى له تمام المبلغ عتق وصار حرا في كسبه وولده، والأولاد الّذين يحصلون له زمن هذه المكاتبة أحرارا ايضا تبعا له، أما الّذين قبل عقد المكاتبة فعبيد إلّا إذا نص على حريته في عقد المكاتبة، وإذا لم يؤد تمام المبلغ المكاتب عليه فسخ العقد وبقي وأولاده مملوكين على حالتهم الأولى وما كسبه من المال لسيده، لأن كسب العبد وما يملك من مال وولد لسيده أخرج ابو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال صلّى الله عليه وسلم المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. وأخرج الترمذي والنسائي عن ابي هريرة ان رسول صلّى الله عليه وسلم(6/133)
قال ثلاث حق عليّ الله عونهم المكاتب الذي يريد الأداء والنّاسخ الذي يريد العفاف والمجاهد في سبيل الله هذا وإذا مات المكاتب قبل إيفاء بدل المكاتبة وقبل مضي مدتها ووجد عنده ما يكمل البدل أخذه سيده ومات حرا ويكون ولده من بعده أحرارا وإلّا فيموت على رقه ويبقى أولاده مملوكين بعده كما كانوا قبل والأحب ان يترك السّيد ما بقي عليه طلبا لمرضاة الله تعالى، فإذا وفقه الله وفعل مات المكاتب حرا وصار أولاده أحرارا بعده. أخرج مالك في الموطأ ان عبد الله بن عمر كاتب غلامه على خمسة وثلاثين الف درهم، فوضع في آخر كتابته خمسة آلاف وهكذا يستحب ان يضع عنه من آخر الأقساط لأن الوضع من أولها قد يحمله على الكل ويؤدي به إلى الأمل فيعجز عن الأداء ويبقى رقيقا وهو المتسبب، لأن عدم الوضع من الأول ينشط المكاتب على العمل ويحمله على الأداء ويزيد في عزمه وحزمه على خلاص نفسه ويحزم على أداء تمام المبلغ، إذ يحتم على نفسه انه مطلوب منه، فإذا ترك له القسط الأخير كان عونا له في امره وكان صدقة تصدق بها عليه فيطيب خاطره ويقدر فضل سيده فلا يدعه «وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ» إنما قال فتياتكم لأنهن المتوقع منهن بخلاف العجائز والصّغار، والمراد بهن هنا العبدات، لما جاء في الخبر لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فناي وفتاتي، لأن الكل عبيد الله فلا يليق ان تنسب العبودية لنا ونحن العبيد. والبغاء الزنى في النّساء خاصة «إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» عنه «لِتَبْتَغُوا» بإكراههن على الزنى «عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا» من الاحتواء على كبهن الخبيث وأولادهن الحاصلين من الزنى ليكونوا عبيدا لهم تبعا لأمهاتهم «وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ» على
ذلك فيفعلنه مكرهات بعد هذا النّهي فهو آثم، وهؤلاء إذا تبن بعد هذا عن تعاطي هذا الفعل القبيح «فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ» لهن ولهم ايضا إذا عدلوا عن إكراههن «رَحِيمٌ» (33) بهم جميعا إذا تابوا وأتابوا وإلّا فيكون الإثم على المكره إذا تحققت شروط الإكراه، لأن آمر المطيعة المواتية للبغاء لا يسمى اكراها، ولا أمره أمر إكراه. وفي هذه الحالة يكون الإثم على الاثنين لا فترافهن الزنى ولرضاء السّيد فيه. واعلم ان في إيثار(6/134)
لفظ (إن) على (إذا) إيذان بأنهن كن يفعلن ذلك برغبة ورضا منهن، وان المشتكيات منه نادرات شواذ. روى مسلم عن جابر قال عبد الله بن سلول يقول لجاريته اذهبي فابغينا شيئا فأنزل الله هذه الآية. وفي رواية ان جاريتين له يقال لهما سكينة وأمية كان يكرهما على الزنى فشكناه لرسول الله فنزلت. وكان لهذا الخبيث ستّ جوارهاتان اللّغتان ما كانتا ترغبان بالزنى ومعاذه واروى وعمرة وفتيلة اللاتي كن يرغبن فيه. والآية عامة في كلّ من يفعل ذلك، وخصوص السّبب إذا كان اللّفظ عاما لا يقيده. ولا إشكال في قوله تعالى (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) لأن الكلام ورد على سبب وهو الذي ذكر في سبب نزول الآية المارة، فخرج النّهي على صيغة السّبب نفسه وان لم يكن النّهي شرطا فيه لأن الشّرط في ارادة التحصن حيث لا يتصور الإكراه إلّا عند إرادته، فإن لم ترد المرأة التحصن فإنها تبغي بالطبع طوعا، إذ من المعلوم أنه لا يجوز إكراههن على الزنى أردن التحصن أم لا، وفي هذه الآية توبيخ الموالي لأنهن إذا رغبن بالتحصن فهم من باب أولى ان يرغبوا فيه وأحق ان يحبذوه. وليعلم أن هذا ليس لتخصيص النّهي بصورة ارادتهن التعفف عن الزنى وإخراج ما عداها من حكمه، كما إذا كان الإكراه بسبب كراهتهن لخصوص الزنى او لخصوص الزمن او المكان او لغير ذلك من الأمور المصححة للإكراه في الجملة بل للمحافظة على عاداتهم المستمرة، لأنهم كانوا يفعلون ذلك وتقبيح حالهم وتشنيع قبائحهم، لأن من له أدنى مروءة لا يرضى بفجور من في حوزته من الإماء، فضلا عن أمرهن به وإكراههن عليه، لا سيما إذا كن يردن التعفف. هذا ويجوز ان تكون (ان) هنا بمعنى إذ على حد قوله تعالى (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الآية 133 من آل عمران أي إذ كنتم وهنا ينتفي الشرط تأمل. أما من قال ان في الآية تقديما وتأخيرا ويريد بذلك ان يكون نظم القرآن العظيم هكذا (وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصنا ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) بعيد جدا، وان كان حسنا، لأن تلك آية على حدة لا علاقة لها في هذه الآية والله أعلم بنظم كتابه. ولم يثبت عن حضرة المنزل عليه ما يدل على ذلك ولم ينقلها أحد من خواص الصّحابة، لذلك لا يلتفت اليه وهناك قول(6/135)
آخر بان هذا الشّرط في الآية هذه من معطل المفهوم على حد قوله (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) الآية 6 من سورة الأعلى في ج 2، أي فذكر وان لم تنفع لقوله تعالى (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) الآية 57 من سورة الذاريات في ج 2 أيضا لأن مفهوم الأولى إن لم تنفع لا تذكر والتذكير مطلوب لا يعدل عنه للتأكيد عليه في الآية الثانية وتأييده بالأحاديث الصّحيحة، فعلى هذا لو أبطلنا مفهوم تلك الآية المفسرة يكون المعنى جواز الإكراه عند إرادة التحصن ولا مفهوم في مثله، لأن المفهوم اقتضى ذلك وانتفى لمعارض أقوى منه وهو الإجماع على عدم جواز الزنى بحال من الأحوال وعدم جواز الأمرين مطلقا، وقد يجاب عنه بأنه يدل على عدم الحرمة أو عدم طلب الكف عن الإكراه عند عدم الإرادة وإنه ثابت إذ لا يمكن الإكراه حينئذ، لأنهن إذا لم يردن التحصن لم يكرهن على البغاء والإكراه إنما هو الزام فعل مكروه، وإذا لم يكن لم يتعلق به التحريم لأن شرط التكليف الإمكان ولا يلزم من عدم التحريم الإباحة، والأوّل أولى تدبر قال تعالى «وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ» لحلالكم وحرامكم وطيبكم وخبيثكم «وَمَثَلًا» من أمثال «مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ» لشبه حالكم بأحوالهم، لأن قصة عائشة رضي الله عنها عجيبة كقصة يوسف وموسى ومريم عليهم السلام لأنهم اتهموا وهم براء منزهون مما رموا به، راجع الآية 26 المارة «وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» 34 ربهم المنتفعين بمواعظه لأن تقديم ما فيه عظة لذوي
الألباب نافع لهم. وترمي ألفاظ لولا ولولا ويعظكم الى التنبيه والتحذير عن كل ما نهى الله عنه والترغيب والتحبيذ لكل ما أمر به لمن كان له قلب حي أو القى سمعه ليأخذ به ويقبله، ثم شرع جل شرعه في ضرب الأمثال العظيمة فقال «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» منورهما لمن فيهما «مَثَلُ نُورِهِ» العجيب الشّأن الغريب الإمكان في الإضاءة على أربعة أوجه: الأوّل نور يظهر الأشياء للأبصار وهو لا يراها كنور الشّمس وأمثالها، لأنه يظهر الأشياء الخفية في الظّلمة ولا يراها نور البصر. الثاني نور البصر يظهر الأشياء للإبصار ويراها فهو أشرف من الأوّل الثالث نور العقل يظهر الأشياء المعقولة المخفية في ظلمة الجهل للبصائر وهو يدركها(6/136)
ويراها. الرابع نور الحق وهو يظهر الأشياء المعدومة المخفية في العدم للأبصار والبصائر من الملك والملكوت وهو يراها في الوجود في عالم النّاسوت واللاهوت كما كان يراها في العدم، لأنها كانت موجودة في علمه وان كانت معدومة في ذواتها، لأن علم الله تعالى لا يتغير، وكذلك رؤيته باظهارها في الوجود بل كان التغير راجعا الى ذوات الأشياء وصفاتها عند الإيجاد والتكوين فيتحقق قوله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بأنه مظهرها ومبديها وموجدها من العدم بكمال القدرة الأزلية ومنورهما بالكواكب في السّماء وبالأنبياء والعارفين والعلماء في الأرض، وهذا النّور الجليل العظيم بالنسبة لعقولنا وما يمكن ان نفهمه على طريق ضرب المثل، ذلك النّور في التمثيل والتقريب لعقول البشر «كَمِشْكاةٍ» كوّة طاقة في جدار حجرة لا منفذ لها باللغة الخشبية الموافقة للغة العربية راجع الآية 182 من سورة الشّعراء في ج 1، وقيل إن المشكاة ما يكون فيه الزيت والفتيلة من الأواني، والأوّل أولى وهو ما عليه الجمهور «فِيها مِصْباحٌ» سراج ضخم ثاقب نوره وماج تنتشر منه الأجزاء العظيمة «الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ» بضم الزاي وفتحها بتخليس أي قنديل من الزجاج الصّافي الأزهر، وإنما خص دون غيره لأنه أحكى للجواهر من غيره لما فيه من الصّفاء والشّفّافية كما خصّت الكوة الغير نافذة لأن المكان كلما ضاق أو تضايق كان أجمع للضوء والنّور «الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ» ينلألأ وفادا في صفاء الدّر وزهرته والكوكب يتضاعف نوره إذا درأ منقضا أي اندفع فكأنه يدرأ الظّلام بضوئه، ودرّ الكواكب عظامها مثل السّيارات الخمس، ولم يشبه بالشمس والقمر لأنهما يكسفان بخلاف الكواكب فإنها لا تكسف، والزجاجة مثلثة الزاي كالنخاع والقصاص والوشاح والزوان والجمام والصّوان وغيرها من المثلثات التي يجوز فيها الضّم والفتح والكسر، وذلك المصباح «يُوقَدُ» وقرىء توقد فعل ماض شدد القاف، وهذه القراءة جائزة لأن فيها التصحيف فقط، أي ابدال التاء بالياء فلا توجب زيادة في اللفظ ولا نقصا. واعلم أنه كما توقد النّار بالحطب توقد الأنوار بالأدهان «مِنْ» زيت «شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ» بدل من شجرة وبركتها كثرة منافعها(6/137)
وهي أول شجرة نبتت بالأرض بعد الطّوفان وتعمر أكثر من جميع الأشجار المثمرة ويسرج من زيتها ويدهن به ويؤتدم منه ويدخر ثمرها ولا يسقط ورقها.
مطلب في الزيتون ونوره تقالى ومعنى ضرب المثل وما ينقل عن كعب الأحبار:
أخرج الترمذي عن أسيد بن ثابت أو أبي أسيد الأنصاري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة، والزيت من أصفى الأدهان إذا أتقن عمله «لا شَرْقِيَّةٍ» تصيبها الشّمس عند شروقها فقط «وَلا غَرْبِيَّةٍ» تصيبها الشّمس عند غروبها فقط ولا هي في غرب يضرها برده ولا في شرق يضرها حرّه ولا في مفيأ لا تصببها شمس البتة ولا في مفحاة لا يصببها ظل البتة لأنها إذا كانت شرقية بحتة أو غربية صرفة لا يكون ثمرها جيدا لأن الشّمس لها دخل عظيم في النّباتات وأثمارها أجمع بما أودعه الله فيها من قوة بل تصاحبها الشّمس طول النّهار تكون شرقية غربية تأخذ حظها من الأمرين فيخرج ثمرها من أحسن الأثمار من نوعها وحسن الزيت تابع لحسن الثمر بالدرجة الأولى فيكون والله أعلم المراد بها كونها شامية قدسية لأنهما وسط بين الحرارة والبرودة بالنسبة لبلادنا وأرضها لا شك مباركه طيبة، راجع الآية 76 من سورة الأنبياء ج 2، وزيتونها أجود من غيره لاعتدال الهواء والحرارة والبرودة فيهما غالبا «يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ» بذاته لشدة صفاته «وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ» قبل أن تشتعل ذبالة مصباحه أي فتيلته وإذا كان يضيء قبل مس النّار له فإنه يتضاعف عند مسها له ويزيد ضياؤه كأنه «نُورٌ عَلى نُورٍ» نور صفاء الزيت على نور صفاء المصباح في الزجاجة الدّرّية فيصير نورا متضاعفا من غير تحديد، وليس المراد أنه نور فوق نور ولا مجموع نورين بل نور غير متناه، وهذا هو النّور الذي شبه الحق جل جلاله نوره لخلقه بالنسبة لمداركهم ولما يرونه من أنواعه لا للواقع، لأنه ليس لمثل نوره نور كما ليس لمثله مثل، وكما أن ذاته لا تدرك ولا تكيّف فكذلك نوره جل جلاله، وذلك لأن مدارك العقول فيه عقال، وغاية السّعي لمعرفة كنهه كما هي ضلال.
واعلم أن أبا تمام لما مدح المأمون بقوله:
إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس(6/138)
وقيل له إنك أنقصت الخليفة لتشبيهه بالسوقة وهو فوق ما وصفت وان أحدا منهم لا يدرك بعض مقامه ولا جزء رتبته ولا شيئا مما هو عليه من الرّفعة والعزة ارتجل لهم بيتين قال فيها:
لا تنكروا ضربي له من دونه مثلا ... شرودا في النّدى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلا من المشكاة والنّبراس
أي القنديل، ولهذا فلا يقال كيف يشبه الأدنى بالأعلى، لأن التشبيه نسبي بقدر ما يعلم المخاطب من الأشياء الحسية ليكون أوقع في النّفس، لأن التشبيه بشيء لا يعرفه المخاطب لا يكون له قيمة عنده ولا يتعجب منه. واعلم أن هؤلاء الّذين شبه الخليفة بهم لهم ذكر حسن شائع بين النّاس أكثر من بعض الملوك فالتشبيه بخصلة عند رجل قد لا تكون عند المشبه به مدح له وان كانت عند من هو دونه فالاعتراض على أبي تمام في غير محله. واعلم ان الله تعالى جلت قدرته وتعالت عظمته إنما أضاف النّور الى السّماوات والأرض الدّلالة على سعة اشراقه ونشو اضاءته فيها، فيستضيء به أهلهما لأن الضّياء منتشر من النّور، قال الامام السّهيلي في المعنى:
ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية ان يموجا
وقال تعالى (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) الآية 17 من البقرة المارة وقال جل قوله (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) الآية 5 من سورة يونس ج 2، لأن نور القمر لا ينتشر مثل ضوء الشّمس، لا سيما في طرفين، وهذا يدل على أن نور القمر مستفاد من الشّمس في مقابلة المضيء منها، لأن اختلاف تشكلات القمر بالبعد والقرب من الشّمس مع خسوفه وقت حيلولة الأرض بينه وبينها دليل بان نورها فائض عليه، وهذا من معجزات القرآن لأن في عهد نزوله لا يوجد من يعرف ذلك، ولهذا قالت الفلاسفة أيضا ما يكون للشمس من ذاته والنّور ما يفيض عليه من مقابلتها، وهذه الدّلالة ظنية، وهي أحد أقسام الخمس اليقينات التي أشرنا إليها في الآية 43 من سورة النّساء المارة. هذا ومن قال ان هذا المثل ضربه الله لنبيه صلّى الله عليه وسلم وقال المشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح(6/139)
ثبوّته فليس بشيء، وهو منقول عن كعب الأحبار وأضرابه، وانما لم يعتمد على نقل كعب هذا لأنه غالبا ينقل عن التوراة لكثرة تبحره فيها، فيظن من ليس له خبرة بالأحاديث والسّير أنه ينقل عن حضرة الرّسول، وهو رحمه الله لم يشاهد الرسول صلّى الله عليه وسلم لأن إسلامه كان زمن عمر رضي الله عنه، وكلّ ما قيل فيه من تشبيه كعب أو غيره فهو فوقه قال ابن رواحه:
لو لم يكن فيه آيات مبينة ... كانت بداهته تنبيك عن خبره
وقال الأبوصيري:
لو ناسبت قدره آياته عظما ... أحيا اسمه حين يدعى دارس الرّمم
فما تطاول آمال المديح الى ... ما فيه من كرم الأخلاق والشّيم
أيمدح من أثنى الإله بنفسه ... عليه فكيف المدح من بعد ينشأ
إلى آخر ما قال في بردته وهمزيته اللّتين لم يمدح بأحسن منهما كما قيل. وما قيل بأنه مثل لعبده المؤمن وحواسه السّيارات السّبع أو أنه مثل للقرآن يخالفه ظاهره وان كان فيه ما ذكروه من المعاني، وان سبب عدولهم عن ظاهر القرآن زيادة في تنزيه الحق جل ذكره بان يكون لنوره مثل، وهو كذلك، إلا أن الله تعالى يضرب الأمثال بما يفهمه خلقه ويشاهدونه كي يستدلوا به عليه ليس الا، وضرب المثل لا يكون الا بالمحسوس، وإلّا فلا فائدة به، لأن الله تعالى خاطب عباده بما يعقلون، وأمر رسوله أن يكلمهم بما يفهمون، راجع الآية 26 من البقرة المارة وما ترشدك اليه في معنى ضرب المثل «يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ» الموصوف هداية خاصة موصلة الى المطلوب حتما «مَنْ يَشاءُ» من عباده بالهام منه فيوفقه لاصابة الحق بأقواله وأفعاله وإشارته وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ» تقريبا لا فهامهم وتسهيلا لسبل ادراكهم ليستأنسوا بالمحسوسات الى المعقولات، وبالمشاهدات الى الغائبات «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (35) من ضرب الأمثال وما تدركه مخلوقاته وما لا، ويبين لكم ما يمكن أن تعلموه، وتلك المشكاة الموصوفة «فِي» جدار «بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ لها أَنْ تُرْفَعَ» وتعظم وتفخم، فلا يذكر فيها الغير وهي المساجد، لأنها أشرف بقاع الأرض غير ما ضم أجساد الأنبياء منها عليهم(6/140)
الصلاة والسّلام، ومن احترامها أن يذكر الله فيها ولا يخاض فيها حتى في المباح لأن الكلام فيها ما عدا الذكر يحبط العمل «وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» جل شأنه ويتلى فيها كتابه وتقام فيها الصّلوات والأذكار آناء اللّيل وأطراف النّهار «يُسَبِّحُ لَهُ فِيها» أي يصلي، وأطلق التسبيح على الصّلاة لأنه جزؤها، ويطلق الجزء على الكل أحيانا راجع الآية 20 من البقرة المارة، وهؤلاء الكرام يديمون هذا التسبيح «بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» (36) أوائل النّهار وأواخره، وكذلك الليل، قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) الآية 62 من الفرقان في ج 1، وهؤلاء المديمون ذكره صباح مساء ابتغاء خيره «رِجالٌ» عظام وأي رجال كبار فخام، ورفع على أنه فاعل يسبح، ولذلك وصفهم بأنهم «لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ» لا عن «إِقامِ الصَّلاةِ» بوقتها وإيتاء الزكاة لمستحقها بزمنها «يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ» (37) لذلك، فإنهم لا يؤخرون شيئا عن وقته كما أمروا به عدا ما هم عليه من الأعمال الصّالحة المذكورة لعلمهم بشدة هول يوم القيامة وتوغل معرفتهم بالله وخالص يقينهم بأنهم مهما عبدوه لم يؤدوه حقه ولا بعض حقه، وأن أعمالهم كلها لا تؤهلهم دخول الجنّة إذا لم يشملهم برحمته ولعلمهم أنه تعالى لا ينقيد بشيء ولا يسأل عما يفعل، وقد وفقوا للخوف والخشية منه بفضله «لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا» على أحسن أعمالهم بأكثر مما يأملون «وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» الذي لا حد له ولا مقدار بأكثر مما يتوقعونه منه «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» (38) لأن الحساب من شأن المخلوقين الّذين يخشون النّفاد، لا من صفات الخالق صاحب الجود الكامل والإحسان الواسع والفضل العميم الذي لا يدخل تحت حساب الحاسبين ولا نهاية له. هذا وان قوله تعالى (لا تُلْهِيهِمْ) إلخ ليس نهيا عن التجارة ولا يفيد معنى المنع منها ولا كراهيتها، بل تشير إلى النّهي عن التهافت بها والاشتغال فيها عن عبادته جلت عبادته. وما قيل أنها نزلت في أهل الصّفة لا يصح، لأنهم فقراء لا مال لهم حتى يؤمروا بالزكاة، ولأنهم تركوا الأشغال الدّنيوية كافة وانكبوا على عبادة(6/141)
ربهم، وإنما نزلت في أهل الأسواق الّذين إذا سمعوا النّداء تركوا أشغالهم وبادروا إليها ليقتدي بهم من بعدهم ويا حسرتاه الآن تراهم لا هين باللعب والشّغل عن الصّلاة ولا يجيبون المنادي، فإنا لله وإنا إليه راجعون من أناس لا يخافون أن يدخلهم الله في قوله في المثل الثاني المخيف المزدوج «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ» التي عملوها في الدّنيا تكون يوم القيامة «كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ» جمع قاع وهي ما انبسط واستوى من الأرض «يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً» فيقصده ليشرب منه لشدة عطشه حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً» فيخيب ظنه ويظهر له وهمه وسبعتبين له خطأه «وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ» أي السّراب الذي توهمه ماء «فَوَفَّاهُ حِسابَهُ» على
ما كان منه في الدّنيا فعاقبه عليه وأحبط عمله الصّالح الذي كان يرجو ثوابه، إذ لم يبتغ فيه وجه الله «وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ» (39) يحاسب الخلق كلهم بآن واحد محاسبة رجل واحد بأسرع مما يتصوره المنصور كطرف العين وقل «أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ» عميق جدا «يَغْشاهُ» يغطي ذلك البحر «مَوْجٌ» عظيم وهو ما ارتفع من الماء بسبب الهواء «مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ» آخر تراكم عليه «مِنْ فَوْقِهِ» أي الموج الثاني «سَحابٌ» كثيف جدا فصارت كأنها «ظُلُماتٌ» أربعة ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة السّحاب وظلمة الليل «بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ» بحيث يكون الواقع فيها «إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها» من تراكم الظّلمات الأربع مع أنها أقرب شيء منه، فكيف يمكن أن يرى غيرها «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً» يهتدي به في الدّنيا «فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» (40) في الآخرة، وهذان المثلان ضربهما الله تعالى للكافر إذ شبّه عمله الحسن الذي كان يتوحّى ثوابه بالسراب والقبيح بالظلمات، فإذا وافى عرصات القيامة لم يجد الثواب الذي كان يأمله، لأنه عمله للرياء والسّمعة، فكان حاله كالظمآن المحتاج إلى الماء إذا رأى سرابا تعلق قلبه به، فإذا ذهب إليه ولم يجد ماء اشتدت حسرته وعظم غمه وتناهى فجره ولم تكفه خشية تلك بل وجد عنده عذاب الله الذي لا يطاق وزاده غضبا مشاهدة قبائحه من ظلمة عقيدته وظلمة أقواله وظلمة أفعاله وظلمة نيته، إذ جسّمت له في ذلك اليوم العظيم ليتضاعف(6/142)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
عذابه فيه، أجارنا الله من ذلك.
ثم طفق يقص علينا جل قصصه من بعض بدائع مصنوعاته، فقال أولا يا أيها الإنسان «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» كل بلسان حاله أو قاله «وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ» أجنحتها في الهواء «كُلٌّ» من تلك المسبحات والمسبّحين يسبحونه بلغات مختلفات وأحوال متباينات لا يعلم بعضها البشر، وهو جل شأنه «قَدْ عَلِمَ» من كل «صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ» وتعلم هي أيضا أنها تصلي وتسبح له «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» (41) من تسبيح وغيره قبل أن يفعلوه «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» (42) بعد الفناء فيحاسب ويكافى ويجازى كلا على قدر عمله.
مطلب تأليف المطو والبرد وكيفية حصول البرق والرّعد وكون مخلوقات الله كلها من مادة الماء:
وقال تعالى ثانيا «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً» يسوقه حيث يريد «ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ» لأن الرياح أول ما تثير السّحب تكون قطعا متفرقة «ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً» بعضه فوق بعض «فَتَرَى الْوَدْقَ» المطر «يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ» بصورة بديعة طلا ووائلا وخفيفا وسحّا «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ» المطر الذي نراه فوقنا «مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ» مما يتكاثف من الماء ويتجمّد في الهواء البارد ويبقى عائما بقدرة القادر الحكيم، ثم يتهاطل بانتظام عجيب إلى الأرض صغارا وكبارا وبين ذلك، واعلم أن لفظ من الأولى لابتداء الغاية، لأن ابتداء نزوله من السّماء، ومن الثانية للتبعيض لأن ما ينزل هو بعض تلك المياه المتجمدة الشّبيهة بالجبال من حيث الكثرة، ومن الثالثة للتجنيس لأنها تفيد أن تلك الجبال من برد لا من جنس آخر «فَيُصِيبُ بِهِ» أي البرد (مَنْ يَشاءُ» من خلقه فينتفع به أناس ويهلك به آخرون إذا شاء من إنسان وحيوان وزرع وغيره «وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ» فلا يقربه شيئا من ذلك ولو كان نازلا عليهم أو لا ينزله على أراضيهم البتة حسب مقدراته الأزلية «يَكادُ سَنا بَرْقِهِ» الحاصل من تصادم السّحب المنكاثفة ببعضها لشدة ضوءه «يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ» (43) فيعميها «يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» باختلافهما وطولهما(6/143)
وقصرهما «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإزجاء والإزجاء والإنزال والاصابة والصّرف والتقلب «لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» (44) الحية المتفكرة يتعظون بها ويخافون منزلها ويتأثرون ويتدبرون بنعم الله ونقمه وبدائع مكوناته، لأن هذه الآية تشير إلى مسألة دقيقة وهي الألفة، لأن السّحاب لا يأتلف صدفة بل على قاعدة منتظمة فنية اطلع عليها علماء عصرنا من أهل الدّنيا فقالوا إن قطع السّحاب لا تأتلف إلّا بتغاير نوع الكهربائية التي تحملها كلّ قطعة منه، فالتي تحمل كهربائية سلبية ينسنى لها الائتلاف مع قطعة كهربائية ايجابية، لأن تماثل قواها يقضي بتدافعها وتشتتها كما يشاهد عند تفرقه وتلاشيه في أيّام الصّيف وغيره، سواء أكان ثقالا أو جهاما. وقالوا إن قسما من أو كسجين الهواء يتحد مع الهدروجين بواسطة الشّرارة الكهربائية الحاصلة من البرق فيتولد الماء، وهذا الاتحاد يسميه الكيمائيون بالألفة الكيميائية وهي سر من أسرار الغيب، وهؤلاء الّذين يولدون الكهرباء الّذين توصلوا بعقولهم وأفكارهم تدريجا إلى الإبداع في الاختراع بسبب هذه القوة لا يعلمون ما هي، فسبحان القادر الجاعل من المحسوسات ما هو غائب، ومن المشاهدات ما هو منكر، ومن البسيطات قوى عظيمة. قال تعالى ثالثا «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» من كل مادب على وجه الأرض البارزة والمغمورة بالماء ويخرج من هذا العموم الملائكة لأنهم خلقوا من النّور والجن لأنهم خلقوا من النّار، وكلّ من هذين النّوعين لم يشاهده البشر على صورته الحقيقية إلّا من اختصه الله بذلك أما آدم عليه السّلام فإنه خلق من الطّين، والطّين لا يخلو من ماء فيكون داخلا في هذه الآية، وهذا الماء المشار إليه نسبيّ بنسبة المخلوق منه، ففي الإنسان وبعض الحيوان نطفة، وفي غيرها ما يقابلها، ويطلق على الكل ماء، قال تعالى (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الآية 31 من الأنبياء ج 2 فالمخلوق من نطفة لا تسمى ماء لا بد أن يكون متكونا من شيء آخر، وذلك الشّيء لا بد أن يكون أصله مركبا من الماء، فيكون الكل من الماء اجمالا، لأن فيه حياة كلّ نام، وان ما خلق من التراب المتحجر كالفأر، وما خلق من الزبل كالخنافس، وما خلق من الطّين كالديدان وما خلق من النّار كالسمندل، وما خلق من الثلج كاليخ أيضا داخل في هذه(6/144)
الآية، لأن كلا منها فيه ماء، قال تعالى «فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ» كالحيات والدّيدان والأسماك وغيرها «وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ» كالإنسان والطّير وغيرها مما لا نعرفه «وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ» كالبهائم والوحوش وغيرها كثير. ولم يذكر من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب والعقارب والرّتيلات وأم أربع وأربعين وأم سبع وسبعين وغيرها لقلتها بالنسبة لذوات الأربع، ولأن اعتماد هذه الحشرات في المشي على أربع فقط وبقية الأرحل تبع لها «يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ» ممن يعقل ومما لا يعقل وما يعلم وما لا يعلم مما رآه البشر ومما لم يره «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ» من أنواع الخلق وأجناسه وأصنافه «قَدِيرٌ 45» لا يعجزه
شيء يكوّنه بكلمة كن كما يريده. هذا وقد غلب في في هذه الآية اللّفظ اللائق بمن يعقل على مالا يعقل لشرفه، فجعله أصلا واتبع به ما لا يعقل لخسّنه، وهو أولى من العكس، وقدم من يمشي على بطنه لأنه أعجب ممن يمشي على رجلين وأربع. قال تعالى «لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ» لكل شيء ليعتبر الخلق ويتعظوا بما وقع على الأقوام المخالفين من قبلهم ويرشدوا إلى طريق الهدى، ويعرضوا عن الضّلال «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (46) ويضل من يشاء عنه فيدعه يتخبط في غياهب الجهل طبق ما قدره وقضاه في الأزل ثم أراد أن يقص علينا شيئا من أحوال خلقه فبين جل بيانه أن النّاس بعد بيان هذه الآيات المبينات افترقت إلى ثلاث فرق، واحدة صدقت ظاهرا وكذبت باطنا وهم المنافقون المشار إليهم في قوله تعالى «وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا» بألسنتهم دون اعتقاد صحيح «ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ» عن الطّاعة ويعرض عن الإيمان «مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الاعتراف بهما «وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» (47) راجع الآية 8 فما بعدها من سورة البقرة المارة تقف على أحوال المنافقين لأن من يوافق قوله عقيدته ولسانه قلبه هو المؤمن المخلص حقا وصدقا «وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ» بشرع الله «إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ» (48) عنه ومن هؤلاء المنافقين بشر المار ذكره وقصته في الآية 65 من سورة النّساء فراجعها. أما من قال إن هذه(6/145)
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
الآية نزلت فيه فقد ذهل، وإنما هذه الآية حكاية حال عنه وعن أمثاله وهي عامة في كلّ من هذا شأنه لورودها مورد العام، فيدخل فيها المذكور وغيره ممن هو على شاكلته «وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ» (49) لحكمه لم تكرر هذه الكلمة بالقرآن أي راضين بقضائه «أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك أو ريبة أو شبهة في حكمه «أَمِ ارْتابُوا» بنبوّته فلم يصدقوه وجحدوا كتابه «أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ» يجوز عمدا «اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ» بالحكم فيظلمهم وهو ينهى عن الظّلم ورسوله، «بَلْ» لا شيء من ذلك وإنما «أُولئِكَ» المتوقعون شيئا منه مخالفا «هُمُ الظَّالِمُونَ» (50) أنفسهم باعراضهم وتوهمهم
«إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا» قوله وقبلناه «وَأَطَعْنا» أمره وامتثلناه «وَأُولئِكَ» الّذين هذه صفتهم فيما يحكم الله ورسوله لهم وعليهم «هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (51) في الدنيا والآخرة «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ» (52) الناجحون عند الله في الدّارين. ثم ذكر حالة ثانية من أحوالهم فقال «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ»
يقال لمن بلغ في الحلف غايته وشدة تأكيده جهد أي بلغ أقصى ما يحلف به «لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ»
بالخروج من ديارهم وأموالهم «لَيَخْرُجُنَّ»
امتثالا لأمرك يا رسول الله «قُلْ»
لهم «لا تُقْسِمُوا»
كذبا فإن طاعتكم هذه المزيفة «طاعَةٌ»
قولية «مَعْرُوفَةٌ»
بلا فعل، لأنها ناشئة عن غير اعتقاد واخلاص، بل عن رباء وخداع، وقد أشار الله إليهم في الآية 166 من آل عمران بأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وفي الآية 11 من سورة الفتح الآتية (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) وذلك لأن إيمانهم غير صحيح، وفي الآية 47 من المائدة الآتية أيضا أخبر الله عنهم بقوله (قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) «إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ»
53 وإنه يخبر رسوله به ليفضحكم «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ» طاعة صادقة مخلصة بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عن تقديم هذه الطّاعة الحقيقة «فَإِنَّما» الله الذي أرسله إليكم يقول وهو أصدق القائلين «عَلَيْهِ»(6/146)
أي الرّسول المأمورين بطاعته «ما حُمِّلَ» من تبليغ الرّسالة التي كلف بها وأمر باعلانها، وقد قام بذلك وخرج عن عهدة ما كلف به «وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ» أيها المؤمنون من الإجابة والامتثال حالة كونكم مخلصين بهما صادقين، وإلّا فقد عرّضتم أنفسكم لسخط الله وعذابه «وَإِنْ تُطِيعُوهُ» فيما يأمركم وينهاكم «تَهْتَدُوا» إلى الحق وترشدوا إلى النّجاة «وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» (54) وليس عليه أن يقسركم على نفعكم بالسيف لأن ذلك خاص بالمشركين وفرقة ثالثة صدقت ظاهرا وباطنا وهم المؤمنون المخلصون المذكورون في قوله تعالى «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ» فيجعل منهم ملوكا وأمراء وحكاما ويورثهم أراضي الكفار والحكم عليهم «كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» عليها كداود وسليمان عليهما السّلام وكما استخلف بني إسرائيل وسلطهم على الجبارين بمصر والشّام وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم بعد أن كانوا أضعف النّاس وأهونهم إذ كانوا تقتل رجالهم وتستحيا نساؤهم للخدمة وغيرها كما أشار إليه في سور طه والشّعراء والنّمل والقصص والأعراف وغيرها في ج 1 ويونس وهود والمؤمن وغيرها في ج 2 وفي سورة البقرة أيضا «وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ» وهو دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره فيسود الأرض إن شاء الله وتثبت دعائمه فيها، فيظهر حكمه على أهلها طوعا أو كرها «وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ» الذي كانوا فيه الذي كانوا ولم يزالوا بشيء منه «أَمْناً» على أنفسهم وأموالهم وأهليهم وقراهم بحيث يخافهم النّاس ولا يخافونهم، وإنما فعل ويفعل الله تعالى إن شاء لهم ذلك لأنهم «يَعْبُدُونَنِي» أنا الله وحدي علنا في كلّ مكان «لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً» من الأوثان وقد أنجز الله تعالى لهم هذا الوعد والحمد لله شكرا على ما فعل وسيمضيه إن شاء الله إلى آخر الدّوران «وَمَنْ كَفَرَ» بعد انجاز ذلك الوعد الذي رأوه بأعينهم ولمسوه بأيديهم وذاقوا ثمرته «فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» 55 الخارجون عن الطّاعة المتجاوزون الحدود التي حدها لهم كان صلّى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة من بدء البعثة إلى يوم الهجرة صابرين على أذى الكفار واضطهادهم، ولما حلّوا(6/147)
المدينة كانوا في بداية أمرهم لا يفارقون سلاحهم وأمروا بقتال الكفرة وهم لا يزالون على خوفهم، فقال رجل منهم أما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع السّلاح عن عاتقنا، فأنزل الله هذه الآية.
مطلب في معجزات الرّسول، الإخبار بما يأتي، وعوائد الجاهلية الباقي أثرها وجواز الأكل عند الأقارب والأصدقاء، ووجوب ملازمة الرّسول صلّى الله عليه وسلم:
روى البخاري عن عدي بن حاتم قال بينا أنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع النّسل فقال يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت لم أرها ولقد أنبئت عنها، قال فإن طالت بك الأيام فلترى التطعينة ترحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلّا الله (قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دعّار طيء الذي قد سعّروا البلاد) ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى، قلت كسرى بن هرمز؟ قال كسرى بن هرمز؟ ولئن طالت بك حياة لترين الرّجل يخرج ملء كفّه من ذهب أو فضة فيطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، وليلتين الله أحدكم يوم القيامة وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فليقولنّ ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول بلى يا رب، فيقول ألم أعطك ما لا وأفضل عليك؟ فيقول بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلّا جهنم، وينظر عن شماله فلا يرى إلّا جهنم. قال عدي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول اتقوا النّار ولو يشق تمرة، فمن لم يجد تمرة فبكلمة طيبة. (قال عدي فرأيت الظّعينة ترحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلّا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى ابن هرمز) ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال أبو القاسم صلّى الله عليه وسلم يخرج الرّجل ملء كفه من ذهب أو فضة إلخ. وفي هذا الحديث والآية دليل على صحة خلافة الخلفاء لأن الفتوحات كانت في أيامهم، ودلالة على أن هذه الآية متقدمة في النّزول على سورتها، وإنها من أوائل ما نزل بالمدينة. وقال بعض المفسرين إن هذه الآية مكية. وهي من جملة المغيبات التي أخبر الله بها رسوله كما أشرنا إليه في سورة القمر ج 1، والسّبب المذكور أعلاه في نزولها ينطبق عليها تماما، عدا كون القول الواقع بالمدينة إذ قد يوشك أنه بمكة والله أعلم. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا(6/148)
الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»
(56) أيها النّاس وفرقة كذبت ظاهرا وباطنا وهم الكافرون الّذين قال الله فيهم «لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ» وانا لا تقدر عليهم «فِي الْأَرْضِ» بلى قادرون عليهم، وهم في قبضتنا لا يستطيعون أن يفتلوا منا، وسنذلهم بالدنيا بالجلاء والأسر والقتل والسّبي وضرب الجزية «وَمَأْواهُمُ النَّارُ» في الآخرة «وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (57) هي لأهلها. ولما انتهى من بيان الفرق الثلاث وحال كلّ واحدة ومصيرها طفق يأمرنا جل أمره بما إن تمسكنا به من الآداب الدّاخلية فيما يخص العائلة نفسها هذبت نفوسنا وحسنت أخلاقنا وكفينا سوء آداب خدمنا وتعلقاتنا، بقوله عز قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» بالله ورسوله وكتابه إذا خلوتم بأزواجكم في الأوقات الثلاثة الآتية فنبهوا خدمكم وأولادكم إذا أرادوا الدّخول عليكم «لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» من العبيد والخدم ذكورا كانوا أو إناثا «وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ» من أولادكم وبنانكم الّذين لم يحتلموا بعد ممن هم دون سن التمييز في اليوم واللّيلة «ثَلاثَ مَرَّاتٍ» بأوقات معينة أولها «مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ» لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النّوم ووقت العود إلى الأهل «وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ» وهذا الوقت الثاني زمن القيلولة في الصّيف إذ تضعون ثيابكم التي لبستموها للقاء النّاس أو لأعمالكم إذ قد تبدو عورتكم أثناءها وقد تخللون باهلكم «وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ» وهو الوقت الثالث لأنه زمن النّوم والتجرد له ومداعبة الأهل، فهذه «ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ» لأنكم تحتاجون فيها إلى ما ذكر، وكلّ منها عوره للمذكورين لأنه فضلا عن رؤية ما لا تحبون رؤيته منهم قد يتكلمون فيه بعضهم لبعض ولغيرهم وما عدا هذه الأوقات الثلاثة «لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ» أي الخدم والعبيد والأولاد «جُناحٌ بَعْدَهُنَّ» إذا دخلوا عليكم بغير استئذان لأنهم «طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ» قد يدخلون ويخرجون بصورة دائمة لخدمتكم والتمتع برؤيتكم ولما تقتضيه خدمة البيت، ولهذا يطوف «بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ» لحاجة المخالطة «كَذلِكَ» مثل هذا البيان الشّافعي المعلم للآداب العالية والأخلاق الفاضلة(6/149)
والعادات السّامية «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ» التي أنتم بحاجة شديدة لمعرفتها والتحلي بها «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (58) فيما يأمر وينهي بما ينفعكم ويضركم ويعلمكم محاسن الأخلاق ومعالي الآداب مع النّاس ومع أنفسكم. قالوا دخل على أسماء بنت مرشد غلامها في وقت
كرهت فيه دخوله، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقالت إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالة نكرهها، وكان صلّى الله عليه وسلم وجه مدلجا غلاما أنصاريا إلى عمر بن الخطاب وقت الظّهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته عند ذلك، وأخبر حضرة الرّسول فنزلت هذه الآية. فما روي عن ابن عباس أنه قال لم أر أحدا يعمل في هذه الآية في الخبر الذي رواه عن عكرمة وأخرجه أبو داود، وإلى قوله أن السّتور أغنت عن الاستئذان لا يفهم منه على فرض صحته ان هذه الآية منسوخة، وكذلك ما حكي عن سعيد بن المسيب بأنها منسوخة لا وجه له، وما هو وجه النّسخ يا ترى وبأي آية نسخت ولماذا نسخت؟
لا أدري روى سفيان عن موسى بن أبي عائشة قالت سألت الشّعبي عن هذه الآية أمنسوخة هي؟ قال لا والله، قلت إن النّاس لا يعملون بها قال الله المستعان.
وقال سعيد بن جبير في هذه الآية ان أناسا يقولون نسخت والله ما نسخت ولكنها ممّا تهاون به النّاس. ومن تهاونهم الآن عدم مبالاتهم بدخول الحمال والسّائل والعامل والقروي فضلا عن الخادم ولا حول ولا قوة إلّا بالله. قال تعالى مؤيدا ما تقدم في الآية السّابقة «وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا» في جميع الأوقات لأنهم خرجوا من سن الطّفولة والتمييز وصار حكمهم حكم الكبار «كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» الأحرار الكبار، لأنهم صاروا مثلهم «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ» ليهذّبكم وينقيكم من كلّ ما ينتقد به «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بخلقه وبما يصلحهم ويحسن أمورهم «حَكِيمٌ» (59) فيما شرعه لهم وبعد أن ذكر الله تعالى ما يتعلق بالآداب ذكر أحكاما تتعلق بالأحكام المارة، فقال جل قوله «وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ» اللاتي قعدن عن الحيض والحبل بكرهن وعجزهن وقطع أملهن من الزواج، وهن «اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً» بعد ما وصلن إليه من الحال «فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ»(6/150)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
الظاهرة كالملاءة والجلباب الذي فوق الخمار أمام الرّجال، إذ لا مطمع فيهنّ على شرط أن يكنّ «غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ» ما حيث يجب عليهن ستر النّحر والسّاق والمقعد وما فيها من الحلي، راجع قوله تعالى (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) في الآية 35 المارة «وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ» عن وضع تلك الثياب فيغطين أنواع الزينة ومواضعها كافة بأن يسترنها كلها فهو «خَيْرٌ لَهُنَّ» لئلا يرمين بسوء أو يغتبن بسبب ذلك لأن الشّيخ والعجوز إذا تزينا بما هو من شأن الشّاب والشّابة تلوكهما ألسنة النّاس كما قيل:
عجوز ترجّى أن تكون صبية ... وقد لحب الجنبان واحدودب الظّهر
تدس إلى العطار ميرة أهلها ... وهل يصلح العطار ما أفسد الدّهر
وما غرني فيها إلّا خضاب كفوفها ... وكحل بعينيها وأثوابها العطر
نبيت بها قبل المحاق بليلة ... فكان محافا كله ذلك الشّهر
«وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لما يجري بينهن وبين الرّجال من القول «عَلِيمٌ» 60 بما يقصدونه ويتوونه، وفي هذا نوع ترهيب، لأن من القواعد من فيها بقية جمال ولا تخلو من شهوة الرّجال، كما أنه يوجد من الرّجال، لذلك فالأجدر بها أن تستتر كالعادة، وأن لا تخالط الرّجال ولا تجالسهم، ويوجد فى هذه الأحوال بقية عند البدو وأعراب الأرياف وبعض الأمكنة في المدن، إذ أن مثل هؤلاء القواعد يجلسن مع الرّجال ويتعاطين القهوة ويتسامرن معهم ويتولين الضّيافة بأنفسهن، وإن أزواجهن وأوليائهن لا يرون بأسا بذلك، وهذه من بقايا عوائد الجاهلية الأولى.
هذا ولما كان من النّاس من يتحرج الأكل عند بعضهم بعد نزول آية (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) (189) من البقرة المارة إذ توسعوا في معناها إلى هذا الحد، وكان المجاهدون إذا خرجوا للغزو يضعون مفاتيح بيوتهم عند العجزى والعرج والعمى والمرضى وعند أقاربهم ويأمرونهم بالأكل من بيوتهم وهم يمتنعون أيضا، وقيل كان العميان والعرج والمرضى يتزهون عن مؤاكلة الأصحاء لأنهم يرونهم يتقذّرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم، وقد يقول الأعمى ربما أكل الأعرج أكثر مني، والمريض ربما جلس مكان اثنين، والأعرج والأقطع كذلك من أنهم يضيّقون بالجلوس على(6/151)
غيرهم، وكان أمثال هؤلاء يأتون إلى الرّجل فلا يجد ما يكفيهم فيأخذهم لبيت أخيه أو بيت من سمى الله في الآية الآتية فيتأثمون من ذلك، فأنزل الله جل شأنه ثانيا «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ» أيها الأصحاء حرج «أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ» بيوت أزواجكم وأولادكم، لأن بيوت الأزواج والأولاد بيوت الزوج والأب، إذ الزوجان نفس واحدة، فبيت الزوج بيت المرأة وبالعكس وبيت الولد بيت الوالد وبالعكس، لقوله صلّى الله عليه وسلم أنت ومالك لأبيك. فيكون بيت الولد بيت الوالد، ولهذا لم يذكرهما الله «أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ» من وكلائكم والقيمين على مصارفكم وأموالكم وماشيتكم وضياعكم وعبيدكم وخدمكم وإماءكم، لأن العبد وما ملكت يداه لسيده «أَوْ صَدِيقِكُمْ» الذي يصدقكم وتصدقونه في المودة، لأن الأكل عند الصّديق والهدية له ومنه تزيد في المحبة، وتقوي عرى المودة، وتعظم الثقة، وقد كان السّلف الصالح يدخلون دور أصدقائهم فيأخذون منها ما يشاءون، وإذا جاءهم ضيف ولم يجدوا ما يقدمونه، دخلوا دور أصدقائهم وأخذوا منها ما يقرون به ضيفهم دون استئذان بالأخذ لا بالدخول لأن ذلك واجب عليهم، وهم أولى بأن يتحاشوا عنه ويتقيدوا بشروطه المارة في الآية 39، وإذا كانوا غائبين وأخبرهم عبيدهم وأهلهم بما فعل صديقهم من هذا يسرّون به، وقد يعتقون عبيدهم لعدم معارضتهم فيما أخذه أصدقاؤهم من بيوتهم. أما الآن فقد غلب الشّح على النّاس، فلا يفعل شيء من هذا إلّا بإذن، وقد لا يحصل إلّا باستدانة أو قرض وقد لا يحصل أبدا. وقال ثالثا «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً» مع المرضى والعرج والعميان وغيرهم «أَوْ أَشْتاتاً» متفرقين إذا لم تسمح لكم أنفسكم بمؤاكلتهم، كان بنو ليث لا يأكلون وحدهم حتى يجدوا أضيافا، وربما قعد أحدهم ينتظر أضيافا والأكل أمامه حتى الصّباح ومن الصّباح حتى الرّواح ينتظرون أيضا حضور من يأكل معهم(6/152)
وربما كانت معهم الإبل الجفل لا يشربون ألبانها حتى يأتي من يشاربهم، فإذا أمسى أحدهم ولم يجد أحدا اضطر فأكل وحده، وكان قوم من الأنصار كذلك، وكان الغنى لا يأكل عند الفقير تعففا [وهذا من سجايا العرب الّذين بعث إليهم محمد صلّى الله عليه وسلم ولا يزال النّاس يقولون إجلالا وإنما هم شم الأنوف وعندهم عوائد كريمة لا توجد عند غيرهم، ليت الأمة الآن منصفة ببعضها، أما ما كان منهم من نهب وسلب وقتل وحرمان النّساء والأولاد الصّغار من الإرث ووأد البنات وغير ذلك فمن عدم وجود المرشد وعدم وجود كتاب يرجعون إليه] فنزلت هذه الفقرة من تلك الآية. ثم ذكر جل ذكره ما يتعلق بالآداب أيضا فقال «فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ» أي ليسلم بعضكم على بعض إذا دخلتم تلك البيوت لتأكلوا فيها أو بسلم صاحب البيت على أهله الّذين هم فيه لأنهم أحق بالسلام من غيرهم وإذا لم يكن فيها أحد فليقل السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين «تَحِيَّةً» منصوب بيسلموا لأنها بمعنى السّلام مصدر من غير جنس الفعل على حد قعدت جلوسا وقمت وقوفا «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ» بيانا كافيا شافيا واضحا «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (61) فوائدها وتعلمون ما ترمي إليه من المعاني النّافعة الموجبة للألفة وغيرها فتزداد بينكم المحبة وقوة الإيمان بالله ورسوله، فتنمو المودة بينكم، ويأمن بعضكم بعضا على مساله وعرضه ونفسه ويربو اليقين بما أنتم عليه من الدّين القويم. قال
تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» وتخلقوا بما يتلقونه عنهما وتأدبوا بما يأمرونهما وتمسكوا بأخلاقهما «وَإِذا كانُوا مَعَهُ» أي الرّسول حال المذاكرة «عَلى أَمْرٍ جامِعٍ» يجمع له أهل الحل والعقد للمشاورة في أمور المسلمين والمداولة بمصالحهم وفيما يتعلق بأمر الحرب والغزو والصّلح أو مطلق تدبير فيما يخص دينهم ودنياهم «لَمْ يَذْهَبُوا» عنه ويتركوه وحده أبدا، وإذا طرأت لهم معذرة ماسة لا يذهبون «حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ» لأن ذلك مما يهم المسلمين أجمع وما يتعلق بالعامة يرجح على الخاصة، فضلا عن أن المؤمن لا تطيب نفسه بمفارقة صاحبه لا سيما عند الحاجة، فلربما عنده رأي صائب يأخذ به المجتمع كله، فيعود نفعه للمسلمين(6/153)
كافة. واعلم يا محمد «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ» للذهاب لشأن ألمّ بهم ولم يستبدوا فيتركوك ويذهبوا من تلقاء أنفسهم «أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» أما الّذين ينصرفون لحالهم دون أخذ رأيك ويتركونك في مداولات هكذا تستلزم أخذ رأي الجماعة فلم يكن إيمانهم صحيحا ولا مقبولا «فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ» يا سيد الرّسل «لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ» ممن يستغنى عن حضوره ورأيه. أما الّذين ترى لزوما لأخذ رأيه فلك ألا تأذن له، لأن ما أنت فيه أهم مما يذهب إليه «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ» إن رأيت لهم عذرا مقبولا في الاستئذان على جرأتهم لطلب الأذن في وقت عليهم ألا يطلبوه إذ ينبغي لهم بل يجب عليهم ألا يتخلوا عنك في مثل هذه الحالات، لأن الأهم يقدم المهم «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لخطأهم ذلك الواقع قبل نزول هذه الآية «رَحِيمٌ 62» بهم ولذلك يرشدهم لطرق التوبة عما سلف منهم، ولا يعجل عقوبتهم. وهذه الآية تنبه على أن الأجدر بهم البقاء مع حضرة الرّسول وعدم الاستئذان ولو كان لهم عذر، لأن فوات وقت الاجتماع به صلّى الله عليه وسلم لا يتلافى وأشغالهم يمكن تلافيها، بل الاستغناء عنها، وإن ترك ملازمة الرّسول وقت اللّزوم مخالف للآداب الواجب اتباعها معه اللازم مراعاتها أمامه. قال تعالى فيما يؤدب به عباده تجاه رسوله صلّى الله عليه وسلم خامسا «لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً» لأنه فوقكم في كلّ شيء، فلا يقابل بجميعكم، وهو عند الله ليس كأحدكم، فإذا دعاكم إلى شيء، أو أمركم به فواجب عليكم امتثاله ولا يجوز لكم الإعراض عنه أبدا، ولا يليق بمن أجاب الدّعوة أن ينصرف دون استئذان، فكل ذلك حرام قطعا، فاحذروه أيها النّاس، ولا تتساءلوا في شيء من ذلك، لأنه يؤدي إلى اغبراره منكم، فيدعو عليكم وهو مجاب الدّعوة، تدل هذه الآية الكريمة على وجوب توقيره عليه الصّلاة والسّلام وتعظيمة وإجلاله، لأن الله تعالى وقره وعظمه وأجله، ومن تفخيمه عند ربه الذي أوجبه على خلقه ألّا يسموه باسمه، فلا يقولوا يا محمد يا أحمد بل يا رسول الله، يا حبيب الله، في حالتي القرب والبعد، لأن الله تعالى خاطبه بيا أيها النّبيّ يا أيها الرّسول، لذلك لا يليق بالأمة أن يسموه إلّا بما(6/154)
يريد الله، ومن احترامه ألّا يرفعوا صوتهم بندائه، وإذا علم المنادي أن حضرة الرسول سمعه ولم يرد عليه فلينظر ولا يكرر النّداء فلعله شغل عنه بفكر أو بمخاطبة غيره أو كان في حالة تستدعي عدم الرّد كنزول الوحي أو حالة الوعظ وشبهها وسيأتي لهذا البحث صلة في سورة الحجرات الآتية إن شاء الله. وتشير أيضا إلى احترام المعلمين والمدرسين والأساتذة وسائر أهل الفضل، لأنهم يعلمون النّاس الخير وهذه الآيات من 58 إلى هنا والآية 29 إلى 35 المارات في آداب القرآن التي يريد الله تعالى أن يتأدب عباده بها صونا لأخلاقهم من المفاسد المذمومة. ثم ذم الله المنافقين المخالفين لهذه الآداب بقوله «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ» واحدا بعد واحد فيتسللون «مِنْكُمْ لِواذاً» فيلوذ الواحد بالآخر ويستتر به لئلا يحس بانسحابه من المجتمع، وذلك أنهم قاتلهم الله كان يثقل عليهم المقام مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويملّون من استماع خطبه ومواعظه القيمة ومحاضراته النّافعة، لأن وغر النّفاق أوقر قلوبهم، ودين الحسد أصدا صدورهم، وضيّقها عن سماع الحق وقبوله وعن نصحه وإرشاده، فصارت قلوبهم ضيّقه حرجة مظلمة لا تستطيع الاكتساب من نوره الفائض على القلوب الطّاهرة، وأين للخفاش من مصاحبة النّور راجع الآية 12 من سورة المؤمن في ج 2 وما ترشدك إليه مما يتعلق في هذا البحث. ثم هددهم الله تعالى وأوعدهم بقوله
«فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ» فيعرضون عنه ويصدون غيرهم من «أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ» بلاء ومحنة في الدّنيا لا يتخلّصون منه «أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 63» في الآخرة يلازمهم فيها لا يطيقونه. ثم نبّه عباده عما لا بد لهم من التفكر فيه فقال «أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وأنتم أيها النّاس من جملة ما فيها فاحذروا مخالفة خالقهما الذي لا يعجزه شيء. واعلموا أن مخالفته موجبة لإيقاع الفتنة بينكم بالدنيا والعذاب بالآخرة وأنه جل علمه «قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» من الإيمان الخالص والمشوب بالنفاق ويعلم منكم الطّيب والخبيث علما حقيقيا وهو من بعض معلوماته.
قد المفيدة للتقليل أحيانا كما هنا «وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ» يعلمه الله بل يعلم اللحظة التي تفارقون بها هذه الدّنيا وتمتثلون بها أمام عظمته في الموقف العظيم،(6/155)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
وهناك «فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» من طاعة وعصيان وكفر وإيمان ونفاق واخلاص «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (64) لا تخفى عليه خافية، يوجد أربع سور مختومة بهذه اللّفظة هذه والنّساء والأنفال والطّلاق. روي أن ابن عباس قرأ سورة النّور في الموسم على المنبر وفسرها على وجه لو سمعت به الرّوم لأسلمت. وأخرج أبو عبد الله بن السّبع في صحيحه عن عائشة رضي الله قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تنزلوا النّساء الغرف. أي لأنهن يعرضن أنفسهن لنظر الأجانب. فيا أيها النّاس تقيدوا بتعاليم الله القائل في كتابه (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) راجع الآية 26/ 27 و 60 من سورة النّساء واختر ما تشاء لتفوز من الله بالرضاء. هذا والله أعلم. وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة الحج عدد 17- 103- 52
نزلت بمكة بعد سورة النّور. وهي ثمان وسبعون آية والف ومئتان وإحدى وسبعون كلمة وخمسة آلاف وخمس وسبعون حرفا. ومنها الآيات من 52 إلى 55 نزلن بين مكة والمدينة ومثلها في عدد الآي سورة الرّحمن. وتقدمت السّور المبدوءة بما بدئت فيه سورة النّساء ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ» واحذروا مخالفته «إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ» التي أمرها بيده «شَيْءٌ عَظِيمٌ» (1) جدا ولا أعظم بمن وصفه الله بالعظمة. ثم ذكر من أهوالها ما أوجب وصفها بالعظمة بقوله جل قوله «يَوْمَ تَرَوْنَها»
أي الزلزلة وهي حركة الأرض بشدة هائلة واضطرابها بقوة فظيعة، عند اذن الله تعالى بخراب الأرض وانقراض هذا الكون، وحينذاك «تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ»
فتنساه كأنه ما كان لما يلحقها من الدّهشة المزعجة «وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها»
من كبير الفزع وجليل الخوف على فرض وقوع هذه الزلزلة في الدّنيا فإن المرضعة(6/156)
المعلّق قلبها عند رضيعها تغفل عنه وتتركه بل تنساه ولا يخطر ببالها وإن الحاصل لعظيم ما ترى تسقط ما في بطنها وهي لا تشعر به قبل تمام مدته، وهو لا يسقط بذلك إلّا بأسباب باهظة وعمليات متعبة منهكة. «وَتَرَى النَّاسَ»
أيها النّاظر إليهم إذ ذاك إذا تأتي منك النّظر «سُكارى»
بلا شراب حياري لهول ما يشاهدون من الخوف القاطع للقلوب «وَما هُمْ بِسُكارى»
حقيقة، ولكنهم على هيئة وصورة الثمل الغافل الحائر مما يشاهد ما يحل به وبغيره في ذلك الموقف العظيم، إذ تتفتت فيه الأكباد، وترتعد فيه الفرائض، وتتلجلج فيه القلوب، فتبلغ الحناجر لأن ما هم قادمون عليه ليس بملك ظالم ولا سلطان غاشم يؤمل الخلاص منهما «وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ»
(2) لا مخلص منه، لذلك قد أرهقهم خوف لحوقة بهم وأذهب عقولهم رؤياه، فأفقدهم رشدهم، وأضاع تمييزهم، وأزال معرفتهم حالهم، وأشغل كلا بنفسه.
مطلب في أهوال القيامية وكيفية الخلق وترتيبه وما قاله صاحب الجمل:
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول الله تعالى يوم القيامة يا آدم، فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك، فينادى بصوت إن الله يأمرك أن تخرج بعث النّار، قال يا رب وما بعث النّار؟ قال في كلّ الف تسعمائة وتسع وتسعون، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، وترى النّاس سكارى الآية، فشق ذلك على النّاس حتى تغيرت وجوههم، قالوا يا رسول الله أينا ذلك الرّجل؟ فقال صلّى الله عليه وسلم من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسع وتسعون، ومنكم واحد، ثم أنتم في النّاس كالشعرة السّوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وفي رواية كالرقمة في ذراع الحمار (الرقمة معروفة وهي كالفلس في ذراع الحمار والبغل أيضا) (وإني لأرجو أن تكونوا رباع أهل الجنّة، فكبرنا، ثم قال ثلاث أهل الجنّة، فكبرنا، ثم قال شطر أهل الجنّة، فكبرنا. قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ» لشدة جهله «وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ» (3) متشيطن مضلّ عات في جداله. واعلم أنه لا يوقف على مريد لأن ما بعده صفة له، ولذلك(6/157)
ينبغي للقارىء وصلها بما بعدها ولا يغتر بعلامة الوقف في المصاحف ويظن الوقف عليها لازم، لأن الوقف يكون على تمام المعنى، لأن كثيرا من الآيات يجب وصلها بما بعدها، أما علامات الوقف التي وضعها القراء على كلمات القرآن مثل م وط ج وغيرها فهي المعتبر مراعاتها، وعلى القارئ أن يتقيد بها فيعرف الواجب واللازم والجائز والممتنع، واتقن هذه الإشارات الموضوعة على الكلمات في المصاحف المصرية التي طبعها فؤاد الأوّل ملك مصر رحمه الله «كُتِبَ عَلَيْهِ» أي ذلك الشيطان «أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ» أي تبعه من النّاس فأطاعه انقيادا لوساوسه «فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ» عن الحق ويرمه في الباطل ويوقعه في دسائسه «وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ» (4) إذ ما بعد الحق إلّا الضّلال، ولا مرجع للضال إلّا جهنم المتسعرة بأهلها، كما لا مصير إلى المحق إلّا الجنّة النّاعمة بأهلها «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ» بعد الموت، ولكم شكّ في الحياة الآخرة، وإنكم تستعظمون وجودها، «فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ» راجع الآيتين 64 و 67 من سورة المؤمن في ج 2 تجد تفصيل مراتب الخلق وعددها هناك. واعلم أن العطف بثم في هذه الآية يفيد أن بين كلّ حالة وأخرى من البعد ما لا يخفى أما عطف ثم الأخير فهو لتباعد ما بين الخلقين كما يشير إليه قوله (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) راجع الآية 14 من سورة المؤمنين والآية 54 من سورة الرّوم في ج 2 تقف على ما تريده من هذا البحث. «مُخَلَّقَةٍ» صفة للمضغة أي تامة لا نقصان فيها ولا عيب «وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ» أي قد تكون ناقصة معيبة في بعض الحواس والجوارح والتخطيط، راجع الآية 9 من سورة الرّعد المارة. قال صاحب الجمل على الجلالين هذا تقسيم على سبيل التسمح فإن كلّ مضغة تكون أولا غير مخلقة ثم تصير مخلقة ولو جاء النظم هكذا ثم من نطفة غير مخلقة ثم من نطفة مخلقة لكان أوضح. ثم قال وكان مقتضى الترتيب السّابق المبني على التدريج من المبادئ البعيدة على القريبة أي تقديم غير المخلقة على المخلقة. وهذه جرأة عظيمة منه وهفوة كبيرة كما وقع مثل هذا وأعظم من الخطيب الشّربيني في تفسير الآية 65 من سورة يونس في ج 2 عفا الله(6/158)
عنهما وبصرنا بعيوبنا «لِنُبَيِّنَ لَكُمْ» أيها النّاس كمال قدرتنا وبالغ حكمتنا ولتعلموا أن من يقدر على هذا الخلق ابتداء يقدر على الاعادة لا محالة «وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ» من هذه النّطفة المخلقة فنبقيها فيه ونحفظها ونربتيها «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عندنا فنسقط منها ما نشاء حسبما اقتضته حكمتنا قبل تمام خلقه ونبقي منها ما نريد بمقتضى إرادتنا «ثُمَّ» تقضي قدرتنا الأزلية با كماله وبعد تمام الأجل المقدر له من علمنا «نُخْرِجُكُمْ» من بطون أمهاتكم بواسطة وبغير واسطة «طِفْلًا» ولا تزالون برعايتنا حتى تشبّوا «ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ» من كمال العقل والقوة والتميز وأنتم بأعيننا «وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى» قبل ذلك «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» وهو حالة الهرم والخوف، ومنكم من يعمر كثيرا وهو مالك لحواسه كافة، عالم ما علمه، كالأنبياء وبعض العلماء والعارفين، لأنهم لا يتناولهم النقص
، أما غيرهم فقد يرجعون لحالة الطّفولة «لِكَيْلا يَعْلَمَ» شيئا «مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ» كان يعلمه قبل الكبر «شَيْئاً» أبدا لأنه ينساه ولا يخطر بباله حيث يفقد العقل والتمييز، راجع نظير هذه الآية الآية 71 من سورة النحل في ج 2 ونظيرتها الآية 68 من سورة يس في ج 1 تجد ما به الكفاية في هذا الشّأن. وهذا دليل حسي على البعث بعد الموت، وفي الدّلائل الحسية أيضا «وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً» ميتة يابسة لا شيء فيها ونظيرتها آية فصلت 40 خاشعة راجعها في ج 2 أي ذليلة وهما من حيث المعنى سواء «فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ» بالنبات والأزهار «وَرَبَتْ» انتفخت وارتفعت لتغلغل الري فيها وخروج النّبات منها «وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» (5) يسر الناظر حسنه واستواؤه وجماله راجع الآية 67 من سورة المؤمن في ج 2 تجد ما يتعلق بهذا البحث بصورة واضحة «ذلِكَ» الذي ذكر من كيفية بدء الخلق وإحياء الأرض والنّبات لتعلموا أيها النّاس «بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» لا ريب فيه في ذاته وأفعاله وأوامره لا من غيره «وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (6) لا يعجزه شيء وإن إعادة من خلقه هي أهون عليه من خلقه ابتداعا «وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي(6/159)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)
الْقُبُورِ»
(7) أحياء كما كانوا في الدّنيا قص الله في هذه الآية على أهل المدينة حالة النضر بن الحارث الذي كان يكثر الجدل بانكار البعث ويقول إن الملائكة بنات الله وقد أنزل الله في مكة بحقه الآيات الكثيرة ليعلموا حال المنكرين أمثاله كأبي ابن خلف وأضرابه العريقين في الشّرك والمخاصمة، كما أنه جل شأنه قصّ حال أبي جهل واضرابه كعيقة بن معيط الّذين أنزل الله تعالى فيهم الآيات الكثيرة الحاكية بغضهم وعنادهم وكفرهم وعداوتهم لحضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم في مكة أيضا في هذه السّورة المدنية على شأنهم، فقال جل قوله «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ» (8) بل جهلا وضلالا وعتوا وعناد «ثانِيَ عِطْفِهِ» لاوي عنقه وجنبه عن حضرة الرّسول متبختر متكبر آنفا معرضا عن الله «لِيُضِلَّ» بعمله هذا النّاس «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» وعن الإيمان وكتبه ورسله فمثل هذا الخبيث الصّادر عن ذلك «لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» من أنواع الهوان والذل والمهانة والرّذالة، وقد قتل في بدر صبرا تحقيرا له «وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ» (9) الذي لا تطيقه القوى البشرية ويقال له «ذلِكَ» الذي لا قيته من خزي الدّنيا وعذاب الآخرة أصابك «بِما قَدَّمَتْ يَداكَ» من تكذيب محمد والتكبر عن دينه والاستهزاء به واختيارك الشّرك على التوحيد وإنكارك هذا اليوم والحياة فيه. وما وقع عليك من هذا ليس بظلم لك، بل جزاء عملك باختيارك واقترافك القبائح «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» (10) بل يجازي المسيء بحسب إساءته ويكافيء المحسن بأحسن من إحسانه. هذا، وما قاله بعض المفسرين من أن هذه الآيات نزلت في النّضر وأبي جهل أراد أن شبهها نزل فيها في مكة، وإن هذه الآيات نزلت في المدينة تبعا لسورتها حكاية عن تلك الآيات المكيات وقد تلاها حضرة الرّسول على أهل المدينة بيانا لحال أولئك الكفرة لا إنها نزلت فيها ثانيا، لأنهم قتلوا قبل نزولها، ولأن شيئا من القرآن لم ينزل مرتين كما ذكرناه غير مرة وأوضحناه في سورة الفاتحة ج 1، ولهذا قال بعضهم إنها مكيات. قال تعالى
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ» وطرف من الدّين لا في وسطه وقلبه، لأن الإيمان إذا لم يتغلغل في القلب ولم يذق صاحبه(6/160)
حلاوته ولم تخالط بشاشته الفؤاد كان دخوله فيه من غير عقيدة راسخة ولا رغبة كاملة ومحبة صادقة، وكان شاكا مترددا دخله على طريق التجربة «فَإِنْ أَصابَهُ» حال تلبسه فيه «خَيْرٌ» من سعة وصحة وولد وجاه «اطْمَأَنَّ بِهِ» بسبب الخير الذي رآه بدخوله فيه «وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ» من فقر أو مرض أو عقر أو حقارة «انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ» القهقرى وارتد كافرا تشاؤما منه، ولهذا جعل الله مثله مثل المتحيّر المضطرب، ومن كان هذا شأنه في الدّين «خَسِرَ الدُّنْيا» ففاته عزّها وكرامتها وأهين بالجلاء والأسر والسّبي والقتل أو بالجزية والمذلة «وَالْآخِرَةَ» خسرها أيضا لأنه لم يعدّ لها شيئا من الأعمال الصّالحة والأقوال والنّيات الحسنة «ذلِكَ» خسران الدّارين «هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ» (11) الذي لا يخفى على أحد لشدة ظهوره فقيه النّدامة الفارغة والحسرة المحرقة والأسف العقيم. وقرئ خسر بالفتح على الحال، وقرئ خاصر بالضم على الفاعلية، ومثل هذه القراءة التي لا زيادة فيها ولا نقص جائزة إذ لا شيء فيها سوى مد الخاء، وأن المد والقصر والإدغام والفك جائز، والمد قد يستعاض عنه بالفتحة القائمة كما في رسم بعض المصاحف، تدبر. وهذا المرتد الخامس.
مطلب ظهور غبن الكفرة وأهل الأديان السّتة والسّجود لله تعالى وضرب المثل به:
«يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ» إن عصاه «وَما لا يَنْفَعُهُ» إن أطاعه «ذلِكَ» دعاؤه من دون الله «هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» (12) ، عن الصواب لأن هذا الخاسر الضّال «يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ» في طاعته وعبادته «أَقْرَبُ» له «مِنْ نَفْعِهِ» الذي كان يتوخاه منه في الدّنيا ويتوقع نفعه في الآخرة من الشفاعة وغيرها، أي أنه يدعو لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا، ويقال له في ذلك اليوم أن المولى الذي تدعوه «لَبِئْسَ الْمَوْلى» أي الناصر الذي ترجو معونته فيها «وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ» (13) المصاحب والخليل المرافق هذا وقد ظن بعضهم أن هنا تناقضا، وهو أنه تعالى قال في الآية الأولى (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) إذ نفى النّفع والضّر عن الأصنام، وقد(6/161)
أثبتها لها في هذه الآية إذ قال (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) وهذا ظن باطل ناشيء عن عدم قديره في كنه كلام الله المبرأ من كلّ ظن وشك وزعم ووهم وريب وشبهة، فضلا عما يزعمه من التناقض، لأن من أدرك المعنى وعرف المغزى زال عنه ما توهمه من إثبات النّفع والضّر في هذه الآية ونفيهما في الأولى لأن الله تعالى صفة الكافر على عبادته في الدّنيا جمادا، لا يملك ضرا ولا نفعا، وهو يعتقد فيه جهلا وضلالا أنه ينتفع فيه حين يستشفع به، ثم قال يقول هذا الكافر يوم القيامة بدعاء وصراخ حين يرى استقراره بسبب الأصنام وإدخاله النّار بعبادتها ولا يرى أثرا للشفاعة التي ادعاها له في الدّنيا لمن ضره إلخ تدبر. واعلم أن هذه اللام الدّاخلة على من ليست بزائدة كما ذكره بعض المفسرين إذ لا زائد في كتاب الله كما أشرنا إليه غير مرة، وما قيل إن ابن مسعود قرأ بدون اللام لا يستدل به على زيادتها، وأحسن الأقوال فيها أنها موطئة للقسم أي يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه إلخ. هذا ويتجه انطباق الآيتين على رؤساء الكفرة الّذين كانوا يفزعون إليهم، لأنهم قد يضرون وينفعون، وذلك لأن الله تعالى بين في الآية الأولى أن الأوثان لا تضر ولا تنفع، والآية الثانية تقضي كون المذكور فيها ضرا نافعا، فلو كان المذكور في هذه الأوثان لزم التناقض، فثبت أنهم الرّؤساء بدليل قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ إلخ) وهذا الاتجاه كما ترى والأوّل أولى وأسلم، والله أعلم. واعلم أن هذه الآيات الثلاث نزلت في أعراب المشركين الّذين كانوا يأتون المدينة من البادية فيدخلون بالإسلام ويقطنون فيها، فإذا رأوا صحة بأجسادهم ونتاجا في مواشيهم ونسائهم وزيادة في أرزاقهم قالوا دين حسن فيركنوا إليه، وإذا كان على العكس قالوا لم يصبنا من هذا الدّين إلّا الشّر، فيتركون المدينة ويرجعون إلى باديتهم مرتدين، وذلك لأن دخولهم في الإسلام لم يكن لمرضاة الله ولا لابتغاء وجهه ولا لأنه دين الحق، بل لمطامع دنيويّة يزول بزوالها، إذ لو كان إيمانهم عن رغبة صادقة ونية خالصة وحب قلبي طلبا لما عند الله في الآخرة لما ارتدوا مهما أصابهم من البلاء ونابهم من العناء وذاقوا من الفتن، فلم يثنهم عنه شيء حتى القتل ولم يزدهم الامتحان فيه إلّا تمسكا به وشوقا بلقاء الله، أملا(6/162)
بإنالة وعده للصادقين بقوله «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ» (14) لأوليائه في الكرامة كما يفعل ما يشاء لأهل معصيته من الهوان، هذا ولما دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قوما من أسد وغطفان إلى الإسلام وكان بينهم وبين يهود المدينة حلف، وقالوا تخاف ان أسلمنا أن لا تنصر ولا يظهر أمرك على اليهود، فتنقطع المحالفة بيننا وبينهم، فيقطعون عنا الميرة ولا يؤوننا ان نزلنا عليهم، أنزل الله تعالى انزاله «مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» أيضا ليس في الدّنيا فقط كما ظن هؤلاء «فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ» حبل «إِلَى السَّماءِ» أي يعلق حبلا لجهة العلو كالسقف وغيره، لأن كلّ ما علاك فأظلك هو سماء، فيجعله في عنقه ويخنق نفسه خير له من هذا الظّن الفاسد في ربه. وهنا عدل عن الحقيقة، إذ صرف لفظ السّماء عن حقيقته الظّاهرة إلى المجاز وهو السّقف الذي يطلق عليه لفظ السّماء مجازا لاستحالة تعلق الحبل بالسماء الحقيقة لئلا يتعطل اللّفظ تأمل «ثُمَّ لْيَقْطَعْ» ذلك
الحبل أي يخنق نفسه فيه وسمى الإخناق قطعا، لأن المختنق يقطع نفسه يحبس مجاريه وبعد ذلك «فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ» ذلك بنفسه «ما يَغِيظُ» (15) أي الذي يغيظه وهو نصر الله له كلا لا يرد من خنقه شيئا بل يبقى كيده في نحره، وفيه قيل:
ان لم تكوني بهذا الحال راضية ... فدونك اليوم هذا الحبل فانشنقي
وهذه الآية عامة في معناها لكل من ظن هذا الظّن السّيء بربه، وتفيد أن الله تعالى ناصر نبيه في الدّنيا والآخرة على رغم حسّاده وأعاديه، وناصر أنصاره وأتباعه إلى يوم القيامة إذا صدقوا وداوموا على سنته «وَكَذلِكَ» كما أنزلنا على من قبلك من الرّسل كتبا وصحفا «أَنْزَلْناهُ» أي هذا الكتاب الحاوي على معنى كلّ ما نزل قبل عليهم. عليك يا سيد الرّسل وجعلناه «آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي» به إلى دينه «مَنْ يُرِيدُ» (16) من عباده الّذين سبقت لهم السّعادة في علمه الأزلي «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ» لم تذكر هذه الكلمة في القرآن كله إلّا هنا «وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا»(6/163)
وهؤلاء أصحاب الأديان السّتة الموجودون على وجه الأرض عند نزول القرآن لا غيرهم، أما الفرق الأخرى الموجودون الآن فقد افترقوا بعد وانشقوا بعضهم على بعض وتشعبوا من هذه الأديان السّتة كما أخبر حضرة الرّسول، وقد ذكرهم صاحب المواقف في أواخر الجزء الثالث على وجه التفصيل فمن أراد الاطلاع عليهم ومعرفة أديانهم وأهلها والوقوف على كنههم فليراجعه. فهؤلاء ومن كان على شاكلتهم من المختلفين في أمر الدين المنزل عليك يا أكمل الرّسل لا تعبا بهم الآن «إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ» وبينك وأتباعك ومن اقتفى أثرك ومشى على طريقك «يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (17) تقدم تفسير مثله في الآية 62 من سورة البقرة المارة وسيأتي ما يقاربها في الآية 77 في المائدة عدا كلمة المجوس قال تعالى «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ» كل بما يناسبه بما أراده الله منه، وبما أن من النّاس من يسجد قولا وفعلا، قال جل قوله «وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ» لأن بعضهم يتركه ظاهرا وتكبرا وتمردا وهو في الحقيقة ساجد خاضع منقاد لله تعالى بكليته. سئل الحجاج هل قتلت أحدا بحق؟
قال بلى، قتلت ثلاثة وإني لأرجو أن أدخل الجنّة بسبب قتلهم، وعدّ منهم رجلا أمره بالصلاة فقال ما يمنعني منها إلّا سجودها وركوعها لما يبدو من ذلك من تمثل العورة، أي أنه يأنف من ذلك ولو كان أمام الله، فقتله لذلك وما ذلك على الله بعزيز إذا حسنت نية الحجاج «وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ» لكفرهم وابائهم عن السّجود مثل هذا الذي ذكره الحجاج لأن من يستكبر أن يسجد لله فهو كافر «وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ» بالشقاوة الواقعة منه عن رغبة واختيار «فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ» بالسعادة التي أعرض عن أسبابها فسببت له الذل، ومن يذلّه الله لا يكرمه النّاس ولا يصيرونه مكرما عندهم، لأنه مهان عند ربه «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» (18) من إكرام أناس وإهانة آخرين بمقتضى أعمالهم ومنهم يسجد قولا ويأنف فعلا كالمار ذكره، ومنهم من لا يسجد قولا ولا فعلا كالكفرة، أما الطّيور والحيوانات والكواكب والجبال والأشجار والنّبات فتسجد(6/164)
وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
بحسبها كما أنها تسبحه بحسبها، راجع الآية 45 من سورة الاسراء في ج 1. ثم أشار تعالى لأهل الأديان السّتة المار ذكرهم بقوله «هذانِ خَصْمانِ» بلفظ التشبه لأنهم في الحقيقة صنفان أهل كتاب ومشركون، وبما أن أهل الكتاب لم يعملوا به ولم يؤمنوا بمحمد فيكون الصّنفان مؤمنين وكافرين، لأن الأصناف الخمسة متساوون بمعنى الكفر، فهم بمثابة واحدة فيكونون صنفا والمؤمنون صنف، وقد جمع الضّمير بقوله «اخْتَصَمُوا» كل منهم «فِي رَبِّهِمْ» في الدّنيا أي اختلفوا في دينه الذي شرعه لهم على لسان أنبيائه المرسلين إليهم راجع الآية 26 من سورة النّور المارة. وقد بين الله كيفية الفصل بينهم فيما تقدم من الآيات وفي قوله تعالى «فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ» (19) الماء الشّديد الغليان المتناهي في الحرارة.
ثم بين مبالغة تأثيره فيهم بقوله «يُصْهَرُ» يذاب «بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ» من الشّحوم والأحشاء والأمعاء «وَالْجُلُودُ» (20) يذيبها أيضا
«وَلَهُمْ» عذاب آخر وهو «مَقامِعُ» سياط «مِنْ حَدِيدٍ» (21) يضربون بها «كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ» من غمومها الكثيرة وحاولوا الهرب للتخلص من كربها وصعوبة بلائها «أُعِيدُوا فِيها» أعادتهم ملائكة العذاب إليها عنفا وقسرا بالضرب والكبح ويقولون توبيخا لهم وتقريعا حال ضربهم وردهم إليها «وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» (22) وهذا حكم الله تعالى يوم القيامة على فريق الكافرين أهل النّار، أما حكمه على المؤمنين أهل الجنّة فهو ما ذكره بقوله «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ»
(23) ويسميه العراقيون إبريسم، وهو المفتول منه عرفا «وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ» وهو ما ذكره الله تعالى (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الآية 25 من سورة فاطر ج 1 وبقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) الآية 75 من سورة الزمر ج 2 «وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ» (24) الطريق المحمود الموصل إلى جنته بسلام. هذا ومن قال إن هذه الآية نزلت في(6/165)
علي كرم الله وجهه وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث حين بارزوا عتبة وشيبة بنى ربيعة والوليد بن عتبة في بدر فغير وجيه، لأن هذا الاختصام المشار إليه في هذه الآية تفريع عما جاء في الآية السّابقة التي أشرقا إليها وهو اختصام في الدّين لا في الحرب، وهي متأخرة في قصة بدر ولم تأت بسباق قصة حكاية الحال حتى يصبح القول بما ذكر، كما أن ما قيل إن هذا الاختصام بين الجنّة والنّار قول واه أيضا، وإن ما رواه البخاري عن علي كرم الله وجهه أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الرّحمن يوم القيامة لا يقصد منه هذه الخصومة، وقد يراد بها- والله أعلم- ما وقع بينه وبين معاوية مع ابنه الحسن وبين الحسين ويزيد إلا أن وقوع هذا بعد وفاته يبعده عن الواقع، تدبر. وكذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال تحاجت الجنّة والنّار فقالت النّار اوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنّة فمالي لا يدخلني إلّا ضعفاء النّاس وسقطهم- الحديث- لا ينطبق علي هذه الآية وجوب حمل معناها على غير ظاهرها دون موجب أو صارف وهو غير جائز وما رواه قيس بن عبادة من أن أبا ذر أقسم أن هذه الآية نزلت في الّذين برزوا يوم بدر لا يصلح للاستدلال، لأنه خبر واحد وأخبار الآحاد لا تكون حجة لدحض مثل هذا، وإنما المراد في هذه الخصومة والله أعلم ما وقع من الاختلاف في أمر الدّين بين أهله المذكورين في هذه الدّنيا، وأنه يجاء بهم يوم القيامة بين يدي الله عز وجل فيفصل بينهم على الوجه المذكور فيها، كما ينبيء عنه ظاهر التنزيل. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» بما جاء به محمد «وَيَصُدُّونَ» الناس مع كفرهم «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» فيمنعونهم من الدّخول في الإسلام «وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ» فيمنعونهم من دخوله وهو «الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ» عامة لا يختص به واحد دون آخر، فهو قبلة ونسك وتعبّد إلى جميع الخلق «سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ» المقيم القاطن «وَالْبادِ» الذي يأتيه من البادية، فلا يجوز لأحد أن يمنع أحدا من دخوله والطّواف به. وخبر إن هذه محذوف تقديره (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) بدلالة خبر «وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ» أي أي مراد كان في أنواع الكفر والظّلم بدلالة التنوين والتنكير(6/166)
نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» (25) في الآخرة فضلا عما يصيبه من الهوان في الدّنيا أخرج الترمذي وأبو داود والنّسائي عن جبير بن مطعم أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلّى أي ساعة شاء من ليل أو نهار. هذا ومن قال إن المراد بالمسجد جميع الحرم يترتب عليه عدم جواز بيع بيوت مكة وإن النّاس فيها سواء، وهذا ينافيه قوله تعالى (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ) الآية 41 الآتية إذ أضاف الدّيار إلى مالكيها. وقوله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. إذ نسب الدّيار إليهم نسبة ملك، فلو كانت من الحرم لما نسبت إليهم، وشراء السّيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه دار السّجن بأربعة آلاف درهم يدل على جواز بيعها، فلو كانت من
الحرم لما جاز له ذلك ولم يقروه عليه، أما ما قاله عبد الرّحمن بن سابط من أن الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهلها بأحق في منزلة منهم، وما روي عن عمر بن الخطاب وابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة في المعنى الذي ذكره عبد الرّحمن، لا يدل على أنها من جملة الحرم الذي يشترك فيه النّاس أجمع وإنما يدل على كرم أخلاق أهل مكة وحسن قراهم للضيف، ومساواتهم له بأنفسهم وجعلهم الضّيف كأحد في منازلهم، وهو على حد قوله:
يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا ... نحن الضّيوف وأنت رب المنزل
مطلب إظهار قواعد البيت، وعمارته، والحج إليه، وفوائد الحج، والدّبائح وما يتعلق فيها المادية والمعنوية:
قال تعالى «وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ» أي واذكر يا سيد لرسل لقومك زمن إظهار البيت لجدك ابراهيم وجعلنا إياه له متوأ ومسكنا يسكن يه ومأوى يرجع إليه، وذلك حين أمره الله ببنائه بعد الطّوفان، وكان لم يدر مكانه الذي كان فيه قبل الطّوفان لا ندثاره، قالوا بعث الله ريحا خجوجا هي لشديدة الحر أو المتلوية في هبوبها. ومعنى الحج الدفع والشّق والالتواء والجماع، وله معان أخر غير هذه، فكنست ما حوله حتى ظهر وبرز أساسه، فعمره على النّحو الذي ذكر في سورة البقرة في الآية 136 المارة، وقلنا له «أَنْ لا تُشْرِكْ(6/167)
بِي شَيْئاً»
من الأشياء سماويا أو أرضيا «وَطَهِّرْ بَيْتِيَ» من أقذار الأوثان وأوساخ الكفر ليكون نظيفا طاهرا من الأرجاس والأنجاس كما كان من قبل حين بنته الملائكة وآدم من بعدهم، وأبحه «لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ» فيه «وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» (26) لجلالي وعظمتي «وَأَذِّنْ» أعلم وناد «فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ» قالوا فقال يا رب وما يبلغ صوتي في وسيع ملكك، فقال تعالى عليك الأذان وعلينا الإسماع والإبلاغ، فقام عليه السّلام على المقام المعروف اليوم وأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا، وقال بأعلى صوته أيها النّاس ألا إن ربكم قد بنى بيتا وكتب عليكم الحج إليه، فأجيبوا ربكم، فأجابه كلّ من يحج إلى يوم القيامة من الموجودين على ظهر الأرض إذ ذاك، ومن أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ممن كتب الله له الحج، قائلا لبيك اللهم لبيك. ولا يقال في هذا لأن المستمع هو الذي خاطب خلقه في عالم الذرّ بقوله (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) كما تقدم في الآيتين 172 و 173 من سورة الأعراف المارة في ج 1. وإياك أن تستعبد هذا الإسماع أيها الإنسان أو تشك فيه فإذا كان الرّاد المحدث الآن يسمع أهل المشرق والمغرب بآن واحد بثانية واحد، وإن اهتف يخاطب به كذلك وهو من صنع خلقه، فكيف بخالق هذا الخلق أيعجزه ذلك، كلا ثم كلا، وهو القادر على كلّ شيء. وإذا ناديتهم يا خليلي ستراهم «يَأْتُوكَ رِجالًا» مشاة «وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ» ركبانا والضّامر البعير المهزول من نصب السّير وتعب الثقل وقلة الأكل والشّرب. ومما يدل على بعد الشّقة قوله «يَأْتِينَ» تلك الإبل الضّوار بركابها «مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» (27) طريق بعيد والفج الطّريق في الجل وغلب على غيره وعمقه بنسبة علو الجبل المنشق منه عن يمينه وشماله، وهؤلاء المدعون يأتون لهذا البيت «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ» دينية ودنيوية مختصة في هذا البيت لا يشهدونها في غيره ولا توجد إلّا به، راجع الآيتين 158 و 96 من سورة البقرة والآية 97 من آل عمران المارات «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ» على ما سينحرونه من الهدى «فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ» ويكبرون عليها إذا أريد ذبحها يوم النّحر وأيّام التشريق بدليل قوله تعالى «عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ(6/168)
الْأَنْعامِ»
أضحية وهديا، وإذا فعلتم هذا أيها النّاس امتثالا لأمري «فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ» (28) الذي لا شيء عنده. كانت العرب في الجاهلية لا تأكل لحوم ضحاياها وهداياهم، فأمر الله تعالى بمخالفتهم وأباح لعباده الأكل منها، أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله في قصة حجة الوداع قال وقدم علي كرم الله وجهه ببدن من اليمن وساق رسول الله مئه بدنة فنحر منها ثلاثا وستين بيده الشريفة صلّى الله عليه وسلم، ونحر عليّ ما نحر أي ما بقي، وأشركه في بدنه، وفي عدد ما نحره صلّى الله عليه وسلم إشارة إلى مدة حياته إذ توفي في الثالثة والسّتين من عمره، وفي هذا يعلم أن حضرة الرّسول قد أعطى من القوة ما لم يعطها غيره قط، لأن أحدا لا يقدر على نحر عشر من الإبل دفعة واحدة، فهو أكمل الخلق مادة ومعنى وخلقا وخلقا وقلبا وقالبا وروحا وجسما. ثم أمر من كلّ بدنة ببضعة أي قطعة فجعلت في قدر وطبخت، فأكل منها وشرب من مرقها، مما يدل على جواز الأكل من لحوم الأضحية دون قيد أو شرط. وقد اختلفت الأئمة في ذلك فمنهم من جوز الأكل من الهدايا الواجبة كدم التمتع والقرآن وما جبر بإفساد شيء من واجبات الحج وجزاء العيد، واتفقوا على جواز الأكل من جميع هدايا التطوع والأضحية إذا لم تكن منذورة
، وإذا أريد بالأيام عشر ذي الحجة يراد بالذكر مطلقه وما يتلى غالبا في أيّام الحج. قال تعالى «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» أي لينتهوا من إزالة أدرانهم وأوساخهم ويقصوا شعورهم وأظفارهم ويستحدوا (يحلقوا عانتهم) وينتفوا آباطهم ويغيروا ما أحرموا به بالثياب النّقية، لأن الحاج مادام محرما أشعث أغبر «وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» التي التزموها وأوجبوها على أنفسهم. وهذه الآية عامة في الحاج وغيره وإن ورودها في معرض الحج لا يقيدها بالحاج، وهذا الأمر للوجوب وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية 7 من سورة الإنسان والآية 170 من البقرة المارتين «وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» (29) يكثروا الطّواف فيه بدليل تضعيف الفعل وسمي عتيقا لأنه أول بيت وضع للناس كما مر في الآية 97 من آل عمران المارة والمراد بهذا الطّواف طواف الإفاضة وأول وقته يوم النّحر بعد الرّمي والحلق، ويسمى طواف الزيارة وهو أحد فرائض الحج الثلاثة وأولها الإحرام وثانيها(6/169)
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
الوقوف بعرفة، أما طواف القدوم وهو أول وصوله إلى مكة فهو سنة، وطواف الوداع وهو عند قرب خروجه منها واجب «ذلِكَ» شهود المنافع وذكر الإله والأكل من لحوم الهدي وإطعام الفقراء منهما وقضاء التفث وإيفاء النّذور والطّواف بالبيت كلها من تعظيم حرمات الله «وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ» بالاجتناب لكل ما لا يحل هتكه وإثبات جميع ما كلف الله به الحاج من مناسك وغيرها «فَهُوَ» أي ذلك التعظيم «خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ» عظيم نفعه لا يقدر قدر خيره إلّا هو. ومما يدل على عظمة تفكيره «وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ» الإبل والبقر والغنم وغيرها- أكلا وذبحا واقتناء- فمن الأنعام ما يركب ويؤكل وهي الإبل، ومنها يؤكل ولا يركب كالأغنام وشبهها. واعلم أن الخيل والبغال لا تدخل في معنى الأنعام ولا يشملها لفظها. ثم لستثنى جل جلاله من عموم ذلك فقال «إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» تحريمه مما يأتي ذكره وتفصيله في الآية 4 فما بعدها من سورة المائدة بصورة أوضح مما تقدم في الآية 149 فما بعدها من الأنعام إن شاء الله، فهذا المستثنى حرام نجس «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ» كما تجتنبون ما حرّم عليكم أكلهم لاشتراكها في الرّجسية، بل عبادة الأوثان أعظم وزرا وتلويثا للانسان من تلويث النّجاسة، لأن فيها الإشراك بالله وهو كفر محض وليس في أكل المحرم إلّا الحرمة التي يفسق فاعلها إذا لم يستحله، وأعظم أنواع الكفر الشّرك. جاء في الإصحاح 15 من إنجيل متى ليس ما يدخل في الفم ينجّس الإنسان بل ما يخرج من الفم. وقال في الإصحاح 13 من فضلة القلب يتكلم الفم «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» (30) الافتراء والكذب والبهتان وشهادة الزور ومأخوذة من الزور وهو الانحراف وكفى به إثما إنها عدلت الإشراك بالله راجع الآية 72 من سورة الفرقان ج 1
فاتركوا هذا أيها المؤمنون وكونوا مخلصين «حُنَفاءَ لِلَّهِ» عادلين عن غيره مائلين له «غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ» أحدا ولا شيئا «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ» غيره من صنم أو وثن «فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ» فسقط على الأرض «فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ» بسرعة وتذهب به «أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ» فتميل به وتطرحه في «مَكانٍ سَحِيقٍ» (31) بعيد فيصير(6/170)
مسحوقا مكسرا ولم تكرر هذه الكلمة في القرآن، والمعنى أن المشرك بالله يهلك نفسه إهلاكا ما بعده إهلاك ويدمّر نفسه تدميرا فظيعا شنيعا «ذلِكَ» الذي يجتنب الرّجس ويخلص لله فقد عظم شعائر الله «وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها» خصلة التعظيم ما تكون في الإنسان إلا «مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» (32) التي هي مراكز التقوى وملاك القوى. والشّعائر جمع شعيرة وهي العلامة من الأشعار الذي هو الأعلام وكلّ ما هو من معالم الحج يسمى شعيرة، ومنها الهدايا والضّحايا وتعظيمها استحسانها واستسمانها «لَكُمْ فِيها» أي الهدايا المشعرة وذلك أنهم كانوا يطعنونها في سنامها من أيمنه أو أيسره حتى يسيل منها الدّم فيعلم من يراها أنها هدي فلا يتعرض لها «مَنافِعُ» في نسلها ودرعا وصوفها ووبرها وركوبها وبيع أولادها ما زالت عندكم تنتفعون بها «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» هو وقت نحرها إذا سماها هديا أو أوجبها ضحية وبعد التسمية لا حق له بشيء منها ولا بمنافعها، إلا أنه يجوز ركوبها فقط لما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال اركبها، فقال يا رسول الله إنها بدنة، فقال اركبها ويلك- أخرجاه في الصّحيحين- فيظهر من هذا أن جعلها هديا لا يمنع من ركوبها «ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ» (33) وأن منفعتها العظمى بعد تلك المنافع تكون عند منحرها بالحرم المنتهية إليه إذ تذبح هناك وينال صاحبها منفعتها الكبرى الدائمة عند الله تعالى في يوم يكون صاحبها أحوج منه إلى غيره. أما منفعتها الدنيوية ففانية، والمراد بالبيت هنا ما يشمل الحرم كله على حد قوله تعالى (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) الآية 98 من سورة المائدة الآتية وهي كلها منحر. قال تعالى «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ» من الأمم «جَعَلْنا مَنْسَكاً» بفتح السّين لإراقة الدّم وذبح القرابين خصصنا موضعا «لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ» عليها عند ذبحها شكرا لجلاله «عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» التي يتقرب بها إليه دون غيرها ولذلك أضاف لها الأنعام لأن البهيمة مبهمة في كلّ ذات أربع في البر والبحر مما يؤكل ومالا «فَإِلهُكُمْ» أيها الحاضرون وإله الّذين من قبلكم ومن بعدكم إلى يوم القيامة وبعدها «إِلهٌ واحِدٌ» عالم قدير خالق رازق محيي مميت منعم معذب(6/171)
«فَلَهُ أَسْلِمُوا» وانقادوا أيها النّاس لعظمته وأخلصوا لكبريائه والهجوا بذكره وحده على الذبح وغيره، ولا تذكروا شيئا سواه أبدا «وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ» (34) له الخاشعين لهيبته الخاضعين لعبادته «الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ» أمامهم وبمسمعهم «وَجِلَتْ» خافت أشد الخوف «قُلُوبُهُمْ» ورجفت لعظمته فيها وهيبته عليها فبشر هؤلاء يا سيد الرسل «وَالصَّابِرِينَ» بشرهم «عَلى ما أَصابَهُمْ» من البلاء والمحن الواقعة عليهم من الله ومن خلقه، لانهم يعلمون أنها بقضائه وقدره «وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ» بأوقاتها الموفين بأركانها وواجباتها وسنتها بشرهم أيضا «وَ» بشر الّذين «مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» (35) على المستحقين وخاصة الّذين يؤثرون الفقراء على أنفسهم بشرهم برضوان الله ورحمته. قال تعالى «وَالْبُدْنَ» جمع بدنة تطلق على الإبل والبقر فقط لبدانتهما «جَعَلْناها لَكُمْ» أيها النّاس ملكا، وجعلنا ذبحها في الحرم للحاج وغيرهم أضحية تذبحونها فيه ليتناولها أهله المحتاجون «مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» واعلام دينه «لَكُمْ فِيها خَيْرٌ» في الدّنيا بالذكر الحسن وفي الآخرة بالثواب العظيم إذا هديتموها وذبحتموها وتصدقتم بها على أهل الله وعياله، وإذا أردتم ذبحها «فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ» بالفتح دون تنوين، وقرئت منوّنة على لغة من يصرف مالا ينصرف، قال الرّاجز
والصّرف والجمع أتى كثيرا ... حتى ادعى قوم به التخييرا
وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن أيضا. أي اذبحوها قائمة على ثلاث ويدها اليسرى معقولة. روى البخاري ومسلم عن زياد بن جبير قال رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنة لينحرها، قال ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلّى الله عليه وسلم، وهذه السّنة قل من يفعلها الآن لأنهم لا يذبحون البدن إلّا مناخة معقولة من الأربع «فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها» بأن سقطت على الأرض بعد الذبح بدليل قوله جل وعلا «فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ» المتعفف
«وَالْمُعْتَرَّ» الملحف بالسؤال «كَذلِكَ» مثل ما سخّرناها لكم بأن تذبح وهي قائمة «سَخَّرْناها لَكُمْ» للركوب والحمل وذللناها لكم حتى صارت تنقاد للطفل لكمل استفادتكم منها، ولولا هذا التسخير لما استفدتم منها شيئا من ركوب وحمل وحليب رجزّ وبر وغيرها لأنها أقوى منكم،(6/172)
وقد فعلنا هذا لكم «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (36) نعمة ربكم على ذلك وغيره.
واعلموا أيها النّاس أن هداياكم وضحاياكم ونذوركم هذه وجميع صدقاتكم «لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها» بما تفعلونه، وذلك أنهم كانوا إذا نحروا الهدايا والضّحايا لطخوا الكعبة بدمائها ويزعمون أنه قربة وليس بقربة، ولم تزل هذه العادة الجاهلية جارية عند الجهلاء في المدن والقرى حتى اليوم، وذلك أنهم عند ما يذبحون نذرا أو خيرا أو عند إرادتهم البناء تبركا أو عند إكماله شكرا بزعمهم يلطخون باب الدّار والجدران بدم ما يذبحونه تقليدا على فعل الجاهلية بالكعبة المعظمة، فرد الله عليهم بأن هذا العمل ليس من القربة المراد بها وجه الله والتي يثاب العبد على فعلها، لأن اللّحوم والدّماء لن ترفع إلى الله تعالى بل يرفع ثوابها إذا كانت على وجه شرعي «وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ» أي يرفع إليه العمل الصّالح والإخلاص فيه المعبر عنه بالتقوى التي يجب ان تنحلوا بها فهي التي يراد بها وجه الله ويثاب عليها. قال تعالى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) الآية 40 من سورة فاطر ج 1 «كَذلِكَ» مثل هذا التسخير البديع «سَخَّرَها» أي البدن «لَكُمْ» أيها النّاس للاستعمال والذبح «لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ» عند ذبحها على ما هداكم لمعالم دينه وأرشدكم إليها «وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ» (37) بالثواب العظيم عند الله تعالى إذا فعلوا ما أمروا به واجتنبوا ما نهوا عنه في هذه المناسك التي سماها الله تعالى منافع. هذا وليعلم أن الحج من العوامل القوية على تآلف المسلمين واتحادهم على توثيق عرى المحبّة والعون على إجراء الحق بينهم وتوحيد كلمتهم. قال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الآية العاشرة من سورة الحجرات الآتية ويدعو إلى تعاضدهم وتآزرهم بما يتعلق بجميع شؤنهم وإصلاح كيانهم وإعلاء شأنهم حتى تكون العزّة لهم. قال تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) الآية 138 من سورة النّساء المارة وهو العامل الأقوى على لمّ شعثهم وتقويم اعوجاجهم حتى يكونوا الأمة الكريمة التي عناها الله بقوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية 130 من آل عمران المارة. وإنما فرضه الله تعالى على المستطيع من عباده ليرى حكمته البالغة، ويقدر فوائده العظمى التي تعود على المسلمين بالخير الوافر والنّعم(6/173)
الجزيلة، إذا قدره حق قدره، وعرف المغزى من فرضه، واستغل ما وضع له وحاول جني ثماره، لأن هذا الرّكن العظيم من أركان الإسلام يرمي إلى الاتحاد والتوثيق حتى يشعر بأن النّاس كلهم روح واحدة على ما هم عليه من بعد الشّقة، ونفس واحدة على ما هم عليه من الاختلاف باللغة واللّون والسّعادة والسّكن. قال تعالى (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ)
الآية 28 من سورة لقمان في ج 2 وإن الفطن ليلمس هذا القصد فى دعوة النّاس إلى الاجتماع في صعيد واحد متجهين لقبلة واحدة بزيّ واحد وغرض واحد، فإذا فقه المسلمون وتيقظوا لهذا وانتهزوا الفرصة بزيارة هذا البيت، وعرفوا ضالتهم المنشودة ومطلبهم السّامي منه، فتعاونوا بعضهم مع بعض وتعرّف بعضهم إلى حوائج البعض، وعرفوا كيفية الوصول إلى سبيل التعاون إذا ألم بهم حادث أو طرات عليهم مصيبة كيف ينقذون أنفسهم منها، فيذرقون حلاوة هذا الاجتماع ولا يكونون كمن ذمهم الله في قوله (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى» الآية 19 من سورة الحشر الآتية أجارنا الله من ذلك. ثم أنهم إذا رأوا الأسود والأبيض والأحمر والأسمر متساوين في الخشوع لرب ذلك البيت، لا فضل لعجمي على عربي، ولا لغني على؟؟ لا لشريف على حقير، وشاهدوا الملك والمملوك والجهلة والعلماء، والرّعية والأمراء سواسية، وقفوا هناك على كلمة قوله تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) الآية 13 من سورة الحجرات الآتية لأنهم كلهم متساوون في تركهم بلادهم، وفراق أهلهم وأولادهم، وإجابة دعوة ربهم إلى بيته المطهر، قال تعالى (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) الآية 136 من البقرة المارة ونظيرتها الآية 27 المارة إذ لم يفرق الله تعالى بدعوته بين واحد دون آخر، ولم يكلف الفقير رحمة بحاله ليس إلا، فإذا تجشم ذلك فله ما للغني من الثواب، وقد يزيده ربه إذا حسنت نيته، وإذا كان كذلك علم كلّ منهم أن هذا المؤتمر الإسلامي الجامع إنما عقد للخضوع إلى الله تعالى وللتّعاون في مصالح الدّين والدّنيا، وتيقن إن هذا الدّين لا يدعو إلّا الى خير واحسان. قال تعالى (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الآية
30 من سورة الروم في ج 2. فمن أجاب دعوة الله كان هو المتمسك بعروته(6/174)
الوثقى ومن حزب الله (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الآية 22 من سورة المجادلة الآتية، ولا شك أنهم هم الفائزون بقوله تعالى (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ) الآية 159 من المائدة الآتية. أما المتقاعسون عنه مع القدرة، فهم الّذين (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) الآية 19 من المجادلة الآتية. هذا من جملة منافع الحج المعنوية أما منافعه المادية المحسوسة فمنها مشاهدة تلك البقاع المباركة التي ظهر فيها حضرة الرسول الكريم ومواقف الأنبياء قبله، ذلك المرسل الى النّاس كافة (شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) الآيتين 44 و 45 من سورة الأحزاب المارة بدليل قوله جل قوله (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) الآية 158 من الأعراف ج 1، وفيها ما يرشدك الى ما يتعلق فيها التي لبث فيها ثلاثة عشر عاما يدعو النّاس الى توحيد الله وتنزيهه عن الشّرك، وكان يعاملهم بالرفق واللّين والرّحمة مع ما هم عليه من الجفاء والغلظة والشّدة تبعا لقوله تعالى (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الآية 125 من سورة النّحل ج 2، ويشاهد مواقع مكة المكرمة فيعتبر بما وقع فيها لسيدنا ابراهيم وابنه إسماعيل عليهما السّلام والأنبياء من قبلهما وبعدهما وما تركوه من آثار للاتعاظ والاعتبار، فيعمل ويخشع. قال تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية 16 من سورة الحديد المارة، فرؤية هذه المواقع المقدسة تعين القلب وتذكر الرّوح بما كان فيها من إعطاء العهد لربها في الآيتين 171 و 172 من الأعراف في ج 1 فتجهد نفسها للوفاء به وتستمد من غيرها المعاونة على العمل الصّالح للدنيا والآخرة وتعتبر بمصير من نكث عهده مع الله ونقض ميثاقه كيف حل بهم عذابه في الدّنيا وما أوعدهم به من العذاب الأخروي ومن منافع الحج المغفرة الواسعة الشّاملة لأشياء لا يمحوها إلا الحج، قال صلّى الله عليه وسلم الحج مبرور ليس له جزاء إلّا الجنّة وجاء أن من الذنوب ما يكفرها إلّا الحج، وقال عليه الصّلاة والسّلام من حجّ ولم يرفث ولم يفسق(6/175)
رجع كيوم ولدته أمه. وقد ضمن له الرّسول عن ربه عز وجل أن يرجعه سالما أو يدخله الجنّة. قال تعالى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) الآية 100 من سورة النّساء المارة وذلك لأنه لم يخرج إلّا لله، والأعمال بالنيات. ومن منافعه أنه وسيلة للتوبة لأن من لم يتب في مثل ذلك المكان ولم يخلص فيه الملك الدّيان يخسر الدّنيا والآخرة. ووسيلة إلى الانتهاء عن المعاصي جميعها، قال تعالى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) الآية 297 من البقرة المارة، لأنه إذا كان ينهى عن ملامسة الزوجات الحلال فلأن ينهى عن غيرهن من باب أولى، وذلك أو الحاج زمن الإحرام منهي حتى عن ملاذ اللّباس وزخارف الحياة، وما ذاك لتجنب الفتنة بجميع أنواعها، وهناك لا يشغل الغني جاهه ووجاهته، ولا تفتن الفقير حاجته وفاقته، فلا هو يحسد الأغنياء، ولا هم يمتهنون الفقراء، والكل أمام ان سواء حاسبين حساب المال، تائبين بطبيعة الحال، لا يعتبرون أنفسهم إلّا عبيد آبقين، قد آبوا إلى مولاهم مخلصين، راجين القبول والعفو عما مضى وإنه تعالى لا يخيب عبيده، ومن كمال رأفته بهم لا يسعه ردهم، وقد يتجلى عليهم بصفت الرحمانية وفضله الوافر، وهو المنان عليهم، فيبدل شرهم خيرا، وعسرهم يسرا قال تعالى (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) الآية 70 من سورة الفرقان ج 1. اللهم مهد لعبيدك أسباب الوصول إلى رحمتك وافتح لهم أبواب القبول، ويسر لهم القيام بخدمتك (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) الآية 38 من سورة إبراهيم عليه السّلام.
مطلب المدافعة عن المؤمنين من قبل الله وأول آية نزلت في الجهاد:
قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا» فلا يمكّن أعداءهم منهم إذا كانوا مؤمنين حقا، لأنه جل شأنه وعد بذلك فقالَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)
الآية 48 من سورة الرّوم وقال تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية 51 من سورة المؤمن وقال تعالى (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) الآية 172 من سورة الصّافات ج 2 راجع هذه الآيات تعلم كما أنت(6/176)
عالم من قبل أن وعده منجز إن الله لا يخلف الميعاد الآية 9 من آل عمران المارة وقال عز قوله (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) وقال جل قوله (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً) (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا)
الآيات الآية 112 من سورة التوبة الآتية والآيتين 112 و 152 من سورة النّساء المارة، كلا لا أحد أوفى وأصدق البتة، وحاشاه من الخلف، وإنما يقع منا نحن المسلمين المؤمنين اسما لا فعلا، فلو كنا مؤمنين حقيقة إيمانا صحيحا كما أراده الله منا لكانت كلمتنا هي العليا دائما ولكنا أعزاء بعزة الله تعالى ورسوله المنوه بهما بالآيتين آنفا، ولكنا تركنا فتركنا ونسينا فأهملنا، قال تعالى (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) الآية 68 من سورة التوبة الآتية وقال تعالى محذرا ومنذرا (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) الآية 19 من سورة الحشر المارة، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) راجع هذه الآية 54 من سورة الأنفال المارة ونظيرتها الآية 11 من سورة الرّعد المارة أيضا وإنا والله قد غيرنا وبدلنا وخنا أنفسنا وإخواننا لأنا لم نساعدهم عند ما يتجاوز عليهم إذا كنا بأمن مما يصيبهم، وهذه هي الخيانة العظمى، لذلك تبع الله هذه الجملة بقوله «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ» (38) لحقوقه ومن حقوقه نصرة المؤمنين ومعونتهم بعضهم لبعض، لأن المؤمن أخو المؤمن لا يخذله ولا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره ولا يتخلى عنه إذا وقع في شدة أو أحاطت به الأعداء، بل يجب عليه نصرته مالا وبدنا، المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، فإذا لم يساعد بعضهم بعضا تفرقوا وانهاروا كما يتهار البناء غير المتقن أساسه، هذه فلسطين ينتابها العدو فيخذل أهلها، ويسلب مالهم وملكهم، ويقتل رجالهم، ونحن نسمع ونرى ونقعد عنهم ونعد أنفسنا مؤمنين، بل نحن القاعدون كالّذين أشار الله إليهم في الآية 82 من سورة التوبة الآتية المتخلفون عن مساعدة إخواننا ولا نتأذى لأذيتهم، والمؤمنون الصّادقون كالجسم الواحد إذا اشتكى عضو منه تداعى سائره بالسهر والحمى، فإذا تناصر المؤمنون فتعاونوا وتشاركوا بالضر والنّفع وأخلصوا لربهم دافع عنهم ونصرهم ورفع كلمتهم وأعلى شأنهم، كيف والله يقول (كَتَبَ(6/177)
اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)
الآية من آخر سورة المجادلة، وإنه تعالى يوفي لهم وعده المشار إليه في الآيات المارة، ومتى ما تخاذلوا وتقاطعوا ولم يبال بعضهم ببعض أهينو كلهم، واسترقوا وهلكوا أو ندموا من حيث لا ينفعهم النّدم، راجع الآية 102 من آل عمران فما بعدها، قال تعالى «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ» من قبل أعدائهم بأن يقاتلوهم بالمقابلة، وإنما أذن الله لهذا الصّنف بقتال أعدائهم «بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا» من قبلهم وتوالت عليهم تعدياتهم القولية والفعلية وكانوا يشكون أمرهم لحضرة الرّسول فيأمرهم بالصبر إذ لم يؤذن لهم بالقتال حتى خرج قوم من هذا الصنف مهاجرين بدينهم من مكة إلى المدينة قاصدين الالتحاق بحضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم فاعترضهم قوم من مشركي مكة فاعتدوا عليهم فأنزل الله هذه الآية وهي أول آية نزلت بالقتال بعد أن نهى عنه رسوله في نيف وسبعين آية أخرج ابن جرير عن أبي العالية أن أول آية نزلت (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) الآية 197 هذه من سورة البقرة المارة، وإنما رجح في الآية بأنها أول آية نزلت في القتال لأن نزولها قبل هذه الآية التي نحن بصددها، ولأنها مقيدة بقتال من قاتل، والآية التي نحن بصددها أكثر إطلاقا منها، فمن هذه الحيثية يقال إنها أول آية نزلت في القتال على الإطلاق، راجع الآية 54 من سورة النّساء المارة، لأن الّذين نزلت هذه الآية بحقهم هم من ذلك القبيل: أما ما جاء في الإكليل للحاكم من أن أول آية نزلت في القتال (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) فلا يصح، لأن هذه الآية 113 من سورة
التوبة التي لم تنزل بعد لأنها متأخرة في في النّزول عن ذلك كله، وهي نزلت جملة واحدة تأمل «وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» (39) تشير هذه الجملة إلى الوعد لهم بالنصر دون معونتكم لهم ولكن الله تعالى يريد أن تتناصروا على العدو ليزداد التآلف بينكم ولتكونوا يدا واحدة على الأعداء لتهابكم وتعظموا بأعينهم فلا يجرأوا على إيقاع شيء فيكم. ثم وصفهم الله بقوله «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ» وما كان سبب إخراجهم «إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ» لا غير، وهذا يوجب إبقاءهم فيها وإكرامهم وصيانتهم واحترامهم، لا إخراجهم وإهانتهم «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ(6/178)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)
النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ»
وتسليط أولياءه على أعدائه لاستولى المشركون على الموحدين الأقدمين من أمم الأنبياء الأوّل فضلا عنكم أيها المؤمنون المخاطبون ومن بعدكم، ومنعوهم عن عبادة الله المفهومة من قوله عز قوله «لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ» هي معابد الرهبان في الوادي، وتطلق على معابد الصّابئين أيضا «وَبِيَعٌ» هي معابد النّصارى التي يطلقون عليها الآن لفظ كنائس «وَصَلَواتٌ» اسم العبراني معناه كنائس وهي معابد اليهود، ويسمونها الآن بيعا، وهو عربي «وَمَساجِدُ» هي معابد المسلمين وتطلق على الجوامع التي لا تقام بها الجمع وتختص الجوامع بما تقام فيها، وإنما خص الله تعالى هذه المواطن المقدسة لأنها «يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً» أي لولا ذلك لهدم في زمن كلّ نبي مكان عبادته، ولكن الله تعالى أبى ذلك إذ سلط الرّسل وأتباعه على المشركين فمنعوهم منه إدامة لذكر الله الذي أوجب بقاءه في أزله إلى خراب هذا العالم «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» من الرّسل وأتباعهم ليعظم لهم الأجر، وإلّا فهو غني عن نصرة أحد منهم «إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» 40 منيع لا يغلبه غالب ولا يدركه طالب ولا يفلت من قبضته هارب.
ثم وصف الله تعالى ناصريه بقوله «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ» وثبتناهم فيها وجعلنا لهم فيها السلطان على أهلها «أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» (41) ومرجعها إليه، وفي هذه الآية توكيد لما وعد به أولياءه من الظهور على أعدائهم. قال تعالى «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ» يا حبيبي بعد ما تبين لهم من الحق الذي أنت عليه، فما هو بمستبعد منهم «فَقَدْ كَذَّبَتْ» الرسل «قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ، وَكُذِّبَ مُوسى» أيضا مع وضوح ما جاء به من الدّلائل الحسية، وإذا كان كذلك فلا يحزنك تكذيبهم، وإني ممهلهم حتى إذا علم النّاس أن الامهال لم ينجح بهم وأصروا على استكبارهم أهلكتهم شأن الّذين قبلهم «فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ» السالفين مثل ما أمليت لهؤلاء «ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ» على الصّورة المارة كما يؤاخذ هؤلاء إن لم يرجعوا إلي ويفردوني بالعبادة، فآخذهم بأنواع(6/179)
العذاب والنّكال وأهلكهم إهلاك استئصال، وإذ ذاك يقول القائل متعجبا من عظيم صنعي بهم ومبتهرا من كبير تعذيبي لهم ومتحيّرا من كيفية أخذه «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» (44) عليهم، إذ أبدلت نعمهم نقما، وراحتهم محنة وحياتهم موتا، وعمارتهم خرابا، وجنايتهم خربا. وفي هذه الآية تخويف عظيم لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم السّابقين واللاحقين بأنهم إذا لم يخلصوا لربهم يكون مصيرهم مصير أولئك قال تعالى «فَكَأَيِّنْ» راجع الآية 60 من سورة العنكبوت وما ترشد إليه في معناها وتركيبها «مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ» أي زمن تلبسها بالظلم حال ظلم أهلها «فَهِيَ خاوِيَةٌ» في هذه الآية حذف كلمتين أخالية من السّكان ساقطة «عَلى عُرُوشِها» أي سقوفها «وَ» كم من «بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ» متروكة هلاك مستعمليها من أهل البوادي. والقرى عطف على قر «وَ» كم من «قَصْرٍ مَشِيدٍ» (45) أخليناه بتدمير أهله من المدن والحواض والعواصم معطوفة أيضا على قرية. تفيد هذه الآية أن أهل البوادي والمدن؟
أصروا على كفرهم وتكذيب رسلهم أهلكهم الله إهلاك استئصال ودمرته ومساكنهم وما يأوون إليه في البوادي.
مطلب في قصة قوم صالح عليه السّلام وأسباب إهلاك بعض الأمم وتسمية بعض البلاد بما وقع فيها والآيات المكيات:
قالوا إن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح عليه السّلام لما نجوا من العذاب جاء إلى بئر من أرض اليمن في سفح جبل عليه قصور. ولما حضروا فيها مات صا؟
عليه السّلام فسميت تلك البلدة (حضرموت) وكذلك لما قلبت المؤتفكة ومن أهلها مئة نسمة سميت (سلمية) وكذلك لما حل نوح عليه السّلام ومن معه أرض الجزيرة قرب الجودي وكانوا ثمانين نسمة بنوا قرية هناك فسميت قرية الثمانين ولما هاجر من العرب مئة نسمة إلى أراضي ماردين أنزلوهم بمحل سموه (محلمية وأطلق عليهم هذا الاسم حتى الآن، أما بعلبك فسميت باسم الصّنم (بعل) وصاحبه (بك) ثم انهم بعد موت صالح بنوا بلدة هناك سموها حاضوراء فاقاموا؟
وغنوا وكثروا، ثم بغوا وعبدوا الأصنام، فأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان(6/180)
فقتلوه، فأهلكهم وعطل بئرهم وقصورهم ولم يبق منهم أحدا كما ذكر الله القائل «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ» هؤلاء الّذين لا يؤمنون بك يا محمد فينظروا إلى آثار الأمم المهلكة قبلهم بسبب تكذيبهم أنبيائهم «فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها» كيفية إهلاكهم وسببه «أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها» ما كان منهم وما وقع من أفعالهم وما كانوا يعاملون به أنبياءهم من الجفاء والإهانة فيتذكرون ويتعظون ويعتبرون، ولكن لو فعلوا ذلك لم ينفعهم لأنهم لم يوفقوا للخير لسابق شقائهم «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ» عن الرّؤية لتلك الآثار ولو عميت فإن عماها لا يضر في الدّين ولا يمنع التفكر والتذكر «وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» (46) فهي التي عماها يضرّ في ذلك ويمنع من الاعتبار ولهذا فلا تنفعهم الذكرى. تشير هذه الآية الجليلة إلى أن هؤلاء عمي القلوب ويقال عمه القلوب بالهاء لا ينتفعون بشيء من الآيات لأن ما تراكم عليها من صدأ الكفر وظلمته حال دون النّظر إليها والتفكر بها من الأبصار التي في الرّأس لأنها لا تفيد بلا بصيرة قال تعالى «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ» يا سيد الرّسل «بِالْعَذابِ» الذي تعدهم به وتهددهم بعظمه فقل لهم إنه لآت لا محالة، لأنه مما وعد الله «وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ» لأنه مقدر عنده إلى يوم وأيّام الله طويلة ليست كأيامكم «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» (47) وأيّام العذاب من هذا القبيل ترى طويلة لشدة ما يقاسيه العذاب، فلا تستعجلوا بطلبه وكيف تريدون أن ينزل بكم وأنتم تعلمون أن أيّام الشّدة في الدّنيا طويلة على ما تعلمون من قصرها وانتهائها، فكيف بأيام الآخرة التي لا غاية لها معلومة، فانتظروا ولا تغتروا بالإمهال «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ» فأدررت عليها الرّزق والولد والجاه لتستدرج لما هي عليه من الشّر لأنها خلقت شريرة لا ينفعها النصح، فاغترت وتمادت بالعصيان، حتى ظنت الإهمال لطول الإمهال، وإنها لم تؤخذ «ثُمَّ أَخَذْتُها» على غرّة «وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ» (48) لا إلى غيري مهما طال أمدهم وأمهلهم، ترمي هذه الآية إلى تحذير الأمة من التمادي في المعاصي، وعدم الاغترار بما يملي لهم. وهم ما هم على ما هم عليه، وإنها إذا لم ترجع إلى الحق(6/181)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
يكون مصيرهم مصير من قبلهم. ألا فليقلع الظّالم عن ظلمه ويتيقن أنه مهما طال أجر وإمهاله فإنه لا يمهل ويؤخذ على غفلة فيخسر الدّنيا والآخرة، لأنّ عمله في الدّنيا لم يقصد به وجه الله، ولم يطلب به مرضاته، ولم يتصرف بما من الله عليه بما يرضيه. فيا أكمل الرّسل «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» (50) ما أرسلت به إليكم ومبلغ لا مسيطر ولا جبار ولا مكره «فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» منكم في هذه الدّنيا «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» لذنوب السابقة «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» (50) في الجنّة بالآخرة جزاء أعمالهم الطّيبة
«وَالَّذِينَ سَعَوْا» أفسدوا «فِي آياتِنا» المنزلة على رسولنا «مُعاجِزِينَ» مثبطين النّاس عن الإيمان بها، ما نعيهم عن سماعها، مشاقين لها، معاندين لقدرتنا، ظانين لا نطيق صدهم في الدّنيا وتعذيبهم في الآخرة «أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (51) فليفعلوا ما يشاؤون في هذه الدّار الفانية، ومرجعهم إلينا في الآخرة الباقية، وهي أول الآيات المكيات في هذه السّورة، قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى» قرأوا عليه قوله:
تمنى كتاب الله أو ليلة ... تمنى داود الزبور على رسل
وقال تعالى (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ) أي قراءة راجع الآية 78 من سورة البقرة المارة فلا ينظرون المعنى وإنما سميت القراءة أمنية لأن القارئ إذا انتهى إلى آية رحمة تمني حصولها له، وإذ انتهى إلى آية عذاب:
عفوه منها. والتمني نهاية التقدير، ومنه المنية وهي الموت باليوم المقدر والأمنية الصورة الحاصلة بالنفس من التمني، وتكون بمعنى حديث النّفس أي خطر وتمنى بقلبه وهو المراد هنا والله أعلم. ومما يؤيد هذا المعنى قوله جل قوله «أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» أي مخيلته النّفسية مما يخطر بباله «فَيَنْسَخُ اللَّهُ» يمحو ويزيل ويعدم وينسى «ما يُلْقِي الشَّيْطانُ» من تلك التمنيّات الحاصلة في الصّورة النفسية بأن يبطلها ويذهبها حتى لا يبقى لها أثرا في تلك التصوّرات «يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ» يثبتها ويحفظها من الإلقاءات الشّيطانية والتسويلات النّفسية، فلا يلتحق(6/182)
بها ما ليس منها لسابق عهده تعالى بحفظ القرآن من غيره، راجع الآية 9 من سورة الحجر المارة في ج 2 وما ترشدك إليه من المواقع «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بما أوحاه لرسوله يحميه من خلط الشّيطان «حَكِيمٌ» 52 في تمكين آياته وصوتها من غيرها وفي امتحان عباده بها. واعلم أن ذلك الإلقاء والنّسخ والإلهام ما هو إلا «لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً» محنة وبلاء واختبارا وامتحانا «لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك وريبة فتأخذهم أهواءهم غير مأخذ لخبثها «وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ» عطف على الّذين في قلوبهم مرض يريد بهم المشركين الجافية قلوبهم عن قبول الحق ليزدادوا شبهة ومرية فيه وشكا وريبا فيمن أنزل عليه وكفرا وجحودا بمن أنزله «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ» من هؤلاء الكفرة «لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» (53) عن الحق «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» بالله ورسوله وما أنزل عليه «أَنَّهُ الْحَقُّ» الصريح والصّدق البالغ منزل عليك يا سيد الرّسل «مِنْ رَبِّكَ» الذي رباك وشرفك في هذه الرّسالة وهذا القرآن العظيم، ذلك الإله الذي أحكم آياته وصانها عن غيرها وهذه الجملة معطوفة على جملة ليجعل، ثم فرّغ عنها قوله «فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ» تطمئن وتسكن وتخضع وتخشع «لَهُ قُلُوبُهُمْ» فيذعنوا له ويعلموا أنه الحق فيهتدوا به «وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (54) عدل سوي لا يميلون إلى غيره ولا ينحرفون عنه ولا يشكون فيه «وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ» . وشك فيمن جاءهم به وريب من إنزاله ومنزله «حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ» التي يموتون بها «بَغْتَةً» لا تمهلهم طرفة عين ليتمكنوا من الرّجوع عن كفرهم وشكهم «أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ» (55) لا ليلة بعده ولا له مثل وهو يوم القيامة. ولا وجه لمن قال أن في جعل اليوم يوم القيامة تكرارا لأن المراد بالساعة هو يوم القيامة، ولأن السّاعة وقت يوم كلّ أحد، ولأن اليوم الذي ذكر فيه العذاب، ولأن السّاعة من مقدمات القيامة واليوم يومها، ويؤيد هذا قوله تعالى بعد (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) هذا والله أعلم.(6/183)
مطلب قصة الغرانيق وإثبات وضعها وما جاء فيها بالكتاب والسّنة والإجماع والقياس والعقل:
وقد نزلت هذه الآيات الأربع بمكة بعد سورة والنّجم كما أوضحناه بآخرها في ج 1 وسبب نزولها هو تسلية الرّسول صلّى الله عليه وسلم عما أشاعه قومه من ذكر أصنامهم وتذكير له بأن السّعي لإبطال آيات الأنبياء أمر معهود من قبل لوقوعه مع الأنبياء السالفين، وانه سيء مردود وهباء لا بقاء له ولا أثر، واعلام بأن الأنبياء هو ومن قبله عليهم الصّلاة والسّلام إذا قرأوا شيئا من آيات الله ألقى الشّيطان بحسب طبعه وجبلّته الشّبه والتخيلات فيما يقرؤونه على اتباعه الخبثاء النّفوس مثله ليجادلوا به بالباطل، ويردوا ما جاء به الرّسل قال تعالى (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) الآية 121 من سورة الأنعام وقال (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) الآية 141 منها أيضا ج 2 وقال تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) الآية 32 من الفرقان ج 1 ومن ذلك قولهم عند سماعهم قول الله تعالى بتحريم الميتة انظروا كيف يحرم ذبيحة الله لأنه هو أماتها، فكأنه ذبحها ويحل ذبيحة لنفسه وغيره. وعند سماعهم قوله جل قوله (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الآية 99 من الأنبياء المارة في ج 2 يلقون في قلوب أوليائهم أن عيسى وعزيرا والملائكة عبدوا من دون الله، وان محمدا يعدّهم من حصب جهنم، راجع تفسير هذه الآية واخساء ابن الزبعري فيها. وعلى هذا يحرز أنه صلّى الله عليه وسلم عند ما قرأ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الآية 19 من سورة النّجم المذكورة آنفا وكان صلّى الله عليه وسلم يرتل القراءة ويفصل بين الوقفات بسكنة قصيرة فترصد الرّصاد الملعون تلك الفواصل، قدسّ الكلمات المشهورة المبينة هناك بين سكتاته محاكيا صوته عليه السّلام وألقاها في أذن أوليائه الكافرين فطبعت في قلوبهم الميّالة لها، فظنوها من قراءته صلّى الله عليه وسلم فراقت لهم، ولذلك لما سجد صلّى الله عليه وسلم سجدوا كلهم معه تبعا لأصحابه عند قراءة آية السّجدة من السّورة المذكورة، ولم يقدح هذا السّجود بالمسلمين لأنهم لم يسمعوا ما سمعه الكفار، وإنما سمعوا السّجدة فسجدوا كعادتهم(6/184)
وكانوا عارفين ما يتلى عليهم لأنهم يصغون لكلامه بكليتهم ليحفظوه عنه، وهم يعرفون كراهية الأصنام من حال الرّسول وذمّه لها وتحقيرها وأهلها، فلا تخطر ببالهم، وهذا أحسن ما قيل في هذا الباب وأصدقه وأحقه. وما قيل إنه صلّى الله عليه وسلم نطق بتلك الكلمات سهوا أو خطأ أو نسيانا أو أنه تمنى أن ينزل عليه مدح آلهتهم فممتنع قطعا وحاشاه من ذلك، وساحته براء مما هنالك، ولا يوجد دليل أو أمّارة يميل إليها الفطن أو برهان أو إشارة ينحاز إليهما الفكر، لأنه عليه الصّلاة والسّلام معصوم ومنزه عن أن يقول أو يخطر بباله أو يتصور بخياله شيئا من ذلك ولا يتقول بهذا القول ويزعم وقوعه منه إلّا منافق زنديق كافر، ولا ينقل هذه الترهات إلّا من لا نصيب له من الهداية، ولا يصغي إلى هذه الخزعبلات إلّا أهل الشكوك الّذين في قلوبهم مرض، إذ لم يرد نقل أو خبر أو سند صحيح أو ضعيف أو غريب بذلك ليطمئن أو يركن إليها أو رواية يمكن أن يستند لها أصلا، ويدلك على اختلافها اختلاف الرّوايات. ومباينة الأقوال ومناقضة الأخبار وضعف ناقليها واضطراب رواتها وانقطاع أسنادها وتضارب عباراتها وتلفيق ألفاظها بصورة لا تقبل التأويل ولا التأليف أبدا، وهذا كاف لردّها وإنكارها. هذا وما قاله بعض العلماء بأن هذه الآيات الأربع نزلت بين مكة والمدينة بعيد عن الثبوت إذ لا مناسبة بينهما وبين ما وقع في الطّريق أثناء الهجرة، وكذلك لا يصح القول بأنها نزلت يوم بدر لأنه لا يجوز أن يقول الله تعالى (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) الآية المارة، لأنه من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر كما أن ما جاء في تفسير بعض المفسرين بأن هذه السّورة مكية عدا الآيات الخمس 12 و 13 و 40 و 41 و 78 والآيات من 20 الى 25 غير سديد لأن الحج لم يفرض بمكة والحوادث المشيرة إليها بعض الآيات منها لم تقع في مكة، ومن المعلوم أن كل ما نزل بعد الهجرة يسمى مدنيا، كما أن كلّ ما نزل قبلها يسمى مكيا. واعلم أن السّبب الدّاعي لعدّها مكية بدؤها
بيا أيها النّاس، وتكرار هذه اللّفظة بها أربع مرات، وإن هذه من مميزات المكي على المدني على أننا أشرنا في المقدمة بان المكي لا يوجد فيه يا أيها الّذين آمنوا البتة، والمدني لا يخلو من لفظ يا أيها النّاس،(6/185)
واشارة بعض الآيات الى أحوال أهل مكة، وإلّا في الحقيقة هي مدنية عدا الآيات الأربع التي نحن بصددها، وأنهن على القول نزلن بعد سورة النّجم كما أشرنا إليه آنفا في هذه السّورة وفي سورة النّجم أيضا، كما هو الواقع والله أعلم.
قال تعالى «الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ» في ذلك اليوم العقيم الذي لا ليل بعده ولا يوم من أيّام الدّنيا «لِلَّهِ» وحده، وهو قبل ذلك اليوم كله لله أيضا، إلا أن ملوك الدّنيا تدعيه مجازا في الدّنيا، أما في الآخرة فلا يدعيه أحد سواه، إذ يكونون الدّنيا تدعيه مجازا في الدّنيا، أما في الآخرة فلا يدعيه أحد سواه، إذ يكونون مملوكين فيه لله هم وما ملكوا كما كانوا في الدّنيا في الحقيقة هكذا مملوكين لله الذي «يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ» في ذلك اليوم العظيم. ثم بين نتيجة هذا الحكم بقوله عز قوله «فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (57) هذا وقد أشبعنا هذا البحث في سورة النّجم، وأثبتنا أن القول بغير ما ذكرناه باطل موضوع فراجعه تعلم ان القرآن والسّنة والإجماع والقياس والعقل يأبونه، أما القرآن فلقوله تعالى (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) الآيتين 44 و 45 من سورة الحاقه في ج 2 وقوله تعالى (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) الآية 5 من سورة يونس ج 2 أيضا وقوله تعالى (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) الآيتين 4 و 5 من سورة النّجم في ج 1 فلو قرأ صلّى الله عليه وسلم تلك الكلمات لظهر الكذب في الحال، وهذا لا يقوله مسلم وقوله تعالى (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) الآية 174 وقوله (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا) الآية 75 من سورة الاسراء وكلمة كاد عند البعض بمعنى قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل، وكلمة لولا تفيد انتفاء الشّيء لانتفاء غيره فدل على أن ذلك الرّكون لم يحصل أيضا، وقوله تعالى (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) الآية 32 من سورة الفرقان في ج 1 وقوله (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) الآية السّابعة من سورة الأعلى ج 2، فكيف بعد هذا يتصور منه النّسيان في تبليغ الوحي، وقد نفاه الله عنه وأخبر بنثبيت فؤاده بما يوحيه إليه. وأما السّنّة(6/186)
فمنها ما روي عن محمد بن اسحق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال هذا وضع من الزنادقة وصنف فيه كتابا وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النّقل وأن رواتها مطعون فيهم. وقد روى البخاري في صحيحه أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قرأ سورة والنّجم وسجد فيها وسجد المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق، وهذا الحديث مروي من طرق كثيرة والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق، وهذا الحديث مروي من طرق كثيرة وليس فيها حديث الغرانيق البتة. وأما العقل فمن المعلوم ضرورة أنه صلّى الله عليه وسلم كان أعظم سعيه في تبكيت الأصنام والأوثان وأن نسبة ما ذكر إليه صلّى الله عليه وسلم يوجب تعظيمها ومن جوز عليه تعظيمها فقد كفر، لأنه بعث لرفعها من على وجه الأرض وقتل من يعبدها إذ لو جوز ذلك عليه صلّى الله عليه وسلم لارتفع الأمن عن شريعته، ويجوز أن يكون مثل ذلك في جميع الأحكام والشّرائع وهو باطل لا يجوز في شيء منها وحينئذ يبطل حكم قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) الآية 70 من سورة المائدة الآتية إذ لا فرق عقلا بين نقصان الوحي والزيادة فيه، وإن الإجماع فقد أجمع على هذا الأولون والآخرون والقياس يأبى عدمه. فبهذا وبما ذكرناه في الصّفحتين المارتين وما أثبتناه في سورة والنّجم يثبت وضع هذه القصة التي ذكرها بعض المفسرين بناء على خبر الواحد الذي لا يعارض هذه الدّلائل النّقلية والعقلية المتواترة هذا والله أسأل ونبيه أتوسل أن ينقي قلوب هذه الأمة المحمدية من كلّ ما يضرها في الدين والدّنيا والآخرة، ويثبت عقيدتها في دينها القويم انه على كلّ شيء قدير وبالإجابة جدير. لما قال بعض أصحاب رسول الله قد علمنا ما اعطى الله الشّهداء ونحن نجاهد معك، فإذا لم نقتل ومتنا حتف أنفسنا فمالنا عند الله غير سعادة الدنيا أنزل الله قوله «وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً» في
الآخرة «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (58) لأن رزق النّاس بعضهم بعضا ورزق السّلطان أعوانه وجنوده له نهاية، ورزق الله عباده دائم لا من فيه. ورزق هؤلاء بعضهم بعضا على طريق المجاز لأن الرّازق الحقيقي هو الله الذي سخر بعضهم لبعض. ثم أقسم جل قسمه(6/187)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
«لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ» ويسرون منه، إذ لم يروا مثله ولا ينالهم فيه مكروه ولا يحتاجون لاحد يتوسط لهم به، ولا كلفة بتناوله «وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ» بنيات هؤلاء المجاهدين المهاجرين الذي سيعطيهم هذا الجزاء الجزيل «حَلِيمٌ» 59 بإمهال من قاتلهم عنادا على ما هم عليه من الحق «ذلِكَ» الأمر الذي قصصناه عليك يا سد الرّسل هو الحق الذي لا مرية فيه «وَمَنْ عاقَبَ» غيره «بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ» بأن أوقع على من ظلمه بمثل ما وقع منه «ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ» بعد ذلك الاقتصاص الذي لا جناح عليه بفعله بمقتضى قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) الآية 195 من البقرة المارة وقوله جل قوله (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) الآية 43 من سورة الشّورى ج 2 «لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ» لأنه مظلوم حق على الله نصرته «إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ» عما فعل بمن اعتدى عليه على طريق المقابلة، لأن ذلك حقه قد رخص الله له استيفاءه منه «غَفُورٌ» 60 لأمثاله المؤمنين لأخذه بالرخصة التي منحه الله إياها، وعدم أخذه بالعزيمة، وجنوحه للأخذ بالرخصة فعل لا مؤاخذة عليه ولا عتاب.
«ذلِكَ» نصر الله للبغي عليه «بِأَنَّ اللَّهَ» الذي «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» قادر على نصرته مهما كان ضعيفا وخصمه قويا. والإيلاج إدخال الشّيء بالآخر مع اضمحلال المدخول فيه، لأن الليل إذا دخل على النّهار صار ضياءه ظلاما وكذلك النّهار إذا دخل على اللّيل صيّر ظلامه ضياء، بحيث لا يبقى للمدخول عليه أثر، ويحصل من هذا الإيلاج الزيادة والنّقص فيهما، وهذا لا يقدر عليه إلّا الله «وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» بكل ما يقع في كونه «بَصِيرٌ» (61) بجميع المبصرات ومن جملتها قول المعاقب وفعله «ذلِكَ» الإيلاج البديع بذلك أيها المفكر المعتبر المتعظ «بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» المستحق للعبادة وحده لا شريك له الواجب الوجود الممتنع النّظير «وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» من الأوثان «هُوَ الْباطِلُ» المفترى من اختلاق قليلي العقول «وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» (62) في سلطانه وبرهانه ونظير هذه الآية الآية 30 من سورة لقمان ج 2.(6/188)
مطلب تعجيب الله رسوله وخلقه في بعض أفعاله وضرب الأمثال وكون شريعة محمد ناسخة لكل الشّرائع وعجز الأوثان وسجود التلاوة.
قال تعالى «أَلَمْ تَرَ» أيها الإنسان العاقل «أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً» بالنبات من بعد ما كانت يابسة قاحلة من غير فعل أحد في بذره وحرثه ومناظرته «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ» بإخراجه وجعله رزقا لمخلوقاته «خَبِيرٌ» 63 بالنافع منه للإنسان والحيوان والضّار منه لهما وحاجتهما إليه «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف فيهما وبما فيهما كيف يشاء وكلهم محتاج إليه «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ» عنهم «الْحَمِيدُ» 64 بإنعامه على عباده ومخلوقاته كلها، المستحق لأنواع الحمد بآلائه المتواترة عليهم، ولا غنى لهم عنه «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ» أيها النّاس (ما فِي الْأَرْضِ) من الدّواب والمعادن وغيرهما «وَالْفُلْكَ» سخرها لكم «تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ» على الماء بالرياح وسخر لكم ما في بطنه من الأسماك والجواهر «وَيُمْسِكُ السَّماءَ» بقدرته البالغة من «أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا» إذا أراد وقوعها فإنها تقع «بِإِذْنِهِ» عند خراب هذا الكون بالوقت المعين له عنده، راجع أول سورة الانفطار المارة في ج 2 «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» (65) بالغ الرّحمة بعباده. وفي هذه الآية ردّ على من يقول إن السّماء متمسكة بنفسها أي بذاتها لأنها كسائر الأجرام بالجسمية فتكون قابلة للميل الهابط كقبول غيرها وليس كما زعم بل هي ممسكة بامساك الله إياها، راجع الآية 42 من سورة فاطر في ج 1 وهي نظير هذه الآية في المعنى، والله أصدق القائلين وهو أعلم بما يقول. وما يقوله الغير في هذا الهيكل العلوي وما فيه من الكواكب ما هو إلا عن ظن وتخمين لا عن حقيقة راهنة. قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ» في أرحام أمهاتكم بعد أن لم تكونوا شيئا «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» عند انقضاء آجالكم في الدّنيا «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» ثانيا يوم القيامة بعد انقضاء أمد وجودكم في البرزخ «إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ» 66 لهذه النّعم كثير الجحود لها وما ينبغي له ذلك قال تعالى «لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً» مذهبا وطريقة وشريعة «هُمْ»(6/189)
أهل هذا المنسك المخصّص لهم لا بد «ناسِكُوهُ» مقتفون أثره وعاملون به ومقيدون بما فيه دون الأمم الأخرى، لأنه تعالى شرع لعباده شرائع على لسان رسله ليتعبّدوا بها لا ليجادلوا ويخاصموا من أجلها، فالأمم التي قبل موسى منكم صحف إبراهيم ومن قبله، ومن موسى إلى عيسى منسكهم التوراة، ومن عيسى إلى محمد التوراة والإنجيل المعدل لبعض أحكامها، ومن بعثة محمد صلّى الله عليهم أجمعين وسلم إلى يوم القيامة منسكهم القرآن يعملون به دون غيره. قال تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) الآية 52 من المائدة الآتية «فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ» يا سيد الرّسل أهل الكتابين الموجودين في زمنك بأن شريعتهم ما كان عليه آباؤهم لأن كلّ شريعة تنتهي بإنزال ما بعدها من الشّرائع السّماوية على لسان رسل الله، بنقض العمل بها عند ما تحل محلها شريعة إلهية أخرى، فشريعتهم لمن كان قبل بعثتك وقد نسخت بشريعتك التي نسخت كلّ الشّرائع المخالفة لها سواء بالذبائح المعبر عنها بالنسك أو غيرها، وقد جاءت جامعة لأصول وفروع جميع الشّرائع، حاوية لأحسنها. قال تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) الآية 107 من البقرة المارة «وَادْعُ» يا سيد الرّسل جميع النّاس إلى شريعتك هذه، لأنا أرسلناك إليهم كافة، راجع الآية 39 من سورة سبأ ج 2 وما ترشدك إليه من المواقع وأمر النّاس كافة بالإخلاص «إِلى رَبِّكَ» بان يطيعوك ويعملوا بما أنزل عليك وعزتي وجلالي «إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ» (67) وهم على ضلال معوج في نزاعك «وَإِنْ جادَلُوكَ» بعد ما تبين لهم هداك وأصروا على منازعتك في أمر الدّين «فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ» (68) من مخالفتي مع علمكم أني على الحق، وإذا أصروا على جدالهم فأعرض عنهم، وقل «اللَّهُ يَحْكُمُ» بَيْنَكُمْ» وبيننا وبين الخلق أجمع «يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (69) وإذ ذاك يظهر المحق من المبطل. ولا نسخ في هذه الآية لأن الله تعالى لم يأمر نبيه بقسر أهل الكتابين على قبول دينه، بل بالاكتفاء بأخذ الجزية منهم وقد ضربها عليهم ولم تزل تؤخذ منهم إلى يوم القيامة، لأن الأتراك المسلمين لا يزالون يتقاضونها منهم، وهكذا بعض ملوك المسلمين، أما ما يقع(6/190)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
في تنفسات الزمن من إعفاء بعضهم من ذلك وحمايتهم من قبل الغير فلما انقضاء عند ما يعود المسلمون إلى التمسك بدينهم وينبذون التقاليد الأجنبية ويوحدون كلمتهم. قال تعالى «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ» كلية
وجزئية جلية وخفية «إِنَّ ذلِكَ» العلم مثبت «فِي كِتابٍ» عظيم عند الله تعالى هو الوجه المكنون الحاوي على ما كان وسيكون قبل كونه «إِنَّ ذلِكَ» العلم العظيم جميعه «عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (7) سهل كعلم شيء واحد
«وَيَعْبُدُونَ» بعض خلقه مع علمهم بأن شيئا لا يستحق العبادة غيره وأن لا ربّ على الحقيقة سواه «مِنْ دُونِ اللَّهِ» الجليل الذي خلقهم وسواهم وعلمهم «ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً» عليهم من حجة أو برهان أو دليل أو أمارة «وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ» أن يعبد بل جهل مركب، لأنهم يزعمون ما يعبدونه من الأوثان يشفع لهم عند الله يوم القيامة وينصرهم في الدّنيا من النّاس «وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» (71) ينصرهم من عذابه إذا حل بهم في الدّنيا والآخرة. وإنما سماهم ظالمين لظلمهم أنفسهم بذلك الاعتقاد فيما تعمله أيديهم من الأصنام. قال تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ» عند سماع تلاوتها أي تظهر على وجوههم علائم الكراهة فتراها عابسة مكفهرّة «يَكادُونَ يَسْطُونَ» يثبون ويبطشون «بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا» أي بمحمد وأصحابه من شدة الغيظ والحنق عليهم، وهذه حكاية حال من أحوال بعض الكفرة المشركين وكفرة أهل الكتابين القائلين بنبوة عزير وعيسى وآلهتهما والملائكة وكونه ثالث ثلاثة «قُلْ» لهم يا سيد الرّسل «أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ» لكم «مِنْ ذلِكُمُ» الخير الذي تكرهونه الآن وتعرضون عن سماعه هو «النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» أمثالكم فهي مصيركم ومصيرهم «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (72) هي لمن يصير إليها «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ» حال مستغربة جديرة بأن تسمى مثلا تشبها ببعض الأمثال السّائرة «فَاسْتَمِعُوا لَهُ» وأصغوا إليه وتدبروه واعقلوه، وهو أن المشركين جعلوا لي شبيها يعبدونه من دوني ويستغيثون به عند شدتهم ويرجون شفاعته بآخرتهم، وأقول لهم «إِنَّ(6/191)
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ «دُونِ اللَّهِ»
ربكم الواحد الفرد الصّمد. من جميع أوثانكم «لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً» ولا أقل منه وأحقر «وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ» كلهم وتعاونوا على خلقه لما استطاعوا البتة. والأنكى من ذلك أنه إذا وقعت على شيئهم لا يقدرون على منعه، ولكن لأنه كلما ذب آب إلّا إذا قتلوه «وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ» على ضعفه وهوانه «شَيْئاً» من الأشياء أو جزءا قليلا منه «لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ» أيضا ولا يقدرون على استخلاصه منه مع عظمهم بالنسبة إليه إذ قد «ضَعُفَ الطَّالِبُ» الذباب السّالب «وَالْمَطْلُوبُ» 73 المسلوب منه وهي أوثانهم لأن منها ما هو جماد وهو أضعف من الذباب بدرجات كثيرة وعابدوها أجهل من كلّ جاهل داخل من كلّ مثال، لأن الذي لا يحمي نفسه من الذباب كيف تطلب منه الحماية، وكيف يعبد، وكيف يرجى منه جلب نفع أو دفع ضر؟ وإن كان حيوانا فهو كذلك أيضا بل أكثر شرا لاحتياجه للأكل والشّرب والحراسة، وإن كان إنسانا فكذلك، لأنه لا يقدر أن يحرس نفسه من أقدار الله ولا يتحرك إلّا بإذن الله وإرادته، وهو متبرئ من عبادتهم، وان الله خالقهم وخالق كلّ شيء، أفلا يعبدونه مع كمال عظمته وبالغ قدرته ويركنون إليه عند حاجتهم في الشّدة والرّخاء، ولهذا فاتركهم يا سيد الرّسل فإنهم جهال «ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» ولا عرفوه حق معرفته ولا مجدوه حق تمجيده وما علموا غاية قبح فعلهم إذ أشركوا به وسموا باسم ما هو أبعد الأشياء عنه، تقدم مثل هذه الجملة في الآية 68 من سورة الزمر والآية 91 من الأنعام ج 2 ولفظ الذباب لم يكرر في القرآن «إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ» على خلق الممكنات بأسرها وإفناء الموجودات كلها «عَزِيزٌ» 74 غالب قاهر لجميع الأشياء وهذه الجملة تعليل لما قبلها من نفي معرفتهم له تعالى. قال ابن عباس كانوا يطلبون الأصنام طيبا فيقع الذباب عليها فيسلبها طيبها فلا تقدر على منعه ولا يقدر الكفرة حراسها على استرداد ما سلبه منها فكيف يقدرون على خلقه، ثم ساق حكاية أخرى من أحوال الكفرة من قولهم (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) الآية 22 من سورة الفرقان ج 1 وقولهم (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) الآية 31 من سورة(6/192)
المؤمنين ج 2 وهي مكررة كثيرا في القرآن، فأخبرهم الله بمعرض الرّد عليهم بأنه يجتبي من هؤلاء وهؤلاء ما يشاء بقوله «اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا» كجبريل وإخوانه «وَمِنَ النَّاسِ» رسلا أيضا كمحمد وإخوانه عليهم الصّلاة والسّلام ومن قبلهم ممن شاء وخصته السّعادة ولهذا لا يعبا بأقوالهم التافهة «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لها وعالم بوقوعها منهم قبل خلقهم «بَصِيرٌ» بمن يختصه للملكية والرّسالة. قال تعالى (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الآية 135 من الأنعام ج 2 وهو
«يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» وجميع ما هو كائن وما سيكون من رسل الفريقين والمرسل إليهم أجمع «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» (73) كلها ويحاسب أهلها عليها قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ» بجميع أنواعه وأصنافه وأجناسه قولا وفعلا ونية «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (77) فتفوزون بأنواع الخير عند الله في الدّنيا والآخرة. واعلم أن الخير كله مجموع في أربعة: النظر والحركة والنّطق والصّمت، فكل نطق لا يكون في عبرة فهو غفلة، وكلّ حركة لا تكون في عبادة فهي فترة، وكلّ نطق لا يكون في ذكر فهو لغو، وكلّ صمت لا يكون في فكر فهو سهو.
هذا وتقدم البحث فيما يتعلق بالسجود في الآية 15 من سورة الرّعد المارة، وفيها ما يرشدك لبحثه في غيرها. واعلم أن السّجدات المتفق عليها في القرآن العظيم أربع عشرة ليس منها هذه، والسّجود فيها واجب وقال بعض الأئمة بسنية السّجود عند تلاوة هذه الآية مستدلا بما أخرجه الترمذي وأبو داود عن عتبة بن عامر قال قلت يا رسول الله أفي الحج سجدتان؟ قال نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما. وأخرج مالك في الموطأ عن عمر بن الخطاب أنه قرأ الحج فسجد فيها سجدتين، وقال ان هذه السّورة، فقلت بسجدتين وناهيك به قدوة، وقد أخذ بهذا الشّافعي رحمه الله وقال أبو حنيفة ومالك والحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وسفيان الثوري إنها سجدة صلاة بدليل اقترانها بالركوع، ولو كانت سجدة تلاوة لما اقترنت به كسائر سجدات القرآن، وقد مرت السّجدة الأولى في الآية 16 منها قال تعالى «وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ» بأن تستفرغوا جهدكم تبذلوا طاقتكم(6/193)
ووسعكم فيه. ومن الجهاد أن لا يخاف الرّجل في قول الحق لومة لا ثم وتقدم بيان فضله في الآية 191 من سورة البقرة «هُوَ اجْتَباكُمْ» أيها النّاس واختاركم لدينه وخدمته، والاجتباء رتبة عظيمة ومنقبة كريمة خصنا الله بها، فهي سعادة ما فوقها سعادة، قال الأبوصيري:
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا ... من العناية ركنا غير منهدم
وهذا الاختيار من عناية الله تعالى بهذه الأمة ومن عنايته اختيار محمد صلّى الله عليه وسلم رسولا لنا واختيارنا لشريعته، ولهذا قال (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية 110 من آل عمران والحمد لله على أفضاله وعلى هذه المزية الكريمة والمنحة المثلى، وعلى قوله جل قوله «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» لأنها ميزة جليلة لنا أيضا إذ لم يصيق وبشدد علينا فيما عرضه، بل رخص وسهل، ويسر عليكم أيها المؤمنون في صومكم وصلاتكم وحجكم وزكاتكم وتوبتكم وطهارتكم وجعل ملّتكم «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ» سمحة نقية وهذا الخليل جدكم «هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ» (78) لقوله تعالى حكاية عنه وعن ابنه إسماعيل عليهما الصّلاة والسّلام.
(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً) الآية 138 من البقرة وهذه التسمية ثابتة لكم «مِنْ قَبْلُ» في الكتب المتقدمة «وَفِي هذا» القرآن لأنها مذكورة في اللّوح المحفوظ، ولهذا فضلكم على سائر الأمم وجعل دينكم الإسلام وسماكم المسلمين «لِيَكُونَ الرَّسُولُ» محمد صلّى الله عليه وسلم «شَهِيداً عَلَيْكُمْ» يوم القيامة بأنه بلغكم رسالته «وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» بأن الرّسل بلغو أممهم رسالات ربهم بناء على أخبار نبيكم لكم في كتابكم واخباره حق أكثر من المشاهدة وأقوى، لأن العين قد تخطئ المبصر فلا تعرفه حقيقة، والرّسول لا يخطى في التبليغ البتة لعصمته من قبل الله تعالى، وهذا من المخصوص، لأن الشّهادة لا تكون إلّا في هذا عن الغيب، وقد تكون على السّماع في أمور مخصصة أيضا كما أشرنا إليها في الآية 143 من سورة البقرة المارة «فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ» في كلّ أموركم وثقوا بما وعدكم به على لسان رسولكم «هُوَ مَوْلاكُمْ» وناصركم وحافظكم لا مولى لكم غيره «فَنِعْمَ الْمَوْلى» هو(6/194)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)
لمن يتولى أموره «وَنِعْمَ النَّصِيرُ» (79) لمن يفوض أمره إليه، فإنه ينصره ويسدد أموره ويسبغ عليه رحمة ويمده من فضله ويوفقه لما به صلاحه ونجاحه. ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة المنافقين عدد 18- 104- 63 نزلت بالمدينة بعد سورة الحج. وهي إحدى عشرة آية، وثمانون ومئة كلمة، وتسعمائة وستّ وسبعون حرفا. وتقدم بيان السّور المبدوءة بما بدئت به في سورة الانفطار ج 2 ومثلها في عدد الآي العاديات والقارعة والضّحى والجمعة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «إِذا جاءَكَ» يا محمد «الْمُنافِقُونَ قالُوا» لك بلسانهم «نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ» حقا بما علمنا في كتبنا فلا تعبأ يا حبيبي بقولهم هذا، ولا تصغ لشهادتهم، وقل لهم إني رسول الله إن شهدتم وإن لم «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ» فأنت في غنى عن شهادتهم الكاذبة الصّورية «وَاللَّهُ» الذي أرسلك بشيرا ونذيرا لخلقه كافة «يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ» الّذين جاءوا إليك بشهادتهم عفوا «لَكاذِبُونَ» 1 في شهادتهم لأنهم أضمروا عكسها في قلوبهم وان من أخبر بشيء وهو معتقد خلافه فهو كاذب وإن هؤلاء المنافقين الّذين لا تتجاوز شهادتهم حناجرهم «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ» التي يحلفونها لك على صدق شهادتهم المزورة من قولهم لك قبل انهم لمنكم وانهم معكم وقولهم الآن نشهد والشّهادة يمين كلها «جُنَّةً» وقاية يتقون بها السّبي والجلاء والقتل وما يتخيلون إيقاعه بهم من قبلك وأصحابك «فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» أنفسهم ومنعوا غيرهم من أتباعه «إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (2) من الكذب والبهت والنّفاق والإعراض عن دين الله وصد النّاس عنه مع علمهم بأحقيته «ذلِكَ» إقدامهم على هذه الأعمال القبيحة «بِأَنَّهُمْ آمَنُوا» بألسنتهم فقط ولم يظهروا ايمانهم الا عند مشاهدة المؤمنين «ثُمَّ كَفَرُوا»(6/195)
صرا بحضورهم وعلنا فيما بينهم «فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ» حتى لا يدخلها الإيمان الخالص جزاء إيمانهم المزيف «فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» (3) معنى ما يتلو عليهم الرّسول ولا يتدبرون مغزاه، لأنهم لا يتلقونه عن قبول وإذعان، بل عن ردّ واعتراض وإنكار وكراهية «وَ» هؤلاء الفجار «إِذا رَأَيْتَهُمْ» أيها الرّائي «تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ» طولا وامتلاء وحسنا وهيئة وقامة «وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ» لما هم عليه من الفصاحة والمعرفة بمواقع الكلام، ولكنهم في الحقيقة ليسوا بشيء «كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ» أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام، لأن الذي ترى منهم من البلاغة وحسن النّطق كله فيما يتعلق بأمور الدّنيا أما ما يتعلق بالدين وأمور الآخرة فهم عنه بمعزل قال تعالى (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) ، لأنهم متغلغلون فيها منهمكون في زخارفها (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) لاهون عنها طارحوها وراءهم. راجع هذه الآية 8 من سورة الرّوم ج 2 في بحث الغافلين عن الآخرة المنصرفين إلى الدّنيا فتراهم يا سيد الرّسل من حيث الدّين أشباه رجال كما يتخيل من سماة بعض المتعممين الّذين يقال فيهم:
يحسبه الجاهل ما لم يعلما ... شيخا على كرسيه معهما
وبعض الملتحين في القول فيهم:
ألا ليت اللّحى كانت حشيشا ... فنعلفها دواب المسلمينا
ومما يدلك على هذا أن الرّعب قد ملأ قلوبهم وصاروا بحيث «يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ» وانهم المرادون بها ويظنون منها إيقاع الشّر فيهم وتوقع الضّر بهم سواء كانت من ناشد ضالته أو ممن ندت له دآبة أو مناد في المعكر، حتى أنهم من شدة خوفهم يلقون الخوف في غيرهم لسوء ما يراهم عليه من الاضطراب، وهؤلاء الجبناء «هُمُ الْعَدُوُّ» اللدود لك ولأصحابك «فَاحْذَرْهُمْ» يا سيد الرسل ولا تأمنهم على شيء ولا تغتر بأيمانهم الكاذبة وإيمانهم الصّوري «قاتَلَهُمُ» اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (4) جملة تعجبية من أنواع افترائهم وانصرافهم عن الحق وإصرارهم على النّفاق «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ» ربه عما سلف منكم وأخلصوا إيمانكم له «لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ» أمالوها إعراضا(6/196)
عن سماع هذا القول «وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ» عما دعوا إليه أنفة منه «وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» (5) عن الإجابة إلى استغفارك مع أنك تدعوهم لخيرهم، ولهذا فاتركهم يا حبيبي «سَواءٌ عَلَيْهِمْ» الأمر «أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» لأنهم خرجوا عن الطّاعة «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (6) الخارجين على رسولهم ودينهم. راجع الآية 81 من سورة التوبة لآتية الدّالة على قطع أملهم والآيات قبلها وبعدها التي فضح الله بها أحوال المنافقين كلها، فلم يبق لهم خصلة مكتومة من أفعالهم القبيحة تجاه الرّسول وأصحابه إلا أوضحها، وهؤلاء «هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ» لبعضهم ولمن هو على شاكلتهم «لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ» من النّاس «حَتَّى يَنْفَضُّوا» عنه وقد خاب ظنهم فإن الله مغنيه عن نفقتهم وكيف يحتاج لهم: ولله خزائن السّموات والأرض، وبيده مفاتح الرّزق وهو مولاه يكفيه عن كلّ خلقه على رغم أنوفهم، وكيف يحتاج إليهم وقد كلفه الله أن يجعل له جبال مكة ذهبا تلك الجبال التي شاهدناها التي سيكون لها شأن عظيم عند ترقي العلم الدّنيوي ويستخرج منها معادن إن لم تكن ذهبا تأتي بالذهب «وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ» (7) أن الأرزاق بيد الله يؤتيها من يشاء من عباده ويمنعها عمن يشاء «يَقُولُونَ» أيضا هؤلاء المنافقون «لَئِنْ رَجَعْنا» من غزوة بني المصطلق بطن من خزاعة بن جذيمة وهو المصطلق وتسمى غزوة المريسيع اسم لماء من مياههم وغزوة محارب وغزوة الأعاجيب لعظم ما وقع فيها كما سنقصها بعد «إِلَى الْمَدِينَةِ» وانتهينا من غزوتنا هذه «لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا» أي من المدينة يربدون أنفسهم قاتلهم الله «الْأَذَلَّ» يريدون حضرة الرّسول وأصحابه أذلهم الله، وقد خسئوا وخابوا «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» لا لهم «وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ» (8) ذلك لخبث عقيدتهم وسوء نيتهم.
مطلب غزوة بني المصطلق وما وقع فيها وما فاه به عبد الله بن سلول على حضرة الرّسول وأصحابه وما رده عليه ابنه:
وخلاصة هذه القصة هو أنه كان ضرار أخو جويرية أم المؤمنين بنت الحارث(6/197)
بن أبي ضرار سيد بني المصطلق جمع جموعه لحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولما بلغه ذلك خرج اليه بأصحابه رضي الله عنهم سنة ستّ من الهجرة لليلتين خلتا من شهر رمضان فلقيهم على المريسيع من ناحية قديد الى السّاحل، فتزاحم النّاس واقتتلوا فهزمهم الله وأمكن رسوله منهم واستاق أبناءهم ونساءهم وأموالهم غنيمة. ومن وقائع هذه الغزوة التي وعدنا بذكرها آنفا ما رواه البخاري ومسلم عن جابر قال غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد بات معه أناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان منهم رجل لعاب فكسع أنصاريا، فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا، وقال الأنصاري يا للأنصار، وقال المهاجري يا للمهاجرين، فخرج رسول الله فقال ما بال دعوى الجاهلية، ثم قال ما شأنهم؟ فأخبر بكسعة المهاجر للأنصاري، فقال دعوها فإنها خبيثة. وقال عبد الله بن أبي بن سلول قد تداعوا علينا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال عمر رضي الله عنه ألا أقتل يا رسول الله هذا الخبيث؟ بارك الله فيك يا سيدي يا عمر كلما تكون قضية فيها ما يغضب الله ورسوله إلّا قوّم نفسه لينتقم لله ورسوله. راجع أول سورة الممتحنة المارة وقصة الفتح الآتية والآية 60 فما بعدها من سورة النّساء المارة، فقال صلّى الله عليه وسلم لا يتحدث الناس إنه كان يقتل أصحابه، أي لا تفعل حتى لا يترنم النّاس في ذلك فيقولوا إنه كان يقتل أصحابه إذ لا يعلمون أحقية القتل لمثله. وفي رواية مسلم فقال لا بأس، ولينصر الرّجل أخاه ظالما كان أو مظلوما، أي إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره، وزاد الترمذي، فقال له ابنه عبد الله لا تنقلب حتى تقرّ أنك أنت الذليل ورسول الله العزيز، ففعل. وقد ذكرنا في الآية 43 من من سورة النّساء إن هذه الحادثة كانت سنة خمس، والصّحيح سنة ستّ كما جاء هنا والله أعلم. وروى البخاري ومسلم عن زيد بن أرقم قال خرجنا مع رسول الله في صفر أصاب النّاس فيه شدة، فقال عبد الله بن سلول لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأزل، قال فأتيت رسول الله فأخبرته بذلك، فأرسل إليه فسأله فاجتهد يمنه ما فعل، فقالوا كذب زيد رسول الله، قال فوقع في نفسي مما قالوه شدة(6/198)
حتى أنزل الله بتصديقي (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) ثم قال دعاهم رسول الله ليستغفر لهم، قال فلووا رؤوسهم، قال أصحاب السّير جاء عبد الله رضي الله عنه بن عبد الله بن أبي بن سلول فقال لحضرة الرّسول إن كنت تريد قتله يا رسول الله فدعني آت لك برأسه، لأن النّاس تعلم أني أبرّ النّاس به، فإن قتله غيري يا رسول الله يصعب علي ما تلوكه بعد ألسنة النّاس، وأنا ما أنا عليه من البر بالوالدين والغيرة على السّمعة، لذلك يا سيدي أحشى أن لا تدعي نفسي أنظر إلى قاتله غيرة منها وخشية من تقول النّاس، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النّار، فقال له صلّى الله عليه وسلم بل لترفق به وتحسن صحبته ما كان معنا، وقال أسيد بن حضير يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاء الله بك وقومه يعملون له التاج كي يتوجوه، وأنه يرى أنك سلبته ملكه قال أصحاب السّير ولما قرب عبد الله بن أبي من المدينة وأراد أن يدخلها جاءه ابنه عبد الله رضي الله عنه وأرضاه وقال له وراءك، قال ويلك مالك، قال والله لا تدخلها أبدا إلّا أن يأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولتعلمن اليوم من الأعز من الأزل فشكاه إلى رسول الله، فأرسل إليه أن خلّ عنه، فقال إذا جاء أمر الرّسول فقم فدخل المدينة. وقيل قالوا اذهب إلى رسول الله يستغفر لك، فقال أمرتموني أن آمن فآمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فأعطيت، فما بقي إلّا أن أسجد لمحمد، فأنزل الله هذه السّورة. وذكر قصة المريسيع فيها لا يعني أنها نزلت بوقتها بل كانت في سنة ستّ كما ذكرنا وقد أنزل الله في هذه الغزوة فرض التيمم كما أشرنا إليه في الآية 42 من سورة النّساء المارة وأشار إليها جل شأنه في هذه السّورة كغيرها من القصص فإنها قد تقع في
زمن يخبر عنها في زمن آخر قبل وقوعها أو بعده أو زمنه، كما أن أسباب النّزول كذلك، فإنه قد يرافق الحادثة وقد يتقدمها أو يتأخر عنها. قالوا ثم اشتكى عبد الله ولم يلبث إلّا أياما ومات على نفاقه كما سيأتي ذكره في الآية 84 من سورة التوبة الآتية إن شاء الله. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» (9) في الدّنيا بسبب عقلتهم وانهما كهم في حب أموالهم وأولادهم المؤدي إلى خسارتهم في الآخرة(6/199)
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
قال تعالى «وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ» أيها النّاس «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» فيتعذر عليه الإنفاق في حياته وفيما يؤتى به يوم القيامة في الموقف ويسأل عن تقصيره هذا يعتذر «فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ» ولم تمتني بغتة «فَأَصَّدَّقَ» بمالي على عيالك فلا يقبل منه، لأنه أمهله أعواما كثيرة ولم يفعل وكان يمكنه التصدق قبل حلول أجله لو كان صادقا فيما يقوله ويتمناه، وكان بوسعه التصدق ولكنه كان كاذبا يسوف طيلة السّنن التي قضاها حال صحته وقدرته على التصدق ولم يفطن لهذا ولم يذكره، وكذلك قوله «وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ» (10) لا صحة له، لأن الله يعلم لو أمهله فيما أراد لا يفعل شيئا من ذلك لاغتراره بالدنيا ولهوه في زخارفها فلم يخطر بباله حال الرّخاء ما خطر بباله حال الشّدة، فوقع في الأسف والدّامة والحسرة بعد فوات وقت قبولها فلم يصلح لإجابة طلبه بل للقاء النّار. وهذه الآية من تتمة ما نزل في المنافقين لأن المؤمن لا يسأل الرّجعة عند حلول الموت، ولأن ما بعده خير له مما قبله، وهو يحب لقاء الله والله يحب لقاءه، فلا يغتر بالدنيا ولا بطول العمر والتمتع بالعافية والرّفاه فيمنع الزكاة ويسوف بالتوبة ويصر على المعاصي كالكافر والمنافق، بل يتوب ويتصدق وهو صحيح صحيح،
ولهذا قد ردّ الله على المنافق قوله وتمنيه بقوله عز قوله «وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها» أبدا لما ثبت باللوح هكذا ولا يقدم ولا يؤخر عن وقته المقدر له «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (11) بالدنيا لو ردّكم إليها لاستمريتم على أفعالكم القبيحة وحرصكم على المال وتقاعسكم عن فعل الخير كما كنتم واكثر، قال تعالى (لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الآية 27 من الأنعام ج 2 وهذه الآية عامة في كلّ من هذا شأنه، ونزولها في المنافقين لا يمنع شمولها لغيرهم ولا يخصصها فيهم، لأن العبرة لعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب فنسأل الله العفو والعافية والتوفيق إلى أقوم طريقها وأقول:
إليك بسطت الكف في فحمة الدّجى ... نداء غريق في الذنوب غريق
رجاك ضميري كي تخلص حجتي ... وكم من فريق شافع لفريق
فاشفع يا رسول الله بعبدك الجامع لهذا. ويا رب وفقه لإكماله وانفع به عبادك،(6/200)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
واجعله خالصا لوجهك الكريم، إنك على كلّ شيء قدير، وبالإجابة جدير. هذا والله أعلم. وأستغفر الله. ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدّين، ومن تبعهم بإحسان آمين.
تفسير سورة المجادلة عدد 19 و 105- 58
نزلت بالمدينة بعد سورة المنافقين وهي اثنتان وعشرون آية وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة والف وسبعمئة واثنان وتسعون حرفا. ولا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت غير سورة الجن كما لا يوجد سورة مختومة بما ختمت غير آل عمران ومثلها في عدد الآي سورة البروج.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما» مبادلتكما الكلام ومراجعتكما فيه يا سيد الرّسل أنت والمرأة «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لمن يناجيه «بَصِيرٌ» (1) بأمر من يشتكي إليه يجيب دعاء المضطر من عباده، وسبب نزول أوائل هذه السّورة هو أن خولة بنت ثعلبة قالت يا رسول الله إن زوجي أديس بن الصّامت تزوجني وأنا شابة غنية ذات أهل ومال، حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلى وكبر سني ظاهرني وقد ندم، فهل من شيء يجمعني وإياه فتنعشني به؟ وذلك أن الظّهار الآتي بيانه كان زمن الجاهلية مما تحرم به المرأة على البتات، ولذلك لم يفتها حضرة الرّسول لأنه لم يتلق من ربه ما يبطله وقال لها صلّى الله عليه وسلم حرمت عليه، فقالت والذي بعثك بالحق وأنزل عليك الكتاب ما ذكر الطّلاق وأنه أبو ولدي وأحب النّاس إليّ، فقال حرمت عليه، فقالت أشكو إلى الله فاقني ووحدتي، ثم قالت يا رسول الله قد طالت له صحبتي ونثرت له بطني، فقال ما أراك إلّا حرمت عليه ولم أومر بشأنك بشيء، فجعلت تراجع الرسول، وكلما قال لها حرمت قالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي وشدّة حالي ثم قالت يا رسول الله إن لي منه صبية صغارا إن ضممتهم إليّ جاعوا، وإن ضممتهم إليه(6/201)
ضاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السّماء وتقول اللهم إليك أشكو فأنزل الله أوائل هذه السّورة. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكلمته في جانب البيت وما أسمع ما تقول، فأنزل الله (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ) وذم الظّهار بقوله عزّ قوله «الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ» حتى يجعلوهن مثلهن «إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ» لا زوجاتهم «وَإِنَّهُمْ» المظاهرون الّذين يجعلون زوجاتهم كأمهاتهم «لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً» كذبا باطلا لأن الأمهات محرمات على التأبيد بتحريم الله تعالى، والزوجات لا يحرمن بمجرد تشبيههن بالأمهات «وَإِنَّ اللَّهَ»
المنفرد بأمر عباده كثير الصّفح والسّماح والمنّ والعفو عنهم وعما سلف مما وقع من المظاهرين «لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» .
مطلب في الظّهار وحكمه والمخلص منه وكيفيته والمشاورة والنّجوى والتكلم بغير لغة القوم:
الحكم الشّرعي هو أن الظّهار من طلاق الجاهلية كالإيلاء راجع الآية 227 من البقرة تجد بحثه وهو أن يقول الرّجل لزوجته أنت علي كظهر أمي، ومعناه علوّي عليك حرام كعلوي على أمي، وعلوه على أمه حرام لأنهم يريدون بهذا العلو الجماع، لأن الرّجل يعلو المرأة فيه، وكذلك لو قال كبطن أمي أو شبه عضوا منها بعضو أمه، وكذلك إذا شبهها بإحدى محرماته بلفظ من هذه الألفاظ فيكون مظاهرا من زوجته، ثم بين الله تعالى المخرج من مأزق هذا اليمين مما يجعله حلّا منه ويسترد به زوجته لعصمته فقال «وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا» أي يرجعون عن أقوالهم لنسائهم من الألفاظ التشبيهية لهن بأمهاتهم أو غيرهن من محارمهم ليحلوا ما حرموا على أنفسهم منهن، وكيفية العود أن يبقيها عنده ولا يخرجها من بيته، ولكن لا يعاملها معاملة الأزواج حتى يكفر عن يمينه بما ذكره الله، فيعد هذا رجوعا وندما على ما وقع منه. ثم ذكر الله تعالى الكفارة التي يتحلى بها يمينه بقوله أولا «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ» عتق عبد من عبيده إذا كان له عبيد، وإلّا فيشتري عبدا ويعتقه «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا»(6/202)
إذ يجب عليه العتق أولا ثم يعامل زوجته معاملة الأزواج إذ لا يجوز له قربانها قبل التكفير «ذلِكُمْ» الحكم الشّرعي شرعه الله لكم في تحليل المظاهرات «تُوعَظُونَ بِهِ» أيها المؤمنون وتتأدبون من أن تعودوا لمثله «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (3) لا يحتاج إلى إخبار لأن أعمالكم كلها من جملة معلوماته الأزلية وإنها معروفة عنده «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» رقبة يعتقها ولم يقدر على شرائها لضيق ذات يده فصيام شهرين متتابعين تكون كفارته تخفيفا عليه وتبسيرا من ربه، وهذا الصّيام أيضا يجب أن يتمه «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا» مثل كفارة العتق «فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ» أن يصوم لكبره أو مرضه المزمن «فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً» كفارته تسهيلا عليه من لطف الله تعالى والإطعام يكون لكل مسكين نصف صاع من البر أو صاع من غيره وهو ما يغذي الرّجل يوما واحدا من أوسط الطّعام كما سيأتي بيانه مفصلا في الآية 92 من سورة المائدة، وكذلك يجب أن يتصدق بهذا الإطعام قبل المجامعة «ذلِكَ» البيان الشّافي والتخفيف الكافي «لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» وتزدادوا إيمانا وشكرا وحمدا إذ لم يجعل عليكم حرجا فيما شرعه لكم إكراما لرسولكم كما هو مدون في أزله وتعملوا بما أمرتم به عن اعتقاد ويقين وصدق وحزم وتتركوا ما كان عليه أسلافكم من أمور الجاهلية التي قلدتموهم بها. واعلم أن هذه لا تعد ناسخة لما كان في الجاهلية، لأن الظّهار لم يقرر في الإسلام كشرع ولم يعمل به كمأمور به، وإنما كان عادة مستقة من عوائد الجاهلية، والنّسخ لا يدخل إلا على ما كان مشروعا كما أشرنا إليه في الآيتين 17 و 150 من سورة البقرة، وما كان عليه عمل الجاهلية لا يسمى شرعا لأنهم لم يأخذوها من شرع قديم أو يكتسبوها من تعاليم الأنبياء، إذ لا شرع ولا كتاب لهم بل من عوائد آبائهم، لأن نبيهم إسماعيل عليه السّلام اندرست شريعته ولم يترك لهم كتابا يرجعون اليه، ولهذا لم يفت به حضرة الرّسول، لأنه حكم من الأحكام ولم ننزل عليه فيه شيء، وهو لا ينطق عن هوى. قال تعالى «تِلْكَ» الأحكام المتلوة عليكم أيها النّاس في «حُدُودُ اللَّهِ» التي لا يجوز تخطيها المفروض عليكم اتباعها «وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ» (4) يوم القيامة عدا ما ينالونه في الدّنيا تدل هذه الآية دلالة قاطعة(6/203)
على أن من لم يقبل شيئا من أحكام الله منكرا صحته فهو كافر، وعليه فإن من يصلي بلا وضوء جاحدا فرضيته فهو كافر، وإلّا فيستحق العقاب، لأن الله أمره به عند الإقدام على الصّلاة كما سنبينه في الآية السّادسة من المائدة الآتية، وقد مر نهي الجنب عن الدّخول فيها في الآية 23 من سورة النّساء، ولهذا عبّر ممن لم يتقيد بحدوده بالكافرين، وأعقبها بقوله عز قوله «إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» بمخالفة أمرهما وانتهاك حرماتها ومعنى المحادة المعاداة والمشاقة لله ورسوله «كُبِتُوا» أحزوا وذلّوا وهلكوا منكبين على وجوههم «كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» بمعاداتهم الله ورسله رمشافقتهها هم «وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ» بمنع المخالفة والانقياد للشريعة والتباعد عن الشّقاق «وَلِلْكافِرِينَ» بها الجاحدين حقيقتها «عَذابٌ مُهِينٌ» (5) لهم يشينهم مرآه بين النّاس في المشهد العظيم «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً» للحساب «فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» في دنياهم من خير
أو شر جهرا أو سرا مباحا أو حراما إذ أَحْصاهُ اللَّهُ» عليهم كله فحفظه في كتابهم وَنَسُوهُ مع أنهم اقترفوه لعدم مبالاتهم به «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» بما يعمله خلقه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم خفيها وعلانيتها كيف وهو القائل (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) الآية 285 من البقرة ولا تكون المحاسبة إلّا عن علم أي يعلمه ويحاسبكم عليه. فيا أيها الغافل «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» خفية وجلية لا يعزب عن علمه شيء وانه «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى» تشاور وأسرار بين «ثَلاثَةٍ» من الخلق وحدهم «إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ» حاضر معهم يعلم ما يتناجون به كما هو عالم به أزلا من قبل مناجاتهم «وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ» اثنين أو واحد «وَلا أَكْثَرَ» سبعة فما فوق إلى ما لا نهاية «إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا» في الأرض أو السّماء أو فيما تحتها وفوقها وبينهما وما فوق الماء وتحته «ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» في مناجاتهم ومكانها وزمانها كسائر أعمالهم الأخرى «يَوْمَ الْقِيامَةِ» حينما تنشر الأعمال بالصحف على أربابها كي يتحقق لديهم ذلك ويقولوا بعد أن كانوا ينكرون «إِنَّ(6/204)
اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»
(7) لا تخفى عليه خافية، وإنما خص الثلاثة والخمسة في المشاورة لأن العددين أقل ما يكفي في المشاورة، ولأن الاثنين يوشك أن يتفقا على غلط أو يتخالفا في الرّأي فالثالث يكون كالحكم. ويوشك أن ينقسم كل اثنين من الخمسة فيذهب إلى رأي فيكون الخامس كالحكم أيضا يرجح رأي من ينضم إليها، فينم الغرض الذي من أجله شرعت المشاورة. قال تعالى «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى» وهم اليهود والمنافقون إذ كانوا إذا رأوا المؤمنين طفقوا يتناجون بينهم قصدا كي يظن المؤمنون أنهم قد علموا سوء بسراياهم وغزاتهم فيحزنون، فشكوهم إلى الرّسول فمنعهم من ذلك ولم يمتنعوا، فأنزل الله فيهم هذه الآية «ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ» من النّجوى ولم يمتثلوا أمر الرسول «وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ» إساءة له ولأصحابه «وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ» أولئك الخبثاء «بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ» فيقولون السّام عليك بدل السّلام وراعنا بدل انظرنا واسمع غير مسمع كما مر في الآية 104 من البقرة ومع هذا فإن الرّسول يغض عنهم ولا يرد عليهم مع علمه بنياتهم بذلك، ولذلك تمادوا في مثل هذه الألفاظ المراد بها غير ظاهرها المعروف «وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ» في شأن محمد وأصحابه وعليهم وهو يزعم أنه نبيه لفعل إذ لا يعجزه شيء ولا يغفل عما نقول، فلو كان نبيا لانتقم له منا ولكنه ليس بني قاتلهم الله، بلى والله إنه لنبي وإن الله معذبهم على ذلك ومنتقم لنبيه منهم إذ يقول جل قوله «حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ» عذابا يوم القيامة «يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (8) هي لمن يصلى بها، روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت دخل رهط من اليهود على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا السام عليك، قالت عائشة رضي الله عنها فقلت عليكم السّام واللّعنة، قالت فقال رسول الله مهلا يا عائشة ان الله يحب الرّفق في الأمر كله، فقلت يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا قال قد قلت وعليكم أي أنه سمع ويرد عليهم قولهم بحيث كأنه لم تحاشيا عن المقابلة بالسوء. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم «إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ(6/205)
الرَّسُولِ»
وهذا مما يؤيد ويؤكد أن المراد بهؤلاء المؤمنين، المنافقون لا المخلصون لأنهم لا يتصور عنهم مشاورة بمعصية الرّسول، وإنما سماهم مؤمنين بحسب الظّاهر وبمقتضى زعمهم، راجع الآية 159 من آل عمران المارة وما ترشدك اليه من المواضع في بحث الشّورى والمشاورة. والنّهي عام يدخل فيه المنافق دخولا أوليا وغيره بالتبعية، كما أن قوله تعالى «وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» (9) يوم القيامة فيحاسبكم على ما وقع منكم عام أيضا.
قال تعالى «إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ» إذا كانت بالسوء وإنها لا تضر المؤمن وانه يسوق اتباعه على فعلها «لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا» لأنهم يظنون أنها فيهم أو فيمن يتعلق بهم، ولذلك تغضبهم «وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ» أي نجوى الشّيطان واتباعه المتناجين لا تضر المؤمنين «شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» لأن الضّر والنّفع منه وبيده أمرهما «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (10) لا على غيره، وعليهم ألّا يلتفتوا إلى نجواهم، ولا يلقوا لها بالا، لأن من يتوكل على الله لا يخيّب أمله ولا يبطل سعيه. واعلم أن النّجوى تطلق غالبا على الشّر والمشاورة على الخير ويجوز استعمال كلّ منهما موضع الآخر، وهي من سوء أدب المجالسة التي نهى الله عنها وأدب عباده بها، ولذلك لا ينبغي أن يتشاور اثنان بحضرة واحد أو يتكلما بلغة لا يعرفها أو يرامزان بأي نوع من أنواع الإشارة، لأن هذا مما يقلقه ويغيظه ويسلب راحته، ولذلك نهى الشّارع عنه. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إذا كانوا ثلاثة فلا يتنج اثنان دون الثالث.
زاد ابن مسعود في رواية فإن ذلك يحزنه. وهذه الزيادة في سند أبي داود والكلام الذي لا يعرفه الثالث بمثابة المشاورة لما ورد من عرف العربية وتكلم بغيرها فذلك علامة النّفاق، أي إذا تكلم بغيرها اثنان بحضور ثالث لا يعرفها، أما إذا كان الكل يحسنونها فلا بأس. وهذا لا يعني تقبيح تعليم اللّغات الأجنبية، كلا، بل هو مطلوب، فقد ورد من تعلم لسان قوم أمن مكرهم. ولا يخفى أن كل لسان يتكلم به الرّجل بمقابلة انسان آخر لا يعرفه، فهو نصّ عنه، أما بحضور من يعرفه أو بحضور جماعة فلا بأس به. وقد نهى عنه إذا كان ينافق فيه ويتبجح(6/206)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)
به أمام من يعرفه. أو أمام صاحب تلك اللّغة ليبين له أنه يعرف لغته وأنه يميل إليها بقصده التقرب منه، أما إذا كان التكلم بين جماعة لحاجة فجائز، والمذموم التكلم بها لغير حاجة يخشى من اطلاع الغير عليها بحضور من لا يعرفها، لأنه من علائم النّفاق. روى الحاكم في مستدركه بسند صحيح عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أحسن منكم أن يتكلم بالعربية فلا يتكلمن بالفارسية فإنه يورث النّفاق. ويدل هذا الحديث على أن جميع اللّغات غير العربية إذا تكلم بها بلا موجب من تعليم أو تفاهم أو حاجة كما مر يورث النّفاق، وإنما اختار الفارسية بحديثه صلّى الله عليه وسلم دون غيرها من اللّغات لأنها أقدس منها وأكثر أهل الشّرق يتكلمون بها.
مطلب آداب المجالسة وفضل العلم والعلماء وما يتعلق بذلك:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ» التي أنتم جالسون بها لقدوم غيركم عليها «فَافْسَحُوا» وسعوا لهم ليجلسوا بينكم لأن هذا من آداب المجالسة وكرم الأخلاق التي يهذبكم الله بها ويريدكم إليها ويأمركم بها فإذا فعلتم ذلك «يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ» في جميع أموركم من الأمكنة والأعمال والأرزاق وغيرها لاطلاق اللّفظ «وَإِذا قِيلَ» لكم أيها المؤمنون «انْشُزُوا» ارتفعوا وانهضوا عن مواقعكم ليجلس فيها إخوانكم القادمين عليكم الّذين يرى النّاس لهم فضلا من علم أو فصاحة أو أدب أو شجاعة أو أمارة أو فعل ما «فَانْشُزُوا» وأخلوا لهم مواضعكم وأكرموهم بالجلوس فيها ولا تضاموا أو تغضبوا، وليكن ذلك عن طيب قلب منكم محافظة على التفاضل الذي سنة الله في خلقه المنوه به في قوله «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ» على غيرهم بكثرة الطّاعة وامتثال الأوامر «وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ» كثيرة يرفعهم على غيرهم في الدّنيا والآخرة قال تعالى (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الآية 9 من سورة الزمر ج 2، والآية 254 من البقرة المارة، وهي مكررة في القرآن العظيم باللفظ وبالمعنى وهذا التفاضل نسبي بين النّاس أجمعين، حتى الأنبياء، قال تعالى (لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) الآية 56 من(6/207)
سورة الإسراء ج 2، وقال تعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) الآية 253 من البقرة المارة وفي الرّزق أيضا قال تعالى (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) الآية 71 من سورة النّحل ج 2 «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (11) وسبب نزول هذه الآية على ما قالوا هو أنه جاء أناس من المهاجرين والأنصار إلى مجلس الرّسول فسلموا فرد عليهم السّلام ثم سلموا على الجالسين فردوا عليهم السّلام وبقوا قائمين حيال رسول الله لعدم وجود محل يجلسون فيه، لأن المجلس غاص بالناس، فشق قيامهم على حضرة الرسول لمكانتهم عنده، فقال لمن حوله قم يا فلان وأنت يا فلان فأقام من المجلس يقدر أولئك النّفر وأجلسهم، فشق ذلك على الّذين أقامهم وعرف الكراهية في وجوههم، فلما أنزل الله هذه الآية طابت نفوسهم وركنت إلى أمره الذي هو من أمر الله وفيها تعليم لعباده واخبارهم بأنهم متفاضلون، وإن من الأدب أن يحترم الأدنى الأفضل، قال صلّى الله عليه وسلم لا تزال أمتي بخير ما تفاضلت. ومن كمال الآداب احترام من هو دونه أيضا بالملاقاة والتكلم والمجالسة على أن لا يتجاوز فيه الحد بالنسبة له، مثل أن يقوم العالم أو الفاصل لمن هو دونه، فيقدم له الحداء فهذا بعد تخاسا لا أدبا، إذ لكل شيء حد يجب الوقوف عنده، لأن الإفراط والتفريط قد يقضيان للحط من كرامة الرّجل ويوجبان الغيبة له، ورحم الله امرأ جبّ الغيبة عن نفسه، بأن يتحاشى أن يفعل ما يغتاب عليه به فيقطع ألسنة الناس عنه، ومما جاء في فضل العلم ما أخرجه الترمذي عن بن كثير قال قدم رجل من المدينة على أبي الدّرداء وهو بدمشق، فقال ما أقدمك يا أخي؟ قال حديث بلغني انك تحدثه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال أما جئت لحاجة غيره؟ قال لا قال أما قدمت في تجارة؟ قال لا، قال ما جئت إلّا في طلب الحديث؟ قال نعم، قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنّة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السّموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء،(6/208)
وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر. وأخرج أبو داود نحوه وهذا الفضل لا يختص بمن يأتي لطلب العلم من مكان بعيد، بل إذا ذهب لطلبه من دار لأخرى في بلده أو حيه ينال هذا الأجر، والله ذو الفضل العظيم يضاعف لمن يشاء بحسب بعد المكان وقربه وحسب نية الطّالب، فأين من يطلبه ويتعرض لنفحاته. وجاء في بعض الأخبار كن عالما أو متعلما أو مستمعا ولا تكن الرّابعة فتهلك، أجارنا الله من الهلاك. وروى البخاري ومسلم عن معاوية ابن أبي سفيان قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين
. وأخرج الترمذي مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروى البغوي بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مر بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون إليه، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه، فقال كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه، أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه، وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه ويعلمونه الجاهل فهؤلاء أفضل. وإنما بعثت معلما. ثم جلس فيهم.
مطلب في تقديم الصّدقة عند مناجاة الرّسول وعفوها وبعض أحوال المنافقين في الدّنيا والآخرة:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ» أي إذا أردتم مناجاته والتكلم معه «فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً» أي قبل مناجاتكم له تصدقوا ثم ناجوه «ذلِكَ» التصدق قبل المناجاة لحضرته «خَيْرٌ لَكُمْ» في دينكم ودنياكم لما فيها من احترام الرّسول والثناء الحسن والأدب الوافر والأخلاق الكاملة والاعتراف بالفضل والمحبة الصّادقة لحضرته وفي آخرتكم لما فيها من طاعة الله ورسوله وامتثال أوامره عن طيب قلب «وَأَطْهَرُ» لأن الصدقة زكاة المال والمتصدق «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا» ما تنصدقون به «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (12) بعباده الفقراء، ومن رحمتة بهم عفوهم من تقديمها ولهم أن يناجوه بلا تصدق. لما أكثر النّاس من سؤال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الصّغيرة والكبيرة وشق ذلك عليه أراد الله تعالى أن يخفف عنه ويثبط النّاس عن ذلك فأمرهم(6/209)
بالتصدق عند إرادة مناجاته لا عظامها ونفع الفقراء ولئلا يقوم كلّ أحد فيما أهمه وما لم يهمه على سؤاله وليختصروا على الأهم الذي لا بد لهم من معرفته أو القضاء به إلّا ببيان الرّسول، فنزلت هذه الآية، فتوقف النّاس لأنهم لم يعرفوا بعد هذه الجهة ولم يعلموا ما هي هذه الصّدقة وكم هي، قال علي كرم الله وجهه قال لي الرسول ما ترى في قدر هذه الصّدقة أدينار؟ قلت لا يطيقون، قال فكم؟ قلت شعيرة أي وزنها ذهبا، قال إنك لزهيد أي قليل المال قدرت على قدر حالك فتصدق علي بدينار، ونزلت الرّخصة في الآية الآتية، فكان عليه السّلام يقول في خفف الله عن هذه الأمة، وقال آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد غيري وفيها منقبة عظيمة له عليه السّلام وهو أبو المناقب، وليس فيها طعن على أحد لأن الزمن لم يتسع للعمل بها، إذ نزلت الرّخصة بتركها فور اذاعة أمر الصّدقة بين النّاس والتحدث بها على أثر تصدق سيدنا علي كرم الله وجهه لأن القصد منها زيادة احترام حضرة الرّسول، وقد حصلت بمجرد نزول الآية ووقر في قلوب النّاس معناها وعرفوا المراد من مغزاها وتحاشوا عن كثرة المراجعة له. قال الكلبي ما كان إلّا ساعة من نهار، وقال مقاتل كان بين هذه الآية وبين آية الرّخصة عشرة أيّام. وهو الأصح إذ لا يمكن إذاعتها للآفاق دون هذه المدة بالنسبة لذلك الزمن. قال تعالى «أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ» مع حضرة الرّسول «صَدَقاتٍ» أي خفتم العيلة والفاقة أم بخلتم بهذه الصّدقة أو خشيتم من أدائها «فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا» ما أمرتم به من التصدق فقد خفف الله عنكم ويسر عليكم وأزال عنكم المؤاخذة على عدمها وسهل لكم مناجاة الرّسول بدونها وجعلها لكم مجانا كما كانت إذا حصل المقصود منها وهو تعظيم حضرة النّبي واحترامه والتباعد عن الإفراط في سؤاله والميزة بين المؤمن والمنافق من حيث تلقي هذا الأمر بالقبول «وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» في عدم مسارعتكم إلى فعل هذه الصّدقة.
وتشير هذه الآية إلى تأخرهم عن أداء تلك الصّدقة حال نزول هذه الآية ذنب بالنسبة لمن هي لأجله وإلى زيادة تعظيم قدر الرّسول عند ربه عز وجل، ولهذا أمرهم بقوله جل قوله «فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ»(6/210)
تداركا لما فاتكم في المسارعة لإنقاذ أمره قبل إنزال التخفيف والترخيص بعدمه أي إذ فاتكم التصدق في المناجاة وفرطتم بها فلا تفرطوا بإقامة الصّلاة وأداء الزكاة وطاعة الله ورسوله فيما يأمركم وينهاكم، بعد بل سارعوا له واغتنموا فعله ولا تقاعسوا ولا تتوانوا عنه أو تعتذروا منه وفيها إشارة إلى فعل أحد هذه الثلاثة قبل المناجاة لحضرة الرّسول بدلا من الصّدقة «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (11) وهذه إحدى الآيات الثلاث التي نوهنا بها في المقدمة في بحث النّاسخ والمنسوخ وبينا توجيهها هناك وإنها غير ناسخة للآية قبلها والآية الثانية مرت في سورة المزمل ج 1 والثالثة في سورة الأنفال المارة، راجع بحث النّاسخ والمنسوخ في المقدمة ج 1 ولما اختلا المنافقون باليهود ونصحوهم (بل غشوهم) عن موالاة الرّسول ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين وقالوا لهم نحن نتولاكم من دونه أنزل الله عز وجل «أَلَمْ تَرَ» يا سيد الرسل «إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» وهم اليهود «ما هُمْ» أولئك المنافقون «مِنْكُمْ» أيها المؤمنون لأنهم يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان «وَلا مِنْهُمْ» أي اليهود الّذين ولوا أمرهم المنافقين وهم كما وصفهم الله مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء الآية 43 من سورة النّساء المارة «وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ» بأنهم مؤمنون مثلكم «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (14) انهم كاذبون يحلفهم «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً» في الآخرة لكذبهم وحلفهم على الكذب إنه ليس بكذب «إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (15) في دنياهم هذه إذ «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً» وقاية يتقون بها حفظ أنفسهم من الجلاء والأسر والقتل وأموالهم وأولادهم ونسائهم عن الاستيلاء عليها والسّبي «فَصَدُّوا» الناس «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» وأعرضوا عن رسوله في الدّنيا «فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (16) جزاء ذلك، قالوا إن حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم قال لأحدهم عبد الله بن نبتل في قولهم لليهود لا توالوا الرّسول إلخ كما مر آنفا فحلف أنه لم يقل وجاء بأصحابه فحلقوا كذلك فكذبهم الله تعالى في هذه الآيات التي أنزلها على رسوله فيما وقع منهم قاتلهم الله ما أكذبهم، وهؤلاء أشد من مغالاتهم، لأن حب المال والدّنيا هو الذي حدا بهم إلى ذلك، ولا ريب أن الّذين لا يؤمنون بالآخرة يغريهم حب المال والرّئاسة(6/211)
قال تعالى «لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ» المنافقون المتولون لليهود والحالفون كذبا متخذون إيمانهم وقاية لصون دمائهم وأموالهم وأولادهم، الصادون النّاس عن سبيل الله المعرضون عنه هم «أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (17) أبدا لا يتحولون عنها. واعلم يا حضرة الرسول أن هؤلاء المنافقين وأصحابهم اليهود «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً» في الموقف المهيب فيسألهم عما وقع منهم في الدّنيا من هذه الأحوال وغيرها وهو غني عن سؤالهم لأنه يعلم كلّ ما وقع منهم أزلا ولكن ليفضحهم على رؤوس الأشهاد «فَيَحْلِفُونَ لَهُ» في ذلك المشهد العظيم «كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ» يا أكمل الرسل بأنهم صادقون وهم كاذبون «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ» من قبول أيمانهم الكاذبة عند الله كما كانت تقبل منهم بالدنيا ظاهرا، كلّا ليسوا على شيء من ذلك أصلا «أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ» (18) في الدّنيا والآخرة تشير أداة التنبيه في مطلع هذه الآية والتوكيد بأن واللام على توغلهم بالنفاق والكذب وتعودهم عليهما وفساد ظنهم على رواج إيمانهم بين يدي علام الغيوب وفضيحتهم على رؤوس الأشهاد. قال تعالى «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ» أي استحوى واستولى عليهم فملك قلوبهم وغلبهم على أمرهم وأحاط بهم من كلّ جانب، وجاء هذا الفصل على خلاف قاعدة اللّغويين من أن الواو إذا تحركت بالفتحة تقلب الفاء على هذه القاعدة يكون استحاذ إلّا أنه جاء على الأصل، ومثله استصوب واستشوف، والأحوذي السّائس الضّابط للأمور، قالت عائشة رضي الله عنها كان عمر أحوذيا أي مدبرا للأمور ضابطها وهؤلاء الّذين استولى عليهم الشّيطان «فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ» إذ أشغل ليهم عن التفكير والمراقبة بجمع حطام الدّنيا وتدبير شئونها، فأشغل حواسهم الظّاهرة والباطنة وحصرها في أمور الدّنيا وصرفها عما يتعلق بالآخرة فلم يبق في
قلوبهم خطرة للتفكير في آلاء الله أو لمحة لشكر نعمائه أو حركة للنظر في ملكوت أرضه وسمائه وأشغل ألسنتهم عن ذكر الله بالغيبة والنميمة وقول الزور في الكذب والافتراء والبهتان، فلم يترك لها فسحة لتلاوة شيء من ذكره ولا فرجة لتحميده وتسبيحه، وأشغل جوارحهم بالأكل والشّرب واللّباس والمساكن(6/212)
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
فلم يفسح لهم طريقا للانفاق وعمل الخير ومساواة الفقراء والمساكين «أُولئِكَ» الّذين هذه صفتهم هم «حِزْبُ الشَّيْطانِ» وأولياؤه وحلفاؤه وأنصاره «أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ» (19) في الدّارين. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» يعادونهما وأوليائهما ويتعدون حدودها ولا يعملون بأوامرها «أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ» (20) في جملة من أذلهم الله في الدّنيا وإن ما هم عليه من النّعم الفانية لا قيمة لها لأن مرجعهم للآخرة التي سيهانون فيها ويحقرون ويعلمون أن ما رأوه في الدّنيا هو ذلّ أيضا بسبب تكالبهم على جمعها وعدم مبالاتهم بجمعه إذ لا يتورعون عن مغصوب وحرام، فالعز الذي نالوه من هذا المال هو ذل أيضا من حيث النّتيجة.
قال تعالى «كَتَبَ اللَّهُ» في لوحه المحفوظ أذلا «لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» المحادين والمخالفين والمعرضين مهما كانوا عليه من قوّة ومنعة «إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ» لا يغلب منيع لا ينال «عَزِيزٌ» (21) لا يدرك عظيم لا يرام راجع الآية 172 من الصّافات في ج 2 والآية 56 من المائدة الآتية واعلم يا سيد الرّسل انك «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فإذا رأيت متصفا بالإيمان موادا لهؤلاء فاحكم بنفاقه وبأن إيمانه صوريّ لا ينتفع به، لأن المؤمن لا يوالي الكافر ولا يخالف الله ورسوله ولا يحب أعدائهما، لذلك من الممتنع جدا أن تجد قوما مؤمنين متصفين بتلك الصّفات «وَلَوْ كانُوا» أي المحادون «آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ» فلا ينبغي أن يوالوهم، بل يجب عليهم أن يخذلوهم ولو كانوا أولى الناس بهم. ولهذا البحث صلة في الآية 34 من سورة التوبة الآتية فراجعها.
ولهذا فإن عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قتل أباه يوم أحد، وعبد الله استأذن حضرة الرّسول بقتل أبيه عبيد الله أبي بن سلول كما مر في الآية 8 من سورة المنافقين، وأبا بكر الصّديق رضي الله عنه أراد قتل ابنه يوم بدر فمنعه حضرة الرسول من مبارزته، ومصعب ابن عمر قتل أخاه عبد الله وأبو عبيدة بن الجراح وحمزة بن عبد المطلب وعلي كرم الله وجهه قتلوا عتبة وشيبة بن ربيعة، والوليد ابن عتبة يوم بدر وهم من عمومتهم، وعمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام(6/213)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
ولم تثنهم قراباتهم لهم عن عزمهم لأجل الله وصرفهم في الله فقتلوهم ابتغاء مرضاة الله وهذا من قوة إيمانهم بالله وشدة الصّدق لرسوله وغاية الوثوق بوعد الله ونهاية التمسك بنصرة الله رغبة فيما لهم عند الله وأمثال هؤلاء هم الّذين تكفل الله بنصرتهم ولو يوجد الآن من هؤلاء عصبة لما حل بالمسلمين ما حل من الذل والهوان والقتل والأسر والجلاء والاستيلاء على أوطانهم وأموالهم وذراريهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. اللهم ألهم أمة محمد رشدهم ووحد كلمتهم على الحق وانصرهم على عدوهم «أُولئِكَ» الّذين هذا شأنهم الّذين لا تأخذهم في الله قرابة ولا صداقة ولا لومة لا ثم في ارحم أو حبيب فيعادون من حادّ الله ورسوله ويوالون من والاهما ويحبون من وادّ الله ورسوله هؤلاء الأبرار المخلصون «كَتَبَ» الله وأثبت «فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ» للكامل الخالص «وَأَيَّدَهُمْ» قواهم وأعزّهم «بِرُوحٍ مِنْهُ» قذفه في قلوبهم فنورها وقوى عزائمهم وألقى الخوف في قلوب أعدائهم والرّعب فيمن يناوئهم فينصرهم في الدّنيا «وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» في الآخرة «خالِدِينَ فِيها» لا يتحولون عنها أبدا إذ «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ» الراضون المرضيون العاملون المخلصون هم «حِزْبُ اللَّهِ» المؤيد بتأييده المنصور بنصره «أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (22) الناجحون الفائزون الرّابحون فيعملهم فليعمل العاملون وبأوصافهم فليتنافس المتنافسون اللهم اجعلنا، منهم هذا والله أعلم وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعهم وسلم.
تفسير سورة الحجرات عدد 20- 106 و 29
نزلت بالمدينة بعد المجادلة وهي ثمان عشرة آية وثلاثمائة وثلاث وأربعون كلمة والف وأربعمائة وستة وسبعون حرفا، تقدم بيان السّورة المبدوءة بما بدأت به أول سورة الممتحنة المارة، ويوجد أربع سور مختومة بما ختمت به هذه النّمل والمنافقون وهود ومثلها في عدد الآي التغابن فقط لا ناسخ ولا منسوخ فيها:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا(6/214)
لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»
نهى الله تعالى عباده، بعدم التقدم على نبيه لأن التقدم بين يدي رسوله تقدم بين يدي الله وقد أراد وهو أعلم بهذا التقدم مطلقه فيشمل التقدم بالقول والفعل وهذا من جملة تأديب الله تعالى عباده احتراما لحبيبه صلّى الله عليه وسلم الذي قدمه على خلقه أجمع وقد حذر ومنع جل جلاله في هذه الآية من أن يتكلم أحد قبل أن يتكلم أو يمشي إذا كان معه قبل أن يمشي أو يفعل شيئا ما قبل أن يفعل «وَاتَّقُوا اللَّهَ» في محافظة حقوق نبيكم وتأدبوا بين يديه أي بحضوره، لأن الحاضر أمام الرّجل كأنه واقف أو قاعد بين يديه «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لما تقولونه «عَلِيمٌ» (1) بما تفعلونه وهذه الآية عامة في جميع الأحوال لا يخصصها ما روي عن جابر بأنها نزلت حينما أراد صلّى الله عليه وسلم الذبح يوم الأضحى أي لا تذبحوا قبل أن يذبح لأن أناسا ذبحوا قبله فأمرهم بإعادة الذبح لما روي عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل هذا فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النّسك في شيء- أخرجه الترمذي.
ولا يقيده أيضا ما روي عن عائشة رضي الله عنها من أنها نزلت في النّهي عن صوم يوم الشّك لما جاء عن عمار بن ياسر قال: من صام يوم الشّك أي في اليوم الذي يشك فيه النّاس (هل هو من شعبان أو من رمضان) فقد عصى أبا القاسم.
أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح بل مطلقة جارية على عمومها في كلّ ما من شأنه معنى التقدم عليه صلّى الله عليه وسلم، ومن جملة الآداب التي علمها الله لعباده وأمرهم بها تجاه حضرة رسوله الأعظم قوله:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ» أي تأدبوا عن هذا أيضا لا تفعلوه لأنه ليس مثلكم إلّا في البشرية، أما في غيرها فهو فوق خلق الله أجمع، قال الأبوصيري:
فمبلغ العلم فيه أنه بشر ... وأنه خير خلق الله كلهم
دع ما ادعته النّصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم(6/215)
أي اجتنب هذا وقل في مدحه ما شئت، لذلك يجب عليكم حينما تخاطبونه أن تخاطبوه بصوت منخفض بقدر ما تسمعونه لأن الزيادة على ذلك مخلّة بالأدب معه والاحترام تجاهه والتوقير لمقامه. واعلموا أن جعل كلامكم أعلى من كلامه أو زيادة على الحاجة المقتضية للاسماع نقص للتعظيم المطلوب منكم أمامه، وموجب لوصمكم بقلة الأدب وسوء الأخلاق، ومفض لإحباط أعمالكم ومحق ثوابها، ولهذا قال تعالى «أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» (2) بذهاب أجرها بسبب عدم تفخيمكم نبيكم وإخباتكم له، فلو علمتم أن رفع الصّوت والجهر به أمام رسولكم يذهب ثواب أعمالكم ويصفكم بسوء الأدب وأنه يقضي لإزعاج حضرة الرّسول ويؤدي لكراهته لما فعلتموه، ولهذا ينهاكم الله ويحذركم لتتعظوا وتحترزوا من كل ما يؤدي لعدم توقيره. فنقيدوا بهذه الآداب ولا تخطرها لتكونوا على بصيرة من أمركم لقاء نبيكم، لأن هذه الآية تشير إلى ذم من يصدر منهم مثل ذلك، كما أن قوله جل قوله «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى» تفيد المدح لمن يغض صوته ويخضع له هؤلاء الّذين اختبرهم الله بذلك قد هيأ أفئدتهم لتقراه وجعلها مخلصة له موقنة به «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» لذنوبهم وستر لعيوبهم «وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» (3) عند ربهم.
مطلب في خطيب وشاعر بني تميم وما رد عليهما خطيب وشاعر حضرة الرّسول وفي سرية عتبة الفزاري وسرية الوليد بن عقبة:
قال جابر: إن سبب نزول هذه الآيات هو لما جاء بنو تميم نادوا يا محمد أخرج إلينا، فإن مدحنا زين وذمنا شين، فقال صلّى الله عليه وسلم إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين، فقالوا جئنا نشاعرك ونفاخرك، قال لا بالشعر ولا بالفخر أمرت، ولكن هاتوا، فقام منهم عطاء بن حاجب فذكر فضله وفضل قومه، فقال صلّى الله عليه وسلم لخطيه ثابت بن قيس أجبه، فأجابه بما أسكته وفند قوله وأثبت أنهم دون ذلك بكثير، ولم يزل به حتى أفحمه وعرّفه أنه دون ما قال، ثم قام شاعرهم الزرقاوي وأنشد بإطراء قومه فقال:
أتيناك كيما يعرف النّاس فضلنا ... إذا خالفونا عند ذكر المكارم(6/216)
وإن رءوس النّاس من كلّ معشر ... وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
وان لنا المرياع في كلّ غارة ... تكون بنجد أو بأرض التهائم
ولما انتهى أمر صلّى الله عليه وسلم شاعره حسانا أن يجيب شاعرهم، فقال:
بني دارم لا تفخروا إن فخركم ... بصير وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول من بين ظئر وخادم
فقال صلّى الله عليه وسلم لقد كنت يا أخا دارم غنيا أن يذكر منك ما ظننت أن النّاس قد نسوه، فكان قوله عليهم أشد من قول حسان الذي ذكرهم بما هو واقع منهم، ومعلوم لديهم، لأنه تأييد له وتأكيد، ثم رجع حسان لشعره فقال:
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم أن يقسموا في المغانم
فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا ... ولا تفخروا عند النّبيّ بدارم
وإلّا ورب البيت قد مالت القنا ... على هامكم بالمرهفات الصّوارم
فقام منهم الأقرع بن حابس وقال إن خطيبهم أحسن من خطيبنا وشاعرهم أجود من شاعرنا وأسلم. ثم أعطاهم رسول الله وكساهم وتخلف عنهم عمرو بن الأهشم فأعطاه مثلهم، فأزرى به بعضهم بسبب تخلفه وارتفعت أصواتهم وكثر لغطهم عند رسول الله، فنزلت. واعلم إنما يصح هذا إذا كانت هذه الحادثة قبل إسلام الأقرع وقبل سنة الوفود أما بعدهما فلا يصح أن يكون سببا للنزول لأن إسلام الأقرع كان قبل واقعة حنين والوفود كانوا سنة تسع فليراجع. روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال: لما نزلت هذه الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال أنا من أهل النّار، واحتبس عن النّبي صلّى الله عليه وسلم فسأل عنه سعد ابن معاذ فقال يا أبا عمر ما شأن ثابت أيشتكي فقال سعد يا رسول الله إنه لجاري وما علمت له شكوى، قال فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال ثابت أنزلت هذه، ولقد علمتم اني من أرفعكم صوتا على رسول الله، فأنا من أهل النّار، أي ولذلك احتجب عن رؤية حضرة الرّسول لأنه علم أن رفع الصّوت قلة أدب وعدم احترام لحضرته الكريمة، فذكر ذلك سعد للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله بل هو من أهل الجنّة، ثم صار ابو بكر وعمر وغيرهما لا يكلمون حضرة الرّسول إلّا كأخي السّرار(6/217)
وصار حضرة الرّسول يستفهم مخاطبه من شدة ما يخفض صوته، ثم أنب الله قوما آخرين لم يتقيدوا بآداب الله التي يريدها من عباده أمام رسوله، فقال عز قوله «إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» (4) إن ذلك سوء أدب منهم وقلة احترام لنبيهم، وانهم مؤاخذون عليه، ولكن سفههم وقلة عقولهم وعدم مبالاتهم حدا بهم إلى هذا الحد. قال تعالى «وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ» ولم يجرءوا على مناداتك كما ينادون أحدهم «لَكانَ» صبرهم مراعاة لحسن الأدب وتوقيرا للمنادى «خَيْراً لَهُمْ» في دنياهم لئلا يوصموا بسوء الأدب تجاه نبيهم المعظم عند الله، وفي دينهم الموجب عليهم احترامه وتمييزه عنهم وفي آخرتهم، لأن ما وقع منهم من قلة الأدب يدون في صحيفتهم ويعد من جملة سيئاتهم، وسيذكرون بها يوم الحساب وقد يشملها عفو الله «وَاللَّهُ غَفُورٌ» لما وقع منهم لأنه عن جهل لا عن قصد «رَحِيمٌ» (5) بهم إذا تابوا وأنابوا. قال ابن عباس بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم سرية إلى ابن العنبر وأمر عليهم عيينة بن حصن الفزاري، فلما بلغهم ذلك تركوا أهلهم وهربوا، فسباهم عيينة وقدم بهم على رسول الله، فجاء رجالهم ليفدوهم، فوافقوا رسول الله قائلا وصارت ذراريهم تبكي فجعلوا ينادون يا محمد أخرج إلينا، فخرج إليهم وحكم فيهم الأعور بن يشامّه من أهل دينهم بطلبهم، فحكم أن يعتق النّصف ويفادي النّصف، فرضي صلّى الله عليه وسلم ورضوا هم أيضا. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ» أي خبر سوء وهو المراد به هنا ويكون في الخير كما يكون في الشّر راجع الآية 94 من سورة النّساء المارة «فَتَبَيَّنُوا» أطلبوا البيان لذلك الأمر المخبر به ذلك الفاسق واستكشفوا حقيقته ولا تعتمدوا على قوله فتقعوا في الخطأ إذا نفذتم ما يقتضي لذلك الخبر، فإياكم أن تعجلوا في إنفاذه واحذروا عاقبته من «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ» فتضروهم قبل أن تقفوا على جلية أمرهم لما يلحقكم من الغضب الموجب للمسارعة بالانتقام فتندموا من حيث لا ينفع النّدم «فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ»
(6) إذ يتبين خطأكم. وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن(6/218)
أبي معيط إلى بني المصطلق بعد واقعتهم الملح إليها في الآية 8 من سورة المنافقين المارة، لأخذ صدقاتهم، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فخرجوا لملاقاته تعظيما لأمر الرّسول، فحدثته نفسه أنهم يريدون قتله، فرجع وقال يا رسول الله أرادوا قتلي، فغضب رسول الله وهمّ بغزوهم، ثم أنهم لمّا رأوا رسول الله رجع دون أن يصل إليهم أو يكلمهم، فطنوا لما كان بينه وبينهم من العداوة فأتوا المدينة، وقالوا يا رسول الله سمعنا بقدوم رسولك فخرجنا نتلقاه إكراما لك فبدا له الرّجوع قبل أن يلقانا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضبك، فلما سمع قولهم
والعداوة التي ذكروها زال منه بعض ما كان وبعث معهم خالد بن الوليد وقال له خفية عنهم انظر إذا رأيت ما يدل على أنهم مؤمنين فخذ منهم الزكاة وإلا فالسيف، فوافاهم مسمع أذان المغرب والعشاء ولم ير إلّا الطّاعة، فأخذ صدقاتهم وقدم بها على رسول الله وأخبره بالأمر الذي رآه منهم فنزلت وهي كالآيات قبلها عامة في معناها تأمر بالتريث والأناة وترك الاستعجال، والتثبت من الأخبار وعدم الاعتماد على قول الفرد مثل الوليد المذكور، الذي ظن غير ما في نية القوم وتوهم ما ليس يخطر ببالهم بسبب عداوة تصورها في قلبه كانت قبلا فمحاها الإسلام من قلوبهم فأخطأ عليهم بكلام وفعل لم يصدر منهم، ولولا تأتي حضرة الرّسول ومجيئهم إليه وإخبارهم بما وقع من رسوله لوقع فيهم ما لا يحمد ظلما. وإذا كان مثل الوليد يقع منه هذا الغلط عند رسول الله فغيره من باب أولى عند الغير ولا سيما في هذا الزمن الذي قل فيه الأمن وفقدت منه الثقة ومحي فيه الاعتماد وفقد الصدق، وإنما سماه الله تعالى فاسقا لأنه تسارع وأخبر بما لم يتحققه، فكان بعمله هذا خارجا عن الطّمأنينة متجاوزا حدود التأني، قائلا ما لم يسمع، وباهنا قوما غافلين عما خطر بباله. ألا فلينتبه العاقلون، ولينته الجاهلون عن التسرّع فيما ينقل إليهم، وليحققوا حتى لا يتسببوا لظلم البريء بإخبار فاسق، وليسمحوا مهما وجدوا طريقا الصّلح. واعلم أن لفظ فاسق يطلق على من تعدى الحدود وخرج عن ملاك الأمر. قال تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ» الواجب تعظيمه وتوقيره واحترامه، فاحذروا أن تخبروه بباطل فإن الله مولاه يطلعه على(6/219)
خبايا الأمور وما تكنه الصّدور فيفضحكم ويكشف ستركم ويظهر ضغائنكم «لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ» الذي تحدثونه به ويأخذ برأيكم دون تأن وتروّ «لَعَنِتُّمْ» أنمتم وهلكتم، ولكنه، لم يطعكم، وذلك أن بعض الناس زينوا لحضرة الرّسول الإيقاع ببني المصطلق بسبب إخبار الوليد بأنهم أرادوا قتله مع أن إخباره غير مرتكز على حقيقة، وناشىء عن سوء ظنه وعدم ترويه وتصوره ما لم يكن عند القوم من خوفه الذي استولى على قلبه وارجعه عن تنفيذ أمر الرّسول وسول له ما قاله له، وقد مدح الله حبيبه بقوله «وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ» فتربصتم، ولم تأخذوا بقوله المجرد العاري عن الصّحة، وفعلتم ما علمتم به من خطأ المختبر وصواب التروي والأناة في الأمر، لأن لإيمان الصّادق يمنع صاحبه من العجلة ويأمره بالتأني والمراد بتزيين الإيمان زيادته لأنه يزداد في كلّ لحظة عند المؤمن المخلص حسنا وثباتا ولا يسأم منه بخلاف سائر المحبوبات فإن السّأم قد يلحقها، مثله مثل كتاب الله كلما كررت قراءته ازداد قلبك رغبة فيه بخلاف سائر الكتب، قال الأبوصيري:
فلا تعد ولا تحصى عجائبها ... ولا تسأم على الإكثار بالسأم
يريد أن آيات الله تعالى لا توصف بالملل ومهما كررتها تزداد رغبة فيها على حد قوله:
يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا
«وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ» وهذه الجملة فيها من محسنات البديع المقابلة على حد قوله:
ما أحسن الدّين والدّنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس في الرّجل
لأنه قابل كره بحبّب، وزيّن، والفسوق والعصيان بالإيمان، وهذه الكلمات الثلاث جاءت بمقابلة الإيمان الكامل وهو ما اجتمع فيه ثلاثة أمور تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان فذكر جل ذكره بمقابله حبب إلخ ... وهو التصديق بالجنان، وذكر الفسوق الجامع لأنواع الكذب وغيره بمقابلة الإقرار باللسان وذكر(6/220)
العصيان بمقابلة العمل بالأركان، وعليه البيت قابل ما أحسن بقوله وأقبح، والدّين بالكفر والدّنيا بالإفلاس، لأن علم البديع كغيره من العلوم التي أخذت من القرآن العظيم فهو أصل لجميعها وهي فرع عنه قال تعالى «أُولئِكَ» الّذين حبب إليهم الإيمان فأحبوه وتمسكوا به فتغلغل في قلوبهم «هُمُ الرَّاشِدُونَ» (7) المهتدون إلى الأعمال الحسنة والأخلاق الكريمة الّذين يطيعون أوامر الله ورسوله ولا يقفون أمام أمره كخالد بن الوليد رضي الله عنه إذا تلقى أمر الرّسول برحابة صدره وذهب إلى القوم فوجدهم على غير ما عزي لهم فحقن الله دماهم وصان أصحاب الرسول من الوقيعة في إثم قتالهم لأنهم راسخون على إيمانهم وأن خروجهم لم يكن كما زعم الوليد بل احتراما لرسول الله الذي أرسله إليهم وتكريما له فكان تحبب الإيمان الذي منه التأني والتروي في الأمور وتكريه الكفر الذي فيه العجلة والمسارعة «فَضْلًا مِنَ اللَّهِ» لكم أيها المؤمنون «وَنِعْمَةً» عليكم زائدة على نعمه في تحسين أخلاقكم وتهذيب آدابكم وخيرا كثيرا وأدبا كريما «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بما بينهما من التفاضل العظيم «حَكِيمٌ» (8) فيما يفعل من تفضيل أناس على آخرين كما هو حكيم في جميع أفعاله وفي جملة تأديب الله تعالى نفوس عباده وتهذيبها قوله جل قوله «وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا» جمع الضّمير باعتبار معنى الطائفتين على حد قوله تعالى (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الآية 41 من سورة النمل ج 1 ولبحثها صلة في الآية 26 من سورة النّور المارة وما ترشدك اليه من المواضع.
مطلب في الصّلح ومراعاة العدل بين الطّرفين من قبل المصلحين والسّخرية والظّن والتجسس والغيبة والشّعوب وتفرعاتها:
ثم أمرهم جل أمره بما هو من شأن المؤمن وحق المسلم على المسلم بقوله «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما» أيها المؤمنون لأنّ في قتالهما نقصا من عددكم وإثارة لغرس العداوة فيكم والبغضاء التي يتوارثها الأبناء عن الآباء بينكم «فَإِنْ بَغَتْ» تعدت واستطالت «إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى» فلم تنتصح ولم تقبل الصّلح وأصرت على بغيها ومواصلة عداوتها «فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي» يا أيها الحكام وأديموا مقاتلتكم(6/221)
لها «حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ» وترجع عن غيها وتسلم لما في كتاب الله الموجود بأيديكم من الصّلح وإزالة الشّحناء وقطع مادة البغض «فَإِنْ فاءَتْ» عدلت ورجعت عن مواصلة العداء وجنحت للسلم «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ» الذي يحملها على الإنصاف والرّضى بحكم الله، ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما القتال لئلا يكون بينهما قتال آخر، لأن القتال الصّحيح يزبل حزار الصّدور ويمحو مادة الحقد، وإنما قيد الصّلح بالعدل ليعلم أنه بعد خضوعهما لحكم الله لا يجوز أن يميل المصلحون عليهما أو على أحداهما بسبب عدم قبولهما الصّلح مبدئيا، لأن تسليمها لأمر الله أزال ذلك وأوجب أن تعامل مع الفرقة المقابلة لها معاملة حقية متساوية، ولهذا أكد الله تعالى تلك الجملة بقوله «وَأَقْسِطُوا» أيها الحكام وولاة الأمور والمتوسطون بين النّاس بالصلح بينهما ولا يحملنكم عدم الرّضاء بالصلح أولا أن تحيفوا بهم أو تجوروا عليهم بل يجب عليكم أن تمحوا ذلك من صدوركم ولا تتحظروه بقلوبكم «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (9) في أحكامهم وأقوالهم وأعمالهم وسائر أمورهم. واعلم أن فعل أقسط ضد فعل قسط راجع الآية 23 من سورة الجن في ج 1 ثم بين المادة الموجبة للعدل بقوله «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» في الدّين والولاية لا فضل لأحد على أحد إلّا بالتقوى فإذا تنازع هؤلاء الاخوة «فَأَصْلِحُوا» أيها الاخوان المؤمنون «بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ» المختلفين وهذه الجملة تقرير للأمر بالصلح بين المتقاتلين ثم أكد تحذيرهم من الميل لطرف دون آخر بقوله «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أن ترجحوا أناسا على آخرين ولو كانوا أولي قربى منكم وأحسنوا نيتكم بالإصلاح بين النّاس كلهم وعاملوهم سواسية «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (10) من قبل الله فتنالوا رحمته الواسعة التي حملتكم على التدخل بالإصلاح بين إخوانكم رحمة بكم وبهم من أن يتجاوز أحدهما على الآخر أو يأخذ ماله بغير وجه شرعي لأن الجزاء من جنس العمل. أخرج به جرير عن السّدى قال. كان رجل من الأنصار يقال له عمران تحته امرأة يقال لها أم زيد، فأرادت أن تزور أهلها، فحبسها في علية، فبعثت إلى أهلها فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها، وكان الرّجل قد خرج فاستعان بأهله، فجاء بنو عمهم ليحولوا بين المرأة وأهلها فتراجعوا(6/222)
واجتلدوا بالنعال، فنزلت فيهم هذه الآية. وقال قتادة نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مماراة بحق فقال أحدهما للآخر لآخذن حقي منك عنوة لكثرة عشيرته، فتدافعوا بينهم وتناولوا بعضهم فنزلت. وكلّ هذا جائز لأن يكون سببا للنزول، لأن الآية عامة في جميع المسلمين وحكمها باق إلى يوم القيامة، وكذلك الآية التي بعدها فهي عامة في كلّ من يقع منه شيء مما نهى عنه فيها وفي كل الآيات لأن العبرة لعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب. أما ما رواه البخاري ومسلم عن أنس قال: قيل للنبي صلّى الله عليه وسلم لو أثبت عبد الله بن أبي الحديث إلى أن قال فبلغنا أنها نزلت فيهم. وما روياه عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ركب على حمار إلى أن قال: وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن سلول قبل واقعة بدر فلا يصحان أن يكونا سببا للنزول. ومما يدل على ضعف القول الأوّل كلمتا قيل وبلغنا المشيرتان إلى توهين الرّواية، وعلى ضعف الثاني أنه قبل إسلام عبد الله لأن هذه نزلت بعد إسلامه بكثير وعبد الله منافق لم يزل على نفاقه وما كان إسلامه إلا صوريّا ومات على نفاقه كما أشرنا إليه آخر سورة المنافقين، وهو أحقر من أن ينزل الله فيه قرآنا أو يسميه مؤمنا، وقد تسامح من عدّ ما جاء في هذين الحديثين سببا للنزول، لأن هذه الآية متأخرة عن حادثة بن سلول المارة في سورة المنافقين فظهر أنها نازلة في طائفتين من المؤمنين وفي اقتران هذه الآية بالشرط إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يصدر القتال من المؤمنين لا أن ذلك لم يقع، بل وقع حقيقة، وإن المقاتلة تستعمل مجازا المضاربة ولم تزل تستعمل لغة حتى الآن يقول الرّجل لابنه
وغيره لأقتلك وهو يريد أضربك، لا القتل بمعنى الذبح، من لفظ البغاة يطلق على الخارجين على الإمام والحكم فيهم أن يرسل الإمام إليهم من ينصحهم ويكشف شبهتهم ويقف على الأسباب الدّاعية لخروجهم ويدعوهم إلى الطّاعة والانقياد لحكم الله، وإذا علم عذرا بخروجهم من ظلم ونحوه وجب على السّلطان إزالته، فإن لم يكن شيء من ذلك ولا شبهة لهم في شيء من أمر الدّنيا أيضا وأصروا على بغيهم بقصد قلب الحكم أو الانحياز لدولة أخرى فله أن يقاتلهم حتى يركنوا إلى الطّاعة ويسلموا تسليما مطلقا. واعلم أن قتال الخوارج يمتاز على قتال الكفار بثلاثة أمور، أن لا يتبع مدبرهم إذا هرب، ولا(6/223)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
يقتل أسيرهم إذا استسلم، ولا يذقف أي لا يجهز على جريحهم بأن يقتل أو يضرب مرة أخرى ليموت بل يترك وشأنه حتى يشفى أو يموت.
ومن جملة ما أدب الله به هذه الأمة وهذبها وحسن أخلاقها هو قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ» عند الله وبعض خلقه وعدم معرفتكم بالأخيرية لا يكفي «وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ» من حيث لا يعلم السّخر فضيلة المسخور منه، وقد يعرفها غيره، قال عليه السّلام إن أحدكم ليرى القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه «وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ» لا تطغوا ولا تحضروا أو تعيبوا بعضكم بعضا ولو بالاشارة أو الرّمز، لأن من عاب أخاه فقد عاب نفسه، ولا يخلو أحد من عيب، فكيف يعيب المعيب غيره؟ ورحم الله امرأ شغله عيبه عن عيوب النّاس راجع أول السّورة الهمزة في ج 1. قال ابن عباس جاء ثابت بن قيس بن شماس حتى انتهى إلى حضرة الرّسول، فقال لرجل كان بينهما تفسح، فقال له الرّجل أصبت مجلسا فاجلس، فسئل عنه فقال الرّجل أنا فلان، فقال له ثابت بن فلانة وذكر أما له كان يغيرها في الجاهلية، فاستحى الرّجل ونكس رأسه، فنزل أول هذه الآية وقال أيضا أن حفصة رضي الله عنها قالت إلى صفية بنت حيي رضي الله عنها، يهودية بنت يهوديين، قال أنس فشكتها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال لها، إنك لابنة نبي، يريد اسحق عليه السّلام، وإن عمك لنبي يريد إسماعيل عليه السّلام وإنك لتحت نبي يريد نفسه صلّى الله عليه وسلم، فكيف تفتخر عليك؟
فنزل الشّطر الثاني منها. وقال جبير بن الضّحاك قدم علينا رسول الله وليس منا رجل إلّا وله اسمان او ثلاثة، فجعل رسول الله يقول يا فلان فيقولون يا رسول الله إنه يغضب من هذا الاسم فنزل آخرها وهو قوله تعالى «وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ» أي لا يدعون أحد أخاه بلقبه الذي يكرهه ولا ينبغي ان يقال لكتابي أسلم يا يهودي يا نصراني، وكذلك غير الكتابي فلا يقال يا مشرك يا مجوسي يا بوذي يا صابئي لقوله تعالى «بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ» لكل أحد ويكون أشد قبحا شؤما وأعظم وزرا إذا كان «بَعْدَ الْإِيمانِ» لأن المؤمن لا يليق ان(6/224)
يدنس إيمانه بما يؤثمه عند ربه، وإذا وقع منه فعليه ان يسارع للاستغفار والاستسماح ولهذا قال تعالى «وَمَنْ لَمْ يَتُبْ» بعد هذا النّهي فيسخر من أخيه أو يسميه بما يكره أو يعيبه او يحقره فيكون مخالفا لأمر الله في ذلك، وإذا كان له اسمان فليسمه بأحبهما إليه، ولذلك أتيهم الله بقوله «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (11) أنفسهم بتعديهم عليها ومخالفتهم أمر الله تعالى وتجاوزهم على إخوانهم لأن من يسمى بما يكره فكأنما عيّره وعابه، ومن عيّر أخاه فقد ظلم نفسه واستحق العقاب على او العتاب على ذلك وكذلك كلّ ما يحزن المسلم من قول او فعل وعليه ان يسره فمن حسن إسلام المرء إدخال السّرور على أخيه المؤمن، ومن جملة تأديب الله تعالى عباده والسّير بهم الى المثل الأعلى قوله جل قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ» يوقع صاحبه بالسوء ويستحق العقوبة عليه وإذا كان بعضه إثما فعليه ان يتباعد عنه كله لأنه لا يعرف الذي يأثم به منه، وينبغي أن يظن خيرا أو يترك لئلا يقع فيما يكره أو يثلب ولهذا قال تعالى «وَلا تَجَسَّسُوا» على عيوب النّاس ولا تتبعوا عوراتهم التي سترها الله عليهم فتفضحوهم والله يحب السّتر، وجاء عنه صلّى الله عليه وسلم من كشف ستر أخيه كشف الله ستره «وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» بما فيه وبما ليس فيه لاطلاق النّص، فليقل أحدكم خيرا أو ليصمت. وتوجد أشياء مستثناة من هذه الآية سيأتي ذكرها بعد. ثم إن الله تعالى لما مثل لخلقه ما يناله المعتاب من عرض أخيه بقوله «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً» كأنهم قالوا لا يحب أحدنا ذلك، فلما استجوبهم واعترفوا بأن أحدا لا يحب جيفة أخيه بغير ضرورة وأنه لا يمكنهم إنكار كراهيته. قال تعالى «فَكَرِهْتُمُوهُ» كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء «وَاتَّقُوا اللَّهَ» فلا تغتابوا أحدا بما يكره، ولا تجسسوا عليه، ولا تظنوا فيه سوء، وإن ما وقع منكم قبل صدور هذا النّهي توبوا منه ولا تعودوا إليه «إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ» على من تاب يقبل توبته ويعفو عنه «رَحِيمٌ» (12) بعباده يبين لهم مضارهم ومنافعهم ويرشدهم إلى ما فيه خيرهم.
قيل إن رجلين من الأصحاب أرسلا سلمان الفارسي إلى حضرة الرّسول ليطلب لهم(6/225)
طعاما فأرسله الرّسول إلى خادمه أسامة بن زيد، فذهب فقال ما عندي؟ فرجع سلمان وأخبرهما فقالا بخل أسامة، ثم أرسلاه لمكان آخر فلم يأتيهما بشيء، فقالا لو بعثناه إلى بئر معونة لغار ماؤها، فانطلقا يتجسسان على أسامة هل عنده شيء أم لا، فلما جاءا إلى رسول الله قال لهما مالي أرى خضرة اللّحم في أفواهكما؟
قالا يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحما، قال ظللتما تأكلون لحم سلمان وأسامة، فأنزل الله هذه الآية. وهي عامة لم تقيدها هذه الرّواية ولم يخصصها شيء غيرهما، وباق لحكمها ما بقيت الدّنيا. وإنما مثل تعالى باللحم وخصه بالأخ ليكون آكد في المنع والكراهية، لأن العدو قد يحمله الحق على أكل لحم عدوه كما فعلت هند بحمزة رضي الله عنه، ويكون اللّحم على أكل لحم عدوه كما فعلت هند بحمزة رضي الله عنه، ويكون اللّحم ميتا لأنه أبلغ في الزجر لأن النّفس مهما كانت مضطرة لا تميل إليه بخلاف المذبوح. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إياكم والظّن، لأن الظّن أكذب الحديث، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا التقوى هاهنا التقوى هاهنا (كررها صلّى الله عليه وسلم ثلاثا وفي كلّ منها يشير إلى صدره الشّريف، يؤمن بذلك إلى التقوى بالقلب لا بشقشقة اللّسان، لأن الله ينظر إلى القلب لا إلى الصّورة) بحسب امرئ من الشّر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله، إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم. واعلم أن الحكم الشّرعي في هذا هو أنه يحرم على الرّجل أن يغتاب أخاه أو يسمع إلى حديثه بقصد التجسس عليه وأن يظن به سوءا، ومن أكبر الكبائر وأفظعها التجسس على المسلمين وإفشاء أسرارهم الحربية إلى أعدائهم أو إلى من يوصل إليهم، ويسن للرجل أن يستر ما يراه من عيوب إخوانه روى مسلم عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال لا يستر عبد عبدا في الدّنيا إلّا ستر الله عليه يوم القيامة. وروي عنه قال أتدرون ما الغيبة؟ قلت الله ورسوله أعلم، قال ذكرك أخاك بما يكره، قلت وإن كان في أخي ما أقول؟ قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فقد بهته. وأخرج ابو داود والترمذي عن عائشة قالت(6/226)
قلت للنبي صلّى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا تعني قصرها، فقال لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته. فقال ما أجب أني حكيت له إنسانا ولي كذا وكذا، ومعنى حكى شبّه الشّيء بغيره فيما يمدح أو يذم، والظّاهر أن المراد هنا الذم. وأخرج أبو داود عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم ولحومهم وصدورهم، فقلت من هؤلاء يا جبريل؟
قال هؤلاء الّذين يأكلون لحوم النّاس ويقعون في أعراضهم. هذا، وما ورد: احترسوا على أموالكم بسوء الظّن، وإن سوء الظّن من أزكى الفطن، هذا مما يعود لنفس الظّان، لأن من يريد أن يدين أحدا دينا أو يزوجه بنتا أو يعقد معه عقدا فله التبصر بحاله. قال تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) الآية الخامسة من سورة النساء المارة، فراجعها ففيها ما تريده في هذا البحث، ومن أين يعرف السّفيه من غيره إذا لم يحصل له الظّن الموجب للتحقيق عن حاله فهذا من الظّن الجائز حفظا لنفس الرّجل وماله من أن يقع بغير موضعه، وبنت الرّجل من ماله ووضعها عند من يكرمها خير من وضع المال عند من يرده، وقد ورد: النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته. فيكون التبصر بشأنها ألزم من غيره، وكذلك يجوز التجسس لمعرفة حال من يريد أن يدينه أو يزوجه، وأحسن انواع التجسس هو ما يعود لحفظ جيش المسلمين من العدو والتوصل لمباغتة داره وجنده، لأن حضرة الرّسول كان يرسل العيون في الغزوات ويقول الحرب خدعة، وأقبحه من يتجسس على المسلمين ليوصل أخبارهم لعدوهم فهذا ممن يخون الله ورسوله والمسلمين اجمع، وكذلك يجوز غيبة الفاسق المجاهر بفسقه بقصد ردعه وعدم اغترار النّاس فيه لما جاء في الحديث الصّحيح: أذكروا الفاجر بما فيه يحذره النّاس. وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 35 من سورة الإسراء ج 1 فراجعها قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا» فيما بينكم لا لتفاخروا والشّعوب رءوس القبائل مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج، والقبائل ما تشعب منها كبكر من ربيعة وتميم من مضر، والعمائر متفرعة من القبائل كشيبان من بكر ودارم من تميم، والبطون من العمائر كبني(6/227)
لؤي وغالب من قريش، والأفخاذ من البطون كبني هاشم وبني أمية من لؤي، والفضائل من الأفخاذ كبني العباس من هاشم، والعشائر من الأفخاذ أيضا، والبيت من العشيرة فتقول بيت فلان من عشيرة فلان ومن فخذ فلان إلخ وليس بعد هذا شيء يوصف أو ينسب إليه إلّا الجد، وكلّ من هؤلاء مهما بلغوا من العلو والكثرة في العدد والثروة لا ينبغي أن يتفاضل به إذا كان خاليا من تقوى الله القائل «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» فلا تفاخر ولا تفاضل بين الناس في الدّنيا إلّا بها، لأنها تستوجب الكرامة من الله عند الله في الآخرة لا بالأنساب ولا بالمكاثرة «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ» بأنسابكم وتكاثركم وغناكم لا حاجة لأن يتطاول بها بعضكم على بعض «خَبِيرٌ» (13) بالأفضل عنده الذي يستحق كرامة. وعندكم الذي يستوجب احترامكم لما قال ثابت بن قيس للرجل الذي لم يفسح له بين فلانة كما مر في الآية 11، قال صلّى الله عليه وسلم أنظر في وجوه القوم فنظر فقال ما رأيت يا ثابت؟ قال رأيت أبيض وأحمر وأسود، قال فإنك لا تفضلهم إلا بالدين والتقوى فنزلت هذه الآية. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي النّاس أكرم؟ قال أكرمهم عند الله أتقاهم، قالوا ليس عن هذا نسألك، قال فأكرم النّاس يوسف نبي الله بن يعقوب نبي الله بن اسحق نبي الله بن خليل الله، قالوا ليس عن هذا نسألك، قال عن معادن العرب تسألون؟ قالوا نعم قال خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا. أي تعلموا أحكام الشّرع، فإذا لم يفقه الخيار انحطت درجتهم عن غيرهم فالعبد التقي خير من الشّريف الشّقي والسّوقة العالم خير من الحسيب الجاهل، فالعاقل لا يترك التقوى اتكالا على النّسب.
فقد رفع الإسلام سلمان فارس ... وقد وضع الشّرك الحسيب أبا لهب
ولما قدم نفر من بنى أسد وأظهروا الإسلام لرسول الله وصاروا يمنّون عليه بقولهم أتتك العرب على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كغيرنا وطلبوا منه الصّدقة وكانت سنة مجدبة، فأنزل الله «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ» لهم يا سيد الرّسل «لَمْ تُؤْمِنُوا» إيمانا حقيقيا «وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا»(6/228)
أي استسلمنا مخافة الهلاك من الجدب والجلاء والسّبي والقتل ولو كان إيمانكم كاملا لما مننتم به عليّ «وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» دخولا حقيقيا حتى الآن ولم تخلصوا فيه إخلاصا صادقا مع انه لنفعكم «وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ظاهرا وباطنا طاعة لا تريدون بها إلّا وجه الله و «لا يَلِتْكُمْ» ينقصكم الله «مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً» بل يجزيكم ثوابها كاملا ويزيدكم من فضله «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما بدر منكم «رَحِيمٌ» (14) بجميع عباده يريد لهم الخير ومن الخير عدم المنّة بالإسلام، لأن المنّة لله الذي اختاركم إليه ولرسوله الذي أرشدكم إليه قال تعالى «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» إيمانا خالصا لا لغرض ولا لعوض، ولم يقصد به إلّا ابتغاء وجه الله «ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا» في أمر دينهم كله «وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» (15) بإيمانهم لأنهم أيدوه بالجهاد مالا وبدنا، ولا دليل أصدق على الإيمان من الاقتداء بالله ورسوله، والاقتداء بالنفس والمال، فلما نزلت هاتان الآيتان أتوا إليه وحلفوا أنهم صادقون بإيمانهم، وقد علم الله منهم غير ذلك فأنزل جل إنزاله «قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ» الذي أنتم عليه وهو خلاف ما تقولون، فلا تكتموا ما في قلوبكم على الله «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» وأنتم من جملة من فيها «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (16) لا يحتاج إلى أخباركم، فيعلم الصّادق من الكاذب، والمخلص من المنافق، ويخبر رسوله بذلك فيذكره لكم على رؤوس الأشهاد. قال تعالى «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ» يا سيد الرّسل «أَنْ أَسْلَمُوا» بقولهم المار بصدر الآية 14 «قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (17) بإيمانكم ولكنكم كاذبون به «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» لا يخفى عليه شيء مما يقع فيها ومن ما فيها وفوقهما وتحتهما «وَاللَّهُ بَصِيرٌ» بدقائق الأمور خبير «بِما تَعْمَلُونَ» (18) سرا وجهرا، روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلم رهطا وأنا جالس، فترك منهم رجلا هو أعجبهم إلي فقلت مالك عن فلان والله أني لأراه مؤمنا؟(6/229)
فقال صلّى الله عليه وسلم أو مسلما، ذكر ذلك سعد ثلاثا وأجابه بمثل ذلك، ثم قال اني لأعطي الرجل وغيره أحبّ إليّ منه خشية أن يكبّ في النّار على وجهه. الحكم الشّرعي:
يعتبر كلّ من نطق بالشهادتين من الجن والإنس مسلما ويعامل معاملة المسلمين ويدفن في مقابرهم، وليس لنا أن نقول له انك لست بمؤمن، لأن العبرة للظاهر وأمر الباطن مفوض الى الله، ولم يقل الرّسول ما قال إلّا بإخبار الله إياه، أما نحن فليس لنا ذلك، كما أنه لو فرض أن هناك مؤمنا سرا ولم يعلن إسلامه ولم ينطق أمام أحد بالشهادتين، قال نعامله معاملة المسلمين ولا ندفنه في مقابرهم، وعدم معاملتنا له لا تضره واعلم أن الإسلام والإيمان واحد عند أهل السّنة والجماعة دون خلاف، ومنهم جعل الإسلام غير الإيمان، ومنهم على العكس مستدلا بحديث جبريل عليه السّلام إذ فرق فيه بين الإسلام والإيمان. والإسلام لم يقرّ فيه الزيادة والنّقص بخلاف الإيمان، راجع الآية الثانية من سورة الأنفال المارة وما ترشدك إليه في هذا البحث، وله صلة آخر سورة التوبة الآتية. ومنهم من جعل هذا الاختلاف بالتعبير فقط، وهو أن تعلم أن بين العام والخاص فرقا، فالإيمان لا يحصل إلّا بالقلب، والإسلام الذي هو الانقياد قد يحصل بالقلب وقد يحصل باللسان، وعليه فإن الإسلام أعم والإيمان أخص، لأن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص ولا يكون أمرا غيره، فالعام والخاص مختلفان في العموم والخصوص، متحدان في الوجود، فذلك المؤمن والمسلم. هذا، وإن البغاة المار ذكرهم في الآيتين 9 و 10 المارتين الّذين قال فيهم العلماء إن البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأن الله تعالى سماهم مؤمنين مع كونهم باغين، يدل على هذا ما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو القدوة في قتال أهل البغي، وقد سئل عن أهل الجمل وصفين المشركون هم فقال لا، إنهم من الشّرك فرّوا، فقيل أمنافقون هم؟ فقال لا، إن المنافقين لا يذكرون الله إلّا قليلا (أي وهؤلاء يكثرون من ذكر الله تعالى) فقيل ما هم إذا قال إخواننا بغوا علينا. والباغي في الشرع هو الخارج على الإمام العدل، فإذا اجتمعت طائفة لهم قوة ومنعة فامتنعوا عن طاعة الإمام العدل بتأويل محتمل ونصبوا لهم، إماما يرجعون اليه مع وجود(6/230)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
الإمام الذي خرجوا عن طاعته فالحكم فيهم هو ما تقدم آخر الآية العاشرة المارة ص 425 فراجعها تقف على ما تريد مما يجب أن يعاملوا به مما هو موافق للشرع الاسلامي. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدّين، وعلى من تبعهم بإحسان والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة التحريم عدد 21- 107 و 66
نزلت بالمدينة بعد الحجرات، وهي اثنتا عشرة آية، ومئتان وسبع وأربعون كلمة، والف وستون حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها، ومثلها في عدد الآي سورة الطّلاق وتقدم بيان السّور المبدوءة بما بدئت بها في سورة الأحزاب، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ» من النّساء «تَبْتَغِي» بذلك التحريم «مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ» لما وقع منك في ذلك «رَحِيمٌ» (1) بك يحل لك ما تحرم على نفسك.
مطلب في اثبات قصة التحريم وتفنيد الرّوايات فيها لأن الله تعالى لم يبين ما هو الذي سرّه الرّسول صلّى الله عليه وسلم لزوجاته:
روى البخاري ومسلم عن عائشة أن النّبي صلّى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا قالت فتواطأت أنا وحفصة إن أتانا ودخل علينا النّبي صلّى الله عليه وسلم أن نقول هل إنا نجد منك ريح مغافير، فدخل على إحداهما فقالت له أكلت مغافير- هو صمغ حلو له رائحة كريهة ينضجه شجر المعرفط وهو نبات له ورق عريض يفرش على الأرض له شوكة وثمرة خبيثة الرّائحة- فقال بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود إليه وفي رواية قد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا فنزلت هذه الآية. وما قيل من أن هذه الآية في قضية مارية حينما واقعها حضرة الرسول في بيت حفصة أو في بيت عائشة المذكورة في الصّحيحين فلم تأت من(6/231)
طريق صحيح، والأخبار فيها متعارضة، لأن رواية ابن عباس في بيت حفصة وما نقله الكشاف أنها في بيت عائشة، وفي رواية أنس التي أخرجها الحاكم والنّسائي لم تعين الأمة ولا البيت، وإنما ذكرا فيها أن عائشة وحفصة لم تزالا برسول الله حتى جعلهما حراما على نفسه. قال النّووي في شرح مسلم الصحيح أن الآية في قصة العسل لا في قصة مارية. وقال الخافجي نقلا عنه، الصواب أن شرب العسل كان عند زينب خلافا الحديث المروي في الصّحيحين عن عائشة أيضا بأن العسل شربه عند حفصة وإن عائشة وسودة وصفية تواطأن عليه بذلك، أي اتفقن فيما بينهن على ذلك القول، لأن الخطاب في الآية إلى اثنتين لا إلى ثلاثة. وقال الطيبي فيما نقله عن الكشاف من أنه صلّى الله عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت ذلك حفصة، فقال لها اكتبي عليّ، وقد حرمت مارية على نفسي، وأبشرك بأن أبا بكر وعمر سيملكان بعدي أمتي. ما وجدته في الكتب المشهورة فضلا عن تضاربها واختلاف رواتها واضطرابهم بالاسم والزمان والمكان، ولا أراها إلّا موضوعة أو ملفقة فلا عمدة على شيء فيها، ولهذه الأسباب اعتمدنا الرّواية الأولى الثابتة في الصحيحين والتي لا طعن فيها، تأمل قال تعالى «قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ» بأن أوجب عليكم كفارة لتحليل يمينكم. وإنما جمع الضّمير تضخيما لسيد المخاطبين وإعلاما بأن هذا الحكم ليس له وحده بل لأمنه أيضا «وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ» جميعا وناصركم ومغيثكم ومؤيدكم «وَهُوَ الْعَلِيمُ» بما يقع منكم «الْحَكِيمُ» (2) يحلل ويحرم ويرخص في الأمور وقد يسر عليكم في كفارة الأيمان وسهلها لكم رحمة لكم. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال إذا حرم الرجل امرأته فهو يمين يكفرها، وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
وفي رواية إذا حرم امرأته ليس بشيء. والحكم الشّرعي فيها لو قال أنا عليك حرام ونوى الطّلاق يقع، ولو قال أنا حرام ولم يقل منك وعليك لا يقع، وإن نوى ولو قال لامرأته مرتين أنت علي حرام ونوى بالأول الطّلاق وفي الثانية اليمين فهو على ما نوى. راجع بحث الكنايات في فتاوى الهندية والبزّازية والخانية والأنقروي وغيرها من كتب الفتاوى والفقه كالدرر والدّر وغيرها. قال تعالى مبينا القصة(6/232)
التي هي سبب التحريم «وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً» لم يذكره الله ما هو، والمجمع عليه أنه قصة شرب العسل عند زينب وحلفه أو تحريم مارية، أو أمر الخلافة على ما مرّ لك، وقوله لحفصة أنه لا يعود إليه كما أنه تعالى لم يذكر التي أسر إليها إلّا أن أكثر الأخبار تدل على أنها حفصة، ولذلك خصصناها بالذكر والله أعلم «فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ» أخبرت حفصة عائشة بالأمر الذي علمته «وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ» بان أطلعه على اخبارها واتفاقها مع عائشة على مسألة المغافير المارة، وقد «عَرَّفَ بَعْضَهُ» إلى حفصة بأن قال لها إنك قلت لعائشة كذا وكذا مع اني نهبتك ان تبوئي بما قلته لك من شرب العسل وغيره «وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ» وهو قوله إني حلفت فلا تخبري أحدا فلم يقله لها، ولم يؤنبها عليه، إلا أنه غضب من افشائها ما أسره لها، مع أنه أمرها بكتمانه وهمّ بطلاقها، فأتاه جبريل وقال له لا تطلقها فإنها صوامة قوامة، وانها من نسائك في الجنّة. وهذا وان كان ليس بشيء إلّا أنه بالنسبة لمقام حضرة الرّسول شيء عظيم، كما أن ما يقع منهن لو وقع من الغير لما سمي ذنبا البتة، ولكن الأنبياء يعدونه كبيرا بالنسبة لمقامهم من الله عز وجل، على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين. قال تعالى «فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا» النبأ الذي ذكرته مع أنه لم يطلع عليه أحد إلّا أنا وعائشة «قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ» 3 بكل ما يقع في ملكه، قبل لما بلغ ذلك عمر وظن أن حضرة الرّسول طلقها قال لها لو كان في الخطاب خير لما طلقك رسول الله. قال تعالى «إِنْ تَتُوبا» على طريق الالتفات وهو أبلغ من المعاتبة، والخطاب لعائشة وحفصة لأنهما اللّتان تواطأتا على ذلك كما مر آنفا وترجعا «إِلَى اللَّهِ» عما وقع منكما من الاتفاق والتعاون على أذى حضرة الرّسول وعلى كتمان ما يأمر كنّ بكتمانه، لأنه الواجب عليكما طلبا لرضائه، لأن الله تعالى يغفر لكما ما بدر منكما، لأن ما تواطأتما به عليه «فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما» به أي زاغت ومالت هما هو الواجب عليكما من الإخلاص لحضرته بأن تحبا ما يحبه وتكرها ما يكرهه، وامتثال أمره مهما كان، وقد وجد منكما ما يوجب التوبة وهو ميل قلوبكما عن الامتثال لما أراده منكما(6/233)
لأن ذلك مخالفة لحضرته تستوجب العقوبة، وهي إثم تجب التوبة منه عليكما، لأن طاعته واجبة، ثم هددهما بقوله «وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ» وتتعاونا بما يسوءه قولا وفعلا «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ» وحافظه من كيدكن وناصره عليكما وعلى كلّ من يناوئه «وَجِبْرِيلُ» وليه أيضا «وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ» أوليائه وفي طليعتهم أبواكما ينصرانه عليكما «وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ» النصر والتولي من الله وجبريل وكلّ مخلص من المؤمنين والملائكة الكرام «ظَهِيرٌ» (4) له على كلّ من يناوئه فما يغني تظاهركما عليه. واعلمن أيها النّساء كلكن إذا أصررتن على ما أنتنّ عليه فمصيركن الهلاك فبادرون بالندم وأسرعن بالتوبة مما وقع منكن واسترضينه، فإذا رضي عنكما فلعل ربّه أن يقبل توبتكما وإذا أصررتما فما تدريان «عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ» لأن تصييركن بوجودكن عنده وفضلكن بما نلتنه من قربه، فإذا طلقكن زالت منكن تلك الصّفات ولم يبق لكن فضل على غيركن. ثم وصف النّساء اللاتي يبدلهن بهن بأنهن «مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ» مهاجرات وقيل صائمات لأن السّائح لا زاد له فشبه بالصائم «ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً» (5) وهذا من باب الإخبار عن القدرة لا عن الكون، لأنه قال إن طلقكن وقد علم أنه أنه لا يطلقهن، فأخبر عن قدرته بأنه إذا طلقهن أبدله خيرا منهن تخويفا لهن.
مطلب استئناس عمر رضي الله عنه مع حضرة الرّسول وما قاله ابو رواحة إلى زوجته حتى تخلص مما اتهمته به:
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين في أزواج النّبي صلّى الله عليه وسلم اللّتين قال الله عز وجل فيهما إن تتوبا إلى الله فقد إلخ حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان بعض الطّريق عدل وعدلت معه بالأدواه الرّكوة التي فيها ماء، والعدول هو الميل إلى جانب الطّريق الملوك والبراز محل قضاء الحاجة، فتبرز ثم اتاني، فصببت على يديه فتوضأ فقلت يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النّبي صلّى الله عليه وسلم اللّتان قال الله فيهم إن تتوبا إلخ؟
قال عمر ووا عجبا لك يا ابن عباس قال الزهري كوه منه ما سأله عنه ولم يكتمه،(6/234)
قال هما عائشة وحفصة، ثم أخذ بسوق الحديث قال كنا معشر قريش قوما نغلب نساءنا، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، قال وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي (هي أماكن بأعلى أراضي المدينة جمع عالية) فغضبت يوما على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر أن أراجعك، فو الله ان أزواج النّبي صلّى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى اللّيل، فانطلقت فدخلت على حفصة، قلت أتراجعن رسول الله، فقالت نعم، فقلت أتهجره إحداكن اليوم إلى اللّيل، قالت نعم قلت لقد خابت من فعلت ذلك منكن وخسرت أفتأمنّ إحداكن أن تغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت رسول الله ولا تسأليه شيئا وسلي ما بدا لك، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أو سم (أكثر حسنا وجمالا) وأحب إلى رسول الله منك (يريد عائشة) ، وكان لي جار من الأنصار، فكنا نتناوب النّزول إلى رسول الله فينزل يوما فيأتيني بخبر الوحي، وأنزل يوما وآتيه بمثل ذلك، وكنا نتحدث ان غسان تبعث الخيل لتغزونا، فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته ثم أتاني عشاء فضرب بابي ثم ناداني، فخرجت إليه، فقال حدث أمر عظيم، قلت ماذا حدث أجاءت غسان؟ قال بل أعظم منه وأهول طلق رسول الله نسائه، قلت قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون، حتى إذا صليت الصّبح شددت علي ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت أطلقكن رسول الله؟ قالت لا أدري ها هو ذا معتزل في هذه المشربة (الغرفة والعلية ولها معان ليست مرادا هنا) فأتيت غلاما له أسود، فقلت استأذن لعمر، فدخل ثم خرج، فقال قد ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المشربة، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست قليلا، ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام، فقلت استأذن لعمر، فدخل ثم خرج فقال ذكرتك له فصمت، فوليت مدبرا، فإذا الغلام يدعوني فقال أدخل فقد أذن لك، فدخلت فسلمت على رسول الله، فإذا هو متكىء على رمال حصير (أي حصير مضفور، من رملت الحصير إذا ضفرته أي ليس له وطاء غيره) قد أثر في جنبه، فقلت أطلقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إلى فقال لا، فقلت الله أكبر لو رأيتنا يا رسول الله قد كنا معشر قريش نغلب النّساء، فلما قدمنا(6/235)
المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فغضبت على امرأتي يوما فإذا هي تراجعني فأنكرت إذا راجعتني، فقالت ما تنكر أن أراجعك، فو الله إن أزواج النّبي يراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى اللّيل، فقلت قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت، فتبسم صلّى الله عليه وسلم، ثم قال عمر فدخلت على حفصة فقلت لا يغرنك أن جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله منك، فتبسم أخرى، فقلت استأنس يا رسول الله؟ قال نعم، فجلست فرفعت رأسي في البيت، فو الله ما رأيت فيه ما يرد البصر إلّا أهبة (جمع أهاب وهو الجلد) ثلاثة، فقلت يا رسول الله أدع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والرّوم وهم لا يعبدون الله فاستوى جالسا ثم قال أفي شك أنت يا ابن الخطاب، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدّنيا، فقلت استغفر لي يا رسول الله وكان أقسم لأن لا يدخل عليهن شهرا من أجل ذلك الحديث الذي أفشته حفصة لعائشة من شدة موجدته أي غضبه الشّديد عليهن حتى عاتبه الله، قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة قالت لما مضت تسع وعشرون دخل علي رسول الله بدأ بي، فقلت يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل شهرا وإنك دخلت في تسع وعشرين ليلة أعدهن، قال إن الشّهر يكون تسعا وعشرين، وفي رواية قلت يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكال وأنا وأبو بكر والمؤمنون، فنزلت هذه الآية. هذا ويعلم من قوله تعالى إذ أسرّ إلخ جواز أسرار بعض شأن الرّجل لزوجته أو صديقه ممن يأتمنه ويعتمد عليه، ويلزم ذلك المسر اليه الكتمان. وتشير هذه الآية إلى لزوم حسن معاشرة الزوجة والتلطف بعتابها
عند تقصيرها، ونؤمى أيضا إلى الإعراض عن زلتها. روي أن عبد الله بن رواحة أحد النّقباء كانت له جارية فأتهمته زوجته أنه واقعها حيث رأته معها فأنكر عليها ذلك تعريضا، فقالت له إن كنت صادقا فاقرأ القرآن فأنشد:
شهدت فلم أكذب بأن محمدا ... رسول الذي فوق السّموات من على
وان أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل في دينه متقبل(6/236)
وان التي بالجزع من بطن نخلة ... ومن دانها كلّ عن الخير معزل
قالت زدني، فأنشد:
وفينا رسول الله نتلو كتابه ... كما لاح معروف من الصّبح ساطع
أتى بالهدى بعد العمى فنفوسنا ... به موقنات إن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا رقدت بالكافرين المضاجع
فقالت زدني أيضا، فأنشد:
علمت أن وعد الله حق ... وان النّار مثوى الكافرينا
وان محمدا يدعو بحق ... وان الله مولى المؤمنينا
وان العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة كرام ... ملائكة الله مسوّمينا
فقالت أما وقد قرأت اكثر من ثلاث آيات من القرآن فقد صدقت وصدق الله وكذب بصري. وهذا من كمال يقينها رحمها الله ورحم زوجها، وذهب بالحال وأخبر رسول الله بذلك كله فتبسم صلّى الله عليه وسلم وقال خيركم خيركم لنسائه. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ» بأن تنهوهم عما نهى الله عنه وتأمروهم بما أمر به وتعلموهم ما ينفعهم ويضرهم من أمر الدّين وما لهم وما عليهم من الحقوق لله ولخلقه وخاصة أزواجكم لأنكم مسؤولون عنهم ومكلفون بتعليمهم وبذلك تخلصون من أن تصلوا «ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» وهذه نار مخصوصة لا تتقد إلّا بالناس والحجارة بان يكونا كبريتا لها، تتقد به والعياذ بالله وتقدم مثل هذه الجملة في الآية 34 من سورة البقرة «عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ» لم يخلق الله رحمة في قلوبهم ولا شفقة ولا لطفا ولا رأفة وهم شديدوا الانقياد لأوامر الله تعالى «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» (6) به في أعداء الله من انواع العذاب، ولم يتأثروا مما يفعلونه في المعذبين، لأن الله لم يخلق فيهم حنانا على أحد، ولم يتريثوا في إنفاذ أمره بل يوقعونه حالا كلمح البصر أو أقرب. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا» اخرسوا لا تنبسوا بينة شفة فقد انقطعت المحاججة و «لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ»(6/237)
حيث تقدم لكم الإنذار والإعذار في الدّنيا فلا محل له في الآخرة «إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (7) في الدّنيا من الخبائث في هذا اليوم الذي وعدتم به، الذي لا يقبل فيه عذر البتة، واعلم أنه لا يوجد في القرآن مثل صدر هذه الآية قطعا، وهذا من لطفه تعالى، إذ كان نداؤه يا أيها النّاس، يا أيها الّذين آمنوا يا بني آدم، يا أهل الكتاب، بما يشم منه عدم دخول الغير في هذا الخطاب، ولذلك خصصه بالكافرين وله الحمد، ومن عطفه أيضا على المؤمنين أنه أمر نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يعاملنا باللطف، إذ قال (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) راجع آخر سورة النّحل في ج 2 «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ» في هذه الدّنيا من جميع السّيئات «تَوْبَةً نَصُوحاً» صادقة خالصة لا عودة فيها الى الذنب قبل حلول آجالكم، راجع بحث التوبة في الآية 36 من سورة الشّورى المارة في ج 2 فإذا أتيتم توبة محضة «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ» بها. واعلم أن عسى هنا وفي كلّ موضع من القرآن تفيد التحقيق كما سيأتي في الآية 103 من سورة التوبة الآتية «وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» بل مكرمهم بكرامته راجع الآية 192 من آل عمران المارة، وحين يمشون على الصراط يوم القيامة يكون «نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» أمامهم «وَبِأَيْمانِهِمْ» من جوانبهم واستغنى بذكر اليمين عن الشّمال اكتفاء به، وإلا فالنور محيط بهم من جميع جوانبهم من الجهات السّت، وإذا رأوا نور المنافقين انطفا، إذ يكون لهم نور كما للمؤمنين بأول الأمر، ثم يسلب منهم زيادة في حسرتهم وأسفهم «يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا» اجعله مصاحبا لنا دائما مثل إخواننا المؤمنين الكاملين الّذين هم مع الأنبياء والشّهداء «وَاغْفِرْ لَنا» ما سلف منا «إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (8) فيجيب الله دعاءهم، ويبقي المنافقين في الظّلمة المستمرة، أجارنا الله منها، لأن إيمانهم كان صوريا، فيلقون عقابه من جنسه، إذ يريهم النّور ويدخلهم في الظّلمة كما كانوا يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، راجع الآيتين 12 و 13 من سورة الحديد المارة قال تعالى(6/238)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ» بالقول فهم مخزيّون في هذه الدّنيا «وَمَأْواهُمْ» في الآخرة «جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (9) هي لأهلها.
مطلب في المثل الذي ضربه الله تعالى لنساء الأنبياء وقصة آسية زوجة فرعون ومريم ابنة عمران:
قال تعالى «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ» واعلة الكافرة راجع الآية 97 من سورة هود في ج 2 لتقف على السّبب الذي غمسها في النّار، وامرأة لوط واهلة الكافرة أيضا، راجع ما وقع منها في الآية 77 من سورة هود أيضا «كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ» نبيّين كريمين خليلين «فَخانَتاهُما» بالكفر بدينهما والتجسس عليهما وإخبار قومهما بمن يؤمن بهما ومن يأتي إليهما وتحريض قومهما لا بالبغي وحاشاهما منه. قال ابن عباس ما بغت امرة نبي قط. لأن البغي يقدح فيهم ويمس جانبهم العالي النّزيه المبرأ من كل عيب، المنزه من كلّ ما به وصمة مطلقا، «فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» اي لم ينجياهما من عذاب الله مع كونهما محترمين عنده لوجود الحائل وهو الكفر «وَقِيلَ» لهما يوم القيامة «ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» (10) فيها، لأن محبة الكافر للمسلم مع بقائه على كفره لا تنفعه عند الله، وكذلك حجة المعاصي، قال تعالى (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الآية 67 من سورة الزخرف ج 2، راجع تفسير الآية هذه ففيه بحث نفيس لا غنى لك عنه. وإذا كان كذلك فكيف تنفع حجة الكفرة لأوثانهم التي هي نفسها عاجزة محتاجة إلى من يحرسها؟ وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث أيضا في الآية 31 من سورة ابراهيم في ج 2 فراجعه.
قال تعالى «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ» المؤمنة آسية بنت مزاحم التي كانت مصاحبة لزوجها المتناهي في الكفر «إِذْ قالَتْ» حينما عذبها على إيمانها بموسى وأرادها على الكفر ولم تفعل «رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ» لأني تركت بيت فرعون وجنته في الدّنيا من أجلك رغبة بما عندك في الآخرة «وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ»(6/239)
الخبيث الذي أرادني عليه «وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» الّذين وكلهم فرعون بعذابي وصبرت حتى ماتت على إيمانها ولم يثنها عنه تعذيب المعذبين، رحمها الله رحمة واسعة، ولا شك أن الله أجاب دعاءها بفضله وكرمه. وقد بين الله في هذين المثلين أن وصلة الكافر للمؤمن لا تضره ولا تنفع الكافر مادام على كفره كما أن وصلة المؤمن للكافر لا تنفعه ولا تضر المؤمن إذا لم يمل إليه ويواليه راجع آخر سورة الممتحنة المارة ومن هذا القبيل وصلة السّيدة مريم عليها السّلام وما أوتيت من الكرامة مع قومها الكافرين فلا تنفعهم ولا يضرونها. قال تعالى في براعتها مما وصمها به قومها «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها» وتمتعت بالعفة في حياتها الدّنيوية كلها «فَنَفَخْنا فِيهِ» بواسطة الأمين جبريل عليه السّلام من جيب درعها نفخة «مِنْ رُوحِنا» التي خلقناها في الأزل لحياة ابنها عيسى عليه السّلام راجع الآية 92 من سورة الأنبياء ج 2 لنقف على كيفية النّفخ هذا وقد أضاف الله تعالى الرّوح اليه إضافة تشريف، لأنه هو الذي خلقها وأبقاها عنده للوقت المقدر لبعث ابنها لأنها له، كما يقال بيت الله وهو لخلقه، وناقة الله وهي لقوم صالح عليه السّلام، وقد جرت عليها السّلام على أذى قومها وو صمهم لها وهي براء «وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها» التي بشرها بها جبريل عليه السلام بما لها عند الله من الكرامة، وبإيجاد عيسى منها من غير أب، وبهذا المعنى أطلق عليه كلمة الله، لأنه خلق بلفظ كن، وهي كلمة الله التي أوجد فيها جميع الخلق النّامي منه والجامد «وَكُتُبِهِ» المنزلة على أنبيائه، صدقت بها أيضا، ومنها إنجيل ابنها الذي تلقاه عن ربه «وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ» (12) لله تعالى وهي من نسل القانتين، لأن رهطها وعشيرتها من بيت الصّلاح والنّبوة، ولما كان القنوت صفة تشمل كلّ من يقنت ذكرا كان أو أنثى غلب في الذكور هنا، فيدخل فيه القانتات واعلم أن في هذين المثلين تعريضا بأمّي المؤمنين حفصة وعائشة رضي الله عنهما على ما فرط منهما في تواطئهما على ما يغيظ حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم، وتحذير لهما من العود إلى مثله، واعلاما لهما بأنهما إذا لم يخلصا له كاخلاص آسية ومريم إلى الله تعالى لم ينتفعا من صحبته في الآخرة، وأن لا يتكلا على كونهما(6/240)
زوجتين له لان الزوجية لا تكفي للخلاص من عذاب الله كما هي الحالة في زوجني نوح ولوط لأنهما خلدتا في النّار لعدم نصحهما لزوجيهما وعدم إيمانهما بهما، وإذا أردت أن تقف على حقيقة الصّحبة ومنافعها ومضارها راجع ما ألمعنا اليه في الآية 10 المارة. أخرج الترمذي عن أنس بن مالك قال قال صلّى الله عليه وسلم حسبك من نساء المسلمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم.
وتقدمت قصة ما شطتها مع فرعون بالآية 10 من سورة الفجر في ج 1، وأما قصتها هي ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنها كانت من أجمل نساء زمانها، وقد قصتها هي مارواه ابن عباس رضي الله عنهما أنها كانت من أجمل نساء زمانها، وقد غاظها فرعون بما فعل بما شطتها المار ذكرها وقصتها، وقد عيل صبرها من هول ما رأت من الفظاعة التي أجرتها عليها شرطة فرعون بأمره فجلست تفكر ماذا تفعل معه وهي بعصمته، فدخل عليها وهي على تلك الحالة، فقال لها ما بالك؟
قالت له بالي إنك شر الخلق، فقال لها هل الجنون الذي كان في الماشطة أصابك؟
قالت ما بي من جنون ولا بها، وإن الرّب الذي لي ولها ولمن في السّموات والأرض هو الله الواحد الذي لا شريك له ولا رب غيره ولا يستحق العبادة إلا هو، فبصق عليها وضربها وأخبر أبويها بذلك لينصحاها، فجاءا وقالا لها يا آسية ألست من خير نساء العالمين وزوجك إلههم؟ قالت أعوذ بالله أن يكون فرعون إلها إن الإله الحق واحد لا شريك له في ملكه، فإن كان ما يدعيه فرعون حقّا من الألوهية فليتوخ تاجا تكون الشّمس أمامه والقمر خاتمه والكواكب حوله، ولم يزالا بها يقنعانها ويهددانها وهى ثابتة على إيمانها بالله كافرة بفرعون مؤنّبة لمن يعده إلها، وصارت تصرح بذلك بعد أن كانت تسرّ به، فلما رأى الخبيث منها هذا الإصرار ورأى أن التهديد لم يجدها نفعا ولم يثنها عن عقيدتها وصارحته بالإيمان بالله والكفر به ودعته إلى الإيمان بالله، أخرج أبويها ومدها بين أربعة أوتاد وصار يعذبها بالضرب والكي بالنار إلى أن ماتت مصرة على إيمانها بالله وحده، كافرة بما سواه، رحمها الله رحمة واسعة. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين.(6/241)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
تفسير سورة التغابن عدد 22- 108- 64
نزلت بالمدينة بعد سورة التحريم. وهي ثماني عشرة آية، ومئتان وأربعون كلمة، والف وسبعون حرفا. ومبدأها كمبدأ الآية الأولى من سورة الجمعة فقط، وختمت بما ختمت به سورة الحشر والجاثية، ولا يوجد مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ» الدنيوي والملكوت الأخروي يتصرف فيهما كيف يشاء ويحكم بمن فيهما كما يريد «وَلَهُ الْحَمْدُ» من كافة خلقه على نعمائه راجع بحث الحمد في المقدمة وبحث التسبيح أول سورة الحديد المارة «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (1) لا يعجزه شيء ولا يفلت منه أحد ولا يفوته فائت لا مانع ولا مدافع له ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ» أيها الناس من نفس واحدة «فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» في هذه الدّنيا كما أنتم في الأزل عند الله وسيعيدكم في الآخرة كذلك «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (2) قبل أن تعملوه لا يعزب عنه شيء من أعمالكم الموافقة لما هو في علمه ومدونة في لوحه. روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم. راجع ما يتعلق في هذا البحث في الآية 58 من سورة هود في ج 2 وما ترشدك إليه من المواضع. قال تعالى «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» لا عبثا ولا لهوا ولا لعبا وباطلا «وَصَوَّرَكُمْ» أيها النّاس في أرحام أمهاتكم، وجعل فيكم روحا منه لارادة غيركم، وجمّلكم «فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» في هذه الدّنيا لأنها على صورته، فقد صح عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال إن الله خلق آدم على صورته. وفي رواية على صورة الرّحمن. وهذه نافية لقول من قال إن الضّمير في صورته يعود على آدم لا على الله جل جلاله، وهو بعيد جدا عن المعنى، وقد أراد هذا القائل التحاشي عن وصفه تعالى بسمات خلقه، مع أنه لا مانع من القول أن الله تعالى له وجه ويد لا كأوجه خلقه(6/242)
وأيديهم، وهو ما مشى عليه الماتريدية أجمع، أما الأشعرية فلا يقولون بهذا، ويقولون ما جاء في القرآن من هذه السّمات بالقدرة والكمال والرّحمة وشبهها «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» (3) في الآخرة لا إلى غيره راجع الآية 7 من آل عمران المارة في بحث الأرحام وما يتعلق بها «يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» من حركة أو سكون «وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ» أيها النّاس في صدوركم وتحدثون به أنفسكم ويلوح في خاطركم «وَما تُعْلِنُونَ» من أقوالكم وأفعالكم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (4) في مكامنها ودخائلها وما تحوكه من نية أو خطرة أو هاجس قال تعالى «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» من الأمم السالفة كيف فعلنا بهم لما كذبوا رسلنا وأصروا على جحودنا أهلكناهم «فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ» جزاء ما وقع منهم في الدّنيا، فدمرناهم تدميرا فظيعا «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (5) في الآخرة لا تطيقه القوى البشرية، ولا الجبال الرّاسيات، فاتعظوا أيها النّاس بما جرى بهم، واعتبروا بسوء عاقبتهم، وارجعوا لربكم كيلا يصيبكم ما أصابهم «ذلِكَ» الذي حل بهم من العذاب الدّنيوي، والذي سيجازون عليه في الآخرة «بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا» ساخرين بهم ومستهزئين «أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا» استفهام انكاري أي كيف يهدي البشر مثله؟ وهذا من سخافة عقولهم لأنهم ينكرون هداية البشر لمثله ولم ينكروا على أنفسهم إضلال البشر لمثله وعبادة الأوثان وطلب الخير في الدّنيا والشّفاعة في الآخرة منها «فَكَفَرُوا» بالله ورسله بما جاءوهم من عند الله ولم يأخذوا بما جاءوهم لهدايتهم «وَتَوَلَّوْا» عن الانقياد لطاعتهم والإيمان بربهم، وأصروا على الكفر والطغيان «وَاسْتَغْنَى اللَّهُ» عنهم وعن إيمانهم «وَاللَّهُ غَنِيٌّ» عن جميع خلقه برهم وفاجرهم «حَمِيدٌ 6» لمن آمن به وصدق رسله ثم ذكر نوعا آخر من سفههم الذي كانوا عليه، فقال «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا» بعد موتهم في الدّنيا فأنكروه ولم يصدقوا الرّسل بإخبارهم بالبعث يوم القيامة تبعا لعقيدتهم الجاهلية، إذ كان آباؤهم ينكرون ذلك ويجحدون الحساب والعقاب والثواب «قُلْ» لهؤلاء الحمقى يا سيد الرّسل «بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ» من قبوركم(6/243)
يوم القيامة يوم يقوم النّاس لرب العالمين مخلوقين خلقا ثانيا من أجزائهم لمتفتتة، ويعودون كما كانوا عليه في الدّنيا «ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ» في ذلك اليوم «بِما عَمِلْتُمْ» في دنياكم وتعلمون جهلكم بالخلق الأوّل أدى لجهلكم بالخلق الثاني «وَذلِكَ» البعث بعد الموت والإنباء بما كان منكم وعليكم في الدّنيا «عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» 7 سهل
هين لا كلفة فيه، وكما أن خلقكم أول مرة بمجرد قول كن فكذلك تكون إعادتكم، وهي كلمة جزئية لا صعوبة فيها لو أنها تصدر من الخلق فكيف إذا صدرت من الخالق بلا صوت ولا حرف «فَآمِنُوا بِاللَّهِ» الذي خلقكم أيها النّاس ثم أماتكم بأنه يحييكم ثانيا «وَرَسُولِهِ» الذي أرسله لهدايتكم آمنوا أيضا «وَالنُّورِ» أي الكتاب «الَّذِي أَنْزَلْنا» عليه كما أنزلنا على من قبله من الأنبياء آمنوا أيضا، إذ لا يكفي الإيمان بالله دون الإيمان برسوله وكتابه، كما لا يكفي الإيمان بالكتاب والرّسول دون الإيمان بمنزل الكتب ومرسل الرّسل «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (8) لا يغرب عنه مثقال ذرة في السّموات ولا في الأرض، واحذروا أيها النّاس «يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ» هو يوم القيامة إذ يجمع فيه الأولون والآخرون من أهل السّماء والأرض.
مطلب يوم التغابن في الآخرة وفتنة الأموال والأولاد في الدّنيا والأمر بالتقوى حسب الاستطاعة وذم البخل وفضل الصّدقة:
ذلك اليوم المسمى يوم الجمع هو «يَوْمُ التَّغابُنِ» الذي يظهر بالأعمال والأقوال الذي ما بعده تغابن، بخلاف تغابن الدّنيا الذي يكون بالتجارة وشبهها فإنه فان لا قيمة له، لأن هذا يضع الله تعالى به سعداء الدّنيا فقط منازل الأشقياء في الآخرة والأشقياء بالدنيا بسبب الفقر والفاقة والصّبر على الأذى فيها من أجل إيمانهم بالله ورسله الّذين ماتوا على ذلك مكان السّعداء في الآخرة، وإذ ذاك يظهر غبن الكافر بتركه الإيمان الموصل للسعادة الأخروية، فيتأسف ويندم ولات حين مندم، ويرد العود إلى الدّنيا ليعمل الخير وهيهات، وكذلك يظهر غبن المؤمن المقصر في الأعمال الصّالحة لأنه يرى من كان دونه في الدّنيا أعلى منه رتبة في الآخرة وأحسن مكانا ومكانة عند الله وأعلى درجة في الجنّة، فيندم أيضا على تقصيره(6/244)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
ويعضّ يديه على تفريطه، قال عليه الصّلاة والسّلام ما من أحد إلّا ندم يوم القيامة إن كان محسنا ندم أن لا ازداد، وإن كان كافرا ندم، أن لا أقلع عن كفره.
«وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً» في دنياه مع إيمانه فإنه تعالى «يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ» في الآخرة «وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» لا يتحولون عنها «ذلِكَ» التكفير والإدخال هو «الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (9) الذي لا أعظم منه لما فيه من بلوغ الغاية التي كان يتوخاها في حياته ومنتهى الأمل الذي كان يؤمله بعد وفاته «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا» الدالة على ذلك اليوم الذي يتغابن به النّاس «أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها» أبدا لا يخرجون منها، وقد حذف من الجملة الثانية اكتفاء بوجودها في الأولى، وقدم مثله في الآية 35 من سورة الرّعد فراجعها «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (10) النار لأهلها، وهذه الجملة بمقابلة الجملة الأخيرة في الآية قبلها وهي (الفوز العظيم) وهذا تغابن لا أعظم منه، لأن أناسا ينعمون في الجنّة وآخرين يعذبون في النّار، ويرى بعضهم بعضا ويتعارفون فيها كما كانوا في الدّنيا، فهل يوجد أعظم من هذا التغابن كلا.
واعلموا أيها النّاس إنه «ما أَصابَ» أحد «مِنْ مُصِيبَةٍ» سقم أو ضر أو فقر أو عناء أو عصيان أو كفر أو كلّ شر «إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» وقضائه وقدره وإرادته، وكذلك الصّحة والعافية والغنى والطّاعة والإيمان والهناءة وكلّ خير هو بقدره وقضائه وإرادته ورضاه، وكل ذلك مدون في لوحه قبل خلق الخلق، راجع الآية 22 من سورة الحديد المارة «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ» ويعتقد أن المصائب بقضائه وقدره، وأن من يصبر على ما أصابه ويسلم أمره إليه ويعلم أن لا محيد له عما كتبه عليه «يَهْدِ قَلْبَهُ» فيوفقه للإيقان المحض بما يقذف فيه من النّور والمعرفة، ويجعله راضيا بكل ما يصيبه فيكون من الّذين رضى الله عنهم ورضوا عنه المعلومين عنده في أزله «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (11) من كلّ ما يصيب عباده قبل أن يصيبهم، لأنه مقدره عليهم في غيبه ويعلم الصّابر والجازع والرّاضي والغضبان، راجع الآية 10 من سورة الليل، والآية 121 من سورة طه في ج 1، والآية 78 من سورة النّساء المارة(6/245)
فيما يتعلق في هذا البحث، وفيهما ما يرشدك لمراجعة غيرهما من المواضع. قال تعالى «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ» كرر الفعل تأكيدا وإعلاما بأن طاعة أحدهما لا تغني عن طاعة الآخر وعدم قبول إحداهما بغير الأخرى «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ» أيها النّاس عن هذه الطّاعة، فالوبال على أنفسكم في الدّنيا والآخرة «فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» (12) فقط وقد بلغ ونصح وأرشد وأنذر وأعذر وقام بكل ما كلف به، وليس عليه أن يقسركم على الأخذ بقوله والاقتداء بفعله، بل بل يترككم وشأنكم، فاعملوا أيها النّاس الخير وتيقنوا أن ربكم «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» لا رب غيره ولا معبود سواه، هو المحيي المميت الضّار النّافع، فآمنوا به وأطيعوه «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (13) في جميع أمورهم وهو يهديهم إلى سواء السّبيل الموصل إلى جنته، ومن يتوكل على الله فهو حسبه «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ» لفظ من هنا للتبعيض، لأن منهم أولياء لهم أودّاء بارّين بهم مقسطين لهم يأمنونهم كأنفسهم وإن منهم «عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ» من أن يوقعوا فيكم أذى، وأنتم غافلون عنهم محسنون الظّن بهم، وذلك بسبب ما بأيديكم من حطام الدّنيا وهذه الآية عامة مستمرة شاملة ما قبلها وبعدها إلى يوم القيامة. وسبب نزولها أن رجالا منعهم أزواجهم وأولادهم من الغزو في سبيل الله خوفا من أن يقتلوا ويتركوهم وان رجالا أسلموا ومنعهم أزواجهم وأولادهم من الالتحاق برسول الله، فحذرهم الله من طاعتهم، ولما جاءوا أخبروا عند نزول هذه الآية بأن إخوانهم الّذين هاجروا قبلهم تفقهوا في الدّين، فهموا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم، فأنزل الله هذه الآية وأردفها بقوله «وَإِنْ تَعْفُوا» عنهم «وَتَصْفَحُوا» عما وقع منهم «وَتَغْفِرُوا» زلتهم هذه «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لكم ولهم ولكل من ينيب إليه ويستغفره «رَحِيمٌ» (14) بعباده يحب العفو عنهم. تحذر هذه الآية من الرّكون إلى الأزواج والأولاد، فعلى العاقل يكون شديد الحذر من غير الصّالحين من ان هذين الصّنفين، فإن كثيرا من الزوجات والأولاد قتلوا أزواجهم وآبائهم بقصد التزوج بغيره والاستيلاء على ماله ولا سيما في هذا الزمن ولا حول ولا قوة إلا(6/246)
باللهِ نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»
عظيمة وبلاء جسيم، يختبركم الله بهم، فهم سبب وقوعكم في تناول الحرام والاعتداء على الغير، فإياكم والافتتان بالمال والولد من أن يسوقاكم إلى ما يغضب الله وينسيكم أنفسكم فتهلكوا. وإياكم إياكم أن تستغنوا بالمال، فإن الله يفقركم، أو تعتمدوا على أولادكم إلّا بما يرضي الله، فإذا فعلتم ما أمرتم به بشأن المال والولد وانتهيتم مما نهيتم عنه فيهما وفي الأزواج سلمتم من فتنتهم وأمنتم من شرهم ونفعوكم في الدّنيا والآخرةَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ»
(15) لمن يفوض أمره إليه ولا يعتمد إلّا عليه ولا يغتر بمال أو ولد أو جاه أو قوة، راجع الآية 29 من سورة الأنفال المارة المصدرة به بلفظ اعلموا تنبيها إلى أن ما فيها لازم الأخذ واجب التقيد فيه «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» غاية جهدكم ونهاية وسعكم، وهذه الآية كالتفسير لقوله تعالى (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ) الآية 103 من آل عمران المارة لا ناسخة لها كما قاله بعض المفسرين، لأن
حق التقوى تفريغ ما في الوسع من طاقة العبد لا أكثر ولا أقل كما بيناه في الآية الملح إليها «وَاسْمَعُوا» ما يتلى عليكم من كتاب الله وسنة رسوله سماع قبول واعملوا بهما طاقتكم «وَأَطِيعُوا» الله ورسوله فيما يأمرانكم به وينهاكم عنه، برغبة وطيب نفس «وَأَنْفِقُوا» مما رزقكم الله على عياله وأرحامكم لأن المال الذي أعطاكم إياه من فضله وجوده فنحكموه لتجودوا به على أنفسكم وغيركم ممن أوجب عليكم رزقهم منه وعلى الفقراء والمساكين فإذا فعلتم هذا كان «خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ» عند ربكم وأعظم أجرا، ولا تميلوا إلى الشّح فيما منّ به عليكم فيكون عاقبته شرا لأنفسكم «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (26) الفائزون عند الله في الآخرة المنتفعون بما خولهم به من النعم الواجدون ثوابها وجزائها في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون. واعلموا أيها الناس انكم «إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» بأن تتصدقوا من حلالكم طلبا لمرضاة الله وابتغاء وجهه وتقربا إليه على فقرائه «يُضاعِفْهُ لَكُمْ» من عشرة إلى ما شاء الله، لا تحديد على الكريم الجواد الذي يعطي بغير حساب، لأنه جل شأنه لا يخشى من النّفاد ويعطي بلا عوض ولا لغرض «وَيَغْفِرْ لَكُمْ» ذنوبكم(6/247)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)
وما تقدم من شحكم «وَاللَّهُ شَكُورٌ» لفعل عباده المتصدقين «حَلِيمٌ» 17 بعدم تعجيل سلب نعمه من البخلاء علمهم يرجعوا ويتوبوا فيتصدقوا مما منحهم الله على عياله والله سبحانه «عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» يعلم ما في النّيات والضّمائر كما يعلم الأقوال والأفعال الظّاهرة لا يختلف علمه فيهما «الْعَزِيزُ» الغالب على عباده القادر على سلب النّعم من لم يشكرها «الْحَكِيمُ» (18) بإبقائها على الشّاكرين وزيادتها لهم، وما هو مقدر على السّلب والإبقاء من حكم لا يعلمها غيره، وقد يعلمها البشر عند ظهورها. وختمت هذه السّورة بهذا الاسم الكريم لما انطوت عليه من حكم جليله. هذا والله أعلم. وأستغفر الله. ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدّين، ومن تبعهم بإحسان آمين.
تفسير سورة الصّف عدد 23 و 109- 61 نزلت بالمدينة بعد سورة التغابن وهي أربع عشرة آية ومثنان وإحدى وعشرون كلمة، وتسعمئة حرف، لا ناسخ ولا منسوخ فيها، وبينا السّور المبدوءة بما بدئت به أول سورة الحديد المارة، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» من شيء «وَهُوَ الْعَزِيزُ» المنيع الجانب القاهر كلّ شيء على تسبيحه وتنزيهه طوعا أو كرها قالا أو حالا، راجع الآية 45 من سورة الإسراء ج 1 وأول سورة الحديد المارة «الْحَكِيمُ» (1) بأفعاله وأوامره ونواهيه فلا يخلق إلّا عن حكمه، ولا يأمر إلّا بحكمة، ولا يفعل إلّا لحكمة، قال عبد الله بن سلام قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتذاكرنا، فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناها، وكانت نزلت آية الجهاد العاشرة من سورة التحريم المارة، وتباطأ بعضهم عنه، وكان يتمنى نزول الأمر بالجهاد، فأنزل الله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ» (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ(6/248)
اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ»
(3) وكان من عادة العرب الّذين هم عرب يفعلون ولا يقولون فيقضون حوائج المحتاجين ودين المدينين ونصرة المظلومين ولا يدرى بهم، ثم قلت المروءة عند بعضهم فصاروا يفعلون ويقولون، ثم تدانوا وتخاسسوا فصاروا لا يقولون ولا يفعلون، ثم تدنت نفوسهم ورذلت فصاروا يقولون ولا يفعلون، فذمهم الله تعالى في هذه الآية وأنبهم بأن القول بلا فعل مما يوقع العبد في غضب الله ويبعده عنه، ومن هذا القبيل من يعد بشيء وبقوله ولا يفعله، ومن يتعهد ولا يوفي، ويحلف ويخلف، ويواثق وينكث. ثم بين جل جلاله العمل الذي يحب الله فاعله عند لزومه أكثر من غيره، فقال «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ» إعلاء لكلمته وابتغاء مرضاته «صَفًّا» تجاه أعدائه لا يزولون ولا يروغون عن أماكنهم إلّا للتقدم ليكيدوا عدوهم، فتراهم في تضامنهم وتلاحقهم ومتانتهم في صفوف الحرب «كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ» (4) بعضه ببعض لا ترى فيهم فرجة تمكن العدو من الدّخول فيها بينهم، أو يجعل بسببها خللا في صفوفهم، وكان التراص في ذلك الزمن مطلوبا لأن من الفرسان من يقحم بفرسه فيمزّق الصّف المخلل والذي فيه فرجة فيفتك فيه بما أوتي من عزم وحزم فيفرقه ويقع الرّعب في قلوب الآخرين فينصرون، والتراص باب من أبواب الحرب في زمن الأصحاب فمن بعدهم، أما الآن وقد أحدثت الصّواعق والقاذفات والدّبابات فقد يكون في مكان دون مكان بحسب قوة العدو وآلاته وعدده، وقد ورد عنه صلّى الله عليه وسلم أن الله يحب من يثبت في الجهاد ويلزم مكانه كثبوت البنيان، وهو يشير إلى التحذير من الهزيمة، لأنه من الكبائر المهلكة ولهذا يجازى عليها بالإعدام ولعذاب الآخرة أشد وأمر، راجع الآية 94 من سورة البقرة والآية 176 من آل عمران والآية 15 فما بعدها من سورة الأنفال المارات. قال تعالى «وَ» أذكر لقومك يا سيد الرّسل «إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي» بتعنتكم وتطاولكم على الله إذ تقولون أرنا الله جهرة ولن نصبر على طعام واحد وتتهمونني بأني آذر، وتحرضون الباغية عليّ، وتنسبون لي قتل هارون أخي وعضيدي على إرشادكم كما مر في الآيتين 56 و 62 من الأحزاب المارتين، وتنكرون رسالتي(6/249)
«وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ» خاصة وطاعتي عليكم واجبة تعظيما لمن أرسلني وإن الأنبياء مبرّءون من العيوب ومعصومون بعصمة الله وهم بشر مثلكم لا قدرة لهم على إجابة ما تقترحونه عليهم إلّا بإذن الله «فَلَمَّا زاغُوا» عن الحق وأسروا على عنادهم «أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» عن الهداية وخذلهم وحرمهم من نور الإيمان وأضلهم عن اتباعه وأعماهم عن سبيله فخرجوا عن السّبيل إلى السّبل فضلوا وأضلوا وخسروا، راجع الآية 152 من الأنعام في ج 2 «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (5) الخارجين عن طاعته. تنبه هذه الآية إلى أن أذى الرّسل يؤدي إلى الكفر ونزع نور الإيمان بحيث لا يبقى فيه قابلية للهداية «وَ» أذكر لقومك يا أكمل الرّسل أيضا «إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ» بدلالة الوصف الموجود لي في توراتكم وإخبار الأنبياء قبلى إني آتيكم رسولا من قبل الله وقد بعثت لكم «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ» بالإنجيل الذي أنزله الله علي وخفف به بعض ما في التوراة من التشديد راجع الآية 50 من آل عمران المارة تقف على هذا التخفيف «وَ» كما بشرت بي الأنبياء أممها، فقد جئت «مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» قال ابو موسى في حديث طويل سمعت النّجاشي يقول
أشهد أن محمدا رسول الله، وأنه الذي بشّر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك وما تحملت من أمر النّاس لأتيته حتى أحمل نعليه- أخرجه ابو داود- راجع تفسير الآية 199 من آل عمران المارة تعرف النّجاشي وعقيدته وصلاة الرّسول عليه.
وقال عبد الله بن سلام: مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى بن مريم، فقال ابو داود والمدني قد بقي في البيت موضع قبر- أخرجه الترمذي- أي بقي في الحجرة المدفون بها حضرة الرّسول وصاحبيه موضع ليدفن فيه عيسى بن مريم راجع الآية 62 من سورة الزخرف ج 2 وفي اسم احمد إشارة إلى أن الأنبياء كلهم حامدون لله ومحمد وأحمدهم له، وإن الأنبياء كلهم محمودون، ومحمد أكثرهم حمدا روى البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم قال قال صلّى الله عليه وسلم لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا احمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر النّاس(6/250)
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
على قدمي يوم القيامة، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي «فَلَمَّا جاءَهُمْ» الرسول المبشر به من قبل موسى وعيسى بالبينات «قالُوا» أي المرسل إليهم «هذا» الذي جاء به محمد من الآيات «سِحْرٌ مُبِينٌ» (7) ظاهر لا يخفى على أحد، فقد كذبوا وافتروا على الرّسول من اتهامهم له بالسحر، وعلى المرسل من كونه غير نبي، والافتراء على الرّسل افتراء على المرسل، ولهذا يقول جل قوله «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ» فيقول هذا سحر يدل التصديق والإجابة إليه وهذا كذب يدل الاعتراف به، فمثل هذا لا أظلم منه البتة «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (7) أنفسهم بالإنكار والجحود عقوبة لهم «يُرِيدُونَ» هؤلاء الظّلمة بافترائهم هذا «لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ» بأقوالهم المجردة عن الصّدق «وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ» بإظهاره على غيره وعلو كلمة الإسلام على سائر الأديان «وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» (8) رغما عنهم شاءوا أم أبو «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» فلا يبقى على وجه الأرض دين إلّا وقد نسخ به وغلب أهله من قبل الإسلام لقوة دليله وعظيم برهانه وجليل سلطانه «وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (9) ذلك، فإنه ظاهر عليهم. ونظير هاتين الآيتين الآيتان 23 و 24 من سورة التوبة الآتية. وهذا سيكون ان شاء الله، ويتم بنزول عيسى عليه السّلام إذ يحكم النّاس ويدينهم بدين محمد صلّى الله عليه وسلم فلا يبقى إذ ذاك دين على وجه الأرض يعبد الله فيه إلّا دين الإسلام، لأن الأديان السّائرة تضمحل وبنضم بعض أهلها لدين الإسلام، وكان هذا زمن الرّسول ومن بعده وإلى الآن، ثم تجتمع الكلمة على الإسلام فقط إن شاء الله فلا يبقى إلّا مؤمن وكافر. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» (10) كما ينجي التاجر الرّابح من الفقر ويغنيه غنى ما بعده غنى،
وكأنهم قالوا ما هي هذه التجارة؟ فأنزل الله قوله «تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ» الإيمان والجهاد هما أحب الأعمال إلى الله تعالى التي تسألون عنها، وأكثر ثوابا من جميع الأعمال(6/251)
فهي التجارة الرّابحة «خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (11) ما ينتج عنها لأن نتيجه الإيمان دخول الجنان ورضى الرّحمن، ونتيجة الجهاد علو الشّأن ورفعة المجد، وهذا أفضل من ربح المال مع بقاء النّفس ذليلة حقيرة بسبب تسلط عدوها عليها، لأن النّفس الأبية التي تحب الموت في سبيل عزها لتوهب لها الحياة الطّيبة التي هي أحسن من كلّ شيء، والفعلان بمعنى الأمر أي آمنوا وجاهدوا وجوابهما فعل يغفر الآتي، أي إذا فعلتم هذا فإنه تعالى «يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» الدنيوية ويعزّكم في دنياكم لاختياركم طريق العز «وَيُدْخِلْكُمْ» في الآخرة «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (12) لأن فيه خير الدّنيا والآخرة فلا أعظم فوزا منه لأنه مما يعمل العاقل له في دنياه ليناله في عقباه «وَ» تجارة «أُخْرى تُحِبُّونَها» وهي في الدّنيا فقط «نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ» على أعدائكم «وَفَتْحٌ قَرِيبٌ» (13) لبلاد أعدائكم واستيلائكم عليها واغتنام ما لدى أهلها، وقد كان هذا والحمد لله في صدر الإسلام وبعده، ولكن خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصّلاة واتبعوا الشّهوات فحرموا تلك الفتوحات والغنائم وملاذ النّصر والظّفر، لإضاعتهم أمر دينهم وتفرق كلمتهم وتكالبهم على الدّنيا وخوفهم من الموت، وعسى أن يردهم الله لاقتفاء آثار أوائلهم فينالوا ما نالوه ويذوقوا طعم العز والظّفر. ونظير هذه الآيات الآية 25 من سورة الأنفال المارة فما بعدها، وقد رتب فيها الحياة على الجهاد، زرع الله في قلوبنا حبه لإعلاء كلمته، وجعلنا من المحبين لدعوته المقصودين بفضله، وما ذلك على الله بعزيز «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» بالنصر والفتوح يا سيد الرّسل في هذه الدّنيا والفوز والسّعادة في العقبي ماداموا مؤمنين حقا، وإنما سمى الجهاد تجارة لما فيه من الرّبح العظيم والعزّ في الدّنيا ورضى الله والجنّة في الآخرة، وهذه تبشر المؤمنين حال نزولها بقرب فتح مكة إنجازا لوعد الله به لهم، وقد كان ذلك، وفيها بشارة عامة لكل مؤمن يتصف بما ذكره الله في هذه الآية بالنصر والفوز على أعدائه في كلّ مكان وزمان. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ» لنبيكم وأجيبوا دعوته ولبوا كلامه وابذلوا شيئكم له «كَما قالَ(6/252)
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ»
أصحابه الّذين آمنوا به «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ» على إعلاء كلمته وإظهار دينه وخلاص عباده مما يشينهم «قالَ الْحَوارِيُّونَ» ملبّين دعوته رغبة بما وعدهم الله على لسانه «نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ» جنوده المجيبون لأمره المؤدون لشعائره المعينون له على أعدائه، أي كونوا أنتم يا أمة محمد مثل هؤلاء الأبرار لتفوزوا بخير الدّنيا والآخرة، فجاهدوا بأموالكم وأنفسكم مع إمامكم مع سلطانكم مع أميركم، ولا تهنوا وقد كنتم الأعلون «فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ» بالسيد عيسى عليه السّلام وأجابت دعوته وجاهدت في سبيل الله فغنمت، إذ نشرت دعوته بعد رفعه بين النّاس، فآمن بهم خلق كثير فعلى المؤمنين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم أن يتعاونوا ويقوموا دائما ببث دعوته والسّعي على طريقته ليفوزوا ببغيتهم ويظفروا بأعدائهم، فتعلو كلمتهم فيحوزون خير الدّنيا والآخرة، ولا يكونون لا سمح الله مثل المعنيين بقوله جل قوله «وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ» به فلم تجب دعوته ولم تؤمن به ونصبت له العداء من أجل تكليفهم لهدى الله ونفعهم بآلائه فخسرت وخابت. فكونوا يا أمة محمد من الطّائفة الأولى التي ملأت الأرض لتعلو كلمتهم ويرفع مجدكم فتدخلوا في قوله تعالى «فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ» وعدو ربهم «فَأَصْبَحُوا» أولئك المؤمنون «ظاهِرِينَ» (14) على الكافرين اللهم أيد المؤمنين على الكافرين برحمتك يا أرحم الرّاحمين. هذا والله أعلم. وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة الجمعة عدد 42 و 110 و 62
نزلت بالمدينة بعد سورة الصّف. وهي إحدى عشرة آية، ومائة وثلاثون كلمة وتسعمئة وعشرون حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها. بدئت سورة التغابن بما بدئت به فقط، ومثلها في عدد الآي سورة المنافقين والضّحى والقارعة والعاديات فقط، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به.(6/253)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» من دابة وجماد وجن وإنس وملائكة وحوت وطير لهذا الإله الجليل «الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» (1) في ملكه وحكمه. واعلم أن التسبيح ثلاثة أقسام خلقه وهو إذا نظرت إلى كلّ شيء من المكونات الإلهية، دلتك خلقته على وحدانية الله تعالى وتنزيهه، وأنه الخالق الموجد له ومعرفة وهو جعل الله تعالى في كلّ شيء ما يعرف به ربه، بحيث لو سألته من سماك وسواك ينطق بلسان حاله أو قاله بلا تردد أو توقف معترفا بأن الله تعالى مكونه ومميزه عن غيره، يدلك هذا قوله عز وجل (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الآية 15 من سورة الإسراء ج 1، وضرورة بان يجري الله تعالى لفظ تسبيحه وتنزيهه عما لا يليق به على كلّ جوهر أوجده في كونه من غير معرفة له بذلك، راجع أول سورة الحديد المارة. واعلم أن هذا الإله العظيم المعلوم لدى كلّ خلقه المسبح بكل لسان «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ» أهل مكة ومن حولها لأنهم لا يقرءون ولا يكتبون ولا يحسبون «رَسُولًا مِنْهُمْ» أمّيّا مثلهم ومن جنسهم فجعله «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ» التي أنزلها عليه لإرشادهم ونصحهم، وهذه معجزة دالة على تصديقه كافية عن كلّ معجزة «وَيُزَكِّيهِمْ» بذلك من دنس الشرك ودون الكفر ووسخ العصيان «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ» الذي أمره الله بتلاوته عليهم ليعرفوا معالم دينهم وما يرمي إليه «وَالْحِكْمَةَ» يعلمها لهم أيضا وهي الفقه فيه ليفطنوا لمراميه ويعلموا مغازيه ويتفهموا تعاليمه الحكيمة التي ترفع شأنهم بين الأمم وتعلى كلمتهم عليهم وتهديهم إلى طرق النّجاح والفلاح «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ» بعثته إليهم «لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (2) ظاهر وهم مائلون عن الحق وطرقه لا يميزون بين الحلال والحرام، غافلون عما شرعه الله لأمم الأنبياء يدينون بما تسول لهم أنفسهم يتبعون شهواتهم في ذلك، تراهم عاكفين على عبادة الأوثان مع علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع، مائلين إلى هوى أنفسهم، لا يدينون بدين، ولا يعرفون رب العالمين. واعلم أن هذه التي بصدر هذه الجملة مخففة من الثقيلة واسمها محذوف (أي أنهم)(6/254)
مطلب الفرق بين إن النّافية والمخففة ومما يدل على عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم والفرق بين لم ولما:
ووجود اللام في (لَفِي) دليل عليها وتسمى اللام الفارقة بين النّافية التي هي بمعنى ما وإن المخففة، لأن اللام لا تأتي بعد إن النّافية «وَآخَرِينَ مِنْهُمْ» عطف على الأميين وهم كلّ من آمن بهذا النّبي الأمي واتبع دينه إلى يوم القيامة «لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ» لم يدركهم وسيجيئون بعدهم، أي فكما أنه صلّى الله عليه وسلم مبعوث لأهل مكة ومن حولها في ذلك الزمن مبعوث أيضا للأجيال الحادثة الآتية بعدهم وهذه الآية أيضا فيها دلالة على عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم التي المحنا إليها في الآية 28 من سورة سبأ في ج 2 وعلى كونه خاتم الأنبياء كما أشرنا في الآية 40 من سورة الأحزاب المارة، وعلى فضله العام المنوه به في الآية 253 من سورة البقرة المارة ولهذا البحث صلة في الآية 158 من سورة الأعراف في ج 1 فراجعها. واعلم أن النفي بلمّا متصل إلى زمن التكلم بخلاف النّفي بلم فإنه منقطع عنه، فإذا قلت جئت ولم يأت زيد مثلا فيحتمل أنه جاء بعد مجيئك، وإذا قلت ولما يأت فيكون المعنى لم يأت إلى زمن التكلم. هذا وجاء في الحديث المخرج في الصّحيحين عن أبي هريرة قال كنا جلوسا عند النّبي صلّى الله عليه وسلم إذ نزلت سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ وآخرين منهم إلخ قال له رجل يا رسول الله من هؤلاء الّذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلمه حتى سأله ثلاثا، قال وسلمان الفارسي فينا فوضع رسول الله يده على سلمان وقال والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هولاء. راجع الآية الأخيرة من سورة القتال سورة محمد صلّى الله عليه وسلم المارة لتعلقها بهذا البحث. واعلم أن هذا الحديث لا يخصص الآية بالفرس والأكراد ولا يقيدها بهم كما قال بعضهم لأن الآية عامة فيهم وفي غيرهم إلى يوم القيامة من كلّ من يأتي بعد ويدين بدين الإسلام من الملل والنّحل كافة، لأن المسلمين أمة واحدة عربهم وعجمهم أبيضهم وأحمرهم أسودهم وسمرهم وأصفرهم «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (3) الذي أيد هذا النبي الأمي ومكّنه في أمره العظيم ونصره على من أرسله إليهم ونشر دينه في مشارق الأرض ومغاربها «ذلِكَ» الفضل الذي خص به هذا الرّسول المحترم(6/255)
هو «فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده برحمته ولطفه لا بعمل ولا بقوة قال في الجوهرة:
ولم تكن نبوة مكتسبة ... ولو رقى في الخير أعلى عقدة
وقال تعالى (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الآية 124 من سورة الأنعام ج 2 «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» (4) على خلقه ومن أعظم فضله عليهم إرسال محمد صلّى الله عليه وسلم لهدايتهم وإنقاذهم من الظّلمات إلى النّور، وأعظم فضله على أنبيائه أن خصهم برسالته، وجعلهم هداة لخلقه. واعلم أن مطلق الفضل يمنّ به الله على من من يشاء من عباده، وقد يكون لسبب اجتهاد العبد سواء كان دنيويا أو أخرويا أما النّبوة فلا تكون بالاجتهاد أبدا ولو قام اللّيل وصام النّهار طول عمره وتصدق بجميع ما عنده. قال تعالى «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ» فكلفوا علمها والعمل بها من الحمالة بالصدر والقلب لا من الحمل على الظّهر أو الأيدي «ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها» فلم يعملوا بها ولم يقوموا بحقها ولم يؤدوا ما افترضه الله عليهم بها، لأن من علم الشيء ولم يعمل به فكأنه لم يعلمه، فمثله في حالة هذه «كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً» كتبا عظاما جمع سفر وهو الكتاب الكبير الضّخم فوبخهم الله تعالى على مبلغ علمهم فيما أنزله إليهم وصدودهم وحدهم عنه بقوله جل قوله «بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ» المنزلة على رسوله لإرشادهم «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (5) أنفسهم لعدم قبولهم نعمة الله وتكذيبهم بآياته ولا يوجد بالقرآن آية مبدوءة بكلمة بئس إلّا هذه والآية 11 من الحجرات المارة وهذا مثل ضربه الله لليهود والّذين أعرضوا عمّا في التوراة وعن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم، كما أعرضوا عن الإيمان بعيسى عليه السّلام إذ لم ينتفعوا بما فيها ولا بما تلقوه من آثار الأنبياء السّالفين فلم يهتدوا بهديهم، لأن من جملة هدى التوراة والأنبياء الّذين عملوا بها الإيمان بالرسل الّذين يأتون بعد موسى الّذين منهم عيسى ومحمد وقد كفروا بهما، ولذلك شبهوا بالحمار الذي يحمل الكتب على ظهره ولم يدر ما هي فلا ينتفع بها، ولا فرق عنده بين أن يحملها أو يحمل حطبا، وهذا المثل يدخل فيه من يقرأ القرآن ولم يعمل به ولم يفهم مراده من معانيه، ولا(6/256)
مغازيه من مراميه، ولم يفطن لما انطوى عليه من حكم وعلوم، وكذلك من أعرض عنه اعراض من لا يحتاج إليه وهجره في بيته كالمتاع الذي لا يسأل عنه، وهؤلاء هم الّذين شكاهم الرّسول إلى ربه بقوله تعالى (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) الآية 21 من الفرقان في ج 1. ويدخل هذا في قوله تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) الآية 124 من سورة طه في ج 1. ومما يؤسف أن أكثر أهل هذا الزمن هكذا وخاصة الشّباب الّذين لا يهمهم شأنه لانصرافهم إلى الكتب الحديثة التي لا علاقة لها بالدين والقرآن وتوغلهم في الرّوايات والقصص وغيرهما مما هو كذب وتخيل، وترى الفصيح منهم يقرأ السفر فلا يغلط فيه وإذا قرأ آية من القرآن يتخبط فيها فلا حول ولا قوة إلا بالله، يا ويح آبائهم ويا خسارتهم اللهم اهدهم وسائر المسلمين إلى سواء السّبيل واحفظهم من أن يدخلوا في معنى هذه الآية قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ» محمد فمن دونه وتقولون نحن أبناء الله وأحباؤه «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (6) في زعمكم لأن ما بينكم وبين الله إلّا الموت والمحب حريص على الاجتماع مع محبوبه وسريع الطّلب إلى الالتحاق به والآخرة لأحباب الله خير من الدّنيا ولكنكم كاذبون في دعواكم قال تعالى ردا على زعمهم هذا «وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» من الكفر المبعد عن الإيمان بالله فضلا عن تلبسهم بالجحود والظّلم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» (7) أمثالهم الّذين يكرهون الموت لما فيه من الويلات عليهم وتهالكهم على الدّنيا وتكالبهم على البقاء راجع الآية 96 من البقرة المارة المصدرة بلن وهذه بلا وكلاهما نفي للمستقبل إلّا أن لن أكد من لا بالنفي وقد جاءت الآية الأولى بالتأكيد وهذه بدونه قال تعالى «قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ» حتما لا ينجيكم منه أحد ولا مهرب منه راجع الآية 78 من سورة النساء «ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (8) في هذه الدّنيا ويجازيكم بحسبه إن خيرا فخير
وإن شرا فشر.(6/257)
مطلب أول جمعة أقيمت في الإسلام وفضلها والعمل بها وسبب تسميتها:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» أجمعت الأمة على أن المراد بهذا النّداء الأذان بين يدي الخطيب حين جلوسه على المنبر لا الأذان الأوّل على المنائر، روى البخاري عن السّائب بن زيد قال كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر النّاس زاد النّداء الثاني على الزوراء (موقع عند سوق المدينة مرتفع) زاد في رواية فثبت الأمر على ذلك ولا بي داود قال كان يؤذن بين يدي رسول الله إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد. وسمى هذا اليوم جمعة لأن الله تعالى جمع خلق آدم فيه وفرغ فيه من خلق الدّنيا بما فيها من المخلوقات فاجتمعت فيه. ورواه مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم خير يوم طلعت عليه الشّمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنّة وفيه أخرج منها ولا تقوم السّاعة إلّا في يوم الجمعة وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله فيها شيئا ألا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها وأول من سماه في العرب كعب بن لؤي وكان يسمى يوم العروية وأول من جمع النّاس فيه بالمدينة سعد بن زرارة قبل تشريف النّبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة وأول جمعة جمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة في بطن وادي بني سالم بن عوف أفتتخذوه مسجدا وقد المعنا لما يتعلق في هذا البحث في الآية 124 من سورة النّحل والآية 4 من سورة الدّخان في ج 2 والآية المذكورة تحتوي على ما يتعلق بسائر الأيام فراجعها وما ترشدك إليه من المواضع. هذا وإذا سمعتم النّداء أيها النّاس «فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» امضوا وسارعوا لا تجروا وتركضوا، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال صلّى الله عليه وسلم إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصّلاة وعليكم بالسكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا «وَذَرُوا الْبَيْعَ» دعوه واتركوه ولبّوا داعي الله، ولفظ البيع يتناول الشّراء لأنه يطلق عليه «ذلِكُمْ» المبادرة إلى صلاة الجمعة وترك العمل عند سماع النّداء «خَيْرٌ لَكُمْ» عند الله من الانشغال في الأمور الدّنيوية كلها «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (9) ما يصلح لكم في الدّنيا(6/258)
ويهذب نفوسكم فيها ويوصلكم إلى خير الآخرة التي خلقتم لأجلها، قال تعالى (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية 56 من الذاريات في ج 2 واعلم أن ثمرة العبادة وما تشتمل عليه من الصّدق والأمانة والوفاء وإن كانت في الدّنيا الثناء والمدح وائتمان النّاس على أموالهم وأعراضهم، إلا أن ثمرتها الحقيقة الدّائمة التي ينعم بها صاحبها تكون في الآخرة. الحكم الشّرعي يحرم البيع والشّراء وجميع الأعمال الدّنيوية عند الأذان الأخير حتى ان الفقهاء قالوا بعدم صحة العقود كلها إذ ذاك وكلّ عقد يقع آنذاك فهو باطل، ولا يجوز السّفر فيه أيضا، بدليل ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه، قال بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحه في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة، فغزا أصحابه وقال أتخلف فأصلي مع رسول الله ثم ألحقهم، فلما صلّى رآه صلّى الله عليه وسلم فقال ما منعك أن تغزو مع أصحابك؟ قال أردت أن أصلي معك ثم أتبعهم، فقال لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت فضل غزوتهم. ورأى عمر رجلا يقول لولا أن اليوم جمعة لخرجت، فقال أخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر. وهذا أولى من القول بعدم جواز السّفر فيها بعد طلوع الفجر، لأن النّهي عن السّفر والبيع وغيره وقت الأذان الثاني، أما قبله فلا مانع وتنعقد في ثلاثة مع الإمام، ولا تصح إلّا في المصر، وبإذن الوالي، ويجوز تعددها إذا لم يوجد جامع يسع المصلين كافة بقدر الحاجة، فإذا كان يكفي المصلين جامعان فلا حاجة إلى الثالث، وهكذا كي تصح الجمعة بإجماع العلماء، أما إذا كان التعدد زائدا على الحاجة ففيه أقوال بعدم صحتها، وأقوال بصلاة الظّهر بعدها احتياطا، ويجوز تركها للمريض ولمن يتعاهده ولمن يخاف من عدو أو ظالم وعند المطر والوحل. أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه خطب في يوم ذي أرواح (جمع ريح لا
روح بمعنى النّفس والأرواح بمعنى الرّاحة والرّحمة ونسيم الريح) فأمر المؤذن حينما بلغ حي على الصّلاة أن يقول الصّلاة في الرّحال، فنظر القوم فقال كأنكم أنكرتم عليّ؟ إن هذا فعله من هو خير مني، يعني النّبي صلّى الله عليه وسلم وإنها عزيمة وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطّين والرّحض والزلق. وهي فرض عين على كلّ مسلم حرّ بالغ عاقل ذكر مقيم. أخرج أبو داود عن طارق(6/259)
ابن شهاب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الجمعة حق واجب على كلّ مسلم في جماعة إلا على أربعة: عبد مملوك وامرأة وصبي ومريض، وتجب على أهل القرى والبوادي إذا سمعوا النّداء في موضع تقام فيه الجمعة. وأخرج أبو داود عن عبد الله بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الجمعة على من سمع النّداء. وهي آكد من الظّهر إذ لأظهر لمن بصليها، وأوجب الحنفية صلاة أربع ركعات في البيت بنية آخر ظهر احتياطا من أن يكون التعدد لغير حاجته. ولا تصلى في الجامع لئلا يعتقد العوام فرضيتها، لأن الله لم يفرض فريضتين بوقت واحد على عباده، وأوجب الشّافعية صلاة الظّهر حالة التعدد لعدم تحققه هل هو لحاجة أم لا، والأحسن عندهم أن تصلى في الجامع بجماعة وعليه العمل في الأمصار كافة، وتفصيل هذا البحث في كتب الفقه فلتراجع. وسبب نزول هذه الآية هو ما رواه البخاري ومسلم عن جابر. قال بينما نحن نصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ أقبلت غير تحمل طعاما فانقتلوا إليها حتى ما بقي مع النّبي صلّى الله عليه وسلم إلّا اثنا عشر رجلا، فنزلت هذه وفي رواية قال والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد لسال بكم الوادي نارا وأراد باللهو ما يفعلونه عند استقبال القوافل بالطبول والتصفيق. وشروط صحة الخطبة: حمد الله بما هو أهله، والصّلاة على النّبي صلّى الله عليه وسلم، والوصية بتقوى الله، وتلاوة آية من القرآن في الخطبة الأولى، والدّعاء للمؤمنين في الثانية. ويستحب عدم تطويلهما ويراعى أحوال النّاس والمواسم، وكان صلّى الله عليه وسلم يطيل الصّلاة ويقصر الخطبة وإطالة الصّلاة في الصّبح والعشاء بحسب رغبة المصلين مطلوبة وقصرها في الظّهر والعصر والمغرب مسنون، لأنها أوقات اشتغال النّاس. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال كان النّبي صلّى الله عليه وسلم يخطب خطبتين يقعد بينهما. وروى مسلم عن كعب بن عجرة أنه دخل المسجد وعبد الرّحمن بن الحكم يخطب جالسا، فقال انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا، وقال الله تعالى (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً) إلخ الآية قال تعالى «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» بيعا وشراء وعملا وغيره من أسباب الرّزق «وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً» بعد فراغكم منها، ومن ذكر الله تعالى بعدها قائما وقاعدا ومضطجعا، فقد ذكر الله(6/260)
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
كثيرا فأديموا ذكره «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (10) بفضل إدامة ذكر الله، لأنه بنور القلب ويقذف فيه المعرفة التي توضح له سبيل النّجاح في كلّ الأمور.
ثم ذمهم الله تعالى على ما وقع منهم فقال عزّ قوله «وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها» أي التجارة يلهون بها عن صلاة الجمعة ولقلة أدبهم انصرفوا «وَتَرَكُوكَ» يا محمد «قائِماً» على المنبر ولم يقدروا قدرك وما تلقيه إليهم من النصح والإرشاد «قُلْ» لهم يا أكمل الخلق «ما عِنْدَ اللَّهِ» من الفضل المخبوء لكم بسبب سماع خطبته «خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ» وأعظم ريحا «وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (11) لأنه يرزق بلا مقابل. روى مسلم عن جابر قال كانت خطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم مساكم ويقول بعثت أنا والسّاعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السّبابة والوسطى ويقول:
أما بعد فخير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكلّ بدعة ضلال ثم يقول أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا (أولادا صغارا لا أحد لهم ولا مال) فإليّ وعليّ.
تفيد هذه الخطبة أن رسول الله كان يزجر النّاس في خطبته ويعلي صوته فيها أحيانا لأن الوقت يستدعي ذلك، ولأن القوم حديثوا عهد شرك، وإن منهم لا يزال في نفاق، وهو مرسل من الله لتوطيد دعائم الدّين وتوحيد رب العالمين، وقد أمر بقتال من لم يؤمن، ومن دواعي هذه الأمور الزجر وعلو الصّوت. ومما جاء في محذورات الجمعة ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت. وفي رواية ومن لغى فلا جمعة له. وروى مسلم عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله يقول على منبره لينتهبنّ أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمنّ الله على قلوبهم، ثم ليكوننّ من الغافلين. وأخرج أبو داود والنّسائي عن أبي الجعد الضّمري وكانت له صحبة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه ومن طبع الله على قلبه يجعله في أسفل درك جهنم. وللترمذي مثله. وروى البخاري عن سلمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من الطّهور(6/261)
ويدهن من دهنه ويمس من طيب بيته ثم يخرج فلم يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام الا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى. وفي رواية وزيادة ثلاثة أيام ومن مسّ الحصى فقد لغا أي اشتغل عن سماع الخطبة به. وأخرج أبو داود والنّسائي عن أوس بن أوس الثقفي قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من غسّل واغتسل وبكّر وابتكر ومشى ولم يركب ودنى من الإمام ولم يلغ واستمع كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها. واعلم أن بعض العلماء حسن الانصراف بعد سلام الإمام محتجا بقوله تعالى (فَانْتَشِرُوا) وهو خطأ، لأن الله تعالى قال فإذا فضيت الصّلاة إذا سلم الإمام وإن صلاة سنة الجمعة البعدية والأوراد التي أمر رسول بها بعد الصّلوات من تمام الصّلاة لما يترتب عليها من الأجر العظيم عند الله تعالى كما أخبر به رسوله والتحذير من تركها حرمانه من الأجر الذي أخبر به حضرة الرّسول، وفي الأخذ بقول هذا المتطفل ترغيب لترك السّنة التي أمر رسول الله بفعلها بعد الفرائض التي منها الجمعة، وترك التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير بعد الصّلوات التي أمر رسول الله بتلاوتها أيضا، فعلى أرباب العقول أن لا يأخذوا بأقوال هكذا عندية مبنية على ما تخيلوه تأويلا وتفسيرا، وأن يتمسكوا بظاهر الشرع وما عليه السّلف الصّالح ومن تبعهم من العلماء العاملين، لأن الذي يبادر الباب بعد السّلام كأنه فارّ من قفص أو هارب مما يكره كأنه ليس له عند ربه حاجة يدعوه بها، وكأنه تخلص من كان على عاتقه في الصّلاة، والأحسن له من أن يسابق غيره إلى الخروج من المسجد ويندفع معه على الباب أو يقف ليتحين الفرصة بوجود فرجة يخرج منها أن يصلي على الأقل ركعتين بعدها ويتلو الأوراد ثم يخرج بهدوء وسكينة، فقد جاء في صحيح مسلم سنته أربع ركعات بعد الجمعة وفيه من شغله أمر فليركع ركعتين في المسجد وركعتين في بيته، لأن هذا الفعل تهاونا في الجمعة، وقد أجمعت الفقهاء على سنيتها. هذا وقد بينا ما يتعلق بالأذكار الواردة بعد الصّلوات في الآية 39 من سورة ق والآية 92 من الفرقان في ج 1 وفيهما يرشدانك إلى المواضع الأخرى. أما ما جاء في فضل التبكير للجمعة فمنه ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من اغتسل يوم الجمعة(6/262)
غسل الجنابة ثم راح في السّاعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في السّاعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في السّاعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في السّاعة الرّابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في السّاعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا أحرم الإمام قعدت الملائكة يستمعون الذكر. وفي رواية كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأوّل فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصّحف (وكلمة راح في الحديث السّابق بمعنى خف إلى الصّلاة ومشى إليها وأخذته الأريحية طلبا
لثواب الله تعالى) وروى البخاري عن عبادة قال أدركني ابو عيسى وأنا ذاهب إلى الجمعة، فقال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النّار. فقد جعل الذهاب إلى الجمعة بمنزلة الذهاب إلى الجهاد في سبيل الله. فما بال أناس يتركونها بلا عذر ويحرمون أنفسهم هذا الثواب العظيم، ويتعرضون لمقت الله؟ روى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم. وعن أبي الجعد الضّمري وكان له صحبة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه- أخرجه أبو داود والنّسائي- وورد عنه عليه السّلام في حديث طويل قال فيه واعلموا أن الله فرض عليكم الجمعة في يومي هذا في شهري هذا في مقامي هذا، من تركها تهاونا واستخفافا بحقها وله إمام عادل أو جائر فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره، الا فلا صلاة له، الا فلا زكاة له، الا فلا صوم له، الا أن يتوب فمن تاب تاب الله عليه. وحديث مسلم الذي أشرنا إليه آنفا هو أنه قال إذا صليتم الجمعة فصلوا بعدها أربعا فإن عجل بك شيء فصل ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت، وسنده فيه فراجعه فما بعد هذا عذر لمن يخرج فورا، ولنا رسالة خاصة في هذا البحث، وفي الأوراد والسّنن التي ينبغي فعلها بعد الفرائض في الرّد على من منعها أو حبذ تركها. هذا والله أعلم وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.(6/263)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10)
تفسير سورة الفتح عدد 25- 111 و 63
نزلت بالمدينة بعد الجمعة عدا الآيات من 10 إلى 27 فإنها نزلت في الطّريق عند الانصراف من الحديبية فتعد مدنية أيضا، لأن إقامة الرّسول كانت في المدينة وكلّ ما نزل بعد الهجرة يعد مدنيا وهي تسع وعشرون آية وخمسمائة وستون كلمة والفان وأربعمائة حرف، وقد بينا السّورة المبدوءة بما بدئت به في سورة الكوثر ج 1 ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به ومثلها في عدد الآي التكوير والحديد فقط.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ» يا سيد الرّسل بما أمرناك به من مجاهدة أعدائك بعد حادثة الحديبية وقبول الصّلح فيها لأنها مقدمة لافتتاح مكة والبلاد المقدر فتحها على يديك حيث تلاها فتح خيبر وأعقبها بحادثة الأحزاب والفتوحات الأخرى من بلاد قريظة وبني النّضير وغيرها، ومن هذا يعلم أن مقدمة الفتوح هو صلح الحديبية الذي صعب وتعذر واشتد الضّيق فيه على المسلمين حتى يسره الله تعالى بمنه وكرمه وسهله والهم رسوله قبول الشّروط المجحفة التي اقترحها المشركون وكرهها أصحاب رسول الله إذ كان ظاهرها الغبن والحيف على المؤمنين، ولم يعلموا أنها باطنا تنطوي على الرّيح والفوز لهم، إذ سبب اختلاط المشركين بالمسلمين فاطلعوا على محاسن الإسلام ومكارم الدّين الحنيف وما يأمر به من مكارم الأخلاق وفواضل الآداب فملأ قلوبهم حبه، وشارفوا على مزايا حضرة الرسول فرغبوا في صحبته ودخل منهم في دينه خلق كثير قبل الفتح. والمراد بهذا الفتح المشار إليه في هذه السّورة فتح مكة شرفها الله وأعزها كما روى عن أنس رضي الله عنه. وقال مجاهد هو فتح خيبر الواقع عقب الحديبية.
مطلب قصة الفتح وأعني بالفتح فتح مكة لا غير وبيان الّذين هدر دمهم رسول الله وما وقع فيه وسببه:
ومن قال بأن الفتح هو صلح الحديبية تكلف بأن يعدل إلى خلاف الظّاهر فضلا عن أن صلح الحديبية كان سنة ستّ وهذه السّورة نزلت في السّنة الثامنة إذ وقع فيها فتح مكة كما سيأتي، ومما يؤيد أن المراد بهذا الفتح فتح مكة قوله تعالى «فَتْحاً مُبِيناً» (1) ظاهرا(6/264)
واضحا ولم يكن فتح الحديبية بغاية الظّهور المشار إليه في هذه الآية، ولا فتح خيبر، ولا غيرها أيضا ولا يصح إطلاقه إلّا على فتح مكة، لأن كلّ فتح دونها ليس بشيء إذ ذاك، ولأن كلمة الإسلام إنما علت بفتحها وما رفع شأن المؤمنين إلّا بعد فتحها الذي صار قاطعا للكفر، ما حيا آثاره، معلنا كلمة الإسلام، معظما أهله، خضعت فهى صناديد قريش وطلبوا الأمان من سيد الأكوان، واستسلموا لحكمه خاشعين خاضعين. ومن قال إن المراد بهذا الفتح فتح بلاد الرّوم إذا غلبت فارس فليس بشيء أيضا وهو خلاف الظّاهر ولا علاقة لفتح الرّوم بظهور الإسلام، وكذلك القول إن المراد بالفتح فتح الإسلام بالحجة والبرهان والسّيف والعنان، لأن هذا تابع للفتح الفعلي لمكة، وقد كان والحمد لله مصداقا لقوله تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ) الآية الخامسة من سورة الحديد، وقوله (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) الآية 139 من آل عمران المارتين، وخلاصة هذه القصة هو أنه لما صالح رسول الله صلّى الله عليه وسلم قريشا عام الحديبية كما تقدم في الآية 10 من سورة الممتحنة دخلت بنو بكر في عهد قريش وخزاعة فيه عهد محمد صلّى الله عليه وسلم. ثم إن بني بكر عدت على خزاعة وهم على ماء لهم يسمى الوتير وأصابوا منهم رجلا وتحاربوا فيما بينهم، وكان من قريش أنها ردفت بني بكر بالسلاح وقاتلت معهم، وبهذا انتقض ما كان بين قريش وحضرة الرّسول من الميثاق بسبب ما استحلوه من خزاعة حليفته، ولهذا قدم عميدهم عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله في المسجد وخاطبه على ملأ من النّاس بقوله ...
يا رب إني ناشد محمدا:
خلف أبينا وأبيه الأتلدا ... قد كنتم ولدا وكنا ولدا
ثمة أسلمنا فلم ننزع يدا ... فانصر هداك الله نصرا أعتدا
وادع عباد الله يأتوا مددا ... فيهم رسول الله قد تجردا
إن تمّ حسنا وجهه تريدا ... في فيلق كالبحر يجري مزيدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا لي في كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعوا أحدا
وهم أذل وأقل عددا ... هم بيتوتا في الوتير هجدا(6/265)
وقتلونا ركعا وسجدا ... فانصر هداك الله نصرا أيدا
فقال صلّى الله عليه وسلم قد نصرت. وعرض صلّى الله عليه وسلم إلى عنان السّماء وقال مشيرا إليه لتشهد بنصر بني كعب رهط عمرو بن سالم، ثم جاء بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة وعرضوا لرسول الله بما أصابهم من مظاهرة قريش بني بكر، فقال صلّى الله عليه وسلم للناس كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم يشدّد في العقد ويزيد في المدة رهبا من الذي صنعوا فلم يحسوا إلّا وأبو سفيان بالمدينة، وهذا من معجزاته صلّى الله عليه وسلم ومن الغيب الذي أطلعه الله عليه، وقد دخل على بنته أم حبيبة رضي الله عنها فأراد أن يجلس على فراش رسول الله فطرته من أمامه وقالت له أنت رجل نجس لا أحب أن تجلس على فراش رسول الله الطّاهر المطهر، فقال لها والله لقد أصابك بعدي شرّ، فتركها ثم أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه، فذهب إلى أبي بكر وكلمه بأن يكلم له محمدا، فقال ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر فكلمه بذلك فقال أنا أشفع لك لا والله، لو لم أجد إلّا الذي لجاهدتكم بها ثم اتى عليا وعنده فاطمة والحسن يدب بين يديهما واسترحمه أن يشفع له فقال ويحك يا أبا سفيان لقد أدى عزم الرسول على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة واستشفعها وقال تأمري بينك هذا فيجيرني بين النّاس فيكون سيد العرب إلى آخر الدّهر، فقالت ما يجير أحد على رسول الله. فقام أبو سفيان في المسجد بمشورة من علي وقال أيها الناس إني قد أجرت بين النّاس وانما فعل هذا وهو لم يجره أحد ليعلم النّاس أنه قد أجير فلا يتعدى عليه أحد وإنما أمره علي بذلك لما رأى- كرم الله وجهه- من تلبّكه، فأرشده إلى ذلك ليأمن على نفسه إذ رأى ممن أراد أن يستجير بهم قلب الجن، فاعتراه خوف ورعب وذل وهوان، الجأه إلى فعل ما فعل، ولأنه استجار بابنه الحسن وهو طفل فأبت مروءته إن لم يجره ان يدله على ما إذا قاله ظن النّاس أنه قد أجير، وكان ذلك، ثم رجع إلى مكة آيسا مما كان يتوخاه مبلسا مما رآه. ولما وصل قصّ على قومه ما لا قاه، ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الناس بالجهاد، وأعلمهم بأنه سائر إلى مكة، وقال اللهم خذ العيون والأخبار من قريش حتى نبغتها في بلادها، وإذ ذاك كتب حاطب بن أبي بلتعة الكتاب إلى(6/266)
قريش يعلمهم بمقدم رسول الله وأصحابه، كما تقدمت قصته أول سورة الممتحنة المارة واستخلف رسول الله على المدينة أبا دهم كلثوم بن حصين بن عيبنة بن خلف الغفاري، وخرج صلّى الله عليه وسلم في عشرة آلاف، وقيل اثنى عشر الفا، ولم يتخلف عنه أحد من المهاجرين والأنصار لعشر يقين من رمضان سنة ثمان من الهجرة، حتى نزل بحر الظهران، وقد أعمى الله الأخبار عن قريش، ولقى العباس مهاجرا بأهله في الطريق وهو آخر من هاجر، فحمله رسول الله على بغلته وقال ووا صباح قريش والله لئن دخل رسول الله مكة عنوة ليكون إهلاكا لقريش إلى آخر الدّهر.
قال العباس فجئت الأراك لعلي أجد من يخبر أهل مكة بمكان رسول الله ليستأمنوه إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، فقلت أبا حنظلة: فقال أبا الفضل فقلت نعم، قال ما بالك فداك أبي وأمي؟ فقلت ويحك يا أبا سفيان جاءك رسول الله صلّى الله عليه وسلم بما لا قبل لكم به، والله ليضربن عنقك، قال فما الحيلة؟ قلت اركب عجز هذه البغلة حتى آتيك به فاستأمنه لك، فركب، قال العباس فدخلت به على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقلت هذا أبو سفيان، فجاء عمر وقال دعني أضرب عنقه يا رسول الله، فقال له العباس قد أجزته، فقال صلّى الله عليه وسلم ويحك يا أبا سفيان، قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك يا رسول الله وأكرمك، قال ألم يأن لك أن تعلم إني رسول الله حقا، وإن الله وحده لا شريك له، وإن البعث حق، قال بأبي وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك الرّحم. أما هذه فإن في النّفس منها حتى الآن شيئا، فقال له العباس قلها قبل أن يضرب عنقك فقالها وأسلم. ثم قال العباس يا رسول الله انه يحب الفخر فاجعل له شيئا قال فليناد عند دخول الجيش المبارك مكة شرفها الله من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أعلق عليه ببابه فهو آمن. ثم قال يا عباس احبسه بمضيق الوادي حتى يرى جنود الله، قال فخرجت به حتى وقفت به حيث أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصارت تمر القبائل، فجعل يقول كلما تمر واحدة مالي ولهؤلاء! حتى مر رسول الله في كتيبته الخضراء، وإنما سميت خضراء لكثرة الحديد فيها فلا يرى منهم إلا الحدق، فقال سبحان الله من هؤلاء يا عباس؟ قلت هذا رسول الله في المهاجرين(6/267)
والأنصار، فقال ما لأحد ولهؤلاء من قبل ولا طاقة، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما، قلت ويحك إنها النّبوة، قال نعم. ثم تركه فلحق بقومه، ولما قرب منهم صاح بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم، قالوا فمه، أي بماذا تأمرنا وماذا نفعل؟ قال من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا وما تغني عنّا دارك؟ قال من أغلق بابه فهو آمن، فتفرق الناس إلى المسجد وإلى دورهم، فجاء حكيم بن خزام وبديل بن ورقاء رفيقاه وأسلما وعمدا إلى مكة، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أثرهما الزبير وأمره على خيل المهاجرين والأنصار، وأمره أن يركز رأيته بأعلى مكة بالحجون، وقال له لا تبرح مكانك، وأمر خالد بن الوليد فيمن اسلم من قضاعه وبني سليم وأمرهم أن يدخلوا من أسفل مكة، وقال الزبير وخالد لا تقاتلا إلّا من قاتلكما وأمر سعد ابن عبادة أن يدخل في بعض النّاس من كدى، فقال سعد اليوم يوم الملحمة يوم تحل تدخل، وأمره أن لا يقاتل أيضا إلّا من قاتله، ما عدا نفر سماهم وأمر بقتلهم المحرمة، فقال صلّى الله عليه وسلم لعلي عليه السّلام أدركه وخذ الرّأية منه وكن أنت الذي تدخل، وأمره أن لا يقاتل أيضا إلّا من قاتله، ما عدا نفر سماهم وأمر بقتلهم وان تعلفوا بأستار الكعبة. وقيل قال لسعد بل اليوم يوم المرحمة. ثم دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم متواضعا لربه الذي أكرمه بالفتح المبين، حتى أن رأسه الشّريف يكاد يمس واسطة رحله، ولم يقع قتال إلّا في جهة خالد، إذ عارضه المشركون بالدخول من حيث أمره الرّسول، فقتل منهم بضعة عشر رجلا، وقيل سبعين، وإن حضرة الرّسول أنبه على ذلك إن كان على ما قيل إنه أرسل إليه من قال له ضع السّلاح عنهم، وإن هذا يقول إلى خالد يأمرك رسول الله أن تضع السّلاح فيهم. وان جبريل عليه السّلام قال لرسول الله لماذا تعاقب خالدا وهو إنما فعل لإبرار قسمك، وذلك أن صلّى الله عليه وسلم لما رأي حمزة ممثلا به في واقعة أحد أخذته الحدة وقال والله لأمثلن بسبعين منهم، وهناك أنزلت الآيات من آخر سورة النّحل التي أولها (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا) إلخ كما المعنا إليه في الآية 122 من آل عمران المارة فراجعها. وقتل من المسلمين ثلاثة: سلمة بن الميلاد الجهني وكرز بن جابر وخنيس ابن
خالد بن الوليد. أما الّذين هدر دمهم رسول الله فهم: عبد الله بن سعد بن(6/268)
أبي سرح لارتداده عن الإسلام فاستاء منه أخوه من الرّضاع عثمان بن عفان وعبد الله بن حنظلة لأنه قتل مولاه المسلم واتخذ مغنيتين تهجوان حضرة الرّسول قتلت إحداهما واستأمنت الأخرى رسول الله فأمتها، والحويرث بن فضيل بن وهب لشدة إيذائه حضرة الرّسول، ومقيس بن خبابة لقتله الأنصاري وارتداده، وسارة مولاه بني عبد المطلب لأنها كانت مبالغة في إيذائه بلسانها فاستأمنت الرّسول فأمنها وعكرمة بن أبي جهل، وقد استأمنت له حضرة الرّسول زوجته أم حكيم بن الحارث فأمنها، ثم جاءت أم هاني لنستأمن رسول الله على رجلين أراد على قتلهما فقال مرحبا وأهلا قد أجرنا من آجرت. ثم دخل صلّى الله عليه وسلم البيت المكرم فطاف به وصلّى وأخذ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة وفتحها، فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها وطرحها ثم وقف على بابها فقال: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كلّ مأثرة أو دم أو ما يدعى فهو تحت قدمي هذين، إلا سدانة البيت (التي ألمعنا إليها في الآية 58 من آل عمران فراجعها) وسقاية الحاج، الا وقتل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ففيه الدّية مغلظة مئة من الإبل أربعون منها خلفة في بطونها أولادها.
يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب ثم تلى (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) الآية 13 من سورة الحجرات المارة يا معشر قريش ما ترون إني فاعل بكم؟ قالوا خير أخ كريم وابن أخ كريم، قال فاذهبوا فأنتم الطّلقاء. فأعتقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم جلس فبايعه النّاس على الإسلام والنّصرة، وثم له الفتح على هذه الصّورة. ثم ظنت الأنصار أنه يقيم بمكة بعد أن أتم الله له وعده ويتركهم فنظر فرآهم يتنابسون بذلك، فقال لهم ما معناه كلا إن الحياة معكم والموت معكم، فاطمأنت نفوسهم وامر على مكة أسيدا وعاد إلى المدينة ومن أراد زيادة إيضاح قصة الفتح فعليه بمراجعة السّير. وهذا الفتح الواقع من طريق الغزو والجهاد «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» إذ رتب عليه هذا الأجر العظيم لك يا سيد الرّسل، لأن ثواب الجهاد أعظم ثواب، فأجدر أن يكون سببا لمحو ما فرط(6/269)
منك قبله وانطماس ما سيفرط منك بعده من كلّ ما تعده ذنبا بالنسبة لمقامك الكريم وإلّا فإن الله قادر على أن يفتح لك البلاد ويخضع لك العباد دون غزو أو جهاد ولكن ليكون سنة لمن بعدك ويكون ثوابه كفارة للذنوب لهم أيضا. وقد بينا ما يتعلق في ذنوب الأنبياء في الآية 16 من سورة البقرة المارة. وفيها ما يرشدك إلى المواقع الأخرى التي فيها هذا البحث «وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ» بفتح البلاد الأخرى وينصرك على كلّ من يناوئك، ويظهر دينك على سائر الأديان، ويمكنك في البلاد والعباد «وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» (2) في جميع أمورك الحاضرة والمستقبلة كما هي الحال فيما مضى من أمرك لتكون ظاهرا دائما «وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً» (3) لم يسبق له مثيل وحيد في نوعه فريد في بابه لا ذلّ ولا خذلان بعده أبدا «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ» فملأها طمأنينة وثباتا ووقارا حتى ساروا معك جميعهم فلم يتخلف عنك إلّا من أذنته بالتخلف، إذ لم يقع في هذه الغزوة معارضة ما من أحد، بل كان كل منهم منقادا عن شوق ورغبة وحزم «لِيَزْدادُوا إِيماناً» ويقينا وصبرا وطاعة «مَعَ إِيمانِهِمْ» الذي هم عليه. وكأن قائلا يقول كيف نصره الله مع قلة عدده وعدده بالنسبة إلى أعدائه؟ فقال تعالى جل قوله «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» لا يكاثر ولا يغالب ولا يقابل إذ يجعلهم عونا للمؤمنين على أعدائهم ويكثر سوادهم ويقلل أعدائهم بأعينهم «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً» بجنوده الموجودين فيهما وكثرتهم وقوتهم «حَكِيماً» (4) في نصر نبيه وأصحابه على أعدائهم بإراءتهم القليل كثيرا لإيقاع الرّعب والخوف والذل في قلوب أعدائه، وإذا أراد أرسل صاعقة تدمرهم أو صيحة من أحد ملائكته تقصف قلوبهم فتميتهم حالا، أو يخسف بهم الأرض أو يغرقهم في الماء فيهلكهم عن آخرهم، كما فعل بالأمم السّابقة، وهو القادر على إلقاء الرّعب في قلوب أعدائه والجبن والخوف من أوليائه، ويلقي الثبات في قلوب المؤمنين فيبيدوا أعداءهم مهما كانوا، وهو القادر على إبادة الكفار بما أراد من عذاب دون سبب، ولكنه أراد أن يقهرهم ويهلكهم بصورة ظاهرة بواسطة جيشه المبارك الذي تسلح بقوة اليقين ومتانة الايمان ووقاية العزم وحماية الحزم.(6/270)
وقاية الله أغنت عن مضاعفة ... من الدّروع وعن عال من الأطم
«لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» الّذين جاهدوا معه «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» بسبب طاعتهم وثباتهم وبذل أموالهم وأنفسهم فى إعلاء كلمة الله ونصرة رسوله ويجعلهم «خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» قبل دخولها، ثم بدخلهم فيها طاهرين مطهرين «وَكانَ ذلِكَ» التكفير والتخليد في تلك الجنّات «عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً» (5) لهم لا أعظم منه، ولهذا جعل النصر والفتح على ما كان من بروزهم وجهادهم طائفين مختارين، ولا يخفى أن العطف بالواو لا يفيد تعقيبا ولا ترتيبا، ولهذا جاءت جملة (وَيُكَفِّرَ) بعد جملة ليدخل. روى البخاري ومسلم عن أنس، وأخرج الترمذي، عن قتادة عن أنس قال أنزلت على النّبي صلّى الله عليه وسلم (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ) إلخ مرجعه من الحديبية، فقال صلّى الله عليه وسلم لقد أنزلت علي اللّيلة آية أحب إلي مما في الأرض، ثم قرأ صلّى الله عليه وسلم، فقالوا أصحابه هنيئا مريئا
يا رسول الله، لقد بين لك ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا فنزلت (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ) وليس المراد نزول السّورة كلها، لأن نزولها كان بعد ذلك كما ذكرنا، وأن المراد بهذه الآية آية المبايعة الآتية وما يتعلق بواقعة الحديبية المارة في الآية 10 من سورة الممتحنة بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم (أنزلت علي اللّيلة آية) ولو كان كذلك لقول سورة لهذا يحتمل أنه سمعها بعد ذلك تدبّر «وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ» وقدم المنافقين هنا وفي أمكنة أخرى، لأنهم أشد بلاء على المؤمنين من الكافرين لاختلاطهم معهم واطلاعهم على أسرارهم باعتبار أنهم مؤمنون ظاهرا لا يحترز منهم، أما الكافرون فيحترز منهم ويتحاشى عن إفشاء السّرّ بينهم لظاهر عداوتهم، ولذلك فإن عذابهم يكون أشدّ من عذاب الكافرين، قال تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) بعد قوله (إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) كما أشرنا اليه في هاتين الآيتين 140 و 145 من سورة النّساء المارة، ثم وصفهم بما هم متلبسون به بقوله «الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ» أي بان الله لا ينصر رسوله وأصحابه ولا يرجعهم إلى المدينة في غزوتهم هذه «عَلَيْهِمْ» جزاء ظنهم هذا «دائِرَةُ السَّوْءِ»(6/271)
والهلاك والعذاب الذي يتوخون أن يصيب المؤمنين «وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» لما يحقدون على المؤمنين «وَلَعَنَهُمْ» زيادة على لعنهم الأوّل «وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» (6) ومنقلبا قبيحا لأملها «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (7) كررت هذه الآية تأكيدا، ولأن جنود السّموات والأرض منهم للرحمة قد مرّ ذكرهم في الآية الأولى قبل ذكر إدخال المؤمنين الجنّة ليكونوا معهم فيثبتوهم على الصّراط وعند الميزان، فإذا دخلوها الفوا إلى جوار الله ورحمته، فلا يحتاجون بعدها إلى شيء، ولذلك ختم تلك الآية بقوله عَلِيماً (حَكِيماً) ومنهم للعذاب فأخر ذكرهم في هذه الآية بعد ذكر تعذيب الكافرين والمنافقين ليكونوا معهم فلا يفارقوهم أبدا، ولذلك ختم هذه الآية بقوله (عَزِيزاً حَكِيماً) كقوله (أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) الآية 20 من سورة الزمر ج 2 وقوله (أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) الآية 43 من سورة القمر في ج 1 «يا أيها النبي إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً» على الأنبياء قبلك وأممهم وأمتك ومن توالد منهم إلى يوم القيامة «وَمُبَشِّراً» أهل الخير بالجنة دائمة النّعيم «وَنَذِيراً» 8 لأهل الشّر بالنار دائمة الجحيم، وإنما جعلنا نبيّكم أيها العرب مخصوصا بهذه المزية «لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ» تنصروه نصرا مؤزرا مع التعظيم والتبجيل «وَتُوَقِّرُوهُ» تحترموه مع الإجلال والتكريم «وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (9) وهذه الضّمائر كلها لله تعالى. وما قيل إن ضمير تعزروه فما بعده لحضرة الرّسول وضمير تسبحوه لجلالة الإله لا يصح إلّا أن يجعل الوقف على وتوقروه وقفا تاما ثم يبتدأ مستأنفا بما بعده، وهذا بعيد، لذلك جرينا على خلافه وهو الأولى والأحسن بدليل التعليل أول الآية واجراء نسق العطف على ما هو عليه وقرئت هذه الأفعال كلها بالتاء دلالة على ذلك، ويجوز قراءتها بالياء على التبعة بطريق الالتفات والمعنى على ما هما عليه. وهذه الآيات التي نزلت بالطريق بعد منصرف رسول الله من الحديبية كما أشرنا إليه أول السّورة. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» أي المبايعين والمبايع له، واعلموا أيها المؤمنون انكم ألزمتم أنفسكم في هذه المبايعة الشّريفة النّصرة(6/272)
فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
لحضرة الرّسول بصورة المعاهدة والمواثقة «فَمَنْ نَكَثَ» فيها ونقض عهده الذي أعطاه لك يا سيد الرّسل «فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ» ولن يضرّ الله شيئا بل يعود ضرره على نفسه «وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ» في هذه البيعة والعهد «فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» (10) في الآخرة وفخرا كبيرا في الدنيا. واعلم أن الهاء في عليه المارة في هذه الآية تقرأ بالضمّ، ولا يوجد في القرآن غير هذه الهاء مضمومة بعد على تفخيما للفظة الجلالة، وأجمعت القراء عليه بالتلقي من حضرة الرّسول وأصحابه من بعده، ويوجد في الآية 69 من سورة الفرقان في ج 1 (فِيهِ) تقرأ بإشباع الهاء كسرا، كذلك وردت بالتلقي أيضا فلا يجوز كسر الأوّل ولا تخفيف الثاني تبعا لقواعد الإعراب والنّطق لأنهما مستقاة من القرآن والمنزل عليه. واعلم أن هذه البيعة هي الواقعة تحت الشّجرة في الحديبية المشار إليها في الآية 17 من سورة الممتحنة المارة، ومعنى المبايعة هي العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه من بذل طاعته
للسلطان ويلزمه الوفاء بها وبكل عهد ألزم نفسه به، راجع الآية 92 من سورة النّحل في ج 2 وما ترشدك إليه.
وتسمى هذه البيعة بيعة الرّضوان لابتداء الآية بقوله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ) إلخ كما سيأتي بعد في هذه السّورة، والمبايعة مع الرّسول مبايعة مع الله تعالى، كما أن المبايعة مع السّلطان المسلم مبايعة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم،
قال تعالى «سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ» من غفار ومزينه وجهينة وأشجع وأسلم، وذلك حين رجوعه من غزوته هذه إلى المدينة، أي غزوة الحديبية معتذرين من تخلفهم عن الذهاب معه، وهذا من الإخبار بالغيب أيضا لأن هذه الآيات نزلت في الطّريق قبل وصوله المدينة وتقدم المعتذرين لحضرته بالاعتذار وهو قولهم لك إنا لم نتخلف عنك كلا ولا جبنا ولا لأمر آخر وإنما «شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا» عن استصحابك إذ ليس لنا من يخلفنا عليهم ويقوم بأمورهم فيكون خليفتنا فيهم «فَاسْتَغْفِرْ لَنا» يا رسول الله، لانا معترفون بالإساءة والتقصير مع عذرنا هذا راجع الآية 64 من سورة النّساء المارة، فأكذبهم الله بقوله «يَقُولُونَ» لك يا أكمل الرّسل هذا القول «بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي(6/273)
قُلُوبِهِمْ»
من حقيقة التخلف لأنهم أرادوا به تقليل سواد جيش المؤمنين وخذلانهم وأن يبينوا لأهل مكة أنهم ليسوا مع الرّسول بسبب ما هو كامن في قلوبهم من النّفاق والعداء للرسول وأصحابه، فهذا هو سبب تخلفهم لا ما اختلقوه من العوز الكاذب، وان طلبهم الاستغفار صورة، لأنهم لا يعتقدون منفعته وحقيقته «قُلْ» يا سيد الرّسل لهؤلاء الكاذبين إذا كان الأهل والمال عائقين عن الذهاب للجهاد أو لمجرد استصحابك «فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا» القتل أو الهزيمة أو خلل بالمال والأهل أو مجرد عقوبة على تخلفكم هذا «أَوْ أَرادَ بِكُمْ» ما يضاد ذلك من كلّ أنواع الخير مما يعدّ رزقا تنتفعون به «نَفْعاً» هل ينفعكم غير الله، وهل يكشف الضّر عنكم غيره؟ فسيقولون لك كلا لا أحد البتة، ولذلك فلا محل لقبول عذرهم «بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» (11) وقد أخبر الله رسوله بأنكم ستعتذرون في هذه الأعذار الواهية بألسنتكم وتخفون ضدها، والأمر ليس كما ذكرتم بل كما قلت لكم «بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً» وقلتم إن أهل مكة سيستأصلونهم جميعا فلا يرجعون إلى المدينة «وَزُيِّنَ ذلِكَ» الظن من قبل الشّيطان «فِي قُلُوبِكُمْ» وقطعتم بصدقه «وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ» بأن الله تعالى مخلف وعده لرسوله فينهزم ويغلب «وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً» (12) بائرين هالكين «وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» ويظن بهما هذا الظّن السّيء الذي يؤدي إلى كفره «فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ» سماهم كافرين هنا لأنهم ظنوا بالله اخلاف وعده لرسوله، ومن يظن هذا الظّن فهو كافر ويكون مأواه «سَعِيراً» (13) نارا متأججة، لأنه لم يصدق قول الله ورسوله ولو صدق لما ظن هذا الظّن، ثم إن الله تعالى لم يقطع أمل المنافقين منه إذا تابوا وأنابوا ونصحوا، وقد فسح لهم الأمل بقوله جل قوله «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يقيم فيهما من يشاء من خلقه وكلّ من وما فيهما ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، ويختار طائعهم وعاصيهم «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (15) بخلقه لا يزال يقبلهم(6/274)
إذا رجعوا إليه مخلصين، ثم ان حضرة الرّسول بعد أن وصلوا المدينة صار يعرض بغزو خيبر لأن الله فتحها وتخصيص غنائمها بالّذين شهدوا الحديبية وأخبره الله بما سيقول الّذين لم يشهدوها معه بقوله «سَيَقُولُ» لك «الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ» وقد أظهر الله تعالى كذب عذرهم في قولهم هذا لأنهم لم يحتجّوا بأشغالهم وأموالهم وأهليهم كما ذكروا قبل عند طلبهم الاستغفار لما في هذه الغزوة من أمل الغنيمة، بخلاف الحديبية لأنها كانت للزيارة فقط، وبان بهذا أن مبنى حالهم على الطّمع ليس إلا «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا» بطلبهم هذا الالتحاق معكم «كَلامَ اللَّهِ» الأزلي القاضي بعدم ذهابهم وباختصاص غنائم خبير لأهل الحديبية، فإذا قبلتم طلبهم فينبغي أن تشركوهم بالغنائم، والله تعالى لم يرد ذلك، فكأنهم غيروا كلام الله، وهذا هو قصدهم ليس إلّا فيا سيد الرّسل «قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا» أبدا ما دمتم على نفاقكم لا مطلقا لمنافاته لما يأتي بعد «كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ» وأوحى إلى نبيه به «مِنْ قَبْلُ» وصول المدينة أثناء رجوعه من الحديبية لا الآن «فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا» على ما يصيبنا مما تعنونه. قال تعالى «بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (15) من كلام الله مما فيه نفع لهم فقط وهذا هو الذي سبب حرمانهم لا من كون المؤمنين يحمدونهم. فيا أكمل الرّسل «قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى» قتال «قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ» وعزم قوي، فإن أطعتم «داعيكم إلى قتالهم كنتم مؤمنين حقا ولكم الأجر من الله
والنّعمة والمغفرة كما سبق من ذنوبكم كلها إلى يوم تلبيتكم هذه الدّعوة، وإذا أعرضتم وثبّتم على نفاقكم فلكم العذاب الأليم على ما اقترفتموه وهؤلاء الّذين ستدعون إلى قتالهم «تُقاتِلُونَهُمْ» فتقتلونهم «أَوْ يُسْلِمُونَ» فيسلمون لكم ويؤمنون بالله ورسوله ولكم بذلك الثواب الذي ما فوقه ثواب، لا يقاس بكل الغنائم، قال صلّى الله عليه وسلم لأن يهدبك الله رجلا خير لك من حمر النّعم. وفي هذه الآية بشارة لتحقيق أحد الأمرين النّصر والظّفر أو الإسلام والإيمان «فَإِنْ تُطِيعُوا» من يدعوكم لقتالهم «يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً لقاء إطاعتكم هذه وكذلك كلّ طاعة لرسولكم وإمامكم وأميركم(6/275)
يكون لكم فيها الأجر الحسن والثواب الجليل «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ» عن واقعة الحديبية «يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً» (16) لا تطيقه أجسامكم، وهؤلاء القوم الّذين وصفهم الله بالحزم البالغ هم هوازن وثقيف لأنهم من أشد العرب بأسا، وقد نزلت هذه الآية فيهم، والله أعلم، والدّاعي هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهذا التفسير والتأويل أنسب بالمقام لأنه بمعرض الامتحان للمنافقين المذكورين، وان قوله تعالى (لَنْ تَتَّبِعُونا) مقيد بأمرين في غزوة خيبر لما سبق من أن الله تعالى خصص غنائمها لأهل الحديبية، واستمرارهم على النّفاق، وعليه فإنهم إذا آمنوا وصدقوا بقلبهم ولسانهم ونصحوا الله ورسوله فلا مانع من اتباعهم لحضرة الرّسول في غزواته الأخر. وما قاله بعض المفسرين من أن المراد بهم فارس والرّوم حينما دعاهم إلى حربهما عمر رضي الله عنه زمن خلافته وإن هذه من قبيل الأخبار بالغيب بعيد عن المعنى المراد بسياق الكلام وسياقه، وأبعد منه القول بأنهم بنو حنيفية أهل اليمامة قوم مسيلمة الكذاب حينما دعاهم لحربهم أبو بكر رضي الله عنه في خلافته، لأن ما نحن فيه ينافي هذين الأمرين لما فيه من عود الكلام إلى غير مذكور، ولا يوجد ما يدل عليه، ولا هو معلوم أو مشهور راجع الآية 22 من سورة ص في ج 1 وما هو في معناها مما رمزنا إليه في تفسيرها وإن عود الكلام إلى ما سبق له ذكر كما جرينا عليه أولى بالمقام وأنسب للمعنى المراد وأحسن، ولأن هاتين الحادثتين وقعتا بعد نزول هذه الآية بسنتين وكونها من الأخبار بالغيب جائز ككثير من أمثالها، ولكن مناسبتها لما قبلها يبعد ذلك والله أعلم، واعلم أن كلّ من تخلف عن دعوة الإمام إلى الحرب دون عذر شرعي فهو منافق يدخل دخولا أوليا في هذه الآية، لأن تخلفه دليل على عدم نصحه لامامه، وإن ما في قلبه مخالف لما في لسانه، وإن حضرة الرّسول لو لم يدعهم إلى جهاد هوازن وثقيف حينما استنفر النّاس لحرب حنين وبني المصطلق الآتي ذكرهما بعد في سورة التوبة الآتية التي قصد بها اختبارهم وإظهار رجوع من رجع منهم عن نفاقه لما جاز، بل لا متنع أبو بكر وعمر من الاذن لهم بالخروج معهم إلى الجهاد كما امتنعا من أخذ الزكاة من ثعلبة لا متناع رسول الله من أخذها منه، وكما(6/276)
امتنعا من إعادة مروان بن الحكم من منفاه لأن حضرة الرّسول طرده من المدينة لأنهم لا يخالفون رسولهم قيد شعرة قولا ولا فعلا حيا كان أو ميتا، وهذا مما يدل على صحة ما ذكرناه وعلى أن الدّاعي هو حضرة الرّسول لا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما. واعلم أن من قال أن الدّاعيين أبو بكر وعمر استدل على صحة خلافتهما، إذ وعد المدعوين بالثواب على طاعة الدّاعين وليس بشيء، وخلافتهما لا يمتري فيها إلّا منافق أو حسود فاسق. ولما سمع الزمنى والمرضى والعرج والعميان هذه الآية قالوا كيف حالنا يا رسول الله؟ فأنزل الله جل شأنه «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ» في التخلف عن الجهاد لعدم قدرتهم على الكر والفر ويدخل في هذه الآية الفقير الذي لا يمكنه استصحاب ما يلزمه من أدوات الجهاد ولم يمنحه الإمام أو الأمير شيئا يكفيه لذلك ويدخل في هذه الآية من يمرض المريض كما سيأتي في الآيتين 93 و 94 من سورة التوبة الآتية، أما ما جاء في آية النّور 62 المارة المضاهية لهذه الآيات من حيث اللّفظ فهي في حق الأكل لا في حق الجهاد إذ كلّ منها جاءت لمناسبة ما قبلها «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ» عن
أمرهما ويعرض عنهما «يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً» (17) في الدنيا والآخرة. قال تعالى «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ» من الصّدق والإخلاص في بيعتهم لك والوفاء بما عاهدوك به وواثقوك عليه، لأنهم صرحوا بالموت وعدم الفرار في مبايعتهم وما بعد هذا من وفاء كما علم ما في قلوب المنافقين من الشّك والنّفاق والظّن السّيء «فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ» وثبتهم واطمأنت نفوسهم «وَأَثابَهُمْ» على ذلك «فَتْحاً قَرِيباً» (18) لأراضي خيبر وقراهم «وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها» منها ومن غيرها فيما يأتي من الزمن إلى يوم القيامة إن شاء الله «وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (19) ولم يزل كذلك على الدّوام والاستمرار «وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ» مغانم خيبر لتسدوا حاجتكم فيها، وهي في جنب ما يأتيكم بعد قليل من كثير، وفيها إشارة إلى كثرة(6/277)
وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)
الفتوحات والغنائم التي يعطيهم الله تعالى إيّاها في المستقبل «وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ» أي أهل خيبر إذ وقع في قلوبهم الرّعب فلم يجرؤا على قتالكم، وكذلك حلفاؤهم أسد وغطفان كفّهم عنكم وألقى في قلوبهم الرّعب فمالوا إلى الصّلح كما سيلقيه في قلوب أهل مكة فيستسلمون لكم «وَلِتَكُونَ» هذه الفتوحات والغنائم «آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» وعبرة يعرفون بها مكانتهم عند الله وضمانة لهم بالنصر والفتح وعظة لأعدائكم كي لا يجرءوا على مقابلتكم، ودلالة على صدق ما وعد الرّسول بذلك وإيقانا بأن إخباره بالغيب حق وصدق ثابت واقع لا مرية فيه، فيزدادوا إيمانا ويقينا بما يخبر «وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» (20) بمنه وفضله
«وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها» فهي مؤخرة تأتيكم بعد «قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها» وحفظها لكم ومنع الغير من تناولها حتى وإن فتحها من قبلكم أيها المؤمنون فتأخذونها أيضا قال ابن عباس هي فارس والرّوم، لأن العرب كانت لا تقدر على قتالهما، وكان ذلك زمن الخلفاء الرّاشدين. وهذا من الإخبار بالغيب فيدخل فيه كلّ ما وقع من الفتوحات والغنائم بعد نزول هذه الآية، سواء الذي زمن الرّسول صلّى الله عليه وسلم أو زمن الخلفاء الرّاشدين فمن بعدهم «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً» (21) بذل لعظمته كلّ شيء ولا يعجزه شيء فتشمل هذه الآية كلّ فتح وغنيمة حازها المسلمون مما وقع ويقع إلى آخر الدّوران، فنسأل الله أن يقدرهم على إعادة عزّهم وعلو كلمتهم، ويجمع شملهم، ويوحد خطتهم، إنه على كلّ شيء قدير وبالإجابة جدير، وما شيء على الله بعزيز. قال تعالى «وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» من أسد وغطفان حلفاء خيبر، وذلك لنهم قالوا لبعضهم إذا اشتغل المسلمون بحرب حلفائنا أهل خيبر نميل عليهم فنسبي ذراريهم فمنعهم الله بإلقاء الخوف في قلوبهم ولذلك قال «لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ» منهزمين «ثُمَّ لا يَجِدُونَ» لو أقدموا على قتالكم «وَلِيًّا» يواليهم عليكم «وَلا نَصِيراً» (22) ينصرهم أبدا. واعلموا أن ما يفعله الله لأوليائه من النّصر خذلان لأعدائه، وليس هذا بأمر مبتدع بل هو «سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ» في نصرة أحبابه وكبح أعدائه الجارية قبل للأنبياء وأتباعهم جارية لك ولأصحابك يا محمد «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ(6/278)
اللَّهِ تَبْدِيلًا»
(23) ولا تغييرا بل تبقى مستمرة للرسل وأتباعهم إذا ساروا على سنتهم مادام الملوان، وإن الله كما أنجز وعده لمن قبلك منجزه لك، لا يحول دون ما يريده حائل البتة. ثم شرع يذكر حضرة الرّسول وأصحابه نعمته في صلح الحديبية، فقال «وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ» في حرمها، لأن قسما من الحديبية داخل فيه ولو وقع الحرب فيها لامتد إلى نفس البيت حتما «مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ» أي مكنكم منهم بالمبايعة الحقيقة الواقعة عن رغبة شديدة في القتال «وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» (24) لا يخفى عليه شيء ولا يفلت منه شيء ولا يغفل عن شيء. أخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه أن ثمانين رجلا من أهل مكة (يوم الحديبية) هبطوا على رسول الله من جبل النّعيم مسلحين يريدون الغدر برسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم سبايا فاستحياهم وقال عبد الله بن معقل المزني هم ثلاثون شابا، فدعا عليهم رسول الله فأخذ الله أبصارهم وأخذناهم ثم خلى سبيلهم رسول الله، فنزلت هذه الآية بمعرض المن على رسول الله من ربه عزّ وجل قال تعالى «هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» ومنعوكم من دخوله «وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً» محبوسا وممنوعا عن «أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ» الذي يذبح فيه تقربا إلى الله «وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ» ستضعفون عند أهل مكة «لَمْ تَعْلَمُوهُمْ» أثناء القتال لو فرض إيقاعه فيوشك «أَنْ تَطَؤُهُمْ» فتوقعوا بهم القتل لعدم معرفتكم بهم بسبب اختلاطهم مع أعدائكم أو تتسببوا بقتلهم من قبل أعدائكم انتقاما «فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ» اثم عظيم بسبب قتلهم وتغريمكم دينهم والزامكم الكفارات بسبب قتلكم إياهم «بِغَيْرِ عِلْمٍ» منكم بأنهم مؤمنون لاختلاطهم مع الكفار، فلولا هذا لما القى في قلوبهم قبول الصّلح الذي فيه اجحاف عليكم فقبلتموه على علاته، والا لأذن لكم بالقتال في بطن مكة ليس في حرمها فقط، ولدخلتم مكة عنوة بإذن الله وحاربتموهم في عقر دارهم وتوفقتم عليهم وأديتم الزيارة التي جئتم لأجلها رغما عنهم، ولكن لم بأذن الله لكم في ذلك وحال دون هذه الواقعة المنصورة خوف إضرار أولئك(6/279)
المساكين وعدم تأثيمكم، ولوجود أناس من الكفار علم الله أنهم سيؤمنون بعد، إذ لم يحن الوقت المقدر لإيمانهم، كما أن فتح مكة لم يأت أجله ولم يفعل الله تعالى ذلك إلا «لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» من أهل مكة الّذين ما نعوكم من دخولها فيهديهم للأسلام، وقد كان ذلك، أما إنهم «لَوْ تَزَيَّلُوا» تفرقوا وامتازوا المؤمن من الكافر وأمن ذلك المحذور «لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً» (25) بأن هديناكم للقتال ومنعناكم من قبول الصّلح ونصرناكم عليهم سبيا وجلاء وقتالا، ولكن لم يرد الله هذا لما ذكر. ثم ذم الله الكفرة على ما وقع منهم أثناء كتابة
الصّحيفة بما اتفق عليه من الصّلح بقوله «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ» الأنفه والاستكبار، إذ لم يقروا بسم الله الرّحمن الرّحيم، ولا محمد رسول الله محتجين بعدم اعترافهم بهما، مع أنهما حق صريح لأن الله أنزل البسمة على رسوله وشرفه بالرسالة، وقد أخبرهم بذلك، ولكن تعاظمهم أبى عليهم قبول الحق حتى في الكتابة ثم أنهم لم يتركوهم ليزوروا البيت ويذبحوا هديهم فيه لئلا يقال أنهم غبنوا في ذلك ورغموا عليه ثم انهم اشترطوا على محمد أن يرد من جاءه منهم ولم يردوا من جاءهم من أصحابه. فكانت هذه الشروط المجحفة «حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ» استولت عليهم فأخذت على قلوبهم بها ليس إلا، وإلّا فماذا يضرهم لو تركوهم يزورون ويذبحون نسكهم ويكتبون اسم الله ورسوله ويقابلونهم بالمثل فيمن يأتي من الطّرفين، ولهذا اغتاظ المؤمنون وأبو ألا أن يكون ما رفضوه أو يقاتلونهم «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ» طمأنيته ووقاره وانائته «عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ» فأزال غضبهم وحنقهم ووسع صدورهم حتى خضعوا لذلك وعصمهم الله من أن يداخل قلوبهم شيء من الأنفة التي أخذت سهيلا ورفاقه الّذين تولوا تدوين شروط المعاهدة المشار إليها في الآية 10 من سورة الممتحنة المارة وقبولها مع الكراهة. قال تعالى (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) الآية 18 من سورة النّساء المارة، وكان كذلك كما ذكرناه في الآية 75 من سورة النّساء أيضا فراجعها «وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى» المندرج تحتها السّمع والطّاعة والإخلاص والثبات والصّبر والوفاء وكل(6/280)
خير «وَكانُوا» أصحاب محمد أهل بيعة الرّضوان «أَحَقَّ بِها» بتلك الكلمة المنطوية على فروع كثيرة من كفار المتلبسين بكلمة الكفر «وَأَهْلَها» المؤمنون المتلبسون بها، لأنهم الموحدون الله المتصفون بتقواه فهم أولى بالتّسربل بها، لأن الله كتبها لهم في علمه الأزلي «وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» (26) ومن جملتها علمه بأن هذا الصّلح الذي يراه المؤمنون مجحفا فيهم خير لهم لما فيه من الفوائد التي سيطلعهم الله عليها بعد، والنّوائب للكافرين التي سيريهم إياها. هذا وكان صلّى الله عليه وسلم قبل أن يخرج إلى الحديبية رأى في المنام أنه دخل المسجد الحرام وأصحابه آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين، فقصها على أصحابه، فلما كان الصّلح ورجعوا دون أن يدخلوها قال المنافقون أين رؤياه التي رآها؟ فشق ذلك على المسلمين، فأنزل الله على طريق الحكاية عن رسوله صلّى الله عليه وسلم قوله عز قوله «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ» الذي لا مرية فيه، ثم أقسم جل شأنه تأكيدا لإنجاز وعده هذا لنبيه صلّى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ» لا يقوتكم وإرادتكم ولتكونن «آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ» منها «لا تَخافُونَ» أحدا أبدا، وهذا الاستثناء في قوله تعالى مع أن وعده حق واخباره صدق لا شبهة فيه عبارة عن تعليم عباده الأدب لئلا يجزموا بشيء مهما كان محققا ومهما كان عزمهم فيه جازما بإنجازه، لأنهم لا يعلمون ما يقدر الله من الحوائل دون تنفيذ ما صمموا على إجرائه، ولذلك أراد منهم الاستثناء في كلّ أمورهم بان لا يقسموا على فعل شيء أو يجزموا على اجرائه إلّا أن يقرنوا مشيئه الله معه، ولهذا أمرهم بقوله جل قوله (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) الآية 24 من سورة الكهف في ج 2 «فَعَلِمَ» الله تعالى من الخير في هذا الصّلح لكم «ما لَمْ تَعْلَمُوا» أنتم ولا غيركم عاقبته الحسنة، ولو علم أعداؤكم نتيجته كما وقعت لما فعلوه، لأن الله كادهم فيه «فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ» قبل نهاية أجل تلك المعاهدة «فَتْحاً قَرِيباً» (27) عظيما هو فتح مكة المذكور في الآية 75 من سورة النّساء المارة، وقد شرح فيه صدور المؤمنين وروج ما فيها من الاغبرار، ثم رجعوا من العام(6/281)
المقبل ودخلوا مكة محلقين ومقصرين، وأعقبه الله بفتح مكة قبل مرور سنتين على ذلك الصّلح، وقد مر سبب نقضه وكيفيته في قصة الحديبية في الآية 10 من سورة الممتحنة المارة، وقصة خيبر وقصة الفتح مرتا آنفا، وإلى هنا تنتهي الآيات النازلة في الطّريق، وإنما كانت متوالية وموضحة للحادثة، ولم تكن بالاشارة والتعريض كغيرها لازالة ما في قلوب المؤمنين من الغيظ الذي لحقهم بسبب تلك الشروط التي أدرجت في صك المعاهدة، لأنهم رأوها منقصة لقدرهم وضارة بهم لعدم علمهم بعاقبتها، إذ وقع الخسار
والخيبة والذل لأعدائهم فيها مما لم يتصوروه ولهذا قال بعض المفسرين إن هذه السّورة نزلت كلها في الطّريق تسامحا لنزول هذه الآيات.
مطلب فيما امتاز به أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم ودينه ووصف أصحابه والتوقي من ذكرهم بسوء:
قال تعالى: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ» دين الإسلام دين ابراهيم عليه السّلام «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» بحيث لا يبقى على وجه الأرض غيره، وسيكون هذا بعد نزول عيسى عليه السّلام فعلا إن شاء الله، أما بالقوة فقد ظهرت تعاليمه وعمت وجه الأرض ودان به أهلها من حيث لا يعرفونه، وهذه شهادة من الله تعالى لهذا الدّين الحنيف «وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» (28) على ذلك فلا قيمة لإنكار المنكرين وتكذيب المكذبين مع هذه الشّهادة القيمة. ثم صرح باسم هذا الرّسول الذي أظهره دينه على الأديان، فقال عز قوله «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» كما صرح باسمه الشّريف في الآية 144 من آل عمران والآية 2 من سورته المارات أي أن هذا الرّسول العظيم صلّى الله عليه وسلم «وَالَّذِينَ مَعَهُ» من أصحابه الكرام والمؤمنين الصّادقين «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ» أوداء رؤفاء بعضهم على بعض بمثابة الوالد على الولد، لا يثنيهم عن مقاتلة الكفار أحد لشدة إيمانهم بالله ومتانة عزمهم وقوة شكيمتهم واتفاق كلمتهم، وبمقابلة هذه الأوصاف الرّقيقة يقابلون أعداءهم بتلك الأوصاف الغليظة، ومع هذا فإنك «تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً» لمرضات ربهم «يَبْتَغُونَ» بتواددهم بعضهم وعبادتهم(6/282)
لربهم جل وعلا «فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً» لا سمعة ولا رياء ولا غرضا ولا عوضا «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ» نورا ساطعا يوم القيامة «مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ» غرّة في جباههم وتجميلا في أيديهم وأرجلهم، يسطع نورا أيضا من آثار الوضوء فإنهم يحشرون غرا محجّلين كما جاء في الحديث الصّحيح، لأعضائهم بريق ولمعان يعرفون بهما بين النّاس «ذلِكَ» المثل الموصوف به محمد وأتباعه في هذا القرآن هو «مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ» أيضا، وقد تم الكلام هنا فينبغي أن يوقف عليه ثم يبتدأ القارئ مستأنفا بقوله تعالى «وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ» فراخه وما تفرع عنه في جوانبه أي شواطئه «فَآزَرَهُ» عضده وقواه ومكنّه «فَاسْتَغْلَظَ» ذلك الزرع وقوي وتمكن «فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ» أصوله وقصبه وجذوعه وصار «يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ» بادي الرّأي لحسن نباته وكثرة فروعه وقوة جذوره، وهذا مثل ضربه الله تعالى إلى سيدنا محمد وأصحابه في الإنجيل بان قوما يخرجون بعد فينبتون نبات الزرع أي يكونون قليلين ثم يكثرون، فالزرع محمد والفروع أصحابه والمؤمنون به، وإنما جعلهم الله كذلك «لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ» ويوقع في قلوبهم الرّعب منهم بسبب اتحادهم ومحبتهم بعضهم لبعض، وتعاونهم على عدوهم، وبذلك «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً» لذنوبهم وسترا لعيوبهم في الدّنيا «وَأَجْراً عَظِيماً» (29) في الآخرة، وهذا مما يزيد غيظ الكافرين فضلا عن أنه تعالى وعدهم النصر في الدّنيا والعزة في العقبى. وفي هذه الآية ردّ لقول الرّوافض بأنهم كفروا بعد وفاته صلّى الله عليه وسلم فحاشا ثم حاشا، وهل يعد الله هذه المغفرة والأجر إلّا لأوليائه الّذين ثبتوا على ما عاهدوا الله عليه وماتوا على ما واثقوا رسوله به، راجع الآية 10 من سورة الحشر المارة تقف على ما يتعلق في هذا البحث. أما ارتداد من لم يتمكن الإيمان في قلوبهم ولم تتشربه جوارحهم عند وفاته صلّى الله عليه وسلم ولا يكون دليلا لقولهم، كيف وقد أخبر رسول الله عنهم فيما أخرجه الترمذي عن عبد الرحمن بن عرف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال أبو بكر في الجنّة وعمر في الجنّة وعثمان بن عفان في الجنّة وعلي بن أبي طالب في الجنّة وطلحة في الجنّة والزبير في الجنّة وعبد الرّحمن(6/283)
ابن عوف في الجنّة وسعد بن أبي وقاص في الجنّة وسعد بن زيد في الجنّة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنّة. وأخرج عن سعيد بن زيد مثله وقال هذا أصح من الأوّل وعن أنس بن مالك قال قال صلّى الله عليه وسلم أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر وأشدهم حياء عثمان وأقضاهم علي وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرأهم أبيّ بن كعب، ولكل قوم أمين وأمين هذه الأمة عبيدة بن الجراح، وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر أشبه عيسى في ورعه، قال عمر فتعرف له ذلك يا رسول الله؟ قال نعم- أخرجه الترمذي في موضعين- وروى البخاري عن أنس أن رسول الله صلّى الله
عليه وسلم صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال أثبت أحد (قال أنس أراه ضربه برجله) فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان وهذا من الإخبار بالغيب ومن جملة معجزاته صلّى الله عليه وسلم لأن عمر وعثمان ماتا شهيدين وقضية قنلهما معروفة ومشهودة رضي الله عنهما وأرضاهما راجع الآية عشرة من سورة الحشر تجد ما يتعلق بهذا- وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه فبعد هذا أيها النّاس أيليق بمسلم أن يذكر أصحاب محمد بسوء، وهل يجوز أن يقال فلان منهم أخطأ وفلان أصاب ولو فعل كذا لكان كذا وقد جفت الصّحف ورفعت الأقلام بما وقع منهم، وهم أعلم النّاس وأحسنهم وأرضاهم لله بعد رسوله، فعلى العاقل أن يكف لسانه وسمعه عن ذكرهم إلّا بخير، ويعتقد أن ما وقع منهم مجرد اجتهاد تحروا فيه الحق، وإن ساحتهم براءة مطهرة من كلّ ما هو خلاف الأولى بحسب اجتهادهم رضي الله عنهم وأرضاهم وحشرنا في زمرتهم، والله يتولى المغالين بعد له وينصر المؤمنين بفضله، ويمكنهم من أعدائهم بقوته، ويعلي كلمتهم برحمته آمين.
هذا والله أعلم. وأستغفر الله. ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدّين، ومن تبعهم بإحسان آمين.(6/284)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
تفسير سورة المائدة عدد 26 و 112 و 5
نزلت بالمدينة بعد سورة الفتح عدا الآية (5) المذكور فيها (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) إلخ، فإنها نزلت في عرفات في حجة الوداع والتي واقف فيها. وهي مئة وعشرون آية، وأربعة آلاف ومئة وثلاثون كلمة، وعشرة آلاف وخمسمائة حرف، تقدمت السّور المبدوءة بما بدئت في سورة الكافرين ج 1، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» العهود والمواثيق والإيمان والوعود وكلّ ما ألزمتموه أنفسكم مما يسمى عقدا ويدخل فيه عقود الأنكحة والبيع والشّراء والرّهن والشّركة وغيرها مما أحله الله لكم وحرمه عليكم. ثم شرع بتفصيلها فقال عز قوله «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ» يدخل فيها كلّ بهيمة لأن النّكرة إذا أضيفت عمت، ولكن هذه الإضافة على تقدير من أي بهيمة من الأنعام المحلل أكلها فيخرج من عمومها ذوات الحوافر وما لم يعرف من الأنعام كالضواري والسّباع وبقية الوحوش مما لم يؤكل أما الظّباء وبقر الوحش وحماره وما يؤكل من أمثالها فتؤكل، وقال ابن عباس ومن بهيمة الأنعام الجنين والحكم الشّرعي فيه هو إذا ذبحت أمه وخرج حيا ذبح وأكل بلا خلاف، وإن خرج ميتا فلا، وما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال في الجنين ذكاته ذكاة أمه أي كذكاتها بأن يذبح مثلها لا أن ذبح أمه ذبح له ولو خرج ميتا، وقال الشّافعي يؤكل ولو خرج ميتا، لما جاء في بعض الأخبار أنه ككبدها، وكأنه رضي الله عند تلقى الحديث برفع ذكاة، فيكون المعنى ذكاته هي ذكاة أمه وتلقاه أبو حنيفة ومن تبعه بالنّصب، وعليه يكون المعنى ذكاته كذكاة أمه رحم الله الجميع ورضي عنهم وأرضاهم فكل ما يطلق عليه لفظ بهيمة على ما ذكر أعلاه حل لكم أيها النّاس «إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» تحريمه فيما يأتي فهو حرام عليكم، وهذا التحليل ليس على إطلاقه أيضا فيما أحل لكم، إذ قد يستثنى منه في بعض(6/285)
الأحوال منها ما هو في قوله تعالى «غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ» لأنه وان كان حلالا إلا أنه يحرم عليكم «وَأَنْتُمْ حُرُمٌ» في حرم مكة شرفها الله، إذ لا يجوز لكم صيد شيء من تلك البهائم ولا أكله تبعا لحرمة صيده، وليس لكم أن تعترضوا على أحكام الله فيما يحلل ويحرم «إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ» (1) في شؤون خلقه لا يسأل عما يفعل، ولا راد لحكمه، ولا معقب لما يحكم، فله أن يتعبدكم بما تعلمون سببه ونفعه وضره ومالا «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ» بسبب أنكم لا تعقلون المراد منها ولا فائدتها ولا نتيجتها، بل عليكم أن تعتقدوا ما حرم عليكم لمجرد تحريمه، وحل ما أحله لكم بمطلق تحليله، بقطع النّظر عن الأسباب الداعية لذلك. وسبب نزول هذه الآية أن الخطيم شريح بن هند بن ضبة البكري أتى المدينة وحده وترك خيله وراءها ودخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال إلام تدعو النّاس؟ فقال إلى شهادة أن لا أله إلّا الله وإقام الصّلاة وإيتاء الزكاة، فقال حسن الا إن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم، ولعلي أسلم وآتي بهم، وخرج فقال صلّى الله عليه وسلم دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر، وما الرّجل بمسلم، فلما ذهب مرّ بسرح المدينة فاستساقه، فلما كان العام القابل خرج حاجّا مع بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة وقلد الهدي، فقالوا يا رسول الله هذا الخطيم فخلّ بيننا وبينه فقال إنه قلد الهدي، فقالوا هذا شيء كنا نفعله بالجاهلية، فأبى صلّى الله عليه وسلم، فنزلت بمنع التعرض لمن يقدم البيت بأحد شعائر أعلام الدّين ومناسك الحج والعمرة، إلا أن هذا على فرض صحته لا يقيد الآية بما ذكر ولا يخصصها فيه بل هي عامة في النهي عن استحلال كلّ شعيرة من شعائر الله «وَلَا» تحلوا أيها النّاس «الشَّهْرَ الْحَرامَ» بأن تقاتلوا فيه من لم يقاتلكم فيه، أما إذا بدأكم أحد بالقتال فيه فقاتلوه لأنه يكون دفاعا مشروعا. راجع الآية 192 من البقرة «وَلَا» تحلوا «الْهَدْيَ» المساق إلى البيت الحرام «وَلَا الْقَلائِدَ» البدن المقلدة إعلاما بأنها مهداة إلى البيت، إذ لا يجوز أخذها بوجه من الوجوه لاختصاصها بالحرم «وَلَا» تحلوا قتال «آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ» أي قاصدينه «يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً» منه في الآخرة وربحا في الدّنيا بتجارتهم فيه. تشير(6/286)
هذه الآية إلى تحريم ذلك كله وتحذير النّاس من استحلال شيء منه لما فيه من إهانة البيت الواجب تعظيمه الذي جعله الله أمنا للناس ومخالفة أمر الله في ذلك.
مطلب في النّسخ والحرمات وأسباب تحريمها والأنصاب والأزلام وغيرها والآية المستثناة:
قال علماء النّاسخ والمنسوخ لم ينسخ من المائدة إلّا هذه الآية، والنّاسخ لها قوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) الآية 5 من التوبة فتكون ناسخة لقوله تعالى (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ) الآية المارة فقط، وإن قوله (وَلَا آمِّينَ) الفقرة منها منسوخة بقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) الآية 30 من التوبة أيضا. وقال بعضهم لم ينسخ منها إلّا جملة (وَلَا آمِّينَ) والنّاسخ لها الآيتان المذكورتان من التوبة الآتية. وقال بعضهم لم ينسخ إلّا كلمة القلائد لأنها من أعمال الجاهلية لأنهم كانوا يقلدون الهدي بشيء من لحاء الشّجر وشبهه، وقد ترك هذا بالإسلام. والقول الحق أن لا نسخ لشيء من ذلك أبدا كما ذهب إليه الواحدي وجماعة من علماء التفسير. وهذه الآية كلها محكمة كسائر السّورة، ومما يرد على القائلين بالنسخ هو أن الله تعالى لم يندبنا إلى إخافة من يقصد بيته من أهل شريعتنا، لا في الشّهر الحرام ولا في غيره، وهو الأوجه، لأن الآية مطلقة وليس لنا أن نقيدها بغير المؤمنين فنصرفها عن ظاهرها ونقول بالنسخ، ولأن آية براءة في المشركين خاصة فنصرفها إليهم كما صرفها الله، لأن المشرك لو قلد نفسه بجميع ما يدل على الشّعائر الإسلامية لا يؤذن له بالدخول إلى المسجد الحرام بعد نزول تلك الآية وإلى الأبد حتى يسلم، والقول الحق هو أنه ما دام يوجد للآية محمل على إحكامها فلا يليق أن نصرفها لغيره وننتحل طرقا للنسخ فنخرج عن صدد ما ترمي إليه آيات الله، فرحم الله علماء النّاسخ والمنسوخ ما أغلاهم فيهما، ولو صرفوا جهدهم هذا لغيره لكان خيرا لهم «وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» هذا أمر إباحة كقوله تعالى (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) لأن الله حرم الصّيد على المحرم حالة إحرامه بالحرم وحرم البيع حالة النداء إلى الجمعة، فإذا أحل المحرم جاز له الصّيد كما إذا قضيت الصّلاة حل له البيع، راجع آخر سورة الجمعة المارة «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ» يحملنكم ويكسبنكم(6/287)
ويوقعنكم في الجريمة «شَنَآنُ» بغض وكراهة «قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» في حادثة الحديبية وغيرها «أَنْ تَعْتَدُوا» عليهم بعد أن فتح الله عليكم وأظهركم عليهم وأعتقهم رسولكم لقوله أنتم الطّلقاء بعد أن استسلموا اليه، ولهذا صدر الله هذه السّورة بالأمر بالوفاء «وَتَعاوَنُوا» أيها المؤمنون «عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى» فيما بينكم واعفوا عمن أساء إليكم وغضوا عن مساويهم ومنهم الخطيم المذكور، لأن مجيئه إلى الحرم متلبسا باعلام الحج قبل نزول آية منع المشركين منه، فلا تتعرضوا له «وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» بقصد الانتقام والتشفي بل اجتنبوا كلّ ما يؤثمكم «وَاتَّقُوا اللَّهَ» بجميع أموركم وفيما بينكم وبين غيركم واحذروا عقاب الله أن تقدموا على شيء من محارمه «إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» (2) لمن يتعد حدوده فلم يتمثل أوامره ويجتنب نواهيه ثم بين المراد من قوله (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) المذكورة في الآية الأولى بقوله «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ» والمراد بالميتة الميتة حتف أنفها، لأن الموت في غالب الأحوال لا يكون إلّا عن مرض وهو يقلل من نفع الحيوان وكثيرا ما يجعله ضارا وقد يصاب آكله من نوع ذلك المرض، وإذا كان الموت عاديا فإن دمه يبقى في عضلاته بما يحمل من مواد ضارة وأخرى سامّة قد تؤدي إلى وفاة الآكل، أما ما يقال بان الطّبخ يذهب ذلك فليس بصحيح لأن من المواد ما لا ينهكها الطّبخ مهما بولغ فيه، وقد ذكرنا أن طاعة الله واجبة فيما له سبب وما لا، وعلينا أن نعلم أن الله تعالى لم يحرم علينا شيئا إلّا لدفع ضرر عنا أو قصد منفعة لنا وذلك حفظا لسلامتنا وراحتنا وكياننا، ولئلا نصاب بأمراض جسمية وعقلية بأنفسنا. واعلم أن المراد بهذا الدّم هو السّائل في الحيوان الحي أو غيره والمتجمد في الميت لأنه نسيج أعد لنقل ما تحتاجه العضلات من الأوكسجين والمواد الغذائية والتخلص من النّقايات مثل ثاني أكسيد الكربون وحمض اليولينا وغير ذلك من المواد الضّارة بالجسم التي يحملها الدّم في أعضاء الإخراج، وبذا يكون ضرره عظيما، ويشتد ضرره إذا كان الحيوان المأخوذ منه الدّم مريضا، وإذا مات الحيوان احتبس الدّم في عروقه فتفسد حالا لأنه أسرع أجزاء الجسم(6/288)
فسادا للطافته. واعلم أنه قد يحصل من أكل لحم الميتة والدّم ضرر عظيم لأن جميع مكروباته تتجمد في العروق المتخلطة
في اللّحم، يدلّك على هذا انه بصير كالمصل وهو دليل تسممه ويراد بهذا الدّم في هذه الآية المسفوح المبين في الآية 145 من سورة الأنعام المارة في ج 2 لأن القاعدة أن المطلق يحمل على القيد، والذبح الشّرعي يصفى الدّم ويخرج ما هو في العروق فيتخلص اللّحم من المواد الضّارة وقدمنا المستثنيات من الميتة والدم في الآية 173 من سورة البقرة المارة فراجعها، وقد وعدنا ببيان أسباب التحريم ومعاني هذه المحرمات والمراد منها في هذه السّورة لذلك ذكرنا ما وفقنا عليه من ذلك في الدّم والميتة، أما الخنزير فينطوي تحريم أكله على حكم بالغة أيضا لأنه ينقل أمراضا خطيرة لآكله أهمها (الدويدات) المعروفة الآن (ترانكنيلا) ، فإذا أكل إنسان لحم خنزير قد يصاب بحدوث هذه الآفة فتسبب له مرضا فظيعا، وأوله الإسهال والحمى مع آلام شديدة في جميع العضلات، وقد يعتريه هذا عند أقل حركة لأنه ناشيء عن وجود ديدان هذا الطّفيل في الألياف العضلية، وقد يزداد الألم في عضلات النّفس فيؤدي إلى وقف حركتها ويسبب الموت اختناقا ولم يعرف حتى الآن علاج هذا المرض ومرض السّرطان، والأطباء منهمكة فيها وعسى الله أن يطلعهم عليه أو يرشدهم لتحريم أكله طبا كما هو محرم شرعا. هذا ومع شدة مراقبة اللّحوم في البلاد الأجنبية فإن المصابين في هذا المرض كثيرون، وخاصة في البلاد المتمدنة الرّاقية بزعمهم فما بالك إذ في المدن الصّغيرة والقرى التي لا احتياط فيها. وينقل أيضا الدّودة الوحيدة المسماة (ألتبنا) التي لا ينقلها من الحيوان إلّا الخنزير فهو العائل لها دون غيره، فإذا أكل الإنسان لحم الخنزير ولم ينهك جيدا في الطّهي أصابه ذكل ولهذا ترى المصابين من أكلته كثيرين لأنهم اعتادوا أن يأكلوه على درجة غير كافية من النّضج لا تكفي لقتل ذلك الطّفيل، وقد يورث آكله على هذه الحالة الجذام والعياذ بالله، وقد انتشر في هذه السّنة في بيروت بسبب أكله لأن الإفرنسيين سببوا كثرته فيها وعوّدوا أكله من لم يعتده، بما حدا بالمفوض الإفرنسي فيها أن أذاع بلاغا نقلته الجرائد بلزوم أنهاك لحم الخنزير بالطبخ وعدم أكله دون ذلك. واعلم أن الأمراض(6/289)
التي تنشأ عن أكله تنتقل إلى الغير فلا يقتصر ضررها على المصاب بل يكون مصدرا للعدوى. وإنما يلازم ذلك الطّفيل الخنازير خاصة لأنها متوغلة بأكل الجيف والعفونات والأقذار، فضلا عن أن أكله يورث قلة المروءة والغيرة لأنك لا تجد حيوانا يشاهد مثله حين ينزو على الأنثى إلّا حاربه غير الخنزير فإنه يعينه على الفعل إذ يسنده بظهره حالة نزوّه ويركيه على الأنثى، ولهذا نجد المدمنين على أكله لا يبالون بما يصيب أعراضهم ولا يهمهم شأن نسائهم لأن الله تعالى أزال مادة الحياة منهم، أجارنا الله وحمانا من كلّ سوء ووقانا بفضله ولطفه. قال تعالى «وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» أي ذبح على غير اسم الله بأن يبتدأ باسم الموثن عند الذبح، وهذا أمر تعبدي تعبدنا الله به صونا لألوهيته من أن يشرك بها غيرها. قال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) الآية 121 من سورة الأنعام في ج 2 ولا حق لنا أن نقول لماذا بعد أن صرح لنا بتحريمه لأن أفعال الله لا تعلل «وَالْمُنْخَنِقَةُ» الميتة خنقا بدل الذبح كما يفعله الهندوس وغيرهم، وبعضهم يضربون الحيوان ضربة قوية على رأسه بآلة حديدية فيخر ميتا «وَالْمَوْقُوذَةُ» المقتولة ضربا «وَالْمُتَرَدِّيَةُ» الواقعة بنفسها أو المطروحة من مكان عال أو جبل شاهق فتموت «وَالنَّطِيحَةُ» من شاة أو بقرة أو غيرهما حتى تموت، فهذه كلها حكمها حكم الميتة وفيها ما فيها، إلا أنه لما كان موتها بسبب أفردها بالذكر لئلا يتذرع أحد بأنها لا تسمى ميتة ولا تدخل في حكمها «وَما أَكَلَ السَّبُعُ» بأن أكل بعضه فمات، والسّبع يطلق على كلّ حيوان له ناب يعدو على النّاس والدّواب كالأسد والذئب والنّمر وغيره، فكذلك أيضا حكمها حكم الميتة، ثم استثنى تعالى شأنه من هذه الأحوال فقال «إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ» بأن أدركتموه حيّا حياة مستقرة كعين تطرف أو ذنب يتحرك أو رجل ترفس فذبحتموه قبل أن يموت فيحل لكم أكله، لأن الذكاة كما ذكرنا آنفا تصفى تلك الدّماء السّامة وتخلص اللحم من المواد الضّارة بحكمة الله تعالى، أما الحياة غير الثابتة في الحيوان مما يرى في حركاته بسبب تفلص الدّم في عروقه أو اختلاج أطرافه وجوانبه فلا تعد حياة مجيزة لأكله
لأن هذه الحركات والاختلاجات قد تكون في الحيوان بعد الذبح(6/290)
بل بعد السّلخ، لذلك لا عبرة بها ولا يحل أكلها لأن جمود العين وعدم تحرك الذنب ورفس الرّجل مما يدل على عدم وجود حياة حقيقة في الحيوان تحل أكله «وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ» التي كانت تعظمها الجاهلية وهي أحجار منصوبة حول الكعبة بزمنهم كانوا يذبحون عليها لأصنامهم، فهذه وما هو في حكمها الآن كالذبح على الأحجار لأجل البناء خاصة الذي لا يقصد به وجه الله ولا يسمى عليه اسمه بل ذكر اسمه الشّيخ الفلاني أو الولي الفلاني فأكله حرام، أما إذا قال لله وذكر عليه اسمه تعالى ثم قال وثوابه إلى الشّيخ أو الولي أو حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم فلا بأس بأكله، وهذا الأمر بعدم أكل المذبوح على النّصب تعبديّ أيضا لصيانة اسم الإله من الإشراك بغيره وتعظيم ما لم يكن معظما، وهذا يشمل جميع ما يؤكل لا يختص بشيء من الأنعام. قال تعالى «وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ» القداح السبعة المستوية التي يتفاءلون بها عند إقدامهم وإحجامهم، على أمر من الأمور، وقد كتبوا على أحدها (أمرني ربي) وعلى الثاني (نهاني) وعلى الثالث (منكم) وعلى الرّابع (من غيركم) وعلى الخامس (ملصق) وعلى السّادس (العقل) والسّابع مغفل لا شيء عليه، فإذا أرادوا سفرا أو زواجا أو تجارة أو اختلفوا في نسب أحد أو أمر قتل أو تحمل دية أو غير ذلك جاءوا إلى هبل أكبر أصنامهم وأعطوا مئة درهم لصاحب القداح حتى يحملها لهم فيجيلها ثم ينشرها أمامه، فإذا خرج أمرني ربي فعلوا السّفر والزواج والتجارة وشبهها، وإن خرج نهاني ربي لم يفعلوا شيئا من ذلك، وإن خرج منكم فالولد المختلف عليه في النّسب يكون منهم، وإن خرج من غيركم فليس منهم، وإن خرج ملصق كان على حاله، وإن خرج العقل فيتحمل الدّية، وإن خرج المغفل الذي ليس عليه كتابة نشروها ثانيا، وهكذا حتى يخرج المكتوب عليه مما يريدون ويوافق ما نشروها لأجله. وقال بعضهم ان الأزلام ثلاثة فقط واحد مكتوب عليه أمرني ربي، والآخر نهاني ربي، والثالث مغفل لا شيء عليه، وعلى الأوّل عندهم المعول «ذلِكُمْ» العمل الذي اخترعتموه محرم عليكم فعله لأنه «فِسْقٌ» خارج عما أحل لكم أيها المؤمنون لأنه من مفتريات الجاهلية «الْيَوْمَ» بعد أن شرفكم الله بالإسلام وتمكن فيكم الإيمان، فقد(6/291)
«يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» أن ترجعوا إليه ثباتا، لأنكم تركتم الكفر وعوائد الجاهلية وركنتم إلى الإسلام وانقطع أملهم منكم، إذ لو بقيتم على عوائدهم لبقي لهم أمل فيكم، لذلك يجب عليكم ترك عاداتهم كلها كما تركتم دينهم الباطل لأنها أشياء باطلة من مخترعاتهم الدّاهية «فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي» أنا الله الذي أحيي وأميت وأجازي وأكافي، لا رب غيري ولا إله سواي يعبد، الحلال ما أحللته والحرام ما حرمته. والجملة نزلت بعرفة في حجة الوداع هي قوله تعالى «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» حدوده وأحكامه حلاله وحرامه فرائضه وسننه «وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» فلم أدع شيئا يتعلق بأمر دينكم ودنياكم إلّا بينته لكم «وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» من سائر الأديان فلا يقبل منكم غيره (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) الآية 86 من آل عمران المارة. (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ) الآية 19 منها أيضا، وهذه الجملة واقعة كالمعترضة بين ما قبلها وما بعدها كسائر الآيات المتقدمة والمتأخرة في النّزول عن سورها فإنها تكون معترضة كذلك «فَمَنِ اضْطُرَّ» لتناول شيء مما حرم عليه «فِي مَخْمَصَةٍ»
شدة جوع فأكل مما حرم عليه لعدم وجود شيء حالة كونه «غَيْرَ مُتَجانِفٍ» مائل «لِإِثْمٍ» مما أكل بأن كان زيادة على سد الرّمق «فَإِنَّ اللَّهَ» الذي رخص لكم هذا «غَفُورٌ رَحِيمٌ» (3) لا يؤاخذكم على ذلك بل يغفر لكم ذنبكم رحمة يحالكم لأن الضّرورات تبيح المحظورات، أما إذا استعمل الإنسان شيئا من هذه لغير ضرورة أكل أو زيادة على سد الرّمق غير مستحل له فيفسق شرعا لخروجه عن الطّاعة لما حده الله عليه، وإذا استحل شيئا منها يكفر، وقد بيّنا ما يتعلق في هذا وما قبله من المحرمات والمستثنيات في الآية 174 من سورة البقرة المارة. روى البخاري ومسلم عن طارق بن شهاب قال جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيدا، قال فأي
آية؟ قال (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) إلخ، فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعرفات يوم الجمعة من شهر ذي الحجة سنة(6/292)
عشر من الهجرة، والنّبي واقف بعرفة، فقرأها في خطبته وقال أيها النّاس إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلّوا حلالها وحرموا حرامها. وإنما قال تعالى يوم نزلت هذه الآية (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) مع أنه كان ولم يزل راضيا عن دين الإسلام قبل وبعد لبلوغه إذ ذاك رتبة الكمال، إذ بلغ أقصى درجاته من أصول وفروع، وليحثنا على التمسك به وزيادة المحافظة عليه، روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول قال جبريل قال الله عز وجل هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلّا السّخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه. وروى أنها لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه، ولهذا حفظ زمانها ومكانها إذ قال له صلّى الله عليه وسلم ما يبكيك؟ قال إنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلّا نقص، قال صدقت.
وفي رواية أن الذي بكى هو سيدنا أبو بكر رضي الله عنه فعلى فرض صحتها لا ينافي بكاء عمر أيضا إذ يجوز أن كلاهما وقع منه ذلك، ولكن هذه الحادثة تؤيد ما جرينا عليه من أن الذي بكى هو عمر لأن السّؤال وقع من اليهودي له لا لأبي بكر.
وقد أخذ من هذه الآية نعي رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنه هو صاحب الدّين ولم يعش بعدها إلا واحدا وثمانين يوما إذ كانت وفاته يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام ولا حدود ولا أحكام ولا فرض ولا سنه عدا قوله تعالى (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) الآية 282 من البقرة إذ تأخر نزولها عن سورتها، وقد أوضحنا ما يتعلق في هذا البحث عند تفسيرها فراجعه، وذكرنا آنفا أن هذه الآية لا تعدّ مكية وإن كان نزولها بمكة لأن كلّ ما نزل بعد الهجرة يسمى مدنيا. هذا وإنما قال صلّى الله عليه وسلم أحلوا حلالها وحرموا حرامها وكلّ سور القرآن يجب أن نحل حلالها ونحرم حرامها لزيادة الاعتناء على حد قوله تعالى (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) الآية 36 من سورة التوبة، على أنه لا يجوز الظّلم في شيء ما في جميع الأشهر، وإنما خص الحرم بعدم الظّلم لزيادة الاعتناء ولاشتمال هذه السّورة على ثمانية عشر حكما لا توجد في غيرها، أولها للمنخنقة وآخرها (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) الآية 106 الآتية قال(6/293)
تعالى يا سيد الرّسل «يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ» من المأكولات «قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» من كلّ ما تستطيبونه مما لم يرد نص بتحريمه والطّيب ما استطابته العرب أولو القوى الطّيبة والعقول السّليمة، لأن هذا الصّنف لا يستلذ إلا بالطيبات.
مطلب في أحكام الصّيد وما يؤكل منه وما لا، وما هو المعلم من غيره والصّيد بالبندقية والعصا وغيرهما.
«وَ» أحل لكم صيد «ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ» الكواسب للصيد كالكلب والنّمر والفهد والعقاب والصّقر والبازي والشّاهين والباشق وغيرهما أحل لكم صيدها حالة كونها «مُكَلِّبِينَ» أي مؤدبين هذه الحيوانات ومعلميها على الاصطياد بأن تمسكه لكم ولا تأكله لأنها لا ترسل إلى الصّيد ولا يجوز أن يؤكل من صيدها إلّا إذا كانت معلّمة، ولهذا قال تعالى «تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ» به من العلم بأصول إرسالها والاصطياد بها، فإذا تعلمن «فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» من الصّيد فهو حلال «وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» حين إرسال الحيوان والطّير عند الذبح إذا أدركتموه حيا «وَاتَّقُوا اللَّهَ» من أن تخالفوا تعاليمه هذه وغيرها فإنه محاسبكم عليها «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» 4 إذا حاسب وسرعة حسابه هو أنه تعالى يحاسب الخلق كلهم محاسبة رجل واحد مثل طرفة عين أحدكم. تنبه هذه الآية إلى أنه تعالى يحاسبكم إذا أقدمتم على خلاف تعاليمه، قال عدي بن حاتم وزيد الخيل بن المهلهل يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب و (باليزادة) العصا العظيمة فماذا يحل لنا؟ نزلت هذه الآية.
واعلم أن شروط التعليم في الحكم الشّرعي هي أنك إذا أوسدت الكلب أو غيره على الصّيد أي أغربته به (وأوسد بمعنى أسرع) وإذا أشليته أي دعوته شلى بمعنى رجع، وإذا زجرته عن الصّيد انزجر، وإذا أخذت الصّيد أمسكت عنه فلا تأكل منه شيئا، وأن لا ينفر منه إذا أراده، وأن يجيبه إذا دعاه، فإذا وجد هذا التأديب في الجوارح مرارا أقلها ثلاث كانت معلمة يحل قتلها وأكل صيدها وإلّا لا. روى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم(6/294)
فقلت إنا قوم نصيد بهذه الكلاب، فقال إذا أرسلت كلبك المعلم ذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك إلّا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، وإن خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره. وفي رواية. لا تدري أيها قتل. قال وسألته عن صيد المعراض فقال إذا أصبت بحده فكل وإذا بعرضه فقتل فاوقذ فلا تأكل لأنه يصير بحكم الميتة ضربا وهو حرام. وعليه فيجوز أكل الصّيد بضرب العصا أو الحجر الميتة ضربا وهو حرام. وعليه فيجوز أكل الصّيد بضرب العصا أو الحجر إذا لم يمت بها كما تقدم بالآية الثالثة المارة آنفا وإذا رميت الصّيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلّا أثر سهمك فكل فإن وقع في الماء فلا تكل لاحتمال أنه مات خنقا بسبب الغرق فيه، وأما صيد البندقية فإنه يؤكل سواء أدركه حيا فذبحه أو ميتا، وقد أفنى بهذا شيخ الإسلام المرحوم زنبلي على أفندي في فتاواه ج 2 ص 244 في كتاب الصّيد استدلالا بما مر.
روى البخاري ومسلم عن أبي ثعلبة الخشني، قال قلت يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم، وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بعلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي؟ قال أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا بها، وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل. على أنه إذا سمي التسمية وكان مسلما فلا بأس، قال في فتاوى الفيضية: وإن تركها ناسيا يحل، والمسلم والكتابي في ترك التسمية سواء- كذا في الكافي ج 2 ص 230- هذا وإن القرآن العظيم لم يتعرض لنجاسة الكلب وأكله، وقد جاء في الحديث الصّحيح:
إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب. وهذا مما يدل على نجاسته وحرمة أكله، ولهذا بالغ المسلمون في تجنب الكلاب، لأن إرشاده صلّى الله عليه وسلم ينطوي على فوائد كثيرة من النّاحية الطّيبة، لأن الكلاب تسبب أمراضا بملامستها لأنها تحمل جراثيم كثيرة أهمها داء الكلب والعياذ بالله، وهو لا يظهر مبدئيا على الكلب فإذا عض إنسانا انتقل ذلك الدّاء العضال اليه، وإذا لا مس شخص شعر(6/295)
كلب مصاب بدودة (الأكيزكوس) فيلتصق بعض بويضاتها المتناثرة من براز الكلب على شعره، فإذا تناول الشّخص طعاما بعد ذلك تكونت في الحوصلة في كبده أو في الرّئتين أو في المخ، وقد ينشأ عنه الموت، ولهذا فإن البلاد التي يكثر فيها احتكاك الإنسان بالكلب يكون هذا المرض فيها متفشيا، حتى انه بلغ عدد المصابين بذلك في ايسلندا ومراعي اوستراليا 15 في 100، وقد حفظ الله البلاد الإسلامية من هذا الدّاء لتجنب أهلها مباشرة الكلاب اتباعا لتحريض الشّرع الشّريف عن مقاربتها، وهذا من جملة الحكم البالغة فهنا لها ديننا الحنيف الذي أنجبت تعاليمه العظماء الّذين دان لهم الدّهر بالفضائل، وإن الأمة الإسلامية العربية لم تصل إلى العزّة والمجد وتملك الشّرق والغرب إلّا بفضل تمسكها بتعاليم دينها السّامية ولم ينحط قدرها ويتسلط عليها عدوها إلّا عند ما تقاعست عن تلك التعاليم حتى صاروا على ما هم عليه الآن من ذل وهوان واستعمار، اللهم وفقهم للعود الى دينك كما أردت، واهدهم لما فيه رشدهم. واعلم أن تحريم أكل الميتة لا يسري الى عدم الانتفاع بشعرها وجلدها وعظمها كما جرى عليه أبو حنيفة رضي الله عنه خلافا لما ذهب اليه الشّافعي رحمه الله في ذلك، وأجاز مالك الانتفاع بعظمها فقط، وإن تحريم أكل الحيوان المنصوص عليه في هذه الآية مؤيد بقوله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) الآية 146 من سورة الأنعام والآية 116 من سورة النّحل في ج 2 وآية البقرة 172 المارة، فالتنزيل المكي والمدني اقتصر على تحريم الميتة والدّم والخنزير، وما في آية المائدة هذه يدل على أن تناول غيرها من الحيوان جائز بدليل قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) الآية 40 من البقرة، وهذه الآية الكريمة وإن كانت تفيد الإطلاق إلّا انها تقيدت بما ورد في الآيات الأخر المذكورة أعلاه وهو ظاهر القرآن، فلا يحتاج لتأويل أو تفسير أو قياس، والمطلق يحمل على المقيد كما أشرنا إليه آنفا. هذا وقد أورد الفقهاء في كتبهم أحاديث صحيحة جاءت عن حضرة الرّسول بتحريم أكل كلّ ذي ناب من السباع وكلّ ذي مخلب من الطّير والحمير الأهلية، فعلى الورع أن يتقيد بما جاء عن حضرة الرّسول لأنه لا ينطق عن الهوى، وقد أمر الله بذلك فقال عز قوله(6/296)
(ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية 8 من سورة الحشر المارة على شرط أن يوثق بصحة ما ورد عنه صلّى الله عليه وسلم قال تعالى «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» التي سألتم عنها وقد كررها تأكيدا «وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ» فلا حرج بالأكل عندهم ومعهم وعلى مائدتهم مما يحل أكله عندكم وشربه، أما المجوس والمشركون ومن ليس لهم كتاب سماوي فلا يحل أكلهم للمؤمنين ولا جناح على المؤمنين أن يطعموهم من طعامهم، ولا قيمة لقول من قال أن المراد بالطعام هو الحبوب المطحونة غير المطبوخة ويحرم طعام أهل الكتاب ويعتقد نجاستهم المذكورة في الآية 28 من سورة التوبة الآتية نجاسة حسية لا معنوية لمخالفة صراحة هذه الآية والإجماع وما كان عليه عمل الأصحاب، كما لا وجه لقول من قال إن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) الآية 122 من سورة الأنعام في ج 2 لأنها مطلقة، وليس الأمر كذلك، لأن الأصل أنهم يسمون عند الذبح فيحمل أمرهم على هذا. قل إنا إذا تيقنا أنهم يذبحون على غير اسم الله فلا يحل لنا الأكل منه، وليس علينا أن نسأل عن هذا، ولا يجوز أن نأخذ بقول لا يعتمده الكتاب ولا السّنة. على أن أبا حنيفة رحمه الله قال لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا، وعلى أي دليل استندنا. وقال الشّافعي رضي الله عنه إذا صح الحديث فهو مذهبي وقال غيره تأويلا لقوله إذا صح الحديث فهو مذهبي بما
يخالف قولي فاضربوا بقولي عرض الحائط «وَالْمُحْصَناتُ» العفيفات الحرائر أحل لكم أخذهن سواء كن «مِنَ الْمُؤْمِناتِ» أو من غيرهن لقوله تعالى «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» أيضا «إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» مهورهن «مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ» أي متزوجين غير زانين «وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ» صاحبات يفجرون بهن، وهؤلاء الصّديقات اللائي هنّ في الحقيقة عدوّات قد تنفرد الواحدة منهن لأن يبغي بها صاحب واحد تخلص اليه فقط فلا تزاني غيره، ومنهن من تزاني غيره أيضا، وهذا حرام قطعا لا فرق بالزنى بها وبالمسب لة، راجع الآية 25 من سورة النّساء المارة فيما يتعلق في هذا البحث(6/297)
ففيه كفاية «وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ» فيما أحل الله وحرم ويتخذ أشياء محرمة بزعمه أنه لا بأس بها «فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» محق ثوابه وحرم من أجره إذا مات على حالته تلك دون توبة. واعلم أن قيد المؤمنات بالحرائر ليس بشرط إذ يجوز له أن يتزوج بالإماء كما أوضحناه في الآية 32 من سورة النّور المارة. واعلم أن اتخاذ الأخدان للزنى بهن يدل على الاستحلال، ومن استحل شيئا مما حرم الله فهو كافر، ولهذا قال تعالى «وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» (5) واعلم أن لفظ المحصنات يطلق على المتزوجات كما أشرنا اليه في الآية 23 من سورة النساء المارة، وعلى الحرائر كما هنا، ولفظ الأجور يطلق على المهور كما في هذه الآية وآية 25 من النّساء والآية 11 من سورة الممتحنة المارة أيضا، وقد ذكرناه أن ما ذهب اليه بعض المفسرين من كون لفظ أجورهن الواردة في الآية 24 من سورة النّساء هي بدل المتعة هو الذي دعا أكثر المفسرين وحدابهم على تفسير قوله تعالى (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) الآية 24 منها بان المراد في هذا الاستمتاع هو المتعة، ولولا هذا التفسير لم يقل أحد بأن المتعة ثبتت بالقرآن ونسخت بالسنة، لأن القول الحق انها ثبتت بالسنة ونسخت بها كما بيناه هناك، فراجعه. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ» إذا أردتم القيام إلى فعلها إذ لو أريد فعل الصّلاة لزم تقديم الصّلاة على الوضوء، وما قيل بأنه يوجد قراءة شاذة بعد لفظ الصّلاة (وأنتم محدثون) باطل لا أصل له ويحرم القول به، لأن القراءة لما بين الوقتين ثابتة بالتواتر، فإذا جوزنا قراءة ما لم يثبت تواتره لزم الطّعن في القرآن وهو براء من كلّ طعن، وهذا يفضي إلى القول بأن القرآن كان أكثر مما هو في المصاحف كما قيل في سورة الأحزاب التي أوردنا على القائل فيها بما هو أهله، راجع هذا البحث في آخرها ففيه كفاية. ويفهم مما يأتي بعد أن المراد من مفهومه وأنتم على غير طهارة شرعية، وأن حذف ما هو مفهوم المعنى من اختصارات القرآن وإيجازاته وكثيرا ما يحذف جملة أو كلمة أو حرف بناء على ذلك بدلالة جملة أو كلمة أو حرف عليها، وهو من أنواع البديع المحسن للكلام وجواب إذا «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ(6/298)
إِلَى الْكَعْبَيْنِ»
وبهذا يرتفع الحدث الأصغر، ثم ذكر ما به يرتفع الحدث الأكبر بقوله «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» أي اغسلوا جسدكم كله، لأن التضعيف في الفعل يدل على المبالغة. وإذا كان الحرج منفيا في هذا الدّين الحنيف وعلم الله أزلا أن الماء قد يضر استعماله أحيانا وقد لا يوجد، ويوجد مع الحاجة اليه لنفس أو حيوان أو طبخ، فرخص الله تعالى في عدم استعماله في قوله عز قوله «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» المكان المنخفض مطلقا ويطلق على المختص بقضاء الحاجة غالبا، ولذلك استعير لها كما استعير عن كلمة الجماع ب «أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ» فاجنبتم «فَلَمْ تَجِدُوا ماءً» كافيا لهاتين الطّهارتين أو أحدهما أو كان ولم تقدروا على استعماله لخوف أو مرض أو حاجة، فلم يجعل الله عليكم ضيقا ويلزمكم باستعماله لأداء عبادته، بل جعل لكم من فضله خلفا عنه إذا تعذر عليكم بقوله «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» طاهرا نقيا، راجع الآية 43 من سورة النّساء في بحث التيمم ومعنى الصّعيد.
مطلب في أحكام التيمم وكيفيته وجواز الوضوء الواحد لخمس صلوات وإن كلمة إنا لا تفيد العموم وفروض الوضوء وكيفيته:
ثم بين كيفية التيمم بقوله «فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ» أي التراب المعبر عنه بالصعيد الذي معناه وجه الأرض بدلا من الوضوء والغسل وإنما أباح لكم هذا لأنه «ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ» في الطهارة كما لم يجعل عليكم حرجا في غيرها «وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ» عند ما تقومون لعبادته بالماء طهارة حقيقة وعند فقده بالتراب طهارة حكمية تعبّدكم بها «وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ» برخصه كما أتمها بعزائمه «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (6) نعمه وتعلمون أنه لم يكلفكم بشيء إلّا أثابكم عليه قولا أو فعلا هذا واعلم أن لا محل للقول بان ظاهر الآية يدل على لزوم الوضوء لكل صلاة لما ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جمع يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد، وجاء في الصحيحين أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ. على أنه يسن(6/299)
أن يجدد الوضوء لكل صلاة، أخرج الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات. وما قبل إن النّبي وأصحابه كانوا يتوضئون لكل صلاة لا دليل عليه، إذ لو كان المراد وجوب الوضوء لكل صلاة لما جمع حضرة الرّسول بين أربع صلوات، وفي رواية خمس صلوات بوضوء واحد، ولما قال في هذا الحديث من توضأ على طهر، ولأن كلمة إذا لا تفيد العموم، إذ لو قال رجل لامرأته إذا دخلت الدّار فأنت طالق فدخلت طلقت لأول مرة فقط، فإذا دخلت ثانيا وثالثا لا يقع عليه شيء، فدل هذا على أن كلمة إذا لا تفيد العموم. هذا وإن فروض الوضوء المتفق عليها أربعة الأوّل غسل الوجه من مبدأ سطح الجبهة إلى أسفل الذقن طولا، وما بين شحمتي الأذنين عرضا وإذا كان له لحية خفيفة وجب إيصال الماء إلى أصول الشّعر، وإذا كانت كثيفة بأن لا ترى بشرة ما تحتها كالخفيفة كفى إمرار الماء على ظاهرها، الثاني غسل اليدين إلى المرفقين والغاية داخلة في المغيا، الثالث مسح ربع الرّأس لأنه أقل حد الإطلاق على الكل يؤيده فعل الرّسول صلّى الله عليه وسلم بالحديث الذي رواه المغيرة بن شعبة، ورأى الشافعي رحمه الله بكفاية مسح شعرة واحدة لأن الباء للتبعيض فيصدق على الشّعرة وهي بعض شعر الرّأس لا بعض الرّأس، والأوّل أولى لسنية مسح جميعه عند الكل، الرابع غسل الرّجلين إلى الكعبين فالكعبان داخلان، كدخول المرفقين باليدين، لأن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه كما في هذه الآية، لأن المرفق والكعب من جنس اليد والرّجل، أما إذا كان من غير جنسه فلا يدخل كما في قوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) الآية 180 من البقرة لأن اللّيل ليس من جنس النّهار راجع تفسير هذه الآية وما ذكرناه مؤيد بفعل الرّسول وزاد الشّافعي استنباطا من مفهوم هذه الآية المفسرة فرضين آخرين الأوّل ويكون الخامس النّية عند غسل الوجه لأن الوضوء مأمور به وكلّ مأمور به يجب أن يكون منويا، مستدلا بقوله صلّى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات، والثاني وهو السّادس الترتيب بحسب نسق الآية، وقال أبو حنيفة إن الله لم يوجب النّيّة في هذه الآية وإيجابها زيادة على النص، والزيادة على النّص نسخ ونسخ القرآن بخبر الواحد أو بالقياس أو بالحديث(6/300)
غير جائز، وكذلك الترتيب لأن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا ولا تعقيبا بلا خلاف عند اللّغويين كافة، ولم تأت الآية بالفاء أو ثم المفيدين لذلك، أما حديث النّيات فيفيد كمال الأعمال لا نفسها، ولا الفاء في قوله فاغسلوا ملتصقة بذكر الوجه واقعة في جواب إذا ليس إلا، فظهر من هذا أن فروض الوضوء أربعة لا غير، وما قيل أن الوضوء كان واجبا لكل صلاة ثم نسخ قيد واه لا حقيقة له، وقد قال صلّى الله عليه وسلم المائدة في آخر القرآن نزولا فأحلّوا حلالها وحرموا حرامها، وحديث سنيّة الوضوء على الوضوء لم يقصد منه إلّا زيادة الأجر، وان ما قال الإمامية أن الرّجلين ممسوحة لا مغسولة استنادا لما جاء عن ابن عباس أنه قال الوضوء غسلتان ومسحتان ووافقه عليه قتادة وقول أنس نزل القرآن بالمسح والسّنة بالغسل، وقول عكرمة ليس في الرّجلين غسل انما نزل فيها المسح، وقول الشّعبي ألا ترى أن ما كان عليه الغسل جعل عليه التيمم، وما كان عليه المسح أهمل، وقول
ذوو الظّاهري يجمع بين الغسل والمسح، وقول الحسن البصري يخير المكلف بين الغسل والمسح فهذا كله أخذ على ظاهر القرآن من قراءة الجر غير المتواترة، أما على قراءة النّصب المتواترة والتي عليها المصاحف المجمع عليها فلا يتجه. ولهذا قال جمهور العلماء من الأصحاب الكرام والتابعين والأعلام والأئمة الأربعة بكونها مغسولة بفعل النّبي صلّى الله عليه وسلم والتحديد الوارد في الآية، لأنه جاء في المغسول لا الممسوح، ولهذا لم يجعل الله تعالى حدا لمسح الرّأس كما جعله في الأيدي والأرجل، فلو كانت الأرجل ممسوحة لما قال الى الكعبين، وهذا كان في الغسل لا يقابله قول ما، وأما من قال ان الجر في (وَأَرْجُلَكُمْ) من عطف المجاورة مثله في (هذا حجر ضب ضرب) بجر ضرب على أنه نعت لحجر لا لضب فليس بجيد، لأن الجر على المجاورة انما يكون لضرورة أو عند حصول الأمن من الالتباس كما في المثل على حد قولهم خرق الثوب المسمار برفع الثوب ونصب المسمار لمعلومية عدم الالتباس، وفي الآية ليس كذلك، ولم تنطق به العرب مع حرف العطف، فظهر أن الغسل ثابت بنص القرآن المفسر بفعل الرّسول صلّى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري ومسلم عن عمران مولى عثمان بن عفان رضي الله عنهما أن عثمان دعا بإناء فأفرع على كعبه ثلاث مرات(6/301)
فغسلها، ثم أدخل يمينه في الإناء فتمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه الى المرفقين ثلاثا، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجليه ثلاثا إلى الكعبين، ثم قال رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلّى ركعتين لا يحدث بهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه ورويا عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري نحوه ببعض زيادات. وأخرج أبو داود عن عبد خير عن علي كرم الله وجهه بزيادة: واستنشق ثلاثا فتمضمض ونثر من كف واحد وزيادة، فمن سره أن يعلم وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهو هذا وأخرج أبو زيد عن عبد الله بن عمرو بن العاص مثله بزيادة فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم على اللّف والنّشر المرتب. وفي رواية فقد تعدى وظلم.
وإنما عد مسيئا أو متعديا لزيارته على الحد الأعظم من فعل الرّسول، وظالما لأنه نقص عن حد الكمال، فحرم نفسه من الأجر المرتب عليه. وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال تخلف عنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا الصّلاة ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادانا بأعلى صوته ويل للأعقاب من النّار مرتين أو ثلاثا. ورويا عن أبي هريرة نحوه. وأخرج مسلم عن جابر قال أخبرني عمر بن الخطاب أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النّبي صلّى الله عليه وسلم فقال ارجع وأحسن وضوءك، قال فرجع فتوضأ ثم صلّى وأخرج أبو داود عن خالد عن بعض أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلم أنه رأى رجلا يصلي وفي قدميه لمعة قدر الدّرهم لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء والصّلاة، فهذا كله مأثور عنه صلّى الله عليه وسلم وكله يؤيد أن الرّجلين مغسولة لا ممسوحة، وأن غسلها فرض وقد ورد في فضل الوضوء أحاديث كثيرة صحيحة منها ما رواه مسلم عن عقبة بن عامر قال كانت علينا رعاية الإبل فجاءت نوبتي فروحتها بعشى فأدركت رسول الله قائما يحدث النّاس فأدركت من قوله ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلّا وجبت له الجنّة. فقلت ما أجود هذا، قال قائل بين يدي يقول التي قبلها أجود فنظرت، فإذا عمر قال رأيتك جئت آنفا، قال ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله(6/302)
إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلّا فتحت له أبواب الجنّة الثمانية يدخل من أيهما شاء. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرج من كلّ خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كلّ خطيئة كان بطشتهما يداه مع الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كلّ خطيئة مشتهما رجلاه مع الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب. ويراد بهذه الذنوب والله أعلم التي لم يتعلق بها حق الغير، على أن الله تعالى قادر على عفو الجميع وإرضاء النّاس من فضله وكرمه وجوده الواسع. ورويا عن نعيم بن عبد الله المجمر عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال إن من أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل. وفي رواية أنتم الغرّ المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء. وفي رواية لمسلم قال سمعت خليلي رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء. ورويا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ بغسل يديه ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل فرجه، ثم يتوضأ كما يتوضأ الصّلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء يخلّل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه الماء ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على سائر جسده. هذا وأما ما يتعلق بالتيمم فقد تقدم بيانه في الآية 43 من سورة النّساء فراجعها. ومما يدلّ على أن المراد بالملامسة في هذه الآية الجماع لا اللّمس باليد مما ثبت أنه صلّى الله عليه وسلم كان يقبل نساءه ويصلي، فلو كان المراد منها مطلق اللّمس لما فعل ولتوضأ عند وقوع مثل ذلك منه، ولهذا قال به أبو حنيفة ولكن الشّافعي رحمه الله قال المراد اللّمس باليد وكأنه لم يثبت لديه ما ثبت عند أبي حنيفة من فعل حضرة الرّسول وكان أقدم منه، لأنه ولد يوم وفاته يوم الثلاثاء سنة 150 من الهجرة، ولهذا ترى العلماء يعطلون قراءة الدّرس فيه احتراما لوفاة الأوّل وولادة الثاني.
مطلب تذكير رسول الله ببعض النّعم التي أنعم الله بها عليه بخلاصه من الحوادث والتآمر، وقصة موسى عليه السّلام مع الجبارين:
قال تعالى «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» أيها المؤمنون بالإيمان(6/303)
والعافية والرّزق وثواب الله على أعمالكم الحسنة «وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ» حين أخذ العهد عليكم في الأزل، وهو اعترافكم بالربوبية حين خاطبكم بقوله (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) كما مر في الآية 172 من سورة الأعراف ج 1 أي تذكروا هذا أيضا فذكره يحدو بكم على القيام بعبادته، ولذلك نبه جل شأنه عليه بقوله «إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا» يحثهم على الوفاء به لأنهم التزموا بذلك العهد، قال بعض المفسرين أن المراد بالميثاق هنا المبايعة لحضرة الرّسول على السمع والطّاعة، وإنما اضافة لحضرته مع صدوره من نبيه لكون المرجع إليه ولقوله (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ) الآية 11 من سورة الفتح المارة والأوّل أولى لما في الثاني من عدم الانطباق على ظاهر الآية إلّا بتأويل «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها النّاس بالمحافظة على هذا الميثاق لأنكم مطالبون به ومحاسبون عليه «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (7) لا يخفى عليه شيء يعلم المحافظ على عهده بقلبه ولسانه والنّاكث فيهما والمعترف بلسانه دون قلبه وبالعكس. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ» في كلّ ما يلزم القيام به من العمل بطاعته والاجتناب عن نهيه قولا وفعلا حالة كونكم «شُهَداءَ بِالْقِسْطِ» العدل من غير محاباة لأحد بود أو قرابة ومن غير حيف من بغض أو عداوة «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ» يحملنكم ويدعونكم «شَنَآنُ» بغض أو عداوة «قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا» في أحكامكم وشهاداتكم، وقد عدّي فعل يجرمنّكم بحرف الاستعلاء لتضمنه معنى فعل يتعدى فكأنه قال لا يحملنكم بغض المشركين ومنهم الخطيم شريح بن شرحبيل المار ذكره في الآية الثانية النّاهية على عدم ترك العدل والتعدي عليه بارتكاب ما لا يحل بل «اعْدِلُوا» بشأنه وشأن كلّ أحد سواء كان قريبا أو بعيدا، صديقا أو عدوا، وضيعا أو رفيعا، شريفا أو سخيفا، غنيا أو فقيرا لأن إجراء العدل مع الجميع «هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» الموجبة لقرب الله تعالى الموصلة لجنته «وَاتَّقُوا اللَّهَ» في أقوالكم وأفعالكم وحركاتكم وسكناتكم سركم وجهركم «إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (8) من العدل والحيف في الأحكام والشّهادة والجد والهزل بأقوالكم وأفعالكم وإشاراتكم ورمزكم ونياتكم، وهو(6/304)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
الأمر للوجوب لأنه لم يقيد ولم يعلق على شيء وما كان كذلك فهو واجب امتثاله لا مندوب، والعدل أساس الملك وهو مبعث الرّاحة للعامة والخاصة، وملاك كل شيء وقوام الأمور بين النّاس، وهو الأصل الذي يرجع إليه في الدّنيا والآخرة قال تعالى «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» بما عاهدهم عليه وواثقهم به وماتوا على ذلك فيكون «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» عامة لذنوبهم وستر شامل لعيوبهم في الدّنيا «وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» (9) في الآخرة لا أعظم منه، وناهيك به أنه من الرّب العظيم ولا يعطي العظيم إلّا العظيم. قال تعالى «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا» ونكثوا عهودنا ونقضوا مواثيقنا وخانوا أمانتنا «أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (10) لجورهم في الأحكام وكتمهم للشهادة وميلهم عن الحق في أقوالهم وأعمالهم خبيثو النّيات الّذين يموتون مصرين على قبائحهم يحرفون فيها لأنهم أهلها كما أوعدهم الله على لسان أنبيائهم وفي هذه الجملة اشارة الى خلودهم في النّار لأن المصاحبة تقتضي الملازمة، وفيها دلالة على أن غيرهم لا يخلدون في النّار
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» كررت هذه الجملة للتأكيد بلزوم تذكر النّعمة وشكر المنعم والشّكر بمقابل النّعمة واجب ولغيرها مندوب، وهذه النّعمة غير تلك المذكورة في الآية السّابقة لأنها لمطلق التذكر وهذه بمقابل ما أزاله عنهم ورفعه المبين بقوله «إِذْ هَمَّ قَوْمٌ» هم بنو ثعلبة وبنو محارب «أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ» بأن يهلكوكم حينما أحرمتم بالصلاة إذ أجمعوا على الغدر بكم إذ ذاك «فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ» وحماكم من كيدهم وحال دون غيرهم بكم «وَاتَّقُوا اللَّهَ» الذي وقاكم من مثل هذه الأمور دون حول منكم ولا قوة ولا علم ولا مشاهدة لتراقبوه في جميع شؤونكم وتوكلوا عليه حالة الشّدة والرّخاء «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (11) به المصدقون بوعده، وهذه حادثة قديمة يذكر الله بها رسوله وأصحابه المؤمنين عند ما أراد بنو كاسب وبنو ثعلبة أن يفتكوا به وبأصحابه حين اشتغالهم بالصلاة، فاطلع الله رسوله على سريرتهم، وأنزل صلاة الخوف المار ذكرها في الآية 111 من سورة النّساء، والحادثة التي أنعم الله بها على رسوله مثل الحادثة(6/305)
الأخرى يوم حاصر حضرة الرّسول غطفان بنخل إذ جاءه رجل من المشركين وقال يا محمد أرني سيفك، فأعطاه إياه، ثم شهره عليه وقال له من يمنعك مني؟ فقال، الله، فسقط السّيف من يده، ونحو حادثة يهود بنى النّضير حينما ذهب إليهم بطلب إعانته على دية الرّجلين الّذين قتلهما عمرو بن أمية الضّمري بعد انصرافه من بئر معونة فتلقوه بالترحاب وأجلسوه ليجمعوا له الدّية فتآمروا على أن يطرحوا عليه، حجرة من أعلى الحصن فأنزل الله جبريل عليه السّلام وأخبره بنيتهم وما أجمعوا عليه فقام من مكانه وتركهم بعصمة الله تعالى إياه في هاتين الحادثتين، وعصمه وأصحابه في الحادثة الأولى المشار إليها في هذه الآية والمشار إليها في الآية 173 من آل عمران المارة المنبئة عن مثل هذه النّعم، لأن سياقها ينطبق على هذه الحوادث وغيرها مما فيه عصمة الله لرسوله وأصحابه وحادثة بن النّضير الأخرى حينما طلبوا منه الصّلح وقرروا الغدر به المار ذكرها في الآية 12 من سورة الرّعد المارة، وما ضاهى هذه الحوادث، إذ تصلح هذه الآية أن تكون سببا للنزول في كل منها لموافقتها المعنى، وقد ذكرنا غير مرة بأن سبب النّزول يجوز تعدّده ومقارنته للحادثة وتأخره عنها، وقد يطلق لفظ القوم على الواحد كلفظ النّاس المار ذكره في الآية 173 من آل عمران المذكورة آنفا وإن ضرر الرّئيس ونفعه يعود على المرءوس، وما يراد به فهو مراد بهم. قال تعالى «وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ» لما ذكر الله تعالى بعض غدر قوم محمد بمحمد ونقضهم عهده اردف بذكر غدر قوم موسى بموسى ونكثهم ميثاقه تسلية له صلى الله عليهما وسلم فقال «وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً» رئيسا وعمدة وشريفا وعميدا وزعيما «وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ» أنصركم وأعينكم وأحفظكم من كلّ سوء يراد بكم «لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي» الحاضرين معكم موسى وهرون ومن قبلهم «وَعَزَّرْتُمُوهُمْ» ووقرتموهم وعظمتموهم ونصرتموهم على أعدائي «وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» بأن تعطوا قسما من أموالكم للفقراء عن طيب نفس بلا من ولا أذى، فإذا قمتم بهذه الأمور الخمسة المذكورة في هذه الآية المؤذنة بالقسم وعزتي وجلالي «لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ(6/306)
سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ»
جزاء قيامكم بها هذا هو جواب القسم العظيم ثم فرّع عنه بقوله «فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ» العهد «مِنْكُمْ» ونقضه «فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» (12) واستحق العقاب المرتب على ذلك. وخلاصة هذه القصة على ما ذكره الأخباريون أن الله تعالى وعد موسى أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وكانت مسكن الجبارين من الكنعانيين، وأمره أن يسير إليها وأن يأخذ من كلّ سبط كفيلا على امتثال ما يأمرهم به، ففعل وسار بهم حتى قارب أريحا، فأرسل النّقباء عيونا، فلقيهم عوج بن عنق وعنق أمه من بنات آدم عليه السّلام، فأخذهم بحجزته أي شدهم على وسطه، والحجزة معقد الإزار وموضع التكة من السّراويل، وقال لزوجته هؤلاء يريدون قتالنا إلّا أطحتهم برجلي، فقالت لا بل أتركهم ليخبروا قومهم بما رأوه من قوتك فيهابوك، فتركهم، ولما رجعوا قالوا إذا أخبرنا بني إسرائيل بما رأينا من هذا الرّجل يرجعون ولا يقاتلون، بل نخبر موسى
وهرون فقط، وأخذوا على بعضهم العهد في ذلك، ولما وصلوا قومهم نكثوا وأخبر كلّ نقيب سبطه، عدا يوشع بن نون وكالب بن يوقنا فإنهما لم يخبرا سبطهما، ولم ينكثا عهدهما، وسيأتي تمام هذه القصة عند قوله تعالى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) الآية 23 الآتية. قال تعالى «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ» الذي أخذ منهم ونكثهم عهدهم «لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً» لا تؤثر فيها المواعظ ولا تلينها الزواجر ولا ترققها العبر وصاروا فضلا عن ذلك «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ» بالتبديل والتغيير والتأويل والتفسير على ما هو خلاف المراد وضد المعنى «وَنَسُوا حَظًّا» نصيبا وافرا «مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» من أحكام التوراة التي فيها خيرهم وخلاصهم، ولم يعملوا به لأن من جملة ما ذكّروا به الإيمان بعيسى بن مريم ومن بعده بمحمد عليهما الصّلاة والسّلام، وهذا من بعض خياناتهم «وَلا تَزالُ» يا سيد الرّسل «تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ» بعد خائنة مثل نقضهم العهود ومعاهدتهم أهل الشّرك ضدك وهمهم بقتلك غدرا كما كانوا مع أنبيائهم الأوّل موسى وهرون فمن بعدهما «إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» يوشك أن يحافظوا على العهود(6/307)
ويتذكروا بما أمرهم الله في التوراة، فيدخلون في دينك «فَاعْفُ عَنْهُمْ» الآن يا حبيبي «وَاصْفَحْ» عن زلاتهم كلهم لأنك لا تعلم الذي يؤمن بك من غيره، لذلك أحسن إليهم وعاملهم باللين «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (13) في أقوالهم وأعمالهم. وبمناسبة ذكر غدر قوم موسى بموسى ومحمد بمحمد عليهما الصّلاة والسّلام تطرق إلى ذكر بعض غدر قوم عيسى بعيسى عليه السّلام، فقال «وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ» أيضا على السّمع والطّاعة والإيمان بالرسل كما أخذناه على من قبلهم ومن جملة ذلك الإيمان بك يا محمد، وكذلك لم يوفوا بشيء منه ونكثوا عهدهم ونقضوا ميثاقهم كالّذين من قبلهم «فَنَسُوا حَظًّا» قسطا جزيلا وجانبا كبيرا «مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» في الإنجيل المنزل على رسولهم من لزوم الإيمان بك ونصرتك «فَأَغْرَيْنا» أوقعنا وألصقنا ومكنّا «بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» بسبب الاختلاف بينهم في أمر دينهم وجعلنا كلّ فرقة منهم تفسق بالأخرى بالدنيا «وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ» في الآخرة «بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» (14) مع أنفسهم وقومهم وأنبيائهم ويجازيهم عليه قال تعالى «يا أَهْلَ الْكِتابِ» اليهود والنّصارى «قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا» محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي أخذنا على رسلكم العهد بالإيمان به وألزمناهم أن يأخذوا عليكم مثله بلزوم الإيمان به، وقد فعلت الرّسل ذلك وبلغوكم ولكنكم أبيتم وصددتم أنفسكم وصنعتم غيركم عن الإيمان به أيضا وخالفتم أمر الله وأمر رسلكم وأمر هذا الرّسول الذي أرسلناه بالهدى إليكم، وقد جاءكم «يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ» أل فيه للجنس فيشمل جميع الكتب المنزلة التوراة والإنجيل وما قبلهما وأني أطلعته على ما فيهما من ذلك، وأن لا يؤاخذكم على ما سبق منكم فيسامحكم «وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» مما تفعلونه وتخفونه ولا يتعرض له، فيجدر بكم أن تصدقوه وتؤمنوا به بعد أن أراكم هذه المعجزة وهي علمه بما في كتبكم، وهو أمّي لا يقرأ ولا يكتب، فآمنوا به لتفلحوا فإنه «قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ» ببعثته وهدى لتقتدوا به لأنكم في ظلمة وعماء من أمر دينكم، ومن كان في الظّلمة يريد طرق الاهتداء(6/308)
إلى النّور فاهتدوا بهذا النّور الذي جاءكم به «وَكِتابٌ مُبِينٌ» (15) للحق من الباطل، والرّشد من الضّلال، والحرام من الحلال، ألا وهو القرآن العظيم الجامع لما في الكتب السّماوية كلها، فاغتنموا أتباعه فإنه «يَهْدِي بِهِ» بهذا الكتاب «اللَّهُ» تعالى كل «مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ» بسلوك الطّرق التي يرضاها والتي تكون لهم «سُبُلَ السَّلامِ» من الآفات الدّنيوية المؤدية إلى طرق النّجاة من عذاب الله الأخروي «وَيُخْرِجُهُمْ» أي الّذين اتبعوه وسلكوا سبل رضوانه «مِنَ الظُّلُماتِ» التي هم غارقون فيها ظلمة العقيدة وظلمة العصيان وظلمة التكذيب التي أصدأت قلوبهم فمنع تكاثف رينها وصولهم «إِلَى النُّورِ» الذي هو التصديق به والطّاعة له والإيمان بجميع ما جاءكم به، وتلك الهداية لا تكون لأحد إلا «بِإِذْنِهِ» جل جلاله إذ لا يقع في الكون شيء إلّا بأمره وإرادته «وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (16) لا عوج فيه. وهذه الآية تدل دلالة ظاهرة لا غبار عليها أن محمدا صلّى الله عليه وسلم مرسل من
الله تعالى إلى أهل الكتاب كغيرهم من الأمم، بصريح الخطاب وتخصيصه بهم، فهي وحدها كافية للرد على من يقول أن رسالته صلّى الله عليه وسلم خاصة للعرب المشركين فضلا عن بقية الآيات، راجع الآية 28 من سورة سبأ والآية 5 من سورة الكهف في ج 2. ولما بين الله تعالى اختلاف النصارى. ذكر الفرقتين الكافرتين منهم وهم اليعقوبية والملكانية، فقال جل قوله مبينا سبب كفرهم «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ» وذلك أنهم يقولون إن الله تعالى وتنزه حل في بدن عيسى، ثم ذكر ما يدل على فساد قولهم وعقلهم وعقيدتهم هذه بقوله عز قوله يا سيد الرّسل «قُلْ» لهؤلاء القائلين بالحلول «فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» فهل يوجد من يقدر على دفع إهلاكه عنهم أو من يحول دونه؟ كلا كيف «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما» من الخلق كلهم عبيده وعيسى واحد من جملتهم، ولا يقال بما أنه لا أب له نسب إلى الله، لأن الله تعالى «يَخْلُقُ ما يَشاءُ» من غير أبوين كآدم ومن غير أم كحواء ومن غير أب كعيسى ومن أبوين مثل(6/309)
سائر الخلق، راجع الآية 46 من سورة النّور المارة فيما يتعلق في هذا البحث، ومنه تعلم أن لا اعتراض على الله فيما يخلق لأنه لا يسأل عما يفعل «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (17) لا يعجزه شيء وإذا كان المخلوق من غير أب يسمى إلها فمن باب أولى أن يكون آدم ثم حواء لأن الإيجاد من الأم أهون من الإيجاد من الأب فقط، والإيجاد من الأب أهون من الإيجاد بلا أم ولا أب، ولم يسبق أن سمى أحد آدم إلها ولا حواء، فكيف يسمون عيسى إلها، راجع الآية 64 من آل عمران المارة للاطلاع على هذا البحث، وحكاية أسير الرّوم. ثم ذكر ما يتبجح به أهل الكتابين مما ليس كائنا بقوله عز قوله «وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى» فيما سبق «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ» خاصة من دون النّاس فيا أكمل الرّسل «قُلْ» لهؤلاء الكذبة إذا كنتم تزعمون ذلك «فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ» التي ترتكبونها، لأن المحب لا يعذب حبيبه ولا يوقعه بما يوجب تعذيبه، ولهذا ردّ الله عليهم بقوله «بَلْ» ليس الأمر كما ذكرتم لأنكم «أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ» لا أبناؤه ولا أحباؤه وهو المختار بأمر خلقه «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ» من عباده كما تقتضيه كلمته الأزلية لا مانع لما يريد، ولا راد لحكمه، «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» (18) لا إلى غيره. وبسبب هذه المقالة أن اليهود يقولون إن الله أوصى إلى إسرائيل إني أدخل ولدك النّار أربعين يوما بقدر مدة عبادتهم العجل، ثم أخرجهم، فلذلك يعنون أن الله يعطف عليهم كعطف الأب على ولده، وهذا معنى ما حكاه الله عنهم في قوله (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) الآية 80 من البقرة المارة وهي مكررة في غيرها، وإن النّصارى تأولوا قول المسيح أثناء حديثه لهم (إني أذهب إلى أبي وأبيكم) وقوله لهم (إذا صليتم قولوا يا أبانا الذي في السّماء تقدس اسمك) ، فذهبوا إلى ظاهر هذا القول وقالوا إن المسيح ابن الله؟ راجع الآية 32 من سورة التوبة الآتية، لأنهم لم يعلموا مراد المسيح إذا صحت هذه المقالة عنه بأن الأب الأكبر لهذا البشر كله هو الله ربه ومربيه ومدبر أمره وهو أشفق عليهم من أبيهم الصّلبي، فلهذا وبسبب انتسابهم لأسلافهم الأوائل(6/310)
رأى اليهود والنّصارى لأنفسهم فضلا على غيرهم من الأمم، وعظموا أنفسهم وفضلوها على من سواهم حتى قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، على أن الأناجيل الأربعة الموجودة بأيدي النّصارى قد جاء فيها مرة أرسلني أبي الذي هو في السّماء، وطورا أرسلني إلهي الذي هو في السّماء، مما يدل على أن المراد بالأب في قوله هو الله إذا كان في الأصل هكذا، لأن الأناجيل لم تدون زمن المسيح بل بعده بمائة سنة وقد تطرقتها التراجم المختلفة فأول بعضهم الإله بمعنى الأب، والأب بمعنى الإله وأثبته كذلك، وهذه الأناجيل الأربعة المنسوبة إلى متّى ويوحنا ومرقس ولوقا لا يعرف على الحقيقة من دونها أولا، لذلك لا تخلو من الدّسّ اليهودي، وهناك إنجيل برنابا قد جاء على ما في القرآن، ولكن النّصارى لم تعتبره مع أنه حواري من
أنصار المسيح الّذين يلقبهم رجال الكنيسة بالرسل، وإن بولص وغيره قد اهتدوا بعده وهو الذي عرف التلاميذ به، فيكون إنجيله هذا هو الواقع، إذ تلقاه بنفسه من السّيد عيسى عليه السّلام ودوّنه كما تلقاه بوقته خلافا للأناجيل الأربعة الموجودة الآن، فإنها لم تدون في زمنه ودونت على طريق التلقي من الغير بعد مائة سنة، وقد يكونون غير موثوقين أو خانهم حفظ ذاكرتهم.
مطلب في مدة الفترة وما بين عيسى ومحمد من الزمن وعوج بن عنق وتيه بني إسرائيل والحكمة منه:
قال تعالى «يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا» محمد بن عبد الله بن عبد المطلب «يُبَيِّنُ لَكُمْ» أحكام الدّين الحق والشّرائع الصّحيحة «عَلى فَتْرَةٍ» انقطاع طويل «مِنَ الرُّسُلِ» وهي 571 سنة ما بين عيسى ومحمد صلّى الله عليهما وسلم وبين ميلاد عيسى وبعثة محمد 911 وبين ميلاده وهجرة محمد 924 وبعد الميلاد والوفاة 934 ورفع إلى السماء 904، وعليه يكون بين رفع عيسى وميلاد محمد 538 سنة، وبين رفعه والبعثة 578، وبين رفعه والهجرة 591 وبين رفعه والوفاة 604 وقد وقع التحريف والتبديل بالكتب السّماوية المتقدمة على القرآن خلال هذه الفترة بسبب اختلاف أهل الكتاب فيما بينهم واختلاط الحق بالباطل والكذب بالصدق، وتطرق من هذا الاختلاف شيء إلى العبادات والعقائد مما ليس منهما لتقادم العهد.(6/311)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
فصار عذرا ظاهرا لاعراض الخلق عن معرفة كيفية عبادة الخالق وماهيتها، وصارت الحاجة ماسة إلى إرسال من ينقذ الخلق من هوتهم، فأرسل الله تعالى حبيبه محمدا صلّى الله عليه وسلم لإزالة ذلك كما أشرنا إليه في المقدمة آخر الخاتمة، بشريعة سمحة موافقة لمصلحة البشر أجمع وملائمة لعصرهم فليس لكم يا أهل الكتاب ويا أيها المشركون «أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ» إنما أرسلنا محمدا إليهم مرشدا ومجددا لئلا يحتجوا بهذه الحجة ويقولوا هذا القول «فَقَدْ جاءَكُمْ» الآن «بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ» بين لكم أمر دينكم «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (19) ومن قدرته إرشاد الخلق بلا إرسال رسل وإنما أرسلهم لئلا يتذرعوا بالمعاذير راجع الآيات 271 و 272 من سورة الأعراف المارة ج 1 قال تعالى «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ» أي اذكر لقومك يا سيد الرّسل قول السّيد موسى «يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ» كثيرين فلم يبعث في أمة من الأمم كما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء منهم «وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً» بعد ان كنتم خدما وخولا للقبط أذلاء مخذولين «وَآتاكُمْ» من النعم المترادفة «ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» (20) قبلكم ولا في زمانكم وقد عددها الله تعالى في مواقع كثيرة من القرآن منها في الآية 47 إلى 74 من البقرة وعدد تعاليمهم في الآية 75 فما بعدها في آيات كثيرة من البقرة وغيرها وما وقع منهم من عناد وكفر فيها وفي آل عمران وغيرها.
ومن جملة مخالفتهم نبيهم قوله تعالى حكاية عنهم «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ» المطهرة المباركة قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين ومهبط الوحي الإلهي «الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» دخولها وأباح لكم سكناها وأمركم بالسير إليها، وهي أراضي الطّور وما حولها من أريحا وفلسطين ودمشق وبعض الأردن، وهذا أمر منه بالجهاد مع الجبارين الكنعانيين كما سبق في الآية 12 المارة «وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ» فترجعوا القهقرى منهزمين مولين أعداءكم ظهوركم خوفا منهم، فترتدوا عن دينكم بعصيانكم أمر رسولكم وعدم وثوقكم بما وعدكم ربكم، فتخالفوا أمره «فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» (21) الدنيا والآخرة وإنما حصل لهم التردد بعد أن ساروا معه وامتنعوا(6/312)
عن الجهاد لأن نقباءهم أخبروهم بما رأوا من عوج بن عنق الذي أشرنا إليه في الآية 12 المارة، ولهذا «قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ» لا طاقة لنا بقتالهم ولا قوة لنا على بطشهم «وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها» إن شئت أو أبيت «فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ» (22) إليها معك ثم صاروا يبكون ويلومون أنفسهم على طاعة موسى بخروجهم من مصر يقولون يا ليتنا متنا فيها وبقينا على ما كنا عليه، وهموا بالانصراف والرّجوع إلى مصر، وإنما لحقهم هذا الرّعب قبل الوصول وقبل نشوب الحرب لأنهم قوم تعودوا الذلّ والاستعباد وخساسة النّفس والرّضاء بالهوان، ولم يذوقوا لذة العزّة والمهابة والحرية وأن السّيد موسى عليه السّلام يريد أن يرفعهم من حضيض الأرض إلى أوج السّماء دفعة واحدة، ولكن:
وإذا كانت النّفوس صفارا ... خسئت في مرادها الأجسام
ولم يعلموا بعد أنه:
وإذا سخّر الله سعيدا ... لأناس فإنهم سعداء
فلما رأى موسى عزمهم على الرّجوع وخبتهم عن اللّقاء وفضلوا أن يكونوا خدما للقبط كما كانوا على صيرورتهم ملوكا وأنبياء، وخافوا أن تقتل أولادهم وأنفسهم في الجهاد، وأن يغنم أموالهم العدو، ولم يخافوا من القبط الّذين قتّلوا ذكورهم واستحيوا نساءهم للخدمة خرّ موسى وأخوه هرون ساجدين لله ليريهما ما يقدر لهما وماذا يعملان مع قومهما، وصار يوشع وكالب يخرقان ثيابهما خوفا من نزول العذاب لما رأيا من غضب موسى وهرون، وهما المعنيان بقوله تعالى «قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ» مقت الله وعقابه الّذين «أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا» بالثبات على الإيمان والوفاء بالعهد، إذ لم يخبرا سبطيهما بما رأياه من الجبار عوج ابن عنق المار ذكره في الآية 12 «ادْخُلُوا» يا قومنا «عَلَيْهِمُ» أي الجبارين «الْبابَ» باب مدينة أريحا ولا تهابوهم، فإذا دخلتموه «فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ» (23) عليهم لأن الله وعدكم النّصر فهلم ادخلوا «وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (24) به وبوعده، قالوا فلما سمعوا هذا القول من كالب ويوشع أرادوا(6/313)
أن يرجموهما بالحجارة فضلا عن عدم الالتفات إلى قولهما، والتفتوا إلى موسى ثم «قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها» أي الجبارون المذكورون فإذا أردت يا موسى «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا» هؤلاء الجبارين «إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» (25) ننتظر ما ينجم عن قتالكم، فإن ظفرتم بهم دخلنا وإلّا فقد سلمنا من بأسهم «قالَ» موسى بعد أن رفع رأسه وأخوه من السجود ورأيا ما هموا به على كالب ويوشع وما أراداه منهما وما أرادوه هم من وجود من يرأسهم ويرجعهم إلى مصر وعلم إياسه منهم «رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي» الذي هو في طاعتي أينما وجهته لتنفيذ أمرك «فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» (26) وهذا دعاء عليهم، لأنه طلب الحكم من الله فيما بينهما وبينهم، وكان هرون يؤمن على دعائه، فأوحى الله إليه بإجابة دعائه الذي ألهمه أثناء سجوده «قالَ» الله عز وجل يا موسى أتركهم «فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ» لا يرون هذه الأرض المقدسة بل يبقون متحيرين في أمرهم، وهذا التحريم على الأسباط العشرة الّذين نقضوا العهد وأخبروا قومهم بما رأوا من بأس الجبارين وان عوجا اقتلع صخرة من الجبل عظيمة وأراد إلقاءها عليهم فبعث الله لهدهد فثقبها فوقعت في عنقه فصرعته أما يوشع وكالب، فقد دخلاها، فلما سمع موسى كلام ربه استاء على قومه شفقة منه عليهم مع إساءتهم له فقال له ربه «فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» (27) الخارجين عن الطّاعة فإنهم يستحقون أكثر من هذا، وقد أراد الله تعالى وهو أعلم بهذه المدة أمرين الأوّل جزاء شؤمهم وتمردهم على نبيهم وعصيانهم أمره مدة أربعين يوما التي كان يعالجهم فيها لدخول الأراضي المقدسة وهم يمتنعون، فجعل عليهم التّيه والتشرد مثل تلك المدة سنين عقوبة لهم، والثاني حتى ينقرض كبارهم الّذين ألفوا الرّقّ والذل والهوان وتعودوا الخدمة والمهانة فصغرت نفوسهم عن مستواها وحقرت ولم يبق فيها حب الطموح إلى العزّة والكرامة، وينشىء الله بعدهم منهم من ينشأ جديدا في تلك الصحراء التي لا يد عليهم فيها إلّا يد الله، فيربون أحرارا أعزاء بنفوس أبية لا تعرف الضيم والرّق والذل الذي كان عليه آباؤهم، فلا تلمس أنوفهم ولا يداس حماهم ولا(6/314)
توطأ أرضهم، فيقدمون على الجهاد بحزم وعزم، فيبطشون ويظفرون، فيكون منهم الملوك والأمراء والأنبياء. قالوا إن الله أوحى إلى موسى عليه السّلام حين سجد وأخوه (بي حلفت لأحرمن عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدي يوشع وكالب، ولآتيهنهم في هذه البرية أربعين سنة مكان كلّ يوم سنة، ولألقين جيفهم في هذا الفضاء، أما أبناؤهم الّذين لم يعملوا الشّر فسيدخلونها) قالوا وكانت أرض التيه تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخا، وكان القوم ستمئة الف، وكانوا يرحلون اليوم كله فإذا أمسوا وجدوا أنفسهم بمكانهم، وهذا من باب فوق العادة لأنه معجزة لرسولهم عقابا لعنادهم وجزاء لعصيانهم، قالوا ثم شكوا إلى موسى الضّنك الذي لا قوة في تيههم من الجوع والعطش والتعب، فدعا الله ربه، فأنزل عليهم المنّ والسّلوى وظللهم بالغمام وأمر موسى بضرب الحجر فضربها فتفجرت عن اثنتي عشرة عينا لكل سبط عين، وجعل كسوتهم قائمة معهم لا تخلق وتكبر مع كبرهم وهذه
أيضا من جملة المعجزات التي أظهرها الله لنبيهم في التيه، ومن خوارق عوائد الله تعالى ولا شيء عليه بعزيز، فانظر رعاك الله تلطف موسى بقومه ورحمته بهم على ما هو عليه من الشّدة وما هم عليه من التعنت والخلاف لأمره وأمر ربه، وهذا مما يطمع العباد في ربهم، اللهم لا تغفلنا عن مكرك، ولا تنسنا ذكرك، واسبل علينا سترك، وانشر علينا رحمتك، ولا تؤاخذنا بسوء أعمالنا وأفعال السّفهاء منا برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
مطلب موت هارون وموسى عليهما السّلام وقصة ولدي آدم عليه السّلام:
قالوا ومات في التيه كلّ من دخله مجاوزا عمره العشرين سنة غير يوشع وكالب ولم يدخل أريحا منهم ممن قال لن ندخلها أبدا، وكان موسى وهرون ممن مات في التيه أيضا، قالوا ولما أراد الله وفاة هرون أوحى الله إلى موسى عليهما السّلام أن ائت بهارون إلى جبل كذا، فلما أتاه به وجد هارون شجرة ومبيتا فيه فراش على سرير فيه رائحة طيبة، فأعجبه ونام عليه، فلما أحس بالموت قال يا موسى خدعتني، وقبض الله روحه ورفع إلى السّماء ورجع موسى إلى بنى إسرائيل، فسألوه عن هرون فقال لهم مات فاتهموه بقتله، فدعا الله فأنزل لهم ذلك السّرير(6/315)
وعليه هرون ميتا فصدقوه، ثم رفع ولم يعلم موضع قبره في الأرض أي محل قبض روحه، ثم نبأ الله يوشع عليه السّلام فصار موسى يغدو ويروح عليه حتى كره الحياة وأحب الموت بعد أن كان يكرهه، قالوا إن الله تعالى قال لموسى ضع يدك على متن ثور فلك بكل ما غطست يداك من شعرة سنة، قال أي رب ثم مه؟ قال ثم الموت، قال إذا فالآن، وسأل ربه أن يدنيه من الأراضي المقدسة رمية حجر، فمر برهط من الملائكة يحفرون قبرا لم ير أحسن منه؟
فقال لمن هذا؟ قالوا لعبد كريم على ربه، فقال هذا العبد من الله بمنزلة ما رأيت كاليوم قط مثلها، فقالوا يا صفي الله أتحب أن يكون لك، قال وددت، قالوا فأنزل فنزل واضطجع فيه وتوجه إلى ربه عز وجل ثم تنفس أسهل تنفس فقبض الله روحه الطّاهرة عليه الصّلاة والسّلام، ودفن فيه وهو تحت الكثيب الأحمر، وكان عمره مائة وستة وعشرين سنة، وهرون أكبر منه، قالوا وبعد مضي الأربعين سنة دعى يوشع بني إسرائيل لحرب الجبارين فلبوا دعوته فسار بهم وكان معه تابوت الميثاق، فأحاط بأريحاء ستة أشهر حتى أسقط سور المدينة، ودخلوها عتوة، وقتلوا الجبارين وهزموهم، قالوا وقبل أن يقضوا عليهم قاربت الشّمس على الغياب، وكان يوم جمعة فدعا يوشع عليه السّلام ربه فأخرها حتى تم له الانتقام من أعدائه قبل دخول السّبت المحرم عليهم فيه القتال. وقال مشيرا إلى هذا أمير الشّعراء السّيد شوقي المصري بقوله:
شيعوا الشّمس ومالوا بضحاها ... فانحنى الشّرق عليها فبكاها
ليتني في الرّكب لما أفلت ... يوشع همت فنادى فثناها
إلى آخر الأبيات التي رثى بها سعد زغلول رحمهما الله، وقال الآخر:
فحدثت نفسي أنها الشّمس أشرقت ... وإني قد أوتيت آية يوشع
بما يدل على أن قضية رد الشّمس شائعة متواترة مشهورة لسيدنا يوشع كما هي لسيدنا داود عليهم الصّلاة والسّلام، راجع ما قدمناه مما يتعلق في هذا البحث في الآية 31 من سورة ص، وأول سورتي القمر والإسراء في ج 1، ثم تتبع ملوك الشام فاجتاح منهم واحدا وثلاثين ملكا واستولى على بلادهم وصارت كلها لبني(6/316)
إسرائيل، وفرق العمال في نواحيها، وجمع الغنائم فأطلق عليها النّار فلم تأكلها، فقال إن بكم غلولا أي سرقة من الغنائم لأنها لم تبح لهم ولا لغيرهم إلّا لمحمد وأصحابه وأمته بعده، راجع الآية 41 من سورة الأنفال وأولها تجد هذا البحث مستوفى فيهما، ولمعرفة السّارق أمر سيدنا يوشع بحضور رجل واحد من كلّ قبيلة ليبايعه فتهافت النّاس ولم يزل يصافحهم واحدا بعد واحد حتى لصقت يده بيد رجل منهم، فقال له أن الغلول فيكم، فأتوا به ثم جازا له برأس ثور من ذهب مكلل بالجواهر كان اختلسه رجل منهم فأحضر فوضعه هو والرّأس في القربان فأكلتهم النّار، قال تعالى «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ» يا سيد الرّسل «نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ» هابيل وقابيل، وهذه قصة أخرى يقصها الله على رسوله من أمر غيبه اخبارا «بِالْحَقِّ» ليذكرها لقومه «إِذْ قَرَّبا قُرْباناً» هو اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من صدقة أو ذبيحة أو نسك أو غيره «فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما» هابيل بأن جاءت نار من السّماء فأكلته «وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ» قابيل إذ بقي قربانه في الأرض فأكلته الطّير والسّباع «قالَ» قابيل حاسدا لأخيه هابيل إذ تقبل قربانه دونه «لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ» ولم ولم أخطئ؟ قال لردّ قرباني وقبول قربانك «قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» (27) بأسه التمثيل أمره ثم قال له بعد أن ذكره عقاب الله إن فعل ما أراده وعذابه العظيم عليه، لأن ردّ القربان ليس له به دخل إنما هو أمر الله، واستعطفه واسترحمه فلم ينجح به فقال «لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي» من أجل عدم قبول قربانك الكائن من الله وحده، فافعل ما بدا لك، فإني لا أقابلك «ما أَنَا بِباسِطٍ» مادّ «يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ» كما انك مادّها لتقتلني «إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ» (28) وذلك لأن الدّفاع عن النّفس لم يشرع بعد، وإلّا فهو أقوى منه على ما قالوا، ثم قال له على طريق التخويف من العاقبة «إِنِّي أُرِيدُ» بعدم إرادتي قتلك وعدم الذبّ عن نفسي «أَنْ تَبُوءَ» تحتمل وترجع إلى الله «بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ» الذي لم يقبل لأجله قربانك، كما سيأتي بالقصة «فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ» الخالدين فيها كما يفهم من معنى الصّحبة «وَذلِكَ» الجزاء(6/317)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
الفظيع عند الله هو «جَزاءُ الظَّالِمِينَ» (29) أمثالك الّذين يقدمون على قتل النفس عمدا بلا حق، فلم يؤثر ما أبداه له ولهذا قال تعالى حاكيا حاله وإصراره على الشّر «فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ» ولم يلق بالا للنصح والتهديد والوعظ، فتحين فرصة للغدر به بغياب أبيهما «فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ» (30) الدنيا لغضب أبيه وأمه وفقد أخيه والآخرة بغضب الله وعذاب النّار والحرمان من الجنّة،
ولما فعل فعلته لم يعلم ماذا يفعل بجثته فحمله على ظهره لأنه أول قتيل أهريق دمه على وجه الأرض من بني آدم، لذلك لم يعرف ما يفعل به بعد قتله «فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ» وكان معه غراب مقتول (ولم يكرر لفظ الغراب ويبحث في القرآن) كان تقاتل معه فقتله، فحفر الأرض برجليه ودفنه فيها، وإنما بعثه الله إليه «لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ» فتنبه لذلك وفعل بأخيه ما فعل الغراب، ثم قال مؤنبا نفسه على فرط جهله وحمقه، إذ علم أن الغراب أفطن منه «قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي» خير من أظل حاملا له، ولما دفنه رأي نفسه وحيدا «فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ» (31) على قتل أخيه وحمله إياه مدة سنة على ما قيل ولم ينتبه لأن يعمل فيه ما عمله الغراب بأخيه الذي قتله مثله وزاد عليه بالمعرفة، إذ دفنه حالا. قال تعالى «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ» القتل العمد ظلما «كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ» بغير «فَسادٍ فِي الْأَرْضِ» كقطع الطّريق والنّهب والسّلب فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً» في الغدر لأنه يستوجب غضب الله تعالى والعذاب الدائم في جهنم، فلو فرض أنه قتل جميع النّاس لا يزاد على عذابه هذا شيء إذ ما بعد التخليد في النّار من عذاب، وذلك لأن الجناية على النّفس عمدا من أعظم المحرمات بعد الإشراك بالله، ولهذا كان مثل تخريب العالم، وعليه قوله صلّى الله عليه وسلم:
لزوال الدّنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم. وقال: سباب المؤمن فسق وقتاله كفر «وَمَنْ أَحْياها» استخلصها من أسباب الهلاك وأنقذها من العطب من قتل أو حرق أو غرق أو غيره من هدم أو ترد أو ظالم وشبهه «فَكَأَنَّما(6/318)
أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً»
وفي هذه الآية ترغيب من الله لمن يتسبب من عباده في إنقاذ النّاس من الهلاك، ولهذا شرع الدّفاع عن النّفس والمال والعرض وغيره، وإذا قتل في هذا السّبيل قتل شهيدا، وإذا قتل لا شيء عليه، وإن القوانين الأرضية استقت هذا من القوانين السّماوية، فأعفت المعتدى عليه في نفسه وماله وعرضه من العقاب، حتى إنه لو فعل ذلك من أجل غيره يعفى في بعض الحالات ويعد معذورا في أخرى، فيخفف عنه الجزاء، وخلاصة هذه القصة على ما قاله الأخباريون أن حواء عليها السّلام كانت تلد في كلّ بطن ذكرا وأنثى، ولدت في عشرين بطنا أربعين، عشرين ذكورا ومثلهم إناثا، أولهم قابيل وتوءمته إقليما وآخرهم عبد المغيث وتوءمنه أم المغيث، ولم يمت آدم حتى بلغ ولده أربعون ألفا، ولم يمت منهم أحد، وكانوا يتزاوجون على الخلف بأن لا يأخذ الأخ توءمته بل التي بعدها وتوءمها يأخذ النّبي قبله وهكذا، فأمر الله آدم أن يزوج قابيل لودا أخت هابيل، وهابيل إقليما أخت قابيل لأنهما متقاربان في السنّ، فقال قابيل لأبيه عند ما كلفه بذلك إن أختي أحسن من أخت هابيل وأنا أحق بها لأني وإياها حملنا وولادتنا في الجنّة وهابيل وأخته حملها وولادتها في الأرض، فقال له آدم وإن كان كذلك فلا يحل لك أن تخالف أمر الله، فأبى أن يقبل ولم يصغ لوعظ أبيه وزجره وتهديده، فقال إذ عققتني فقرّبا أنت وأخوك قربانا فأيكما قبل قربانه أخذ أقليما، ففعلا ولكن قال قابيل في نفسه إن تقبل قرباني أو لم يتقبل فلا أتزوج إلا أختي، وقال هابيل في نفسه ما يكون من الله فأنا راض به، ولهذا والحكمة الأزلية قربا تقبل قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل كما مر في الآية 28 وتقدم في الآية 183 من آل عمران كيفية قبول القرابين فراجعها، فصارح قابيل إياه بعدم قبوله، وقال إن فعلت يتحدث بين الملأ أنه خير مني فيفتخر ولده على ولدي، وأضمر الشّر لأخيه وتهدده وتوعده بالقتل، ولما سنحت له الفرصة حال غياب أبيه حمل حجرا ليرضّ بها رأسه، فاستعطفه وزجره كما تقدم ولم ينجح به فوطن هابيل نفسه للاستسلام طلبا للثواب، وتركه ولم يقابله بشيء، قالوا ولم يعرف أولا أحد كيفية القتل، فتمثل له الشّيطان عليه اللّعنة وقد أخذ طيرا فوضع(6/319)
رأسه على حجر ورضه بحجر آخر فقتله، فلما رأى قابيل ذلك فعله بأخيه هابيل إذ رض رأسه بين حجرين حالة نومه فقتله غيلة، ثم انه تاب ولكن لم تقبل توبته، لأن النّدم وحده لا يعد توبة إذ ذاك، وإنما هو من خصائص هذه الأمة، راجع الآية 57 من سورة البقرة في كيفية توبة بني إسرائيل، على أن غالب ندمه كان على حمله أخيه بعد قتله مدة سنة، حتى رأى الغراب وعمله بأخيه فعمل مثله، ولم يصرح بالندم إلّا بعد الدّفن، ولأن قتله تعمدا عنادا بالله وبأبيه وعدم ارتداعه بعدم تقبّل القربان من الله، وقالوا إنه تركه بالعراء مدة، فلما رأى تقرب السّباع منه لتأكله حمله على ظهره، ولما أنتن وتحير في أمره ولم يدر ماذا يفعل به ليتخلص منه بعث الله له الغراب ليعلمه كيفية دفنه. قالوا ولما قتله رجفت الأرض سبعة أيّام، واسود جلده إعلاما بغضب الله عليه والعياذ بالله، قالوا ولما رجع آدم عليه السّلام من مكة إذ كان غيابه فيها ولم يجد هابيل سأل قابيل عنه، فقال ما أنا عليه بوكيل، قال بل قتلته، ولذلك اسود جلدك، فمكث آدم مائة سنة لا يضحك، ورثاه بكلمات سريانية ووصى شيئا يحفظها، ولم تزل الكلمات تنقل حتى زمن يعرب بن قحطان فعرّبها على ما قيل بهذه الأبيات:
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبّر قبيح
تغير كلّ ذي لون وطعم ... وقل بشاشة وجه مليح
ومالي لا أجود يسكب دمع ... وهابيل تضمنه الضّريح
أرى طول الحياة عليّ غما ... فهل أنا من حياتي مستريح
لأنه كان يعرف السّريانية والعربية ومن قال أنه من نظم آدم فقد أخطأ لأن الأنبياء منزهون عن الشّعر، ولأن لغة آدم السّريانية فضلا عن ركاكة هذه الأبيات وإن هذا لفي شك أيضا، لأن الإسرائيلات التي بعد هذا بكثير لا يوثق بصحتها لطول الزمن وعدم الضّبط وقلة الكتاب، فكيف بما صدر عن آدم ولم يدون، وإن قوله ولد هو وأخته في السّماء كان لعدم ثبوت هذا المكان كما ذكر، وإن الله لم يذكر عن ذلك شيئا وهي كما ذكرها الله فقط، وإن شيث عليه السّلام(6/320)
ولد بعد بلوغ آدم مئة وثلاثين سنة، وبعد قتل هابيل بخمسين سنة، واسمه هبة الله بالعربية لأنه خلف عن هابيل، وعلمه الله ساعات اللّيل والنّهار، وأنزل عليه خمسين صحيفة، وصار وصي آدم من بعده وولي عهده، قالوا وبعد أن عرف آدم أن قابيل قتل هابيل طرده وشرّده وهدده بالقتل إن بقي، فأخذ أخته أقليما وهرب إلى عدن خوفا من القتل الذي سنّه في الأرض، فتصور له إبليس وقال له إنما أكلت النّار القربان الذي قربه أخوك لأنه كان يعبدها، فبنى له بيتا وأوقد فيه نارا وصار يعبدها من دون الله، فهو أول من عبدها، وأول من سنّ القتل على وجه الأرض، وأول من خالف أمر الله بتزوجه أخته الشّقيقة، واقتدى به من بعده بهذه الخصال القبيحة، فعليه وزرها ووزر من يعمل بها إلى يوم القيامة ثم انتقم الله منه إذ مات برمية من ابن له أعمى، فقال له ابنه قتلت أباك فلطمه وقتله أيضا، قال صلّى الله عليه وسلم بشر القاتل بالقتل. قتلوا واتخذ أولاده من بعده آلات الطبل والمزامير وانهمكوا في الملاهي والمعاصي ولم يزالوا حتى أغرقهم الله بالطوفان فلم يبق من نسله أحد. قال تعالى «وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ» الواضحات من اخبار من قبلهم فلم يتعظوا بها «ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ» الذي كتبناه عليهم من التشديد في عقاب القاتل وشرعنا القصاص على جميع الخلق، وبالغنا فيه بحقهم بان جعلنا قتل النّفس الواحدة كقتل الجميع، ولم ينجح بهم ولم يزالوا وهم «فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ» (32) أي أكثرهم متجاوزون الحد في العصيان ودائبون على اخلاف الوعد ونقض العهد في حق الله تعالى، واستحلوا محارمه وحرموا ما أحله لهم، فلأن يخالفوا أمرك يا سيد الرّسل من باب أولى لأنهم قتلوا طائفة من الأنبياء بغير حق، وهم الآن يترصدون لقتلك مع أنهم مأمورون باتباعك، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفن من دمها لأنه أول القتل من سنّ سنة وقال صلّى الله عليه وسلم من سن سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.(6/321)
مطلب في حد المفسدين في الأرض ومن تقبل توبتهم ومن لا تقبل وحكاية داود باشا حاكم العراق:
قال تعالى «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا» إذا قتلوا الأنفس فقط «أَوْ يُصَلَّبُوا» إذا أخذوا المال مع القتل تشديدا للعقوبة «أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ» اليمنى مع الرّجل اليسرى أو الرّجل اليسرى مع اليد اليمنى إذا أخذوا المال فقط «أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ» إذا وجدوا في الطّريق وأخافوا النّاس أو في البرية أيضا لغاية القتل والنهب والسّلب ولم يقع منهم قتل ولا أخذ مال فينفوا إلى مكان لا يتمكنون معه من القيام بهذه المفاسد، وفي حبسهم معنى النّفي وأبلغ «ذلِكَ» الذي كتبه الله على هؤلاء المفسدين من الحد يكون «لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا» وهوان بين المجتمع الإنساني، وذل يأنفه كلّ ذي عقل، ويتباعد عنهم كلّ ذي مروءة، وينفر منهم كلّ شهم «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» (33) عند الله إذا ماتوا قبل توبتهم، فإذا تابوا وكانوا مسلمين أو كانوا كافرين فأسلموا وسلّموا أنفسهم لإجراء الحد عليهم فعقوبتهم الدّنيوية هي ما ذكر في الآية وهي كفارة لهم، وإن لم يسلموا أنفسهم وبقوا على طغيانهم فهم في خطر المشيئة، أما الكفار إذا أسلموا بعد ذلك فإسلامهم كفارة لهم لأن الإسلام يجبّ ما قبله، وإنما يلزم بعده أداء الحقوق الشّخصية فقط «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا» من كفرهم ومحاربتهم لله ورسوله وتركوا الإفساد في الأرض «مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ» بأن أمسكتموه وكانوا في قبضتكم، فهؤلاء لا سبيل لكم عليهم على مطلق الإضافة، أما إذا كانوا قاتلين أو ناهبين، فأولياء القتيل لهم طلب القصاص أو العفو وأخذ الدّية وأهل المال لهم طلبه منهم أو تركه، والله تعالى يقبل توبتهم فلا طريق لأولي الأمر عليهم إذا أقلعوا عما كانوا عليه من تلقاء أنفسهم ولهذا قال تعالى منبها على ذلك «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (34) لأمثال هؤلاء وبعد مغفرة الله لا حقّ لأولياء الأمر أن يعاقبوهم لأنهم وكلاء الله في أرضه وليس للوكيل أن يفعل شيئا نهاه عنه موكله إذا أسقطه. هذا وإذا كان النّائبون(6/322)
قبل القبض عليهم كفرة فلا يطالبون بالقصاص لما ذكرنا من أن الإسلام يجب ما قبله والتوبة تدرا الحدود الواجبة حال الكفر، وذلك ليكون داعيا للاسلام، وإذا علم أنه مطالب بما فعل حال كفره، بعد الإسلام لا يسلم. وحكم هذه الآية عام ومستمر الى يوم القيامة وإن نزولها بحق جماعة مخصوصين كان شأنهم ذلك لا يقيدها بهم ولا يخصصها فيهم، روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن أناسا من عكل وعرينة قدموا على النّبي صلّى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام، فقالوا يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة. فأمر لهم صلّى الله عليه وسلم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعى النّبي صلّى الله عليه وسلم واستاقوا الذود، فبلغ ذلك النّبي صلّى الله عليه وسلم فبعث الطّلب في أثرهم فحلقهم وأخذهم، فاعترفوا لحضرة الرّسول بجرمهم، ولم يبدوا عذرا يدرا الحد عنهم، فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وأرجلهم وتركوا في ناحية الحرة (محل بظاهر المدينة تحت واقم) حتى ماتوا على حالهم.
قال قتادة بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان بعد ذلك يحث على الصّدقة وينهى عن المثلة، زاد في رواية قال قتادة فحدثني بن سيرين أن ذلك قبل أن تنزل الحدود قال أبو تلابة فهؤلاء قوم كفروا وقتلوا وسرقوا بعد ايمانهم وحاربوا الله ورسوله فأنزل الله فيهم هذه الآية وصار العمل عليها حتى الآن والى أن يرث الله الأرض ومن عليها. هذا وينبغي صلب مثل هؤلاء المفسدين على الطّريق العام ليكون أبلغ في الزجر، ويختار الحبس على النّفي إذا تيقن أنه يؤذي في المحل الذي ينفى اليه، وإذا تاب هؤلاء المفسدون بعد القبض عليهم فلا تقبل توبتهم لأنها لا تكون خالصة بل للتخلص من الحد وهي توبة لا قيمة لها كالتوبة حال اليأس، لذلك يجب أن تقام عليهم الحدود المذكورة في هذه الآية، قالوا إن داود باشا حاكم العراق في القرن الثاني عشر للهجرة قد اشتهر بالعدل والتقوى وأعمال الخير وأفعال البر وإنشاء الجسور وإصلاح الطّرق وعمارة البيوت للفقراء وبناء المساجد والجوامع والتكايا، وصار يصرف جميع واردات العراق في هذه الجهات وشبهها، وكان له خادم فقتل نفسا فأمر بقتله، فاختفى ثم دخل عند الشّيخ خالد النّقشبندي ذي(6/323)
الجناحين دفين دمشق، فبلغ الشّرطة خبره فحضروا ليأخذوه، فلم يسلمه للشرطة فحضر داود باشا بنفسه وتحاجّ مع الشّيخ وتلا عليه هذه الآية، فقال له الشّيخ إنه تاب قبل أن تقدروا عليه، وتوبته مقبولة بحكم هذه الآية، فلم يقبل الحاكم وطلب تسليمه ليقتله بحكم الآية الأولى، فصاح عليه الشّيخ لا أرسله لك يحكم الآية الثانية، فأغمي عليه ولما أفاق قبل يدي الشّيخ واستعفاه وقبل توبته وأدى الدّية لأهله بعد أن عفا أهل القتيل عنه وقالوا إنه حينما صاح الشّيخ رأى الحاكم نفسه بين يدي سبع يريد أن يلتقمه كرامة من الشّيخ، ولهذا فعل ما فعل، وهذا الحاكم غضب عليه السّلطان لعدم رفع شيء من واردات العراق إلى الخزينة العامة وأرسل من يقتله إذا لم يسلم نفسه اليه، ولما سلم نفسه اليه لم ير السّلطان ما يوجب قتله إذ تبين له أنه صرفها بصورة شرعية، فعفا عنه وأرسله إلى المدينة خادما للحرم الشّريف، فليحسنه فصار يكسو الحجرة الشّريفة بعد المكسة إلى أن توفي رحمه الله رحمة واسعة. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» بفعل الطّاعات والعمل بما يرضيه جل شأنه من صلة الرّحم والتصدق على الأرامل والفقراء وقضاء حوائج العاجزين والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فهذه وما يشبهها كلها وسائل إلى الله تعالى تقرب العبد منه وتطلق الوسيلة على الحاجة قال عنترة:
إن الرّجال لهم إليك وسيلة ... أن يأخذوك تكحلي وتخصّبي
وعلى هذا يكون المعنى اطلبوا حاجاتكم من الله لا من غيره فإنه بيده مقاليد السموات والأرض، والوسيلة منزلة في الجنّة، قال صلّى الله عليه وسلم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنّة لا ينالها إلّا عبد واحد وأرجو أن أكون أنا هو. وجاء في حديث آخر من قال حين يسمع النّداء (الأذان) اللهم رب هذه الدّعوة التامة والصّلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته حلّت له شفاعتي يوم القيامة. واستدل بعض النّاس بهذه الآية على جواز الاستغاثة بالصالحين وجعلهم وسيلة فيما بينهم وبين الله تعالى، وتحقيق الكلام في هذا أن الاستغاثة بالمخلوق الحي وجعله وسيلة بمعنى أنه يطلب الدّعاء منه لا شك في جوازه ولا يشترط(6/324)
فيه أن يكون أفضل من المستغيث به لما صحّ أنه صلّى الله عليه وسلم لما استأذن عمر في العمرة قال له لا تنسنا من دعائك، وأمره أن يطلب من أويس القرني أن يستغفر له، وأمر أمته بطلب الوسيلة له وأن يصلوا عليه، وقد استسقى الأصحاب بالعباس رضي الله عنهم، وإذا كان المستغاث به ميتا فلا يجوز لأنه بدعة، إذ لم ينقل عن السلف الصّالح أنهم استغاثوا أو طلبوا شيئا من الأموات. أما التوسل بجاههم لما يعتقد فيهم من التقرب إلى الله وعند الله ومن الله فلا بأس به، وكذلك زيارة قبورهم كما ذكره صاحب المدخل رحمه الله في الجزء الأوّل في باب زيارة القبور، وجواز شد الرّحال إليها، أما ما قاله صلّى الله عليه وسلم لا تشد الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد مسجده والمسجد الأقصى والمسجد الحرام فلما فيها من التفاوت بالأجر، أما بقية المساجد فلا تفاوت فيها، لهذا لا يشملها ولا يدخل فيه زيارة قبور الأنبياء والصّالحين، إذ فيهم تفاوت لأن منهم من هو أقرب إلى الله من غيره فيجوز شد الرّحال لزيارتهم والتبرك بهم أمواتا كما يجوز أحياء لأن مجالستهم بركة وقد تنزل الرّحمة عليهم فيستفيد منها من كان عندهم، وقد حبّذ هذا العارفون كلهم ولم يمنعه منهم أحد وهم أدرى من غيرهم، فمنهم يؤخذ وبهم يقتدى وعنهم يتحدث، وحديث شد الرّحال خاص بالمساجد الثلاثة ولا يصلح أن يكون حجة للمنع من زيارته المحلات الأخر التي يتبرك بها، تدبر «وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ» أعداءه لإعلاء كلمته «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (35) في دنياكم في العز والوقار وفي آخرتكم في الفوز والنّجاة من النّار.
مطلب في الرّابطة عند السّادة النّقشبندية وفي حد السّارق ومعجزات الرّسول والقصص وما يتعلق به:
واعلم أن من هذه الآية الكريمة ومن قوله صلّى الله عليه وسلم إن أرواح المؤمنين لتلتقي على مسيرة يوم وما رأى أحد صاحبه، ومن قول الفقهاء ينبغي لمن يقول في التحيات أثناه الصّلاة السّلام عليك أيها النّبي ورحمته وبركاته أن يتصور النّبي أمامه كأنه يخاطبه في التحية، ومن أمر الشارع باستقبال القبلة وتقبيل الحجر الأسود أخذ السادة الصّوفية الرّابطة وأجمعوا عليها وأمروا بها، وقد أشرنا إلى هذا في الآية(6/325)
58 من سورة الإسراء في ج 1، ومن أراد تفصيل هذا البحث فليراجع كتاب الهداية والعرفان للصاحب، وكتاب البهجة السّنية للخاني، ووضعت الرّابطة للاستعانة بالشيخ الكامل الذي إذا رئي ذكر الله لدفع الخطرات الشّيطانية عن القلب وطلب الواردات الإلهية إليه، لأنه بيت الرّب القائل جل قوله ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن. فهات هذا المؤمن المخلص الذي صار قلبه محلا الرّحمن وتوسل به إليه، أما لا فلا، فحسنوا رحمكم الله نياتكم وطهروا بيت الرّحمن من كلّ ما لا يليق به، وظنوا بالناس خيرا ليحصل لكم الأمان فتدخلوا الجنان والله من وراء القصد. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» وماتوا على كفرهم «لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» من المال والملك والولد «وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ الله يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ» ذلك الفداء على فرض ان لكل كافر ملك الدّنيا هذه ودنيا أخرى معها، ثم قدمها ليفدي بها نفسه من عذاب الله في ذلك اليوم لم يقبل منه «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (36) لا سبيل للنجاة منه وتراهم «يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ» لشدة ما يقاسون من عذابها «وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها» لعدم استطاعتهم الخروج لأن عليها ملائكة غلاظ شداد لا رحمة في قلوبهم يمنعونهم من الخروج راجع الآية 6 من سورة التحريم المارة لتقف على وصف هؤلاء الملائكة «وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ» دائم ثابت لا ينقص ولا يتحول عنهم، قال تعالى «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا» ما لا يحل لهما أخذه من مال الغير، وهذا القطع يكون جزاء «نَكالًا» عقوبة عظيمة «مِنَ اللَّهِ» الذي نهى عن السّرقة ليرتدع النّاس عن فعلها «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» قوي في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره «حَكِيمٌ» في ترتيب هذا الحد على السارق ليقطع دابر السّرقة، هذا وقد ذكر الله تعالى من أول هذه السّورة إلى هنا ثمانية عشر حكما لم ينزلها في غيرها كما أشرنا آنفا وهي المنخنقة 2 والموقوذة 3 والمتردية 4 والنّطيحة 5 وما أكل السّبع 6 وما ذبح على النّصب 7 والاستقسام بالأزلام 8 والجوارح المعلمة 9 وطعام أهل الكتاب 10 والمحصنات منهم 11 وبيان(6/326)
الطهارة والتطهير 12 والوضوء عند إرادة الصّلاة 13 وجزاء قطاع الطّريق إذا قتلوا 14 وعقابهم إذا قتلوا وسلبوا 15 وجزاؤهم إذا سرقوا فقط 16 وعقابهم إذا لم يسرقوا ولم يقتلوا 17 وجزاؤهم إذا تابوا 18 وقبول توبتهم قبل القبض عليهم مع ما يلزمهم في هذه الأحوال كلها. ثم بين سبعة أحكام أخر كذلك لم تذكر في غيرها وهي 1 حكم السّارق والسّارقة 2 حكم قتل الصّيد 3 البحيرة 4 السّائمة 5 الوصيلة 6 الحام 7 حكم الوصية والإشهاد عليها قبل الموت بما يدل على عظيم هذه السّورة والقرآن كله عظيم، إلا أنه ما من عموم إلّا وخصص لا سيما الآيات التي فيها أحكام فهي أهم من غيرها وقد جعل في القرآن الحسن والأحسن، راجع الآية 55 من الزمر والآية الثانية من سورة يوسف في ج 2، روى البخاري ومسلم عن عائشة أن قريشا أهمها شأن المخزومية التي سرقت فقالوا، من يكلم فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قالوا ومن يجترىء عليه إلّا أسامة بن زيد حب رسول الله؟ فكلمه أسامة، فقال صلّى الله عليه وسلم أتشفع في حدّ من حدود الله ثم قام فاختطب، ثم قال إنما أهلك الّذين من قبلكم إنهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها. ورويا عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لعن الله السّارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده. والحكم الشّرعي إذا سرق السّارق ما يساوي ربع دينار تقطع يده وان البيضة الواردة في الحديث يراد بها بيضة الدّرع، والمراد بالجمل ما يساوي ربع دينار ويشترط أن يكون السارق بالغا عاقلا
عالما بالتحريم، فلو كان حديث عهد بالإسلام لا يعلم حرمة السّرقة لا يقطع، وكذلك الصّبي والمجنون، ويشترط أن يكون المسروق في محل محرز كدور السّكن والخيم، أما إذا كان من البادية والبساتين والدّور غير المأهولة وغير السورة المنقطعة من السّكان والزروع والكروم فلا قطع فيها، وكذلك لا قطع على من يسرق مال أبيه وأمه والعبد من سيده والشّريك من شريكه لوجود الإباحة في البعض معنى وهي ما يدرأ بها الحد، وإذا سرق بعد أن قطعت يده تقطع رجله من مفصل القدم على الخلاف، وهكذا إذا سرق ثالثا، وإذا سرق رابعا لا تقطع يده الأخرى بل يحبس، لأن في قطعها(6/327)
تعطيلا له عن الأكل والعمل بصورة بانه مما يؤدي إلى هلاكه ولم يجعل الله الهلاك في هذا الحد، فلو أن المسلمين ساروا على ما حده الله لا نقطع دابر الفساد كله، لأن النّاس إذا رأوا عار قطع اليد الملازم للسارق يرتدعون عن السّرقة، أما الحبس الذي عليه أحكام هذا الزمن بنوعيها الجناية والجنحة فلم تكن رادعة لقطع دابر السّرقات مهما شدد فيها لصعوبة أسباب ثبوتها، فلذلك ما زالت السّرقات تتكاثر، وما زال السّراق يتبرمون، ولهذا شدد الشّارع فأوجب قطع اليد عند الثبوت، لأن هذا يزيد في الزجر ويقطع دابر السّرقة وتتأثر النّاس في عارها ويتحاشون أن يلصق بهم. قال تعالى «فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ» لنفسه بالسرقة وظلم غيره بأخذ ماله «وَأَصْلَحَ» نفسه بعدها بالعمل الصّالح «فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ» ويقبل توبته «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لعباده الرّاجعين إليه «رَحِيمٌ 39» بهم يريد لهم الخير، وليعلم أن هذه التوبة لا تسقط عنه الحد، لأنه جزاء لما فعل، أخرج أبو داود وابن ماجه والنّسائي عن أبي أمية المخزومي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتى بلصّ قد اعترف اعترافا لم يوجد معه متاع فقال له إخالك سرقت، فقال بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا كلّ ذلك يعترف، فأمر به فقطع، ثم جيء به فقال له صلّى الله عليه وسلم أستغفر الله وتب اليه، فقال الرّجل أستغفر الله وأتوب اليه، فقال صلّى الله عليه وسلم اللهم تب عليه. وهذا إذا كان مؤمنا، أما إذا كان كافرا وأسلم فقد سقط عنه الحد ويبقى المال فقط، وإذا حاول السّرقة فلم يسرق لأمر ما فلا حدّ عليه، لأن الله فرض الحد على الفاعل القاصد، وهكذا القتل إذا قصده ولم يقتله أو قتل خطأ أو مناولا فلا شيء عليه، راجع الآية 92 من سورة النّساء، قال تعالى «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (40) قدم تعالى في هذه الآية التعذيب على المغفرة لأنه بمقابلة قطع السّرقة على التوبة، وهذه الآية تبطل زعم القدرية والمعتزلة القائلين بوجوب الرّحمة للمطيع والعذاب للعاصي لأنها تدل على أن التعذيب والرّحمة مفوضان للمشيئة، والوجوب ينافي ذلك، وبما أن الكل في ملكه والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء فلا(6/328)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
معنى للوجوب، وقد أكد ذلك بختم الآية بجملة (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي يعذب ويغفر بسبب وبلا سبب
قال تعالى «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ» فإنا نكفيك شرهم فلا تبال بهم ولا تهتم بشأنهم لأنهم «مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ» أي منافقون «وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا» أي طائفة منهم وهؤلاء لا يعبأ بهم لأنهم «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ» افتراء من أنفسهم وذلك أنهم كانوا يجلسون عند حضرة الرسول فيقولون قال كذا وكذا ولم يقله فهم «سَمَّاعُونَ» عيون وجواسيس «لِقَوْمٍ آخَرِينَ» منهم «لَمْ يَأْتُوكَ» لينقلوا كلامك لهم على صحته بل «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ» التي وضعها الله من فرض فرائضه وتحليل حلاله وتحريم حرامه. اعلم أنه لا يوجد في القرآن آية مصدرة بيا أيها الرّسول غير هذه الآية 70 الآتية، أما الآيات المصدرة بيا أيها النّبي فهي اثنتا عشرة، ثلاث بالأنفال 65 و 66 و 71 وخمسة بالأحزاب 1 و 28 و 45 و 50 و 59 وواحدة بالتوبة 74، وواحدة في الممتحنة، وواحدة في الطّلاق، في التحريم 12. واعلم أن الفرق بين قوله تعالى عن مواضعه في الآية المارة وبين قوله من بعد مواضعه في هذه الآية أنهم في هذه الآية يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النّصوص الصّحيحة وليس فيها بيان أنهم يحرفون تلك اللّفظة من الكتاب، وفي الآية السّابقة يجمعون بين الأمرين التأويلات الفاسدة وتحريف اللّفظ من الكتاب، وفي الآية السّابقة يجمعون بين الأمرين التأويلات الفاسدة وتحريف اللّفظ، ففي قوله تعالى (عَنْ مَواضِعِهِ) إشارة إلى التأويل الباطل وفي قوله (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) رمز الى إخراجه من الكتاب بالكلية، أما آية البقرة 46 التي عبارتها (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) فهي في تبديل كلام الله الذي أسمعهم إياه في المناجاة حينما ذهبوا مع موسى عليه السلام، تدبر. ثم بين تعالى وجه هذا التحريف بقوله جل قوله «يَقُولُونَ» لقومهم «إِنْ أُوتِيتُمْ هذا» المحرف المزال عن مواضعه «فَخُذُوهُ» واعملوا به لأنه حق بزعمهم «وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ» عينا وأتاكم محمد بما يخالفه «فَاحْذَرُوا» أن تأخذوه وتعملوا به، لأنه من عنده لا من عند الله قاتلهم الله، وهذا من بعض ما يفتنون به بعضهم بقصد صدهم عن الدّين الحق الذي جاءهم به محمد صلّى الله عليه وسلم(6/329)
«وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ» وإضلاله عن الهدى «فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» تقدر به على إخلاصه لسلوك الحق، لأن كلا ميسر لما خلق له في الأزل لا تبديل لخلق الله، رفعت الأقلام وجفّت الصّحف، راجع الآية 29 من سورة الأعراف ج 1، وفي هذه الآية دلالة على قطع رجائه صلّى الله عليه وسلم من إيمانهم به وعدم الالتفات إليهم والمبالاة بهم، والاهتمام بشأنهم «أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» من اهوان الكفر لسابق علمه في اختياره له وأمثال هؤلاء «لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» وهوان على ما هم عليه من النّفاق والتجسس والتحريف لكلام الله وكلام رسوله «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» (41) جزاء عملهم هذا. ثم كرر ما هم عليه من الصّفات الذميمة تأكيدا لسوء حالهم فقال «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ» وكلّ ما لا يحل كسبه سحت، وجاء في الحديث بمعنى الرّشوة، لأنهم كانوا يحللون ويحرمون بها، وتقرأ بضمتين كالعنق وبالفتح على المصدرية «فَإِنْ جاؤُكَ» يا سيد الرّسل لتقضي بينهم فيما يختلفون فيه بعضهم مع بعض «فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ» ولا يمنعك ما تراه منهم أن تحكم بينهم «أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ» إن شئت ألا تحكم، وهذا أمر تخييري «وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ» فلم تقض بينهم بسبب صدودهم عنك وعدم إيمانهم بك ونصب العداء لك فإنهم لا يقدرون عليك بشيء ما فاتركهم «فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً» لأن الله عاصمك منهم كما هو عاصمك من غيرهم «وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ» العدل الذي شرعناه لك «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (42) بأحكامهم الّذين لا تأخذهم في الحق لومة لا ثم، فلا يجوزون، ولا يميلون لقوي أو غني، ولا يميزون بين الخطير والحقير، ولا يحيفون لعداوة أو كراهية ما. وخلاصة هذه القصة أن رجلا وامرأة من أشراف اليهود بخيبر زنيا وكانا محصنين، وفي شرعهم يجري عليهم الحد وهو الرّجم، بمقتضى حكم التوراة، فكره اليهود رجم المرأة لشرفها، فقالوا إن هذا الرّجل بيثرب يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلم يقضي بين النّاس وليس في كناية الرّجم فاذهبوا اليه واسألوه عما يجب عليها، فبعثوا رهطا وقالوا لهم اسألوه عن الزانيين المحصنين ما حدهما، فإن أمركم بالحد فاقبلوا، وإن أمركم(6/330)
بالرجم فلا، فذهبوا اليه فسألوه فقال عليهما
الرّجم، فأبوا قبول حكمه، ونفوا وجوده في التوراة فنزل جبريل فقال يا محمد اجعل بينك وبينهم ابن حوريا حكما منهم، وذكر له وصفه، فقال صلّى الله عليه وسلم هل تعرفون فيكم شابا أمره أعور يسكن فدك يقال له ابن حوريا! قالوا نعم، قال فأي رجل هو فيكم، قالوا علم يهودي بقي على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى في التوراة، قال فأتوني به، فأتوا به، قال أترضونه حكما بيننا؟ قالوا نعم، فقال صلّى الله عليه وسلم ناشدتك الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى وأخرجكم من مصر وفلق لكم البحر فأنجاكم وأغرق آل فرعون وبالذي ظللكم بالغمام وأنزل عليكم المن والسّلوى وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه هل تجدون في كتابكم الرّجم على المحصن؟ فقال اللهم نعم والذي ذكرتني به لولا أني خشيت أن ينزل علينا العذاب إن كذبت أو غيرت ما اعترفت لك، ولكن كيف هي في كتابكم قال إذا شهد أربعة رهط عدول أنه أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليها الرّجم، فقال والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله في التوراة، فقال ما كان أول ما ترخصتم به؟ قال زنى ابن عم الملك فلم نرجمه، ثم زنى بعده رجل فقال قومه لا ولله حتى يرجم ابن عم الملك، فلم يمكنوا أحدا من رجمه، فاجتمعنا ووضعنا الجلد والتحميم، (تسويد الوجه) مكان الرّجم، راجع الآية 9 من سورة النّور المارة تجد حديث البخاري ومسلم بهذا الشّأن، وهذا من معجزات حضرة الرّسول ومن الأخبار بالغيب، لأنه ذكر لهم ابن حوريا باسمه ووصفه ومكانه وهو لم يره ولم يسمع به قط، قالوا ثم أمر رسول الله برجمها، وقال اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأنزل الله هذه الآيات في حكام اليهود، وروى مسلم عن البراء بن عازب، قال مر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال هكذا تجدون حدّ الزنى في كتابكم؟ قالوا نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال له ناشدتك الله هكذا تجدون حسد الزنى في كتابكم؟ قال لا وكرر ما قاله ابن حوريا. الحكم الشرعي إذا كان المتحاكمون معاهدين كما في هذه الآية فالحاكم مخيّر بين أن يقضي بينهم وبين ألّا يقضي، لأن المعاهدين غير ملزمين بأحكام المسلمين أما(6/331)
غيرهم فيجب على الحاكم أن يحكم بينهم سواء كانوا كافرين أو ذميين أو مسلمين أو مخالفين ويجب أن يكون الحكم بمقتضى ما أنزل الله. قال تعالى «وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ» الرجم للزاني المحصن كغيره من الأحكام الأخر المتعلقة بأمر دينهم ودنياهم وآخرتهم «ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ» عن حكمك الموافق لما في كتبهم ويعرضون «مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» التحكيم الذي لجأوا اليه ورضوا به، وهذا تعجيب من حالهم لأنهم يعلمون يقينا أن الزاني المحصن يرجم بنص التوراة ثم يطلبون من حضرة الرّسول أن يحكم لهم بخلاف ما شرعه الله له ولأمته الموافق لما في التوراة، ولذلك كان يحكم في الرّجم وهو لا ينطق ولا يتأول ولا يفعل شيئا عن هوى، ولكن لا عجب لأنهم لا يصدقون بكتابك ولا يؤمنون بك وانهم يحكمون على ما يلائم المصلحة بحسب الأشخاص «وَما أُولئِكَ» الّذين هذه حالتهم «بِالْمُؤْمِنِينَ» 43 بكتابهم ولا نبيهم، فلو آمنوا بها لآمنوا بكتابك، لأن الحكم بالكتابين واحد، فلا معنى إذا لقولهم إنهم آمنوا بالتوراة وبموسى، لأن من مقتضى الإيمان بهما الإيمان بك وبكتابك. قال تعالى «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ» لمن اتبعها وآمن بها فتكشف له الشّبهات وتوضح له المشكلات، وكان «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا» لحكم الله فيها كموسى وهرون ومن بعدهما إلى زمن محمد صلّى الله عليه وسلم «لِلَّذِينَ هادُوا» أي اليهود، وسموا بذلك لقولهم «إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» الآية 156 من الأعراف في ج 1 وفي قوله تعالى (أَسْلَمُوا) إشارة إلى أن الأنبياء لم يكونوا يهودا ولا نصارى بل كانوا مسلمين على ملة ابراهيم عليه السّلام، راجع الآية 67 من آل عمران المارة «وَالرَّبَّانِيُّونَ» الزهّاد التحصين في العبادة، راجع الآية 80 من آل عمران أيضا يحكمون بها «وَالْأَحْبارُ» أيضا جمع حبر بفتح الحاء وكسرها العلماء والعارفون «بِمَا اسْتُحْفِظُوا» أوئتمنوا واستودعوا «مِنْ كِتابِ اللَّهِ» وقد أخذ عليهم العهد أن يحفظوا كتابه ويعلّموه النّاس ويقضوا فيه بينهم «وَكانُوا» أولئك الأنبياء
والرّبانيّون والأحبار «عَلَيْهِ شُهَداءَ» بأن كتاب الله حق وصدق أنزله على موسى «فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ» لتعملوا(6/332)
بأحكام اليهود وتكتموا ما في كتاب الله من أجلهم ولأجل نفعكم منهم «وَاخْشَوْنِي» أنا الله القادر على عقابكم إن خالفتم «وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا» من الرشاء الذي تأخذونه وحب بقاء الرّئاسة والجاه، فتستبدلوا بآياتي غيرها، أو تحرفوا بعضها، أو تغيّروا معناها بهتا منكم وافتراء علي، واحكموا بما أنزلت عليكم في التوراة «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» جحودا وكفرانا «فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» (44) بموسى والتوراة وبعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن. قال تعالى «وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» تقتل إذا قتلت غيرها عمدا، وبهذه الآية استدل بعض العلماء على أن الرّجل يقتل بالمرأة وعدها ناسخة لقوله تعالى (الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) الآية 179 من البقرة المارة، مع أن هذه الآية حكاية حال عما في التوراة وخبر من الأخبار فيها، والأخبار لا تكون ناسخة للأحكام، وعلى هذه لا يقتل الرّجل بالمرأة، ولا الحرّ بالعبد، والآية في هذا محكمة غير منسوخة البتة، ودعوى من ادعاه لا قيمة له للسببين المذكورين أعلاه، ولكن العمل الآن في المحاكم على هذه الآية 45 من هذه السّورة، والحق أن يكون العمل على آية البقرة 179 لأن هذه الآية 45 عبارة عن اخبارنا بما كتبه الله على بني إسرائيل ليس إلا، وليس كلّ ما فرضه عليهم نكلف به لأن شريعتنا جاءت ناسخة لما قبلها في كلّ ما يخالفها، فما وافق شرعنا عملنا به، وما خالفه فلا، تأمل. «الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ» تفقا «وَالْأَنْفَ» يجدع «بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ» تقطع «بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ» تقلع «بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ» فيما يمكن أن يقتص من الجارح كاليد والرّجل والذكر والأنثيين، أما فيما لا يمكن فيه كالرّض والجرح في البطن والكسر الملتئم وبقية الجراحات مما لا يمكن إجراء القصاص فيها ففيها حكومة عدل، إذ قد يخاف التلف في اجراء القصاص، فيخرج عن كونه قصاصا كما أمر الله، ويسمى ما دون الدّية هكذا جروح ارشا، وهذا التعميم يعد تخصيصا لأن الجروح تعم الكل «فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ» أي القصاص فعفى عن أخيه «فَهُوَ» التصدق المراد به العفو «كَفَّارَةٌ لَهُ» عن ذنوبه التي كان اقترفها قال عليه الصّلاة والسّلام من تصدق(6/333)
بدم فما دونه كان كفارة له من يوم ولدته أمه. وأخرج الترمذي عن أبي الدّرداء قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ما من رجل يصاب بشيء من جسده فيتصدّق به إلا رفعه الله درجة وحط عنه به خطيئة. وأخرج أبو داود والنّسائي عن أنس قال ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم رفع اليه بشيء فيه قصاص إلّا أمر فيه بالعفو «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (45) أنفسهم وأتباعهم وقدمنا ما يتعلق بالقصاص في الآية 179 من البقرة فراجعها وقدمنا أنواع القتل والدّيات في الآيتين 92 و 93 من سورة النّساء المارة فراجعها. قال تعالى «وَقَفَّيْنا» عقبنا واتبعنا «عَلى آثارِهِمْ» أي النّبيّين «بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ» وكلّ ما هو أمام الرّجل هو بين يديه «وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ» معدلا لبعض أحكامها، يوافق عصره ويصلح لأمته «فِيهِ هُدىً» للناس وتخفيف على أمته وتيسييرا لما هو عسير وتسهيل ما هو شاق «وَنُورٌ» يستضيء به من آمن وصدق بعيسى في زمانه حتى بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ» ولا تكرار هنا لأن ضمير مصدقا في الآية الأولى يعود إلى عيسى، وفي هذه يعود إلى الإنجيل «وَهُدىً» يهتدي به من اتبع أحكامه إلى طريق الصّواب، ولأن فيه بشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلم يهتدي بها ممن وفقه الله للسداد «وَمَوْعِظَةً» لما فيه من الأمثال والزواجر والعبر «لِلْمُتَّقِينَ» (46) لأنهم هم الّذين ينتفعون فيه «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ» على أنفسهم وغيرهم على السّواء «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (47) الخارجون عن الطّاعة المتجاوزون حدود الله. أخرج مسلم عن البراء بن عازب قال أنزل الله تبارك وتعالى ومن لم يحكم ومن لم يحكم ومن لم يحكم إلخ الآيات في الكفار كلها. وقال العلماء إن الآيات المذكورات نزلت في الكفار وفيمن غير حكم الله من اليهود ومن ترك الحكم بكتاب الله ردا لكتاب
الله، ومن يدل حكم الله وحكم بغيره عمدا مختارا فيخرج المخطئ والسّاهي والمكره، ويفسق غير الجاحد، وهذا هو الموافق لعموم الآيات، فكان في الحديث الأوّل اقتصار، وجاء التخصيص فيما أخرج أبو داود(6/334)
عن ابن عباس أنها أي تلك الآيات في قريظة والنّضير خاصة. قال تعالى «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ» يا سيد الرّسل «الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ» آل فيه للجنس فيشمل التوراة والإنجيل وغيرها «وَمُهَيْمِناً» شاهدا «عَلَيْهِ» أي الكتاب المذكور الدّاخل في معناه جميع الكتب الإلهية المنطوي على معانيها كافة ومما يدل على أن مهيمنا بمعنى شاهد ما قاله حسان:
إن الكتاب مهيمن لنبيّنا ... والحق يعرفه ذو الألباب
ويأتي بمعنى آمين أيضا وله معان أخر ذكرناها آخر سورة الحشر المارة «فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ» يا سيد الرّسل أي بين أهل الكتاب إذا تخاصموا عندك عفوا من أنفسهم دون تكلف وطلب منك كما تحكم بين قومك «بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» عليك فيه «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ» أي اليهود برجم الضّعيف وجلد القوي والشّريف إذا زنيا كما يدون بل أجر على كلّ أحد من المحصنين الرّجم مهما كان، وإياك أن تنحرف «عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ» في هذا الكتاب كما فعل اليهود، وهذا الخطاب وإن كان موجها لحضرة الرّسول إلّا أنه مراد به غيره من الأمة كما سبق تنفيده في سورة الزمر الآية 65 ج 2 وغيرها هو ممائل لهذا، لأن إيقاع أهواء اليهود وغيرهم محال عليه صلّى الله عليه وسلم ولكنه خاطبه به على طريق الإلهاب ليتعظ الغير به «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ» أيها اليهود والنّصارى والإسلام «شِرْعَةً» ترجعون إليها في أموركم الدّينية فيما بينكم وبين ربكم والدّنيوية فيما بينكم وبين غيركم من جميع النّاس على الإطلاق «وَمِنْهاجاً» طريقا واضحا نسلكونه في أحكامكم وأموركم يؤدي بكم للفوز والنّجاح في الدّنيا والآخرة، فقد جعل الله تعالى التوراة والإنجيل والقرآن شرائع لخلقه أحل لهم ما شاء، وحرم عليهم ما شاء، وأمرهم بالعمل بها ليعلم من يطيعه منهم ممن يعصيه ويظهر ذلك للناس لأنه جل جلاله عالم من قبل، بما يقع منهم من طاعة وعصيان وكفر وإيمان ويعلم أن الدّين كله واحد وأصوله واحدة، وهي التوحيد لله وتصديق الرّسل والاعتراف بالمعاد، وإن جميع الأديان السّماوية من لدن آدم إلى آخر الدّوران ترجع إلى هذه الأصول، وإن طرق الرّسل واحدة وإرشادهم لهذه الأصول واحدة ودعوتهم واحدة لا تباين ولا(6/335)
تخالف فيها، لأن المرسل واحد، قال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ... ) وقال تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) وأمر بعدم التفرق راجع الآيات 90 من الأنعام و 13 و 52 من الشّورى والمؤمنين في ج 2 و 156 من الأعراف ج 1 و 162 من النّساء المارة وما تشير إليها من المواقع، وإن ما جاء على زعم من لا خلاق له من التباين هو في فروع الدّين لا في أصوله وأن الله تعالى له أن يتعبد عباده بما شاء لما شاء في كلّ وقت «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» على شريعة واحدة ودين واحد، ونظير هذه الآية الآية 119 في سورة هود في ج 2 أي متفقين لا مختلفين «وَلكِنْ» لم يشأ ذلك، وإنما جعلكم باختلاف وتفرق في أمر الدّين «لِيَبْلُوَكُمْ» يختبركم وليمتحنكم «فِي ما آتاكُمْ» من الشّرائع وتعبدكم بها بمقتضى حكمته فيها من الاختلاف في معالم الدّين وفروعه المتباينة تخفيفا ونثقيلا ليبين للناس المنقاد لأمره كيف كان من المعرض عنه وفق ما هو ثابت في أزله تعالى «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ» يا أمة محمد بالأعمال الصّالحة المقربة إلى الله قبل انقضاء آجالكم لتنتهوا «إِلَى اللَّهِ» هو «مَرْجِعُكُمْ» ومصير جميع الخلق اليه «جَمِيعاً» إسلامكم ويهودكم ونصاراكم وكفاركم على اختلاف مللكم ونحلكم ويوم ترجعون إليه «فَيُنَبِّئُكُمْ» على رءوس الأشهاد في الموقف العظيم «بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (48) من الشّرائع وغيرها فيظهر إذ ذاك المحق من المبطل والموافق من المخالف والصّادق من الكاذب ظهورا مبينا لا شبهة فيه. قال تعالى «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» عليك في هذا القرآن «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ» بسائق شهواتهم النّفسية الرّديئة ذات المقاصد الدّنية «وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ» بما يرجونه منك من اجراء ما لا يرضي الله مما يخالف أحكامه التي أنزلها إليك فيميلوك «عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ» فيحملوك على ترك العمل به أو بشىء منه مجاراة لأهوائهم الباطلة وهذا الخطاب لحضرة الرّسول على سبيل التوبة ويراد منه الزجر والرّدع للغير من أن يراجعوا حضرته بما يراه من الحق أو يطلبوا منه مراعاة بعضهم في الأحكام حسب مطامعهم العاطلة وآرائهم الباطلة، لأنه صلّى الله عليه وسلم معصوم من الافتتان بالكلية،(6/336)
راجع الآية 74 من سورة الإسراء في ج 1 «فَإِنْ تَوَلَّوْا» واعرضوا عنك ولم يرضوا بحكمك الذي أنزله الله عليك وأمرك بالعمل به لنفسك وغيرك «فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ» وهو إرادتهم الحكم بغير ما أنزل الله فيعاقبهم عليها في الدّنيا كما عاقبهم على بعضها
قبل بالقتل والأسر والسّبي والجلاء «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ» (49) خارجون عن طاعتنا متجاوزون حدودنا. هذا ولم يختم الله تعالى هذه الآية الخاصة بأمة محمد بما ختم به الآية في أمة موسى والآيتين في أمة عيسى لأمر أراده الله فله الحمد والشّكر. ولا تكرار في هذه الآية أيضا، لأن الأولى عدد 44 المارة كانت في مسألة الزنى، وهذه في قضايا القصاص والجروح إذ راجع رؤساؤهم حضرة الرّسول وقالوا يا محمد قد عرفت بأنا سادات قومنا وأشرافهم وإنا إن اتبعناك اتبعك كلّ اليهود وان بيننا وبين النّاس خصومات نريد أن نتحاكم إليك فيها، فإذا قضيت لنا عليهم آمنا بك وصدقناك، لأن قتلانا أفضل من قتلاهم، ولسنا سواء بالجروحات أيضا لأنها كانت بيننا على التضعيف، وذلك أنه كان بنو النّضير إذا قتلوا رجلا من قريظة أعطوهم ديته سبعين وسقا من التمر، وإن قتل بنو قريظة رجلا من النّضير أعطوهم مئة وأربعين، وكذلك الجراحات، فقال صلّى الله عليه وسلم إن القرض بالنضيري وفاء، لا فضل لأحدكم على الآخر فنهضوا وقالوا لا نرضى بحكمك، فنزلت هذه الآية قطعا لأطماعهم من أن يراجعوه في مثلها على سبيل المنع ليعلموا أن ما أوصى الله إليه من الحدود واجبة التطبيق على الشّريف والوضيع، وإنه لا يزيغ عنه قيد شعرة، وإنه يقيمه على كلّ أحد على السّواء على حدّ كلكم من آدم وآدم من التراب. وانظر إلى قوله صلّى الله عليه وسلم لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها، راجع الآية 38 المارة.
قال تعالى ردّا عليهم وتقريعا بهم وتوبيخا لهم «أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ» منك يا سيد الرّسل وهو ظلم وجور وحيف ويعرضون عن حكم الله المسوي بين الكبير والصّغير القاضي بالإنصاف والانتصاف «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (50) أن لهم ربا عدلا، ودينا قيما، وحكما حقا، كلا لا أحسن ولا أقوم ولا أصدق ولا أقسط من حكم الله، كيف وهو الآمر(6/337)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
بالقسط، فأعرض يا سيد الرّسل عن أمثال هؤلاء ولا تقبل مطالبهم الواهية، ولا تصغ لأقوالهم المزيقة، وأنت لست بحاجة إلى إسلامهم وولايتهم، فأنا كافيك عنهم وعن كلّ من لا يوقن بك، ولا يستسلم لحكمك.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ» لكم من دون الله فإنهم لا يصدقونكم في ولايتهم ولا يميلون إلى نصرتكم «بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» لأن طريقتكم غير طريقتهم، والبون بينكم شاسع، فلا تتولوهم أبدا راجع الآيتين 28 و 118 من آل عمران والآية 57 الآتية «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ» بعد هذا المنع «فَإِنَّهُ مِنْهُمْ» وليس منكم لرضائه بدينهم ومعاملتهم وأحكامهم المجحفة، فيظلم نفسه مثلهم، ويضل عن طريق الصّواب وسبل الهوى «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (51) أنفسهم وغيرهم. كان المنافقون لضعف قلوبهم وقلة يقينهم وشدة تجنيهم يقولون فيما بينهم إذا اشتد الأمر على المؤمنين ودال عليهم الكفار نلحق باليهود، فنأخذ أمانا منهم ويقول بعضهم إنا نلحق بالنصارى ونأخذ أمانا منهم كما وقع من أمثالهم في حادثة أحد المارة في الآية 122 من آل عمران وكما سيأتي في الآية 24 من سورة التوبة الآتية، فأنزل الله هذه الآية، ثم بين حال هؤلاء المنافقين بقوله «فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» يريد المنافقين لخلو قلوبهم من الإيمان «يُسارِعُونَ فِيهِمْ» أي في مودة اليهود والنّصارى وموالاتهم عند بدر أيّ ضائقة عليهم «يَقُولُونَ» أولئك المنافقون وأشباههم «نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ» من دوائر الدّهر وحوادثه، فيصيب الكافرون المؤمنين ويستولوا عليهم، ولا يتم الأمر لمحمد فنغلب على أمرنا، قال تعالى مخسئا لهم ومكبر رأيهم الفاسد وردا لما ينصرونه من الغلبة إذ وقعت عليهم الذلة والمسكنة وصاروا كاليهود الّذين جبلوا على الجبن والبغضاء بينهم زيادة على الذلة والمسكنة راجع الآية 62 من البقرة المارة تقف على مثالبهم التي من جملتها ما مر في الآية 65 من الأعراف ج 1، وسيأتي بعد كثير منها في هذه السّورة والتي بعدها أكثر «فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ» المطلق للبلاد والنّصر العام على الكافرين أجمع، وإظهار دين الله في البرّ والبحر وإعلائه على سائر الأديان ونصرة المؤمنين على الخلق، هذه(6/338)
على القول بأن هذه الآية نزلت مع سورتها في محلها هذا وهو الأولى. وقال بعض المفسرين أن المراد بالفتح هنا فتح مكة لأن هذه التفوهات وقعت من المنافقين قرب فتح مكة إذ كان حضرة الرّسول يعرض به لأنه كلما رجع من غزوة يعرض بالأخرى ليكون المؤمنون على أهبة الغزو دائما، وعلى هذا القول تكون هذه الآية متقدمة في النّزول على سورتها، وهي صالحة للقول بقيد نزولها في فتح مكة، والقول الأوّل على التعميم فيصدق مفعولها على سائر الفتوحات، وقد ذكرنا أن سبب النّزول قد يتقدم ويتأخر ويقارن الحادثة «أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ» بقتل هؤلاء المنافقين المرجفين وسبيهم وإجلائهم وكافة اليهود وقطع أملهم من الأراضي الحجازية «فَيُصْبِحُوا» هؤلاء المذمومون «عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ» من طلب موالاة الكفرة «نادِمِينَ» (52) ولا شك أن لفظ عسى من الله للتحقيق والكريم إذا أطمع في خير فعله، وقد كان والحمد لله وندم من ندم على ما أسرّ وأعلن من تلك التفوهات «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا» بعضهم لبعض أو لليهود على القول الآخر بعد إنجاز ما وعد الله من الفتح «أَهؤُلاءِ» المنافقون «الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ» كناية عن المبالغة في الحلف ليصدق المحلوف له أي إيمانا مكررة موثقة «إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ» أيها المؤمنون على الكافرين أو أيها اليهود على المؤمنين وأنصاركم عليهم، كيف أظهروا الميل إلى موالاة اليهود وهم قد عظموا الإيمان أنهم معكم. وقال بعض المفسرين إنهم أجهدوا إيمانهم أن يكونوا مع اليهود كما حكى الله عنهم بقوله (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) الآية 21 من سورة الحشر المارة، وعليه يكون المعنى أنهم لمعكم أيها اليهود بالموالاة، وإنهم يرجون أن تكون لكم الدّولة، ولم يفعلوا أيضا ما تعهدوا به إليهم، لذلك «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» في شأن الموالاة على كلا القولين، وبغتوا بما صنعوا من المساعي عند مشاهدتهم خيبة رجائهم وانعكاس ما تصوروه وترقبوه «فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ» (53) الدنيا، إذ لم يوفوا المؤمنين ما تعهدوا به لهم من النّصرة، ولم تكن لليهود الّذين عاهدوهم على القتال دولة يلجأون إليها معهم. والآية صالحة للمعنيين المذكورين، والأوّل أولى لظاهر الخطاب في حقكم، والله أعلم. وخسروا الآخرة أيضا لأنهم(6/339)
لم ينصحوا لله ورسوله، قال أبو موسى الأشعري لعمر بن الخطاب إن لي كاتبا نصرانيا، فقال مالك وله قاتلك أما سمعت قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية 51 المارة، ألا اتخذته حنيفا، قال له دينه ولي كتابته، فقال لا أكرمهم إذا أهانهم الله
، ولا أعزهم إذا أذلهم الله، ولا أدينهم إذا أبعدهم الله، قال له أبو موسى لا يتم أمر البصرة إلّا، فقال له عمر رضي الله عنه مات النّصراني والسّلام أي هب أنه مات النّصراني فما تصنع بعد موته فاصنعه الآن، واستغنى عنه بغيره، وهذه الآية عامة في جميع المؤمنين السّابقين واللاحقين، لأن خصوص السّبب لا يمنع عموم الحكم.
مطلب في الّذين ارتدوا عن الإسلام في زمن الرّسول وبعد واخبار الرّسول بذلك عن طريق الاعجاز ومن دخل في الإسلام:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ» إلى دين آخر، فإنه لن يضر الله شيئا وإنما يضر نفسه «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ» بدلهم ثابتين على الإيمان «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» وهذه الآية من الأخبار بالغيب إذ كان في علم الله الأزلي إن أناسا بعد فقد الرّسول صلّى الله عليه وسلم يرجعون عن الإسلام ومنهم من يرتد عن دينه في زمنه، فأعلمه الله بذلك قبل وقوعه، ومن هؤلاء الأسود العنسي ذو المجاز رئيس بني مدلج إذ تنبأ باليمن واستولى على بلاده فيها وأخرج عمال رسول الله منها، فكتب النّبي إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن فيه، فأهلكه الله تعالى على يد فيروز الدّيلمي، وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بقتله قبل ورود خبره، وقبض رسول الله في الغد وقد أتى خبر قتله آخر ربيع الأوّل سنة 11 من الهجرة بالوقت الذي ذكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهذه معجزة أيضا، لأنه من الإخبار بالغيب، وكذلك مسيلمة الكذاب تنبأ وكتب إلى رسول الله أما بعد. فإن الأرض مناصفة بيني وبينك، فكتب له حضرة الرّسول إنها لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. وتنبأ طلحة بن خويلد رئيس بني أسد فبعث اليه صلّى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقاتله وانهزم إلى الشّام ثم أسلم بعد ذلك. ومن الّذين ارتدوا بعد وفاته صلّى الله عليه وسلم فزارة الّذين رأسهم عيينة بن حصن، وغطفان الّذين(6/340)
رأسهم قرة بن سلمة القشيري، وبنو سليم الّذين رأسهم الفجاءة بن عبد ياليل، وبنو يربوع الّذين رأسهم مالك بن نويرة اليربوعي، وكندة الّذين رأسهم الأشعث بن قيس وبنو بكر قوم الخطيم بن زيد وقوم سجاح بنت المنذر من بني تميم التي ادعت النبوة وتزوجت بمسيلمة الكذاب، وقد أهلكهم الله جميعا على يد خليفته أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقتل وحشي بن عدي قاتل الحمزة مسيلمة الكذاب، فقال قتلت خير النّاس في الجاهلية يريد حمزة، وشرهم في الإسلام يريد مسيلمة، وهؤلاء الّذين يحبهم الله ويحبونه احياء من أهل اليمن من النّخع وكندة وبجيلة وغيرهم ممن دخل في الإسلام في خلافة أبي بكر وعمر الفاروق وجاهدوا في حرب القادسية.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان والحكمة يمانية. ومن دخل في الإسلام بعد ذلك من فارس الّذين قال الرّسول فيهم لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من فارس. راجع الآية الثالثة من سورة الجمعة المارة، وآخر سورة محمد عليه الصّلاة والسّلام أيضا. ثم وصف الله جل شأنه هؤلاء بقوله «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» من شدة رحمتهم تراهم خافضي الجناح لهم متواضعين مترفقين فيهم مشفقين عليهم، يعاملونهم باللين معاملة الوالد ولده «أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» غلاظ شداد عليهم مظهرين قوتهم وألفتهم عليهم كالأسد على فريسته «يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» مع إخوانهم المؤمنين من عادى الله ورسوله من الكافرين والمنافقين والموالين إليهم الّذين إذا أرادوا الخروج مع الرّسول خافوا مواليهم أن يلوموهم، فلا يجاهدون معه خشية لومهم لضعف دينهم وعدم مبالاتهم به، وهذه الآية تضاهي الآية الأخيرة من سورة الفتح المارة في المعنى فلا يبالون بهم «وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ» ولا عذل عاذل في نصرة دينهم من أحد ما، لأنهم أقوياء فيه حريصون عليه، روى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصّامت قال بايعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم على السّمع والطّاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف بالله لومة لائم. ذلك الإيمان الخالص وقوة الجأش وشدة البأس هو «فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده،(6/341)
ويسلبه عمن يشاء من أهل عناده، «وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» (54) بمن يستحق فضله فيهبه له من كرمه العميم. فيا أيها المؤمنون الرّاسخون في الإيمان «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا» الذينهم من حزب الله «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ» المفروضين عليهم «وَهُمْ راكِعُونَ» (55) لله ساجدون لهيبته «وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا» ويخلص لهما إخلاصا حقيقيا «فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ 56» الفائزون بخيري الدّنيا والآخرة. نزلت هذه لآية في عبادة بن الصّامت رضي الله عنه لمقالته الآنفة الذكر في عبد الله بن سلام حين قال يا رسول الله إن قومنا قريضة والنّضير هجرونا وأقسموا أن لا يجارونا ولا يجالوسنا. وهي عامة في جميع المؤمنين المخلصين، ولا وجه لقول من قال بتخصيصها في سيدنا علي كرم الله وجهه لأنها نزلت وهو راكع لأنه من جملة المؤمنين الموصوفين فيها وهو سيدهم. واعلم أن مجموع حروف هذه الآية (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ) إلخ بحسب الجمل (1379) وتقدم أن آية الصّافات (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا) إلخ أن مجموعها 1360 وآية المؤمن الأخيرة وهي (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) في ج 2 كذلك مجموعها 1360 فنسأل الله أن يجعل فتحا للاسلام وسبيلا إلى النّصر والتوفيق لهم ما بين هذين التاريخين، وأن يتم لهم وحدتهم ويزيل عنهم أعداءهم، ويجمع كلمتهم، ويوفقهم لما له النّجاح والفلاح. وقد بينا في تفسير هذه الآيات والآية 58 من المجادلة المارة التي مجموعها 1958 بحساب الميلادي ما يتعلق بهذا البحث فراجعها، واسأل ربك أن يمحق كلمة الكفر ويكسر شوكتهم، وأن يكون الأمر كله في الأرض لعباد الله الصّالحين، وأن يطيل عمرنا مع حسن العمل وقوة الجوارح والاستغناء عن شرار النّاس، حتى نرى أياما زاهرة بالإسلام عامرة بالإيمان قبل ذلك التاريخ وما ذلك على الله بعزيز. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» من اليهود والنّصارى «وَالْكُفَّارَ» عبدة الأوثان الّذين كفرهم أغلظ من كفر غيرهم «أَوْلِياءَ» لكم ونصراء وأحباء «وَاتَّقُوا اللَّهَ» من أن تفعلوا شيئا من ذلك أبدا «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (57) بالله(6/342)
ورسوله إيمانا خالصا، راجع الآية 51 المارة. ثم ذكر بعض مساويهم فقال «وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ» وأذنتم لاقامتها «اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً» استخفافا بدينكم «ذلِكَ» صدور الهزؤ واللّعب منهم على شعائركم ومناسككم «بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» (58) معنى الصّلاة والأذان ولا يفقهون المراد منها ولا يعلمون مكانة فاعلها عند الله لجهالتهم وسفههم. نزلت الآية الأولى في سويد ابن الحارث ورفاعة بن سويد بن التابوت اليهودي، لأنهما أظهرا الإسلام ووالاهما بعض المسلمين مع علمهم أنهما يبطنان الكفر ويظهران الإسلام استهزاء بهم، فحذرهم الله من موالاتهم، والثانية في اليهود الّذين يتضاحكون عند سماع الأذان، ورجل
نصراني في المدينة كان إذا سمع الشّهادتين يقول حرق الله الكاذب، فطارت عليه شرارة ذات ليلة من يد خادمه وهو نائم فأحرقته وأهله في بيته. قال تعالى يا سيد الرّسل «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا» أي هل تجدون ما ينقم به علينا ويتكبر عليه من الأعمال والأقوال «إِلَّا» شيئا واحدا تزعمونه موجبا للنقمة وهو «أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ» على الأنبياء السّالفين، وهذا مما لا ينكر عليه ولا يوجب الانتقام على حد قوله:
ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم ... ينسى بهم أهليه والولدا
أي أن هذا ليس بعيب مما يستوجب الذم لينتقم من فاعله وإنما هو أمر جليل وفعل كريم يستوجب المدح والتعظيم، ولهذا وصمهم الله بقوله عز قوله «وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ» (59) خارجون عن منهج الصّواب متجاوزون الحد في الاعتدال، وذلك أنهم سألوا حضرة الرّسول عمن يؤمن به من الرّسل فعد من آدم إلى عيسى، فقالوا والله لا نؤمن بمن يؤمن بعيسى. وإنما قال أكثركم لعلمه تعالى أنه يؤمن أناس منهم «قُلْ» يا سيد الرّسل لهؤلاء «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ» الذي نقمتم به علينا وأنكرتم نبوّته «مَثُوبَةً» أي عقوبة وقد وضعت المثوبة موضع العقوبة تهكما وتبكيا كما توضع البشارة موضع النّذارة قال تعالى فبشرهم بعذاب اليم الآية 8 من سورة الجاثية وعلى طريقة قول القائل(6/343)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
تحية بينكم ضرب وجيع «عِنْدَ اللَّهِ» هو «مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ» يعني أنتم أيها اليهود أشر النّاس إذ مسخ الله أسلافكم قردة وخنازير بسبب عدم طاعتهم أوامر الله ورسوله، إذ نهاهم عن صيد السّمك يوم السّبت فاحتالوا وحفروا حياضا قريبة من السّاحل وشرعوا منها ساقية، فصارت الأسماك تدخل إلى الحياض يوم السّبت حتى إذا امتلأت سدوها من جهة البحر وتركوا الأسماك فيها حتى إذا دخل يوم الأحد أخذوها من الأحواض وأكلوها، فمسخهم الله تعالى عقوبة لاحتيالهم عليه «وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ» منهم أيضا وهو العجل الذي صاغه لهم السّامري وقال لهم هذا الحكم الذي ذهب اليه موسى قد نسيه هنا وعكفوا على عبادته من دون الله الذي أنجاهم وأغرق أعداءهم على مرأى منهم، ومنحهم النّعم العديدة، راجع الآية 88 من سورة طه المارة في ج 1 والآية 156 فما بعدها من الأعراف أيضا «أُولئِكَ» الّذين فعل بهم المسخ هم «شَرٌّ مَكاناً» من غيرهم عند الله «وَأَضَلُّ» من سواهم «عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ» (60) الطريق السّوي المستقيم التائهين في وسطه. ولا يقال هنا إن الموصوفين بالدين الحق محكوم عليهم بالشر، لأن الكلام خرج على حسب اعتقادهم لأنهم قبحهم الله حكموا بأن دين الإسلام بسبب اعتقاده بنبوة غيره، عيسى عليه السلام الذي هو من أولي العزم شر، ولم يعلموا أن عدم الإيمان به يستوجب عدم الإيمان بغيره من الأنبياء، لأن اليهود أيضا ينكرون نبوة غيره، كما أن النصارى كذلك، وكلّ ذلك كفر وشر، وهذا أشر بكثير من كلّ شر فيقال لهم إذا سلمنا جدلا أن الأمر كما تقولون فإن الأشربة كلها متمحضة بمن لعنه الله وغضب عليه إلخ، فهؤلاء هم أشر مما تقولون على زعمكم الباطل لو فرض صحته فكيف وهو كذب وافتراء.
ثم التفت إلى فضح حال المنافقين الموالين لليهود الأشرار فقال عز قوله «وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا» عليكم حين مجيئهم متقمصين «بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا» متلبسين «بِهِ» أيضا كما دخلوا لم يعلق بقلوبهم شيء من الإيمان «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ» (61) منه وما يظهرون.(6/344)
مطلب في مثالب اليهود والتفرقة في الدّين وما ينشا عنها وأن تبليغ الرّسول مقصور على القرآن وأمره بترك حراسته:
«وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ» يا حبيبي «يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» من الكذب والظّلم والتهور والحيف وسائر أنواع الإثم واصناف العداء «وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ» الرشوة في الأحكام وكلّ ما لا يحلّ تناوله يسارعون إليه والله انهم «لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (62) من الجنايات والرّذائل «لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ» أي هلا نهوهم عن ذلك وهو واجب عليهم منعهم عن تناوله وتعاطيه ولكنهم لم يفعلوا أيضا والله انهم «لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ» (63) بسبب سكوتهم عن الحق وكتمهم إياه وإقرارهم البطل وعدم نهيهم عما نهى الله عنه بكتابهم. قال ابن عباس ما في القرآن آية أشد توبيخا لعلماء اليهود من هذه الآية قال الضّحاك لا آية أخوف عندي منها يريد أن العالم إذا لم ينته دينه النّاس عن المعاصي يكون مثل هؤلاء يضلون أنفسهم وغيرهم. قال تعالى «وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ» عن الإنفاق على عباده أي أنه يبخل عليهم «غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ» لأعناقهم وهذه كلمة دعاء عليهم أي غلت أيديهم بالدنيا بالبخل ولذلك تراهم أبخل النّاس وفي الآخرة بالأغلال الحديدية والطّرد من رحمة الله الدّال عليه قوله «وَلُعِنُوا بِما قالُوا» على الله الجواد الكريم الواسع العطاء، وهذا قريب من قولهم (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) في الآية 181 من آل عمران المارة قاتلهم الله وأخزاهم. قال ابن عباس ان الله تعالى بسط على اليهود حتى صاروا أكثر النّاس أموالا فلمّا لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم ضيّق عليهم إذ ذاك (ولما أصروا على ما هم عليه بسط الله عليهم الدّنيا فتراهم أكثر النّاس أموالا حتى الآن) فقال فنخاص الخبيث لما سمع كلام ابن عباس أرى يد الله مغلولة أي ينسب إليه البخل بسبب ذلك، تعالى الله علوا كبيرا عنه وتنزه، ولم ينكر عليه أحد من اليهود بل رضوا بمقالته القبيحة هذه، فكأنهم قالوها كلهم، فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم، أي قل لهم يا سيد الرّسل ليس الأمر كما تتهمون الحضرة الإلهية «بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ» كرما منه لأحبابه ورأفة وجودا على جميع خلقه بما فيهم أعداؤه ينزل لكل منهم(6/345)
رزقه بنسبته وبمقتضى ما تراه حكمته «يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ» على من يشاء ولا يصح هنا قول من قال إن معنى مغلولة مكفوفة عن العذاب إلّا بقدر تحلة القسم لمنافاته سياق الآية ولعدم ذكر ما يتعلق بالعذاب المشار إليه في قوله تعالى (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) الآية 80 من سورة البقرة المارة أي بقدر مدة عبادتهم العجل، وهذا القول شبيه بقولهم هذا وكلاهما لا أصل له «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ» من اليهود ومن اقتفى أثرهم أو والاهم وسار على طريقتهم «ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» وهو القرآن الذي كذبوا به «طُغْياناً وَكُفْراً» لإقامتهم على البغي وتماديهم في الغي، لأنهم كلما أنزلت آية كفروا بها فيزدادون كفرا على كفرهم، وقد اغريناهم بعضهم على بعض «وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» بسبب اختلافهم بأمر الدّين، لأنهم فرق كالنصارى، منهم قدرية، ومنهم جبرية، ومنهم مشبهة، وكذلك مع الأسف افترق المسلمون بعد عصر الخلفاء الرّاشدين فرقا كثيرة اسماعيلية ونصيرية ودرزية وشيعة ورافضة ومغفلة ويزيدية وغيرهم خلافا لما أمرهم الله راجع الآية 32 من سورة الرّوم في ج 2 وما ترشدانك إليه فنسأل الله أن يجمع شملهم ويوحد كلمتهم على الحق، وهذا التفرق مصداقا لقوله صلّى الله عليه وسلم افترقت الأمم إلى اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النّار إلّا ما انا عليه وأصحابي. وقد أشرنا إلى هذا في الآية 19 من سورة الحج المارة فراجعها. ثم وصف الله تعالى أولئك اليهود بقوله عز قوله «كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ» أي انهم كلما حاربوا غلبوا، وهكذا الى الأبد إن شاء الله لم تقم لهم قائمة، كيف وقد اخبر الله عنهم بقوله «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ» الآية 62 من البقرة المارة وهي مكررة، فتراهم كلما فسدوا بعث الله عليهم من يهلكهم، فقد فسدوا قبلا فبعث الله عليهم بختنصر البابلي، ثم رجعوا الى الله، حتى إذا كثروا ونعمرا أفسدوا ثانيا، فبعث الله عليهم طيطوس الرّومي، ثم رجعوا الى الله حتى أنستهم نعمته ذكره أفسدوا أيضا، فسلّط الله عليهم المجوس أي الفرس، ثم أفسدوا وطغوا وبغوا وتعدوا واعتدوا فسلط الله عليهم
المؤمنين، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم هتلر الألماني فشتتهم(6/346)
وأوقع بهم البلاء، ولم يزالوا إنشاء الله تحت الرّق والعسف الى يوم القيمة كيف وقد قال تعالى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) الآية 167 من سورة الأعراف ج 1 فراجعها. وإن هذا الزعيم الألماني بعد أن اطلع على سوء نيتهم وعدم رعايتهم المعروف لبلاده مع أنهم ساكنون فيها أباد كثيرا منهم ونفى وأجلى وسلب وقتل وشرد وشدد عليهم، حتى إنهم صاروا يهاجرون مع الأسف إلى بلاد العرب إذ لا يحملهم أحد غيرهم لصفاء قلوبهم وتمسكهم بدينهم الموصي بمراعاة أهل الكتاب واحترامهم وصايا الله ورسوله بهم القائل، لهم مالنا وعليهم ما علينا. ولكنهم الآن ليسوا بأهل كتاب ولا يستحقون هذه المعاملة الحسنة لأنهم يتربصون بالمؤمنين الدّوائر، وقد ساعدهم الإنكليز والأمير كان ففتحوا لهم طريق فلسطين وأباحوا لهم شراء الأملاك فيها فصاروا يشترون من الفقراء أراضيهم وكرومهم وحتى مساكنهم بأضعاف قيمتها حتى يطمعون الآخرين والأغنياء أيضا، لا بارك الله فيمن يملكهم أو يساعدهم أن يمدهم، لأنهم جرثومة فساد لا يطأون أرضا إلّا أفسدوها، وقد أغروا شبان فلسطين حتى استردوا ما أخذوه من ثمن أملاكهم بواسطة عواهرهم وملاهيهم التي فتحوها لهم وخز عبلاتهم التي من طرق الفجور، وسيلقون عليهم الويل والثبور بذلك، ولا حول ولا قوة إلّا بالله القائل «وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً» بالمكر والخديعة والغدر والغش والإغراء والحيل، وهذا ديدنهم إلى الآن وإلى الآن وإلى أن يهلكهم الله «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» (64) كافة من كلّ الأمم ومن لا يحبه الله يبغضه، ومن يبغضه الله يا ويله. قال تعالى «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ» يهودهم ونصاراهم لعموم اللّفظ «آمَنُوا» بمحمد وكتابه «وَاتَّقَوْا» الله وتركوا ما هم عليه وتمسكوا بدين محمد النّاسخ لدينهم وغيره من الأديان «لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» التي عملوها قبل، لأن الإسلام يجبّ ما قبله ويمحو كلّ ذنب ويمحق وزره «وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ» (65) جزاء إيمانهم. واعلم أن هذه الآية والتي بعدها على حد قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) الآية 96 من الأعراف ج 1 فراجعها «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» وعملوا بما فيهما ونفذوا أحكامهما «وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ»(6/347)
على أشعيا وأرميا وداود وغيرهم «لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ» من ثمار الأشجار المظللة عليهم كالنخل والعنب والزيتون والرّمان وغيرهما «وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» من الزروع والحبوب والخضر وغيرها وذلك بإنزال الغيث وجعل البركة فيه توسعة لأرزاقهم، لأن من مقتضى الإيمان بتلك الكتب ومن أنزلت عليهم الإيمان بالقرآن، ومن أنزل عليه لأنها تأمر بذلك. واعلموا أيها النّاس أن أهل الكتابين ليسوا سواء «مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ» غير مغالية ولا معاندة ولا مخاصمة قد تذعن للحق وتسلم «وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ» على العكس فقد «ساءَ ما يَعْمَلُونَ» (66) من كتم الحق وإظهار الباطل والعناد والغلو والتكذيب والافتراء والبهتان قبلا وحالا ومستقبلا، إذ لا يرجى منهم الخير. تفيد هذه الآية أن طاعة الله ورسوله والعمل بما جاء عنهما سبب لسعة الرّزق بدلالة آية الأعراف الآنفة الذكر في هذه الآية المفسرة وآية نوح عليه السّلام (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) الآية 11 فما بعدها وقوله تعالى (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) الآية 15 من سورة الجن في ج 2، هذا ولا يقال هنا إن كثيرا من المطيعين فقراء، لأنا لا نعلم حقيقة طاعتهم ولا صحة فقرهم فكم من فقير بلباس غني وغني بلباس فقير، وقد اتضح لنا أن كثيرا من هذين الصنفين على غير ظاهرهما، وإذا كان يوجد شيء من ذلك، فاعلم أن الله تعالى يعطي كلّا بحسبه ومقتضى حكمته، فكم من غني أفسده غناه، وفقير أكفره فقره، ولو اطلعتم على الغيب أيها النّاس لاخترتم الواقع لأنكم لا تعلمون ما هو مقدر عليكم من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلّا الله، فرب غني يتمنى أن يكون أفقر النّاس، ولا يكون بما هو عليه من المصائب، وكم من فقير لا يصلحه إلّا الفقر فاحمدوا الله واسألوه العافية واشكروه على ما هداكم اليه وأقامكم فيه
ومنّ به عليكم تنجحوا وتفوزوا، وقد جاء عنه صلّى الله عليه وسلم: إذا أصبحت معافى في بدنك آمنا في سربك عندك قوت يومك فعلى الدّنيا العفا. قال تعالى «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ»
واجهر به ولا ترعو من أحد، فاصدع بما آتيتك ولا تترك شيئا من الوحي أبدا «وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ» ما أمرت به كله(6/348)
وأبلغته لأمتك إذا «فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» حق تبليغها، لأن من كتم شيئا فكأنما كتم الكلّ، فداوم على التبليغ ولا تخش أحدا مهما كانت قوته ومكانته «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» ويحفظك ويمنعك من أن يصل إليك أذاهم.
والمراد بالناس هنا الكفرة لأنهم هم الّذين كانوا يريدون قتله ليتخلصوا منه، وهو إنما جاء لخيرهم رحمة لهم ونعمة عليهم وهم كثيرو الأذى عليه في القول والفعل وهو يقول اللهم اهدهم فإنهم لا يعلمون وذلك بسائق شدة عداوتهم له ولذلك لم يهتدوا إلى ما جاءهم به من الحق «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» (67) لإنزال أي أذى فيك ويعمي أبصارهم من أن ينالوك بسوء كان صلّى الله عليه وسلم إذا دعا اليهود إلى الإسلام يستهزئون به ويقولون تريد أن نتخذك حنانا كما اتخذت النّصارى عيسى.
يريدون إلها، راجع الآية 13 من سورة مريم ج 1 فيسكت عن دعوتهم، وإذا أمر المنافقين بالجهاد وكرهوه أمسك عن أمرهم، وإذا سأله اليهود عن بعض الأحكام أحجم عن اجابتهم لعلمه أن سؤالهم عبارة عن تعنت ومكابرة فيضيق ذرعه من ذلك ويحجم عن إبلاغهم بعض الآيات لعدم ميلهم إليها، فشجعه الله في هذه الآية وأمره بلزوم تبليغهم ما يتلقاه من الوحي كله سمعوا له أو أعرضوا عنه وأن لا يبالي بما يراه من الصّدود والسخرية، وأعلمه بأنه هو الكفيل لحضرته من أذاهم وفقا لما هو مدون في لوحه المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير يقال إن حضرة الرّسول لما أوذي من قبل الكفار وشجّ وكسرت رباعيته في حادثة أحد نزلت عليه هذه الآية تشجيعا له مما أصابه، لأن هذه الآية بعد تلك الحادثة بسنتين، وسورة المائدة هذه من آخر القرآن نزولا، ولم تكن هذه الآية مسنثناة منها، إذ لم يقل بذلك أحد يعتد بقوله، ولا يوجد نقل صحيح فيه، ولا خبر واحد عدل أيضا، فهو قول واه وإن الإمام فخر الدّين الرّازي ذكر في تفسيرها عشرة آخرها أنها نزلت في فضل علي كرم الله وجهه، وعند نزولها أخد صلّى الله عليه وسلم بيده وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فلقبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة. وهذا قول ابن عباس والبراء ومحمد بن علي رضي الله عنهم. تدل هذه(6/349)
الآية على أن حضرة الرّسول لم يكتم شيئا من الوحي، خلافا للأمامية القائلين بذلك من أنه كتم بعضه تقية، وحاشاه من ذلك، لأن الإمساك المار ذكره كان عن جماعة مخصوصين مكابرين آنفين لا عن غيرهم، ومع هذا قد أمره ربه بإبلاغهم وحيه. روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت من حدثك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أوحي إليه فقد كذب، ثم قرأت هذه الآية- أخرجاه في الصّحيحين- وفي رواية قالت لو كتم شيئا لكتم قوله تعالى (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) الآية 37 من سورة الأحزاب المارة في قصة زيد رضي الله عنه.
أما ما خصّ به من علم الغيب مما ليس بقرآن وقد تلقاه عن ربه بواسطة الأمين جبريل مما لا يسعه عقول النّاس إذ ذاك، فهذا مما لم يؤمر بتبليغه إذ لم يكن من القرآن، لأن وجوب التبليغ عليه مقصور على القرآن فقط لأنه له ولأمته، أما غيره مما أوحى إليه فمنه ما هو واجب إبلاغه للناس لتعلقه بهم، ومنه ما هو خاص به فقط، ومنه ما هو مخيّر بين تبليغه وكتمه. قال تعالى (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى)
الآية 10 من سورة النّجم أي شيئا عظيما أوحاه إليه وأسرّه بأشياء جليلة لا تظهر لنا في الدّنيا بل حينما يعطي الشّفاعة الكبرى بالآخرة، وإنما لم يظهرها لنا لأنا قد لا نعيها ولا ندرك ما ترمي إليه، ولا نقدر أن نتصورها، وقد أشار سيد العارفين الامام زين الدّين الحديث الذي رواه البخاري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال حفظت من رسول الله دعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني الحلقوم، وقال:
إني لأكتم من علمي جواهره ... كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن ... إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا
فرب جوهر علم لو أبوح به ... لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي ... يرون أقبح ما يأتونه حسنا
وقدمنا في سورة الإسراء ج 1 ما يتعلق في هذا البحث فراجعه. واعلم أن حضرة الرّسول لو أعلم أهل زمانه معنى قوله تعالى (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) من هذه الطّائرات والسّيارات والكهرباء والرّاديو والهاتف والصّواعق والذرة وغيرها لما(6/350)
وسعته عقولهم، ولأدى ذلك إلى عدم إيمان بعضهم، ولو سمعوا منه ما هو أقرب من ذلك للعقل لو صموه بالسحر والكهانة ولم يصدقوه، اللهم عدا خواص الأصحاب كأبي بكر رضي الله عنه إذ صدقه بالإسراء وما رآه فيه، والمعراج وما وقع له فيه وهو أعظم من هذا، ولذلك سمي الصّدّيق، وقد ارتد بعض النّاس حينما قص عليهم ما كشف له في الإسراء والمعراج، مع أنه أظهر لهم الدّلائل عليه، فكيف لو أباح لهم بما هو من هذا القبيل؟ قالت عائشة: كان صلّى الله عليه وسلم يحرس فلما نزلت هذه الآية استغنى عن الحراسة. وروى البخاري ومسلم عن عائشة قالت سخر رسول الله صلّى الله عليه وسلم مقدمة المدينة ليلة، فقال ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسنى اللّيلة، قالت فبينما نحن كذلك سمعت خشخشة السّلاح، فقال من هذا؟
قال سعد بن أبي وقاص، فقال له صلّى الله عليه وسلم ما جاء بك؟ فقال وقع في نفسي خوف على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجئت أحرسه، فدعا له صلّى الله عليه وسلم ثم نام. ويدل هذا الحديث على صلاح المؤمى إليه وكونه من أهل المعرفة والكشف وهو كذلك، وهو من عرفت حادثته مع أمه في إسلامه، وقد بشره الرّسول بالجنة، إذا فلا ينكر على بعض السّادة الصّوفية العارفين ما يخبرون به من هذا القبيل أسوة بذلك والله تعالى واسع الفضل يمن بما يشاء على من يشاء من عباده، وهو الجواد الكريم. أخرج في الصّحيحين عن جابر رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذات الرّقاع فإذا أتينا شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجاء رجل من المشركين (وقال البخاري هو غورث بن الحارث) وسيف رسول الله معلق بالشجرة، فاخترطه، فقال تخافني؟ فقال لا، فقال من يمنعك؟ قال الله، فتهدده أصحابه وعصمه الله كما عصمه من الحوادث التي ذكرناها في الآية 11 المارة، كيف وقد قال تعالى (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرّسل لهؤلاء المكابرين من اليهود والنّصارى «يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ» يعتد به من الدّين ولستم على شيء مما تدعونه مما جاءكم به موسى وعيسى عليهما السّلام لأنكم غيرتم وبدلتم، وإنما أنا بريء مما أحدثتموه بعدهما في أمر دينكم «حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» كما أنزلا، وتعملوا بما فيهما حقيقة، وترجعوا عن كل(6/351)
ما حرّفتموه وغيّرتموه منهما «وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» من الكتب الأخرى فتقيمونها أيضا على ما كانت عليه. واعلموا أن إقامتها لا تكون إلّا بإعادتها على ما كانت عليه عند نزولها ومراعاتها والمحافظة عليها والعمل بما فيها الذي من جملته الايمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم وكتابه الذي أنزل إليه من ربه الذي أنزل تلك الكتب على أنبيائكم الأوّل، فإذا لم تؤمنوا بمحمد وتصدقوا كتابه فلستم بمؤمنين بشيء منها، ولهذا قال تعالى «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» وهو القرآن «طُغْياناً وَكُفْراً» زيادة على ماهم عليه لعدم الإيمان به، وإذا كانوا كذلك وأصروا على ماهم عليه فهم كفرة «فَلا تَأْسَ» يا حبيبي ولا تحزن «عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» (67) بك وبكتابك، فإن ضرر كفرهم عليهم وإن عدم إيمانهم بك وجحدهم كتابك وعدم إقامتهم ما في كتبهم كفر، والكافر لا يعبأ به، وقدمنا في سورة فصلت الآية 42 ج 2 أن القرآن نور لأناس، ضلال لآخرين، فراجعها. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا» بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم كالمنافقين «وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ» قال في شذور الذهب رفع باعتباره معطوفا على محل ان الّذين آمنوا إلخ، لأنه مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف تقديره كذلك، فكأنه قيل إن الّذين آمنوا بألسنتهم من آمن منهم بقلبه إلخ فلا خوف عليهم إلخ والصّابئون والنّصارى من آمن منهم إلخ فلا خوف إلخ، وقد حذف من الثاني بدلالة الأوّل، ومثل هذه الآية من جهة أشكال الإعراب الآية 162 من سورة النّساء المارة، وهي (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ) إلخ، فإنها نصبت على المدح، تقديره وأمدح المقيمين، وإنما قطعت هذه الصّفة عن بقية الصّفات لبيان فضل الصّلاة على غيرها. وقرأ أبي بن كعب الصّابئين بالياء، وعلى قراءته لا أشكال في الاعراب وهناك أوجه أخرى في إعراب هاتين الكلمتين من الآيتين المذكورتين أعرضنا عنها لأنها دون ما جرينا عليه كما سيأتي، ونظير هذه الآية 62 من البقرة المارة وكذلك آية طه 63 وهي (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) فيها أشكال من حيث الاعراب بيناه فيها، فراجعه. واعلم أن من يعرف العربية يجد لكل وجهة في الاعراب فلا(6/352)
يغلّط أحدا ولا ينتقد كلاما. «وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ» إيمانا مخلصا «بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» وثبت على إيمانه «وَعَمِلَ صالِحاً» معه وآمن بمحمد صلّى الله عليه وسلم لأن الإيمان لا يتم إلّا به وماتوا على هذا الإيمان الجامع «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» في هذه الدّنيا «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) » على مافاتهم فيها في الآخرة لما يرون من نعيمها الدّائم لأنه ينسيهم الدّنيا وما فيها. وإنما خص اليوم الآخر في هذه الآية لأن الايمان به بعد الايمان بالله ورسوله
وهو أشرف الإيمان، ومن لم يؤمن به لا يسمى مؤمنا، وإن أهل الملل السّت المبينين في الآية 17 من سورة الحج المارة ليسوا على شيء إذا لم يؤمنوا به مع الإيمان بالله ورسوله وكتبه، لأنه أحد أصول الدين الثلاثة التي لا يقبل الإيمان إلّا بها، وقراءة كلمة الصّابئين بالرفع على الابتداء هي قراءة الجمهور من القراء وجارية على نيّة التأخير، أي والصّابئون كذلك إذا آمنوا، فقدم المبتدأ وحذف الخبر على حد قوله:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيّار بها لغريب
أي فإني لغريب وقيار كذلك، وإنما كان رفع الصّابئين مع أن الحالة تقتضي نصبها لأنهم أشد الفرق ضلالا، وسموا صابئين لأنهم خرجوا عن كلّ الأديان إلى اتباع هواهم وشهواتهم. وحبا بمعنى خرج، وقد ذكرنا أن صاحب شذور الذهب أرى العطف على محل أن الّذين إلخ. وقال غيره لا يصح هذا العطف ولا يجوز ارتفاع الصّابئين بالعطف على محل ان واسمها، وعلى قوله بأن العطف على المحل يصح إذا فرغ من الخبر فيجوز أن تقول أن زيدا منطلق وعمرو بالعطف على محل أو اسمها، ولا يجوز أن تقول أن زيدا وعمرو منطلقان، وقرأ أبي بن كعب وابن كثير بالنصب تخلصا من هذه الإشكالات، وهم إنما قرأوها بالتلقي لا من أنفسهم، ولذلك ينبغي قراءتها على ما هي عليه. ونظير هذه الآية الآية 62 من البقرة المارة وما يقاربها في المعنى الآية 17 من سورة الحج بزيادة المجوس والمشركين قال تعالى «لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ» على العمل بالتوراة وامتثالهم أمر رسولهم «وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا» بعد موسى وهرون لا قامة أحكامها، فنقضوا الميثاق وصاروا لشدة تعنّدهم وكثرة تعنتهم «كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ(6/353)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ»
من الأحكام والأوامر والنّواهي فترى «فَرِيقاً كَذَّبُوا» بعيسى ومحمد ومن تقدمهما من الرّسل «وَ» كتبهم «فَرِيقاً يَقْتُلُونَ 70» الأنبياء كيحيى وزكريا وبعض من تقدمهم من الرّسل بغيا وعدوانا وجرأة على مخالفة أمر الله ورسوله. راجع نظير هذه الآية الآية 87 من البقرة المارة وما يقاربها في المعنى الآية 29 من الأعراف في ج 1. وهذا دأبهم في كتب الله وديدنهم في رسله، إذ يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، راجع الآية 85 من البقرة
«وَحَسِبُوا» علموا وتحققوا، ويدل على أن معنى حسب هنا علم تعقيبا بأن المخففة من الثقيلة لأن فعل الظّن بمعناه لا يدخل على التحقيق تدبر. على أن هنا نافية لا مخففة لأن المخففة يعقبها اللام ولا لام هنا، تدبر. أي إلى هؤلاء الّذين كذبوا الرّسل وقتلوهم تيقنوا «أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ» بلاء وعذاب بذلك عليهم كلا بل يكون بأشد مما يتصوره العقل «فَعَمُوا» عن الحق وقتلوا زكريا ويحيى وبزعمهم عيسى فكذبهم الله وأخزاهم وأعم قلوبهم وأعمى أبصارهم عنه بدلالة ما جاء في الآية 158 المارة من سورة النّساء وكذبوا محمدا بزعمهم أن كلّ رسول يأتيهم بغير شرعهم يجب عليهم تكذيبه وقتله قاتلهم الله «وَصَمُّوا» عن سماع الحق منهم كما صموا عن سماع قول هارون عليه السّلام ومن معه حينما نهاهم عن عبادة العجل، راجع الآية 90 من سورة طه في ج 1 «ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» بعد ذلك «ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا» زمن الرّسل من بعد موسى ولم يصغوا لأوامرهم، ثم أبدل من ضمير عموا وصموا على طريق بدل البعض من الكل قوله جل قوله «كَثِيرٌ مِنْهُمْ» أي أن أكثر اليهود كانوا كذلك، وإن القليل منهم رأى وسمع وأذعن وآمن «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) » لا يخفى عليه شيء من أعمالهم وأقوالهم. قال تعالى «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ» تقدمت هذه الجملة بعينها في الآية 15 المارة وكررت بمناسبة تبرأ عيسى من قولهم هذا كما حكى الله عنه بقوله عز قوله «وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ» لا فرق بيني وبينكم في عبوديته وربوبيته فاعبدوه مثلي لأني عبد له، واعترفوا بربوبيته، لأنه ربي وأنتم كذلك ثم حذرهم(6/354)
عن الإشراك به بما حكى الله عنه «إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ» غيره أو أشركه في عبادته فعبد غيره من إنسان وحيوان وجماد وكوكب وملائكة وجن وانس «فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» إذا مات على شركه ومن يحرم الله عليه الجنّة يغضب عليه «وَمَأْواهُ النَّارُ» في الآخرة بسبب كفره وظلمه لنفسه «وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) » يمنعونهم من عذاب الله ويحولون دون تنفيذه فيهم ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من كفرهم فقال «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ» وهم عند نزول القرآن المرقوسية والنّسطورية من فرق النصارى ويريدون بقولهم هذا أن الله تعالى ومريم وعيسى آلهة ثلاثة والإلهية مشتركة بينهم، وكلّا منهم إله، كما سيأتي تفصيله آخر هذه السّورة عند قوله تعالى (أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) الآية الآتية، فيكون المعنى على قولهم هذا أن الله أحد ثلاثة آلهة أو واحد منها، وفي تفسير آخر أنه جوهر وأحد ثلاثة أقانيم أب وابن وروح قدس، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 17 من سورة النّساء المارة، والأقنوم هو الأصل، فيكون المعنى أن مجموع هذه الثلاثة إله واحد كما تقول إن الشّمس تتناول القرص والشّعاع والحرارة وكلها شمس، ويعنون بالأب الذات، وبالابن الكلمة، وبروح القدس الحياة، وإن الكلمة التي هي قول الله اختلطت بعيسى اختلاط الماء باللبن، وزعموا أن الأب إله والابن إله والرّوح إله والكل واحد، وكلّ من هذين التفسيرين باطل بداهته لأن الثلاثة لا تكون واحدا، والواحد لا يكون ثلاثة «وَما» في الوجود «مِنْ إِلهٍ» البتة يعبد بحق «إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ» وهو الله الفرد الصّمد لا ثاني له ولا شريك ولا ولد ولا صاحبة ولا والد له وهو واحد لا من طريق العدد ولكن من طريق أنه لا شريك له ولا ند ولا ضد ولا وزير ولا معين أبدا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ثم هددهم بقوله عزّ قوله «وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ» من الإشراك بالذات الواحدة المقدسة المبرأة المنزهة عن كلّ شيء «لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) » لا تطيقه قواهم، وإنما قال تعالى منهم لسابق علمه بإيمان بعضهم، قال تعالى فيها لهم بالكف عن خطتهم هذه «أَفَلا(6/355)
يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ»
من مقالتهم هذه القبيحة وعقيدتهم الخبيثة فيفردون الإله بالعبودية ويؤمنون به وحده ايمانا خالصا حقيقيا ويصدقون رسوله محمد بكل ما جاءهم به من عنده ليغفر الله لهم ما سبق منهم «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (74) بعباده التائبين يريد لهم الخير لتنالهم رحمته
، قال تعالى ردا لمزاعمهم الفاسدة «مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ» ليس بإله ولا بابن للإله كما أن الرّسل كلهم لم يدعوا دعوى الافتراء هذه البتة «وَأُمُّهُ» مريم بنت عمران ليست بإله ولا بأم للإله، وإنما هي «صِدِّيقَةٌ» مخلصة لربها وليست بنبية ولم يرسل الله من النّساء نبيا قط:
ولم تكن نبيا قط أنثى ... ولا عبد وشخص ذو افتعال
وهي وابنها «كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» كسائر النّاس والذي يحتاج إلى الطّعام لا بد أن يبول ويتغوط ويمرض ويحتاج لغيره، ومن كان هذا شأنه لا يصح أن يكون إلها إذ لا يليق بالإله أن يتصف بما يتصف به خلقه، لأنه نقص، والإله مبرأ من النّقص، ومن كان محتاجا لغيره كان عاجزا والعجز لا يليق بالإله القادر على كلّ شيء فيا محمد «انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ» الدالة على فساد عقولهم وآرائهم وقلة إدراكهم وقصر نظرهم «ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (75) ويصرفون أنفسهم عن استماع هذه الآيات البديعة واعلم أن إعراضهم عنها أبدع وأعجب «قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً» وتدعون عبادة الله المالك لذلك المحي المميت «وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ» لأقوال عباده خفيها وجليها «الْعَلِيمُ» (76) بما في ضمائرهم ونياتهم فهل يكون هذا ممن له عقل «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ» فتجاوزوا الحدود التي حدها لكم «غَيْرَ الْحَقِّ» الذي هو بين الافراط والتفريط راجع الآية 171 من النّساء المارة نظيرة هذه الآية في المعنى لأن مجاوزة الحق مذمومة كالتقصير فيه، وإن المغالاة في الدّين مذمومة كالاهمال فيه والصّد عنه، لأن ذلك من هوى النّفس، ولذلك يقول الله تعالى «وَلا تَتَّبِعُوا» يا أهل الكتابين «أَهْواءَ قَوْمٍ» من قبلكم «قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ» ضلالكم واضلالكم هذين لأن مغالاة النّصارى أوصلتهم إلى أن قالوا إن عيسى ابن الله وإله(6/356)
أيضا، ومغالاة اليهود حدت بهم إلى أن قالوا عزير بن الله، ووصموا حضرة الإله بالبداء أي النّدم، تعالى عن ذلك كله، فزاغوا عن طريق الحق «وَأَضَلُّوا» أناسا «كَثِيراً» غيرهم بذلك عن أتباعهم ومواليهم «وَضَلُّوا» هم أيضا «عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ» (77) ببغيهم واتباعهم أهواءهم. تشير هذه الآية إلى أن كلّا من اليهود والنّصارى بغوا على الله بتقولاتهم تلك، وتفيد أن المغالاة في الدّين قد تؤدي إلى الكفر، ولهذا نهى الله ورسوله عن المغالاة وأمرا بالقصد، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال إن الدّين يسر ولن يشاء الدّين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والرّوحة وشيء من الدّلجة.
قال تعالى «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ» حيث قال لهم لما اصطادوا الحيتان بالحيلة، اللهم العنهم واجعلهم خنازير وقردة، فكانوا بأمر الله تعالى حالا، وقدمنا ما يتعلق بلعنهم وبعض أعمالهم التي استحقوا عليها اللعن في الآية 64 المارة والآية 164 من الأعراف في ج 1 فراجعهما «وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» لعنوا على لسانه أيضا وهم أصحاب المائدة حين أكلوا منها وادخروا ولم يؤمنوا ويصدقوا، فقال اللهم العنهم واجعلهم خنازير، فكانوا أيضا، كما سيأتي في الآية 115 الآتية إن شاء الله، ولأن داود وعيسى بشرا أمتهما بمحمد صلّى الله عليه وسلم ولعنا من يكفر به فكفروا به «ذلِكَ» اللعن الواقع عليهم «بِما عَصَوْا» أنبياءهم «وَكانُوا يَعْتَدُونَ» (78) أي بسبب اعتدائهم عليهم وعلى أتباعهم «كانُوا» هؤلاء الملعونون «لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ» فيما بينهم ولا ينهى بعضهم بعضا عنه «لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ» (79) ويقولون. وهؤلاء اليهود «تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ» أيها الرّائي «يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» ويطلعونهم على خبيئة أمرهم، وهؤلاء الخبثاء الّذين هذا شأنهم «لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ» من العمل لآخرتهم «أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» بأعمالهم تلك في الدّنيا «وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ» (80) في الآخرة تشير هذه الآية إلى نوع من أعمال المنافقين بموالاتهم الكافرين، لأنهم مثلهم بل أقبح، لأن أولئك كافرون ظاهرا وباطنا يجتنبهم النّاس، فلا يركنون إليهم، ولا يفشون لهم أسرارهم(6/357)
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
ولا يغترون بهم،
وهؤلاء بحسب إيمانهم الظّاهر قد يغتر بهم النّاس فيفشون لهم أسرارهم فينقلونها للكفار فيكونون أشد فتنة على المسلمين من الكافرين، ولهذا قال تعالى «وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ» محمد صلّى الله عليه وسلم «وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ» من الكتاب «مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ» يتقوون بهم على المؤمنين الصّادقين، ولما استمالوهم لكشف أسرارهم لينقلوها لهم «وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ» (81) خارجون عن طاعة الله ورسوله غير مؤمنين بهما، راجع الآية 51 المارة، ولهذا اتخذوا الكفار أولياء مع علمهم بأن المؤمنين خير لهم منهم.
مطلب أشد النّاس عداوة وأقربهم مودة للمسلمين وان التشديد في الدّين غير مشروع ولا ممدوح وكفارة اليمين:
قال تعالى يا سيد الرّسل «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا» لأن هذين الصّنفين أكثر عداوة للمسلمين من غيرهم «وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ» القرب لمودة المسلمين «بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً» يأمرونهم بالخير وينهونهم عن الشّر، ومنهم من يعترف بأحقية دين الإسلام فيركن لأهله ويميل لطاعته، ومنهم من يعتقد به ويعمل بما فيه خفية عن قومه «وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» (82) عن قول الحق بل يذعنون له ويتواضعون لأهله ويستكينون لمجالستهم «وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ» من كلام الله يؤثر في قلوبهم ولشدة تأثيره فيهم «تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ» لرقة أفئدتهم وخشوعها لسماعه و «مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ» فيه، ولذلك فإنهم فيما بينهم «يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا» به وبمن أنزل عليه «فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» (83) عليه بأنه حق وصدق «وَ» يقولون عند سماعه أيضا «ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ» وحده ونترك التثليث وغيره، لأن عيسى بشر وقد بشر بمحمد لنؤمن به «وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ» على لسان رسوله محمد لنؤمن به أيضا «وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ» (84) من أتباعه وأمته فنكون مثلهم «فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا» من الإيمان بالله وحده والتصديق برسوله محمد وما جاء به «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ» الجزاء الحسن والثواب(6/358)
الكريم هو «جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ» (85) عند الله تعالى في الآخرة الدّائمة إذا فعلوه بأنفسهم وإخوانهم وجميع الخلق في الدّنيا «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا» المنزلة على أنبيائنا «أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (86) في الآخرة لا يبارحونها.
قال بعض المطلعين إن مذهب اليهود وجوب إيصال الأذى بأي طريق كان إلى من خالف دينهم وخاصة المسلمين حكى الله عنهم في قوله (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ» الآية 76 من آل عمران المارة، والنّصارى بخلاف ذلك فإنه يحرم عليهم أذى الناس أجمع، وإن أول ما دخل فيه اليهود من الخوض بآيات الله تغاضيهم عن إقامة حدوده في التوراة، أخرج أبو داود عن عبد الله بن مسعود أن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرّجل يلقى الرّجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم لعنهم بالآية المارة، والمراد بالمعنى الطّرد من رحمة الله تعالى والعياذ بالله، ثم قال: لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على يد الظّالم ولتأطرنه (أي تردنه) على الحق أطرا وتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم. ويدخل في هذه الآية من آمن من النّصارى قبلا كالنجاشي وأصحابه ومن بعدهم إلى يوم القيامة، وإن المدح فيها بحق النّصارى ليس على إطلاقه لأنه في مقابلة ذم اليهود والمشركين. ولا يتجه قول من قال إن هذه الآية نزلت في النّجاشي حين الهجرة الأولى الواقعة سنة خمس من البعثة، وقد أشرنا إليها في الآية 203 من آل عمران المارة فراجعها لأنها عامة فيهم وفي غيرهم ممن هذا شأنه، والنّجاشي بأولهم. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ» من الطّاعم الطّيبة والمشارب اللّذيذة والرّوائح الكريمة والملابس الفاخرة والمساكن الواسعة والمطايا المطهمة الجميلة والسّلاح المحلى «وَلا تَعْتَدُوا» ما حده الله لكم مما أحله إلى ما حرمه «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (87) حدوده فتحرموا حسب أهوائكم ما لم يحرمه ربكم، وتحللوا ما حرمه، راجع الآية 93 من آل عمران المارة «وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ(6/359)
حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ»
تأكيدا للوصية بما أمروا به، وأكد هذا التأكيد بقوله «الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» (88) تدل هذه الآية على أن الله تعالى تكفل برزق خلقه، ولذلك قال كلوا، وإذا كان كذلك وهو كذلك فعلى العبد أن يجمل في طلب الرّزق، قال صلّى الله عليه وسلم أجملوا في طلب الرّزق. وفي رواية في طلب الدّنيا فإن كلا ميسّر لما كتب له منها. يعني أن الرّزق المقدر للعبد سيأتيه سواء ألحف بطلبه أو أجمل، وإذا كان كذلك فليرفق بالسعي وليتعفف بالطلب فهو أحسن له وأحشم وأوقر. قال علماء التفسير إن النّبي صلّى الله عليه وسلم ذكر النّاس يوما وشدد في وصف القيامة حتى رق النّاس وبكوا فاجتمع أبو بكر وعلي وعبد الله ابن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن في بيت عثمان بن مظعون الجهني واتفقوا على أن يترهبوا ويجبوا مذاكيرهم ويصوموا الدّهر ويقوموا اللّيل ولا يأكلوا اللّحم والودك ويسيحوا في الأرض فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتى دار عثمان فلم يجدهم فقال لا مرأته أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذب، وكرهت أن تبدي سرّ زوجها، فقالت، يا رسول الله إن كان أخبرك أحد فقد صدق، فلما سمعوا بمجيء الرّسول إليهم ذهبوا إليه، فقال لهم ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟ قالوا بلى يا رسول الله وما أردنا إلّا الخير، فقال إني لم أومر بذلك ثم قال إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا، وقوموا وتاموا، فإني كذلك وآكل اللّحم والدّمم، وآتي النّساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني، ثم جمع الناس وخطبهم وقال ما بال أقوام حرموا النّساء والطّعام والطّيب وشهوات الدّنيا فإني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا، فإنه ليس في ديني ترك اللّحم والنّساء، ولا اتخاذ الصّوامع، وسياحة أمتي الصّوم ورهبانيتهم الجهاد، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا وأقيموا الصّلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الدّيار والصوامع
، فأنزل الله هذه الآية راجع الحديث المار في الآية 77 هذا وما يرى من بعض الزاهدين في ترك الطّيبات(6/360)
من الأكل والشّرب واللّباس والتجافي عن الحلال لا بطريق التحريم وحاشاهم من ذلك، وإنما يكون ذلك من بعضهم هضما لأنفسهم وكراهة في الدّنيا فيتركون التنعم فيها أملأ بما عند الله لهم من النّعيم الدّائم، لأنهم يرون التنعم في الدّنيا يشغلهم عن دوام ذكر الله والقيام بما يقتضي له من الخشوع والخضوع والإنابة لحضرته الكريمة ليس إلا، فعلى العاقل ألا يعترض عليهم، ويجالسهم، ويتبرك بهم فهم القوم الّذين لا يشقى جليسهم كما جاء في الحديث الصّحيح، قال تعالى «لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ» راجع نظيرتها في الآية 225 من البقرة المارة ولما كانت هذه الجملة عامة استدرك بما يخصصها بقوله «وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ» أي إذا حلفتم وعظمتم حلفكم وتعمدتم عقدها وقصدتم به اليمين المستوجبة الكفارة (وقرىء عقدتم بالتخفيف) وأردتم أن تخنثوا في يمينكم المعقد لما رأيتم أن الخير في عدم الإصرار عليه، فعليكم أن تكفّروا عنه وتفعلوا المحلوف عليه، فإذا أردتم الخلاص من هذا اليمين الذي حنثتم فيه «فَكَفَّارَتُهُ» لتحليل ما حلفتم عليه قصدا لا خطأ ولا نسيانا ولا إكراها هو «إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ» غداء وعشاء بحالة وسطى غير ملتفتين لمن يسرف في إطعام أهله أو يقتر عليهم وخير الأمور أوساطها «أَوْ كِسْوَتُهُمْ» بحالة وسطى أيضا «أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ» عتقها من الرّق «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» شيئا من ذلك يكفّر به عن يمينه لفقره «فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ» فقط عليه يكفر بها عن يمينه «ذلِكَ» المتلو عليكم أيها المؤمنون «كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ» وخلاصكم من الحنث فيها «إِذا حَلَفْتُمْ» وحنثتم باختياركم ورضاكم لأن الكفارة لا تجب إلّا بعد الحنث حقيقة «وَاحْفَظُوا» يا أيها النّاس «أَيْمانِكُمْ» من الحنث ما استطعتم وقدرتم، والأحسن لكم والأليق بكم ألّا تحلفوا أبدا تعظيما لاسم الله وتكريما لجلاله، ولهذا حذركم بالتحفظ عليها، وكانت العرب تحمد قليل الحلف والبار بحلفه المحافظ عليه، قال قائلهم:
قليل ألا يا حافظ ليمينه ... إذا بدرت منه الاليّة برّه
راجع تفصيل هذا في الآية 225 المذكورة آنفا من البقرة، هذا واعلم أن(6/361)
العلماء استنتجوا من هذه الآية وآية البقرة حرمة القسم على ترك الطّاعة وإن عدم المؤاخذة المشار إليه في الآية عدم إيجاب الكفارة به، وإن اللّغو باليمين هو ما يجري على لسانك من غير قصد مثل لا والله، وبلى والله على قول الشّافعي وأحمد رحمهما الله، وقال أبو حنيفة ومالك هو أن يحلف على شيء يعتقد أنه لم يكن فيظهر أنه وقع بالفعل، ولكل وجه، والله أعلم بما يريد. وقد قابل جل شأنه اللغو بالقصد لينفي ما هو غير مقصود مما قالاه وغيره «كَذلِكَ» مثل ما بينا لكم كفارة أيمانكم «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ» في جميع ما تحتاجون إليه من أمر دينكم ودنياكم «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (89) نعمه عليكم، قال ابن عباس رضي الله عنه لما نزلت الآية السّابقة قال الّذين اتفقوا على الرّهبانية يا رسول الله كيف نفعل بأيماننا التي تحالفنا عليها؟ فأنزل الله هذه الآية وبين لهم المخرج وسهله عليهم، الحكم الشّرعي يجب أن يكون الصّيام متتابعا قياسا على كفارة الظّهار والقتل، وجوز الشّافعي تفرقها لأن كفارة الظّهار والقتل جاءت بالنص ولا نص على تتابع كفارة اليمين، أما ما احتج به من أنه ورد في بعض القراءات ثلاثة أيّام متتابعات لا قيمة لها ولا عبرة بها لأنها لم تكن متواترة، ويشترط في القرآن التواتر. وقال بعض المفسرين قراءة شاذة والشّاذ لا يصلح للاحتجاج إلّا إذا ثبتت أو رويت كتابا أو سنة، وإذ لم تثبت فهي قراءة لا أصل لها، وقد ذكرنا غير مرة أن مثل هذه الزيادات التي يعدها بعض العلماء أنها قراءة أو من القرآن لا تعد قراءة ولا تسمى قرآنا وذلك أن بعض القراء كانوا يكتبون كلمات تفسيرية على هامش مصاحفهم أو بين سطوره فيظن من لا يعرف قصدهم أنه من القرآن، فيقول قرأ ابن مسعود كذا من حيث لم يقرأ هو ولا غيره إلّا ما هو بين الدّفتين، ويحرم عد غيره قرآنا، لذلك فلا يجوز القول بذلك بتاتا، فكل ما ليس في القرآن الموجود الثابتة قراءته بالتواتر لا يكون قرآنا أبدا، راجع آخر سورة الأحزاب المارة في هذا الشّأن. هذا، وللحانث الخيار بين الصّوم والإطعام والإكساء والعتق، وتصرف هذه الكفارة إلى مسلم محتاج غير عبد مملوك. روى البخاري ومسلم عن عبد الرّحمن بن سمرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا عبد الرّحمن لا تسأل الإمارة فإنها(6/362)
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
إن أتتك عن مسألة وكلت إليها، وإن أتتك من غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك.
مطلب تحريم الخمر بتاتا وأسباب هذا التحريم وذم الخمر والميسر وشبههما والحكم الشّرعي فيه وضرره في الوجود:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ» راجع الآية 3 المارة من هذه السّورة عن معناها ومعنى «وَالْأَزْلامُ» أيضا وكيفية استعمالها فكل هذه الأربعة «رِجْسٌ» خبث نجس مستقذر «مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» الذي يزبنه للناس يغويهم بها ويدعوهم إليها «فَاجْتَنِبُوهُ» تباعدوا عن هذه الأشياء كلها ولا تقربوها، وأفرد الضّمير بسبب عوده إلى الرّجس المشتمل عليها كلها «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (90) في أموركم وتفوزون بأعمالكم وتنجحون بأقوالكم وتتحفظون من كلّ ما يضركم
«إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ» بتزيينه لكم هذه القبائح الأربعة الخبيثة «أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي» شرب «الْخَمْرِ وَ» لعب «الْمَيْسِرِ» القمار «وَيَصُدَّكُمْ» بسببها «عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ» الذي ينبغي لكم المداومة عليه قياما وقعودا وعلى جنوبكم «وَعَنِ الصَّلاةِ» المكتوبة عليكم يريد صدكم عنها فيشغلكم بذلك «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» (91) عن ذلك كله أيها النّاس وتاركو هذه الأرجاس المضرة في دينكم ودنياكم وعاقبة أمركم؟
وهذا أبلغ من قوله (انْتَهُوا) لأن الله تعالى يقول قد بينت لكم ما فيها من المضار والصّوارف والموانع والزواجر بعد أن ذممتها لكم قبلا، أفلا تنتهون عنها بعد ذلك كأنكم لم توعظوا بعد! ثم أعقب ذلك الزجر بقوله جل قوله «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ» فيما يأمرانكم به وينهيانكم عنه «وَاحْذَرُوا» كل الحذر من مخالفتهما، لأنهما لم يأمراكم إلّا بما فيه نفعكم، ولم ينهياكم إلّا عما يضركم، فضلا عن وجوب الطّاعة لهما عليكم مطلقا «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ» بعد هذا البلاغ وهذا الانذار ولم تنتهوا عن شرب الخمر ولعب الميسر «فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» (92) وعليكم منا العقاب الأليم إذا أصررتم على تعاطيهما. ففي هذه الآية من التهديد والوعيد والزجر الشّديد والتخويف العظيم ما لا يخفى. واعلموا(6/363)
أيها النّاس لما أنزل الله الآية السّالفة (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) إلخ وكانت مما يستطاب عندهم قبل الإسلام وعند من لم ينكف عنها بعد نزول الآيات الثلاث المتقدم ذكرها والتي سنشير إليها بعد، ولم ينكفوا عن الميسر أيضا لشدة توغلهم فيهما وإن بعض صغار العقول لم ينتبهوا إلى مغزاها الذي أشرنا إليه في الآية 219 من سورة البقرة، بين الله تعالى في هذه الآية الأخيرة الرّابعة الحاسمة لما في هذا الباب أنهما ليستا من الطّيبات بل من الخبائث الموبقات، ولذلك قال تعالى (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) لأن السّكر يفحش كلام الرّجل فيفضي إلى النّزاع ويولد العداوة والبغضاء، وكذلك المقامر قد يؤدي قماره إلى أن يلعب على أثاث بيته وملكه بل وداره التي يسكن فيها، حتى يتوصل إلى أن يلعب على بنته وزوجته بعد فراغ ذات يده، ونفاد ملكه، بل قد يفضي إلى الانتحار فينتج عنه العداوة والبغضاء والخزي والعار أيضا، فأراد الله تعالى أن يحفظ عباده من هاتين الشّائنتين فحرمهما عليهم كما أراد صون الألوهية عن الإشراك بها، وأراد صرف عباده إلى التوكل عليه في أمورهم كلها، فحرم عليهم الأنصاب والأزلام المتقدم ماهيتها في الآية السّابقة من هذه السّورة. وكان عمر رضي الله عنه يقول اللهم بين لنا في الخمر والميسر بيانا شافيا، كما جاء في الحديث الذي رواه ميسرة عنه، وأخرجه الترمذي من طريقين، وقال رواية ميسرة هذه أصح، وأخرجه أبو داود والنّسائي بأبسط منه وإنما قال ما قال رضي الله عنه وأرضاه لما يرى ما يتولد عنهما من القبائح، وكرر مقالته هذه بعد نزول الآيات الثلاث الأولى 67 من سورة النّحل المارة في ج 2 والثانية من سورة البقرة الآية 219 والثالثة 43 من سورة النّساء المارتين وكانت أحكام الله تعالى جارية على التدريج في تشريعه لعباده، راجع بحثه في المقدمة ج 1 في التدريج بالأحكام فأنزل الله هذه الآية الرّابعة القاطعة بالتحريم فلما سمعها عمر رضي الله عنه قال:
انتهينا انتهينا. وروى مصعب بن سعد عن أبيه قال صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا وشربنا، وذلك قبل التحريم زاد حتى انتشينا، فتفاخرت الأنصار وقريش فقالت الأنصار نحن أفضل منكم فقال سعد بن أبي وقاص المهاجرون خير منكم(6/364)
فأخذ رجل لحي جمل فضرب به أنف سعد فغرزه أي نخسه، فجرحه، فأتى سعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبره، فنزلت. وقال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت هذه الآية في قبيلتين شربوا وثملوا وعبثوا ببعضهم، ولا منافاة بين هذه الرّوايات لجواز صدورها كلها، وجواز تعدد الأسباب للنزول. وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال قال صلّى الله عليه وسلم من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرّابعة لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب لم يتب الله عليه وسقاه من نهر الخبال. قالوا يا أبا عبد الرّحمن وما نهر الخبال؟ قال صديد أهل النّار. وأخرجه النسائي وعنه قال قال صلّى الله عليه وسلم لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبايعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه- أخرجه أبو داود- وقد جاء من حديث عائشة رضي الله عنها أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال كلّ شراب أسكر فهو حرام- أخرجاه في الصّحيحين- وزاد الترمذي وأبو داود: ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام (والفرق إناء يسع ستة عشر رطلا برطل المدينة وهو عبارة عن مئة وثمانية وعشرين درهما) فلم يبق مع هذا قول مقبول بشرب ما لم يسكر كثيره فقليله لا بأس به، لأنه لو شرب هذا القدر لبنا لأسكره. وقيل إن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وجماعة من الأنصار قالوا أفتنا يا رسول الله في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للمال والعقل فنزلت آية البقرة. وقد بينا الآيات النّازلة في الخمر على الترتيب آنفا وإن الإسلام عند نزول آية النّحل شربوها حلالا في مكة إذ ليس فيها ما يدل على التحريم إلّا ما يفهم من عدم وصفها بالحسن وخلاف الحسن مكروه، والمكروه يتساهل فيه النّاس. وجاء في فقه الشّافعي رحمه الله: وفاعل المكروه لم يعذب.
ثم لما أنزلت آية البقرة في المدينة تركها أناس كثير نفوسهم طاهرة عرفوا منها مغزى وصف الإثم بالكبر، فانتهوا من تلقاء أنفسهم، وتسامح الغير فلم يقتفوا لما يتقفى ولم ينتبهوا لما انتبه له أولئك الكرام، فداوموا على شربها، ثم لما نزلت آية النّساء حين أولم عبد الرّحمن بن عوف لجماعة من أصحابه وسقاهم، فقاموا إلى(6/365)
الصلاة فقرأ أحدهم (أعبد ما تعبدون) حرّم الله السّكر في الصّلاة فقط، فصاروا بشربونها بعد العشاء والفجر لبعد المدة بين الصّلاتين بحيث يزول أثر السّكر، ثم لما أولم عتبة بن مالك لجماعة من المسلمين منهم سعد بن أبي وقاص وسوى لهم رأس بعير وبعد ان أكلوا وشربوا ووقع بينهم ما وقع كما مر آنفا أنزل الله هذه الآية التي نحن بصددها، فكانت الحاسمة لتعاطي شرب الخمر واللّعب بالقمار، وكان نزولها بعد وقعة الأحزاب. وعلى صحة هذا فتكون هذه الآية متقدمة في النّزول على سورتها كبعض الآيات المار ذكرها ويروى أن حمزة بن عبد المطلب شرب ورأى أنصاريا بيده ناضح ويتمثل في هذين البيتين من نظم كعب بن مالك:
بلغنا مع الأبواء نصرا وهجرة ... فلم ير حيّ مثلنا في المعاشر
فأحياؤنا من خير أحياء من مضى ... وأمواتنا من خير أهل المقابر
فقال له حمزة أولئك المهاجرون، فقال الأنصاري بل نحن (وذلك أن الأنصار أول من آمن منهم بالنبي صلّى الله عليه وسلم اثنان وسبعون رجلا وامرأتان، وهم الّذين بنوا الإسلام بالمدينة وصاروا مأوى للمهاجرين من أهل مكة، وساووهم بمالهم ومسكنهم وتخلوا لهم عن بعض نسائهم كما ألمعنا إليه في الآية 103 من آل عمران المارة لهذا قال ما قال) فتنازعا فجرّد حمزة سيفه، فهرب الأنصاري، فضرب ناضحه (القرب التي تنضح الماء فيترشح منها مقطعه) فشكاه الأنصاري إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال عمر مقالته المنوه بها آنفا، فنزلت هذه الآية، وقد يستبعد صحة هذه الرّواية، لأن حمزة رضي الله عنه قتل في حادثه أحد قبل نزول هذه الآية، وعند فرض صحتها تنطبق على آية البقرة لا على هذه، لأن سورة البقرة من أول القرآن نزولا في المدينة، وسورة المائدة هذه من آخر نزوله، إذ لم ينزل بعدها إلّا التوبة والنّصر، وقد أشرنا في المقدمة إلى حكمة ترتيب هذا التحريم من الله تعالى جلت قدرته، ليعلم النّاس أن أوائل هذه الأمة قد الفوا شربها وكثرة انتفاعهم يبيعها وشرائها فلم يمنعهم من تعاطيها دفعة واحدة لعظم الثقل على النّفوس إذ ذاك، وأن التدريج في الأحكام هو أحد أسس التشريع الإسلامي الثلاث ألمعنا إليها في المقدمة أيضا، ولهذا ذكرنا أن النّسخ الذي تغالى به بعض علماء النّاسخ والمنسوخ ومشى(6/366)
عليه بعض المفسرين في هذه الآيات وشبهها هو عبارة عن التقييد والتخصيص ونفي الملزوم في المعنى كما هو في الآية الثالثة ليس إلا، تدبر. روى البخاري ومسلم عن أنس قال ما كان لنا خمر غير فضيحتكم، وإني لقائم أسقي أبا طلحة وأبا أيوب وفلانا وفلانا، إذ جاء رجل فقال حرمت الخمرة، فقالوا أهرق هذه القلال يا أنس فما سألوا عنها، ولا راجعوها، ولا تأخروا عن تركها وإهراق أوانيها لحظة واحدة بعد خبر هذا الرّجل، فانظروا رحمكم الله إلى هذا الإيمان الكامل وهذه الطّاعة والانقياد لأمر الله كيف هي، فهل من مزدجر، فهل من متعظ.
وقيل في ذمها:
خذوا كأسها عني فما أنا شارب ... ولا أنا عن ديني ودنياي راغب
لقد حرم الله المدام وانني ... إلى الله مما تستحلّون تائب
أأشرب سما ناقعا في زجاجة ... تحوم حوالي شاربيها المصائب
لئن شبهوا كاساتها بكواكب ... فقد أنذرتنا في النّحوس الكواكب
وان عصروها من خدود كواعب ... فكم من رزايا جرهن الكواكب
وقال يزيد بن محمد المهلبي في ذمها:
لعمرك ما يخفى على الكأس شرها ... وإن كان فيها لذة ورضاء
مرارا تريك الغي رشدا وتارة ... تخيل أن المحسنين أساءوا
وان الصّديق الماحض النّصح مبغض ... وان مديح المادحين هجاء
وجرّبت اخوان النّبيذ فقاما ... يدوم لاخوان النّبيذ إخاء
وكيف يدوم والجامع بينهما معصية الله، والاخوة لا تكون دائمة ونافعة إلا إذا كانت على تقوى الله. راجع الآية 67 من سورة الزخرف في ج 2. والحاصل أن ما حرم من الشّراب هو أول الخراب ومفتاح الشّر لكل باب، يمحق الأموال ويهرم الرّجال، ويذهب الجمال، ويهدم المروءة، ويوهن القوة، ويمحي الشّهامة فيضع الشّريف، ويهين الظّريف، ويذلّ العزيز، ويفلس التجار، ويهتك الأستار، ويورث العار والشّنار، فالسعيد من اجتنبه، والشّقي من ألفه، والهالك من اعتاده وتوغل فيه. الحكم الشّرعي أجمعت الأمة على التقيد بأمر الله القاضي(6/367)
بتحريمها وحدّ شاربها وتفسيقه، وإكفار مستحلها، ووجوب قتله حدا. قال ابن وهبان في منظومته:
وفي عصرنا فاختير حد وأوقعوا ... طلاقا لمن من مسكر الحب يسكر
وعن كلهم يروى وأفتى محمد ... بتحريم ما قد قلّ وهو المحرر
وروي عن جابر أن رجلا قدم من جيشان- وجيشان من اليمن- فسأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر، فقال صلّى الله عليه وسلم أو مسكر هو؟ قال نعم، قال صلّى الله عليه وسلم كلّ مسكر حرام وإن على الله عهدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال. قالوا وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال عرق أهل النّار أو عصارة أهل النّار. وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال كلّ مسكر خمر، وكلّ مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدّنيا ومات وهو يدمنها لم يتب منها لم يشربها في الآخرة، والأحاديث في هذا الباب كثيرة. والحكمة في تحريم الخمر والميسر ما بيناه آنفا لأنهما من الآفات التي تسبب أضرارا مادية ومعنوية، فتوجد الخصومات والأحقاد بين النّاس، وتفقد العدالة والثقة في المعاملات، وينشأ منها شقاء العامة. ولقاعدة الشّرعية إذا تعارض دفع الضّرر وجلب النّفع قدم دفع الضّرر على جلب النّفع. والخمرة المحرمة التي يكفر مستحلها هي المنصوص عليها في القرآن الحاصلة من عصير العنب فقط على رأي أبي حنيفة رحمه الله. وإن كلّ مسكر من غيره لا يسمى خمرا ولا يكفر مستحله إلّا أنه حرام إذا أسكر، مستدلا بقوله صلّى الله عليه وسلم كلّ شراب أسكر فهو حرام، ولأن علّة التحريم هو ما جاء في الآية المفسرة هذه (إنما يريد الشّيطان إلخ، وذهب مالك والشّافعي وأحمد إلى أن كلّ مسكر من عصير العنب أو غيره كله حرام لقوله صلّى الله عليه وسلم ما أسكر كثيره فقليله حرام، ولما قدمنا من الأحاديث الأخر، وشمّلوا الميسر في كلّ الألعاب من نرد وغيره لقوله صلّى الله عليه وسلم من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله. والمراهنة من القمار أيضا لما روي عن قتادة عن حلاس أن رجلا قال لآخر إذا أكلت كذا وكذا بيضة فلك كذا وكذا فارتفعا إلى علي كرم الله وجهه فقال هذا قمار، أما الرّهان في السّباق بين الخيل والإبل(6/368)
وغيرها فجائز إذا كان الذي يستحق الجائزة السّابق فقط لقوله صلّى الله عليه وسلم لا سبق إلّا في خفّ حافر ونعل، ورخصوا المسابقة في الرّمي أيضا، أما ما جاء في ضررها المادي فقد أجمعت الأطباء على أن مدمن الخمر يكون كثير النّسل وأولاده عقيمين أو لا تعيش لهم ذرية وما ضرّ تناوله طبا حرم تعاطيه شرعا، ولهذا حرمته أميريكا وتركيا برهة من الزمن ثم رجعتا إليه لما يدرّ عليهم من حطام الدّنيا، وأهل الدنيا لا يتركونها من أجل الله، قاتلهم الله وإنها ستتركهم يوما ما حتما، وإذ ذاك يندمون ولات حين مندم. والمراد بالخمر هو ما يستخلص من عصير العنب وغيره نيئا قاذفا بالزبد وهي التي يسمونها الآن (انبيت) وهو ما لم تمسه النّار أصلا فهذا هو الذي قليله وكثيره حرام ويكفر مستحله. أما المطبوخ من عصير العنب والرّطب والتمر والزبيب وغيرها كالعرق من جميع المسكرات الحديثة فهي حرام أيضا على القطع، إلا أنه لا يكفر مستحلها بل يفسق ويجري عليه الحد الشرعي، وإنها إنما تفارق الخمرة المنصوص عليها في القرآن من تكفير مستحلها فقط وتشاركها في بقية الأحكام، ويحرم بيعها بسائر أنواعها وجميع أجناسها، كما يحرم تعاطيها لأنها من الأشياء النّجسة التي يحرم تناولها كالخنزير. راجع الآية الثالثة المارة من هذه السّورة. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال بلغ عمر بن الخطاب أن فلانا باع خمرا فقال قاتل الله فلانا ألم يعلم أن رسول الله قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشّحوم فحملوها فباعوها. ورويا عن عائشة قالت خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال حرمت التجارة في الخمر. وروي عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنهما قال على المنبر منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة العنب والتمر والعسل والحنطة والشّعير والخمر ما خامر العقل كرر ثلاثا، ووردت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن
عهدا ننتهي إليه. يحدد الكلالة وأبواب من أبواب الرّبا أخرجه البخاري ومسلم راجع الآية 16 من سورة النّساء المارة والآية 235 من سورة البقرة أيضا واعلم أن الخمر يختلف تأثيرها باختلاف كمية الغول الذي فيها، وهذه الكلمة استعملها الأجانب بلفظ (آلكول) ثم عربها العرب بلفظ (الكحول) ولم يرجعوا إلى(6/369)
أصلها المذكور في القرآن العظيم وهو (الغول) وإذ كان حرف الغين لا يوجد باللغة الأجنبية، فقد قلبوها كافا، ونحن بدل من أن نقلب هذه الكاف غنيا ونعيدها لأصلها قلبناها حاء فصارت الكحول، وحتى الآن ينطقون بها. وإنما سماه الله تعالى (غولا) في قوله جل قوله (لا فِيها غَوْلٌ) الآية 47 من الصّافات ج 2 لأنه يذهب العقل، أي ليس فيها ما يذهب العقل ويغتاله كخمرة الدّنيا، راجع تفسير الآية 68 من الصّافات أيضا تجد الفرق بين خمر الدّنيا وخمرة الآخرة التي يقول فيها ابن الفارض:
وفي سكرة منها ولو عمر ساعة ... ترى الدّهر عبدا طائعا ولك الحكم
وقال:
على نفسه فليبك من ضاع عمره ... وليس له فيها نصيب ولا سهم
واعلم أنه كلما ازدادت كمية الغول فيها ازداد ضررها وعظم شرها، وقد يتعرض شارب الخمر أحيانا إلى القيء والصّداع المؤلم ويصحبه التهاب معدوي حادّ وما قيل أن قليل الخمر يزيد في قوة التفكير لا صحة له، بل تقلل الذكاء وتضعف القوة المفكرة لأنه ينافض الواقع، وذلك أن من يهاب الإقدام على أمر أو لا تواتيه شجاعته على عمل في حالة الصّحو يقدم عليه في حالة السّكر، وهذا الإقدام في الظاهر يكون لعدم إدراكه عاقبة الأمر، فهو يفعله عن قلة عقل لا عن عقل، ومقدرته حالة السّكر دون مقدرته حالة الصّحو وقوته كذلك، ألا ترى السّكران تلعب به الجهال وبمجرد دفعة بسيطة يقع على الأرض بخلاف ما لو كان صاحيا، وذلك لأنه ينقص من قوة الاحتمال الجسماني كما ينقص من قوة الإدراك العقلي، ومما هو مشاهد ان متناول الخمرة يكون قليل النّشاط حاملا لأن قوة الجسم على مقاومة التغيرات الجوية ومقدرته على ضبط درجة حرارته تضعف من تأثير الخمر، فكثيرا ما أودت ضربة الشّمس بحياة كثير من مدمني الخمر. هذا، ومن جملة أضرار الخمر الالتهاب المزمن في الحنجرة والمعدة وقد يصاب الكبد بنوع من هذا الالتهاب المزمن ويسمونه (سروزس الكحول) وهو مرض يكثر عند مدمني الخمر، وكثيرا ما يؤدي إلى الموت إذا انحبست الدّودة اليابية في الكبد، لأن(6/370)
شدة حرافته تهري هذه الأعضاء مع الرّئة أيضا فيحصل له الموت آنيا كالمسلول المنتهي. وقد ثبت طبا أن أعمار مدمني الخمر وقدرتهم على مقاومة الأمراض أقل بكثير من غيرهم، وقد جرب هذا في طائفة من الأرانب واتضح أن مقاومة الطائفة التي ألفها شراب الخمر مع الماء لهذا المرض اقل بكثير من مقاومة طائفة الأرانب التي لم يعطوها ذلك وأقل أعمارا منها وثبت أيضا أن نسل مدمني الخمر أضعف من غيرهم، وإن القلب يتأثر من كثرة الغول، وإن إدمان الشّرب يصلّب الشرايين بحالة قد تقضي إلى الموت. وثبت أيضا أن مدمن الخمر معرض لمرض عصبيّ يسبب الموت بأول صدمة ويسمّونه (ولربم ترنز) وقد يؤدي هذا المرض إلى الرّعشة والهذيان وقلة النّوم، بل يفضي لعدمه، وإذا لم يسارع إلى التداوي فإنه يجره إلى الموت المقدر له على ذلك، وقد يعتريه هذا المرض لعدم حصوله على ما يكفيه من الشّرب الذي اعتاده، أجارنا الله، لأنه كلما زاد من الشّراب تخرقت تلك الأعضاء الكريمة، فيحتاج إلى ملئها ومتى ما نقّص فرغت تلك الحروق، فيحتاج إلى أن يشرب أكثر من معتاده لملئها، إذ قد يفضي فراغها إلى وقف الدّم فتبطل حركته فيحصل الموت وهلة. وما قيل أن الخمر تدفىء الجسم حتّى يكاد شاربها يتصبب عرقا من الحرارة فهو قيل عار عن الصّحة، لأن المشاهدات الطّيبة والعادية أثبتت خلاف هذا، وعدم فائدة الجسم بالتدفئة، لأن هذه المسألة عرضت على بساط البحث في المؤتمر الدّولي التاسع عشر في بلجيكا، وظهر أن تأثير الخمر الظاهر في تدفئة الجسم عقيب تناولها إنما هو شعور كاذب، إذ يعقبه انخفاض في درجة حرارة الجسم حتى عن حالته الطّبيعية، وقد أثبت هذه الحقيقة بصورة جلية المشاهدات الحسية في جزيرة (ايسلندا) التي هي من أشد البلاد بردا، وقد كثر بين أهليها الوفيات لدرجة عظيمة وتبين أن السّبب في ذلك استغناؤهم عن مكافحة البرد بشرب الخمر الذي سبّب صعود الدّم بتأثير الغول من داخل الجسم إلى سطح الجلد فأبادته برودة الجو تدريجا وانتهت الحياة بانتهاء الحرارة من الجسم. وهذا كمن يستعمل المقويات للجماع فإن ما يراه من القوة الحسية منحوتة من دمه بسبب تلك المقويات لا منها، وهؤلاء كثيرا ما يفلجون أو يموتون فجأة. ومما يؤيد هذا(6/371)
ما حدث لأصحاب الرّحالة العالمي الدّكتور (سكوت) حينما وصل بهم إلى القطب الجنوبي وكان نهاهم عن الشّرب لما شاهد من تأثيره المميت في تلك الأجواء الباردة، وان منهم حينما اشتد عليه البرد لجأ إلى الشّراب خلافا لتعاليمه التي ذكرهم بها فما كان منهم إلّا أن لقوا حتمهم، والّذين تقيدوا بتعاليمه فلم يشربوا نجوا من الموت.
وجاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن ديلم الحميري قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله إنا بأرض باردة نعالج فيها عملا شديدا وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح، وفي رواية من الذرة، ونتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، قال هل يسكر؟ قلت نعم، قال فاجتنبوه، قلت إن النّاس غير تاركيه، قال إن لم يتركوه فقاتلوهم. وهذه معجزة خالدة في هذا. ومن جملة معجزاته قوله صلّى الله عليه وسلم إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها. وذلك لما أطلعه الله على ما ذكر من تأثيرها فيما سبق في هذا وغيره مما سيظهر بعد، وإنما لم يذكر حضرة الرّسول لهذا السّائل ضررها المادي لعدم إدراكهم إيّاه في زمنه، ولأنه يريد ألا يسألوا عن العلل لما أمر الله به ونهى عنه، ويريد أن يمتثلوا ما يأمرهم به من نفسه كأمر الله تعبدا وانقيادا وإذعانا لأمره أيضا دون فتح باب للسؤال عن العلّة والسّبب، لأنه لا ينطق عن هوى، بل بما يلهمه ربه، ولهذا قال تعالى (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية 7 من سورة الحشر المارة، فكان أمره أمر الله ونهيه نهيه، وان كثيرا من أفعال الله لا تعلل، وهو لا يسأل عما يفعل، وهذا ما أردنا ذكره في الخمر، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وسيرى ندم الآخرة على عدم الامتثال أشد من ندم الدّنيا. وأما الميسر فقد قدمنا ما يتعلق به من المضار في الآية 22 من سورة البقرة بصورة واضحة فراجعها، وهو مشتق من اليسر، لأنه أخذ المال بسهولة، وكان النّاس في الجاهلية يقامرون على أموالهم وأهليهم، فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله، ولذلك نهى الله عنه وأكد رسوله نهيه، ألا فليعلم العاقل أن الله تعالى لم ينهنا عن شيء إلّا بقصد نفعنا لكونه مضرا لنا في ديننا ودنيانا وعاقبة أمرنا، ولم يأمرنا بشيء إلّا لنفعنا في الأحوال الثلاثة أيضا، وقد أباح الله لنا الطّيّبات واللهو في غير ما حرم، وليس(6/372)
بعد الحلال إلّا الحرام، ولا بعد الحق إلّا الضّلال فنحمده ونشكره، وهو القائل جل قوله «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا» أكلوا وشربوا مما حرم عليهم أو لعبوا بالقمار وشربوا الخمر وأكلوا من الكسب الحرام أو فعلوا كلّ محرم قبل نزول تحريمه، فكله عفو لهم لأنهم لم يخالفوا فيه إذ لم يحرم عليهم أولا «إِذا مَا اتَّقَوْا» هذه المحرمات واجتنبوها بعد تحريمها، وما هنا صلة لتقوية الكلام وتحسينه أي إذا اتقوا وسنأتي على بحثها في الآية 136 من سورة التوبة الآتية إن شاء الله، فإذا امتنعوا عنها «وَآمَنُوا» بالله ورسوله إيمانا خالصا وأذعنوا لما نهوا عنه أولا وآخرا «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» بعد إيمانهم واجتنابهم المنهيات «ثُمَّ اتَّقَوْا» جميع ما حرم عليهم في مستقبل زمنهم «وَأَحْسَنُوا» عملهم فيما بينهم وبين ربهم وخلقه أجمع فقد أحسنوا لأنفسهم وغيرهم «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (93) من خلقه وهنيئا لمن أحبه الله. وقد ذكرنا في سورة البقرة عند قوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) الآية 23 المارة وفي الآية 38 من سورة يونس ج 1 وفي مواضع أخرى أنه لا يوجد في القرآن حرف زايد أصلا، وأن كل حرف فيه يؤدي معنى خاص، كما أن ما هنا أي في قوله تعالى (إِذا مَا اتَّقَوْا) ليست بزائدة كما يقول البعض لأنها تؤدي معنى أنهم غير واثقين بالتقوى لعدم الاعتماد على النّفس، وهذا شأن المؤمن، فقد جاء في البخاري أن بعض السّلف الصّالح عرف عددا من الاصحاب يخشون النّفاق على أنفسهم لشدة تقواهم وقلة وثوقهم بأنفسهم، فتأمل رحمك الله فائدة الإتيان بما في هذه الآية ومثلها في أمكنة أخرى، وضرر القول بزيادتها لفوات هذا من المعنى المراد فيها، عصمك الله، وسنزيدك توضيحا عن مثلها في آية التوبة الآتية إن شاء الله، أما إذا لم يتقوا وفعلوا هذه المحرمات والعياذ بالله بعد تحريمها عليهم ومعرفتهم بالتحريم وعلمهم به فهم في خطر عظيم إذا لم يتداركهم الله برحمته بإلهامهم التوبة النّصوح عنها، ويدخل في هذه الآية من يدخل بالإسلام بعدها فإن الله تعالى يعفو عما وقع منه قبله ويصير حكمه حكم المؤمنين. واعلم أن كلمة (طعم) تطلق على الأكل والشّرب
والنّوم، وعلى هذا قوله:(6/373)
فإن شئت حرمت النّساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
النقاخ الماء والبرد النّوم ومثلها كلمة طبخ تطلق على المأكول والملبوس وعليه قوله:
قالوا اقترح شيئا تجد لك طبخة ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
أخرج الترمذي عن البراء بن عازب قال مات ناس من الأصحاب وهم يشربون الخمر، فلما نزل تحريمها قال ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كيف بأصحابنا الّذين ماتوا وهم يشربونها؟ فنزلت هذه الآية. وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال لما أنزلت هذه الآية ليس على الّذين إلخ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قيل لي أنت منهم يعني قبل لرسول الله ان ابن مسعود منهم، والقائل والله أعلم جبريل عليه السّلام، وليس هذا بكثير على صاحب رسول الله وحواريه. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ» يختبركم ويمتحنكم به حال إحرامكم بالحج أو العمرة، وذلك أن الله تعالى ابتلاهم بالصيد فصارت الوحوش تغشي رحالهم، فهموا بأخذها لأنها كانت منهم، كما قال تعالى «تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ» لقربه منكم كالأفراخ والبيوض وما لا يقدر أن يفرّ أو يهرب «وَرِماحُكُمْ» تنال كبار الصّيد كحمر الوحش والغزلان والطّيور لأن الله تعالى جعله عليهم بكثرة وأوقع عليه السّكينة، وهذا كابتلاء بني إسرائيل بالحيتان إذ جعلها في يوم السّبت تعوم على وجه الماء وشاطئه ليختبرهم أيضا، فلما أجرموا عليها وأخذوها هلكوا راجع الآية 162 من الأعراف في ج 1 وذلك بسبب احتيالهم على صيدها «لِيَعْلَمَ اللَّهُ» أي ليعلم عباده لأنه عالم من قبل بما يقع منهم قبل إظهاره لهم «مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ» ممن لم يخفه أي من ينفذ أمره من حيث لم يره، فلم يصطد حالة الإحرام ممن يخالف أمره فيصيد، ولهذا قال تعالى «فَمَنِ اعْتَدى» أي صاد حالة الإحرام، وقال تعالى اعتدى بدل صاد لما فيه من التعدي على حدود الله إن صاد «بَعْدَ ذلِكَ» الاختبار والنّهي «فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ» (94) في الآخرة لأن التعرض للصيد والاعتداء عليه خروج عن طاعة الله تعالى وانخلاع عن خشيته ومكابرة وعدم مبالاة في أمره ونهيه وإن لم يراع أحكام الله في هذه المسائل الهينة لا يهابه في الأمور العظيمة، ولهذا(6/374)
شدد العقوبة على مرتكبها كما شددها على بني إسرائيل، وإذ مسخهم قردة وخنازير ولكن الله لطف في هذه الأمة المحمدية ورفع عنها المسخ الظّاهري حرمة لنبيها صلّى الله عليه وسلم. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ» أيها المحرمون مناوئا أمر الله «مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ» في الدّنيا أن يتقرب إلى الله تعالى «مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» أي مثل الذي صاده في الخلقة والجثة، وإذا لم يكن له مثل فمثل قيمته. واعلم أن مثل النعامة الجمل، ومثل حمار الوحش البقرة، ومثل الضّبع الكبش، ومثل الظّبي الشاة والأرنب السّخل والضّب السّخلة واليربوع الجفيرة وهي التي بلغت أربعة أشهر من ولد الشّاة والجفر الذكر، ومثل الحمامة وكلّ ما عب وهدر من الطّيور كالفاخقة والقمري وذوات الأطواق شاة، وما سواها من الطّير ففيه القيامة بالمكان الذي أصيب فيه، وهذا الحكم عام. وما قيل أن سببه أبو اليسر كأن شد على حمار وحش وهو محرم فقتله على فرض صحته لا يخصصه فيه ولا يقيده به، فهو حكم مطلق عام إلى يوم القيامة، وعليه فلا يحل الصّيد ولا التقيد ولا التعرض له مادام الرّجل محرما وفي الحرم ولو غير محرم، والمرأة كذلك. روى البخاري ومسلم عن أبن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال خمس من الدّواب ليس على المحرم في قتلهن جناح الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور.
ورويا عن عائشة مثله. ويستفاد منه أن لا شيء في قتل السّباع من البهائم الضّارية قياسا على الكلب العقور كالذئب والنّمر والفهد وغيرها، ولا الحشرات المضرة كالحيّة والرّتيلة وغيرها. وظاهر القرآن أن الصّيد خطأ لا جزاء فيه، وبه قال سعيد ابن جبير، وعامة الفقهاء والمفسرين على خلافه على أن الحق والله أعلم معه إذ لا قياس في الكفارات، ولأن الله تعالى خصه بالتعمد صراحة، والمخطئ غير المتعمد فكيف يوجبه عباده، وقد جاء في الحديث الصّحيح عنه صلّى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه، فلماذا نوجبه نحن؟ قال تعالى «يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ» إذا اختلفتم في مثله عينا أو قيمة، فحكموا أيها المسلمون العادلين منكم بذلك وافعلوا ما يحكمان به وسوقوه «هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ» وأصلا إلى الحرم(6/375)
داخلا فيه ويذبح هناك ويتصدق به إن شاء. قالوا تفيد الآية أن المثل القيمة لا العين، لأن التقويم مما يحتاج إلى النّظر والاجتهاد دون الأشياء المشاهدة، ولأن المثل المطلق في الكتاب والسّنة والإجماع مقيد بالصورة والمعنى أو بالمعنى لا بالصورة أو بالصورة لا بالمعنى، ولأن القيمة أريدت فيما لا مثل له اجماعا فلم يبق غيرها إجماعا مرادا، ولا عموم للمشترك، إلا أن قوله تعالى من النّعم يوجب المثل لا القيمة، وهو ظاهر القرآن، ولا موجب للانصراف عنه. أما إذا أتلف شيئا لا مثل له من النّعم فيصار إلى القيمة حتما. قال تعالى «أَوْ كَفَّارَةٌ» على الصّائد عند عدم القدرة على أداء المثل أو القيمة وهي «طَعامُ مَساكِينَ» بقدر الكفاية لكل مسكين نصف صاع «أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً» بما يقابل الإطعام لعدم قدرته عليه فإنه يصوم عن كلّ نصف صاع يوما واحدا، وهذا الجزاء الذي رتبه الله تعالى على المخالف في الدّنيا «لِيَذُوقَ وَبالَ» عقابه وجزاء «أَمْرِهِ» جرمه الذي اقترفه في عدم امتثاله أمر الله هذا إذا وقع بعد التحريم، أما ما كان قبله فقد «عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ» منكم من الاقدام على الصّيد في الحرم مطلقا سواء كان محرما أو غير محرم لأن الله تعالى لا يعاقب على ما لم يأمر به عند مخالفته كما أنه لم يعاقب على فعل الصّيد خارج الحرم أو المحرم حال الإحرام «وَمَنْ عادَ» بعد أن صاد وكفّر عن فعله فصاد في الحرم أو حال الإحرام «فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ» في الآخرة انتقاما عظيما «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» بالغ القوة والعظمة «ذُو انْتِقامٍ» (95) شديد فظيع ممن عصاه إذا لم يعف عنه. وتفيد هذه الآية أن لا كفارة في العود على المخالفة يعني أن من صاد وكفّر عن ائمة ثم صاد ثانيا حال الممنوعية لا تكفيه الكفارة ولا تطهره، لأن عوده بعد النّهي جريمة اقترفها باختياره تطاولا على الله تعالى، لأن عوده يعد جرأة عليه تعالى وعدم مبالاة بالكفارة التي أوجبها عليه، والله تعالى يغتاظ من عدم مراعاة حرماته. هذا، والحكم الشّرعي كذلك، والكفارة هنا على التخيير أيضا، فإن شاء ذبح من النّعم مثل الصّيد وتصدق به على مساكين الحرم، وإن شاء قوم المثل دراهم وأنفقها، أو قوم الدراهم طعاما، وتصدق به، وإن شاء صام عن كلّ نصف صاع يوما واحدا. قال(6/376)
تعالى «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ» حلوه ومالحه «وَطَعامُهُ» أكله حل لكم أيضا سواء كنتم محرمين أو في الحرم ولكم أن تتمتعوا به «مَتاعاً لَكُمْ» أيها المقيمون تنتفعون به حال إقامتكم «وَلِلسَّيَّارَةِ» المسافرين يتزودون منه أيضا حال سفرهم كما فعل موسى عليه السّلام حيث تمتع بالحوت الذي قصه الله علينا في الآية 61 فما بعدها من سورة الكهف في ج 2 «وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً» على أن لا تصيدوه في الحرم ولا في غيره ما دمتم محرمين وقد كرر الله تعالى تحريم الصّيد ثلاث مرات: أول السّورة في الآية الرّابعة، وهنا مرتين تأكيدا للتقيد بتحريمه، وعدم التعدّي على ما حده الله تعالى، وحذر عليه أولا بالنهي عن إحلال شعائر الله، وعدد ثانيا بالانتقام ممن يخالفه فيه خاصة، وأوعد عليه في هذه الآية الثالثة بقوله «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» (96) في الآخرة لا إلى غيره، وهناك تلقون جزاءكم على ما قدمتم وسبب التكرار هو قطع لطمع النّفوس من الإقدام على الصّيد بصورة ماقة لأن للنفس فيه حظا أكثر من قيمته، والنّاس لهوى نفوسهم أطوع، ولهذا فإن
حضرة الرسول لم يأكل من صيد غير المحرم وهو محرم تورعا وتنبيها لأمته ليتحاشوه ولا يقدموا عليه. أخرج في الصّحيحين عن الصّعب بن جثامة اللّيثى أنه أهدى للنبي صلّى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه من الكراهة قال إنا لم نرده عليك إلّا انا حرم. وأخرج في الصّحيحين عن أبي قتادة في صيد غير المحرم وأكله المحرم أنه صلّى الله عليه وسلم قال هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها (أي حمارة الوحش المصيدة) قالوا لا، قال كلوا ما بقي من لحمها. فحمل الحديث الأوّل على وجود الأمر أو الإعانة للصائد غير المحرم من قبل المحرم، أو أنه صيد لأجل المحرم، وهو من باب الورع لأنه يجوز أن يأكل منه بلا سؤال أو علم. قال تعالى «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ» لمصالحهم في أمر دينهم ودنياهم لأنه به يقوم الحج وتتم المناسك، وبه يجتمع إسلام الكرة الأرضية فيتعارفون فيه، ويتذاكرون فيما يصلح شأنهم ويلمّ شعثهم ويوحد كلمتهم ويقف كلّ منهم على ضروريات الآخر ومحصولاته من تجارة وبيع وشراء(6/377)
وضرع وزرع وصناعات ومصارفها ويجلبون معهم من بلادهم مما يصنعون للبيع والاطلاع ويتداولون بشأنه فيما بينهم لأن كلّ غريب طريف وقد يتباهى النّاس باقتناء الأشياء الغريبة والنّادرة، ولهذا ترى في الحرم الشّريف جميع مصنوعات ومنسوجات البلاد، ويوجد فيه مالا يوجد في غيره من الأثاث والرّياش تصديقا لقوله تعالى (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) الآية 57 من سورة القصص في ج 1 وعادة جلب الأموال والأشياء إلى الحرم عادة قديمة قبل الإسلام يؤتى بها من كل حدب وصوب وتكدس فيه حتى إذا لم تصرف كلها تركوا الباقي فيه دون حراسة لا يخافون عليه سرقة ولا نهبا، ولهذا ولكون قاتل الأبن إذا رآه الأب فيه لا يكلمه لقب بالبلد الأمين، وهو محرم بالجاهلية والإسلام، ولا يستطيع أحد أن يشاحن أحدا فيه على مال أو سرقة أو سلب أو سبي. قال تعالى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) الآية 198 من البقرة المارة هذا فيما يتعلق في أمر دنياهم ويتذاكرون أيضا في أمر آخرتهم، لأنه في إقامة مناسك الحج علو الدّرجات عند الله تعالى، وتكفير الخطايا والسّيئات، وزيادة الكرامة في الجنّات «وَالشَّهْرَ الْحَرامَ» جعله أيضا لما فيه من الأمن العام على من عرف ومن لم يعرف وفي الشّهر للجنس فيشمل الأشهر الأربعة لأنها من هذه الحيثية سواء «وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ» جعلها الله أيضا قياما للناس، لأن من يسوق الهدي إلى الحرم لا يتعرض له أحد، ولأن فيه وسعة على الفقراء، راجع الآية الثانية المارة وبحث الحج في الآية 193 من البقرة 26 من سورة الحج المارتين «ذلِكَ» جعل الله هذه الأشياء قواما للناس في أمورهم الدّينية والدّنيوية والأخروية «لِتَعْلَمُوا» أيها النّاس «أَنَّ اللَّهَ» تعالى عالم في الأزل بمصالحكم وحوائجكم في هذه الشّعائر، وهو جل شأنه «يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» كليّاتهما وجزئيّاتهما، ظاهرهما وباطنهما، خفيهما وجليهما «أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (97) من كلّ ما كان ويكون قبل كونه ومكان كونه وزمنه ورقت إعدامه وإعادته «اعْلَمُوا» أيها النّاس «أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» لمن انتهك حرماته «وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (98) لمن تاب وأناب ومات على(6/378)
الإيمان والتوبة واعلموا أيضا أيها النّاس أنه «ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ» إليكم بلسانه مما أمره به ربه وقد قام بما أمر وبلغ وبشر وأنذر، فلزمتكم الطّاعة وقامت عليكم الحجة، فاحذروا أن تفرطوا أو تفرطوا وانتبهوا أيها المعرضون، وتيقظوا لما يراد بكم فانتهوا عما نهاكم عنه، وافعلوا ما أمركم به، فإن عليكم رقيبا منه «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ» من علانية الأقوال والأفعال والأعمال «وَما تَكْتُمُونَ» (99) من الضّمائر والدّخائل والنّيات والخواطر وإن علمه في كلا الأمرين سواء، لا يعزب عن علمه شيء، ولا تخفى عليه خافية من أهل السّموات والأرض السرّ عندة كالعلانية. وفي هذه الآية من التهديد والوعيد ما لا يخفى على بصر ممن كان له قلب راع وفكرة ثاقبة ونظر فيما يؤول إليه الأمر واستمع قول الله ورسوله سماع قبول.
مطلب في الخبيث والطّيب والنّهي عن سؤال الله بما لم يكلف به عباده وما حرمته الجاهلية قبل الإسلام:
يا سيد الرسل «قُلْ» للناس كافة بأنه «لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ» عند الله في الرّتبة والمنزلة فلا يعادل الحلال الحرام ولا الجيد الرّديء كما لا يستوى الحق والباطل والنّور والظّلمة والكفر والإيمان والأعوج والعدل والزين والشّين فبينهما بون شاسع، فلا تغتر أيها الإنسان بما ترى «وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ» لأن عاقبته سيئة وآخرته قبيحة، فأهل الدّنيا يعجبهم كثرة المال وتسرهم زخارفها، وأهل الله يعجبهم ما عند الله ويزداد فرحهم به لأنه باق دائم وذلك زائل فان، والمزق الباقي خير من الذهب البالي «فَاتَّقُوا اللَّهَ» عباد الله وآثروا ما يبقى على ما يفنى واتركوا الشّر واطلبوا الخير «يا أُولِي الْأَلْبابِ» النافعة المفكرة العارفة ما يضرها وما ينفعها. واعلموا أن القليل الدّائم خير من الكثير الزائل، فآثروا الأحسن والأخير «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (100) في دينكم ودنياكم وآخرتكم، روى جابر عن عبد الله أن رجلا قال يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي فهل ينفعني ذلك المال ان عملت فيه بطاعة الله؟ فقال صلّى الله عليه وسلم إن أنفقت في حج أو جهاد لم يعدل جناح بعوضة، إن الله طيب لا يقبل إلّا الطّيب، فنزلت هذه الآية وهي غاية في نفي المساواة عند الله(6/379)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
تعالى بين النّوعين والتحذير من ردّيتهما.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» وتحزنكم وتكدر خواطركم لأنكم لا تقدرون على فعلها أو يعز عليكم تناولها فقد تكون لمضرتكم أقرب من منفعتكم «وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ» أي إذا صبرتم عن السّؤال عنها إلى نزول القرآن فيها فهو خير لكم وإن لم ينزل فيها القرآن فهو خير لكم أيضا، فلا تتعرضوا للسؤال عنها فلعلها محزنة لكم أو تكون تكاليف شاقة لا تطيقونها «عَفَا اللَّهُ عَنْها» عنكم فلم يكلفكم إياها فلماذا تتعجلون على الله بالسؤال عنها وتتطلبونها من حيث لا لزوم لكم بها؟ روى البخاري ومسلم ع عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان قوم يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلم استهزاء، فيقول الرّجل من أبي ويقول الرّجل تضل ناقته أين ناقتي، فأنزل الله فيهم هذه الآية. وروى مسلم عن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا أيها النّاس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل أني كلّ عام يا رسول الله؟ قال فسكت حتى قالها ثلاثا، ثم قال ذروني ما تركتكم، ولو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، وإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ثم سألوا عن البحيرة والسّائبة الآتيتين بعد هذه الآية وعما كان من أعمال الجاهلية وبعضهم اقترح إنزال آية، فأنزل الله هذه الآية ردعا لهم، لأن من سأل عن نسبه لم يأمن أن يلحقه العار بان يلحقه صلّى الله عليه وسلم لغير أبيه فيفتضح ويفضح أمه وقومها ومن سأل عن الحج لم يأمن أن يؤمر به فيصعب عليه وعلى الأمة أجمع وجوب تكرره، وكذلك من يسأل عن أشياء لم تفرض فيوشك أن تفرض بسبب سؤاله فتكلف الأمة كلها زمرة، فلهذا نهاهم الله تعالى عن السّؤال لحضرته خشية افتراض ما يسألون عنه، فيعجزون عن أدائه، فيعاقبون على تركه «وَاللَّهُ غَفُورٌ» كثير المغفرة للناس لو يعلمون ما قدرها، ولذلك لا يؤاخذكم عما يبدر منكم ويستر عليكم ما تقترفونه خفية لعلكم تتوبون وترجعون، وقد أبت رحمة الله بكم أن يفضحكم لمرة أو مرتين أو يسلط عليكم عدوا منكم وعدوا من غيركم «حَلِيمٌ» (101)(6/380)
بعفوه عنكم وعدم تعجيل العقوبة وتكليفكم ما لا تطيقون أو تتحرجون منه.
روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ان من أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على النّاس فحرم من أجل مسألته ورويا عن المغيرة بن شعبة أنه كتب إلى معاوية أن النّبي صلّى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال واضاعة المال وكثرة السّؤال ثم بين تعالى مدى خطأهم بما ينتج عن السّؤال بقوله جل قوله «قَدْ سَأَلَها» أي هذه المسألة المنهي عنها «قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ» (102) وذلك أن قوم صالح عليه السّلام سألوه إخراج النّاقة من الصّخرة ليؤمنوا بالله فدعا الله ربه، فأجاب دعوته وأخرجها لهم منها، فعقروها وكفروا بها، فأهلكهم الله بسبب سؤالهم، راجع قصتها في الآية 79 من الأعراف في ج 1، وقد سأل قوم موسى رؤية الله جهرة فكانت عليهم وبالا راجع قصتهم في الآية 57 من سورة البقرة المارة، وسأل قوم عيسى المائدة فلما أنزلت كذبوا بها فكانت عليهم وبالا كما سنأتي قصتها في الآية 116 الآتية فإياكم أيها المسلمون والمسألة عن شيء يتعلق بأمر دينكم ومعاملتكم من غير ما فرض الله عليكم منها فتحملون أنفسكم ما لا تقدرون عليه، لأنكم إذا سألتم عن شيء لا وقوع له فلربما يجاب طلبكم ويفرض عليكم فلا تعملون به فيعود عليكم بالوبال ثم قال تعالى ردا للسائلين «ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ» هي النّاقة إذا ولدت خمسة أبطن لم يركبوها ولم يجزوا وبرها ولم يمنعوها الماء والكلأ، ويعمدون إلى ولدها الخامس إن كان ذكرا ذبحوه فيأكله الرّجال والنّساء، وإن كان أنثى شقوا أذنها وتركوها وخصصوا منافعها للرجال وحرموها على النّساء، فإذا ماتت حلّت للرجال والنّساء «وَلا سائِبَةٍ» هي النّاقة إذا تابعت اثنتي عشرة سنة إناثا سيبت فلم تركب ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلّا ضيف فما نتجت بعد ذلك من ذكر فعلوا به كما فعلوا بابن البحيرة، وإن كان أنثى شقوا أنفها ثم سيبت مع أمها ويفعل بها كما يفعل بأمها، ومن هذا ما ينذرونه لآلهتهم فإنه يسيب ولا يركب ولا ينتفع به «وَلا وَصِيلَةٍ» هي الشّاة إذا ولدت سبعة أبطن فإذا كان السبع ذكرا ذبحوه وأكله الرّجال والنّساء، وإذا كان أنثى تركوها، وإن ولدت(6/381)
ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر من أجل الأنثى «وَلا حامٍ» هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة أبطن قالوا حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يذبح، حتى إذا مات أكله الرّجال والنّساء، هذا مما اختلفوه من أنفسهم لأن الله تعالى لم يأمر بشيء منه ولم ينزله في كتابه، ولم يكلف هؤلاء الجهلة تلك الأمور بل ابتدعوها ابتداعا، ومن هذا القبيل الأفعال المارة في الآية 139 فما بعدها من سورة الأنعام المارة في ج 2 فهي أيضا لا أصل لها في الشّرائع السّماوية ولم ينزل الله شيئا منها في كتابه على أحد من أنبيائه «وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» يحرمون ويحللون تبعا لآبائهم الّذين اخترعوا ذلك «يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» في نسبة ما يحلونه أو يحرمونه اليه تعالى «وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» (103) بأن هذه الأشياء ابتدعها رؤساؤهم وقلدوهم بفعلها من غير علم بأحقيتها. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا ورأيت عمرا (هو عمر بن عامر بن لحي بن قمعه بن خندق أخر بني كعب) يجرّ قصيه (أمعائه) في النّار، وهو أول من سيّب السّوائب وتبعه من بعده الناس والضّمير في أكثرهم يعود للاتباع المقلدين هذه العوائد المختلفة، لأن فيهم من يعقل إنها ليست بشيء ولكن لا يقدرون أن يستبدوا وحدهم بتركها ولا يستطيعون منع غيرهم. قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ» فاعملوا به وافعلوا عن هذه الأعمال الواهية التي لا أصل لها «وَإِلَى الرَّسُولِ» أي اركنوا إليه ليبين لكم كذب ما تضيفونه إلى الله من هذه الأشياء وغيرها، ويوضح لكم ما حرم عليكم وأحل لكم كما أنزل الله «قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا» من حلال وحرام، فهو كافينا عن مراجعتكم لا نريد غيره، فردّ الله عليهم بقوله «أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ» الّذين قلدوهم بها «لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً» من طرق التحليل والتحريم «وَلا يَهْتَدُونَ» (104) إلى طريق الحق ودين قويم وشريعة صحيحة
وصراط مستقيم، أتقتدون بهم وهم على ضلال، أليس هذا جنونا وحمقا وسفها، لأن الاقتداء إنما يعتبر إذا كان المقتدى به عالما مهتديا عاقلا مفكرا(6/382)
لا جاهلا ضالا غبيا، ولكن إذا كان الأكثر منهم على هذا فانهم يسيطرون على الأقل لأن الحكم غالبا للأكثرية.
مطلب لا يستفاد من هذه الآية ترك الأمر بالمعروف وكيفية استماع الشّهود على وصية الميت وسبب نزول هذه الآية:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» فالزموها وأصلحوها واحفظوها من الوقوع فيما لا يحل، واعملوا لخلاصها من عذاب الله وما يقربها منه وباعدوها عن الحرام، ولا تركنوا إلى الظّلم فتمسكم النّار، فإذا تقيدتم بهذا وفعلتموه فاعلموا أنه «لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» إلى ذلك وتمسكتم به وقمتم بالحق، لأن عصيان الباغي وكفر الطّاغى لا يضركم، وإنما يعود ضرره عليه إذا نصحتموه ولم يقبل نصحكم ولم يسترشد بإرشادكم، ولم يؤمن كإيمانكم وهؤلاء ان كانوا كافرين مشركين فاقسروهم على الإيمان إذ لا دين لهم، وان لم يقبلوا فاقتلوهم، وان كانوا كتابيين فاضربوا عليهم الجزية واتركوهم وشأنهم لأنكم لم تؤمروا بقتالهم على الإسلام. قال تعالى (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) الآية 257 من البقرة راجع تفسيرها تعلم أن دين الإسلام قام بالعدل لا بالإكراه، وبالرغبة لا بالرهبة، ولهذا فإن حضرة الرّسول لم يجبر أحدا من أهل الكتابين على الإيمان به، هذا وليعلم أن المطيع من هذه الأمة لا يؤخذ بذنب العاصي، كما لا ينتفع العاصي بطاعة المطيع، وان المؤمن لا يؤخذ بذنب الكافر، والكافر لا ينتفع بإيمان المؤمن، راجع الآية 10 من سورة التحريم المارة. قال سعيد بن جبير نزلت هذه الآية في أهل الكتاب أي في عدم جبرهم على الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم لأنكم وإياهم «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً» في الآخرة وحينذاك «فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (105) في هذه الدّنيا. واعلم أن هذه الآية لا يستدل فيها على عدم الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر كما زعم بعضهم وضرب بها المثل، لأن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ثابتان بالكتاب والسّنة ثبوتا قطعيا لا قول فيه البتة؟ أخرج الترمذي عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر الصّديق رضي الله عنه قال أيها النّاس انكم تقرءون هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ) إلخ ولا تضعونها موضعها(6/383)
ولا تدرون ما هي، واني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن النّاس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمهم الله بعقاب منه. وأخرجه أبو داود بزيادة ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ولا يغيروا إلّا يوشك أن يعمهم الله بعقاب. قال ابن مسعود مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قيل منكم فإن ردّ عليكم فعليكم أنفسكم، إن القرآن نزل منه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن كقصص الأوّلين وأخبارهم، ومنه وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومنه أي قد وقع تأويلهن بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيسير، كارتداد بعض العرب والحوادث التي وقعت، ومنها قتل عثمان رضي الله عنه، ومنه آي يقع تأويلهن آخر الزمان كأشراط السّاعة وغيرها (والأشياء المحدثة مما أشار إليها القرآن وحضرة الرّسول من البواخر والصّواعق وتقارب البلدان وكثرة القتل وغيرها) راجع الآية 8 من سورة النّحل ج 2 ومنها آي يقع تأويلهن يوم القيامة كالحساب والعقاب والنّار، فما دامت قلوبكم واحدة فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر وإذا اختلفت قلوبكم وأهواءكم والبستم شيعا وأذاق بعضكم بأس بعض جاء تأويل هذه الآية ويكون على كلّ امرئ نفسه، قيل لا بن عمر لو صليت في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله يقول «عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» فقال إن هذه الآية ليست لي ولأصحابي لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ألا ليبلغ الشّاهد الغائب، فكنا نحن الشّهود وأنت الغائب، ولكنها لأقوام بعدنا ان قالوا لم يقبل منهم. وأخرج الترمذي في حديث غريب عن أمية الشّعباني قال أتيت أبا العالية الحسني فقلت كيف نصنع بهذه الآية، قال أيّة آية؟ قلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) إلخ قال أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متّبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أيّام الصّبر، فمن صبر فيهن قبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم. وفي رواية قبل يا رسول الله أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال لا بل أجر خمسين رجلا منكم. راجع الآية 39 من سورة الرّوم(6/384)
في ج 2 في بحث التفرق
في الدّين تجد ما يتعلق بتمام هذا البحث، قال تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إن مما أمرتم به «شَهادَةُ بَيْنِكُمْ» أي أن يشهد ما بينكم «إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» قارب وقته بما يراه المريض من نفسه أو يرى أولياؤه فيه من علاماته وأراد أن يوصي بشيء فليشهد «حِينَ الْوَصِيَّةِ» على ما يوصي به من بعده «اثْنانِ» بالرفع خبر شهادة رجلان «ذَوا عَدْلٍ» موصوفان بالعدالة من أهل الصّلاح والتقوى والأمانة «مِنْكُمْ» من ملتكم المؤمنين، وإذا لم يوجد حين الوصية من أهل دينكم فأشهدوا من حضر من الملل الأخرى، وقدموا أهل الكتاب على غيرهم لشمول قوله تعالى «أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» أي من أي ملة كانوا «إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ» سافرتم «فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ» فإذا أدى هؤلاء الشّهود شهادتهم ور كنتم إليها فاعملوا بها، وإلّا إذا اتهمتموهم بالخيانة أيها الأولياء والورثة فلكم أن «تَحْبِسُونَهُما» توقفونها «مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ» الأحسن أن تكون صلاة العصر لما جاء فيها من الأخبار، واللّفظ مطلق يدخل فيه كلّ صلاة مفروضة، لأن أل فيها للعهد، والقصد من تحليفهما بعد الصّلاة اجتماع النّاس ليشهدوا حلفهما ويتبينوا صدقهما من كذبهما، لأن الرجل قد يحلف وحده ويستنكف عن الحلف أمام النّاس خشية سوء سمعته، وكان أهل الحجاز قبلا يقعدون للخصومة بعد العصر، هذا إذا كانا مسلمين، وإذا كانا كتابيين أو من ملة أخرى يحلفون بالوقت وفي المكان الذي يعظمونه، ولهذا كانت اللام للعهد، إذ لو كانت للجنس لكان التحليف بعد مطلق صلاة وكأن لم يشهده أحد وفي شهوده فرية للتحليف، تدبر «فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ» أمام الجمع الغفير بحضور الورثة في أعظم محل معظم عندهما، فإذا كان بالمدينة مثلا يكون التحليف في مسجد رسول الله عند المنبر الشّريف، وإن كان في المسجد الأقصى يكون عند الصّخرة الشريفة، وإذا كان في مكة يكون بين الرّكن والمقام، وفي البلدان الأخرى في أعظم مسجد عندهم، وإن كان من الكتابيين في القدس في كنيسة القيامة، أو في بيت لحم، عند محل الولادة الشّريفة، أو في ضريح موسى عليه السّلام، أو في أعظم كنيسة أو بيعة، أو عند المبكى، وكذلك إذا كانا كافرين ففي أعظم(6/385)
محل يعظمونه وبحضور علمائهم وقسوسهم ورهبانهم وحاخامهم ورؤساهم، وهذا التحليف لا يكون إلا «إِنِ ارْتَبْتُمْ» في صدقهما وظننتم الكذب في شهادتهما ويكون اليمين بالله تعالى وحده، ويجوز أن يشدد الحلف بشيء من صفاته الجليلة، وإذا كانا كتابيين جاز توثيق حلفهما بالتوراة والإنجيل، أما الكفار فبالله فقط، لأن ما يعظمونه لا قيمة له عند الله، سواء كان إنسانا أو حيوانا أو كوكبا أو جمادا لأنها كلها أوثان لا يجوز تعظيمها بالحلف ولا بغيره، وتعظيم الزمان هنا مثل كونه بعد العصر مما يكثر فيه الجماعة، وفي المكان مثل الجوامع والبيوت المعدة لذكر الله عند أهل الأديان والصّيغة بأن يقول والله العظيم المنتقم الجبار الذي أنزل القرآن على محمد، أو التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود، أنّا نقول الحق ونشهد به «لا نَشْتَرِي بِهِ» أي اليمين الذي هو عهد الله الذي أقسمنا به «ثَمَناً» عوضا بشيء من حطام الدّنيا، ولا نحلف كاذبين بالله لأجل عوض نأخذه، أو غرض نقصده، أو شيء نرغبه، أو حق نجحده، أو خوف نهابه «وَلَوْ كانَ» المشهود له «ذا قُرْبى» منا «وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ» التي أمرنا بحفظها ونهينا عن كتمها «إِنَّا إِذاً» إن كتمناها أو شيئا منها أو أدينا هذه الشّهادة على غير ما هي، أو خنّا فيها ولم نؤدها كما سمعناها من الموصي «لَمِنَ الْآثِمِينَ» (109) عند الله المستوجبين عقوبة شهادة الزور «فَإِنْ عُثِرَ» اطلع وظهر بعد حلفهما هذا «عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً» أي عقوبة لظهور خيانتهما وبيان كذبهما (وكلّ من اطلع على أمر كتم عليه أو أخفى عنه قيل له عثر عليه «فَآخَرانِ» أي شاهدان من أولياء الميت وأقربائه «يَقُومانِ مَقامَهُما» مقام الوصيين الّذين اطلع على كذبهما في اليمين وخيانتهما فيما أوصاهما به الميت أو أشهدهما على ما أوصى به، وهؤلاء لا يكونان إلا «مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ» أي جنى عليهم من أهل الميت وعشيرته وأقربائه «الْأَوْلَيانِ» بالميت في غيرهما الأحقان بإرثه «فَيُقْسِمانِ» هذان المختصان بإرث الميت، ويجب أن يراعى فيهم الأقرب فالأقرب، لأن الله تعالى وصفهما بالأولوية «بِاللَّهِ» يحلفان به جل جلاله في الزمان والمكان والصّفة المذكورة آنفا وبتعظيم اليمين بشيء من صفات الله وكتبه(6/386)
وبحضور جماعة بعد الصّلاة، وحضور رؤساء الدين
كما مر في الشّاهدين الأولين، لأن الله تعالى قال (يَقُومانِ مَقامَهُما) أي بكل ما هو مطلوب في الشّاهدين الأولين يطلب في هذين، ثم يزيدان في حلفهما ثلاثة شروط أخر في صيغة الحلف علاوة على الشّروط المارة، وهي ما ذكرها الله بقوله عز قوله «لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما» أي أعدل من شهادة الوصيين والشّاهدين الّذين حلفا أولا، وأيماننا نحن الوليين أصدق من أيمانهما، ويقولون أيضا «وَمَا اعْتَدَيْنا» في حلفنا هذا ولم نتجاوز الحق فيه ولم نتعد الصّدق به، ويختمون حلفهم بما قاله تعالى «إِنَّا إِذاً» إن كنا كذبنا بحلفنا أو زدنا في قولنا أو نقصنا أو غيرنا شيئا فيه «لَمِنَ الظَّالِمِينَ» (107) أنفسنا وغيرنا المستحقين عقاب الله للكاذب المعتدي المتجاوز الحق «ذلِكَ» الحكم الذي ذكرناه من رد اليمين على أولياء الميت عند الاشتباه بالوصيين بعد حلفهما «أَدْنى» أقرب وأولى «أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها» بأن يؤدوها كاملة كما سمعوها دون زيادة ولا نقص ولا تغيير ولا تبديل ولا خوف ولا خشية ولا غرض ولا عوض ولا تحوير ما كما هو الواجب على جميع الشّهود في جميع الخصومات أن يكونوا كذلك «أَوْ يَخافُوا» أي وأقرب وأولى لخوف الأوصياء والشهداء الأولين في «أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ» على أولياء الميت، كما في هذه الحادثة الآتي بيانها فيفتضحون بظهور خيانتهم ويسقطون من أنظار النّاس، كما افتضح هؤلاء في الدّنيا واستحقوا عذاب الله في الآخرة كما استحقاه «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أنتم أيها الأولياء والأوصياء والشّهداء، من أن تخونوا أو تكذبوا فيما عهد إليكم به أو كلفتم بيانه «وَاسْمَعُوا» ما يعظكم الله به، وأطيعوا أمره، ولا تخرجوا عن حدوده، «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (108) المتجاوزين أمره المخالفين نهيه الحائدين عن طريق الصّواب. واعلم أن رفع (اثْنانِ) على خبر كما جرينا عليه أولى من جعله فاعلا على قول الغير إذ يحتاج إلى تقدير جملة وهي (فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان) وأولى من قراءة النّصب في شهادة، وجعل جملة (إذا حضر) ظرفا للشهادة، وجملة (حين الوصية) بدلا منه، وفي إبداله دليل على وجوب الوصية وهو كذلك حرصا على براءة الذمة فيما له وعليه، راجع الآية 8(6/387)
من سورة النّساء المارة. وخلاصة هذه الحادثة على ما روي بأن تميما الدّاري وعدي بن بدا النّصرانيين خرجا في تجارة إلى الشّام ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص فمرض فكتب جميع ما عنده في كتاب وجعله بين أمتعته وأوصى تميما وعديا أن يدفعا متاعه لأهله في المدينة، ومات رحمه الله ففتشا متاعه فوجدا فيه إناء فضة منقوشا بالذهب وزنه ثلاثمائة مثقال، وغيباه، فلما رجعا إلى المدينة دفعا متاعه لأهله، ففتشوه فوجدوا الكتاب، فقال أهل الميت لهما هل باع صاحبنا شيئا من متاعه؟ قالا لا، قالوا هل اتجر تجارة؟ قالا لا، قالوا هل طال مرضه فأنفق شيئا على نفسه؟ قالا لا، قالوا إنا وجدنا في متاعه كتابا فيه جميع ما كان معه، وقد فقدنا إناء فضة منقوشا بالذهب وزنه ثلاثمائة مثقال، قالا لا ندري به، فاختصموا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتى بهما فأصرّا على الإنكار، فحلفهما رسول الله عند المنبر بطلب الورثة فحلفا وخلى سبيلهما، لأن الكتاب بخط المتوفّى لا بخطهما، ولذلك فإن حكمه لا يسري عليهما ولا توجد بينة حاضرة غيرهما، قالوا ثم بقي ورثة الميت يتحرون على ذلك الإداء، فوجدوه بمكّة عند رجل اعترف أنه اشتراه منهما. فجيء بهما أمام رسول الله فسألهما، فقالا إنا اشتريناه من بديل قبل وفاته وبعناه إلى هذا بمكة، وإذ لم يتذرعا بهذا الوضع عند سؤالهما أولا وحلفهما على عدم وجوده عد كلامهما تناقضا مانعا من سماعه، فقد طلب حضرة الرّسول البينة من أهل الميت فتقدم عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة من أهله وورثته وحلفا بعد العصر على الصّورة المذكورة في الآية، وأن الإناء لمورثهما فدفع الإناء إليهم، وأفهم المشتري أن له حق الرّجوع باسترداد ثمنه من المذكورين، ولما أسلم بديل قال صدق الله إنا أخذنا الإناء وبعناه، فنزلت هذه الآية. الحكم الشّرعي عدم وجوب الحلف على الشّهود وعليه فيراد بهما الوصيان، وهما لا يحلفان إذ لا حلف عليهما إذا أرادا براءة ذمتهما فيحلفان ليطمئن الوارث بقولهما، فلهما ذلك، والاستشهاد مطلوب على الوصية، وهذه الحادثة لم يشهد عليها لعدم وجود أحد إذ ذاك غيرهما والموصي، ومن
زعم أن هذه الآية منسوخة على رأيه لأن شهادة الكافر لا تقبل على المسلم اقتباسا من قوله تعالى (شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) الآية 283(6/388)
من سورة البقرة فهو زعم فاسد، لأن آية البقرة مقدمة على هذه، والمقدم لا ينسخ المؤخر قولا واحدا، وقد أجمعت العلماء على أن المائدة من آخر القرآن نزولا ولا نسخ فيها البتة، وهذه الآية المصدرة بيا أيها الّذين آمنوا صرحت أولا بلفظ (منكم) بما يدل على أنه يريد المؤمنين، وفي حالة عدم وجود أحد من المؤمنين قال (من غيركم) وغير المؤمنين يدخل فيه الكتابي والكافر بما يدل على قبول شهادة غير المؤمن دلالة ظاهرة لا احتمال فيها ولا تأويل، ولهذا فإن الله تعالى أوجب الحلف على المذكورين لأن الشّاهد المسلم لا حلف عليه، وغيره يحلف للتوثق منه، وإذا جاز نصا استشهاد غير المسلم فلأن تجوز توصيته من باب أولى حرصا على محافظة الحقوق وصيانته أربابها، لأن من كان بأرض لا إسلام فيها يجوز أن يشهد أو يوصي من حضر عنده كتابيا كان أو كافرا، لأن الضّرورات تبيح المحظورات، وكما يختار المسلم على غيره عند وجوده يختار الكتابي على الكافر، قال القاضي شريح: تقبل الشّهادة في مثل هذه الحالة ولو كافرا من عبدة الأصنام.
أخرج أبو داود عن الشّعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري، فأخبراه وقدما تركته ووصيته، فقال أبو موسى هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا، وأنها لوصية الرّجل وتركته، فأمضى شهادتهما ولأنه لو لم يشهد في مثل هذه الحالة من حضر عنده من النّاس أيا كان يضيع المال ولربما كان له ديون أو عليه أو عنده وديعة أو أمانة فيسبّب عدم الإشهاد ضياع ذلك، ولهذا فلا مانع شرعا من ذلك، بل يطلب أن يشهد أو يوصي غير المسلم ولو كان وثنيا على وصيته عند الحاجة. مسألة: إذا ادعى الوصي أن الميت باعه شيئا من متاعه أو أوصى له به أو وهبه إياه ولا شهود لديه على ذلك، والورثة تنكر، فيحلف الوصي على ذلك، ثم ترد اليمين على الورثة الأدنياء من الميت، فإذا حلفوا على كذب الوصي الموصى له بذلك الشّيء أخذوا المال المدعى بيعه أو هبته أو الوصية به، وإذا فكلوا ترك الموصي، وهذا تصوير ما جاء(6/389)
في هذه الآية لأن تميما وعديا بعد أن وجد الإناء ادعيا أنهما اشترياه من الميت ولا بينة لهما، فلذلك حلف الورثة على أنه ملك مورثهما وأنهما لم يعلموا بأنه خرج من ملك مورثهم بوجه من الوجوه الشّرعية. واعلم أن هذه الآية وأوائل سورة البينة والآية 73 من آل عمران المارتين من أصعب ما في القرآن العظيم نظما وأعرابا وحكما فكانت من أصعبها تفسيرا أيضا. قال تعالى واذكر لقومك يا سيد الرّسل «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ» يوم القيامة للسؤال «فَيَقُولُ» جل قوله لهم «ماذا أُجِبْتُمْ» من قبل أممكم حينما دعوتموهم في الدّنيا الى توحيدي وطاعتي وهذا الاستفسار بقصد التوبيخ لأقوامهم الّذين لم يلبوا دعوتهم، وإلّا فهو عالم بمن أجاب ومن اعرض «قالُوا لا عِلْمَ لَنا» يا ربنا «إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» (109) تعلم بما كان منهم وإنما اختاروا السّكوت عن البيان مع أنهم يعلمون بعض أحوال أممهم أدبا مع الله عز وجل، ولعلمهم بإحاطة علمه بكل شيء قد فوضوا الأمر اليه لأنه لا يعرّب عن علمه شيء مما عمله أقوامهم ولا شيء مما عملوه هم أيضا لأجلهم، وانهم وان كانوا اطلعوا على بعض ظواهر أممهم فانهم لا يعلمون بواطنهم وهو جل شأنه حليم لا يسفه وعادل لا يظلم، وانّ إجابتهم لا تدفع في ذلك اليوم عن أممهم شرا ولا تجلب لهم خيرا ما لم تتعلق به المشيئة فكأنهم قالوا لا حقيقة لعلمنا إزاء علمك البالغ ولا نعلم حقيقة أفعالهم وأقوالهم تجاه علمك بذلك حال حياتنا معهم ولا ما أحدثوه بعد وفاتنا فعلم ذلك كله مختص بعلمك. واذكر يا أكمل الرّسل لأمتك «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ» إذ أنبتها نباتا حسنا وطهرتها واصطفيتها على نساء زمانها وهذا أول نعمة أنعمتها عليك إذ أخرجتك منها و «إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ» جبريل عليه السّلام حالة كونك «تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ» وأنت طفل أنطقتك ببراءة أمك مما وصمها به قومك «وَكَهْلًا» تكلمهم أيضا بما أعطيتك من المعجزات وأنزلت عليك الآيات، وشرفتك بالرسالة لتدعو قومك حال بلوغك سن الكهولة إلى الإيمان بك من غير تفاوت في كلامك من حيث الفصاحة في هذين الوقتين، وهذا من جملة ما خصصتك به «وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ» الإنجيل الذي أنزلته عليك بعد أن(6/390)
علمتك الكتابة والقراءة تتلو عليهم، وقيل إنه علمه كتب الأولين النّازلة على الأنبياء قبله لأن فيها التوراة، مع أن التوراة ستأتي بعد، ولهذا فالأحسن الإيراد بالكتاب هنا الكتابة بالقلم «وَالْحِكْمَةَ» الفهم والاطلاع على أسرار العلوم والعالم والكلام الصّائب المحكم وحقائق الأشياء «وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» قراءة وتلقينا ولفظ الكتاب يطلق على التوراة والإنجيل والزبور والقرآن فقط حقيقة، ومجازا على جميع الكتب والصّحف، ومن المعلوم أن ما قبل التوراة كلها صحف لا كتاب قبلها البتة، لهذا فإن تأويل الكتاب بكتابة القلم أولى «وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ» خلقا تصوره بيدك «كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي» لك في ذلك وتعليمي إيّاك تقوية لدعوتك «فَتَنْفُخُ فِيها» في
الصّورة التي صورتها من الطّين على هيئة الطّير ويجوز إعادة الضّمير إلى الطّير لأنها مؤنثة. قال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) الآية 19 من آل عمران المارة تذكير الضّمير، وهناك يعود إلى الكاف من قوله لكم أو إلى الطّين والمراد الشيء المماثل لهيئة الطّير «فَتَكُونُ» تلك الصورة المنفوخ فيها «طَيْراً بِإِذْنِي» بأمري وكرره تأكيدا لكونه وقع وصار كما أراد بتوفيق الله تعالى وقدرته لا بتخليق عيسى ومعرفته، لأن المخلوق لا يخلق وأن التصوير بغير الرّوح لا يسمى خلقا «وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ» مطموس العينين ولادة، فكأن عليه السّلام تعلم ذلك بتعليم الله إياه وأمره أن يشق له موضع عينيه فتكون له عينان يبصر بهما كغيره من الحيوان بلا فرق «وَالْأَبْرَصَ» تبرأ أيضا بمجرد مسحك إياه «بِإِذْنِي» وأمري «وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى» من قبورهم أحياء، كما صح أنه عليه السّلام نادى ساما بن نوح عليه السّلام من قبره فقام، راجع الآية 50 من آل عمران المارة، مع أنه مرّ على وفاته آلاف السّنين وأحيا العازر، وابن العجوز، وبنت العشار، وغيرهم ممن مات حديثا ودفن، ولا فرق في ذلك، لأن الله تعالى يقول كان ذلك «بِإِذْنِي» وإذا كان بإذنه وأمره فيستوى عنده القديم والحديث، والبالي والباقي، فهو الفاعل الحقيقي لهذه الأشياء، وإنما أجراها على يد رسوله عيسى عليه السّلام معجزة له وعدها من جملة نعمه عليه في الدّنيا «وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ» حين أرادوا(6/391)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
قتلك إذا دلهم عليك صاحبك المنافق وجاء بهم عليك ليقتلوك فمنعتهم أن يصلوا إليك ورفعتك إلى السّماء وألقيت شبهك على ذلك المنافق فقتلوه بذلك جزاء وفاقا لجرمه، هذا في الدّنيا وصلبوه إهانة له، وسيكون جزاؤه في الآخرة أشدّ وأفظع، ثم رفعتك إلى السّماء وأقمتك فيها لانتهاء مدتك الأولى في الأرض، راجع الآية 54 من سورة آل عمران المارة، وما كانت عداوة بني إسرائيل معك «إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ» العجيبة والآيات الباهرة الغريبة المثبتة لصدقك فكفروا بها حسدا وعدوانا وتمسكا بتقاليدهم لبقاء الرّياسة لهم «فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ» بتلك الآيات «إِنْ هذا» الذي جئت به ليس بحقيقة وما هو «إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» (110) وذلك أن الله تعالى طبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم فلم يميزوا بين الحقيقة والخيال عنادا وعتوا، تنبه هذه الآية تدل على قبح من يقول بإلهية عيسى، لأنه من جملة عباد الله، وأن ما فعله من المعجزات كان بفعل الله وإقداره عليها، وتدل على أنه كان عبد الله ورسولا له، ليس إله، ولا ابنا للإله، وأن أمه كسائر النساء، وإنما اختصها بما يكرمها ويفضلها على غيرها. وتشير إلى أن ما نسب إلى عيسى جرم عظيم لا يوازيه جرم من كذّب الرّسل فقط، لأن تكذيبهم طعن فيهم، وهذا طعن في الله تعالى لو صمه باتخاذ الولد والزوجة والشّريك تبرأ عن ذلك وتنزه.
واذكر لقومك يا حبيبي قصة أخرى مما يتعلق بعيسى أيضا وهي «وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ» أصحاب عيسى فالهمتهم وقذفت في قلوبهم «أَنْ آمِنُوا بِي» أنا الله ربكم ومالك أمركم «وَبِرَسُولِي» عيسى كما آمن الّذين من قبلكم بأنبيائي «قالُوا آمَنَّا» استجابة لما ألقيته في روعهم، ثم قالوا معلنين تمكين إيمانهم يا ربنا «وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ» (111) لك منقادون إلى عظمتك والحواري الصّفي والخاصّة والوزير والأمين والخليفة، روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: ندب النّبي صلّى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال صلّى الله عليه وسلم إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير بن العوام رضي الله عنه أي صفيه وخاصته، وقد أخبر صلّى الله عليه وسلم بأنه يقتل، فقال بشر قاتل الزبير بالنار، وقتل رضي الله عنه في حادثة الجمل قبل البصرة ودفن هناك، وقبره يزار بالتعظيم والإجلال حتى الآن، وقد(6/392)
تشرفت بزيارته رضي الله عنه، وسميت البلدة التي دفن بها باسمه، وهذا أيضا من معجزات سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم وإخباره بالغيب الذي أطلعه الله عليه. واذكر لقومك يا سيد الرّسل «إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ» خوانا عليه طعام إذ لا يسمى الخوان مائدة إلّا وعليه الطّعام، وإلّا فهو خوان أو سفرة أو طبق أو طاولة «قالَ» عيسى عليه السّلام «اتَّقُوا اللَّهَ» يا قوم في سؤالكم هذا، لأنه اقتراح على الله، وقد علمتم ما فعل الله بالمقترحين عليه، لأن طلبكم هذا بعد ظهور المعجزات المذكورة، وبعد وجودي أنا من غير أب، وهو أكبر معجزة عبارة عن تعنّت يستوجب غضب الرّب عليكم، فانتهوا عن هذا يا أصحابي وتدبروا العاقبة وخذوا عبرة من الّذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات كيف فعل الله بهم، فأعرضوا عن هذا «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (112) بالله وإياكم أن تركنوا إليه، واعلموا أنكم إذا أصررتم على هذا تكونون ممن يشك بقدرة الله القادر على إجابة طلبكم. وإنما خوفهم وحذرهم لأن هذا لم يسأله أحد من الأمم قبلهم، وانه مما تخشى عاقبته، لأن قوم صالح اقترحوا على نبيهم شيئا لم يقترحه أحد قبلهم، فكانت عاقبتهم الدمار، قال بعض المفسرين إن طلبهم هذا جاء على حد قوله تعالى فيما حكاه عن إبراهيم عليه السّلام (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) الآية 263 من البقرة المارة، لأنهم كانوا عارفين بالله مقرين بكمال قدرته على أنه لا مانع من إجراء الآية على ظاهرها كما يؤيده قوله تعالى «قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها» حيث لحقنا الجوع والحال ليس بهم من جوع ولكن يريدون معرفة حق اليقين بعد أن علموا من نبيهم علم اليقين، ومما يدل على عدم وجود الجوع أمرهم بالصيام كما سيأتي «وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا» بقدرة الله فنزداد يقينا «وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا» عيانا ومشاهدة كما علمناه غيبا واستدلالا «وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ» (113) لمن وراءنا من بني إسرائيل ولله بكمال القدرة ولك بالقرب من ربك أكثر ممن تقدمك من الرّسل ولأنفسنا بالتصديق البالغ، فلما رأى إصرارهم وإجماع كلمتهم على ذلك أمرهم عليه السّلام بصيام ثلاثين يوما وقال لهم إذا أفطرتم بعدها فلا تسألوا الله شيئا إلّا أعطاكم إياه، ففعلوا.(6/393)
مطلب في نزول المائدة وما قاله عيسى عليه السّلام لطالبيها وما أجاب به ربه عند سؤاله عما عزى إليه قومه:
وعند ذلك «قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً» نتخذه من عوائد برك وإحسانك وجودك وكرمك خاصّا «لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا» ممن يأتي بعدنا عاما «وَآيَةً مِنْكَ» لنا دالة على كمال عظمتك وبالغ قدرتك وتصديقا لنبيك «وَارْزُقْنا» هذه المائدة وألهمنا الشكر عليها «وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (114) لأنك ترزق بغير حساب وتعطي بغير مسألة، فاستجاب الله تعالى له حالا بدلالة عدم وجود العطف على دعائه، بما يدل على عدم التراخي، إذ «قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ» قالوا نزلت يوم الأحد، واتخذه النّصارى عيدا بدل السّبت من ذلك اليوم «فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ» إنزال هذه المائدة ومشاهدتها والأكل منها «مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» (115) قبلكم ولا بعدكم لأنه آية حسيّة ملموسة لا يمكن أن يقال إنها سحر أو غيره، ولأنها وقعت عن اقتراح، وقد جرت عادة الله بتعذيب المقترحين إذا لم يؤمنوا تعذيب استئصال، قالوا فجحدها جماعة من بني إسرائيل وكفروا بها فمسخوا خنازير، خزيا لهم وهوانا، وهو عذابهم الدّنيوي والعذاب الأخروي مخبوء لهم، وهو أشد وأفظع خزيا ومهانة، فكانت وبالا على المنكرين، وفاز من صدق بصحبة نبيه، ونجا مما حل بهم. ولا وجه لقول من قال إن المائدة لم تنزل، لأن الله تعالى قال (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) أي إن أردتم لأن قول الله هذا من قبيل الوعد وهو لا يخلف الميعاد، والذي ينكر هذه ينكر نتق الجبل على بني إسرائيل أيضا، لأنه كان معلقا على قبولهم الأخذ بالتوراة أخرج الترمذي عن عمار بن ياسر قال: قال صلّى الله عليه وسلم أنزلت المائدة من السّماء خبزا ولحما، وأمروا ألّا يخونوا ولا يدخروا، ولقد خانوا وادخروا ورفعوا للغد، فمسخوا قردة وخنازير. وقال عبد الله بن عمر: إن أشد النّاس عذابا يوم القيامة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون أي لقوله تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) الآية 140 من النّساء المارة، وقوله في آل فرعون(6/394)
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) الآية 47 من سورة المؤمن ج 2، ولقوله في أصحاب المائدة (عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) الآية المارة، قال ابن عباس نزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها وهي تهوي إليهم منقضة حتى سقطت بين أيديهم، فلما رأوها لا تشبه موائدهم قال شمعون أكبر الحواريين أمن طعام الدّنيا يا روح الله؟ قال لا من طعام الدّنيا ولا من الجنّة، ولكنه شيء اخترعه الله لكم، فكارا مما سألتم واشكروا الله يزدكم، قالوا كن أول من يأكل، قال إنما يأكلها من سألها، فخافوا أن يأكلوا منها، فدعا إليها أهل الفاقة والمرض، فأكل منها ألف وثلاثمائة رجل وهي بحالها ثم طارت وهم ينظرون إليها حتى توارت صعودا، قال الكلبي ومقاتل أنزل الله سمكة وخمسة أرغف فأكلوا منها ما شاء الله، فلما نشروا الخبر ضحك من لم يشهدها وقالوا سحركم، فمن أراد الله به خيرا ثبّته، ومن أراد فتنته رجع إلى كفره، فمسخوا، قالوا وليس فيهم صبي ولا امرأة، وبعد ثلاثة أيّام هلكوا، وكذلك كلّ ممسوخ، قالوا والسّبب في تسميتهم حواريين إنهم كانوا قصارين أي صباغين، وان مريم عليها السّلام كانت وضعت عيسى عند رئيسهم ليتعلم منه، وكان عرض له سفر فقال يا عيسى إنك قد تعلمت هذه الصّنعة وهذه ثياب قد علمت عليها بخيط من جنس الذي تصبغ به، وهذه أواني الصّبغ ودتان مختلفة بحسبها فأريد أن تصبغ كلا منها في دنه بمقتضى اللّون المطلوب، وان تفرغ منها قبل قدومي، وتركه وذهب، فقام عيسى فطبخ دنا واحدا بلون واحد ووضع الثياب كلها فيه، وقال كوني بأمر الله على ما أريد منك من الألوان مثل ما قال المعلم فقدم معلمه وقال له ماذا عملت بالثياب؟ قال فرغت منها وهي هذه كلها في جب واحد، قال أفسدتها وسببت لي خصومة أهلها، قال عيسى لا، ثم أخرجها فإذا هي كما أراد: الأصفر أصفر، والأحمر أحمر، والأخضر أخضر، والأسود أسود، فتعجب المعلم من ذلك وعلم أن هذا من الله، فآمن به هو وأصحابه وأظهروا معجزته للناس. وقيل سموا حواريين لصفاء قلوبهم. واذكر يا محمد لقومك أيضا «وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي(6/395)
وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ»
فبادره
عيسى بكلمة التبري «قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ» قولا «ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ» أن أقوله وكيف يكون ذلك مني وأنا عبد محتاج لا أستحق العبودية، ولا حاجة لتقديم المعذرة في مثل هذا اليوم العظيم، لأن المقام مقام تواضع وخشوع إلى جلالك وإني «إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ» كما قيل عني «فَقَدْ عَلِمْتَهُ» يا رب وهذا جواب على غاية من الأدب ونهاية من الاحترام وبعيد في المسكنة، إذ فوض الأمر المسئول عنه إلى ربه لعلمه أنه عالم به في الأزل وعالم بما قاله وعمله منذ خلقه إلى يوم سؤاله فما بعد ذلك، ولهذا قال «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ» لأنك تعلم حقيقة أمري ولا أعلم حقيقة أمرك، وهذا من الفصاحة بمكان لأنه وقع على طريقة المشاكلة والمطابقة، ثم أكد قوله هذا بقوله «إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» (116) مما كان وسيكون من مبدأ الكون إلى نهايته وما بعد ذلك إلى الآخرة وما يكون فيها. وبعد أن مهّد جوابه هذا إلى ربه واستأنس من جبروته بما وفق إليه من الجواب قال يا رب وعزتك «ما قُلْتُ لَهُمْ» شيئا من نفسي «إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ» من الوحي الذي شرفتني به وهو «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ» لا تشركوا به غيره «وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ» مقيما أراقبهم على أعمالهم وأقوالهم وأنصحهم وأرشدهم لتوحيدك والإصلاح بين النّاس «فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي» بانقضاء أجلي في الدّنيا أولا ورفعي إلى السماء إذ نجيتني من كيد اليهود «كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ» من بعدي كما كنت رقيبا علي وعليهم وعلى الخلق أجمع من قبل «وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (117) في الدّنيا والآخرة لا يغيب عنك عمل عامل من خلقك ولا شيء من أمرهم الآن وفيما مضى ويأتي، ثم لما أطلعه على ما وقع منهم من المخالفات لتعاليمه أحجم عن الدّفاع عنهم وقال متضرعا يا رب قد وقع منهم ذلك وأنت أولى بهم من «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ» على ما صدر منهم وهم مستحقون العذاب «فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ» وقد جحدوا آياتك وكذبوا رسلك وافتروا عليك وعلي وأنت الحكم المقسط بمن يكفر بعد ظهور دلائل الإيمان له ووجود الحجة عليه بعد ظهور(6/396)
المحجة، وهم الآن معترفون بما وقع منهم إذ لا يقدرون على دفع ما تنزله فيهم من العذاب ولا رفع ما وجب عليهم من العقاب كما كانوا عاجزين قبل بل هم الآن أعجز «وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ» كفرهم وتطاولهم وبهتهم ومخالفتهم فبفضل جودك ولطف رحمتك وعطفك على عبادك، وأنت الذي لا تسأل عما تفعل ولك تعذيب الطائع وتنعيم العاصي وما هذا عليك بعزيز «فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ» الذي لا عزيز غيرك الغالب الذي لا يفلت أحد مما تريده به «الْحَكِيمُ» (118) بأفعاله بعباده.
واعلم أن هذا القول من الله تعالى إلى عيسى يوم القيامة بدليل قوله (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ) الآية الآنفة وبدليل سياق الآية نفسها لأنها بلفظ الاستفهام الإنكاري تقريعا لمن ادعى ذلك في عيسى وألصق به ما هو براء منه وتوبيخا لهم على رءوس الأشهاد، ووجه السّؤال تثبيت الحجة على قومه وتكذيبا لادعائهم بإلهيته وإن من قال بإلهيته قال بإلهية أمه على سبيل التبعية لأنها ولدته وقال بأن الله ثالث ثلاثة أيضا، ولا يقال بعدم لياقة طلب المغفرة من عيسى عليه السّلام لقوم كافرين، لأن قوله ذلك ليس على طريق المغفرة ولو كان لقال (إنك أنت الغفور الرّحيم) لأن هاتين الصّفتين لائقتان بهما ولكنه قال ذلك على طريق تسليم الأمر لله وتفويضه لمراده، ولهذا قال (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إذ يجوز في الحكمة عدم تعذيب الكافر، ومما يرد قول القائل إن هذا السّؤال وقع من عيسى عليه السّلام عند رفعه إلى السّماء قوله تعالى «قالَ اللَّهُ هذا» اليوم الذي وقع فيه هذا القول، لأن الإشارة تكون لأقرب مذكور، ولم يأت ذكر لرفعه هنا البتة، فمن جوّز إعادة الضّمير إليه أي أعاد اسم الإشارة إلى يوم الرّفع نصب كلمة «يَوْمُ» وأراد أن هذا القول من الله إلى عيسى يوم رفعه وليس بشيء لمنافاته السّياق والسّباق ولإجماع القرّاء على رفع كلمة يوم، أي يوم القيامة يوم سؤال الخلق عما كان منهم، بدليل قوله جل قوله «يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ» الواقع منهم في الدّنيا فإنه ينفعهم في هذا اليوم يوم الآخرة إذ لا يكون النّفع الحقيقي إلّا فيه، لأنه هو يوم الجزاء. أما احتجاج القائل بأن هذا كان عند الرّفع مستدلا بقوله تعالى «إِذْ» بصدر الآية لأنها للماضي ولم يعلم أنها تأتي بمعنى (إذا) فتكون للمستقبل،(6/397)
قال تعالى (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) الآية 51 من سورة سبأ في ج 2، وهذا الفزع الذي لا فوت منه إنما يقع يوم القيامة، قال الرّاجز:
ثم جزاك الله عني إذ جزى ... جنّات عدن في السّموات العلى
أي إذا جزى، ولا يكون هذا الجزاء إلّا يوم القيامة، ومما يرد هذا القول ويؤيد ما مشينا عليه قوله تعالى «لَهُمْ» أي الصّادقين في ذلك اليوم «جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» ولا يكون هذا الخلود في تلك الجنّات إلّا في الآخرة «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ» أي أهل الجنّات بطاعتهم له في الدّنيا «وَرَضُوا عَنْهُ» بما من عليهم وأعطاهم من عظيم ثواب وجزيل كرامة في الآخرة «ذلِكَ» الأجر الجزيل والخير الكثير هو «الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (119) الذي ما فوقه فوز ونجاح كبير ما فوقه نجاح «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ» من مخلوقات يتصرف فيهم كيف يشاء ويريد كما يتصرف فيهما مثل ما يريد ويختار، وهو المستحق للعبادة وحده، وأن عيسى وأمه ومن في الأرض والسّموات وما بينهما جميعا عبيد خاضعون لعظمته، منقادون لقهره، «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (120) لأن جميع المكونات النّامية والجامدة تحت قدرته، وله أن يدخل من يشاء في رحمته ويوصل من يشاء إلى ملكوته، ويقطع من يشاء عن ملكه. ويمنع من يشاء من عطفه، وأن عيسى وغيره من جملة عباده الداخلين تحت قدرته إذ لا شيء في الكون علويه وسفليه إلّا وهو في قبضته سبحانه هو الواحد القهار، قال قتادة، متكلمان لا يخطئان يوم القيامة عيسى عليه السّلام لأنه يقوم فيقول ما قصّ الله عنه في هذه الآيات فكان صادقا في الدّنيا والآخرة فينفعه الله بصدقه، وأما المتكلم الآخر فهو إبليس عليه اللّعنة فإنه يقوم فيقول ما ذكر الله عنه في الآية 33 من سورة إبراهيم عليه السّلام المارة في ج 2 التي أولها (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) إلخ فقد صدق عدو الله بما قال، ولكن لم ينفعه صدقه. روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النّبي صلّى الله عليه وسلم تلا قوله عز وجل في إبراهيم عليه السّلام ما ذكر الله عنه في قوله (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ» الآية 36 من سورته في(6/398)
ج 2 وقول عيسى عليه السّلام (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) إلخ الآيتين المارتين أعلاه، وقال اللهم أمّتي أمّتي، وبكى، فقال الله تعالى يا جبريل اذهب إلى محمد (وربك أعلم) فسأله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل فسأله، فأخبره صلّى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك فيهم. وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قام حتى أصبح بآية إن تعذبهم فإنهم عبادك) إلخ، أخرجه النّسائي أي أنه عليه السّلام قام يصلي اللّيل كله يقرأ في صلاته هذه الآية وما ذاك إلّا لشدة حرصه على نجاة أمته صلّى الله عليه وسلم الّذين سيباهي بهم الأمم يوم القيامة، والذي تحمل مشاقا عظيمة في سبيل هدايتهم لسلوك الحق الذي يوصلهم إلى رحمته ورضاه، ولهذا فإنه حينما أرسل له الملك (على أثر ما عملوا به عند ذهابه لثقيف كما ذكره قبل) واستأذنه بأن يطيق عليهم الأخشبين قال لا يا رب بل اهد قومي فإنهم لا يعلمون، وإني لأرجو أن تخرج من أصلابهم من يتولى بيتك. وكان ذلك والحمد لله بتوفيقه جل توفيقه. هذا، والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة التوبة- براءة عدد 27- 113 و 8
نزلت بالمدينة بعد المائدة، وهي مئة وتسع وعشرون آية، وأربعة آلاف وأربعمائة وثمانية وثمانون حرفا، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا مثلها في عدد الآي، وتسمى سورة براءة، ولم تبدأ بالبسملة، ولم تكتب بأولها خلافا لسور القرآن العظيم كلها، لأن حضرة الرّسول لم يأمر كتبة الوحي بذلك، ولم يؤمر بكتابتها حين أنزلت عليه من ربه عز وجل بواسطة الأمين جبريل عليه السّلام، وهو لا يأمر كتبة الوحي إلّا بكتابة ما أنزل عليه، فلا ينطق عن هوى، ولا يأمر إلّا بما يأمره به ربه، ولا يفعل إلّا ما يريده منه.
هذا، وما قيل إنها لم تبدأ بالبسملة لأنها سورة عذاب وقد أنزلت بالسيف وإنذار الناس بقطع المعاهدات، والبسملة تدل على الرّحمة لأنها شعار لها وهي أمان من(6/399)
العذاب والقتال وافتتاح لكل خير واسم الله تعالى يدل على السّلام وإنما جاءت ينبذ العهود المعقودة مع الكافرين وتهديدا لهم بالحرب والقتل، يرده أن البسملة كتبت أول المطففين والهمزة وقد بدأتا بالويل، وأين الويل من الرّحمة، وكتبت أول سورة المنافقين والكافرين وشتان بينهما وبين الرّحمة، لهذا فإن ما جرينا عليه من أنها أنزلت هكذا بلا بسملة، وأن حضرة الرّسول أفرها وأمر بإثباتها في الصحف على ما هي عند الله تعالى، وهذا هو الصّواب، لأن القراء والعلماء اتفقوا على جواز قراءة البسملة عند تلاوة (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ) الآية 37 الآتية وأمثالها، وكان صلّى الله عليه وسلم يكتب للمحاربين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وإنّ ترك كتابتها هنا وإثباتها في سورة النّمل دليل على أنها آية مكررة في القرآن العظيم حيث أنزلت كتبت، وحيث لم تنزل لم تكتب، وهذا هو الصّحيح كما ذكرناه في المقدمة في بحث البسملة فراجعه.
مطلب عدم صحة القول بانها والأنفال سورة واحدة لعدم الفصل بينهما بالبسملة وعدد غزوات الرّسول وما هي:
وما قيل إن سورة التوبة وسورة الأنفال سورة واحدة ولذلك لم تكتب البسملة أولها اكتفاء بالبسملة أول الأنفال قيل لا يرتكز على نقل صحيح ولا دليل واضح، ولا يستند لقول ثابت يوثق به، لأنهما لو كانتا سورة واحدة لنزلتا دفعة واحدة معا ولأمر الرّسول بضمهما بعضهما بعض لأن مجرد وضعها تحت الأنفال لا يدل على أنها منها، لأن وضع السّور بمواضعها الموجودة الآن بالمصاحف بحسب ترتيب القرآن أمر توقيفي من قبل حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم بإشارة من جبريل عليه السّلام على نسق ما هو مدون في اللّوح المحفوظ عند الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولهذا فإن الحق أنهما سورتان منفردتان نزلت كلّ واحدة منهما على حدة، وبينهما سبع سنين، لأن الأنفال نزلت بعد البقرة عقب حادثة بدر، وهذه من آخر القرآن نزولا. هذا وإن كثيرا من المفسرين والقراء قالوا إن سورة الضّحى والانشراح سورة واحدة، والفيل وقريش واحدة، وقد وضع لكل منهما البسملة مع أن كلا منهما نزلت بعد الأخرى، ويوجد بينهما ارتباط في(6/400)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
المعنى أيضا، ووضعت البسملة لكل منهما، إذا فلا دليل لمن قال إنهما سورة واحدة إلا اشتباهه بالتوبة بحسب ترتيب القرآن تحت الأنفال وعدم وضع البسملة أولها، ولم يعلم أنها نزلت بلا بسملة، ولم يدر مدى المدة الكائنة بينهما بحسب النّزول، وغاب عنه أن لكل منهما اسم على حدة، فنلك الأنفال لا غير، وهذه لها عشرة أسماء: براءة لما فيها من التبري ونبذ العهود، والتوبة إذ تسبب فيها على المخلفين، والفاضحة لأنها فضحت أحوال المنافقين، والمقشقشة لأنها قشقشت النّفاق أي برأت منه، والمبعثرة لأنها تبعثر أي تبحث عن أحوال المنافقين، والكافرين، وسورة العذاب لما فيها من كثرة ذكره والمخزية لما جاء فيها من إخزاء المنافقين، والمدمّرة لما ذكر فيها من إهلاكهم، والمشرّدة لأنها شردت جموعهم وأتباعهم، والمثيرة لأنها أنارت أي أظهرت معاينهم وكشفت أسرارهم وهتكت أستارهم.
هذا ويكره ابتداؤها بالبسملة لأنها نزلت بغيرها، ولأن حضرة الرّسول لم يبسمل عند قراءتها، ولم يثبت لها البسملة بالصحف ولم يأمر الكتبة بذلك، وقد خصت بعدمها من جميع سور القرآن، وما عموم إلّا وخصص، فهذه من المخصوصات بعدم البسملة، ولكن يسن للقارى أن يتعوذ أولها كسائر آيات القرآن لقوله تعالى:
(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) الآية 99 من سورة النّحل في ج 2.
قال تعالى يا أيها النّاس هذه «بَراءَةٌ» قاطعة حاسمة «مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (1) وقد جاء الخطاب فيها بلفظ الجمع تعظيما لسيد المخاطبين وتفخيما لمقامه الكريم عند الله، وإذ كان الإنذار بإنهاء العهود الكائنة مع حضرة الرّسول والكافرين، ينذرهم بالغزو والإقسار على الإيمان، رأينا أن نذكر أولا غزوات حضرة الرّسول التي جاء ذكرها في القرآن العزيز ليطلع عليها القارئ ويعرف أسبابها وماهياتها ونتائجها، وهي اثنتا عشرة غزوة: الأولى غزوة بدر التي نوه الله بها في الآية 6 من الأنفال عند قوله تعالى (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) إلخ، الثانية غزوة أحد الملمع إليها في الآية 140 من آل عمران عند قوله تعالى (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) إلخ، الثالثة غزوة حمراء الأسد المشار إليها في الآية 173 من آل عمران أيضا عند قوله تعالى (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ)(6/401)
الآية، الرابعة غزوة بدر الصّغرى المعزو إليها في الآية 174 عند قوله تعالى (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) الآية من آل عمران أيضا، والخامسة غزوة بني النّضير المذكورة في الآية الثالثة من سورة الحشر المارة عند قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الآية السّادسة غزوة الأحزاب المسطورة في الآية 10 منها عند قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) فما بعدها من سورة الأحزاب المارة، السابعة غزوة بني قريظة المرموز إليها في الآية 27 من سورة الحشر أيضا عند قوله تعالى (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) الآية، الثامنة غزوة الحديبية المذكورة في الآية 11 من سورة الفتح عند قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) الآية، التاسعة غزوة خيبر المبينة في الآية 19 من سورة الفتح أيضا عند قوله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) الآية، العاشرة غزوة فتح مكة المستفتح بها أول سورة الفتح أيضا وفي الآية 11 من سورة الحديد ما يتعلق بها عند قوله تعالى (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) الآية، الحادية عشرة غزوة حنين الآتي ذكرها في الآية 27 من هذه السّورة عند قوله تعالى (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) الآية، الثانية عشرة غزوة تبوك التي تبيّن في الآية 119 من هذه السّورة أيضا عند قوله تعالى (لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) الآتية أيضا، وقد بينا هذه الغزوات وأسبابها وزمانها ومكانها وما حدث فيها في المواضع المذكورة فراجعها تقف على ما تريده، وقد وقعت بينها غزوات كثيرة لم يشر الله تعالى إليها في كتابه هذا فمن أراد الاطلاع عليها فليراجع كتب السّير وأجمعها السّيرة الحلبية، وأجودها سيرة ابن هشام، يجد فيهما ما يخطر بباله، وقد بعث صلّى الله عليه وسلم سرايا جمة برياسة بعض أصحابه رضي الله عنهم، وكلها لصد العدوان وقمع التعدي ودفع الأعداء والعداء، وتأمين سير الدّعوة المحمدية وإعلاء كلمة الله تعالى وبسط دينه القويم في أرضه وقد جنح صلّى الله عليه وسلم إلى سلم من سالم ومعاهدة من طلب المعاهدة، وعدل عن القتال في مواضع كثيرة أملا بدخولهم في الإسلام طوعا وقد كان ذلك فآمن من كتب الله له الإيمان، حتى إذا لم يبق له طمع بايمان الآخرين إلا بالسيف وفاقا لمراد الله تعالى وطبقا لما هو مدون في أزله، وقد آذنه الله تعالى(6/402)
بالقتال فاضطر لمقاتلتهم لقصد إصلاح المجتمع الإنساني وحفظا لكيانه من التفرق الذي نهى الله عنه، وليحملهم على كلمة الإسلام وتوحيد كلمتهم وعبادتهم لله تعالى ورفض الأوثان كافة، وقد كان صلّى الله عليه وسلم باذلا جهده مفرغا وسعه منذ بعثته إلى نزول هذه السورة في دعوتهم ونصحهم وإرشادهم إلى الدّين الحق وإخلاصهم فيه باللين والعطف مع تحمل الأذى والجفاء منهم ورميهم له بما لا يليق بجنابه وبالحضرة الإلهية ورغم ذلك كله وما قام به من الطّرق الأخرى الحكيمة وزيادة خفض الجانب لهم مع تعديهم عليه فعلا، فقد شرع المنافقون ينشرون الأراجيف بين النّاس ويثبطونهم عن ملازمة الرّسول ليقلوا من عزمهم ويثلوا جمعهم ويفرقوا كلمتهم وينقصوا حزمهم ويفلوا عزمهم ويمنعوهم من متابعة الرّسول صلّى الله عليه وسلم، وطلق المشركون ينقضون عهودهم مع رسول الله دون سبب وصاروا يناوءون حضرته لما رأوا أفعال المنافقين وصبره عليهم وردهم بالحسنى لما يسمعه منهم ويقابل جرأتهم بالرقة وأنفتهم باللطف وعنادهم بالمسايرة وعتوهم بالمداراة، لأنه صلى
الله عليه وسلم لا يتحرك بحركة إلّا بأمر الله تعالى الذي يترقبه بفارغ الصّبر، ويريد أن يحين الأجل المقدر لأمره بقتالهم، ولكنه مفوض أمره وأمورهم إليه، وجعل علمه تعالى بحاله كافيا عن سؤاله أسوة بجده خليل الله إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام، وهو يعلم بتعليم الله إياه أن لا حركة ولا سكون إلا بتقديره وقضائه، ولكل أجل كتاب، ولما حان ذلك الوقت المرتقب وبرز من عالم الغيب إلى عالم الشّهادة ومن القوة إلى الفعل أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم في هذه السّورة ينقض جميع العهود التي عقدها معهم لئلا ينسب إلى الغدر ونكث العهد وفك الميثاق على حين غفلة، ونفي اسم الإغرار والتغرير عنه وعن أصحابه، وقطع المعذرة في إيمان من يريد الإيمان أنذرهم إنذارا قاطعا لكل حجة إنذارا ما بعده إنذار وحجة ما بعدها حجة، ومن أنذر فقد أعذر. وقد أمهلهم الله تعالى مدة كافية ليختاروا الطّريق الذي يرضونه لأنفسهم لئلا يقولوا أعجلنا وضيق علينا الأجل، فقال جل قوله «فَسِيحُوا» أيها المشركون والمنافقون «فِي الْأَرْضِ» آمنين مطمئنين على أنفسكم وأموالكم وأعراضكم وبلادكم وذراريكم وإمائكم لا يعارضكم معارض ولا ينازعكم منازع مدة «أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» لا مدة لكم بعدها وهي كافية لأن تتحروا وتتذاكروا وتتشاوروا وتلموا شعئكم وتجمعوا شملكم وتتعاهدوا وتتواثقوا(6/403)
وتتعاقدوا بعضكم مع بعض وتعملوا كلّ ما تريدون من خير أو شر «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ» أيها الكافرون والمنافقون مهما كنتم ومهما التف إليكم ممن هو على شاكلتكم وما جمعتموه من عدة وعدد «غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ» ولا فائتين أمره، فهو غالب لكم وقاهركم لأنكم عاجزون أمام عظمته خائبين مخزيين مهما كنتم «وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ» (2) أجمع ومن والاهم على كفرهم لا محالة، وناصر المؤمنين عليهم. وفي هذه الآية إشارة إلى دعوتهم للإسلام إذ أخبرهم بمصير الباقين على كفرهم ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أثر نزول هذه الآية العظيمة أعلن إلى جميع المعاهدين معه أن من كانت مدة عهده أقل من هذه المدة التي ضربها الله تعالى رفعه إليها، ومن كانت معاهدته أكثر حطه إليها، ومن كان عهده دون أجل أجله بها، وذكر لكل منهم انه بعد انقضاء هذا الأجل فكل من يبقى على كفره يكون محاربا لله ورسوله، وإنه يقتل حيث أدرك، ويؤسر ويسبى وتنهب أمواله وأملاكه ولا ينجيه من القتل إلّا ان يسلم ويتوب من كفره ونفاقه ويخلص إيمانه لله تعالى ويصدق رسوله عن يقين صادق طوعا ورضاء وهذه الآية العظيمة نزلت في غرة شوال السّنة التاسعة من الهجرة، والمراد بالبراءة هنا انقطاع العصمة تقول برئت من فلان إذا قطعت العصمة بينك وبينه ولم تبق بينكما علاقة ما، وتباعد أحدكما عن الآخر فلم تبق بينكما مناسبة ولا رابطة، وهي كناية عن الإنذار بالحرب ومن هنا أخذت الحكومات عادة قطع المناسبات بسحب السّفراء من الدّول المخالفة لها عند إرادة حربها قبل أن يبادروها بالحرب ثم يتقدموا لها بالإنذار. وقيل ان الخطاب لحضرة الرّسول وأصحابه الكرام لأنه هو الذي عاقد المشركين، وأصحابه عالمون راضون بما عاهدهم به موافقون عليه والرّاضي بالشيء الموافق عليه كفاعله قال تعالى «وَأَذانٌ» إعلام وبلاغ وإخطار وإنذار «مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ» عامة وقع من الله تعالى وأنزله على رسوله ليذيعه عليهم «يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ» يوم عرفة التاسع من ذي الحجة السّنة التاسعة من الهجرة ليطلع عليها العام والخاص وليذيعه كلّ من يسمعه على بلاده وغيرهم، ولا أعظم من هذا الجمع المجمّع من أنحاء البلاد والقرى والأمصار فلا يبقى أحد إلّا وبلغه هذا الإنذار الخطير وسمي(6/404)
يوم عرفة هذا بيوم الحج الأكبر لأنه معظم الحج، ولأنه صادف يوم جمعة ووقع فيه هذا الإخطار العظيم، ولأن العرب كانوا يسمون العمرة حجا أصغر، وحاء عن علي كرم الله وجهه أن رجلا أخذ بلجام دابته فقال له ما الحج الأكبر؟ قال يومك هذا خل عن دابتي وكان يوم عرفة يوم الجمعة وعن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقف يوم النّحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال: هذا يوم الحج الأكبر.
فكان يوم عرفة يوم الجمعة الذي أنزلت فيه (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية 4 من المائدة المارة ومن ذلك اليوم قد تعورف على أنه إذا صادف يوم عرفة يوم الجمعة يكون الحج حجا أكبر، أي أكبر أجرا من غيره لتوالي الخطب فيه، ولفضل يوم الجمعة على سائر الأيام، وهو عيد المسلمين، وحج الفقراء والمساكين.
مطلب إنذار الله إلى النّاس بانتهاء معاهدات الحرب وعدم صحة عزل أبي بكر من إمارة الحج وتهديد الكفار إذا لم يؤمنوا بعد هذا الانذار:
ثم بيّن تعالى هذا الأذان بقوله جل قوله «أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ» برىء منهم أيضا- على أن رسوله مرفوع- وقرأه بعضهم منصوبا عطفا على لفظة الجلالة، أي أن الله برىء وأن رسوله بريء منهم. ولا تجوز قراءة الجر على زعم الجر بالتوهم أو بالمجاورة أو بالتبعية، ويكفر مستحلها لما فيها من الكفر بنسبة البراءة من الله تعالى لحضرة رسوله وحبيبه وصفيه ومختاره من خلقه.
حكي أن أعرابيا سمع رجلا يقرؤها فقال إن كان الله بريئا من رسوله فانا منه بريء فلبّبه الرّجل إلى عمر، أي مسكه من لبته، وأخذة، وحكى قراءته إلى عمر، فزجره ونهاه عن أن يعود إليها، وأمر بتعليم العربية. وقال آخرون إن سبب الأمر بتعليم العربية قصة أبي الأسود الدّؤلي مع ابنته التي حكاها إلى سيدنا علي كرم الله وجهه، وانه هو الذي أمر بتعليم العربية، والكل وارد وجائز، قال تعالى «فَإِنْ تُبْتُمْ» أيها الكفار والمنافقون بعد هذا الإنذار فآمنتم وأخلصتم «فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» في الدّنيا حيث تأمنون على أنفسكم وأموالكم وأهليكم ودياركم وما ملكت أيمانكم، وفي الآخرة تأمنون من عذاب الله وتنالوا جنته «وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ» وأعرضتم عن التوبة المدعوين إليها وبقيتم على ما أنتم عليه «فَاعْلَمُوا(6/405)
أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ»
ولا خالصين من عذابه ولا سابقين عقابه إذ لا مهرب منه إلّا إليه، ولا تكرار هنا لأن الأولى جاءت في معرض التهديد لمدة نقض العهد، وهذه في معرض الوعيد لمن لم يتب وأصر على عناده. ثم خاطب رسوله بما فيه تقريعهم فقال عز قوله «وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (3) لا تطيقه قواهم ولا نجاة لهم منه، وهذه الآية جاءت على طريق التهكم، لأن البشارة عادة تكون في النّعم لا في النّقم على حد قولهم انهم قوم تحيتهم الضّرب وإكرامهم الشّتم.
وقوله تعالى (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) الآية: 5 من سورة الدّخان ج 2 تهكما به وتقريعا. واعلم أن ابتداء هذا الأجل الذي أشرنا إليه آنفا على القول الصحيح وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، لأن يوم التبليغ لا يحسب لأن يوم النّزول الذي هو غرة شوال وانتهاؤها اليوم العاشر من ربيع الآخر السّنة العاشرة من الهجرة، لأن العبرة بتاريخ التبليغ بالنسبة للمبلغين، وكان المبلغ لهذا سيدنا علي كرم الله وجهه، وذلك أن عادة العرب المطرّدة بينهم أن لا يبرم العهد ولا ينقضه إلا المعاهد نفسه أو واحد من أهل بيته، ولما كان حضرة الرّسول لم يحج في السّنة التاسعة وقد أمّر على الحج سيدنا أبا بكر رضي الله عنه وقد أمر الله رسوله بإبلاغ ما جاء في أول هذه السّورة للناس، ولم يمكن إجراء هذا التبليغ من قبل الصّديق أمير الحج للسبب المذكور، أرسل ابن عمه عليا كرم الله وجهه ليتلو أوائل هذه السورة على النّاس نيابة عنه في الموقف، ليطلع عليه كلّ النّاس، والشّاهد يعلم الغائب روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة ان أبا بكر بعثه في الحجة التي أمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع في رهط ليؤذنوا في النّاس يوم النّحر أن لا يحج بعد اليوم مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان! وفي رواية ثم أردفه النّبي صلّى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة، قال أبو هريرة فأذن معنا في أهل منى ببراءة أن لا يحج بالبيت بعد اليوم مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان! ولا يفهم من هذا الحديث عزل أبي بكر عن الإمارة بل دوامها بدليل إرساله أبا هريرة يؤذن في النّاس في رهط معه، وما كان إرسال علي كرم الله وجهه من قبل حضرة الرّسول بعد إلّا بسبب ما تقدم لأن العهد لا يقرّره إلّا سيد القبيلة ولا(6/406)
ينقضه إلّا هو ولا ينوب عنه في التبليغ به إلّا رجل منه فلو أن أبا بكر مبلغ ما يتعلق بنقض العهود من هذه السّورة لأنكره النّاس ولن يعبئوا به لأنهم يقولون هذا مخالف لما نعهده ونعرفه فلا نعتبره، لأنهم كانوا ينقيدون بعوائدهم كقانون لا يخرمونها أبدا، ومما يؤيد دوام إمارة أبي بكر صلاة سيدنا علي خلفه في الموسم، فلو أنه جاء بدلا منه لصلى هو بالناس، لذلك فإن كلّ ما جاء في قضية عزل أبي بكر عن إمارة الحج لا صحة له البتة، إذ لا دليل على إبقاء إمارته أقوى من الصلاة، واعلم انه لا تكرار في الأذانين، لأن الأوّل يفيد براءة الله ورسوله من عهود المشركين وهو إعلان بثبوت البراءة أي قول الله تعالى (بَراءَةٌ) إلخ هو الأذان الأوّل. والأذان الثاني وهو قوله تعالى (وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ) يفيد الإخبار بوجوب الإعلام في براءة الله ورسوله منهم، ولذلك علقه بالناس أي إذا أعرضوا وأصروا على ما هم عليه فإنه لا يتولاهم ولا ينصرهم بل يهلكهم ويخذلهم والتكرار لا يسمى تكرارا إلّا إذا كان الثاني عين الأوّل باللفظ والمعنى والمغزى، فإذا كان كلّ يرمي لشيء آخر لا يسمى تكرارا قال تعالى «إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» هذا استثناء من المدة المضروبة يعني أن الله تعالى يبرأ من عهود المشركين كلها بعد تلك المدة إلّا من عاهدهم الرّسول وهم بنو حمزة، حي من كنانة «ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً» من شروط العهد الذي عاهدتموهم عليه «وَلَمْ يُظاهِرُوا» يعاونوا ويمالئوا «عَلَيْكُمْ أَحَداً» من أعدائكم فهؤلاء إذا وفوالكم بالشروط فضموا إليها هذان الشّرطان «فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ» التي ضربتموها لهم ولا تجروهم مجرى الكافرين والمنافقين الّذين نكثوا عهودهم وأخلوا شروطها إذ لا يقاس الموفي بالغادر ولا يعامل معاملته، واتّقوا الله في ذلك «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» (4) مخالفته الموفين بعهودهم المحافظين على أقوالهم، وإنما خصّ الله تعالى هذه الطّائفة ليعلّم النّاس ويحذرهم من أن يسووا بين النّاقض عهده النّاكث به والقائم به المحافظ عليه، وما عام إلّا وخصص: قال تعالى: «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ» الأربعة المضروبة في هذه المدة، وسماها حرما وليس كلها حرم لحرمة نقض العهد فيها ولأنها صارت محرمة بتخصيصها لانتهاء عهود المعاهدين حتى صار النّاس يعدون(6/407)
أيامها عدا لما يترتب على انقضائها من أمور عظيمة، ومن قال أنها الأشهر الحرم الأربعة المعهودة المعلومة فلا دليل يؤيد قوله، إلا إذا أراد أن أولها عشرون من
ذي الحجة والمحرم كله من الأشهر الحرم وآخرها هو ربيع الأوّل وعشر من ربيع الثاني أدخلها معها فسمّاها كلها حرما تسامحا لأن صفر والرّبيعين ليسوا من الحرم، أما إذا أراد بها غرة شوال الذي كان بها نزول الآية فقد أخطأ أيضا ولم يصب الهدف إذ ليس شوال من الأشهر الحرم، ورجب لم يدخل فيها إذ لا عبرة لتاريخ النّزول، لأن النّاس لا يعلمون به، وإنما العبرة لتاريخ التبليغ، بدليل قوله تعالى (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) أي بعد الإنذار الكائن في التاسع من ذي الحجة، تأمل.
«فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» في الحل والحرم قاتلوا أولم يقاتلوا لأنهم أنذروا وأمهلوا لكي يؤمنوا ولمّا لم يفعلوا فلم تبق لهم حرمة «وَخُذُوهُمْ» أسرى واسلبوا أموالهم «وَاحْصُرُوهُمْ» في قراهم وديارهم وضيقوا عليهم في ملاجئهم وامنعوهم من الفرار من مكة حتى يؤمنوا أو يهلكوا «وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ» ممر يمرون به أو مجاز يجتازونه أو محل يختفون فيه أو مغارات يختبئون بها أو سريا ينفذون منه لمحل يقبهم أو غيره، فضيقوا عليهم الطّرق كافة حتى يؤخذوا من كلّ جهة فيضطروا إلى الإيمان قسرا «فَإِنْ تابُوا» من شركهم وآمنوا إيمانا صحيحا «وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ» اتركوهم لأنهم صاروا مثلكم لا فضل لكم عليهم إلّا بقدم الإسلام وزيادة التقوى «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» كثير المغفرة لما سبق منهم بعد أن تابوا وأنابوا «رَحِيمٌ» (5) بعباده لا تضيق رحمته التي وسعت كلّ شيء عمن التجأ إلى بابه ورجع إليه من خلقه بل يقبل توبتهم ويرفع القتل والسّبي عنهم ما لم يكونوا في حالة يأس من الحياة.
قال تعالى «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ» استأمنك يا سيد الرّسل ودخل في جوارك وأمانك بعد انسلاخ المدة المذكورة أو في أثنائها «فَأَجِرْهُ» آمنه على نفسه وماله وأهله ولا تقتله «حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ» ويعرف ما له من الثواب إن آمن وما عليه من العقاب إن بقي على كفره، فإن آمن بعد ذلك فقد نجا، وإلّا فلا سبيل لك عليه حالة كونه في جوارك وما دام في(6/408)
أمانك «ثُمَّ» بعد أن تيأس من إيمانه لا تقتله أيضا بل «أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ» دار قومه التي يأمن فيها بأن توصله إليها بأمانتك وتحت خفارتك كما أتاك آمنا لئلا تنسب إلى الغدر أو التغرير أو غيره لأنه بعد أن أصر على كفره فإن تركته وشأنه يخشى عليه من أن يفتك به قبل وصوله أهله من قبل أصحابك بحجة انه كافر لا أمان له فتخفر ذمتك واعلم ان قبول المستأمن وإبلاغه إلى المحل الذي جاء منه أو الذي يأمن فيه على نفسه وماله وأهله واجب على المستأمن والمجير وكلّ من يعقل ويعلم واجبات نفسه وغيره ويحفظ سمعته وسيرته «ذلِكَ» الأمر بأمن المستأمنين على كفرهم «بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ» ما يراد منهم في الآخرة ولا ما يكلفونه في الدّنيا فهم محتاجون إلى الإرشاد، فإذا نصحوا وتبينت لهم معالم الدّين ولم يقبلوا فتكون عليهم الحجة، ومن أنذر فقد اعذر وهذه الآية عامة محكمة واجب العمل بها إلى يوم القيامة. قال تعالى على سبيل التعجب «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ» وهم غير مؤمنين بها أي لا يكون لهؤلاء عهد عندهما البتة لأنهم ينقضون عهودهم وينكثون مواثيقهم ويخلفون وعودهم ويغدرون من استأمنهم، وهكذا شأن كلّ من لا يؤمن باليوم الآخر، لأن من يؤمن به يخاف الحساب والعقاب فيفي بوعده وعهده. ثم استثنى جل جلاله من ذلك طائفة خاصة بينها بقوله عز قوله «إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» ولم ينكثوا كبني حمزة فهؤلاء تربصوا بهم لانقضاء عهدهم واتركوهم الآن «فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ» على العهد ووفوا لكم بشروطه «فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ» على الوفاء وإياكم أن تنكثوا بهم وبكل معاهد لأن المحافظة على المواثيق من سمات المؤمنين وواجباتهم، واتقوا الله في عهودكم كلها واحذروه من أن تنقضوا شيئا منها «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» (7) نقض العهود وخلف الوعود والموفين بها والعهد هو العقد الموثق باليمين، والبراءة خاصة بالمعاهدين، والأذان المذكور بالآيتين لفظه عام فيهم وفي غيرهم قال تعالى:
«كَيْفَ» يكون للمشركين عهد وهم إن يظفروا بكم «وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ» بعد توكيد الأيمان «لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا» حلفا وقرابة «وَلا ذِمَّةً» عهدا وميثاقا «يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ» بكثرة ما يحلفون لكم وما يعطونكم(6/409)
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
من عهد ووعد وميثاق «وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ» عن الوفاء بشيء من ذلك «وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ» (8) خارجون عن الطّاعة لا مروءة تمنعهم عن الكذب ولا شمائل تردعهم عن النّكث ولا شهامة تردهم عن الغدر، وهكذا شأن الكافرين إذ لا يتقيدون بشيء من ذلك لعدم خوف العاقبة من الله وعدم الحياء من النّاس، ولم يقل تعالى قوله كلهم فاسقون لأن منهم من يوفي بعهده ووعده ويؤمن من غدره «اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا» من متاع الدّنيا الفاني وأعرضوا عن ثواب الله الباقي «فَصَدُّوا» أنفسهم وغيرهم «عَنْ سَبِيلِهِ» المستقيم وطريقه القويم وشريعته العادلة «إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (9) من أنواع الكفر وفنون صرف النّاس عن الإيمان، وكيف لا تقاتلون هؤلاء وهم أبدا «لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً» ولا تكرار هنا أيضا، لأن الأولى مقيدة بقوله فيكم بما يفيد الخصوص، وهذه عامة مطلقة في كلّ مؤمن قدروا عليه فإنهم يقتلونه ويسلبونه ويستحلون ماله ودمه، إذ لا دين يزجرهم عن ذلك، فإذا ظفرتم بهم فلا تبقوا عليهم، كما إنهم إذا ظفروا بكم لم يبقوا عليكم، ولا تظنوا أن هذا اعتداء منكم عليهم، لأنكم أنذرتموهم ونصحتموهم وصبرتم عليهم حينما كانوا يؤذونكم ولم يرتدعوا ولم يرأفوا بكم «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» (10) عليكم الّذين بدؤوكم بنقض العهود
ومع هذا «فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ» اقبلوهم لأنهم صاروا مثلكم، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم فأنتم وإياهم بالحقوق سواء، لأنهم صاروا إخوانكم «فِي الدِّينِ» الجامع بينكم، ولا تكرار في هذه الآية أيضا لأن الأولى سيقت إثر الأمر بالقتل وشبهه فكان جوابها أمرا وهو «فَخَلُّوا» وهذه الآية سيقت بعد الحكم عليهم بالاعتداء فكان جوابها حكما وهو «فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ» لتساويهم في أحكامه وهذه أجلب لقلوبهم من تلك للفرق الظّاهر بين تخلية سبيلهم وبين إثبات الأخوة الدّينية لهم، وفيها دلالة على تحريم دماء أهل القبلة «وَنُفَصِّلُ الْآياتِ» الدالات على أحكامنا في خلقنا ونبيّنها بيانا كافيا ونوضحها توضيحا شافيا «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (11) معانيها ويفقهون مداركها. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال لما توفي النّبي صلّى الله عليه وسلم واستخلف أبا بكر رضي الله عنه(6/410)
وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي بكر حينما رآه مصرا على قتال مانعي الزكاة كيف نقاتل النّاس وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل النّاس حتى يقولوا لا إله إلّا الله فمن قال لا إله إلّا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلّا بحقه وحسابه على الله عز وجل؟ فقال أبو بكر والله لأقاتلنّ من فرق بين الصّلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها- وفي رواية عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها فقال عمر فو الله ما هو إلّا أني رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق، أي ان أبا بكر أخذ في هذه المقارنة بين الصّلاة والزكاة، فإن من جحد الصّلاة فقد حل قتله، وكذلك من يجحد الزكاة وهو اجتهاد صائب ورأي ثاقب في فطنة حادة وفقه منه وذكاء وفراسة. واعلم أن المراد بالعقال زكاة عام من الإبل والغنم لا عقال البعير الذي يربط به يده كما يقوله البعض، لأن مثل أبي بكر لا يقاتل النّاس على مثله، أما العناق فهو الأنثى من أولاد المعز، ولهذا ترقى رضي الله عنه بكلامه من القليل الذي هو سخلة إلى الكثير الذي هو زكاة سنة، وتطلق العناق أيضا على زكاة عامين وهو أولى بالمعنى هنا والله أعلم.
قال تعالى «وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ» على ألّا يقاتلوكم ولا يعينوا عليكم أحد «وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ» فعابوه وثلبوه وقدحوا به «فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ» رؤساءهم وشيوخهم «إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ» ولا عهد ولا ذمة ولا وفاء «لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ» (12) عن النّكث في العهود والطّعن فيكم، وإذا لم تبادروهم بالقتال تقل هيبتكم في قلوبهم بل ابدأوهم به لتزداد هيبتكم في قلوبهم، وهذا الأمر فيهم وفي أتباعهم، لأن الأتباع تبع للقادة، وإن قتال رؤسائهم قتال لهم كافة طبعا، وإنما خص الأئمة لأنهم هم الّذين عقدوا عليهم العقود، وهم الّذين نكثوها، وأتباعهم تبع لهم في ذلك، أي قاتلوهم جميعا، قال تعالى منبها المؤمنين «أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ» في المعاهدات «وَهَمُّوا» قبلا «بِإِخْراجِ الرَّسُولِ» من بلده مكة حين أجمع رؤساؤهم على قتله كما تقدم في الآية 40 من سورة العنكبوت في ج 2 بيان عملهم هذا فراجعها، «وَهُمْ(6/411)
بَدَؤُكُمْ»
بالقتال «أَوَّلَ مَرَّةٍ» حينما كنتم في مكة وأخرجوكم منها صاغرين حتى هاجرتم إلى الحبشة والمدينة ولم يمكنوكم من دخول مكة يوم الحديبية وقالوا يوم بدر لا ننصرف حتى نستأصل محمدا وأصحابه وقاتلوا حلفاءكم من بني خزاعة «أَتَخْشَوْنَهُمْ» الآن أيها المؤمنون وتنسون مساويهم القديمة معكم بعد أن منّ الله عليكم بما منّ من الفتوحات والقوة والكثرة في المال والرّجال وتتأخرون عن قتالهم، ولا يكون منكم هذا أبدا، وهذا التنبيه المصدر في هذه الآية ينمّ بالتوبيخ والتقريع على من يتمنع عن قتالهم ويحث على الانتقام منهم بعد أن أجاز الله ذلك لهم «فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ» في مخالفة أمره في ترك قتالهم، كلا لا تخشوهم أبدا واخشوا الله الذي سينصركم عليهم. ولا يرد على هذا قوله تعالى (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) الآية 23 من سورة الأنفال المارة، لأن المراد فيه عذاب الاستئصال وهو يشمل المذنب وغيره والمخالف والموافق، أما عذاب القتل المقصود في هذه الآية فإنه لا يتعدى إلى غير المذنب المخالف، بل هو مقصور عليها فاعلموا ذلك «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (13) به إيمانا كاملا ثم حثهم على القتال فقال «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ» لتشفّوا منهم «وَيُخْزِهِمْ» بالأسر والسّبي «وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ» بالقتل والجلاء «وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ» (14) من داء الأذى الكامن في صدورهم مما كانوا ينالونه منهم قبلا، وهذه الآية عامة في جميع الكفار، ونزولها في خزاعة التي تعدت عليها قبيلة بني بكر وأعانتها قريش عليها خلافا لعهد الحديبية المار ذكره في الآية 11 من سورة الممتحنة المارة لا يخصصها فيهم ولا يمنع إطلاقها وشمولها لغيرهم، لأن في قتل هؤلاء الكفرة أخذا لثأرهم وظفرا للمؤمنين عامة وسببا لقوة اليقين وثبات العزيمة «وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ» الوجد الذي كان فيها عليهم بما يحل فيها من الفرح العظيم والسّرور الجسيم بانجاز وعد الله تعالى لهم بالنصر والفوز «وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ» منهم يقوى إيمانه إذا تاب وأناب. وبعد نزول هذه الآية أسلم ناس كثيرون منهم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بمن سيقت له العناية بالهداية «حَكِيمٌ» (15) بما يفعل بعباده وما يأمرهم به وينهاهم عنه. قال تعالى «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا»(6/412)
وتهملوا فلا تؤمروا بالجهاد ولا تمتحنوا به؟ وهذا استفهام معترض في وسط الكلام وفيه معنى التوبيخ على وجود الحسبان من بعضهم؟ والخطاب المؤمنين، وما قيل للمنافقين فليس بشيء، ودخول أم في هذا الاستفهام للفرق بين الاستفهام المبتدأ به وبين الاستفهام المعترض «وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ» أي يظهر صدقه وعزيمته في الجهاد ويميزه عمن لم يجاهد حقيقة فيعلن كذبهم للملأ ودعواهم الفارغة فيفضحهم على رؤوس الأشهاد، وإلّا فهو عالم بهم من قبل وبما يكون منهم كما هو عالم بما كان «وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً» أي بطانة من المشركين، فيفشوا أسرارهم إليهم، ولم يتخذوا خيانة للمسلمين بموالاة غيرهم فيكون وجودهم خديعة لهم، وكلّ شيء أدخلته فيما ليس منه فهو وليجة والرّجل في غير قومه وليجة راجع الآية 51 المارة في سورة النساء فيما يتعلق في هذا المعنى، ولم تكرر هذه الكلمة في غير هذه السّورة، ومن معاني لما التوقع فتدل على أن ذلك قد وقع من بعضهم، لذلك نبههم الله إلى اجتنابه «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (16) من موالاة الكفار
واتخاذ بطانة منهم وإخلاص المخلصين لله ولرسوله الّذين لم يوالوا غيره ولم يتخذوا سواه. قال تعالى «ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ» التي خصها لتوحيده والقيام بشعائره «شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ» أي لا يصح ولا يكون لهم ذلك ولا يستقيم فعله منهم ولا يمكنهم أن يجمعوا بين أمرين متضادين عمارة بيوت الله تعالى مع الكفر به في حالة من الأحوال أبدا «أُولئِكَ» الّذين هذه صفتهم «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» التي عملوها بالدنيا من جميع وجوه البر والخير لأنها لم تكن خالصة لوجهه بل لمجرد السّمعة والرّياء، وما كان خالصا منها فقد كوفئوا به في الدّنيا بما منّ الله عليهم من صحة ومال وولد وجاه وغيرها، وحرموا ثوابها في الآخرة، ولهذا قال تعالى «وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ» (17) لا يتحولون عنها أبدا ومن كان هذا شأنهم، وهذه عاقبتهم لا يكونون أهلا لعمارة مساجد الله المخصصة لعبادته وحده «إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ» في أمر دينه(6/413)
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
ودنياه نابذا كلّ ما سواه وراء ظهره لا يقدم على ما نهاه عنه ويحذره كلّ الحذر «فَعَسى أُولئِكَ» العامرون المساجد المؤمنون بالله ورسوله «أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ» (18) لعمارتها لها غيرهم. قال تعالى مبعدا لظنهم على طريق الاستفهام الإنكارى «أَجَعَلْتُمْ» ايها النّاس «سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» بالفضل والثواب وحسن العاقبة سوآء كلا «لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ» في ذلك البتة، لأن هؤلاء يثابون على أعمالهم بإيمانهم، وأولئك محبطة أعمالهم ممحوق ثوابها بكفرهم وظلمهم «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (19) أنفسهم وغيرهم باختيارهم الضّلال على الهدى. قال تعالى «الَّذِينَ» مرفوع بالابتداء «آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ» إيمانا خالصا وخبر المبتد المعطوف عليه ما بعده هو «أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ» من الّذين قاموا بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام «وَأُولئِكَ» المؤمنون المهاجرون المجاهدون «هُمُ الْفائِزُونَ» (20) عند الله يوم القيامة بالجنة وعند النّاس بالدنيا بالحمد والثناء والذكر الحسن،
وهؤلاء هم الّذين «يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ» (21) لا ينقطع أبدا عنهم حالة كونهم «خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» (22) لا أعظم منه ولا يحيط به عقل البشر يمنحه الله من يشاء من عباده، لأن الإيمان بالله لا يوازيه عمل وكلّ عمل بلا إيمان لا قيمة له عند الله.
مطلب تفضيل الإيمان على كلّ عمل مبرور كعمارة المساجد والإطعام وفك الأسرى وغيرها:
وسبب نزول هذه الآيات على ما قاله العلماء أن العباس افتخر بالسقاية، وافتخر شيبة بالعمارة، وعلي كرم الله وجهه بالإيمان والإسلام والجهاد، فنزلت هذه الآيات.
روى مسلم عن النّعمان بن بشير قال كنت عند منبر النّبي صلّى الله عليه وسلم، فقال رجل ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلّا أن أعمر المسجد الحرام، وقال الآخر الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النّبي وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فأستفتيه عما اختلفتم فيه، فأنزل(6/414)
الله هذه الآيات. وقد سبق أن ذكرنا غير مرة جواز تعدد أسباب النّزول، أما ما قيل بأن العباس حين أسرّ قال لعلي حين وبخه على قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما لكم تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا؟ فقال علي وهل لكم محاسن وأنتم على ما أنتم عليه من الكفر والضّلال؟ قال نعم، قال ما هو؟ قال نعمر المسجد ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك الأسير، فنزلت هذه الآيات فيها، فهو قول بعيد عن الصّحة، لأن هذه السّورة لم تنزل إذ ذاك، وقضيه العباس هذه في حادثة بدر وبينهم سنون، ولم يستثن شيئا منها. أما ما قاله ابن الجوزي بأن الآيتين الأخيرتين منهما وهما (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ ... ) نزلتا بمكة فلم يوافقه على هذا إلّا ابن الغرس من جميع العلماء، ويرد قولهما ما قاله في المستدرك عن أبي بن كعب، وما جاء في تفسير أبي الشّيخ عن علي بن زيد عن يوسف المكي عن ابن عباس أنها آخر آية نزلت منها أي سورة التوبة هذه، وأنت خبير بأن ابن الجوزي كان ديدنه نقل الأقوال الضّعيفة والمختلف فيها، وكان يعاكس رأي من تقدمه غالبا: وهذا الذي سبب له الشّهرة بين النّاس (على حدّ خالف تعرف) وقد اقتفى أثره من يحب الشّهرة من العلماء ويدعي التبحر بالعلم وصاروا ينقلون عنه وعن ابن تيمية الأقوال المخالفة لإجماع الأمة بذلك القصد، وأمثال هؤلاء يجب مقتهم لأن وجودهم مفسدة للدين، حتى انهم شأنوا سمعة ابن الجوزي وابن تيمية بحيث من لم يعرف مقامهما بظن أن كلّ أقوالهما مخالفة للاجماع، وليس الأمر كذلك.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جاء إلى السّقاية فقال العباس يا فضل اذهب إلى أمك فأت رسول الله بشراب من عندها، فقال اسقني (أي مما عندك من الشّراب) فقال يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال اسقني (لا بأس من وضع الأيدي بالشراب) فشرب منه، ثم اتى زمزم وهم يستقون ويعملون فيها، فقال اعملوا فإنكم على عمل صالح، ثم قال لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذا (يعني عاتقه) . وروي مسلم عن أبي بكر ابن عبد الله المزني قال كنت جالسا مع ابن عباس عند الكعبة فأتاني أعرابي فقال ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللّبن وأنتم تسقون النّبيذ أمن حاجة بكم(6/415)
أم من بخل، فقال ابن عباس الحمد لله ما بنا من حاجة ولا بخل، إنما قدم النبي صلّى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة فاستسقى بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة، فقال أحسنتم إذا عملتم كذا، فاصنعوا، فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولما أمر الله المؤمنين بالتبرّي من المشركين قالوا كيف يمكن أن يقاطع الرجل أباه وأخاه وابنه فنقطع أرحامنا ونضيّع أموالنا ونخرّب دورنا فأنزل الله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ» لأموركم وتجعلونهم بطانة لمهماتكم ومكتما لأسراركم «إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ» فإنهم لا يؤتمنون على شيء من ذلك أبدا «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ» بعد هذا النهي «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (23) أنفسهم بمخالفتهم أمر الله والمقام مع أعدائه وموالاتهم دونه، فيا محمد «قُلْ» لهؤلاء الميالين إلى الكفرة «إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها» بسبب مباعدتكم عن أقربائكم وتعلقاتكم من الكفار «وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها» بينهم للتقرب منهم «أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ» وترون أن رعاية هذه المصالح الفانية أولى من طاعة الله ورسوله والمجاهدة في سبيله المؤدية إلى الدّار الباقية والجنات العالية «فَتَرَبَّصُوا» انتظروا وهي كلمة تهديد ووعيد لمن يؤثر بحقه أولئك أو شيء منهم على محبة الله ورسوله فليرقب مغبة ذلك وخاصة عافيته «حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ» القاضي باستئصالكم لخروجكم عن طاعته «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (24) الخارجين عن طاعته وهذا تهديد بالغ ما فوقه تهديد، لأن الله تعالى قال (أحب) والحب لا يكون إلّا عن زيادة شوق في الشّيء، ولهذا جعل عقابهم شديدا. قال يحيى ابن معاذ لأبي يزيد البسطامي هل سكرت مما شربت من حبه؟ فأجابه بقوله:
شربت الحب كأسا بعد كأس ... فما نفسد الشّراب ولا رويت
هذا أبو يزيد وانظر لقول ابن الفارض:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة ... سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم(6/416)
ولكل وجهه، الحكم الشّرعي، إذا تعارض ما هو من مصالح الدّين مع ما هو من مصالح الدّنيا وجب على المسلم ترجيح مصالح الدّين في مثل هذه الأشياء المذكورة في الآية المارة.
مطلب في الرّخص والعزائم وواقعة حنين
وان الرّخص الواردة في اختيار بعض الأمور كالنطق بكلمة الكفر عند الإكراه وشراب الخمر مخافة القتل وغير ذلك من الرّخص التي نقلت دعائمها عن ابن عباس رضي الله عنهما فلا تنافيها هذه الآية، لأن ما جاء فيها انما نؤاخذ به إذا كان عن حب واختيار لا عن بغض وإكراه، وإنما قلنا دعائم الرّخص أي أساساتها وقوائمها عن ابن عباس لأنه كان رضي الله عنه يتوسع في الأمور اجتهادا منه ويفتي بها كما كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يتشدد فيها، ولهذا صار من قبيل ضرب المثل (رخص ابن عباس) (وعزائم ابن عمر) راجع تاريخ القضاء في الإسلام للمعري تجد ما يتعلق بهذا وهو أوسع من رسالة القضاء في الإسلام للكنوي، والآية 24 من سورة النّساء المارة تقف على ما قيل في ابن عباس من أجل توسعه في الرّخص، ثم شرع جل شرعه يعدد نعمه على المؤمنين بقصد لقاء النّفرة للمشركين، وبيان ان معونتهم لهم لا قيمة لها، وانهم إذا اتكلوا على الله يغنهم عنهم، فقال جل قوله «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ» ومحلات متعددة، فقد جاء في الصحيحين في حديث زيد بن أرقم أن مجموع غزواته صلّى الله عليه وسلم تسع وعشرون قاتل في ثمان منها، وسراياه ما بين الإحدى والخمسين إلى الاحدى والسّتين، وان ما ذكرناه في أوائل السّورة عبارة عما ذكر منها في القرآن العظيم فقط «وَيَوْمَ حُنَيْنٍ» واد بين الطّائف ومكة معروف «إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ» فاستغنيتم بها وطشتم كأنكم تغلبون بسبب الكثرة «فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً» بل خذلتم وأظهرنا لكم انكم لا تغلبون إلّا باعتمادكم على الله لا على عدد أو عدد «وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ» فرأيتموها لم تسعكم مع ما هي عليه من السّعة العظيمة حتى انكم لم تجدوا موضعا تقرون إليه بحيث صرتم ترونهم ملأوا السّهل والجبل لما ألقى في قلوبكم من الرّعب منهم، «ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ»(6/417)
عنهم منهزمين منهم «ثُمَّ» بعد ما عرفتم أن النّصر لا يكون إلّا من عند الله وباعتماد عليه وصدق التوكل وكمال الثقة به تعالى، ووقر هذا في قلوبكم إذ «أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ» طمأنينته بإزالة الخوف من أفئدتكم وتقليل الأعداء بأعينكم وتكثيركم بأعينهم، وقد عمم هذه السّكينة المتضمنة ما ذكر «عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ» الكائنين معه في هذه الحادثة «وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها» من ملائكته الكرام وقد جمعهم مع أنهم نورانيون ليكثر بهم سوادكم في أعين أعدائكم وخلق فيهم قدرة النّظر إليهم دونكم لإلقاء الرّعب في قلوبهم، ولولا ذلك لما رأوهم لأن أبصارهم لا طاقة لها على رؤيتهم ولو بصورة البشر، وإنما حجبكم عن رؤيتهم وحال دون نظركم إليهم مع قدرته على ذلك كما فعل بأعدائكم لئلا تتكلوا عليهم وليكون اتكالكم على الله وحده «وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بأيديكم قتلا وأسرا وسبيا «وَذلِكَ» العذاب المبرح هو «جَزاءُ الْكافِرِينَ» في الدّنيا ولعذاب الآخرة المخبوء لهم أشد وأعظم «ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ» ممن يؤمن منهم «وَاللَّهُ غَفُورٌ» للتائبين ما سلف منهم «رَحِيمٌ»
بعباده يقبل توبتهم رؤوف بأوليائه ينصرهم بعد الانهزام، وقد عد الله تعالى عليهم الانهزام ذنبا كما أن الاعتماد على النّفس ذنب آخر يجب التوبة عنه، وخلاصة هذه القصة هو ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما فتح الله عليه مكة في شهر رمضان السّنة الثامنة من الهجرة كما قد أوضحناه أول سورة الفتح المارة، خرج بعد ايام إلى حنين لقتال هوازن وثقيف وكانوا أربعة آلاف، وكان على هوازن مالك بن عوف النّقري، وعلى ثقيف كنانه بن عبديا ليل، في اثني عشر ألفا من المهاجرين والأنصار ولفيف من الطلقاء فلما التقى الجمعان قال سلمة بن سلامة بن رقيش الأنصاري لن نغلب اليوم من قلة، فساء رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلامه لأنه يعلم ان الكثرة بغير معرفة الله تعالى لا نجدي نفعا، ولهذا الكلام وكلهم الله إلى كثرتهم لأنه تعالى لم يرض قوله ولأن أحدا من القوم لم يرد عليه قوله، اعتبروا كلهم راضين بمقالته، ولذلك استاء حضرة الرّسول لما بلغته مقالته تلك وسكوت القوم عليه، فوكلهم الله لأنفسهم فخذلوا كما سيأتي تفصيله بعد وما قيل إن القائل لهذه الكلمة هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم زور، وبهت وافتراء(6/418)
وعدوان
، وحاشاه فى ذلك، لأنه متوكل على ربه في جميع أحواله وأقواله، عالم بأن الكثرة لا تغني من الله شيئا، متيقن أن النّصر والمعونة من الله وحده لا بكثرة ولا بقلة، وكذلك أخطأ من ألصق هذه التهمة بأبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه إذ يبعد صدورها من مثله ولا يتصور وقوعها منه وهو على ما عرف عليه من اليقين الكامل والتوكل الخالص، ويكفي هذا القول وهو أن ما قاله ابن الجوزي المار ذكره آنفا، وهو إن صح عنه في بعض مخالفاته التي نقلها عنه أتباعه ممن لا يوثق بكلامهم، روى البخاري ومسلم عن أبي إسحق قال جاء رجل إلى البراء فقال أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال أشهد على نبي الله ما ولى، ولكن انطلق أخفّاء من النّاس حسرا (أي ليس عليهم سلاح، ويقال عزلا فيمن لا سلاح لهم، وحسرا لمن كان لديهم بعض السّلاح ولا دروع لهم، والأخفّاء (الموسوعون الّذين ليس لهم ما يعوقهم) إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد، فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن الحارث رئيس الطّلقاء يقود بغلة، فنزل ودعا بما دعا موسى عليه السّلام يوم انفلاق البحر، وهو اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلّا بك.
واستقر وهو يقول:
أن النّبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
اللهم أنزل نصرك، زاد أبو خيثمة ثم صفهم. وروى مسلم عن العباس بن عبد المطلب قال شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلم نفارقه، ورسول الله على بغلة بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلّى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، قال ابن عباس وأنا آخذ بلجام بغلته أكفّها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله، فقال صلّى الله عليه وسلم أي عباس ناد أصحاب السّمرة، فقال عباس وكان رجلا صيّتا فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السّمرة، أي الشّجرة وإذا كانت هي المراد فتكون والله أعلم هي(6/419)
الشجرة التي بايعه الأصحاب تحتها يوم الحديبية، وفي رواية قال يا أصحاب سورة البقرة هذا رسول الله، فتراجع القوم، قال فو الله لكان عطفهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا لبيك لبيك، قال فاقتتلوا والكفار وكانت الدعوة في الأنصار يقولون يا معشر الأنصار، قال ثم قصرت الدّعوة على بني الحارث بن الخزرج، فقالوا يا بني الحارث بن الخزرج، فنظر رسول الله وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال صلّى الله عليه وسلم هذا حين حمي الوطيس أي اشتد الحرب وهذه كلمة لم تسمع قبل نهي من مقتضياته وإنشائه صلّى الله عليه وسلم، والوطيس التنور، قال ثم أخذ صلّى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال انهزموا ورب الكعبة أو ورب محمد، قال فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، قال فو الله ما هو إلّا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلا لا يقطع شيئا وأمرهم مدبرا.
وروى مسلم عن سلمة بن الأكوع قال غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حنينا، قال فلما غشوا رسول الله نزل عن بغلته ثم قبض قبضة من تراب الأرض ثم استقبل به وجوههم وقال: شاهت الوجوه، فما خلق الله منهم إنسانا إلّا ملاعينه ترابا بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله بذلك، وقسم رسول الله غنائمهم بين المسلمين. وروي أن رجلا من المشركين قال لما التقينا وأصحاب محمد لم يقضوا لنا حلبة شاة، فسقناهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء أي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا لنا شاهت الوجوه فانهزمنا، وهؤلاء الجنود الّذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية وقد سبق أن ذكرنا أن الملائكة لم تحارب مع رسول الله إلّا يوم بدر، وفي غيره تكون مددا لتكثير سواد المسلمين وهو الصّحيح كما أشرنا إليه في الآية 12 من سورة الأنفال المارة، وقول هذا المشرك يؤيد عدم قتالهم، إذ اقتصر فيه على القول الذي سمعه منهم، فلو كان هناك قتال لذكره في هذه الرّواية، لأنه يقول راويها تلقانا رجال يقولون كذا وكذا، ولم يقل حاربونا أو رمونا أو غير ذلك. وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن أناسا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق رسول الله يعطي رجالا من قريش المئات(6/420)
من الإبل، فقالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا، وإن سيوفنا لتقطر من دمائهم. قال أنس فحدث بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قولهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع معهم غيرهم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله فقال حديث بلغني عنكم، فقال له فقهاء الأنصار أما ذو رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال صلّى الله عليه وسلم إني لأعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم، أفلا ترضون أن تذهب النّاس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم برسول الله؟ فو الله ما تنقلون به خير مما ينقلون به، قالوا بلى يا رسول الله قد رضينا، قال فإنكم ستجدون بعدي أثرة (حالة غير مرضية تتأثرون فيها بحيث يؤثّر وغرها في قلوبكم، وتطلق هذه الكلمة على المكرمة المتوارثة وليست مرادا هنا) شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض، قالوا سنصبر. ورويا عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال لما أفاء الله على رسوله يوم حنين قسم في النّاس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا فكأنهم وجدوا إذا لم يصبهم ما أصاب النّاس، فخطبهم فقال يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله آمنّ، قال فما منعكم ألا تجيبوا رسول الله كلما قال شيئا، قالوا الله ورسوله أمّن. قال لو شئتم لنلتم جئتنا كذا وكذا (أي وحيدا فآريناك ونصرناك وقمنا بمؤنة أصحابك وساويناهم بأنفسنا وقسمنا عليهم أموالنا وأزواجنا، ولكنهم من أدبهم مع حضرة الرسول لا يقولون ذلك ولا يتصورون أن يجابهوا حضرة الرّسول به) ترضون أن تذهب النّاس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي إلى رجالكم، لولا الهجرة لكنت امرأة من الأنصار، ولو سلك الأنصار واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، الأنصار شعار والنّاس دثار (الشعار اللّباس الذي يلي شعر الجسد، والدّثار ما يلبس فوقه) يريد أنهم الأصل وغيرهم الفرع. هذا وقد ذكر البغوي أن الزهري قال بلغني أن شيبة بن عثمان قال استدبرت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم حنين أريد قتله بطلحة بن عثمان وابنه عثمان حيث قتلا يوم أحد، فأطلع الله رسوله على(6/421)
ما في نفسي فالتفت صلّى الله عليه وسلم إليّ وضربني في صدري وقال أعيذك بالله يا شيبة فأرعدت فرائصي، فنظرت إليه فإذا هو أحب إلي من سمعي وبصري، فقلت أشهد أن لا إله إلّا الله وأنك رسول الله، قد أطلعك الله على ما في نفسي، وأسلم وحسن إسلامه. وروى مسلم عن رافع بن خديج قال أعطى رسول الله أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن قصي والأقرع بن حابس كلّ إنسان مئة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك
، فقال عباس:
أتجعل نهبن ونهب البعيد ... بين عيينة والأقرع
فما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن يخفض اليوم لا يرفع
قال فأتم له رسول الله مئة. وروى البخاري عن المسور بن مروان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد عليهم مالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله إن معي من ترون، وأحبّ الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطّائفتين، إما المال وإما السّبي، وقد كنت استأنيت بكم، وفي رواية كان صلّى الله عليه وسلم انتظرهم بضعة عشرة ليلة حين قتل من الطّائف، فلما تبين لهم أنه غير رادّ عليهم إلّا إحدى الطّائفتين، قالوا إذا نختار سبينا، فقام صلّى الله عليه وسلم في النّاس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال أما بعد، فإن إخوانكم هؤلاء جاءونا تائبين، وإني قد رأيت أن أردّ إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك لهم فليفعل، فقال النّاس قد طيبنا ذلك لهم يا رسول الله، فقال لهم في ذلك إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم، فرجع النّاس ليكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا. فهذا الذي بلغنا من سيرة هوازن قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا» التاسع من الهجرة الذي نزلت فيه هذه السّورة وحج فيه أبو بكر بالناس نائبا عن رسول الله ولم يحج به رسول الله لئلا يرى مشركا أو عريا بالطواف بالبيت قبل الإنذار الذي قدمه إليهم مع ابن عمه علي كرم الله وجهه الذي هو بالنسبة له بمنزلة هرون من(6/422)
موسى، كما ورد عنه صلّى الله عليه وسلم والمراد هنا أنهم نجسوا العقيدة لا أنهم أنفسهم نجسة كما ذهب إليه بعض الإمامية راجع الآية (5) من سورة المائدة المارة «وَإِنْ خِفْتُمْ» أيها المؤمنون إن انقطاع المشركين عن الحضور إلى البيت الحرام بسبب لكم «عَيْلَةً» فقرا وفاقة بانقطاع تجارتهم والبيع والشّراء معهم «فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» بأن يكثر لكم الدّرّ والنّبات، ويزيد في تجارة المسلمين ويكثر وفودهم على البيت بما يكفيكم عنهم «إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ» كثير الألطاف على عباده «عَلِيمٌ» بما ينشأ عن مجيئهم وعدمه وما يصلح به شأنكم من غيرهم «حَكِيمٌ» (28) بتحقيق آمالكم وكفايتكم من طرق لم تكن ببالكم، وانّما شرط المشيئة على نفسه الكريمة جلت وعظمت تعليما لعباده ليكونوا دائمي التضرع والابتهال إليه في طلب الخير ودفع الشّر، ويقطعوا آمالهم من الخلق ويخلصوا التوكل عليه والإنابة في كلّ أمورهم. الحكم الشّرعي: لا يجوز لكافر أن يدخل حرم مكة المشرفة ذميا كان أو مستأمنا، ويجب على الإمام إذا أتاه رسول كافر من دار الكفر أن يخرج هو إليه لا أن يدخله الحرم، ولهذا فإن جميع سفراء الدّول قد خصص لإقامتهم محلات في جدة خلافا للدول الأخرى فإنهم يسكنون في العاصمة نفسها، وبما أن عاصمة الحجاز مكة المكرمة وقد حرمها الله على الكفرة جعلت إقامتهم في جدة أما بقية الأراضي الحجازية مما بين اليمامة ونجد واليمن والمدينة المنورة وما بين جبلي طي وطريق العراق فيجوز لهم دخولها بالإذن على أن لا يقيموا بها أكثر من ثلاثة أيّام. ويدخل الحرم في المسجد الحرام لأن دخولهم فيه قريب من نفس المسجد، يؤيد هذا قوله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» وهو إنما أسري به من بيت أم هانيء، وهو من الحرم فأطلق عليه لفظ المسجد لأن مكة حكمه، وأما بقية البلاد الإسلامية السّائرة فللكافر الإقامة فيها بعهد وأمان وزمة ولا يدخلون المساجد إلّا بإذن من أمير مسلم، روى مسلم عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لأخرجن اليهود والنّصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلّا مسلما. زاد في رواية لغير مسلم، وأوصى فقال:
أخرجوا من المشركين من جزيرة العرب قال تعالى «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ(6/423)
بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ»
مواتية غير ممتنعة وقوة وقهر وغلب، يقال لكل من أعطى شيئا كرها عن غير طيب نفس أعطى عن يد «وَهُمْ صاغِرُونَ» (29) أذلاء مهانون.
الحكم الشّرعي: تؤخذ الجزية من أهل الكتاب عامة ومن مشركي العجم، أما العرب المشركون فالإيمان أو السّيف، إذ لا تقبل منهم الجزية إذا أرادوا البقاء على كفرهم، وتؤخذ من المجوس، أخرج مالك عن جعد بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال ما أدري كيف أصنع في أمرهم، فقال عبد الرّحمن ابن عوف أشهد أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب.
مطلب أسباب ضرب الجزية على أهل الكتاب وما هي، ومعاملتهم بالحسنى وبيان مثالبهم التي يفعلونها ويأمرون بها:
ومن قال إنها لا تؤخذ من أهل الكتاب العرب فقوله رد عليه. وبما رواه أنس أن النّبي صلّى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر رومة، فأخذه فأتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية، أخرجه أبو داود، وهو رجل من العرب من غسان وأقل الجزية من كلّ حالم أي محتلم عاقل دينار في كلّ سنة أخرجه أبو داود. وعن معاذ بن جبل عن رسول الله لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كلّ حالم دينارا أو عدله من المعاقربة (ثياب تكون في اليمن) وأكثرها على الغني أربعة دنانير وعلى المتوسط اثنان، والفقير واحد فقط، وأخرج مالك في الموطأ عن أسلم أن عمر ضرب على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهما، ومع ذلك شرط عليهم أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيّام لمن يؤمهم أو يمرّ بهم في غزوة أو تجارة أو زيارة أو غيرها، راجع الآية 69 من سورة الحج المارة والآية 64 من سورة المائدة أيضا. وليس القصد من أخذ الجزية إقرارهم على دينهم بل حقن دمائهم وإمانة لهم لعلهم يرغبون في الحريّه الكاملة فيؤمنون، وعليه فيجب على المسلمين كافة أن يعاملوهم معاملة حسنة ويحفظوا مالهم وعرضهم وذراريهم وخدمهم وأن يروهم كلّ ما يأمر به الإسلام من محاسن الأخلاق وعلو الآداب واللّين والعطف(6/424)
والرّقة أملا بدخولهم في الإسلام عن رغبة وشوق واختيار لا عن كراهية وبغض واضطرار، لأنهم أهل كتاب فلربما يعيدون نظرهم إلى كتبهم فيفكرون فيها ويدققون ما ترمي إليه من صدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وصحة دينه الذي تشير إليه كتبهم، وإنما أمهلوا فلم يقاتلهم الرّسول ولم يأمر بقتالهم وقد قبل منهم الجزية لهذه الغاية وحرمة لآبائهم الّذين انقرضوا على شريعة التوراة والإنجيل الصّحيحين، لذلك علينا معشر المؤمنين أن نقوم بواجبهم ونخترم حقوقهم ونريهم مكارم الأخلاق ومحاسن هذا الدين الحنيف ونعاملهم كمعاملة بعضنا لبعض بل أحسن، وقد أمرنا الله بالآداب وحسن الخلق الذي مدح رسوله عليه في كتابه ليركن إليه النّاس عن طيب نفس وليتعشّق النّاس دينه الحق وقوله الصّدق الذي أمر الله النّاس باتباعه وأمر الأنبياء وأتباعهم باتباعه، ولهذا أمر الله تعالى رسوله بعدم قتالهم إذا أرادوا الجزية وتركهم لعلهم يتذكرون في هذا. ولما أمر الله تعالى بقتال طوائف من اليهود والنّصارى الموصوفين بالآية المتقدمة ليؤمنوا أو بضرب عليهم الجزية ذكر وجه كفرهم بقوله عز قوله «وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ» وحاشا الله أن يكون له ولد، وإنما قالوا ما قالوه افتراء من تلقاء أنفسهم كما قالت طائفة من العرب بهتا الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فكل من له لبّ سليم أو عقل كامل لا يقول هذا سواء أكان من النّصارى أو اليهود أو غيرهم، وإنما تقول الجهلة الّذين لا فطنة لهم بسبب ما أتاهم الله من المعجزات التي لا يتصور صدورها من البشر، ولم يعلموا أن الله يظهر على يد من يشاء من عباده الخوارق، أما ما جاء في الإنجيل بلفظ الأب فلا يراد منه معنى الأبوة التي مصدرها التوالد، بل المراد منه المربّي، فهو جل جلاله بهذا المعنى أب للخلق كافة، قال الفيلسوف الشّهير (رينان) إن عيسى عليه السّلام عند ما قال أبي عن الله لم يرد أن الله أبوه حقا، وإنما عنى بذلك أنه كالأب في الحنان والعطف. بل هو أشد حنانا وعطفا على خلقه من آبائهم. فانظر أيها المدرك قول هذا، واعلم أن القائلين بأن عيسى ابن الله من أهل الكتاب وأراد النّبوة نفسها بمعنى الوالد فهو في عداد المشركين، إذ لا فرق بين من يعبد الوثن الجامد وبين من(6/425)
يعبد الإنسان أو الملك أو الكوكب، راجع تفسير الآية (259) من البقرة والآية (5) من آل عمران المارتين تقف على سبب اتخاذ عزير وعيسى ابنين لله، تعالى عن ذلك، وقد جاء في رواية عطية الصّوفي عن ابن عباس أنه قال إنما قالت اليهود ذلك لأن عزيرا كان فيهم وكانت التوراة عندهم فأضاعوها وعملوا بغير الحق فرفع الله عنهم التابوت وأنساهم التوراة، فقال عزير عليه السّلام قد ردّ الله إلي التوراة فعلمهم إياها، فلما نزل إليهم التابوت عرضوا ما تعلموه من عزير عليها، فوجدوه موافقا لما في التابوت حرفيّا، فقالوا
ما أوتي هذا إلّا لكونه ابنا لله، وقد أماته الله مئة عام ثم أحياه، راجع الآية المذكورة في البقرة، وأما النّصارى فبقوا بعد رفع عيسى إحدى وثمانين سنة يصلون ويصومون، فاختلفوا مع اليهود وقتل برلص اليهودي من النّصارى ما قتل، وقال اليهود إن كان الحق مع عيسى فقد كفره والنّار مصيرنا فعرقب فرسه وندم وتنصر وقال: قد نوديت إلى الله قبل توبتي، فأحبه النّصارى، وعمد إلى أحدهم المسمى نسطورا فعلمه أن عيسى ومريم والإله ثلاثة، وعلم منهم رجلا اسمه يعقوب بأن عيسى ليس بإنسان بل هو ابن الله، وعلم آخر اسمه ملكان بأن عيسى هو الله، وكان تعلم الإنجيل وجمع الثلاثة المذكورين، وقال لهم إني رأيت عيسى في المنام وقد رضي عني وأني سأذبح نفسي تقربا إليه، واذهبوا أنتم فادعوا النّاس إلى ما علمتكم، وذبح نفسه فذهب لثلاثة المذكورون إلى بيت المقدس وإلى الرّوم وكلّ منهم دعا النّاس إلى ما أمر به وتعلم من بولص المذكور لعنه الله كيف اختلق هذه الفرية من نفسه وضحى بنفسه للتمسك به وإكفار النّاس، وهو أول من يدخل في قوله تعالى ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيمة ومن أوزار الّذين يضلّونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون الآية (25) من سورة النّحل في ج 3 وراجع الآيات 19، 75، 76 من سورة المائدة المارة، قال تعالى «ذلِكَ» القول الذي ابتدعوه واختلفوه «قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ» غير مستند إلى نقل ولا منتم إلى علم مجرد عن الحقيقة افتروه على الله «يُضاهِؤُنَ» بتقولهم هذا ويشابهون به «قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ» بأن يوافقوا ما قالوه من أن الملائكة بنات الله قال تعالى في حق(6/426)
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
هؤلاء العرب (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) الآية 57 من سورة النحل في ج 2 «قاتَلَهُمُ اللَّهُ» جميعا «أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (30) يصرفون الحق إلى الباطل والصّدق إلى الكذب وفي هذه الجملة معنى التعجب وهو راجع إلى الخلق لأن الخالق لا يتعجب من شيء. واعلم أن ما ذاع على ألسنة النّاس في قولهم أي شيء خلقه الله وتعجب منه ويريدون الإبل في قوله تعالى (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) الآية 18 من سورة الغاشية ج 2 فهو من هذا القبيل لا كما يزعم العوام تأمل.
واعلم أن هؤلاء اليهود والنّصارى «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» لأنهم أطاعوهم في معصيته واتبعوهم فيما يحللون ويحرمون حسب شهواتهم وأهوائهم فكأنهم عبدوهم «وَ» أن النّصارى اتخذوا «الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ» إلها لاعتقادهم البنوة فيه والحلول في ذات الله كما اتخذت اليهود عزيرا ابنا لله «وَما أُمِرُوا» من قبل أنبيائهم ولا في كتبهم المنزلة عليهم من الله «إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً» وهو الإله العظيم الذي «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» (31) به من خلقه وإنهم بدّلوا وغيروا أحكام الله المنزلة إليهم على لسان رسلهم اتباعا لقادتهم ورؤسائهم قال عبد الله بن المبارك:
وهل بدّل الدّين إلّا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها
ولولا هؤلاء الكذابون المشغوفون يحب الرّياسة لما وقع شيء من ذلك ولكن إرادة الله قضت به أولا فلا يقع شيء في كونه إلّا بإرادته فآمن من آمن بحسن يقينه وكفر من كفر بسوء حاله طبق ما هو مقدر في علمه «يُرِيدُونَ» هؤلاء بعملهم هذا «أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ» دينه المنير المؤيد بالبراهين الواضحة والحجج الدّامغة والدلائل السّاطعة التي هي في شدة بيانها وكمال ظهورها كالنور «بِأَفْواهِهِمْ» بمجرد أقوالهم الكاذبة الصّادرة عن غير رويّة وتفكر ونظر «وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» (3) ذلك الإتمام فإنه سيتمه رغم أنوفهم وهذا وعد قد أنجزه الله لرسوله حال حياته وقد أظهر دينه وأعلاه على سائر الأديان وهو حتى الآن قامع رؤوس الكافرين والمبتدعين بحقه وصدقه ولا يزال إن شاء الله كذلك حتى يرث الأرض ومن عليها قال صلّى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من(6/427)
أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة قال تعالى «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى» أي القرآن الهادي للناس أجمع لو اتبعوا أحكامه وأوامر المنزل عليه وعملوا فيهما «وَدِينِ الْحَقِّ» الإسلام الذي لا أحق منه قال تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) الآية 85 من آل عمران المارة: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (33) وسيتم هذا عند نزول سيدنا عيسى عليه السّلام، إذ لا يبقى دين في زمنه غير دين الإسلام، ولا يبقى على وجه الأرض إلّا مسلم وكافر، ثم ينهار الإسلام أولا بأول حتى لا يبقى من يقول الله، فتقوم السّاعة على شرار الخلق وكلهم إذ ذاك أشرار، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلّا بالله. روي عن أبي هريرة في حديث نزول عيسى قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويهلك في زمنه الملل كلها إلّا الإسلام. يدل على هذا قوله تعالى (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) الآية 158 من سورة النّساء المارة، ونظير هاتين الآيتين الآيتان 9 و 10 من سورة الصّف المارة، وقد عدّد الله تعالى في هذه الآيات مثالب بني إسرائيل، وسبق أن بينا قسما منها في الآيات من 40 إلى 60 من سورة البقرة في معرض تعداد النّعم عليهم، وكذلك في الآيات ص 62 إلى 123 ومن 130 إلى 147 من البقرة أيضا وآيات أخر منها ومن غيرها، مما يدل على أنهم لم يقابلوا نعم الله التي أسبغها عليهم بالشكر بل بالإنكار والجحود، وأوامره بالعناد والكفر، حتى توصلوا إلى قتل أنبيائهم قاتلهم الله وأخزاهم في الدّنيا والآخرة.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» أنفسهم وغيرهم لقاء ما يأخذونه منهم من حطام الدّنيا، مع أن الواجب عليهم ألّا يفعلوا شيئا من ذلك، لأن الأحبار بمثابة العلماء العاملين، والرّهبان بمثابة المشايخ الصّوفية الكاملين المتقيدين بحدود الله، وكلمة كثير تفيد أن القليل منهم لا يفعل ذلك بل يجمع لنفسه وغيره منه ويتقيد بأوامره ونواهيه «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ(6/428)
وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ»
(34) يوم القيمة «يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ» ويقال لهم حين يفعل بهم ذلك «هذا» جزاء وعقاب وعذاب «ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ» من الذهب والفضة التي لم تؤدوا حق الله منها «فَذُوقُوا» وبال تضييعكم حق الله وعدم إعطائه لفقرائه جزاء «ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ» (35) في دنياكم، وفي هذا معنى الذم لمالهم ذلك لأنهم لم ينتفعوا به.
والكنز يطلق على الجمع وغيره، راجع الآية 267 من سورة البقرة الدّالة على فرضية الزكاة، وهذه الآية عامة في كلّ من ذلك شأنه، لأنها نزلت في مانعي الزكاة، وإن ورودها بسياق ذم أهل الكتاب الّذين يأخذون أموال النّاس بالباطل لا يخصصها فيهم، روى مسلم عن زيد بن وهب قال مررت بالربذة فإذا بأبي ذر، فقلت ما أنزلك بهذا المنزل؟ قال كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) فقال معاوية نزلت في أهل الكتاب، فقلت نزلت فينا وفيهم. فكان بيني وبينه في ذلك كلام، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليّ عثمان أن أقدم إلى المدينة، فقدمتها، فكثر علي النّاس حتى كأنهم لم يروني من قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال إن شئت تنحيت قريبا، فذلك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمّر عليّ عبد حبشي لسمعت وأطعت، يريد رضي الله عنه إفهامهم بأن عثمان رضي الله عنه نفاه إلى ذلك المكان وأن طاعته واجبة عليه. ومعنى الكنز ما روي عن ابن عمر قال أعرابي أخبرني عن قول الله تعالى عز وجل (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ إلخ) قال ابن عمر من كنزها فلم يؤدّ زكاتها ويل له، وهذا كان قبل أن تنزل آية الزكاة، فلما نزلت جعلها الله طهرا للأموال أخرجه البخاري. وفي رواية مالك عن عبد الله بن دينار قال سمعت عبد الله بن عمر قال كلّ مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا. وهذا هو الحكم الشّرعي في ذلك، وإن مانع الزكاة يدخل في هذا الوعيد.(6/429)
مطلب في ذم مانعي الزكاة وعقابهم، ومعنى الكنز، وسبب نفي أبي ذر، والأشهر الحرم، واختلاف السّنين، وعدد أيامها:
أخرج مسلم عن أبي هريرة قال قال صلّى الله عليه وسلم ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلّا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جبينه وجنبه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي الله بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنّة وإما إلى النّار. قيل يا رسول الله فالإبل؟ قال ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها إلّا إذا كان يوم القيمة يبطح لها بقاع قرقر (المستوي من الأرض الواسعة الملساء) أوفر مما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا فتطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما الى الجنّة وإما إلى النار، قيل يا رسول الله والبقر والغنم؟ قال ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء (ملتوية القرنين) ولا حلجاء (لا قرون لها) ولا عضباء (مكسورة القرنين) تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما مرّ عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقدارة خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنّة وإما إلى النّار. وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من آتاه الله مالا فلم يؤدّ زكاته مثل له ماله شجاع أقرع (حيّة مسنّة) له زبيبتان (شعرتان) في شدقيه يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهمزتيه (العظمان النّاتئان من لحييه) يعني شدقيه، ثم يقول أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا قوله تعالى (ولا تحسبن الّذين يبخلون) الآية 180 من آل عمران المارة. وفي موطأ مالك من كان عنده مال لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطلبه حتى يمكنه يقول له أنا كنزك. وروى البخاري ومسلم عن أبي ذر قال انتهيت إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال هم الأخسرون ورب الكعبة، قال فجئت حتى جلست فلم أتقار حتى قمت فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم قال(6/430)
هم الأكثرون أموالا إلّا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم، ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلّا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفدت أخراها عادت أولاها حتى يقضى بين النّاس. ورويا عن الأحنف بن قيس قال قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل خشن الثياب خشن الجسد خشن الوجه فقام عليه فقال بشّر الكافرين برحف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه، ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثديه، يتزلزل قال فرفع القوم رؤوسهم فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا، قال فأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية فقلت ما رأيت هؤلاء إلّا كرهوا ما قلت لهم، فقال إن هؤلاء لا يعقلون شيئا، قلت من هذا قالوا أبو ذر، قال فقمت إليه فقلت ما شيء سمعتك تقول من قبل؟ فقال ما قلت إلا شيئا سمعته من رسول الله نبيهم صلّى الله عليه وسلم. والرّضف هو الحجارة المحماة، والغض بالضم والفتح غرضوف الكتف، والغرضوف كلّ عظم رخص يؤكل كمارن الأنف ورؤوس الأضلاع ورهابة الصّدور وداخل قوف الأذن ونغض الكتف (والقوف هو أعلى الأذن أو مستدار سمعها) وجاء في حديث عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له ألا أخبرك بخير ما يكنز المرأة الصّالحة التي إذا نظر إليها سرّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته. أخرجه أبو داود. وجاء عن ثوبان أن بعض الأصحاب سأل حضرة الرّسول عن خير المال قال أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه- أخرجه الترمذي- قال تعالى «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ» قدرها على ما هي عليه الآن «يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» فجعلها لكل سنة وأيّام السّنة ثلاثمائة وخمسون يوما وربع يوم
تقريبا بحسب الهلال، فتنقص السّنة الهلالية عن الشّمسية عشرة أيّام وثلث اليوم تقريبا، ويسبب هذا النّقص تدور السنة الهلالية، فيقع الحج والصّوم تارة في الصّيف، وطورا في الخريف، ومرة في الشّتاء، وأخرى في الرّبيع بحيث يدوران في كلّ يوم من أيّام السّنة ويعودان(6/431)
للمركز الذي كانا فيه في كلّ ثلاث وثلاثين سنة وثلث السّنة مرة، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 16 من سورة الحجر في ج 2 والآية 13 من الإسراء في ج 1 بصورة مفصلة فراجعها «مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ» واحد فرد وهو رجب وثلاثة مرة وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وهي محترمة في الجاهلية والإسلام زادها الله حرمة وتعظيما وجعل الحسنات فيها مضاعفة وكذلك السّيئات لما فيها من انتهاك حرمتها، راجع الآية الخامسة المارة، من حرمتها أنه إذا وجد الرّجل قاتل ابنه أو سالب أو هانك عرضه لا يتعرض له، ولهذا فإن الّذين بينهم شىء من ذلك لا ينقطعون عن مكة فيها فيجلبون لهم الطّعام والألبسة ويبيعونهم إياها، لأن أهالي مكة دائما محتاجون للقوت واللّباس من أهل البلاد الآخرين، ولعل هذا أحد أسباب التحريم رحمة بأهالي مكة لئلا ينقطع عنهم الجلب ولو من أعدائهم «ذلِكَ» جعل الشّهور اثني عشر أحدا للسنّة وتخصيص أربعة منها بالحرمة «هو الدِّينُ الْقَيِّمُ» الذي سنة الله لعباده وأراد بقاءه ودوامه على مر السّنين بلا تغيير ولا تبديل ولا تحويل، وان تعظيم الحرم فيها من مقتضيات الدّين الذي تعبدنا الله به. الحكم الشّرعي: وجوب التقيد بمراسم الحج والصّوم والأخذ بهذا الحساب من أجلها واتخاذ الأعياد التي سنت فيها وإجراء المعاملات على حسبها لما فيها من قوام الأمر بين الله والنّاس، وان التغيير والتبديل والتحويل يسبب الظّلم للنفس وللغير، ومن المهلكات في الدّنيا والآخرة، ولهذا قال الله تعالى «فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ» أيها النّاس فتقدموا بعض الأشهر على بعض أو تضعوا شهرا مكان الآخر كما فعله من قبلكم حال جاهليتهم «وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً» فتعاونوا وتناصروا على قتلهم ولا تفرقوا وتخاذلوا فتفشلوا وتجبنوا، بل كونوا يدا واحدة على قلب واحد متكاتفين متعاونين على قتال أعدائكم، فإذا كنتم كذلك فإن الله تعالى يبشركم بالفوز ويضمن لكم النّصر والظّفر إذا اتقيتموه بقوله عز قوله «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» (36) مناهية المتبعين أوامره ومن يكن الله معه ينصره ويخذل عدوه في الأشهر الحرم وغيرها، لأن الكفرة إذا قاتلوا المؤمنين فيها جاز لهم قتالهم فيها كما هي الحال في الحرم(6/432)
أيضا، راجع الآيتين 191، 217 من سورة البقرة المارة. قال تعالى «إِنَّمَا النَّسِيءُ» التأخير من شهر محرم إلى غير محرم الذي كان يفعله الجاهلية «زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ» لا يجوز لأحد أن يفعله أبدا، إذ لا مبرر له، وأما ما كان من زعم الجاهلية وفعلهم التأخير فإنه كان حال كفرهم وتجردهم من الدّين وعدم معرفتهم الحلال من الحرام، فكان عملهم يزيد في كفرهم وقد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم اختلاقا، وذلك أنهم كانوا إذا حاربوا واستداموا في الحرب حتى جاءهم شهر حرام ولم ينتهوا من حربهم بعد يحلونه ويحاربون فيه ويحرمون شهرا بدله تبعا لهواهم، ولذلك ذم الله صنيعهم هذا وجعله من الإضلال بعد الضّلال، فقال عز قوله «يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا» من قبل كبارهم فيحملون على ذلك بعضهم فيوافقوهم على ضلالهم، وكان عليهم إذا حل الشّهر الحرام أن يتركوا الحرب ويتعاهدوا أمورهم ويتفاوضوا بينهم ويتداولوا بما يفضي الى الصّلح حقنا للدماء، لأن الله تعالى لم يحرم القتال في هذه الأشهر عبثا ولا لعبا، وإنما لغايات سامية تكون في منفعة النّاس، وقد نشأ هذا الضّلال لأنهم «يُحِلُّونَهُ» أي ذلك الشّهر الحرام «عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً» آخر إذا لم يصادف حربا، ثم يبدلون الأشهر ويحورونها «لِيُواطِؤُا» يوافقوا ويماثلوا «عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ» من إبقائها على حالها أربعة بمواقعها «فَيُحِلُّوا» بفعلهم هذا «ما حَرَّمَ اللَّهُ» من الأشهر ويحرموا بدلها مما أحله الله بحسب ما تسول لهم أنفسهم، وهؤلاء قوم «زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ» فظنوها حسنة وهي في غاية من القبح ونهاية من الخبث وزيادة في الكفر «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» (37) الى الصّواب بل يضلهم ويعميهم عنه لركونهم للاعوجاج وميلهم له اختيارا ورضى به ورغبة فيه عن
طيب نفس، ونائب فاعل زين هو الشّيطان الذي يلقي في قلوبهم النّجسة أمثال هذه المخالفات فيعملونها.
واعلم أنه لا يجوز إنقاص أشهر السّنة عن هذا العدد، ولا إنقاص الأشهر الحرم منها أو تبديلها لورود النّص القاطع فيه، لأن نقصها وزيادتها مخالف لأمر الله تعالى، أما ما تعمله اليهود من نقص عدد أشهر بعض السّنين وزيادتها في بعضها فهو من جملة مخالفاتهم لأوامر أنبيائهم وكتابهم وتحريفهم ما جاء عن الله تعالى(6/433)
فيكفيهم ما ذمهم الله به في القرآن العظيم في آيات عديدة وليس بعد ذم الله ذم، فمن تسول له نفسه الاقتداء بفعلهم هذا فليشاركهم بغضب الله عليهم في الدّنيا وعذابهم في الآخرة وبهما كفاية له ولأمثاله. روى البخاري ومسلم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق السّموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مفرد الذي بين جمادى وشعبان. أي حافظوا عليها ولا تبدلوا أو تؤخروا أو تحوروا فتخالفوا أمر الله فتسترجبوا غضبه. واعلم أن أول من سنّ التأخير في الأشهر الحرم نعيم بن ثعلبة وتبعه فيه قومه ومنهم جنادة بن عوف الذي أدرك رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم، وآخر ملوكهم القلمس وهو الذي أخر المحرم عن وقته من أجل السّبب المتقدم ذكره وفيه يقول الكميت:
ونحن النّاسئون على معدّ ... شهور حلّ نجعلها حراما
وهذا من باب الافتخار الجاهلي لأنهم كانوا لا يبالون بأن يفتخروا بالقتل والسّبي والتحريم والتحليل، كما يفتخرون بالكرم والشّجاعة والفصاحة، لأنهم لا يتقيدون بدين يمنعهم عن ذلك، ولا عادة يذمون بها، لذلك فإن افتخارهم بما هو مباح كافتخارهم بما هو محرم على حد سواء، وكلّ منهما عندهم مما يفتخر به.
مطلب فى المجاهدين وما ذكره الله من هجرة رسوله والحث على الجهاد وغزوة تبوك وما وقع فيها:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ» تباطئتم عن تلبية الأمر حالا ولم تسرعوا للاجابة وملتم الى الإخلاد «إِلَى الْأَرْضِ» والمكث فيها وكراهية الذهاب للجهاد في سبيل الله «أَرَضِيتُمْ» أيها المؤمنون الأعزاء الكرام «بِالْحَياةِ الدُّنْيا» الدنيئة واغتررتم بزخارفها المموّهة الفانية وآثرتموها «مِنَ الْآخِرَةِ» الباقية ذات النّعيم الدّائم، فتبّا وخسرا لمن آثر ما يفنى على ما يبقى، وآثر القعود على الجهاد «فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي» جنب الحياة «الْآخِرَةِ» مستمرة الرّاحة عظيمة الاستراحة «إِلَّا قَلِيلٌ» (38) جدا، أخرج مسلم عن المسور قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم(6/434)
والله ما الدّنيا من الآخرة إلّا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم ثم يرفعها فلينظر بم يرجع. أي لا يرجع بشيء أصلا. وهذه الآية تشير الى وجوب الجهاد في كل وقت وحال لأنها تنصّ على أن التشاغل عنه منكر، ولذلك عابهم الله عليه.
ثم ذكر ما يترتب على عدم إجابتهم والمسارعة للجهاد فقال «إِلَّا» إن لم «تَنْفِرُوا» الى ما استنصركم إليه رسولكم وتخرجوا حالا إلى جهاد عدوكم الذي يوجهكم اليه وتتقاعسوا عن تلبية أمره لقتال أعداء الله أعدائكم الحريصين على استئصالكم «يُعَذِّبْكُمْ» ربكم الذي أمر نبيكم بذلك إرادة عزكم وإكرامكم «عَذاباً أَلِيماً» في الدّنيا بالذل والهوان والخزي والعار، وفي الآخرة بالعذاب الأليم وإحراقكم بنار الجحيم، ويوشك أن يدمركم حال مخالفته «وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ» يلبون دعوته ويسرعون لما أمرهم به دون توان رهبة من الله ورسوله ورغبة في إعلاء كلمته وإهلاك أعدائه وانتشار دعوته وإعزاز المسلمين وإذلال الكافرين. ونظير هذه الآية في المعنى الآية الأخيرة من سورة محمد عليه الصلاة والسّلام والآية الثالثة من سورة الجمعة المارتين «وَلا تَضُرُّوهُ» أيها المخالفون أمره «شَيْئاً» أبدا بعدم تلبيتكم أمره كما أنه لا يضرّه شيء إذا أبادكم وأتى بغيركم بل يعود الضّرر كله عليكم «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (39) لا يعجزه شيء لأن إهلاككم وإحداث قوم غيركم يكون بكلمة كن ليس إلا. ثم أكد تعالى استغناء رسوله عنهم إذا شاء بقوله «إِلَّا تَنْصُرُوهُ» حين يستنصركم لما به صلاحكم ونجاحكم «فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ» من قبل وأغناه عنكم في حادثة بدر والأحزاب وغيرهما، وهو قادر الآن أيضا على نصره «إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» حين عزموا على قتله أو إخراجه من مكة أو حبسه فأذن الله له بالخروج من بينهم وأعمى أبصار أعدائه عن أن يروه حين خروجه وهم على بابه بانتصاره مصلتين سيوفهم لقتله حين خروجه، وحتى عليهم التراب ولم يروه وأعمى الّذين لحقوه من أن يدركوه وأعجزهم من أن يمسكوه حينما كان «ثانِيَ اثْنَيْنِ» هو وصاحبه أبو بكر فقط لا ثالث لهما إلّا الله، وقد حفظه ورعاه «إِذْ هُما فِي الْغارِ» الواقع في الجبل الكائن عن يمين مكة على مسيرة ثلاث فراسخ وكان(6/435)
يسمع قوله «إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ» أبي بكر رضي الله عنه الذي من أنكر صحبته فقد كفر لجحده ما نص الله عليه في كتابه. روى البخاري ومسلم عن أبي بكر قال نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على روسنا، فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ وقد بقينا فيه ثلاثا بحمى الله فقط وخفارة ملائكة الكرام.
ولما ضاق ذرع أبي بكر أنزل الله على رسوله قوله جل قوله يا محمد قل لصاحبك «لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» ومن كان الله معه لا يخاف ولا يحزن ولا ينبغي له أن يضيق صدره مما يقدره عليه «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ» أمنه وطمأنينته «عَلَيْهِ» وعلى صاحبه «وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها» وهم الملائكة الّذين تولوا حفظهما وصرفوا وجوه الكفار عنهما في الغار، فلم يروهما مع وقوفهم عليهما، لما رأوا من أعشاش الحمام ونسج العنكبوت وكأنها قديمة مما أيقنهم أنه لم يكن في الغار أحد، ولم يدخل إليه من عهد قديم، وكذلك كلأه ورفيقه حينما خرجا من الغار وأعمى المشركين عنهم وفعل ما فعل بسراقة كما بيناه في قصة الهجرة المندرجة آخر الجزء الثاني، فراجعها، وقد أيده بهذه الجنود أيضا في حوادث بدر والأحزاب وحنين وأحد بعد الهزيمة «وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى» لأنها مدعاة الى الكفر به «وَكَلِمَةُ اللَّهِ» بالرفع والواو فيها للحال وقرأ بعضهم كلمة بالنصب عطفا على كلمة الأولى وليست بشيء، وقراءة الرّفع أولى وأبلغ لأن كلمة الله عالية ولا تزال عالية سامية، وهي نداء للاسلام ودعاء للإيمان ولذلك فإنها «هِيَ الْعُلْيا» في الماضي والحال والاستقبال إلى الأبد إن شاء الله «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» غالب قوي على أعلائها ودوامها ورفعة شأنها وشأن الإسلام على غيرهم «حَكِيمٌ» (40) بإعلاء كلمته وإعظامها وإذلال كلمة الكفر وإدنائها، فيعلي الإيمان وأهله بعزته، ويهين الكفر وملته بعظمته، قال الزهري: لما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم الغار أرسل الله زوجا من الحمام فباضتا في أسفل النّقب ونسجت العنكبوت بيتا. وقال صلّى الله عليه وسلم اللهم أعم أبصارهم، فجعل الطّلب يضربون يمينا وشمالا(6/436)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
حوالي الغار ويقولون لو دخلاه لتكسر البيض وتفسخ نسج العنكبوت، وأنشد أبو بكر رضي الله عنه:
قال النّبي ولم يجزع يوقرني ... ونحن في سدف في ظلمة الغار
لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا ... وقد تكفل لي منه بإظهار
وإنما كيد من نخشى بوادره ... كيد الشّياطين قد كادت لكفار
والله مهلكهم طرا بما صنعوا ... وجاعل المنتهى منهم إلى النّار
وهذا البحث قد مر في الآيتين 31 و 36 من الأنفال، وفي الآية 40 من سورة العنكبوت ج 2 فراجعها. قال الأبوصيري:
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على ... خير البرية لم تنسج ولم تحم
إلخ الأبيات من البردة. وقال في الهمزية:
أخرجوه منها وآواه غار ... وحمته حمامة ورقاء
إلخ الأبيات، وقيل في هاتين القصيدتين ما مدح خير البرية بأحسن من البردة والهمزية، وهو كذلك، لأنهما جامعتان مانعتان، وكلّ المداح عيال على صاحبهما رحمهم الله.
قال تعالى «انْفِرُوا خِفافاً» نشطين سراعا حال النّداء بلا توان «وَثِقالًا» متروين بكمال الاستعداد ركبانا ومشاة شبانا وشيوخا، فقراء وأغنياء، عزلا ومسلحين، عزبانا ومتأهلين، مشاغيل وبطّالا، فيدخل في كلمتي خفافا وثقالا كل من لم يستثنه الله الآتي ذكرهم في الآيتين 93 و 94 من هذه السّورة، والمنقطعين إلى طلب العلم المشار إليهم في الآية 123 الآتية، وكذلك الّذين هم في ثغور المسلمين، والّذين على ذراريهم وأموالهم وادارتهم. ولا نسخ في هذه الآية لأن عمومها مقيد بالمستثنى منها كالآية 18 من سورة الفتح المارة، والقاعدة أن العام يحمل على الخاص، والمطلق على المقيد دائما، ولهذا فإن هذه الآية محكمة «وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ» وهذا الأمر للوجوب بهما أو بأحدهما، فمن لم يقدر عليهما معا لأجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه وإعزاز لأمته أن يجاهد فيهما «فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فليكن بأحدهما «ذلِكُمْ» الجهاد بالمال والنّفس «خَيْرٌ لَكُمْ» مع القدرة عليهما عند الله في الآخرة وعند النّاس في الدّنيا،(6/437)
لما يترتب عليه من المصالح، لأن التخلف عنه والقعود مذمّة لكم عندهما، فضلا عن أنه يغضب رسول الله وأصحابه والمسلمين أجمع «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (41) ما ترمي إليه هذه الدّعوة من النتائج الحسنة والخيرات الكثيرة والمبرات النّافعة، ومذمّة ما ينشأ عن التخلف من العاقبة السّيئة والمضرات العامة والذل والهوان نزلت هذه الآيات في غزوة تبوك، وذلك أن حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم بعد أن فتح مكة وغزا هوازن وحنين وأوطاس وحاصر ثقيفا بالطائف وفتحها وأتى الجعرانة احرم بالعمرة، ثم رجع إلى المدينة أمر بغزو الرّوم، وكان ذلك في شدة الحر وزمن عسرة وقلة وحاجة، وكانت عادته صلّى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورىّ بغيرها إلا في غزوة تبوك، فإنه جلّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا لعدوهم أهبة كاملة بكل ما يستطيعون من العدة والذهاب لاستقبالهم سفرا بعيدا ومفاوز وعدوا كبيرا كثيرا ذا عدد وعدد، وكان ذلك في شهر رجب سنة تسع من الهجرة، وهؤلاء الرّوم هم بنو الأصفر، وإنما سمّوا روما لأن العيص بن إسحق تزوج بنت إسماعيل عليه السلام فولدت له ولدا به صفرة فنسبوا إليه وسمي روما، وتسمى هذه الغزوة غزوة العسرة، لأنها كانت في سنة مجدبة، وسببها أنه قد بلغ حضرة الرّسول تجمع الرّوم في تبوك لغزو المسلمين، فجمع جموعه وقد أتى له عثمان رضي الله عنه بعشرة آلاف دينار، فجعل يقلبها بيده ويقول ما على عثمان ما فعل بعد اليوم، ثم أعان عثمان حضرة الرّسول أيضا بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وخمسين فرسا، وجاءه أبو بكر رضي الله عنه بأربعة آلاف درهم، وعمر رضي الله عنه بنصف ماله، وعبد الرّحمن بن عوف بمئتي أوقية، والعباس وطلحة بمال كثير، وعاصم بن عدي بتسعين وسقا من تمر، والنّساء بكل ما قدرن عليه من حليهنّ، وبعد أن جهز جيشه المبارك بما قدر عليه سار على بركة الله بثلاثين ألفا، وقد رأوا في غزوتهم هذه شدة وضنكا، حتى إنهم لينحرون الإبل بغية الشّرب من كروشها مما وقر فيها من الماء، وقد استخلف على المدينة محمد بن سلمة، وخلف عليا على أهله، فقال له أتخلّفني على الصّبيان والنّساء؟ فقال له ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي.(6/438)
مطلب مثالب المنافقين ومصارف الصّدقات وسبب وجوبها وتحريم السّؤال:
وللعلم بما في هذه الغزوة من بعد الشّقة وكونها زمن الحر والجدب وعسرة النّاس وضيقهم، ولعلمهم أن عدوهم فيها عدو قوي، كان من المسلمين من تثاقل منها وأحب التخلف عنها، أنزل الله تعالى في عتاب المخلفين وتوبيخهم على ما وقر في قلوبهم، فقال عز قوله «لَوْ كانَ» ما استنفرتم إليه «عَرَضاً» مغنما «قَرِيباً» محله سهلا تناوله «وَسَفَراً قاصِداً» وسطا لا مشقة فيه «لَاتَّبَعُوكَ» يا حبيبي طمعا في المنافع الدّنيوية دون تروّ أو تردد ولعاتبوك على عدم استصحابهم معك، كما مرّ في الآية 15 من سورة الفتح المارة «وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ» في هذه الغزوة واستطالوا مسافتها وطريقها الشّاق، وتخوفوا من الحر وقلة الزاد والماء، لذلك لم يلبوا دعوتك ولم يرغبوا بها فتخلف من تخلف منهم، وصاروا ينتحلون الأعذار لتغض عنهم وتأذن لهم بالتخلف «وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ» لك هؤلاء المتخلفون المنافقون بأعذار كاذبة، بينها الله بقوله عز قوله «لَوِ اسْتَطَعْنا» الخروج معك يا رسول الله إلى تبوك «لَخَرَجْنا مَعَكُمْ» ولم يعلم هؤلاء أنهم بهذه الأيمان الواهية والأعذار المنتحلة «يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ» لأنهم يقترفون جرما علاوة على جرمهم بالتخلف، لأن الله تعالى يعلم أنهم مستطيعون على الخروج وأن ما يختلفونه من الأعذار لا صحة لها، ولم يمنعهم مانع إلّا بعد محل هذه الغزوة وتوقع مشاقها «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (42) في حلفهم وعذرهم، لأن هذا مدون أيضا في اللّوح قبل أن يبدوه لك يا سيد الرّسل، وقد أظهره الله الآن لكم ليفتضحوا وليعلموا أن الله تعالى بالمرصاد لهم ولغيرهم، لا يعزب عن علمه شيء وأنه يخبر رسوله ليطلع أصحابه عليه. واعلم أن حضرة الرّسول قبل نزول هذه الآية كان أذن لهم بالتخلف بناء على ما تقدموا به إليه من الأعذار الموثقة بالأيمان، ولهذا فإنه تعالى عاتبه على ذلك بألطف وأرق أنواع العتاب، إذ صدره بقوله عز قوله «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ» وزادك تبصرا في هؤلاء المنافقين الّذين يبطنون غير ما يظهرون «لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ» بالتخلف يا سيد الرّسل حتى يحتجوا به فهلا استأنيت وترويت بإذنهم «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا» باعتذارهم فتأذن(6/439)
لهم «وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» (43) منهم فلم تأذن لهم، هذا، وقد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يفعل شيئا طيلة حياته بغير إذن من ربه عز وجل إلّا في هذه الحادثة وواقعة أسرى بدر التي مر ذكرها في الآية 68 من سورة الأنفال، وعفوه عن المتخلفين الآتي ذكرهم في الآية 117 الآتية، وقد عاتبه الله تعالى عليهما وعن هذه أيضا هنا، وعن العفو في الآيات 67 فما بعدها من سورة الأنفال المارة.
ولا دلالة في هاتين الحادثتين على صدور الذنب منه صلّى الله عليه وسلم كما زعم بعضهم، بل هو عمل غايته أنه خلاف الأولى إذ لم يتقدم له من ربه نهي بعد أخذ الفداء والعفو عن الأسرى، كما لم يتقدم له نهي عن إعطاء الإذن بالتخالف لهؤلاء حتى يعدّ ذنبا يكون فيه مخالفا لربه، وحاشاه، وحتى أن أهل العلم لم يعدوه معاتبا عليه لما جاء في هذه الآية من تصديرها بكلمة عفا الله عنك، وقد أخطأ من أول عفا هنا بمعنى غفر، إذ عدّ ما صدر منه خطأ وحاشا ساحة الرّسول من الخطأ فيما ينهاه عنه ربه، بل معنى عفا على ظاهرها، وهي على حدّ قوله صلّى الله عليه وسلم: عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرّقيق، ومن قال إن العفو لا يكون إلّا عن ذنب لم يعرف كلام العرب، إذ لو كان هناك ذنب لذكر العفو بعده، لأن ذكر الذنب بعد العفو لا يليق، وقد يأتي العفو بمعنى الزيادة، راجع الآية 271 من البقرة المارة، لأن قوله عفا الله عنك يدل على المبالغة في التعظيم والتوقير ولا يدل على سابقة ذنب، فهو كما تقول لمن توقره عفا الله عنك ما عملت في أمري، رضي الله عنك بماذا تجاربني عافاك الله، أما تنظر إلي زادك الله خيرا، أما تعطني غفر الله لك، أما تدعو لي، وما أشبه ذلك من كلّ ما يستفتح به الكلام، كأصلحك الله، وأعزك، وأدام بقاءك، وأطال عمرك، قال علي ابن الجهم حينما خاطب المتوكل وقد أمر بنفيه:
عفا الله عنك ألا حرمة ... تعود بعفوك إن أبعدا
ألم تر عبدا عدا طوره ... ومولى عفا ورشيدا هدى
أقلني أقالك من لم يزل ... يقيك ويصرف عنك الرّدى
وأمثال هذا كثير. قال تعالى «لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ(6/440)
الْآخِرِ»
إيمانا خالصا معتذرين من «أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ» لأنهم يتقون سوء العاقبة «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ» (44) أمثالهم الّذين يخافون غضب الله ورسوله وتنقيد المؤمنين «إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ» ليتخلف عن الجهاد معك ويقعد مع النّساء والمرضى «الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» إيمانا حقيقيا «وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ» فشكوا في دينهم ونصرة نبيهم من قبل الله «فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ» (45) يتحيرون لأن إيمانهم صوري يظهرونه لكم خشية الوقوع بهم قتلا وأسرا ويبطنون الكفر، فهم أسوا حالا من الكفار «وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ» معكم الى الغزو عن صدق «لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً» تهيأوا له وهيأوا أدوات السّفر وآلات الجهاد مبدئيا «وَلكِنْ» لم يريدوه ولهذا «كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ» معكم لكراهتهم الخروج «فَثَبَّطَهُمْ» وقفهم وأخرهم عنه لزهدهم في ثوابه وكسلهم عنه لضعف رغبتهم فرغب الله عنهم ومنعهم عنه لا لقصدهم ذلك، بل لما كان في علمه من وقوع المفسدة منهم في الغزو وإيقاع الرّعب في قلوب غيرهم لما هم عليه من الجبن «وَقِيلَ» لهم من قبل الرّسول حينما طلبوا التخلف عنه «اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ» (46) النساء والصّبيان والمعذورين وإنما أمرهم بالقعود على سبيل الغضب عليهم، إذ ليس لهم طلب التخلف والإعراض عن الغزو ساعة الحاجة، إلا أنه وافق ما في علم الله، لأن عدم خروجهم أحسن لقوله تعالى «لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا» اضطرابا يؤثر في عقولكم بتهويلهم الى النّاس مشقة السّفر وقوة العدو وجدب الزمن وحاجة المسلمين الى عدد أكثر وعدد أقوى تضاهي ما عند الرّوم، فضلا عن قلة الزاد والرّاحلة للنقل والحمل وإظهار التضجر لعدم كفايتها بما يسبب للبعض الجبن والخوف، والتكلم بطرق الفساد والإفساد بما يؤدي الى الغلب والفشل، والمستثنى منه غير مذكور، وعليه فيكون الاستثناء متصلا من الشّيء المتصور، والخبال بعضه الذي يصدق على الشر والمكر والبغي والغدر، أي ما زادوكم شيئا إلّا خبالا بإيقاع الفتنة بينكم وبث النّميمة الموجبة لها، ولهذا فإن القول بكون الاستثناء منقطعا ضعيف، إذ يشترط فيه أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، وعليه يجب أن يكون(6/441)
المعنى ما زادوكم خيرا إلّا خبالا، تدبر «وَلَأَوْضَعُوا» أوقعوا «خِلالَكُمْ» بينكم الأحاديث الكاذبة لإفساد ذات بينكم «يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ» بإيقاع الخلاف بينكم وتحريض بعضكم على بعض ويكرهوكم لهذه الغزوة، إذ يقول بعضهم لبعض لا طاقة لكم بالروم، فإنهم سيظهرون عليكم إذا غزوتموهم «وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ» أي منكم عيون وجواسيس لهم يوصلون أخباركم إليهم، لأنهم ميالون لطاعتهم وقبول شبهاتهم وتصديق تسويلاتهم لقلة يقينهم وضعف دينهم، أو أنهم يتلقون أقوالهم بالقبول، لأنهم مغفّلون بلّه لا يميزون بين العدو والصّديق، فيظلمون أنفسهم وغيرهم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» (47) الّذين يفعلون ذلك ويخدعون غيرهم فيجازيهم على إغرارهم وإفسادهم في الدّنيا والآخرة، وهؤلاء وأمثالهم قبل هذه الغزوة «لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ» بأصحابك يا سيد الرّسل وأرادوا صدهم عن دينك وردهم الى الكفر وتخذيل النّاس عنك وعن أصحابك «مِنْ قَبْلُ» طلبهم التخلف عنك الآن، وانتحالهم الأعذار الكاذبة كما فعل عبد الله بن سلول يوم أحد، إذ انخذل هو وأصحابه عنك، ورجعوا من الطّريق بقصد تخذيل أصحابك وإرادتهم الفتك بك ليلة العقبة حينما أرادوا أن يلقوا الحجر عليك ليقتلوك وغير ذلك مما ألمعنا إليه في الآية 67 من سورة المائدة المارة «وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ» ظهر البطن بقصد إبطال حقك الذي جئتهم به وأجالوا آراءهم فيها، ودبروا الحيل، وصوّروا المكايد، لتشتيت أمرك وإقصاء النّاس عنك، وأداموا على أفعالهم القبيحة معك، ولم ينفكوا عنها «حَتَّى جاءَ الْحَقُّ» بنصرك عليهم وظفرك بهم، فأبطل الله مكايدهم ومحق تدبيرهم، فاضمحلّ أمرهم «وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ» بتأييدك «وَهُمْ كارِهُونَ» (48) له رغم أنوفهم «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي» بالتخلف عن هذه الغزوة «وَلا تَفْتِنِّي» فتوقعني بالإثم إن تخلفت دون إذنك، فأفتتن، وذلك لما تجهز صلّى الله عليه وسلم الى هذه الغزوة، قال للجد بن قيس المنافق يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر تتخذ منهم سراري ووصفاء؟
فقال لقد عرف قومي أني مغرم بالنساء، فأخشى إذا رأيت بناتهم أن لا أصبر عنهن فائذن لي بالقعود ولا تفتني بهن، وأعينك بمالي، فأعرض عنه صلّى الله عليه وسلم، وقال(6/442)
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
أذنت، فأنزل الله تعالى «أَلا» إن المستأذنين لهذه الحجة الواهية «فِي الْفِتْنَةِ» العظيمة المحققة وهي مخالفتك يا محمد والتخلف عنك «سَقَطُوا» وقعوا فيها لعدم تلبية أمرك فيما لا يظنون ولا يتصورون من مهاوي الكفر «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» (49) أمثال هؤلاء يوم القيامة يوم يظهر لهم ما كانوا يبطنون ويحيق بهم جزاؤه، ثم طفق يعدد بعض مساوئ المنافقين عدا ما بينه في الآية 9 فما بعدها المارات وغير ما بينه عن مثالبهم في الآية السّادسة فما بعدها من سورة البقرة المارة وفي غيرها، بما فضحهم الله وأظهر دخائلهم، وزاد فضحهم في هذه السّورة، إذ بين فيها أجل مثالبهم، فقال جل قوله «إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ» نصرتك وظفرتك بعدوك واغتنامك منه «وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ» من خذلان وانكسار وهزيمة «يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا» الذي توسمنا به وهو اختيارنا القعود «مِنْ قَبْلُ» أن نصاب بما أصيبوا لو خرجنا معهم لهذه الغزوة «وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ» (50) بذلك
فيا أكمل الرّسل «قُلْ» لهؤلاء المنافقين الّذين راق لهم التخلف عنك «لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا» من خير أو غيره سواء قعدنا أو خرجنا، فلا مانع لقضاء ربنا ولا راد لقدره «هُوَ مَوْلانا» حافظنا وناصرنا ومتولي أمورنا أحسن من أنفسنا، وهو أولى بها منا وإليه وكلنا أمرنا «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (51) في أمورهم كلها لا على غيره لما في التوكل على غيره من الخببة والهلاك «قُلْ» يا أيها المنافقون «هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ» النصر والغنيمة أو الشّهادة والمغفرة، فلا تنتظروا أن يصيبنا غيرهما، روي عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال: تكفل الله أو تضمن الله لمن خرج في سبيل الله لا يخرجه إلّا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي، فهو علي ضامن أني أدخله الجنّة أو أرجعه الى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، أخرجاه في الصّحيحين «وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ» إحدى السّوأتين «أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ» فيهلككم ويكفينا مؤنة قتالكم «أَوْ بِأَيْدِينا» فيسلطنا عليكم ونظفر بكم فنقتلكم ونفعل ما يريده الله بكم «فَتَرَبَّصُوا» بنا إحدى تلك الحسنيين(6/443)
«إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ» (52) بكم إحدى تلك السّوأتين، فابقوا على غيظكم إن الله ناصرنا عليكم «قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً» من تلقاء أنفسكم مختارين «أَوْ كَرْهاً» رغم أنوفكم بإلزام الله تعالى إياكم الإنفاق مقسورين، وهذا ردّ على المنافق جد بن قيس المار ذكره «لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ» لكونه ليس عن طيب قلب ولم يرد به وجه الله. وتعم هذه الآية كلّ من لم يطلب وجه الله بصدقته ولم تكن عن طيب نفس. ثم بين الله تعالى سبب عدم قبول نفقتهم بقوله عز قوله «إِنَّكُمْ كُنْتُمْ» ولا تزالون الى نزول هذه الآية «قَوْماً فاسِقِينَ» (53) خارجين عن الطّاعة، والخارج عن طاعة الله لا يقبل منه صرفا ولا عدلا، قالوا وبأثناء الطّريق ضلت ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال بعض المنافقين يزعم أنه نبي ولا يدري أين ناقته، فأطلع الله نبيه على قوله فقال عليه الصّلاة والسّلام اني والله لا أعلم الغيب ولا أعلم الا ما علمني ربي، وقد دلني عليها وهي الآن في الوادي في شعب كذا وكذا، وقد حبستها شجرة بزمامها، فذهبوا فوجدوها كما ذكر صلّى الله عليه وسلم، وأتوا بها وهذا من معجزاته صلّى الله عليه وسلم كغيرها لأنها في الاطلاع على الغيب والإخبار به، قال تعالى «وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ» لجحودهم طاعتهما فكان جحودهما لذلك كفرا، والكفر مانع من قبول الصّدقات، لأنها لا تكون خالصة لله تعالى لأن الصّدقة من نوع العبادة، ولا تقبل العبادة إلّا إذا كانت خالصة لله، راجع الآية الأخيرة من سورة الكهف ج 2. وهؤلاء المنافقون لا يخلصون صدقاتهم لله «وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى» لأنهم لا يرجون ثوابها ولا يخافون عقاب الله على تركها «وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ» (54) لأنهم يعتقدون الصدقة غرامة ومنعها مغنما، ولذلك ذمهم الله تعالى بقوله عز قوله «فَلا تُعْجِبْكَ» يا حبيبي «أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ» التي استدرجناهم بها ليبطروا فإنها من متاع الدّنيا الفاني، وما كان كذلك فلا يستحق ان يتعجب منه، وما أعطاهم الله تعالى إياه لتكون نعمة يستقيدون ثوابها، بل نقمة «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» لما فيها من المشاق في تحصيلها وحفظها والغم بما يقع(6/444)
عليها من المصائب والهمّ بمعيشتها وجمعها وعدم الثواب بما يقع عليها من المحن لصاحبها، لأنه لا يعتقد بوجود الآخرة ولا أنه مخلوق لها، بخلاف المؤمن فإنه يعتقد ذلك، فيثاب على ما يصيبه فيها، وأولئك يحرمون منها «وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ» متحسرين على ما فاتهم منها وما خلفوه فيها، وما جمعوه لها بكدّ يمينهم وعرق جبينهم وتركوه لغيرهم ولم يتمتعوا به فماتوا «وَهُمْ كافِرُونَ» (55) بالله والكافر لا ينتفع بما يورثه ولا بما يوصي به، لأن عاقبته النّار، فلهذا تكون نعمهم في الدّنيا نقما عليهم في الآخرة، ومن مثالبهم وكذبهم طفقوا يتقولون على أثر مصاب أهل الكتاب والكافرين مما أوقع فيهم المسلمون «وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ» وانهم آمنوا بربكم وكتابكم ورسولكم أيها المؤمنون يضرهم شركم ويسرهم خيركم «وَما هُمْ» في الحقيقة «مِنْكُمْ» وأن حلفهم كذب
ولا زالوا كما كانوا يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان صورة تقية ليغرّوكم، فلا تقبلوا منهم ولا تصدقوهم في شيء من ذلك، وإن حلفوا «وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ» (56) يخافون منكم أن تطلعوا على نفاقهم، فتفعلوا بهم فعلكم بالكفرة أو بأهل الكتاب، ولهذا يبادرونكم بالإيمان ويحلفون على ذلك لتصدقوهم كي يأمنوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم.
ثم بين تعالى بيانه ما يحوك في صدورهم بقوله «لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً» يلجأون إليه «أَوْ مَغاراتٍ» يختفون بها عنكم «أَوْ مُدَّخَلًا» نفقا وسربا في الأرض يندسون فيه، أو شيئا آخر يتحصنون به منكم أو يتغيبون عن وجوهكم «لَوَلَّوْا إِلَيْهِ» سراعا وتحرزوا به وتركوكم «وَهُمْ يَجْمَحُونَ» (57) يقفزون هربا للتخلص من رؤيتكم لا يردهم شيء كالفرس الجموح العزوم لشدة بغضهم إيّاكم، ولكنهم لم يجدوا شيئا من ذلك، فاضطروا الى البقاء معكم، وشرعوا يختلفون الطّرق التي تقنعكم بأنهم صاروا مثلكم في الإيمان، ويؤكدوه لكم ذلك بما يرضيكم من صنوف التملق والتودد لكم بأيمانهم الكاذبة وتقاتهم تقية لكم ومنكم، وفي الحقيقة هم أشد النّاس كراهة لكم «وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ» يا حبيبي «فِي الصَّدَقاتِ» يعيبك ويطغى عليك في قسمتها وإعطائها أناسا دون أناس، ويسخرون فيما بينهم عليك في ذلك كأنك لم تعدل بها ولم تعطها لمستحقيها، ولكنهم «فَإِنْ أُعْطُوا(6/445)
مِنْها رَضُوا»
وسكتوا، فلم يحمدون، ولم يذكروك بسوء «وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ» (58) فيتفوهون عليك لما لا يرضي بقصد تنفير النّاس عنك. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يقسم فيئا، أتاه ذو الخويصرة (حرخوص بن زهير التميمي) فقال يا رسول الله اعدل، فقال صلّى الله عليه وسلم ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟ وفي رواية قد خبت وخسرت إن لم أعدل، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه ائذن لي لأضرب عنقه، فقال صلّى الله عليه وسلم دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم. وقيل إن القائل أبو الجواض المنافق أو رجل من البادية. وقيل إن المنافقين قالوا ما يعط محمد الصّدقة إلّا من يحب. والكل جائز، لأنهم أهل لأن يصدر منهم كلّ سوء، ولأن تعدد أسباب النّزول جائز أيضا، راجع الآية 8 من سورة المنافقين المارة تجد ما يتعلق بهذا ومروءة سيدنا عمر وانتدابه كلّ ما فيه ذبّ عن حضرة الرّسول ودفع عن كرامته ورفع لما يسوءه، فأنزل الله هذه «وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا» أي هؤلاء العيّابون المنتقدون المنافقون «ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» من هذه الصّدقات ولم يعترضوا على حضرة الرّسول «وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ» هو كافينا «سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» ما يسد حاجتنا «وَرَسُولُهُ» يتفضل علينا بما يراه من هذه الصّدقات، وإنه لا يعطي إلّا بحق ولا يمنع إلا بحق، وقالوا «إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ 59» بأن يوسع علينا ويغنينا عن الصّدقة وغيرها، بأن يفتح لنا طريقا آخر يكفينا به عنها لكان خيرا لهم من اعتراضهم هذا وقولهم رجما بالغيب في حق الرّسول الذي لا يفعل إلّا حقا، ولا يقول إلا حقا، وان أقواله وأفعاله عن حكمة يعلمها، إذ يتلقاها عن ربه عز وجل وهم عنها غافلون لكان أجمل لهم وأحسن، ألا فليتق الله الّذين يهرفون بما لا يعرفون ويقولون ما لا يعلمون، فإن الاعتراض على رسول الله اعتراض على الله، والاعتراض على الله كفر، لأنه لا يسأل عما يفعل. ثم بين جل بيانه أصحاب الاستحقاق في الصّدقات:(6/446)
مطلب في الأصناف الثمانية ومن يجوز إعطاؤه من الزكاة ومن لا يحوز وبعض مثالب المنافقين أيضا:
قال جل قوله «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها» السعاة الّذين يفوض الإمام إليهم قبضها من الواجبة عليهم «وَفِي الرِّقابِ» العبيد المكاتبين إعانة لهم على دفع ما عليهم لأسيادهم ليتخلصوا من الرّق «وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ» الحديثي عهد بالإسلام بقصد ترغيبهم فيه، فإنهم يعطون من هذه الصّدقة ليزداد نشاطهم للتمسك بأصول الإسلام، فيأتلفون عليه «وَالْغارِمِينَ» الّذين استغرقتهم الدّيون لأنفسهم لغير معصية، أو أنهم استدانوا للمعروف كمنع فتنة بين المسلمين، أو الموجود قتيل بينهم لم يعرف قالته، فاستدانوا لأداء ديته، وإن كانوا أغنياء، فإنهم يعطون من الصّدقة، لأنهم استدانوا ذلك وأعطوه من أنفسهم لإصلاح ذات البين ورفع الشّقاق بين المسلمين. روي عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لا تحل الصّدقة لغني إلّا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لرجل أسير إعانة، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق عليه فأهدى المسكين للغني- أخرجه أبو داود مرسلا لأن عطاء هذا لم يدرك النبي صلّى الله عليه وسلم، ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن سعيد الخدري عن النّبي صلّى الله عليه وسلم بمعناه «وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ» الغزاة «وَابْنِ السَّبِيلِ» المسافر الذي انقطع عن أهله وماله وإن كان غنيا في بلده، لأنه لا يطوله ولا يعرف من يقرضه في المحل الذي انقطع فيه، فهؤلاء الأصناف الثمانية يعطون من صدقة الفرض الواجبة على الأغنياء كما يعطون من غيرها أيضا «فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ» لهم على حسب الترتيب الوارد في هذه الآية، لأن الفقير أحوج من المسكين، لأنه من لا مال له ولا كسب، والمسكين من لا يكفيه كسبه، راجع الآية 81 من سورة الكهف في ج 2. وقال صلّى الله عليه وسلم، اللهم إني أعوذ بك من الفقر. وقال: أحيني مسكينا واحشرني مع المساكين. وهو أحوج من المؤلفة قلوبهم، وهكذا إذا اجتمعوا يقدم الأحوج في الإعطاء. واعلم أن الحصر في هذه الآية المصدرة بأداة الحصر يفيد عدم جواز دفع الصّدقة الواجبة لغيرهم، وهو كذلك كما سيأتي بعد «وَاللَّهُ(6/447)
عَلِيمٌ»
بمصالح عباده وحاجتهم «حَكِيمٌ» (60) في تخصيص الصّدقات لهؤلاء الأصناف الثمانية. أخرج أبو داود عن زياد بن الحارث المدائني قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فبايعته، فأتاه رجل فقال أعطني من الصّدقة، فقال له صلّى الله عليه وسلم إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصّدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية اجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك. الحكم الشّرعي في إيجاب الله الزكاة على عباده امتحانهم فيما آتاهم وتكليفهم ما يشقّ عليهم فعله، ليختبر الطّائع المعطي من العاصي المانع، ويظهره للناس فيعلمهم بمن له شفقة على عباده من غيره، لأن المال ماله والأغنياء وكلاؤه عليه وخزانه له، والفقراء عياله، ولأن كثرة المال تقسي القلب وتغرقه في حب الدّنيا، فأراد الله تعالى بالتصدق منه تقليل ذلك الحب لئلا تنهمك نفسه في شهوات الدّنيا ولذاتها فيهلك، ولأن المال من أول أسباب البعد عن الله تعالى، والتصدق به من أول أسباب التقرب إليه. ولا يقال هنا أن الدّين يسر ولا حرج فيه ولا يكلف الله نفسا الا وسعها الى غير ذلك من التمسك بحجج الجشعين بالمال المتكالبين عليه، لأن الله لم يكلف رب المال التصدق بكل ما عنده أو بنصفه أو عشرة حتى يكون مدار للاحتجاج، وانما كلفه بشيء يسير منه لا عسر في أدائه عليه ولا كلفة، وهو في نطاق الوسع، لأن الخارج عن الوسع هو ما لا قدرة للمرء على القيام به. ولو علم المتصدق ماله عند الله من الأجر وكانت نفسه طاهرة لأحب التصدق بما يفضل عن حاجته فضلا عن إعطائه ما فرضه الله عليه وهو ربع العشر، تطييبا لقلوب الفقراء المتعلقة قلوبهم بما في أيدي الأغنياء لينالوا نصيبهم من الانتفاع به، فيحصل على دعواتهم الخيرية، ورب دعوة صادفت وقت اجابة فينال عند الله ما هو خير من الدّنيا وما فيها. أخرج النّسائي وأبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لا تحلّ الصّدقة لغني ولا لذي مرّة (سوي قوي) . وأخرجا عن عبد الله بن عدي بن الخيار قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو في حجة الوداع وهو يقسم الصدقات، فسألاه منها فرفع فينا نظره
وخفضه فرآنا جلدين، فقال ان شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب. أي لا يحل لكما أخذ شيء(6/448)
من الصّدقة لأنكما قادران على الكسب والقادر كالغني، والغني لا يجوز له أخذ الصدقة، كما لا يجوز إعطاؤها له. هذا وإن حد الغنى المانع من السّؤال وقبول الصدقة هو ما روي عن ابن مسعود أنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سأل النّاس وله ما يغنيه جاء يوم القيمة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح، قيل يا رسول الله وما يغنيه؟ قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب أخرجه أبو داود والترمذي والنّسائي- وهذا لا يجوز له الأخذ من الزكاة إذا كان مالكا هذا القدر، ولا يجوز للمتصدق أن يتصدق على واحد بأكثر من خمسين درهما فضة أو قيمتها من الذهب من الزكاة، لأنه يصير الفقير المتصدّق عليه بذلك غنيا ولا يجوز للمتصدق أن يعطيه إذا كان عالما بحاله، كما لا يجوز له الأخذ، وان جباة المال العاملين على جمع الصّدقات يعطون منها بقدر أجر مثلهم أغنياء كانوا أو فقراء، لأن ما يأخذون بمقابل جمعهم الصّدقة كسائر العمال الّذين يتقاضون راتبا لقاء أعمالهم التي تعهد إليهم. ولما كان الهاشمي والمطلبي لا يجوز لهم أخذ الصّدقة فلا يجوز أن يكونوا عمالا عليها لأن أجرهم يكون منها، فإذا أعطوا منها لا تجزىء كما لو أعطيت للغني، ويجب إعادتها لأن إقدامهم على حرمة أخذها لا يسقط وجوبها عن المعطين العالمين. أما الجاهلون حال المتصدق عليهم فلا إعادة عليهم وسقط عنهم الوجوب، لأنهم أعطوها لهم بظنهم فقراء غير هاشميين ولا مطلبيين. قال صلّى الله عليه وسلم إنا وبنو عبد المطلب شيء واحد لم يفارقونا في جاهلية ولا في إسلام. وتحرم الصدقة على مواليهم أيضا، أخرج الترمذي والنّسائي عن أبي رافع أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم استعمل رجلا من بني مخزوم على الصّدقة، فأراد أبو رافع أن يتبعه، فقال صلّى الله عليه وسلم لا تحل لنا الصّدقة وإن مولى القوم منهم. وكان صلّى الله عليه وسلم يعطي أشراف العرب يتألفهم الإسلام لضعف عقيدتهم لتقوى رغبتهم فيه وتكون نيتهم جازمة بفعل أركان الدين. وكان يقربهم تألفا لقومهم وترغيبا لأمثالهم، وذلك من خمس الخمس، كما أعطى أبا سفيان والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والعباس بن مرداس كما ذكرناه في قصة حنين عند تفسير الآية 27 المارة، فراجعها. وكان صلّى الله عليه وسلم يدفع منه إلى المسلمين الّذين هم في موضع لا تبلغه جيوش الإسلام إلّا بكلفة كبيرة ومؤنة(6/449)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
كثيرة، والمسلمون الّذين هم بإزائهم لا يجاهدونهم لضعف حالهم أو عقيدتهم. كما أعطى أبو بكر رضي الله عنه عدي بن حاتم ثلاثين بعيرا، وكذلك كان يعطي مؤلفة الكفار الّذين يرجى إسلامهم أو يخاف شرهم، فقد أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلم صفوان بن أمية لما كان يرى من ميله إلى الإسلام ليستميلهم ويقوى نيتهم فيه، وكيفية إعطاء الصّدقة أن تعطى الأصناف الأربعة الأوّل إليهم بأيديهم بدليل لام الملكية، والصّنف الخامس يعطى نصيبهم منها إلى أسيادهم لتخليص رقابهم ولا يمكنون منها ليتصرفوا فيها. وكذلك الصّنف السّادس وهم الغارمون بنوعيهم فانه يعطى نصيبهم لدائنيهم لتخليص ذمتهم من الدّين، ولا يمكنون من التصرف به أيضا، والصّنف السّابع يعطى من الصّدقة بقدر ما يوصله إلى مسكنه أو غرضه، والصّنف الثامن يعطون ما يكفيهم من الصّدقة للنفقة والكسوة والسّلاح والمحمولة وإن كانوا أغنياء، لما تقدم في حديث عطاء بن يسار المار ذكره آنفا. ويجوز صرف نصيب.
الصنف السّابع البر لعموم اللّفظ كتكفين وتجهيز ودفن الموتى الفقراء، وبناء الجسور والحصون والمساجد والمكاتب التي يدرس فيها القرآن العظيم والفقه والحديث وما يتفرع عنها، ودور المرضى والمجانين لقلة وجودها في هذا الزمن، ولا سيما ما يأوي اليه الفقراء والمنقطعون في البوادي، وطريق الحج وغيره، وعلى المتصدق أن يختار في صدقته الأصلح ولا سيما طلبة العلم لقلة الرّغبة فيه، وبهذا الزمن للترغيب في طلبه والسّفر إلى من يأخذوا عنه إذا لم يوجد في بلده من يعلمه. وهم قليل ولا سيما في هذه الأيام، وقد سهل السّفر إذ تقاربت البلدان بسبب السّيارات والطّيارات وتعبيد الطّرقات إلى أي بلدة شاء. ويطلب من المتصدّق أن يتحرى موضع الحاجة في صدقته، ويقدم الأولى فالأولى، ولا يعطيها فروعه وأصوله وزوجاته وكلّ من تلزمه نفقته، والأولى أن يصرفها لفقراء بلدته ومن فيها من الأصناف، ويجوز أن ينقلها لمحل آخر يقصد دفعها للأحوج والأصلح والقريب الفقير، قال صلّى الله عليه وسلم اختاروا لنفقاتكم كما تختارون لنطفكم، ويرجح الفقراء من أقاربه على غيرهم، لأن الصّدقة عليهم صدقة وصلة. هذا وإن فضل الصّدقة قد بيناه في الآية 291 فما بعدها من سورة البقرة فراجعها تقف على جميع أصنافها وثوابها.
قال تعالى(6/450)
«وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ» محمدا صلّى الله عليه وسلم «وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ» سماع قوى جارحة السّمع كثيرة، ويعبر علماء البيان عن مثل هذا بإطلاق الجزء على الكل مبالغة، أي كأنه كله سمع لشدة سماعه، وقوة حاسته، وعليه قوله:
إذا ما بدت ليلى فكلي أعين ... وإن هي ناجتني فكلي مسامع
كما يطلق الكل على الجزء في مثل قوله تعالى (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) الآية 16 من البقرة أي رؤوسها، ويريد المنافقون في هذه الكلمة أنه صلّى الله عليه وسلم يصدق كل ما يسمعه ويقبله دون تحقيق عن صحته، وهذا هو معنى الأذن عندهم، فانهم يطلقون هذه الجارحة على من شأنه سماع الكلام وقبوله على علاته باعتبار أن جملته أذن سامعة ويقصدون بذلك الطّعن به صلّى الله عليه وسلم، أي أنه ليس بعيد غور في الأمور، بل هو سريع الاغترار بكل ما يسمع دون تروّ ونظر، قاتلهم الله وأخزاهم، فإنهم أخذوا شيئا من عادات اليهود بمثل هذا راجع الآية 105 من سورة البقرة المارة، مع أنهم واليهود سواء، بل هم شر من اليهود) يعلمون علم اليقين أنه صلّى الله عليه وسلم أكمل البشر في حركاته وسكناته ومبرأ من كلّ عيب ومنزّه من كلّ طعن، ولكنهم لا يريدون أن يعترفوا بذلك حسدا وعنادا، وقد أنزل الله هذه الآية في جماعة من المنافقين كانوا يجلسون بعضهم إلى بعض ويقولون ما لا ينبغي بحق الرّسول، كاليهود في هذه العادة، فقال أحدهم نبتل بن الحارث نخاف أن يبلعه قولنا، وكان ينمّ حديث الرّسول إليهم وكان مشوّه الخلقة أزنم ثائر الشّعر أحمر العينين أسفع الخدين، وقد قال فيه صلّى الله عليه وسلم من أحب أن ينظر إلى الشّيطان فلينظر إليه، فقال له الجلاس بن سويد إذا بلغه قولنا ننكره ونحلف له فيصدقنا لأنه أذن. قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرّسل لهؤلاء الفجرة هب أني أذن كما تقولون، ولكن «أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ» أسمع ما هو صالح لكم لا ما هو شرّ وفساد، والمعنى أنكم كما تقولون، ولكنه نعم الأذن، لأنه مسمع خير لا على الوجه الذي تذمّونه به، لأنه يقبل منكم ما تقولون وتعتذرون به، مع علمه أنه خلاف الواقع لكرم أخلاقه وعلو آدابه، فإنه يتغافل عما لا يليق ولا يريد أن يكذبكم وقرىء (أذن وخير) بالتنوين وبلا تنوين أذن، وجرّ خير بالإضافة كقولك رجل صدق،(6/451)
وشاهد عدل، فإنه يجوز فيهما الحالان. ثم ذكر بعض أوصاف حضرة الرّسول الذي يريدون مس كرامته مسهم الله بناره، فقال «يُؤْمِنُ بِاللَّهِ» ويوقن بوعده ويوفي بعهده ويصدق بوحدانيته «وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ» بصدقهم ويخشى ظنه بهم ويريد لهم الخير، وقد جاءت التعدية أولا بالباء لأن الإيمان بالله نقيض الكفر فلا يتعدى إلّا بالباء، وثانيا باللام لأنه عبارة في تصديق المؤمنين، فلا يتعدى إلا باللام، تأمل. واعلم أن القرآن هو مصدر العربية ومن بحره أخذ علماؤها قواعدها ووضعوا أصولها، وإياك أن تتصور العكس فيعكس عليك. قال تعالى أنؤمن لك الآية 112 وقال آمنتم له الآية 47 من سورة الشّعراء ج 1، وقال (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) الآية 17 من سورة يوسف في ج 2 بما يدل على ذلك وغيرها في القرآن كثير «وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ» إيمانا كاملا لا نفاقا، وسمي رسول الله صلّى الله عليه وسلم رحمة لأنه يحمل أحكام النّاس على الظّاهر، ولا ينقب عن بواطن أحوالهم، ولا يهتك أسرارهم. قال تعالى «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ» من المنافقين وغيرهم بالقول أو الفعل أو الإشارة أو اللّمز «لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 61» في الآخرة عدا خزي الدّنيا ومن مثالبهم ما قاله تعالى «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ» «لِيُرْضُوكُمْ» بظواهرهم «وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ» (62) حقا والحال أن الله ورسوله أولى بأن يرضوهما حقيقة لا تصنعا ورياء، وذلك أن المنافقين اجتمعوا في دار أحدهم وصاروا يتداولون في حق الرّسول، فقال وريقة بن ثابت إن كان ما يقوله محمد حقا فهو شر من الحمير، فقال عامر بن قيس من غلمان الأنصار إن ما يقوله محمد حق وأنت شر من الحمير، فحقروه، فجاء فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك، فاستدعاهم فسألهم، فأنكروا وحلفوا أن عامرا كذاب، وحلف عامر أنه صادق وأنهم كذبة، وقال اللهم صدق الصّادق وكذب الكاذب، فنزلت هذه الآية. قال تعالى «أَلَمْ يَعْلَمُوا» هؤلاء المنافقون الجلاس وأضرابه «أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» بمخالفة أمرهما أو بمجانبتهما أو بمعاداتهما أو يعاون أعداءهما على ذلك «فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ» استمراره في النّار ودوامه في العذاب «الْخِزْيُ الْعَظِيمُ» (63) في الآخرة(6/452)
والفضيحة التي ما بعدها فضيحة، والعار الذي ما وراءه عار. واعلم أن لفظ ألم تعلم وألم يعلم وما تصرف منهما خطاب لمن علم شيئا أو نسيه أو أنكره كما ذكره العلماء البيانيّون أي أنسيتم أو أنكرتم ذلك. قال تعالى «يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ» من النّفاق وما تحركه أنفسهم به في الاستخفاف بحضرة الرّسول «قُلِ» يا سيد الرّسل «اسْتَهْزِؤُا» واسخروا ما شئتم بحق حضرة الرّسول «إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ» (64) ومظهره للناس ليفضحكم به ويظهر لهم كذبكم وحلفكم الخاطئ. واعلم أنما خاطبهم الله بهذا على لسان رسوله، لأن ما وقع منهم مجرد استهزاء وسخرية، ولهذا ختم الله هذه الآية بما يدل على التهديد العظيم والوعيد الوخيم الدّالين على التعذيب البالغ. قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ» عما يقولونه فيك فيما بينهم «لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ» الخوض الدّخول في المائع كالماء والطّين، ثم استعمل لكل دخول فيه تلويث مادة أو معنى ولم يكفهم الخوض الذي قد يؤتى لغير ظاهره حتى وضحوا المراد منه باللعب، فيا سيد الرّسل «قُلْ» لهؤلاء الجاحدين بما لا يليق «أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ» (65) استفهام إنكاري لما لا ينبغي ذكره، وذلك أن حضرة الرّسول حين كان في غزوته المذكورة آنفا قال رهط من المنافقين أيرجو هذا الرّجل أن يفتح له قصور الشّام وحصونها هيهات هيهات، فأطلعه الله تعالى عليه، فقال احبسوا على هذا الرّكب فأتوا بهم، فقال إنكم قلتم كذا وكذا، ولما لم يروا بدا من الاعتراف إذ أخبرهم حضرة الرّسول بلفظ ما قالوا بعد أن قالوا يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب، أي نتحدث في الرّكب ونلهو فيما بيننا، وقال المنافق وديعة بن ثابت أخو أمية ابن زيد لعوف بن مالك ما لقى أمنا أر عينا بطونا وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللّقاء.
مطلب ظهور المنافقين وفضحهم وعدم قبول أعذارهم
وروى ابن عمر أن رجلا من المنافقين قال في غزوة تبوك ما رأيت مثل هؤلاء القوم أرعب قلوبا ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللّقاء. قاتله الله يريد حضرة(6/453)
الرسول وأصحابه المؤمنين، فذهب عوف ليخبر حضرة الرّسول بقولهما، فوجد القرآن قد سبقه، ونزلت هذه الآيات. قال عوف فتعلق المنافق بعقب ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم والحجارة تنكبه من القوم حيث صاروا يرجمونه لقبح ما سمعوا منه وهو يقول يا رسول الله إنا كنا نخوض ونلعب. وقال ابن كيسان. كمن رجال منافقون في العقبة عند رجوع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من تبوك ليفتكوا به فأخبره جبريل عليه السّلام بمكانهم وما أضمروه له فقال لحذيفة اذهب إلى هؤلاء واضرب وجوه رواحلهم، ففعل حتى نحاهم عن الطّريق وقال هلا عرفتهم قال لا يا رسول الله فقال صلّى الله عليه وسلم انهم فلان وفلان حتى عدهم اثني عشر رجلا، فقال حذيفة هلا بعثت من يقتلهم يا رسول الله فقال صلّى الله عليه وسلم أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل بقتلهم بل يكفيناهم الله، فلما أتى بهم طفقوا يعتذرون. قال تعالى قل يا سيد الرسل لهم «لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ» بأفعالكم هذه واستهزائكم وأقوالكم القبيحة هذه، وطعنكم لحضرة الرّسول وأصحابه المؤمنين المبرأين عما وصمتموهم به، المنزهين عما ألصقتموه بساحتهم الطّاهرة، مما أوجب كفركم «بَعْدَ إِيمانِكُمْ» الذي كنتم تحتجون به ظاهرا وقد ظهر أمركم للخاص والعام فلا محل لقبول أعذاركم الواهية حيث أكذبها الله، ولما رأوا أنه قد سقط في أيديهم وعلموا أنه قد فضح أمرهم شرعوا يطلبون العفو عما سلف منهم، فقال تعالى «إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ» تابت عما بدر منها وأقلعت عن نفاقها وأحسنت إيمانها «نُعَذِّبْ طائِفَةً» أصرت على ذلك فلم تتب ولم تقلع عما هي عليه «بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ» (66) بإقامتهم على النّفاق ومباشرتهم له. واعلم أن لفظ الطّائفة عند العرب كلفظ النّاس يطلق على الواحد والجماعة، راجع الآية 174 من آل عمران المارة، قال محمد ابن اسحق إن الذي عفا عنه اسمه مخاشن بن حمير الأشجعي لأنه تاب فرر نزول هذه الآية، وقال اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ أعنى بها تقشعر منها الجلود وتجبّ منها القلوب، اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت فأجيب يوم اليمامة ولم يعرف مصرعه واسمه عبد الرّحمن، أي سمي بذلك، رحمه الملك الدّيان. قال تعالى «الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ» قيل كان الرّجال المنافقون(6/454)
ثلاثمائة والنّساء المنافقات مئة وسبعين، وكلهم تشابهت قلوبهم بالنفاق والبعد عن الإيمان كأنهم نفس واحدة، كما يشير إلى قوله تعالى «بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ» بعضهم وأنفسهم «بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ» أنفسهم وبعضهم «عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ» عن الإنفاق في سبيل الله وعلى الفقراء وعلى أقاربهم أيضا بخلا بما أعطاهم الله، فكأنهم «نَسُوا اللَّهَ» الذي من عليهم حال الضّيق فلم يذكروه عند الرّخاء «فَنَسِيَهُمْ» من رحمته عند الشّدة، لأنهم لما تركوا أمر الله تعالى جاؤوا بمنزلة النّاسين له، لأن مطلق النّسيان لا يعد عيبا، إذ لا يخلو منه أحد، فجازاهم الله تعالى بأن صيّرهم بمنزلة الشّيء المتروك، فحرمهم من ثوابه وهذا هو نص النّسيان بالنسبة لله تعالى. أما معناه الذي هو عليه بالنسبة فمحال بحقه تعالى القائل «إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (67) الخارجون عن طاعة الله ورسوله «وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ» في الإيلام والانتقام، ولهم زيادة على هذا أنه تعالى غضب عليهم «وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ» (68) لا يحول عنهم ولا يتحولون عنه، فهو ملازمهم أبدا. واعلم أن فعل وعد إذا أريد به الشّر كما هنا كان مصدره وعيدا، وإذا صرف إلى الخير يكون مصدره وعدا، واستعماله غالبا يكون في الخير، وأوعد في الشّر، ثم التفت من الغيبة إلى الخطاب، والالتفات من أنواع البديع المستحسنة، وقد اقتبسه علماء هذا الفن من كلام الله ورسوله وسموه بهذه الاسم، كما سموا علم المعاني وغيره من العلوم التي أحدثت تسميتها بعد عهد الرّسول، لأنها لم تكن معروفة ولا مبدية. فقال فعلتم أيها المنافقون أفعالا قبيحة كثيره «كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» أي الكفار إذ كانوا يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويبخلون بمالهم عن طرق الخير مثل فعلكم هذا وأنهم «كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ» حظوظهم
وأنصبائهم من الدّنيا وشهوتها، وآثروها على الآخرة ورضوا بها، ولم ينظروا إلى العاقبة. وسمي النّصيب خلاقا لأنه مما يخلقه الله للانسان ويقدره له مثل القسم «فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ» أيها المنافقون الفجرة والكافرون(6/455)
الفسقة «كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ» في الباطل والكذب على الله ورسوله وعلى النّاس أجمع «كَالَّذِي خاضُوا» من الاستهزاء والسّخرية بهم وبأتباعهم وتعديتم عليهم بأنواع المنكرات، والذي هنا واقع صفة لموصوف محذوف مصدر دل عليه الفعل المذكور قبله، أي كالخوض الذي خاضوه «أُولئِكَ» الّذين هذه صفتهم من أولئك الفجار «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» (69) في الدّارين. واعلم أن تأويل لفظ الذي على ما مشينا عليه أحسن وأولى من قول من قال بإسقاط الذي أي أصله الّذين، وعليه فيكون المعنى وخضتم كالّذين خاضوا، لأن التشبيه هنا للخوض لا للحائض، تدبر. وأليق وأرضى من قول من قدر لفظ فوج أي كالفوج الذي خاضوا، إذ لا ذكر له تأمل. واعلم أن ما وقع في هذه الآية من تكرار بعض الألفاظ قد وقع تأكيدا للقول وتبكيتا بالمخاطبين به، وتقبيحا لأعمالهم وأعمال من شبهوا بهم، وتقريعا بأفعالهما. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لتتبعنّ سنن الّذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لا تبعتموهم. قلنا يا رسول الله اليهود والنّصارى؟ قال فمن دونهم. أي الكفار والمجوس كما مر في الخبر آنفا أو ممن غيرهم، ثم التفت من الخطاب إلى الغيبة تفننا في القول ليعلم عباده ذلك فقال جل شأنه «أَلَمْ يَأْتِهِمْ» أي هؤلاء المنافقين «نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» من الأمم الماضية «قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ» قوم هود «وَثَمُودَ» قوم صالح «وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ» قوم شعيب «وَالْمُؤْتَفِكاتِ» قوم لوط عليهم السّلام حين «أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» وكذبوا بها فأهلكناهم بالغرق والرّيح العقيم والرّجفة والصّيحة والبعوضة والظّلمة والقلب والرّحم، وإنما خص الله تعالى هذه الأقوام دون غيرهم الكثيرين لأن آثارهم باقية في بلادهم الشّام والعراق واليمن، ولأنهم يمرون عليها ذهابا وإيابا عند أسفارهم للميرة والتجارة وغيرها، ويعرفون أخبارهم المتناقلة عن أسلافهم، وكيفية إيقاع العذاب بهم واستئصالهم من وجه الأرض على حين غفلة وبسرعة لم يقدروها. قال تعالى «وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ» بما أوقعه فيهم من العقوبات(6/456)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
القاسية «وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (70) فاستحقوها جزاء وفاقا، فاحذروا أيها السّامعون أن يصيبكم ما أصابهم إن فعلتم فعلهم أو أصررتم عليه، ولم تتوبوا في زمن تقبل فيه التوبة، راجع الآيتين 27 و 28 من سورة النّساء المارة
قال تعالى بمقابل الآية السّالفة «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» والفرق بين هذه الجملة والجملة المصدرة به الآية السّالفة هو أن اتفاق المؤمنين كان على تقوى من الله ورضوان بتوفيق الله وهدايته، لا بمقتضى هوى النفس والطّبيعة الخبيثة كالمنافقين والكافرين المشار إليهم فيها، الّذين كانت موافقتهم بعضهم لبعض بتقليد رؤسائهم، فلهذا قال بحقهم بعضهم من بعض، وبحق المؤمنين أولياء بعض «يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» فيما بينهم أنفسهم وبين غيرهم راجع الآية 113 الآتية «وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ» الّذين هذا شأنهم «سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (71) في تدبير أمور عباده، لا بشوب تدبيره نقص ولا خلل، ومن عزته أنه لا يمتنع عليه من أراده، فلا يغالب ولا يتابل «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» وهذه بمقابل الآية السّابقة عد (67) «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ» زيادة على مساكنهم في جناتهم، لأن عدن دار الأصفياء عند الله تعالى، وهؤلاء بلا تشبيه كالمترفين من أهل الدّنيا عندهم تصور في بلادهم وقصور في مصايفهم.
واعلم أن مرجع العطف في هذه الآية إلى تعدد الوعود لكل واحد أو للجميع على سبيل التوزيع، أو إلى تغاير وصفه، أولا بأنه من جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها، فتميل إليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم، وصفه بأنه محفوف بطيب عار عن شوائب الكسورات التي لا تخلو عنها أماكن الدّنيا، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار رب العالمين لا يقربهم فيها فناء ولا تغير، ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك وأعظم وهو الزيادة الأخرى المبينة بقوله عند قوله «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» من ذلك كله ومن كلّ شيء، لأنه غاية المقصود ونهاية المطلوب «ذلِكَ» العطاء الجزيل والعطف الجليل «هُوَ(6/457)
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»
(72) في الآخرة لا فوز أعظم منه، والخير الكثير الذي لا أفضل منه. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنّة يا أهل الجنّة، فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول هل رضيتم، فيقولون وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول ألا (أداة لاستفتاح الكلام وتختص بالمستقبل وتكون للطلب بلين ورفق وضدها هلا الكائنة للعنف والشّدّة وتدخل على الماضي والمستقبل) أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط بعده عليكم أبدا. قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ» وشدّد بالجهاد والإرهاب «عَلَيْهِمْ» في الدّنيا أنت وأصحابك بمعونتنا ونصرنا «وَمَأْواهُمْ» عندنا في الآخرة «جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (73) هي لأهلها قال ابن مسعود دلّت هذه الآية والدّلائل السّمعية على أن جهاد الكفار بالسيف وجهاد المنافقين بالحجة، والآية عامة لم يذكر فيها كيفية الجهاد، فلا بد من دليل واضح يقيدها بما قاله ابن مسعود ويصرفها عن ظاهرها، وإلّا فلا دليل فيها يخصصها بما قاله، وإنما عدل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قتل بقية المنافقين لا لأنه علم من هذه الآية أن جهادهم بالحجة، بل لأن من تكلم بالكفر سرا وجحده علنا وقال إني مسلم يحكم بإسلامه في الظّاهر شرعا، والله يتولى السّرائر، وإلّا لفسد الكون، قال تعالى (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) الآية (93) من سورة النّساء المارة، وقال صلّى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد أشققت قلبه؟ راجع تفسيرها، ولولا هذه الآية والحديث لفتك بكثير من المسلمين بحجة أنهم كافرون باطنا، أو أنهم أسلموا ليخلصوا أنفسهم من القتل، ويأبى شرع الله ذلك، ولقائل أن يقول إن من المنافقين ممن علم الله ورسوله بأنهم يموتون على نفاقهم كعبد الله بن سلول وثعلبة الآتي ذكرهما، فلماذا لم يقتلهم رسول الله؟ فالجواب عن هذا أنه لا يقتلهم حرمة للشرع المعمول بظاهره لآخر الزمان ولئلا يتذرع بعض الولاة أو غيرهم بذلك فيقتل من يشاء ويترك من يشاء بتلك الحجة، ولقد أجمعت الأمة على أنه لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه دفعا لما يترتب على ذلك من المفاسد، ومن هذا الباب(6/458)
قوله صلّى الله عليه وسلم صلّوا خلف كلّ بر وفاجر، وجاهدوا مع كلّ بر وفاجر. الحديث، لقطع باب الفتنة حيث يتطرق النّاس إلى الطّعن بكل من يكرهون، وانظر لقوله تعالى «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ» .
مطلب في فضايح المنافقين وإسلام بعضهم وما قيل في الأيام وتقلباتها والصّحبة وفقدها.
قال ابن عباس كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعين الشّيطان، فإذا جاء فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال تشتمني أنت وأصحابك، فأنكر، قال فأحضر أصحابك، فانطلق فأتى بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا وما فعلوا، فتجاوز عنهم، فأنزل الله هذه الآية تكذيبا لهم، وقد أعلمه الله بهم وبما قالوه «وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا» لأنهم أرادوا اغتيال حضرة الرّسول وهم المار ذكرهم في الآية 65، وإنما جاء ذكرهم هنا لأنه تعالى عدد في هذه السّورة أحوال المنافقين المتنوعة في الأقوال والأفعال وقصّها على رسوله وأصحابه على ملأ النّاس ففضحهم فضاحة كبرى لدى الخاص والعام، حتى بلغ أخبارهم وفضائحهم أهل البوادي والقرى، فلم تبق لهم قيمة ولا عبرة عند أحد «وَما نَقَمُوا» هؤلاء الاثنا عشر رجلا الّذين كمنوا له على الطّريق ليغتالوه والّذين أنكروا عليه أعماله الطيبة التي لا يعرفون مغزاها، وأفعاله الكريمة التي يجهلون مرماها، وعابوا عليه شمائله الشّريفة حسدا ونجاسة «إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ» فجعلوا موضع شكرها كفرا وجحودا، وعملوا بضد ما هو واجب عليهم، لأنهم كانوا قبل مقدم الرّسول صلّى الله عليه وسلم المدينة في ضنك عيش وعداوة شديدة فيما بينهم وذل كبير بين مجاوريهم، فوسع الله عليهم ببركة رسوله وألف بينهم، وأظفرهم بأعدائهم، وجعل لهم عزة ومكانة بين النّاس وعلى معنى الآية قول الشّاعر:
ما نقم النّاس من أمية إلّا ... أنهم يحلمون إن غضبوا(6/459)
وقول الآخر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب
«فَإِنْ يَتُوبُوا» هؤلاء المنافقون، توبة نصوحا عما سلف منهم ولا يعودوا إليها، ويرجعون إلى الإيمان الخالص بالله وتصديق رسوله «يَكُ خَيْراً لَهُمْ» في الدّنيا والآخرة «وَإِنْ يَتَوَلَّوْا» عن التوبة ويعرضوا عن الله ورسوله ويصروا على كفرهم ونفاقهم، فلا يرجعون إلى الله، فإنه «يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا» بالذل والهوان والقتل والسّبي والأسر والجلاء «وَالْآخِرَةِ» بالعذاب الشديد الدّائم «وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ» شرقها ولا غربها «مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» (74) يحميهم وينصرهم ويحفظهم من ذلك ولا من يمنعهم من إيقاع أحد العذابين بهم، بل لا بد من وقوعها بهم وأن في الأرض للجنس، فتشمل الدّنيا كلها وأرض الآخرة أيضا. ولما نزلت هذه الآية جاء الجلاس بن سويد وقال يا رسول الله أسمع الله قد عرض عليّ التوبة وأنا أستغفر الله، وإن عامرا قد صدق بما قال على ما صدر مني وهو قوله في الآية 92 المارة، فقبل توبته وحسن حاله.
وهذا من كرم أخلاقه صلّى الله عليه وسلم ومن شأنه الكرام الّذين تأسوا به، أدام الله الكرام.
الكاظمين الغيظ والعافين عن النّاس، وأين هم الآن، يا حسرتاه!
ولما شاب رأس الدّهر حزنا ... لما قاساه من فقد الكرام
أقام يميط عنه الشّيب غيظا ... وينثر ما أماط على الأنام
ولكن النّاس يا أسفاه كزمانهم. قال المعري:
ألا إن أخلاق الفتى كزمانه ... فمنهن بيض في العيون وسود
فلا تحسدن يوما على فضل نعمة ... فحسبك عارا أن يقال حسود
وقول الآخر:
مضى زمن وكان النّاس فيه ... كراما لا يخالطهم خسيس
فقد دفع الكرام إلى زمان ... أخسّ رجالهم فيهم رئيس
تعطلت المكارم يا خليلي ... فصار النّاس ليس لهم نفوس
فقد مات الكرام ولم يبق إلّا تغني النّاس بمكارمهم، ولم تبق خلة صادقة، ولا(6/460)
مواساة بين الأحبة وقد استغنى كلّ بنفسه، فلا يسأل جار عن جاره، ولا صديق عن صديقه، ويتبجح كلّ بنفسه، وأين النّاس من قول الإمام الشّافعي رحمه الله:
وتركي مواساة الأخلاء بالذي ... حوته يدي ظلم لهم وعقوق
وإني لأستحي من الله أن أرى ... بحالي اتساعا والصّديق مضيق
وقد صار الأصدقاء كما وصفهم القائل:
كم من صديق مظهر نصحه ... وفكره وقف على عثرتك
إياك أن تقربه أنه ... عون مع الدّهر على كربتك
ولهذا قال علي كرم الله وجهه لابنه الحسن إياك ومصاحبة الفاجر، فإنه يبيعك بالتافه، وإياك ومصادقة الكذاب، فإنه كالسراب يقرب عليك البعيد ويبعد عنك القريب، وهؤلاء إخوان هذا الزّمن، فلا حول ولا قوة إلّا بالله القائل «وَمِنْهُمْ» الّذين يظهرون خلاف ما يبطنون «مَنْ عاهَدَ اللَّهَ» أمام رسوله وأكد ميثاقه بالقسم فقال «لَئِنْ آتانا» الله تعالى شيئا «مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ» منه بما فضل عن حاجتنا في طرق الخير والبر «وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ» (75) فيه بأن نخرج صدقة كاملة عن طيب نفس ولا نبخل بما يمن به علينا «فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ» كلّه فلم يعطوا منه شيئا حتى الزكاة المعروفة، ونقضوا عهدهم الموثق بالأيمان ونكثوه ولم يوفوا بشيء منه «وَتَوَلَّوْا» عن طاعة الله ورسوله «وَهُمْ مُعْرِضُونَ» (76) عنهما ولم يلتفتوا إلى تعاليمهما ولهذا «فَأَعْقَبَهُمْ» الله «نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ» بأن ورثهم البخل ومكنّه فيهم وجعله مستمرا ثابتا فيها «إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ» في الآخرة وحرمهم من التوبة «بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ» من التصدق إذا أغناهم وقد وفى الله تعالى وهم نكثوا به «وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ» (77) في قولهم لحضرة الرّسول ووعدهم له بالتصدق والصّلاح قال تعالى «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ» مع بعضهم من الطّعن بحضرة الرّسول وقولهم فيما بينهم سرا ما الصّدقة إلّا أخت الجزية أو هي غرامة وضعها علينا «وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» (78) لا يخفى عليه شيء مما أسروه وأعلنوه، ومن هؤلاء المنافقين ضرب آخروهم «الَّذِينَ يَلْمِزُونَ»(6/461)
يعيبون ويطعنون «الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ» المتبرعين بها غير المفروضة عليهم، يريدون عبد الرّحمن بن عوف وعاصم بن عدي من الأغنياء إذ تصدق الأوّل بأربعة آلاف درهم في يوم واحد، والآخر بمائة وسق من تمر فبارك الله لهما، حتى أن بلغت تركة عبد الرّحمن لزوجاته من النّقد فقط مئة وستين ألف درهم «وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ» أي الفقراء الّذين يتصدقون بالقليل ويعنون بهم أبا عقل الأنصاري وأمثاله، إذ تصدق بصاع من تمر، ومنهم من تصدق بدرهم، فقالوا تصدق الأولان رياء وسمعة وعابوا الآخرين على قلة صدقتهما، وهم لا يتصدقون بقليل ولا كثير، قاتلهم الله ما ألعنهم وأخسّهم.
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود البدوي قال: لما نزلت آية الصّدقة كما نحمل على ظهورنا، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا هذا مرائي، وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا إن الله لغني عن صاع، فنزلت هذه الآية «فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ» فيقولون هؤلاء الأغنياء لا عقول لهم، إذ يبذرون أموالهم، وهؤلاء الفقراء لا عقول لهم إذ يتصدقون وهم محتاجون، وصاروا يهزأون بالفريقين، فوبخهم الله بقوله «سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ» وأهانهم وأذلهم وجازاهم على فعلهم هذا الذم والهوان في الدّنيا «وَلَهُمْ» في الآخرة «عَذابٌ أَلِيمٌ» (79) ، وللمتصدقين ثواب عظيم، لأنهم لم يتصدقوا إلّا لمرضاة الله طلبا لثوابه، وكلّ متصدق يتصدق على قدر طاقته قال صلّى الله عليه وسلم تصدقوا ولو بشق تمرة. وجاء في حديث آخر فضل درهم ألف درهم، في تصدق فقير بدرهم وغني بألف، لأن الغني يتصدق عن سعة، والفقير عن حاجة. وقال تعالى (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) الآية 9 من سورة الحشر المارة. وقال تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) الآية 9 من سورة الدّهر المارة أيضا.
مطلب قصة ثعلبة وما نتج عنها وحكم وأمثال في البخل والطّمع والجبن وغيرها:
وخلاصة القصة هو أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري جاء ذات يوم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال صلّى الله عليه وسلم ويحك يا ثعلبة،(6/462)
قليل يؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه، ثم أتاه بعد ذلك فكرر مقالته، وقال والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كلّ ذي حق حقه، فقال له أما لك أسوة في رسول الله، والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت. ثم أتاه الثالثة فكرر مقالته، فقال والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كلّ ذي حق حقه، فقال صلّى الله عليه وسلم: اللهم ارزق ثعلبة مالا.
فاتخذ غنما فنمت حتى ضاقت بها المدينة، فتركها ونزل واديا منها، وصار يصلي الظهر والعصر مع الرّسول، وبقية الأوقات في محل غنمه، ثم تباعد بها عن المدينة فصار لا يشهد إلّا الجمعة مع حضرة الرّسول بالمدينة، ثم تباعد بها حتى صار لا يشهد جماعة ولا جمعة، فذكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا إن غنمه نمت حتى صارت لا يسعها واد، فتباعد بها عن المدينة، فقال يا ويح ثعلبة، حيث ألهته غنمه عن حضور الصلوات مع حضرة الرّسول، فحرم من مشاهدته ومن ثواب الجمعة والجماعة وفضيلة المسجد بسبب ما طلبه، وهذا ما كان يتوخاه حضرة الرّسول فيه، فسوّفه مرارا ليعدل عن طلبه ولم ينجح به، فدعا له فكان من أمره ما كان، ولما حان جمع الصّدقات بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم من يأخذ الصّدقة وكتب لهما ما يجب أخذه، وقال لهما مرّا على ثعلبة ورجل من بني سليم فخذا صدقاتهما، فجاءا ثعلبة وأقرآه كتاب رسول الله، فقال ما هذه إلّا جزية، عودا علي إذا فرغتما، فجاءا السلمي وقد سمع ما قاله ثعلبة، فقام وأعطاهما خيار ماله، وقال لهما إن نفسي طيبة بذلك، وبعد أن جمعا صدقات النّاس وعادا بها مرا عل ثعلبة، واستقرأهما كتاب رسول الله ثانيا وقال ما هذه إلّا أخت الجزية، اذهبا حتى أرى رأيي، فلما أقبلا على رسول الله، قال لهما قبل أن يتكلّما يا ويح ثعلبة، وهذه معجزة منه صلّى الله عليه وسلم، إذ أخبره الله بما وقع منه، وقاله لعمال الصّدقة ثم أخبراه بما فعل، فأنزل الله هذه الآيات، فذهب رجل من أقاربه فأخبره بما نزل فيه، فأتى رسول الله وكلفه أن يقبل صدقة، فقال قد منعني ربي من قبولها، فطفق يحثو التراب على رأسه، فقال صلّى الله عليه وسلم قد أمرتك فلم تطعني. فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتى بصدقته إلى أبي بكر فلم يقبلها، فلما ولي عمر أتاه بها فلم يقبلها أيضا وكذلك(6/463)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
عثمان رضي الله عنهم، لأن حضرة الرّسول لم يقبلها، وهلك في خلافة عثمان، والحديث في هذه القضية رواه البغوي بسند الثعلبي عن أبي أمامة الباهلي، وأخرجه الطبري بسنده أيضا، وإنما لم يقبلها رسول الله جزاء لمخالفة عهد الله وإهانة له لقوله إنها أخت الجزية ليعتبر غيره، وما قيل إن هذه الآية نزلت في حاطب بن بلتعة أو متعب بن قشير فقيل ضعيف، وهي عامة في كلّ من هذا شأنه، ونزولها في ثعلبة لا يقيدها أو يخصصها فيه، لأن العبرة دائما لعموم اللّفظ لا لخصوص السّبب، ولما أبان للمنافقين نفاقهم، وشاع بين النّاس ما أظهره الله تعالى مما تكنه بواطنهم الخبيثة، ولم يروا بدا من الاستتار جاءوا إلى رسول الله يطلبون منه الاستغفار، فأنزل الله تعالى خطابا لسيد المخاطبين قوله جل وعلا «اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ» حيث قضي الأمر في شأنهم فاستغفارك لهم وعدمه سواء منهما أكثرت منه «إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ» أي عدم المغفرة لهم «بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» وأصروا على كفرهم، وكمن ذلك في قلوبهم، وخرجوا عن الطّاعة «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (80) الخارجين عن طاعته، ومن شفقة رسوله صلّى الله عليه وسلم ورأفته بهم لو يعلم أنه إذا استغفر لهم أكثر من سبعين مرة، وأنه تعالى يغفر لهم لفعل، ولكن سبق السّيف العذل ورفعت الأقلام وجنت الصّحف بما هو كائن،
ثم ذكر نوعا آخر من مثالبهم، فقال جل قوله «فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ» ولم يذهبوا معه إلى غزوة تبوك التي هي آخر غزواته صلّى الله عليه وسلم، وكان عليهم أن يأسفوا ويحزنوا لما فاتهم من صحبته في هذه السّفرة الطّويلة ويتأثروا على مخالفة أمره وهم بالعكس راق لهم البقاء في المدينة «وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» مع رسوله وأصحابه لإعلاء كلمة الله وكسر شوكة أعدائه ونصرة أوليائه واختاروا الرّاحة والقعود مع أهليهم وأولادهم وأموالهم على مرافقة الرّسول وتكثير سواده، «وَقالُوا» لبعضهم يقصد تثبيطهم وتنفيرهم «لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ» فتهلكوا «قُلْ» لهم يا سيد الرّسل إن كان حرّ الدنيا يمنعكم عن الجهاد في سبيل الله، فتربصوا فإن مأواكم في الآخرة «نارُ جَهَنَّمَ»(6/464)
فهي «أَشَدُّ حَرًّا» من حر الدّنيا قد أعدها الله للمتخلفين عن طاعته وطاعة رسوله، فالأجدر بهم أن يعملوا خيرا للخلاص من عذابها «لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ» (81) عاقبة أمر تخلفهم عن غزوة رسول الله ما تخلفوا، ولكنهم قوم فقدوا عقولهم فاتركهم «فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا» في هذه الدّنيا الفانية على راحتهم فيها وتخلفهم عن الجهاد معك «وَلْيَبْكُوا كَثِيراً» في الدّار الآخرة الباقية على ما فرط منهم وفرحوا به «جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» (82) من الأعمال القبيحة والأفعال الخبيثة. قال علي كرم الله وجهه لابنه الحسن: إن أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق. وإذا كانوا حمقا ولا عقول لهم فلا يرجى منهم خير ولا عود إلى الخير.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا. وروى البغوي بسنده عن أنس بن مالك قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول يا أيها النّاس ابكوا فإن لم تستطيعوا أن تبكوا فتباكوا فإن أهل النّار يبكون في النّار حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تقطع الدّموع، فتسيل الدّماء، فتفرغ العيون فلو أن سقنا أجريت فيها لجرت. فتأمّلوا رحمكم الله في هذا واعقلوا ما يراد منكم، فالعقل هو الإمام الحق والصّاحب الوفي والنّور المضيء، والشّاهد الذكي المميز الحق من الباطل، والخير من الشّر، والصّدق من الكذب، المشوّق الى العلم والحكمة، والآلف من الدّناءة والخسة، وبه توجد السّعادة العظمى والسّلامة في الآخرة والأولى، فالسعيد من جعل همه في معاده ولم يخض بما لا يعنيه، ولا يترك الخوف في أمنه ولا بيأس من الأمن في خوفه، وتدبر الأمور في علانيته وسرّه، ولم بذر الإحسان في قدرته، وحادث النّاس فيما يجهل، فإن في المحادثة تلقيحا للعقل وترويحا للقلب، وتسريحا للهم، وتنقيحا للأدب. وعليه فليأخذ ما استطاع من كلامه ففيه المزالق، وقيل فيه:
إذا فكّر الإنسان ألفى لسانه ... عدوا له يجني عليه بما يجني
فإن هو لم يطلقه الفاء مطلقا ... وإن هو لم يسجنه ألقاه في السّجن(6/465)
وقال الآخر:
احفظ لسانك أيها الإنسان ... لا يلدغنّك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه ... كانت تهاب لقاءه الشّجعان
وخفف ما استطعت من الدّنيا، فإنه لا يجتمع حب الدّنيا والآخرة بقلب واحد.
واحذرها فإنها تقمصت بجلد الشّاة على قلب الذئب، قال أبو نواس:
ألا كلّ شيء هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدّنيا لبيب تكشف ... له عن عدو في ثياب صديق
فالدنيا هي الدّاء الدّفين ودواؤه تركها وترك أهلها لأنهم داء لا دواء لهم، قال الحيص بيص:
يا طالب الطّب من داء أصيب به ... إن الطّبيب الذي أبلاك بالداء
هو الطّبيب الذي يرجى لعافية ... لا من يذيب لك الترياق في الماء
فهذا ثعلبة كيف غرّته الدّنيا فخسرها مع الآخرة بسبب الطّمع:
يا ويح من جعل المطامع قائدا ... يقتاده نحو الرّدى بزمام
من كان قائده المطامع لم يفر ... يوما بعيش مسرة وسلام
فنتيجة الطّمع الهلاك، فلا ثرجو خيرا من طمع:
وراعي الشّاة يحمي الذئب عنها ... فكيف إذا الرّعاة لها ذئاب
قال تعالى «فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ» يا حبيبي من غزوتك هذه «إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ» أي المتخلفين بلا عذر ثم جاءوك «فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ» إلى غزوة أخرى «فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا» بسبب «إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ» (83) العاجزين والصّبيان والنّساء وأرباب العاهات، فتبا لكم على اختياركم القعود معهم، أما أنا فقد أغناني الله عنكم وأرجعني وأصحابي بخير، لأن الله وعدني بذلك، ووعده حق، وقد حل بكم النّدم على اختياركم القعود وما فعلتم ولات حين مندم، وقد فاز من فاز بمرافقتي وخسر وخاب من تقاعس، وقد جف القلم بما هو كائن للفريقين. قال تعالى «وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ(6/466)
عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ»
(84) خارجون عن طاعتهما، وهذه الآية تشير إلى إهانتهم بعد الموت كما كانوا قبله، وقد وصفهم الله بالفسق بعد الكفر، مع أنه داخل فيه، لأن الكافر قد يكون عدلا يؤدي الأمانة ولا يسيء إلى أحد، وقد يكون مع كفره على ضد ذلك خبيث النّفس ماكرا مخلدعا غشاشا. ولما كان المنافقون جامعين لهذه الصّفات القبيحة المخزية، نعتهم الله تعالى بالفسق بعد الكفر، وكلاهما خيثان.
مطلب موت ابن أبي سلول وكون العلة لا تدور مع المعلول، وأسباب التكرار في الآيات وعدم زيادة (ما) ولا غيرها في القرآن:
روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب، قال لما مات عبد الله بن أبي سلول دعى له رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام صلّى الله عليه وسلم وثبت إليه، فقلت يا رسول الله أتصلي على ابن أبي سلول وقد قال يوم كذا: كذا وكذا أعدد عليه قوله، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال أخّر عنّي يا عمر، فلما أكثرت عليه قال إني خيّرت فاخترت. أي خيرت في آية الاستغفار عدد 80 المارة لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت، وهذا من كرم أخلاقه صلّى الله عليه وسلم وعظيم عفوه وكثير صفحه عمن أساء له، وشدة حرصه على من ينيب اليه، لأن هذا من أشد النّاس عداوة له صلّى الله عليه وسلم فداك أبي وأمي ما أحلمك يا رسول الله. واعلم أيها القارئ أن هذا لا يعارض قوله تعالى (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) الآية 8 من سورة المنافقين المارة، لأن هذا الاستغفار مخير فيه لا منهي عنه، والفرق بينهما واضح، تأمل. وقد علم صلّى الله عليه وسلم بطريق الوحي أنه لا يغفر له، قال فصلى عليه ثم انصرف فلم يمكث إلّا يسيرا حتى نزلت الآية، قال فعجبت من جرأتي على رسول الله يومئذ، وهذا الحديث مقيد بحديث سأزيد على السّبعين الذي يفيد الوعد المطلق، لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضا، وتقيد وتخصص أيضا، كالآيات القرآنية، والله ورسوله أعلم. وقد أخرج هذا الحديث الترمذي وزاد فيه، فما صلّى صلّى الله عليه وسلم بعده على منافق، ولا قام على قبره حتى قبضه الله، وفي رواية جابر للبخاري ومسلم أنه ألبسه قميصه ونفث عليه،(6/467)
وإنما فعل هذا حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم مع هذا وهو راس المنافقين، مع علمه أنه مات على نفاقه تطييبا لخاطر ابنه عبد الله لشدة إخلاصه وصلاحه وصدقه ومحبته لحضرة الرّسول ينبيك عن هذا ما نوهنا به في الآية 8 من سورة المنافقين المارة مما قاله لابنه وما ذكره بحضرة الرّسول، ولذلك قال حضرة الرّسول على قبره وصلّى عليه قبل النّهي، وهذا من بعض محاسن أخلاقه صلّى الله عليه وسلم، ولما رأى المنافقون وقوم عبد الله بن سلول ما قام به صلّى الله عليه وسلم من مقابلة إساءة عبد الله لحضرته بالإحسان حال حياته، وبالإحسان بعد وفاته أسلم كثير منهم، وإنما كساه ثوبه بعد موته لأنه كان حينما جيء بالعباس أسيرا يوم بدر كساه عبد الله ثوبه، وقد حفظ له معروفه ذلك وهو أهل المعروف وأولى ممن يقابل السّيئة بالحسنة. هذا وان رسول الله صلّى الله عليه وسلم زار قبر أمه عام الحديبية قبل النّهي لما لها من حق الأمومة، وذلك قبل نزول هذه الآية، لأنها نزلت بعد غزوة تبوك، فلا يرد عليه مقال، ومن قال أن زيارته لها بعد النّهي أي بعد نزول هذه الآية فقد أخطأ، لأن التاريخ يكذبه، على أنها رحمها الله من أهل الفترة، وأباه كذلك، والقول الصّحيح أن أهل الفترة غير مؤاخذين، راجع الآية 15 من سورة الإسراء في ج 1. ولا مانع يمنع من زيارة قبور الكفار، لأن القصد من الزيارة التذكر بالآخرة، قال صلّى الله عليه وسلم كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة. ومن جعل العلّة في الزيارة الدّعاء لهم لا مستند له، لأن الدّعاء يكون في كلّ مكان على أنه لو فرض صحة ذلك فإن العلة لا تدور مع المعلول، لأن الخمر حرمت لعلة الإسكار، فهل يقال بإباحتها لمن لم يسكر بسبب إدمانه عليها أو لأمر آخر، وقد حرم الزنى لعلة اختلاط الأنساب فهل يباح لعقيم أو عجوز لا يتصور منهما ذلك، وحرم القمار لعلة أخذ أموال النّاس بغير حق، فهل يباح اللّعب به إذا لم يتحقق أخذ المال بغير حق، لأن المقامر قد يربح وقد يخسر، وقد لا يربح ولا يخسر، وهكذا في سائر المحرمات، فانه لا يجوز قربها ولو لم تحقق العلة، ولهذا فإن عدم الدّعاء للأمرات لا يمنع من زيارة قبورهم تأمل قوله صلّى الله عليه وسلم تذكركم الآخرة لأن فيها عبرة وعظة حصل الدّعاء أم لم يحصل. قال تعالى «وَلا تُعْجِبْكَ(6/468)
أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ»
(85)
وهذه نظير الآية 55 المارة وتفسيرها تفسيرها، وقد يكرر الله بعض الآيات في سورة واحدة لحكمة يعلمها، لأن تجدد النّزول له شأن في تقرير ما أنزل وتأكيد له ولئلا يغفل المخاطب عنه وليعتقد أهميّته وخاصة فيما يتعلق بالأموال والأولاد، الآتي ذكرهما في أكثر السّور، لأنهما أشد جذبا للقلب من غيرهما، ولهذا حذر الله تعالى من الانهماك بهما المرّة بعد الأخرى مبالغة في التحذير من الانشغال بهما عن أمور الآخرة. واعلم أنه قد يوجد تقارب بين الآيات الكريمة، قد لا يحس بها، فهذه الآية صدّرت بالواو الاستئنافية إذ لا علاقة لها بما قبلها، ولم تزد فيها (لا) بعطف الأولاد، دلالة على عدم التفاوت بينهم وبين المال في المحبة عندهم، وصدرت الأولى بالفاء المفيدة للعطف على ما قبلها وهي لا ينفقون إلّا وهم كارهون الآية 54 المارة لشدة محبتهم بالمال وزيد فيها (لا) لزيادة التأكيد الدّال على أنهم معجبون بها وإعجابهم بأولادهم أكثر وجاء فعل يعذبهم مقرونا باللام مع العلم بأن التعليل في أحكام الله محال وفي هذه بلفظ ان دون اللام وان حرف التعليل فيها بمثابة ان قال تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ) الآية (6) من سورة البينة المارة أي ما أمروا إلّا أن يعبدوا الله، وجاء في الأولى في الحياة الدّنيا تبينها على أن حياتهم كلا حياة وهنا في الدّنيا فقط إشارة إلى أن حياتهم بلغت في الخسة إلى أنها لا تستحق الذكر ولا تسمى حياة لذلك انتصر في ذكرها وقدم الأموال على الأولاد فيها لشدة الحاجة إليها مع أن الأولاد أعز منها لأنها تصرف في سبيلهم كما أنهم يفارقون أنفسهم بطلبها ومهما كان في الولد عز فالفقر أذل في عزة الأولاد لهذا فإن من لم يتفكر في الآيات يظنّ أنها مكررة حرفيا مع أنها قد لا توجد الآية كلها مكررة بعينها أما الجمل في الآيات والكلمات فيها فهو كثير ولكن كلّ لمناسبة أخرى وقد بيّنا بعض أسباب التكرار في الآية الأخيرة من سورة الكافرين في ج 1 ولا يخفى أيضا أن التكرار واقع في بيان التوحيد وأحوال القيامة وقصص الأنبياء، وذلك أن العرب كانوا وثنيين ينكرون هذه الأشياء ومثلهم أهل الهند والصّين والمجوس(6/469)
فلأجل التقرير والتأكيد اقتضت حكمة الله بالتكرار في الجمل والكلمات ومعنى الآيات لا الآيات نفسها وهو من إعجاز القرآن وبلاغته فكان التحدي فيه بالبلاغة والفصاحة في الجمل والكلمات والآيات إيجازا وإطنابا مع مراعاة الدّلالة على المعنى في كلّ وحفظ أعلى مرتبة البلاغة في كلّ من الموجز والمطنب ليعلم أن القرآن ليس من كلام البشر لأن هذا الأمر عند البلغاء يعدونه خارجا عن طوق البشر ومن أراد أن يطلع على تفاصيل أسباب التكرار فليراجع ص 31 وما بعدها من كتاب إظهار الحق ج 2 في الباب الخامس لصاحبه المغفور له رحمة الله الهندي.
قال تعالى «وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ» من القرآن آمرة «أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ» قدم الإيمان لأن الجهاد بدونه لا يفيد «اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ» الأغنياء القادرون على الجهاد مالا وبدنا الواجب عليهم فيها «وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ» (86) المعذورين عن الجهاد. قال تعالى موبخا لهم على قولهم هذا «رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ» لضعف إيمانهم وقلة يقينهم وزيادة جبنهم وكثرة خوفهم وكان عليهم لو كان عندهم مروءة أن لا يرضوا لأنفسهم ذلك الخزي والهوان ويعدون أنفسهم من قسم النّساء والصّبيان ومن هو في حكمهما من المرضى والعاجزين بل عليهم أن يسارعوا إلى ما فيه عزهم وفخارهم ويلبّوا أمر رسولهم طاعة لربهم ولكنهم عدلوا عن ذلك كله «وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» (87) مراد الله في الجهاد ولا يعلمون أنه لمصالحهم واعلم أنه لم تدخل ما بعد إذا هنا لاحتمال تطرق النّفي فيما بعدها ومثلها في الآية (30) من سورة محمد عليه السّلام المارة لأن ما لا تدخل بعد إذا مطلقا كما يفعله بعض من لم ينظر إلى ما بعدها حتى أن كتبة هذا الزمن تجدهم يدخلونها بصورة مستمرة غير ناظرين إلى المعنى الذي يتخيل منها لقلة معرفتهم بالعربية واغترارهم بالقاعدة (إن ما بعد ذا زائدة) ولا يعرفون أن الزائد لا يكون في كتاب الله كما لا يوجد النّاقص فيه وسنبين لك هذا البحث مستوفيا في الآية 123 الآتية بعد وقد بينا بعضه في الآية 93 من سورة المائدة المارة فراجعها قال تعالى «لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» لا يستأذنون ولا يرضون لأنفسهم(6/470)
الذلة والمهانة بالتخلف بل رغبوا بما عند الله تعالى من الأجر والثواب ولذلك «جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ» لإعلاء كلمة الله وعزة المؤمنين فرخصوا أنفسهم فباعوها في سبيل الله ولم يحسبوا للموت حسابا، وكان قائلهم يقول:
أقول لها وقد طارت شعاعا ... من الأبطال ويلك لم تراعي
فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لم تطاع
فصبرا في مجال الموت صبرا ... فما نيل الخلود بمستطاع
فهؤلاء الرّجال الّذين يحبون الموت لتوهب لهم الحياة الطّيبة في الدّنيا والآخرة لا أولئك «وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ» في الدّنيا من الغنائم والتفوق على غيرهم من الإقدام والتفادي «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (88) الفائزون في الآخرة إذ «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها» جزاء طاعتهم لله ورسوله «ذلِكَ» الجزاء الحسن هو «الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (89) الذي لا يوازيه فوز، وفخر عظيم لا يعادله فخر، وأجر كبير لا يقابله أجر.
مطلب في المستثنين من الجهاد، والفرق بين العرب والأعراب وأول من آمن وخبرهم، وتقسيم المنافقين، وعذاب القبر:
قال تعالى «وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ» بتشديد الذال ومن شدد العين معها فقد أخطأ، لأن الذال تدغم مع العين للتضاد، ولم يقل أحد بتنزيل التضادّ منزلة التناسب، وقرىء المعتذرون أي طالبي العذر، لأن التاء للطلب على أن الأصل المعتذرون، فأدغمت التاء في الذال ونقلت حركتها إلى العين، وذلك لما رأوا أن سقط في أيديهم، ولم يروا أن الأرض تسعهم مما لحقهم من الخجل ممن كان من أصحابهم مع حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم، وهم «مِنَ الْأَعْرابِ» الّذين تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك بعد أن عاد منها حضرة الرّسول وصاروا يعتذرون إليه بأن عدم خروجهم معه كان خوفا من أن بغير أعداؤهم على أموالهم وذراريهم حالة غيابهم وطلبوا منه «لِيُؤْذَنَ لَهُمْ» بقبول عذرهم والمعذر من يرى أن له عذرا ولا عذر له، وهؤلاء الّذين تخلفوا كسلا، وأما المتخلفون نفاقا فهم المذكورون(6/471)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
في قوله تعالى «وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فلم يأتوا ولم يعتذروا إذ عرفوا أنهم سقط في أيديهم «سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ» أعنف العنف «عَذابٌ أَلِيمٌ» (90) لأن تخلفهم كان مخالفة لأمر الرّسول وجرأة على الله، أما الّذين لم يكن تخلفهم لهذا فمفوضون لأمر الله،
ثم بين تعالى المعذورين الغير مكلفين بالجهاد فقال «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ» المسنين الهرمين ومن دون البلوغ من الصّبيان والنّساء لعدم تكليفهم ولضعفهم ورقة قلوبهم «وَلا عَلَى الْمَرْضى» وذوي العاهات والزمنى «وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ» بالغزو من السّلاح والزاد والرّاحلة «حَرَجٌ» إثم إذا تخلفوا عن الجهاد، أما إذا خرجوا طوع أنفسهم لتكثير سواد المسلمين وحفظ متاعهم وتهيئه ما يتمكنون عليه من الخبز والتضميد والتنظيف ومداواة الجرحى، فلهم الثواب العظيم، لأن الله تعالى أسقط عنهم الوجوب ولم يحرم عليهم الخروج، فإذا أقاموا في البلد لا إثم عليهم، بل يؤجرون إذا نظروا إلى أولاد وأموال المجاهدين ورعايتها وحفظها، وهذا مغزى قوله جل قوله «إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» بأن حافظوا على ما ذكر وقاموا بحوائج ذراري وأهالي المجاهدين ما استطاعوا عليه بصدق وأمانة وإخلاص، ولا سيما إذا أوصلوا الأخبار السّارة إلى أهالي المجاهدين وردوا أراجيف المرجفين وكتموا أسرارهم ولم يفشوها لأحد، فهذا كله من الإحسان للمجاهدين وأهليهم وداخل في معنى النّصح الذي ذكره الله، لذلك قال «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» يلامون عليه أو يعاتبون فيه وقد سماهم الله محسنين فيكفيهم فضلا على غيرهم وأجرا على ما وصفهم الله به وتقديرا عند رسوله «وَاللَّهُ غَفُورٌ» لمن تخلف منهم «رَحِيمٌ 91» بهم يثيبهم بحسب نيتهم «وَلا» حرج ايضا «عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ» فبلغوا معك تبوك لقتال عدوك «قُلْتَ» لهم «لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ» وكانت الشّقة بعيدة في هذه الغزوة لا يمكن المشي فيها على الأقدام بصورة مستمرة «تَوَلَّوْا» أعرضوا بظهورهم عنك وهو جواب إذا «وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ» ، واعلم أن هذا التعبير يقع في علم البلاغة بمكان عظيم، لأن العين جعلت هنا كلها دمعا ويعبر عن مثل هذا في البلاغة(6/472)
بفيض دمعها «حَزَناً» على عدم خروجهم معك بسبب «أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» (92) للتأهب معك والواو هنا للحال أي تولوا والحال أن أعينهم إلخ. ثم ان العباس وعثمان ويامين بن عمرو لما رأوا تأثرهم تمكنوا من تجهيز جملة منهم وذهبوا مع حضرة الرّسول. أخرج ابن أبي حاتم والدّارقطني في الأفراد عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنزلت براءة، واني لواضع القلم على أذني إذ أمرنا بالقتال، فجعل رسول الله ينظر ما ينزل عليه، إذ جاءه أعمى. فقال كيف يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى) الآية. ونقل الطّبراني عن محمد بن كعب وغيره، قالوا جاء أناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستحملونه فقال ما قصه الله في الآية. وهذا شامل لقول من قال إنها نزلت في البكائين السبعة: سالم بن عمير وهو من بني عمير وعبد الرّحمن بن كعب أبي يعلى وسلمان ابن صخر وعبد الرّحمن بن زيد الذي تصدق بعرضة- بفتح العين والضّاد- وعمرو ابن خيثمة وعبد الله بن عمرو وغيرهم الّذين ذكرهم البغوي، والثلاثة الّذين ذكرهم مجاهد، أو العرياض بن سارية. قال تعالى «إِنَّمَا السَّبِيلُ» طريق اللّوم والعقوبة والمؤاخذة «عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ» أقوياء قادرين الّذين «رَضُوا» رغبة منهم «بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» (93) حقيقة ما أعده الله للمجاهدين في الدّنيا والآخرة، وقبح ما اختاروه، ووخامة عاقبته في الدّارين. قالوا ولما وصل صلّى الله عليه وسلم تبوكا لم يرقها أحد من الرّوم، فاستنار أصحابه بمجاوزة تبوك، فقال عمر إن كنت أمرت فسر، فقال لو أمرت لم أستشر. وهناك جاءه يوحنا صاحب إيلياء ومعه أهل جرباء واذرح ومتينياء من بلاد الشّام، فصالحوه على الجزية، وكتب لهم كتاب أمان لهم ولأموالهم ما داموا على العهد. وبعد مضي عشرين يوما أقاموها بتبوك للراحة من وعثاء السفر رجعوا إلى المدينة. وان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنى مساجد في طريقه من تبوك إلى المدينة ووصلوا إليها سالمين، وامتدحه العباس رضي الله عنه بقصيدة مشهورة مطلعها:
وأنت لما ولدت أشرقت ال ... أرض وضاءت بنورك الأفق(6/473)
فنحن في ذاك الضّياء وفي ... النور وسبل الرّشاد نخترق
قال تعالى وأولئك المتخلفون سيأنونكم «يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ» من سفركم «إِلَيْهِمْ» بالمعاذير الباطلة الواهية لتقبلوا منهم وتصفحوا عنهم، «قُلْ» لهم يا سيد الرّسل «لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ» ولا نصدق عذركم «قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ» الكاذبة قبل إبدائها، وصار لنا علم حقيقي بها، فلا مجال لتصديقها البتة «وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ» ويريه للنّاس من كلّ ما تقولون وتوعدون به من النّصر والمعونة في المستقبل، ويظهر صدقه وكذبه في الدّنيا، وهل تتوبون مما أنتم عليه أو تموتون مصرّين على نفاقكم «ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» في الدّار الآخرة وإذ ذاك «فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (94) ويجازيكم بحسبه قال تعالى «سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ» يا سيد الرّسل هؤلاء المنافقون بأنهم «إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ» من غزوتكم هذه «لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ» ولا تؤنّبوهم «فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ» واتركوهم وشأنهم، وقد طلبوا اعراض الصّفح، فأعطوا اعراض المقت، وذلك «لأنّهم رجس» ، لا تطهرهم المعاتبة ولا يصلحهم التوبيخ في الدّنيا «وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ» في الآخرة «جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» (95) من قبائحهم وخبثهم «يَحْلِفُونَ» هؤلاء المنافقون وعددهم بضعة وثمانون رجلا، وهم الّذين نزلت فيهم هذه الآيات «لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ» مع أنهم خارجون عن طاعتكم كلا لا تفعلوا «فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» (96) الخارجين عن طاعته المناوئين لرسوله وللمؤمنين، وإنما وصفهم الله بما ذكر ليعلم رسوله بما في قلوبهم، فلا يقبل عذرهم، ولا يصدق إيمانهم، أما المعذورون حقيقة، فقد قال صلّى الله عليه وسلم عند دنوه من المدينة مخاطبا أصحابه الّذين معه إن في المدينة قوما ما سرتم سيرا ولا قطعتم واديا إلّا كانوا معكم، حبسهم العذر هذا، ولما انتهى صلّى الله عليه وسلم من غزوته هذه، وعاد إلى المدينة طفق يشير بما عليه أعرابها، فقال ما أنزله الله عليه «الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً» من الحضر «وَأَجْدَرُ» بذلك وأحرى وأولى أن يكون كفرهم ونفاقهم أشد من أهل القرى والمدن(6/474)
بسيب بعدهم عن سماع القرآن وأحاديث الرّسول ومواعظ العلماء، لذلك قال تعالى وأخلق «أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ» من الأحكام والأخلاق والآداب والأمثال والقصص الموجبة للاتعاظ والاعتبار «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بأحوال عباده كلهم «حَكِيمٌ» (97) بهم ميسر كلا لما خلق له ومعط كلا ما يستحقه.
واعلم أن الأعراب هم الّذين يتبعون في البوادي مساقط الغيث ومنابت الكلأ، يخيّمون هنا يوما، وهنا أياما بحسب وجود الماء والمرعى، ويقال للواحد منهم أعرابي مفرد أعراب ومن استوطن القرى والمدن يقال له عربي مفرد عرب، وعليه فإن المهاجرين والأنصار من العرب لا من الأعراب، وإنما وصفهم الله بالكفر والنّفاق لكثرة تصلّبهم بهما وبعدهم عن معرفة حقيقة الإسلام مع ما هم عليه من كرم وشجاعة، وإقراء الضّيف وإغاثة الملهوف ومعونة ذي الحاجة والمروءة والغيرة، وأوصاف أخر قد لا يتحلى بها كثير من النّاس لا كما يقوله البعض بأنهم أجلاف كلا بل أشراف، ولكن مع الأسف لا حظ لهم في الآخرة إذا لم يؤمنوا.
قال تعالى «وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ» من الصّدقات الواجبة عليه بمقتضى الدّين الحق «مَغْرَماً» يعدها كغرامة وهي التزام ما لم يلزم، فلا يعتقد وجوبها وهي أحد أركان الإسلام، ولا ثوابها ولا يعطبها إلّا خوفا أو رياء «وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ» أيها المؤمنون «الدَّوائِرَ» تقاليب الزمن بما يحوك في صدورهم من الحقد عليكم بسبب أخذ الصّدقة منهم، وينقلبوا عليكم فينتقموا منكم عند أول سانحة، ولذلك فإنهم يتحينون الفرص السّيئة لينقضوا عليكم ولكن «عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ» تدور وينقلب الزمن بسوء عليهم لا عليكم، فلا يرون فيكم إلّا ما يسوءهم، ولا ترون فيهم إلّا ما يسركم «وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لما يقولونه فيكم أسرّوا فيه أم جهروا «عَلِيمٌ» (98) بما ينوون من السّوء عليكم ويتمنون وقوعه فيكم، نزلت هذه الآيات في أعراب أسد وغطفان وتميم، ثم استثنى منهم جماعة بقوله جل قوله «وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ» من الصّدقات «قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ» لأنهم يعطونها عن طيب نفس «وَصَلَواتِ الرَّسُولِ» أدعيته صلّى الله عليه وسلم لهم يتخذونها أيضا(6/475)
ويرغبون بها، لأن حضرة الرّسول كان يدعو للمتصدقين بالبركة والخير. ثم ينبّه على ما يتعظ له هؤلاء الأبرار فقال «أَلا إِنَّها» صلوات الرّسول في الحقيقة «قُرْبَةٌ» عظيمة ومنفعة جزيلة وبرّ شامل «لَهُمْ» للمتصدقين ولهم في الصّدقات وصلوات الرّسول قربة عند الله وأجر عظيم وثواب كبير وخير جزيل «سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ» الواسعة على نيتهم هذه وعقيدتهم الحسنة «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما يقع من الخلل في صدقاتهم وما سبق من أعمالهم «رَحِيمٌ» (99) بهم وبأمثالهم المؤمنين المتصدقين لأجله، الطالبين دعاء الرّسول، وهذه شهادة من الله تعالى للمتصدقين المتيقنين أجر صدقاتهم مؤكدة بحرفي التنبيه والتأكيد وناهيك بها شهادة، فعلى المتمولين أن يسارعوا في صدقات أموالهم عن رغبة ويكثروا منها ما استطاعوا طلبا لهذا الثواب المشهود به من الله. وتفيد هذه الآية أن من لم يؤد صدقته بهذه النّية ويطلب فيها مرضاة الله فإنهم يعرضون أنفسهم لسخط الله ويعدّون من الكانزين المشار إليهم في الآية 35 المارة، لأن الذي يعطيها خوفا أو رياء لا يعد مؤديها كما أراد الله، اللهم وفق عبادك إلى السّخاء بما مننت به عليهم من فضلك، واجعله لخيرهم وقهم من البخل والشّح المؤدي لهلاكهم، وامح شقاءهم، واثبت لهم السّعادة إنك على كلّ شيء قدير. قال قسّ بن ساعدة: أفضل المال ما قضى به الحقوق، وأفضل العلم وقوف المرء عند علمه، وأفض العقل معرفة المرء بنفسه، وأفضل المروءة استبقاء ماء الوجه، ولهذا حث الشّارع على السّعي كما جاء به الكتاب، وحبذه كلّ ذي رأي وعقل، وفيه قيل:
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
وما بلغ الحاجات في كلّ وجهة ... من النّاس إلّا من أجدّ وشمرا
فلا ترض من عيش بدون ولا تنم ... وكيف ينام اللّيل من كان معسرا
وقال أبو بطال:
جمعت مالا ففكر هل جمعت له ... يا جامع المال أبوابا تفرقه
المال عندك مخزون لوارثه ... ما المال مالك إلّا يوم تنفقه
إن القناعة من يحلل بساحتها ... لم يلق في ظلها عمّا يؤرقّه(6/476)
فالمال الذي يوفق صاحبه لهلكته بالخير لا أحسن منه إلّا الدّين الصّحيح، وقيل فيه:
ولم أر بعد الدّين خيرا من الغنى ... ولم أر بعد الكفر شرا من الفقر
وما الفرق بين حلال المال وحرامه إلّا أن الأوّل يدل على الجد والعمل والثاني يدل على الغش والكذب. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرأيتم ان كان جهينة ومزينة وأسلم وغفار خيرا من تميم وبنى أسد وبني عبد الله بن غطفان ومن بني عامر بن صعصعة؟ فقال رجل: خابوا وخسروا، قال نعم هم خير من بني تميم وبني أسد وبني عبد الله بن غطفان ومن بني عامر ابن صعصعة. ورويا عنه أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها.
ورويا عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار مواليّ، ليس لهم مولى دون الله ورسوله. وإنما مدح هؤلاء حضرة الرّسول لكمال يقينهم وحسن نيتهم وصدق عقيدتهم وأدائهم زكاة أموالهم طيبة بها أنفسهم. قال تعالى «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» فسلكوا سبيلهم بالإيمان واقتفوا آثارهم بالأعمال الصّالحة إلى يوم قيامتهم على هذا الشّرط الذي شرطه الله عليهم، فهؤلاء «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» بحسن نيّاتهم وبما أنعم الله عليهم من خيره الفيّاض «وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ» الفضل الذي منحهم الله إياه هو «الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (100) من الرّب العظيم والفلاح الجسيم والنّجاح الذي ما بعده نجاح، وهؤلاء هم الّذين صلّوا إلى القبلتين وأهل بدر وأهل بيعة الرّضوان، ويدخل في عموم الآية جميع الأصحاب نسبيّا، وتشمل من حذا حذوهم أيضا، أما من لم يتبعهم بإحسان ولم يقتف آثارهم فليس منهم، ولا ينال ما نالوه، ولا يدخل في عدادهم، والنّاس بعدهم مراتب. واعلم أن أول من آمن به صلّى الله عليه وسلم من النّساء خديجة الكبرى رضي الله عنها، ومن الصّبيان علي كرم الله وجهه ورضي عنه، ومن الرّجال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ومن الأرقاء بلال وزيد بن حارثة رضي الله(6/477)
عنهما، والّذين أسلموا بواسطة أبي بكر أولهم عثمان بن عفان فالزبير بن العوام فعبد الرّحمن بن عوف فسعد بن أبي وقاص فطلحة بن عبد الله، فهؤلاء العشرة هم أسبق النّاس إيمانا من المهاجرين، والسابقون من الأنصار سعد بن زرارة وعوف ابن مالك ورافع بن مالك بن العجلان وقطينة بن عامر وجابر بن عبد الله بن ذياب، وهؤلاء الّذين بايعوا حضرة الرّسول ليلة العقبة الأولى، والبراء بن معرور، وعبد الله ابن عمرو بن حزام أبي جابر، وسعد بن عبادة، وسعد بن الرّبيع، وعبد الله ابن رواحة، ورفقاءهم، وهم سبعون رجلا الّذين بايعوا حضرة الرّسول عند العقبة الثانية، راجع الآية 103 من سورة آل عمران تجد هذا هناك، وسبب اتصال الأنصار بحضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم أيضا. وأول من آمن على يد مصعب بن عمير من أهل المدينة قبل الهجرة قد ذكرناهم هناك أيضا. وإنما خص الله السّابقين الأولين في هذه الآية بهذه المزية العظيمة لأن الهجرة أمر شاق على النّفس لما فيها من مفارقة الوطن والأهل، والنّصرة منقبة شريفة ورتبة عالية، وقد امتاز الأنصار المذكورون على غيرهم بإبواء حضرة الرّسول وأصحابه ومواساتهم لهم بالمال والسّكن، حتى ان بعضهم ترك بعض زوجاته لبعضهم، وهؤلاء الأكارم حازوا خير الدّنيا والآخرة. ويعلم من تقديم المهاجرين في كلام الله أنهم أفضل من الأنصار، لأن الهجرة أشق على النّفس من أشياء كثيرة، والأنصار هم أهل المدينة، ولقبوا بهذه الصّفة قبل غيرهم، وصار علم شرف لهم لنصرتهم حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم. روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال: خير النّاس قرني ثم يلونهم، ثم الّذين يلونهم. قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة.
والأخيريّة النّسبية موجودة حتى الآن وما بعدئذ بدلالة قوله صلّى الله عليه وسلم لا يأتي يوم إلا والذي بعده شرّ منه، وما يقع من الأخيريّة فهو من تنفسات الزمان. ورويا عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه. والقرن من مئة إلى مئة وعشرين سنة، وهو مستوى عمر الإنسان لو عاش سالما من تخم الأكل المهلكة وتحفظ من الحر والقر المدمّرين للانسان، ومن الجوع المفرط وما يعتريه بسبب(6/478)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
هذه الأشياء من الأمراض، وما يفضي إليه من ترد وهدم وغرق وحرق وقتل وشبهها، وقد قدر الله تعالى هذا لعمر الإنسان، لأن الحيوان بعيش في الغالب سبعة أمثال مدة بلوغه، وأكثر، وأقل، بحسب ما هو مقدر عند الله من الأجل المبرم والمعلق، وزمن بلوغ الإنسان على القول الوسط خمس عشرة سنة، فتكون مع سبعة أمثالها مئة وعشرين، وهو معنى القرن، وكثيرا ما يقضون قبل ذلك بما يقدره الله عليهم من تلك العوارض، وكثيرا ما يعيشون أكثر، وقد عاش شيخنا الشّيخ حسين الأزهري مفتي الفرات سابفا مئة وسبعا وعشرين سنة مستجمعا كمال حواسه العشرة، ولم يعتره شيء من أمارات الهرم، رحمه الله، وبلّغنا ما بلغه، وجعل لنا لسان صدق مثله.
ثم قسم الله المنافقين ثلاثة أقسام ذكر الأوّل بقوله عز قوله «وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ» المحيطين بالمدينة «مُنافِقُونَ» يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر وهم من مزينة وجهينة وأسجع وغفار وأسلم أي القليل منهم، بدليل لفظ من التبعيضية، والكثير منهم ممدوحون كما مر في الحديث السّابق عقب الآية (99) المارة الدّالة على مدحهم، وفي هذا القسم المذموم الممقوت المذكورون في قوله تعالى «وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ» منافقون «مَرَدُوا» تمرنوا واعتادوا «عَلَى النِّفاقِ» وهم من الأوس والخزرج، وأنت يا سيد المرسلين «لا تَعْلَمُهُمْ» لأنهم يظهرون لك الإيمان والإخلاص والصّدق والطّاعة والحمية ولكن «نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ» لأنا مطلعين على ما تكنّه صدورهم من الكفر والغش والبغض والكذب والعصيان ولهذا فإنا «سَنُعَذِّبُهُمْ» على تزويرهم هذا، وخداعهم لك «مَرَّتَيْنِ» الفضيحة والخزي والهوان والعار والشّتار في الدّنيا، والعذاب الدّائم المقيم مدة البرزخ في القبر وكلا هذين العذابين في الدّنيا، لأن مدة البرزخ من أيامها، وعلى هذا عامة المفسرين يؤيده قوله تعالى، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ» (101) في الآخرة لأنها محل ردّ كل الخلق فإنه مكان مكافآتهم ومجازاتهم، وهذه الآية من الآيات الصّريحة الدّالة على عذاب القبر، راجع الآية 46 من سورة المؤمن المارة في ج 2. واعلم أن هذه الآية تشير إلى أن حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وأن كلّ ما يخبر به هو(6/479)
من تعليم الله إياه وإخباره له بواسطة أمينه جبريل عليه السّلام. قال الكلبي قام النبي صلّى الله عليه وسلم خطيبا يوم جمعة فقال: أخرج يا فلان فإنك منافق، فأخرج أناسا من المسجد وفضحهم ولم يك عمر شهد تلك الجمعة لحاجة كانت له، فلقيهم وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم استحياء، لأنه لم يشهد الجمعة، وظن أن النّاس قد انصرفوا واختبأوا هم منه أيضا، إذ ظنوا أنه قد علم بأمرهم خجلا من أن يراهم، فدخل المسجد فإذا بالناس لم ينصرفوا، فقال له رجل أبشر يا عمر فإن الله قد فضح المنافقين اليوم- أخرجه ابن أبي هاشم والطّبراني في الأوسط عن ابن عباس- وفي رواية ابن مردوية عن أبي مسعود الأنصاري أنه صلّى الله عليه وسلم أقام في ذلك اليوم وهو على المنبر ستة وثلاثين رجلا، ثم بين القسم الثاني بقوله «وَآخَرُونَ» من مسلمي المدينة الّذين تخلفوا عن الرّسول بشائبة النفاق، فلم يخرجوا معه إلى تبوك «اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ» أمام حضرة الرّسول عند رجوعه وأظهروا له النّدم والأسف على ما وقع منهم، ولم يتقدموا بمعاذير واهية مختلفة كالأولين، فهؤلاء بفعلهم هذا وبيانهم الواقع طوعا منهم يعدّون قد «خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً» وهو خروجهم مع حضرة الرّسول في الغزوات السّابقة وصدقهم فيها وندمهم على عدم ذهابهم مع الرّسول في هذه الغزوة ندامة حقيقة «وَآخَرَ سَيِّئاً» وهو تخلفهم عنه في هذه الغزوة وموافقتهم المنافقين على عدم الخروج معه قبلا، وهؤلاء لم يكن الله ليضيع أعمالهم السّابقة الصّادقة، ولذلك قال جل قوله «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» لسابق فعلهم الحسن وتحسين نيتهم والتمني من الله تعالى للتحقيق، لأن اعترافهم برضاهم دليل على صدق نيتهم.
وتشير هذه الآية على قبولهم، ولذلك لم يذكر الله ما يدل على عقابهم. روى الطبري عن ابن عثمان قال: ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية، وذلك لأن ظاهرها يفيد أن مجرد عمل صالح وجد من الإنسان مع أعمال سيئة يرجى له الخير، وقد لا يخلو مسلم من عمل خير مهما كان شريرا والحمد لله، راجع الآية 6 من سورة الرّعد المارة وما ترشدك إليه من المواضع ترشد لما تريد، واعلم أن الخلط هنا عبارة عن الجمع المطلق كاختلاط النّاس والأواني وغيرها بعضها ببعض،(6/480)
والواو هنا نائبة عن مع، إذ بقي كلّ عمل صالح على حاله، فالطاعة تبقى على حالها موجبة للثواب، والمعصية تبقى على حالهما مفضية للعقاب، والقول بالإحباط باطل، وهذا على خلاف قولك خلطت الماء بالعسل لا متزاجهما واندماج كلّ منهما بالآخر، فلم يبق العسل عسلا ولا الماء ماء، ومن قال بالإحباط أراد هذا المعنى الأخير تأمل. ومما يدل على قبول التوبة وعدم الإحباط ختم الآية بقوله «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (102) لأن تصديرها بحرف التأكيد دليل على انه ينجز الوعد لهم يسائق مغفرته ورحمته، ومن دلائل قبول التوبة أيضا قوله تعالى خطابا لسيد المخاطبين «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ» أي المعترفين المذكورين «صَدَقَةً» تكون كفارة لما صدر منهم «تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها» من أدران خطاياهم «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ» ادع بالتجاوز عما اقترفوه وإزالة الصّدأ من قلوبهم بالكلية «إِنَّ صَلاتَكَ» يا حبيبي لو يعلمون «سَكَنٌ لَهُمْ» وأمن وطمأنينة لأفئدتهم بقبول توبتهم «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (103) بنيتهم وإخلاصهم في قولهم وفعلهم ونزلت هذه الآية بعد قبول توبتهم وبعد أن تصدقوا بمالهم فرحا بقبول توبتهم وهي عند الله كذلك قبل ذلك فلا يخطر ببالك غيره ولا يتصوره إلّا زنديق أو منافق، لأن الله ورسوله غنيّان عن أموال النّاس لا سيما أن الصّدقة لا تحل لحضرة الرّسول، وإنما يأخذها ليعطيها مستحقيها، وإنما حمى الله رسوله صلّى الله عليه وسلم من أخذ الصّدقة لنفسه وحرمها على أقاربه أيضا وإن كانوا فقراء، لئلا يظن به أحد في أخذها ظنا يسيء السّمعة، لا سيما أن النّفس سريعة الظّن بالسوء بطيئة بالحسن، روي عن عبد الله بن أبي أوفى وكان من أصحاب الشّجرة قال كان النّبى صلّى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال اللهم صلّ عليهم «فأتاه أبي بصدقة فقال اللهم صل على آل أبي أوفى- أخرجاه في الصّحيحين- والدّليل الثالث على قبول توبتهم قوله جل قوله «أَلَمْ يَعْلَمُوا» هؤلاء النّادمون المعترفون بخطائهم «أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ» المعطاة كفارة للذنوب التي تيب عليها وغيرها الصّادرة عن طيب نفس والأخذ منه تعالى يكون بواسطة رسوله دليل القبول «أَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» (104) نزلت هاتان الآيتان في جماعة(6/481)
من المسلمين الّذين تخلفوا عن غزوة تبوك وهو أوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام وأبو لبابة بن عبد النّور وغيرهم، وهم دون العشرة وأكثر من الخمسة، وقد قال بعضهم لبعض أنكون من الضّلال ومع النّساء ورسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد واللّأواء (أي الشّدة) ، فلما قرب مجيء الرّسول إلى المدينة أرثفوا أنفسهم في سواري المسجد وقالوا والله لبقين حتى يطلقنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما مر بهم قال من هؤلاء؟ قالوا الّذين تخلفوا عنك عاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى ترضى عنهم، قال وأنا أقسم أن لا أطلقهم حتى أومر، فأنزل الله الآية الأولى فأطلقهم، فقالوا يا رسول الله هذه أموالنا التي خلّفتنا عنك وتصرف بها واستغفر لنا، قال ما أمرت أن آخذ منها شيئا، فأنزل الله الآية الثانية، فأخذ ثلثها وتصدق به كفارة لذنوبهم. وهذا مما يؤيد أن المراد في هذه الآية غير الزكاة الواجبة التي قال بها بعض المفسرين لأن تلك لها قدر معلوم، ولأن الزكاة فرضت في السّنة الثانية من الهجرة في شوال أو شعبان على اختلاف في الرّواية، وهذه الآية نزلت مع سورتها في السّنة التاسعة من الهجرة، أي بعد فرض الزكاة بسبع سنين، ولم يقل أحد بتقديم نزول هذه الآية على سورتها لأن نزولها دفعة واحدة مجمع عليه كما أشرنا إليه آنفا، وما قاله بعض الفقهاء، الأصل فيها أي الزكاة قبل الإجماع قوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) الآية، وقوله تعالى (وَآتَوُا الزَّكاةَ) وهذه
الجملة مكررة كثيرا في القرآن المكي والمدني، وقوله صلّى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس. فيه تسامح بذكر هذه الآية فقط، لأن السّياق والسّياق ينافيه، ويأباه تخالف انتظام الآيات وتناسبها وأسباب نزولها، والحق الاقتصار على الآية الثانية والحديث لاحتمال وقوعها في السّنة الثانية، وقد ذكرنا في الآية 261 و 265 من سورة البقرة المارة الدّالة على فرض الزكاة بعموم أنواعها صراحة فراجعها، وراجع الآيتين 97 و 98 قبلها أيضا ليطمئن قلبك ويتبقن صحة ما ذكرناه لك، والله أعلم. قال تعالى «وَقُلِ» يا سيد الرسل لهؤلاء التائبين وغيرهم، لأن اللفظ عام، وقد ذكرنا أن العام لا يتقيد بخصوص السّبب «اعْمَلُوا» عملا صالحا تأييدا لتوبتكم هذه «فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ» عيانا فيرحمكم ويجازيكم عليه جزاء(6/482)
خيرا كثيرا «وَرَسُولُهُ» يراه باطلاع الله إياه عليه ويستغفر لكم وهو مجاب الدعوة عند ربه «وَالْمُؤْمِنُونَ» يرونه أيضا لما يقذفه الله في قلوبهم من محبة الصالحين فكأنهم يرون أعمالهم الحسنة إذ يتمثل الحسن فيهم ويدعون لكم «وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» فيها على السّواء عنده لا فرق بين السر والجهر «فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (105) في الدّنيا على اختلاف أنواعه وأصنافه ويجازيكم على الخير بأحسن منه وعلى الشّر مثله. ثم أشار إلى القسم الثالث فقال عزّ قوله «وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ» وجماعة من المسلمين المتخلفين الّذين وسموا بالنفاق بسبب تخلفهم مؤخر أمرهم في القبول وعدمه لحكم الله فيهم بعد وهؤلاء «إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ» بعدله وقضائه «وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ» بفضله ورضائه «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بما وقع منهم عالم بأسباب تخلفهم ونيتهم فيه «حَكِيمٌ» (106) فيما يقضه عليهم وهم الثلاثة الآتي ذكرهم بعد.
مطلب سبب اتخاذ مسجد الضّرار ومسجد قباء وفضله، والترغيب في الجهاد وتعهد الله للمجاهدين بالجنة، وعدم جواز الاستغفار للكافرين:
قال تعالى حكاية عن بعض أعمال المنافقين السّابقة فاضحا سرائرهم في أفعالهم كما فضحها بأقوالهم ونياتهم، فقال «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً» بأصحاب رسول الله أهل مسجد قباء «وَكُفْراً» بالله ورسوله «وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ» الّذين يصلون فيه بأمر من حضرة الرّسول «وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ» اتخاذهم ذلك المسجد والمراد بهذا هو أبو عامر الرّاهب وقد أعده له، هؤلاء المنافقون مناوأة للمسلمين الّذين أعدوا مسجدهم لهم ولرسولهم «وَلَيَحْلِفُنَّ» لك يا سيد الرّسل الّذين بنوه وهم وديعة بن ثابت وخزام بن خالد الذي أخرج المسجد المذكور من داره، وثعلبة بن حاطب المار ذكره، وحارثة بن عمر وولداه مجمع وزيد، وشعيب بن قشير، وعبادة بن حنين، وأبو حنيفة بن الأذعر، ونفيل بن الحارث، ونجاد بن عثمان ومخرح القائلين بحلفهم لك لتصدقهم ما «إِنْ أَرَدْنَ» ببنائه «إِلَّا الْحُسْنى» أي إلّا الإرادة الحسنة(6/483)
والفعلة الطّيبة والخصلة المرضية، كذكر الله والصّلاة فيه عند ضيق الوقت غير الممكن فيه الوصول إلى مسجد رسول الله رفقا بالعجزة وذوي العاهة وتوسعة عليهم لقربه من بيوتهم، وخاصة للصلاة فيه ليالي الشّتاء وحالة المطر، وكانوا بعد أن أكملوه كلفوا حضرة الرّسول أن يصلي به ويدعو لهم بالبركة، فقال لهم صلّى الله عليه وسلم أنا على جناح سفر، وإن قدمنا من تبوك أتيناكم فصلينا به إن شاء الله. فأعلم الله تعالى رسوله بالقصد من بقائه وقصه عليه في هذه الآية، وختمها بالشهادة على كذبهم، فقال جل قوله «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (107) فيما ذكروه لك وحانثون في حلفهم، وإن القصد من بنانه إضرار المؤمنين وتفريق كلمتهم وكفر بالله ورسوله وانتظار حضور الرّاهب المذكور الذي حينما قدم على المدينة، قال للنبي صلّى الله عليه وسلم ما هذا الدّين الذي جئت به؟ فقال صلّى الله عليه وسلم جئت بالحنيفية السّمحة دين ابراهيم عليه السّلام، فقال الرّاهب أبو عامر أنا عليها، فقال له صلّى الله عليه وسلم لست عليها، قال أبو عامر بلى ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها، فقال صلّى الله عليه وسلم ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية، قال أبو عامر أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا غريبا، فقال صلّى الله عليه وسلم آمين، فسماه النّاس أبا عامر الفاسق، لخروجه على حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم ومقابلته له بكلام خارج عن نطاق الأدب والأخلاق وعار عن الصّحة. هذا ولما كان يوم أحد قال أبو عامر الفاسق للنبي صلّى الله عليه وسلم لا أجد قوما يقاتلونك إلّا قاتلنك معهم، فلم يزل كذلك إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن يئس أبو عامر الفاسق وهرب إلى الشّام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا ما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجدا، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الرّوم فآتي بجد، فأخرج محمدا وأصحابه، فصدقوا كلامه لخبث نيتهم وقح طريتهم وهم الاثنا عشر رجلا المار ذكرهم في الآية 65، فبنوه لذلك القصد وتلك الغاية، ففضحهم الله تعالى وقال صلّى الله عليه وسلم إلى مالك بن الدّغشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشي: اهدموا هذا المسجد الظّالم أهله، فهدموه عليهم وأحرقوه واتخذ لرمي القاذورات والكناسة، ومات الخبيث بالشام طريدا وحيدا غريبا. وروي أن بني عمرو بن عوف الّذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب في خلافته،(6/484)
فسألوه أن يأذن لمجمع بن حارثة أن يؤمهم في مسجدهم، فقال لا ونعمة عين، أليس هو إمام مسجد الضّرار، قال مجمع يا أمير المؤمنين لا تعجل علي فو الله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما ائتمروا عليه، ولو علمت ما صليت معهم فيه وكنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا لا يقرأون، ولذلك صليت بهم ولا أحسب أنهم على سوء نية، ولا أحسب إلّا أنهم يتقربون إلى الله، ولم أعلم ما في أنفسهم، فعذره عمر وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء الآتي ذكره. قال تعالى «لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً» لأنه لم يؤسس على تقوى من الله «لَمَسْجِدٌ» عظيم عند الله جليل عند رسوله، واللام فيه للابتداء، وفيه معنى القسم، والمراد به مسجد قباء لأنه «أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ» بني، واعلم أن لفظ من عام في الزمان والمكان، فلا
محل للقول الذي نقله النّسفي رحمه الله بأن القياس أن يقال منذ لأنه لابتداء الغاية في الزمان ومن لابتداء الغاية في المكان، لأن الله أعلم بما ينزل من الألفاظ الموافقة للمعاني المقصودة، وإني لأعجب كلّ العجب من جرأة بعض المفسرين على مثل أقوال هكذا، مع علمهم بأن مصدر العلوم العربية التي يتبححون بها ويدعون معرفتها كلها مستقاة من القرآن العظيم، وإن ما كان منها مخالفا له لا قيمة لها ولا عبرة، فالذي جعل من بمعنى ما وما بمعنى من ألا يجعل منذ بمعنى غاية المكان، ألا يجعل من لابتداء الغاية في الزمان كيف يقال هذا من هذا الرّجل وهي قد أنزلت على منبع الفصاحة ومصدر البلاغة، ومع هذا يتطاولون ويقولون القياس كذا وكذا، أيعترضون على الله الذي هو أعلم بما ينزل، فلا حول ولا قوة إلّا بالله، راجع الآية 67 من سورة يونس ج 2، والآية 5 من سورة الحج المارة وابتهر بجرأة المفسرين لهما واستغفر الله والزم الأدب، فهو «أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ» مصليا من مسجد الضّرار الذي أسس على الكفر استعدادا لحضور ذلك الرّاهب الكافر، لأن هذا المسجد المبارك «فِيهِ رِجالٌ» كرام على ربهم «يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا» طهارة كاملة من النجاسة الحسية والمعنويّة، والكلية الظّاهرة والباطنة، ويأخذون فيها بالعزيمة دون الرخصة «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» (108) لما نزلت هذه الآية مشى رسول الله(6/485)
صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى وقف على باب مسجد قباء، فقال يا معشر الأنصار إن الله عزّ وجل أثنى عليكم فما الذي تصنعون؟ فقالوا يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار ثم نتبعها بالماء فتلا عليهم الآية وهي عامة في الطّهارة ولا يفهم من هذا نزول الآية منفردة عن سورتها كغيرها من الآيات التي ذكرنا أسباب نزولها، بل نزلت هذه وغيرها مع سورتها دفعة واحدة كما ذكرنا، وتلاوة هذه الآيات وغيرها بمفردها لا يعني نزولها وحدها تأمل. أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر قال كان النّبي صلّى الله عليه وسلم يزور قباء راكبا وماشيا يصلى فيه ركعتين. وأخرج البخاري عن سهل ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء كلّ سبت راكبا وماشيا، وكان ابن عمر يفعله. وأخرج النّسائي عن سهل بن حنيفة قال: قال صلّى الله عليه وسلم من خرج حتي يأتي هذا المسجد مسجد قباء فيصلي فيه كان له كعدل عمرة. وأخرج الترمذي عن أسد بن ظهير أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال: الصلاة في مسجد قباء كعمرة.
وما قيل أن المراد في المسجد المذكور في هذه الآية مسجد الرّسول ينافيه سياق الآية ومغزى الحادثة والتاريخ أن مسجد الرّسول أفضل المساجد كلها بعد المسجد الحرام. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن زيد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة. ورويا عن أبي هريرة مثله بزيادة ومنبري على حوض. وأخرج النّسائي عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنّة (أي ثوابت) . وجاء في الحديث الصّحيح أن الصلاة فيه تعدل خمسمائة صلاة في غيره. ثم ضرب الله مثلا لهذين المسجدين مسجد الضرار ومسجد قباء المسمى مسجد القرى بقوله جل قوله «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ» منه تعالى «خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ» متداع للسقوط كما سيأتي بيانه بعد «فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ» سقط مع بنائه فيها لأنه ظلم نفسه بذلك «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (109) أنفسهم المسوين بين مسجد التّقوى ومسجد الضّرار، أي من أسس بنيانه على شفير واد أكل الماء ما تحته فصار هائرا أو واهيا متداعيا للسقوط مثله كالرمل الذي ينهار لرخاوته وعدم تماسكه. وهذا الاستفهام المصدر فيه جاء(6/486)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
على سبيل سؤال التقرير، وجعل جوابه مسكوتا عنه لوضوحه، أي ليس هذا كمن أسس بنيانه على قواعد محكمة وقصد به تقوى الله ورضوانه، فلا شك أنه خير وأحكم ممن يؤسس بنيانه على ما ذكر، ولم يقصد به إلّا مناوأة الله ورسوله والمؤمنين طلبا لمرضاة الفاسق المذكور، ومن كان هذا شأنه فإن عاقبته النار لا محالة، وعاقبة الآخر محبة الله ورسوله، والحصول على رضوانهما ودخول الجنّة. قال تعالى مشددا في حزنهم وكآيتهم على ما فعلوا وقعدوا «لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ» كالحزازة تحوك في صدورهم لعظم جرمهم. والإثم حزاز القلوب لكثرة تردده فيها وسيبقي كذلك، «إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ» كمدا فيموتوا على غيظهم وغدرهم وحدهم وحسرتهم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بنيتهم في بنائه، ولذلك فضحهم على لسان رسوله وأصحابه بسبب بغضهم لهم «حَكِيمٌ» (110) بحكمه عليهم فيما ذكر جزاء جرأتهم على الله ورسوله.
قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» في هذه الدّنيا «أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» في الآخرة بدلا منها، ثم بين هذه المبايعة بقوله «يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» بأموالهم وأنفسهم «فَيَقْتُلُونَ» أعداءه وأعداءهم «وَيُقْتَلُونَ» في طاعته وطاعة رسوله ابتغاء مرضاته. قال كعب بن زهير:
لا يفرحون إذا نالت رماحهم ... قوما وليسوا مجازيع إذا نيلوا
لا يقع الطّعن إلّا في نحورهم ... وما لهم من حياض الموت تهليل
وكان قائلهم يقول ما قاله الشّريف الرّضي:
ونحن النّازلون بكل ثغر ... نريق على جوانبه الدّماء
ونحن اللابسون لكل مجد ... إذا شئنا ادّراءا وارتداء
ولو كان العداء يسوغ منا ... لسنا النّاس كلهم العداء
وقال حافظ ابراهيم المصري في هذا المعنى:
شمّر وكافح في الحياة فهذه ... دنياك دار تناحر وكفاح
وانهل مع النّهال من عذب الحيا ... فإذا رقا فامتح مسح المتّاح(6/487)
وإذا ألحّ عليك خطب لا تهن ... واضرب على الإلحاح بالإلحاح
وخض الحياة وإن تلاطم موجها ... خوض البحار رياضة السّبّاح
هكذا كانوا، وخلف من بعدهم خلف يريدون الأمور بالتمنّي، وقد ردّ عليهم أمير الشّعراء أحمد شوقي المصري بقوله:
وما نيل المطالب بالتمنّي ... ولكن تؤخذ الدّنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال ... إذا الإقدام كان لهم ركابا
فيا رب وفق أمتك للحزم واجمع كلمتهم على العزم لاسترداد عزتهم ويا رسول الله إنا نتوسل بك إلى ربك أن يتبعوا طريقك ويلازموا خطتك وأنت المجاب الدّعوة الذي كلّمت أقلام البلغاء ونطق الفصحاء بمدحك ومنهم شوقي القائل في قصيدته النبوية التي عارض فيها الهمزية:
فرسمت بعدك للعباد حكومة ... لا سوقة فيها ولا أمراء
الله فوق الخلق فيها وحده ... والنّاس تحت لوائها أكفاء
والدّين يسر والخلافة بيعة ... والأمر شورى والحقوق قضاء
وأمثال هؤلاء قد وعدهم الله الجنّة «وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا» منجرا نافذا مثبتا في في اللّوح المحفوظ بعلم الله الأولي ليس محسنا، ولهذا فإنا أثبتناه «فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ» وهذه الآية تدل دلالة صريحة على أن الجهاد مأمور به في جميع الشّرائع، وأن الله تعالى قد عاهد المجاهدين على ما ذكره فيها كما عاهد المؤمنين في هذا القرآن عليه «وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ» أخبروني أيها الناس والجواب عن هذا الاستفهام (لا أحدا البتة) فإذا عرفتم هذا العهد الموثوق أيها المجاهدون الصّادقون «فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ» ربكم الذي أعطاكم هذا الوعد وهو لا يخلف الميعاد، وتكفل لكم بهذا القول، ومن أصدق من الله قيلا، وحدث به رسولكم عنه ومن أصدق من الله حديثا.
«وَذلِكَ» الحصول على ما وعد الله به المجاهدين «هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (111) وهذا جاء مجرى التلطف من الله في الدّعاء إلى طاعته والترغيب إلى جهاد عدوه، لأنا مملوكون لله تعالى، والمشتري لا يشتري ما يملك، ولم يقل جل قوله إن الله(6/488)
اشترى من المؤمنين قلوبهم مع أنها الأصل ومحل الإيمان، لأنها ليست بأيدي عباده، فالقلب بيت الرّحمن وهو بين إصبعيه يقلبه كيف يشاء، ولأن الإنسان لا يصحّ له أن يبيع ما لا يملك كما لا يصحّ له أن يبيع طيرا بالهواء أو حوتا في الماء، قال تعالى «التَّائِبُونَ» من الكفر والنّفاق والبغي والعصيان «الْعابِدُونَ» الله تعالى بإخلاص جهد المستطاع بالسر والإعلان «الْحامِدُونَ» ربهم على السّرّاء والضّراء الرّاضون بما أنعم عليهم المنان «السَّائِحُونَ» في الأرض المتفكرون بما أبدعه الله من الخلق وإلى طلب العلم والتهذيب النّفسي وإلى الجهاد في في سبيل الملك الحنان «الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ» في إقامة الصّلوات في أوقاتها المحافظون على أركانها المراعون شروطها، وعبر بالركوع والسّجود عن الصّلاة لأنهما معظمها واختصاصهما بها لله تعالى بخلاف القيام والقعود والقراءة «الْآمِرُونَ» أنفسهم وغيرهم «بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ» راجع بيانها في الآية (111) من سورة البقرة المارة، وأدخلت الواو هنا لأن العرب تعتبر السّبعة عددا تاما فنعطف عليه ما بعده، راجع الآية 43 من سورة الكهف في ج 2 فيما يتعلق بهذا والقرآن نزل بلغتهم «وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ» فلم يتجاوزوا شيئا منها ولم يتعدوا ما حده لهم، فهؤلاء المتصفون في هذه الصّفات العالية هم المؤمنون «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» (112) أمثال هؤلاء بأن لهم الجنّة عند ربهم كالغزاة المار ذكرهم إذا لم يقصدوا بتركهم الغزو مطلق الرّاحة أو كلا عنه أو مخالفة لآمرهم أو رغبة عنه. قال تعالى «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ» الّذين ماتوا على شركهم، أما الأحياء من الكفرة فيصح الدّعاء لهم بالهداية، ويجب إرشادهم للايمان «وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى» لهم فلا يجوز الاستغفار لهم، ولا ينبغي فعله «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (113) بتحقق موتهم على الكفر بحسب الظّاهر، وعليه فلا يصح ولا يستقيم الدّعاء لهم شرعا، اما قبله فلا بأس بل هو مطلوب لقوله صلّى الله عليه وسلم لأن يهد الله بك رجلا خير لك من حمر النّعم وجعل بعض المفسرين نزول هذه الآية في أبي طالب حين قال له صلّى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنك،(6/489)
مع أن أبا طالب رحمه الله توفي في مكة السّنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين كما أشرنا في الآية 26 من الأنعام في ج 2، وهذه السّورة من آخر القرآن نزولا فلا يستقيم نزولها فيه، على أنه لا يستبعد أنه صلّى الله عليه وسلم كان لا يزال يستغفر له من وفاته إلى نزول هذه الآية كلما جاء ذكره أو تذكر موافقه وشدة حرصه عليه وزيادة محبته له وتوسمه الخير فيه حال حياته لعظيم حقه عليه ولا يراد أنها عقب قوله لاستغفرت لك إلخ، بل المراد أن هذا هو سبب النّزول فلذلك لا يصح. وما ورد من أنه صلّى الله عليه وسلم بعد موت أبي طالب صار يبكي عليه ولم يخرج من بيته حتى نزلت هذه الآية، فهو قول وامر لا يعتد به ولا يلتفت إليه، لأن بين وفاته ونزول هذه الآية ما يزيد على اثنتي عشرة سنة، ويبعد عليه صلّى الله عليه وسلم مثل ذلك، وحاشاه، ولذلك فإن غالب ما ينقله بعض النّاس عن أهل البيت في هذا الصدد لا صحة له أيضا، لأنهم يعلمون أنه مات مؤمنا وينقلون في أخيه العباس أنه سمعه نطق بالشهادتين في آخر رمق من حياته علنا.
مطلب في إيمان أبي طالب وسبب استغفار ابراهيم لأبيه وكذب ما نقل عن ابن المقفع وقصة المخلفين الثلاثة وتوبتهم:
ومما يدل على إيمانه سر الأبيات التي نقلها عنه أهل بيته وغيرهم في مدح ما علمه حضرة الرّسول وهي:
ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البريّة دينا
الأبيات المارة في الآية 57 من سورة القصص ج 1 لأن قوله فيها:
لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك قمينا
أي مجاهرا به على رؤس الأشهاد وما أخفيته، مما يدل على أنه مؤمن فيما بينه وبين ربه، لا أنه سرّ أخاه العباس بالإيمان خفية عن قومه، بل اعترف له بالإيمان قبل وفاته وأن الذي نزل في أبي طالب هو قوله تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) الآية المذكورة في سورة القصص. والصّحيح في هذا أن المسلمين لما رأوا رسول الله يستغفر لوالديه وجده عبد المطلب صاروا يستغفرون لموتاهم(6/490)
المحقق موتهم على الكفر، فأنزل الله هذه الآية ينهاهم بها عن الاستغفار لهم. ثم أنه تعالى أجاب عما وقع في قلوبهم من استغفار إبراهيم عليه السّلام لأبيه وقالوا إذا كان إبراهيم يستغفر فلماذا لا نستغفر لموتانا، لأنهم ووالد ابراهيم في الكفر سواء بقوله عز قوله «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ» بأن يؤمن به لا عبثا ولا قصدا مع العلم ببقائه على كفره ولا عن شيء آخر. وقرأ بعضهم أباه بالباء الموحدة ومنهم الحسن، ولكن لا عبرة بها لأن كلّ ما هو مخالف لما في الصّحف لا يلتفت إليه، لأنه على هذه القراءة يكون إبراهيم الذي وعد بالاستغفار، والحال أن أباه هو الذي وعده بالإيمان، ولذلك صار يستغفر له على أمل إيمانه دون وعد منه بل لحق الأبرة. وما قيل إن ابن المقفع صحف ثلاثة أحرف بالقرآن العظيم هذه الياء بالباء، وعين عزّة وشقاق الآية الثانية في سورة ص ج 1 بالغين المعجمة والرّاء بدل الزاي، فتصير (غرّة) وغين (يغنيه) من قوله تعالى (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) الآية 38 من سورة عبس في ج 2 بالعين المهملة، فيصير (يعنيه، فقيل كذب، ونقل زور، وكلام بهت لا يلتفت إليه إلّا ضعيف اليقين قليل العقيدة بالله تعالى الذي تعهد بحفظ كلامه من التبديل والتغيير، راجع الآية 10 من سورة الحجر المارة في ج 2 وما ترشدك إليه في المواضع. ومن هذا ابن المقفع حتى يجرؤ على ذلك وهو في أهل زمن لا يجرؤ أن ينبس بنبت شفة على كتاب الله تجاه أهله الذي أجمعت عليه الأصحاب بعد رسول الله، والتابعين من بعدهم، واقتفى أثرهم اجماع علماء الأرض، فلو حدثته نفسه بذلك هل يقرونه عليه؟ كلا، بل لقطع منه الحلقوم، وهذا القرآن كما بيناه في الآية المذكورة من الحجر وفي مواضع أخرى مبينة فيها أن جميع ما بين الدّفتين الموجود الآن هو كلام الله تعالى بتمامه وحروفه كما أنزله لم ينقص منه حرف، ولم يزد فيه حرف، ولم يبدل منه حرف واحد أبدا، راجع تفسير آخر سورة الأحزاب المارة وما ترشدك إليه، وفي المقدمة في بحث نزول القرآن تجد ما تكتفي به. وهذا الاستثناء في الآية هذه مفرّغ من أعم العلل أي ما كان استغفار ابراهيم عبثا ولا لعبا ولكن عن موعدة من أبيه(6/491)
له بالإيمان به وبربه ولذلك استغفر له عما سلف منه إذا هو آمن «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ» مصر على كفره به. وهذا العلم جاء لابراهيم بطريق الوحي من ربه عز وجل أو الإلهام أو بواسطة الملك «تَبَرَّأَ مِنْهُ» وهذا يدل دلالة صريحة على صدور الوعد من آزر لابنه ابراهيم بالإيمان بالله وحده كما يفهم من نسق الآية وسياقها لا من ابراهيم له بالاستغفار، لأن وعد ابراهيم له كان بعد ذلك ولهذا علّفه على إيمانه، قال تعالى حكاية عن خليله ابراهيم عليه السلام (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) الآية 46 من سورة مريم في ج 1 كما أيده الله تعالى في هذه الآية المفسرة ثم أكد ما كان عليه عليه الصّلاة والسّلام من الخلق الكريم بقوله (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) كثير التأوه فرقا من ربه جليل الخوف خشية منه رقيق القلب خاشع خاضع متضرع «حَلِيمٌ» (114) صفوح عن الأذى صبور على البلاء لا يقابل أحدا بما يكره، ولا السّيئة بالسيئة، بل يعفو ويكظم يقول له أبوه لأرجمنك ويقول له السّلام عليك الآية 48 من مريم في ج 1 وقد تأسى نبينا صلّى الله عليه وسلم بكل أخلاق الأنبياء قبله كما أعطي معجزاتهم كافة، وكان من كرم خلقه العفو والسّفح، ولذلك جاء الإسلام وسطا في الأخلاق بين الأفراط والتفريط، والتقريب بين المثل الأعلى والواقع، وانسجام بين العقل والغريزة التي هي قوة مع رحمة، وحكم مع عدل، وتواضع مع عزّة، ومساواة مع
تسامح، وتشاور مع عزم، ولين مع حزم، راجع الآية 161 من آل عمران تجد ما يتعلق بهذا، قال تعالى «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً» بسبب استغفارهم لمشركين «بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ» للايمان، وسبب نزول هذه الآية هو أن الله تعالى لما نهى المؤمنين عن الاستغفار لآبائهم المشركين خافوا عاقبة ما صدر منهم وصاروا يضربون أخماسا بأسداس على ما فرط منهم، فأنزل الله هذه الآية تطمينا لهم بعدم المؤاخذة وتطبيبا لخواطرهم، وإعلاما بأن ما وقع منهم لا يضرّهم ولا يعاقبهم الله عليه، لصدوره قبل النّهي بتأويل منهم، وحاشا رحمة الله أن يعذب قبل أن ينهى أو يريد قبل أن يأمر بالنسبة للظاهرة، ولهذا ختم هذه الآية بقوله «حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ» (115) الخوض فيه وما يستحبونه(6/492)
فكل ما وقع منهم قبل البيان لا يؤاخذون عليه، أما بعده فمفوض لمشيئة الله تعالى ولهذا يتقدم لهم بالإنذار والإعلام حتى لا تبقى لهم معذرة إذا اقترفوا شيئا مما نهوا عنه بعد البيان فيؤاخذوا عليه ويعاقبوا، وحاشا أصحاب رسول الله من الاقدام على شيء نهاهم الله عنه أو كرهه لهم «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (116) قبل ظهوره لخلقه علما حقيقيا لا كعلم السّحرة والكهنة الصّورى والمموّه الكاذب فإنه لا يلتفت إليه، قال:
دع المنجم يكبو في ضلالته ... إن ادعى علم ما يجدي من الفلك
تفرد الله بالعلم القديم فلا ... إنسان يشركه فيه ولا الملك
أعد للرزق من أشراكه شركا ... وبئست العدتان الشّرك والشّرك
فالعلم الذي هو العلم لا ينسب إلّا إلى الله العالم بكل شيء، ومن علمه هذا ما خالطته نفوس أصحاب رسول الله من الخوف عما صدر منهم ما ثلج صدورهم بما أنزله في هذه الآية وأزال ما كان يتردد فيها. هذا وإن ما قاله الكلبي ومقاتل بأن قوله تعالى (حَتَّى يُبَيِّنَ) إلخ نزلت في أمر النّاسخ أي حتى يتبين لهم المنسوخ بالناسخ وذلك أن هناك أشياء كثيرة كانت عندهم قبل الإسلام يعدونها حلالا ولا بأس بها، منها ما ابتكروها ابتكارا من عند أنفسهم، ومنها ما تلقوها عن أسلافهم فقلدوهم فيها ومنها ما اقتفوا بها آثار أهل الكتابين كوأد البنات، وقتل غير القاتل وشرب الخمر، ومنع النّساء من الإرث، وكذلك الأولاد والصّغار، وتحريم السوائب، والوصائل وتحليل أكل بعض الحيوان للرجال دون النّساء، وغيرها ما ذكر الله في سورة الأنعام والمائدة والبقرة وغيرها، ومن هذا القبيل توجه الإسلام في الصّلاة إلى الكعبة بدلا من بيت المقدس، أي ما كان الله ليبطل أعمالكم بالنسوخ حتى تبين لكم نزول النّاسخ فتعملوا به، وهذا لعمري بعيد عن الصّحة، لأن هذه الآية عامة وكثير مما نهوا عنه لم ينزل فيه ناسخ، ولم يكن النّاسخ إلا عن شيء نزل قيل بكتاب سماوي فلا يشترط له النّاسخ، لأن النّسخ معناه نسخ نص سابق بنص لا حق ولا يوجد فيما اعتادوه قبل الإسلام نص سماوي، لذلك لا يلتفت لهذا القول، ولا يعقل قول المؤمى إليها به. وعلى كلّ فلا قيمة له ولا(6/493)
عبرة به، تأمل، وراجع بحث النّاسخ والمنسوخ في المقدمة تقف على ذلك.
قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يأمر من فيهما بما يشاء وينهى عما يشاء لا يقيد شيء دون آخر في كلّ ما فيهما وما بينهما وما فوقهما وتحتهما «يُحْيِي وَيُمِيتُ» من فيهما ويغني ويفقر ويعظم ويحقر، لا راد لما يريد، ولا معطى لما منع «وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» أيها النّاس قويكم وضعيفكم «مِنْ وَلِيٍّ» يلي أموركم غيره «وَلا نَصِيرٍ» (116) يمنعكم منه أو يحول دون إرادة ما قدر إيقاعه فيكم لأن مقدراته نافذة عليكم بآجالها لا تقدم ولا تؤخر ثم أنزل جل إنزاله ما يتعلق بالمتخلفين الصّادقين والثلاثة الآتي ذكرهم، فقال جل قوله «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ» وقت غزوة تبوك المار ذكرها لما فيها من بعد الشّقة وقلة السّلاح والرّكوبة فضلا عن أنها كانت زمن الحرّ والجدب «مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ» على الثبات مع حضرة الرّسول لتلك الأسباب واشتداد الضنك حتى كان العشرة منهم يتعاقبون على الرّاحلة الواحدة في الرّكب وفي الزاد حتى كان الرّجلان يقتسمان التمرة وفي الماء حتى شربوا عصير كروش الإبل وفي الزمن حتى كان الجماعة يظللون أنفسهم بعباءة واحدة من هجير الشّمس، وفي المكان من البعد حتي شارف بعضهم على الهلاك من التعب قيل الوصول المرحلة وفي كلّ شيء في هذه الغزوة عسر ومشقة وقلة لم يلاقوها في جميع غزواتهم، ولهذا سميت غزوة العسرة وامتحن فيها من امتحن فنجى من نجى بحسن نيته وهلك من هلك بسوئها «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ» وتجاوز عن زلتهم وخطئهم، وعفا عمّا همّ به بعضهم من ترك الرّسول والتخلي عنه وما اعتراهم من الضّجر، وإنما كرر فعل التوبة لزيادة التأكيد والتطمين لهم بالصفح عما وقع منهم كله من قول وفعل ونية وهم وعزم «إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (117) لأنهم من خلص عباده فرأف بهم ورحمهم ودفع عنهم ما لا يطيقون بكرمه وحنانه، ودفع عنهم ما عجزوا عنه بمنه ولطفه وتاب عليهم برده وعطفه. والفرق بين الرّأفة والرّحمة أن الرّجل قد يرحم من يكرهه ولا يرأف به، فالرحمة عامة، والرّأفة خاصة بمن يحب.(6/494)
والمراد من توبته على حضرة الرّسول لاقدامه على أمرين في هذه الغزوة لم يتلق فيها شيء من ربه، الأوّل أذنه المنافقين بالتخلف الذي عاتبه عليه في الآية 23 المارة بقوله (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) الآية، الثاني توبته على المهاجرين والأنصار بما وقع في قلوبهم من الميل إلى التخلف في هذه الغزوة ولما وقع في قلوب بعضهم بأنهم عاجزون عن قتال الرّوم، مع أنهم كانوا سبعين ألفا ذهب منهم مع حضرة الرّسول ثلاثون ألفا فقط كما تقدم في القصة عند تفسير الآية 46 المارة وقد ورد أن الجيش إذا بلغ اثني عشر ألفا لا يغلب عن قلة، وكلاهما من باب ترك الأفضل، فلا يعد ذنبا كما بيناه في الآية 67 المارة في سورة الأنفال، فتكون الأمور التي فعلها حضرة الرّسول طيلة حياته دون وحي ربه هي ثلاثة فقط (هاتان وقبول الفداء) في أسرى بدر المار ذكرها في الآية 67 المارة آنفا من الأنفال. هذا وقد أظهر الله على يد رسوله في هذه الغزوة معجزات كثيرة، منها ما ذكر في القصة المارة في الآية 46 ومنها فيما بعدها في هذه السّورة، ومنها ما أسنده الطّبري عن عمر رضي الله عنه قال إن أبا بكر قال يا رسول الله إن الله عوّدك في الدّعاء خيرا فادع الله أن يعطينا ماء، وذلك لشدة ما لحقهم من الظّمأ، قال أتحب ذلك؟
قال نعم، فرفع يديه صلّى الله عليه وسلم فلم يرجعا حتى أرسل الله سبحانه وتعالى سبحانه فمطرت فملأوا ما معهم من الأدلية، ثم ذهبنا ننتظر فلم نجدها جاوزت المعسكر. قال تعالى «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» تاب الله عليهم أيضا وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الرّبيع الأنصاريّون، وهم المعنيون بقوله تعالى (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ) الآية 116 المارة، وهذه الآية معطوفة على الآية الأولى، أي لقد تاب الله على النّبي إلخ وعلى الثلاثة إلخ وفائدة هذا العطف هو أن ما ذكر من ضم توبته إلى توبة الرّسول كان دليلا على تعظيمه وإجلاله، وهذا العطف يوجب أن يكون قبول توبة النّبي صلّى الله عليه وسلم وتوبة المهاجرين والأنصار في حكم واحد، وذلك يوجب إعلاء شأنهم وكونهم مستحقين لذلك «حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ» من شدّة الحزن والهم والغم والجفوة «وَظَنُّوا» تيقنوا وتحنقوا مما رأوا من عدم الالتفات إليهم «أَنْ(6/495)
لا مَلْجَأَ»
لهم يلجأون إليه «مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ» وحده لا أحد ينجيهم مما هم فيه إلّا هو تعالى «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ» ورحمهم لعلمه بصدق نيتهم فيما سبق في علمه الأزلي وعطف عليهم بقبول التوبة «لِيَتُوبُوا» في المستقبل عما يصدر عنهم كما يتوبوا عما صدر منهم قبلا فيكونون في كلّ أحوالهم تائبين وينيبون لجلال ربهم عن صدق واخلاص ونصح وحسن نية ويرجعوا إلى ربهم وطاعة رسولهم «إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ» على عباده الرّاجعين إليه المنان عليهم من فضله «الرَّحِيمُ» (118) بهم وإن ذكر صفة الرّحيمية بعد صفة التوابية يشير إلى أن قبول التوبة لأجل محض الرّحمة والكرم والفضل لأجل الوجوب عليه إذ لا واجب على الله لعبيده سواء في توبتهم أو في أعمالهم وأقوالهم. وفي هذا يعلم عدم وجوب قبول التوبة على الله. والتضعيف في الثواب يدل على المبالغة أي أنه تعالى إذا شاء قبول توبة العبد عفا عن ذنوبه كلها، وإن كانت مثل زبد البحر، كما ورد بذلك الخبر إذ له أن يتجاوز عنها ولو كانت من أنواع الجنايات وأعظمها، فهو الجواد على عباده بفنون الآلاء مع استحقاقهم أفانين العذاب. وخلاصة القصة هو ما جاء في الحديث المروي عن ابن شهاب الزّهري عن عبد الرّحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب قال سمعت كعبا يقول إني لم أتخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا في غزوة تبوك، وقد طفقت أتجهز ولم أزل أتمارى حتى غدا رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون، ويحزنني أن أرى لي أسوة (أي من المتخلفين) عن حضرة الرّسول إلا رجلا مغموصا بالنفاق أو ممن غدر الله، ولم يذكرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برؤه والنّظر في عطفه، قال معاذ بن جبل بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلّا خيرا، قال كعب فلما بلغني قدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلم طفقت أقول بم أخرج من سخطه وقد استعنت بكل ذي رأي من أهلي حتى عرفت إني لم أنج بشيء أجمعت صدقه فجاء المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون فقبل منهم ووكل سرائرهم إلى الله فجئت، وجلست بين يديه فقال ما خلفك قلت يا رسول الله والله لو جلست عند غيرك لرأيت إني سأخرج من سخط بعذر لند أعطيت جدلا (قوة) في الحجة وشدة في البرهان وبراعة في الدّليل(6/496)
بحيث لا أغلب في المناظرة) ولكن علمت لئن حدثتك حديث كذب ترضى به مني ليوشكن أن يسخطك علي ولئنّ حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه اني لأرجو فيه عفو الله والله ما كان لي من عذر والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال صلّى الله عليه وسلم أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك ثم قلت هل لقي هذا أحد معي قالوا رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك مرارة بن الرّبيع العامري وهلال بن أمية الوافقي صالحان شهدا بدرا ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثة فتغيروا علينا حتى تنكرت لنا الأرض فلبثنا على ذلك خمسين يوما وليلة فأما صاحباي فاستكانا
وقعدا يبكيان وأما أنا فأشهد الصّلاة وأطوف بالأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأسلم عليه في مجلسه فأقول في نفسي هل حرّك شفنيه برد السّلام اللهم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النّظر أي أطلب غفلة منه لأنظر إليه وأرى هل ينظر إلي أم لا، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا ألتفت نحوه أعرض عني حتى طالت على جفوة المسلمين فتسورت حائط ابن عمي أبي قتادة فسلمت عليه فو الله ماره علي السلام فقلت أنشدك بالله هل تعلم أني أحب الله ورسوله وكررت عليه مرارا فقال الله ورسوله أعلم فقاضت عيناي وتوليت فبينا أنا في سوق المدينة إذ بنبطي من أهل الشّام دفع إلي كتابا من ملك غسان فقرأته فإذا فيه [أما بعد فإنه بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله يدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك] قال فقلت وهذه أيضا من البلاء فتيممت به التنور فسجرته به (وهذا من كمال إيمانه رضي الله وإلّا لكان هذا الكتاب مما يهون عليه مصابه وبالخاصة أنه من ملك غسان لو أبقاه تلاه كلما ضاق ذرعه ولتبجح به بين النّاس) قال رضي الله عنه حتى إذا مضت أربعون يوما من الخمسين واستلبث الوحي أرسل رسول الله يأمرنا أن نعتزل نساءنا فقلت لامرأتي الحقي بأهلك حتى يقضي الله قال ثم صليت صبح الخمسين ليلة فبينا أنا جالس على الحال التي ذكرها الله سمعت صوت صارخ يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدا لله تعالى وعرفت أن قد جاء الفرج وأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا فذهب النّاس يبشرونني ورفيقاي فكسوت البشير(6/497)
ثوبي ثم انطلقت إلى رسول الله والنّاس يتلقونني فوجا فوجا يهئنؤنني فلما وصلت سلمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصليت أمامه فقال أبشر بخير يوم مر عليك قد قبل الله توبتك وتوبة رفيقيك فقلت يا رسول الله إن من تمام توبتي أن أنخلع من مالي صدقة الله ورسوله فقال أمسك عليك بعض مالك فقلت يا رسول الله إنما أنجاني الله بالصدق وأن من توبتي أن لا أحدث إلّا صدقا ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم الآيات النازلة فينا لقد تاب الله إلى الرّحيم وهذه هي التوبة الصّحيحة.
مطلب في مدح الصّدق وفوائده وذم الكذب ونتائجه وما يتعلق بذلك والرّابطة عند السّادة الصّوفية:
فقد سئل أبو بكر الوراق عن التوبة النّصوح فقال هي أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه وهذه نتيجة الصّدق الذي هو قوام أمر الخلق، لأن الكذب لا ينجي، وهو داء عضال لا ينجو من نزل به، ومن صنف الكذبة الحمقى، فإن الأحمق ضال مضل إن أونس تكبّر، وإن أوحش تكدر، وإن استنطق تخلّف. مجالسته مهينة، ومعاتبة محنة، ومجاورته تعرّ، وموالاته تضر، ومقاربته عمى، ومقارنته شتاء. هذا ومن المتخلفين من ندم فلحق به صلّى الله عليه وسلم، ومنهم من بقي وساوره النّدم، قال الحسن رضي الله عنه: بلغني أنه كان لأحدهم حائط خير من مائة ألف درهم، فقال:
يا حائطاه ما خلفني إلّا ظلك، وانتظار ثمارك، اذهب فأنت في سبيل الله. ولم يكن لآخر إلّا أهله، فقال: يا أهلاه ما بطأني ولا خلفني إلّا التفتن بك، فلا جرم والله لأكابدن الشّدائد حتى ألحق برسول الله صلّى الله عليه وسلم: فتأبط زاده ولحق به عليه الصّلاة والسّلام ورضي عنهما، وعن أبي ذر الغفاري أن بعيره أبطأ به، فحمل متاعه على ظهره واتبع أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ماشيا، فقال عليه الصّلاة والسّلام لما رأى سواده كن أبا ذر، فقال النّاس هو ذاك يا رسول الله، فقال رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده. وكانت الأوليان وستكون الثالثة يوم البعث إن شاء الله تصديقا لحضرة الرّسول الصّادق صلّى الله عليه وسلم راجع الآية (35) المارة(6/498)
تجد ذكره، وعن أبي خيثمة أنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظّل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرّطب والماء البارد، فنظر فقال ظل ظليل ورطب يانع وماء بارد وامرأة حسناء، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في الضّح والرّيح؟ ما هذا بخير فقام ورحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح فمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم طرفه إلى الطّريق، فإذا براكب يزهاه السّراب، فقال كن أبا خيثمة فكان، ففرح به رسول الله صلّى الله عليه وسلم واستغفر له. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ» لا تخالفوه أبدا واعملوا بأوامره ما استطعتم، واجتنبوا نواهيه كلها «وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» (119) المخلصين له المتوكلين عليه صادقين في إيمانكم وعهودكم ووعودكم، صادقين في دين الله في أمركم ونهيكم فعلا وقولا ونية، صادقين في كلّ شؤونكم، قائمين بالحق حتى يكون عقدة راسخة في قلوبكم مستقرة في أعماق نفوسكم تحبون لإخوانكم ما تحبون لأنفسكم، فتكونوا صفا واحدا جنبا إلى جنب فتنجحوا في كلّ أموركم كما نجح من قبلكم بتوغلهم في معاني كتاب الله، فصاروا أمة متفقة، وكان كلّ منهم بمثابة أمة، كما قال تعالى (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) قلده السّلف الصّالح منكم فكانوا مثلهم، فإذا أردتم الفوز في الدّنيا والآخرة كونوا مثلهم لإعلاء كلمة الله تنجحوا في الدّارين. قال ابن عباس: الخطاب في هذه الآية لمن آمن من أهل الكتاب، أي كونوا مع المهاجرين والأنصار وانضموا في سلكهم في الصّدق وبقية المحاسن كلها. على ان الآية عامة فيهم وفي غيرهم، والمراد بالصادقين عند نزول هذه الآية حضرة الرّسول وأصحابه، لأنه تعالى لما حكم بقبول توبة الثلاثة المذكورين أعقبها بما يكون كالزاجر عن فعل ما مضى من المتخلفين عن رسول الله، فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) في مخالفة أمر رسولكم لا تعيدوها أبدا (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) هو وأصحابه وساووهم، لا تفضلوا أنفسكم عليهم فتتخلفوا عن الجهاد معه، وتكونوا مع المنافقين، واحذروا مرافقة الكذبة فإن الكذب من أسوأ الرّذائل وأقبحها لكونه ينافي المروءة، وقد جاء في الخبر لا مروءة لكذوب. وقال تعالى (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) الآية 106 من سورة النّحل(6/499)
المارة في ج 2، لأن المراد بالكلام الذي يتميز به الإنسان عن سائر الحيوانات إخبار الغير عمّا لا يعلم، فإذا كان الخبر غير مطابق لم تحصل فائدة النّطق، وقد حصل منه اعتقاد غير مطابق، وذلك من خواص الشّيطان، فالكاذب إذا شيطان، وكما أن الكذب من أقبح الرّذائل فالصدق من أحسن الفضائل وأحلى كلّ حسنة، ومادة كلّ خصلة محمودة، وملاك كلّ خير وسعادة، وعنصر الرّضاء، وبه يحصل كل كمال وأصل الصّدق الصّدق في عهد الله تعالى الذي هو نتيجة الوفاء بميثاق العظمة.
قال تعالى (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) الآية 24 من سورة الأحزاب المارة، أي في عقد العزيمة ووعد الخليفة. قال تعالى (إِنَّهُ) أي إسماعيل عليه السلام (كانَ صادِقَ الْوَعْدِ)
الآية 55 من سورة مريم المارة في ج 1، فإذا روعي الصّدق في المواطن كلها حتى الخاطر والفكر والنيّة والقول والعمل أدّى ذلك إلى اتصافه بالصدق الخالص، حتى ان مناماته. ووارداته على قلبه تصدق بإذن الله تعالى. روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: عليكم بالصدق فإنه يقرب إلى البر والبر يقرب إلى الجنّة، وإن العبد ليصدق فيكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يقرب إلى الفجور والفجور يقرب إلى النّار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذّابا. وانظر ما قال تعالى حكاية عن إبليس (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الآية 84 من سورة ص في ج 1 فإنه إنما ذكر الاستثناء لئلا يكذب، لأنه لو لم يذكره لصار كاذبا في ادّعاء إغواء الكل، فكأنه استنكف عن الكذب ليكون صادقا في حلفه.
فإذا كان إبليس يستنكف عن الكذب، فالمسلم من باب أولى أن يستنكف عنه.
وتدل هذه الآية الجليلة عل أن إجماع المسلمين يجب الخضوع له، لأن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بالكون معهم، لأن ملازمة الصّادقين تؤثر في من يلازمهم فيكتسب منهم الصّدق وما يتشعب منه كالنصح والإخلاص والأمانة والأخلاق الفاضلة والآداب الحسنة، لأن المجالسة تفيد اكتساب ما هو الأحسن عند المجالس، ولهذا أمر صلّى الله عليه وسلم مجالسة العلماء، والقصد من الرّابطة عند السّادة الصّوفية هي تعلق الرّابط بأحوال وصفات المرابط والمحبة له والكون معه، لأن الكون مع الصّادق له تأثير(6/500)
عظيم، وقد أمرنا بالمحبّة، قال تعالى (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) الآية 31 من آل عمران المارة. إذا فالاتباع له تأثير عظيم أيضا في المتبوع راجع الآية 34 من سورة المائدة المارة تجد ما يتعلق في هذا البحث فيلزم من هذا وجوب اتباع أمر الرّسول وقبوله والأخذ بما تجمع عليه أمته، لأن المسلمين لا يجتمعون على ضلالة، راجع الآية 115 من سورة النّساء المارة، ولهذا جعل السادة الصّوفية الرّابطة شرطا من شروطهم ويلقنونها للمريد كما يلقنونه الذكر المتعارف عندهم بعدده وأوقاته وكيفياته. قال تعالى «ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ» بأن يختاروا لها الخفض في العيش والدّعة والرّاحة «عَنْ نَفْسِهِ» الطاهرة، فليس لهم أن يضنوا بأنفسهم ويكرهوا لها ما يصيب نفس الرّسول صلّى الله عليه وسلم من التعب والنّصب، ويختاروا لها ما لا يختارونه لنفس الرّسول، أي لا ينبغي لهم ذلك ولا يليق بهم تفضيل أنفسهم على نفس رسولهم، بل يجب عليهم أن يفضلوا نفس الرّسول على أنفسهم ويؤثروها في كلّ حال ويحرصوا على مصاحبته في الشّدة والرّخاء، وعليهم أن يلقوا أنفسهم بين يديه ويفدوا أنفسهم أمامه «ذلِكَ» وجوب متابعة حضرة الرّسول وعدم التخلف عنه وتفضيل نفسه على أنفسهم والخروج معه مطلوب منهم ليعلموا «بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ» في غزوهم معه «ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ» قوية مهلكة «فِي سَبِيلِ اللَّهِ» لإعلاء كلمته ونصرة رسوله «وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ» ويضيق صدورهم ويكدّر خواطرهم «وَلا يَنالُونَ» يأخذون ويصيبون «مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا» قليلا كان أو كثيرا من قتل وأسر ونهب وجلاء ولو بتكثير سواد المسلمين بالكون معهم أو غلبة مجردة أو الغارة عليهم بما يلقي الرّعب في قلوبهم «إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ» ينتفعون بثوابه حيث يقبله الله منهم بسبب إحسانهم هذا «إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» (120) من عباده، وإذا كان كذلك، فيلزمهم متابعة رسولهم في كلّ حال لينالوا هذا الثواب العظيم من الرّب العظيم الذي سماهم محسنين بسبب ذلك. الحكم الشّرعي المشيرة إليه هذه الآية هو وجوب(6/501)
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
متابعة حضرة الرّسول في الغزو وعدم التخلف عنه، وهذه الآية محكمة عامة جار حكمها في زمن الرّسول ومن بعده من الخلفاء والأئمة والسّلاطين والأمراء والحكام إذا دعوا النّاس للجهاد لإعلاء كلمة الله ودفع الظّلامة عن المسلمين وصونهم من التعدي عليهم أو على ثغورهم وجبت متابعتهم وإجابة دعوتهم والجهاد معهم بالمال والنّفس معا عند القدرة أو بأحدهما حتما بلا خلاف على القادر. أما ما قاله قتادة من أن حكمها خاص برسول الله صلّى الله عليه وسلم فقول لا مبرر له، لأن الغزو ليس من خصوصيات حضرة الرّسول نفسه ليختص الحكم فيه بل هو من جملة مصالح المسلمين، وما كان من مصالح المسلمين كان عاما، وإلّا لما قام به الخلفاء الرّاشدون من بعده صلّى الله عليه وسلم. قال الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعي وابن المبارك وابن جابر وسعيدا يقولون إنها لأول هذه الأمة وآخرها، ونقل الواحدي عن ابن عطية أن هذا إذا أمرهم ودعاهم، وقال هذا هو الصّحيح. وما قاله ابن زيد من أن هذه الآية منسوخة في قوله تعالى (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) الآية الآتية بعد هذه، وانها كانت حين كان الإسلام قليلا، قول غير سديد، لأن هذه الآية خاصة بمن كان يأتي من الأحياء ليسأل حضرة الرّسول عن أمر الدّين كما سنبينه في تفسيرها إن شاء الله. أما القول بقلة الإسلام وضعفه عند نزول هذه الآية فغير صحيح، لأنه كان كثيرا وقويا بالنسبة لأعدائه إذ ذاك، والقوة تعتبر في كل زمان بما يناسبه، حتى إن أعداء الإسلام في هذا الزمن أكثر وأكثر بالنسبة لزمن نزول
هذه الآية، إذا لا حجة بالقلة والكثرة، تدبر.
قال تعالى «وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً» في سبيل الله «صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً» من شق التمرة فما فوقها «وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً» في ذهابهم وإيابهم «إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ» به عمل صالح مقبول عند الله يثابون عليه «لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (121) في الدّنيا من الجهاد وغيره وإنهم يؤجرون على كلّ شيء بأحسنه وأكثر ثوابا. تدل هذه الآية على أن من قصد طاعة الله كانت جميع حركاته وسكناته حسنات مثاب عليها عند ربه. ومن قصد معصيته كانت عليه سيئات معاقب عليها إلّا أن يتغمده الله برحمته.(6/502)
مطلب في فضل الجهاد والنّفقة فيه وفضل طلب العلم واستثناء أهله من الجهاد، والحكمة في قتال الأقرب بالأقرب وكون الايمان يزيد وينقص وبحث في ما:
روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد السّاعدي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال رباط يوم في سبيل الله خير من الدّنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم في الجنّة خير من الدّنيا وما عليها، والرّوحة يروحها الرّجل في سبيل الله أو الغدوة خير من الدّنيا وما عليها، وفي رواية وما فيها. ورويا عن أبي سعيد الخدري قال:
إن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال أي النّاس أفضل؟ قال مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله. قال ثم من؟ قال ثم رجل في شعب من الشّعاب يعبد الله وفي رواية يتقي الله ويدع النّاس من شره. وروى البخاري عن ابن عباس قال ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النّار. وقال ثابت بن سعيد ثلاث أعين لا تمسها النّار: عين حرست في سبيل الله، وعين سهرت في كتاب الله، وعين بكت في سواد اللّيل من خشية الله. وروى مسلم عن ابن مسعود الأنصاري البدري قال: جاء رجل بناقة مخطومة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال هذه في سبيل الله، فقال صلّى الله عليه وسلم لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة. وأخرج الترمذي والنّسائي عن جريم بن مالك قال قال صلّى الله عليه وسلم من أنفق نفقة في سبيل الله له سبعمائة ضعف. وقد ألمعنا لما يتعلق في هذا في الآيتين 174 و 176 من سورة البقرة فراجعها. واعلم أن مناسبة هاتين الآيتين بما قبلها هو أنه لما أمر الله عباده بالكون مع الصّادقين ومتابعة الرّسول في غزواته ومشاهده كلها أكد ذلك فنهى في هذه الآية عن التخلف عنه، فقال (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ) إلخ الآية أي ما صح وما استقام لهم فعل ذلك. والأعراب الّذين كانوا حول المدينة المرادون في هذه الآية هم مزينة وجهينة والنّجع وأسلم وغفار، ولكن يستفاد من مغزى هذه الآية تناول جميع الأعراب الّذين كانوا حول المدينة خلافا لما قاله ابن عباس بتخصيص الفرق الخمس المذكورين، لأن اللّفظ عام والتخصيص دون نصّ تحاكم.(6/503)
وعلى كلا القولين فليس لأهل المدينة ولا من حولها من الأعراب كافة أن يتخلفوا عن حضرة الرّسول إلّا المرضى والضّعفاء والعاجزون، فلهم التخلف بنص الآية 92 المارة، وبقوله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) الآية الأخيرة من البقرة المارة، لأنهم غير مكلفين بالجهاد. أما إذا خرجوا من تلقاء أنفسهم لتكثير سواد المسلمين وخدمتهم حسب المستطاع فلا بأس وهم مثابون كما أشرنا في الآية 92 المذكورة. وليعلم العاقل أن الذهاب للجهاد لا يعد سببا للموت إذا كان في الأجل فسحة، وإذا حل مات على فراشه وهو في مأمن منه حسب ظنه قال:
وقد يهلك الإنسان من باب أمنه ... وينجو بحول الله من حيث يحذر
يرى الشّيء مما يتقي فيخافه ... وما لا يرى مما يقي الله أكثر
كما أن المرض قد لا يكون منضيا للموت، وقد يحدث صحيحا على حين غفلة. روى أن الخليفة المقتفي مرض مرضا شديدا فنوى إن هو برىء أن يفعل خيرا، فلما برىء شغل عما كان نواه، ثم مرض مرضه الذي مات فيه فتذكر ما نذره في مرضه الأوّل وما فرط منه في ذلك بكى وأنشد:
إذا مرضنا توبنا كلّ صالحة ... وإن شفينا فمنا الزيغ والزلل
نرضي الإله إذا خفنا ونسخطه ... إذا أمّنا فما يزكو لنا عمل
قال تعالى «وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً» إلى طلب العلم والجهاد «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ» راجع الآية 66 المارة في معنى الطّائفة من حيث إطلاقها على الواحد والجماعة والعشرة «لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ» ولا يخرجون جميعهم فيتركون بلادهم وذراريهم وأموالهم ونساءهم تحت الخطر، فلا يصح لهم ذلك ولا يستقيم، ولا ينبغي فعله، بل يخرج أناس للجهاد وطلب العلم ويبقى الآخرون للعمل والحراسة «وَلِيُنْذِرُوا» هؤلاء الخارجون لطلب العلم وتعلم أمر الدّين «قَوْمَهُمْ» وتعلقاتهم وغيرهم الّذين بقوا للعمل والحراسة ويرشدوهم لما تعلموه «إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ» بعد إكمال تحصيلهم، وليكن قصدهم هذا لا الترؤس عليهم، ولا أخذ أموالهم أجرا عما يعلمونهم، ولا التباهي والتفاخر عليهم بما تعلّموه «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (122) مناهي الله فلا(6/504)
يقربونها، ويعرفون أوامره فيفعلونها، وكلمة لولا تفيد الحث على ذلك بشدة لما فيها من معنى الأمر. واعلم أن صدر هذه الآية له وجهان الأوّل ما ذكرناه في تفسيرها باختصاصها في طلب العلم فتفيد الوجوب على كلّ مستعد له من جماعة سلوك العلم لا على الجمع، لأن العلم باعتباره علما يشمل الأصول والفروع، يكون طلبه على طريق الكفاية. أما علم الحال المتلبس به الشّخص فعلى طريق العين، فمن أراد النّفقه في الدّين فلينفر في سبيله ويسلك طريق التزكية والتصفية حتى يظهر العلم على لسانه متفجرا من قلبه، فالعلم يكون بالتعلم فلا ينزل على الشّخص من السماء إلّا على خرق العادة، وكذلك لا يخرج من تخوم الأرض. والمراد من النفقة رسوخ العلم في القلب ليتغلغل في عروق النّفس فيظهر أثره على الجوارح فيمنع صاحبه ارتكاب ما حرّم الله بكليته، وإلّا فإذا بقيت جوارحه تخالف ما علمه لا يكون عالما، ألم تر كيف سلب الله العلم من الرّاهب الذي أشار الله إليه في الآية (175) من الأعراف في ج 1 حتى سماء الله غاويا. قال تعالى «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» الآية 28 من سورة فاطر في ج 1، لأن رهبة الله التي تحصل للعالم تمنعه من مخالفته سرا وجهرا، فإذا تفقه العالم وظهر علمه على جوارحه أثر في غيره فيسمع قوله، ويؤتمر بأمره، وينتهى بنهيه، لأن النّاس يرتدون بما يترشح عليهم منه كما كان حال حضرة الرّسول مع الأصحاب، إذ صاروا بعد الجهل المركب علماء كاملين عارفين، وقد أنزل الله تعالى على بني إسرائيل:
يا بني إسرائيل لا تقولوا العلم في السّماء من ينزل به، ولا في تخوم الأرض من يصعد به، ولا من وراء البحر من يعبر ويأتي به، العلم مجعول في قلوبكم، تأدبوا بين يدي الله بآداب الرّوحانيين، وتخلقوا بأخلاق الصّديقين، أظهروا العلم في قلوبكم حتى يغمركم ويغطيكم، وهذا على القول بأن الطّائفة المتأخرة هي المراد بما تعلم العلم، فيكون المراد منها أنه يجب على كلّ فرقة من فرق البلاد أن يشدّوا الرحال في زمن الرّسول إليه لطلب العلم، والآخرون لجهاد العدو، وبعد زمن الرسول إلى المحل الذي فيه العلماء، فيتعلمون منهم أصول الدّين ويعودون فيعلمون قومهم، لأن هذه الآية تحتوي على أمرين: الأمر بالهجرة، والأمر بالجهاد. وأمر(6/505)
الجهاد ينقسم إلى قسمين: قسم لقتال العدو، وقسم لتعلم العلم، لأنه من الجهاد أيضا. واعلم أن وجوب السّفر لطلب العلم يتعين إذا لم يكن في البلد عالم يمكنه التعلم منه، وإلّا فلا يكون واجبا بل مباحا، وإنما كان واجبا زمن الرّسول صلّى الله عليه وسلم لأن الشّريعة لم تستقر بعد لنزولها تدريجا، أما الآن وقد استقرت الشّريعة وكان يوجد في بلده من يكفي لتلقين العلم فلا وجوب بالسفر لمكان آخر، هذا على صرف الآية في سبيل العلم، والثاني يكون في سبيل صرفها للجهاد فقط، وذلك إذا أمر الرّسول به وأرسل السّرايا مع من يؤمره عليها فليس لهم أن ينفروا جميعا ويتركوا رسول الله وحده، بل تذهب طائفة منهم التي يأمر بها حضرة الرّسول إلى الجهاد، وتبقى طائفة للحراسة، وحفظ ما ينزل على حضرة الرسول من القرآن وما يأمر به من الأحكام والآداب الكائنة بغياب الطّائفة الغازية لتعلمه لها عند إيابها. وإنما صح تأويل هذه الآية على الوجهين المذكورين لإمكان جعل صدر هذه الآية من بقية أحكام الجهاد وارتباطها بما قبلها، وإمكان جعلها مبتدأة وتخصيصها بطلب العلم وهو الأوجة الذي جرينا عليه، والقولان لابن عباس رضي الله عنهما، ولهذا اختلف في سبب نزولها، فقال عكرمة لما أنزل الله تعالى بالمتخلفين ما أنزل، قال المنافقون هلك المتخلفون أجمع فنزلت هذه الآية تطمينا لهم. وقال مجاهد غيره، والأنسب ما روي عن ابن عباس من أن الله تعالى لما بالغ في فضح عيوب المنافقين قال المؤمنون والله لا نتخلف في غزوة ولا سرية، وتهبأوا كلهم للنفور، وتركوا الرّسول وحده، فنزلت ويكون المعنى عدم جواز نفور المؤمنين كلهم للجهاد، بل تبقى طائفة لخدمة الرّسول وحفظ الوحي والأحكام والآداب التي يأمر بها لنعلمها للغازين عند حضورهم، لأن القصد من النّفقة دعوة الخلق إلى الحق وإرشادهم إلى الدّين القويم والصّراط المستقيم وإنقاذهم من هوة الجهل والضّلال، فمن تفقه لهذا الغرض كان ناجيا عند الله سائرا على المنهج النّبوي، ومن عدل عنه فطلب به الدّنيا كان داخلا في قوله تعالى (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) الآية 106 من سورة الكهف ج 2. روى البخاري ومسلم عن معاوية قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول(6/506)
من يرد الله به خيرا يفقهه في الدّين وإنما أنا قاسم والله معطي، ولم يزل أمر هذه الأمة مستقيما حتى تقوم السّاعة وحتى يأتي أمر الله. ورويا عن أبي هريرة قال قال صلّى الله عليه وسلم: تجدون النّاس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا. وأخرج الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: فقيه واحد أشد على الشّيطان من ألف عابد. راجع الآية 11 المارة من سورة المجادلة تجد ما يتعلق بفضل العلم والعلماء، وكذلك في الآية المارة آنفا من سورة فاطر «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) إلخ. والفقه في اللّغة الفهم، وهو الأصل بعلم شاهد إلى علم غائب فهو أخص من العلم. واصطلاحا العلم بالأحكام الشّرعية ومتعلقات الدّين التي لا بد له منها في معرفة الله تعالى وما يجب في حقه، وما يستحيل، وما يجوز، وما يجب في حق الأنبياء، وما يستحيل، وما يجوز، ومن العبادات والمعاملات بقدر الكفاية من علم الحال. والطّائفة ما فوق الثلاثة غالبا فإذا خرج واحد منها لهذه الغاية سقط الإثم عن الآخرين. والحكم الشّرعي هو طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة وهو قسمان فرض عين وهو ما تقدم
من معرفة علم الحال كالصوم والصّلاة والحج والزكاة للمتولين. ومعنى كلمة الشّهادة للكل، وفرض كفاية كتعلم ما به يبلغ درجة العلماء ورتبة الاجتهاد وفإذا وجد في البلد واحد من هذا القبيل قادر على الفتيا والتعليم كفى وسقط الإثم عن الباقين، وإلّا فكلهم آثمون. ومثل هذا يصدق عليه الحديث المار ذكره في قوله صلّى الله عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم. وقدمنا ما يتعلق في فضل العلم في الآيتين المذكورتين آنفا في سورة المجادلة وفاطر فراجعهما، ومنها ما جاء في فضل تعلمه ما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنّة. وما أخرجه عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع، وأخرج أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه صلّى الله عليه وسلم قال العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل (آية محكمة) أي لا اشتباه فيها من تأويل أو تفسير أو اختلاف في حكمها (أو سنة قائمة) أي مستمرة دائمة متّصل العمل بها (أو فريضة عادلة) أي لا جور فيها(6/507)
ولا حيف. وقد ذكرنا أن علم الحال واجب على كلّ فرد من أفراد الأمة.
ومنه معرفة العقود وما يفسدها أو يبطلها إذا كان يتعاطى البيع والشّراء وغيرهما.
وبصيرة عامة كلّ ما هو لازم له من العبارة والمقالة. وهناك أحاديث تتعلق في هذا البحث كثيرة لا يسعها هذا السّفر فنسأل الله أن يجعلنا من العالمين العاملين به، النافعين لعباد الله، الخالين من شوائب السّمعة والرّياء وحب الجاه ونشر الصّيت ورفع القدر، إنه على كلّ شيء قدير وبالإجابة جدير. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ» لما كان القتال واجبا على المسلمين لجميع الكفرة أمر الله تعالى بأن نقاتل أولا الأقرب منهم فالأقرب لدار الإسلام، إذ ليس من العدل أن يقاتل البعيد ويترك القريب إذ لا يؤمن منه أن ينتهز فرصة غياب القوة الحامية للبلاد الاسلامية وقراها فيهجم على بلادهم وذراريهم ونسائهم وأموالهم فيستولي عليها ويتحصّن بها، فيقتل ويسلب كيف شاء ويعود أو يبقى بها، وهذا من قبيل التعليم والإرشاد من الله تعالى إلى عباده فيما هو من صالحهم، وباب عظيم من أبواب الحرب يعلمه الله تعالى لعباده ليقوا أنفسهم من عدوهم إذا غفلوا عن الأخذ به. هذا ولا وجه لقول من قال إن هذه الآية منسوخة بآية القتال المارة، لأنها نزلت بعد الأمر بقتال المشركين كافة، والآيات قبلها والمقدم لا ينسخ المؤخر قولا واحدا، وهي آخر آية نزلت في القتال، لأن الله تعالى لما أمرهم بقتال جميع المشركين الواردة في الآية 28 المارة أرشدهم إلى الطّريق الأصوب بذلك بأن يبدأوا أولا بقتال الأقرب في ديارهم، فمن يليهم في البعدية تدريجا ليأمنوا على من وراءهم، لأن قتال الأبعد والأقرب دفعة واحدة فيه خطر الالتفاف والتطويق. وفي قتال الأبعد قبل الأقرب أشد خطرا في التطويق والالتفاف ومظنة قطع المواصلات والتحاق الأطراف بهم، مما يزيد في شكيتهم ويكثر سوادهم ويزيد الخطر على المؤمنين، ولهذا أول ما بدأ صلّى الله عليه وسلم بقتال قومه المختلطين مع أصحابه المتداخلين معهم ليأمن غائلتهم، ثم انتقل إلى العرب الآخرين القاطنين في الأطراف، ثم إلى أهل الكتاب المحيطين في المدينة، ثم إلى الرّوم العيدين عنه، وهكذا أصحابه ومن بعده رضوان الله عليهم أجمعين، إذ بدأوا بقتال أعدائهم(6/508)
الأقرب فالأقرب في بلاد المسلمين حتى استولوا على غالب الأمصار بصورة تدريجية بتوفيق الله تعالى. ويدل قوله تعالى «وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً» شدة وعنفا في القول والمشي قبل القتال ليستدلوا على قوتكم وشجاعتكم ومناعتكم ويحظر على المؤمنين أن يلينوا جانبهم لأعدائهم، بل يظهروا لهم الجلد وكلّ خشونة وعنفوان، وأنهم يتفقؤون عظامهم لما في هذا من إيقاع الرّعب في قلوبهم وإذلالهم، وعليهم أن لا يتقوهم بشيء ويتقوا الله في جميع أحوالهم «أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» (123) بالمعونة والنّصر والغلبة وقهر الأعداء. واعلم أن الغلظة تقرأ بفتح الغين وكسرها وضمها وخير الأمور أوساطها، ومعناها النّهاية في الشّدة قال تعالى (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) الآية (75) المارة (ومنهم من أول الغلظة بالشجاعة والغيظ هي ضد الرّقّة) وأقوى تأثيرا في الزجر والمنع عن القبيح. واعلم أن الأمر قد لا يكون مطردا في هذا الباب بل قد يحتاج تارة إلى الرّفق واللّطف، وأخرى إلى الضّيق والعنف، وهذا هو معنى (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أي أنه لا يجوز الاقتصار على اللّين ولا على الغلظة، لأن اللّين يطمع العدو، والغلظة تنفره، وهذا في كلّ دعوة تتصل بالدين فتكون أولا بإقامة الحجة مع اللّين والرّأفة، وعند الإياس بالقتال والشّدة، ويشير قوله تعالى (أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) إلى أن الإيمان والقتال على الوجه المار ذكره من باب التقوى، والمراد بالمعيّة الولاية الدّائمة راجع قوله تعالى (اللَّهَ مَعَنا) في الآية (41) من هذه السّورة، وقوله تعالى (وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ) في الآية 13 من سورة المائدة وقوله تعالى (وَاللَّهُ مَعَكُمْ) في الآية 45 من سورة محمد المارات وما ضاهاها. قال تعالى «وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ» من القرآن العظيم وهذه عطف على قوله تعالى «وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ» في الآية 85 المارة إلّا أن هذه وصلت بها ما للتأكيد والتحسين.
مطلب في ما بعد إذا ومثالب المنافقين ومنة الله على عباده بإرسال محمد صلّى الله عليه وسلم:
واعلم أن ما توصل بإذا في كلّ ما لا يتطرقه النّفي في الكلام بعدها، أما فيما يتطرقه النّفي كالآية المعطوفة هذه عليها فلا تتصل بها ما، ومثل (إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ(6/509)
وَالْفَتْحُ)
و (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) و (انْفَطَرَتْ) وشبهها، لأنك إذا زدت ما في هذه الجمل وأمثالها تطرقها النّفي وهي لا تحتمله فيختل معناها فلا يمكنك أن تقول مثلا إذا ما السّماء انفطرت إلخ إذ يكون على تقدير ما بعد إذا لم تعلم نفس ما قدمت وأخرت، لأن علم ذلك عند وجود هذه الحوادث، وهذا قال تعالى (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) وكذلك في بقية الجمل المذكورة، فإن وجود ما بعد إذا فيها تقييد المعنى بتطرق النّفي، أما إذا أمن تطرق لنفي كالآية المفسرة هذه فلا بأس بوجود ما فيها، ويصح تغير القرآن حذفها، مثل قولك إذا قدم الطّعام أكلنا، فإذا زدت ما فقلت إذا ما قدم الطعام أكلنا بقي المعنى على حاله، ومن هنا تعلم غلط بعض الكتّاب الّذين يصلون ما بإذا مطلقا دون أن ينظروا إلى المعنى بعدها، هل يتطرق النّفي أم لا؟
وهل يبقى المعنى على حاله أم لا؟ تدبر «فَمِنْهُمْ» المنافقون «مَنْ يَقُولُ» لصاحيه على طريق الاستهزاء والسّخرية «أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ» السورة المنزلة على محمد «إِيماناً» كما يقوله المؤمنون من أصحابه، فيا سيد الرّسل قل هؤلاء الفاجرين «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا» بالله ورسوله وكتابه واليوم الآخر إيمانا خالصا حقيقيا «فَزادَتْهُمْ إِيماناً» على إيمانهم لأنهم بعد أن تأمّلوا معناها وتدبّروا مرماها وتعقلوا مغزاها زادت معرفتهم بالله وما يتحتم عن الإيمان به وبرسوله، وكفى بعوام النّاس اعترافهم بها أنها من عند الله بيقين جازم وإقرارهم بها عن ثفة وتصديق، فكل هذا مما يزيد في قوة الإيمان فمثل زيادة الإيمان القوة تكون في الرّجل، ومثل نقصه الضّعف فيه مع تساويهما في الإنسانية، فلا يقال حينئذ كيف يزيد وكيف ينقص راجع الآية (5) من سورة البقرة والآية الثانية من سورة الأنفال المارتين تجد ما يتعلق في هذا البحث وفيما ترشدك إليه من المواضع «وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» (124) بنزولها لما يرون من انشراح صدورهم لها ورغبتهم في سماعها وتشوقهم لحفظها والعمل بها طلبا للثواب في الآخرة عند منزلها «وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك وريبة وشبهة في صحتها كالمنافقين والكافرين «فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ» الغاش الغامر على قلوبهم المتغلغل فيها بسبب انغراز الكفر(6/510)
فيها الذي أحدث الصّدأ بها علاوة على رجسها المتخزن بدخائل طباتها فصيّرها لا تعي الحق ولا تميزه على الباطل، لأنهم كلما أحدثوا سخرية بآيات الله أحدث الله زيغا في قلوبهم فيتكاثف عليها فتعمى، ولهذا كان هذا السّؤال من بعضهم. وقد سمى الكفر رجسا لأنه أقبح الأشياء وهو كلّ شيء مستقذر «وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ» (125) بآيات الله بسبب إصرارهم على الاستهزاء بها. واعلم أنه كما أن الإيمان يزيد وينقص، فكذلك الكفر، لأن من كفر بموسى ثم كفر بعيسى يكون أشد كفرا من كفر بموسى ومات على كفره، وكذلك من كفر بعيسى وكفر بمحمد صلوات الله وسلامه عليهم وعلى إخوانهم الأنبياء أجمعين، وهكذا كلما جحد الإنسان شيئا من شرائع الدين وأنكر ما جاءت به الرّسل عن الله وارتكب جرما حرمه الله عليه ازدادت جرائمه وقبائحه واستخفافه بآيات الله فيزداد الكافر كفرا والفاجر فجورا. وان التمادي في التعنّت والبغي والطّغيان يسبب تكاثف الصّدإ على القلب، وكذلك عدم المبالاة بالله ورسله وكتبه تزيد رين القلب فيصير مطبوعا عليه والعياذ بالله، فيستوي عنده الخير والشّر، ويميل طبعه الخبيث إلى السّخرية والاستهزاء، قال عليه الصّلاة والسّلام إن الإيمان يبدو لمعة بيضاء في القلب وكلما ازداد الإيمان عظما ازداد ذلك البياض حتى يبيض القلب كله، وأول النّفاق يبدو لمعة سوداء في القلب وكلما ازداد النّفاق ازداد ذلك السّواد حتى يسود القلب كله، وأيم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود. فتفيد هذه الآية والحديث على أن الرّوح لها مرض وهو الكفر والنفاق والأخلاق المذمومة والآداب السّافلة، ولها صحة وصحتها الإيمان والإخلاص فيه والأخلاق الممدوحة والآداب الفاضلة، وإن زيادة الإيمان بزيادة هذه الأعمال الكريمة ونقصه بنقصها، وزيادة الكفر بزيادة تلك الأفعال الذميمة ونقصه بنقصها. قال تعالى «أَوَلا يَرَوْنَ» هؤلاء المنافقون «أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ» بأنواع البلاء، ويختبرون بأصناف الشّقاء ويمتحنون بأضراب الشّدة والرّخاء «فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ» هذا لمجرد التكثير لا لبيان العدد، أي أنهم يبتلون ببلاء كثير مما يذكرهم عاقبة عتوّهم ومغبة طغيانهم عند وقوفهم بين يدي رب العزّة والعظمة،(6/511)
فلو علموا هذا يقينا لأدى إلى لزوم رجوعهم إليه وتوبتهم مما هم عليه، إلا أنهم يعلمون بسبب الغشاوة الغاشية قلوبهم المانعة من تأثرها بالآيات «ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ» (126) ليتعظوا بها أو يتأثروا منها، لأنها كما أخبر الله لا تؤثر فيهم فيزداد بغيهم واشتهارهم فيها فيزدادون مقتا عند الله، راجع الآية (44) من سورة فصلت في ج 2. قال تعالى «وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ» ببيان عيوبهم وما يتناجون به في شأن حضرة الرّسول وأصحابه ويلصقون بهم من المثالب وما يضمرونه لهم من السّوء «نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ» يتغامزون بعيونهم وحواجبهم تعجبا وسخرية بما ينزل ويشير بعضهم إلى بعضهم بالهرب عن أعين النّاس خوف التصريح بالفضيحة، قائلين لبعضهم «هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ» من المؤمنين إذا انصرفتم هلم انصرفوا
قبل أن يطلعوا عليكم فينهوكم ويقرّعوكم ويوبخوكم «ثُمَّ» أي بعد أن تواطلوا على الهزيمة «انْصَرَفُوا» من المجلس الذي أنزل فيه القرآن خشية أن يصارحوهم بما وقع منهم «صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» عن الإيمان بها وأهمها وأعمها عن التعقّل فيها مجاراة لتهاونهم فيها وجهلهم بعاقبة أمرهم «بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» (127) معنى الآيات ولا يفهمون مغزاها، ولا يتفكرون فيما ترمي إليه، ولا يعقلون معناها، لأنهم حرموا لذة الإيمان بها لعدم تخلّقهم على فطرة التوحيد والعرفان وعدم اتعاظهم بما انطوت عليه آيات هذا القرآن، وصرفوا أوقاتهم في اللّغو وهفوات اللّسان وكلّ ما لا خير فيه من الكلام، وليس في قرنائهم من يرشدهم لأنهم مثلهم، قال الإمام الشّافعي رحمه الله:
لا خير في حشو الكلا ... م إذا اهتديت إلى عيونه
والصّمت أجمل بالفتى ... من منطق في غير حينه
وعلى الفنى بطباعه ... سمة تلوح على جبينه
من ذا الذي يخفى عليك إذا نظرت إلى [قرينه] قال محمد بن إسحاق لإخوانه إذا قضيتم الصّلاة فلا تقولوا انصرفنا من الصّلاة فإن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا قد قضينا الصّلاة. والقصد من قوله هذا رحمه الله التفاؤل بترك هذه اللّفظة الواردة فيما لا ينبغي. والترغيب في تلك(6/512)
اللفظة الواردة في الخير فإنه تعالى قال (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) الآية في آخر سورة الجمعة المارة. قال تعالى مخاطبا مؤمني العرب ضاربا الصّفح عن المنافقين والكافرين، إذ ختم ما أنزل بحقهم كما هو في علمه «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ» من قبل الله تعالى وقد جعله «مِنْ أَنْفُسِكُمْ» ومن جنسكم تعرفون نسبه وحسبه ومكانته في قومه ليكون بينكم وبينه جنسية نفسانية بها تقع الألفة بينكم وبينه، فتخالطونه وتختلطون معه بتلك الأسباب فتتأثر من نورانيتها المستفادة من نور قلبه أنفسكم فتتنور بها وتنسلخ عنها ظلمة الجبلة والعادة التي كنتم عليها قبل إسلامكم، وإذا كان كذلك فأنتم أولى بنصرته وموالاته من غيركم، لأنه أكمل شرفكم ورفع شأنكم وأعلى فخركم، فأبدل ذلكم عزّا، وانحطاطكم رفعة، وفقركم غنى، وقرأ ابن عباس بفتح السّين أي من أنفسكم وأفضلكم وأحسنكم، وهذه القراءة جائزة إذ لا تبديل فيها ولا زيادة ولا نقص.
راجع الآية 11 من سورة الحج المارة. أخرج الترمذي عن العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال قلت يا رسول الله إن قريشا جلسوا يتذاكرون حسبهم بينهم، فقالوا مثلك كمثل نخلة في كدّية (بضم الكاف وتخفيف الدّال الأرض الغليظة والصّفات الشّديدة العظيمة والشّيء الصّلب بين الحجارة والطّين) من الأرض، فقال صلّى الله عليه وسلم: إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فريقهم، وخير الفريقين، ثم تخيّر القبائل فجعلني من خير قبيلة، ثم تخيّر البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا. وروى مسلم عن وائلة بن الأسقع قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم. واصطفاني من بني هاشم. وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا. حتى كنت من القرن الذي كنت فيه. وهذا الرّسول أيها المؤمنون «عَزِيزٌ» شاق صعب عظيم شديد «عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ» أي ما تعملونه من المكروه والإثم لزيادة رأفته بكم، وكثرة غيرته عليكم لأنه يراكم بمثابه أعضائه وجوارحه، فكما يشق عليكم تألم شيء منها يشق عليه ما يصيبكم من كلّ سوء،(6/513)
فيخاف عليكم كخيفته على نفسه حقا ولذلك فإنه «حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ» من أن ينالكم مكروه لشدة اهتمامه بكم كما يهمه جسده، فلا يرضى بنقص أقل جزء منه ولا بشقائه فكذلك أنتم عنده، ولذلك لا يريد لكم إلّا الخير، وهو يبذل غاية جهده وقصارى وسعه ونهاية قدرته لهدايتكم لأنه «بِالْمُؤْمِنِينَ» المخلصين لله الطائعين أوامره «رَؤُفٌ» وبالمذنبين والعاصين والغافلين «رَحِيمٌ» (128) بهم يريد أن يعفو الله عنهم ويرجو منه أن يشفّعه بهم، ولهذا فإنه ليفيض عليهم العلوم والمعارف والكمالات، ويجب أن يتصفوا بها كلها لينجيهم ربهم من عذاب الآخرة ويغفر لهم ما وقع منهم في الدّنيا، ولذلك يسعى لإرشادهم ويطلب من ربه قبولهم وتوفيقهم للخير والذكر الحسن في الدّنيا لينالوا ثوابه في الأخرى. اعلم أن الله تعالى لما أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يبلغ ما جاء في هذه السّورة من التكاليف عباده، وكانت شاقة يعسر تحملها إلّا لمن خصه الله تعالى بالتوفيق والكرامة، ختم هذه السورة بما يوجب سهولة تحمل هذه التكاليف، وهو أنه قد جعل هذا الرّسول الذي بلغهم منهم فكل ما يحصل من العز والشّرف في الدّنيا فهو عائد إليكم، وفضلا عن هذا فإنه عليه الصّلاة والسّلام بحال يشقّ عليه ضرركم وتعظم رغبته في إيصال خير الدّنيا والآخرة إليكم، فهو كالطبيب الشّفيق ولأب الرّحيم في حقكم، والطّبيب الشّفيق ربما أقدم على علاجات صعبة يعسر تحملها، والأب الرّحيم ربما أقدم على تأديبات شاقة، إلا أنه لما عرف أن الطّبيب حاذق والأب رؤوف صارت تلك المعالجات المؤلمة متحملة، وتلك التأديبات الشّاقة جارية مجرى الإحسان، فكذا هنا، لما عرفتم أنه رسول الله حقا فاقبلوا منه هذه التكاليف مهما كانت لتفوزوا بخير الدّارين. قال تعالى «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك يا سيد الرّسل بعد ما أسديت لهم هذا النّصح وأعرضوا عن قبول إرشادك، ومالوا عن موالاتك وعدلوا عن مجالستك، فاتركهم ولا تلتفت إليهم، لأنك لست عليهم بجبار ولا مسطير، لأنهم يظهرون ذلك الإيمان، فلو كانوا يجاهرون بالكفر لكان لك أن تقاتلهم حتى يعطوا الجزية، فلم يبق إلّا طريق النّصح، فإذا رأيتهم تولوا عنك ولم يجنحوا لإرشادك «فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ» وحده هو كافيني عن جميع خلقه لا حاجة لي(6/514)
بكم ولا باستعانتكم، كما لا حاجة للانسان إلى العضو المتعفن الفاسد، بل يجب قطعه لئلا يسري لغيره «لا إِلهَ» في الوجود ولا مؤثر في الكون ولا هادي للمضل «إِلَّا هُوَ» وحده ناصرك ومعينك وكافيك عن كلّ خلقه وهو المعول عليه بالاستقلال والإحاطة والاستيلاء التام «عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ» لا على غيره، إذ لا رب سواه فهو الباقي وما سواه هالك فلا حول ولا قوة إلّا بالله الذي من يتوكل عليه يكفيه، ومن يرجع إليه يغنيه عن كلّ أحد، إذ لا فعل ولا منع ولا عطاء إلّا منه، إليه أنبت وأسلمت وآمنت «وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» (129) تقرأ على الكسر على انه صفة العرش، لأنه أعظم مخلوقاته، لما ورد أن أرضكم هذه بالنسبة لعرش الرّحمن كحلقة
ملقاة في فلاة، وبالرفع على أنه صفة لله تعالى والله سبحانه هو الكبير العظيم بأسمائه وصفاته وأفعاله، المستحق للتعظيم بأفضاله وآلائه. والمراد من عظم العرش كبر جرمه واتساع جوانبه على ما هو مذكور في الأخبار، ومنها ما ذكر آنفا، والمراد من وصف الإله بالعظم وجوب الوجود والتقديس والتنزيه عن الجسمية والأجزاء والأبعاض ووصفه بكمال القدرة وكونه مبرأ من أن يتمثل في الأوهام أو تصل إليه الأفهام. قال أبو بكر وهذه القراءة (أي قراءة العظيم بالرفع) أعجب لأن جعل العظيم صفة للرب العظيم أولى من جعله صفة العرش (أي وإن خصّصها الغير) ويوجد في القرآن أربع سور مختومة بلفظ العظيم: هذه والحديد والواقعة والحاقة. هذا وقد ذكرنا أوّل هذه السّورة أنها نزلت كلها جملة واحدة، كما أشرنا إليه في الآية (27) المارة، وقال الحسن إن هاتين الآيتين الأخيرتين من آخر ما نزل من القرآن وما نزل بعدها قرآن.
والمراد بقوله هذا أنهما نزلتا بآخر هذه السّورة لا وحدهما أما قوله ما نزل بعدهما قرآن، فلا يتجه إذ نزل بعدهما من السّور سورة النّصر، ومن الآيات آية المائدة الخامسة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وآية البقرة 282 وهي (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) على أصح الأقوال، ومن قال ان الآيتين الأخيرتين من هذه السّورة نزلتا بمكة قيل لا مبرر له ولا عبرة به ولا قيمة له، وكان هذا القائل نظر لما فيهما من التفريض فقال ما قال، لأن هذه السّورة جاءت بالجزم والعزم ومقام(6/515)
الشدة والغلظة فلا يناسبها ختمها بما يدل على التفريض على أن هذا لا يكون مدارا لإثبات قوله بأنهما مكيتان، لأن الأجدر هنا أن يكون المقام مقام تفويض تحدثا بما أكرم الله به نبيه فيهما من النّصر والعلبة وفضيحة أعدائه والتوبة على أوليائه. ومما يدل على كونهما مدنيتين وختم هذه السّورة بهما ما ورد عن أبي بن كعب أنه قال هاتان الآيتان (لَقَدْ جاءَكُمْ) إلخ آخر القرآن نزولا. وفي رواية أحدث القرآن عهدا بالله هاتان الآيتان أي من حيث لم ينزل بعدهما إلّا ما ذكرناه آنفا، ومن علم أن كلام الله لا يشبه كلام خلقه علم أن كلامه لا يتقيد بمناسبة.
راجع الآية (82) من سورة النّساء المارة. واعلم أن ما نقل عن حذيفة من قوله أنتم تسمون هذه السّورة بالتوبة وهي سورة العذاب ما تركت أحدا إلّا قالت منه (والله ما تقرءون ربعها) فهو نقل كاذب ورواية مفتراة وخبر بهت وقول زور، لأن تصديق الجملة الأخيرة من هذه الرّواية الواهية عبارة عن وجود النّقص في القرآن العظيم الذي لا يحتمل النّقص ولا الزيادة ولا يتطرقان إليه البتة. كيف وقد حفظه الله من كلّ باطل وتعهد بحفظه كما أشار إلى ذلك في الآية (30) سورة الحجر والآية 92 من سورة فصلت المارتين في ج 2، وهذا القول المختلق يخرج القرآن العظيم عن كونه حجة ولا خفاء، فإن القول بوجود نقص في القرآن باطل لا يقوله إلّا مبتدع زنديق فاسق فاجر، وهو كالقول بأن سورة الأحزاب كانت أكثر مما هي عليه الآن إذ أكلتها الأرضة وهي في بيت عائشة، فإذا أكلتها من بيت عائشة فهل أكلتها من النّسخ التي عند كتبة الوحي، وهل أكلتها من صدور الحافظين الأمينين. ولما نسخ أبو بكر القرآن من اللّخاف وغيرها هلا اطلع على هذا النّقص وهو خليفة رسول الله الأوّل، وهلا سأل من هذا عمر حين ولي الخلافة ونقل الصّحف إلى بيت حفصة، ولما نقل المصاحف زمن عثمان من قبل كتبة الوحي، هلّا اطلعوا على هذا النّقص الواقع في الأحزاب والتوبة، وهم أعلم النّاس بالقرآن بعد المنزل عليه، قاتل الله المفسدين، قاتل الله المرجفين، قاتل الله الزائفين، ألا يعلمون أن القول بهذا كفر صريح لإنكارء ما تعهد الله بحفظه وحمايته، ومن أوفى بعهده من الله، هذا، وقد أسهبنا بالبحث في هذا في المقدمة في بحث النّزول(6/516)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)
وآخر سورة الأحزاب المارة فراجعها تعلم، وأنت عالم، بأن ما بين الدّفتين من القرآن العظيم هو تمام كلام الله الذي أنزله على حضرة رسوله بواسطة الأمين جبريل لم ينقص منه حرف واحد ولم يزد عليه حرف، وإن ما نقل عن بعض الكذبة مدسوس عليهم ممن هو أكذب منهم. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أجمعين.
(تفسير سورة النّصر عدد 28- 114 و 110)
نزلت بالمدينة بعد التوبة في منى في حجة الوداع السّنة العاشرة من الهجرة.
وتعد مدنية للسبب المتقدم في مثلها. وهي آخر سورة نزلت من القرآن على أصح الأقوال وأشهر الرّوايات. وآخر آية نزلت منه آية (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) كما أشرنا بذلك في المقدمة، وفي الآية الرّابعة من المائدة والآية 182 من البقرة وألمعنا إليه آنفا وذكرنا أيضا أن كلّ ما نزل بعد الهجرة يسمى مدنيا ولا يخر؟؟؟ كونه مدنيا نزوله في غير المدينة، كما أن كلّ ما نزل قبل الهجرة يسمى مكيا؟؟؟ عن كونه مكيا نزوله بغيرها، والعبرة بالهجرة لا بمواقع النزول. وهي؟؟؟ وسبع عشرة كلمة وسبعون حرفا. لا ناسخ ولا منسوخ فيها. وتسمى سورة الفتح أيضا وبيّنا السّور المبدوءة بما بدئت به في سورة الانفطار ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به، وبيّنا السّور الموافقة لها في عدد الآي في سورة الكوثر. «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» قال تعالى
«إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» (1) أي إذا جاء المدد الكوفي والتأييد القدسي بالنصر العام والفتح الشّامل المطلق بعد فتح مكة وما وراءها من البلدان والقرى والمدن لا تقييد أو تخصيص بمكان دون مكان ولا بشيء دون شيء وهو فتح عام مادة ومعنى «وَرَأَيْتَ» يا أكمل الرّسل «النَّاسَ» على خلاف ألوانهم وأجناسهم ومللهم ونحلهم «يَدْخُلُونَ» طوعا ورضاءا واختيارا دون تكليف ولا إكراه «فِي دِينِ اللَّهِ» لسلوك طريقه المستقيم وتوحيد حضرته المقدسة وتصديق رسوله(6/517)
وكتابه اللّذين جعلهما خاتمة لرسله وكتبه ويقبلون على الاعتراف بذلك كله «أَفْواجاً» (1) جماعات كثيرة وزمرا وإرسال القبيلة بأسرها والقوم بأجمعهم بحيث صاروا يتهافتون عن طيب نفس ورضاء خاطر ورغبة بهذا الدّين الحنيف رغبة نفس واحدة وصار استعدادهم المتشوق بتعاليم الإسلام ودعائم الإيمان اختياريا وصار بينك وبينهم روابط قوية مستمدة من تقوية المناسبات الودية الخالصة بعد أن كانوا على خلاف ذلك من التردد بقبول الإيمان والكراهية لاتباعك والنّقمة من تعاليمك وكان يؤمن بك الواحد والاثنين بادىء الرّأي غير متمكن الإيمان بداهة قبل أن يعرفوا ماهيته وما يؤول الأمر فيه إليه وما هي عاقبته كالقادم على ما لا يعرفه فإنه يقدم رجلا ويوخر أخرى، إذ كانوا مستضعفين لا يقدرون أن يجاهروا بإقامة الدّين. أما الآن فقد ظهر نوره في الآفاق وعرفت نتائجه الرّائعة لدى الخاص والعام وغرزت محبته بالقلوب السّليمة وإذ تم لك يا سيد الأحرار والعبيد هذا الأمر على ما تريد وفق إرادة ربك الأزلية «فَسَبِّحْ» يا حبيبي «بِحَمْدِ رَبِّكَ» الذي رباك وأعلى كلمتك وبلغك مناك شكرا على هذا العطاء الجزيل من فيضه الهطال وحمدا على إفضاله الجليل بإظهار كمالاته من حتى اليقين إلى عين اليقين «وَاسْتَغْفِرُوهُ» تواضعا وهضما للنفس وشرا لما كان هو خلاف الأولى «إِنَّهُ» جل جلاله وعز نواله «كانَ» من الأزل ولم يزل في الحال والمستقبل «تَوَّاباً» (3) على عباده الّذين هم في حيز قبوله منذ قالوا بلى كثير الغفران لهم، جليل المنّ عليهم، عظيم القبول، يشملهم بعفوه، ويغمرهم بعطفه، وينشر عليهم رحمته، ويكثر عليهم كرمه، وبلطف بهم في كلّ أمورهم المادية والمعنوية، لأن من عادته قبول من يرجع إليه بعد أن زاغ منهج صوابه، والعفو عنه وإدخاله في جملة أحبابه. هذا ولما كانت هذه السّورة الكريمة مشيرة إلى كمال الأمر لحضرة الرّسول وتمام الدّعوة التي خلق لأجلها قرأها على الأصحاب فاستبشر البعض منهم بما فيها من السّرور الذي ما بعده سرور، وبكى ابن عباس رضي الله عنه فقال له صلّى الله عليه وسلم ما يبكيك (وهو قد عرف المرمى من بكائه) قال نعيت إليك نفسك، فقال عليه السّلام لقد أوتي هذا الغلام علما كثيرا، أي لما ألقي في روعه من مغزى هذه السّورة، وعرفه حق معرفته.(6/518)
وروي أنها لما نزلت خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال إن عبدا خيّره الله بين الدّنيا وبين لقائه فاختار لقاء الله، فعلم أبوبكر رضي الله عنه فقال فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا. وعنه عليه السّلام أنه دعا فاطمة رضي الله عنها فقال يا بنتاه نعيت إليّ نفسي، فبكت فقال لا تبكي فإنك أول أهلي لحوقا بي فضحكت.
وتسمى هذه السّورة سورة التوديع لأنها نزلت في حجة الوداع وآذنت بوداع المنزل عليه ووداع الوحي المقدس إذ لم ينزل بعدها سوى الآيتين المذكورتين آنفا.
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت ما صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت إذا جاء إلخ إلّا ويقول فيها سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي.
وقال ابن عباس لما نزلت هذه السّورة علم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه نعيت إليه نفسه، أي قبل أن يبكي ويقول ما قال، ولهذا سأله عن سبب بكائه عند ما تلاها صلّى الله عليه وسلم. وقال الحسن علم أنه قد اقترب أجله، فأمر بالتسبيح والقربة ليختم بالزيادة من العمل الصّالح أجله، وإنما أمر بالتسبيح ليشتغل في أمور الآخرة ويصرف نفسه إليها، لأن الله تعالى كفاه مؤنة الدّنيا والحرب والقتال، لأن النّاس انهالوا على الإسلام فدخلوا فيه زرافات ووحدانا متسابقين عليه بدعوة عامة من الله تعالى لا تحتاج لترغيب ولا ترهيب وقد تعبده ربه بالاستغفار ليقتدي به النّاس وليعلموا أن حضرة الرّسول مع عصمته وشدة اجتهاده على عبادة ربه وإخباره بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أول سورة الفتح المارة ما كان يستغني عن الاستغفار فكيف بمن هو دونه. واعلم أنه عليه الصّلاة والسّلام إنما كان يستغفر ربه عن ترك الأفضل وما هو خلاف الأولى لا لذنب صدر منه يشابه ذنوبنا حاشاء من ذلك وقد بينا ما يتعلق بهذا أول سورة الفتح المارة فراجعها هذا وما ذكره بعض المفسرين بأن المراد بهذا الفتح بهذه السّورة فتح مكة قد فنّدناه هناك أيضا وإنما هو الفتح العام لحضرة الرّسول ومن بعده من أصحابه وأتباعه كما أشرنا إليه أيضا في سورة الفتح، وهذه السّورة سورة النّصر إنما تشير لهذا ولإتمام مهمّة الرسول من البعثة التي شرّفه الله بها وإلى دعوته لحظيرة القدس لتتغذّى روحه الطاهرة في جنّات خصصت لها وإلى انتهاء مدة مكثه في الأرض قال:
إذا تم أمر بدا نقصه ... توقع زوالا إذا قيل تم(6/519)
وذلك أنه بفقد حضرة الرّسول ينقطع الوحي فيجعل نقصان في الأرض حال ضمه فيها. هذا وبعد نزول هذه السّورة والآيتين المذكورتين من المائدة والبقرة ختم الوحي المقدس ولم يعش حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم بعدها سوى واحد وعشرين يوما، وقيل أحد عشر يوما، وقيل سبعة أيّام، وعلى الأوّل المعول لترادف الأقوال فيه، وبعد أن أدّى رسالة ربه كما أراده منه ختم أجله المقدر له، ثم لاقى وجه ربه عز وجل برحلته إلى حظيرة قدسه يوم الاثنين في 12 ربيع الأوّل سنة 64 من ولادته و 24 من البعثة والحادية عشرة من الهجرة ووقع ما وقع بعد وفاته، ثم اتفقت الأصحاب على خلافة أبي بكر رضي الله عنه وكان ذلك، ومن أراد الوقوف على تفصيل ما وقع بعد وفاته عليه الصّلاة والسّلام فليراجع السّير ففيها كفاية، وقد رثاه بعض الأصحاب ببعض ما اختصه به من الصّفات الكريمة وما كان عليه من أخلاق عالية وأبدوا تأثرهم على فراقه مثبتة في السّير أيضا فمما قاله حسان رضي الله عنه وأرضاه:
كنت السّواد لناظري ... فعمى عليك النّاظر
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
وقالت فاطمة رضي الله عنها حينما وقفت على قبره الشّريف:
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها ... وغاب مذغبت عنا الوحي والكتب
فليت قبلك كان الموت صادفنا ... لما نعيت وحالت دونك الكتب
وقالت أيضا:
ماذا على من شم تربة أحمد ... أن لا يشم مدى الدّهور غواليا
صبت عليّ مصائب لو أنها ... صبّت على الأيّام صرن لياليا
وقال علي رضي الله عنه بعد أن علم بوفاة فاطمة بعد أبيها:
أرى علل الدّنيا عليّ كثيرة ... وصاحبها حتى الممات عليل
وإن افتقادي فاطما بعد أحمد ... دليل على ألا يدوم خليل
هذا والله أعلم. وأستغفر الله. ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم. وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.(6/520)
(الخاتمة نسأل الله حسنها لديه)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أحمدك يا ولي العطاء والإرشاد، وهادي الغواة، إلى سنن الرّشاد، يا بارى البرية، ومالك الرّقاب، يا من عليك التوكل، وإليك المرجع والمآب، يا مغيث كلّ حائر وملهوف، ومجير كلّ هائل مخوف، حمدا يوافي نعمك، ويكافي مزيدك، وأصلي وأسلم على النّور الموصوف بكل كمال، وآله وأصحابه وأتباعه إلى يوم المال. وبعد فأسألك يا إله كلّ موجود، ويا مغيث كل طائع، وعاص في الوجود، أن تأخذ بيدي لألوذ برحمتك وحرمك المأمون من غرائر وغوافل وبغتات ريب المنون، وألتجئ إلى عصمة حرزك الحصين، وآوي إلى ركنك المصون المتين، لتدرّ عليّ من خزائن برك وإحسانك، ومن مكامن خزائنك، وامتنانك، وتمن علي بخير ما جرى به القلم من خير الدّين والدّنيا ويوم تزل به القدم، وتعيذني من فتن العابثين وشر الأشرار، ومن غرور الغرور والاغترار، وتعصمني من الرّكون لزخارف الدّنيا وشهواتها، وتحمني يا رب من كبواتها، وتعينني بعنايتك، وترعني برعايتك، على كلّ ظالم ومن كلّ غاشم، وتفيض علي من أنوار ربوبيتك، وتغشني برحمتك ورأفتك، وتقيني من العوائق وتخلصني من العلائق، وتهذب نفسي من دنس الأوزار ورجس الأخلاق والآداب والأطوار، وتنوّر قلبي بما يمحوا ظلمة الذنوب ويطرد ما يحوك فيه من خواطر العيوب، وتلين قساوته، وتطهره من الرّين وتدفع عنه صدأ الميل إلى المين، وتثبتني على منهج الحق والهدى والرّشاد، وتسلك بي سبل البر والتقى والسّداد، وخصّ مرامي برضاك ولطفك، واجعل همتي وهواي فيما ينشر علي عفوك وعطفك لأستميح لقاءك يوم اتقائك، وأتشرف بنور قدسك وبهائك، وأحصر خواطري فيما فيه رضاك، وأجعل أشرف أيامي يوم لقاك مع الّذين أنعمت عليهم من الرّسل والأنبياء، والّذين أكرمتهم من الصّديقين والشّهداء، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.
وبعد تمّ بفضل الله ما أردت جمعه من هذا التفسير المبارك يوم الأربعاء في 1 رجب سنة 1358 الموافق ل 15 آب سنة 1939، وكان الفراغ منه بمثل اليوم(6/521)
والشّهر الذي بدأته به وهو من الاتفاقات الغريبة، والشّكر لله أولا وآخرا.
ربنا تقبل منا ما قدمناه من العمل، ولا تؤاخذنا على ما وقع منا من الزلل، واغفر لنا ما هفى به الرّأي أو زلّ به القلم وأخطأ به الفكر، وانفع عبادك به كما وفقتنا إليه، واجعله خالصا لوجهك الكريم، وبوّئنا بكرمك وجودك جنّات النعيم، واغفر لنا ولوالدينا وأحسن إليهما وإلينا، ومتعنا اللهم بالعافية في هذه الدّنيا ما أحييتنا، والعفو بالآخرة عما سلف منا، ووفقنا دائما لما تحبه وترضاه في القول والعمل والنّية، واحشرنا في زمرة سيدنا سيد البرية، سيدنا محمد صلّى الله عليه وعلى آله بكرة وعشية. ثم أقول تحدثا بنعمة الله لا فخرا ولا ضجرا يأني قد قاسيت في جمع هذا السّفر الكريم والكتاب الجليل العظيم أنعابا جمة ومشاق مهمة، ولكن بفضله ومنّه قد استعذبت كلّ مرارة وجدتها خلال تحريره، وكلّ شدة قاومتها إبان تسطيره، ويرحم الله ابن الفارض إذ يقول:
وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم ... عليّ بما يقضي الهوى سهل
لأني وايم الله كنت كثيرا ما أتوضا في الوقت الواحد خمس مرات لطرو الانطلاق، لأني آليت على نفسي أن لا أخط خطا منه إلّا على وضوء كامل، وبعد صلاة ركعتين على الأقل، وكثيرا ما كنت أنام والقلم بيدي، وكم مرّة تمت مهموما لعدم وقوفي على المعنى المراد من بعض الآيات والأحاديث، فأراه بفضل الله في منامي، وأفيق فرحا مسرورا بما منّ الله عليّ، فأقوم فأتوضا وأراجعه فأجده مسطورا في بعض التفاسير وشروح الأحاديث كما رأيته، فأثبته حالا بمحله، هذه حالتي في اللّيل، وأما في النّهار فكثيرا ما يؤتى لي صباحا بالشاي فأغفل عنه فيبدل لي المرة بعد الأخرى فأشربه باردا، وكذلك حالتي في الشّراب والطّعام، وذلك لأني أخاف الذهول عن بعض ما تصورته، أو نسيان ما تخيّلته من المعاني المتعلقة بتأويل بعض الألفاظ، أو غياب ما وقر في قلبي مما أريده من التفسير، أو ما أريد تحريره على آية مضى البحث فيها، أو مراجعة بعض الآيات التي مرّ تفسيرها لتعلقها في معنى البحث الذي أنا فيه، وإبقاء الملاحظة عليها فيما حضر من المعنى الذي يناسبها حتى لا أترك آية لها مساس بمثلها إلّا أشرت إليها وبيّنات عددها(6/522)
ورمزت إلى لزوم مراجعتها، حتى لا أضطر إلى التكرار الذي تباعدت عنه جهد المستطاع خشية الإطالة، ولذلك أثبت عدد الآيات في تفسيري هذا حتى إذا ماروت بما يتعلق بآية أشرت إليها بعددها وسورتها والجزء التي هي فيه كي يسهل على القاري مراجعتها دون كلفة، وكذلك الآيات التي لها نظائر في القرآن أشرت إلى نظائرها على ذلك المنوال، وفي كلّ هذا أراني منشرح الصّدر، طيب النفس، شديد الرّغبة، لا تعتريني ملالة ولا ضجر ولا انقباض ولا انكماش، لأني كلما أتيت شيئا مهما كان تعبي فيه أعقبه سرور كثير، ورحم الله شيخنا الشيخ حسين الأزهري إذ كان يقول لنا أثناء الدّرس: إن طالب العلم إذا وقف على مسألة لم يفهمها قبل، يحصل له انبساط عظيم وفرح جزيل فيقول أين أبناء الملوك من هذه اللّذة، وحقيقة والله، وكم مرة قلتها وأنا منشرح الصّدر متسع الخاطر، ولهذه اللّذة تزاحم المؤمنون على تفسير كلام الله الذي لا يمل رائده ولا يأم حتى صارت التفاسير لا تكاد تحصر عدا، لأن من يمعن نظره وينعم ناظره لا يستطيع إهمال ما يظهر له من إضاءة قلبه، وقد دوّنوا فيه ما يدهش لب العاقل ويذهل عقل اللّبيب، ولكن النّفوس لم تشبع منه، كما أنها لا تمل من قراءة القرآن مهما كررته، ورحم الله الأبوصيري إذ يقول:
فلا تعد ولا تحصى عجائبها ... ولا تسام على الإكثار بالأم
ويعجبني ما قال العماد الكاتب ما ألف أحد كتابا إلّا قال في غده لو قدمت أو أخرت بما يدل على عجز عموم البشر والتفرد بالكمال لخالقهم. لهذا فإني أتخيل بعد طبع هذا السّفر البديع الصّنع الذي لم يطرقه قلبي طارق عكوف العلماء على ما جريت عليه وإظهار تفاسير جمة من نوعه إن شاء الله تكون أكثر نفعا من غيرها، إذ لا ترى سابقا إلّا وله لا حقا يهذّب ما صعب منه، وينتقد ما ملح فيه، فيعذب مرة، ويزيد كرة، ويثبت ما لم نقف عليه من تاريخ بعض السّور والآيات، وما لم نعثر عليه من الوقائع والحوادث والغايات وأسباب النّزول حتى يبلغ الدّرجة القصوى في هذا الفنّ إن شاء الله. وقد ألمعنا إلى بعض هذا وما يحتاجه القاري في خاتمة المطالب التي أثبتناها في الجزء الأوّل،(6/523)
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وكان تسويده خلال ثلاث سنين اعتبارا من 1 رجب سنة 1359 الموافق 5 آب سنة 1940 وترتيبه قبل الشّروع فيه على الكيفية المبينة في المقدمة وتنظيم مدارجه والآيات المستثنيات من السّور على الوجه المذكور فيه، واختيار الكتاب التي صمت على الأخذ منها المبينة في المقدمة أيضا ومطالعة الأبحاث اللازمة لدرجها فيه سنة كاملة وقضيت ثلاث سنين في تبييضه وتدقيقه ومراجعة ما لا بد من مراجعته لتصليح مما زاغت به الأقلام، أو زلت به الأفهام، أو اشتبه به الفكر، أو نسيه القلب، وأخطأ به الرّأي، وتردد به الفؤاد، واعتمدت فيه على الله الجواد، مستمدا من روحانية سيد أنبيائه عليه الصّلاة والسّلام وأحاديثه الصّحيحة، ومراجعة العلماء الأعلام. وعلى هذه الصّورة تم بتوفاق الله وتيسيره وعونه، وفضله وتقديره، فبلغ ثلاثة أجزاء، الأوّل والثاني يشملان على ما نزل في مكة، والثالث على ما نزل في المدينة، وقد أثبت آخر الأولين عدد السّور المفسرة فيهما ومدة نزولها، والثالث هذا يحتوي على ثمان وعشرين سورة أولها البقرة وآخرها سورة النّصر، وقد استغرق نزولها تسع سنين وتسعة أشهر وتسعة أيّام. وبينا في المقدمة مدة نزوله كله، ومبدأ النزول وآخره، فراجعه في بحث نزول القرآن، وهذا ما قاله بفمه وكتبه بقلمه العبد الفقير إلى رحمة الرّاجي عفوه وستره ورضاه السّائل لخيره الطالب لبره الرّاغب في عطاه السّيد عبد القادر ابن السّيد محمد حويش، ابن السّيد محمود، ابن السّيد خضر، ابن السّيد حديد، ابن السّيد فهد، ابن السّيد جاسم، ابن السّيد محمد، ابن السّيد عبيد، ابن السّيد حسين، ابن السّيد جلال الدّين، ابن السّيد عيسى المغربي آل السّيد غازي، ابن السّيد يعقوب، ابن السّيد محمد، ابن السّيد حسين، ابن السّيد شيخي، ابن السّيد فضل الله، ابن السّيد حامد، ابن السّيد أبي بكر، ابن السّيد صالح، ابن السّيد رجب، ابن السّيد محمد، ابن السّيد المكي أحمد، ابن السّيد عبد الله، ابن السّيد حسني، ابن السّيد يوسف، ابن السّيد رجب، ابن السّيد شمس الدّين، ابن السّيد محمد، ابن السّيد أحمد الرفاعي، ابن السّيد علي المكي الكبير، ابن السّيد يحيى، ابن السّيد ثابت،(6/524)
ابن السّيد حازم، ابن السّيد أحمد، ابن السّيد موسى الثاني، ابن السّيد ابراهيم المجيب المشهور المرتضى، ابن الإمام موسى الكاظم، ابن الإمام جعفر الصادق، ابن الإمام محمد الباقر، ابن الإمام زين العابدين، ابن الإمام أمير المؤمنين الذي امتحن بأنواع المحن والبلاء أبي عبد الله الحسين (الهندبادي) هكذا في الأصل، ابن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وهو إمام الأولياء والصّالحين وقائد الأصفياء المخلصين المخصوص بقوله صلّى الله عليه وسلم أنا مدينة العلم وعلي بابها، رضي الله عنه وأرضاه آمين تم تبييضه في غرة رجب سنة 1361 الموافق للثالث والعشرين تموز سنة 1963 وتمت طباعته في ربيع الآخر سنة 1388 الموافق لتموز سنة 1968 والحمد لله رب العالمين(6/525)
جمعتها كلما له فلفظنها ... دررا تلألأ في نحور غوان
ولذاك قد لقبته ببيانها ... فبدا لنا مغزاه بالعنوان
فأتى كما قد شئت أبدع ما رأى العلماء من شرح على القرآن لولا مقالة حاسد غالت قلت هو الطّريد فما له من ثاني
قد فاق حسنا كلّ تفسير كما ... قد فاق صاحبه على الأقران
سهل المنال يناله من لا يكا ... ديعي المقال بكثرة الإمعان
إنتاج عانى بالفضائل والعلا ... أكرم بإنتاج الرّفيع العاني
قاضي بحكم الشّرع يقضي لا الهوى ... يرضى بحسن قضائه الخصمان
من لي بإيفاء الثناء وهل يفي ... أحد بمدح مفسر القرآن
فالعجز أولى ما يكون بمدحه ... فاترك تبجّله مديح لسان
وكلته للجمل التي شهدت له ... من صنعه بمهارة الإتقان
صنع مجيد قد أتى تاريخه ... أنعم بتفسير المجيد وشأن
151 752 88 357 التوقيع: عبد الرّزاق رمضان الخالدي ملاحظة: مجموع أرقام الشّطر الأخير من البيت الأخير 1358(6/533)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي جعل كتابه هدّى للعالمين، ونورا للمسترشدين، والصّلاة والسّلام على الرّحمة المهداة للناس أجمعين سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، نحمده سبحانه وتعالى أن خص من شاء بما شاء من أسراره، ومنح أصفياءه قبسا من نوره، وإشعاعا من ضيائه، وفتح لهم أبواب المعرفة لفهم آياته، ليبينوا للناس ما نزل إليهم، بثاقب أفهامهم، ويوضحوا لهم ما استغلق عليهم بفصيح بيانهم، ويجلوا ما خفي على مداركهم بواسع اطلاعهم ودقيق إدراكهم.
وبعد، فإن الله سبحانه قد وفقني إلى الاطلاع على التفسير القيم للقرآن العظيم المسمى (بيان المعاني) لمؤلفه العلامة الفاضل السّيد عبد القادر ملا حويش آل غازي، هذا التفسير الذي لم يسبقه إليه سابق إذ جمع فيه مؤلفه فأوعى، إذ ذكر أسباب النزول وقصص الأولين، واستخرج من الآيات ما فيها من الأحكام الشّرعية والعبر والمواعظ الإلهية، بأسلوب أدبي رائع لا يمل القارئ من مطالعته، ولا يسأم من قراءته، بل كلما تعمق في سبر غوره، ازداد تعلقا به واستمساكا بأهدابه، فهو السّهل الممتنع الذي كثرت فيه المواضيع العلمية، والمعاني البيانية، والأساليب الأدبية، والحكم والمواعظ الدّينية. وإن من يطالع فيه ليخيل إليه أنه في بستان صنعته يد القدرة على أبدع مثال، وأروع منوال، لما اشتمل عليه من شهي الثمار وبديع الأزهار، ومختلف الأوراد والأطيار، يحار فيه القارئ من أي ثمر يجني، أو من أي عبير يستنشق، أو إلى أي نغم يصغي، وبأي جمال يستمتع، وحقيق أن نقول فيه: إن الوصف ليعجز عن بيان حقيقته، وإن القلم ليعيا عن الإحاطة بأسراره وفوائده، فهو للعالم نور، وللأديب متعة، وللمسترشد هدّى وضياء.
بيروت: 1 ذي القعدة سنة 1387 هـ الشّيخ محمد بن محمد هاشم الشّريف 30 كانون الثاني سنة 1968 م مستشار المحكمة الشّرعية السّنية العليا 4217(6/534)