إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ»
86 أي إسماعيل وإدريس وذا الكفل. وقد ذكر الله تعالى هؤلاء الأنبياء الممتحنين بأنواع البلاء بسياق قصة أيوب عليهم الصلاة والسلام لأنهم صبروا على ما امتحنوا به كما ذكر في قصصهم. قال تعالى «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً» من قومه لأجل ربه واسمه يونس واسم الحوت الذي ابتلعه نون فسمي ذا النون وصاحب الحوت «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» بفتح أول نقدر وتخفيفه وقرىء بضم أوله وتشديده من التقدير وعلى الأول من القدر وهو التضييق وهي القراءة المشهورة أي ظن أنا لا نضيق عليه بلزوم الإقامة مع قومه، ولذلك تركهم وذهب، راجع قصته في الآية 123 من الصافات المارة أيضا، «فَنادى فِي الظُّلُماتِ» ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت «أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» 87 بمفارقتي قومي دون أمرك، فلا تؤاخذني يا رب على ما وقع مني، ولم يقل نجني أو خلّصني أو غير ذلك لما مر آنفا من أن الأنبياء يفوضون أمرهم لربهم «فَاسْتَجَبْنا لَهُ» لأن قوله هذا تعريض لدعائنا وتنويه بالالتجاء إلينا «وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ» الذي لحقه في بطن الحوت «وَكَذلِكَ» مثل هذه الإجابة «نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ» 88 بنا مما يهمهم، ولا يوجد في هذه الآية بما يتمسك به من قال بوقوع الذنب من الأنبياء بعد رسالتهم، لأنه عليه السلام لم يذهب مغاضبا من ربه كما قاله بعضهم، حاشاه، وإنما ذهب مغاضبا من قومه لأجل ربه، وإن ظنّه بعدم التضييق عليه لوثوقه بربه، ولأنه لم يظن أنه أذنب معه بترك قومه، بل كان يظن أنه مخير بين الإقامة معهم والخروج من بينهم عند عدم قبولهم دعوته، لذلك فإن فعله هذا لا يستوجب الذنب لو كان من سائر البشر، أو أن ظنه أن الله لم يقدر عليه شيئا، وهذا على القراءة بالتشديد أي لن نقدر عليه عقوبته، لتركه قومه، والمعنيان متقاربان، إلا أن القراءة بالتخفيف وتفسيرها على ما ذكرنا تبعا لغيرنا أولى وأنسب بالمقام، لأن نقدر بمعنى نضيق شائع، ومثله في القرآن كثير، قال تعالى (اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) الآية 43 من سورة الروم الآتية، وجاء في الآية 7 من سورة الطارق في ج 3 (ومن قدر عليه رزقه) وفي الآية 11(4/328)
من سورة الفجر في ج
(فقدر عليه رزقه) وغيرها كثير وكلها بمعنى التضييق، وعليه فلم يبق حجة لمن يقول إن نقدر لا تأتي إلا بمعنى القدرة، لأنا إذا جرينا على هذا المعنى فلا يجوز نسبته إلى آحاد الناس، فكيف إلى نبي الله؟ وقد تردد في هذه معاوية بن أبي سفيان فسأل عنها ابن عباس رضي الله عنهما فقال له إنها من القدر لا من القدرة. وفيها قراءات أخرى ومعان بنسبتها ضربنا عنها صفحا لأنا ذكرنا أصح ما فيها، والله أعلم. أما ما حكى عنه بقوله (إني كنت من الظالمين) يريد نفسه لعدم انتظاره أمر ربه قومه وفي أمر بقائه أو خروجه عنهم لا لشيء آخر، على أن ابن عباس قال إن هذه الحادثة كانت قبل النبوة والرسالة مستدلا بقوله تعالى بعد ذكر خروجه من بطن الحوت (وأرسلنا إلى مائة ألف أو يزيدون) الآية 145 من الصافات المارة، مما يدل على أنه قبل النبوة والرسالة وصححه الخازن. ومن قال إنه بعد النبوة وهو ما ذهبت إليه في تفسيري هذا استدل بقوله تعالى (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)
الآيتين 139/ 140 من الصافات أيضا، فالجواب عنه ما تقدم، إذ تفيد هذه الآية صراحة أنه مرسل إليهم قبل هروبه بالفلك، والاستدلال بها أقوى من الاستدلال بتلك، لأن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا ولا تعقيبا، تأمل. قوله تعالى «وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ» قائلا في ندائه «رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً» بلا ولد يرثني «وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ» 89 لي إن لم ترزقني وارثا، وإن رزقني فأنت خير الوارثين له، لأنك ترت الأرض ومن عليها والسماء وما فيها، وأنت الذي لا وارث في الحقيقة غيرك لمن تحت الأرض وما عليها، ومن في السماء وما فوقها «فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ» بأن جعلناها صالحة للحمل والولادة بعد أن كانت عجوزا عقيما، فولدته كأنها حدثة «إِنَّهُمْ كانُوا» أولئك الأنبياء «يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ» إلى مخلوقاتنا طلبا لخيرنا «وَيَدْعُونَنا رَغَباً» بنا ورهبا «وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ» 90 مخبتين لعظمتنا، خاضعين لهيبتا، فعلى العاقل أن يستديم الخوف حالة الصحة، والرجاء حالة المرض، إذ يقول صلّى الله عليه وسلم لرجل دخل عليه وهو في حالة النزع: كيف تجدك؟ قال أخاف(4/329)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
ذنوبي وأرجو رحمة ربي، فقال صلّى الله عليه وسلم ما اجتمعا في عبد في هذا الموطن إلا أعطاه ما رجا وآمنه مما يخاف. ومعنى الآية رغبا بذات الله ورجاء عفوه، وطمعا برحمته وخوفا من عذابه، ولهذا يقول الله تعالى لتحليهم بتلك الصفات الأربع العظيمة:
نجيناهم من السوء وأجبنا دعاءهم ونصرناهم على أعدائهم. واذكر يا سيد الرسل لقومك أيضا بسياق ذكر هؤلاء الصالحين من الرجال المرأة الطاهرة الكاملة الصالحة البتول، وهو معنى
«وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها» من التزوج بالحلال السيدة مريم بنت عمران «فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا» المراد من الروح هنا معناه المعروف والإضافة إلى ضميره تعالى للتشريف، ونفخ الروح عبارة عن الإحياء لعيسى عليه السلام الذي قدر الله تكوينه في بطنها، وليس هناك نفخ حقيقة، ولهذا صح أن يقال نفخنا فيها، لأن ما يكون فيما في الشيء يكون فيه، فلا يلزم أن يكون المعنى أحييناها أي مريم، كما قاله بعض المفسرين، وليس هذا بمراد، وهو كما يقول الزّمار نفخت في بيت فلان وهو قد نفخ في المزمار في بيته، وقدمنا القصة ومعنى النفخ في الآية 24 من سورة مريم في ج 1، وأوضحنا هناك معنى الروح أيضا فراجعه، ولبحثه صلة في الآية الأخيرة من سورة التحريم في ج 3 فراجعه، «وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ» 91 على كمال قدرتنا إذ خلفناه من غير أب، ولم يقل آيتين كما في قوله تعالى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) الآية 12 من سورة الإسراء في ج 1، لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة، وهي ولادتها إياه من غير فحل، أي وجعلنا شأنها وأمرها آية. أخبر الله تعالى في هذه الآيات وأمثالها من القرآن العظيم وهو أصدق المخبرين بأن مريم عليها السلام محصنة من الحلال، والتي تحصن نفسها من الحلال لا يتصور أن لا تحصنه من الحرام، قاتل الله اللئام الذين يفترون عليها ويبهتونها، تنزهت وتبرأت عما يقول الظالمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون «إِنَّ هذِهِ» ملة الإسلام وأمة الإيمان «أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» وملة واحدة وهي ملة جميع الأنبياء ودينهم، لا دين غيره اختاره الله لكم أيها الناس لتمسكوا به وتعبدوا الله وحده وهي التي أدعوكم إليها لتعضوا عليها بالنواجذ، لأن جميع الكتب نازلة في شأنها، والأنبياء كلهم مبعوثون للدعوة(4/330)
إليها ومتفقون عليها. قال تعالى (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) الآية الأخيرة من سورة الحج في ج 3 «وَأَنَا رَبُّكُمْ» واحد لا إله غيري «فَاعْبُدُونِ» 92 وحدي لا تشركوا بي أحدا ولا شيئا، وهذا الخطاب للناس كافة لا يختص به واحد دون آخر. قال تعالى «وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ» أي البعداء عن الحق الذين لم يجيبوا الدعوة جعلوا الدين الواحد قطعا ووزعوه بينهم كما يتوزع الجماعة الشيء الواحد، فاختلفوا فيه وصاروا أحزابا. وسياق الكلام يفهم على أن المعنى وتقطعتم، إلا أن الالتفات من الخطاب إلى الغيبة أوجب ذلك، وفي تخصيص لفظ الرب ترجيح جانب الرحمة بهم وإيذان بأنه يدعوهم إلى عبادته بلسان الترغيب والبسط، لأنه رب كل مربوب، وهو المقيض على عباده جوده ولطفه. ثم انه توعدهم على ذلك التفريق الذي ابتدعوه بقوله «كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ» 93 لا يفلت منهم أحد ولا مرجع له غيري، وإذ ذاك أجازي كلّا بما يستحقه «فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ» في دنياه «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» قيد العمل بالإيمان، لأن الكافر لا ينفعه عمله الطيب في الآخرة لمكافأته عليه في الدنيا «فَلا كُفْرانَ» حرمان وبطلان ولا جحود «لِسَعْيِهِ» الذي سعاه في الدنيا كيف «وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ» 94 فلا يضيع له شيئا من عمله الحسن ولو مثقال ذرة بل نعطيه أضعافها من أحسن ما يستحقه طبقا لقوله تعالى (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الآية 97 من سورة النحل المارة «وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ» ممتنع على أهل قرية «أَهْلَكْناها» بحسب واقتضاء حكمنا وقضائنا الأزلي لغاية طغيانهم ونهاية بغيهم وتجبرهم «أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ» 95 من الكفر إلى الإيمان البتة.
والجملة في تأويل مصدر خبر وحرام أي رجوعهم إلينا وتوبتهم حرام. ولا هنا مثلها في قوله تعالى (أَلَّا تَسْجُدَ) الآية 12 من سورة الأعراف في ج 1، وهذا على قراءة فتح همزة أنهم وهو الأفصح، وعلى كسرها يكون معناها التعليل، والمعنيان متقاربان. وقيل إن حراما بمعنى واجب، وعليه قول الخنساء:
وان حراما لا أرى الدهر باكيا ... على شجوة إلا بكيت على صخر
وقد مشى بعض المفسرين في قوله تعالى (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)(4/331)
الآية 151 من سورة الأنعام المارة، أي ما أوجب، لأن ترك الشرك واجب، وعلى هذا قال الحسن ومجاهد لا يرجعون أي لا يتوبون عن الشرك، وقال قتادة ومقاتل لا يرجعون إلى الدنيا، وقال غيرهم لا يرجعون إلى الجزاء، إلا أنه على هذا المعنى الأخير يكون الغرض إبطال قول من ينكر البعث، وتحقيق ما تقدم من أنه لا كفران لسعي أحد، وأنه يجرى على ذلك يوم القيامة، وفيه ما فيه، والأول أولى، والله أعلم، فليحرر. قال تعالى «حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ» أي سدهما المشار إليه في الآية 99 من سورة الكهف المارة «وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ» 96 سراعا والحدب كل ما ارتفع ونشر في الأرض روى مسلم عن حذيفة بن أسيد العفاري قال: اطلع النبي صلّى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، قال ما تذكرون؟ قالوا تذكر الساعة، قال إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات، فذكر الدخان، والدجال، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاث خسوف، خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم. وفي رواية ودابة الأرض، فتكون مع ذكرها عشرا. قال تعالى «وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ» لقيام الساعة «فَإِذا» الفاء للمفاجأة واقعة في جواب إذا «هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا» فلا تكاد تطرف من هول ما ترى في ذلك اليوم، يقولون بلسان واحد «يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا» اليوم لم نقدره في الدنيا على هذه الحالة الفظيعة، ثم انتقلوا عن هذا القول فقالوا «بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ» 97 أنفسنا لعدم اصغائنا إلى الذين خوفونا منه ولم نطع الرسل برفض الكفر وإلزام التوحيد، ثم يقال لهم «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ» وقود «جَهَنَّمَ» وأصل الحصب الرمي والوقود يرمى بالنار رميا بل يقذف قذفا في جهنم إهانة لهم، ولهذا عبر عنه بالحصب «أَنْتُمْ لَها» أيها الكفرة «وارِدُونَ» 98 ورود دخول، راجع الآية 98 من سورة هود المارة «لَوْ كانَ هؤُلاءِ» الأوثان كما زعم عابدوها «آلِهَةً» تعبد وتشفع لهم مما حل بهم «ما وَرَدُوها» الآن ولما دخلوا فيها وعذبوا في جهنم بسبب عبادتها،(4/332)
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)
ولمّا كانت ليست بآلهة ولا تستحق العبادة يقول الله تعالى «وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ» 99 العابدون والمعبودون «لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ» هو خروج النفس بشدة حتى يظهر له صوت عال من ألم العذاب «وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ» 100 شيئا مما يقال لهم لانشغالهم بأنفسهم.
مطلب إخساء عبد الله بن الزبعرى وجماعته، ومن كان كافرا في أصل الخلقة:
ولما نزلت هذه الآيات الثلاث دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم المسجد وصناديد قريش في الخطيم، وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فعرض له النفر من قريش منهم النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه هذه الآيات الثلاث، وقام فأقبل عبد الله الزبعرى السهمي، فأخبره الوليد بن المغيرة بما قاله حضرة الرسول، فقال ابن الزبعرى أما والله لو وجدته لخصمته، فدعوا رسول الله فقال له ابن الزبعرى أنت قلت إنكم وما تعبدون الآيات؟ قال نعم، قال أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى المسيح، وبنو مليح الملائكة، أهؤلاء في النار؟
قالوا فضحكت قريش وارتفعت أصواتهم وفرحوا على زعمهم أنه حجّ محمدا، ولم يعلموا أن هؤلاء بمعزل عن أن يكونوا معبودين، قال تعالى في حق عيسى (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) الآية 117 من المائدة في ج 3، وقال بحق الملائكة (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) الآية 41 من سورة سبأ المارة، وقال تعالى في حق عزير (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الآية 259 من البقرة في ج 3، بعد أن ضرب الله به المثل، ثم التفت صلّى الله عليه وسلم إلى ابن الزبعرى وقال بل هم يعبدون الشيطان لا هؤلاء، ثم قال له ما أجهلك بلغة قومك، وذلك أن ما وضعت لما لا يعقل، فيكون ما ذكر غير داخل في الآية، لأنها لم تأت بلفظ من الموضوعة لمن يعقل ليصح الاحتجاج بها، لأنها جاءت لحمل الآية على حقيقتها ورفع احتمال المجاز لا لتخصيص العام المتأخر عن الخطاب كما قاله بعض المفسرين، وبما أن ما صريحة هنا بأنها لغير العقلاء فلم يتجه خلط ابن الزبعرى، وهذا بعد أن قال له ذلك حضرة الرسول نكس رأسه، وخسىء هو ومن معه، وتفقئوا خجلا وحياء بعضهم من بعض،
ثم أنزل الله بعدها «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى» كعيسى وعزير(4/333)
وإخوانهم من الأنبياء والملائكة وأصنافهم وكل صالح محسن مطيع من المؤمنين ممن سبقت لهم السعادة «أُولئِكَ» الأفاضل الأكارم «عَنْها» أي جهنم «مُبْعَدُونَ» 191 لا يردونها ورود دخول أبدا. وهذه الآية عامة يدخل فيها كل من قدر الله له دخول الجنة وهؤلاء المحسنون «لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها» صوت لهيبها «وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ» من نعيم الجنة وكرامة ربهم «خالِدُونَ» 102 في جنة ربهم المقدرة لهم «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» في هول الموقف ودخول النار «وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ» على أبواب الجنة يحيونهم ويقولون لهم «هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» 103 في الدنيا، وما قيل إنه بعد ذلك ذهب أبو جهل وجماعة من قريش إلى أبي طالب وكلفوه منع ابن أخيه من التعرض لآلنهتهم على الصورة المارة في الآية 107 من سورة الأنعام المارة، وعلى الصورة التي ذكرناها في الآية 26 من السورة نفسها لا يصح، لأن أبا طالب توفي قبل هاتين الحادثتين بكثير كما أشرنا إليه في الآيتين المذكورتين، وأن هذه متأخرة عن وفاة أبي طالب، لذلك فإنه قيل لا قائل له، واذكر لقومك يا سيد الرسل «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ» مثل طي الصحف والطي ضد النشر وهو تكويرها ولفها ومحو رسومها بعد أن كانت مبسوطة منشورة بحيث لا يبقى لها اسم ولا رسم، لأن طي الشيء كناية عن نسيانه وإعدامه وعدم تذكره بالمرة. وقال بعض المفسرين إن السجل اسم ملك موكل بالصحف، فإذا مات الإنسان دفع كتابه إليه فطواه ورفعه، والأول أولى، لأن السجل هو مجموع الصحائف التي تسجل فيها الأعمال، ومنه أخذ أهل الدنيا تسميتهم ما يدون به وقائع الأحوال الدنيوية سجلا في المحاكم وغيرها «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» بعد الموت مثل ما خلقناه أولا على هيئته، وقد وعدنا الرسل بذلك «وَعْداً» حقا ثابتا لا يبدل ولا يغير وهو لازم «عَلَيْنا» بأن من خلقناه في الأزل كافرا نعيده بعد الموت كافرا، ومن خلقناه مؤمنا نعيده يوم الحشر مؤمنا، وهذا واجب علينا إنجازه على طريق الوفاء بالوعد «إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» 104 لما نعد به لا نخلفه البتة، وهذه الآية والآية 30 من سورة الأعراف في ج 1 تؤيدان ما مشينا(4/334)
عليه من تفسيرهما بأن الذي خلق يوم خلق الذر كافرا يموت كافرا ويحشر كافرا ولو عمل ما عمل من الخير كإبليس، والذي خلق مؤمنا يموت ويحشر مؤمنا، ولو فعل ما فعل من الشر، كسحرة فرعون، والحديث الصحيح الذي ذكرناه في الآية 84 من سورة الإسراء في ج 1، يؤيد هذا بزيادة فيما يبدو للناس، كما هو في صحيح البخاري، وعليه فلا عبرة فيما يقع للعبد في متوسط عمره من أفعال الخير والشر، وإنما العبرة بالخاتمة نسأل الله حسنها. قال تعالى «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ» المنزل على داود عليه السلام «مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ» أي التوراة لنزوله بعدها، وقيل الذكر اللوح أو أم الكتاب أو غير ذلك، والأول أولى «أَنَّ الْأَرْضَ» أل فيها للعهد والمعهود من أرض الدنيا الأرض المقدسة «يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» 105 لعمارتها وحفظها بإعلاء شأن دين الله وإقامة العدل بين الناس، قال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الآية 56 من سورة النور في ج 3، وهناك أقوال أخر بأن المراد بالصالحين الصالحون بعمارتها الدنيوية، وعليه فيراد بالأرض الأرض كلها قال تعالى (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) الآية 127 من سورة الأعراف في ج 1 ولفظ العباد لا يختص بالمؤمنين وأقوال أخر بأنها أرض الجنة، قال تعالى (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) الآية 74 من سورة الزمر المارة وأولاها أوسطها والله أعلم، وقد جاء في الزبور الموجود الآن عند النصارى وغيرهم في المزمور 37 والآية 2 ما نصه: اسكن الأرض وارع الأمانة. وفي الآية 11 أما الورعاء فيرثون الأرض ويتلذذون في كثرة السلامة. وفي الآية 24 لأن المباركين يرثون الأرض، والملعونين يقطعون. وفي الآية 27 صدّ عن الشر وافعل الخير واسكن إلى الأبد. وفي الآية 29 الصديقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد. وفي الآية 34 انتظر الرب واحفظ طريقه فيرفعك لترث الأرض إلى انقراض الأشرار.
هذا أيها الناس كتابنا ينطق بالحق عما في كتب الأنبياء السالفين، مصدقا لما جاء فيه كما أخبرنا الله على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، فاعتبروا رحمكم الله في هذه العبرة العظيمة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد «إِنَّ(4/335)
فِي هذا»
المتلو عليكم أيها الناس، «لَبَلاغاً» اخطارا كافيا وانذارا شافيا ووعظا وافيا، «لِقَوْمٍ عابِدِينَ» 106 الله وحده مخلصين له العمل الموصل إلى البغية والمؤدي إلى المطلوب ولا بعد هذا البلاغ والبلاغ المار ذكره آخر سورة إبراهيم المارة بلاغ لمن يعتبر ويتذكر «وَما أَرْسَلْناكَ» يا خاتم الرسل «إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» 107 اجمع، لأن هذه الآية عامة لمن آمن به واتبعه ومن لم يؤمن به لأنه أتى من عند نفسه فضيّع نصيبه من هذه الرحمة، وإنما كان إرساله صلّى الله عليه وسلم رحمة لأنه حينما بعث كان الناس في كفر وجهالة، وكان أهل الكتاب في حيرة لما وقع من الاختلاف بينهم في أمر دينهم وكتبهم، ولم يكن لطالب الحق من سبيل، فدعاهم صلّى الله عليه وسلم كلهم إلى الهدى وبين لهم طريق الصواب وشرع لهم الأحكام، ووضح لهم الحلال من الحرام، وأظهر حقائق ما اختلفوا فيه، ورفع الله عن العباد المسخ والخسف وعذاب الاستئصال الذي كان يقع على الأمم السابقة، ببركته صلّى الله عليه وسلم القائل إنما بعثت رحمة مهداة، ففاز من فاز برشده، وخسر من خاب بغيّه، لأنه صلّى الله عليه وسلم مرسل إلى الخلق كافة إنهم وجنّهم وملائكتهم، بنص هذه الآية والآية 28 من سورة سبأ المارة والآية 158 من سورة الأعراف في ج 1، لدخولهم في عموم لفظيّ الناس والعالمين وهو كذلك أما كونه رحمة للأنس والجن فظاهرا لأنه هداهم إلى الحق وأنفذهم من الكفر وشرفهم بالإيمان وسبب لهم دخول الجنان، وأما الملائكة فرحمة لهم لأنهم وقفوا بواسطته على علوم جمة وأسرار عظيمة مما أودع الله في كتابه الذي فيه ما كان وسيكون عبارة وإشارة، وأي سعادة أفضل من التحلي بمزية العلم وقد أظهر من فضلهم على لسانه الشريف ما أظهره وأمنهم مما ابتلى به هاروت وماروت، وأيد هذا صاحب الشفاء بأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إلى السيد جبريل عليه السلام هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال نعم، كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله تعالى علي في القرآن. وقال ابن القيم في كتابه مفتاح السعادة لولا النبوات لم يكن في العالم علم نافع البتة ولا عمل صالح ولا صلاح في معشية ولا قوام لمملكة، ولكان الناس بمنزلة البهائم والسباع العادية والكلاب الضارية التي يعدو بعضها على بعض، وكل خير في العالم من آثار النبوة، وكل شر وقع في العالم أو سيقع بسبب(4/336)
إخفاء آثار النبوة ودرسها، فالعالم جسد روحه النبوة ولا قيام للجسد بدون روحه. ولهذا فإذا انكسفت شمس النبوة من العالم ولم يبق في الأرض شيء من آثارها انشقت سماؤه وانتثرت كواكبه وكورت شمسه وخسف قمره ونسفت جباله وزلزلت أرضه وأهلك من عليها، فلا قيام للعالم إلا بآثار النبوة، وإذا سلم هذا علم منه بواسطة كونه صلّى الله عليه وسلم أكمل النبيين، وما جاء به أجمل مما جاءوا به عليهم السلام وإن لم يكن في الأصول اختلاف. ووجه كونه صلّى الله عليه وسلم أرسل رحمة للعالمين أجمع أسودهم وأحمرهم عربهم وعجمهم هو أنه أكرمهم على الله، وأحبهم إليه، وأنفعهم لعباده وأتقاهم، وأرضاهم إليه، وأسخاهم فيما لديه، وأوفرهم نصيبا عنده وأكثرهم مروءة بخلقه وغيرة على دينه وكونه خاتم الرسل. وما قبل إن العالمين خاص بالمؤمنين غير وجيه لعدم وجود ما يخصصه بهم، بل إنه عام مطلق، وقد بعث صلّى الله عليه وسلم رحمة لكل فرد من أفراده إنسهم وجنهم وملائكهم، إلا أن الرحمة متفاوتة فتكون لكل بحسبه بمقتضى أعماله، كما أن العذاب والعقاب يكون كذلك. هذا وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله أدع على المشركين، قال إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة. قال تعالى «قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» إنما أداة حصر، والحصر قصر الحكم على شيء، أو قصر
الشيء على حكم، وعليه يكون المعنى أن الإله إله واحد لا غير البتة، وهو الذي أوحى إلي ما تلوته عليكم «فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» 108 منقادون إلى توحيد الله.
وهذا استفهام بمعنى الأمر، مثله في قوله تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) الآية 91 من المائدة في ج 3 أي هلا تنتهون عن شرب الخمر واللعب بالميسر وكل ما نهى الله عنه؟
والمعنى هنا هلا أسلمتم بعد ما أوضحنا إليكم الدلائل، فأسلموا تسلموا خير لكم، ولهذا يقول الله «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك يا محمد ولم يذعنوا لك «فَقُلْ آذَنْتُكُمْ» أعلمتكم وأنذرتكم أيها الناس ما أمرني به ربي. وكلمة آذن تتضمن الإنذار والتحذير من الحرب، ولا سيما قد تقدمه الإنذاران المشار إليهما آنفا، وهذه كلها من مقدمات الهجرة التي آن أوانها والتي ستكون سببا للحروب معهم وغيرهم كما يدل عليه قوله تعالى «عَلى سَواءٍ» أي لم أخص أحدا منكم بذلك الإعلام المسبوق(4/337)
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
بالإنذارين، وإنما أعمكم جميعا لأنكم في المعاداة سواء. على وجه نستوي فيه نحن وأنتم بالإعلام والإخطار، وهذه طريقة الأنبياء قبلي إذ كانوا يخوفونهم وينذرونهم عذاب الله، لا يخصون بإنذارهم أحدا، وهانذا أنصحكم فتأهبوا لما يراد بكم «وَإِنْ أَدْرِي» وما أعلم يا قوم «أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ» 109 به من العذاب الذي تجازون به على أعمالكم القبيحة، لأن الله لم يطلعني عليه ولا على وقت وقوعه، فأنا وأنتم بعدم العلم به سواء، ولكنه كائن لا محالة «إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ» 110 لا يعزب عنه شيء فكل ما تكنّونه لي من الحقد والإحن وما تطعنون بي وبديني معلوم عند الله، ولا بد أن ينتقم لي منكم إن لم تتوبوا وترجعوا عن غيكم في الدنيا أو في الآخرة، وإني لأرجو أن ينتقم منكم فيهما إن بقيتم مصرين
«وَإِنْ أَدْرِي» وما أدري «لَعَلَّهُ» أي تأخير العذاب عنكم «فِتْنَةٌ لَكُمْ» امتحان واختبار يختبركم به الله لتعلموا أنتم وليعلم بعضكم بعضا أن الحجة عليكم، وإلا فإن الله تعالى عالم بما هو واقع منكم قبل وقوعه، وما أدري هل هذا الإمهال استدراج تغترون به «وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ» 111 معلوم عنده تتمتعون به أياما قليلة، ثم يريكم سوء صنيعكم قبيح عملكم وخبث فعلكم «قالَ» وقرىء قل يا أكمل الرسل «رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ» بيني وبينهم والله تعالى يحكم بالحق بين جميع خلقه على السواء، ومعنى هذا الطلب ظهور الرغبة من الطالب وإعلام المطلوب أنه لا يريد غير الحق من ربه، لتطمئن نفسه بأن إلهه لا يحب إلا طلب الحق، ولكن طلب الرسول هذا يفيد الاستعجال، بنزول العذاب بقومه لما رأى من تضاعف عنادهم وتكاثر عتوهم وتوالي أذيتهم له ولقومه وتطاولهم على دينه وكنابه وإن الله تعالى قد أقر عينه فيهم، إذ عذبهم في واقعة بدر، وقهرهم في فتح مكة في الدنيا، ولعذاب الآخرة المخبوء لهم أشد وأدهى، كما أنه أقر عينه بمن آمن منهم، لأن إيمانهم أحب إليه من كل شيء «وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ» به «عَلى ما تَصِفُونَ» 112 به حضرته المقدسة من الشرك وتصمونه من التكذيب وتوقعونه بنبيه وأصحابه من الأذى والإهانة ولا عون لرسوله عليكم غيره، أضاف صلّى الله عليه وسلم لفظ الرب لنفسه وحده، لأنه في معرض الدعاء(4/338)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)
والدعاء من وظائفه الخاصة. وأضافه ثانيا له ولأصحابه لأنه في معرض طلب العون والغوث والرحمة، وهي من الوظائف العامة به وبهم، وقرىء (يصفون) بالياء أيضا، وفي ذكر صفوة الخلق وما يتعلق به بختام هذه السورة بهذه الجملة التي لا توجد سورة مختومة بها طيب تضوع منه المسك، كما أن ما بدئت به من أحوال القيامة هول تنفطر له الأجساد، وما بينهما آيات وعظات عظيمة وعبر وأخبار فخيمة ما وراءها وراء. أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب، فأكرم عامر مثواه، وكلم فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجاءه الرجل فقال إني استقطعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم واديا ما في العرب واد أفضل منه، وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك، فقال عامر لا حاجة لي في قطعتك، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا: اقترب للناس حسابهم إلخ. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
تفسير سورة المؤمنين عدد 24- 74 و 23
نزلت بمكة بعد سورة الأنبياء، وهي مئة وثماني عشرة آية، وثمنمئة وأربعون كلمة، وأربعة آلاف وثمنمئة حرف وحرفان، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا مختومة بما ختمت به من الجمل، ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» 1 فازوا وظفروا بمطلوبهم وخلصوا ونجوا مما يرهبون، وهؤلاء المفلحون هم «الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» 2 لله خاضعون لهيبته خائفون منه متذللون إليه طلبا لقبولها منهم.
مطلب الخشوع في الصلاة والمحافظة عليها والزكاة ولزوم أدائها والأمانة والعهد والحكم الشرعي فيهما:
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة، فقال اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد.(4/339)
وأخرج أبو داود والنسائي عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه. ولهذا أجمعت الفقهاء على أن وقوع ثلاث حركات متوالية من المصلي تبطل صلاته.
وقد حذر حضرة الرسول من العبث في الصلاة، فقد روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم مما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم! فاشتد قوله في ذلك، حتى قال لينتهينّ عن ذلك أو لتخطفنّ أبصارهم.
واعلم أن الخشوع هو جمع الهمة والإعراض عن سوى الله والتدبر فيما يجري على لسانه من القراءة والذكر، لأن من لا يتدبر القراءة لا يعرف معناها، ومن لم يعرف معناها لا يخشع لها، ومن لا يخشع لها فكأنه لم يقرأ. وأعلم أن المصلي إذا عرف نفسه أنه واقف بين يدي الله العظيم بالغ في الخشوع والخضوع والخوف، فقد ذكر البغوي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال لو خشع قلبه لخشعت جوارحه. وأخرج الحكيم الترمذي من طريق القاسم بن محمد عن أسماء بنت أبي بكر عن أم رومان والدة عائشة رضي الله عنها قالت: رآني أبو بكر أتميل في صلاتي فزجرني زجرة كدت أنصرف من صلاتي، ثم قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إذا قام أحدكم في الصلاة فليسكن أطرافه لا يتميّل تميل اليهود، فإن سكون الأطراف في الصلاة من تمام الصلاة. ومن الخشوع عدم كفّ الثوب والتمطي والتثاؤب والتغطية للفم والسدل والفرقعة والتشبيك وتقليب ما يسجد عليه، ومهما أمكن أن لا يخطر في قلبه غير ما هو فيه، وان يتعلق بالآخرة، لأن الخشوع محله القلب ويظهر عدمه بحركات الجوارح وهو من السنن المؤكدة في الصلاة. وقال بعض العلماء بوجوبه وفرضيته. قال تعالى «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ» هو كل كلام ساقط من هزل وشتم وكذب وما لا يعتد به من الكلام، والذي يصدر عن غير رويّة وفكر باطلا أو غير باطل. راجع ما بيناه في هذه في الآية 72 من سورة الفرقان ج 1 وفي الآية 67 من سورة الأنعام المارة، وله صلة في الآية 11 من سورة النور في ج 3، «مُعْرِضُونَ» 3 في عامة أوقاتهم وفي الصلاة خاصة ليحصل لهم فيها الفعل والترك الشاقّين على النفس(4/340)
اللذين هما قاعدتا التكليف وبناؤه «وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ» 4 مداومون عليها محافظون على أوقاتها وأدائها، ولا محل للقول بأن الزكاة لم تفرض بعد، لأن السورة مكية وقد فرضت في المدينة، وإن القصد هنا هو تزكية النفس من الأفعال المشينة لها وأنها على حد قوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) الآية من سورة الأعلى في ج 1، وقوله (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) الآية من سورة والشمس المارة في ج 1 أيضا لأن القرآن يفسر بعضه بعضا، ولا ينبغي العدول عن ظاهره وعن تفسير بعضه لبعض ما أمكن، وان معنى هذه الآيات على هذا هو فعل ما تزكى به النفس من المناقب واجتناب ما يشينها من المثالب كلها ليستوجبوا تزكية الله تعالى لهم وتطهيرهم من الذنوب والنقائص والعيوب، لأن المراد وصفهم بالزكاة المطلقة التي هي عبادة مالية، وقد ذكرنا غير مرة عند ذكر لفظ الزكاة أي القصد منها ما كان متعارفا عندهم إنفاته قبل الإسلام غير الزكاة المفروضة على هذه الأمة، لأن العرب كانت تزكي زكاة تلقتها عن أوائلهم، قال أمية بن الصلت:
المطعمون الطعام في السنة الأز ... مة والفاعلون المزكوات
ولم يرد عليه أحد، فلو لم تكن معروفة عندهم لردوا عليه لأنهم لا يسكتون إذا سمعوا غير الواقع، وتفسير ما نحن فيه بمعنى الآيتين المذكورتين آنفا بعيد، لأنهما ليستا مما نحن فيه، ولأن اقتران وصفهم بالصلاة التي هي عبادة بدنية ينادى على أن المراد وصفهم بأداء الزكاة التي هي عبادة مالية، وعليه يكون المعنى الفاعلون لأدائها لمستحقيها بأوقاتها عن طيب نفس طلبا لثوابها، وعلى هذا فلا يقال أيضا إن حضرة الرسول وأصحابه طيلة وجودهم في مكة لم يزكوا مع توالي نزول الآيات التي هي من هذا القبيل عليهم، بل كانوا يزكون، لأن الرسول كان فيما لم يؤمر به يجري فيه على طريقة إبراهيم عليه السلام وشريعته، وهل يمكن أن يقال لا زكاة في شريعة من الشرائع؟ كلا، ولكنهم كانوا يتصدقون بما يتيسر لهم من جهدهم، لأن أكثرهم فقراء معدمون، ولذلك لم يشتهر عنهم فعل الزكاة في مكة. هذا، ولفظ الزكاة يصرف على إنفاق المال حقيقة، وصرفها لغير هذا المعنى مجاز، ولا يعدل عن الحقيقة إلا إذا تعذرت، وهي غير متعذرة هنا. قال تعالى «وَالَّذِينَ(4/341)
هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ»
5 عن كل ما حرم الله قاصرون على ما أحله لهم والفرج مطلق الشق بين الشيئين، ثم أطلق على سوءتي الرجل والمرأة، وحفظهما التعفف عن الحرام، ثم استثنى جل شأنه فقال «إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» من الجواري والإماء ملكا حقيقيا، لأنه من الحلال. وهذه الآية خاصة بالرجال بحسب الظاهر، لأن النساء لا يسوّغ لهن ذلك، فلا يجوز أن يستمتعن بما ملكت أيمانهن من العبيد والإماء بالإجماع. أخرج عبد الرزاق عن قتادة قال:
تسرّت امرأة غلاما، فذكرت لعمر رضي الله عنه، فسألها ما حملك على هذا؟
فقالت كنت أرى أنه يحل لي ما يحل للرجال من ملك اليمين، فاستشار عمر رضي الله عنه أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، فقالوا تأولت كتاب الله على غير تأويله (أي لا حدّ عليها لأن التأويل يدرا الحد، وقال صلّى الله عليه وسلم ادرءوا الحدود بالشبهات) فقال رضي الله عنه لا جرم لا أحلك لحر بعده أبدا. أي أنه جعل عقابها ذلك ودرأ عنها الحدّ وأمر العبد أن لا يقربها. واعلم أن المرأة إذا كانت متزوجة بعبد فملكته وأعتقته حالة الملك انفسخ النكاح عند فقهاء الأمصار. وقال النخعي والشعبي وعيد ابن عبد الله بن عقبة: يبقيان على نكاحهما. والمراد بما ملكت أيمانهم السريات الأناثي فقط، إذ أجمعوا على عدم حل وطء المملوك الذكر، وإنما عبر عنهن بما دون من إما لعدم اختصاص ما لغير العقلاء لأنهم على الغالب فيهم، أو لأنهن مثل السلع يبعن ويشترين لعدم الاكتراث بهن أو لأنوثتهن المنبئة عن قلة عقولهن أجرين مجرى غير العقلاء، هذا إذا كن من الروم والجركس ونحوهم، أما إذا كن من الزنج والحبش وشبههم فإنهن من نوع البهائم وما نوع البهائم عنهن ببعيد- إلا إذا زكّتهن الهداية- فلا غرو إذا عبر عنهن بما «فَإِنَّهُمْ» إذا لم يحفظوا فروجهم عن إمائهم وجواريهم الإناث «غَيْرُ مَلُومِينَ» 6 على جماعهم هذا الصنف من الإماء والجواري للإذن فيه، لأن كل ما أذن فيه لا يلام فاعله عليه «فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ» ولم يقتصر على أزواجه وسراريه وتعدى إلى غير ذلك والعياذ بالله «فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ» 7 المبالغون في العدوان المتجاوزون حدود الله، لأن هذه الآية دالة على تحريم ما عدا ذلك من الاستمناء باليد وبالدبر من الصنفين وإتيان الحيوانات وكل ما لم يأذن به الشرع.(4/342)
واعلم أن من قال إن هذه الآية ناسخة لآية المتعة المزعومة في الآية 24 من سورة النساء لا ثقة بقوله، لأن هذه مكية متقدمة عليها بالنزول، وتلك الآية مدنية متأخرة عنها، والمقدم لا ينسخ المؤخر قولا واحدا. وكذلك القول في الآية 10 من سورة المعارج الآتية لا تكون ناسخة لها للعلة ذاتها والسبب نفسه. وعلى من يدعي العلم ويقول بالنسخ أن يتثبت من معرفة أحواله وقواعده ثم يقول، لا انه رجما بالغيب بادىء الرأي، فيعرض نفسه للقدح والوصم بجرأته على كتاب الله المنزه عن كل ثلب. ولنا بحث في المتعة نبديه إن شاء الله في تفسير آية النساء المذكورة أعلاه فراجعه. قال تعالى «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ» 8 محافظون لما ائتمنوا عليه من مال وغيره مراعين به حق الله مؤدين له لأربابه حال طلبهم كما استلموه منهم، إذ لا يجوز لهم التصرف بالأمانة، وموفون بما عاهدوا الله عليه قبل وبعهدهم لرسوله صلّى الله عليه وسلم، ولما عقدوا ويعقدوا بينهم من العهود للمؤمنين وغيرهم مهما كان دينهم، لأن الوفاء بالعهد واجب لأي كان، راجع الآية 34 من سورة الإسراء ج 1 والآية 91 فما بعدها من سورة النحل المارة، وأصل الرعي حفظ الحيوان، ثم استعير للحفظ مطلقا. والأمانة منها ما يكون بين العبد وربه كالوضوء والصلاة والصوم وغسل الجنابة وغيرها مما أوجبه الله تعالى على عباده مثل البر باليمين، وما يتعلق بالأقوال التي تحرم بها النساء والإماء ويعتق بها الجواري والعبيد لأنه مؤتمن في ذلك فيما بينه وبين ربه، قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) الآية 37 من الأنفال في ج 3، وقال عليه الصلاة والسلام أعظم الناس خيانة من لم يتم صلاته. وجاء عن ابن مسعود: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة. ومنها ما يكون بين الناس أنفسهم كالودائع والعقود والضائع والأسرار فيجب المحافظة عليها والوفاء بها، إذ لا فرق بين من يفشي سرا ائتمن عليه، وبين من يختلس مالا استودعه. الحكم الشرعي:
وجوب حفظ الأمانة بالمحل الذي يحفظ به ماله من جنسها، وإذا لم يفعل وطرأ عليها طارئ فإنه يعد مقصرا شرعا ويضمنها إذا سرقت أو تلفت، ويصدق بردّها بقوله دون حاجة لإقامة حجة، وإن أقامها براءة لذمته جاز، وليس للمودع تكليف(4/343)
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
الوديع بينة على الردّ لأنه استلمها بلا بينة، ولأن المقصود منه الأمانة، إذ لا ينبغي لصاحب المال أن يودع ماله إلا عند من اشتهر بالأمانة والديانة وحصلت له الثقة به، فإذا أودعها عند من ليس من أهلها وأنكرها عليه فلا يلومن إلا نفسه، لأنه هو الجاني عليها، وليس للوديع أن يودعها عند غيره بغير إذن المودع أو تفويضه، فإن فعل ضمن أيضا. قال تعالى «وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ» 9 بأن يؤدوها بأوقاتها بطهر كامل ويتموا أركانها وشروطها بوجه أكمل، ولا يعد هذا تكرارا لأنه تعالى وصف أولا الصلاة بالخشوع وأخيرا بالمحافظة، والمحافظة غير الخشوع، ولأنها أعظم أركان الدين خصت بمزيد الاعتناء فذكرت مرتين.
الحكم الشرعي: في تاركها كلا الحبس والتفسيق، وعمدا تهاونا وجحودا لفرضيتها الكفر والقتل حدا، ولا عذر في تركها ما قدر العبد أن يؤديها ولو بالإيماء، ويكفي في ذلك لعن تاركها من قبل حضرة الرسول ونفي الأمانة عنه، ومن لم يحافظ على أركانها وشروطها كان كمن لم يقمها ولم يحافظ عليها، قال عليه الصلاة والسلام إذا أحسن العبد الوضوء وصلى الصلاة لوقتها وحافظ على ركوعها وسجودها ومواقيتها قالت حفظك الله كما حافظت علي وشفعت لصاحبها، وإذا أضاعها (أي لم يقم بشروطها) قالت أضاعك الله كما ضيعتني وتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها. أي يوم القيامة إذ تمثل العبادات والأعمال وتجسم «أُولئِكَ» الذي هذه صفاتهم وهذا شأنهم «هُمُ الْوارِثُونَ» 10 الأخلاق الحميدة والأفعال المجيدة في الدنيا
وهم «الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ» أعلى مراتب الجنة «هُمْ فِيها خالِدُونَ» 11 أبدا، أخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن في الجنة مئة درجة ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة، ومن فوقها يكون العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس. وأخرج أيضا عن عمر بن الخطاب قال:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل، فأنزل الله عليه يوما فمكث ساعة ثم سرّي عنه، فقرأ (قد أفلح المؤمنون) إلى عشر آيات من أولها وقال من أقام هذه العشر آيات دخل الجنة. ثم استقبل القبلة(4/344)
ورفع يديه وقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم أرضنا وارض عنا.
مطلب مراتب الخلق، وتعداد نعم الله على خلقه:
قال تعالى «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ» آدم عليه السلام بدليل قوله «مِنْ سُلالَةٍ» أي خلاصة «مِنْ طِينٍ» 12 معجون من أنواع تراب الأرض، ولذلك ترى أولاده الأبيض والأحمر والأسود والأصفر وما بينهما، والمؤمن والمنافق والكافر والمرائي والمداهن وما بينهما «ثُمَّ جَعَلْناهُ» أي الإنسان «نُطْفَةً» ماء قليلا نحو النقطة من مائي الرجل والمرأة والمراد نسل آدم، لأنه المخلوق من النطفة لا آدم نفسه «فِي قَرارٍ مَكِينٍ» 13 حصين وهو الرحم لا يتسرب إليه غيرها «ثُمَّ خَلَقْنَا» وسط ذلك الرحم المحرز المصون بتلك «النُّطْفَةَ» فصيرناها «عَلَقَةً» قطعة دم جامد «فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ» المذكورة وصيرناها في مقرها «مُضْغَةً» قطعة لحم صغيرة «فَخَلَقْنَا» تلك «الْمُضْغَةَ» نفسها بأن أحلناها «عِظاماً» وعروقا داخل مقرها المذكور «فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً» سترناها به، ولذلك قال كسونا لأن اللحم كالكسوة للعظم والعرق، إذ تتداخل به وتمتد لربط المفاصل بصورة محكمة من فعل الحكيم القدير «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» بسبب نفخ الروح فيه وصيرورته حيوانا سميعا بصيرا ناطقا بعد أن كان جمادا، فهو مباين لحالته الأولى، ولذلك قال تعالى (خَلْقاً آخَرَ) وفي العطف بثم المفيدة للتراخي إعلام بأن ما بين كل حالة وأخرى احتياج إلى الزمن، وهو كذلك لما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملك بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فو الله الذي لا إله إلا هو إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة (فيما يبدو للناس) حتى ما يكون بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار (فيما يبدو للناس)(4/345)
حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. واعلم أن جملة فيما يبدو للناس لم تكن في هذا الحديث، وإنما هي في حديث آخر رواه البخاري، ولذلك جعلناها بين قوسين، ورويا عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال وكل الله بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله تعالى أن يقضي خلقها، قال يا رب أذكرا أم أنثى أسقي أم سعيد، في الرزق، في الأجل، فيكتب له ذلك في بطن أمه قال تعالى «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» 14 المبدعين المصورين المقتدرين الموجدين، وقد ذكرنا مراتب الخلق في الآية 64 من سورة المؤمن والآية 14 من سورة الأحقاف المارتين فراجعهما. «ثُمَّ إِنَّكُمْ» أيها الناس «بَعْدَ ذلِكَ» الخلق وخروجكم من الرحم واستيفاء آجالكم في الدنيا «لَمَيِّتُونَ» 15 ومفارقون هذه الأرض التي نشأتم عليها فتدفنون فيها أو فيما فيها «ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» بعد انقضاء أجلكم في البرزخ كما هو مقدر أزلا «تُبْعَثُونَ» 16 أحياء كما كنتم في الدنيا فتساقون إلى الوقف وتحشرون فيه فتحاسبون وتجازون على ما عملتموه الخير بأحسن منه والشر بمثله، فعلى العاقل أن يتهيأ للموت لأن أمرا لا تدري متى يغشاك يجب أن تستعد له قبل أن يفاجئك قال تعالى «وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ» سموات سميت طرائق لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم «وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ» 17 لاهين ولا ساهين عن أقوالهم وأفعالهم، بل كنا ولا نزال متيقظين لحفظ أعمالهم ونحصيها عليهم كما نحفظهم في حياتهم حتى يبلغوا أجلهم وما قدر إليهم في الدنيا ويستوفونه كاملا. قال تعالى «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ» لحاجة البشر وزروعهم وأنعامهم ومنافعهم «فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ» وجعلناه ينابيع عيونا وأنهارا متنوعة، ونظير هذه الآية بالمعنى الآية 22 من الزمر المارة «وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ»
18 كقدرتنا على إنزاله وإسلاكه في الأرض والإعادة أهون من الابتداء لأنه إبداع على غير مثال سابق والإعادة إرجاع الشيء لأصله وهو سهل على كل مبدع «فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها(4/346)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ»
19 شتاء وصيفا رطبا ويابسا «وَشَجَرَةً» أنشأناها لكم أيضا «تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ» جبل بفلسطين ملتف بالأشجار وكل ما هو كذلك يسمى سينا «تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ» الزيت لأن ثمرها الزيتون والدهن يعصر منه فكأنها نبتت به «وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ» 20 أدام يصبغ الخبز بصفاره الصافي البديع، قالوا
إن أول شجرة ثبتت في الأرض بعد الطوفان هي الزيتون، وقالوا إنها تعيش ثلاثة آلاف سنة، ويدل على هذا تأخر إعطائها الثمر، والزيتون الموجود الآن بقضاء الزوية يسمّونه الروماني، ويقولون إنهم تلقوه عن أجدادهم الذين لا يعرفون تاريخ زرعه، وإذا أنعم الإنسان النظر فيه يصدق عقلا بأنه من زرع الرومان الذين كانوا في تلك المنطقة لما يرى من كبر أشجاره وتعميرها، ومن موقعه وأرضه والله أعلم.
قال تعالى بعد أن عدد هذه الصفات العشر التي ينبغي أن يتحلّى بها الإنسان وبيّن أحوال خلقه ومآلهم وعودهم إلى خالقهم وأفهمهم بأنه كما كان أصل الإنسان من الماء فكذلك الأشجار أصلها من الماء، وبين ما أودعه في السموات والأرض من منافع إليه، ذكر ما خلقه أيضا لأجله فقال «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها» إذ نخرج لكم منها لبنا خالصا، راجع الآية 66 من سورة النحل المارة وقد بين فيها سبب تذكير الضمير هناك وتأنيثه هنا «وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ» جليلة من ثماد ودثار وظلال ولباس وزينة ورياش «وَمِنْها تَأْكُلُونَ» 21 وتشربون أيضا، وقد حذف الشرب لدلالة الأكل عليهَ عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ»
32 برا وبحرا، وتقدم أيضا في الآية 6 من سورة النحل ما يتعلق بهذا فراجعه، كما بينّا ما يتعلق بالسماوات في الآية 45 من سورة الذاريات المارة، وسيأتي لها بحث في الآية 12 من سورة النبأ الآتية والآية 25 من سورة النازعات والآية 5 من سورة والشمس الآتيتين وفيها ما يرشدك إلى المواضع الأخرى. قال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ» 13 عقابه، تأكلون رزقه وتعبدون غيره «فَقالَ الْمَلَأُ» أشراف قومه لأن أكثر ما يصيب الضعفاء(4/347)
بذنوب الأكابر لأنهم القادة والسادة وإليهم الأمر والنهي طلبا لما عندهم من المال والجاه، ثم فسر الملأ بقوله «الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا» نوح وقومه الذين يدعونكم إلى عبادة ربهم «إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ» بدعوته لتكون الرياسة له عليكم وتكونوا أتباعا له «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ» أن يرسل أحدا لدعوة خلقة إلى عبادته كما يزعم نوح «لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً» يدعونهم إليه لا بشرا مثلنا «ما سَمِعْنا بِهذا» الذي يدعو إليه نوح «فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ» 24 ولم ينقل لنا عنهم أحد شيئا من هذا «إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ» فلا تسمعوا قوله أيها الناس اتركوه وشأنه «فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ» 25 موته أو إلى أن يتبين لكم حاله عند صحوه من جنونه فإذا أصر على قوله قتلناه، فلما سمع هذا منهم ويس من إيمانهم دعا ربه بإهلاكهم، فأهلكهم كما قدمنا في القصة الواردة في الآية 26 من سورة نوح المارة. وفيها ما يرشدك إلى توضيحها في الآية 35 من سورة هود، وقال تعالى حاكيا عن نبيه بما معناه بالآية 37 من سورة الفرقان في ج 1 «قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ 26 فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا» على مرأى منا «وَوَحْيِنا» بكيفية صنع السفينة «فَإِذا جاءَ أَمْرُنا» بعذاب قومك غرقا «وَفارَ التَّنُّورُ» تقدم بيانه ومكانه وكيفية الغرق ومدته ومكان السفينة ومرساها في الآية المذكورة في سورة هود فما بعدها «فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ» من أصناف الحيوان «زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ» ومن آمن بك احملهم معك «إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ» فلا تحمله معك وهم زوجته واعلة وابنه كنعان كما مر أيضا هناك «وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا» من قومك «إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» 27 جميعا حيث حق القول عليهم مر تفسير مثلها في الآية 37 من سورة هود أيضا «فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» 28 أنفسهم بكفرهم وعصيانهم «وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ» 29 لأنا ضيوفك فهيئ لنا مكانا، من خيراتك، وكثر لنا نسلنا(4/348)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)
فيه نكثر من عبادتك، وإنما وصفه بالأخيرية لأن المضيف يكرم أضيافه ويحتاط بأمرهم، ولكن لا يقدر أن يكلأهم في سائر أحوالهم ويدفع عنهم المكاره في تقلّباتهم مثل الإله القادر على ذلك وغيره «إِنَّ فِي ذلِكَ» إنجاء نوح ومن معه وإغراق قومه وابنه وزوجته «لَآياتٍ» عظيمات دالات على كمال القدرة وموجبات العظة والعبرة «وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ» 30 الناس ومختبريهم وممتحنيهم بإرسال الرسل لتنظر هل يسمعون لهم او يعرضون عنهم، وهذا بالنسبة للخلق، وأما الخالق فهو عالم بذلك قبل كونه. وإن هنا مخففة من الثقيلة، واللام فيها بعدها اللام الفارقة بين النافية والمخففة، وما قيل إنها نافية فليس بشيء، لأن النافية لا يليها اللام والجملة حالية
«ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ» 31 هم قوم عاد «فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ» هود عليه السلام فقال لهم «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ» 32 الله ولا تخافون أن يهلككم كما أهلك قوم نوح قبلكم «وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ» وحضورهم لدينا بالموقف العظيم وجحدوا الحساب والعقاب «وَأَتْرَفْناهُمْ» نعّمناهم ووسعنا عليهم «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» وبلغناهم آجالهم وما قدر لهم فيها، ومقول القول «ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ» 33 منه حذف من الثاني بدلالة الأول يريدون أن الرسل لا تكون من البشر بل من الملائكة كما قال من قبلهم إذ تشابهت قلوبهم، فكل ما نطق به الأوائل تدرج إلى الأواخر فتكلموا به، ولهذا قالوا الكفر ملّة واحدة، أي من حيث الأصول، وقال أيضا بعضهم لبعض «وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ» 34 مكانتكم وسطوتكم، وهذا هو المانع الحقيقي لهم ولغيرهم من الإيمان بالله ورسله، أعماهم الله أنفوا من الانقياد إلى من هو مثلهم في الأصل وقد شرفه الله بالرسالة وعبدوا أعجز منهم لأجل الدنيا، ولو اهتدوا بهدى أنبيائهم لربحوا الدنيا والآخرة، لأن الأنبياء لا يريدون الرياسة التي هي من شأنهم، ولم يقصدوا بدعوتهم التفوق عليهم،
وقال أيضا بعضهم لبعض غافلين عن كيفية إيجادهم «أَيَعِدُكُمْ» هذا الرسول(4/349)
«أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ» 35 من قبوركم أحياء كما كنتم في الدنيا «هَيْهاتَ هَيْهاتَ» أي بعد بعدا بعيدا «لِما تُوعَدُونَ» 36 من البعث بعد الموت وإكسابكم حياة ثانية، خذلهم الله نسوا خلقهم من العدم على طريقة الإبداع وجحدوا إعادتهم لحالتهم الأولى وقالوا عتوا وعنادا «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» لا حياة بعدها أبدا «نَمُوتُ وَنَحْيا» أي أيعقل أن نموت ثم نحيا؟ كلا لا صحة لهذا، والمعنى على ما ذكره المفسرون نحيا ونموت على أن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا ولا تعقيبا، للعلم بأن الإحياء أولا ثم الإماتة، وأرى أن الأول أولى لقولهم «وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» 37 بعد موتنا أبدا «إِنْ هُوَ» وقالوا أيضا ما هذا الذي يدعوكم إلى هذه الدعوة المبتدعة «إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» بقوله بوجود حياة أخرى «وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ» 38 بمصدقين اختلاقه وافتراءه ولا نسمع لقوله، ولما أيس منهم دعى عليهم «قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ» 39 فأجاب الله دعاءه «قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ» 40 على تكذيبهم لك «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ» من السيد جبريل عليه السلام فتصدعت لهولها قلوبهم فأهلكوا جميعا، قال الشاعر:
صاح الزمان بآل برمك صيحة ... خروا لشدتها على الأذقان
قال تعالى «فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً» بتخفيف الثاء أي يابسين كالأوراق والعيدان التي يجرفها السيل وبالتشديد أيضا، قال امرئ القيس:
كأن ذرى رأس المجيمر غدوة ... من السيل والغثّاء فلكة مغزل
والمجيمر جبل من جبال بني أسد «فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» 41 أي هلاكا، من المصادر المنصوبة بأفعال لا ينطق بها ولا تكتب ولا يستعمل إظهارها. «ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ» 42 أيضا وأرسلنا إليهم رسلا فكذبوهم، وهذه كالتسلية لحضرة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم لئلا يضيق صدره من تكذيب قومه ليتأسى بمن قبله وقبلهم، وكل من هذه القرون أهلكت بأجلها المعين لها في علم الله المقدر على تكذيبهم لرسلهم أيضا، لقوله تعالى «ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها» المقدر(4/350)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)
لإهلاكها «وَما يَسْتَأْخِرُونَ» 43 عنه لحظة واحدة «ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا» واحدا بعد واحد متتابعين غير متواصلين إذ جعلنا بين كل رسول وآخر فترة، بأن كان إرسال كل رسول متأخرا عن إنشاء قرن مخصوص به كما يدل عليه قوله «كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً» بالإهلاك «وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ» لمن بعدهم يتسامرون بشأنهم «فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» 44 بالله ولا يصدقون رسله «ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ» 45 واضح بقوة وحجة وبرهان عظيم
«إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا» عليهما وأنقوا منهما وتعاظموا «وَكانُوا قَوْماً عالِينَ» 46 بزعمهم على غيرهم وذى سلطان أكبر من غيرهم «فَقالُوا» على طريق الاستفهام الإنكاري «أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ» 47 أي كيف يكون ذلك وهل يتبع الأعلى الأدنى منه؟ كلا، وهذه الجملة حالية، وكان عندهم أن كل من دان لملك فهو عابد له، وعند العرب كذلك «فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ» 48 غرقا، وتقدمت قصص هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم، وكيفية دعوتهم وإهلاكهم في الآية 59 فما بعدها من سورة الأعراف ج 1 فراجعها، «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ» أي قومه «يَهْتَدُونَ» 49 فمنم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً» دالة على قدرتنا لأنا أوجدناه من غير أب، ولم يقل آيتين للسبب الذي أشرنا إليه في الآية 91 من سورة الأنبياء المارة، ولما عرب هو وأمه إلى مصر خشية تسلط أعدائه عليه حفظناهما منهم «وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ» مكان مرتفع في مصر قرب النيل.
مطلب هجرة مريم بعيسى عليهما السلام إلى مصر، وأن الذي أمر الله به الأنبياء أمر به المؤمنين، وأن أصول الدين متساوية:
وذلك أنه عليه السلام بعد أن أتت به أمه من بيت لحم محل ولادته إلى قريتها الناصرة وأظهر الله له المعجزات، كان الجبار هيدروس أمر بقتل الأطفال الذين ولدوا في بيت لحم، لما أخبر أن منهم من يصير سببا لخراب ملكه، كما فعل قبله(4/351)
النمروذ وفرعون، وعلمت أمه أنه يريد قتله انتدبت الرجل الصالح يوسف النجار وهربها إلى مصر. وليس المراد بهذه الربوة بيت لحم إذ لا ماء جار فيها كما أشرنا إليه في الآية 24 من سورة مريم في ج 1، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى (وَآوَيْناهُما) إلخ يعني لمصر، لأنها خزائن الأرض كلها وسلطانها سلطان الأرضين كلها، ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام (اجعلني على خزائن الأرض) الآية 55 من سورته المارة، ففعل فأغات الناس بمصر وخزائنها. ولم يذكر الله تعالى مدينة بعينها بمدح إلا مكة ومصر، وهذا هو الصحيح، والله أعلم. إذ ليس المراد هنا محل الولادة، بل محل الهجرة، لأن الله تعالى أخبر في هذه الآية بأنه هو وأمه، وأنها لما ذهبت به إلى بيت لحم لم يكن مولودا حتى ينوه به وبقي في مصر حتى بلغ أشده أتى به وأمه إلى الأرض المقدسة ليبث دعوته في قريته الناصرة وما حولها. قالوا إن قرية الناصرة وصخرة بيت المقدس أقرب مواقع الأرض المقدسة من السماء بثمانية عشر ميلا، ومن هذه القربة اشتق اسم النصارى «ذاتِ قَرارٍ» من الأرض «وَمَعِينٍ» 50 ماء جار هو نهر النيل، ومن ظن أن هذه الآية تدل على محل الولادة لا على محل الهجرة، فسر (السرى) في سورة مريم بجدول ماء من حيث لا جدول ماء هناك كما ذكرناه فيها، وإنما هذا المعين في المحل الذي آواهما إليه كما أشرنا إليه أعلاه. هذا ولما أنهى ما قصه الله على رسوله من أخبار بعض الأنبياء وأممهم، شرع يخاطبه ضمن الرسل كافة بأن يداوم على ما هو عليه بقوله «يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً» لأنفسكم وأممكم والناس أجمعين، وهم لا شك يعملون ذلك كله، وإنما المراد أمرهم بالدوام على ما هم عليه، وعدم الالتفات لتكذيب أقوامهم ومخالفتهم لهم «إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» 51 ويجوز أن يراد بهذا الخطاب أقوامهم أيضا لما فيه من معنى التحذير، على أن الخطاب للرسل خطاب لأقوامهم. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات) الآية، وقال (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل(4/352)
يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ بصره إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب؟. وذلك لأن أكل الخلال من شروط الاستجابة التي لا بد منها، كما سيأتي في الآية 186 من سورة البقرة في ج 3، فكيف إذا كان كلّه حراما أيستجاب له؟ كلا ثم كلا.
إلا أن يشاء الله القائل «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» تقدم مثلها في الآية 92 من سورة الأنبياء المارة، وقال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الآية 13 من سورة الشورى المارة، وقال تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) الآية 163 من سورة النساء في ج 3، فيفهم من هذا ومما قدمناه في آية الأنبياء، أن الشرائع كلها من حيث أصول الإيمان كالاعتراف بالوحدانية لله وإرسال الرسل والمعاد واحدة لا فرق بينها أصلا، وهو كذلك، لأن الاختلاف الحاصل عبارة عما يتعلق في هذه الأصول مما هو رحمة وتخفيف للأمة بما يوافق العصور وأهلها، وفي الفروع المتعلقة بأنواع العبادات المالية والبدنية والمشتركة، قال تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) الآية 107 من البقرة في ج 3، ومن هنا أخذت قاعدة: تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان، ومنها قاعدة تعديل القوانين الموقتة بما يوافق المصلحة للدولة والأمة، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 13 من سورة الشورى فراجعها. «وَأَنَا رَبُّكُمْ» الإله الواحد الذي لا رب غيره «فَاتَّقُونِ» 52 لا تخالفوا أمري وأمر النبي المرسل إليكم من قبلي إذ يبلغكم كلامي الذي هو من حيث الأس واحد أيضا، «فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً» قطعا مختلفة وأديانا متفرقة وصار «كُلُّ حِزْبٍ» منهم «بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» 53 لزعمهم أن ما هم عليه هو الحق، وما سواء باطل، لأنهم لم يتفقوا على ما أمروا به من قبل الرسل مما هو متعلق بأمر الدين، فتفرقوا وتعادوا من أجل هذا التحزب، وهكذا مصير كل أمة تتحزّب وتتفرق، ولهذا أمر الرسول بجمع الكلمة، وقال: الجماعة رحمة والفرقة عذاب، راجع الآية 30 من سورة المؤمن المارة، لأن الدين في الأصل كله واحد كما أن الرب واحد، وما يأتيهم من قبل الرسل واحد، لأنه من الرب(4/353)
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)
الواحد، وهذه الآية تشعر بذمّهم لأنهم آمنوا ببعض ما في كتبهم وكفروا ببعض، فسببوا تشتيت الكلمة وانحاز كل منهم إلى جهة ترمي بخلاف ما عليه الحزب الآخر.
وتؤذن هذه الآيات بأن قوم محمد صلّى الله عليه وسلم تقولوا فيه الأقاويل، واختلفوا فيما بينهم بشأنه وشأن كنابه وربه عز وجل، فاتبعوا الباطل وعملوا عن الحق الذي جاءهم به.
وإذا كان هذا شأنهم يا حبيبي «فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ» غفلتهم وجهلهم وعماهم «حَتَّى حِينٍ» 54 انقضاء الأجل المضروب لهم «أَيَحْسَبُونَ» المؤمنون من قومك «أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ» نمنح به هؤلاء الكفرة «مِنْ مالٍ وَبَنِينَ» 55 في هذه الدنيا هو خير لهم؟ كلا، قال تعالى (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) الآية 55 من سورة التوبة ج 3، وإذا كان هذا شأنهم فاعلم يا سيد المرسلين أنا نحن إله الكل وإنّا كنا ولا زلنا
«نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ» لا لرضانا عنهم بل لنستدرجهم بها ولينهمكوا في معاصيهم ونزداد سخطا عليهم (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) الآية 178 من آل عمران في ج 3 «بَلْ لا يَشْعُرُونَ» 56 أن ذلك لشرهم لأنهم أشباه البهائم يصرفون وجودهم لشهواتهم ولا يتأملون فيما ينفعهم ويضرهم، والاستدراك في قوله أيحسبون أي لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتدبروا عاقبة أمرهم ويعملوا ما ندر لهم من الخير، هل هو استدراج أو مسارعة في الخير؟ وهذه الآية على حدّ قوله تعالى (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ) الآية المكررة في سورة التوبة من ج 3، وهي حجة على القائلين أن الله تعالى لا يفعل إلا ما هو الأصلح للعبد، لأنها تصرح أن هذا العمل الذي أراده الله لهؤلاء ليس بأصلح لهم في دينهم؟
وقد ألمعنا لهذه الآية في الآية 19 من سورة الأنعام المارة، وفيها ما يرشدك لمراجعة المواضع المفصل بها هذا البحث فراجعها، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ» 57 خائفون وجلون «وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» 58 إيمانا تاما محصنا لا يجادلون فيها ولا يشكون ولا يحصل لهم ريب أو مرية في شيء منها «وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ» 59 به أحدا ولا شيئا «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ» يفعلون «ما آتَوْا» من الأعمال «وَقُلُوبُهُمْ(4/354)
وَجِلَةٌ»
خائفة من الله أن يعذبهم عليها لأنهم موقنون «أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ» 60 وأنه يجازيهم على أفعالهم فتبقى قلوبهم مشغولة بخوف الله من تلك الأفعال التي علموا أنها غير مرضية، وشكهم في عدم قبول أعمالهم الصالحة وشوبها بالرياء، وخوفهم هذا ندم وتوبة، فلا يبعد أن يتجاوز عنهم ولا يعاقبهم عليها بمنه وفضله «أُولئِكَ» المتصفون بهذه الصفات الحسنة لا المتقدمون الموسومون بضدها هم «يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ» الأعمال الصالحة التي تعود عليهم بالخير من ربهم «وَهُمْ لَها سابِقُونَ» 61 لأنها توصلهم إلى الجنة مقر أهل الخير، ولهذا فإنهم مبادرون لها «وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» لأن الدّين الذي كلفتم به لا حرج به عليكم، وإنما تعملون منه ما تستطيعون فمن لم يكن ذا مال لا يكلف بالصدقة والحج، والعاجز لا يكلف بالجهاد والصوم، ومن لا يقدر على القيام في الصلاة فيصلي قاعدا أو مضطجعا، ومن كان في سفر فله أن يفطر في الصوم ويقصر في الصلاة وأركان الدين، عبارة عن هذه لا غير، وكلها لا حرج فيها، أما أصل الدين وهو كلمة الشهادة والاعتراف بالرسل والمعاد فلا عسر فيها على أحد البتة، لأنها عبارة عن النطق باللسان والإيقان في القلب، وإذا عجز عن النطق اكتفى بالإيقان القلبي، والإشارة من الأخرس كافية، وقد شرع الله تعالى الرخص لعباده فيما يأتون ويذرون، راجع الآية 105 من سورة النحل المارة «وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ» بينا فيه الأعمال الصالحة الخالصة من المشوبة والقادر من العاجز والمكلّف من غيره بيانا كافيا شافيا، فلا حجة لكم أيها الناس بعده، وعندنا كتاب مثبت فيه ما يقع منكم من المناقب والمثالب، وسينال ما فيه من ثواب وعقاب «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» 62 شيئا فلا يزاد في عمل عامل ولا ينقص منه، ولا يعاقب العاجز فيما يسبقه به القادر من الأعمال الحسنة. قال تعالى «بَلْ قُلُوبُهُمْ» هؤلاء الكفرة «فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا» الكتاب المنزل إليك يا سيد الرسل غافلون عما تتلوه عليهم من أحكامه جاهلون معناه عمون عن مغزاه، فهم عن كتاب أعمالهم أغفل وأجهل وأعمه «وَلَهُمْ أَعْمالٌ» أخر خبيثة غير ما ذكرناه «مِنْ دُونِ ذلِكَ» الذي ذكر(4/355)
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
وأسفل منه وهي فنون كفرهم ومعاصيهم العظيمة كطعنهم بالقرآن والنبوة وإنكارهم البعث والسخرية بنا بجعلهم لنا شريكا وولدا وصاحبة، أخرج ابن المنذر عن ابن عباس أن المراد بالغمرة الكفر والشك وان ذلك إشارة إلى هذا المذكور، والمعنى أن لهم أعمالا دون الكفر. وأخرج ابن جرير عن قتادة إن ذلك كهذا إشارة إلى ما وصف به المؤمنين من الأعمال الصالحة أي لهم أعمال متخطية لما وصف به المؤمنون، أي أهذا وما وصفوا به مما وقع في حيّز الصلاة فما بعدها، وهذا غاية في الذم «هُمْ لَها عامِلُونَ» 63 معتادون عليها لا يتركونها لسابق شقائهم، وهم لا يزالون على أحوالهم القبيحة لا يتذكرون عاقبة أمرهم «حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ» المترفون والرؤساء والأغنياء والقادة «يَجْأَرُونَ» 64 يستغيثون ويضجّون جزعا، فإذا ذاك يحسون بما يراد بهم ويقال لهم «لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ» ولا تجزعوا وتضجروا فإنه لا ينفعكم، لأنكم لم تعملوا خيرا لتجدوا من ينصركم لأجله «إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ» 65 لعدم تقديمكم لنا عملا يوجب نصرتكم، ولم تطلبوا النّصر منا في الدنيا لنغيثكم ونرحمكم في هذه الدار، وإذ لم تفعلوا فاطلبوها من أوثانكم الذين كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم
«قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ» من قبل رسلي أنه لا إله غيري فاعبدوني واسمعوا قول رسلي، فأبيتم وأرادت رسلنا تقديمكم إلينا بالأعمال الصالحة «فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ» 66 ترجعون القهقرى لا تلتفتون إليهم ولا إلى ما جاءوكم به، والنكوص المشي إلا الوراء وهي أقبح مشية، إذ لا يرى ما ورائه، الذي هو أمامه، والمعنى أنكم كنتم تتأخرون عن قبول الإيمان حال كونكم «مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ» متعظمين بالبيت الحرام، لأنكم سكانه وأهله، وذلك أنهم كانوا يقولون نحن سكان بيت الله وجيرانه وأهل حرمه، لا يظهر علينا أحد، ولا نخاف من أحد، ولو كانوا لم يستكبروا وأطاعوا وأذعنوا لمن أرسلنا إليهم لما خافوا، ولكنهم استكبروا وكفروا فلم ينفعهم البيت، لأنه قد يشفع لمن آمن بربه وصدق رسله. هذا وعود الضمير إلى غير مذكور جائز إذا كان مشهورا متعارفا راجع (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وقوله تعالى (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) الآية 32 من(4/356)
سورة ص ج 1 فإن الضمير يعود في الأول للقرآن، وفي الثاني للشمس لمعلوميتهما مع عدم سبق ذكرهما استغناء بالمشهور المتعارف دون حاجة للتبينة إليهما. وقيل إن الضمير في هذه الآية يعود إلى القرآن المشتمل على الآيات الوارد ذكرها في قوله (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) أول الآية 66 المارة، والأول أظهر، وهو مروي عن ابن عباس. وان افتخارهم بالبيت وترنمهم بأنهم خدامه وقوامه، وأنهم الآمنون به من الناس، والناس يخافون من غيرهم أشهر من أن يذكر. وقال بعض المفسرين بعود الضمير لحضرة الرسول وليس بشيء، لأنهم لا يعترفون به، فكيف يعتزون به ويستكبرون، ولو كان مرادا هو أو القرآن لقالوا عنه لا به والله أعلم. ولأنهم نافرون من الله ورسوله وكل منهم يمضي نهاره وليله «سامِراً» لأنهم كانوا طيلة أوقاتهم يسمرون بالطعن في آيات الله ورسوله ويتحازرون عليها أهي سحر أم شعر أم كهانة إلى غير ذلك. والسمر يطلق على حديث الليل فقط، ولفظ سامر جاء حالا ثانية بعد مستكبرين «تَهْجُرُونَ» 67 الأيمان بها وبمن جاءكم بها من هجر إذا هذر وتكلم بما لا يعلم، أو ترك وأعرض، أو من أهجر إذا أفحش بالقول، وخير الثلاث الوسط، لأنه أكثر مناسبة بالمعنى.
مطلب توبيخ الكفرة على الطعن بحضرة الرسول مع علمهم بكماله وشرفه وخطبة أبي طالب:
قال تعالى «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ» الذي ذكر في تلك الآيات ويستدلوا بها على صدق الذي جاءهم بها؟ والاستفهام لإنكار الواقع واستقباحه، أي فعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار والهجر لأنهم لم يتدبروا معاني تلك الآيات المنزلة لخيرهم، ولم يعلموا ما فيها من الإعجاز حتى يؤمنوا بأنها الحق من ربهم. «أَمْ» منقطعة بمعنى بل للإضراب والانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى توبيخ آخر، والاستفهام هنا لإنكار الوقوع، أي بل «جاءَهُمْ» من الآيات «ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ» 68 ولذلك استبعدوها وأنكروها فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال، مع أن إرسال الرسل وإنزال الآيات على البشر سنة قديمة له تعالى لا تكاد تنكر، وان ما جاءهم به محمد من جنس ما جاء به الأنبياء قبله لأممهم. ثم انتقل إلى توبيخ(4/357)
ثالث والاستفهام فيه لإنكار الوقوع أيضا فقال «أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ» وهو معروف عندهم بالأمانة والصدق وحسن الأخلاق ووفور العقل وشرف النسب وعزة الحسب والوفاء بالوعد والعهد والصدق وغيرها من الآداب الحسنة «فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ» 69 أي أيقدرون أن ينكروه مع وضوحه عندهم ومعلوميته بالأخلاق الفاضلة. وفي هذه الآية دليل قاطع على أنهم يعرفون محمد صلّى الله عليه وسلم بأنه على غاية من الكمال ونهاية من الوقار، ولولا ذلك لأنكروا على أبي طالب خطبته التي قرأها يوم عقد نكاحه على خديجة رضي الله عنها بحضور رؤساء قريش، إذ قال فيها: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل وضئضىء معد، وعنصر مضر، وجعلنا خدمة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم ان ابن أخي محمد بن عبد الله لا يوازن يرجل إلا رجح به، فإن كان في المال قلّة فإن المال ظل زائل وأمر حائل، ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقال وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل إلخ.
ولم ينكر أحد منهم شيئا من ذلك إلا بعد ادعائه الرسالة، حسدا وبغيا وخوفا على الرياسة التي لهم شيء منها. قال تعالى «أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ» أي ليس الأمر كما يقولون إن ما جاءهم به عبارة عن سحر وكهانة وغيرهما، وإنما «جاءَهُمْ بِالْحَقِّ» الذي لا محيد عنه وهو التوحيد للإله ودين الإسلام ودين إبراهيم عليه السلام الذي تضمنته تلك الآيات الدالة على صدقه وأمانته، وقد اشتهر عندهم بالأمين «وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» 70 لأن جبلّتهم مطبوعة على الكذب، وطبيعتهم مجبولة على الزيغ، وإنما قال أكثرهم لأن منهم من يعرف أحقية ذلك كله، وإنما لم يعترف به حذرا من تعيير قومه لا كراهة به، وعليه فيكون أقلهم تاركا للإيمان أنفة واستكبارا عنه وخوفا من توبيخ قومه، وأن يقولوا له صبوت أي تركت دين آبائك، وانك احتجت لطعام محمد وغير ذلك مما مر في الآية 14 من سورة فصلت المارة، كراهة لحضرته المقدسة تبعا لأهوائهم «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ» فيما يعتقدون من الشرك وغيره «لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» وهذه الآية قريبة في المعنى لقوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) الآية 22 من(4/358)
سورة الأنبياء المارة «وَمَنْ فِيهِنَّ» لفسد أيضا، وقد خص العقلاء لأن غيرهم تبع لهم، وهذا أيضا انتقال التوبيخ خامس. قال تعالى «بَلْ» لم نتّبع أهواءهم ولكن «أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ» قرآنهم على يد رسولهم، وقد أضافه إليهم لأنه منزل لهم «فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ» المختص بهم «مُعْرِضُونَ» 71 وهو فخرهم وشرفهم، قال تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) الآية 44 من الزخرف المارة، وفيها معنى الاستفهام، أي المعرضون عن ذكرهم الذي آتيناه إباهم وهو مجدهم وعزهم، كيف يكون ذلك منهم بل يجب أن يتمسكوا به ويعضوا عليه بالنواجذ، لا أن يعرضوا عنه، وهذا انتقال سابع لتوبيخ آخر. قال تعالى «أَمْ» متعلق بقوله (أم يقولون به جنّة) أي يزعمون أنك يا محمد «تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً» أجرا وجعلا على أداء الرسالة بمقابل نصحك لهم وإرشادهم إلى الحق ولذلك لا يؤمنون بك، كلا لا نطلب منهم شيئا على أداء وحي ربك «فَخَراجُ رَبِّكَ» يا محمد أي رزقه «خَيْرٌ» لك من الدنيا، وثوابه في الآخرة أخير مما يتصورونه لسعته ودوامه وعدم وجود المنّة فيه. والخراج بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غير ذلك، وهو في الأصل ضريبة الأراضي المعطاة إلى الدول، ففيه إشعار بالكثرة واللزوم بالنسبة إليه تعالى، ولذلك عبّر الله به عنه، وقرىء خرجا وهما في المعنى سواء «وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» 72 لك في الدنيا والآخرة «وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ» يا سيد الرسل بلا مقابل «إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 73 بوصلهم إلى الجنة دائمة النعيم «وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» وينكرون البعث والحساب والعقاب والثواب، كقومك وأمثالهم لا يميلون إلى دعوتك السامية المستقيمة لأنهم «عَنِ الصِّراطِ» المؤدي الدين الحق المنتهي لرضاء الله القائد لجنانه «لَناكِبُونَ» 74 عادلون عنه مائلون إلى الاعوجاج «وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا» لتمادوا لأن اللجاج التناهي في الخصومة والتمادي في العناد أي لبقوا «فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» 75 لم ينزعوا عنه ولم يتركوه، والعمه عمى القلب والتردد في الأمر والحيرة في الهوى، كمن يضل عن الطريق لا يدري أين يتوجه، فلا رأي له ولا دراية.(4/359)
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)
مطلب إصابة قريش بالقحط ثلاث مرات، واعترافهم بقدرة الله وإصرارهم على عبادة غيره، ومتعلقات برهان التمانع:
قال تعالى «وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ» قريشا قوم محمد «بِالْعَذابِ» القحط ليرجعوا إلى الله وهو أشد عذاب الدنيا «فَمَا اسْتَكانُوا» ما خضعوا ولا لجأوا «لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ» 76 إليه ليكشفه عنهم بل أصروا على كفرهم.
وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصلي في مكة في الحرم الشريف فألقى عليه بعض المشركين سلى جزور، فقال اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف. فأصابهم القحط، فقال أبو سفيان تزعم يا محمد أنك بعثت رحمة للعالمين، فقال بلى، فقال أنشدك الله والرحم، فإن قومك أكلت القد والعظام وأنهكهم الضر، فادع الله أن يكشف عنهم، فدعا فأنزل الله هذه الآية استشهادا على عدم خضوعهم وعلى دوامهم على حالتهم لقوله تعالى (وَما يَتَضَرَّعُونَ) وهذا القحط غير القحط الذي وقع بمكة بعد الهجرة كما ذكره السيد برهان الدين الحلبي في سيرته، وهذا غير الجوع الذي أصابهم بسبب منع ثمامة بن أثال الحنفي الميرة عنهم حينما جاءت به سرية محمد بن مسلمة التي بعثها صلّى الله عليه وسلم إلى بني بكر بن كلاب، فأسلم بعد أن امتنع ثلاثة أيام، ثم خرج معتمرا فلما قدم بطن مكة لبّى، وهو أول من دخلها ملبيا. ومن هنا قال الحنفي:
ومنا الذي لبّى بمكّة معلنا ... برغم أبى سفيان بالأشهر الحرم
فأخذته قريش وأتبوه على تغيير دينه، فقال لهم اتبعت خير دين، دين محمد الأمين صلّى الله عليه وسلم. ثم قال والله لا يصلكم حبة من اليمامة حتى يأذن رسول الله، ثم منع الميرة عن أهل مكة. فكتبت قريش إلى رسول الله وهو في المدينة تستغيث به مما أصابها من الجوع، فأذن لثمامة أن يمتاروا، وهذه الحادثة قبل الفتح، وعلى هذا يكون القحط أصاب قريشا ثلاث مرات والله أعلم. قال تعالى «حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ» فيما يستقبل من الزمن وهو إنزال السيف فيهم وأمر الرسول بقتالهم وقسرهم وإجلائهم «إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» 77 آيسون خائبون متحيّرون. وفي هذه الآية دلالة على قرب الهجرة وفتح الباب(4/360)
الذي سيكون بعدها، إذ أشار الله عنها ثلاث مرات، وسيأتي الإذن بها في ذكرها رابعا كما ستعلمه بعد. قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ» لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا ولكنكم «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» 78 الله على نعمه ولم تصرفوها لما خلقت لها ولم تقدروها حق قدرها ولم تؤدوا شكرها لخالقها، وإذ نفى عنهم قليل الشكر، فالكثير منتف من باب أولى. ولفظ ما يدل على أنهم يشكرون شكرا لا يذكر لقلته «وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ» خلقكم وبثكم «فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» 79 يوم القيامة للحساب والجزاء «وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ» لا لغيره «اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» في الزيادة والنقص، والظلمة والضياء، والحر والقر، ونعمة الاستراحة في الأول وطلب العمل في الثاني «أَفَلا تَعْقِلُونَ» 80 صنائع الله ومنافعه التي أسداها إليكم فتستدلوا بها على عظمته، وتشكروه حق شكره، وتؤمنوا بالله ورسوله «بَلْ قالُوا» وهذا انتقال ثمن، أي قال هؤلاء الكفرة مع توالي نعمنا عليهم «مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ» 81 وهو أي قول الأقدمين «قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ» 82 بعد ذلك، استفهام إنكار وتعجب معرضين عن التفكر والتدبر جانحين عن الاتعاظ والاعتبار قائلين كيف يكون هذا؟ وإنما «لَقَدْ وُعِدْنا» بالحياة بعد الموت «نَحْنُ» من قبلك يا محمد «وَآباؤُنا» من قبل وعدوا من قبل أمثالك «هذا» الوعد نفسه «مِنْ قَبْلُ» أن توعدنا أنت، وإذ لم نقف له على حقيقة فنقول لك «إِنْ هذا» الوعد ما هو بالوعد الحق وما هو «إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» 83 وخرافاتهم الواهية لا غير، ومن هنا يقال في ضرب المثل حديث خرافة. ونظير هذه الآية الآية 67 من سورة النمل في ج 1. وخرافة هذا قيل إنه استهوته الجن سنين فلما تركته صار يحدث قومه بما رأى من عجائبهم بما لا تصدقه عقولهم، ولهذا صاروا كلما سمعوا شيئا لا يعقلونه يقولون حديث خرافة. هذا وبالنظر لظاهر الآية قد يفهم أنه جاء لآبائهم رسل وردوا عليهم بما ردوا به على محمد مع أنه لم يأتهم رسول ما بعد إسماعيل الذي لم يره آباؤهم، وإنما قالوا ما قالوا بالنسبة لما سمعوه من أخبار الأمم الماضية المكررة(4/361)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)
سيرهم لديهم، لأن شأنهم في الأخذ والرّد شأنهم. قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل على طريق الاستفهام لقومك «لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها» من الخلائق والنبات والمعادن والمياه «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» 84 وتدعون العلم؟ فإنهم لا شك «سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ» لهم بعد إقرارهم هذا «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» 85 أنكم من جملة من عليها، وإنكم مملوكون لله، وأنه قادر على إبادتها كما خلقها، فتعلمون أنه قادر على إعادتكم بعد موتكم فتتعظون وتؤمنون
«قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» 86 فإنهم مضطرون وملجئون بأن «سَيَقُولُونَ لِلَّهِ» مربوبة ومملوكة «قُلْ» لهم بعد اعترافهم «أَفَلا تَتَّقُونَ» 87 خالقها أن يسلط عليكم من فيها من الملائكة وما فيها من الصواعق والبرق والبرد، فيهلككم دفعة واحدة، لعبادتكم غيره، أفلا تستدلون بأن من يقدر على خلق ذلك يقدر على إعادة الأموات أحياء «قُلْ» يا أكمل الرسل لقومك على طريق التعجيز ثالثا «مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ» في السموات والأرض من نام وغيره «وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ» يؤمن كل أحد من خوفه ولا يقدر أحد أن يؤمن من أخافه ولا يخيف من آمنه، وهو يغيث من استجار به، ويكشف ضره إن شاء «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» 88 أحدا يقدر على مثل هذا، فاذكروه لنا أيها الناس، وانهم حتما «سَيَقُولُونَ» ان هذه الخصوصية «لِلَّهِ» وحده فقط «قُلْ» لهم إذا كنتم تعترفون بذلك كله «فَأَنَّى تُسْحَرُونَ» 89 وتخدعون وكيف تنصرفون عن الحق إلى الباطل، وما ذلك إلا لأنكم لا تنتفعون بحواسكم إذ لا تحسنون استعمالها والوقوف على ما تدل عليه، ولا تعلمون إلا مظاهر الأشياء.
وقرىء في الآيتين الأخيرتين (الله) بلا حرف الجر وهي قراءة على الظاهر، وباللام على المعني، وكلاهما جائز، فلو قيل لك من صاحب هذه الدار فقلت زيد كان جوابا عن لفظ السؤال، ولو قلت لزيد كان على المعنى، لأن معنى من صاحب هذه الدار لمن هي فيصح المعنى، وقد أنشد الزجاج على الأول:
وقال السائلون لمن حضرتم ... فقال المخبرون لهم وزير
وأنشد صاحب المطالع للثاني:(4/362)
إذا قيل من رب المزالف والقرى ... ورب الجياد الجرد قلت لخالد
وتشير هذه الآيات الثلاث لتقريعهم وتوبيخهم على عبادة غير الله المالك لهذه الأشياء المتصرف بها القادر على كل شيء، وتنبيه على أن الفاعل لتلك قادر على إحيائهم بعد موتهم، وأن إنكارهم وجحودهم ما هو إلا محض عناد وعتو بعد اعترافهم بأن الله تعالى الخالق المالك للسموات والأرض ومن فيهما وعليهما وتحتها وفوقهما.
قال تعالى «بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ» هذا إضراب عن قولهم أن الإخبار بإيجاد البعث من أساطير الأولين، أي إننا يا سيد الرسل لم نأتهم بما فاهوا به، وإنما أتيناهم بالصدق وأخبرناهم بما أخبرناهم بالحق «وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» 90 في جحودهم ونسبة الولد والصاحبة والشريك، ولهذا أكد فريتهم هذه بقوله «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ» فكيف ينسبون إليه الملائكة بأنها بناته كما نسب اليهود والنصارى بنوة عزيز والمسيح إليه من تلقاء أنفسهم أيضا، تعالى عن ذلك، ثم أكد الجهة الأخرى بقوله «وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ» آخر قط فهو المتفرد بتدبير ملكه المبرأ عن المعين، فكيف ينسبون له الشريك؟ وقد قال إنما هو إله واحد، وقال وأمتكم واحدة، ونهى عن التفرق في الدين، ونهى عن الاختلاف فيما جاءت به الرسل، لأن طريقتهم واحدة، وأصل الدين الذي أمروا باتباعه واحد، والمرسل والشارع الحقيقي هو الواحد واحد، راجع الآية 52 المارة والآية 59 من سورة الأنعام المارة وما ترشدك إليه والآية 59 من سورة الأنبياء المارة أيضا، ثم علل ذلك بقوله جل قوله «إِذاً» لو كان كما يزعمون من وجود الشريك «لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ» ليختص به منفردا عن الآخر ولا يشركه فيه، ولا يرضى الانقياد لغيره، ولامتاز ملك كل منهما عن الآخر ومنعه من الاستيلاء عليه «وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ» في الخلق والقدرة والعظمة وغالبه عليها ليكون أكبر منه ولبسط سلطانه عليه كما يفعل ملوك الدنيا، وإذ لم ير شيئا من ذلك ولا أثر للتمايز والتغالب والتعاظم في الملك مما يقع لملوك الدنيا. فاعلموا أيها الناس أنما هو إله واحد بيده ملكوت كل شيء في السماء والأرض، راجع الآية 22 من الأنبياء المارة في برهان التمانع، ثم نزّه ذاته الطاهرة عن تقولاتهم هذه كلها بقوله(4/363)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)
«سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ» 91 الحضرة الإلهية المقدسة مما هو من شأن البشر. وهذه الآية في معرض الجواب لمن حاجّ حضرة الرسول من المشركين، فلا محل للقول بأن (إذا) لا تدخل إلا على كلام مشتمل على الجواب والجزاء، لأن قوله لذهب وقع جزاء وجوابا ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل، لأن الشرط محذوف تقديره ولو كان معه آلهة، وإنما حذف لدلالة قوله (وما كان معه من إله) تأمل. ثم وصف الله نفسه المقدسة عن تفوهاتهم بقوله «عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» 92 وتبرأ عما لا يليق به، ويا خاتم الرسل «قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي» في حياتي الدنيا «ما يُوعَدُونَ» 93 به من العذاب الذي ستنزله عليهم يا «رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» 94 منهم فتعذبني بعذابهم، أي إذا أردت أن توقع بهم عذابك فنجني من بينهم كما نجيت أنبياءك ومن آمن بهم من بين أقوامهم الكافرين، وهذا إظهار للعبودية، لأن النبي له أن يسأل ربه ما علم أنه يفعله ويستغيث به مما علم أنه لا يفعله تواضعا، قال تعالى مجيبا لنبيّه «وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ» 95 وهو جواب أيضا على إنكارهم موعد نزول العذاب وضحكم منه
ولكن يا سيد الرسل «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» بالخصلة التي هي أرفق وأوفق، وذلك بأن تصبر على أذاهم وتعرض عن معاداتهم وتصفح عن طلب تعذيبهم الآن، ومفعول ادفع «السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ» 96 به ألوهيتنا وينعتون نبوّتنا، وهذه الآية ليست منسوخة بآية السيف الآتية بعد كما قاله بعض المفسرين، لأن المداراة مطلوبة في مثل هذا، ومحثوث عليها في كل الأحوال، ما لم تثلم بالدين، لا سيما إذا كان هناك أمل مرتقب بقبولهم النصح ورجوعهم عن الغي، أي اجعل يا محمد جواب إساءتهم لك إحسانا، ولا يهمنّك شأنهم. ولما أن أشار الله تعالى لنبيه بأن يقابل إساءتهم بالإحسان وهو بمثابة النهي عن مقابلة السيئة بالسيئة، أتبعه بما يقوي لبّه، وزيادة على ذلك الالتجاء إليه بقوله عزّ قوله «وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ» 97 نزعاتهم ووساوسهم، لأنهم يحثون الناس على السيئات والهمز الدفع والتحريك كالهز والأز، ومنه مهماز الرائض، أي أن الشيطان يهمز(4/364)
الناس على فعل الشر كما تهمز الراضة الدواب حثالها على الشيء. وقيل أيضا يا سيد الرسل «وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ» 98 أمرا من أموري كي لا تساق نفسي إلا إلى الخير كما خلقت له، وهذا إخبار من الله بأن يكف عن قومه ويصبر على أذاهم ويديم لهم النصح حتى حين الوقت المقدر لإيمان من يؤمن وإصرار من يصر.
ثم أخبره بما يكون مصيرهم فقال «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ» 99 إلى الدنيا وقد جمع الضمير لما هو شائع لدى العرب أن يخاطبوا الواحد بلفظ الجمع تعظيما وتبجيلا كيف والمخاطب هو رب المخاطبين. وعلى هذا قوله:
ألا فارحموني يا آل محمد ... فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل
وقول الآخر:
وإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
النقاخ الماء البارد، والبرد النوم. ثم علل طلبه بقوله «لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ» الفرصة بالدنيا وضيعتها فأعدني يا رب إلى المحل الذي تركته في الدنيا لأتدارك ما فات مني، وهيهات، قال قتادة ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات ولكن تمنى ان رجع ليعمل بطاعة الله، فرحم الله امرأ عمل في دنياه ما يتمناه الكافر إذا نزل به العذاب. قال تعالى «كَلَّا» لا سبيل لك للرجوع. وكلا أداة زجر وردع، راجع بحثها مفصلا في الآية 14 من سورة الشعراء في ج 1، وهذه الكلمة التي يطلب فيها الرجعة «إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها» لا محالة، وكل كافر سيقولها في ذلك الوقت بسبب استيلاء الحسرة والندم على أمثالهم، ولكنهم لا يجابون، لأن الوقت ليس بوقت إجابة، ولو أجابهم لما بقي للنار نصيب من أحد، لأن كل أهلها يقولها، وكيف يرجعون إلى الدنيا «وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ» حاجز حائل بينهم وبين الرجوع، باق مستقر «إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» 100 من قبورهم، وليس معنى الغاية أنهم يرجعون إلى الدنيا بعد البعث، وإنما هو إقناط كلي للعلم أنه لا رجعة بعد الموت إلى الدنيا، وإنما مصيرهم بعده إلى الآخرة «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ» تقدم ما فيه في الآية 67 من سورة الزمر المارة.(4/365)
مطلب في التقاطع وعدم الالتفات إلى الأقارب والأحباب والمحبة النافعة وغيرها:
«فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ» بل فيه يفر المرء من أخيه وابنه وأبيه وصاحبته، ولا ينفع فية أحد أحدا إلا من يؤهله الله للشفاعة فإنه يشفع لمن يشاء «وَلا يَتَساءَلُونَ» 101 سؤال تواصل وتوادد وتحابب وتخالل كما كانوا في الدنيا لأن كلّا مشغول بنفسه. وقد يقع سؤال عتاب وخصام ومجادلة بين العابدين والمعبودين والشيطان وأتباعه واخوان السوء، راجع الآية 67 من سورة الزمر والآية 21 من سورة إبراهيم والآية 47 من سورة الزخرف في هذا البحث. وهذه النفخة هي النفخة الثانية التي يقع بعدها البعث والنشور والحساب بدليل سياق الآية نفسها والآيات بعدها. قال ابن مسعود إنها النفخة الثانية، قال يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة فينصب على رءوس الأولين والآخرين، ثم ينادي مناد هذا فلان بن فلان فمن كان له قبله حق فليأت إلى حقه، فيفرح المؤمن أن يكون له الحق على والده وولده أو زوجته أو أخيه فيأخذ منه، ثم قرأ (فلا أنساب بينهم) الآية.
وقال ابن عباس في رواية أخرى إنها النفخة الثانية (فلا أنساب بينهم) الآية، أي لا يتفاخرون يومئذ بالأنساب كما كانوا يتفاخرون في الدنيا بها ولا يتساءلون سؤال تواصل أو سؤال تعرف، كقول الإنسان للآخر من أنت؟ ومن أي قبيلة أو قرية؟ راجع الآية 66 من سورة الزخرف والآية 31 من سورة إبراهيم المارتين.
وحكم هذه الآية عام، وقيل خاص بالكفرة بدليل سياق الآية. وما أخرجه البزار والطبراني والبيهقي وأبو نعيم والحاكم والضياء في المختارة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي. وأخرج جماعة نحوه عن مسور بن مخرمة مرفوعا. وأخرج نحوه ابن عساكر عن ابن عمر مرفوعا. وهو خبر مقبول لا يرده إلا من في قلبه شائبة، ونسبه بالنسبة للمؤمنين فقط. وإذا كان المراد نفي الالتفات إلى الأنساب بعد النفخة الثانية فتكون للعموم، لأن كلا فيها مشغول بنفسه، أما بعدها فخاصة بالكفرة لأن المؤمنين يشفع بعضهم لبعض كما مر، أما آية الصافات 27 المارة وهي قوله تعالى (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) فلا ترد على هذه، لأن ذلك السؤال(4/366)
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)
سؤال محاججة وجدال كما مر، وقد أرشدناك إلى المواقع الموجود فيها هذا البحث فراجعها.
واعلم أن يوم القيامة طويل وله أحوال مختلفة ومواطن متباينة بعضها مع بعض، يشتد فيه الخوف والفزع فيشتغلون بها عن السؤال، وفي بعضها يتخاصمون، وفي بعضها يسكتون.
وقد ألمعنا إلى ذلك هناك أيضا بصورة مفصلة فراجعها. قال تعالى «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ» في ذلك اليوم «فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» 102 الفائزون الناجحون فيه «وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» وغبنوا فيه فهم «فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ» 103 لا خروج لهم منها «تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ» 104 بادية أسنانهم كاشرون لتقلص شفاههم من الإحراق عابسون والعياذ بالله، وعند ما يستغيثون يقال لهم «أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ» على لسان رسلي في الدنيا يحذرونكم فيها من هول هذا اليوم «فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» 105 ولم تلتفتوا إليها ولا إلى الرسل ولم تصغوا لإرشادهم ونصحهم،
فاعترفوا واعتذروا بما ذكره الله بقوله «قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا» بسبب أعمالنا السيئة «وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ» 106 في الدنيا مجانبين الحق معرضين عن الهدى، غير ملتفتين إلى الرسل «رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها» من جهنم «فَإِنْ عُدْنا» إلى ما كنا عليه من الضلال بعد الآن «فَإِنَّا ظالِمُونَ» 107 أنفسنا مستحقون هذا العذاب، فيجيبهم الربّ جل جلاله بقوله العظيم الزاجر «قالَ اخْسَؤُا فِيها» أيها الكفرة وابعدوا عن هذا القول كما تقول للكلب إذا تبعك أو نبح عليك اخسأ، والمعنى اسكتوا وابقوا فيها أذلاء مهانين لا سبيل لكم إلى الخروج، فانزجروا عن هذه المقالة «وَلا تُكَلِّمُونِ» 108 بعدها في رفع العذاب، لأنكم مخلدون فيه، وهذا آخر كلام أهل النار إذ انقطع رجاؤهم.
روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن أهل جهنم يدعون مالكا خازن جهنم أربعين يوما (يا مالك ليقض علينا ربك) فلا يجيبهم، ثم يقول بعد تلك المدة وهم ينتظرون جوابه (إنكم ما كثون) فيها كما في الآية 77 من سورة الزخرف المارة، ثم ينادون ربهم يقولون بنفس الآية، فيدعهم مثل عمر الدنيا مرتين، ثم يردّ عليهم (اخسؤا فيها) الآية، فما ينبس القوم بعد ذلك بكلمة ان كان إلا الزفير(4/367)
والشهيق. أخرجه الترمذي بمعناه عن أبي داود، وذكره البغوي بغير سند.
قال تعالى ناعيا على هؤلاء الكفرة بعض ما كانوا يعملونه في الدنيا وهو «إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ» أمامكم في الدنيا «رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ 109 فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا» على مقالتهم هذه واستهزأتم بهم «حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي» بتشاغلكم بالهزء بهم فتركتموني ولم تذكروني ولم تنتبهوا وتتيقظوا وتهابوا عذابي وتخافوا عقابي في مثل هذا اليوم «وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ» 110 استهزاء بهم، نزلت هذه الآية في كفار قريش الذين كانوا يسخرون بفقراء المؤمنين الموصوفين في هذه الآية. قال تعالى «إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا» على أذاكم وإهانتكم لهم في الدنيا «أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ» 111 اليوم برضائي وجنتي، ثم التفت جل شأنه يخاطب الكفرة بعد اجتماعهم في الموقف «قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ» أحياء في الدنيا وأمواتا في البرزخ الذي دفنتم فيه «عَدَدَ سِنِينَ» 112 كم هنا منعوتة بلبثتم وعدد تمييز «قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» وهذا بالنظر لطول يوم القيامة وعظم هوله وشدة فزعه وإلا فلبثهم في الدنيا أعواما كثيرة وفي البرزخ أكثر وأكثر، ثم انهم لما رأوا قولهم هذا غير موافق للواقع قالوا لا نعلم «فَسْئَلِ الْعادِّينَ» 113 الحفظة الموكلين بنا وإنما عرفوهم عادين لمدتهم لما تبين لهم من الصحف التي نشروها بإحصاء أعمالهم فقالوا هؤلاء الذين جمعوا أقوالنا وأفعالنا يعرفون مدة لبثنا «قالَ» تعالى قوله «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا» في الدنيا والبرزخ في جنب ما ستلبثونه اليوم «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» 114 قدره أو تعلمون عاقبة أمركم لما اغتررتم في الدنيا لأنها لا تعد كمية ولا كيفية بجنب الأخرى، ثم طفق يوبخهم فقال «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً» لعبا أو باطلا ولهوا «وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» 115 بل تكونون هباء سبهللا، كلا، بل خلقناكم لحكمة وليكون مصيركم إلينا. روى البغوي بسنده عن الحسن قال: إن رجلا مصابا مرّ به على ابن مسعود فرقاه في أذنه (أفحسبتم) الآية إلى آخر السورة، فبرىء فقال صلّى الله عليه وسلم بماذا رقيته في أذنه، فأخبره فقال صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو أن رجلا(4/368)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
موقنا قرأها على جبل لزال.
ثم نزه نفسه المنزهة عما وصفه به المشركون فقال «فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» 116 وصفه بالكريم، لأن الرحمات تنزل على عباده من قبله وهو أعظم مخلوقات الله تعالى، راجع الآية 7 من سورة يونس المارة «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ» ولا حجة ولا دليل، وإنما هو اختلاق من نفسه، وهذا الكافر الذي يقول هذه المقالة القبيحة «فَإِنَّما حِسابُهُ» عليها وجزاؤه يكون في الآخرة «عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» 117 بها بل يخيبون ويشقون ويخسئون «وَقُلْ» يا سيد الرسل «رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ» 118 لأن من أدركته رحمتك أغنته عن رحمة من سواك ورحمة الغير لا تغني عن رحمتك. واعلم أنه تعالى بعد أن بين أنه هو الملك الحق وأن لا رب غيره أردفه ببيان أن من ادعى ربا غيره فقد افترى باطلا، ثم أتبعه بأن من جرؤ على ذلك الذي لا بينة له عليه فجزاؤه العقاب الأليم، إذ قال (إنما حسابه عند ربه) إلخ وناهيك به محاسب. أخرج البخاري ومسلم والترمذي عن أبي بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعوه في صلاتي، قال قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. هذا والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة السجدة عدد 25 و 75- 32
نزلت بمكة بعد سورة المؤمنين عدا الآيات ص 16 إلى 20 فإنهن نزلن بالمدينة.
وهي ثلاثون آية، وثلاثمائة وثمانون كلمة، وألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفا، وتسمى سورة المضاجع، ومثلها في عدد الآي سورة تبارك وسورة الفجر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «الم» 1 تقدم ما فيه والله أعلم بما فيه، راجع أول سورة لقمان المارة، وعلى أنه اسم للسورة يكون(4/369)
مبتدأ خبره قوله تعالى «تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» 2 لجميع العالمين المدركين «أَمْ» استفهام إنكار، ويفيد الانتقال من كونه منزلا من الله بلا شك ولا شبهة إلى ما يتفوه فيه الكفرة مما حكى الله عنهم بقوله عز قوله «يَقُولُونَ افْتَراهُ» محمد من تلقاء نفسه واختلقه كلا «بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» يا سيد الرسل لا يقدر أحد أن يبتدع مثله وقد أنزلنا عليك «لِتُنْذِرَ» به «قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» هم قومك إذ لم ينذروا من قبل أحد بعد إسماعيل عليه السلام الذي اندرست شريعته وتفادم عهده ولم يترك لهم كتابا يرجعون إليه من بعده، راجع الآية 44 من سورة سبا المارة وأول سورة يس في ج 1، «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» 3 به.
مطلب في أهل الفترة من هم، ونسبة أيام الآخرة لأيام الدنيا.
قال ابن عباس هذا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، ولا حجة في هذه الآية على عدم عموم رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم أو أنها قاصرة على العرب لعدم وجود حجة القصر، والآيات في التعميم كثيرة، إلا أنه لما كانت الأمم غير العرب تتهافت عليها الرسل واحدا بعد واحد- كما مر في الآية 44 من سورة المؤمنين المارة- دون العرب، قال تعالى (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ) الآية، ولأنهم أمّيّون ولا كتاب لديهم يقتدون بما فيه من أمور دينهم، بخلاف اليهود والنصارى فإنهما بعد انقطاع الرسل عنهم ملزمون باتباع شرائع من قبلهم ورسلهم الذين كانوا يدعونهم بمقتضاها، إذ أن دعوتهم منحصرة بهم، وقد جاء في الإنجيل على لسان عيسى عليه السلام (إني حقا أرسلت إلى بني إسرائيل) وفي نسخة (إلى خراف إسرائيل) فثبت من هذا أن العرب لم تدعهم إلى الله رسل بني إسرائيل، ولما كان كل نبي تنقطع أحكام نبوته بعد موته إلا محمدا صلّى الله عليه وسلم لأنه خاتم النبيين والمرسلين ورسالته عامة إلى الخلق كافة، وكانت ذرية كل نبي ملزمة باتباع شريعته، كان على قريش أن تلتزم شريعة إسماعيل عليه السلام كما كان أوائلهم متمسكين بها، إلا أنه فشت فيهم عبادة الأوثان التي أحدثها عمرو الخزاعي وعكفوا عليها إلا ما ندر منهم كزيد بن عمرو بن نوفل العدوي والد سعيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، وقد عاصر النبي صلّى الله عليه وسلم، وقالوا إنه آمن به(4/370)
قبل بعثته وقد مات إبان بناء الكعبة عام 25 من ولادته صلّى الله عليه وسلم الواقعة عام الفيل سنة 570 من ولادة عيسى عليه السلام، وكان يعيب على قريش ذبحهم لغير الله، وقس بن ساعدة الإيادي كان مؤمنا بالله وعاصر حضرة الرسول أيضا، وتوفي أوائل البعثة الشريفة، وخالد ابن سنان العيسي كذلك كان مؤمنا. وما قيل إنهم رحمهم الله كانوا أنبياء لا صحة له البتة، أما ورقة بن نوفل فقيل إنه تنصر. هذا، ولا تعارض بين هذه الآية وآية فاطر 24 وهي (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) كما أوضحناه في تفسيرها، فراجعها يتبين لك أنه خلا أول العرب أي سلف نذير فيهم وهو إسماعيل عليه السلام، إلا أنه لم يرسل إليهم رسول بعده وبقوا طيلة هذه المدة العظيمة مهملين دون رسول ولا كتاب، بيد أن الأمم الأخرى تتابعت عليهم الرسل.
وقال بعض المفسرين إن (ما) هنا في هذه الآية اسم موصول، وعليه يكون المعنى لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك، يريد بهذا النذير إسماعيل، وهو ليس بشيء، لأن أكثرهم لا يعرفون أنه كان هناك نبي أم لا، وما جرينا عليه بأن (ما) نافية أنسب بالمقام وأولى بالمعنى وأقوى حجة وبرهانا. هذا وإذا علمت نفي مجيء رسول إليهم تعلم أنهم لم يؤاخذوا على عدم القيام بالشرائع، لأنها لا تدرك إلا من قبل الرسول ولكنهم يؤاخذون بعدم معرفة الله وتوحيده، لأن العقل السليم قد يوصل إلى ذلك من غير واسطة الرسل، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 15 من سورة الإسراء في ج 1 فراجعها. أما ما يتعلق في عموم رسالته فقدمناه أيضا في الآية 28 من سورة سبأ المارة. قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» هو المستحق للعبادة وحده، راجع الآية 116 من سورة المؤمنين المارة وما ترشدك إليه تقف على معنى العرش وعظمته. واعلموا أيها الناس أنكم «ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ» يلي أموركم وينصركم غيره «وَلا شَفِيعٍ» دون أمره ورضاه فزعمكم بشفاعة الأصنام باطلة «أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ» 4 بمواعظ الله وتتعظون بعبره وهو الذي «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» في الدنيا على وجه الحكمة والإتقان فينزله «مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ» مدة دوامها «ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ» ذلك الأمر كله ليحكم فيه وقت(4/371)
فصل القضاء بين الناس في الآخرة، قال تعالى (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) الآية 4 من سورة المعارج الآتية. واعلم أن هذه المسافة ما بين الأرض وسدرة المنتهى التي هي مقام جبريل عليه السلام. قال ابن عباس لعبد الله بن فيروز حين سأله عن هذه الأيام: أيام سماها الله لا أدري ما هي وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم. وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية المذكورة إن شاء الله فراجعه «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ» بالنسبة لتقدير أيامكم أيها الناس «أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» 5 الآن وذلك أن مسافة ما بين الأرض وسماء الدنيا على ما جاءت به الآثار خمسمائة سنة، فيكون صعوده ونزوله ألف سنة، بحيث لو كانت هذه المسافة موجودة وسار عليها ابن آدم فلا يقطعها إلا بألف سنة.
هذا إذا كان العروج لسماء الدنيا فقط، أما إذا كان لمحل صدور الأمر فهو أكثر بكثير كما سيأتي في الآية 4 المذكورة آنفا، «ذلِكَ» الإله العظيم الذي صنع ما ذكر هو «عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» أي ما غاب عن هذا الكون في الآخرة وما عاينوه في الدنيا «الْعَزِيزُ» الغالب أمره كل شيء «الرَّحِيمُ» بأهل طاعته «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ» في الدارين «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ» آدم عليه السلام «مِنْ طِينٍ» 7 وقرأ بعضهم وبدى، وعليه قول ابن رواحه:
باسم الإله وبه بدينا ... ولو عبدنا غيره شقينا
«ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ» نطفة سيّالة من الإنسان مكونة «مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» 8 حقين ضعيف قليل «ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ» أي جعل فيه الشيء الذي اختص به تعالى ولذلك أضافه لنفسه المقدسة تشريفا له وإظهارا بأنه مخلوق كريم على ربه وإعلاما بأن له شأنا بنسبته إلى الحضرة الإلهية يؤيد هذا قوله صلّى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم على صورته، وفي رواية على صورة الرحمن.
وهذه الرواية الأخيرة لم تبق مجالا للتأويل والتفسير، أما الأول فقد قال بعضهم إن الضمير يعود إلى آدم أي على صورته نفسه التي هو عليها وليس بشيء والنفخ على حقيقته، وقدمنا ما يتعلق فيه في الآية 8 من سورة المؤمنين والآية 66 من سورة النحل المارتين، وفيهما ما يرشدك إلى غيرها مما هو مشبع فيه بحثه. واعلم(4/372)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
أن المباشر لهذا النفخ الملك الموكل بذلك، والروح جسم لطيف كالهواء سار في البدن سريان الماء في العود وماء الورد بالورد والنار بالفحم، وقد أقام العلامة ابن الجوزي على هذا مئة دليل تشهد لها ظواهر الأخبار، ولذلك اخترته على غيره من أقوال كثيرة للفلاسفة وغيرهم، وقد أوضحت ما يتعلق به في الآية 84 من سورة الإسراء في ج 1 فراجعه. ثم ذكر جل ذكره ما يترتب على نفخ الروح في الجسد فقال «وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» 9 الله على هذه النعم والحواس العظيمة والجوارح الكريمة التي هي من أبلغ قدرة الله تعالى في الإنسان وأكبرها نفعا له، وقدم السمع لأن الإنسان بسمع أولا ثم ينظر إلى القائل ليعرفه ثم يتفكر بقلبه فيفهم معناه، ولا خلاف في أن السمع أفضل من البصر لإمكان التفاهم مع الأعمى دون الأصم «وَقالُوا» الكفرة منكر والبعث «أَإِذا ضَلَلْنا» غيّبنا وصرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض ووضعنا فيها فلم يبق ما نتميز به عنها بأن تغلغلنا «فِي الْأَرْضِ» حتى كنا من ترابها، قال النابغة يرثي النعمان:
وآب مضلوه بعين جليّة ... وغودر بالجولان حزم ونائل
«أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» بعد ذلك استفهام إنكار وتعجب مما يقول لهم حضرة الرسول انكم تحيون بعد موتكم هذا وتحاسبون على أعمالكم، قال تعالى لا ترد عليهم يا حبيبي فتقول لهم نعم إنكم تخلقون ثانيا، لأنهم ينكرون أكثر من ذلك «بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ» 10 جاحدون، وهذا انتقال من بيان كفرهم بالبعث إلى ما هو أشد وأفظع وهو جحود مقابلة ربهم بالحساب والجزاء لأنهم لو صدقوا بالحياة الثانية لم يصدقوا بأنهم يعذبون ويثابون على ما وقع منهم من خير وشر ولم يصدقوا أن هناك نارا للكافر وجنة للمؤمن، لأنهم ينكرون الحشر الذي هو أول مقدمات لقاء الله وهذه تضاهي الآية 33 من الأنعام المارة،
«قُلْ» لهم يا سيد الرسل بل قد «يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ» لقبض أرواحكم في الدنيا «ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ» بعد موتكم «تُرْجَعُونَ» 11 في الآخرة لا محالة، وهذه رد لقولهم إنا لا نلاقي الله ولا نعود إليه وهو أبلغ(4/373)
من إنكارهم البعث، ولولا تحقق الرجعة إلى الله واليقين بإثابة المحسن وعقاب المسيء لما رأيت من يفعل الخير أبدا ولتوغل الناس في الشر، لأن العامل يعمل رجاء الأجر وخوفا من العقاب. أما العبادة فهي مستحقة لله تعالى، ولو لم يثب عليها ويخلق الجنة لفاعلها والنار لجاحدها لكان جديرا بأن يعبد ويوحد وينزه ويمجّد لذاته المقدسة، إذ ينبغي أن تكون العبادة خالصة لله استحقاقا لربوبيته. قال تعالى «وَلَوْ تَرى» يا محمد في الموقف العظيم يوم الجزاء «إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ» حياء وندما على تفريطهم «عِنْدَ رَبِّهِمْ» يقولون يا «رَبَّنا أَبْصَرْنا» بأم أعيننا ما كنا نكذب به من الحياة بعد الموت «وَسَمِعْنا» الآن تصديق ما أخبرتنا به رسلك «فَارْجِعْنا» إلى الدنيا «نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» 12 الآن بكل ما أتتنا به الأنبياء، فيجيبهم أن لا مجال لإجابة هذا الطلب كما مر، وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمرا عظيما هالك مرآه من أحوال الكافرين وما يحل بهم من أنواع العذاب. قال تعالى «وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها» بأن وفّقناها في الدنيا للإيمان بما أردناه «وَلكِنْ» لم نشأ ذلك إذ «حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» 13 تأكيدا لعدم استثناء أحد من العصاة. ونظير هذه الآية الآية 119 من سورة هود المارة، ثم يقال لهم «فَذُوقُوا» العذاب الأليم «بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» الذي جحدتموه في الدنيا «إِنَّا نَسِيناكُمْ» لا نلتفت إليكم أبدا فنجعلكم كالمنسيين وهو عبارة عن تركهم في العذاب لأن النسيان محال على الله فهو من باب المشاكلة على حد قوله (وجزاء سيئة سيئة مثلها) على قول بعض المفسرين.
ويقال لهم أيضا «وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ» الدائم الذي لا نهاية له «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 14 من المعاصي وذلك بعد أن يطرحوا في النار تنفيذا لعهد الله، لأن أمثالهم لا يؤمنون لسابق شقائهم «إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها» وتليت عليهم «خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» في سجودهم ونزهوه عما يقول الكفرة «وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» 15 عن الإيمان بها وتصديق من أنزلت عليه ولا يأنفون من وضع جباههم على الأرض بل ولا من تمريغ وجوههم(4/374)
في التراب إذلالا لأنفسهم واحتراما لخالقهم وخشوعا لهيبته وخضوعا لجلاله وتعظيما لربوبيته لسابق سعادتهم. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ويسجدون حتى ما يجد أحد مكانا لوضع جبهته في غير وقت الصلاة. وروى مسلم عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويلتا أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار.
وقدمنا في الآية 50 من سورة النحل ما يتعلق بالسجود فراجعه.
مطلب الآيات المدنيات، وقيام الليل، والحديث الجامع، وأحاديث لها صلة بهذا البحث:
قال تعالى «تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ» الفرش وما بمعناها من كل ما يضطجع عليه «يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً» من عقابه «وَطَمَعاً» في ثوابه «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» 16 من فضول أموالهم على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل أداء لشكر ما أولاهم به من النعم وشفقة على عيال الله الذين أنعم عليهم بها من فضله وكرمه.
وهذا أول الآيات التي نزلت في الانتظار للصلاة بعد الصلاة. وقال أنس: نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع حتى نصلي العشاء مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وأخرج مسلم من حديث عثمان بن عفان: من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوها ولو حبوا. والآية واردة في صلاة الليل بعد النوم، لأن سياقها يدل على ذلك، ولا تسمى صلاة الليل تهجدا إلا بعد النوم، وهي كناية عن اشتغالهم بالعبادة وتركهم النوم المستفاد من قوله (تتجافى) أي تتباعد جنوبهم عن النوم. ثم طفق جل شأنه يبين لعباده الذين هذا شأنهم ما لهم عنده من الثواب العظيم في الآخرة الذي يتنافس به المتنافسون بقوله جل قوله «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ» وهم أولئك الكرام الذين مرت خصلتهم الحسنة التي يمجدها لهم ربهم. والتنوين في(4/375)
كلمة نفس يشعر بأنه لا يعلم أحد غيره من نبي مرسل أو ملك مقرب ما حىء لهؤلاء الكرام عنده في الآخرة جزاء تركهم النوم وانصبابهم لطاعة الله «مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» أي شيء عظيم تطيب به أنفسهم وتنشرح به صدورهم «جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ 17» في دنياهم. روي البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: يقول الله تبارك وتعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، اقرؤوا إن شئتم (فلا تعلم نفس) الآية. وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تورمت قدماه، فقلت لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال أفلا أكون عبدا شكورا؟ وهذا الحديث لم تسمعه عائشة عند نزول هذه الآيات، إذ كان عمرها دون الست سنين عند نزولها، لأنه كان قبل الهجرة بسنة تقريبا وهي تزوجت برسول الله بعد الهجرة في السنة الثانية منها، وكان عمرها تسع سنين، وهذا الحديث روته بعد ذلك وجيء به هنا للمناسبة، وهكذا كثير من الأحاديث تذكر بمناسبة الآيات مع أنها قد تكون سمعت من حضرة الرسول قبل نزولها وقد يكون بعده. وروى البخاري عن الهيثم بن سنان أنه سمع أبا هريرة في قصة يذكر فيها النبي صلّى الله عليه وسلم يقول إن أخا لكم لا يقول الرفث يعني بذلك ابن راوحة قال شعرا:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات ما إذا قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وأخرج الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفرة فأصبحت يوما قريبا منه، فقلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال سألت عن عظيم، وإنه ليسير عمن يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنّة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ (تتجافى جنوبهم) حتى بلغ(4/376)
(جزاء بما كانوا يعملون) ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟
قلت بلى يا رسول الله، قال رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد. ثم قال ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال اكفف عليك هذا، فقلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما يتكلم؟ فقال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟. وأخرج الترمذي عن أبي أمامه الباهلي عن رسول صلّى الله عليه وسلم قال: عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، وتكفير للسيئات، ومنهاة عن الآثام، ومطردة الداء عن الجسد. وعن ابن مسعود قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم عجب ربنا من رجلين، رجل ثار عن أوطائه ولحافه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته، فيقول الله عز وجل لملائكته أنظروا إلى عبدي ثار من فراشه ووطائه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله وانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع فرجع حتى أهريق دمه، فيقول الله تعالى أنظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي حتى أهريق دمه- أخرجه الترمذي- هذا، واعلم أن الهيثم المار ذكره في الحديث الأول ليس له في الصحيحين عن أبي هريرة غير ذلك الحديث. قال تعالى «أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ» 18 عند الله أبدا، وهذا استفهام إنكاري، أي لا يستوي المؤمن الموصوف بتلك الأوصاف الفاضلة مع الفاسق قط، بل بينهما بون شاسع. قالوا نزلت هذه الآية في سيدنا علي كرم الله وجهه حينما قال له الوليد بن عقبة بن أبي معيط أسكت فإنك صبيّ وأنا شيخ أبسط منك لسانا وأحدّ سنانا وأشجع جنانا وأملأ حشوا في الكتيبة، فقال له أسكت فإنك فاسق. وظاهر الآية العموم في كل مؤمن وفاسق لأنها واردة بمعرض ضرب المثل ولفظ التنكير يؤيد هذا المعنى الأخير، «أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في دنياهم «فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى» في أخراهم، وهي نوع من الجنان تأوي إليها أرواح الشهداء «نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» 19 من الخير فإذا كان هذا نزلهم فما بالك بما يكرمهم الله به بعد، وهو المعطي العظيم الكريم؟،(4/377)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
راجع معنى النزل في الآية 107 من سورة الكهف المارة «وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا» وأما هنا واردة بمعرض التقسيم موضحة ما للفريقين بالآية قبلها، أي وهذه الطائفة «فَمَأْواهُمُ النَّارُ» في الآخرة فتراهم والعياذ بالله «كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها» لأنهم خالدون فيها، كما أن الطائفة الأولى خالدون في الجنة «وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» 20 في الدنيا، وهذا آخر الآيات المدنيات، ولا يوجد في القرآن آية بتأييد الكافرين في النار إلا في موضعين هذه والآية 33 من سورة الجن في ج 1 هذا في القسم المكي وفي القسم المدني أيضا في موضعين في الآية 169 من سورة النساء وفي الآية 65 من سورة الأحزاب ج 3.
قال تعالى «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى» في هذه الدنيا كالقحط والأسر والجلاء والخذلان والقتل وسائر المصائب فيها، وفسر أبو عبيدة العذاب الأدنى هذا بعذاب القبر وحكي أيضا عن مجاهد ولكن آخر الآية ينفيه ويصرفه لما ذكرناه، «دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ» الذي يوقعه فيكم يوم القيامة وهو الخلود بالنار «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» 21 عن غيهم وبغيهم، أي لعل من سلم من تلك الآفات يرجع إلى الإيمان، أما من أصيب فمات فلا يدخل في هذا الترجي فلو كان المراد بالعذاب الأدنى عذاب القبر لما وجد تلاقيه بالرجوع ليرجى لهم إذ لا رجوع بعده إلى الدنيا «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ» الدالة على أنه واحد وعلى صحة وقوع البعث والجزاء «ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها» فلم يتدبرها وأصر على شركه، وثم هنا لاستبعاد الإعراض عنها عقلا مع غاية وضوحها وعليه قول جعفر بن علية الخارجي:
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
أي أن هذا لا أظلم منه فهو أظلم من كل ظالم إذ لا أكبر منه جرما «إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ» أمثاله المتوغلين في الإجرام «مُنْتَقِمُونَ» 22 منهم بالعذاب الأكبر لأنهم لم يتعظوا بما لا قوه من عذاب الدنيا «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» التوراة «فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ» إليه ولا تشك في إلقاء مثل ذلك الكتاب وجنسه إليك من قبلنا فكما ألقينا إلى موسى وعيسى وداود الكتب(4/378)
ألقينا إليك هذا القرآن أيضا، وإيتاء ذلك الجنس باعتبار إيتاء التوراة وإلقاء باعتبار إلقاء القرآن، ونظير هذه الآية قوله تعالى (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) الآية 14 من سورة الإسراء ج 1، وقال بعض المفسرين: إن ضمير (لقائه) يعود إلى موسى على ما جرينا عليه أولا وهو أظهر، ولكن الأكثر على الثاني أي بعوده إلى محمد كما ذكرناه، ولهذا أثبتنا الوجهين. وقال بعضهم ونسبه لابن عباس لا تشك من لقاء موسى ليلة المعراج بعود الضمير إلى موسى نفسه، واستدل صاحب هذا القول بما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: رأيت ليلة أسري بي موسى رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجلا مربوعا مربوع الخلق إلى الحمرة وإلى البياض سبط الشعر، ورأيت مالكا خازن النار والدجال في آيات أراهنّ الله إياه، فلا تكن في مرية من لقائه. وروى مسلم عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أتيت على موسى ليلة المعراج ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره.
وهذان الحديثان لا شك فيهما، إلا أن الأخذ فيهما يوجب عود الضمير إلى غير مذكور وهو لا يجوز إلا في المتعارف المشهور من المقام والسياق، وهنا ليس كذلك، وعليه فإن عوده إلى الكتاب أنسب وأقرب، يؤيده قوله تعالى «وَجَعَلْناهُ» ذلك الكتاب الذي طلبنا عدم الشك منك في لقائه لأخيك موسى «هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ» 23 كما جعلنا كتابك هدى للخلق كافه «وَجَعَلْنا مِنْهُمْ» أي بني إسرائيل «أَئِمَّةً» أنبياء يقتدى بهم «يَهْدُونَ» الناس «بِأَمْرِنا» إياهم بذلك فيدعونهم إلى ما فيها من دين الله وشريعته «لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا» أولئك الأئمة «بِآياتِنا يُوقِنُونَ» 24 أنها من عند الله إيقانا لا مرية فيه، ويا خاتم الرسل «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ» بين الأنبياء وأممهم وبين المؤمنين والكافرين وبين الظالمين والمظلومين «يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» 25 في الدنيا بالأمور الدينية والدنيوية، وإذ ذاك يظهر المحق من المبطل. قال تعالى «أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ» وقرىء بالنون أي يبين أو نبين والفاعل على كلا الحالين يعود إلى الله «كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ»(4/379)
الخالية وهم الآن «يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ» عند ذهابهم وإيابهم في أسفارهم ولم يعتبروا ويتعظوا «إِنَّ فِي ذلِكَ» أي إهلاك الأمم السالفة وجعل أمتك يمرحون في منازلهم «لَآياتٍ» كافيات للاتعاظ «أَفَلا يَسْمَعُونَ» 26 هذه الآيات وما جرى على أسلافهم فينتبهون من غفلتهم وينتهون عن كفرهم. قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ» اليابسة ذات النبات اليابس المجروز المأكول، والجرز هو القطع أي الأرض المقطوع عنها الماء أو المقطوع نباتها لعدمه. واعلم أنه لا يقال للأرض السبخة التي لا تنبت جرز لأن الله تعالى قال «فَنُخْرِجُ بِهِ» أي الماء الذي سقناه إليها «زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ» من عشه وتبنه «وَأَنْفُسُهُمْ» من حبه وثمره «أَفَلا يُبْصِرُونَ» 27 ذلك فيستدلون به على كمال قدرة الله وإحيائهم بعد موتهم كما تحيا الأرض بعد موتها، أفلا يعتبرون بذلك؟ والأرض السبخة لا تنبت بالطبع ولو أنزل إليها الماء إلا بعد حين بأن تتغير عما هي عليه، وإنما قدّم الأنعام على البشر لأن أول الزرع يصلح لها، ولأنه غذاؤها، والبشر قد يكتفي بغيره. هذا وبعد أن ذكر الرسالة والتوحيد أتبعها بذكر الحشر فقال «وَيَقُولُونَ» مع ذلك كله كأن لم ينزل عليهم شيء ولم يحذرهم أحد أبدا مستفهمين استفهام استهزاء وسخرية «مَتى هذَا الْفَتْحُ» الحكم والقضاء الذي توعدنا به يا محمد أنت وأصحابك «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 28 بقولكم ووعدكم، والفتح بلغة القرآن الفصل والحكم، قال تعالى (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ) الآية 89 من الأعراف ج 1، راجع الآية 15 من سورة إبراهيم المارة، والعرب تسمي القاضي فاتحا، فأنزل الله تعالى جوابا لهم «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الهازئين الساخرين إذا جاء «يَوْمَ الْفَتْحِ» القضاء بين الناس يود الذين كفروا أن يؤمنوا ولكن «لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ» لفوات وقته ولو آمنوا لا يقبل منهم «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» 29 ليعتذروا إذ يأتيهم بغتة على حين غفلة في وقت لا توبة ولا إمهال فيه «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ» يا حبيبي «وَانْتَظِرْ» موعد نصرك عليهم وإهلاكهم كما «إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ» 30 نزول حوادث الزمن فيك وليسوا بمبصرين ذلك. هذا وما قيل إن هذه الآية(4/380)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)
منسوخة قيل لا وجه له، لأنها ختمت بما يدل على التهديد والوعيد وبدئت بما يدل على الإعراض في مناظرتهم، فلا يتعين فيها النسخ. وما قيل إن يوم الفتح هو يوم بدر أو يوم فتح مكة لا يتجه أيضا، لأن الإيمان فيهما مقبول والإمهال موجود، وقد نفى الله هذين فيه، فتعين أنه يوم القيامة يوم الجزاء الذي لا يقبل فيه شيء من ذلك ولا غيره. ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة (ألم تنزيل الكتاب) و (هل أتى على الإنسان) . وأخرج الترمذي عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ (ألم تنزيل الكتاب) و (تبارك الذي بيده الملك) . وأخرج الترمذي عن طاوس قال: تفضلان عن كل سورة في القرآن سبعين حسنة. وأخرج بن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قرأ (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) و (الم تَنْزِيلُ) السجدة بين المغرب والعشاء الأخيرة، فكأنما قام ليلة القدر. وأخرج الخرائطي في مكارم الأخلاق من طريق حاتم بن محمد عن طاوس أنه قال: ما على الأرض رجل يقرأ الم السجدة وتبارك الذي بيده الملك في ليلة إلا كتب له مثل أجر ليلة القدر. وجاء فيما أخرجه أبو عبيد وغيره أنها تأتي يوم القيامة لها جناحان تدافع عن قارئها، وتقول لا سبيل عليه. والأخبار بفضلها كثيرة، وكذلك في فضل تبارك. والله أعلم وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة الطور عدد 26- 76- 52
نزلت بمكة بعد سورة السجدة، وهي تسع وأربعون آية، وثلاثمائة واثنتا عشرة كلمة، وألف وخمسمائة حرفا. لا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «وَالطُّورِ» 1 طور سيناء الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، ويطلق لغة على كل جبل بانفراده،(4/381)
أما إذا وصف فيتقيد بكل جبل ملتفة عليه الأشجار، وإنما أقسم الله به دون غيره لعظم ما وقع عليه منه جل شأنه لسيدنا موسى «وَكِتابٍ مَسْطُورٍ» 2 هو التوراة والله أعلم بدلالة السياق والسباق، يؤيده قوله جل قوله «فِي رَقٍّ» وهو الأديم الذي يكتب عليه بفتح الراء وكسرها من الرقة ضد الصفاقة أي الوقاحة، ثم انه تجوز فيه عما يكتب فيه الكتّاب من ألواح وغيرها أو من الرقة وهي اللطافة، «مَنْشُورٍ» 3 مبسوط مفتوح، وقيل هو عبارة عن صحائف الأعمال استدلالا بقوله تعالى (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) الآية 14 من سورة الإسراء ج 1، وقيل هو القرآن، والأول أولى وأنسب بالمعنى بمناسبة ذكر الطور، ولأن الكتاب الذي أنزل على موسى أنزل ألواحا مكتوبة مفتوحة، قال تعالى (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) الآية 150 من الأعراف في ج 1، ولأن القرآن لم ينزل على محمد مكتوبا تدبر. «وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ» الكائن في السماء السابعة، وسمي معمورا لكثرة زوّاره من الملائكة يعمرونه بالتسبيح والتهليل والتقديس، وجاء في حديث المعراج من إفراد مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى البيت المعمور في السماء السابعة، قال فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ويسمى الفراغ حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض وهو واقع فوقها بحيث لو سقط من قلبه حجر لسقط عليها، وهو تحت العرش كما روي عن علي كرم الله وجهه.
وقال بعض المفسرين إنه الكعبة وعمارته بالحجاج، والأول أولى لذكره صراحة بالحديثين الصحيحين، وشهرته في هذا الاسم دون الكعبة، وقال آخر إنه المسجد الأقصى المعمور بالأنبياء، وهو أضعف مما قبله، لأن هناك ثلاثة بيوت مقدسة:
البيت المعمور، وبيت العزة في سماء الدنيا الذي أنزل إليه القرآن جملة دفعة واحدة، والبيت الحرام بالأرض. وكل منها مشهور لا يغلب أحدها على الآخر. أما المسجد الأقصى فلم يطلق عليه لفظ بيت، لأن الله سماه المسجد الأقصى، وأطلق عليه لفظ القدس، وقد سمى الله الكعبة البيت الحرام «وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ» 5 السماء العالية أو العرش، لأنه سقف الجنة كما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما، يؤيده الحديث المار ذكره في تفسير الآية 18 من سورة المؤمنين المارة. «وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ» 6 الموقد المحمى.(4/382)
مطلب من معجزات القرآن الإخبار عن طبقات الأرض، وعن النسبة المسماة ميكروب:
جاء في الحديث الشريف عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يركب رجل البحر إلا غازيا أو معتمرا أو حاجا وان تحت البحر نارا وتحت النار بحرا. وورد أن البحر طباق جهنم. هذا وقد يظن من لا خبرة له في طبقات الأرض أنه لا يوجد بحر متوقد، مع أنه ثبت أخيرا أن جوف الكرة الأرضية فيه بحر يغلي كالمرجل، ومن انجرته تحصل الزلازل، ومن شظايا معادنه تحصل البراكين.
وهذا من معجزات القرآن العظيم وإخباره بالغيب، إذ لا يوجد إيّان نزوله من يعلم ذلك. ولعل هذا يظن أيضا أن الميكروب المكتشف أخيرا لم يشر الله تعالى إليه، كلا بل هو موجود، قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) الآية 10 من سورة الأحزاب ج 3، وجاء في الخبر: اتقوا الغبار فإن فيه النسمة. وهل النسمة إلا الحشرة الصغيرة التي يسمونها ميكروبا، وهي من الجنود التي لم تر، المشار إليها في كتاب الله، وقد يكون في التراب، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم من أكل التراب فقد أعان على قتل نفسه. ولهذا ينبغي لمن يأكل الفواكه والخضراوات أن يغسلها جيدا حتى لا يبقى فيها تراب ما، لأنه لا يخلو عن النسمة أي الميكروب، وعليه فلا يظن أحد استحالة جنود لم ترها العيون، لأن الجراثيم الصغيرة التي لا ترى إلى بالمكبرات هي من جنود الله الفتاكة، وان الله تعالى يسوقها مع الرياح ويسلطها على من يشاء من خلقه، وخاصة الطاعون والهواء الأصفر والهيضة المسماة (كوليرا) والهيجان الذي يقتل فيه أقوى جبار في ساعة واحدة، أليس النمروذ أهلك ببعوضة وهو على ما كان عليه من الجبروت، ألا فلا يظن أحدا أن القرآن أغفل شيئا، كيف والله تعالى يقول (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية 38 من سورة الأنعام المارة، إلا أنه محتاج لفكر ثاقب وعقل كبير ووعي بالغ وقلب واع ودراسة طويلة، قال القائل:
ومن طلب العلوم بغير درس ... سيدر كها إذا شاب الغراب(4/383)
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
وقال الآخر:
ألا لا تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن مجموعها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة ... وإرشاد أستاذ وطول زمان
هذا وقد أقسم الله في هذه الأشياء لما فيها من عظيم قدرته وجواب القسم «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ» 7 بالمشركين والعاصين في الدنيا والآخرة على بعض وفي الآخرة على آخرين، على أن العصاة قد يعذبهم فيهما أو في أحدهما، وقد يعفو عنهم، ولا يسأل مما يفعل، وإذا وقع عذابه على أحد «ما لَهُ مِنْ دافِعٍ» 8 يدفعه عنه أو يمنعه منه وعلامة وقوعه أول أيام الآخرة «يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً» 9 تضطرب وتدور بشدة كدوران الرحى، ولكن بسرعة لا تدرك «وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً» 10 حثيثا فتزول عن أماكنها وتكون هباء منثورا، لأنها خلقت رواسي للأرض كي لا تتكفا بأهلها تكفؤ السفينة ولا تتحرك، وذلك لأجل عمارة الأرض أما وقد آذن الله بخرابها فلم يبق لها من حاجة، ليتم قوله تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) الآية 48 من سورة إبراهيم المارة، قال جبير ابن مطعم: قدمت المدينة لأكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أسارى بدر- أي بعد نزول هذه الآية بسنين كما ألمعنا إليه في الآية 17 من سورة السجدة المارة- فدفعت له وهو يصلي بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد، فسمعته يقرأ (والطور) إلى قوله (إن عذاب ربّك لواقع، ماله من دافع) فكأنما صدع قلبي حين سمعت، (ولم يكن أسلم يومئذ) فأسلمت خوفا من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب. وهذا كقول عبد الله بن سلام حين سمع قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) الآية 47 من سورة النساء ج 3، قال والله يا رسول الله ما كدت لأن أرجع فأومن قبل أن يطمس الله وجهي إلخ، فأسلم وحسن إسلامه كما سيأتي في تفسير هذه الآية.
قال تعالى «فَوَيْلٌ» هلاك وعذاب شديد وهوان وبلاء كبير «يَوْمَئِذٍ» يوم وقوعه «لِلْمُكَذِّبِينَ» 11 بالله ورسوله وكتابه واليوم الآخر «الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ» 12 لاهون(4/384)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)
مما يراد بهم في الدنيا وما هم قادمون إليه في الآخرة مشغولون بما لا يعنيهم «يَوْمَ يُدَعُّونَ» يدفعون بعنف «إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا» 13 دفعا عظيما وتقول لهم الملائكة «هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» 14 الذين أخبروكم بها وتقولون لما يتلى عليكم من آيات الله لسحر وكهانة، أنظروا «أَفَسِحْرٌ هذا» المتلو عليكم كما زعتم «أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ» 15، أنه حق اليقين اليوم كما كنتم في الدنيا، لأن السحر لا يدوم، وهذا دائم مستمر. وبعد أن يعترفوا يقال لهم «اصْلَوْها» احترقوا في نار جهنم فمسّوا شدة حرها «فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا» على حد قوله تعالى (أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) الآية 21 من سورة إبراهيم المارة، فإن صبركم وعدمه «سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 16 لا محيص لكم عنه، قال تعالى «إِنَّ الْمُتَّقِينَ» للكفر والتكذيب في الدنيا يكونوا في الآخرة «فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فاكِهِينَ» 17 متنعمين فيها «بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ» من الخيرات «وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» 18 جزاء إيمانهم وتصديقهم، وتقول الملائكة لهم في ذلك اليوم «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً» لا تخمة فيه ولا سقم «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 19 في الدنيا راجع الآية» 32 من سورة النحل المارة، وللبحث صلة في الآية 24 من الحاقة الآية، وتراهم أيها الرائي «مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ» موصولة بعضها ببعض «وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ» 20 يتنقمون بهن زيادة على ذلك
«وَالَّذِينَ آمَنُوا» آتيناهم ذلك كله «وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ» أي الكبار منهم بإيمانهم أنفسهم والصغار بإيمان آبائهم «أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» في الجنة تكرمة لهم لتقربهم أعينهم ويجمع لهم السرور كما كانوا في الدنيا يحبون الاجتماع بهم. الحكم الشرعي:
إن الولد الصغير يحكم بإيمانه إذا مات قبل بلوغه تبعا لأحد أبويه، لأنه يتبع أحسن الأبوين في الدين وأخسّهما في النجاسة، ويتبع أمه في الرق إلا أن تعنق فتكون حرة، قال:
يتبع الفرع في انتساب أباه ... والامّ في الرق والحربة
والزكاة الأخف والدين الأعلى ... والذي اشتد في جزاء ودية(4/385)
وأخس الأصلين رجيا وذبحا ... ونكاحا والأكل والأضحية
قال تعالى «وَما أَلَتْناهُمْ» أنقصناهم «مِنْ» ثواب «عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ» في عمله «رَهِينٌ» 21 فنفس المؤمن مرهونة بعملها وتكافى بحسبه وأحسن، ونفس الكافر مرهونة بعملها وتجازى بحسبه فقط وما ربك بظلام، فلا يرهن أحد بعمل أحد. قال تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الآية 164 من الأنعام المارة وفي سورة النجم ج 1 مثلها، وذكرنا فيها أن سعي للغير ينفع، وهو من خصائص هذه الأمة كما منفصله في الآية 42 من سورة الرعد في ج 3 إن شاء الله. قال تعالى «وَأَمْدَدْناهُمْ» زدناهم وأعطيناهم وأصل المدّ الجر ويجيء غالبا بمعنى الإمداد للشيء المحبوب، والمد للمكروه، الإمداد تأخير الأجل والإغاثة وتعزيز الجنود بجماعة أخرى، قال تعالى (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) الآية 10 من سورة الأنفال ج 3، أي زدناهم بعد تقديم ما يؤكل من الغذاء «بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ» 22 للتلذذ من غير طلب واقتراح إكراما لهم «يَتَنازَعُونَ» يتجازبون ويتعاطون فيناول بعضهم بعضا «فِيها كَأْساً» زجاجة مملوءة بالشراب اللذيذ «لا لَغْوٌ» باطل ولا مالا يغي «فِيها» أي لا يتكلم شاربها بمكروه أثناء شربها كعادة أهل الدنيا عند شرابهم النجس المذهب للعقل، فإنهم يخلطون أثناء شربهم ويهرفون بما لا يعرفون، لأنها لا تذهب عقولهم فيحافظون على الآداب والأخلاق «وَلا تَأْثِيمٌ» 23 فلا يقع منهم خلال شربها أو بعده ما يوجب الإثم بخلاف أهل الدنيا، فإنهم قد يتسابون ويقع منهم ما يؤثمون به، ويفعلون فعل اللئام، أما أهل الجنة فلا يقع منهم عند شربهم وبعده إلا ما يفعله الكرام من اللطف والعطف والمحبة «وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ» بتلك الكأس «غِلْمانٌ لَهُمْ» مملوكون بتمليك رب العالمين لا يشاركون أحدا في خدمتهم «كَأَنَّهُمْ» في حسنهم وجمالهم «لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ» 24 في صدفة لم تمسه الأيدي باق على صفائه «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ» 25 بينهم، ثم بين تعالى تساءلهم فقال «قالُوا» بعضهم لبعض أثناء تذاكرهم «إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا» في دار الدنيا «مُشْفِقِينَ» 26 خائفين من عذاب الله(4/386)
قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40)
لا ستقلالنا أعمالنا الصالحة «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا» في الآخرة وأكرمنا في الجنة «وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ» 27 الريح الشديدة الحرارة التي تدخل في مسام الإنسان وقيل إنها أحد أسماء جهنم، وقالوا «إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ» أن نحضر الآخرة «نَدْعُوهُ» ونعبده ولم نؤده حق عبادته «إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ» 28 بعباده يحسن إليهم ويعطيهم أكثر مما يستحقون بمنه وفضله. وبعد أن بين ما يقع بين أهل الجنة ترغيبا للمؤمنين التفت إلى حبيبه وقال «فَذَكِّرْ» قومك يا محمد في هذا القرآن علهم يرجعون إلى ربهم فينعم عليهم بما ذكر بعضه للمؤمنين به، ولا تلتفت لما يقولونه فيك «فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ» التي أنعمها عليك من النبوة والرسالة والكتاب «بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ» 29 كما يزعمون وينقولون، فأنت رسول الله حقا وأمينه على وحيه صدقا «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» 30 حوادث الدهر فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء،
كلا فلست ذلك و «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ» 31 المنتظرين أمر الله فيكم. واعلم أن المنون يطلق على الدهر وعلى الموت قال:
تربص بها ريب المنون لعلها ... تطلق يوما أو يموت خليلها
هذا على الأول، وعلى قول الثاني قول ذؤيب:
أمن المنون وريبه يتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
قال تعالى «أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ» أي عقولهم إذ يظنون أنهم عقلاء والمثل السائر (كل بعقله راض أما بماله لا) والحال ليس لهم عقول سليمة، إذ لو كان لهم عقول سليمة لما أمرتهم «بِهذا» القول المتناقض من ساحر إلى شاعر إلى كاهن إلى غير ذلك «أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» 32 باغون خلوجون عن الاعتدال، قيل لعمرو بن العاص ما بال قومك لم يؤمنوا وقد نعتهم الله تعالى بالعقل؟ فقال تلك عقول كادها الله تعالى إذ لم يصحبها التوفيق، فلهذا لم ينتفعوا بها. على أن هذه الآية لم تدل على رجاحة عقولهم، لأنها واردة مورد الاستهزاء، بل تدل على عكس ذلك، لأن الله أزرى بعقولهم، إذ لم يميزوا بين الحق والباطل والصدق(4/387)
والكذب والهدى والضلال، ويجوز أن يراد بأحلامهم أكابرهم ورؤساؤهم، لأن أحلام بمعنى أجسام، كلفظ أعلام فإنها تطلق على الجبل وعلى الرجل، قال ابن الفارض رحمه الله:
نشرت في موكب العشاق أعلامي ... وكان قبلي بلي بالحبّ أعلامي
وهم لفلة عقولهم سماهم أجساما تهكيبا بهم «أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ» اختلقه وهي كلمة لا تستعمل إلا في الكذب، كلا، لم يختلقة وهو الصادق المأمون «بَلْ لا يُؤْمِنُونَ» 33 في هذا القرآن المنزل عليك أنفة وتجبرا.
مطلب الحجج العشر وعذاب القبر وبحث في قيام الليل والإخبار بالغيب وما يقال عند القيام من المجلس:
فإذا كان لقولهم من صحة «فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ» في حسن النظم ورشاقة اللفظ ولطافة البيان والأحكام والحدود والإخبار بالمغيبات وقصص الأمم السابقة «إِنْ كانُوا صادِقِينَ» 34 بأنك اختلقته أو أنه شعر أو كهانة، لأنهم عرب مثلك يدعون الفصاحة والبلاغة، والتنكير يفيد التقليل أي ليأتوا بمطلق حديث يشابهه، وقد خسئوا لا يستيعون ولو اجتمعوا وتعاونوا وقد لزمتهم الحجة، راجع الآية 13 من سورة هود المارة، قل يا محمد «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ» أراد بشيء هنا الخلق، إذ ربما يتوهم به أنه يدل على أنه لا يخلق شيء إلا من شيء، والمعنى أوجدوا بلا خالق، فإن قالوا لا، وقعت عليهم الحجة، وإن قالوا نعم فقل لا يجوز أن يوجد خلق بلا خالق، لأن تعلق الخلق بالخالق من ضروريات الاسم «أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ» 35 لأنفسهم أم الله خلقهم، فإن قالوا نحن فقول باطل، لأن من لا وجود له كيف يخلق، وعلى فرض المحال فكلفهم أن يخلقوا ذبابة أو يخلّصوا منها ما تسلبهم، فإذا عجزوا ولا شك أنهم عاجزون فقد لزمتهم الحجة بأنهم مخلوقون لله، وعليهم أن يؤمنوا بخالقهم. وهذا إلزام ثان.
قال تعالى «أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» كلا، بل خلقها الخالق لهم، ولئن سألتهم ليقولن خلقها الله حتما «بَلْ لا يُوقِنُونَ» 36 إيقانا حقيقيا بأنه خلقها، ولو أيقنوا لا لاعترفوا، ولكنهم يجحدون عنادا بسبب إعراضهم عن آيات الله(4/388)
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
وعدم تدبرهم معانيها، وهذه حجة ثالثة لزمتهم فافحمتهم. قال تعالى «أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ» من الرزق والمطر والعافية فيمنعونه عن أناس ويفيضونه على آخرين كما يفعل الله «أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ» 37 على شيء من ذلك فيقدرون أن يفعلوا ما يشاءون فيغتون هذا، ويفقرون هذا، ويمرضون هذا، ويشفون هذا، كلا ما عندهم شيء من ذلك البتة، وليس لهم سلطة على شيء منه أصلا وفسر بعضهم الخزائن بالنبوة وآخرون بالعلم، والمسيطرين بالأرباب القهارين والجبارين المتسلطين، وهو كما ترى، وهذا إلزام رابع ألقمهم الحجر. قال تعالى «أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ» مرقي إلى السماء «يَسْتَمِعُونَ فِيهِ» كلام الله، وفيه هنا بمعنى عليه، لأن حروف الجر يخلف بعضها بعضا، لأن السلّم يستمع عليه لا فيه، أي هل أنهم يرقون فيسترقون السمع خبر السماء فيعلمون أن محمدا يموت قبلهم، وأنهم يظفرون بالعافية فيتمسكون بما هم عليه، فإن كان لزعمهم هذا من أصل «فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ» الذي سمع ذلك ونقله إليهم «بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» 38 يدل على صحة سماعه، وإذ لم يأتوا ولن يأتوا فادعاؤهم كاذب، وتربصهم هواء، وهذا إلزام خامس داحض تربصهم به ومحسئهم. قال تعالى «أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ» 39 وهذا إنكار عليهم لاختيارهم الأحسن لأنفسهم، وجعلهم ما يكرهون لربهم، أي من ابن عرفوا ذلك فهم كاذبون من جهتين من هذه ومن إعزائهم الملائكة لله بأنهم بناته، تعالى عن ذلك، قال تعالى (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) الآية 20 من سورة لزخرف المارة، أي كلا، لم يشهدوا خلقهم، فلزمتهم الحجة السادسة «أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً» على إرشادك ونصحك لهم «فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ» 40 لا يقدرون على تأديته لك، كلا لا شيء من ذلك، وإذا كنت لا تطلب منهم شيئا على تعليمهم فيكون عدم اتباعهم لك لخيرهم أمرا مذموما (والغرم أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه) ، ولذلك يزهدون باتباعه، وهذه الحجة السابغة التي أخرستهم.
«أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ» اللوح المحفوظ الذي فيه ما غاب عن الخلق علمه «فَهُمْ يَكْتُبُونَ» 41 منه ما فيه حتى يقولوا لا نبعث ولا نعذّب ولا نحاسب، كلا ليس عندهم ذلك وهذه حجة ثامنة داحضة لأقوالهم لا بعث ولا حساب ولا عقاب «أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً»(4/389)
برسولنا فيجتمعون في ندوتهم ويتدابرون ما يمكرون به ليتخلصوا منه، وقد أرسل رحمة إليهم مع أنهم لا يقدرون على شيء لأنا نحول دونه ونمنعهم منه ونقول «فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ» 42 الذين يعود عليهم مكرهم، وهذا من الإخبار بالغيب، لأن مذاكرتهم بشأن المكر به في دار الندوة وقعت بعد نزول هذه الآيات قبل الهجرة، وقد أخبره الله تعالى بما حاكوه بينهم فيها بوقته كما سيأتي، ولذلك ترك داره وذهب إلى الغار وأمر عليا أن ينام مكانه فيها، وهذه حجة تاسعة قامعة ما يريدون به، قال تعالى «أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ» يعتمدون عليه في الشدائد، كلا لا إله إلا الله لهم ولغيرهم «سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» 43 به من أوثان لا تضر ولا تنفع، تنزهت ذاته المقدسة وتبرأت عن ذلك، وهذه تتمة الحجج العشر الواضحات، أفحمهم الله تعالى بها على لسان رسوله فلو كانوا موفقين لأذعنوا إليها واهتدوا بها ولا نوا، ولكن من سبق في علم الله شقاؤه فلن يرى الهدى، بل يزد قاوة وعتوا، وفضلا عن أن كلا من هذه الحجج الدامغة كافية للردع ففي كل منها توبيخ وتبكيت وتقريع، ولكن لا تغني النذر والآيات لمن ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم فهم لا يهتدون أبدا. قال تعالى «وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا» لشدة عنادهم وقوة عتوهم، هذا «سَحابٌ مَرْكُومٌ» 44 بعضه على بعض، وهذا جواب لقولهم (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) الآية 92 من سورة الإسراء في ج 1، وإذا تبين لك يا سيد الرسل حالهم هذا «فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ» 45 يمرتون قصفا على حين غفلة لأنهم لا بد لهم من الموت ولو بقوا إلى النفخة الأولى التي يصعق فيها كل حي على الأرض وفي السماء عدا من استثنى الله وذلك يوم الموت حتف الأنف والموت بالصعق «يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً» من الله تعالى «وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» 46 من قبل شركائهم ولا غيرهم. قال تعالى «وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ» قبل صعقهم سينالهم في الدنيا كالقحط والأسر والجلاء والقتل، وهذه الآية أيضا من الإخبار بالغيب إذ وقع بعض ذلك في بعضهم وكله في كلهم وأشده يوم بدر فما بعده، وكان بينه وبين نزول هذه(4/390)
الآية سنتان، وقال بعض المفسرين أن دون هنا بمعنى وراء، وعليه يراد بالعذاب عذاب القبر، لأنه يكون وراء الموت وهو خلاف الظاهر، وتقدم ما فيه في الآية 25 من سورة نوح عليه السلام المارة «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» 47 أنا سنزل فيهم عذابا قبل موتهم ولا بعده، وفي هذه الآية إشارة إلى أن فيهم من يتوقع ذلك بالفراسة، ومنهم من يعتقد صدقه فيتحقق ما يوعدهم به، ومنهم من يسمع ما وقع للأنبياء السابقين مع أممهم، فيعترفون أن محمدا رسول الله حقا، وأن ما يخبر به لا شك واقع، ولكنهم عنادا يصرون على الكفر وعتوا يكذبون.
قال تعالى «وَاصْبِرْ» يا حبيبي «لِحُكْمِ رَبِّكَ» وأمهلهم على ما تراه من المشقة إلى الوقت المقدر لإعلاء كلمتك عليهم «فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» ومرأى منا لا تخفى علينا حركاتك وسكناتك، وإنا نكلؤك مما يراد بك، فلا نمكنهم أن يصلوا إليك بسوء أو يوصلوا إليك ما تكره، ومن كان بنظر الحي الذي لا يموت لا يخاف أحدا أبدا، وصلّ يا أكمل الرسل «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ» 48 من مقامك ومجلسك وللصلاة، أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا كان كفارة لما بينهما.
وأخرج أبو داود والنسائي عن عاصم بن حميد قال: سألت عائشة بأي شيء كان يفتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلم قيام الليل؟ فقالت سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، كان إذا قام كبّر عشرا، وسبح عشرا، وعلل عشرا، واستغفر عشرا، وقال اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني، وكان يتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة.
وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. قال تعالى «وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ» أيضا في صلاتي المغرب والعشاء وصلاة التهجد «وَإِدْبارَ النُّجُومِ» 49 بعد وقت السحر إذ فيه تدبر النجوم أي يغيب ضوءها بنور الفجر عن الأبصار فقط، لأنها لا تغيب أصلا، وإنما تخفى على أناس وتظهر لآخرين، وفي القول في غيابها تجوز باعتبار المكان والقطر، وباعتبار ما نرى. روى البخاري(4/391)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)
ومسلم عن جبير بن مطعم قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور.
هذا ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة في القرآن العظيم. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة الملك عدد 27- 77- 65
نزلت بمكة بعد سورة الطور، وهي ثلاثون آية، وثلاثمائة وثلاث عشرة كلمة، وألف وثلاثمائة وثلاثة عشر حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها، ونظائرها في الآي الفجر والسجدة فقط.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «تَبارَكَ» تقدم ما فيه أول الفرقان في ج 1 فراجعه، «الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» يتصرف فيه وبما فيه، يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 1 بالغ القدرة في كل ممكن، وهل يوجد شيء غير ممكن على الله تعالى إلا إخراج خلقه عن ملكه، وذلك رحمة بهم لأنه قادر على تبديلهم بغيرهم كما أنه قادر على تبديل السموات والأرض، قال تعالى (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) الآية 67 من الواقعة في ج 1، وقال تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) الآية 48 من سورة إبراهيم المارة وأمثالها كثير في القرآن، ولما كان لا يكون ذلك إلا بإعدامهم وقد قدر لهم أجلا في هذه الدنيا لا بد بالغوه فلا يمكن إخراجهم من ملكه.
مطلب في إمكان القدرة وفوائد الكواكب:
قال بعض المفسرين إن قدرته تعالى مقيدة لأنه لا يقدر على ذاته المقدسة ولا على جعل صاحبة له أو ولد أو شريك تعالى عن ذلك، وهذا وإن كان كذلك لأن هذه ليست من الممكنات، وإن القول يتقييد القدرة بهذه الأسباب مما يعبس ويكفهرّ لها الوجوه ويقشعر لها البدن وترتعد لها الفرائص وينكمش لها القلب،(4/392)
لهذا فالأحسن الصفح عن هكذا إيرادات والاكتفاء بظاهر اللفظ، ولهذا قال الإمام الرباني ما قال كما أثبتناه في الآية 42 من سورة النجم في ج 1، فتدبره أرشدك الله لهداك وأبعدك عما فيه رداك. واعلم أن هذه الآية من آيات الصفات التي مر ذكرها، راجع الآية 158 من الأنعام المارة ففيها كفاية، وقد ذكرنا جواز إطلاق اليد عليه تعالى اتباعا لما جاء في ظاهر القرآن إذ ألزمنا أنفسنا في هذا التفسير المبارك السير فيه على ظاهره ما وجدنا لذلك سبيلا، وقد جاءت أحاديث قدسية بذلك أيضا وهي مفسرة لكتاب الله، ومن عرف أن الله عز وجل منزه عن المثل والشبهيّة عرف أن يده ومجيئه وقبضته وإتيانه المشار إليه في القرآن لا تشابه شيئا من مسمياتها في البشر تدبر، قال في بدء الأمالي:
تسمى الله شيئا لا كالاشيا ... وذاتا عن جهات الست خالي
وقال القائل:
ما كل زهر ينبت الأرض طيب ... ولا كل مصقول الحديد يماني
هذا، وليحذر العاقل أن يتصرف بآيات الصفات حسبما يسبح بفكره أو تحدثه نفسه، ففيه مزالق مهلكة، كما أن عليه الكف مما يتصوره في إمكان القدرة الآنفة الذكر لأن منشأها من وساوس الشيطان ومسيرها الحيرة والوقوع بما لا يليق أن يوصف به الرب الجليل وليتعوذ من ذلك بالله ومن الذي يسأل عن مثل هذه الأسئلة، وليقل لا إله إلا الله العظيم للفرد الصمد الجبار القهار القادر على كل شيء الرحيم بعباده اللطيف بهم العطوف عليهم، وليراجع تفسير الآية 27 من سورة الشورى المارة ليقف على رأفة ربه به. «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ» في الدنيا لأن الأشياء كانت ابتداء في حكم الموتى كالتراب والنطفة والبيضة، ثم طرأت عليها الحياة، وفي الآخرة الموت عند نهاية الأجل في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام البرزخ، والحياة عند البعث في أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا، أو المراد بالموت في الدنيا والحياة في الآخرة وهو أولى والله أعلم، «لِيَبْلُوَكُمْ» يختبركم ويمتحنكم أيها الناس ليظهر لخلقه «أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» له وأخلصه وأصونه لشريعته وأحبه لخلقه «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب لمن عصاه القادر على من ناوأه(4/393)
«الْغَفُورُ» 2 لمن تاب إليه وأناب «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً» بعضها فوق بعض «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» اختلاف أو اعوجاج أو عدم تناسب «فَارْجِعِ الْبَصَرَ» أيها الإنسان وكرر النظر فيها ودوره مرة بعد أخرى وتأمل فيها «هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ» 3 أو شقوق أو صدوع في شيء منها «ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ» أو عشرا أو أكثر إذ يراد به التكثير لا العدد كما تقول لبيك وسعديك، وعليه قوله:
لو عد قبر وقبر كان أكرمهم ... بيتا وأبعدهم عن منزل الدام
فإنك منها كررت البصر فيه «يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً» ذليلا صاغرا مبعدا لم يتوفق الرؤية ما يهواه «وَهُوَ حَسِيرٌ» 4 كليل معمي منقطع عن إدراك مطوبه محروم من رؤية مراده «وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ» كواكب متنوعة كالمصابيح الكهربائية بالنسبة لنظرنا وإلا فهي فوق ذلك بكثير، وهذه أول فائدة من فوائدها، والثانية «وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» الذين يسترقون السمع، وليس المراد أنهم يرمون نفس المصابيح لمنافاته معنى الزينة بل المراد أنهم يرمون بشعلة نارية منها كالقبس الذي يؤخذ من النار وهي باقية على حالها، قال تعالى (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) الآية 10 من الصافات المارة فراجعها، ومن المعلوم أن الشهاب ما يؤخذ من النار لا نفسها. والفائدة الثالثة الاهتداء بها في ظلمات البر والبحر. والرابعة ما يحصل بها من نضوج الأثمار وألوانها وطعمها.
والخامسة اختلاف الأنواء والمواسم الحاصلين بسيرها، وفوائد كثيرة ألمعنا إليها في الآية 62 من سورة الإسراء في ج 1، والآية 16 من سورة الحجر المارة فراجعها.
واعلم أن هذا عذابهم في الدنيا «وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ» 5 في الآخرة وهو النار المتأججة المتوقدة يحرق فيها كل كافر متمرد من الشياطين «وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ» من الإنس والجن «عَذابُ جَهَنَّمَ» بصلونها «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» 6 مصير الكفرة من الفريقين الذين «إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها» لكل من السعير وجهنم وسائر طبقات النار الخاصتين بهذين الصفتين ومن ماثلهم «شَهِيقاً» هو أول نهيق الحمار «وَهِيَ تَفُورُ» 7 بهم فوران الماء بالجب(4/394)
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)
القليل، أرأيت كيف ترفعه وتخفضه الفورة فهم كذلك فيها «تَكادُ تَمَيَّزُ» تنقطع وتنفصل أعضاؤهم وأمعاؤهم بعضها عن بعض «مِنَ» شدة «الْغَيْظِ» عليهم والحنق من شدة الفوران لولا قوله تعالى (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) الآية 55 من سورة النساء في ج 3، وقد شبه اشتعال النار بكفرة الإنس والجن في قوة تأثيرها فيهم وإيصالها الضرر إليهم باغتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر إليه، فاستعير اسم الغيظ لذلك الاستعمال استعارة تصريحية، والله يعلم كيف يصوغ الألفاظ إلى المعاني وكيف يجعلها في قوالب لائقة لمعاني بالغة «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ» جماعة كثيرة جدا أكثر من فوج أهل الدنيا كما أن الآخرة أكبر منها «سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها» أي سأل خزنة جهنم ذلك الفوج، وقد بين الله تعالى صفة هذا السؤال بقوله عز قوله «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ» 8 يخوفكم عذاب هذه النار؟
فأجابوا معترفين «قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ» أكدوا جوابهم بقد المفيدة للتحقيق لشدة تحسرهم على ما فلتهم من السعادة وكثرة تأثرهم على ما لحقهم من الشقاء «فَكَذَّبْنا» ما ذكره لنا ولم نلتفت إلى رشده ونصحه «وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ» مما تقول ونسبناه للسحر والكهانة والكذب والافتراء و (من) هنا يسمونها الزائدة على أن القران لا زائد فيه وهي هنا كأمثالها تأتي للتأكيد ويشترط أن يتقدمها النفي وأن تكون الكلمة الداخلة عليها نكرة كما هنا تدبر، وقلنا المرسل «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ»
9 وخطأ عظيم لأنكم أتيتمونا بما لا نعلمه ولم نسمعه في آبائنا «وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ» كلام الرسل «أَوْ نَعْقِلُ» ما وعظونا به «ما كُنَّا» الآن «فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ» 10 تفيد هذه الآية أن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل وهو كذلك لأنهما حجتان ملزمتان للعبد عند ربه
«فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ» الذي جعلهم في جملة أصحاب جهنم «فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ» 11 وطردا عن رحمة الله تعالى وكرامته، وكلمة سحقا لم تكرر في القرآن أي سحقهم الله سحقا، قال الشاعر:
بجول بأطراف البلاد مغربا ... وتسحقه ريح الصبا كل مسحق(4/395)
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ» من حيث لم يروه ولم يشاهدوا عذابه وآمنوا بما أخبرهم رسله «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» لذنوبهم عنده جزاء إيمانهم به وبما جاء في كتابه وذكرته رسله من غير معاينة «وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» 12 على ذلك وعلى أعمالهم الصالحة التي دعموا بها إيمانهم. وبعد أن ذكر جل ذكره ما للفريقين في الآخرة التفت إلى المشركين الذين كانوا ينالون من حضرة الرسول فأنزل فيهم قوله العظيم «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ» أيها الكفرة في حق الرسول «أَوِ اجْهَرُوا بِهِ» فهو على حد سواء عند الله «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» 13 ودخائلها وما خبىء فيها مما حدث أو سيحدث، ثم أكد قوله بقوله «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ» الخلق ما يقوله خلقه، وهذا استفهام إنكاري ونفي لعدم إحاطة علمه تعالى الواقع من قبل خلقه، أي ألا يعلم ذلك من أوجد جميع الموجودات بحكمته التي هم من جملتها؟ بلى يعلم بكل ما يقع في ملكه «وَهُوَ» أي ذلك البليغ علمه هو «اللَّطِيفُ» العالم بدقائق الأشياء «الْخَبِيرُ» 14 بحقائقها. ثم طفق يعدد نعمه على عباده بقوله عز قوله «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا» بحيث سهلها وجعلها صالحة لا يمتنع المشي عليها بأن يسّر وعرها وحزنها وغليظها وأوديتها وجبالها «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها» في جوانبها وفجاجها لبرزق والنزهة والزيارة «وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» المخلوق لكم فيها أيها الناس في هذه الدنيا «وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» 15 في الآخرة من القبور إلى المحشر. ثم طفق يخوف الكفرة بقوله عز قوله «أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ» خاطبهم جل خط به بحسب اعتقادهم لأنهم من المشبهة أو من أشباههم إذ يعتقدون أنه في السماء وأن الرحمة والعذاب ينزلان منه، تعالى الله عن المكان «أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ» كما خسفها بقارون وغيره «فَإِذا هِيَ تَمُورُ» 16 تضطرب من شدة حركتها من أثر الخسف المسائل «أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً» ريحا شديدة قاصفة ذات حجارة يرجمكم فيها كما فعل بقوم لوط وغيرهم «فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ» 17 إذا عاينتم العذاب وإذا علمتم أن لا أمان لكم من أحد فلماذا تتمادون على الكفر «وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» قبل قومك يا محمد(4/396)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
وهم الأمم السابقة أنبياءهم «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» 18 عليهم بإنزال العذاب على غاية من الهول والفظاعة، أي هل وجدوا إنذاري الذي أنذروا به على لسان رسلي في الأمر والنهي ونكيري على منكري البعث والجزاء حقا أم لا؟ بل وجدوه حقا، وقرىء بالياء فيهما وبحذفها اكتفاء بالكسرة. قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ» أجنحتها باسطتها في الهواء في جو السماء «وَيَقْبِضْنَ» أجنحتها إذا ضربن بها جنوبهن «ما يُمْسِكُهُنَّ» حالتي البسط والقبض من الوقوع في الأرض «إِلَّا الرَّحْمنُ» الذي شملت رحمته كل شيء «إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ» 19 يعلم كيف خلق وكيف دبر خلقه، راجع الآية 79 من سورة النحل المارة، وهذه الآية والتي بعدها تنبيه على قدرة الله تعالى على الخسف وإرسال الخاصب الذي خوفهم به في الآيتين المتقدمتين «أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ» إن أراد بكم إيقاع العذاب؟ الجواب لا أحد «إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ» 20 مما ينفخ الشيطان في صدورهم ويمنيّهم بأن لا عذاب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار، ولا بعث ولا حساب
«أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ» الله «رِزْقَهُ» عليكم؟ كلا، لا أحد أبدا، وتراهم عند الإمساك يتركون أوثانهم ويرجعون إلى ربهم «بَلْ لَجُّوا» ضجوا وتمادوا بالغي والعناد فلم يتأثروا ولم يرتدعوا بل صاحوا وظلوا «فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ» 21 في نبو عن الحق وشراد وتباعد عنه. قال تعالى «أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى» له وأولى «أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 22 وهذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن الذي كان مطاطئا رأسه في الضلالة والجهالة، والمؤمن الرافع رأسه في الهدى والرشد «قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» 23 الله على هذه الجوارح التي لولاها لكنتم مثل البهائم وقد ضيعتم نعمتها بصرفها لغير ما خلقت لها فحرمتم من الثواب المقدر لذلك «قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ» خلقكم وبثكم فيها في الدنيا لتفكروا بآلاء الله «وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» 24 في الآخرة لتحاسبوا وتكافؤا على أعمالكم الخير بأحسن منه والشر بمثله، وتراهم يا سيد الرسل معرضين عن كل ذلك «وَيَقُولُونَ»(4/397)
لك «مَتى هذَا الْوَعْدُ» الذي توعدنا به وتهددنا فيه أنت وأصحابك «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 25 أن هناك حياة أخرى نحاسب فيها على أعمالنا ونثاب أو نعاقب.
مطلب تبرؤ الرسول عن علم الغيب وأمر الرسول بسؤال الكفرة:
«قُلْ» لهم يا سيد الرسل «إِنَّمَا الْعِلْمُ» بوقته ونوعه «عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» 26 فقط لا أعلم ما هو ومتى يأتيكم، وما علي إلا أن أبلغكم ما أتلقاه من ربي وأخوفكم نزوله، لأنه من الغيب ولا يعلمه إلا الله «فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً» قريبا منهم في الدنيا أو في الآخرة، وقد جاء بالماضي مع أنه مستقبل لتحقق وقوعه «سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» وعلتها الكآبة وغشيتها الفترة وعمّتها الغبرة حين رؤيته «وَقِيلَ» لهم من قبل ملائكة الموت في الدنيا وفي الآخرة من قبل الخزنة الموكلين بالعذاب أو من قبل الملائكة الموكلين بتدبير الأرض أو الملائكة الموكلين بإنزال العذاب من السماء على أهل الأرض «هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ» من قبل في الدنيا «تَدَّعُونَ» 27 وقوعه وتطلبون نزوله وتتمنون قربه وتسألون تعجيله وهو الذي كنتم تدعون كذبه وتكذبون من أنذركم به «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الكفرة «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ» من المؤمنين «أَوْ رَحِمَنا» بتأخير آجالنا لأننا ننتظر إحدى الحسنيين البقاء مع النصر عليكم والظفر بكم أو الموت ودخول الجنة، لأن الله يأخذ بيد المؤمنين ويجيرهم «فَمَنْ «يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» 28 لا تطيقه أجسامهم ولا بد لهم منه إذا ماتوا على كفرهم، والمراد بالكافرين المخاطبون في هذه الآية، أي ماذا تصنعون إذا حل بكم عذاب الله ومن هو الذي يجيركم منه وأنتم على كفركم، ويدخل في هذه الآية كل من هو على شاكلتهم «قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ» الذي أدعوكم إليه أيها الناس هو الله ربنا الذي «آمَنَّا بِهِ» نحن «وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا» في كل أمورنا فهو مجيرنا من كل سوء لإيماننا به وأنتم لا مجير لكم البتة لإصراركم على الكفر وتفويض أمركم إلى أوثانكم «فَسَتَعْلَمُونَ» غدا «مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 29 نحن أم أنتم وهل يشفع لنا ربنا أم تشفع لكم أوثانكم، وهذه الآية جارية مجرى التهديد، ثم ذكرهم ببعض نعمه على طريق الاحتجاج بقوله عز قوله «قُلْ» لهم(4/398)
يا خاتم الرسل «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً» ذاهبا في الأرض غائرا فيها لوصفه بالمصدر كعدل وعادل وهو سبب حياتكم لأنكم تشربون منه «فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ» 30 جار على وجه الأرض أو راكد فيها تناله أيديكم ودلائكم، فسيقولون لك حتما الله يأتينا به، فقل لهم إذا لم تشركون فيه من لا يقدر على شيء؟ فتلزمهم الحجة. قالوا تليت هذه الآية عند محمد بن زكريا المتطبب وهو ملحد فقال يأتي به المعول والفأس، فأذهب الله ماء عينه في تلك الليلة أعاذنا الله من الغرور وحفظنا من الاتكال على أنفسنا وزادنا بصيرة في مكوناته.
ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بمثل هذه اللفظة، وتسمى سورة المجادلة لأنها تجادل عن قارئها ملائكة العذاب، والمنجية لا دخار ثوابها عند الله، والمانعة لأنها تمنع من يواظب على قراءتها العذاب في الآخرة وتنجيه من عذاب القبر، والواقية لأنها تقيه مجادلة الملكين ومن العذاب الأخروي. أخرج الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن في القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي تبارك الذي بيده الملك. وإنما قال تبارك لأن سورة السجدة وسورة الفجر المارتين كل منهما ثلاثون آية لعدم الالتباس. وأخرج الترمذي وغيره عن ابن عباس قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم خباء على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلم فأخبره فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر. وأخرج الطبراني والحاكم وابن مردويه وعبد بن حميد في مسنده واللفظ عن ابن عباس أنه قال لرجل ألا أتحفك بحديث تفرح به؟ قال بلى، قال اقرأ تبارك الذي بيده الملك وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك فإنها المنجية والمجادلة يوم القيامة عند ربها لقارئها وتطلب له أن تنجيه من عذاب النار وينجو بها صاحبها من عذاب القبر.
واعلم أن هذه الأحاديث وشبهها من قبيل الإخبار بالغيب مما أطلع الله تعالى رسوله على بعض أحوال القيامة وأنه يكون حال من يقرأها أو السور الأخرى الواردة فيها من هذا القبيل كما أخبر وإلا فدفع العذاب والحساب ودخول الجنة أو النار يكون في القيامة لا في الدنيا، راجع آخر سورة الواقعة في ج 1 وآخر السجدة(4/399)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)
المارة فيما يتعلق بهذا. والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة الحاقة عدد 28 و 78- 69
نزلت بمكة بعد سورة الملك، وهي اثنتان وخمسون آية، ومئتان وست وخمسون كلمة، وألف وأربعة وثلاثون حرفا، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا ناسخ ولا منسوخ فيها، ومثلها في عدد الآي سورة القلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «الْحَاقَّةُ» 1 «مَا الْحَاقَّةُ» 2 استفهام جار على التفخيم عن عظيم شأنها والتهويل عما يكون فيها «وَما أَدْراكَ» أيها السائل عنها «مَا الْحَاقَّةُ» 3 فإنك لا تعلمها إلا إذا عاينتها، لأن فيها من الشدائد والأهوال ما لا يبلغه دراية أحد، ولا يصل لكنهها الفكر، فمهما صورتها وكيفها مثلتها فهي أكبر وأعظم من ذلك. وإنما سميت القيامة حاقّة لأنها ثابتة الوقوع وتحق على القوم فتقع فيهم «كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ» 4 القيامة وسميت بها لأنها تقرع الناس فتدهشهم وتفرع القلوب فتفلجها، ولها أسماء كثيرة بيناها في محالها فيما مضى، وسنبين أيضا فيما يأتي. قال تعالى «فَأَمَّا ثَمُودُ» قوم صالح «فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ» 5 الصيحة الشديدة المجاوزة للحد في القوة بسبب طعيانهم وبغيهم على عقر الناقة التي أظهرها الله معجزة لنبيهم على طلبهم، «وَأَمَّا عادٌ» قوم هود «فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ» شديدة الصوت باردة تحرق بقوة بردها الزرع والضرع «عاتِيَةٍ» 6 عظيمة العصف قد عتت عليهم فلم يقدروا أن يقوا أنفسهم منها بعزم ولا حزم ولا حيلة، وإن الله المنتقم الجبار القهار «سَخَّرَها عَلَيْهِمْ» أي العتاة المذكورين بمقتضى قضائه الأزلي «سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً» قاطعات متتابعات لم تفتر خلالها حتى حسمتهم على آخرهم. وفي قوله تعالى سخرها رد لمن قال إن تلك الريح كانت باتصال الكواكب.
وردع لبعض المفسرين القائلين إنها عتت على الملائكة، وهذه الأيام الثمانية تسمى العجوز(4/400)
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)
لأنها كانت في عجز الشتاء، ولا يزال بردها يكرر في كل سنة، أو لأن عجوزا من قوم عاد دخلت سر بها لتقي نفسها منها فاتبعتها الريح فأهلكتها «فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ» لمن يراهم «أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ» 7 أجوافها ساقطة بالية، شبههم بجذوع النخيل الساقطة ليس لها رءوس لما قالوا إن الريح كانت تدخل من أفواههم فتخرج من أدبارهم حتى صاروا كأعجاز النخل البالية «فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» 8 أيها الرائي إذا كان إهلاكهم على هذه الصورة؟ كلا، قالوا إنها أهلكتهم جميعهم في سبعة أيام وفي الثامن القت جثتهم في البحر، فلم يبق لهم أثر فهذه كيفية تدميرهم أيها السائل عنهم، راجع قصتهم في الآية 50 فما بعدها من سورة هود المارة، ولهذا فإن عادا الأولى لا ينسب إليها أحد أن الله تعالى أخبر أن لا باقية لها، وما جاء في بحث الخراج العشر بلفظ عادي الأرض فهو منسوب إليهم إذ بقيت ديارهم مهجورة، قال تعالى (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ) الآية 58 من سورة القصص المارة. قال تعالى «وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ» من الأمم الكافرة بعد عاد وثمود «وَالْمُؤْتَفِكاتُ» قرى قوم لوط وهي خمسة صبعه وصعوه وعمرة ودوما وسدوم، وهي أعظم قراهم، قلبها الله تعالى بأهلها فهن المنقلبات بالخسف، والأمم الذين ائتفكوا بذنوبهم أي «بِالْخاطِئَةِ» 9 وهي الفعلة ذات الخطأ الكبير «فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ» أولئك الأقوام «فَأَخَذَهُمْ» الله الذي أرسله رحمة بهم فكذبوه فصار بغيهم عليهم نقمة وصارت أخذتهم «أَخْذَةً رابِيَةً» 10 نامية زائدة بالشدة على عقوبات غيرهم من الكفار بالنسبة لزيادة بغيهم.
قال تعالى «إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ» على قوم نوح بسبب تماديهم على الكفر «حَمَلْناكُمْ» أيها الناس أي حملنا أصلكم نوحا ومن معه وأنتم ذريتهم «فِي الْجارِيَةِ» 21 السفينة، وقد أضيف الحمل إليهم لأنهم كانوا في أصلاب المحمولين فيها، فكل هذا البشر من أولاد نوح عليه السلام ولهذا سمي أبا البشر الثاني «لِنَجْعَلَها»
تلك الفعلة التي أغرقنا فيها من على وجه الأرض وأنجينا آباءكم المؤمنين «لَكُمْ»
أيها الناس «تَذْكِرَةً»
تذكرون بها «وَتَعِيَها»
من بعدكم «أُذُنٌ واعِيَةٌ»
12 عافلة حافظة تذكر ما جاء من عند الله فتعتبر به وتعظ غيرها فرب مبلّغ أوعى من سامع.(4/401)
مطلب في اهوال القيامة، وإعطاء الكتب، وحال أهلها:
هذا، وبعد أن صدّر الله تعالى هذه السورة بذكر القيامة وتفخيمها وأخبار وقصص بعض الأمم السالفة وأحوالها وكيفية إهلاكها وذكر نعمة إنجاء المؤمنين، شرع يبين أحوال القيامة وما يكون فيها من أولها إلى آخرها على سبيل الإجمال فقال عز قوله «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ» 13 لا تثنّى في وقتها وإلا فهي نفختان معلومتان لكل منهما زمن معلوم، وإنما قال واحدة لعدم التثنية «وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ» فيها من أماكنها بعد أن مات في تلك النفخة الأولى من عليها أجمع «فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» 14 بأن ضرب الجبال في الأرض بيد القدرة البالغة، فصارت كثيبا مهيلا وهباء منثورا «فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» 15 قامت القيامة ونشر من في الأرض «وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ» 16 رخوة مشققة مفطرة بعد ما كانت قوية محكمة لا فطور فيها «وَالْمَلَكُ» أعم من الملائكة «عَلى أَرْجائِها» جوانب السماء وأطرافها لأنها مسكنهم، فإذا كورت لجأوا إلى جوانبها وحوافّها، ثم يموتون أيضا لدخولهم في عموم قوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) الآية 35 من سورة الأنبياء وهي مكررة في البقرة وغيرها «وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ» فوق رءوسهم من فوق الملائكة الذين هم على أكتاف السموات «يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» 17 أملاك عظام وهم من المستثنين من الموت كما مر في الآية 68 من سورة الزمر المارة، «يَوْمَئِذٍ» يوم إذ كان ذلك كلّه ونفخت النفخة الثانية وقام الناس وغيرهم من مدافنهم أحياء «تُعْرَضُونَ» أيها الخلائق على خالقكم ليحاسبكم ويجازبكم «لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» 18 عليه من كل ما وقع منكم سرا أو جهرا، عمدا أو خطأ، بقصد أو غير قصد. ثم تعطى الكتب بالأعمال «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» فيغلب عليه الفرح وينادى بأعلى صوته على رءوس الأشهاد «فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» 19 خذوه فانظروه واقرءوه، وذلك لأنه بلغ غاية السرور فأراد أن يطلع عليه معارفه وغيرهم ليعلموا أنه كان في الدنيا على الحق، كما أن من ينجح بالفحص يعلن بالمذياع أو غيره نجاحه ويري شهادته لمن يراه فرحا بها(4/402)
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)
مع أنها قد لا توصله لشيء ولو أوصلته فإنه وما توصله إليه فان، فكيف بتلك الشهادة الباقية المخلدة الموصلة إلى دار النعيم التي لمثلها يعمل العاملون وبها يتنافس المتنافسون؟ ويقول لهم أيضا «إِنِّي ظَنَنْتُ» تيفنت في الدنيا «أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ» في الآخرة لأنه كان يعتقد ما جاء به الرسل من البعث والحساب والثواب والعقاب وكان حسن الظن بالله والله عند ظن عبده به
«فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ» 21 لأمنه مما كان يخافه وقد أعطي أمنينه «فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ» 22 مرتفعة مكانا ومكانة «قُطُوفُها» ثمارها التي تقطف منها للأكل «دانِيَةٌ» 23 للمتناول قائما وقاعدا ومضطجعا لا تحيجه لحركه أو آلة ولا لأمر بل بمجرد ما تخطر بباله تصير أمامه وتقول لهم الملائكة «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ» لهذا اليوم «فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» 24 الماضية من أيام الدنيا، وهذه الآية السادسة التي تدل على أن العمل دخل في دخول الجنة كما ذكرنا في مثلها في الآية 72 من سورة الزخرف والآية 32 من سورة النحل المارتين والآية 43 من سورة الأعراف في ج 1 «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ» بصوت منخفض ملؤه الحزن والأسى والأسف والحرقة والندم والتأوه لسوء ما يرى وخيبة ما يلقى «يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ 25 وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ» 26 كما كنت في الدنيا، وإذا كان من يسقط بالفحص قد يؤدي به الحال إلى الانتحار لشدة استيائه ويتوارى عن الناس خجلا، فلا لوم على من يسقط في الآخرة أن يقول ما قال ويقول «يا لَيْتَها» الموتة الأولى «كانَتِ الْقاضِيَةَ» 27 عليه القاطعة لهذه الحياة المشئومة يا ويلتا ويا حسرتا «ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ» 28 شيئا مما أنابه من العذاب، وقد «هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ» 29 الذي كنت أحتمي به في الدنيا من قوة وسلطة وحجة وعقل وبقيت ذليلا حقيرا،
فيقول الله تعالى لخزنة جهنم «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ 30 ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ» 31 أحرقوه بها «ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً» بذراع يعلمه الله وليس مما نعرف من الذراع ويقال لهم «فَاسْلُكُوهُ» 32 بأن تلف على جسده مرات حتى تستغرقه، فيكون كأنه أدخل فيها، لأن معنى السلك الإدخال، قال تعالى (أَنْزَلَ مِنَ(4/403)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ)
الآية 22 من سورة الزمر المارة أو أنها تسلك فيه بأن تدخل من حلقه وتخرج من دبره كما يسلك الخيط بالإبرة، وسبب هذا الإرهاق هو «إِنَّهُ» ذلك الخبيث في حالة الدنيا «كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ» 33 «وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ» 34 فلا يحث نفسه ولا أهله ولا غيره على التصدق غلبه في الدنيا، فعلى المستطيع أن يتصدق ويحث أهله وغيره على التصدق قبل حلول هذا اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون ولا جاه ولا رياسة قال بعضهم: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان فلا نخلع النصف الثاني بالإطعام لئلا يقال لي غدا «فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ» 35 صديق أو قريب ليشفع له أو ينفعه «وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ» 36 غسالة قروح أهل النار أو ما يسيل من صديدهم «لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ» 37 كنيرو الخطايا. وبعد أن أنهى ما يتعلق بأحوال أهل النعمة والنقمة، أقسم على صحة كتابه وصدق رسوله مبرئا لهما من طعن الكفرة وأضرابهم، وهدد من يفتري عليه ويكذّب رسله بقوله جلّ قوله «فَلا أُقْسِمُ» ان الأمر واضح لا يحتاج للقسم، وعليه تكون لا نافية، وقدمنا ما فيها في أول سورة القيامة ج 1 فراجعها، «بِما تُبْصِرُونَ» 38 مما في الأرض والسماء «وَما لا تُبْصِرُونَ» 39 من مخلوقات الدنيا والآخرة «إِنَّهُ» أي القرآن العظيم في معانيه، الجليل في مراميه «لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ» 40 هو رسولكم يا أهل مكة ومن حولها، وقد أضاف القول له مع أنه تعالى هو المتكلم به لأنه هو الذي يتلوه عليهم ويبلغهم إياه، وما قيل إن المراد بالرسول هنا هو جبريل عليه السلام ينفيه
قوله تعالى «وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ» 41 «وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» 42 لأنهم لم يصموا جبريل عليه السلام بالشعر والكهانة بل وصموا محمدا بن عبد الله بن عبد المطلب بهما، وهو المبرأ عنهما ووصموا الحضرة الإلهية الجليلة، راجع الآية 34 من سورة الأنعام المارة، ثم أكد ذلك القول الذي نسبه لحضرته بقوله «تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» 43 لم يختلقه محمد كما تقولون ولم يتعلمه من أحد وليس من أساطير الأولين بل هو وحي من الله منزل عليه. واعلموا أيها الناس أن هذا هو الواقع «وَلَوْ تَقَوَّلَ» محمد أو(4/404)
وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
افترى أو اختلق من نفسه شيئا ونسبه إلينا وبهت «عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ» 44 كما يقوله الكفار على فرض المحال وحاشا ساحته أن يفعل شيئا من ذلك أو يخطر بباله لأنه مشغول بنا، ما فيه شيء من دنياكم، فلا ينطق إلا عنّا ولا يتكلم إلا منّا، إذ هو معصوم من كل باطل بعصمتنا، ولو وقع منه شيء ما يخالف إرادتنا «لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ» 45 وأهلكناه كما تفعل الملوك بمن يكذب عليها، وذلك بأن يؤخذ بيده وتضرب عنقه صبرا، وهذا على نوعين إذا كان أربد إيقاع القتل من قفاء وهو أهون لئلا يشاهد الفعل أخذه السياف بشماله، وإذا أريد إيقاع القتل بوجهه وهو صعب عليه أخذه السياف عن يمينه وضرب عنقه، وهذا التفسير هو المناسب للمقام. وفسّر بعضهم اليمين بالقوة والقدرة، أي لسلبناه القوة، وعليه قول الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
وهو كما ترى «ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» 46 هو نياط القلب وهو عرق غليظ تصادفه شفرة الذابح فإذا قطع مات الإنسان، وهذا التصوير للإهلاك على أفظع صورة لما فيه من الإذلال والإهانة، وعند ذلك «فَما مِنْكُمْ» أيها الناس «مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» 47 بيننا وبينه لتمنعونا عن إجراء ذلك فيه إذ لا قدرة لكم، والمعنى أن محمدا صلّى الله عليه وسلم لا يكذب علينا قط لأنه يعلم كيف نفعل بمن يفتري علينا، ويعلم أننا لا تمكن أحدا أن يبهت علينا «وَإِنَّهُ» ذلك القرآن المصون «لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» 48 من عقاب الله وعظة وعبرة لهم لأنهم المنتفعون به «وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ» 49 به كثيرين لا يصغون لسماعه ولا يميلون لاتباعه «وَإِنَّهُ» ذلك القرآن المجيد الذي كذبتم به «لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ» 50 يوم القيامة لأنهم حين يرون ما صار إليه المؤمنون من الثواب والكرامة يندمون على تكذيبهم، ولات حين مندم
«وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ» 51 الذي لا شك فيه ولا شبهة بأنه منزل من لدنا عين اليقين ومحض اليقين. فيا سيد الرسل لا تلتفت إلى تكذيبهم، ولا تتأثر مما يصمونك به، ولا تترك دعوتهم، وكلما فرغت من تبليغ ما يتلى عليك «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» 52 وداوم على التسبيح(4/405)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
شكرا لما أولاك من النعم وتأهيلك لتلقي وحي ربك الكريم. قال بعض الصوفية أعلى مراتب العلم حق اليقين كعلم العاقل بالموت إذا ذاقه، ودونه عين اليقين كعلمه بالموت عند معاينة ملائكته، ودونه علم اليقين كعلمه بالموت في سائر أوقاته، وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية 95 من سورة الواقعة والآية 203 من سورة الأعراف في ج 1. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.
تفسير سورة المعارج عدد 29 و 79 و 70
نزلت بمكة بعد الحاقة، وهي أربع وأربعون آية، ومئتان وأربع وعشرون كلمة، وتسعمئة وتسعة وعشرون حرفا. وتسمى سورة المواقع. ولا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ» 1 لما خوف حضرة الرسول قومه بعذاب الله وعظمه أمامهم إذا هم لم يؤمنوا ويكفوا عما يصمونه به من الشعر والكهانة المشار إليهما في السورة المارة، ولهذه المناسبة قد نزلت هذه بعدها، لأن ما بين كل سورة وأخرى لا بد من وجود مناسبة.
مطلب اليوم مقداره خمسين ألف سنة ما هو وما هي:
قال بعضهم لبعض ما هو العذاب الذي يهددنا به ولمن يكون يا ترى، وهل يمكن الاتقاء منه أم لا؟ فأنزل الله هذه السورة معلنا أنه «لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ» 2 إذا وقع لأنه «مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ» 3 المصاعد والمراقي التي تصعد عليها الملائكة إلى السماء، فلو كان من غيره لأمكن أن يكون له دافع، أما هو فلا، كيف وهو الذي «تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ» جبريل عليه السلام وخصه بالذكر مع أنه داخل مع الملائكة لشرفه وفضله عليهم أجمع «إِلَيْهِ» جل شأنه على تلك المعارج «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» 4 من سني الدنيا بحيث لو صعد غير الملك من منتهى أسفل الأرض إلى غاية علو تلقي أمر الله تعالى لما وصل(4/406)
إلا بتلك المدة، أما الملك فإنه يقطعها بيوم زماني بإقدار الله تعالى إياه، قالوا وتحديد هذه المسافة هو أن ثخن الأرض الواحدة خمسمائة عام، وبين كل أرضين مثلها، وبين الأرض العليا والسماء كذلك، وثخن كل سماء وما بينهما كذلك، وما بين السماء العليا ومقعر الكرسي كذلك، فيكون المجموع أربعة عشر ألف سنة، ومن مقعر الكرسي إلى العرش مسيرة أحد عشر ألف سنة، فبلغت مدة العروج خمسة وعشرين ألف سنة، ومثلها في النزول، فيكون خمسين ألف سنة، ومما يدل على أن المراد صعود وهبوط ما قدمناه في الآية 5 من سورة السجدة المارة، وقيل إن المواطن في القيامة خمسون موطنا، وكل موطن ألف سنة من سني الدنيا، قال تعالى (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) الآية 47 من سورة الحج في ج 3، وهذه مظهر من مظاهر (النون) في قوله تعالى (كُنْ فَيَكُونُ) فإنه بحروف الجمل خمسون، فهذه المواطن كلها بالنسبة إلى الله تعالى لحظة واحدة أقل من لفظكم أيها الناس بحرف النون، وهذا التقدير بالنسبة إلينا، لأن يوم الآخرة لا نهاية له، ولا يقدر بزمان، إذ لا شمس ولا قمر، وللصوفية فيه أقوال كثيرة وتفصيلات بديعة ضربنا عنها صفحا لطولها وكثرتها، لأن كلّا منهم رضي الله عنهم ذكر مما أودعه الله في قلبه المخلّى عن غيره المحلّى به، وبين ما أفاض الله عليه فيه اكتفاء بما أخرجه الإمام أحمد وابن شعبان وأبو يعلى وابن جرير والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قوله تعالى (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) ما أطول هذا اليوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده انه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من مكتوبة يصليها في الدنيا. وما روي عن عبد الله بن عمر يوضع للمؤمنين يومئذ كراسي من ذهب ويظلل عليهم الغمام ويقصر عليهم ذلك ويهون حتى يكون كيوم من أيامكم هذه. فيفهم منه أن طول المدة تكون على الكافرين المعذبين لشدة ما يلاقونه وهول ما يعانون، ولا بدع بأن يكون طويلا على أناس قصيرا على آخرين، قال الشاعر في هذا المعنى:
من قصر الليل إذا زرتني ... أشكو وتشكين من الطول(4/407)
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20)
وقال آخر:
ليلي وليلى نفى نومي اختلافهما ... بالطول والطول يا طوبى لو اعتدلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت ... بالطول ليلى وإن جادت به بخلا
الألف فيه للإطلاق والروى، وإلا فهو مفرد يعود على الليل، وقول الآخر في هذا أيضا:
ويوم كظل الرمح قصّر طوله ... دم الزقّ عنا واصطفاق المزاهر
قال تعالى «فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا» 5 لا جزع فيه، راجع الآية 83 من سورة يوسف المارة «إِنَّهُمْ» كفرة قومك «يَرَوْنَهُ» أي العذاب الذي أو عدتهم به «بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً» 6 7 لأنه آتيهم حتما وكل آت قريب لا سيما وأن إنزاله بيدنا لا يمنعنا من صبه عليهم مانع، وليعلموا أن علامته نزول العذاب الأكبر الذي لا بد من وقوعه، لأن عذاب الدنيا قد يكون وقد لا يكون لأسباب نعلمها، أما عذاب الآخرة فيكون «يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ» 8 مثل عكر الزيت أو الفضة المذابة «وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ» 9 الصوف المصبوغ ألوانا كثيرة لأن الجبال ذات ألوان منها الأحمر والأسود والأصفر والأبيض، فتكون هباء منثورا كالصوف المندوف إذا طيرته الرياح، إنما شبهها بالصوف لأنها إذا لبست بعضها ببعض بأن خلطت وسيرت أشبهته بألوانه المذكورة وما بينها «وَلا يَسْئَلُ» حينذاك «حَمِيمٌ حَمِيماً» 10 عن حاله وما حل به، لا لأنهم لا يرى بعضهم بعضا، ولكن لشدة الهول، إذ يشتغل كل بنفسه، ولهذا
قال تعالى «يُبَصَّرُونَهُمْ» يشاهدونهم ويعرفونهم، ولكن لا يتكلمون معهم، ولشدة الفزع «يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ» 11 زوجته التي لا يمكن أن يفتدي بها في الدنيا إلا أن يطلقها، أما في الآخرة فإنها تهون عليه وينسى الغيرة والمروءة «وَأَخِيهِ» 12 أيضا لو قدر أن يفدي نفسه به لفداها «وَفَصِيلَتِهِ» عشيرته «الَّتِي تُؤْوِيهِ» 13 بالدنيا مما يخاف ويأوي إليها عند الشدائد لو أمكن لفداها كلها بنفسه، بل «وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» لو كان في ملكه وأمكنه قبول الفداء بهم «ثُمَّ يُنْجِيهِ» 14 من عذاب الله لفعل، ولكن لا ينجيه شيء(4/408)
وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)
أبدا إلا رحمة الله وهي بعيدة منه، راجع الآية 34 من سورة عبس في ج 1، قال تعالى «كَلَّا» لا ينجيه أحد أصلا «إِنَّها» المخصصة لعذاب المجرم هي «لَظى» 15 أحد طبقات جهنم المعدة لمن يثبت عليه الجرم العظيم في الموقف بعد الحساب ويحكم عليه بفصل القضاء بأن يعذب فيها، ولا يسمى مجرما إلا بعد ذلك، وهكذا في الدنيا يكون مدعى عليه بمجرد الدعوى عليه، وعند وجود امارة على اقترافه الجرم يسمى ظنينا، وعند تواتر الأدلة يسمى متهما، وعند الثبوت يسمى مجرما، ثم محكوما. ومن أوصاف هذه النار أنها «نَزَّاعَةً لِلشَّوى» 16 أطراف الجسد كاليدين والرجلين بمجرد طرحهم فيها، والنزع الجذب بقوة، أي أنها مفرقة لأعضاء الإنسان «تَدْعُوا» إليها كل «مَنْ أَدْبَرَ» عن الإيمان «وَتَوَلَّى» 17 عن الحق «وَجَمَعَ» مالا من غير حله «فَأَوْعى» 18 خزنه في الأوعية ولم ينفقه في وجوه البر ولم يؤد حق الله منه لعياله. وقال بعضهم معنى أوعى تعذّب يقول الأعرابي: وهاك الله أي عذّبك. ومن ورع عبد الله بن حكيم أنه كان لا يربط كيسه، فقيل له في ذلك فقال سمعت الله يقول جمع فأوعى، ومتى ما ربطته فقد أوعيته. «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً» 19 جنسا وجبلة طبع على الهلع الذي فسره الله بقوله
«إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» 20 21 وإذا أعطي المال لم ينفق، وإذا أصابه الفقر لم يصبر، ثم استثنى الله عز وجل من ذلك الجنس نوعا مخصوصا بقوله «إِلَّا الْمُصَلِّينَ» 22 وهذا استثناء اجمع من الواحد الذي فيه معنى الجمع كالإنسان، ثم وصف المصلين بقوله «الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» 23 مواظبون على إقامتها «وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ» 24 عندهم فرضوه على أنفسهم بحسب ما تجود به أنفسهم وأريحيتهم وخصصوه «لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» 25 المتعفف عن السؤال الذي يظن به عدم الحاجة «وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ» 26 يوم القضاء والجزاء «وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ» 27 خائفون وجلون «إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ» 28 فلا يقدر أحد مهما كان على درجة عالية في الإخلاص أن يقطع بأمنه من عذاب الله، إذ لا يخلو من التقصير بحقه، والأعمال الصالحة مهما كثرت(4/409)
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40)
لا توازي نعمة جارحة واحدة من الإنسان «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ» 29 صائنون لها عن كل ما حرم الله «إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ» يشمل الرجال والنساء والعبيد والإماء «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» خاص بالذكور فقط، إذ لا يحل للنساء إلا الاستفادة من خدمتهم فقط «فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» 30 بذلك وإن كثروا من الزوجات والإماء ضمن حدود الشرع
«فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ» من الزوجات والإماء للرجال ومن الأزواج فقط للنساء «فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ» 31 المتجاوزن ما أحلّ الله لهم إلى ما حرم عليهم، وقد فصلنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 6 من سورة المؤمنين المارة، وذكرنا أيضا بأنها ليست بناسخة لآية المتعة المزعومة الواردة في سورة النساء ج 3 فراجعها، «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ» 32 محافظون لا يخونون الأمانة ولا ينقضون العهد ولا يخلفون الوعد ولا يغدرون ولا ينكثون، راجع الآية 8 من سورة المؤمنين المارة والآية 34 من الإسراء في ج 1، «وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ» 33 بها أمام الحكام لإظهار الحقوق بلا ميل ولا ترجيح بين القوي والضعيف والوضيع والشريف، راجع الآية 32 من سورة الفرقان ج 1، وله صلة في الآية 283 من سورة البقرة ج 3، «وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ» 34 على أوقاتها وشروطها وأركانها على أكمل وجه، راجع الآية 8 من سورة المؤمنين المارة، ولها صلة في الآية 238 من البقرة في ج 3 أيضا، «أُولئِكَ» الجامعون لهذه الصفات الكريمة «فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ» 35 عند ربهم، ويؤذن وصف المصلّين بما ذكر أن الصلاة وحدها ما لم تكن تلك الصفات منضمة إليها لا تكفي للخلاص من الله ولا تؤهل صاحبها دخول الجنة بانفرادها، وهو كذلك والله أعلم «فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا» أي شيء جرى لهم ما بالهم «قِبَلَكَ» يا سيد الرسل «مُهْطِعِينَ» 36 مادي أعناقهم نحوك وهم مديمو النظر إليك متطلعون لحهتك «عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ» 37 جماعات وفرقا محلّقين بأطرافك، يستهزئون بك وبما أنزل عليك، نزلت هذه الآية في جماعة من قريش كانوا يحيطون بالنبي صلّى الله عليه وسلم ويسمعون كلامه ولا يتأثرون منه، ويقولون إن دخل أصحاب محمد الجنة التي يذكرها ويصفها بقوله لندخلنها قبلهم،(4/410)
عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
فرد الله عليهم بقوله «أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ» 38 مثل أصحابك «كَلَّا» يا سيد الرسل لا يدخلونها أبدا ماداموا على كفرهم، لأن أمثالهم ليسوا من أهل الجنة، إذ لا يدخلها إلا الطاهرون من الشرك والكفر «إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ» 39 من نطفة قذرة، وهذه الجملة جارية مجرى المثل تعريضا عما يستقبح ذكره، لأن النطفة من مصب يتحاشى عن التصريح به، ولذلك أبهمه تعالى وتنزه. وهذا من آداب القرآن العظيم الواجب على الناس التأدب بآدابه، وأن يجتنبوا التصريح في كل ما من شأنه كتمه بل يومئون إليه إيماء ويعرضون تعريضا، والمعنى أن هؤلاء الكفار يدعون الشرف والفضل على أصحاب محمد، وهم وإن كانوا جميعا خلقوا من أصل واحد وشيء واحد كما ذكروا، إلا أن البشر يتفاضل بالأعمال والمعارف، والجنة لا تكون إلا للصالحين من البشر المخلصين، لا للأكابر والأغنياء وأهل الأنساب غير المتصفين بالصلاح. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن بشر بن جحاش قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وبصق يوما في كفه ووضع عليها إصبعه- فقال يقول الله عز وجل: يا ابن آدم أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك ومشيت بين بردين والأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق، وآن أوان الصدقة.
«فَلا» ليس الأمر كذلك «أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ» مشرق كل يوم من السنة ومغربها «إِنَّا لَقادِرُونَ» 40 على إهلاكهم جميعا بلحظة واحدة
و «عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ» فتخلق خلقا أحسن منهم طاعة وتصديقا كما أهلكنا القرون الأولى واستبدلنا بهم غيرهم وهو أهون علينا «وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» 41 ولا عاجزين عن ذلك ولا مغلوبين عليه ولا يفوتنا أحد بذلك «فَذَرْهُمْ» يا سيد الرسل «يَخُوضُوا» في أباطيلهم «وَيَلْعَبُوا» في لهوهم «حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» 42 وهو «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ» القبور «سِراعاً» لإجابة الداعي يوم ينفخ في الصور النفخة الثانية «كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ» شيء منصوب كالعلم والراية وشبهها «يُوفِضُونَ»
43 يستبقون إليه أيهم يصله قبل كما كانوا يتسابقون إلى أصنامهم في الدنيا ولكنهم(4/411)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)
«خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ» لما لحقهم من الخوف والفزع والهوان خاضعين «تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» وتعشاهم مذلّة وحقار بخلاف حالتهم في الدنيا، إذ كانوا ضاحكين بهيجين لأنهم لم يحسبوا لهذا اليوم حسابه «ذلِكَ» اليوم الموصوف بما ذكر الذي ظهر لهم عيانا واعترفوا به «الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» 44 به على لسان رسلهم في الدنيا والذي كانوا يكذبون به. وقد ختمت هذه السورة بمثل ما ختمت به سورة الذاريات فقط. هذا والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
تفسير سورة النبأ عدد 30- 80- 78
نزلت بمكة بعد سورة المعارج وهي أربعون آية، ومئة وثلاث وسبعون كلمة، وتسعمئة وسبعون حرفا، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا بما ختمت به، ومثلها في عدد الآي سورة القيامة، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «عَمَّ» عن أي شيء «يَتَساءَلُونَ» 1 أهل مكة وأصلها (عن) الجارة و (ما) الاستفهامية أدغمت في بعضها وقد أعيد الضمير إلى الكفار مع عدم سبق ذكر لهم استغناء بحضورهم حسا، وقد ذكرنا غير مرة جواز عود الضمير إلى غير مذكور إذا كان مشهورا متعارفا أو معلوما بالقرينة كما هنا، وذلك أن حضرة الرسول دعاهم إلى التوحيد وحذرهم عاقبة الكفر والشرك وهول الآخرة، فصاروا يتساءلون بينهم عن يوم الآخرة الذي عظمه لهم أهو واقع أم لا، وما هو ذلك اليوم المهول، فأنزل الله تعالى هذه السورة وبين تساؤلهم «عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ» 2 الخبر الجليل «الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ» 3 بشأنه وماهيته، مع أنهم لم يعدّدوا له شيئا لهذا بدأهم بأداة الردع والزجر بقوله «كَلَّا» لا حاجة للاختلاف فيه والسؤال عنه، لأنهم لم يصدقوا به، ثم هددهم بقوله «سَيَعْلَمُونَ» 4 ذلك حقا ويرونه بأم أعينهم بما فيه من أهوال وعذاب وكرر الزجر، فقال «ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ» 5 كنه ما يتساءلون عنه وكيفيته.
وأعلم أن الله تعالى بدأ هذه السورة بما يضاهي السورة قبلها ويناسب آخرها، ولهذا(4/412)
وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)
ذكرهم بشيء من عجائب قدرته وبدائع صنعه على طريق الاستفهام التقريري ليستدلوا به على ذلك فقال «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً» 6 لتستقروا عليها أيها الناس وتنتفعوا بها «وَالْجِبالَ أَوْتاداً» 7 لها ورواسي لئلا تميد بكم فتقلق راحتكم «وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً» 8 ذكرا وأنثى لتأنسوا بينكم «وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً» 9 لاستكمال راحتكم «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً» 10 لستركم عن الأنظار بظلمة إذا أردتم هربا أو استخفاء لما لا يجوز الاطلاع عليه حفظا لكرامتكم، وهذا من المجاز إذ شبه الليل بالغطاء بجامع الستر في كل
«وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً» 11 لتبتغوا فيه من فضل ربكم «وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً» 12 محكمات قويات لا تتأثر على مدى الدهور والأعوام لمنافعكم. وأعلم أن هذه الآية والآيات المبينة في الآية 17 من سورة المؤمنين المارة تدل دلالة صريحة لا تحتمل التأويل على أن السماء بناء، وأنها سبع واحدة فوق الأخرى، ألا فليتنبه الجاحدون «وَجَعَلْنا» في الرابعة من هذه السبع «سِراجاً وَهَّاجاً» 13 وقّادا إذ جعل جل شأنه في الشمس حرارة ونورا، والوهج جامع لهما لإنضاج أثماركم وزروعكم «وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ» الرياح التي تعصر السحاب فتمطره «ماءً ثَجَّاجاً» 14 درّارا بقوة صبّابا «لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا» لكم «وَنَباتاً» 15 لأنعامكم «وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً» 16 ملتفة بعضها على بعض لكثافة أشجارها لتتنزهوا فيها وتفكهوا بأثمارها فانظروا هل تنكرون شيئا من هذه وهل يقدر عليها أو على شيء منها ابتداء إلا الله، ومن يقدر على ابتدائه ألا يقدر على إعادته بعد إتلافه؟ بلى وهو على كل شيء قدير، والقادر على هذا ألا يقدر على إحياء الموتى؟ بلى، إذ بدأ خلقهم ابتداعا على غير مثال، فإحياؤهم على ما كانوا عليه أهون عليه وله المثل الأعلى، ولهذا قال تعالى مؤكدا لهم ذلك «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ» الذي تسألون عنه «كانَ مِيقاتاً» 17 لما وعدناكم به من إثابة المحسن وعقاب المسيء جزاء لكل عمل بما يناسبه، وسيكون هذا اليوم الذي يقع فيه الحساب والثواب والعقاب «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» النفخة الأخيرة «فَتَأْتُونَ أَفْواجاً» 18 زمرا وجماعات لا بالواحد والاثنين، ثائرين من مدافنكم ومحل وجودكم «وَفُتِحَتِ السَّماءُ»(4/413)
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
في ذلك اليوم «فَكانَتْ أَبْواباً» 19 وطرقا ومخارج وفجاجا بخلاف حالتها اليوم «وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» 20 في عين الناظر إذ تقلع من مقارها فتكون هباء منثورا
«إِنَّ جَهَنَّمَ» التي أعددناها للكافرين بنا «كانَتْ مِرْصاداً» 21 للناس وممرا لهم فلا سبيل لأحد إلى الجنة حتى يقطع النار، وإذ ذاك ترصد من هو من أهلها فتصيده وتوقعه فيها وتترك من هو من أهل الجنة فيعبرها، فهي كالمكان الذي يرصد الراصد فيه لعدوه، وقد شبهها الله بذلك بجامع الانتظار في كل، لأن الراصد ينتظر الصيد أو العدو ليقتله، وجهنم تنتظر أهلها لتحرقهم، وذلك أن الصراط مضروب على متن جهنم، وقد جعل الله فيه رصدا لكل من بمر به، فإذا كان من أهل الجنة تركه وشأنه حتى يصل إليها، وإن كان من أهل النار أمسك به فألقاه فيها، ولهذا قال تعالى «لِلطَّاغِينَ مَآباً» 22 مثوّى يرجعون إليها رجوع إقامة لا يخرجون منها أبدا لقوله تعالى «لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً»
23 سنين كثيرة، والحقب ثمانون سنة كلما نقد حقب تلاه الآخر، فلا تتناهى وإن كثرت بل يبقون فيها دائما لقوله تعالى (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) الآية 20 من سورة السجدة المارة، فراجعها تعلم الآيات الدالة على تخليد الكفرة، وأنه ليس لهم مدة مخصوصة «لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً» نوما والعرب تسمي النوم بردا وهو لغة هذبل لأنه يبرّد سورة العطش، قال الشاعر:
فلو شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
راجع الآية 99 من سورة المؤمنين المارة تعلم ذلك «وَلا شَراباً» 24 لتخفيف حرارة ما هم فيه، قال ابن عباس هو الشراب البارد، وأنشد عليه:
أمانيّ من سعدى حسان كأنما ... سقتك بها سعدى على ظمأ بردا
هذا وما قاله مقاتل من أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى فيما يأتي (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) قول عاطل لا ينبغي أن يصدر من مثل مقاتل ولعله مدسوس عليه «إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً» 25 الحميم الصفر المذاب والماء الشديد الغليان، والغسّاق السائل من صديد أهل جهنم وقال ابن عباس وأبو العاليه: الغساق هو الزمهرير الممزّق لشدة برده أحشاء شاربه، والاستثناء منقطع لأنه من غير جنس الشراب(4/414)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
النافع، وهذا الجزاء الذي يجازون به «جَزاءً وِفاقاً» 26 لأعمالهم، وإنما ينالون هذا الجزاء القاصي الذي لا أعظم منه لأنهم يشركون وينكرون البعث أيضا ولا ذنب أعظم من هذين، ولهذا أشار الله عنه بقوله «إِنَّهُمْ كانُوا» في دنياهم «لا يَرْجُونَ حِساباً» 27 على أعمالهم القبيحة «وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً» 28 مصدر كذب بلغة اليمن وبلغة غيرهم التكذيب، وبغير التشديد التكثير على أن هذه الأمور الثلاثة التوحيد والنبوة والمعاد لم تختلف فيها أمة كتابية قطعا، ومن أنكرها فليس من أهل الكتاب بل هو كافر لأن جميع الرسل بلغت أممها فيها، واعلم أن القرآن العظيم لا يتصدى لذكر أحدها إلا وأتبعها بذكر الآخرين، قال تعالى «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً» 29 أثبتناه في اللوح المحفوظ فلا سبيل لإنكاره لأنها مدونة فيه وعند الحفظة كما مر في الآية 23 من سورة الإسراء ج 1، وعند ما يستغيثون مما يعاينون من الآلام يقال لهم «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» 30 وهذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار، أجارنا الله منها.
ثم طفق يذكر ما للمتقين عنده فقال «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً» 31 ونجاة من العذاب والهوان والخوف بما أسلفوه من تصديقهم الرسل واعترافهم بالتوحيد والبعث وتفرعاتها، لهذا فإن لهم جزاء أعمالهم هذه «حَدائِقَ وَأَعْناباً» 32 خص الأعناب مع أنها داخلة في الحدائق إشعارا بتفضيلها على غيرها، لأنها من المدّخرة المغذية ويؤذن بذلك التنكير «وَكَواعِبَ أَتْراباً» 33 لهم أيضا في الجنة، أي جواري مستويات في السن، ويقال للبنت كاعب إذا ظهر ثديها وارتفع ارتفاع الكعب، وهذا في إطلاق الجزء على الكل «وَكَأْساً دِهاقاً» 34 مملوءة مترعة «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً» 35 فلا يكذب بعضهم بعضا ولا يكذب بعضهم على بعض كما هو الحال في شربة خمر الدنيا، والكذاب يأتي بمعنى الكذب وقد يخفف وعليه قول الأعشى:
فصدقتها وكذبتها ... والمرء ينفعه كذابه
وهو شائع بمعنى التكذيب، راجع الآية 23 من سورة الطور المارة تجد معنى اللغو وما يتعلق به. واعلم أن أهل الجنة جعلنا الله منهم يعطون ذلك العطاء(4/415)
«جَزاءً مِنْ رَبِّكَ» يا سيد الرسل على أعمالهم الصالحة فضلا منه «عَطاءً حِساباً» 36 كثيرا كافيا مصدر حسب أقيم مقام الوصف لعطاء ثم أبدل من لفظ ربك «رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ» بالكسر صفة للرّب الذي هو بدل من ربك، وإذا قرىء رب السموات بالرفع يقرأ أيضا بالرفع على أنه خبر له باعتباره مبتدأ والكل جائز «لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً» 37 بطلب الشفاعة وغيرها، بل هو إذا شاء يأذن بها «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ» صفّا «وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا» والروح هو جبريل عليه السلام ويطلق على نوع من الملائكة مشرقين مقربين وعلى ملك ما خلق الله تعالى بعد العرش أعظم منه وعلى خلق آخر، والله أعلم بمراده به، ولهذا فإن اليهود سألت الرسول بواسطة قريش عنه، حتى إذا قال هذا قالوا غيره كما أشرنا إليه في الآية 85 من الإسراء في ج 1، وقد أفحمهم بقوله (قل الروح من أمر ربي) فهو صادق على الكل، راجع الآية 8 من سورة الكهف المارة.
وأعلم أن هؤلاء الملائكة الكرام على ما هم عليه من الإجلال والتعظيم «لا يَتَكَلَّمُونَ» حال اصطفافهم وغيره إجلالا وتعظيما لهيبة ذي الجلال والعظمة «إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ» بالكلام منهم، وكذلك الأنبياء فمن دونهم «وَقالَ صَواباً» 38 في دنياه وعمل بما قال «ذلِكَ» الواضح فيه أحوال أهل النار وأهل الجنة هو «الْيَوْمُ الْحَقُّ» يوم النبأ العظيم الذي يتساءل عنه الكفرة «فَمَنْ شاءَ» أن يأمن من هوله ويفوز بنعيمه «اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً» 39 يأوي إليه منه فلك طرق طاعته وتقرب بإيمانه وتصديقهِ نَّا أَنْذَرْناكُمْ»
أيها الكفّارَذاباً»
مهولا فظيعا وستجدونهَ رِيباً»
ما بينكم وبينه إلا الموت وهو أقرب شيء لكم إذ يأتيكم على غرة ثم تبعثون إلى ربكمَ وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ»
محضرا من خير أو شر مثبتا في صحيفته ومشاهدا بأم عينه، راجع الآية 30 من سورة آل عمران ج 3 تجد تفصيل هذاَ يَقُولُ الْكافِرُ»
بعد الحساب ومشاهدة العذاب الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً»
40 لم أخلق في الدنيا ولم أو هذه الأهوال.
ولا يقال هنا وضع الظاهر موضع المضمر، لأن المرء عام والكافر خاص، قال عبد الله بن عمر: إذا كان يوم القيامة مدّت الأرض مدّ الأديم وحشر الدواب(4/416)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10)
والبهائم والوحوش وغيرها، ثم يحصل القصاص بين البهائم حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء، فإذا فرغ من القصاص قيل لها كوني ترابا فعند ذلك يتمنى الكافر أن يكون ترابا مثلها ليتخلص من العذاب المعدّ له، وما هو بنافعه، ويتمنى أن يعود للدنيا ليعمل صالحا ولا يجاب، ويتمنى أن يتوب ويعترف بما كذب بالدنيا ولا يرد عليه، فتلزمه الحسرة وخاصة عند ما يشاهد فوز المؤمنين وما صاروا إليه من النعيم، ثم يقع اللوم بينهم وبين رؤسائهم وأوثانهم ولا تنفعهم المحاججة والمخاصمة، فيزجون في جهنم أفواجا أفواجا وهم يتصايحون ولا محيص لهم عنها، ويستغيثون ولا مجيب ولا سميع إلا الإخساء والإذلال. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وأتباعه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة النازعات عدد 31- 71- 79
وتسمى سورة الطامة والساهرة. نزلت بمكة بعد سورة النبأ، وهي ست وأربعون آية، ومئة وسبع وتسعون كلمة، وسبعمئة وثلاثة وخمسون حرما، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا مختومة بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي ولا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «وَالنَّازِعاتِ» الملائكة التي تنزع أرواح الكفرة نزعا شديدا بعنف وإهانة وقسوة كما تجر الشوكة من الصوف زيادة في تعذيبهم «غَرْقاً» 1 هو نزع من للنزع مبالغ فيه والإعراق في النزع التوغل فيه إلى بلوغ أقصى درجاته، وهو مفعول لاسم الفاعل قبله، أو مصدر من معناه كجلست قعودا، وقمت وقوفا، وشرط المفعول موجود هنا وهو اتفاق المصدر مع عامله لأنه بمعنى ما قبله، إلّا أنه ليس من لفظه، يقال أغرق النازع في القوس إذا اجتذبه وبلغ غاية المدّ فيه حتى انتهى إلى النصل، «وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً» 2 الملائكة التي تشط أرواح المؤمنين فتسلتها سلّا كما تسحب الشعرة من الحليب والدلو من الماء بلين ولطف إكراما وتعظيما لشأنهم «وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً» 3 الملائكة(4/417)
أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)
التي تسبح في مضيّهم تنفيذ أوامر ربهم مسرعين متسابقين في الهواء والفضاء كما تسبح الحيتان بالماء «فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً» 4 لقبض أرواح المؤمنين وإيصالها إلى الجنة بالاحترام والتكريم، واستخراج أرواح الكافرين وزجها في النار امتثالا لأمر ربهم وتعظيما لجلاله. هذا ويوجد لهذه الآية معان كثيرة غير ما ذكرنا لا حاجة لإثباتها اكتفاء بما نقلناه «فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» 5 من أمور العباد مما يعود لدينهم ودنياهم كما رسمه الله لهم، والوقف على كلمة أمرا لازم، لأن وصله بما بعده يصيّر كلمة «يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ» 6 بسبب نفخ الملك بالصور النفخة الأولى إذ يضطرب لها كل شيء ويموت فيها جميع الخلق عدا من استثنى الله. ظرفا (للمدبرات) مع أنه قد انقضى التدبير، تدبر «تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ» 7 النفخة الثانية فيحيا بها كل شيء مات من أول الدنيا لآخرها من قبل النفخة الأولى وفيها وما بعدها. وقد أقسم الله تعالى في هؤلاء الملائكة الكرام تبجيلا لشأنهم، وله أن يقسم بمن وما شاء من خلقه، أو لكثرة منافعهم بالنسبة لنا. وجواب القسم محذوف تقديره لتبعثن بعد الموت أيها الناس، وهو جواب لمنكري البعث من الكفار. وأعلم أن الخلائق تنقسم في ذلك اليوم المهول قسمين وقد بينهما بقوله جل قوله «قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ» 8 خائفة قلقة وجلة «أَبْصارُها خاشِعَةٌ» 9 ذليلة حقيرة خاضعة «يَقُولُونَ» أصحاب هذه القلوب والأبصار في الدنيا إذا قيل لهم أنكم مبعوثون بعد الموت «أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ» 10 أي الحالة الأولى كما كنا أول مرة أحياء إنكارا وتكذيبا وسخرية، يقال لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه رجع إلى حافرته وعليه قوله:
أحافرة على صلع وشيب ... معاذ الله من سفه وعار
ثم حكى الله أقوالهم في الدنيا بقوله عز قوله «أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً» 11 زيادة في الإنكار والجحود والاستهزاء واستعظاما، أي كيف نردّ للحياة بعد أن آل أمرنا إلى ذلك «قالُوا» مستكبرين أمر إعادتهم «تِلْكَ إِذاً» إن صحت الرجعة فهي «كَرَّةٌ خاسِرَةٌ» 12 نغين فيها لتكذيبنا إياها. قال تعالى «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ» 13 نفخة لا تكرار فيها للإماتة وواحدة للإحياء(4/418)
فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)
«فَإِذا هُمْ» منكرو البعث مجموعون «بِالسَّاهِرَةِ» 14 على وجه الأرض ظاهرين للعيان لا يسترهم شيء، وسميت ساهرة لأن نوم الحيوان وسهره عليها، قال أمية ابن الصلت:
وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به أبدا مقيم
وقال في الكشاف هي الأرض البيضاء المستوية الملساء لأن السراب يجري فيها أخذا من قولهم عين ساهرة أي جارية بالماء، قال الأشعث بن قيس:
وساهرة يضحى السراب مجللا ... لإقطارها قد جبتها متلثما
قال تعالى مخاطبا سيد المخاطبين «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى» 15 مع قومه كيف كان يتحمل مشاقهم، أما يجدر بك يا سيد الرسل أن تكون مثله فتحمل أذى قومك وإهانتهم، ذكّره الله تعالى به تسلية له، ثم شرع يذكر بعض ما خوله إياه وما لقي من المرسل إليهم فقال اذكر لقومك شيئا عنه «إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» 16 اسم لواد عند الطور وقال له «اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى» 17 على قومه وتجاوز حدودنا «فَقُلْ» له «هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى» 18 بحذف إحدى التاءين أي تتزكى من كفرك وسوء صنيعك إلى قومك «وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى» 19 عقابه جعل الخشية غاية للهداية، لأنها ملاك الأمر، ولأن من خشي الله يؤمل فيه كل خير، ومن أمن منه اجترأ على كل شر، ومن هذا قوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة: من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل. أي استراح من وعثاء السفر في دنياه. فهنيئا لمن يبلغ منزله في الآخرة على رضى من ربه فيستريح الراحة الدائمة. وفي هذا الاستفهام ما لا يخفى من اللطف في الدعوة والاستنزال عن العتو، وإنما قدم التزكية على الهداية لأنها تخلية وهي مقدمة على التحلية، وهذه الآية على حد قوله تعالى (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) الآية 45 من سورة طه في ج 1. قال تعالى «فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى» 20 وهي العصا يوم فضحت سحر السحرة وأجبرتهم على الإيمان بالله وبموسى
«فَكَذَّبَ» بها فرعون وملؤه لغاية فسقهم في العناد ولم يؤمنوا كما أرينا قومك آية انشقاق القمر فكذبوها ورموك بالسحر «وَعَصى» 21(4/419)
ربه وموسى كما عصى قومك ربهم وكذبوك، أي داوموا على عصيانهم ولم تؤثر بهم الآية العظيمة «ثُمَّ أَدْبَرَ» عنه وعن الإيمان به وذهب «يَسْعى» 22 للإفساد في الأرض مثل قومك «فَحَشَرَ» جمع جنوده وقومه «فَنادى فَقالَ» 23 فرعون في قومه بلا خجل ولا حياء «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» 24 والأصنام كلها أرباب لكم من دوني وكذلك الكواكب وأنا رب الجميع، قاتله الله، وهذا معنى العلو الذي أراده أمام قومه لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والكواكب، كما تقدم في القصة المارة في الآية 103 من سورة الأعراف ج 1 وغيرها «فَأَخَذَهُ اللَّهُ» على الصورة المبينة في الآية 63 من الشعراء في ج 1، وهذا الأخذ العظيم كان «نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» 25 أي عاقبتهما بأن أغرقه الله وقومه في الدنيا وأحرقهم في الآخرة، وفعلته الأولى هي تكذيبه موسى وإصراره على الكفر، والثانية قوله (ما علمت لكم من إله غيري) وقوله (أنا ربكم الأعلى) فأذاقه الله عذاب الدنيا بالإغراق وسيذيقه عذاب الآخرة بالإحراق على الصورة المبينة في الآية 98 من سورة هود المارة «إِنَّ فِي ذلِكَ» الذي فعل بفرعون وقومه «لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى» 26 الله ويتقيه ومن لا، فلو أتيته بملء الدنا عظات وعبرا فلا تؤثر فيه لأن القلوب إذا قست كانت أشد من الحجارة، كما سيأتي في الآية 75 من البقرة في ج 3، وذلك لأن فرعون وقومه أرادوا بكل قواهم أن يدبروا أمرا ليتخلصوا من موسى فلم يقدروا فأهلكهم الله، وإن قومك يا محمد يريدون باجتماعاتهم ومذاكراتهم التخلص منك ولن يقدروا، وإذا أصروا فيكون مصيرهم مثل مصير قوم فرعون، وقل لهم يا سيد الرسل «أَأَنْتُمْ» أيها الكفار المصرون على الإنكار «أَشَدُّ خَلْقاً» إذا أردنا إحياءكم بعد الموت «أَمِ السَّماءُ بَناها» 27 على ما ترون وقد «رَفَعَ سَمْكَها» سقفها إلى سمت العلو بغير عمد أو بعمد لا ترى كما مر في الآية 10 من سورة لقمان «فَسَوَّاها» 28 جعلها مستوية لا شقوق فيها ولا فطور ولا تضلع فيها، راجع الآية 12 من سورة النبأ المارة «وَأَغْطَشَ لَيْلَها» أظلمه «وَأَخْرَجَ ضُحاها» 29 أبرز نهارها وعبر بالضحى عن النهار لأنه أكمل أجزائه في النور والضوء، وأضاف الليل والنهار إلى السماء لأنهما يجريان فيها، ولأن الليل(4/420)
أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)
ظلمتها والنهار سراجها «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ» بعد خلق السماء وما فيها «دَحاها» 30 بسطها ومدها، قال أمية بن الصلت:
دحوت البلاد فسويتها ... وأنت على طيها قادر
وله من أمثال هذا كثير ومنه قوله:
وبث الخلق فيها إذ دحاها ... فهم قطّانها حتى التنادي
ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم: آمن شعر أمية وكفر قلبه. وقد ذكرنا في سورة السجدة المارة بأن لا تنافي بين هذه الآية الدالة على خلق الأرض قبل السماء لأنها تشير إلى أن الله تعالى خلق الأرض أولا بلا دحو، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض كما هو موضح هناك فراجعه.
ومن جملة دحوها أن «أَخْرَجَ مِنْها ماءَها» إذ فجرها بالعيون والأنهار.
مطلب المياه كلها من الأرض وذم الهوى وانقسام الخلق إلى قسمين والسؤال عن الساعة:
تدل هذه الآية المارة على أن جميع المياه من الأرض يؤيدها الآية 44 من سورة هود المارة، وتفهم أن ما ينزل من المطر هو ما يتبخر من الأرض أي من مياهها ورطوبتها وما يلتقمه السحاب من الأنهار والأبحر. وكانت العرب تعرف هذا لما ورد عنهم:
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... منى لجج خضر لهن أجيج
«وَمَرْعاها» 31 نباتها مما يرعاه الحيوان ويأكله الإنسان، ومن جملة دحوها أيضا «وَالْجِبالَ أَرْساها» 32 أثبتها في الأرض وثقلها فيها لئلا تتحرك فتخلّ بمنفعة البشر، قال زيد بن عمرو بن نفيل:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت شدها ... بأيد وأرسى عليها الجبالا
فانظروا أيها الكفرة هل خلق هذه الأشياء الجسيمة أعظم وأصعب أم إعادتكم بعد الموت، وليس عند الله صعب وأصعب، ولا هين وأهون، كما سيأتي في الآية 27 من سورة الروم الآتية، لأن إيجاد الأشياء كلها وإعدامها مستو عنده إذ تكون بين الكاف والنون. وإذا علمتم هذا فاعلموا أيضا أن هذه الأشياء كلها مما عدده هنا(4/421)
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
وما لم يعدد خلقها «مَتاعاً لَكُمْ» أيها الناس تتمتعون بها في حياتكم «وَلِأَنْعامِكُمْ» 33 متاعا أيضا لأنها خلقت لمنافعكم. ولما ذكر الله تعالى لمعة من بدء الخلق المشعرة عن توحيده بعد ذكر النبوة، أعقبها بذكر المعاد، لأنه أحد الأصول الثلاثة التي لا ينفك ذكر بعضها عن الآخر، كما أشرنا إليه في الآية 28 من سورة النبأ المارة، فقال جل قوله «فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى» 34 والداهية العظمى وهي القيامة التي تطم كل شيء لشدة هولها وكل شيء دونها «يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ» فيها «ما سَعى» 35 في دنياه وكسبه من خير أو شر لا ينسى منه شيئا «وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى» 36 فلا تخفى على أحد وهناك ينقسم الخلق إلى قسمين «فَأَمَّا مَنْ طَغى» 37 على الناس في دنياه وبغى على حقوقهم «وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا» 38 على الآخرة، وهذا هو القسم الأول المشار إليه في الآية 7 المارة «فَإِنَّ الْجَحِيمَ» المذكورة، وأظهرت بدل اضمارها لسبق ذكرها تهويلا لشأنها وتخويفا لأهلها. واعلم أيها القارئ أنه لا يأتي الاسم الظاهر مقام المضمر إلا لأمر ذي بال كما هنا، ومثله في القرآن كثير «هِيَ الْمَأْوى» 39 لهم لا ملجأ لهم غيرها. ثم ذكر القسم الثاني بقوله عز قوله «وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ» بين يديه في موقف تلك الطامة وعلم أنه محاسب على ما يأتي ويذر في دنياه «وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى» 40 فزجرها وكفّها عن الشهوات المحرمة خوفا من الله تعالى
«فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى» 41 لهم يمرحون فيها كيفما شاءوا وأرادوا، وهذه الآيات الثلاث بمقابل الآيات الثلاث قبلها.
واعلم أن الخوف مقدم على العلم، قال الله تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) الآية 38 من سورة فاطر في ج 1، ولما كان الخوف من الله سببا لدفع الهوى وهو علّة فيه، قدّمه عليه، فمن أعرض عن هوى نفسه وخالقها في مقامه هذا وعرف أنه يعاقب على الإقدام عليها ويثاب عن الإعراض عنها باعتقاد جازم كان مصيره الجنة عند ربه الذي خافه وترك شهوته من أجله، و (من) في الآيتين عامة في كل من يتصف بهما. والهوى مطلق الميل إلى الشهوات فهو يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية، وفي الأخرى إلى الهاوية، فالسعيد من ضبط نفسه بالصبر(4/422)
ووطنها على مخالفته، ولم يعتد بمتاع الدنيا وزهرتها الفانية، ولم يغتر بزخارفها وزينتها البالية، علما بوخامة عاقبتها، قال بعض الحكماء: إذا أردت الصواب فانظر هواك وخالفه. وقال الفضيل: أفضل الأعمال مخالفة الهوى. قال أبو عمران اليرتلي:
فخالف هواها واعصها إن من يطع ... هوى نفسه تنزع به شر منزع
ومن يطع النفس اللجوجة ترده ... وترم به في مصرع أي مصرع
وقال الأبوصيري:
فاصرف هواها وحاذر أن توليه ... إن الهوى ما تولى يصم أو يصم
وراعها وهي في الأعمال سائمة ... وإن هي استحلت المرعى فلا تسم
كم حسنت لذة للمرء قاتلة ... من حيث لم يدر أن السم في الدمم
وخالف النفس والشيطان واعصهما ... وإنّ هما محضاك النصح فاتهم
هذا والسالم من موافقة هواه قليل، اللهم اجعلنا من القليل. قال: سهل لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصديقين، فطوبى لمن سلم منه. وقال عليه الصلاة والسلام ثلاث مهلكات: هوى مطاع، وشحّ متبع، وإعجاب المرء في نفسه. واعلم أن من اتبع هواه في واحدة جرته إلى وحدات، ومن المعلوم عدم إدراك كل ما يتمناه الإنسان مهما بلغ في الحياة، وعليه فالترك بالكلية أولى وأحسن قال:
ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وقال الآخر:
وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا ... لعينك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر
وقال غيره:
جمع الهواء مع الهوى في مهجتي ... فتكاملت في أضلعي ناران
فقصرت بالممدود عن نيل المنى ... ومددت في المقصور في أكفاني
فالعاقل من يتباعد عن قليله فإنه يجره لكثيره، وهو لا يهدي إلا إلى الشر، وليس لمن تبعه عاقبة غير الهلاك، ويكفي في ذمه أنه ينشأ من شهوة النفس الخبيثة وطاعة الشيطان اللعين، قال ابن عباس: إن هذه الآيات نزلت في أبي عزير بن عمير(4/423)
وأخيه مصعب، كان الأول طاغيا مؤثرا الدنيا على الآخرة، والثاني خائفا مقام ربه ناهيا نفسه عن هواها. وقد وقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق عنه الناس حتى نفدت المشاقص أي السهام في جوفه رضي الله عنه، فلما رآه صلّى الله عليه وسلم متشطحا في دمه قال عند الله احتسبك، وقال لأصحابه لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعله من ذهب. ولما أسر أخوه أبو عزيز لم يشدد وثاقه إكراما له، وأخبر بذلك قال ما هو لي بأخ شدوا أسيركم، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا.
وعنه أيضا أنها نزلت في مصعب المذكور المعفور له المرضي عنه وفي أبي جهل المغضوب عليه المنفور منه، وقيل في النضر وابنه. والآيات عامات كما ذكرنا فيدخل فيها هؤلاء وغيرهم، إذ لا يوجد ما يقيدها بأحد، وذكرنا غير مرة أن نزول الآية لا يقصر معناها فيمن نزلت عليه أو فيه بل تعمه وغيره إذا لم يوجد مخصص. قال تعالى «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها»
42 متى قيامها وإتيانها يا سيد الرسل لأنهم لا يعلمون «فِيمَ أَنْتَ» في أي شيء أنت تنطلع إليها أتريد أن تعلم وقتها، كلا، فإنك وجميع الخلق بعيد «مِنْ ذِكْراها» 43 وبيان وقتها لأنك لست بالمبين زمنها لهم ولا بالعارف وقت قيامها، فقل لهم أنا لا أعلم عنها شيئا أبدا وقل «إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها» 44 منتهى علمها عند الله فما هذا السؤال عنها وأنت من علاماتها لأنك خاتم الرسل، فوجودك دلالة على قربها، فليستعدوا لها «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها» 45 ولهذا بعثت لا لبيان وقتها. واعلم أن هؤلاء الكفرة الملحّين بالسؤال عنها «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا» في دنياهم وقبورهم «إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» 46 أي بقدر زمن ضحى من يومها، لأن العشي لا ضحى له، وإنما الضحى لليوم، أي كان ما مرّ عليهم في حياتهم وبرزخهم بقدر هذا الجزء بالنسبة لأهوال ذلك اليوم وطوله. أخرج البزاز وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم- وصححه- عن عائشة قالت: ما زال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله تعالى عليه (فيم أنت من ذكراها) فانتهى عليه الصلاة والسلام فلم يسأل بعدها. وأخرج النسائي عن طارق بن شهاب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت (فيم أنت من ذكراها)(4/424)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)
فكفّ عنها وأنت خبير بأن السيدة عائشه رضى الله عنها حين نزول هذه الآية لم تكن أهلا لتحمل الحديث وليس لها علم بأن الرسول يسأل عن الساعة أو لا يسأل وبعد أن تزوجت به صارت ملازمة له في أكثر أوقاته حتى حال نزول الوحي، وكان يكثر من ذكر الساعة بحضورها صباح مساء ليل نهار، فتسمع الآيات التي نزلت بالساعة منه وتحفظها، وصار الناس ينقلون عنها ما تذكره لهم مما نزل في الساعة وغيرها قبل زواجها وبعده، وتجاوب من يسألها عن أقوال حضرة الرسول، ويدونون ما يأخذونه عنها، وعليه فلا محل للقول بأن هكذا أحاديث تكلم حضرة الرسول بها حال صغرها ولا يجوز الأخذ بها لأنها فكانت على الوجه الذي ذكرناه، وهي الصادقة فيما تقول وتذكر، ولا يتصور أن تقول شيئا من نفسها وتسنده لحضرة الرسول، بل كل ما جاء عنها وأسندته إلى حضرة الرسول قد سمعته منه ونقلته كما سمعته سواء أكانت تلك الأحاديث قبل اقترانها بحضرة الرسول أو بعده، فلا يشك بصحتها، وهي الأمينة بنت الصديق، وتعلم عقوبة من يسند لحضرة الرسول ما لم يقله. هذا والله أعلم وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة الانفطار عدد 32- 82
نزلت بمكة بعد سورة النازعات، وهي تسع عشرة آية وثمانون كلمة، وثلاثمائة وعشرون حرفا. وتسمى سورة المنفطرة وانفطرت. ومثلها في عدد الآي سورة الأعلى، لا ناسخ ولا منسوخ فيها، ويوجد سور مبدوءة بما بدنت به، ألمعنا إليها قبل ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت بها من اللفظة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» 1 انشقت، قال ابن عبّاس: ما كنت أعرف معنى فاطر حتى اختلف اعرابي مع آخر في بئر فقال أنا فطرته، أي شققته وحفرته «وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» 2 تساقطت من مواقعها «وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ» 3 على بعضها وزالت البرازخ من(4/425)
بينها فاختلطت «وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ» 4 بعث من فيها وقيل أصلها بعثت وأثيرت فهي منحوتة مثل سبحل وحمدل وحوقل ودمعز وصلعم إلى غير ذلك مما جاء في باب النحت، وما قاله أبو حيان بأن الراء ليست من أحرف الزيادة فلا تدخل في باب النحت فهو سهو منه لأن النحت غير التركيب، وعليه يكون المعنى نبشت وأخرج أهلها، وجواب إذا «عَلِمَتْ نَفْسٌ» برة كانت أو فاجرة «ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ» 5 في الدنيا من عمل فإنها تعلمه حينذاك صالحا أو سيئا إذ تنشر الصحف بعد البعث في المحشر فيقف كل على عمله، ثم يقال لأهل تلك النفوس بعد أن يستقر بهم الحال في الموقف «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ» 6 حتى تنكر هذا اليوم العظيم بالدنيا وتسوف بالتوبة ولا ترجع إلى ربك الذي رباك ولا تسلك طريق هداك وإلى متى:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس
وإلى متى تترك الحق وتتمادى في الباطل، وتعرض عن الرحمن، وتلازم الأوثان، أي شيء خدعك حتى ضيعت ربك مع ترالي نعمه عليك، أغرك جهلك، أم غشك حمقك، أو أزاغك شيطانك عن طاعة الإله الواحد، الذي لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد؟ وهذه الآية عامة في كل كافر، وما قيل إنها نزلت في كلدة بن خلف إذ ضرب حضرة الرسول ولم يعاقبه عليها لم يثبت، ولم يوجد ما يعضده. واعلم أن التعرض في هذه الآية لكرمه دون قهره وانتقامه وبقية صفاته المانعة من الاغترار إيذان بأنه ليس مما يصلح أن يكون مدارا لاغتراره حسبما يغويه شيطانه ويقول له افعل ما تشاء فإن ربك كريم كما تفضل عليك بالدنيا يتفضل عليك بالآخرة، كقول بعض شياطين الإنس هداهم الله:
تكثّر ما استطعت من الخطايا ... ستلقى في غد ربا غفورا
تعضّ ندامة كفيك مما ... تركت مخافة الذنب السرورا
وقول أبي نواس:
خلياني والمعاصي ... واتركا ذكر القصاص
وعلى الله وإن أسرفت في الذنب خلاصي(4/426)
كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
وهذا قياس عقيم مشتق من قياس إبليس المار في الآية 12 من سورة الأعراف المارة في ج 1، وأماني باطلة توجب الإقبال على الذنوب والإعراض عن الثواب، وإذا كان يعتقد يقينا بأن الله غفور رحيم ويقدم على معصيته فلم لا يقول الله رزاق كريم ويترك العمل؟ ولكن اعتقاده ذلك باطل من تسويل إبليس. هذا وقد ألمعنا قبل إلى أن هذه الآية من باب تلقين الحجة للعبد حتى يقول غرني كرمك يا رب تفطينا للجواب الذي لقنه وتعريضا لألطافه عليه كالتعريض بذكر الرحمن في بعض الآيات دون غيره من الصفات، وقد يكون هذا لمن يريد الله رحمته من المؤمنين العاصين ولهم أعمال صالحة، لا للكافرين والمشركين، وقد وصف جل شأنه بقوله «الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ» 7 وجعلك متناسب الخلق ماشيا على قدميك آكلا بيدك «فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» 8 من الصور التي اقتضتها مشيئته من الحسن والكمال والشبه بأبويك أو أحدهما أو غيرهما من جنسك في الطول والقصر والبياض والحمار «كَلَّا» لا تغتروا بكرم الله فتعبدوا غيره أو تشركوا به شيئا أو تجعلوه ذريعة لارتكاب المعاصي ولا تغفلوا عمن أنشأكم من العدم إلى الوجود وغمركم بنعمه «بَلْ تُكَذِّبُونَ» باعتقادكم هذا «بِالدِّينِ» 9 الذي جاءكم به رسولكم، دين أبيكم إبراهيم، دين الاعتقاد بالإله الواحد والرسل والبعث والجزاء عقابا وثوابا، وكيف تكذبون به «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ» 10 مراقبين يدونون كل ما يقع منكم
«كِراماً كاتِبِينَ» 11 لأقوالكم وأفعالكم وإثباتها في صحفكم المحفوظة لديهم بأمرنا «يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» 12 بسركم وجهركم لا يخفى عليه شيء من أحوالكم.
مطلب في الحفظة الكرام وعددهم، وبحث في الشفاعة وسلمان بن عبد الله:
كان الفضيل رحمه الله إذا قرأ هذه الآية قال ما أشدها على الغافلين. وفي تعظيم الكاتبين بالثناء عليهم تفخيم لأمر الجزاء، وإعلام بأنه عند الله من جلائل الأمور، إذ استعمل عليه هؤلاء الكرام عنده الذين لا يعصونه طرفة عين. وهؤلاء غير الحفظة المذكورين في الآية 13 من سورة الرعد الآتية في ج 3 لأن مع كل إنسان عددا من الملائكة، روي عن عثمان أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم كم من ملك على الإنسان(4/427)
فذكر عليه الصلاة والسلام عشرين ملكا. قال المهدوي في الفيصل إن كل آدمي يوكل به من حين وقوعه نطفة في الرحم إلى موته أربعمائة ملك. وأخرج البزار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله ينهاكم عن التعري، فاستحيوا من ملائكة الله تعالى الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حاجات: الغائط والجنابة والغسل. ولا يمنع هذا من كتبها ما يصدر عنه فيها ويجعل لها امارة على الاعتقاد القلبي ونحوه، ويلزمان العبد إلى مماته فيقومان على قبره يسبحان ويهللان ويكبران ويكتب ثوابه للميت إلى يوم القيامة إن كان مؤمنا، ويلعنانه إن كان كافرا إلى يوم القيامة. راجع الآية 18 من سورة ق في ج 1، وله صلة في سورة الرعد ج 3 عند قوله تعالى (لَهُ مُعَقِّباتٌ ... يَحْفَظُونَهُ) الآية.
قال تعالى «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ» 13 بالغ وسرور جليل في ذلك اليوم «وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ» 14 عظيم فظيع خارج عن عقل أهل الدنيا معرفته أجارتا الله منه، والمراد بالفجار هنا الكفرة المتوغلين في الكفر لا العصاة إذ تطلق كلمة فجر على الكاذب والزاني والكافر «يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ» 15 حينما يدانون بأعمالهم القبيحة بعد الحساب يوم القيامة «وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ» 16 بل محضرون ومطروحون فيها لا يفارقونها طرفة عين، فالمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، وهذه كقوله تعالى (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) وقوله تعالى (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) الآيتين 48 من سورة الحجر المارة و 167 من البقرة في ج 3، ثم عظم شأن ذلك اليوم فقال «وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ» 17 أيها الإنسان الغافل «ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ» 18 استفهام تعجب جوابه هو يوم ترتعد فيه الفرائص وتشقق لهوله القلوب، وإن ما فية لا تجابهه قوى البشر، وهذا الخطاب عام إلى كل من يتأتى منه الدّراية، وفي التكرير زيادة التفخيم والتعجب.
وما قيل إن الخطاب خاص بالكافر أو خاص بحضرة الرسول لم يثبت فيه شيء، وإن بين هذين القولين وبين الآية المفسرة من البعد ما لا يخفى. ثم وصف ذلك ببعض صفاته فقال «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً» فيه من المنافع مؤمنة كانت أو كافرة، وتخصيصها بالكافرة على قول بعض المفسرين لا مبرر له أيضا،(4/428)
لأن النفس المؤمنة بما فيها نفوس الأنبياء فمن دونهم لا تملك شيئا فيه إلا بتمليك الله تعالى إياها. راجع الآية 28 من سورة الأنبياء المارة، «وَالْأَمْرُ» يكون كله «يَوْمَئِذٍ» في ذلك اليوم كما في غيره «لِلَّهِ» 19 وحده اللهم عاملنا فيه بما أنت أهله بلطفك وأنت المنفرد فيه، فلا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى غيرك. قال ابن عباس كل ما في القرآن (ما أدرك) فقد أدراه وكل ما فيه (وما يدريك) فقد طوى عنه. وقال سليمان بن عبد الملك وهو من خير ملوك بني أمية بعد عمر ابن عبد العزيز لأنه افتتح خلافته بعمارة البيت المقدس والجامع الأموي بدمشق، إذ كان والده بدأ بهما وتوفي قبل إكمالهما، كما أن داود عليه السلام بدأ بعمارة الأول وتوفي قبل إكماله، فأكمله ابنه سليمان صلوات الله عليهما وسلامه، وختمها باستخلاف عمر بن عبد العزيز الذي كان في أعماله وأقواله يعد من الخلفاء الراشدين، لأبي حازم المزني: ليت شعري مالنا عند الله؟ قال يا أمير المؤمنين اعرض عملك على كتاب الله تعالى فتعلم مالك عنده، قال أين أجد ذلك في كتابه جل شأنه؟ قال عند قوله تعالى (إِنَّ الْأَبْرارَ) الآية المارة، قال وأين رحمة الله إذا، قال هي قريب من المحسنين، قال صدقت. وليس في هذه الآية ما يدل على نفي الشفاعة كما زعمه بعضهم، لأن كونها لا تكون إلا بأمر الله دليل على وجودها، ولو أنها يراد بها النفي لما قيدها بالأمر ولم يقيدها به إلا لأنه يريد وجودها، وتفويض من ارتضاه لها من أنبيائه وأوليائه، وحاشاه من منعها، كيف وهو أرحم الراحمين، وقد أمر عباده بأن يشفع بعضهم لبعض وما كان أمر الرسول قط إلا من أمر الله لأنه لا ينطق عن هوى، راجع الآية 255 من البقرة في ج 3، والآية 14 من من النساء في ج 3 في بحث الشفاعة. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة الانشقاق عدد 33- 83 و 84
نزلت بمكة بعد سورة الانفطار، وهي خمس وعشرون آية، ومئة وسبع كلمات، وأربعمائة وثلاثون حرفا، وتسمى سورة انشقت. لا يوجد مثلها في عدد الآي، ولا ناسخ ولا منسوخ فيها.(4/429)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ 1 وَأَذِنَتْ» سمعت وأجابت وأذعنت وخضعت «لِرَبِّها» في ذلك الانشقاق، وهو مثل انفطرت في السورة المارة من حيث المعنى. وأعلم أن انشقاق السماء وإن ثبت في هذه الآية نصا إلا أن موضعه وكيفيته غير معلومة على القطع، وقد عثرنا على ما أخرج ابن أبي حاتم عن علي كرم الله وجهه أنها تنشق من المجرّة، وقد جاء بالآثار أن المجرة باب السماء، وقال بعضهم إنها وسط السماء، وقال أهل الهيئة إنها نجوم صغار متقاربة بعضها من بعض، وقولهم هذا لا ينافي كونها باب السماء ووسطه، وان مصعد الملائكة ومهبطهم منها والله أعلم. وما قيل إن النبي صلّى الله عليه وسلم حين أرسل معاذا إلى اليمن وقال له إنهم سائلوك عن المجرة فقل لهم إنها لعاب حية تحت العرش لا يصح، وليس هو من متعلقات الدين حتى يوصيه به. وأذن بمعنى سمع وارد في كلام العرب، قال قغيد:
إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا ... وما هم أذنوا من صالح دفنوا
وقال الآخر:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا
أي سمعوا وصاروا كلهم آذانا وسماعها انقيادها لأمر الله بما يراد منها.
«وَحُقَّتْ» 2 أي وحق لها إطاعة ربها، وليس لها أن تأباه أو تمتنع عنه لأنها مخلوقة له، ولا على المخلوق إلا إطاعة خالقه «وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ» 3 بسطت وسوّيت باندكاك جبالها وبنائها في أوديتها وبحورها «وَأَلْقَتْ ما فِيها» من الأموات المكفوتين بها «وَتَخَلَّتْ» 4 عن كل ما فيها «وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ» 5 وحق لها أن تنقاد لأمره في ذلك كله لأنه هو الذي صنعها وأودع مكوناته فيها. أخرج أبو القاسم الجيلي في الديباج عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا أول من تنشق عنه الأرض، فأجلس جالسا في قبري، وان الأرض تحرك بي، فقلت لها مالك؟ فقالت إن ربي أمرني أن ألقي ما في جوفي وأن أتخلى فأكون كما كنت، إذ لا شيء فيّ وذلك قوله تعالى (وَأَلْقَتْ) الآية. ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى لما يتعلق بالسماء، وهذه(4/430)
فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
بالأرض، وتكرير إذا لاستقلال كل من الجملتين بنوع من القدرة، وجواب إذا محذوف تقديره وقع من الهول ما تقصر عنه عبارة الفقهاء الفصحاء ويكل عنه لسان العلماء البلغاء. قال تعالى «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ» المراد به الجنس فيدخل فيه كل إنسان «إِنَّكَ كادِحٌ» جاهد وساع مدافع في عملك وسائر فيه «إِلى رَبِّكَ كَدْحاً» عظيما، الكدح عمل الإنسان جهده في الخير والشر وهو مفعول لكادح «فَمُلاقِيهِ» 6 أي مواجه ربك يوم الجزاء فتقف أمامه فيجازيك على عملك الخير بأحسن منه والشر بمثله «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» 7 في ذلك اليوم الذي وعدكم به الرسل «فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً» 8 وينال الثواب المترتب عليه «وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ» المعدين له في الجنة من أهل الجنة ومن المؤمنين المتصلين به أهل الدنيا «مَسْرُوراً» 9 بما أوتي من الخير والكرامة وهذا الكتاب الذي يأخذه يفرح به، راجع الآية 19 فما بعدها من سورة الحاقة، وحق له أن يسر لأنها مؤديه إلى جنة ربه ورضاه، فمن ينجح بأعلى شهادة بالدنيا عبارة عن أنها تخوله مزاولة الطب والمحاماة أو الهندسة والزراعة أو السياسة أو القضاء من مناصب الدنيا الفانية وفي نهايتها التعب والعناء، تراه يطير فرحا، فكيف بمن يفوز بالدار الباقية وما فيها من حور وولدان ومآكل ومشارب وملابس وسرور لا يفنى، وشتان بين المسرورين كما بين الدنيا والآخرة «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ» 10 إهانة له وكراهية لرؤيته وبعضا لإمساكه
«فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً» 11 يصيح يا ويلاه يا هلاكاه، وهذا أشد حسرة وأكثر تأثرا وأعظم حزنا ممن يسقط في آخر دورة من أدوار تعليمه إذ يرجى له أن يمهل ليكمل أو يؤذن له بما دون ذلك، وأما هذا فيلاقي العذاب الأليم ويخلد في الجحيم ولا يجاب دعاؤه ولا يسمع نداؤه «وَيَصْلى سَعِيراً» 12 نارا تأجج يحرق فيها لا يموت فيستريح ولا يحيى حياة طيبة «إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ» بدار الدنيا «مَسْرُوراً» 13 باتباع هواه وركوب شهوته والعكوف على ملاذه «إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ» 14 يرجع إلى ربه ولن يحيى بعد موته وليس كما ظن «بَلى» إنه يعود إلى ربه ويبعث من قبره ويحاسب على فعله «إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً» 15 من يوم خلقه إلى يوم حشره إلى(4/431)
ما بعد ذلك، والبصير لا يخفى عليه شيء، وهو مبالغة من باصر، وهو من يدرك الأمور المحسوسة والمعقولة يبصره وبصيرته، ولما كان الله تعالى عالما بأحواله كلها فلا يجوز في حكمته إهماله، بل لا بد من إثابته على صالح عمله ومعاقبته على سيئه.
روى البخاري ومسلم عن عائشة كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وان النبي صلّى الله عليه وسلم قال من حوسب عذّب، قالت فقلت أو ليس يقول الله عز وجل (يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) قالت فقال ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب عذّب. قال تعالى «فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ» 16 الحمرة التي تبقى بالأفق بعد غروب الشمس وتظهر قبل طلوعها بعد البياض «وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ» 17 جمع وضمّ ما كان منتشرا في النهار من الناس والدواب والهوام والحيتان والطير، لأن ما كان طوره الانتشار في النهار، قد يجتمع في الليل، وبالعكس فإن ما كان منضما بالنهار قد ينتشر بالليل، ويقال طعام موسوق أي مجموع ومستوسقة مجتمعة، قال الشاعر:
إن لنا قلائصا حقائقا ... مستوسقات لم يجدن سائقا
ويأتي وسق بمعنى عمل أي وما عمل فيه وعليه قوله:
فيوما ترانا صالحين وتارة ... تقوم بنا كالواسق المتلبّب
وما جاء بأن يحور بمعنى يرجع قوله:
وما المرء إلا كالشهاب ووضوءه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
والشفق مأخوذ من الرقة يقال شيء شفق أي لا يتماسك لوقته، ومنه أشفق عليه خاف عليه ورق له، والشفقة من الإشفاق والشفق، قال الشاعر:
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا ... والموت أكرم نزال على الحرم
والوسق في العرف ستون صاعا أو حمل بعير، وهذا مما يدل على أن الصاع المستعمل الآن في بعض البلاد غيره قبلا، لأن ستين منه الآن لا يحملها جملان، راجع الآية 141 من سورة الأنعام المارة تعلم تفصيل هذا، ويأتي وسق بمعنى طرد أي وما أطرده إلى أماكنه من الدواب وغيرها، ومن ضوء النهار، ومنه الوسيقة قال في القاموس وهي من الإبل كالرفقة من الناس، فإذا سرقت طردت معا،(4/432)
ولا حاجة هنا لتقدير لفظ (رب) أي أقسم برب الشفق كما قاله بعض المفسرين، لأن الله تعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه جمادا كان أو ناميا، وحكم لا في هذا القسم حكمها في (لا أقسم بيوم القيامة) المارة في ج 1 فراجعها. قال تعالى «وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ» 18 ثمّ نوره وجمع وكملت استدارته فصار بدرا «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» 19 أي لتداولنّ أيها الناس في حياتكم ومماتكم حالا بعد حال مماثلة ومطابقة وموافقة لأحتها في الشدة والهول، قال الأعرج بن جابس:
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره ... وساقي طبق منه إلى طبق
وقد تأتي عن التي معناها المجاوزة بمعنى بعد كما في قولهم: سادرك كابرا عن كابر، أي بعد كابر، وعليه قوله:
ما زلت أقطع منها منهلا عن منهل ... حتى أنخت بباب عبد الواحد
لأن المجاوزة والبعد متقاربان، واللام في لتركبن واقعة في جواب القسم، وجاء لفظ الطبق بمعنى عشرين عاما أخرج نعيم بن حماد وأبو نعيم عن مكحول أنه قال في الآية تكونون في كل عشرين سنة على حال لم تكونوا على مثلها، أي قبلها.
وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في كل عشرين عاما تحدثون أمرا لم تكونوا عليه، وعلى هذا المعنى ما جاء في القاموس من جملة معاني الطبق، ويأتي بمعنى القرآن، قال العباس بن عبد المطلب يمدح حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم:
وأنت لما ولدت أشرقت ... الأرض وضاء بنورك الأفق
تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق
وعليه يكون المعنى لتركبن سنن من قبلكم قرنا بعد قرن، إلا أن هذين المعنيين الآخرين خلاف الظاهر، والمعول على الأول، وهو ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، وما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لتتبعنّ سنن الذين من قبلكم وأحوالهم شبرا بعد شبر وذراعا بعد ذراع حتى لو دخلوا جحرضب لتبعتموهم. قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟
قال فمن؟ أي فمن دونهم أو من قبلهم أو هم أنفسهم، وهو حديث صحيح ولكن لا يراد أنه جاء مفسرا لهذه الآية، تدبر ومن خصّ هذا الخطاب لسيد المخاطبين(4/433)
وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
فقط من المفسرين أراد لتركبن سماء بعد سماء إذ يطلق على السماء طبق أيضا، لكون الواحدة فوق الأخرى، قال تعالى (سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) الآية 3 من سورة الملك المارة، وقد أوله بما يشير إلى المعراج، على أن المعراج وقع قبل هذا بأكثر من سنتين، وذكرنا آنفا بما يشعر إلى التعميم، وهو المناسب بسياق التنزيل وسباق الآي. قال تعالى «فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» 20 بك يا سيد الرسل أي شيء جرى لهم، وما منع هؤلاء الكفرة عن الإيمان بك وقد آتيناهم من دواعيه ما يسمعون ويبصرون ويعون إن كان لهم سمع وبصر وعقل ينتفعون بها، وما آتيناهم هذه الجوارح والحواس إلا ليستدلوا بها على وحدانيتنا ويصدقوا رسلنا
«وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ» الذي أنزلناه عليك لصلاحهم ورشدهم، فمابالهم «لا يَسْجُدُونَ» 21 لنا ولا يخضعون لقدرتنا ولا يخشون هيبتنا؟ ثم انتقل من عدم سجودهم إلى تكذيبهم فقال «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ» 22 بك وبكتابك «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ» 23 في صدورهم ويجمعون فيها من التكذيب والبغض لك والحقد عليك، والإيعاء هو جعل الشيء في وعاء وعليه قوله:
الخير أبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد
وأريد به هنا الإضمار وهو ما يضمرونه لحضرة الرسول من العداء. وما قيل إن المراد بهم المنافقون لا يصح وإنما هم قريش الذين كانوا يحيكون لحضرة الرسول المكايد، والسورة هذه كلها مكية إجماعا، ومكة لا يوجد فيها منافقون إذ ذاك، لأن النفاق وقع بعد الهجرة في المدينة، حتى ان لفظته لم تعرف إذ ذاك. قال تعالى تهكما بهم «فَبَشِّرْهُمْ» يا سيد الرسل على سبيل التبكيت والتقريع «بِعَذابٍ أَلِيمٍ» 24 لا تطيقه قواهم ويظهر على بشرتهم سوءه «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» هذا استثناء منقطع من ضمير بشرهم المنصوب، فتكون البشارة في ذلك العذاب الفظيع خاصة بالمكذبين، أما المؤمنون العاملون صالحا ف «لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» 25 منقوص ولا مقطوع. وهذه الجملة تدحض قول من قال إن الاستثناء متصل على أن يراد بالمستثنى من آمن وعمل صالحا من آمن وعمل بعد منهم أي أولئك الكفرة، لأن الأجر المذكور لا يخص المؤمنين منهم(4/434)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
بل المؤمنين عامة، والسجدة في هذه السورة من عزائم السجود، ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بمثل هذه اللفظة، روى البخاري ومسلم عن رافع قال:
صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ (إذا السماء انشقت) فسجد، فقلت ما هذه؟
قال سجدت بها خلف أبي القاسم صلّى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. ولمسلم عنه قال: سجدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في (اقرأ باسم ربك) و (إذا السماء انشقت) وهذه السجدة آخر السجدات الواردة في القسم المكي وهي اثنتا عشرة سجدة وبقي في القسم المدني سجدة الرعد والحج فقط تتمة الأربع عشرة سجدة، ومن قال بالسجدة آخر الحج أبلغها خمس عشرة. وقدمنا ما يتعلق بالسجود في الآية 15 من سورة السجدة المارة، وفيها ما يرشدك لغيرها من المواقع فراجعها ففيها كفاية. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة الروم عدد 34- 84- 30
نزلت بمكة بعد الانشقاق عدا الآية 17 فإنها نزلت بالمدينة، وهي ستون آية وثمنمئة وتسع عشرة كلمة، وثلاث آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفا.
ومثلها في عدد الآي سورة الذاريات المارة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «الم» تقدم ما فيه أول الأعراف ج 1 وما بعدها مما بدئت به من السور فراجعها ففيها كفاية «غُلِبَتِ الرُّومُ» 2 قبيلة روم بن يونان بن علجان بن يافث بن نوح عليه السلام «فِي أَدْنَى الْأَرْضِ» أرض العرب، لأن أل فيها للعهد والمعهود في الخطاب أرض العرب، لأن أرض الروم التي وقع فيها الغلب قريبة منها ولأنهم هم المخاطبون في هذا القرآن.
وقد تواقفت الروم مع الفرس، وكانت الفرس متوافقة مع المشركين على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فغلبت فارس الروم وقهرتها «وَهُمْ» الروم المغلوبون «مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ» هذا «سَيَغْلِبُونَ» 3 الفرس. ولا وقف هنا بل يقرأ متصلا بما بعده إذ لا يحسن الوقف عليه. وسيكون غلب الروم للفرس «فِي بِضْعِ سِنِينَ» 4(4/435)
آتية ما بين الثلاث والتسع «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ» هذا الغلب «وَمِنْ بَعْدُ» .
وقد حذف المضاف هنا ونوى معناه، ولذلك بني الظرفان على الضمّ أي من قبل الغلب ومن بعده يكون الأمر لله وحده كما هو في سائر الأوقات، إذ لا يكون شيء إلا بقضائه وقدره وإرادته «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ» يقرأ متصلا «بِنَصْرِ اللَّهِ» الروم على الفرس، لأنهم أهل كتاب، كما يفرح المشركون بنصر الفرس لأنهم مشركون مثلهم «يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» 5 وأعلم يا أكمل الرسل أن هذا الوعد بنصر الروم على الفرس «وَعْدَ اللَّهِ» حق واقع لا مرية فيه أبدا «لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ» البتة، كيف وهو الآمر بالوفاء به، وقوله الحق، وبيده الأمر «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» 6 ذلك لفرط جهلم بشئون الله عز وجل وعدم تذكرهم بما يجب عليهم وما يستحيل على الله. وفي لفظ أكثرهم دليل على أن الأقل يعلمون ذلك. واعلم أن الكفرة «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا» أي أن علمهم مقصور على ما يتعلق بمعاشهم وصنايعهم ومنافعهم ومضارهم وشهواتهم، ولا يعلمون لماذا خلقوا ولا يتفكرون بحالهم ومصيرهم ومرجع ما خلق لهم، ولماذا خلق، لأن هذا كله من أمور الآخرة. ويأتي ظاهر بمعنى زائل قال الهذلي:
وعيرها الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
مطلب قد يكون العاقل أبله في بعض الأمور، وغلب الروم الفرس:
وعليه يكون المعنى يعلمون ما هو زائل فان، ولا يعلمون ما هو دائم باق والفاعل يعود على اكثر، ومن هذا القسم أن مخترع القوة الجاذبية حيث كانت قطئة تشغله بذهابها وإيابها من فتح الباب لها وغلقه، ففتح لها نفقا تحت الباب، فصارت تخرج وتدخل منه دون كلفة، واستراح منها، ثم أنها ولدت ولم ينتبه أن ذلك النفق كان لها ولأولادها فعمد وفتح لكل نفقا، مما يدل على أن الذكي البارع في شيء قد يكون أبله في غيره. وكذلك مخترع الخطوط الكهربائية أعطته خادمته بيضة كي يسلقها وقالت له أبقها على النار خمس دقائق، فأخرج الساعة ووضعها بالدلة وأمسك البيضة بيده، فقالت له للآن وأنت واضع البيضة على النار؟! فقال لها(4/436)
لم تمض الخمس دقائق بعد، فنظرت وإذ البيضة بيده والساعة في الدلة، فعكست الأمر.
فالذي يكون عن هذه الأمور التافهة غافلا فمن باب أولى أن يكون المشغول بالدنيا أغفل بكثير عن أمور الآخرة لا سيما وأن منها ما هو غير معقول، كما يدل عليه قوله «وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ»
7 ساهون لا هون بالدنيا لا ينظرون إلى ما يتعلق بها، ولا يصرفون حواسهم لما خلقت لها، لأن الله تعالى طبع عليها وسلبهم منافعها فصدّت عقولهم عن النظر إليها، أجارنا الله من ذلك. وسبب نزول هذه الآية أن كسرى بعث جيشا على رأسه شهربان ليقاتل جيش الروم الذي على رأسه مخيلن، فغلبه بأذرعات وبصرى وهما أقرب أرض للشام إلى أرض العرب، فشق ذلك على المسلمين لأنهم أهل كتاب ويودونهم، وفرح المشركون لأنهم كفرة مثلهم ويحبونهم، فقال المشركون للمسلمين إن قاتلتمونا فسوف نغلبكم أيضا لأن إخواننا غلبوا إخوانكم. قالوا وبعد نزولها قال أبو بكر للمشركين لا تفرحوا فإن الروم ستغلب فارسا في الحرب القابلة إذ أخبرنا الصادق المصدوق سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم بذلك عن ربه عز وجل، وإخباره واقع لا محالة، فقال له أبي بن خلف اجعل بيننا أجلا نناصبك، أي نراهنك عليه، فجعل الأجل ثلاث سنين، وتراهنا على عشر قلاص، وأخبر أبو بكر حضرة الرسول، وكان القمار لم يحرم بعد، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده بالحطمة ومادده في الأجل، فلقي أبو بكر أبيا فقال له تعال أزايدك في الخطر وأماددك في الأجل، فاتفقا على مئة قلوص إلى تسع سنين من شهر كذا من عام كذا، وإنما فعل هذا أبو بكر لأنه جازم بأن الله تعالى لا بدّ وأن يصدق رسوله بما أخبر به لقوة إيمانه، وإلا لو لم يرد الله ذلك لما ألقى في قلبه الموافقة على تمديد الأجل بعد أن اتفقا على غيره. ولما شاع بين الناس أن أبا بكر يريد الهجرة من مكة بسبب الضيق الذي وقع على المسلمين عامة في أذى قريش، أتاه أبيّ وقال له أعطني كفيلا بالحظر إذا أنت نزلت مكة فكفله ابنه عبد الله، وبعد الهجرة أراد أبي أن يذهب مع المشركين للاشتراك في واقعة أحد الكائنة في السنة الثالثة من الهجرة، فجاءه عبد الله بن أبي بكر وطلب منه كفيلا بالحظر إذا هو مات أو قتل، فأعطاه كفيلا، ثم انه تلاقى مع(4/437)
رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حرب أحد وضربه الرسول فجرحه جرحا بليغا مات منه بعد رجوعه إلى مكة، ثم ظهرت الروم على فارس بعد وقعة الحديبية على رأس سبع سنين من تاريخ المراهنة، إذ وقعت في السنة الثالثة عشرة من البعثة التي وقعت فيها الهجرة، وهو تاريخ نزول هذه السورة، فقد هاجر صلّى الله عليه وسلم بعدها بقليل إذ لم ينزل عليه بعدها إلا العنكبوت والمطففين، وختم الوحي المكي بهما، وذلك بعد عقد المعاهدة بين شهرمان وقيصر، وقد ضمنا المعاهدة شروطا لم يحبا أن يطلع عليها خاصتهم فضلا عن عامتهم، لأنها تتعلق بمصالح الدولتين، وإذ كانت بحضور ترجمانه، وخافا أن يذيع شيئا منها وكل منهما حريص على كتمانها، فقال شهريان لقيصر السريين اثنين فإذا جاوزهما فشا، فقتلا الترجمان لئلا يفشي شيء من خبر تلك المعاهدة باتفاق الطرفين، ومنذ ذلك التاريخ صار مثلا: كل سر جاوز الاثنين شاع.
وجعلوا لهذه الشطرة صدرا: كل علم ليس في القرطاس ضاع. فقمر أبو بكر أبيا وأخذ الحظر كله من ورثته، وأمره الرسول بالتصدق به ففعل. وهذه من الآيات البينات الدالات على صدقه صلّى الله عليه وسلم التي اعترف بها المشركون أنفسهم وهي من الإخبار بالغيب.
والحكم الشرعي في هذا هو جواز المقامرة والربا والعقود الفاسدة في دار الحرب بين المسلمين والكفار على مذهب أبي حنيفة وصاحبه محمد، ولم يجوزه الآخرون.
أما هذه المقامرة فقد وقعت قبل تحريم القمار وكان جائزا متعارفا بينهم، إلا أنه لما كانت التأدية بعد تحريمه وكانت العبرة بالابتداء لأن الأصل إبقاء ما كان على ما كان أخذه أبو بكر، ولو كان أخذه حراما لما أمره بالتصدق به، لأن التصدق بالحرام حرام حتى قيل إن من تصدق بالحرام طلبا للأجر يكفر. وإنما أمره بالتصدق به نورعا، ولئلا يقول المشركون أخذه أبو بكر مع قول صاحبه بحرمته أو لحاجة فيه.
قال تعالى «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ» التي هي أقرب شيء منهم وما أودعها الله من غرائب الأشياء وبدايع الحكم فيها ظاهرا وباطنا وانها لا بد لها من الانتهاء ليعلموا أن أمر سائر الخلائق جرى على الحكمة الخارقة لا بد لها من الانتهاء بالأجل الذي قدّره لها مبدعها وليتحققوا أن «ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى» تفنى عند بلوغه «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ(4/438)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)
بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ»
8 جاحدون البعث بعد الموت «أَوَلَمْ يَسِيرُوا» هؤلاء الجاحدون «فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» من الهلاك والدمار فيعتبروا في كيفية إهلاكهم وسببه مع أنهم «كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً» لأن الأمم الماضية أكبر أجساما وأقوى جوارح، وأصبر جنانا على الشدة من كفار قريش، لأن آثارهم تدل على ذلك «وَأَثارُوا الْأَرْضَ» حرثوها للزراعة وإخراج المعادن منها «وَعَمَرُوها» بالبناء الضخم والجنان والأنهار والسبل «أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها» أهل مكة وغيرهم وحتى الآن لم يبلغ أهل هذا القرن الذي جاء بالبدائع من الكهرباء واللاسلكي والسيارات والطائرات والمدمرات وغيرها مما لم يتصوره العقل قبلا، وما وجد من ضخامة الأبنية وقوتها وهندستها، مما يدل على رقيهم في هذا الفن وغيره من الأمور الدنيوية، كيف وقد وصفهم الله تعالى بأنهم يعلمون ظاهرها وهذا كله من الظاهر. واعلم أن عمارة هؤلاء للأرض كانت بعد عمارة الجنّ، لأنهم تقدموا عليهم في الخلقة وفي سكنى الأرض، والدليل على مهارتهم في البناء والصنائع ما ذكره الله تعالى عن عملهم لسيدنا سليمان المحاريب والتماثيل والبنايات والأواني العظام وغيرها، راجع الآية 84 من سورة الأنبياء والآية 25 من سورة سبأ المارقين، والآية 44 من سورة النمل في ج 1، «وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» ولم يؤمنوا فأعلكهم الله «فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ» بذلك الإهلاك «وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» 9 لعدم تصديقهم الرسل ولإصرارهم على الكفر «ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى» بالرفع اسم كان مؤخر على قراءة من نصب عاقبة وجعلها خبرها مقدما، وبالنصب على أنها خبرها على قراءة من رفع عاقبة على أنها اسمها، وتطلق السوءى على أسوإ العقوبات، وقيل هي أحد أسماء النار، أي أن جزاء المسيئين أسوأ الجزاء وهو النار التي هي أسوأ من كل سوء، وما ندري لعل ما عند الله ما هو أسوا وأسوا وإنما كانت تلك للعاقبة المشئومة عاقبتهم «أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ» 10 فعاقبهم بأسوء العقوبات
«اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ» جليله وحقيره فينشئه شيئا فشيئا، ثم يميته بعد انقضاء أجله «ثُمَّ يُعِيدُهُ» حيا كما بدأه «ثُمَّ(4/439)
إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»
11 بعد الحياة الثانية للحساب والجزاء على ما وقع منكم في حياتكم الدنيا «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ» ييأس ويتحير «الْمُجْرِمُونَ» 12 إذ تنقطع حجتهم فيسكتون. والإبلاس الحزن المفرط لشدة اليأس، ومنه اشتق إبليس، يقال أبلس إذا يأس من كل خير يريده وإذا تحير في كل أمره وسكت وانقطعت حجته، وأبلست الناقة إذا لم ترع من شدة الضيعة أي كثرة اشتياقها للفحل، وإنما يبلسون في الآخرة لظهور خطأهم وخيبتهم مما كانوا يأملونه من شفاعة أوثانهم، قال تعالى «وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ» الدين اختصوا بهم في الدنيا وأصنامهم التي عبدوها من دون الله «شُفَعاءُ» يشفعون لهم كما كانوا يغرونهم ويزعمون صدقهم «وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ» 13 إذ تنبرأ منهم ويتبرءون منها وكان كفرهم بالدنيا بسببها. وهذا مما أوجب حيرتهم ودهشتهم حتى أبلسوا «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ» 14 أهل الجنة وأهل النار بعد الفصل بينهم، إذ يقول الله تعالى (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية 59 من سورة يس في ج 1، أي انفصلوا عن المؤمنين فينفصلوا حالا بحيث لا يبقى مجرم بين المؤمنين، ولا مؤمن بين المجرمين بمجرد هذا الأمر «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ» 15 يسرون فيها سرورا عظيما.
يقال حبره إذا أسره سرورا تهلل منه له وجهه بالبشر وظهر فيه أثره «وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا» المنزلة على أنبيائنا «وَلِقاءِ الْآخِرَةِ» وأنكروا البعث بعد الموت «فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ» 16 لا يغيبون عنه أبدا أما المؤمنون العصاة فقد أشار الله إليهم في آيات أخر لأنهم لم يدخلوا في هذين الفريقين أما عدم دخولهم مع المؤمنين إذ قرن إيمانهم بالعمل الصالح وهم ليسوا من أهله، وأما مع الكافرين فلأنهم لم يكذبوا آيات الله ورسله ولم ينكروا البعث، وإنما هم جماعة قصروا عن أعمال الخير وفرطوا باتباع الأهواء فلهم جزاء غير هذا بنسبة كسبهم. وهذه الآية المدنية في هذه السورة.
مطلب مآخذ الصلوات الخمس وفضل التسبيح ودلائل القدرة على البعث:
قال تعالى «فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ» أي سبحوا الله أيها الناس(4/440)
ونزهوه في هذا الوقت، ويدخل فيه صلاة المغرب والعشاء المشتملان على التسبيح «وَحِينَ تُصْبِحُونَ» 17 عظموه أيضا ويدخل فيه صلاة الصبح «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» في هذه الأوقات وغيرها إذ يسبحه فيها من خلقه من نعرف ومن لا نعرف وما لا نعرف ويحمده أيضا، قال تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الآية 44 من الإسراء في ج 1، «وَعَشِيًّا» يدخل فيه صلاة العصر «وَحِينَ تُظْهِرُونَ» 18 فيدخل فيه صلاة الظهر، انتهت الآية المدنية التي هي آيتان بمثابة ثلاث آيات من حيث العدد. قال ابن الأزرق لابن عباس هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال نعم وقرأها أعني هذه الآية، ونظيرها الآية 130 من سورة طه في ج 1، والآية 78 من سورة الإسراء أيضا. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. وروى مسلم عن سعيد بن أبي وقاص قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائة قال كيف يكتب الف حسنة؟ قال يسبح الله مئة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة، ويحط عنه ألف خطيئة، وذلك أن كل حسنة تمحو خطيئة. وروى مسلم عن جورية بنت الحارث زوج النبي صلّى الله عليه وسلم ورضي الله عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلم خرج ذات غداة من عندها وهي في مسجدها فرجع بعد ما تعال النهار، فقال ما زلت في مجلسك هذا مذ خرجت بعد؟ قالت نعم، فقال لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بكلماتك (أي التي قلتهن في تلك المدة كلها) لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقة ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته. وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من قال سبحان الله وبحمده في كل يوم مئة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر.
وأخرج عنه أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلم من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مئة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاده.
وقال فيهما حديث حسن صحيح. قال تعالى «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» راجع تفسيرها في الآية 96 من الأنعام المارة، وله صلة في(4/441)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
الآية 28 من آل عمران في ج 3 إن شاء الله «وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» بالمطر «وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ» 19 من قبوركم أحياء مثل خروج النبات من الأرض الميتة. ثم شرع يبين بعض دلائل قدرته على البعث بعد الموت ليتعظ منكروه فقال «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ» أي أصلكم آدم عليه السلام «مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ» أيها الناس من ذلك الأصل الواحد «بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ» 20 في الأرض فتلأونها كثرة
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» من جنسها «أَزْواجاً» مثلكم «لِتَسْكُنُوا إِلَيْها» وهنّ من أعظم النعم عليكم فلو جعلتهن من غير جنسكم لما حصلت الألفة ولما اطمأن الزوج لزوجته «وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» من غير سابق معرفة ولا قرابة، ولولا التجانس لما حصلت تلك المودة والرحمة، ولا يوجد سبب لهذا التعاطف والمودة المفرطة إلا الزوجية المتجانسة، وهذا يطلب في الزوجية التجانس في البيئة أيضا ليتوافقا بالأخلاق والعوائد والآداب لأنها مع هذه تكون أكثر ألفة ومحبة ممن يتخالفان في الطبائع إذ يحتاج إلى التطبع (عند الاختلاف) بغير ما اعتاد عليه الآخر، وقل أن يمكن تغيير الطبع، وقلّ من يقدر على الصبر عند خلافه، وقد أمرت الشريعة بالتكافؤ، ولهذه الغاية ترى حوادث الطلاق كثيرة، فلو تقيد الناس بالتكافؤ لما رأيت رجلا يترك زوجته، وجل مصائب الناس من عدم تمسكهم بشريعتهم «إِنَّ فِي ذلِكَ» المذكور في الآيتين «لَآياتٍ» عظيمات دالات على القادر المبدع المبدئ المعيد «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» 21 فيها فيؤمنون بمنشئها «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ» في الكلام واللغات العربية والفارسية والعبرية والحبشية وغيرها كالقبطية والكردبة والبربوية والسريانية والكورية والإفرنسية والإنكليزية والروسية والألمانية والجركسية وغيرها، مما تفرع عنها وتداخل فيها «وَأَلْوانِكُمْ» الأبيض والأسود والأحمر والأشقر والأسمر وما بينهما من الألوان «إِنَّ فِي ذلِكَ» الاختلاف الذي أبدعه المبدع جل جلاله لحكمة التعارف باللون واللغة والشكل والصورة والحلية، مع أنكم من أصل واحد «لَآياتٍ» كافيات للإيمان بالله والاعتراف ببالغ قدرته وعظيم سلطانه، إذ لو اتفقت الأصوات والصور(4/442)
لوقع اليأس بين الناس، فسبحان من أحسن كل شيء خلقه وجعل ما خلق عبرة وعظة «لِلْعالِمِينَ» 22 بكسر اللام لأنهم أهل التدبر والتفكر بآيات الله، قال تعالى (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) الآية 44 من العنكبوت الآتية، وقرىء بفتح اللام أي أن تلك الآيات واضحات لا تخفى على أحد، والأولى أولى، ولفظ العالمين بالفتح يدخل فيه من يعقل ومن لا يعقل، فالذي لا يعقل لا ترد عليه الآيات ولا يعقلها، لأن من العالم من هو دون البهائم فلا يعقل ولا يفقه أيضا، لذلك فإن القراءة بكسر اللام أحسن. قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» في طلب الرزق وهذه الآية تشير إلى أن النوم كما يكون ليلا يكون نهارا وكذلك السعي يكون فيهما، وإن تخصيص أحدهما للنوم والآخر لطلب المعاش لا يمنع من استعمالهما معا في ذلك، وهو من أجل النعم على الخلق، ولا نعمة من نعم الله إلا وهي جليلة، ولكن منها ما هو أجل «إِنَّ فِي ذلِكَ» التقسيم وجعل كل من الليل والنهار صالحين للاستراحة والعمل والعبادة، إذ يخلف أحدهما الآخر عند الحاجة، قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) الآية 62 من الفرقان ج 1، «لَآياتٍ» بالغات في الدلالة على الواحد المعبود بحق «لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» 23 سماع قبول فيعون ما يتلقونه من قبل المرشدين «وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً» بنزول الغيث وخشية مما يترقب من الصواعق والشهب «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» يبسها فيجعلها تهتز بالنبات وتربو بالماء «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإحياء بعد الإماتة للنبات «لَآياتٍ» دالات على إحياء البشر بعد موته «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» 24 قدرة الله ويستظهرون كمال صنعه وبالغ إبداعه في استنباط الأسباب وكيفية التكوين، إذ لا فرق عند الله بين الإحياءين، كما لا فرق عنده بين الإماتتين، لأن القادر على كل شيء الذي لا يعجزه شيء «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ» تقف وتثبت وتمسك نفسها بلا عمد أو بعمد لا ترى كما مر في الآية 10 من سورة لقمان المارة وله صلة في الآية 5 من سورة الرعد في 3 «وَالْأَرْضُ» على الهواء والماء بلا مرتكز ولا(4/443)
ما سك فهي والسماء قائمتان «بِأَمْرِهِ» لهما بقوله جل قوله كونا كذلك، فكانتا حالا بين الكاف والنون، دون مهلة أو تراخ، راجع الآية 11 من سورة فصلت المارة، «ثُمَّ» أنتم أيها الناس كذلك قائمون بأمره، ذلك وإنه «إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ» المدفونين بها لأجل البعث بنفخة واحدة من بوق إسرافيل عليه السلام «إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» 25 منها أحياء كحالتكم الدنيوية
كاملين غير ناقصين، لأن الله تعالى يعيد للأعرج رجله، وللأقطع يده، وللأعور عينه، حتى القلفة، وهذا من قبيل إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى، كأنه قال قيام السموات والأرض واستمساكها، ودعاؤكم وخروجكم بأمره. قال تعالى «وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف بهم كيف يشاء «كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ» 26 منقادون مطيعون له لا لغيره، فالذي لم يطعه فعلا يطعه بالقوة، والذي لم يعظمه قالا يوقره حالا، لأن المراد طاعة الإرادة لا طاعة الأمر بالعبادة «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ» من شيء «ثُمَّ يُعِيدُهُ» كما خلقه بلا واسطة «وَهُوَ» أمر الإعادة «أَهْوَنُ عَلَيْهِ» وأيسر من الإبداء لأنه كان على غير مثال والإعادة على مثال سابق، لهذا فإن اسم التفضيل هنا على غير بابه، أي أن أهون بمعنى هين، إذ لا شيء على الله بأهون من غيره ولا أصعب بأن يحتاج لامر آخر أكثر من الأول، فالعظيم والأعظم والقليل والأقل عنده سواء، لأن أمره لهما واحد لا يعز عليه شيء «وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» الذي ليس بعده مثل من الوصف العجيب الشان كالقدرة العامة والحكمة التامة والعظمة البالغة «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب على كل شيء «الْحَكِيمُ» 27 في كل شيء العليم بكل شيء.
مطلب جواز الشوكة إلا لله ومعنى الفطرة للخلق وكل إنسان يولد عليها:
«ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ» في بطلان الشرك ثم بين هذا المثل بقوله «هَلْ لَكُمْ» أيها الأحرار المالكون للعبيد والإماء «مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ» من المال والأنعام والأولاد وغيرها هذا استفهام على طريق النفي، أي ليس لعبيدكم شركة معكم فيما رزقناكم، وإذا كان كذلك فكيف تشركون عبيدي وخلقي معي؟ ألا تساوون أيها الحمقاء أنفسكم(4/444)
بربكم من هذه الحيثية؟ فكما أنكم لا تشركون عبيدكم في ملكم، فأنا لا أشرك أحدا في ملكي «فَأَنْتُمْ فِيهِ» أي الرزق الكائن لكم «سَواءٌ» مع عبيدكم، كلا، بل لكم خاصة. وهذا استفهام إنكاري أي لستم في رزقكم وعبيدكم سواء، إذ ليس لهم التصرف به دون أمركم، ولا يحق لهم أن يعارضوكم في إنفاقه والتصرف فيه، مع أنهم مثلكم في البشرية ومثلكم في الكسب وهم غير مخلوقين لكم، فاذا علمتم هذا عرفتم خطأكم في إشراك خلقي بي فيما هو من خصائصي. وهل «تَخافُونَهُمْ» أي العبيد بأن يشاركوكم في أموالكم ويقاسموكم فيها «كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ» أي تخافونهم أن يستبدوا بالتصرف بأموالكم بدون رأيكم مثل خيفتكم ممن هو من نوعكم، أي كما تخافون من الأحرار الذين مثلكم إذا كانوا شركاءكم في المال أن ينفردوا به، أو يخاف أحدكم شريكه في الميراث أن ينفرد به، أي لا حق لهم في أموركم لا في التصرف ولا في القسمة ولا في الإرث إذا متم، فإذا كنتم لا تخافون هذا من مماليككم ولا ترضونه لأنفسكم، فكيف ترضون أن تكون أصنامكم التي هي من صنع أيديكم شريكة لي وتعبدونها من دوني وهي وأنتم من خلقي، قال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 96 من سورة الصافات «كَذلِكَ» مثل هذا التفصيل الواضح «نُفَصِّلُ الْآياتِ» ونبينها ونمثلها «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» 28 هذه الأمثال فيتدبرونها، ويتعظون بها، ويعون مغزاها، وينتبهون لمعناها.
ونظير هذه الآية الآية 74 من سورة النحل المارة فراجعها. واعلم أن التمثيل لتصوير المعاني المعقولة تصويرة المحسوسة إبراز لأوابد المدركات على هيئة المأنوس ليكون غاية في الإيضاح والبيان، وفي هذه الآية إشارة إلى صحة أصل الشركة بين الناس لافتقارهم بعضهم لبعض، هذا ولما كان إعراضهم مستمر انتقل عن مجادلة إرشادهم إلى الحق لاستحالة قبولهم له فقال عز قوله «بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم بشركهم ذلك «أَهْواءَهُمْ» في ضروب الإشراك «بِغَيْرِ عِلْمٍ» جاهلين ما يجب عليهم معرفته ولكن يا قوم «فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ» استفهام على طريق الإبعاد والتعجب أي لا أحد يقدر على هدايته «وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» 29 أي أن الذين يخذلهم الله لا أحد يمنعهم منه أو يحول بينهم وبين عذابه إذا حل بهم(4/445)
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ» الذي أنت عليه يا سيد الرسل لا تمل عنه ولا تلتفت إلى غيره وتوجه إليه بكلك لا بوجهك فقط، لأن هذا من إطلاق الجزء وإرادة الكل، وهو ضرب من ضروب علم المعاني الذي يزيد الكلام رونقا وبهجة حال كونك «حَنِيفاً» مائلا عن كل دين يخالفه فهو دين الحق لكونه «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» أي خلقته في عالم الذر والرحم والدنيا، ولهذا قال «لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» الذي خلق الناس عليه، فلا ينبغي أن يغير أو يبدّل، ولهذا أمر الله تعالى رسوله ليقتدي به أصحابه المؤمنون به بتعديل وتسوية الوجه والمراد منه الكل للإقبال على الدين والاهتمام بشأنه والمحافظة على أركانه وشروطه، لأنه هو أصل الأديان التي جبل الله خلقه الطائعين على التمسك فيه، روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، ثم قال، قرأوا إن شئتم (فطرة الله) الآية، زاد البخاري فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسنه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء (أي مستوبة لم يذهب من بدنها شيء) هل تحسون بها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة اقرؤوا (فطرة الله) الآية، والمراد بالفطرة العهد الذي أخذه الله على البشر حين خاطبهم بقوله (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) الآية 172 من الأعراف في ج 1، فكل مولود بالعالم جار على ذلك الإقرار، وإن عبد غير الله في بداية أمره فإنه يرجع إلى عهد ربه الأزلي فيسبق عليه الكتاب فيتوب ويموت على الإيمان، راجع الآية 104 من سورة الأنبياء المارة، والآية 30 من الأعراف ج 1. واعلم أن لا عبرة في الإيمان الفطري في أحكام الدنيا، بل العبرة في الإيمان الشرعي المأمور به المكتسب بالإرادة والفعل، ألا ترى إلى قوله صلّى الله عليه وسلم فأبواه يهودانه إلخ، فمع وجود الإيمان الفطري محكوم له بحكم أبويه الكافرين، وهذا معنى قوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم. أي حولتهم عنه، على أنهم لو تركوا وشأنهم لا بد وأن يعتقوا هذا الدين الإسلامي المستحسن في العقول السليمة والأطباع المستقيمة المتهيئة لقبول الحسن ولم يعدلوا عنه ما سلموا من أفات التقليد التي ينزلون بها عن هذه الفطرة التي جبلت عليها خلقته والحجة المستقيمة إلى ما يتلقونه(4/446)
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
ممّن يتعاهدهم، وإلا فلا تغيير لما وضعه الله «ذلِكَ» الدين القويم والفطرة المستقيمة هو «الدِّينُ الْقَيِّمُ» البالغ مستوى العدالة «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» 30 حقيقته فيزيغون عنه والأقل يعلم شيئا منه ويعرض عنه،
فلا تنظر يا سيد الرسل إلى هؤلاء وقم به أنت وأصحابك حال كونكم «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ» خاضعين له راجعين إليه «وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» المفروضة عليكم في أوقاتها فهي أسّه وعماده وملاك شعاء «وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» 31 به غيره «مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ» بدل من المشركين بإعادة الجار وقرىء فارقوا، وهذه الآية تقيّد آية الأنعام 159 المارة لأنها تفيد التبعيض وتلك تفيد العموم، وقدمنا ما يتعلق بمثل هذا الخطاب في الآية 64 من سورة الزمر المارة، وهؤلاء لم يتفقوا على التفريق في الدين بل تعدّوه «وَكانُوا شِيَعاً» فرقا مختلفة فيه كل طائفة تشايع غيرها وإمامها الذي أضلها، ومع أنهم كلهم على ضلال في ذلك فإنهم «بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» 32 راضون به يحسبونه حقا لعدم تدبرهم وتفكرهم في حقيقته، راجع الآية 13 من الشورى المارة تجد ما يتعلق ببحث التفرق.
قال تعالى «وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ» بالدعاء والتضرع حالة كونهم خاشعين مقبلين راجعين إليه «ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» 33 معه غيره في العبادة والدعاء ويظن هؤلاء الكفرة العتاة أنما تنشر عليهم شيئا من رحمتنا «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ» من النعم جزاء لفضلنا عليهم كلا بل قل لهم يا سيد الرسل إن الله لم يهملكم ولم يعطكم لتكفروا به «فَتَمَتَّعُوا» بكفركم «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» 34 عاقبة ذلك، وفي هذه الجملة التفات من الغيبة إلى الخطاب وتهديد ووعيد بسوء العاقبة، قال تعالى «أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً» وهذا التفات من الخطاب إلى الغيبة ففيه إيذان بالإعراض عنهم وتعديد جناياتهم لغيرهم ليطلعوا عليها «فَهُوَ يَتَكَلَّمُ» أي ذلك البرهان المعبر عنه بسلطان «بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ» 35 وما هنا مصدرية، أي لم ننزل سلطانا بإشراكهم وإنما اختلقوه من أنفسهم «وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً» من غيث أو صحة أو ولد أو رزق، أي مطلق نعمة، كما أن(4/447)
الضر في الآية السابقة يطلق على أضداد هذه الرحمة ويشتمل على كل شر «فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ» من كل ما يسوء الإنسان «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» بسبب ما اقترفوه من السيئات «إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ» 36 يبأسون من الرحمة، بخلاف المؤمنين فإنهم إذا أصابهم خير شكروا الله، وإذا مسهم ضرّ صبروا رجاء رحمة الله بكشفه عنهم.
مطلب ما قاله البلخي للبخاري وحق القريب على قريبه والولي وما شابهه:
قال بعض العارفين من أهالي بلخ لصاحب له كيف حالكم يا أهل بخارى؟ قال نحن قوم إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، فقال البلخي حال كلاب بلخ هكذا، فقال وكيف حالكم يا أهل بلخ؟ قال نحن قوم إذا وجدنا آثرنا وإذا فقدنا شكرنا.
وهؤلاء لعمري هم أهل الله العارفون الصادقون، وهؤلاء هم الصوفية الذين هم حقيقة صوفية لا متصوفة زماننا، فأين نحن منهم رجماك ربي رحماك، نسألك العفو والعافية والشكر على العافية، والتوفيق لما تحب من الأعمال، والستر الجميل، وإذا قدرت علينا قدرا لا تريد أن تكشفه عنا فنسألك الصبر الجميل عليه، وأن تجعلنا من القليل، ولا تكلنا إلى غيرك، ولا تؤاخذنا بما نفعل ويفعل السفهاء منا، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ» من خلقه يوسعه عليهم بجهد وبغيره «وَيَقْدِرُ» يضيّق على من يشاء ولو جدّ ما جد «إِنَّ فِي ذلِكَ» البسط والقبض الجاريان بمقتضى المشيئة «لَآياتٍ دالات على حكمة المعطي «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» 37 به ويرضون بقسمته لاعتقادهم أن ذلك مراده لا غير، ولله در القائل:
نكد الأديب وطيب عيش الجاهل ... قد أرشداك إلى حكيم كامل
ثم نبههم الله تعالى إلى ما يجب أن يفعل، وما يجب أن لا يفعل، وما يجب أن يترك، فخاطب به سيد المخاطبين ليعمل به أمته فقال «فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» من البر والصدقة والنظر والصلة، لأن هذه كلها من حق المسلم على المسلم، فكيف بالقريب الذي له حقّان حق الإسلام وحق القرابة، فالعطاء إليه يكون صدقة وصلة «وَالْمِسْكِينَ» الذي لا مال له ولا كسب يكفيه «وَابْنَ السَّبِيلِ» المسافر(4/448)
الغريب الذي نفدت نفقته فبقي منقطعا عن أهله فينبغي لمن وسع الله عليه أن يعطيه ما يكفيه ويبلغه اهله. وليعلم أن الله تعالى إذا بسط رزقه على عبده فإن ما ينفقه منه في سبيل البر والخير لا ينقصه بل يزيده، كما انه إذا ضيق عليه فإن التشدد بالإمساك لا يوفر عليه، وفيه قيل:
إذا جادت الدنيا عليك فجد بها ... على الناس طرا قبل أن تنفلت
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت ... ولا البخل ينميها إذا هي ولت
بل عليه الشكر إذا رزق، قال تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) والصبر عند الضيق، قال تعالى (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) الآية 7 من سورة إبراهيم المارة. وما قيل إن هذه الآية مدنية والمراد بها الزكاة قيل لا قيمة له لأنها مكية كسورتها، واستثناؤها يحتاج إلى دليل، ولم يوجد، ومما يدل على أن المراد بها غير الزكاة الإجماع على مكيتها، والزكاة لم تفرض إلا في المدينة، وقد استنبط من هذه الآية الإمام أبو حنيفة وجوب النفقة لكل ذي رحم محرم ذكرا كان أو أنثى إذا كان فقيرا عاجزا عن الكسب على قريبه الموسر، ووجه استنباطه هو أن آت أمر، والأمر للوجوب ما لم يصرفه صارف، وهو هنا معدوم، والظاهر من الحق بقرينة ما قبله أنه مالي، وقد جاء بجانب المسكين وابن السبيل بعد القريب، ولو كان المراد الزكاة لم يقدم ذو القربى عليهما لأنهم فيها سواء. هذا وما جاء عن أبي سعيد الخدري أنه لما نزلت هذه الآية أعطى عليه السلام فاطمة رضي الله عنها فدكا لم يثبت، وينفيه ما اشتهر أنها ادعت فدكا بعد وفاة أبيها صلّى الله عليه وسلم بطريق الإرث، وقد ردت دعواها لقوله صلّى الله عليه وسلم: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة، - أو كما قال-. وقد ثبت لك أن الآية المدنية لا بد من دليل يؤيد مدنيتها، وهذه الآية مكة، وحادثة فدك بالمدينة ولا يوجد ما يؤيدها.
قال تعالى «ذلِكَ» إعطاء القرابة المساكين وأبناء السبيل فيه «خَيْرٌ» كثير لفاعله، وإنفاق المال لأمثال هؤلاء أحصن من الاستئثار للإنسان بما أتحفه الله به من النعم، ومنعه من الفقراء وشبههم «لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ» بإنفاقه ويتقربون به إليه «وَأُولئِكَ» المريدون وجه الله بصدقاتهم المعطون لها عن طيب(4/449)
نفس «هُمُ الْمُفْلِحُونَ» 38 الفائزون بالنعيم المقيم عند الله القائل «وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ» بأن تأخذوا أكثر منه «فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ» بل يمحق بركته ويفنيه، وقال بعض المفسرين ما أعطيتم من الهدايا بقصد أن تعود عليكم بأكثر منها فلا يبارك لكم فيها عند الله لأنكم لم تبتغوا بها وجهه، فلا يثيبكم عليها، وقال إن هذا كان متعارفا عندهم قبل الإسلام، وبقي على حاله فيما بينهم، وحرّم على النبي صلّى الله عليه وسلم وحده، واستدلوا على هذا بقوله تعالى (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) الآية 6 من سورة المدثر المارة في ج 1، ولهذا يقولون تأتي الهدية على حمار فترجع على بعير. وقد بينا ما يتعلق بهذا في الآية المذكورة من المدثر فراجعها. وقال بعضهم المراد بالزيادة هنا الزيادة المعروفة بالمعاملة التي حرمها الشرع، لأن الآية نزلت في ربا ثقيف وقريش، وهذا القول أوفق بظاهر الآية لأنها تشير إلى مقدمات تحريم الربا على طريقة التدريج التي أشرنا إليها في المقدمة في بحث التدريج بالأحكام، كما وقع في الخمر، والمعنى الأول بعيد عن الظاهر، على أنه يبعد أن يراد بها والله أعلم بيوع العينة التي كانت تتعاطاها الجاهلية وبقي أثرها في زمننا هذا، المشار إليها في الحديث الذي روته السيدة عائشة رضي الله عنها في بيع العينة، وذلك أن يبيع الرجل ما يساوي خمسة بعشرة مثلا لقاء الإمهال، أو يبيعه شيئا صوريا لا حقيقة له مثل أن يقول له اشتريت مني هذه الساعة أو هذا البساط أو هذا القماش بعشرة؟ فيقول اشتريت، وقبلت، لفظا من غير تقابض أو بتقابض، ثم يقول له بعتنيه بثمانية؟ فيقول بعتكه، فيعطيه الثمن الأخير ويكتب عليه الأول، فهذه بيوع لا يبارك الله بها لأن ظاهرها بيع وباطنها ربا، والله مطلع على النيات لا تخفى عليه خافية والأمور بمقاصدها، لهذا فإنه تعالى لا بد وأن يسلط على متعاطيها ما يمحق ماله ويسلب نعمته من ولد أو زوجة أو قريب أو إتلاف بحرق أو غرق أو خسارة، لأن هذا العمل حيلة على الله العالم بجليات الأمور وخوافيها، وقد مسخ الله طائفة من بني إسرائيل قردة وخنازير حينما احتالوا على صيد السمك يوم السبت راجع الآية 162 من الأعراف في ج 1، وقال بعض الأئمة إن الذين يأكلون الربا بالحيلة يحشرون يوم القيامة على صور القردة والخنازير، استنباطا من(4/450)
قوله تعالى (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) الآية 276 من البقرة في ج 3، والآية المتقدمة من الأعراف، وسنأتي على توضيح هذا هناك إن شاء الله مع قصة أهل البيت في موضعها بالآية 60 من المائدة في ج 3 إن شاء الله. وقد شاهدنا كثيرا ممن تعاطوا الربا أصالة وبالحيلة قد أفقرهم الله وسلب نعمتهم وأحاجهم إلى السؤال، ومنهم من تمتع بها مدة حياته ولم ينتقل ماله لأولاده، ومنهم من انتقل ماله لأولاده فاستهلكوه فيما حرم الله واحتاجوا إلى السؤال. وعلى كل فإنهم لا ينتفعون بما لهم انتفاعا نافعا في الدنيا، فهم في الآخرة أشد حرمانا منه ومعاقبة عليه. ولهذا البحث صلة أيضا في الآية 34 من سورة التوبة في ج 3، ألا فلينتبه الذين يريدون دوام نعم الله عليهم وانتقالها لأولادهم من ذلك، وليتعظوا بغيرهم ويتوبوا إلى ربهم قبل أن يحيق بهم عذاب الدنيا ويحيط بهم عذاب الآخرة. قال تعالى «وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ» طهارة، لأن النفقة المقبولة طهارة لصاحبها من الذنوب، لأن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الزكاة، كما أن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الحج، ومنها لا يكفرها إلا الهم بالمعيشة، ومنها ومنها طهرنا الله منها. وقد يراد بهذه الطهارة ما يقابل (وما آتيتم من ربّا) إلخ، أي طهارة لأنفسكم بعقود البيع الصحيحة الخالية من ذلك الفضل المصرح به فيها بأنه ربا، فإنكم نثابون عليه ثواب الصدقة لما فيها من مراعاة حق المسلم، ولذلك أعقبها بقوله «تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ» بها وتبغون رضاءه «فَأُولئِكَ» المجتنبون الحالة الأولى الفاعلون الثانية «هُمُ الْمُضْعِفُونَ» 39 الذين تضاعف لهم البركة والرحمة والأجر على عملهم الواحد بعشرة إلى سبعمئة والله يضاعف لمن
يشاء بأكثر وأكثر، إذ أثبت لهم المضاعفة التي هي أبلغ من مطلق الزيادة التي يتوخونها من ذلك الربا الرجس، وقد مدحهم الله تعالى على فعلهم الطيب الطاهر بالإشارة الدالة على التعظيم تقديرا لفعلهم الحسن. هذا، وإن ما ذكرته في تفسير هذه الآية لم يتطرق له أحد من المفسرين، كما هو الحال في تفسير الآية 88 من سورة النمل المارة في ج 1، ولعلها ممّا ينتقد، ولكن حسب اعتقادي أقول إنه أحسن قول في تفسيرها ولا أقول كما قال الغير فيما ينفرد به:
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم(4/451)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
إذ لعله: أن يقف على ضد ما فهمته. ولا أصمه بالشطر الأخير من قوله:
وما علي إذا ما قلت معتقدي ... إلى جهول يظن الجهل عدوانا
وأظنه إذا أنصف حبّذ ما قلته لأنه منطبق على المعنى الواقع، وبعد أن فوضت العلم فيه إلى الله لم يبق محل للانتقاد وغيره. قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ» كلا لم يستطيعوا ولن يستطيعوا لأنهم وأوثانهم مخلوقون له «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» 40 أنظر رعاك الله إلى ما تضمنته هذه الآية الكريمة من بلاغة عظمى في قوله من الأولى والثانية والثالثة إذ استقلت كل منها بتأكيد تعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم.
مطلب ظهور الفساد في البر والبحر، والبشارة لحضرة الرسول بالظفر والنصر وعسى أن تكون لامته من بعده:
قال تعالى «ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» من المعاصي فإن الناس صاروا يقدمون على المنكرات والفواحش وهم سائرون في البحر ولم يخشوا أن يرسل الله عليهم ريحّا فتغرقهم، كما أنهم يفعلون تلك الخبائث في البر ولم يخافوا أن يخسف الله بهم كما فعل بغيرهم، وقد كثر الحرق والقتل والنهب والسلب والزنى واللواطة والشرب والقمار فيهما معا، وقل الحياء، فلا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم أجرنا من غضبك ومن القحط فقد قلت بركات البر حتى ان الزرع لا يأتي بضعفه وبركات البحر حتى ان اللآلئ لا تكاد تدرك. وما قيل إن فساد البر في مدن الصحراء، وفساد البحر في مدن السواحل، أو قلة مياه العيون، أو عدم إثبات الأرض، وخلو الأصداف، أو بقتل ابن آدم أخاه، وفي البحر بغصب الجلندي السفينة المار ذكرها في الآية 71 من سورة الكهف، وغير ذلك مما يضاهي هذا، فهو بعيد عن المعنى المراد بمناسبة هذه الآية، وإن تقييدها بمثل هذه المسائل مناف لظاهرها العام المطلق في كل فساد يقع في البحر. وهؤلاء الذين يعيثون في الأرض فسادا في البر والبحر لا يهملهم الله، وقد أمهلهم «لِيُذِيقَهُمْ» جزاء «بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا» مقدما معجلا «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» 43 عن(4/452)
هذه الأعمال القبيحة، حتى إذا أصروا عليها عاقبهم عليها كلها في الآخرة غير عقاب الدنيا. واعلم أنه لا يوجد في القرآن العظيم آية مبدوءة بالظاء غير هذه «قُلْ» يا سيد الرسل لقومك وغيرهم «سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ» وتفكروا في أطلال منازلهم وتدبروا كيفية إهلاكهم واسألوا عن أسبابها وإبقاء مساكنهم خاوية تعلموا أنه «كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ» 42 بالله جاحدين حقوقه مثلكم، واعلموا أنكم إذا لم ترجعوا عما أنتم عليه يكون مصيركم مثلهم. وأنت يا سيد الرسل لا يهمنّك تماديهم «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ» المعهود في الآية 30 المارة ولا تكرار، لأن في الأول لفظ حنيفا وإشارة إلى الدين الحنيف بأنه هو الدين القيم، وفي هذه القيم فقط الذي لا عوج فيه، والمعرفة إذا أعيدت يراد منها الأولى نفسها كما أوضحناه في سورة الانشراح ج 1، وقد أمر الله عباده على لسان رسوله بإقامة الدين والإسراع للتمسك فيه «قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ» إذ لا يقبل فيه الرجوع إليه ولا التوبة ولا الفداء ولا الشفاعة المطلقة «يَوْمَئِذٍ» يوم يحل ذلك اليوم العظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، حينئذ «يَصَّدَّعُونَ» 43 يتفرقون بعضهم عن بعض، والتصدّع تفرق أجزاء الأواني، واستعير لمطلق التفرق، قال تعالى (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) الآية 4 من القارعة في ج 1، أي أن أشخاص الناس تتفرق لشدة هول ذلك اليوم. واعلموا أيها الناس أن «مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» هو يحمل وباله وحده «وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» 44 يوطئون لها ويبنون وهو عبارة عن معنى يستفاد من أفعال الخير التي سيراها صاحبها حسا، أولا في القبر، وثانيا في الجنة، كما يمهد الإنسان فراشه في الدنيا ليستريح عليه في مضجعه من كل ما ينغص نؤمه. قال تعالى «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ» بأكثر مما عملوا لأنهم أحبابه، أما الذين عملوا السيئات فإنه يعاقبهم في ياره «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» 45 لأنهم كرهوا الخير لأنفسهم فأبغضهم الله، لأن من لا يحبه يبغضه. ثم عطف على الآيات من 20 إلى 25 المارة التي عدد فيها آثار نعمه على عبده تذكيرا لهم بأفضاله(4/453)
وحثا لهم على الإخلاص لحضرته، لأنه هو وحده المتفضل بها عليهم، فقال جل قوله «وَمِنْ آياتِهِ» الدالة على عظيم قدرته وبالغ حكمته «أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ» عباده بالغيث «وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» ثمر الخصب المتسبب عنه «وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ» بسبب تلك الرياح، فتصلوا إلى مقاصدكم من البلاد والقرى والبوادي وغيرها «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» الأرباح في زروعكم وأثماركم وتجاراتكم برا وبحرا «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» 46 نعمه المتوالية عليكم. قال تعالىَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ»
كما أرسلناك إلى هؤلاء، أي الموجودين على ظهر الأرضَ جاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ»
على صدقهم كما جئتهم به أنت وكذبوهم كما كذبوكَ انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا»
منهم وأنجينا المؤمنينَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»
47 بنا.
واعلم أن في الآية 103 من سورة يونس المارة والآيتين 171 و 172 من سورة الصافات المارة أيضا والآية 21 من المجادلة الآتية في ج 3، وفي هذه الآية بشارة عظيمة لحضرة المصطفى صلّى الله عليه وسلم بالظفر والنصر على أعدائه، وفيها كفالة وعهد من الله تعالى على نفسه المقدسة بنصر المؤمنين وهو الموفي بعهده ووعده، القائم بكفالته، الصادق بما يخبر، وقد وفّى لرسوله ما تعهد به له ولأصحابه، وهذا الوعد عام لكل مؤمن ومؤمنة مستمر إلى يوم القيامة، وفيه أيضا وفي الحساب والقضاء، ولكن الناس لم يكونوا مؤمنين موقنين بالمعنى الذي يريده الله منهم كما كان عليه محمد وأصحابه، ولو كانوا كذلك ما سلب منهم نعمة الملك، ولم يسلط عليهم عدوهم ولجاءهم النصر من حيث لا يشعرون، وسخر لهم كل شيء، ولكن أين الإيمان وأين الإسلام كل منهما رسم بلا جسم، ومسمى بلا اسم، ودعوى بلا برهان، وقول بلا بيان، نعم انهم مسجلون رسميا مسلمين، وأعمالهم أعمال الكافرين، لا تراحم ولا توادد بينهم، ولا صلاة ولا صوم ولا حج ولا زكاة ولا صدقة بالمعنى الذي يريده الله منهم، ولكنهم زناة شربة خمر قذفة للمحصنات كذبة همّازون لمأزون محتالون شهداء زور وبهتة مغترون، فأنى ينظر الله إليهم، جاء في الحديث الشريف عن النبي صلّى الله عليه وسلم: لازلتم منصورين، ما دمتم متبعين سنتي فمتى اختلفتم سلط عليكم عدوكم،(4/454)
فإذا كان هذا جزاء ترك السنن فما بالك بالفرائض، وما بالك بارتكاب المحرمات، وما بالك بالتجاهر بالشرب واللعب واللواطة بلا خوف من الله ولا حياء من الناس، وإني أخشى أن يكونوا قد صاروا حثالة بالمعنى الوارد في قوله صلّى الله عليه وسلم يذهب الصالحون أسلافا الأول فالأول، حتى لا يبقى من الناس إلا حثالة كحثالة الثمر والشجر لا يبالي الله بهم. رحماك ربي عاملنا بما أنت أهله، ولا تعاملنا بما نحن أهله يا أهل التقوى وأهل المغفرة. ومما يدل على أن هذا الوارد في الآيتين المذكورتين نصر مستمر في الدنيا والآخرة ما رواه أبو الدرداء قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حتما على الله أن يرد عنه نار جهنم، ثم تلا هذه الآية، وأخرجه الترمذي بلفظ آخر بمعناه. قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ» مسيرة يوم وأيام وأقل وأكثر خفيفا أو كثيفا «وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً» قطعا متفرقة أو يضم بعضه لبعض «فَتَرَى الْوَدْقَ» المطر «يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ» من فرجه ووسطه «فَإِذا أَصابَ بِهِ» بذلك الغيب «مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» 48 به لما يدره عليهم وعلى أنعامهم ودوابهم من الخيرات «وَإِنْ كانُوا» أولئك العباد «مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ» ذلك الغيث «مِنْ قَبْلِهِ» كرره تأكيدا للدلالة على بعد عهدهم به والأحسن عود هذا الضمير إلى الرياح، فيكون المعنى من قبل أن ينزل عليهم من قبل إرسال الرياح «لَمُبْلِسِينَ» 49 قانطين آيسين، لأنه بعد إرسال الرياح يعرف الخبير أن الريح فيها مطر أو ليس فيها، فإذا هبت الرياح قبل المطر لا يكون مبلسا بل يكون راجيا برؤية هيئة السحاب وهبوب الرياح «فَانْظُرْ» يا من يتأتي منك النظر «إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ» وحسن تأثيرها في الأرض وفي قلوب الناس «كَيْفَ يُحْيِ» الإله القادر الرؤوف بخلقه «الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» بالنبات والأزهار والثمار «إِنَّ ذلِكَ» الإحياء للأرض بعد يبسها الذي هو بمثابة الموت لها وإحياء نباتها بعد جفافه بالمطر من قبل الله القادر على ذلك فإنه ولا ريب «لَمُحْيِ الْمَوْتى» كما أحيا الأرض الميتة «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 50 لا يعجزه شيء،(4/455)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
قال تعالى «وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً» ليبس الأرض وما عليها «فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا» بعد أن كان ذلك النبات أخضر يهتزّ «لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ» 51 ما أسلفناهم من نعم الغيث ويجحدون نزوله كأنما لم نغثهم أبدا. واعلم أنه لم يأت في القرآن لفظ المطر إلا للعذاب، والغيث إلا المرحمة، وقد بينا ما يتعلق بتفصيل هذا في الآية 22 من سورة الحجر فراجعها. قال تعالى «فَإِنَّكَ» يا سيد الرسل «لا تُسْمِعُ الْمَوْتى» قلوبهم «وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ» المختوم على آذانهم «الدُّعاءَ» الذي ترشدهم به «إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» 52 عنك بظهورهم لأنهم إذا كانوا مقبلين إليك قد يفهمون بالإشارة والرمز «وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ» في هوّة هواهم «إِنْ تُسْمِعُ» ما تسمع «إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» لأنهم مقبلون إليك بقلوبهم وأبصارهم مصغون بعقولهم وآذانهم، ينظرون لما تقوله بكليتهم «فَهُمْ مُسْلِمُونَ» 53 لك منقادون مطيعون لأوامرنا التي تبلغهم إياها، فاترك أمثال أولئك واعرض عنهم ولا تحزن عليهم لأنهم في حكم الموتى واحرص على هؤلاء فإنهم هم المنتفعون بوعظك ونصحك.
مطلب في سماع الموتى وتلقين الميت في قبره وإعادة روحه إليه والأحاديث الواردة بذلك:
هذا، وقد استدل بعض الحكماء بهذه الآية على أن الأموات لا يسمعون، وأيدها بقوله تعالى (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) الآية 22 من سورة فاطر ج 1، وهذا القائل توصل بقوله هذا إلى عدم تلقين الميت في القبر إذ لا فائدة له منه، وقال لو حلف لا يكلم فلانا فكلمه ميتا لا يحنث لأنه ليس بأهل للكلام ولا للسماع.
وحكى السفارينى في البحور الزاخرة أن عائشة رضي الله عنها ذهبت إلى نفي السماع وذلك أنه جاء في صحيح البخاري عن هشام عن أبيه قال: ذكر عند عائشة أن ابن عمر رفع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فقالت ذهل ابن عمر إنما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنه ليعذب بخطيئته وذنبه، وإن أهله يبكون عليه الآن، قالت وذلك مثل قوله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال إنهم يسمعون ما أقول، إنما قال إنهم(4/456)
الآن يعلمون أن ما كنت أقول لهم حق، ثم قرأت الآيتين، ورجح هذا القاضي أبو يعلى من أكابر الحنابلة في كتابه الجامع الكبير، مستدلين بالآيتين المذكورتين وشبهها مما في القرآن العظيم. وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنهم يسمعون وهو اختيار ابن جرير الطبري وابن قتيبة وغيره، وقال ابن عبد البر: إن الأكثرين على هذا، واستدلوا بما جاء في الصحيحين عن أنس عن أبي طلحة رضي الله عنهما قال:
لما كان يوم بدر وظهر عليهم (على المشركين) رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر ببضعة وعشرين رجلا، وفي رواية أربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فألقوا في طوى (بئر من اطواء بدر) وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ناداهم يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا، فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟! فقال والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم. زاد في رواية لمسلم عن أنس: ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا. وبما أخرجه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى انه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل (يعني محمدا صلّى الله عليه وسلم) ؟ فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال أنظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، فيراهما جميعا ويفسح له في قبره سبعون ذراعا، وتملأ عليه خضرا إلى يوم القيامة، وأما الكافر إلخ. وبما رواه الطبري في الكبير عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس القبر ثم ليقل يا فلان بن فلانة، فإنه يقول أرشدنا يرحمك الله، ولكنكم لا تسمعون إلخ.
وبما أخرجه أبو الشيخ من مرسل عبيد بن مرزوق قال: كانت امرأة بالمدينة تقم المسجد فماتت، فلم يعلم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فمر على قبرها فقال ما هذا القبر؟
فقالوا أم محجن، قال التي كانت تقم المسجد؟ قالوا نعم، فصف الناس، فصلى عليها، فقال صلّى الله عليه وسلم أي العمل وجدت أفضل؟ قالوا يا رسول الله أتسمع؟ قال ما أنتم بأسمع منها، فذّكر عليه الصلاة والسلام أنها أجابته قم المسجد أي كنسه، وإجابتها له(4/457)
على سبيل المعجزة له صلّى الله عليه وسلم. وبالحديث الذي رواه الشيخان المار ذكره في الآية 26 من سورة إبراهيم المارة في بحث سؤال القبر. وبما رواه البيهقي والحاكم وصححه وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم وقف على مصعب بن عمير المشار إليه في الآية 41 من سورة النازعات المارة وعلى أصحابه حين رجع من أحد فقال أشهد أنكم أحياء عند الله تعالى، ثم خاطب أصحابه فقال فزوروهم وسلموا عليهم فو الذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلا ردّوا عليه إلى يوم القيامة. وبما أخرجه ابن عبد البر وقال عبد الحق الإشبيلي إسناده صحيح عن ابن عباس مرفوعا: ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا يسلم عليه إلا عرفه ورد عليه.
وبما أخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: الروح بيد ملك يمشي به مع الجنازة يقول له أتسمع ما يقال لك فإذا بلغ حفرته دفنه معه. وبما في الصحيحين من قوله صلّى الله عليه وسلم: إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه انه يسمع قرع نعالهم.
وأجابوا عن الآيتين بما قاله السهيلي إنها كقوله تعالى (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) الآية 41 من الزخرف، أي أن الله تعالى هو الذي يسمع لا أنت.
وقال غيره من الأجلة لا تسمعهم إلا أن بشاء الله أولا فتسمعهم سماعا ينفعهم، لأن الشيء قد ينتفي لانتفاء فائدته وثمرته، قال تعالى (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) الآية 179 من الأعراف في ج 1، وهذا التأويل يجوز أن يعتبر في الآيتين المذكورتين. هذا وإن السيدة عائشة رضي الله عنها لم تحضر قول النبي صلّى الله عليه وسلم لأهل بدر، فغيرها ممن حضر أحفظ للقضية منها، على أنهم إذا كانوا عالمين كما تقول عائشة جاز أن يكونوا سامعين، أما وقد اتفقت الكلمة على أن الشهداء يسمعون لأن الله تعالى أخبر عنهم أنهم أحياء عند ربهم يرزقون الآية 171 من آل عمران في ج 3، كما سنبينه في تفسيرها إن شاء الله، وأجمعوا على أن روح الميت تعود إليه وقت السؤال على وجه لا يحس به أهل الدنيا إلا من شاء الله منهم، فلا مانع إذا من القول بسماعهم في الجملة، وهو للقول الحق، على أن يكون هذا السماع على أحد وجهين:
الأول أن يخلق الله تعالى عز وجل وهو القادر على كل شيء في بعض أجزاء الميت(4/458)
قوة يسمع بها من شاء الله إسماعه كالسلام ونحوه، ولا يمنع من ذلك وجوده تحت الثرى وقد انتحلت منه هاتيك البنية وانقصمت العرى، ولا يكاد يتوقف في قبول هذا القول من يجوز أن يرى أعمى الصين بقّة الأندلس. الثاني أن يكون ذلك السماع للروح بلا واسطة قوة البدن، ولا يمتنع أن تسمع بل أن تحس وتدرك مطلقا بعد مفارقتها البدن بدون وساطة قوى فيه، وإذ كان للروح على القول الصحيح تعلق بالبدن كله أو بعضه بعد الموت لا يعلم حقيقته وكيفيته إلا الله، وهذا التعلق غير التعلق بالبدن الذي كان لها قبله أجرى الله سبحانه عادة أمره بتمكينها من السمع وخلقه لها عند زيارة القبر، وكذا عند حمل البدن وعند الغسل مثلا، ولا يلزم من وجود ذلك التعلق والقول بوجود قوة السمع ونحوها فيها نفسها أن تسمع كل مسموع، لما أن السماع مطلقا، وكذا الإحساسات تابعة المشيئة، فيقتصر على القول بما ورد فقط من السلام ونحوه، ولا يلزم على هذا التزام القول بأن أرواح الموتى مطلقا في أفنية القبور، لما أن مدار السماع عليه مشيئة الله تعالى، وقدمنا ما يتعلق في بحث الروح بصورة مفصلة في الآية 85 من الإسراء في ج 1 فراجعها.
مطلب في أدوار الخلقة والجناس وحقيقة أفعال وفعائل وأنواع الكفر والجهل:
قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ» هو ماء مهين ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة إلخ وكلها ضعيفة «ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً» تبدأ من المراهقة إلى الشاب إلى الكهولة إلى الكمال إلخ «ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً» لأن ما بعد الكمال إلا النقص «وَشَيْبَةً» شيخوخة فهوما وهو تمام النقصان، فسبحانه «يَخْلُقُ ما يَشاءُ» من القوة والضعف والشباب والشيب وغيرها «وَهُوَ الْعَلِيمُ» بتدبير خلقه «الْقَدِيرُ» 54 على ما يشاء، وقدمنا ما يتعلق في مراتب الخلق في الآية 67 من سورة المؤمن المارة، وله صلة في الآية 5 من سورة الحج في ج 3. قال تعالى «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ» المحكوم عليهم بالعذاب لما قدمنا أنه لا يسمى سجر ماء إلا بعد إثبات ما أسند إليه، وهذا القسم يكون عند تذاكرهم من مدة مكثهم في الدنيا والبرزخ فيقولون «ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ» وإنما استقلوا مدة لبثهم مع كثرتها لطول يوم القيامة(4/459)
على المعذبين وشدّة هوله «كَذلِكَ» مثل هذه الأيمان الكاذبة التي يأتون بها يوم القيامة وأنواع الإفك التي يعتذرون بها ويحاججون ربهم وغيرهم بها «كانُوا يُؤْفَكُونَ» 55 بالدنيا وينصرفون من الحق إلى الباطل ومن الصدق إلى الكذب، إذ كذبوا أنفسهم، لأنهم لبثوا في الدنيا وفي القبر مئات السنين، وهذا لكذبهم في الدنيا بأنهم لم يبعثوا ولم يحاسبوا ولم يعاقبوا «وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ» في حالة الدنيا لهؤلاء الكاذبين «لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ» من يوم خلقكم إلى يوم موتكم في الدنيا، ومن يوم موتكم في البرزخ «إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ» الذي كنتم تنكرونه قرونا كثيرة «وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» 56 أنكم تبعثون ولا تصدقون الرسل بما جاءتكم به، وإن علمكم الآن وتصديقكم لا ينفعكم شيئا لتفريطكم به وقت نفعه، وفي هذا يقال:
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخش سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
هذا وبين الساعة والساعة في الآية الأولى جناس تام مماثل، ولا يضر اختلاف حركات الإعراب ولا وجود ال في أحدهما لأنها مؤكدة، ولا يضر اتحاد مدلولها في الأصل، لأن المعرف فيه كالمنكر بمعنى القطعة من الزمن لمكان النقل في المعرف وصيرورته علما على القيامة كسائر الأعلام المنقولة، وأخذ أحدها من الآخر لا يضر أيضا، كما هو موضح في بحث جناس الاشتقاق. قالوا ولا يوجد في القرآن العظيم جناس من هذا النوع إلا هذه في القسم المكي جميعه، وسيأتي مثله في الآية 45 من سورة النور في القسم المدني ج 3 إن شاء الله، لأن الابصار الأول فيها جمع بصر، والثاني جمع بصيرة كما ستقف عليه هناك إن شاء الله. وقال بعضهم إن هذا النوع من الجناس لا يكون بين حقيقة ومجاز، وان الابصار الثاني في تلك الآية ليس من باب الحقيقة بل في المجاز والاستعارة، لأن البصيرة تجمع على بصائر لا على الابصار، ولأن علماء العربية قالوا إن صيغة أفعال من جمع القلة وهو لا يطرد إلا في اسم ثلاثي مفتوح الفاء كبصر وأبصار، أو مكسورها كغيب وأغياب، أو مضمومها كرطب وأرطاب، وساكن العين كثوب وأثواب، أو محركها كعضد وأعضاد(4/460)
وفخذ وأفخاذ، وصفة فعائل من جموع الكثرة وهي لا تطرد إلا في اسم رباعي مؤنث بالتاء أو بالمعنى ثالثه مدّة كسحابة وسحائب، وبصيرة وبصائر، وحلوبة وحلائب، وشمال وشمائل، وعجوز وعجائز، وسعيد علم على امرأة وسعائد، وقد استعيرت الأبصار للبصائر مجامع ما بينهما من الإدراك والتمييز، وقد ظن بعضهم أن الساعة في القيامة مجاز وانكسر التجنيس فيها، وهو بغير محله لما ذكرنا أن الساعة عبارة عن قطعة من الزمن وكلاهما حقيقة فيه، تأمل. قال تعالى «فَيَوْمَئِذٍ» يوم قيام الساعة «لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ» ولا احتجاجهم لأن قبول العذر والتوبة محلّهما الدنيا، وقد انقضت «وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» 57 يسترضون لربهم فلا تطلب منهم العتبى وهي الاسترضاء لفوات محلها، وبعد أن حق عليهم العذاب فلا مناص لهم منه. وقال بعضهم: إن العتبى من الإعتاب بمعنى إزالة البعث كالعطاء والاستعطاء أن لا يطلب منهم إزالة عتب الله أي غضبه لا بالتوبة ولا بالطاعة ولا غيرهما «وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» ليعتبروا فيه فلم يعتبروا، وهذا إشارة إلى عدم قبول الاعتذار في الآخرة «وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ» من الآيات المنزلة عليك يا سيد الرسل، أو مما نزل على من قبلك «لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ» أيها الرسل «إِلَّا مُبْطِلُونَ» 58 فيما جئتم به، فكان شأنهم معك كشأنهم مع الرسل قبلك، لأنهم كلوا يأتونهم بالحق ويكذبونهم ويرمونهم بالباطل من القول، ويصمونهم بالافتراء فلم ينتفعوا بما نضرب لهم من الأمثال ونقص عليهم من القصص ونذكرهم به من الأخبار السالفة «كَذلِكَ» مثل هذا الطبع البليغ المحكم «يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» 59 الجهلة الذين علم الله اختيارهم الضلال على الهدى والكفر على الإيمان، ولذلك وصموا مرشديهم بما لا يليق بهم لشدة توغلهم بالكفر.
واعلم أن الكفر أربعة أنواع: الأول أن يقر بالإيمان بلسانه ولا يعتقد صحته بقلبه وهذا كفر النفاق. الثاني أن لا يتعرف على الله أصلا ككفر فرعون إذ يقول (ما علمت لكم من إله غيري) وهذا كفر إنكار. الثالث أن يعرف الله بقلبه ولا يقره بلسانه كإبليس، وهذا كفر جحود. الرابع أن يعرف الله يقلبه(4/461)
ويقر به بلسانه ولا يدين به كأمية بن الصلت وهذا كفر عناد. ومنه كفر أبي طالب قبل إيمانه في آخر رمق من حياته على قول ابن عباس أو بعد مماته على ما جاء بأن الله أحيا له أبوبه وعمه أبا طالب فآمنوا به إكراما لحضرته المقدسة ولما لأبي طالب عليه من الأيادي البيضاء، والقول بما ذكره ابن عباس أولى لأن الإيمان بعد الموت لا عبرة به إلا أن يكون خاصة له وإكراما لحفيده، وما عام إلا وقد خصص، وما ذكرنا من أقواله في الآية 56 من سورة القصص المارة في ج 1 والآية 26 من سورة الأنعام المارة تدل على أنه عارف بربه معتقد صحة رسالة ابن أخيه وأن الذي منعه من التصريح بالإسلام مخافة مذمة قريش. والجهل اثنان بسيط وهو من لا يعرف صاحبه ما هو للعلم، ومركب وهو مثل الأول إلا أن صاحبه لا يعرف نفسه أنه لا يعرف، وهذا هو الذي يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب الحق، ولهذا قالوا هو شر من البسيط، وما الطف ما قيل في هذا:
قال حمار الحكيم يوما ... لو أنصفوني لكنت أركب
لأني جاهل بسيط ... وصاحبي جاهل مركب
وقيل فيه أيضا:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... ولو كنت أعلم ما تقول عذلتكا
ولكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا
وقال الآخر:
فبايعا هذا ببخس معجل ... غبنت ولا تدري إذا كنت تعلم
فإن قلت لا أدري فتلك مصيبة ... وإن قلت أدري فالمصيبة أعظم
وأمثال هذا كثير. قال تعالى «فَاصْبِرْ» يا خاتم الرسل على أذاهم فقد أظلك ما وعدناك به «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» في نصرك وإعلاء كلمتك ثابت في أزلنا إنجازه فدم على ما أنت عليه «وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» 60 أي لا يحملونك على العجلة بما تعدهم به فإنهم لا يصدقونك ولا يؤمنون بوعدك الذي وعدك به ربك مع أنه واقع لا محالة، ولكن له أجل لا يسبقه. هذا ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بهذه اللفظة غير هذه. أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير(4/462)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)
وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه في سنته عن علي كرم الله وجهه أن رجلا من الخوارج ناداه وهو في صلاة الفجر فقال (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الآية 65 من الزمر المارة، فأجابه عليه السلام وهو في الصلاة (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفّنك الذين لا يوقنون) وهذا ليس بكثير على باب مدينة العلم وسيف الله ومن هو بمنزلة هرون من موسى بالنسبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد سماه رسول الله حينما خرج إلى ابن ود العامري الإسلام كله. وفي هذه الآية إشارة لأهل الوراثة المحمدية أهل الإرشاد بأن يصبروا على مكاره المنكرين المحجوبين الذين لا يصدقون بأحوالهم ولا يعتقدون صحتها، ولذلك يستخفون بهم ويرمونهم بما ليس فيهم وما هم منه براء، عفا الله عنهم وأعادهم إلى الرشد. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة العنكبوت عدد 35 و 85 و 29
نزلت بمكة بعد سورة الروم عدا الآيات من 1 إلى 11 فإنها نزلت بالمدينة وهي تسع وستون آية، وتسعمئة وثمانون كلمة، وأربعة آلاف ومئة وخمسة وستون حرفا. لا يوجد مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «الم» 1 تقدم معناه وما فيه أول سورة الأعراف فما بعدها من أمثاله مفصلا «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا» في هذه الدنيا بلا بلاء وهي داره، ولا امتحان واختبار وهي محلهما، بمجرد «أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا» بالله ورسوله وكتابه وملائكته والبعث بعد الموت والقدر خيره وشره من الله «وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» 2 فيها بأموالهم وأولادهم وأنفسهم، كلا ثم كلا.
مطلب لا بدّ من اقتران الإيمان بالعمل الصالح:
لا يكفي الإيمان المجرد، بل لا بد من اقترانه بالعمل الصالح والصبر على البلاء.
نزلت هذه الآية وما بعدها إلى 11 في المدينة المنورة في أناس كانوا في مكة بعد(4/463)
هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلم مسلمين فكتب إليهم أصحاب الرسول أن لا يقبل الله منكم الإقرار بالإسلام حتى تهاجروا من محل الكفر إلى الإيمان، فخرجوا عامدين إلى المدينة، فتبعهم المشركون فمنهم من قتل ومنهم من نجا، قال بعضهم لو أثاب الله المؤمن يوم القيامة من غير أن يفتنه في الدنيا، لقال الكافر المعذب ربي لو أنك كنت فتنته في الدنيا لكفر مثلي، فإيمانه الذي تثبيه عليه مما لا يستحق الثواب له، وبالفتنة يلجم الكافر عن مثل هذا القول ويعوض المؤمن بدلها ما يعوض من خير الآخرة ونعيمها الذي لا يكيف، وان نعيم رجل أو امرأة من أهل الجنة لو قسم على أهل الأرض لزاد عليهم بحيث يتمنى لو كانت فتنته أعظم مما كانت، وقال ابن عباس أراد بالناس الذين آمنوا بمكة سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد ابن الوليد وعمار بن ياسر وغيرهم من المسلمين، وقيل في عمار كان يعذب في الله، وقيل في مهجع بن عبد الله مولى عمر وكان أول من قتل من المسلمين في بدر فسماء صلّى الله عليه وسلم سيد الشهداء وقال إنه أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة، فجزع أبوه وأمه فأنزل الله هذه الآية. قال تعالى «وَلَقَدْ فَتَنَّا» اختبرنا وامتحنا «الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» قبل أولئك المسلمين الممتحنين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم بأنواع البلاء فمنهم من قتل ومنهم من نشر بالمنشار، ومنهم من مشّط بأمشاط الحديد المحماة ومنهم من أحرق بالنار، ومنهم من صبر على أنواع التعذيب، فثبتوا على دينهم ولم ينصرفوا عنه «فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ» بهذا الافتتان، وهو عالم قبل ولكن ليظهر ذلك من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ليطلع عليه خلقه «الَّذِينَ صَدَقُوا» بإيمانهم وحافظوا عليه ولم يثنهم عنه ما أصابهم من البلاء رغبة به وطلبا لما عند الله من الثواب «وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» 3 في إيمانهم الذين ذمهم الله تعالى بقوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ) الآية 12 من سورة الحج في ج 3، أي ليميز الصادق من الكاذب فيما بين الناس، أما هو جلّ علمه فهما معلومان عنده من يوم قالوا بلى كعلمه بجميع مكوناته، وان ما يطهره من أقوالهم ليعلم به الناس، وانه سيكافىء الصادق على صدقه، ويجازي الكاذب على كذبه.
قال تعالى «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا» يفوتوننا،(4/464)
كلا لا يقدرون على الهرب منا، ولا يفلتون من قبضتنا، أو يظنون أنا لا نعاقبهم، بلى سننتقم منهم لا محالة، وإذا كان هذا ظنهم فقد «ساءَ ما يَحْكُمُونَ» 4 به فقد خاب ظنهم وبئس ما حكموا به. واعلموا أيها الناس أن «مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ» في الآخرة فعليه أن يحسن إيمانه ويشفعه بالعمل الصالح، ويعتقد بالبعث بعد الموت «فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ» المضروب للقائه الذي فيه عقاب الكافر وإثابة المؤمن «لَآتٍ» لا محاله، فليستعد له ويستمر على صالح العمل كي يصدق رجاؤه ويحقق أمله. وإتيانه كناية عن إتيان ما فيه من الخير العظيم لأهل الخير، والشر الجسيم لأهل الشر، ألا فلينتظر المحسنون ثواب أعمالهم والمسيئون عقابها «وَهُوَ السَّمِيعُ» لأقوال عباده سرّها وجهرها «الْعَلِيمُ» 5 بنياتهم طيبها وخبيثها، ثم طفق جل شأنه يعرض بالجهاد ويرغب فيه لقرب أوانه، لأنه تعالى سيأذن لحبيبه في هذه السورة بالهجرة التي هي مقدماته، فقال عز قوله «وَمَنْ جاهَدَ» منكم أيها الناس أعداء الله الكافرين أعداءكم لإعلاء كلمة الله وتخليص عباده من الذل ومن رق الكفار، وأنقذهم من أذاهم المرعق، وصبر نفسه على قتالهم، وصدق ربه بما آتاه من قوة بدنية ومالية «فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ» لأنها هي التي تحظى بعظيم ثوابه لتلك الغايات الشريفة، فمن زهد بنفسه لأجل الله فيكون جزاؤه ومكادنه عليه، وناهيك به مجاز يعطي على القليل الكثير، وعلى العظيم أعظم منه «إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» 6 وإيمانهم وجهادهم ولو شاء لما أحاجهم إلى الجهاد، ولكن أمرهم به لمنفعة أنفسهم وليظهر لخلقه من منهم الطائع له أزلا والعاصي كما هو مدون في لوحه ولما يعود عليهم بسببه من الخير العميم والفضل الجسيم، قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» التي أعظمها الجهاد في سبيل الله في زمنه ووقت الحاجة الماسة إليه، وإلا فتوحيد الله أعظم منه وسد عرز المحتاج الذي لا يقوم به أحد أفضل أيضا «لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» في الآخرة ولنبدلنها حسنات بسبب ما ضحوه من الأعمال الطيبة لإيمانهم «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ» 7 مر مثلها في الآية 97 من سورة النحل المارة.(4/465)
مطلب برّ الوالدين وما وقع لسعد بن أبي وقاص مع أمه، وأبي بكر مع ولده، وعياش وأخويه أولاد أسماء بنت محرمة:
قال تعالى «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً» أمرناه أن يتعهدهما ويراعي حقوقهما ويحسن إليهما «وَإِنْ جاهَداكَ» ألحّا عليك أيها الإنسان «لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» بإلهيته، ولا يصح أن يكون إلها إذ لا إله غيري، أنا الملك صاحب الأمر والنهي «فَلا تُطِعْهُما» في ذلك لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وان الإشراك لا أعظم منه ولا أجلب لغضب الله من معتنقه، «إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ» لا إلى غيري بررتم بوالديكم أو عقفتم أو آمنتم أو كفرتم وحينذاك «فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 8 في الدنيا، فأجازيكم على الخير خيرا منه، وعلى الشر مثله. وقدمنا ما يتعلق في بر الوالدين في الآية 24 من الإسراء في ج 1 وفي الآية 14 من سورة لقمان المارة فراجعهما. وتفسير الجملة الأولى من هذه الآية في الآية 15 من سورة الأحقاف المارة، وذكرنا في آية لقمان ما وقع لسعد بن أبي وقاص مع أمه، وفي آية الأحقاف ما وقع لأبي بكر أيضا فراجعها. وقيل إن هذه الآية نزلت في عياش بن ربيعة المخزومي لما هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجاء أبو جهل والحارث بن هشام ونزلا عنده في المدينة وقالا له إن من دين محمد صلة الرحم وبر الوالدين، وقد تركت أمك لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتا حتى تراك، وهي أشد لك حبا (وذلك لأنهما أخواه لأمه) ، فاستشار عمر فقال يخدعانك، ولئن بقيت لأقسم مالي بيني وبينك، فلم يزالا به حتى أطاعهما، فقال له عمر أما إذ عصيتني فخذ ناقتي، وإن رابك أمرهما فارجع فإنها لا تدرك. رضي الله عنه وأرضاه، إنه لينظر بنور الله، كيف وقد جاء التنزيل يحمل من أقواله، وقد قال فيه صلّى الله عليه وسلم لقد كان فيمن قبلكم من الأمم محدّثون فإن يك من أمتي منهم أحد فإنه عمر. وفي رواية: لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن بك في أمتي أحد فإنه عمر. وكلمة محدّثون بالتشديد، وفي رواية: ملهمون. وهذا مما يؤيد أن أن الله تعالى لم يترك هذه الأمة من معنى الوحي وآثار الرسالة، كيف وقد(4/466)
قال صلّى الله عليه وسلم: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدّد لها أمر دينها.
ولله الحمد، هذا، ولما لم يقنع بقوله ليقضي الله أمرا كان مفعولا وليطلعهم عليه ليصدقوا أن من عباده ممن هو ملهم بما يقع من قضائه، فلما انتهوا به إلى البيداء قال أبو جهل كلتت نافتي فاحملني معك، فنزل، فأخذاه وشدا وثاقه، وجلده كل منهما مئة جلدة، وذهبا به إلى أمه، فقالت له لا تزال بعذاب حتى ترجع عن دين محمد.
هذا وقد جعل بعض المفسرين الآيات الثلاث في حق سعد رضي الله عنه، وان ما جرينا عليه أولى، على أن كلا منها عامة اللفظ والمعنى لا يخصصها عن عمومها هذه الأسباب ولا يقيدها عن إطلاقها، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ولأن الآية الواحدة قد يكون نزولها لعدة حوادث بسبب انطباق مآلها عليها، ولم نعهد أن ثلاث آيات نزلت في حادثة واحدة أو آيتين، وعليه فالقول بنزول الآيات الثلاث المذكورة في حق سعد رضي الله عنه لم يثبت، والله أعلم. ومرت بقية القصة في الآية 11 من سورة لقمان، وقيل إنها نزلت في سعد بن مالك الزّهري وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس، لما أسلم قالت له لا آكل ولا أشرب ولا استظل حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتعيّر بي، فلم يفعل، وبقيت أياما، ولما أيست منه أكلت وشربت واستظلت، قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ» 9 من عبادنا مع الأنبياء والأولياء والشهداء والعارفين. قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ» إيمانا مطلقا «فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ» لأجله أو من أجله «جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ» به من أذية أو إهانة «كَعَذابِ اللَّهِ» أي نزل ما يصيبه منهم منزلة عذاب الله في الآخرة وجزع كما يجزع من عذابه لو حل به، مع أنه لا يعد كل عذاب الدنيا شيئا بالنسبة لجزء من عذاب الآخرة، فلم يصبروا على ما وقع عليهم من عذاب الدنيا، ورجعوا عن دينهم وكفروا بربهم، مع أنه يجب عليهم أن يصبروا عليه مهما كان شديدا، لأنه فان رغبة بما عند الله للصابرين من نعيمه الدائم. وهذه سمة المنافق فإنه إذا أوذي في الله رجع عن دينه، كالذي يعبد الله على حرف، راجع الآية 12 من سورة الحج المشار إليها آنفا، أما المؤمن فإنه يصبر على ما أصابه(4/467)
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
طلبا لما عند الله من الثواب «وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ» وغنيمة للمؤمنين من أعدائهم «لَيَقُولُنَّ» لهم أولئك المنافقون «إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ» على عدوكم وكنا مسلمين مثلكم، وإنما أكرهنا على ما وقع منا، فأكذبهم الله بقوله «أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ» 10 من الإيمان الصادق والنفاق المحض وغيره،
بلى هو أعلم منهم بأنفسهم، وهذا استفهام تقريري بمعنى القسم، أي بلى والله هو عالم بذلك، ولهذا أردفه بالقسم. فقال «وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» وثبتوا على إيمانهم حالة البلاء «وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ» 11 الذين تخلوا عنه عند الشدة، أي والله إنه عالم بالفريقين حق العلم لأن اللام في الفعلين موطئة للقسم. نزلت هاتان الآيتان في أناس كانوا مؤمنين بألسنتهم فإذا أصابهم أذى من الكفار واتقوهم على ما يريدونه، فنضحهم الله تعالى، وهذه آخر الآيات المدنيات.
قال تعالى «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» من أهل مكة «لِلَّذِينَ آمَنُوا» بمحمد «اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ» أي إذا كان الصارف لكم عنا خوفكم عقاب الله الذي يهددكم به محمد فارجعوا عن دينه إلى دينكم ونحن نتحمل عنكم ما يهددكم به، فأكذبهم الله بقوله «وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ» هذا نفي مؤكد بالباء الواقعة في خبر ما التي هي بمعنى ليس جيء بها لتاكيد نفي الاستمرار وبمن الداخلة على شيء لتأكيد الاستغراق ثم قرر ذلك بقوله «إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» 12 بأنّ المقيدة للتحقيق والتأكيد واللام الموكدة لها، ونظير هذه الآية في المعنى الآية 25 من سورة النحل المارة، كما أن نظير الآيتين 10/ 11 المارتين الآية 166 فما بعدها من سورة آل عمران في ج 3، قال تعالى «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ» أوزارهم الباهظة «وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ» أيضا، لأن هؤلاء المضلين عليهم عقابان، عقابا لافترافهم الكفر، وعقابا لحمل غيرهم عليه، راجع الآية 25 من سورة النحل المارة «وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ» سؤال توبيخ وتبكيت «عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ» 13 من الأكاذيب والأباطيل ويغرون غيرهم بها كقولهم هذا، روى مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال: من سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن(4/468)
ينقص من أوزارهم شيء. والسنة السيئة هي المبتدعة التي لم يرد عن النهي عنها حديث صحيح، كما أن السنة الحسنة الواردة في الحديث الآخر الذي ذكرناه في آية النحل المذكورة هي غير التي منها حضرة الرسول، وتنطبق على هذين الحديثين البدع، فما كان منها سيئا دخل في السنة السيئة، وما كان منها حسنا دخل في السنة الحسنة.
قال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ» يدعوهم إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأوثان «أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً» لم يقل تسعمئة وخمسين عاما، لأن الاستثناء يدل على التحقيق، وغيره يدل على التقريب، ولأن التعبير بها أقل كلمات من غيرها، ولأن عقد الألف يدل على التكثير وهو أعظم للكلام. قال ابن عباس بعث على رأس الأربعين، ودعا قومه ألفا إلا خمسين، وعاش بعد الطوفان ستين، فعمره ألف وخمسون سنة. وقال وهب عاش ألفا وأربعمائة سنة. وجاء في التوراة آخر الإصحاح التاسع أنه عاش مع قومه ستمئة سنة، وبعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة، والله أعلم. وهذه الآية كتسلية لحضرة الرسول يعلمه فيها أن من الأنبياء قبلك صبروا على البلاء كثيرا وإنك أولى بالصبر لأنك من أولي العزم، وإن أمتك مهما قابلتك به، فإنها أحسن من غيرها من حيث النتيجة، لأنا جعلناك خير نبي أرسل، فأرسلناك إلى خير أمة، فاصبر عليهم فإنك مهما جاملتهم وتحملت منهم لا يكون مثل صبر نوح على قومه في طول مدته، وإنا بعد صبره هذا أعلمناه بأنهم لم يؤمنوا، وألقمناه الدعاء عليهم، فدعا «فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ» إجابة لدعوته التي صادقت الوقت المقدر لعذابهم «وَهُمْ ظالِمُونَ» 14 لأنفسهم لعدم إجابتهم دعوة نبيهم للإيمان وإصرارهم على الكفر، أما نوح «فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ» الذين آمنوا معه من الغرق «وَجَعَلْناها» تلك الفعلة التي فعلناها بهم أو السفينة التي أنجينا بها المؤمنين «آيَةً لِلْعالَمِينَ» 15 أجمع إذ يتناقلون أخبارها جيلا بعد جيل منذ زمنها إلى يوم القيامة. راجع تفصيل القصة في الآية 44 من نورة هود المارة. وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ» وحده وذروا الكواكب والأصنام التي هي من مخلوقاته وصنع أيديكم «ذلِكُمْ» الذي أرشدكم إليه وأنصحكم به «خَيْرٌ لَكُمْ» من الإشراك(4/469)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
بالله وعبادة غيره «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» 16 الخير من الشر والنفع من الضر، وقال لهم يا قوم «إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً» يدخل فيها كل معبود بغير حق حيوانا أو جمادا ملكا أو إنسا، أما الأصنام فتختص بما يعمله البشر من فضة وذهب وحديد وغيرها «وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً» كذبا محضا تصنعونه وتسمّونه إلها افتراء على الله وبهتا منكم، يا قوم «إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً» ولا يستطيعون أن يدفعوا عنكم ضرا ولا يجلبوا لكم نفعا، فاتركوها «فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ» فهو القادر على رزقكم ورزق جميع خلقه الحسّاسة والنامية، لاحتياج كل إلى الماء والهواء وهما رزق ليعجز البشر عن إطلاقه إذا أمسكه الله «وَاعْبُدُوهُ» وحده لا تشركوا به شيئا فإنه لا يقبل الشركة «وَاشْكُرُوا لَهُ» ما خولكم به من النعم العظيمة لأنكم «إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» 17 في الآخرة لا إلى أوثانكم وهو الذي يجازي المحسن ويعاقب المسيء، هذا ما أصدقكم به لخيركم «وَإِنْ تُكَذِّبُوا» ما أقوله لكم «فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ» رسلهم كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، فأهلكهم الله بتكذيبهم، وإني أخاف عليكم إن أصررتم على تكذبي أن يصيبكم ما أصابهم «وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» 18 الواضح إلى قومه وعلى الله الهداية ومنه التوفيق وله الإهلاك والانتقام قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا» هؤلاء الناس «كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ» من النطفة ومن لا شيء ثم يميته ويفنيه «ثُمَّ يُعِيدُهُ» في الآخرة كما بدأه دون كلفة أو إعياء «إِنَّ ذلِكَ» الإبداء والإعادة والإماتة والإحياء «عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» 19 لأنه ما بين الكاف والنون من قوله كن، راجع الآية 27 من سورة الروم المارة «قُلْ» يا أكرم الرسل لهؤلاء المنكرين قدرتنا الجاحدين كتابنا المكذبين لك «سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ» يوم القيامة على نمط الأولى إذ لم يتعذر عليه الأحداث إبداء حتى تنعذر عليه الإعادة أخيرا «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 20 وذلك من جملة مقدوراته يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
«يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ» بسبب وبلا سبب إذا شاء «وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ» كذلك لا يسأل عما يفعل «وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ» 21 جميعكم أولكم(4/470)
وآخركم فله مصير الخلائق وإليه الأمر كله فيهم «وَما أَنْتُمْ» أيها الناس له بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا» يعجزه أيضا من «فِي السَّماءِ» لأن الكل بقبضته لا يستطيع أن يفلت منهم أحد، وفي هذا حذف الموصول مع بقاء الصلة وهو غير جائز عند البصريين، وقد أجازه غيرهم واستشهد له في الشعر على المذهبين بقول حسان رضي الله عنه وهو:
أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
فقد حذف من عجز البيت وأبقيت صلته، إذا فلا محل للاعتراض على هذا على أن الاعتراض قد يكون إذا كان القرآن مستقى من العربية لا إذا كانت العربية متشربة من القرآن، ويكون المعنى على التفسير الذي جرينا عليه في هذه الآية لا يعجز الله أحد في الأرض من الإنس أو الجن ولا يعجزه أحد في السماء من الملائكة عوامهم وخواصهم، ومن رأى أن حذف الموصول غير جائز قال ولا في السماء لو كنتم أيها الناس فيها على فرض المحال أي الاستبعاد، إذ لا محال على الله بل بالنسبة إلينا محال هو كما ترى، قال تعالى «وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» 22 يتولى أمركم أو يمنعكم من عذابه «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ» المنزلة على رسله «وَلِقائِهِ» جحدوا البعث بعد الموت الذي فيه لقاء الله وماتوا على ذلك «أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي» فلا تنالهم البتة ولا يشموا ريحها «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 23 لا تستطيعه قواهم ولو كانت حديدا. واعلم أن هذه الآيات من قوله تعالى أو لم يروا هنا، جاءت معترضة بين قصة ابراهيم عليه السلام في تذكيره أهل مكة بمناسبة ختام ما ينزل عليهم من القرآن، إذ ينتهي المكي بانتهاء هذه السورة والتي بعدها فقط، لأن الخطاب فيها لسيد المخاطبين الذين أعمه أمرهم وأزعجه تماديهم في الطغيان وآسفه عدم تأثرهم من الآيات التي تذوب لها صم الحجارة وآساه اهانتهم له ولأصحابه واذاهم المترادف، ولم يبق له بعد هذا إلا هجرهم. قال تعالى فيما يقصه عن سيدنا ابراهيم «فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ» تجاه نعمه لهم وإرشاده إياهم وتحذيرهم بطش ربهم «إِلَّا أَنْ قالُوا» بعضهم لبعض عند ختام مذاكرتهم بشأنه كما تقدم في الآية 65 من سورة الأنبياء(4/471)
«اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ» ليذيع خبره في الآفاق فيرتدع من تحدثه نفسه بمثل فعله مع قومه وآلهته، ولهذا اختاروا الإحراق لأنه أكثر سمعة من القتل «فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ» التي القوه فيها على الصورة المقدمة في الآية 71 من الأنبياء المارة «إِنَّ فِي ذلِكَ» الفعل الذي فعلوه بإبراهيم وتخليصنا إياه «لَآياتٍ» عظيمات باهرات «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» 24 فيعتبرون ويتعظون «وَقالَ» ابراهيم بعد خروجه من النار سالما وأمته نمروذ كما تقدم في القصة يا قوم «إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً» لأن تكون «مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» فقط ثم تنقطع في الآخرة لأنها ليست على تقوى وستكون عليكم وبالا، وهكذا كل صداقة من هذا القبيل راجع الآية 67 من سورة الزخرف المارة «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» وذلك لأن الأوثان تنبرا من عابديها وتنكر أنها كانت معبودة لهم وان رؤساءهم الذين أضلوهم يتبرءون منهم أيضا فيقع التشاحن بينهم فتلعن القادة الاتباع، والأتباع القادة، والأوثان عابديها، والعابدون الأوثان، ويكثر اللجاج والخصام بينهم، راجع الآية 31 من سورة سبأ والآية 31 من سورة ابراهيم والآية 47 من سورة المؤمن والآية 20 من سورة السجدة المارات والآية 165 من البقرة فما بعدها ج 3 العابدين والمعبودين، ويقال لهم حينذاك اخسؤوا لا تكلموا فما لكم من مجيب وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» 25 يحولون دون تعذيبكم البتة. قال تعالى «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ» فقط بعد ظهور المعجزة العظيمة في النار، وإلا فهو مؤمن من قبل لأن الأنبياء يولدون مؤمنين فلا يتصور فيهم غير الإيمان من بدايتهم حتى نهايتهم «وَقالَ» ابراهيم بعد ذلك كله وقد أيس من إيمان قومه «إِنِّي مُهاجِرٌ» من هذه البلدة «إِلى» حيث أمرني «رَبِّي» لعدم قدرتي على إقامة الدين بين هؤلاء الكفرة، ولم أجد من ينصرني عليهم لتنفيذ أوامر ربي عز وجل.
مطلب تعويض الهجرة لسيدنا محمد وهجرة ابراهيم وإسماعيل ولوط عليهم الصلاة والسلام وسببها
. وهو أول من سنّ الهجرة من دار الكفر صيانة لدينه، وآخرهم حفيده(4/472)
محمد صلّى الله عليه وسلم الذي عرض الله تعالى له هجرة جده إيذانا بهجرته من مكة «إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ» الغالب على أمره «الْحَكِيمُ» 26 الذي لا يأمر إلا بما يكون فيه المصلحة ولا يرد هنا مسألة الأصلح لأن الأمر غير الإرادة والاختيار غير الوجوب، تأمل، وراجع ان شئت الآية 149 من الأنعام المارة وما ترشدك اليه. قال تعالى «وَوَهَبْنا لَهُ» بعد الهجرة «إِسْحاقَ» من زوجته سارة بنت عمه وكان وهب له قبله إسماعيل من جاريته هاجر «وَ» وهبنا لإسحق «يَعْقُوبَ» في حياته «وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ» أي ابراهيم ولم يصرح باسمه لشهوته وعلو قدره «النُّبُوَّةَ» إذ لم يرسل الله نبيا من بعده إلا من ذريته «وَالْكِتابَ» جنسه المشتمل على التوراة والإنجيل والزبور والقرآن إذ أنزلت كلها على ذريته، ولم ينزل بعدها شيء أبدا «وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ» وهو دوام الثناء عليه ومحبته من جميع الأمم على اختلاف مللها ونحلها «فِي الدُّنْيا» فلا تجد أحدا إلا ويثني عليه، وبسبب بقاء ذريته يستمر ذكره الحسن الى آخر الدوران «وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» 27 للقاء الله عز وجل، فقد جمع الله له خير الدارين، وهو أحق من يكرم بذلك. قالوا ولما نجى الله ابراهيم على الصورة المذكورة في الآية 57 من سورة الأنعام فما بعدها وأذن الله له بالهجرة هاجر من أرض بابل إلى الأرض المقدسة هو وزوجته سارة وابن أخيه لوط، فمروا على حران فأقاموا بها زمانا ثم خرجوا إلى الأردن فدفعوا إلى مدينة فيها جبار من القبط اسمه صارولي، وهو الذي تعرض له في ساره، فمنعها الله منه ومتعها بهاجر القبطية، وليس المراد أنها تدبن بالقبطية إذ لم تكن الديانة القبطية مشروعة إذ ذاك، ويرجع تاريخ تسهية القبط الى سبعمئة سنة بعد الطوفان، وإنما سموا قبطا لأنهم نسبوا الى قبطيم بن مطريم، قالوا وخرج ذلك الجبار من تلك المدينة فورثها ابراهيم وأ ترى بها، وأعطى نصفها الى لوط، ثم تزوج هاجر بأمر سارة فولدت له إسماعيل وهو ابن ست وثمانين سنة وقيل تسع وتسعين أما إسحق فقد ولدته سارة على طريق المعجزة كما مر في الآية 40 من سورة هود المارة، وكان ابراهيم ابن مئة سنة، وقيل وسبع وعشرة سنة كما في الآية 39 من سورة ابراهيم المارة. ثم أمر الله ابراهيم(4/473)
بالذهاب الى مكة بإسماعيل وامه، واعلمه بأنه قد بوأه حرمه وأنه يبنى من قبله، فأخذهما ووضعهما عند البيت ورجع لأهله كما مر في القصة. روى البخاري عن ابن عباس قال أول ما اتخذ النساء المنطقة من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقا لتخفي أثرها على ساره، ثم جاء بها ابراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، فوضعها هناك ووضع عندها جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قضى ابراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت يا ابراهيم إلى أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟
فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له الله أمرك بهذا؟ قال نعم قالت إذا لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق ابراهيم فدعا بالدعوات المذكورة في الآية 40 فما بعدها من سورته عليه السلام، ثم دعا بالآيات 125 فما بعدها من سورة البقرة في ج 3 وجعلت أم إسماعيل ترضع ولدها وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر اليه يتلوى أو قالت يتلبط فانطلقت كراهية ان ترى حالة ولدها، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت منه حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدا فلم ترى أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس قال النبي صلّى الله عليه وسلم فلذلك سعى الناس بينهما (وصار من شعائر الحج) ، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا، فقالت صه تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت صوتا وقالت يا من قد أسمعت إن كان عندك غراث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فيحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تخوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف، وفي رواية قدر ما تعرف، قال ابن عباس: قال النبي صلّى الله عليه وسلم يرحم الله أمّ إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم علينا معينا، قال فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيتا لله تعالى يبنيه هذا الغلام وأبوه،(4/474)
(وستأتي كيفية بنائه في تفسير الآية المذكورة آنفا من البقرة ج 3) وان الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعا في الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، (أي ولا تناله بشيء) فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا (العائف المتردد حول الماء) فقالوا إن هذا الطائر ليدور على ماء ولعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جريّا أو جريين (بالتشديد الرسول) فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا نعم، قال ابن عباس قال النبي صلّى الله عليه وسلم فالفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم، حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم ونشب الغلام وتعلم العربية منهم وآنسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه بامرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل ليطالع تركته. أخرجه البخاري بأطول من هذا، وسنأتي على تمام القصة في سورة البقرة إن شاء الله. قال تعالى «وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ» اللواطة المتناهية في الفحش والقبح والخبث التي ابتدعتموها وحدكم «ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ» 28 فهم أول من سنها في الأرض، قاتلهم الله «أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ» في أدبارهم «وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ» الطريق على المارين وتقتلون وتسلبون وتجرون معهم المنكر «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ» مجسكم الذي هو محل مذاكرات أموركم المهمة فيما يتعلق ببعضكم وجيرانكم وغيرهم «الْمُنْكَرَ» اللواطة فينكح بعضكم بعضا فيه، وتتضارطون، وتصفرون، ويحذف بعضكم بعضا بالحصى، وتفرقعون أصابعكم، وتعلكون، وتتبادلون الألفاظ المنكرة البذيئة، وتتهامزون بالخبث والفحش فيها، وهي لم تتخذ إلا للاجتماعات والمداولات بالأمور النافعة كالحرب وصادرات البلاد ووارداتها وحسن الجوار مع الناس والمعاهدات وغيرها، فتوبوا إلى ربكم وارجعوا عن فيكم، واتعظوا بمن سلف منكم، كي لا يحل عليكم عذاب الله. «فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ» بمقابلة نصحه وتحذيره وإرشاده لما فيه خيرهم «إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ(4/475)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ»
29 أن ما نحن عليه قبيح مستوجب للعذاب والآية 82 من الأعراف وهي (وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم) إلخ، وآية النمل (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) إلخ في ج 1، وكلها تدل على الاستخفاف به والاستهزاء بقوله والسخرية به وتهديده، وكان عليه السلام غريبا عنهم، ولم يأت فيما قص الله عنه أنه دعاهم إلى عبادة الله كما جاء في قصة
إبراهيم وشعيب وغيرهما لأنه كان في زمن إبراهيم ومن قومه، وقد سبقه في دعوة التوحيد لله وعبادته ورفض ما سواه، واشتهر أمره عند أهل زمنه، لذلك كانت دعوة لوط لقومه فيما يختص بالنهي عن الفاحشة والأفعال الأخر الخبيثة المار ذكرها فقط، أما إبراهيم وشعيب كغيرهما من الأنبياء فقد جاء إلى قومهما بعد انقراض من كان يعبد الله حال عكوف الناس على عبادة الأوثان، ولم يكن في زمنهما من يدعو إلى الله ولذلك انصرفا إلى دعوة التوحيد والاعتراف بالنبوة والمعاد، فلما أيس منهم على النحر الذي تقدم في الآية 80 من سورة هود والآية 132 من سورة الصافات المارتين والآية 81 من سورة الأعراف في ج 1، دعا عليهم «قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ» 30 وحقق «ولي فيهم، فأجاب الله دعاءه.
قال تعالى «وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى» بإسحاق ويعقوب «قالُوا» أولئك الرسل وهم الملائكة لإبراهيم «إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ» التي فيها لوط «إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ» 31 أنفسهم بأعمالهم الخبيثة وإهانتهم رسولهم وتعديهم على الناس، وإنما أخبروه دون أن يسألهم لأنهم يعرفون أن أمر لوط يهمه لقرابته، ولكونه غريبا عمن أرسل إليهم، ولهذا «قالَ» إبراهيم «إِنَّ فِيها لُوطاً» وهو نبي فكيف تهلكونهما «قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها» بإعلام الله إيانا «لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ» لأنها ليست على دينه إنها «كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» 32 الباقين مع المعذبين من قومها «وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً» على صفة رجال حسنى الصورة «سِيءَ بِهِمْ» لوط واغتم خوفا من أن يتعدوا عليهم «وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً» طاقة، تقول ضاق ذرعي وضاقت يدي إذا عجزت عن تدبير ما تريده، ويقابله رحب ذراعي ويدي إذا كان ما تريده(4/476)
مطبقا عليه، وإذا فقد الطاقة قال ضاق ذرعي وذراعي ويدي، لأن الأصل في هذا إذا كانت يد الرجل طائلة نال ما لا يناله قصير اليد أي الذراع فصار مثلا بالعجز كما كان لفظ رحب مثلا للقدرة. فلما عرفت الملائكة ذلك منه لما غشى وجهه من الحزن والكآبة عرفوه بأنفسهم كما مر في الآية 80 من سورة هود المارة «وَقالُوا لا تَخَفْ» علينا منهم «وَلا تَحْزَنْ» على ما نفعله بهم «إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» 33 لأنها منهم وراضية بفعلهم، فانزاح عن وجهه الاكفهرار وقال ماذا تفعلون بهؤلاء الفسقة العتاة؟ قالوا «إِنَّا مُنْزِلُونَ» بامر ربنا «عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً» عذابا عظيما لم يحلموا به «مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» 34 ويتجاوزون حدود الله ويخرجون عن طاعة رسوله ويتعدون ما أحل إليهم لما حرم عليهم، فخسف الله بهم وبقراهم ورجموا بالحجارة، كما سبق بيانه في القصة. واعلم ان الضمائر في هذه الآيات وإن كانت مضافة للملائكة فهي في الحقيقة الى الله لأنهم جاءوا بأمره، وفعلوا بأمره، وهو الفاعل الحقيقي كل شيء قال تعالى «وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها» في قراهم بعد تدميرها «آيَةً بَيِّنَةً» يراها من يمر بها لتكون عظة «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» 35 إن خرابها كان بسبب فسق أهلها، وذلك بعد أن أمروا لوطا وأهله بالهجرة عنها.
مطلب تحريم اللواطة وجزاء فاهلها ومخازي قوم لوط والهجرة الشريفة لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم.
واعلم أن في هذه الآيات من ذم اللواطة ما لا يخفى فهي كبيرة إجماعا، وقد نصوا على انها أشد من الزنا حرمة، وجاء في شرح المشارق للأكمل أنها محرمة شرعا وعقلا وطبا، وإن عدم وجود الحد عليها تغليظا لأن الحد مطهر، وهي لخبثها لا يطهرها الحد، إذ لو كان لجعل لها الشارع حدا كالزنى والسرقة والشرب وغيره، ولذلك فإنها مستقبحة مستقذرة، وقد طهر الله الجنة من وجودها بل ورودها على خواطر أهلها المطهرين، وذلك ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعنها ولعن فاعلها وشريكه فيها، والله استبعدها بقوله (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) الآية 80(4/477)
من الأعراف في جزء 1 وسماها خبيثة بقوله (كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) الآية 75 من الأنبياء المارة وسماها هنا فاحشة، فالجنة منزهة عنها، وأهلها مبرءون منها، ولا يرد على هذا خبث الخمر في الدنيا ووجودها في الآخرة، لأن خبثها في الدنيا ناشيء عن إزالتها العقل الذي هو عقال عن كل خبث، وخمر الآخرة لا يزيله، قال تعالى (لا فِيها غَوْلٌ) الآية 49 من الصافات المارة، وجاء في الفتوحات المكية أن أهل الجنة لا أدبار لهم، لأن الدبر إنما خلق لخروج الفضلات منه في الدنيا، ولا فضلات في الجنة. وعلى هذا فعدم وجودها في الجنة ظاهر طبعا، ولا أظن أن ذا غيرة ومروءة تسمح نفسه أن يلاط فيه في الدنيا وهي دار فسق فكيف تتصوره نفسه في الجنة؟ وقدمنا في الآية 84 من سورة الأعراف في ج 1 ما يتعلق في هذا البحث، وفي الآية 73 من الزخرف المارة بيان مضار هذه الفعلة القبيحة وما يستحقه فاعلها وما جاء في حقه من الآيات والأحاديث وأقوال الفقهاء فراجعها.
قال تعالى «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً» أي اذكر لقومك يا محمد بعد هذه القصص الثلاث قصته إذ أرسلناه كما أرسلنا من قبله ومن بعده «فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ» وحده واتركوا الأوثان «وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ» اعتقدوا صحته وتوقعوا حلوله «وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» 36 حال مؤكدة لأن العثو هو الفساد «فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ» الحاصلة من هول صيحة الملك «فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ» 37 على ركبهم باركين خامدين، أجساد بلا أرواح. راجع الآية 93 من الأعراف ج 1 تقف على قصتهم «وَعاداً وَثَمُودَ» أهلكناهم أيضا لتكذيبهم أنبياءهم هودا وصالحا «وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ» يا قوم محمد «مِنْ مَساكِنِهِمْ» في الحجر واليمن تشاهدونها بأسفاركم، ففيهما مزدجر وعبرة وعظة لمن يعقل. ثم أشار تعالى إلى سبب إهلاكهم بقوله «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» الرديئة وعدم إنصاف ذوي الحقوق «فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ» الحق بانخداعهم لوساوسه «وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ» 38 ذوي بصر وبصيرة لما عملوه في الدنيا من البناء والجنان والصنايع وغيرها ولكن لم ينتفعوا ببصيرتهم وأبصارهم، لأنهم صرفوها للدنيا فقط لذلك لم يصغوا لنصح أنبيائهم، راجع قصتهما في الآيتين 72/ 84(4/478)
من الأعراف في ج 1 أيضا «وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ» أهلكناهم أيضا لإصرارهم على بغيهم وعتوهم «وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ» 39 أمرنا ولا منفلتين منه، بل أدركهم وأهلهم جميعا، راجع قصصهم في الآية 84/ 63 من سورة القصص والشعراء في ج 1، «فَكُلًّا» من هؤلاء الأقوام «أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً» كقوم لوط بعد الخسف «وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ» كقوم صالح «وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ» كقارون ورفيقه «وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا» كقوم نوح وهامان وفرعون وقومه «وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ» بما أوقعه فيهم حاشاه «وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» 40 لعدم طاعتهم رسلهم واستعمال عقولهم فيما لم تخلق له. هذا، واعلم أن الله تعالى قصّ على نبيه في هذه الآيات ما لقيه الأنبياء من أقوامهم وما قابلوهم به إعلاما بأن شأنه شأنهم وشأن أقوامهم، وإيذانا بأن النبي يصاحب قومه إذا آمنوا به ويهجرهم إذا كذبوه لينزل بهم عذاب الله، لأن قدرة الله ورحمته أبتا أن تعذب قوما ونبيهم بينهم، وقد أخبر الله جل شأنه حبيبه محمدا كيفية مهاجرة إبراهيم ولوط وغيرهما بسبب ما لقيا من أقوامهما وذكر له ما وقع لسائر الأنبياء من أقوامهم اشارة لحضرته بأن يهاجر هو أيضا وبترك قومه ووطنه أسوة بهم، وقد أشار تعالى إلى السبب المفضي إلى الهجرة في الآيتين 6/ 36 من الأنفال الآتية في ج 3، حتى إذا هاجر ونزلت عليه يزداد طمأنينة، وبما أن هجرته صلّى الله عليه وسلم وقعت بعد نزول هذه السورة بقليل بناء على أمره له بها فتذكر خلاصتها على أصح ما جاء فيها بصورة مختصرة، وذلك أن قريشا لما رأت حزم النبي صلّى الله عليه وسلم وعزمه يشتد كلما زادوا بأذاهم له ولأصحابه خافت من أن يعظم أمره إذا تركوه وشأنه ولا يستطيعون رده (وقد حقق الله خوفهم) فاجتمع رؤساء قريش في دار الندوة دار قصي بن كلاب إذ كانت قريش لا تبت بأمر إلا فيها ليتشاوروا في أمر محمد، إذ علموا أن فريقا من أصحابه هاجر إلى المدينة بعد أن هاجر فريق منهم إلى الحبشة وصار لهم شيعة من غيرهم وأصابوا من أهلها منعة مما زاد في حذرهم، وقد أطلقوا على اليوم الذي اجتمعوا فيه لهذا(4/479)
(يوم الرّحمة) وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأبو سفيان وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وأبو البحتري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام ومنبهة ومندة ابنا الحجاج وأمية بن خلف، وقد تمثل لهم إبليس في صورة شيخ فتغلغل بينهم، قالوا من أنت؟ قال من نجد سمعت باجتماعكم فأحببت حضوره ولن تعدموا مني نصحا، فتركوه نظرا لشيخوخته لعنه الله، وكانوا لا يحضرون مذاكراتهم إلا من تجاوز الأربعين، ثم بدأوا المشاورة في كيفية التخلص منه صلّى الله عليه وسلم (وقد جاءهم رحمة) فأدلى كل منهم برأيه، فكان رأي أبو البحتري حبسه حتى يموت، فرد عليه النجدي بأنكم إذا حبستموه يخرج أسره من وراء الباب ويخلص منكم بواسطة أصحابه، ورأى هشام أن يحمل على بعير ويطرد من البلاد، فقال النجدي إنه يفسد غيركم كما أفسدكم ويستميل
قلوب من يحل بهم بحلاوة كلامه وطلاوة لسانه وحسن خلقه وكمال أدبه فيغزوكم بغيركم ويخرجكم من دياركم، وقال أبو جهل نأخذ من كل بطن من قريش شابا وتسلطهم عليه فيقتلونه جميعا فيتفرق دمه في العشائر كلها ولا أظن أن بني هاشم يقدرون على حرب كل القبائل فيصار إلى الدية فنوديه كلنا، قصاح الملعون هذا هو والله الرأي الصائب الذي ما بعده رأي، ولله در صاحبه، فأجمعوا على ذلك وتفرقوا. كان الشيخ محمد الراوي العاني والد الشيخ إبراهيم نزيل بغداد قدس الله سرهم من العارفين الكاملين، وكان أحد مريدي ابن عمه الشيخ أحمد الراوي دفين دير الزور والد الشيخ عبد الوهاب المقيم بدير الزور يسمى (وردي) وكان يرى ما يرى ويذكر ما يراه للناس مما هو غير معقول، فأحضرة عند حضوره إلى دير الزور وحذره أن يذكر ما يراه فلعله أن يكون من تسويلات إبليس عليه اللعنة، ثم أرسل له بعد ذهابه أبياتا من جملتها:
قولوا لملاوردي ... سرّ الوجود عندي
فليكن على بصيرة ... من الشويخ النجدي
(لقبه بالنجدي أخذا من هذه القصة) . ثم انهم انتخبوا شبابا من فرقهم وأخبروهم بما قر رأيهم عليه وأرسلوهم ليحيطوا بدار محمد، حتى إذا خرج فتكوا به كلهم بالاشتراك، فنزل جبريل عليه السلام بالوحي على حضرة الرسول وأخبره بما بيته له قومه وأن(4/480)
الله تعالى أذن له بالهجرة إلى المدينة وحذره من أن يبيت في مكانه، فألهمه الله أن يأخذ قبضة من تراب عند خروجه، فأخذها وخرج من بيته متوكلا على ربه، ومر من بينهم فلم يره أحد منهم، إذ أخذ الله أبصارهم، فنثر على رءوسهم التراب وكان يقرأ (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ. وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الآيتين 8/ 9 من سورة يس ج 1، وكان أرسل إلى علي كرم الله وجهه وأخبره الخبر وخلفه بمكانه وعلى مكة كي يؤدي الأمانات والودائع لأهلها، لأن الناس كانت تأمنه على ما عندها لصدقه وأمانته وتسميه الأمين، وذهب إلى بيت أبي بكر وأخبره الخبر، فقال الرفقة يا رسول الله، قال نعم، فأخذه وذهب إلى الغار غار ثور واختبأ به، وبات شبان قريش ينتظرون خروجه من الدار ليقتلوه، لأنهم لم يتجاسروا على الدخول عليه في بيته لهيبته، ولأن البيوت كانت محترمة عندهم، ومن هنا أخذت قاعدة عدم الدخول على البيوت لإخراج من يختبىء فيها من المجرمين حرمة لأهلها وجواز الإحاطة بها من قبل الشرطة والدرك، ولم يعلموا أنهم باتوا يحرسون عليا عليه السلام الذي فادى رسول الله بنفسه، فلما أصبحوا خرج علي فثاروا عليه ثورة رجل واحد ليقتلوه كما أوصاهم رؤساهم، فإذا هو علي، فقالوا له أين صاحبك؟ قال لا أدري وأنشد كرم الله وجهه يشير إلى ما منّ الله به عليه، فقال لا فضّ قوه:
وقيت بنفسي خير من وطئ الحصى ... ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول إله خاف أن يمكروا به ... فنجاه ذو الطول الإله من المكر
وبات رسول الله في الغار آمنا ... وقد سار في حفظ الإله وفي ستر
وبت أداعبهم وما يتهمونني ... وقد وطنت نفسي على القتل والأصر
ولما سقط في أيديهم وتيقنوا أنهم خابوا فيما بيّتوه له ولم يعلموا كيف أفلت منهم وزاد أساهم حينما رأوا التراب على رءوسهم وعرفوا أنه هو الذي حثاه عليهم وأنه لم يعبأ بهم ولم يكترث بمكرهم اقتفوا أثره فلم يجدوه ولم يقعوا على خبره، وأرسلوا الرسل في طلبه يمينا وشمالا فلم يعثروا عليه، ثم قصدوا الغار فرأوا العنكبوت معشعشا عليه فقالوا لو دخله لتمزق نسيج العنكبوت. وسنأتي على بقية هذه القصة(4/481)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
الشريفة بعد تفسير سورة المطففين الآتية لأن محلها هناك، وإنما سبقنا بذكرها هنا لمناسة ذكر الهجرة من إخوانه الأنبياء المار ذكرهم.
قال تعالى «مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ» ينصرونهم في الدنيا ويشفعون لهم في الآخرة «كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً» لتأوي إليه وهو في غاية الضعف والوهاء لا يدفع حرا ولا بردا، وإنما اتخذتها شركا لصيد الذباب وشبهه «وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» 41 ماهيته، لأن الرياح تمزقه واللمس يخرقه، وكذلك هؤلاء الذين اتخذوا الأصنام آلهة فإنها لا تغنيهم شيئا ولا تجلب لهم في الدنيا خيرا ولا تدفع عنهم في الآخرة ضرا، لأنها أو هى شيء يعبد، وأوهن شيء يقصد، وفي هذه إشارة إلى أن هذه الدنيا فانية ويكفي فيها لا هلها ما يكفي العنكبوت، وإيذان بأن من أصحابه من يلافي في هجرته شدة وعلة وأذى وهوانا، وهذا مثل ضربه الله للمشرك الذي يعبد الوثن بالقياس الى المؤمن الذي يعبد الله مثل عنكبوت يتخذ بيتا من جلده ولعابه بالإضافة الى رجل يبني بيتا من حجر أو حديد أو اسمنت، وكما انك إذا استقريت بيوت الحيوانات والحشرات كافة تجد أوهنها من غير شك بيت العنكبوت فكذلك إذا استقريت عامة الأديان تجد بلا مراء أضعفها عبادة الأوثان. قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ» هذا توكيد للمثل أي أن الذين يدعونهم ليسوا بشيء «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب على كل شيء «الْحَكِيمُ» 42 بكل شيء. وفي هذه الجملة تجهيل لهم إذ عبدوا الأحجار التي لا علم لها ولا قدرة وتركوا عبادة القادر العالم، وتضليل لعقولهم على ترك عبادة الخالق الرازق وعبادة المخلوقين ومخلوقيهم الذي هو لا شيء «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ» التي ضربناها بتشبيه أحوال الكفرة الموجودين بالكفرة السابقين ومعبوديهم في بيت العنكبوت بينها و «نَضْرِبُها لِلنَّاسِ» الحاضرين ليتدبروها ويتصفوا بها «وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ» 43 العارفون لأنهم أهل النظر والتدبر راجع الآية 42 من سورة الروم المارة روى البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وسلم تلا هذه الآية وقال العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه.(4/482)
مطلب في العنكبوت وأنواع العبادة والصلاة وفوائدها والذكر
. قالوا والمراد بالعنكبوت النوع الذي ينسج بيته في الهواء لصيد الذباب وغيره، لا النوع الآخر الذي يحفر بيته في الأرض ويخرج بالليل كسائر الهوام وهي من ذوات السموم فيسن قتلها لذلك، لما أخرج أبو داود في مراسيله عن يزيد بن مرثد من قوله صلّى الله عليه وسلم: العنكبوت شيطان مسخها الله تعالى، فمن وجدها فليقتلها. فإنه حديث ضعيف كما أشار إليه الدميري وهو ليس بحجة، وكذلك ما خرجه الخطيب عن علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم دخلت أنا وأبو بكر العار فاجتمعت العنكبوت فنسجت بالباب فلا تقتلوهن. كما ذكره الجلال السيوطي في الدر المنثور لا يحتج به أيضا، إذ لم تعلم صحته، وكل ما لم تتحقق صحته لا يصلح للاحتجاج لاشتراط القطع بصحة ما يحتج به في الأحكام القولية والعقلية، وعلى فرض صحته فإنه خاص بذلك العنكبوت الذي فعل ما فعل بإلهام من الله عز وجل لا مطلق عنكبوت، وقد نص العلماء على طهارة بيتها لعدم تحقق كون ما تنسج به من غذائها المستحيل في جوفها، والأصل في الأشياء الطهارة على أن الدميري ذكر أنها تخرجه من خارج جلدها لا من جوفها، والله أعلم بحقيقة الحال. ومثله النحل إذ لم يعرف على الضبط أن العسل هل هو من فمه أو من دبره، راجع الآية 69 من سورته المارة، وذكروا أنه يحسن إزالة بيتها من البيوت لما أسنده الثعلبي وابن عطية وغيرهما عن علي كرم الله وجهه أنه قال طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه في البيوت يورث الفقر، فإن صح هذا عنه فذاك وإلا فإزالته حسنة لما فيها من النظافة المندوبة شرعا في كل شيء. وتاء عنكبوت مثل تاء طالوت وهاروت للمبالغة ويقع على الواحد والجمع والمؤنث والمذكر، راجع الآية 75 من سورة الأنعام المارة ولها بحث في الآيتين 147/ 122 من سورة البقرة في ج 3. قال تعالى «خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» لا باطلا ولا عبثا ولا لعبا بل لحكمة مراعيا بها مصالح خلقه لا شتمالها على ما يتعلق بمعاشهم وشواهد دالة على شؤونه عز وجل التعلقة بذاته وصفاته ومساكن عباده وعبرة للمعتبرين منهم بدليل قوله «إِنَّ فِي ذلِكَ» الخلق البديع والصنع العجيب «لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» 44 وعظة للموقنين، وإنما خص(4/483)
المؤمنين مع أن عموم الهداية والإرشاد في خلقهما يتحقق للكل، لأنهم هم المنتفعون بعبرها وغير المؤمن يقتصر نفعه فيهما على ظاهر الدنيا وقد يزداد كفرا إذا نسب إليهما التأثير الفعلي الذاتي، أما المؤمن فيزداد إيمانا بنسبة كل ما في الكون إلى خالقه فينتفع في الدنيا والآخرة. قال تعالى «اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ» واستمر على تبليغه وداوم على تلاوته لتزداد تقربا من الله، وذلك أن الكامل يقبل الكمال وهو صلّى الله عليه وسلم يترقى في الكمالات إلى يوم القيامة، بل إلى يوم يلاقي ربه في الجنة المعدة لحضرته، فلا يقال إنه غير محتاج إلى دعاء أمته لمخالفته قوله تعالى (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) الآية 57 من الأحزاب في ج 3، وأما أمره بدوام تلاوة القرآن لأن في تلاوته تذكرا لما في تضاعيفه من المعاني، وحملا للأمة على العمل بما فيه من الأحكام ومحاسن. الأخلاق ومكارم الآداب، وتذكيرهم بما لهم وعليهم «وَأَقِمِ الصَّلاةَ» أدأب على إقامتها، وجاء هذا الأمر متضمنا أمر أمته بها لأنهم تبع له، وقد خصّها بالذكر لأن ما يختص بالعبد من العبادة ثلاث: الأولى عبادة قلبية وهي الاعتقاد الحق، وعبادة لسانية وهي الذكر الحسن، وبدنية وهي العمل الصالح، فالاعتقاد لا يتكرر لأن من اعتقد شيئا لا يعتقده مرة أخرى بل يستمر اعتقاده، والذكر الحسن والعبادة البدنية يتكرران، وكلها توجد في الصلاة، فمن أقامها فقد أقام العبادات بأنواعها إلى ربه عز وجل. وانظر إلى ما علل به هذه العبادة بقوله الجليل «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» راجع الآية 32 من الأعراف في ج 1 تجد معنى الفواحش كلها وما يتعلق بها أما المنكر فهو ما لا يعرف في الشرع وينكره العقل، وإنما كانت الصلاة الحقيقية ناهية عن ذلك لتضمنها صنوف العبادة من التكبير والتسبيح والتهليل والقراءة والوقوف بين يدي الإله العظيم والركوع لهيبته والسجود لجلاله والخشوع لمجده والخضوع لكبريائه، فمن كان مراعيا لها محافظا على شروطها وأركانها
جرته إلى طرق الخير ونهته عن كل فاحشة ومنكر، وصارت كأنها تنادي فاعلها: لا تعص ربا هو أهل لما أتيت به، وهو المستحق لأن يعبد ويشكر. روي عن أنس قال: كان فتى من الأنصار يصلي الصلوات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم لم يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه،(4/484)
فذكر ذلك لرسول الله، فقال إن صلاته ستنهاه يوما، فلم يلبث أن تاب وحسنت توبته واستقام حاله. وقال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم تزده صلاته من الله إلا بعدا. وقال الحسن وقتادة: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه. وروي عن جابر: قال رجل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إن رجلا يقرأ القرآن الليل كله فإذا أصبح سرق، قال ستنهاه قراءته، وفي رواية:
انه قيل يا رسول الله إن فلانا يصلي بالنهار ويسرق بالليل، فقال إن صلاته لتردعه على كل حال. وعليه فإن المراعي للصلاة لا بد وأن يكون أبعد عن الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها. وبما ذكر ينحل الإشكال المشهور وهو إنا نرى كثيرا من المرتكبين الفحشاء والمنكر يصلّون ولا ينتهون لأن منهم من هو غافل عما يراد منه حال قيامه بين يدي ربه لاه عن ذلك، فيكون بالمعنى المار ذكره، ألا ترى أن الله تعالى قال (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) الآية 90 من سورة النحل المارة والناس لم يتمثلوا ولم ينتهوا، وليس نهي الصلاة بأعظم من نهي الله، تدبر. وقيل إن الأمر والنهي لا يستلزمان الائتمار والانتهاء. وقيل إن النهي لا يستلزم الانتهاء، وهذا توهم باطل وتخيل عاطل، لا يشهد له العقل، ولا يؤيده النقل، وما قيل إن نهي الصلاة عبارة عن الزمن الذي يشغله المصلي فيها لما ورد ان في الصلاة لشغلا ليس بشيء أيضا، وما جاء بالخبر ان في الصلاة لشغلا عن كل ما يلهي عنها وعن كل ما في الدنيا بالنسبة لحالة المصلي لأن منهم من إذا دخل في الصلاة تمخضت ذاته لخالفها بحيث لو ضربته بالسيف لما أحسّ، ومنهم من لا تحسبه في الصلاة، كما جاء عنه صلّى الله عليه وسلم أن الرجل إذا لم يتم سجودها ولا ركوعها تلف صلاته كما يلف الثوب الخلق ويرمى بها وجه صاحبها، فتقول له ضيعك الله كما ضيعتني. والقول الفصل ان الصلاة المقبولة عند الله تعالى هي التي تنهى صاحبها، والانتهاء علامة القبولة، وان من يأتي بها ولا ينتهي فلو لم يكن يصلي لكان أشدّ إتيانا للفحشاء وأكثر فعلا للمنكر، والمراد بالصلاة هنا المكتوبة، راجع الآية 5 من سورة المؤمنين المارة، «وَلَذِكْرُ اللَّهِ(4/485)
أَكْبَرُ»
من جميع الطاعات، وأفضل وأعظم ثوابا وأكثر أجرا، روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبق المفردون (بتشديد الراء وتخفيفها) يقال فرد الرجل إذا تفقه واعتزل الناس وحده. وقرىء بالتخفيف والتشديد أبلغ وأتم، قالوا وما المفردون يا رسول الله؟ قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات.
وروى البخاري عن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده. وروي أن أعرابيا قال يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال أن تفارق الدنيا ولسانك رطب بذكر الله. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معنى (ولذكر الله أكبر) ذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه. وروي مرفوعا عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم وهذا مما لا شبهة فيه لأن الله يذكر من ذكره قال تعالى (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) الآية 152 من البقرة في ج 3، وقال صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: من ذكرني ذكرته في ملا خير من ملائه. وقال ابن عطاء:
ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له، لأن ذكره بلا علة، وذكركم مشوب بالعلل والأماني، ولأن ذكره لا يفنى، وذكركم لا يبقى، ولن تبقى مع ذكر الله معصية.
وقال سلمان ذكر الله أكبر من كل شيء وأفضل، فقد قال عليه الصلاة والسلام ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها لكم عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير من إعطاء الذهب والفضة وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا وما ذاك يا رسول الله؟ قال ذكر الله. وأخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي الدرداء بلفظه ومعناه. وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر عن معاذ بن جبل، قال: ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله تعالى، قالوا ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع. لأن الله تعالى يقول (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) ، وهذا لأنه لو لم يذكر الله لم يعرف فضل الجهاد، فذكر الله هو السائق للجهاد ولكل عمل صالح. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم في الكنى والبيهقي في شعب الإيمان عن عزة قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما أي العمل أفضل؟ قال ذكر الله أكبر، وما قعد قوم في(4/486)
بيت من بيوت الله تعالى يدرسون كتاب الله ويتعاطونه بينهم إلا أظلتهم الملائكة بأجنحتها وكانوا أضياف الله تعالى ما داموا فيه حتى يفيضوا في حديث غيره، وما سلك رجل طريقا يلتمس فيه العلم إلا سهل الله تعالى له طريقا إلى الجنة. وما قيل إن المراد بذكر الله هنا الصلاة، وأن المراد بذكر الله أكبر ذكره في الصلاة ليس بشىء، وهو عدول عن الظاهر عبثا. «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ» 45 فيما بينكم وبينه، وبينكم وبين أنفسكم، وبين الخلق في صركم وجهركم مما هو خالص لوجهه وما هو مشوب بغيره، لا يخفى عليه شيء، فيثيبكم على الخير ويعاقبكم على الشر إن شاء هذا ولما أمره تعالى بالهجرة عند نزول هذه السورة وعلم أنه سيواجه في هجرته أهل الكتاب وأنهم يجادلونه في كتابه وأصول دينه لأنهم قوم معاندون، شرع يعلمه كيف يكون معهم، فقال تعالى جل قوله «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ» من اليهود والنصارى إذ لا يوجد غيرهما أهل كتاب، وما عداهما وثنيون مشركون كافرون بأصول الأديان، لأن ذوي الأدبان التي كانت عند بعثة الرسول ستة: الإسلام والنصرانية واليهودية والصابئة والمجوس والمشركون، راجع الآية 16 من سورة الحج في ج 3، الخطاب لحضرة الرسول وأصحابه تبعا له أي أنكم قادمون بهجرتكم هذه إلى بلدة فيها أهل كتاب مجبولون على حب الجدال لما وقر عندهم مما في الكتب المنزلة على أنبيائهم، ويزعمون أنهم أدرى من غيرهم فيها، فإذا جاءوك ليجادلوك فقابل خشونتهم بلينك، وغلاظتهم بلطفك، وجفاهم بعطفك، وأمسك بادرة الغضب بجبال الكظم، واجعل إقبالك عليهم بدل صدهم عنك، ووصلك بمقابل هجرهم إياك، وعطاءك تجاه منعهم لك، وتقرب منهم كلما تباعدوا عنك. وهذا معنى قوله تعالى «إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» قال تعالى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الآية 34 من سورة فصلت المارة، أي لا تجادلهم إلا في هذه الصورة، وادفع مشاغبتهم بالنصح، وسورتهم بالإناءة، ولغطهم بالإرشاد راجع الآية 125 من سورة النحل المارة، واعمل بما بيناه هناك وعضّ عليه بالنواجذ ثم استثنى من المجادلين نوعا خاصا وهم المذكورون بقوله «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» وهم المجاوزون الحدّ في العناد والاعتداء الذين لم يلتفتوا إلى النصح، ولم ينفع(4/487)
فيهم الرفق، فاستعمل معهم الفلسفة. وما قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية 30 من سورة التوبة في ج 3، ولا مجادلة أشد من السيف، فهو قيل لا يعتد به ولا ينظر إليه، إذ لا يتجه على ما نحن فيه، لأن المراد بالجدال المناظرة وكونها على الوجه الأحسن هو الواجب الذي لا يجوز غيره في مبادئ الدعوة للرشد، قال في مجمع البيان الصحيح إنها غير منسوخة. وقال بعض الأجلة إن المجادلة بالحسنى أوائل الدعوة مطلوبة، لأنها تتقدم المجادلة بالعنف، والمجادلة بالشدة تتقدم القتال، فلا يلزم النسخ ولا عدم القتال بالكلية.
وأما كون النهي المستفاد من لا في (ولا تجادلوا) المحتج به صاحب هذا القيل من كونه يدل على عموم الأزمان فيلزم النسخ فلا يتم ما ذكره من السبب، ويدفعه أن من يقاتل كمانع الجزية داخل في المستثنى، فلا نسخ وإنما هو تخصيص بمتصل وكون ذلك يقتضي مشروعية القتال في مكة ليس بصحيح، لأنه مسكوت عنه، تأمل. وقرأ ابن عباس الا بالتخفيف على أنه حرف تنبيه وأداة عرض دالة على الطلب بلين ورفق، أي جادلوهم بالتي هي أحسن. وعلى هذه القراءة لا يرد ما أورده مدعي النسخ البتة «وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا» من القرآن «وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ» وآمنا بما أنزل إليكم من التوراة والإنجيل والزبور من قبل الله لا التي بأيديكم كلها، لأنكم حرّفتم وبدلتم بعضها قصدا، وبعضها قد غيرت معناها الترجمة، وهذا القول نوع من المجادلة بالأحسن، أخرج البخاري والنسائي وغيرهما عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون كتبهم بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) الآية 136 من البقرة ج 3، زاد في رواية: فإن كان باطلا لم تصدقوهم، وإن كان حقا لم تكذبوهم، ولأن التصديق والتكذيب ليسا نقيضين، إذ يجوز ارتفاعهما بالشك. وليعلم أن هذا الحديث الشريف صدر من النبي صلّى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية لا مقارنا لها، لأنها نزلت بمكة، وهذا القول بالمدينة، وقدمنا في الآية 17 من سورة السجدة المارة أن الأحاديث قد تذكر لمناسبة بعض الآيات سواء كان بعد نزولها أو قبله، مما يدل على معناها، وقولوا لهم أيضا «وَإِلهُنا(4/488)
وَإِلهُكُمْ واحِدٌ»
فرد صمد لا شريك له ولا مثيل ولا ضد ولا ند ولا نظير «وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» 46 مطيعون منقادون له وحده، وفي هذه الجملة تعريض لهم باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله «وَكَذلِكَ» مثل ما أنزلنا على غيرك من الأنبياء كتبا «أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ» القرآن الذي منه هذه الآية الناطقة بما ذكر «فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» قبلك من الطائفتين المذكورتين العالمين العاملين المصدقين فيهما كما أنزلناهما «يُؤْمِنُونَ بِهِ» بالقرآن المنزل عليك لأنه جاء مصدقا لما فيهما، وهذا خاص بخواصهم الحريّين بأن ينسب إليهم إيتاء الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه المنصفين، ولا يقال على هذا التفسير تكون الآية مدنية، لأن عبد الله بن سلام أسلم بعد الهجرة بكثير، بل الآية مكية على ما سمعت، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن إيمانهم به ترتب على إنزاله على الوجه المذكور، وفيها إعلام من الله تعالى بإسلامهم في المستقبل، لقوله تعالى (يُؤْمِنُونَ بِهِ) ولم يقل آمنوا ليتحمل ذلك القول ويحتج به قائله، تدبر.
«وَمِنْ هؤُلاءِ» قومك أهل مكة ومن حولها الذين رغبوا بإخراجك وعنك وأحبوا قتلك «مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ» أيضا فكن مطمئنا بذلك يا سيد الرسل، إذ ترى ما تقرّ به عينك «وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا» هذه المنزلة عليك في هذا الكتاب «إِلَّا الْكافِرُونَ» 47 بجميع الكتب لأن الجحود لا يكون إلا بعد المعرفة ولهذا شنع عليهم وسماهم كافرين لتوغلهم بالكفر وإصرارهم عليه وتصميمهم على تكذيبك، قال الراغب صاحب السفينة: الجحد نفي ما في القلب ثباته، وإثبات ما في القلب نفيه. وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنه، وما قيل إنها في حق كعب بن الأشرف وأصحابه لا يصح، لأن الآية مكية، وأولئك بالمدينة، على أنهم يدخلون في مضمونها.
مطلب هل تعلم النبي صلّى الله عليه وسلم الكتابة والقراءة أم لا، والنهي عن قراءة الكتب القديمة:
قال تعالى «وَما كُنْتَ تَتْلُوا» يا محمد «مِنْ قَبْلِهِ» أي الكتاب المنزل عليك «مِنْ كِتابٍ» أصلا لأنك لم تقرأ «وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ»(4/489)
لأنك أمي لا تكتب، وذكر اليمين زيادة تصوير لما نفي عنه صلّى الله عليه وسلم من الخط، فهو مثل العين في قولك نظرت بعيني في تحقيق الحقيقة وتأكيدها حتى لا يبقى للمجاز مجاز «إِذاً» لو كنت تقرأ وتكتب «لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ» 48 من قومك وغيرهم ولا تهموك بأنك تنقل من كتب الأقدمين وتتلو عليهم ما تحفظه منها، وإلا لاحتج أهل الكتابين عليك بأنك لست نبي آخر الزمان، لأنه موصوف بكتبهم أنه أمي، وإذا ثبت أنك أمي فليس لهم أن يشكو برسالتك وختمك للأنبياء، ولا يرتابوا بالكتاب الذي أنزل إليك، لأن هذا كله مذكور في التوراة والإنجيل المنزلين من قبلنا على أنبيائهم، تقدم الله تعالى إلى رسوله في هذه الآية ليعلمه أنه قادم في هجرته على أناس مذكور في كتبهم نعته على ما هو عليه، وأخبره فيها بأنهم إذا قالوا لك في جملة مجادلتهم أنك لست نبي فقل لهم كيف، وقد أنزل الله علي كتابا، وإذا قالوا لك لعلك تعلمته فقل إني أمي، وأهل مكة ومن حولهم يعلمون ذلك لأني لم أبرحهم ولم أتعلم الكتابة من أحد، ولم أكن قارئا، ووصفي موجود لديكم بما يثبت أني خاتم الأنبياء، وهذا مما يزيل الشبهة فيّ، ولو كنت أقرأ وأكتب لشك فيّ مشركو العرب الذين لم يتركوا شبهة إلا وألصقوها فيّ، ولا خصلة تنافي نبوتي إلا وصموني بها، إلا أنهم لم يتهموني بالقراءة والكتابة لتحقق عدمهما فيّ لديهم، وقد وصف أهل مكة بالبطلان باعتبار ارتيابهم بنبوّته ووصفهم له بالسحر والكهانة والتلقي من الغير، وكفرهم به وبكتابه، ومن المعلوم المحقق أن حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم أمي كما هو الواقع، ومن قال بخلاف هذا فقد خالف كلام الله المصرح بأميته في الآية 157 من الأعراف في ج 1 صراحة لا تقبل التأويل، وان أهل مكة الذين كانوا يلتقطون الزلات عليه لو علموا منه ذلك لما سكتوا، بل لأداعوا عنه ذلك، كيف وأنه لما كان يجتمع مع الأغيلمة والعبيد اتهموه بأنه يتعلم منهم مع أنهم عجم لا يفقهون العربية المطلقة، فكيف بالفصحى؟ وقد رد الله عليهم في الآية 101 من النحل المارة كذبهم هذا لهذه العلة، فراجعها، فلهذا إن القول بأني غير أمي مخالف لصراحة القرآن، ومخالفته كفر محض لأن كل من ينكر حرفا منه دون تأويل يكفر، وتعليم مثل هذا القرآن ودراسته تحتاج إلى زمن طويل لما فيه من تفصيل الأحكام(4/490)
وبلاغة الكلام وفصاحة الألفاظ، ولا يمكن تلقيه بحالة لم يطلع عليها أهل مكة لأني بين أظهرهم صباح مساء وليل نهار، وهذا قبل النبوة لم يختلف فيه اثنان، أما بعدها فقد وقع اختلاف في تعليمه القراءة فقط، وهذا العلم بالقراءة على طريق المعجزة، ولهذا فإن ما جاء عن مجاهد والشعبي أنه عليه الصلاة والسلام ما مات حتى كتب وقرأ، وروى هذا ابن أبي شيبة أيضا، وإن حجتهم ما رواه ابن ماجه عن أنس قال: قال صلّى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسري بي مكتوبا على باب الجنة الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر، الحديث. والقدرة على القراءة فرع عن الكتابة، وما جاء في صحيح البخاري وغيره عند كتابة صلح الحديبية ما لفظه فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم الكتاب، وليس يحسن يكتب، فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله الحديث المشهور، وقال بهذا أبو ذر وعبد بن أحمد الهروي وأبو الفتح النيسابوري وأبو الوليد الباجي من المغاربة، وحكاه عن السمّاني وصنف فيه كتابا، وسبقه إليه ابن منّه، هذا وإن معرفته الكتابة بعد أمّيّته ونبوته صلّى الله عليه وسلم لا تنافي المعجزة، بل هي معجزة أخرى لكونها من غير تعليم، لهذا قال بعضهم صار صلّى الله عليه وسلم يعلم الكتابة بعد أن كان لا يعلمها، وعدم معرفتها قبل بسبب المعجزة لهذه الآية، فلما نزل القرآن واشتهر الإسلام وظهر أمر الارتياب تعرف الكتابة حينئذ، وذلك بإقدار الله تعالى إياه بدون تعلم من أحد، وهذا معجزة له أيضا وأول ذلك قراءة ما هو مكتوب على باب الجنة المار ذكرها، وقوله هذا قد يتجه في القراءة
، أما في الكتابة فلا، لما جاء في الحديث الصحيح: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب.
وعليه إن كل ما ورد من أنه كتب يكون معناه أمر بالكتابة، كما يقال كتب السلطان بكذا لفلان، ومن المعلوم أن للسلطان كتبة يكتبون له ذلك بأمره، لا هو نفسه، وقد جاء في الآيتين 94/ 105 (وإنا له لكاتبون) (ولقد كتبنا في الزبور) من سورة الأنبياء المارة، فالمراد بالأولى والله أعلم حفظته الموكلون بتسطير أعمال الخلق، وفي الثانية أمره للقلم بكتابة ما كان وما يكون الذي من جملته ما كتب في الزبور كما بيناه أول سورة القلم في ج 1. هذا، وتقدم قوله تعالى (من قبله) على قوله (ولا تخطه) كالصريح في أنه عليه الصلاة لم يكتب مطلقا.(4/491)
أما كون القيد المتوسط راجعا إلى ما بعده فغير مطّرد، إذ لا يجوز رجوع الضمير إلى ما بعده، وإذا كان لا يجوز لعدم اطراده فلم يسلم رجوعه إلى ما بعده.
وقد ظن بعض الأجلّة رجوعه لما قبله ولما بعد فقال يفهم من الآية أنه صلّى الله عليه وسلم كان قادرا على التلاوة والخط بعد إنزال الكتاب ولولا هذا الاعتبار لكان الكلام خلوا عن الفائدة، إلا أنه لو سلم ما ذكره من الرجوع لا يتم أمر الإفادة إلا إذا قيل بحجيّة المفهوم والظان ممن لا يقول بحجيّته، ولا يخفى أن قوله عليه الصلاة والسلام إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ليس نصا في نفي الكتابة عنه عليه الصلاة والسلام، ولعل ذلك باعتبار أنه بعث وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، وكذا أكثر من بعث إليهم، وهو بين ظهرانيهم من العرب أمّيّون لا يكتبون ولا يحسبون فلا يضر عدم بقاء وصف الأمية في الأكثر بعد. وتأويل كتب أمر بالكتابة خلاف الظاهر كما لا يخفى. وجاء في شرح صحيح مسلم إلى النواوي رحمه الله نقلا عن القاضي عياض أن قوله في الرواية المذكورة أعلاه (وليس يحسن يكتب فكتب) كالنص في أنه صلّى الله عليه وسلم كتب بنفسه، فالعدول عنه إلى غيره مجاز لا ضرورة إليه، إذ لا صارف عن الحقيقة، ومن المعلوم أنه لا يجوز ترك الحقيقة إلا إذا تعذرت.
هذا غاية ما أحتج به، وخلاصة القول أن كتابته صلّى الله عليه وسلم وقراءته على فرض صحتها فهي من معجزاته كما علمته مما ذكرناه قبلا، لا عن تعليم من أحد ولما لم يصح عنه أنه كتب كتابا ما في جملته مكاتباته الملوك وغيرهم ومعاهداته معهم، ولم يثبت شيء من ذلك البتة، فما وقع منه عند كتابته صحيفة صلح الحديبية يكون أيضا من قبيل المعجزة ليس إلا، فإن الحديث الوارد من أنه صلّى الله عليه وسلم لم يمت حتى تعلم الكتابة ضعيف، بل لا أصل له، وما زعمه القاضي وأبو الوليد الباجي ومن تابعهما من أنه تعلم الكتابة أو كان يعلم الكتابة أخذا مما رواه البخاري في حادثة الحديبة هو زعم فاسد، وكذلك من قوله صلّى الله عليه وسلم (رأيت مكتوبا على باب الجنة) إلخ، لأن ذلك كله من باب المعجزة له صلّى الله عليه وسلم كما سبق لك تفصيله، وكذلك يؤوّل قوله صلّى الله عليه وسلم إخبارا عن الدجال بأنه مكتوب بين عينيه كافر، تأمل، ثم تدبر، وإياك أن يلحقك شك أو يخامرك ريب أو تطرأ عليك مرية. قال تعالى «بَلْ هُوَ»(4/492)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
القرآن لا يرتاب فيه لوضوح أمره ولأنه «آياتٌ بَيِّناتٌ» لا تحتاج للروية ثابتات «فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» من غير أن يلتقط من كتاب يحفظونه، وبسبب رسوخه في الصدور لا يقدر أحد على تحريف أو تغيير أو تبديل شيء منه البتة، لأن الله تعالى تعهد بحفظه من ذاك، راجع الآية 42 من سورة السجدة والآية 9 من سورة الحجر المارتين، وقد جاء في وصف هذه الأمة المحمدية:
صدورهم أناجيلهم. والمراد بالذين أوتوا العلم، علماء أصحابه كما رواه الحسن، وروى بعض الإمامية عن أبي جعفر وأبي عبد الله أنهم الأئمة من آل محمد صلّى الله عليه وسلم.
«وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا» هذه مع وضوحها «إِلَّا الظَّالِمُونَ» 49 أنفسهم مكابرة وعنادا «وَقالُوا» أولئك الظالمون «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ» كما نزل على من قبله من الأنبياء كموسى وعيسى وصالح وهود وإبراهيم وغيرهم من قلب العصا ثعبانا وإحياء الموتى وإظهار الناقة وعدم إحراق النار لآمنا به، وإذ لم يأت بشيء من ذلك ولا مما يشابه آيات من قبله فلا نؤمن به، لأنه لو كان نبيا لأتى بمثل ما أتوا به. «قُلْ» يا سيد الرسل «إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ» ما عندي منها شيء ولا أستطيع إظهار شيء إلا بإذن الله، فهو الذي يعطيها من يشاء من عباده وينزلها بحسب مقتضيات حكمته، لا دخل لي ولا للأنبياء قبلي بها البتة «وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» 50 ما يوحى إلي إليكم، وكذلك الأنبياء من قبلي، وليس من شأني ولا من شأنهم إنزال الآيات أو قسر الأمم على الإيمان إلا بمشيئته. ونظير هذه الآية الآية 38 من سورة الأنعام، ومثلها في المعنى في يونس وهود المارات، وفي الآية 134 من سورة طه في ج 1 والآية 7 من سورة الرعد في ج 3 وغيرها كثير.
قال تعالى ردا عليهم «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ» يا محمد «الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ» على مر العصور والدهور تتلوه عليهم وأنت أمي معلوم عندهم، ويتلوه من منّ عليه بتعليمه منهم ومن غيرهم إلى يوم القيامة، فإن كانت لهم عقول فهذه آية كافية لمن يريد أن يهديه الله، ومن يضله الله لا تنفعه الآيات، وناهيك بالقرآن أنه آية دائمة باقية، وأن آيات الرسل كلّها انقرضت ولم يبق إلا خبرها «إِنَّ فِي ذلِكَ» أي إنزال القرآن وبقاؤه الآخر الدوران لأكبر(4/493)
آية أتى بها الوسل، ولهذا يقول الله «لَرَحْمَةً» عظمى «وَذِكْرى» بالغة وعظة باهرة «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» 51 بالله الذي أرسلك إليهم وبكتابه الذي أنزله عليك إليهم تغنيهم عن كل آية، أما المعنتون فلو أتيتهم بكل آية لا يتعظون ولا يؤمنون ولا يتذكرون، راجع الآية 115 من سورة البقرة في ج 3 تجد ما يتعلق بهذا إن شاء الله. أخرج أبو داود في مراسيله وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن يحيى بن جعدة قال: جاء أناس من المسلمين بكتف قد كتبوا فيها ما سمعوه من اليهود، فقال صلّى الله عليه وسلم كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به غيره إلى غيرهم، فنزلت هذه الآية. وهذا يتجه إذا كانت الحادثة بمكة، أما في المدينة فلا تكون سببا للنزول، لأن الآية مكية، وإنما على سبيل تلاوة ما نزل قبل والاستشهاد به عند وقوع الحادثة المتأخرة فجائز، وهو طريق ضعيف مشى عليه بعض المفسرين، والحق هنا عدم جوازه، ولأن هذه الآية نزلت جوابا لقولهم (لولا أنزل عليه آية من ربه) فجعل ذلك أي الذي ذكر في الخبر المار ذكره سببا للنزول بغير محله، وهو خروج على الظاهر الواقع، وفي هذه الآية والحديث إشارة إلى منع تتبع الكتب القديمة لغير متبحر في القرآن العظيم، فقد أخرج ابن عساكر عن أبي ملكية قال: أهدى عبد الله بن عامر بن بركن إلى عائشة هدية فظنت أنه عبد الله بن عمرو فردتها وقالت يتتبع الكتب القديمة وقد قال الله تعالى (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) الآية، فقيل إنه عبد الله بن عامر فقبلتها. وأخرج عبد الرزاق في المصنف والبيهقي في شعب الإيمان عن الزهري أن حفصة جاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بكتاب من قصص يوسف في كتف فجعلت تقرؤه عليه والنبي صلّى الله عليه وسلم يتلوّن وجهه، فقال والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا بينكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنا حظكم من النّبيين وأنتم حظي من الأمم. أي ليس لكم أن تتخطوا ما جئتكم به إلى غيره، لأنه لا يخلو من حشو، والقرآن براء من كل عيب، لا يتطرق إليه ما ليس منه أبدا كما هو ثابت بكفالة الله تعالى القائل (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الآية 9 من الحجرة المارة. وأخرج عبد الرزاق والبيهقي أيضا عن أبي قلابة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ برجل يقرأ كتابا فاستمعه(4/494)
ساعة فاستحسنه، فقال للرجل اكتب من هذا الكتاب؟ قال نعم فاشترى أديما فهيأه ثم جاء به فنسخ له في ظهره وبطنه، ثم أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فجعل يقرؤه عليه، وجعل وجه رسول الله يتلون، فضرب رجل من الأنصار الكتاب، وقال ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ألا ترى وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم منذ اليوم وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم عند ذلك إنما بعثت فاتحا وخاتما وأعطيت جوامع الكلم وخواتمه، واختصر لي الحديث اختصار فلا يهلكفكم المتهوكون. - أي الواقعون في كل أمر بغير رويّة وقيل المتحيرون، وقدمنا في الآية 43 من سورة القصص في ج 1 ما يتعلق بهذا وإن المنع إنما هو عند خوف فساد في الدين ولا سيما بصدر الإسلام فراجعه ففيه ما يكفيك ويثلج صدرك وتقر عينك «قُلْ» يا سيد الرسل لقومك وغيرهم «كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً» بأني رسوله والقرآن كلامه وانكم كاذبون مبطلون، والله عالم بأني بلغت وأنذرت ونصحت، وانكم صددتم وأنكرتم وكذبتم، وشهادة الله لي بإنزال الكتاب علي وإثبات المعجزة لي، وانه سيجازي كلا بفعله، لأنه «يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وجميع ما يقع فيهما وما بينهما،
ومن جملتها شأني وشأنكم سرهما وجهرهما، وهذه تقرير لصدر الآية من كفاية شهادة الله تعالى على ذلك. وما قيل إن هذه الآية نزلت حينما قال كعب بن الأشرف وأصحابه لمحمد صلّى الله عليه وسلم من يشهد أنك رسول الله لا صحة له في سبب النزول، لأن الآية مكية بالاتفاق، وسباقها مع كفرة قريش لا ذكر لأهل الكتاب فيهما «وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ» وهو غير ما جاءت به الرسل من عند الله «وَكَفَرُوا بِاللَّهِ» وما جاء عنه. واعلم أن الإيمان بالباطل كفر بلا شك، وإنما ذكرت الجملة الأخيرة تأكيدا ولبيان قبح ما جاء في الجملة الأولى فهو كقول القائل أتقول الباطل وتترك الحق؟ لبيان أن الباطل قبيح في ذاته «أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» 52 المغبونون في صفقتهم، إذ اشتروا الكفر بالإيمان، وهذه الآية وردت مورد الإنصاف في المكالمة على حد قوله تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية 35 من سورة سبأ المارة، وكقول حسان:
فخيركما لشركما الفداء. قال تعالى «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ» على طريق(4/495)
الاستهزاء والسخرية كقولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الآية 30 من سورة سبأ أيضا، وهي مكررة كثيرا في القرآن، وذلك لعدم تصديقهم أن هناك بعثا وحسابا وجزاء، ولهذا يقولون (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) الآية 32 من سورة الأنفال ج 3، وقد تكرر منهم هذا القول، كما تكررت هذه الآية معنى في كثير من سور القرآن. قال تعالى «وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى» ضربناه لعذابهم غير قابل التقديم والتأخير، وعزّتي وجلالي يا سيد الرسل لَجاءَهُمُ الْعَذابُ» الذي يريدون سرعة نزوله قبل أن يتشدقوا بما تفوهوا به «وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» أي يباغتهم ويفاجئهم به من حيث لا يتوقعونه، وهذا العذاب قيل هو في الدنيا فيما يقع عليهم من الأمر والجلاء والقتل أو الموت، وقيل هو عذاب الآخرة. والآية صالحة للمعنيين، وكلا العذابين واقع بهم لا محالة، ومما يرجح كون المراد منه عذاب الآخرة قوله تعالى «يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ» إذ كرره بالظاهر لشدة هوله، كيف وقد قرنه بقوله «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» 54 جميعهم لا يفلت منهم أحد والجملة حالية أي يستعجلونك بالعذاب والحال محل العذاب الذي هو جهنم لا عذاب فوقه محيط بهم «يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» فيجللهم من أطرافهم كلها، وهذا معنى إحاطة جهنم بهم «ونقول» نحن إله الكل مالك الدنيا والآخرة. وقرىء بالياء أي يقول لهم الرب العظيم في ذلك اليوم «ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 55 من القبح في دنياكم، ويضاهي هذه الآية الآية 16 من سورة الزمر المارة والآية 41 من الأعراف في ج 1.
مطلب في الهجرة واستحبابها لسلامة الدين وما جاء فيها من الآيات والأخبار وهي تسعة أنواع:
قال تعالى «يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ»
فاتركوا الأرض التي أنتم فيها مضطهدون وفروا بدينكم إلى غيرها، فإن الأرض غير ضيقة عليكم، «فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ»
56 أخلصوا عبادتكم لي في أرضي لا يمنعكم فيها أحد من إقامة شعائرها، نزلت هذه الآية في إباحة الهجرة صيانة للدين، ولا تختص بزمنه(4/496)
صلّى الله عليه وسلم احتجاجا بخبر لا هجرة بعد الفتح، بل هي عامة مطلقة، حكمها باق إلى الأبد، فبمقتضاها يجب على كل من كان في بلدة يتجاهر فيها بالمعاصي ولا يقدر على المنع ولا على إقامة دينه وإظهار شعائره كما ينبغي، أن يهاجر إلى غيرها من البلاد التي يتهيأ له فيها ذلك كله، لأنه إذا لم يكن آمنا على دينه لا يتمكن من إقامته فهو آثم، لذلك عليه أن يهاجر إلى بلد يكون فيه أسلم قلبا وأصحّ دينا وأكثر عبادة وأحسن رفاقة. هذا وقد حث الله على الهجرة في الآية 99 من سورة النساء الآتية في ج 3، بما يدل على أنها غير خاصة بزمن كما سنبينها هناك بصورة مفصلة إن شاء الله. قال صلّى الله عليه وسلم: من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة. وفي قوله تعالى (واسِعَةٌ)
عدّة ووعد لعباده المهاجرين بسعة الرزق، أي لا تخافوا الضيق إذا تركتم دياركم من أجلي فإني أوسع عليكم «وكان ذلك. وأعلم أن البقاع تتفاوت تفاوتا عظيما، وقال العارفون لم نجد أعون على قهر النفس وأجمع للقلب وأحث على القناعة وأطرد للشيطان وأبعد من الفتن وأربط للأمر الديني من مكة حرسها الله تعالى. قال سهل إذا ظهرت المعاصي والبدع في أرض فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين. راجع الآية 9 من سورة الروم المارة. قال تعالى «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» ذكر الله تعالى هذه الآية بعد الآية المشيرة إلى الهجرة ليستعدوا له قبل مفاجاته، لأنهم لا يدرون متى يفاجئهم، لذلك خوفهم بالموت فيها ليهون عليهم أمر الهجرة، إذ لا أصعب من ترك الوطن على النفس إلا الموت كي لا يبقوا بدار الشرك فيموتوا فيها، وإذا سهل على الإنسان الموت سهل عليه ترك الوطن وحث نفسه على الهجرة منه لإخلاص العبادة لربه والمحافظة على دينه اللذين يذهب بهما إليه دون وطنه وأهله وعشيرته، قال عليه الصلاة والسلام: يتبع الميت ثلاث، أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله. «ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ» 57 بعد الموت حتما، وإذا كان كذلك فاجنحوا في دنياكم إلى ما يصلح دينكم واتركوا غيره. ويضاهي صدر هذه الآية الآية 35 من سورة الأنبياء المارة والآية 185 من آل عمران في ج 3، وهي مكررة في القرآن. قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في هذه الدنيا(4/497)
وتركوا أوطانهم وأهلهم وعشيرتهم رغبة فيما عند الله من الثواب «لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً» علالي عالية نسكنهم فيها ونوطنهم بها، ولا حول لهم عنها، وهذه لا تشبه غرف الدنيا ولا تقاس بها فضلا عن أنها فانية وتلك باقية، وأنها من صنع البشر وهي من صنع الله وإبداعه الذي أتقن كل شيء، فلا يقدر أن يصفها واصف، ومن بعض محاسنها أنها «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» ويكون أهلها «خالِدِينَ فِيها» أبدا والدنيا مهما طال أمدها فمصيرها الزوال ف «نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» 88 في الدنيا تلك الغرف الباقية في الجنة، وهذه أيضا مكررة في الآية 20 من سورة الزمر المارة وفي غيرها، قال ابن عباس: هي من الدرّ والزبرجد والياقوت، أما المستحقون لهذه العرف وتلك الكرامة فهم «الَّذِينَ صَبَرُوا» على مشاق الدّين ومرارة الهجرة وفراق الوطن والبعد عن الأهل والأقارب والأحباب والالتجاء إلى أناس لا يعرفونهم، وتحمل ما يلحقهم من الذل فرارا بدينهم وصيانة له وحفظا على شعائره، كما صبروا على أذى المشركين وإهانتهم من أجله «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» 59 بكل أمورهم لا على غيره، ولما أمر صلّى الله عليه وسلم بالهجرة وحث عليها خلص عباده ليقتدي بهم الآخرون خاف بعضهم الفقر وضيعة الحسب في المدينة، لأنهم لا يعرفون أحدا ولا يعرفهم أهلها، وليس لهم مال ولا عقار ولا بساتين، ولا يقدرون على أخذ ما عندهم في مكة إلى المدينة لبعد الشقة والمشقة، وخوفا من الكافرين أن يستحلوا أموالهم وأنعامهم لأن خروجهم سيكون خلسة عنهم، لئلا يطلعوا عليهم فيمنعوهم ويوقعوا
بهم الأذى ويهينوهم أنزل الله قوله عز قوله «وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا» لضعفها ووهنها، أو لا تقدر على ادخاره ليوم حاجتها، أو لتوكلها على خالقها، فتصبح وتمسي ولا شيء عندها «اللَّهُ يَرْزُقُها» من فضله، ويسوقها إلى ما قدر لها، أو يسوق الرزق إليها بأن يسخّر من يقدمه لها دون طلب أو كلفة. قال صلّى الله عليه وسلم: لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا. ورحم الله القائل:
وأرزاق لنا متفرقات ... فمن لم تأته منها أتاها
«وَإِيَّاكُمْ» يرزق، لأنكم أفضل من كثير من الطير والدواب والحيتان(4/498)
والحشرات، فإذا كانت مع ضعفها وعدم معرفتها يرزقها الله لتوكلها عليه وتفويض أمرها إليه، فإنكم مع قوتكم واجتهادكم وفضلكم فإنه يرزقكم من باب أولى إذا توكلتم عليه. قالوا لا يدخر إلا الإنسان والنملة والفأرة والعقق، وعند البعض البلبل، وقال آخر كل كوامن الطيور تدخر. هذا، وإذا كان الرزق من الله، وجعل لكل سببا لتناوله وأمر بالسعي إليه، والمسبب له هو وحده، فلا تخافوا أيها المؤمنون على معاشكم حال هجرتكم، ولا تأسفوا على ما تتركونه في مكة، فإن الله يخلفه لكم. ولما كان المراد إزالة ما في أوهامهم عما يلحقهم بسبب الهجرة على أبلغ وجه، قال (يرزقها وإياكم) دون يرزقكم وإياها، «وَهُوَ السَّمِيعُ» البالغ منتهى السمع بسمع قولكم، ويعلم ما تحوكه قلوبكم ويتردد في صدوركم «الْعَلِيمُ» 60 البالغ في العلم بما انطوت عليه ضمائركم، ومن هنا قال صلّى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه- رواه البخاري ومسلم عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه- واعلم أن اسم الهجرة يطلق على تسعة امور كل منها بسمى هجرة بنسبته:
الأول هجرة الصحابة رضي الله عنهم من مكة إلى الحبشة سنة خمس من البعثة سنة نزول سورة والنجم وذلك بسبب ما لحقهم من أذى المشركين مالا وبدنا، ولهذا قال ذو النون من هرب من الناس سلم من شرهم، ومن شكر مولاه استحق المزيد من الفضل والعناية، ومن نظر في عيوب الناس عمي عن عيوب نفسه. الثانية الهجرة التي نحن بصددها من مكة إلى المدينة الكائنة سنة ثلاث عشرة منها أيضا، أما الخروج هربا وطلبا فيقسم إلى تسعة أقسام: الأول الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وهذه باقية إلى يوم القيامة كما أشرنا إليه في الآية 50 المارة.
الثاني الخروج من أرض البدعة، قال ابن القاسم سمعت مالكا يقول لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسبّ فيها السلف. الثالث الخروج من أرض يغلب عليها الحرام، فإن طلب الحلال فريضة على كل مسلم. الرابع الخروج من الأذية في البدن، وهو فضل من الله رخص لعباده فيه إذا خافوا على أنفسهم في مكان، فقد أذن(4/499)
الله لهم بالفرار منه إلى غيره، ولا يحل لهم البقاء إذا تحققت خشيتهم، لأن محافظة النفس واجبة، وأول من فعلها إبراهيم عليه السلام حين خاف قومه وأمنه النمروذ، لأن الكافرين لا عهد لهم ولا ذمة، وكذلك موسى بعد أن قتل القبطي وعلم أنهم يريدون قتله به. الخامس الخروج خوف المرض من البلاد الوخمة المشتملة على المستنقعات والأوساخ وغيرها. وقد أذن صلّى الله عليه وسلم للعرنيّين في ذلك حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المرج. السادس الخروج خوفا من سلب المال فله ذلك أيضا، لأن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، هذا إذا كان الداعي للهجرة الهرب من أحد هذه الأمور، أما إذا كان الداعي طلب الشيء فيقسم جوار الخروج الذي هو بمعنى الهجرة إلى تسعة أقسام. هذا وما قيل إن الهجرة انقطعت بالفتح يعنى فتح مكة، فالمراد بها خصوص القصد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ كان بقطن فيها إذ بعد وفاته ينعدم ذلك القصد، فذلك القيل من هذه الحيثية ليس إلا، أما زيارته بعد وفاته فسيأتي لها بحث أيضا. الأول سفر العبرة، وهو مطلوب للمستطيع، قال تعالى (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الآية 9 من سورة الروم المارة، وقد طاف ذو القرنين ليرى عجائبها، الثاني سفر الحج وهو واجب على المستطيع ومن فروض العين. الثالث سفر الجهاد وهو واجب أيضا مادام العدو خارجا عن ثغور بلاد المسلمين فمتى وطئها لا سمح الله صار فرض عين على كل مستطيع، وتفصيله في كتب الفقه، وستلمع له في محله إن شاء الله.
الرابع سفر المعاش، وهو جائز إذا أراد التوسع بأكثر مما هو فيه، وواجب إذا كان محتاجا له لنفسه أو لمن يعوله. الخامس سفر التجارة والكسب الزائد على الحاجة وهو جائز أيضا لقوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) الآية 198 من البقرة ج 3. السادس طلب العلم لأنه فريضة على كل مسلم ومسلمة، حتى إنه يجوز للمرأة الذهاب بلا إذن زوجها إليه إذا كان لا يقدر على تعليمها علم الحال ولا يسأل لها العلماء. السابع قصد البقاع الشريفة وهو مطلوب لثلاث، قال صلّى الله عليه وسلم لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول والمسجد الأقصى.
الثامن قصد الثغور للرباط فيها حفظا لكيان بلاد المسلمين، وهو مندوب قال صلّى الله عليه وسلم:(4/500)
رباط ساعة خير من عبادة سنة. لأن العبادة نفعها قاصر على العابد فقط، وهذا فيه نفع عام لجميع المسلمين وفيه إظهار لشوكتهم. التاسع زيارة الأخوان لله تعالى ومن أجله روى مسلم وغيره عنه صلّى الله عليه وسلم زار رجل أخا له في قرية فأرسل الله ملكا على مدرجته، فقال أبن تريد؟ قال أريد أخا لي في هذه القرية، فقال هل له من نعمة تؤديها؟ قال لا إلا أني أحبه في الله تعالى، قال فإني رسول الله إليك بأن الله أحبك كما أحببته الثالث هجرة بعض القبائل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليتعلموا شرائع الدين ويعلموا قومهم، وهي مطلوبة، قال تعالى (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) الآية 133 من التوبة في ج 3، وحكمها باق إلى الأبد، فيجب على كل أهل قرية إذا لم يوجد عندهم من يعلمهم أمر دينهم أن يوفدوا جماعة منهم هذه الغاية. وتشير هذه الآية إلى استثناء طلبة العلم من الجهاد، ولذلك فإن الحكومة العثمانية استثلت جميع طلاب العلم من الخدمة، فسبتوا كثرة العلماء، ولولا ذلك القل أن تجد عالما الآن في بلاد العرب، لأن الحكومة العثمانية كانت مسيطرة على البلاد وقد فرضت اللغة الرسمية التركية في البلاد وكانت رغبة الناس منصرفة إلى الدنيا وإلى تقليد الغالب، ولذلك قلّ في هذا الزمن وبالأسف طلب العلم ورغبت الناس عنه، لأن همهم الدنيا، ومن كان همه الدنيا فهو إلى الهلاك أقرب وإن هذه تعد منقبة للأتراك إذ رغبوا الناس في العلم، ومنقبة أخرى وهي استثناء آل البيت من الخدمة أيضا، احتراما لصاحب الرسالة جدهم الذي نور العالم، ومنقبة ثالثة وهي احترامهم العلم والعلماء والسادة والمشايخ والمواقع المقدسة والمحترمة، وان آثارهم تدل على ذلك. الرابعة هجرة من أسم من أهل مكة ليأتي النبي صلّى الله عليه وسلم فيقر بإسلامه أمامه، ثم يرجع إلى قومه لأن الله يسلم لنبي من صلّى الله عليه وسلم، ولم يره لا يعد صحابيا. الخامسة الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، وهي واجبة عند القدرة، إذ لا يحل لمسلم أن يقيم بدار الكفر لعدم تمكنه من إقامة دينه، كما ينبغي ولأنه يكثر سوادهم، وهو لا يجوز، وإذا كانت الهجرة من بلاد البدعة مطلوبة، فمن باب أولى وأحق أن تكون مطلوبة من بلاد الكفر لما فيها من المذلة على المسلم كما سيأتي في الآية 93(4/501)
من سورة النساء ج 3، قال الماوردي فإن صار له فيها أهل وعشيرة وأمكنه إظهار شعاثر دينه لم يجز له أن يهاجر، لأن المكان الذي هو فيه صار دارا للإسلام ولأن بقاءه فيها قد يجر لتكثير المسلمين فيها، قال صلّى الله عليه وسلم لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم. السادس هجرة المسلم أخاه فوق ثلاثة أيام بغير سبب شرعي مكروهة، وما زاد على الثلاثة فحرام إلا لضرورة، قال الباجوري في حاشية علي بن قاسم، وهذا مأخوذ من قولهم يجوز هجر المبتدع لزجره عن بدعته والفاسق، من فسقه، وكذا يجوز الهجر إذا رجا صلاح المهجور كأن كان يحصل عند عدم اهجر خلل بفعل معصية من الهاجر أو المهجور فهجره لإصلاح دينه ولو جميع الدهر، وعليه يحمل هجره صلّى الله عليه وسلم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع ونهيه الصحابة عن كلامهم، إذ تخلفوا عن غزوة تبوك وهجر السلف والخلف بعضهم بعضا، فقد جاء بالإحياء أن سعد بن وقاص هجر عمار بن ياسر إلى أن مات، وعثمان بن عفان هجر عبد الرحمن بن عوف إلى أن مات، وهجر طاوس وهب ابن منبه إلى أن مات، وهجر سفيان الثوري شيخه ابن أبي ليلى إلى أن مات، ولم يشهد جنازته اهـ ص 127 ج 2 من فصل احكام القسم بين النساء، هذا وحكي أن رجلا هجر أخاه فوق ثلاثة أيام فكتب له:
يا سيدي عندك لي مظلمة ... فاستفت فيها ابن أبي خيثمة
فإنه يرويه عن جده ... ما قد روى الضحاك عن عكرمة
عن ابن عباس عن المصطفى ... نبينا المبعوث بالمرحمة
أن صدود الإلف عن إلفه ... فوق ثلاث ربنا حرمه
السابعة هجرة الزوج زوجته إذا تحقق نشوزها، قال تعالى (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) الآية 33 من سورة النساء ج 3، ويجوز هجرها زيادة على ثلاثة أيام بقصد زجرها عن المعصية، وإذا كان لعذر شرعي، أما بدون معذرة فلا، وبها يجوز في المضجع. والكلام أيضا حتى ترجع وتتوب. الثامنة هجرة أهل المعاصي فهي مطلوبة في المكان، والكلام والسلام ردا وابتداء إهانة لهم، ولا يجوز بوجه من الوجوه إكرامهم، راجع الآية 112 من سورة هود المارة، تجد ما يكفيك وما ليس(4/502)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
لك غنى عنه. التاسعة هجرة كل ما نهى الله عنه، فلا يحل لمسلم أن يقرب شيئا حرمه الله أو ينهى عن شيء أحلّه، لما جاء في الحديث الشريف المار آنفا من أن الهجرة إذا كانت لله ورسوله يثاب عليها، وفيها الأجر العظيم والخير الجزيل والرضاء من الله ورسوله، وإذا كانت على العكس فلا ثواب فيها، ولا تسمى هجرة شرعية، كمن ذهب للحج بقصد التجارة فقط، وكذلك من جاهد لأجل الغنيمة، ومن تزوج بقصد الولد، أي من قصد الحج والتجارة معا وإعلاء كلمة الله والغنيمة وكسر شهوة النفس وحفظها من الحرام مع الولد، فالله أكرم من أن لا يثيبه، قال صلّى الله عليه وسلم ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ولا الآخرة للدنيا، وإنما خيركم من أخذ من هذه وهذه. وروى ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: أيها الناس ليس من شيء يقاربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا وقد أمرتكم به، وليس من شيء يقربكم من النار ويباعدكم عن الجنة إلا وقد نهيتكم عنه، ألا وإن الروح الأمين نفث في روعي [بضم الراء القلب والعقل، وبفتحها الخوف، قال تعالى (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) الآية 75 من سورة هود المارة، والمراد هنا الأول] أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، لا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله عز وجل، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته. وروى الترمذي عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لو أنكم تتوكلون على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا. أي تذهب أول النهار صباحا ضامرة البطون وترجع آخره شباعا ممتلئتها، ولا تدخر شيئا لغد. هذا ما جاء في أمر الهجرة، وسنتم قصّتها بعد تفسير المطففين الآتية إن شاء الله، لأنها وقعت بعدها.
قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» في منافع خلقه وهي حركتها بانتظام بديع «لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» لأنهم يعلمون أن آلهتهم عاجزة عن حفظ نفسها، فضلا عن الخلق والتسخير، ولكنهم عنادا وعتوا يعبدونها تقليدا لفعل آبائهم الضالين، فقل لهم يا سيد الرسل بعد اعترافهم بذلك «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ» 61 وينصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان التي لم تخلق ولم ترزق، وقد أشار جل شأنه(4/503)
بخلق السموات والأرض إلى اتحاد الذات، وبتسخير الشمس والقمر إلى اتحاد الصفات، ولما كان كمال الخلق ببقائه وبقاؤه بالرزق، والله تعالى هو المتفضل به. قال «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» فيوسعه عليهم إحسانا منه وكرما عليهم ولطفا بهم، وهو ذو الطول والامتنان والعطف «وَيَقْدِرُ لَهُ» يضيق على من يشاء بمقتضى حكمته وسابق تقديره، ولما كان هذا موجبا لاعتراض بعض الجهلة بين العلة لهم بقوله «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» 62 فيوسع لمن يعلم أن صالحه بالرزق، ولو لم يرزقه لكفر، ويضيق على من يعلم أن صالحه في الضيق، ولو أغناه لبغى، وان يفعل كلّا لكل بوقته حسب حكمته، فقد جاء بالحديث القدسي: إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، راجع الآية 25 من سورة لقمان والآية 27 من سورة الشورى المارتين، والأخرى ان الله تعالى لا يسأل مما يفعل. قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» فعل ذلك كله «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» يا خاتم الرسل على إظهار الحجة عليهم باعترافهم. ثم نعى عليهم جهلهم بقوله «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» 63 ما يقولون ولا يفهمون ما يفعلون ولا يفقهون ما يريدون، وفي هذه الآية دلالة على بطلان الشرك وإثبات التوحيد، وفي الإضراب ببل إيذان بالإعراض عن جهلهم الخاص بالإتيان بما هو حجة عليهم باعترافهم، لأنهم مسلوبو العقل، فلا يبعد عنهم مثله.
مطلب حقارة الدنيا والتعريض للجهاد:
قال تعالى «وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ» اللهو الاستماع الذات والاشتغال بما لا يعني، واللعب العبث، أي أنها عبارة عن لعب ساعة بين الأولاد، ثم ينصرفون عنها لدورهم، وهكذا الدنيا يلهون بها أهلها مدة ويتركونها بالموت، والآية تشير إلى تصغيرها والازدراء بها، لأنها عبارة عن قضاء نهمتهم فيها مدة قصيرة وهي بما فيها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، والآية جاءت كضرب المثل في سرعة زوالها، وتقلّبهم فيها وفراقهم لها. أخرج الترمذي عن سهل بن سعد(4/504)
قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء. وقال بعض العارفين الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب بيد مجذوم. وإذا كانت هي حقيرة لهذه الدرجة فليعلم حقارة ما فيها من الحياة بالطريق الأولى «وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ» الحياة الحقيقية المشمرة الدائمة المنعم أهلها التي لا يعرض لها كدر ولا موت ولا فناء وهي في ذاتها حياة طيبه والحيوان مصدر حي سمي به ذو الحياة في غير هذا المحل وأصله حييّان فقلبت الياء الثانية واوا على خلاف القياس، فلامه ياء كما قال سيبويه، وقيل إن لامه واو نظرا إلى ظاهر الكلمة وإلى أن حياة علم رجل ولا حجة على كونه ياء في حيىّ، لأن الواو في مثله يبدل ياء لكسر ما قبلها نحو شقي من الشقوة، وهو أبلغ من الحياة، لذلك جاءت بلفظ المبالغة، لأن بناء فعلان يكون بمعنى الحركة والاضطراب اللازم للحياة، ولهذا المعنى أطلق عليها، مع أنه علم للنّام المدرك، ولأن الآخرة فيها الزيادة والنمو، قال تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) الآية 27 من سورة هود المارة، وهي محل الإدراك التام أطلق عليها الاسم المستعمل في النامي المدرك، ولذلك اختير عليها في هذا المقام المقتضى للمبالغة، وقد علمتها في وصف الحياة الدنيا المقابلة الدار الآخرة، والمراد بها هنا الخلود والسكون ويوقف على كلمة الحيوان لأن التقدير «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» 64 حقيقة الدارين لما اختاروا دار اللهو واللعب الفانية على دار العزّة والكرامة الباقية. ولا توصل هذه الجملة بالأولى لأنه يصير وصف الحيوان معلق بشرط علمهم ذلك وليس كذلك، تدبر. وما قاله بعضهم أن لو هنا للتمني فقيل غير سديد، وعن مرمى الحقيقة بعيد، ومن أخذ بالأولى فهو السعيد. ونظير هذه الآية 32 من سورة الأنعام المارة، إلا أن المذكور فيها من قبل الآخرة، والمذكور هنا من قبل الدنيا، وكذلك المذكور قبل تلك. قال تعالى «فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ» السفينة بقصد التجارة أو الزيارة وتارت عليهم العواصف «دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» وتركوا ذكر أوثانهم كأنهم من خلص عباد الله الذين لا يذكرون غيره ولا يدعون معه إلها آخر، ولجئوا إليه بكليتهم كأنهم لم ينصرفوا إلى غيره، ولم يذهلوا عن الحياة الأبدية،(4/505)
وذلك لعلهم أنه لا يكشف الشدائد غيره، وفي هذه الآية تهكّم بالكفرة المشركين أهل البغي والفساد، وتقريع بهم، لأنهم لا يستمرون على حالتهم هذه «فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ» وأمنوا من الغرق «إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ» 65 بالله غيره كعادتهم الأولى، ونسوا الضيق الذي حل بهم والذي نجاهم منه، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا ركبوا البحر استصحبوا أصنامهم، فإذا اشتد الريح ألقوها في البحر وقالوا يا ربنا يا ربنا، قال تعالى قوله «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ» من نعمة الإجابة والإنجاء «وَلِيَتَمَتَّعُوا» في دنياهم هذه، وليغفلوا عن الآخرة دار البقاء «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» 66 عاقبة ذلك حين يعاقون إذ يتدمون من حيث لات مندم. واللام في الموضعين لام كي، أي يشركون بالله ليكونوا كافرين نعمته، فليتمتعوا في هذه الدنيا قليلا فإن مرجعهم إلينا، راجع الآية 68 من الإسراء ج 1، وهذه الجملة الأخيرة مؤذنة بالتهديد والوعيد لأولئك الكفرة سبب جحودهم نعمة انجائهم ورجوعهم إلى شركهم. قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا» بلدهم مكة دون سائر البلاد «حَرَماً آمِناً» أهله مما يخاف الناس من السلب والسبي والقتل، وقد حرم فيه ما لم يحرم بغيره من البلدان، حتى شمل منه الطير والوحش والدواب. أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: إن أهل مكة قالوا يا محمد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا وكثرة العرب، فمنى بلغهم أنا قد دخلنا في
دينك اختطفتنا فكلنا أكلة رأس، فأنزل الله هذه الآية تطمنّهم بالأمن مما يخافون دون غيرهم إكراما لرسولهم محمد وإجابة لدعوة جده إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، كما سيأتي في الآية 136 من البقرة ج 3، وقد مر شيء منه في الآية 36 من سورة إبراهيم فراجعها «وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» يختلسون اختلاسا أنفسهم وأموالهم وأولادهم وأزواجهم وأنعامهم ودوابهم، لأن النفار كان متحكما بينهم، فقل لهم يا سيد الرسل «أَفَبِالْباطِلِ» من الأصنام وغيرها «يُؤْمِنُونَ» بعد ظهور نعمة الحق الذي لا ريب فيه «وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ» التي أنعمها عليهم في هذا الدين الصحيح والرسول الصادق والكتاب المبين لكل شيء «يَكْفُرُونَ» 67 مع أن ذلك مستوجب(4/506)
للشكر ما بالهم عموا عن الرشد والهدى، وجنحوا إلى الضلال والردى. وتقديم الصلة في الموضعين في هذه الآية للاهتمام بها، لأنها مصبّ الأفكار، أو للاختصاص على طريق المبالغة، لأن الإيمان إذا لم يكن خالصا لا يعتد به، ولأن كفران غير نعمة الله عز وجل بجنب كفران نعمته لا يعد شيئا. وقرىء الفعلان بالتاء على الخطاب، كما قرىء بالغيبة. قال تعالى «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» فزعم أن له شريكا «أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ» القران المنزل من لدنه «لَمَّا جاءَهُ» على يد رسوله صلّى الله عليه وسلم، أي لا أظلم من هذا أحد البتة، ولهذا عقبه بقوله «أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ» 68 أمثال هؤلاء بل فيها منازل كثيرة تنتظرهم وتتميّز عليهم غيظا وحنقا. تشير هذه الآية إلى تقرير مثواهم وإقامتهم، فيها، لأن الاستفهام فيه معنى النفي وهو داخل على المنفي ونفي النفي إثبات، وعليه قول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
والمعنى ألا يستوجبون هذا الثواء، وقد افتروا ذلك الافتراء على الله تعالى، وكذبوا بالحق مثل ذلك التكذيب، بلى والله هم أهل له ولا شرّ منه. قال تعالى «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا» في شأننا ومن أجلنا وخالصا لوجهنا «لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» الدالة على الخير والبر الموصلة إلى الرشد والهدى في الدنيا المؤدية إلى الجنة في الآخرة «وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» 69 بالنصر والمعونة والظفر في الدنيا والثواب والمغفرة والرحمة في الآخرة. وقد ختمت سورة النحل فقط بما ختمت به هذه السورة. وتشير هذه الآية إلى أن الله تعالى يريد أن يأمر رسوله بمجاهدة الكفار الذين لم ينزعوا عن شركهم وتكذيبه وجحد كتابه، لأنه إنما أمره بالهجرة عن دارهم لعدم تأثير العطف عليهم بهم، وان الرحمة التي عاملهم بها واللين والعطف لم يزدهم إلا عتوا وعنادا، ولم يزدهم التهديد والوعيد إلا استهزاء وسخرية ومكابرة في البغي والطغيان والعدوان، ولهذا قدم في هذه الآية الجليلة التمهيدات اللازمة لإنزال العقاب فيهم وتعجيل ما استبطئوه من العذاب الذي يطالبون به، وكانوا يوقنون عدم وجود عقاب أو عذاب كما يتيقنون عدم وجود بعث ولا حساب ولا جزاء، فاستحقوا جزاء معاملتهم بالقسوة والشدة، وآن وقت قسرهم على الإيمان(4/507)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10)
ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم فيوقع فيهم عذابه الذي لا مرد له. قال بعض العارفين إن الآية صالحة للمجاهدة الظاهرة والباطنة، فالذين جاهدوا أنفسهم في رضاء الله تعالى لنهدينهم إلى محل الرضاء. واعلم أن من عرف الله تعالى عرف كل شيء، ومن وصل إليه هان عنده كل شيء، وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر، قال عبد الله ابن المبارك من اعتاصت عليه مسألته فليسأل أهل الثغور، لقوله تعالى (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) الآية، لأن الجهاد هداية أو مرتب على الهداية، قال تعالى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) الآية 18 من سورة محمد ج 3، وجاء في الحديث من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم. وقال بعض الكمل والذين يشغلون ظواهرهم بالوظائف ليوصلن أسرارهم إلى اللطائف. وقال سفيان ابن عينيه إذا أختلف الناس فانظروا ما عليه أهل التقوى فإن الله تعالى يقول (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) الآية. والتقوى هي المخرج من الشدائد، قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الآية 3 من سورة الطلاق ج 3 هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة المطففين عدد 36- 86- 83
نزلت بمكة بعد سورة العنكبوت وهي ست وثلاثون آية، ومئة وتسع وستون كلمة، وتسعمنة وثلاثون حرفا وتسمى سورة التطفيف. لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
لا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به، إلا سورة الهمزة، ولا سورة مختومة بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «وَيْلٌ» الشر الشديد والحزن المزيد والهلاك العظيم والعذاب الأليم، قيل هو واد في جهنم خاص «لِلْمُطَفِّفِينَ» 1 الذين ينقصون الكيل والميزان، ويدخل فيه الذراع وما ضاهاه، أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم (ويل) واد في جهنم(4/508)
يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره، وفي صحيح ابن حبان والحاكم واد بين جبلين يهوي فيه الكافر إلخ. وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله أنه واد في جهنم من قيح.
مطلب التطفيف في الكيل والوزن والذراع، والحكم الشرعي فيها:
ثم وصف الله تعالى هؤلاء المطففين بقوله عز قوله «الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ» 2 الكيل تماما بل بزيادة على المعتاد إذا اشتروا منهم، وبقوله جل قوله «وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» 3 ينقصون الكيل والميزان عند ما يبيعونهم شيئا، وهذه صفة كاشفة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الويل، ولم يقل جل شأنه ينقصون، لأن من يسرق في الكيل والميزان والذراع مثلا يسرق شيئا طفيفا بحيث لا يحس به غالبا، ولهذا قال المطففين. واعلم أن حرف على ومن يعتقبان في هذا الموضع، لأنه حق عليه، فإذا قال اكتلت عليك فكأنه قال أخذت ما عليك، وإن قال أكتلت منك فكأنه قال استوفيت منك، وكالوهم من باب الحذف والإيصال أي كالوا لهم، ويقال كاله ووزنه أي كال له ووزن له، كما يقال نصحتك ونصحت لك، وعليه قوله:
لقد جنيتك أكمؤا وعسقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
واعلم أن هذه السورة آخر ما نزل بمكة قبل الهجرة، وقد ذم الله فيها التطفيف وحذر منه، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم قادم إلى المدينة، وعادة أكثر أهلها التطفيف ليتلوها عليهم أول قدومه كي ينزجروا عن هذه الخصلة القبيحة المستوجبة العذاب الأكبر في الآخرة، والذم الكثير في الدنيا، وهذه أول رحمة من الله نالت أهل المدينة بقدومه صلّى الله عليه وسلم، وكان كذلك، لأنه عند دخوله استفتحهم فيها فظن من سمعها أنها نزلت بالمدينة حتى قال بعضهم إنه كان رجل في المدينة يدعى أبا جهينة يشتري بصاع ويبيع بصاع دونه، وأنها نزلت فيه. ومنهم من قال إنها نزلت بالطريق بين مكة والمدينة، والصحيح أنها نزلت في مكة كما ذكرنا وهو أرجح الأقوال الواردة فيها، والله اعلم. وهذا الوعيد يلحق من يأخذ لنفسه زائدا ويدفع لغيره ناقصا، ويتناول القليل والكثير، وإنما شدد الله تعالى في هذا لأن عامة خلقه(4/509)
محتاجون إلى معاملات الناس وهي مبنية على الكيل والوزن والذراع، والبايع أمين فيما يكيل ويزين ويذرع، والناس يتبايعون ويتعاقدون بالأمانة التي هي ملاك الأمر بينهم أنفسهم وبينهم وبين ربهم، والخيانة مذمومة ملعونة ملعون مرتكبها، لهذا بدأ صلّى الله عليه وسلم دعوته في المدينة بها ليرتدعوا عما هم عليه من التطفيف، وليصدقوا في معاملاتهم، ويتناهوا فيما بينهم فتحسن معاملاتهم بعضهم مع بعض، وينجرّ عملهم إلى الإحسان مع خلق الله قال نافع كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول له اتق الله أوف الكيل والوزن، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة حتى يلجمهم العرق. وقال قتادة أوف يا ابن آدم كما تحب ان يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك. وقال الفضيل بخس الميزان سوء يوم القيامة. قال تعالى «أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ» المطففون «أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ» 4 من قبورهم محشورون مساقون «لِيَوْمٍ عَظِيمٍ» 5 ألا يتحققون نشرهم من قبورهم فيه ألا يعلمون عظم ذلك اليوم وهوله، وأدخلت هزة الاستفهام على لا النافية للتوبيخ، لأنها ليست للتنبيه بل للإنكار والتعجب من سوء حالهم وجرأتهم على التطفيف الذميم وعدم خوفهم «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ» في الموقف للحساب ويعرضون «لِرَبِّ الْعالَمِينَ» 6 فيتمثلون أمامه فيحاسبهم على النقير والفتيل والقطمير. روى البخاري ومسلم عن نافع عن ابن عمر أنه تلا هذه قال يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه. وروى البغوي عن المقداد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة حتى تكون منهم كمقدار ميل. زاد الترمذي أو ميلين. قال سليم بن عامر والله ما أدري ما يعني بالميل مسافة الأرض أو ما يكتحل به العين. قال يكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبه، ومنهم من يكون إلى ركبته، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق الجاما، وأشار صلّى الله عليه وسلم إلى فيه. وروى الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال خمس بخمس قيل يا رسول الله ما خمس بخمس؟ قال ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، وما طفقوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا(4/510)
بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر. ورواه غيره مرفوعا. وقال عكرمة أشهد أن كل كيال ووزان في النار، فقيل له إن ابنك كيال ووزان، فقال أشهد أنه في النار وكأنه رحمه الله أراد المبالغة لما علم أن الغالب فيهم التطفيف، ومن هذا ما روي عن أبي ذر رضي الله عنه لا تلتمسوا الحوائج ممن رزقه في رءوس المكاييل وألسنة الموازين. وقد استدل بعض العلماء من قوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) على منع القيام للناس لاختصاصه بالله تعالى، وليس بشيء، لأن هذا القيام خاص للمرء بين يدي ربه، وأما القيام للشخص إذا قدم عليه فلا بأس به، كيف وقد قال صلّى الله عليه وسلم قوموا لسيدكم. إذ في القيام زيادة احترام للمسلم وإظهار للمودة والمحبة ومدعاة للتآلف والتراحم. وفي عدمه احتقار له، وقد يؤدي إلى التقاطع والتباغض، وربما أدى
إلى القتال، إلا أنه ينبغي للشخص المقام له أن لا يحبه، لما جاء في الخبر من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوا مقعده في النار- أو كما قال-. هذا، والحكم الشرعي: التطفيف حرام ومن الكبائر، وتجب على معتاده التوبة حالا، ورد ما طفف لصاحبه، لأن التوبة بدون رد المظالم لا تتم، راجع شروطها في الآية 27 من سورة الشورى المارة، وقد علمت أن التطفيف من أهم الأمور التي يجب أن يتباعد عنها، لأنه منوط بالناس كافة. قال تعالى «كَلَّا» لا يفعلوا ذلك وليرتدعوا وينزجروا عما هم عليه من التطفيف، ولينتهوا وينتبهو للغفلة عن يوم البعث يوم الوقوف أمام رب العالمين، وليندموا ويتوبوا قبل أن يحل بهم غضب الملك الجبار المنتقم، ثم أتبع هذا التحذير بوعيد الفجار على العموم الذين من جملتهم المطففين بقوله جل قوله «إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ» يشمل الكفرة كما مر في الآية 14 من سورة الانفطار لا سيما وقد جاءت هذه الآية بمقابل الآية 22 الآتية، والمراد بالكتاب هنا صحائف أعمالهم «لَفِي سِجِّينٍ» 7 وهو علم كتاب جامع على ديوان الشر، وهو الذي يدون فيه أعمال الشياطين والكفرة من الجن والإنس، وتشير هذه الآية إلى أن المطففين فجار، وقد أشار إليهم صلّى الله عليه وسلم بقوله: التجار يحشرون فجارا يوم القيامة، أي الذين هذا شأنهم، أما المتباعدون عن الشبهات، فقد قال فيهم: التاجر الصدوق يحشر مع النبيين والشهداء، ثم قال(4/511)
الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20)
تهويلا بكتاب الفجار وقبحه «وَما أَدْراكَ» أيها الإنسان «ما سِجِّينٌ» 8 هو شيء عظيم لا تدركه دراية دار فهو «كِتابٌ مَرْقُومٌ» 9 مكتوب فيه بخط غليظ لأن الرقم الخط الغليظ بحيث يعلم ما فيه من اطلع عليه عن بعد لأول نظرة بلا تفكر ولا إمعان، قال الشاعر:
سأرقم في الماء القراح إليكم ... على بعدكم إن كان للماء راقم
وهذا الكتاب علامة على شقاوة صاحبه وكونه من أهل النار وفي لفظة سجين إشارة إلى سجن صاحبه في جهنم ومبالغة في شؤم ذلك السجن، بفتح السين ولقب به الكتاب لأنه سبب الحبس، وهو شر موضع في جهنم في مكان موحش مظلم في مسكن إبليس وذريته، كما وردت الآثار بذلك، وقيل إن سجين اسم الموضع لما أخرج ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا: إن الفلق جب من جهنم مغطى وسجين جب فيها مفتوح، وهذا أولى، إذ يكون الكتاب وسجين على ظاهرهما لولا قوله تعالى (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ) إذ أبدل الكتاب منه، وقد أجاب الإمام النسفي عن هذا في تفسيره بأن سجين كتاب جامع هو ديوان أهل الشر دوّن الله فيه أعمال الشياطين والكفرة من الإنس والجن، وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة، أو معلوم بحيث يعلم من رآه أنه لا خير فيه، وعليه يكون المعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان بخط غليظ مميز عن غيره، وقال بعضهم إن نون سجين بدل من لام، وأصله سجيل مثل جبرين في جبريل، ومرقوم من رقم الكتاب إذا أعجمه وبيّنه، ويطلق الرقم على العدد عند أهل الحساب، وليس بمراد هنا. هذا والله أعلم. «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ» يوم يخرج ذلك الكتاب في ذلك اليوم العصيب «لِلْمُكَذِّبِينَ» 10 بذلك اليوم الفظيع لما ينالهم من وبال وحقارة على رءوس الأشهاد، وذل ومهانة وعذاب لا تطيقه الأوتاد، اللهم إنا نتبرأ إليك مما يوجب فضيحتنا يوم التناد
ثم وصفهم بقوله عز قوله «الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ» 11 يوم الجزاء صفة كاشفة موضحة لحالهم. قال تعالى متعجبا من جرأتهم على التكذيب في ذلك اليوم المهول «وَما يُكَذِّبُ بِهِ» أحد «إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ» 12 كثير الإثم منهمك في الشهوات القبيحة متجاوز(4/512)
الحد فيها غال في التقليد، لأنه جعل قدرة الله قاصرة عن الإعادة وعلمه تعالى قاصرا عن معرفة الأجزاء المتفرقة التي لا بد منها في الإعادة، وجعل علة الإعادة محالة عليه، وهو تعالى ليس عليه شيء محال البتة «إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا» الدالة على البعث والجزاء «قالَ» ذلك الأثيم لفرط جهله وقلة عقله وكثرة طيشه وشدة إعراضه عن الحق الذي لا محيد عنه لو كان فيه لمحة من حلم أو لمعة من علم لما قال «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» 13 خرافاتهم المتناقلة وأباطيلهم التي ألفوها على الآباء من قبل، ولم يظهر لها أثر حتى الآن. قيل نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث أو الوليد بن المغيرة، وأيا كان فالآية عامة، والكلام مطلق يدخل فيه كل من اتصف بصفات الذّم المارة هما وغيرهما «كَلَّا» ليس الأمر كذلك، أي مثل ما قال ذلك الأثيم وأضرابه من الباطل والتكذيب «بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» 14 من الآثام الخبيثة، وهذه الجملة بيان لما أدى بهم إلى التقوه بذلك الكلام الفظيع، أي ليس في آياتنا ما يصح أن يقال في شأنها مثل تلك المقالة الباطلة، ولكن أغشيت قلوبهم وغطبت بأوساخ الذنوب وصداها حتى غلب عليها السوء وحال بينهم وبين معرفة الحق كثافة الحجب الحاصلة من طبقات الرين عليها، فلم تقدر أن تعي شيئا أو يوقر فيها شيء من الحق، فقالوا ما قالوا.
أخرج الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إن العبد إذا أخطأ بكت في قلبه نكتة، فإذا نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلق قلبه، وهو الران الذي قال الله (بل ران) إلخ. وأخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه والسنائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم عنه بلفظ: من أذنب ذنبا وبزيادة سوداء صفة لنكتة، وقد يأتي الرّين بمعنى الطبع، أخرج عبد بن حميد من طريق خليد بن الحكم عن أبي المجير أنه عليه الصلاة والسلام قال: أربع خصال مفسدة للقلوب مجاراة الأحمق فإن جاريته كنت مثله وإن سكت عنه سلمت منه، وكثرة الذنوب مفسدة للقلوب وقال تعالى (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ، والخلوة بالنساء والاستمتاع بهن والعمل برأيهن، ومجالسة الموتى قيل يا رسول الله من هم؟ قال كل غني قد أبطره غناه.(4/513)
مطلب القراءات السبع، ورؤية الله في الآخرة، والقيام للزائر:
هذا، وقد وقف حفص على/ بل/ وقفا خفيفا يسيرا ليتبين الإظهار، وهذا الانفصال باللفظ تباعدا بين التنوين والنون الساكنة وأحد حروف الإظهار الخمسة عشر، وقرأ غيره بإدغام اللام في الراء ولم يقف، وقرىء/ ران/ بالإمالة وهي إحدى القراءات السبع الجائز تداولها إذ لا نقص ولا زيادة فيها، وقد ذكرنا قبلا أن المد والإشباع وتخفيف الحرف بالسكون عند توالي الحركات والوصل والقطع والتفخيم والترقيق والإمالة والإتباع ونقل الحركة وحذفها كله جائز لا حرج فيه، وإن الممنوع هو ما يخالف رسم القرآن من دون ذلك، وان ما قيل إن ابن عباس قرأ كذا وابن مسعود قرأ كذا وغيرهما بما فيه زيادة أو نقص أو تبديل لبعض الكلمات فهو عبارة عن كلمات تفسيرية لبعض كلم القرآن كتبوها على هامش أو بين سطور مصاحفهم لا غير، فلا يجوز عدها من القرآن، لأن تفسير الكلمات أو تأويلها لا يكون من القرآن، ولا يجوز أن ينطق بها أو يقرأها على أنها من القرآن، بل يتكلم بها في غير القراءة على أنها معان لبعض كلماته تدبر، قال تعالى «كَلَّا» حقا وصدقا «إِنَّهُمْ» الذين اعتراهم الرين بسبب كثرة الذنوب حتى أعمى قلوبهم «عَنْ رَبِّهِمْ» ومالك أمرهم «يَوْمَئِذٍ» في يوم الدين «لَمَحْجُوبُونَ» 15 عنه لا يرونه في الآخرة والحجاب عن رؤيته فيها عذاب أليم لهم غير العذاب الذي يستحقونه على كسبهم القبيح. هذا، وان الله تعالى حاضر في ذلك الموقف الذي هو حاكمه وناظر فيه جميع خلقه، ويراه المؤمنون ولا يراه الكافرون، وإن الحرمان من رؤيته عذاب عظيم لا بضاهيه عذاب. وفي هذه الآية دلالة كافية على أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، وإلا لم يكن للتخصيص فائدة، ولأن الله ذكر الحجاب في معرض التهديد للكافرين، فلا يجوز حصوله للمؤمنين، ولأنه كما حجب قوما بسخطه دل على أن قوما يرونه برضاه، لأن الكفار كما حجبوا في الدنيا عن التوحيد حجبوا في الآخرة عن الرؤية، قال مالك بن أنس رحمه الله لما حجب الله أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه، ومن أنكر رؤيته كالمعتزلة قال إن الكلام تمثيل للاستخفاف بهم والإهانة لهم، لأنه لا يؤذن بالدخول على الملوك إلا(4/514)
للوجهاء المكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم، قال:
إذا اعتروا باب ذي عبيّة رجبوا ... والناس من بين مرجوب ومحبوب
ومعنى اعتروا غشوا، والعبيّة بضم العين وتشديد الباء والياء الملك المتكبر، ورجبوا هابوا وفزعوا لعظمة ودهشة مقابلته، راجع بحث الرؤية في الآية 23 من سورة القيامة في ج 1 وما ترشدك إليه من المواضع. ثم أخبر الله تعالى عن هؤلاء الكفرة بأنهم مع كونهم محجوبين يحرقون في النار أيضا بقوله جل قوله «ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ» 16 يقاسون حرقها عند ما يزجون فيها، وهذا عندهم أشد بلاء من الحجاب، أما عند المؤمنين فالحجاب عندهم أعظم أنواع العذاب، قال الحسن:
لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا «ثُمَّ يُقالُ» لهم من قبل خزنة جهنم تقريعا وتوبيخا «هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» 17 في الدنيا فذوقوه الآن جزاء تكذيبكم «كَلَّا» ليس الأمر كما يتوهم المتوهمون ويزعم الزاعمون من إنكار البعث، فهو حاصل لا محالة. ثم طفق يذكر مقام المؤمنين الموقنين القائمين بالعدل بالكيل والميزان الموقين للناس حقوقهم المؤدين حق الله المصدقين بكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجزاء بقوله عزّ قوله «إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ» 18 وهذا بمقابلة كتاب الفجار، ومقرّه بالسماء السابعة تحت العرش، ولهذا قال منوها بعلوه ومعظما لشأنه «وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ» 19 أيها الإنسان هو في الحسن والعلو والكرامة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، معناه بما يريده الله، وإن ما جاء في تفسيره وتأويله فبحسب ما يحتمله اللفظ بالنسبة العقول البشر كالحالة في سجين في القبح والمذمة، وهو أيها السائل عنه «كِتابٌ مَرْقُومٌ» مكتوب بخط غليظ يعلم ما فيه من يطلع عليه عن بعد الأول نظرة دون دقة ورويّة، وهو علامة على سعادة صاحبه وكونه من أهل الجنة، وفيه إشارة إلى علو درجات صاحبه فيها، ومبالغة في بركة ذلك العلو وشرفه، لأنه وصف من العلو اسم جمع لا واحد له من لفظه، ولقب به لأنه سبب لارتفاع صاحبه إلى أعالي درجات الجنة، وهو في أحسن موضع بالجنة موضوع في مكان مؤنس منير تحت العرش، وهو عبارة(4/515)
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)
عن كتاب جامع هو علم لديوان أهل الخير دون الله به أعمال الأنبياء والشهداء والملائكة والعارفين وصلحاء الأمة من الأولين والآخرين، وعليون على ما ظهر لك من التفسير هو كتاب مرقوم مسطور فيه كل عمل صالح ظاهر الكتابة، معلم بعلامة يعلم منها من رآه لأول لمحة أنه جامع لكل خير فيما كتب من أعمال الأبرار، مدون فيه بخط واضح مميز عن غيره، ومنه رقم الثوب أي نقشه لظهوره للرائي عن بعد وتمييزه عن الثوب
«يَشْهَدُهُ» من الملائكة «الْمُقَرَّبُونَ» 21 لكرامة أهله وشرفهم عند ربهم، أخرج ابن المبارك عن قمرة بن حبيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الملائكة يرفعون اعمال العبد من عباد الله تعالى يستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه، فيوحي الله تعالى إليهم أنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين، ويصعدون بعمل العبد يستقلونه ويستحقرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله من سلطانه، فيوحي إليهم أنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدي هذا أخلص لي في عمله فاجعلوه في عليين.
مطلب مقام الأبرار والفجار، وشراب كل منهما، والجنة والنار:
قال تعالى «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ» 22 جمع بار وهم المتصفون بطاعة الله المنتهون عن مخالفته، المؤمنون بالبعث، الموفون الكيل والميزان، وهذا بمقابلة قوله تعالى (إِنَّ الْفُجَّارَ) بما يدل على أن المراد بهم الكفار لا غير، فهؤلاء الكرام مقرهم عند الله في نعيم الجنة الدائم، وهذا بيان الله تعالى بحسن أحوالهم في الآخرة جزاء أعمالهم الطاهرة، كأنه قيل قد علمنا كتابهم فما هو حالهم، فيقال نعيم الجنان تراهم «عَلَى الْأَرائِكِ» الأسرة في الحجال «يَنْظُرُونَ» 23 إلى عظمة ربهم جل جلاله وإلى ما أعده إليهم في داره الباقية، وإلى ما شاءوا من رغائب مناظر الجنة، وهم في محلهم لا يحجب أبصارهم الحجال التي هم فيها ولا غيرها، وفي قوله تعالى ينظرون إشارة إلى أنه لا نوم في الجنة، كما وردت بذلك الأخبار، لما في النوم من زوال الشعور وغفلة الحواس، وهذا لا يناسب ذلك المقام. قال تعالى «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ» الباهية الحسنة اللامعة النضرة «نَضْرَةَ النَّعِيمِ» 24 بهجته(4/516)
ورونقه لما ترى من النور الساطع عليها الحاصل من سرور قلوبهم، وفيها أيضا رمز لعدم النوم لأنه يسلب نور الوجه ويغير بهجته كما هو مشاهد في الدنيا، والخطاب لكل من له حظ من الخطاب إيذانا بأن ما لهم من آثار النعمة واضحة لا يختصّ بها راء دون راء «يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ» 25 لم تمسه يد البتة، والرحيق اسم نوع من أشربة الجنة أبيض اللون طيب الطعم كريم الرائحة لا غول فيها ولا إثم، وقد ختم عليها لشرفها وبفاستها بكلمة كن فكانت، كما أنها تفتح عند شربها بالإرادة، ولذلك فلا يفض ختمها لمن يشربها إلا عند إرادة الشرب، قال حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل
وهذه الخمرة غير الأنهار الجارية في الجنة، ولها أناس مخصوصون، فكما أن أهل الجنة درجات متفاوتون في السكنى والمقام والنزهة، فكذلك هم درجات في المأكل والمشرب والملبس، متفاوتون متفاضلون بنسبة تفاضلهم في الأعمال، والفرق بينهما لا يقاس بالفرق بين تفاضل أهل الدنيا، كما لا تقاس الدنيا بالآخرة، وهذا الشراب «خِتامُهُ مِسْكٌ» خالص لا بضاهيه مسك الدنيا باللون والرائحة والطعم، وانك أيها الشارب له تجد طعمه فيها عند شربها من غير طوح الشدادة لأنها ليست من خشب أو شمع أو غيره مما يفعله أهل الدنيا لخمرتهم الخبيثة، بل هي بحيث عند ما تضعها بين الشفتين تصمحل في الشراب كأنها لم تكن، ولهذا بقول الله تعالى لأهل الدنيا «وَفِي ذلِكَ» الشراب المختص للأبرار والكرام «فَلْيَتَنافَسِ» وليرغب فيه لا في خمرة الدنيا الدنسة المزيلة للعقل، ولا في شهواتها المنافية للعزة والمهابة والكرامة، «الْمُتَنافِسُونَ» 26 الراغبون، ويتباهى به المتباهون، فعلى العاقل أن يبادر لطاعة الله في دنياه ليتوصل إلى هذا النعيم المقيم، لأنه مما يحرص عليه ويطمع فيه ويريده كل أحد لنفسه، وينفس به أي يعز عليه ويبخل به ويفضله على غيره، ويستأثر به، وأصل التنافس التغالب في الشيء، والنفيس مأخوذ من النفس لعزّتها، كأن كلّا من الشخصين يريد أن يختص به لنفسه، وقال البغوي: أصله من النفيس الذي تحرص عليه النفوس وتشح به على غيرها «وَمِزاجُهُ» مخلوط(4/517)
ذلك الشراب المسمى بالرحيق ليس ماء عاديا مثل ما يخلط أهل الدنيا شرابهم البدي ليخفف نتنه وحدته، بل يشاب «مِنْ تَسْنِيمٍ» 27 علم لماء عين بالجنة على غاية من الصفاء والحلاوة والبهاء والرقة، خلقه الله تعالى خاصة لمزج شراب أهل الجنة الذي هو من ذلك النوع. روي عن ابن مسعود وابن عباس وحذيفة بن اليمان أنها عين من عيون إحدى الجنان العالية. وهو مصدر مأخوذ من سنم إذا ارتفع ومنه سنام البعير. وهذه العين هي ارفع شراب أهل الجنة، ومن خواصها أنها تأتي أهلها الذين يشربون منها أو يمزجون شرابهم منها من جهة الفوق، لأنها تجري بالهواء بلا أخدود، ماؤها كريم لكونه «عَيْناً» حال من تسنيم، وضح يجيء الحال منه مع أنه جامد، لتأويله بمشتق، كجارية مثلا، أو لأنه وصف بقوله تعالى «يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ» 28 من الله تعالى الدانون عنده بتفضله عليهم لما أسلفوه من أعمال طيبة، وهذه هي المدامة التي تواصى بها أهل الذوق من أهل الحقيقة الكاملين، وقد أطنبوا في مدحها ووصفها، ولم أقف على أفضل من أقوال ابن الفارض رحمه الله فيها بقصيدته الرنانة التي لم يسبق بمثلها والله أعلم وأولها:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة ... سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
وآخرها:
على نفسه قليبك من ضاع عمره ... وليس له فيها نصيب ولا سهم
وأحسن بيت فيها قوله فيها:
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا ... ونور ولا نار وروح ولا جسم
تهذب أخلاق الندامى فيهتدي ... بها لطريق العزم من لا له عزم
وكل بيت فيها أحسن من الآخر وأبلغ وأفصح، وفيها من أنواع البديع ما لا يستغني عنه البديع. هذا وقدمنا في الآية 46 من الصافات ما يتعلق في هذا البحث فراجعه. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا» من عامة الخلق وخاصة الرؤساء منهم كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشباههم في كل عصر «كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا» كعمار وخباب وصهيب وبلال وسليمان وشبههم من فقراء المسلمين الصادقين المخلصين في الدنيا «يَضْحَكُونَ» 29 منهم لمّا يرونهم(4/518)
وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
استهزاء بهم وسخرية «وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ»
30 أيضا بأن يشير بعضهم إلى بعض بأعينهم وجوارحهم وشفاههم إشارات وحركات تدل على استحقارهم وإهانتهم والطعن بهم، والسب والشتم والتغيير بما هم عليه من الفقر والكآبة، فنزلت هذه الآية بهم. وجاء في البحر أن عليا كرم الله وجهه وجماعة من المؤمنين معه مروا بجمع من كفار مكة فصاروا يضحكون منهم ويستخفون بهم فنزلت قبل أن يصل علي وجماعته لحضرة الرسول ليخبروه بذلك، وعند وصولهم إليه تلاها عليهم، وهي صالحة للوجهين وعامة في كل من يفعل فعلهم إلى يوم القيامة، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. وهنا الآية واقعة حال من أولئك الكفرة قبل نزول هذه الآية بدليل قوله تعالى (كانُوا) وجيء بها هنا تمهيدا لذكر بعض أحوال أولئك الأشرار مع هؤلاء الأبرار.
قال تعالى «وَإِذَا انْقَلَبُوا» في مجالسهم ورجعوا «إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ» 31 متلذذين فرحين مستبشرين بما فعلوه من الاستخفاف بأولئك الكرام، معجبين بما ذكروهم فيه في غيبتهم عن أهلهم ويتفكهون به لما له من الوقع في قلوبهم الخبيثة «وَإِذا رَأَوْهُمْ» رأى الكافرون المؤمنين «قالُوا» بعضهم لبعض على مسمع منهم «إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ» 32 في انتسابهم إلى محمد وإيمانهم به، يريدون جنس المؤمنين لا الذين مروا بهم فقط، وجاء التأكيد بأن واللام لمزيد الاعتناء بسبهم فيقولون إنه خدعهم بقوله وتركوا هذه اللذائذ المحسوسة لما يرجيهم به من شهوات الآخرة الموهومة، فهم قوم تركوا الحقيقة أملا بالخيال، وهذا هو عين الضلال لأنهم يظنون أنهم على شيء والحال ليس هم على شيء أصلا، قاتلهم الله أتى يؤفكون، ألم يعلموا أنهم هم الظالمون الضالون، ولكن السيء لا يرى إلا السيء، فالمؤمن مرآة أخيه، والكافر مرآة نفسه، والدن ينضح بما فيه، فلماذا يقولون هذا، والله تعالى يقول «وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ» 33 لهم يراقبون أعمالهم، ولم يتوكلوا عليهم، بل أمروا بإصلاح أنفسهم وتهذيبها مما يضرها، وتطهيرها مما يدنسها، فاشتغالهم بها أولى من تتبع أحوال غيرهم وتسفيه أحلامهم وترك أنفسهم تمرح في هواها وتحارب مولاها، ألا يحملون أنفسهم على قبول الحق، وينهونها عن الضلال؟ قال تعالى «فَالْيَوْمَ» أي يوم القيامة(4/519)
يوم البعث والحساب والجزاء ترى «الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ» 34 بمقابلة ضحكهم عليهم بالدنيا حين كانوا يرونهم أذلاء مهانين بأعينهم بسبب تسلطهم عليهم وإيقاع الهوان بهم بعد العزة والرفاه، وإرهاقهم بأنواع العذاب بعد التنعم والترف إذ انقلب الأمر بالعكس عند ما أفضى المؤمنون إلى الآخرة، فصاروا يسخرون من الكفار كما كانوا يستهزئون بهم في الدنيا حالة عزّهم وكبريائهم، إذ غاب عنهم ما كانوا فيه، وتباعد عنهم ما كانوا يأملون، وزجوا في العذاب، ولاقوا من الأسى ما لم يكن بالحسبان، وذلك سبب ضحك المؤمنين منهم، لأن ما لا قوه في الدنيا من الوبال قد زال وانقلبوا إلى رضاء ربهم ورحمته، كما أن أولئك زال عنهم نعيم الدنيا، وغشيهم عذاب الآخرة الدائم، فاستوجبوا الضحك عليهم لما هم فيه من البلاء، والمؤمنون في السرور والهناءة، وهناك الضحك لا هنا:
هذى الجمال لا جمال خيبر ... هذا أبرّ ربنا وأظهر
قال تعالى (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الآية 33 من تبارك المارة، فأولئك في الجحيم وهؤلاء «عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ» 35 هذه الجملة حال من فاعل يضحكون أي يضحكون منهم حالة كونهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان وهم متكئون على سررهم، وأرائك الجنة من الدر والياقوت، قال أبو صالح: تفتح للكافرين أبواب النار وهم فيها ويقال لهم أخرجوا فإذا انتهوا إليها أغلقت دونهم، فيفعل فيهم ذلك مرارا، والمؤمنون ينظرون إليهم ويضحكون منهم.
مطلب معني ثوب وفضل الفقر والفقراء وما يتعلق بهم:
قال تعالى «هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ» بعمل الله هذا بهم في الموقف وفي الجحيم، وهل جوزوا في الآخرة جزاء «ما كانُوا يَفْعَلُونَ» 36 بالمؤمنين في الدنيا من الأذى والاستهتار والضحك وغيره، وهذا الاستفهام استفهام تقرير، أي بل إنهم جوزوا حق جزائهم على إجرامهم في الدنيا، وحق لهم أن يفعل بهم هذا لأنهم لم يحسبوا لهذا اليوم حسابا. واعلم أن ثوّب وأثيب بمعنى واحد، قال أوس:
سأجزيك أو يجزيك عني مثوب ... وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي(4/520)
ومثاله في الشر قول أبى عبده:
ألا أبلغ أبا حسن رسولا ... فمالك لا تجيء إلى الثواب
وقال المبرّد هو فعل من الثواب يثوب إلى من علم جزاء عمله خيرا أو شرا، ويعرف بالقرينة، والثواب والتثويب والإثابة سواء، وفعل ثوب يطلق على المجازات بالخير والشر، ولكن اشتهر بالخير وجاء هنا مرادا به الشر على طريق التهكم كقوله تعالى (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) الآية 31 من آل عمران في ج 3، وقوله (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) الآية 49 من سورة الدخان المارة، فكأنه تعالى شأنه يقول للمؤمنين هل كافيناكم على عملكم الدنيوي وأثبناكم جزاءه خيرا، وهل جازينا الكفرة على أفعالهم وعاقبناهم عليها، أم لا، فيكون هذا القول من الله للمؤمنين زائدا في سرورهم وحبورهم لما فيه من تعظيمهم وإكرامهم، وزائدا للكافرين في أسفهم وحزنهم لما فيه من هوانهم وشقائهم، وما حل بهم هذا إلا بسبب تكبرهم على الفقراء وإهانتهم لهم مع كفرهم وجحودهم، وما كان استخفافهم بفقراء المؤمنين إلا بسبب غناهم وكثرة اتباعهم التي هي من نعم الله عليهم، فبدلا من أن يشكروها ويخبتوا للذي خصّهم بها، طغوا وبغوا، قال تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) الآية 7 من سورة العلق، وقد سئل أبو حنيفة رحمه الله عن الغنى والفقر، فقال وهل طعى من طغى من خلق الله إلا بالغنى، وتلا هذه الآية. وإن المحققين يرون الغنى والفقر من قبل النفس لا من كثرة الأموال والأولاد والعشيرة، ولهذا كان الأصحاب رضوان الله عليهم يرون الفقر فضيلة، وقد حدث الحسن رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بأربعين عاما، فقال جليس الحسن أمن الأغنياء أنا أم من الفقراء؟ فقال تغديت اليوم؟ قال نعم، قال فهل عندك ما تتعشى به؟ قال نعم، قال فإذا أنت من الأغنياء. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان النبي صلّى الله عليه وسلم يبيت طاريا ليالي ماله ولا لأهله عشاء، وكان عامة طعامه الشعير، وكان يعصب على بطنه الحجر من الجوع، وكان يأكل خبز الشعير غير منخول، وقد عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فأبى أن يقبلها، وكان صلّى الله عليه وسلم يقول اللهم توفني فقيرا ولا تتوفني غنيا، واحشرني في زمرة المساكين.(4/521)
وقال جابر رضي الله عنه: دخل النبي صلّى الله عليه وسلم على ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من وبر الإبل، فبكى وقال تجرعي يا فاطمة مرارة الدنيا لنعيم الآخرة. قال تعالى (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) الآية 3 من سورة والضحى في ج 1، وقال صلّى الله عليه وسلم الفقر موهبة من مواهب الآخرة وهبها الله تعالى لمن اختاره ولا يختاره إلا أولياء الله. وقال صلّى الله عليه وسلم هل تنصرون إلا بفقرائكم وضعفائكم، والذي نفسي بيده ليدخلن فقراء أمتي الجنة قبل اغنيائها بخمسمائة عام والأغنياء يحاسبون على زكاتهم. وقال صلّى الله عليه وسلم رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به (أي ثوبين خلقين أو كساءين باليبن من غير الصوف) لو أقسم على الله لأبرّه.
أي لو قال اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه إياها، ولم يعطه من الدنيا شيئا، ولو أقسم على الله تعالى بإعطائه لأعطاه إياها، ولكنه لا يفعل. وقال صلّى الله عليه وسلم إن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به (ثم بين صفة الذين لا يؤبه بهم بقوله) الذين إذا استأذنوا على الأمير لا يؤذن لهم، وإن خطبوا النساء لم ينكحوا، وإذا قالوا لم ينصت لهم، حوائج أحدهم تلجلج في صدره، لو قسم نوره على الناس يوم القيامة لوسعهم. هؤلاء الفقراء الذين كانوا ولا يزالون أهل الدنيا يسخرون منهم، وهم خير منهم عند الله تعالى. وقال صلّى الله عليه وسلم اتخذوا عند الفقراء أيادي (في الدنيا) فإن لهم دولة يوم القيامة، أي يحتاج إليهم الأغنياء والأمراء، فإذا أكرموهم بالدنيا فإنهم يشفعون لهم في الآخرة، اللهم وفقنا لرضاك، ومتعنا بالعافية، واسبل علينا سترك، واجعلنا أهلا لعفوك، واجعل رزقنا كفافا، ولا تحوجنا إلى شرار خلقك، واغرس في قلوبنا حب الفقراء والمساكين من عبادك الصالحين، ووفقنا للتصدّق عليهم من كرمك وفضلك وجودك المسبل علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذا أيها الناس حال الفقراء في الآخرة الدائمة، فما هو حال الأغنياء فيها لأن حالهم في الدنيا ليس بشىء مهما كان إذا لم يكن لهم عند الله مقام في الآخرة، لأن هذه الدنيا مهما بلغ العبد فيها من الثراء في المال والجاه فمصيرها الزوال، فاسعوا رحمكم الله لما يبقى، وأكرموا الفقراء لأنهم سيسخرون من الأغنياء يوم القيامة كما كان الأغنياء يسخرون منهم في الدنيا. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا(4/522)
قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
وهذا آخر ما نزل في مكة المكرمة من سور القرآن الكريم ولم يبق من القسم المكي إلا آيات أثبتناها ضمن سورها المدنية كما سنأتي على ذكرها في محلها إن شاء الله، وسنشير إليها كما أشرنا في القسم المكي إلى الآيات المدنيات المثبتة ضمن سورها المكية، وقد ذكرنا شيئا من هجرة الرسول بعد نزول سورة المطففين واجتماع قريش على الصورة المبينة في الآية 40 من سورة العنكبوت المارة، وقد وعدنا بإكمال قصة الهجرة بعد تفسير الآية 60 منها، وهانذا أوفي بذلك فأقول ومن الله التوفيق:
مطلب بقية قصة الهجرة وفضل أبي بكر الصديق وجوار ابن الدغنة له:
إن حضرة الرسول وأبا بكر لما ذهبا إلى الغار، وجاء المشركون إليه، فلم يدخلوه لما رأوا عليه من نسج العنكبوت الدال على عدم دخوله من قبل أحد رجعوا يتحرونة خارج مكة، لأنهم يعلمون أن أحدا لا يدخله داره بعد أن تحالفوا وتواثقوا على قتله، وبقي صلّى الله عليه وسلم ورفيقه في الغار ثلاثة أيام. روى البخاري ومسلم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رءوسنا، فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟. قال الشيخ محي الدين النووي:
معناه ثالثهما بالنصر والمعونة والحفظ والتسديد، وهو كقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) الآية من آخر سورة النحل المارة، ويشير قوله هذا إلى عظيم توكله صلّى الله عليه وسلم حتى في هذا المقام، وتؤذن بفضل أبي بكر واختصاصه برفقته هذه لحضرة الرسول التي أشار الله إليها في قوله (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) ، وقوله في صدر هذه الآية 42 من سورة التوبة ج 3 (إلّا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار) وتعد هذه من أجل مناقبه رضي الله عنه في هذه الحادثة من أوجه كثيرة، منها اللفظ الدال على أن الله تعالى ثالثهما كما مر في الحديث، ومنها التنويه في الآية المذكورة بصحبته،(4/523)
ومنها بذله نفسه لحضرة الرسول ومفارقته أهله وماله ورياسته في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله، ومنها ملازمة النبي صلّى الله عليه وسلم ومعاداة الناس من أجله، ومنها أنه جعل نفسه وقاية لحضرة الرسول، فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ذكر عنده أبو بكر، فقال وددت أن عملي كله مثل عمله يوما واحدا من أيامه، وليلة واحدة من لياليه. أما الليلة فليلة سار مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الغار، فلما انتهيا إليه قال والله لا تدخله حتى أدخل قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخله وكنسه ووجد في جانبه ثقبا فشق إزاره وسدّه به، ووجد ثقبين آخرين فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله أدخل، فدخل ووضع رأسه في حجره ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الثقب، فلم يتحرك مخافة أن ينتبه حضرة الرسول، فسقطت دموعه على وجهه الشريف، فقال صلّى الله عليه وسلم مالك يا أبا بكر؟ قال لدغت فداك أبي وأمي، فتقل على محل اللدغة فذهب ما يجده من ألم ببركته صلّى الله عليه وسلم. وما قيل إنه انتقض عليه وكان سبب موته بعيد عن الصحة، لأن ما بين اللدغة وبين موته ما يزيد على إحدى عشرة سنة، فلا يعقل بقاء أثر اللدغة تلك المدة، على أن السم إذا برىء منه صاحبه نفع وجوده كما هو معلوم طبا ومشاهدة، وأما يومه فلما قبض صلّى الله عليه وسلم ارتدت العرب، وقالوا لا نؤدي الزكاة فقال لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه، فقلت يا خليفة رسول الله تألّف الناس وارفق بهم، فقال لي: أجبار في الجاهلية حوار في الإسلام، إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقص وأنا حي؟
- أخرجه في جامع الأصول ولم يرقم عليه علامة لأحد- قال البغوي: وروي أنه حين انطلق مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى العار جعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلقه فقال له رسول الله مالك يا أبا بكر؟ فقال أذكر الطلب فأمشي خلقك، وأذكر الرصد فأمشي بين يديك، فلما انتهيا إلى الغار قال مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الغار، فدخل فاستبرأه، ثم قال انزل يا رسول الله، فنزل وقال له إن أقتل وأنا رجل واحد من المسلمين، وإن قتلت هلكت الأمة. قال الزهري لما دخل رسول الله الغار وأبو بكر أرسل الله سبحانه وتعالى زوجا من حمام حتى باضت أسفل النقب، ونسجت العنكبوت بيتا، وقيل أتت يمامة على فم الغار وقال صلّى الله عليه وسلم(4/524)
اللهم أعم أبصارهم، فجعل الطلب يضربون يمينا وشمالا حول الغار يقولون لو دخلا هذا الغار لتكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت. هذا وقد وجدت في بعض التفاسير هذه الأبيات منسوبة لأبي بكر رضي الله عنه، فأثبتها وهي:
قال النبي ولم يجزع يوقرني ... ونحن في سدف في ظلمة الغار
لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا ... وقد تكفل لي منه بإظهار
وإنما كيد من تخشى بوادره ... كيد الشياطين قد كادت لكفار
والله مهلكهم طرّا بما صنعوا ... وجاعل المنتهى منهم إلى النار
ومنها أنه صلّى الله عليه وسلم لما اختفى في الغار كان مطلعا على باطن أبي بكر في سرّه وإعلانه بأنه من المؤمنين الموقنين المخلصين، ولذلك اختار صحبته في ذلك الوقت الرهيب والمكان المخوف، ومنها أن هذه الهجرة كانت بإذن الله تعالى فخص بصحبته فيها الصديق دون غيره من أهله وعشيرته، وهذا التخصيص يدل على فضل أبي بكر وشرفه على غيره، ومنها أن الله تعالى عاتب أهل الأرض كلهم بقوله عز قوله (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) الآية المارة من التوبة سوى أبي بكر، وهذا دليل كاف على فضله على أهل الأرض كلهم عدا صاحبه، ومنها أنه رضي الله عنه لم يتخلف عن رسول الله في سفر ولا حضر بل كان ملازما له في الشدة والرخاء وهذا مما يدل على صدق محبته له وكثرة مودته بحيث لا تستطيع نفسه الكريمة مفارقة حضرة الرسول في اليسر والعسر، ومنها مؤالسته للنبي صلّى الله عليه وسلم في الغار وبذل نفسه له وفداء زوجه أمامه كما تقدم ذكره حال المشي وحال الدخول وحال الاستقرار في الغار مما يحقق تمحضه فيه، ولهذا جعله الله تعالى ثاني رسوله بقوله عز قوله (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) الآية المارة من التوبة، وفي هذا نهاية الفضيلة وغاية الكرامة له. وقال بعض العلماء: إن أبا بكر ثاني رسول الله في أكثر الأحوال، ومنها أن النبي صلّى الله عليه وسلم دعا الخلق إلى الإيمان بالله وبكتابه فكان أبو بكر أول من أجاب دعوته، وهو أول من دعا إلى الإيمان بعد رسول الله فاستجاب له عثمان وطلحة والزبير، فآمنوا على يديه وحملهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فأقروا له بالإيمان، ومنها أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يقف في موقف من غزواته إلا وأبو بكر(4/525)
معه لشدة حرصه عليه، ومنها أنه لما مرض صلّى الله عليه وسلم قام مقامه في الإمامة بأمره صلّى الله عليه وسلم مما يدل على تفضيله على سائر الأصحاب، ومنها أنه ثانيه في تربته صلّى الله عليه وسلم لأنه دفن بجانبه وفي هذا دليل على فضله أيضا، ومنها أن الله تعالى نص على صحبته دون غيره بقوله جل قوله (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا) الآية الآنفة الذكر من التوبة، ومنها أن الله تعالى كان ثالثهما، ومن كان الله معه فهو كاف على فضله وشرفه على غيره، ومنها إنزال السكينة على أبي بكر واختصاصه بقوله تعالى (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) الآية المذكورة أيضا، قال ابن عباس المراد أبو بكر لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كانت عليه السكينة من قبل ذلك. هذه نبذة قليلة من فضائله رضي الله عنه قال الأبوصيري:
وما حوى الغار من خير ومن كرم ... وكل طرف من الكفار عنه عمي
فالصدق في الغار والصديق لم يرما ... وهم يقولون ما في الغار من أرم
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على ... خير البرية لم تنسج ولم تحم
وقاية الله أغنت عن مضاعفة ... من الدروع وعن عال من الأطم
هذا وبعد أن بقي النبي صلّى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار ثلاثة أيام بلياليها لا حامي لهما إلا الله ولم تترك قريش محلا إلا دخلته تفتش عليه، وكان أبو بكر منذ أخبره حضرة الرسول بإذن الله بالهجرة ووافق على استصحابه معه استحضر راحلتين ليركبا عليهما وصار يعلفهما، وقيل أن يذهبا إلى العار استدعيا رجلا من بني عدي وسلماهما إليه وأمراه بإكرامهما، وواعداه أن يحضرهما إليهما بعد صبيحة ثلاث إلى الغار، وفي الوقت المذكور أتى بهما إليهما فخرجا من الغار والناس نيام بعد والعيون منقطعة، فركب كل منهما واحدة واستصحبا الديلى دليلا ومشيا على بركة الله قاصدين المدينة، كما جاء في الحديث الصحيح الذي هو من إفراد البخاري المروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين الإسلامي، ولم يمر علينا يوم إلا ويأتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد (بفتح الراء وكسر الغين موضع بينه وبين مكة خمس ليالي مما يلي البحر لأن طريقهما كان على الساحل)(4/526)
لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فقال أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، فقال ابن الدغنة فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، فارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، تخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق. - ولو قال كما قال مؤمن آل فرعون (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) الآية 28 من سورة المؤمن المارة لأن الجلاء أخر القتل عندهم بل أشد، ولكنه لا يدين بدين الله حتى يقول ذلك بتوفيق الله، وإنما وصفه بأوصافه الكريمة وهو لها أهل-. فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وفي رواية: فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وأمنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره وليصل فيها ويقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساؤنا وأبناؤنا، فقال ذلك ابن الدغنه لأبي بكر، فلبث أبو بكر كذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقذّف عليه نساء المشركين وأنباؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان رجلا لا يكاد يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك اشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبي إلا أن يعلن بذلك فله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان.
قالت عائشة فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال له قد علمت الذي عاهدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإمّا أن ترجع إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني خفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر إني أردّ إليك جوارك وأرضى(4/527)
بجوار الله، والنبي صلّى الله عليه وسلم يومئذ بمكة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم للمسلمين إني أريت دار هجرتكم سبخة ذات نخيل بين لابتين وهما الحرتان. فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له صلّى الله عليه وسلم على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال أبو بكر وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده من ورق السمر وهو الخبط أربعة، أشهر. قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة: فبينما نحن جلوس يوما في بيت أبي بكر في نحو الظهيرة قال قائل هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت فجاء رسول الله فاستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي صلّى الله عليه وسلم لأبي بكر أخرج من عندك، فقال أبو بكر إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال فإني قد أذن لي في الخروج، قال أبو بكر الصحبة يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم نعم، قال أبو بكر فخذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالثمن، قالت عائشة فجهزناهما أحسن الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها (التي تشد به وسطها) فربطت به فم الجراب، فبذاك سميت ذات النطاقين، قالت ثم لحق رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن (صادق فطن مرن سريع الفهم سريع الانتقال) ، فيدلج (الإدلاج بالتخفيف السير أول الليل وبالتشديد آخره) من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كباثت فيها، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك اليوم حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة (المنحة الشاة ذات اللين) من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل (بكسر الراء وسكون السين اللين) حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عدي هاديا خرّيتا(4/528)
(الخرّيت الماهر في الدلالة) قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي (أي أخذ نصيبا من حلفهم وعهدهم) وهو على دين كفار قريش، فآمناه ودفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما صبح ثلاث، فارتحلا، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي، فأخذ بهم طريق الساحل، وفي هذا قال الأبو صيري ينعى حال قريش وقبح صنيعهم مع حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم:
ويح قوم جفوا نبيا بأرض ... ألفته ضبابها والضباء
أخرجوه منها وآواه غار ... وحمته حمامة ورقاء
وجفوه وحن جذع إليه ... وقلوه ووده الغرباء
وكفته بنسجها عنكبوت ... ما كفته الحمامة الحصداء
واختفى منهم على قرب مرآ ... هـ من شدة الظهور الخفاء
الأبيات من قصيدته التي قل أن توجد قصيدة مدح يبلاغتها وجمعها للمعاني، ولهذا قالوا ما مدح خير البرية بأحسن من البراءة والهمزية، وكلاهما له رحمه الله.
مطلب قصة سراقة بن مالك الجشعمي حين الحق رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
قال ابن شهاب فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة ابن مالك بن جشعم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جشعم يقول: جاءنا رسول كفار قريش لما هاجر رسول صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة ومعه صديقه رضي الله عنه، يخبرنا أنهم أرسلوا في أثرهما الرسل، وبئوا العيون، ونصوا الأشراك، وأقاموا الأرصاد ليحولوا دون هجرته، فلم يظفروا به، وأنهم جعلوا جائزة قدرها مئة ناقة لمن يقتل أحدهما أو يأسره، ومئتان لمن يقتلهما أو يأتي بهما، قال سراقة فيلنا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال يا سراقة إني قد رأيت أسودة بالساحل (أي أشخاصا) أراهما محمدا وأصحابه، قال سراقة فعرفت أنهم هم، فقلت له إنهم ليسوا هم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا يبتغون ضالة لهم، ثم لبنت في المجلس ساعة، ثم قمت، فدخلت البيت فأمرت جاريتي أن تخرج الفرس وراء الأكمة (هي التل المرتفع) فتحبسها علي، وأخذت رمحي، فخرجت من ظهر البيت كي لا يراني أحد، لأختص(4/529)
بتلك الجائزة دون قسيم أو شريك، قال فخططت بزجه الأرض، وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تضرب بي (تعدو عدوا دون الإسراع) ، ثم صرت أشتد في أثرهم حتى دنوت منهم، فعثرت فرسي، فخررت عنها، فقمت وأهويت بيدي إلى كنانتي (الجعبة التي فيها السهام) فاستخرجت منها الأزلام (الأقداح التي كانوا يتفاءلون بها) فاستقسمت بها أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، فلا زالت تضرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات يمينا وشمالا، وإذ ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها فلم تكد تخرج يديها فنهضت، فلما استوت قائمة إذا الأثر بين يديها غثان (غبار) ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام ثانيا فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم ان سيظهر أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد رأيت أن الخوف دخل أبا بكر، ولكن الرسول ثابت فؤاده، ولما تاديت بالأمان ترجلت خشية أن يصيب فرسي ما أصابها قبل، حتى إني خشيت على نفسي أن يصيبها ما أصاب فرسي، فقلت له يا رسول الله إن قومك قد جعلوا فيك وفي صاحبك الدية، وإنهم يريدون قتلكما وإني راجع رادهم عنك، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزأني (لم يأخذا مني شيئا) ولم يسألاني إلا أن قالا أخف عنا ما استطعت، فقلت يا رسول الله أدع الله أن يطلق لي جوادي ولك عهد وميثاق أن أرجع وأردّ عنك، واكتب لي كتاب أمن بأنك إذا أظهرك الله وملكت رقاب الناس وجئتك أن تكرمني، فقال صلّى الله عليه وسلم اللهم إن كان صادقا فيما يقول فأطلق له جواده، وأمر عامر بن فهيرة أن يكتب لي العهد، فأبيت إلا أن يكون الكاتب أبا بكر، فأمره، فكتب له رقعة من أديم ما أراد من العهد، أمانا له عند ظهور أمره. وهذا مما يؤيد عدم معرفته صلّى الله عليه وسلم الكتابة كما ذكرنا في الآية 48 من سورة العنكبوت المارة، قال ثم عرضت عليه ثانيا أن يتزود من مالي ما شاء فقال يا سراقة إذا لم ترغب في دين الإسلام فإني لا أرغب في إبلك ومواشيك، فقلت مرني بما شئت، فقال لا تترك أحدا يلحتنا، وقال كيف بك يا سرافة إذا(4/530)
تسورت بسواري كسرى؟ فقلت متعجبا كسرى بن هرمز؟ قال نعم، فرجعت ومضى رسول الله ومن معه لجهة المدينة، قال سراقة ولما عدت إلى مكة اجتمع إليّ الناس يسألونني عما حدث لي مع رسول الله، فأنكرت أولا رؤيته بتاتا، ولكنهم عادوا علي واستخبروني فأخبرت أبا جهل بما حدث فلامني على ما كان مني، فأنشدته معتذرا بما ألقى الله على قلبي ولساني فقلت:
أبا حكم والله لو كنت شاهدا ... لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا ... رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
قالوا ولما كان عام الفتح وكان رسول الله عائدا من غزوة حنين بالجعرانة، إذا بصائح يصيح يا رسول الله، حتى أنخرط في كتيبة الأنصار وهو ينادي يا رسول أنا سراقة بن مالك، وهذا كتاب عهدي منك، فقال صلّى الله عليه وسلم أدنوه، فهذا اليوم يرى وفاء، وقال له إن وعد الحرّ دين، فأسلم وحسن إسلامه وحظي بسواري كسرى زمن خلافة ابن الخطاب، وأخبر بأن هذا مما أخبره محمد صلّى الله عليه وسلم بهما عام الهجرة.
فهي من معجزاته صلّى الله عليه وسلم. قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين، كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة (أرض ذات حجارة خارج المدينة فينتظرونه حتى يردّهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على ظهر أطم من آطامهم (أشرف على بناء مرتفع من أبنيتهم) لأمر ينظر إليه، فبصر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي نفسه أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرونه، قال فثار المسلمون إلى السلاح وظهروا يتلقون رسول الله صلّى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين غرة ربيع الأول سنة 54 أربع وخمسين من ميلاده الشريف، الثالث عشر من البعثة المقدسة، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقام أبو بكر للناس يتلقاهم ويصرفهم والتي صامت، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يعرف رسول(4/531)
الله يحيي أبا بكر لأنه هو الذي يتلقاهم ويصافحهم ويجلسهم مجالسهم، ويقصد بذلك عدم تكليف حضرة الرسول واحتراما وتكريما لمقامه، فظنوا أنه هو الرسول، ولما قربت الشمس من مجلسهما ورأى أبو بكر أن الشمس أصابت حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم قام فظلل عليه بردائه، فعرف الناس كلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند ذاك، فلبث صلّى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أخبر الله عنه بأنه أسس على التقوى في الآية 110 من سورة التوبة في ج 3، وصلى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم ركب راحلته فسار والناس تمشي خلفه حتى بركت عند مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلم الآن بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين وكان مريدا للتمر (بيدر التمر) وهو ملك لسهل وسهيل غلامين يتيمين في حجر سعد بن زرارة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: هذا إن شاء الله المنزل، ثم دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمريد ليتخذه مسجدا، فقالا بل نهيه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله أن يقبله منهما هبة، حتى ابتاعه منهما بما أرضاهما، ثم بناه مسجدا، وطفق رسول الله ينقل مع أصحابه اللين والتراب ويعين أصحابه في بنائه، وكان يقول أثناء شغله معهم:
هذي الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبرّ ربنا وأطهر
يعني بذلك أن الحجارة التي تحملها لبناء المسجد أفضل عند الله تعالى مما يحمل من خيبر من المال والميرة وغيرها من أنواع التجارة، وفي رواية بالجيم من التجميل أو من الجمال وعليه يكون المعنى أن ما تحمله الجمال من خيبر مما هو جميل بنفسه أو أن الجمال فقط وهي الإبل ليست بشيء بالنسبة لما هم فيه من بناء المسجد الشريف والرواية الأولى أشهر، قالوا وكان يقول صلّى الله عليه وسلم:
اللهم إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة
وقيل إنه تمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسمّه، قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله تمثل بيت شعر تام غير هذا البيت، وهو من الرجز ولا يسمى الرجز شعرا، وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا في الآية 68 من سورة الشعراء والآية 70 من سورة يس في ج 1، أخرجه البخاري، وقد أخرج الدارقطني وابن(4/532)
شاهين وابن مردويه وغيرهم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه أنت صاحبي في الغار وأنت رفيقي على الحوض. وأخرج ابن عساكر من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وأبي هريرة مثله، وأخرج هود ابن عدي عن طريق الزهري عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لحسان هل قلت في أبي بكر شيئا؟ قال نعم، قال قل، فقال رضي الله عنه من جملة ما قال في حقه:
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ... طاف العدوّ به إذ صاعد الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا
فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه، ثم قال صدقت يا حسان هو كما قلت، وقال بعضهم إن شبان قريش ذهبوا نحو الغار بأسلحتهم حتى كانوا عنه قدر أربعين ذراعا فتقدم أحدهم وهو أمية بن خلف فقال إن عليه لعنكبوتا قبل ميلاد محمد، فانصرفوا، وزاد البيهقي في الدلائل أن أبا بكر صار يمشي مرة عن يساره، ومرة عن يمينه، وانه قال لحضرة الرسول لا آمن عليك وان محمدا صلّى الله عليه وسلم صار يمشي على أطراف أصابعه حتى حقيت رجلاه، فلما رأى ذلك أبو بكر حمله على كاهله وجعل يشتد به حتى فم الغار، قالوا وجرح صبع أبي بكر أثناء كله الغار، فجعل يمسح الدم ويقول:
ما أنت إلا أصبح دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
وذهب الذين كانوا في طلبه صفر الأكف سود الوجوه، وصار له بعض من كان عليه، وهذا أول خير من فضائل الهجرة، إذ صاروا يتلاومون على فعلهم الذي سبب هجرته عنهم فقد أخرج ابن سعد وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن أنس رضي الله عنه قال: لما خرج النبي صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر التفت أبو بكر، فإذا هو بفارس قد لحقهم، فقال يا نبي الله هذا فارس قد لحق ربنا، فقال صلّى الله عليه وسلم اللهم اصرعه، فصرع عن فرسه، فقال يا رسول الله مرني بما شئت، قال تقف مكانك لا تتركنّ أحدا يلحق بنا، فكان أول النهار جاهدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وآخر النهار مسلحة له، وكان هذا الفارس سراقة المار ذكره في الحديث الأول الذي رواه البخاري. وصح من حديث الشيخين وغيرهما أن القوم طلبوا رسول(4/533)
الله صلّى الله عليه وسلم وأبا بكر، وقال أبو بكر ولم يدركنا إلا سراقة على فرس له، فقلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، فقال لا تحزن إن الله معنا كما أشار الله بهذا في الآية 42 من سورة التوبة في ج 3، حتى إذا دنا فكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين أو ثلاثة، قلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت، قال لم تبك؟ قلت أما والله ما أبكي على نفسي ولكن أبكي عليك، فدعا عليه الصلاة والسلام، وقال اللهم اكفناه بما شئت، فساخت فرسه إلى بطنها في أرض جلدة (قوية) ووثب عنها، وفي رواية: قال اللهم اكفناه بما شئت وكيف شئت، فساخت قوائم فرسه في الأرض ولم تقو على مغادرتها فهال الأمر سرافة وانخلع قلبه فزعا وهلعا، فترجل خشية أن يصيبه ما أصاب فرسه، ونادى الأمان يا محمد أنظرني أكلمك، أنا لك نافع غير ضار، وقال يا محمد إن هذا عملك فادع ربك أن ينجيني مما أنا فيه، فو الله لأعمين على من ورائي من الطلب، واني راجع رادهم عنك، وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر بإبلي رغنمي في موقع كذا وكذا فخذ منها حاجتك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا حاجة لي فيها، ودعا له، فانطلق راجعا إلى مكة وقال ما قال كما مر آنفا، ورجع إلى أصحابه من بقية الطلب، ومضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا معه حتى قدمنا المدينة. الحديث. قالوا وكان في استقبال الرسول جماعة من أهل المدينة غير المهاجرين، وكان معهم الفتيات يفتين فرحا باستقباله صلّى الله عليه وسلم، ومن جملة ما نقل عن أناشيدهن:
أقبل البدر علينا من ثبات الوداع ... وجب الشكر علينا ما دعى لله داع
ومنهن من قلن:
نحن بنات من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار
ويضربن بالدف ويظهرن معالم الفرح والسرور بقدومه بما جرت عليه عادتهم رضي الله عنهن وأرضاهن، فيظهر من هذه المعجزات التي أظهرها الله على يدي رسوله في مكة وآخرها قضية سرافة أن حضرة الرسول لم يهجر بلده مكة وقومه وعشيرته فيها عن ضعف أو خوف، كيف وقد أخبره الله تعالى في إنزال العذاب فيهم مرارا فلم يفعل لشدة حرصه على إسلامهم، وكان يجابه ربه بقوله اللهم اهد(4/534)
قومي فإنهم لا يعلمون، وإنما كانت هجرته هذه اتباعا لأمر الله تعالى وتقديره الأزلي في ذلك، وكان فيها الخير والبركة وعلو الكلمة وشرف السمعة، وان قومه بعد رجوعهم من طلبه وسماعهم قول سراقة وما جرى له معه، راجعوا أنفسهم ورأوا أنهم مقصرون تجاهه، وانشقوا في الرأي وأوقعوا اللوم على الذين قرورا قتله في دار الندوة حتى نشأ عنه تركه إياهم وصاروا يمحصون أقواله ويفندون أفعاله، فلم يروا منها ما يوجب النقد أو النفع الخاص أو الضرر لأحد، أو أن ذلك لطلب الرياسة أو المال أو غيره، وإنما يدعو لتوحيد الله، وهذا شيء لم يألفوه من قبل ولم يتلقوا شيئا منه عن آبائهم فخالقوه، ويدعو للاعتراف بالبعث بعد الموت وهو لا تقبله عقولهم، وان هذين الأمرين ما كان أحد منهم يقسر على الاعتراف بهما، وإنما على طريق النصح والإرشاد وليس إلا، لذلك تيقنوا ان سقط في أيديهم وندموا على ما فعلوا وعنقوا غيرهم عليه، وقالوا إنه سيجد في المدينة أنصارا وأعوانا ربما أنّهم سيهاجموكم في عقر داركم هذه، وقد أوقع الله الرعب في قلوبهم وصاروا يترقبون خوف الكرة عليهم بمن دان بدينه، وكان ذلك، إذ أظهره الله عليهم وأتم أمره فيهم، كما سيأتي في قصة الفتح إن شاء الله تعالى عند تفسير الآية الأولى من سورة الفتح في ج 3، هذا وما ذكرناه من الأحاديث هو خلاصة ما جاء في الهجرة وسببها وكيفيتها، ومن أراد التفصيل فعليه بمراجعة سيرة ابن هشام والسيرة الحلبية، ففيهما الكفاية. ومما تقدم تبين لك أيها القارئ عظيم فضل سيدنا علي كرم الله وجهه، لأنه هادى بنفسه الكريمة في طاعة ابن عمه محمد صلّى الله عليه وسلم حينما دعاه حالة إحاطة شبان قريش بداره وأخبره بما قصدوه من قتله، وقال له أنت تنام في مكاني في بيتي وتبقى لتؤدي الأمانات وغيرها كما مر آنفا، فلم يتلكأ وقبل عن طيب نفس ورضى قلب، فتركه صلّى الله عليه وسلم على فراشه وخرج على الصورة المارة، وحثا على رءوس شبان قريش التراب ولم يحسوا به. هذا وان ما قاله بعض المتنطعين من ان رسول الله هاجر مكرها وخشية من القتل قول لا قيمة له، كيف وقد تعهد الله له بالنصر وحماه من مواقف الكفر كلها طيلة ثلاث عشرة سنة في مكة، وقد خيره الله في إهلاك أهلها فأبى عليهم وسأل ربه هدايتهم، وانه خرج من(4/535)
بين شبان قريش الذين كانوا سالين سيوفهم ليقتلوه عند خروجه فلم يتعرض له أحد منهم لأنه بحجاب من الله تعالى الذي معه في كل أحواله، ولكن ما كانت الهجرة إلا تنفيذا لما هو في علم الله ولأن خير الإسلام وأهل مكة متوقف عليها، راجع الآية 103 من آل عمران ج 3، كما أن ما قاله بعض من لا خلاق له في الدنيا ولا نصيب في الآخرة ولا حظ له عند الله تعالى من أن حضرة الرسول إنما استخلف عينا على فراشه ليقتله شبان قريش المحيطون بداره ويتخلص منه، وان سبب مصاحبة أبي بكر له ليكيده به، ما هو إلا قول زور وكذب وافتراء وبهت غني عن الرد، إذ لا يصدقه عاقل ولا يقول به جاهل كيف وهو ابن عمه ووزيره ووصيه وصهره وسيفه وعدته للنوازل، وهو منه بمنزلة هرون من موسى، قاتل الله صاحب هذا القيل ومن يصغي إليه، وما هو إلا ناشىء عن محض عداء وخالص فتنه من قلب ضال ولسان مضل، أبعده الله في الدنيا عن الصواب، وشدد له في الآخرة العذاب، وأهانه بالهوان يوم المعاد (ومن يضلل الله فماله من هاد) . هذا والله أعلم وأستغفر الله العظيم.
ثم الجزء الثاني من هذا التفسير المبارك، وهو يحتوي على ست وثلاثين سورة من القرآن العظيم، أو لها يونس وآخرها المطففين، وقد أثبتناها بحسب نزولها الذي استفرق ثلاث سنين وسبعة أشهر وثلاثة عشر يوما، وذلك من 27 رجب سنة 10 من البعثة إلى ربيع الأول سنة 13 منها، فيكون مدة نزول القسم المكي من القرآن العظيم عدا الآيات المدنيات منه اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما، وثلاثة أيام، باعتبار أول النزول في 17 رمضان سنة 41 من ميلاده الشريف والأظهر في 22 منه. ويليه القسم المدني أوله سورة البقرة، وآخره سورة النصر.
والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا. وقد وقع الفراغ منه يوم السبت 1 رجب سنة 1357 الموافق 25 آب سنة 1938 وبهذا التاريخ نفسه صار البدء بالجزء الثالث، ومن الله العناية والتوفيق، والهداية إلى أقوم طريق، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
الفقير إليه عبد القادر ملا حويش الغازي(4/536)
[الجزء الخامس]
[خطبة الكتاب]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله المستحق الحمد لذاته، المحمود بأفعاله وصفاته. والصلاة والسلام على سيدنا محمد أكمل النبيين وخاتم المرسلين، وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأنصاره أجمعين، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد فإني بعد أن ختمت القسم المكي من هذا السفر الجليل- كل في قسمين حسب طباعتهما- شرعت وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق في القسم المدني منه كما وعدت في المقدمة، فأسأله تعالى وهو خير مسئول التيسير والتسهيل والعون على إتمامه والسلوك به إلى أحسن سبيل. وقد ذكرت أن حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم بعد أن وصل إلى المدينة واستقر به الحال ورأى أن منهم من يطفف الكيل والميزان، تلا عليهم سورة المطففين المارة آخر الجزء الثاني، ثم أنزل الله تعالى عليه سورة البقرة، ولهذا شرعت في 1 رجب سنة 1358 الموافق 16/ 2/ 1929 بتفسيرها سائلا الحضرة الإلهية ومتوسلا بسيد البرية أن يمنّ عليّ بإكماله كما تفضل علي بإكمال ما قبله، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
تفسير سورة البقرة عدد 1- 87 و 2
قد ذكرت في الجزأين المكيّين أن العدد الأول للسورة المفسرة بحسب النزول، والذي يليه بالنسبة لما قبله، والأخير بحسب ترتيب القرآن. نزلت هذه السورة الكريمة في المدينة المنورة عدا الآية 281 فإنها نزلت في مكة يوم النحر في حجة الوداع السنة العاشرة من الهجرة، وتسمى سورة الزهراء، وسنام القرآن، وهي أول خير بدأ به أهل المدينة بعد تلاوة المطففين. وما قيل إن المطففين نزلت بالمدينة لا صحة له وإنما قال من قال به بسبب تلاوتها من حضرة الرسول عند قدومه.
وسميت بالبقرة لورود ذكرها فيها، والزهراء لما روى مسلم عن أبي أمامه قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه،(5/3)
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران لأنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان (كل ما يظل الإنسان من سماء وغيرها) أو كأنهما فرقان من طير (الجماعة من الطير) صواف يحاجان عن صاحبهما، اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة (السحرة) . وتسمى سنام القرآن لأن سنام كل شيء أعلاه وكأن هذه التسمية كانت بسبب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أي القرآن أفضل؟
فقالوا الله ورسوله أعلم، قال سورة البقرة، ثم قال أي آيها أفضل؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال آية الكرسي. ومن منع تسميتها بالبقرة لا دليل له، لأن أغلب سور القرآن سميت بما جاء فيها كما بيناه في المقدمة. وهي مئنان وست وثمانون آية، وستة آلاف ومئة وإحدى وثمانون كلمة، وخمسة وعشرون ألفا وخمسمائة حرفا.
لا نظير لها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «الم» (1) تقدم الكلام فيه مفصلا أول سورة الأعراف وما بعدها من السور المبدوءة بالحروف المقطعة من بيان المعنى المراد منه، ومن كونه اسما للسورة، ومن أنه فواتح بعض أسماء الله الحسنى، وأنها سرّ من أسرار الله ورمز بينه وبين حبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم، وغير ذلك فراجعه في ج 1 و 2. قال الشعبي هي سر الله فلا تطلبوه. وقيل في المعنى:
بين المحبين سر ليس يغشيه ... قول ولا قلم للخلق يحكيه
وقد استأنس بعض الشيعة فاستنبط جملة من أوائل هذه السور تدل على خلافة علي كرم الله وجهه بعد حذف المكرّر منها وهي (صراط علي حق نمسكه) وهي من الظرائف. واستنبط الآلوسي رحمه الله صاحب تفسير روح المعاني جملتين تنضمن الأولى الرد على صاحب الجملة المذكورة، وهي (صح طريقك مع السنة) والثانية تشير لما ورد في حق الأصحاب وهي (طرق سمعك النصيحه) إلماءا إليه، وقد ذكرت أنه لا يعلم ماهيتها وما تشير إليه على الحقيقة إلا الله تعالى والمنزلة عليه والراسخون في العلم على أحد القولين بالوقف كما سيأتي في الآية 7 من آل عمران الآتية، لأنها من المتشابه، وكل الأقوال الواردة فيها مجرد اجتهاد ليس إلا:
وكل يدعي وصلا بليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاك(5/4)
«ذلِكَ الْكِتابُ» الذي وعدناك به يا سيد الرسل (أي في الآية 6 من سورة المزمل في ج 1 وهي: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الترادد، ولا يسأم منه تاليه الذي «لا رَيْبَ فِيهِ» ولا شك ولا شبهة بأنه من عند الله، وانه في نفسه حق وإن قال الجاحدون ما قالوا، وهو «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» (2) لأنّهم هم المنتفعون به، فطوبى لأهل التقوى التي هي جماع كل بر، وملاك كل خير، فلو لم يكن لهم فضل غير ما في هذه الآية لكفاهم، وهؤلاء المتقون هم «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» الذي أنبأهم به رسولهم من البعث والحشر والحساب والجزاء والجنة والنار وغيرها «وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ» المفروضة فيؤدونها كاملة من الخشوع والخضوع المشار إليهما في الآية الأولى من سورة المؤمنين في ج 2، ومن كما لها أن تكون بجماعة «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» (3) عن رغبة وطيب نفس طاعة لله تعالى على عياله وشكرا لآلائه عليهم وعلى الأصناف الثمانية الآتي دكرهم في الآية 60 من سورة التوبة الآتية، ومن رغّب القرآن بالإنفاق عليهم «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» من الوحي الجليل «وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» منه على الأنبياء السالفين من كتب وصحف، لأن من لا يؤمن بجميع الكتب وجميع الرسل ليس بمؤمن «وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» (4) أنها آتية لا محالة، لأن من لم يوقن بوقوعها وبما فيها فليس بمؤمن أيضا ولو آمن بالكتب والرسل «أُولئِكَ» الموقنون بما ذكر القائمون به حق القيام إيقانا خالصا وإيمانا محضا «عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (5) الفائزون الناجحون يوم القيامة. ونظير هذه الآية الآية 3 من سورة لقمان في ج 2.
وقد يأتي الفلاح بمعنى البقاء كما قيل:
لو كان حي مدرك الفلاح ... أدركه ملاعب الرماح
(الأسنّة) وأصله الشق، كما قيل: إن الحديد بالحديد يفلح. واعلم أن الله تعالى صدر هذه السورة بهذه الآيات الأربع (عدا الم) لأن بعض القراء عدها مع ما بعدها آية واحدة. في حق المؤمنين، والآيتين بعدها بحق الكافرين، وثلاث عشرة آية بعدهما بحق المنافقين، والبقية في الأحكام والأخبار وغيرها.(5/5)
مطلب الإيمان يزيد وينقص وحال المنافقين وفضيحتهم وأفعالهم:
اعلم أن الإيمان إذا فسر بمقتضى اللغة بمعنى التصديق فلا يزيد ولا ينقص، لأنه لا يتجزأ حتى يتصور كماله مرة ونقصه أخرى، وإذا فسر بلسان الشرع بأنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان، فانه يزيد وينقص، وهذا ما ذهبت إليه مع أني حنفي المذهب، والحنفية لا يقولون بذلك، لأنه مذهب أهل السنة من أهل الحديث المؤيد بقوله تعالى (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) الآية 124 من سورة التوبة الآتية، وقوله صلّى الله عليه وسلم: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. إذ أثبت الزيادة بالآية، ونفى الإيمان أو كماله بالحديث، لأنه وإن كان التصديق نفسه لا يزيد ولا ينقص إلا أن الإيمان يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصها، وعلى هذا فإن من آمن بلسانه ولم يصل ولم يصم ولم يحج ولم يزك فلا يسمى مؤمنا بل مسلما، قال تعالى (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) الآية 15 من الحجرات الآتية، على أن إيمانه هذا المجرد عن العمل قد يدخله الجنة، راجع الآية 82 من سورة الأنعام ج 2، والآيتين 47/ 117 من سورة النساء الآتية، وما ترسدك إليه لتعلم أن مجرد الإيمان كاف لدخول الجنة إذا شاء الله، وهذا معنى جامع بين ظواهر جميع النصوص الواردة بزيادة الإيمان ونقصه، لأنه لا يعقل أن أقول إن إيماني مثل إيمان أبي بكر رضي الله عنه، وان إيمان العارفين كإيمان أحاد الناس الذي تزلزله الشبهة وتعتريه الشكوك عند المناظرة. أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان. وهذا يدل أيضا على أن الأعمال الصالحة من الإيمان، وقدمنا أول سورة فاطر في ج 1 ما يتعلق في هذا البحث فراجعه. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ» تخوفهم وتحذرهم عاقبة أمرهم يا سيد الرسل فهم «لا يُؤْمِنُونَ» (6) وهذه الآية الكريمة في الذين حقت عليهم كلمة العذاب، وذلك لأنه «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ» فلا يعقلون بها «وَعَلى سَمْعِهِمْ» فلا يسمعون بها سماع قبول، وإذا حرموا من هاتين الحاستين فلا يفقهون شيئا، والختم والطبع خلق الظلمة والضيق(5/6)
في الصدر وجعلهما حائلين عن سماع الدعوة النبوية وفهم منافعها ورؤية حقيقتها ما دام مختوما عليها فلا يعونها «وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ» لئلا يروا داعي الحق ولا يلتفتوا لقوله ولا يصغوا لرشده ونصحه لسابق سقائهم «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ 7» لصرفهم هذه الجوارح لغير ما خلقت لها اختيارا ورغبة، فلذلك حرموا منافعها.
قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ» أي بألسنتهم نفاقا ليبينوا لحضرة الرسول وأصحابه أنهم معهم وقد أبطنوا الكفر بذلك والجحود له.
نزلت هذه الآية وما بعدها في المنافقين من المشركين واليهود كعبد الله بن أبي بن سلول ومعقب بن قشير وعبد بن قيس وأضرابهم، ولذلك وصفهم الله تعالى بالنفاق لأن من يقول بلسانه ما ليس في قلبه فهو منافق، ولهذا أكذبهم الله بقوله عز قوله «وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ 8» حقيقة، لأن العبرة للتصديق القلبي لا القول اللساني عند الله تعالى ولهذا كذبهم، أما عندنا فإن من آمن بلسانه عاملناه معاملة المسلمين لأنا لم نطّلع على ما في قلبه، وليس لنا أن نقول هذا مؤمن بلسانه فقط، ومن كفر بلسانه عاملناه معاملة الكفرة ولو كان مؤمنا في قلبه، لأن علم القلب غير منوط بنا، والناس هنا جمع إنسان، وسمي آدم إنسانا لنسيانه عهد ربه، راجع الآية 116 من سورة طه المارة في ج 1، قال:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ... ولا القلب إلا أنه ينقلب
وقال:
وسميت إنسانا لأنك أول الناس ... وأول ناس أول الناس
وقيل لأنه يستأنس به وجميع الناس أناس، قال تعالى (وَأَناسِيَّ كَثِيراً) الآية 49 من الفرقان في ج 1، ويقال للأثى إنسانة، قال:
إنسانة فتانة ... بدر الدجى منها خجل
وقال بعض اللغويين لا مفرد له من لفظه مثل خيل وفلك ورهط وشبهها.
وهؤلاء المنافقون «يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا» يخادعونهم بإظهار ضد ما يضرون فيمكرون بحضرة الرسول وأصحابه «وَما يَخْدَعُونَ» بأقوالهم تلك أحدا «إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» لأن الله تعالى يفضح خداعهم ومكرهم وحيلهم بإخبار رسوله به،(5/7)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
إذ يطلعه على ما في قلوبهم «وَما يَشْعُرُونَ 9» أن الله تعالى يوحي لرسوله حقيقة حالهم وما يسرون من أقوالهم ويعلنون منها، ولا يعلمون أن وبال عملهم هذا راجع عليهم بالفضيحة بالدنيا والعذاب بالآخرة، والذين هذه صفتهم يكون «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك وشبهة. وأصل المرض الضعف والخروج عن حد الاعتدال الخاص بالناس، ولهذا فإن أكثر أهالي دمشق يعبرون عن المريض بالضعيف، وسمي الشك في الدين والنفاق مرضا لأنه يضعف الدين، كما أن المرض يضعف البدن، وكذلك الفكر لما قيل فكر ساعة يهضم عافية سنة، فهذا الذي يحصل لهم يضعف دينهم وأبدانهم، أجارنا الله تعالى من ذلك «فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» أشغل قلوبهم به لأنهم كلما كفروا بآية ازداد كفرهم وكثر بلاؤهم وضاق صدرهم «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» زيادة على مرضهم الذي يحرك في صدورهم ويحز قلوبهم من شدة الحسد للمؤمنين فتشتعل أفئدتهم غيظا «بِما كانُوا يَكْذِبُونَ 10» في أقوالهم الصدرية المذكورة،
ثم بين نوعا آخر من أفعالهم القبيحة فقال جل قوله «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» بتهيج الفتن وإثارة كوامن القلوب من الأحقاد القديمة بين الناس مما يؤدي لقتالهم بعضهم مع بعض، وذلك أنهم يذكرون ما وقع بين أجدادهم من الأحداث ليغتاظ أحقادهم، فيتكلمون بما معناه الانتقام، فتثير ثائرة المظلومين على الظالمين بما يؤدي لوقوع القتال بينهم بسبب إثارة الضغائن القديمة. والإفساد خروج الشيء عن استقامته والانتفاع به، وضده الإصلاح «قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ 11» بعملنا لأنا نداري به المؤمنين والكافرين معا، فكذبهم الله بقوله عز قوله «أَلا» تنبيه ليتيقظ المخاطب «إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ» لأنهم يجالسون الكفرة ويفشون لهم أسرار المؤمنين ويغرونهم عليهم.
والمدارة ليس كما زعموا لأنها جائزة إذا كانت لمنفعة مشروعة كالإصلاح بين الناس، على أن لا تضر بالدين، أما إذا كانت غير جالبة لمنفعة ولا دافعة لمضرة فتكون من قبيل بيع الدين بالدنيا، وذلك حرام، لأنها تكون مداهنة راجع الآية 9 من سورة نون في ج 1، وان عملهم ذلك ليس من هذين القسمين وإنما هو بقصد إثارة الفتن ونقض الجروح القديمة وتهيبج الخواطر بين الناس مما قد يؤدي إلى القتل،(5/8)
لذلك حقق الله فيهم الإفساد بدليل قوله (ألا) المركبة من همزة الاستفهام ولا النافية، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد التحقيق. ثم أكده بأن المفيدة للتأكيد أيضا، فظهر (إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) حقا بفعلهم ذلك «وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ 12» بأن فعلهم هذا يوجب تعذيبهم عند الله لما يترتب عليه من المفاسد بين المؤمنين وانهم قد يستخفون بذلك كاستخفاف الذين أشاعوا الفاحشة وصاروا يتشدقون بها حتى أنزل الله فيهم (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) الآية 15 من سورة النور الآتية، وما قاله بعض المفسرين من أنهم لا يشعرون أن عملهم ذلك إفساد، لا يناسب المقام، ويدفعه كلمة الاستدراك التي جيء بها هنا، بخلاف الآية الأولى في المخادعة، إذ لم يدخل عليها الاستدارك، لاحتمال أنهم يظنون أن مخادعتهم وإبطانهم الكفر وإظهار الإيمان تخفى على رسول الله وعلى المؤمنين، ولا يعلمون أن الله تعالى يخبر رسوله بها، وهو يخبر أصحابه، فبين الآيتين فرق عظيم في اللفظ، وبون شاسع في المعنى، ولأن الذي يتكلم بالفساد ولا يعلم أنه فساد لا يؤاخذ مؤاخذة العالم بذلك، قال:
وللزنبور والبازي جمعا ... لدى الطيران أجنحة وخفق
ولكن بين ما يصطاد باز ... وما يصطاده لزنبور فرق
وهذا إما ناشىء عن جهل مركب اعتقدوا بسببه الإفساد إصلاحا لما تكاثف على قلوبهم من رين المعاصي فوقعوا في محنة الجهل، كما جاء في قوله:
يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
وأما ما جاء على حسب عادتهم في الكذب والبهت الذي سبب لهم بيع الآخرة بالدنيا فيقال لأمثالهم:
أيا بايعا هذا ببخس معجّل ... غبنت ولا تدري إذا كنت تعلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
راجع الآية 59 من سورة الروم في ج 2. قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ» من المهاجرين والأنصار الذين بينكم، إيمانا صادقا مخلصا صرا وعلانية «قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ» الجهلة خفيفو العقول قليلو الرويّة، وهذا مما يقولونه فيما بينهم عقد ما يتذاكرون فيما يأمرهم به حضرة(5/9)
الرسول، أما بين المؤمنين فإنهم يسمون أنفسهم بالإيمان، ولهذا أخبر الله عنهم بقوله جل قوله «أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ» لا المؤمنون «وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ 13» ما أعده الله تعالى لهم من العذاب على وصمهم المؤمنين بالجهل والخفة، مع أن السفاهة متحققة فيهم كالإفساد، ويقال هنا ما قلناه هناك من التعليل، وسماهم الله سفهاء وهم عند أنفسهم وقومهم عقلاء ورؤساء لإبطال زعمهم واعتقادهم بأن ما هم عليه حق وغيره باطل، وقلب الكلام عليه لركوبهم طريق الباطل، ومن ركب متن الباطل كان سفيها، سخيف العقل، خفيف الحلم، وقد فضحهم الله تعالى إذا وصمهم بعدهم الإيمان والإفساد، وعليهم بعدم العلم وثبوت السفاهة ليتركوا الكذب وليعترفوا أن الله تعالى مطلع على خوافيهم، وأنه أطلع رسوله عليها، ورسوله أخبر أصحابه حتى فشا ما يكتمونه لدى العامة. ولما لم ينجع بهم شهر بهم رابعا بقوله عز قوله «وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا» بالله ورسوله وكتابه مثلكم وصرنا سواسية بالإيمان والتصديق «وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ» كهنتهم وقادتهم ككعب بن الأشرف المدني وأبو بردة الأسلمي وعبد الدار الجهني وعوف ابن عامر الأسدي وعبد الله بن السواد الشامي «قالُوا» لهم لا تصدقوا ما بلغكم عنا من الإسلام «إِنَّا مَعَكُمْ» ولا زلنا على دينكم «إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ 14» بمحمد وأصحابه، لأنا نظهر لهم الإيمان سخرية بهم لنقف على سرائرهم ونخبركم بما يحدثونا عن دينهم ونبيّهم «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» فيجازيهم على فعلهم هذا، وما يصدر منهم من الخداع والاستهزاء، وقد سمى الله الجزاء استهزاء بالمقابلة، قال ابن عباس يفتح لهم باب الجنة فإذا انتهوا إليه وهموا أن يدخلوه عمدت الخزنة فسدته عنهم وردوا إلى النار، وذلك ليسخروا بهم في الآخرة جزاء سخريتهم بالمؤمنين في الدنيا، وهذا مثل ما جاء عن ضحك الكفار من المؤمنين في الدنيا ومقابلتهم في الآخرة المار ذكره في الآية 29 من سورة المطففين في ج 1، «وَيَمُدُّهُمْ» يزيدهم لأن المدّ أصله الزيادة في الشرّ غالبا والإمداد مثله إلا أنه يأتي غالبا في الخير أي يمهلهم ويتركهم «فِي طُغْيانِهِمْ» ليزدادوا إثما وبغيا، والطغيان مجاوزة الحد «يَعْمَهُونَ 15» يترددون في الحيرة والضلال، والعمه عمى القلب، وهو(5/10)
أسد من عمى العين لأن فاقد البصر ينتفع ببصيرته، وعادم البصيرة لا يفيده بصره «أُولئِكَ» الموصوفون بالمثالب الأربع المذكورة هم «الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى» واستبدلوا الكفر بالإيمان والحيرة بالرشد والغش بالنصح «فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ» بل خسرت وخابت صفقتهم خسرانا وخيبة عظيمتين، فضلوا «وَما كانُوا مُهْتَدِينَ 16» في أقوالهم وأفعالهم، لأنهم أضاعوا رأس ما لهم وهو الإيمان، ومن أضاع رأس ماله فهو للربح أضيع. ولا يقال إنهم لم يكونوا على هدى لأنهم كانوا متمكنين منه، كأنه في أيديهم، لكنهم رغبوا عنه وتركوه باختيارهم، ومالوا إلى الضلال رغبة فيه، وفعلوه طوعا، ومالوا إليه، فكأنهم عطلوه قصدا واستبدلوا به ضدّه، ولهذا وصفهم الله تعالى بقوله «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً» لينتفع بها «فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» جمع الضمير مع أن ما قبله مفرد على حد قوله تعالى (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) الآية 69 من سورة التوبة الآتية، إذ يجوز وضع الذي موضع الذين «وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ» متكاثفة ظلمة الليل وظلمة المطر وظلمة السحاب، لأن من كان في نور وتركه أو أو كان في محل مضيء وخرج منه إلى مظلم اشتدت الظلمة في عينيه أكثر مما لو لم يكن قبل في النور، ولهذا قال تعالى «لا يُبْصِرُونَ 17» شيئا لما يجلهونه من الظلمة بعد ذلك النور، فيصيرون لا يرون.
مطلب في المثل لماذا يضرب وما هو الرعد والبرق وضمير مثله:
والمثل تشبيه الشيء الخفي بالشيء الجلي لمناسبة وجامع، ليتأكد الوقوف على ماهية ذلك المشبه نهاية في الإيضاح، وشرطه أن يكون فيه غرابة من بعض الوجوه وقد ضرب الله تعالى هذا المثل بالنار لثلاث حكم: الأولى أن المستضيء بالنار مستضيء بنور غيره، فإذا ذهب بقي هو في الظلمة، وكذلك هؤلاء لأنهم لما أقروا بالإيمان من غير اعتقاد في قلوبهم كان إيمانهم مستعار فلم ينتفعوا به، لأن العارية مستردة. الثانية احتياج النار دائما إلى مادة الوقود، فإذا انقطع طفئت، وكذلك الإيمان محتاج أبدا إلى مادة الاعتقاد والعمل ليدوم، وإلا فينقطع ولم تبق فائدة فيه الثالثة احداث الظلمة بعد النور أشد من الظلمة التي لم يسبقها نور، ووجه(5/11)
تشبيه الإيمان بالنور أنه أبلغ شيء بالهداية إلى المحجّة القصوى والطريق المستقيم وإزالة الحيرة، وكذلك الإيمان فهو الطريق الواضح إلى الله، ووجه تشبيه الكفر بالظلمة لأن الضال عن الطريق فيها لا يزداد إلا حيرة إذ لا يرى كوكبا يستهدي به، ولا جبلا يستقبله، ولا علامة يركن إليها، وكذلك الكفر لا يزداد صاحبه بالآخرة إلا حيرة إذ لا دين يعتمد عليه، ولا عمل صالح يرجو ثوابه، ولا شافع يأمل شفاعته، فيزداد ندمه كما تزداد الظلمات بمجيئها بعد النور. وهؤلاء المضروب بهم هذا المثل «صُمٌّ» عن سماع الحق «بُكْمٌ» عن النطق به «عُمْيٌ» عن رؤيته، قد تقطعت قلوبهم وذهب إدراكها لأنهم لما كانوا في الدنيا يصدق عليهم قول القائل:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء كلهم أذن
وهؤلاء كذلك كتّامون للخير، مذيعون للشر، سماعون للإثم، نطاقون به، بصيرون فيه «فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ 18» عن نفاقهم واخلاقهم وكفرهم، لأن الشيطان زيّنه لهم، وان رؤساءهم حبّذوه إليهم ورغبوهم فيه. واعلم أنه لا يوجد في القرآن غير ست آيات مبدوءة بحرف الصّاد، هذه والآية 124 الآتية والسادسة من الفاتحة والأولى من ص و 19 من الأعلى ج 1 و 152 من الشورى ج 2.
ثم مثل لهما مثلا آخر أبلغ من الأول، فقال عز قوله «أَوْ كَصَيِّبٍ» هو كل ما نزل من الأعلى إلى الأسفل، والمراد به هنا المطر، أي أو مثلهم مثل مطر نازل «مِنَ السَّماءِ» وهذا لا ينافي القول بأن المطر ينعقد من أبخرة الأرض والمياه، لأن كل ما علاك فأظلك فهو سماء «فِيهِ ظُلُماتٌ» تقدم معناها في الآية 17، «وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ» الذي يسمع من اصطدام السحاب، فهو الرعد والبرق هو الشعلة النارية التي تخرج منه بسبب الاصطدام أو أمر آخر يحدثه الله تعالى عند تراكم الغيوم واصطكاكها بعضها ببعض «يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ» أي أطرافها من إطلاق الكل وإرادة الجزء «فِي آذانِهِمْ» خوفا وفزعا «مِنَ» سماع «الصَّواعِقِ» اسم لكل هائل مسموع أو مشاهد، وعلى الأكثر أنها هنا قصفة رعد عبارة عن قطعة نارية، وقد ينقض معها قطعة حديد نارية لا تصيب شيئا إلا أهلكته لشدة(5/12)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
صوتها أو نارها أو قوة صدمتها أو حدة ما انفصل منها، وهي سريعة الخمود، ولهذا البحث صلة في الآيتين 12/ 13 من سورة الرعد الآتية «حَذَرَ الْمَوْتِ» مفعول لأجله أي خشية أن يموتوا من صوتها أو مما ينفصل منها «وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ 19» عذابه محيق بهم لا يفلت منه أحد، لأن الإحاطة تكون من الجهات الأربع، وقد تكون من الشر أيضا «يَكادُ الْبَرْقُ» من شدة ضيائه «يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ» يختلسها بسرعة لشدة نوره وقوته، وتراهم «كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ» بهداية نوره «وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ» غاب عنهم نور البرق وفقدوا ضياءه «قامُوا» وقفوا متحيّرين لعدم اهتدائهم إلى الطريق من تكاثف الظلمات «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ» لشدة صيحة الصواعق وقوة نور البرق عند وميضه «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 20» لا يعجزه شيء، شبه الله تعالى الكافرين والمنافقين بقوم ماشين في مفازة صعبة في ليلة مظلمة ممطرة مرعدة مبرقة، لا يتمكنون من متابعة المشي فيها، ووجه الشبه هو أن المطر كالقرآن، لأن فيه حياة القلوب كما أن في المطر حياة الأرض، والظلمات ما جاء فيه من ذكر الكفر والنفاق والشرك، والرعد ما خوفوا فيه من الوعيد والتهديد، والبرق هو ما فيه من الهدى والبيان والوعد وذكر الجنة، فالكافرون والمنافقون يسدّون آذانهم برءوس أصابعهم لئلا يسمعوه فتميل إليه قلوبهم، وإن فعلهم هذا أوجب بخط الله تعالى عليهم، ولذلك فإنه سيحيط بهم عذابه في الآخرة كإحاطة الظلمة المذكورة التي صيّرتهم متحيّرين في الدنيا، فيأتيهم العذاب من كل مكان يترددون فيه متحيرين. انتهت الآيات الواردة في حق المنافقين.
ثم أنزل الله الآيات المتضمنة أحكاما وأخبارا متنوّعة، فقال جل قوله «يا أَيُّهَا النَّاسُ» المكلفون «اعْبُدُوا رَبَّكُمُ» وحده، واعلم أن جملة (يا أَيُّهَا النَّاسُ) كررت في القرآن 14 مرة في البقرة، و 3 في النساء، و 2 في يونس، و 3 في الحج، و 2 في فاطر، وواحدة في لقمان، وواحدة في الحجرات، وان غالب ما يأتي في القرآن العظيم من لفظ العبادة يراد به التوحيد، لأن العبودية التذلل والعبادة غايته، ولا يستحقها إلا الله تعالى «الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ» خلق «الَّذِينَ(5/13)
مِنْ قَبْلِكُمْ»
من الأمم البائدة والموجودة «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 21» عذابه وتنجون من عقابه، وهو الإله العظيم «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً» وطاء تستقرون عليها «وَالسَّماءَ بِناءً» لتستظلوا بها كالسقف المرفوع والبيت المعمور الذي فيه ما يحتاجه البشر والطير والحيوان «وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ» المتنوعة المختلفة في اللون والطعم والشكل والرائحة وجعلها «رِزْقاً لَكُمْ» تقتانون به «فَلا تَجْعَلُوا» أيها الناس لهذا الرب الكبير الذي تفضل عليكم بتلك الأشياء وغيرها لتشكروه عليها أداء الحقّ إنعامه بها عليكم، وأنتم على العكس تكفرون به وتختلفون «لِلَّهِ أَنْداداً» أمثالا وأشباها من صنع أيديكم، وخلق ربكم القائل (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 96 من الصافات ج 2، أي كيف تعبدونها وتتخذونها أربابا من دونه «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ 22» أنها لا تستحق العبادة لأنها لا تخلق ولا ترزق ولا تضر ولا تنفع، فلا يليق بكم أن تشبهوها بإلهكم الفاعل لذلك كله، الرحيم بكم وبما ملكت أيمانكم، الذي لا مثيل له ولا نظير «وَإِنْ كُنْتُمْ» أيها الناس «فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا» محمد بن عبد الله بن عبد المطلب من القرآن الذي هو كلامنا الأزلي بواسطة أميننا جبريل «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ» وهذا من باب التعجيز وإلقامهم الحجر على حد قوله تعالى (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) الآية 257 من سورة الأنعام المارة في ج 2، أي إذا شككتم به فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن الذي يتلوه عليكم رسولنا بفصاحتها وبلاغتها وإعجازها ودلالتها على المعاني الكثيرة من رجل منكم مثل محمد الذي لا يحسن الكتابة والقراءة ولم يتعلم من أحد لأنكم عرب مثله وتدعون المعرفة. وأنى لهم ذلك إذ لا يستطيعون الإتيان بمثل شيء من القرآن ولو اجتمعوا واستعانوا بمن شاءوا، هذا على أن الضمير (مِنْ مِثْلِهِ) عائد على محمد صلّى الله عليه وسلم وعلى قول من أعاده من المفسرين على القرآن، لأن مجرى الكلام فيه، لأن الله تعالى يقول (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) ولم يقل في عبدنا ليعود الضمير إليه، ولقوله في سورة يونس (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) الآية 38، أي بالإعجاز والاشتمال على طرفي الإيجاز والإطالة في الفصاحة والبلاغة، من أنه تارة يأتي بالقصة(5/14)
باللفظ الطويل ولا يمكن للبشر أن يسقط منه حرفا واحدا لأنه قد يخل في المعنى، ثم يعيدها باللفظ الوجيز، ولا يستطيع البشر أن يزيد حرفا واحدا فيه ولا يخل بالمعنى الأول، وهكذا جميع القرآن لا يقبل زيادة حرف ولا نقصه، وان أساليبه تفارق أساليب الكلام، وأوزانه تخالف أوزان الشعر، ونظمه يباين نظم الخطب والرسائل، فقد جاء على أسلوب بديع ونظم عجيب، ولهذا تحدثوا فيه وعجزوا عنه وتحيروا فيه واعترفوا بفضله، وهم معدن البلاغة ومنبع الفصاحة وفرسان البيان.
ولا يقال إن من في هذه الآية زائدة إذ لا يستقيم المعنى إلا بها إذا أعدت الضمير على سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم على الوجه الأول، وإذا أعدته على المنزل على محمد كان حرف الجر مؤكدا، وقد أشرنا أول سورة البلد، وفي الآية 12 من سورة الأعراف ج 1، إلى أنه لا يجوز القول بزيادة شيء في القرآن، كما لا يجوز نقص شيء منه حتى حرف/ ما/ التي بعد إذا مثل (إِذا ما جاؤُها) وغيره لا تعد زائدة، إذا أنها تبقى في الإثبات ثم النفي لأنهم لم يأتوها باختيارهم بل سبقوا إليها فسرا، راجع الآية 27 من سورة فصلت في ج 2، والآية 97 من سورة المائدة، والآيتين من آخر سورة التوبة الآتيتين، فهي وإن كانت للثبوت فقد أتى بالنفي فيها ليبقى ثم أيضا، أي أنهم جنحوا عن اليقين إلى التقوى، وذلك شأن المؤمن الورع «وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ» من جحافل العرب وأولياء أصنامكم الذين تستشهدون بهم على أنها آلهة «مِنْ دُونِ اللَّهِ» ليشهدوا بأنكم تأتون بمثله «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 23» في دعواكم أن محمدا يأتي بالقرآن من نفسه أو بتعليم من غيره من البشر، والمراد من هذا إرخاء العنان والاستدراج إلى غاية التبكيت، كأنه قيل قد تركنا إلزامكم بشهداء الحق وملنا إلى شهدائكم المعروفين بالذبّ عنكم، فإنهم أيضا لا يشهدون لكم على ذلك حذرا من اللائمة، وأنفة من الشهادة الباطلة، وخوفا من أن يصموهم بالكذب، لأن أمر إعجازه ظاهر، وعجز طوق البشر عن الإتيان بمثله واضح، «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا» بأن تأتوا بسورة مثل هذا القرآن أو بسورة من مثل محمد وقد عجزتم عن ذلك قبلا إذ تحديناكم بسورة واحدة أو بعشر صور منه كما في الآية 39 من سورة يونس والآية 11 من سورة هود المارتين في ج 2، وتحدينا الخلق كافة(5/15)
بالإتيان بمثله في الآية 89 من الإسراء ج 1، أو بحديث مثله كما في الآية 34 من سورة الطور في ج 2، ولم يستطع أحد أن يأتي بشيء من ذلك، ولهذا فإنكم عاجزون أن تفعلوا «وَلَنْ تَفْعَلُوا» أبدا في الحال ولا في الاستقبال ولن تقدروا على الإتيان بشيء مثله البتة، وإذا كان كذلك فتحققوا أنكم مبطلون في دعواكم أن محمدا يأتي بالقرآن من نفسه أو من جهة الغير، وان ما تعبدون من الأوثان ليسوا بآلهة «فَاتَّقُوا النَّارَ» أيها الناس مصير المبطلين «الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» ومن جملتها أصنامكم وهذه نار مخصوصة والله أعلم، لأنه كما أن الجنة أنواع فالنار كذلك. واعلموا أن لا وقاية لكم من هذه النار إلا أن تؤمنوا بالله وحده وتصدقوا رسوله وتذعنوا لما جاءكم به، وإن أصررتم على كفركم فمأواكم تلك النار، لأنها «أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ 24» الذين يموتون كفارا، هذا ولا بد لك أيها القارئ من مراجعة الآيات الأنفة الذكر من يونس وهود والإسراء والطور، لتعلم أن لا ناسخ ولا منسوخ بينها وبين الآية المارة، وتعلم التوفيق بينهما خلافا لما قاله بعض المفسرين. قال تعالى «وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» مع إيمانهم ورجاء ثواب ما عملوه من الخير واعتقادهم أن الله مجازيهم عليه بأحسن منه إذا أخلصوا لله وصبروا على ما أصابهم في هذه الدنيا «أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» في الآخرة، وهذه الأنهار تجري بلا أخدود بخلاف أنهار الدنيا الجارية في الأودية، وأصحاب هذه الجنات «كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً» وطلبوها ثانيا.
مطلب في ثمار الجنة ونسائها وأهلها وضرب المثل والعهود التي أخذها الله على خلقه:
واعلم أن الطلب في الجنة عبارة عن خطرة في القلب، لأن الله تعالى لا يحيجهم إلى التكلم كرامة لهم «قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ» فيظنونها هي نفسها لكمال التشابه في اللون والشكل والحجم والرائحة والطعم «وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً» كأثمار الدنيا من حيث الاسم فقط والكنى ليس إلا ولكنها مختلفة في الطعم والحجم واللون والشكل والرائحة، فالفرق بين ثمار الدنيا والآخرة عظيم كالفرق بين الدنيا(5/16)
والآخرة، وفضلا عن هذا فإن أثمار الآخرة لا فضلات لها ولا تفل فيها ولا قشور ولا بزر، وكذلك سائر مأكولات الآخرة ومشروباتها «وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ» من الأوساخ والأرجاس المادية والمعنوية من كل ما يقع عليه النظر والشم واللمس وما يصل إلى السمع، فلا يحضن ولا يبلن ولا ينفسن ولا يتغوطن ولا يعصين أزواجهن، وأمثال هذا مما هو عند نساء الدنيا، مبرآت عن كل خلق سيء، متحليات بكل شيء حسن «وَهُمْ فِيها خالِدُونَ 25» لا يحولون عنها أبدا، حياة سعيدة لا موت فيها ولا بعدها. روى مسلم عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يبزقون، يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس، طعامهم جشاء (أي يخرج فضوله في تنفس المعدة) ورشح كرشح المسك، وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ان أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم أشد كوكب دريّ في السماء إضاءة لا يبصقون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يبولون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة (العود الذي يتبخر به) ، وأزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، وعلى صورة أبيهم آدم عليه السّلام، ستون ذراعا في السماء. وفي رواية لكل واحد منهم زوجتان يرى مخّ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، لاخلاف بينهم، ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، ويسبحون الله بكرة وعشية. ورويا عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إن للمؤمن في الجنة الخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا. وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال قلت يا رسول الله مم خلق الله الخلق؟ قال من الماء (راجع الآية 45 من سورة النور الآتية فيما يتعلق في الخلق) قلت الجنة ما بناؤها؟ قال لبنة من فضة ولبنة من ذهب، وبلاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا ييأس، ويخلد ولا يموت، ولا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم، فيزدادون حسنا وجمالا، فيرجعون إلى أهليهم وقد(5/17)
ازدادوا حسنا وجمالا، فيقولون لهم أهلوهم والله لقد ازددتم حسنا وجمالا فيقولون وأنتم والله لقد ازددتم حسنا وجمالا. وأخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن في الجنة مئة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة، ومن فرقها يكون العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس. وقد مر ما يتعلق بوصف أهل الجنة في الآية 13 من سورة المطففين في ج 2 فراجعها. قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما» مطلق مثل «بَعُوضَةً» بقة صغيرة جدا «فَما فَوْقَها» من الحشرات، لأن القصد منه الاعتبار والاتعاظ والاتباه لا الكبر في ضرب المثل وصغره. واعلم أن كلمة بعوضة لم تكرر في القرآن، وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا ما يريد الله يذكر هذه الأشياء، الخسيسة كالنمل والنحل والعنكبوت والذباب حتى يضرب أيّها الأمثال، فقال تعالى ردا عليهم إن الله لا يترك ضرب المثل بذلك، ترك من يستحي أن يتمثل بها لحقارتها استحياء [الحياء تغير وانكار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به أو يعزم عليه، وهذا لا يجوز على الله تعالى] ولكن لما كان الترك من لوازمه عبر عنه به وجاء بلفظ الاستحياء على سبيل المقابلة، لأن الكفرة على ما قيل إنهم هم القائلون ذلك، وانهم قالوا لا نعبد إلها يذكر هذه الأشياء، وأنهم قالوا أما يستحي
رب محمد أن يضرب الأمثال بها، وأطباق الجواب على السؤال فنّ من فنون البديع المستحب استعماله في الكلام، والبعوض خلق عجيب له خرطوم مجوف يغوص في جلد الفيل والجاموس، وقالوا إن الجمل قد يموت من قرصه، فلا غرو أن يضرب الله به المثل في الصغر، كما يضرب المثل في الجمل في الكبر، راجع الآية 18 من سورة الغاشية في ج 2. وقد أهلك الله تعالى بها من الجبابرة العظام كنمروذ وغيره، وقد ضرب صلّى الله عليه وسلم المثل للدنيا بجناحها بقوله لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء والجناح دونها، والعرب تضرب الأمثال بالمحقرات فيقولون هذا أحقر من ذرة، وأجمع من نملة، وأطيش وألح من ذبابة، والقرآن نزل بلغتهم فلا معنى لاستبعادهم ذلك. ولم يقل تعالى(5/18)
فما دونها اكتفاء بأحد الشيئين عن الآخر على حد قوله «سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ» الآية 82 من سورة النحل في ج 2، وهذا عبارة عن مثل ضربه الله تعالى الدنيا وأهلها، فإن البعوضة لا تزال حية ما بقيت جائعة، فمتى شبعت ماتت، وكذلك أهل الدنيا إذا امتلئوا منها هلكوا، وتنطبق على أعمال العباد إذ لا يمتنع أن يذكر منها ما قل وكثر وليجازوا عليه ثوابا وعقابا، راجع الآيتين الأخيرتين من سورة الزلزلة الآتية. وليعلم أن الحياء غير الخجل ومعناه كما مرّ وهو مركب من الجبن والعفّة والخجل حيرة النفس لفرط الحياء، ولا يكون إلا بعد صدور أمر زائد لا يريده القائم به بخلاف الحياء الذي هو انقباض النفس عن القبائح، فإنه قد يكون مما لم يقع فيترك لأجله «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ» ضرب المثل بتلك الحيوانات الحقيرة هو «الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» لا يجوز إنكاره، لأنه من الأمور المستحسنة عقلا المتعارفة عندهم، ولا مناقشة فيما يذكره الله تعالى «وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» والمنافقون وأمثالهم «فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» وهذا من قبل الاعتراض على الله تعالى، وليس لمخلوق أن يعترض على خالقه، لهذا فإنه تعالى وتقدس «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً» من المكذبين فيزدادون كفرا «وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً» من المؤمنين فيزدادون به إيمانا «وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ 26» الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المستغربين ما ضرب الله به مثلا من تلك الحشرات من حيث لا محل للاستغراب والإمكان، لأن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى وادناء المتوهم من المشاهد، فإن كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به كذلك، وإن كان حقيرا كان المتمثل به حقيرا أيضا، ألا ترى أن الحق لما كان واضحا جليا مثل له بالضياء والنور، وان الباطل لما كان غامضا مثل له بالظلمة، ولما كان حال الآلهة المتخذة للعبادة لا أحقر منها مثل لها ببيت العنكبوت الذي لا أومن منه، تأمل. ثمّ وصف الله تعالى هؤلاء الفاسقين بقوله عز قوله «الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ» الذي أخذه عليهم في عالم الذر، وهو الإقرار بربوبيته كما مرّ في الآية 170 من الأعراف في ج 1، وهو غير العهد الذي أخذه على الأنبياء بتصديق محمد صلّى الله عليه وسلم في الآية 7 من سورة الأحزاب الآتية،(5/19)
وغير العهد الذي خص به العلماء في الآية 187 من آل عمران الآتية، راجع هذه الآيات والآية 81 من آل عمران أيضا تقف على تمام هذا البحث «مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ» عقده وإبرامه، وتؤكده عليهم بقوله (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وقوله في حق الرسول (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) وفي هذه الآية إشارة إلى أن الكفرة واليهود بعد أن يتعاهدوا مع حضرة الرسول ينقضون عهدهم معه، وقد كان ذلك كما سيأتي في محله، وهذا من قبيل الإخبار بالغيب، وفيها تحذير من نقض العهد وتقبيح لناقضه، وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا البحث في الآية 91 من سورة النحل المارة في ج 2، والآية 34 من سورة الإسراء في ج 1، فراجعهما «وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ» من الإيمان بالرسل السالفين جميعهم «أَنْ يُوصَلَ» ذلك الإيمان المتتابع بمحمد صلّى الله عليه وسلم لأن الله تعالى أخذ العهد على خلقه أن يؤمنوا برسله إيمانا متصلا واحدا بعد واحد، فلم يمتثلوا أمر الله ولم يؤمنوا بجميع رسله، ومن أهل زمانه من اليهود، ولم يؤمنوا به كما لم يؤمنوا بعيسى قبله، وكذلك النصارى لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم، مع أنه أخذ العهد على كل ملّة من قبل نبيها أن تؤمن بالرسول الذي
يخلفه، راجع الآية 173 من الأعراف في ج 1 تقف على هذا أيضا «وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» علاوة على نقضهم عهد الله وعهد رسولهم وقطعهم ما أمر الله بوصله، لأنهم يقطعون السبيل ويسلبون الناس ويعملون المعاصي ويمنعون غيرهم من الإيمان بالله ورسوله «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم وهذا شأنهم «هُمُ الْخاسِرُونَ 27» المغبونون لاستبداهم النقص بالوفاء، والقطع بالوصل، والفساد بالإصلاح، والعقاب بالثواب. قال تعالى «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً» نطفا جامدة ميتة في أصلاب آبائكم «فَأَحْياكُمْ» في أرحام أمهاتكم عند قذف النطفة فيها، فكونتم وصورتم، حتى إذا أكمل خلقكم وانتهى أمد وجودكم في الرحم ولدتم وترعرعتم وكبرتم «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» بعد استيفاء آجال مكثكم في الدنيا «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» ثانيا بعد انتهاء أجل لبثكم في البرزخ من قبر وغيره «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 28» فتحضرون إلى الموقف في محل الحشر إذ تحاسبون على ما كان منكم وتجاوزون عليه الخير بأحسن منه، والشر بمثله، وهذا الاستفهام استفهام تعجب من حالهم وإنكار(5/20)
لأحوالهم، أي كيف تكفرون بالله بعد نصب هذه الدلائل، ووضوح هذه البراهين، وسطوح تلك الحجج على وحدانيته جل شأنه، ثم تشركون به غيره، وتعبدون معه أوثانا لا تستحق العبادة؟ وان هذه الأشياء التي خصكم الله بها لا بد أن تدعوا إلى الإيمان لا إلى الكفر، وقيل في المعنى:
أكفر بعد ردّ الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا
مطلب في المخترعات الحديثة والتحليل والتحريم وبحث في الخلق وقصة الجنّ ومغزى اعتراضهم:
قال تعالى «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» من حيواناتها ونباتها ومائها ومعدنها. تشير هذه الآية إلى أنه ينبغي للإنسان أن لا يقف عند شيء دون شيء مما في هذه الأرض لأن من تتبع ما فيها قد يعثر على ما لا يحلم به البشر، مصداقا لقوله تعالى (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) الآية 9 من سورة النحل في ج 2، وان معظم الأشياء المبتكرة قامت وظهرت من حين العدم إلى الوجود بالعثور، لأن هذه السيارات والطيارات والراد والاسلكي وغيرها لم يتصورها عقل البشر رأسا، وإنما كانت بسبب صنع أشياء دونها، وعند ما يرى شأنه توفق لعملها طمحت نفسه إلى فعل ما هو أحسن، فيعثر عليه زريجا، فيظهر له ما هو أحسن، ثم يشتغل بتحسينه فيطلع على ما هو أحسن، وهكذا تدرجوا في الصنائع حتى نوصوا إلى صناعات بديعة وأعمال عجيبة، فاخترعوا البنادق سنة 1646 م والمدافع سنة 1886، واكتشف الفحم الحجري في انكلترا سنة 1924 م، وزيت الكاز للتنوير سنة 1826، والمكرسكوب في جرمانيا سنة 1621، وأول من صنع الأوراق المالية في أمريكا سنة 1740 م واكتشفوا ملعبا بناه الرومان سنة 69 قبل الميلاد، وسيكتشفون ويخترعون ما هو لحبس بالحسبان، ولا يخطر على العقل، راجع الآية من سورة الحجر والآية 38 من سورة النحل في ج 2. هذا وفي هذه الآية إعلام بأن الأصل في الأشياء الحل، وعليه فإن جميع ما في هذه الأرض هو حلال للبشر، لأن الله تعالى قال (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) إلخ، وإذا كان ما خلق فيها هو للبشر فلا يحرم عليهم منها شيء إلا ما ورد النص بتحريمه، فيكون تناوله حراما، وإلا فحلال(5/21)
كله، وعليه فإن التبغ والتنباك وما شابهها مما لم يرد نص بتحريمه حلال، وما جاء من أقوال العلماء بتحريمه فمجرد اجتهاد بداعي أنه مضر، وإلا فلا مستند لهم بذلك، ومن المعلوم أن لا اجتهاد في مورد النص، أما إذا تحقق ضررهما لبعض الأشخاص فهو من هذه الحيثية قد يكون تناولهما حراما، وأحسن ما قيل فيهما إنه تعتريهما الأحكام الخمسة، على أن تقيد الحرمة بالمضرة المحققة فقط، لأن كل ما يضر هذه البنية التي أمرنا الله بمحافظتها للقيام بأمور دينه والذب عنه حرام تناوله مهما كان، حتى الخبز والماء والظل على شرط تحقق المضرة بإخبار طبيب أمين حاذق موقن، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك، لأن العلماء ليس لهم أن يحرّموا أو يحللوا شيئا إلّا بدليل قطعي، لأن التحليل والتحريم من خصائص الشارع والشارع عندنا هو الله تعالى ورسوله فقط، لا دخل للعلماء والربانيون بذلك. قال تعالى «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ» بعد خلق الأرض وقبل دحرها وقد ذكرنا ما يتعلق في بحث الاستواء في الاية 5 من سورة طه وفي الآية 45 من سورة الأعراف في ج 1 والآية 4 من سورة يونس فراجعها «فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ» ثم دحا الأرض كما بيناه في الآية 30 من سورة النازعات ج 2، وضمير سواهن يعود على السماء باعتبار الجنسية أو أنها جمع سماة، والأحسن أن يكون مبهما يفسره قوله تعالى سبع سموات «وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (29) بخلقه، ولماذا خلقه، ولمن خلقه، ومن المعلوم أن العطف بالواو لا يقتضي ترتيبا ولا تعقيبا، فلا يقال إن هذه الآية تقضي بخلق الأرض ودحوها قبل السماء، تدبر. ثم طفق جل شأنه يقص على رسوله ما هو غيب عليه فقال عز قوله «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» بدلا منكم ورافعكم إليّ وذلك لما ظهر الفساد والإفساد بقتل بعضهم في الأرض من الجن بعضهم على بعض حينما كانوا يسكنونها وعاشوا فيها فسادا بقتل بعضهم بعضا، بعث الله فريقا من الملائكة وعلى رأسهم إبليس الذي لجأ إلى الله بذلك متبرئا من بغيهم وطغيان بعضهم على بعض، وقد تظاهر بالصلاح والإصلاح فطرد الجنّ إلى الجزائر والبحار والجبال والشعاب وأهلكوا ثمّ حلّ محلهم ذرية إبليس لأنه أبو الجن الثاني، كما أن نوح عليه السّلام أبو البشر الثاني، وهم موجودون الآن في(5/22)
كل مكان، ولكن لم ترهم العيون، ولذلك سموا جنا، ومنه الجنين لعدم رؤيته أيضا، ولولا لطف الله على بني آدم بإخفائهم عنا لرأيت العجب العجاب من أفعالهم ولنغّصوا علينا عيشنا في هذه الدنيا. وقد مرّ في الآية 27 من الأعراف في ج 1 أنهم يروننا ولا نراهم،
وبمقابلة هذا أنا نراهم في الآخرة ولا يروننا، راجع هذه الآية أول سورة الجن والآيات من النمل والقصص في ج 1 والكهف والصّافات في ج 2 كي تطمئن بوجودهم وأعمالهم وأفعالهم، وإن إنكار وجودهم كفر لمخالفة نص الآيات والأحاديث الصريحة وإن من ينكر وجودهم فبسبب الصدأ المتراكم على قلبه، أجارنا الله من أمثالهم. ثم ان الله تعالى أعطى إبليس ملك الأرض وسماء الدنيا وخزانة الجنة، وهو جلّ شأنه يعلم مصيره ولكن ليظهر للناس أن النفس الخبيثة لا يؤثر فيها شيء ولا يصلحها شيء البتة، فأعجب بنفسه وغبطته الملائكة، وأول شر ظهر منه الإعجاب بنفسه لأنه؟؟ من المهلكات، قال صلّى الله عليه وسلم: ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه. «قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ» كالجن الذين أسكنتهم فيها قبل وفعلوا ما فعلوا، وكان الحكمة من مخاطبتهم بذلك وهو غني عن المشورة ليسألوا هذا السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا الحكمة من استخلافهم قبل كونهم، وقالوا كيف تفعل ذلك وتفصينا «وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ» فيها ولا نعصيك طرفة عين ولا نفسد فيها أبدا كالجن الذين أسكنتهم فيها «قالَ» تعالى مجيبا لهم عن ظنهم بالخليفة الذي أريد وضعه في الأرض بدلا من الجن الذين أفسدوا فيها وشهدت الملائكة عليهم بالإفساد، كلا لا تظنوا يا ملائكتي هذا الظن «إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» (30) من المصلحة والحكمة. ولا يقال من أين علموا أن من يستخلفهم الله في أرضه يفسدون فيها إذ لا يعلم الغيب إلا الله، لأنهم لما رأوا إفساد الجن وقتل بعضهم بعضا في الأرض وان الله تعالى يريد استخلافهم بهذا الخليفة ظنوا أنهم يقتفون أثرهم، لأن الله تعالى ألهمهم ذلك كما هو ثابت في علمه الأزلي، الاستفهام على طريق التعجب لا الاعتراض، فلا دليل فيه على عدم عصمة الملائكة، لأن الاعتراض على الله من أعظم الذنوب، والمراد بالخليفة هنا هو آدم عليه السّلام،(5/23)
قالوا لما أراد الله تعالى خلق آدم أوحى إلى الأرض إني خالق منك خليفة، منهم من يطيعني فأدخله الجنة، ومنهم من يعصيني فأدخله النار وبعث جبريل عليه السّلام ليقبض قبضة من أنواعها ويأتيه بها ليكون الخلق منها كلها، فلما أراد أن يأخذ منها قالت أعوذ بعزّة الله منك، فترك ورجع، وقال يا رب استعاذت بك فكرهت أن أقدم عليها، فأرسل ميكائيل فكان ما كان من جبريل، فأرسل عزرائيل فاستعاذت منه فقال لها إني أعوذ بعزّته أن أعصي له أمرا، فقبض من عذبها ومالحها وحلوها ومرها وطيبها وخبيثها وأبيضها وأحمرها وأسودها وما بين ذلك، وصعد بما قبضه، فسأله ربه وهو أعلم بما فعل فأخبره بما قالت وقال لها. وإنما استعاذت الأرض لأن الله تعالى قال لها منهم من يعصيني فأدخله النار خشية ورهبة، ولمّا أجابه عزرائيل بما أجابه قال وعزّتي وجلالي لأخلقن خلقا أسلطنّك على قبض أرواحهم لقلة رحمتك، فجعل نصفها في الجنة ونصفها في النار ما شاء، ثم أخرجها فسواها طينا مدة، ثم حمأة مدة، ثم صلصالا مدة، ثم جدا، وألقاه على باب الجنة، فصارت الملائكة تعجب من صورته، وقال إبليس لأمر ما خلق هذا، ونظر إليه فإذا هو أجوف، فقال هذا خلق لا يتمالك، أي انه يخدع، وقال للملائكة إن فضّل هذا عليكم ماذا تصنعون؟ قالوا نطع ربنا فيه، فقال في نفسه لئن فضل علي لأعصيته، ولئن فضلت عليه لأهلكنه، فلما أراد الله تعالى نفخ الروح فيه قالت الروح يا رب كيف أدخل؟ فقال كرها تدخلين وستخرجين منه كرها، فدخلت يافوخه حتى وصلت إلى عينيه فنظر إلى سائر جسده طينا فلما وصلت منخريه عطس، فعند ما وصلت لسانه قال الحمد لله رب العالمين، فقال الله رحمك الله ربك لهذا خلقتك، وقد صارت سنة في الخلق على كل من يعطس، وعلى كل من يسمعه التشميت بأن يقول له يرحمك الله ويرد عليه يرحمنا ويرحمكم اللَّه، فلما بلغت ركبتيه همّ ليقوم فلم يقدر، قال تعالى (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) الآية 27 من سورة الأنبياء في ج 2، وهذا مما يدل على قدم كلام الله تعالى المنزل على حضرة الرسول قبل خلق آدم وغيره، فلما انتهت إلى قدميه استوى بشرا سويا من لحم ودم وعظام وعروق وأعصاب وأحشاء وأمعاء
، وكسي لباسا من الجنة من ظفر(5/24)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
فزاد جسده حسنا وجمالا، وجعل في جسده تسعة أبواب وعدها السيوطي أحد عشر بعد الثديين في صدره اثنين، وفي أسفله اثنين القبل والدبر ليخرج منهما فضلات طعامه وشرابه، وسبعة في رأسه الأذنين يسمع بهما، والعينين ينظر بهما، والمنخرين يشم بهما والفم فيه اللسان يتكلم فيه، والأسنان ليطحن بها طعامه فيجد لذة المطعومات والأنف ليتنفس منه، وجعل عقله في دماغه، وفكره وجرأته في قلبه، وشرهه في كليته، وغضبه في كبده، ورغبته في رئته، وضحكه في طحاله، وفرحه وحزنه في وجهه، فسبحان من جعله يسمع بعظم، ويبصر بشحم وينطق بلحم، ويعرف بدم، وركب فيه الشهوة وحجزه بالحياء. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: خلق الله تعالى آدم وطوله ستون ذراعا، ثم قال اذهب فسلم على أولئك نفر من الملائكة، فاستمع ما يحبونك به، فإنها تحينك وتحية ذريتك، فقال السلام عليكم، فقالوا عليك السلام ورحمة الله، فزادوا ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن. وروى مسلم عن أنس قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم لمّا صوّر الله آدم تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطوف به وينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه لا يتمالك. وأخرج الترمذي. وأبو داود عن أبي موسى الأشعري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الله تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب.
قال تعالى «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، وسبب تعليمه أسماء جميع المسميات بإلهام من الله تعالى إياه أن الملائكة قالت ليخلق ربنا ما شاء فلن يكون أحد أكرم عليه منا، وإن كان فنحن أعلم منه، لأنا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره، ومن هنا قيل (أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة) فأظهر الله تعالى فضله عليهم بالامتحان «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ» عرض أسماء تلك المسميات على الملائكة من كل نام وحساس وجماد وماء، وجاء الضمير بلفظ العقلاء تغليبا لأن القاعدة عند إرادة جمع من يعقل ومن لا يعقل بلفظ واحد يعبر بضمير من يعقل تغليبا له على ما لا يعقل «فَقالَ أَنْبِئُونِي(5/25)
بِأَسْماءِ هؤُلاءِ»
الأشخاص قالوا خلق الله تعالى كل شيء من الحيوان والطير والحوت والجمادات والمياه وغيرها، وعلمها آدم، فقال هذا بعير، وهذه فرس، وهذا طير، وهذه سمكة، وهذا حجر، وهذا مدر، حتى أتى على آخرها، أي سموا لي هذه الأشياء كلّا باسمه «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (31) بقولكم اني لم أخلق أفضل منكم وأعلم «قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا» بشيء من هذه الأشياء ولا نعلم «إِلَّا ما عَلَّمْتَنا» إياه التسبيح والتقديس لأن علمنا مقصور على ما علمتنا فقط «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ» بخلفك وأسمائه وأوصافه المميزة له عن غيره «الْحَكِيمُ» (32) فيما تخلق وتقضي وتأمر وتنهى «قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ» سم كل شيء من هذه المخلوقات باسمه، فذكر أسماءها كلها حتى القصعة «فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ» أمام الملائكة دون تلكؤ أو تلعثم بهتت مما قرأت؟؟ وسمت «قالَ» عز قوله مخبرا ملائكته عن الحكمة التي خلق آدم لها «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» عما كان فيهما قبل خلقكم وزمنه وما سيكون بعد «وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ» من قولكم الذي ذكرتموه فيما بينكم بشأن خلق آدم «وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» (33) من قولكم لن يخلق الله أفضل منا ولا أعلم.
مطلب تفضيل الرسل على الملائكة وامتناع إبليس عن السجود وكونه ليس من الملائكة:
وفي هذه الآية والتي قبلها دليل أهل السنة والجماعة بأن الأنبياء أفضل من الملائكة خلافا للزمخشري وأشباهه، القائلين بتفضيل جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام، وقد خرق الإجماع بقوله هذا، وقد قيل بعد أن حجّ:؟؟
وأفضل الخلق على الإطلاق ... نبينا فمل عن الشقاق
وقد منا ما يتعلق في هذا البحث بالآية الأولى من الإسراء في ج 1 «وَ» اذكر يا سيد الرسل هذه القصة لقومك، وقصة أخرى وهي «إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ» وهذا الأمر لعموم الملائكة الذين هم في السماء والأرض، كما يدل عليه قوله في الآية 20 من سورة الحجر المارة في ج 2 (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) وما في هذه الآية من قوله عز قوله «فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ» لم يسجد لأنه من(5/26)
الجن، وليس من الملائكة بدليل قوله تعالى (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الآية 52 من سورة الكهف ج 2، ومعنى إبليس مأخوذ من إبليس أي يئس من رحمة الله، قال تعالى (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) الآية 79 من سورة المؤمنين ج 2 أي آيسون، وان اسمه الحقيقي بالعربية الحارث، وبالسريانية عزازيل، وهذا الاستثناء كان بسبب وجوده مع الملائكة وشموله الأمر بالسجود معهم، لا لكونه منهم، ومن قال إن الاستثناء بعد إدخاله بالخطاب للملائكة دليل على أنه منهم لم ينظر إلى آية الكهف المشار إليها أعلاه، لأن دلالتها على أنه من الجن وليس من الملائكة صريحة لا تقبل التأويل، والقرآن يفسر بعضه بعضا، وما كان منه في تفسير بعضه بعضا مقدم على ما ليس منه في تفسيره، ثم ما كان من بيان حضرة الرسول، ثم ما كان من إيضاح الأصحاب، ثم التابعين والعلماء، وهكذا، ومتى وجد قول للأقدم لم يطعن فيه لا يؤخذ بالذي دونه، قال تعالى في ذم ذلك الملعون بأنه «أَبى» عن السجود ولم يمتثل أمر ربه الذي أنعم عليه بإلحاقه بالملائكة بعد طرد قومه وإهلاكهم «وَاسْتَكْبَرَ» على آدم وعد نفسه خيرا منه باحتجاج واه «وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ» (34) بسبب فعلته هذه تجاه الملائكة كما هو في علم الله كافر، ولكن الملائكة وآدم لا يعلمون كفره المنطوي عليه قبلا، فأظهره الله لهم بامتناعه هذا، فعلموا أن شقاءه سابق في علم الله، وأن النفس الخبيثة لا يبدلها المعروف، راجع الآية 12 من سورة الأعراف ج 1 فيما يتعلق به لعنه الله وأخسا مقايبسه الباطلة. وهذه قصة ثالثة ذكرها الله بقوله جل قوله «وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ» لم يقل جل قوله اسكنتك الجنة لأنه يدل على الاستقرار وهو إنما خلق لعمارة الأرض لا ليبقى في الجنة، قالوا لما خلق الله تعالى آدم على الصورة والكيفية المارتين لم يكن معه من جنسه من يستأنس به، فألقى الله عليه النوم وأمر بأخذ أقصر ضلع من أضلاع جنبه الأيسر فخلق منه زوجته حواء بقوله جل قوله كن امرأة من جنس آدم فكان، وخلق مكانه لحما من غير أن يحسّ بذلك ولو أحس ووجد ألما ما حن رجل على امرأة قط، وسميت حواء لأنها خلقت من حيّ فاستيقظ فرآها جنبه كأحسن ما خلق الله،(5/27)
قال من أنت؟ فألهمها الله بأن قالت زوجتك خلقت لتسكن إليّ وأسكن إليك وأوانسك، ولهذا قيل:
وما سمي الإنسان إلا لأنه ... ولا القلب إلا أنه يتقلب
وفي رواية إلا لنسيه، كما مرّ في الآية الثامنة، ولهذا قالوا إن للتسمية نسبة بالمسمى غالبا، وقلّ أن تجد اسما لا نصيب له من مسماه، ومن هذا قوله:
قد سمي القلب قلبا من تقلبه ... فاحذر على القلب من قلب وتحويل
وقيل سمي قلبا لأنه لبّ كما سمي العقل لبا، وقيل لتقلبه، كما مرّ آنفا وفي الآية 8 المارة. وما قيل إن الجنة التي أدخلها آدم هي بستان كان في اليمن استدلالا بأن الجنة المعروفة من يدخلها لا يخرج منها، فقيل ضعيف لا يؤبه به، والصحيح انها الجنة المعهودة، لأن- أل- فيها للعهد ولا جنة معهودة غيرها ولا يراد عند الإطلاق غيرها وهي التي أعدها الله للمتقين، وما استدلوا به يقال في الداخل فيها جزاء عمله الحسن بعد أن مات وبعث وأحيي كالسيد إدريس عليه السلام، لأنه ذاق طعم الموت، راجع قصته في الآية 57 من سورة مريم في ج 1، وقد ثبت أن سيدنا محمد دخلها ليلة المعراج راجع حديثه أول سورة الإسراء ج 1، أما البستان التي في اليمن فلم تكن إذ ذاك، وقيل إنه هو إرم ذات العماد المذكور بحثها في الآية 5 من سورة الفجر ج 1، فراجعها. «وَكُلا مِنْها رَغَداً» صفة للمصدر المؤكد، أي أكلا واسعا رافها مريئا حسبما تريدان وترغبان، كما يفيده قوله «حَيْثُ شِئْتُما» من أي مكان أردتما وأي زمان، وهذا يفيد الإطلاق لكل ما فيها، ثم خصص بقوله عز قوله «وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ» عينها الله لهما بالإشارة إليها، ولم يسمها، لذلك اختلفت فيها أقوال المفسرين، فمنهم من قال إنها السنبلة، ومنهم من قال إنها التين أو الكرم، ولا طائل تحت معرفتها إذ القصد عدم قربانها امتثالا لأمر الله تعالى، ولهذا قال «فَتَكُونا» إذا تناولتما منها شيئا «مِنَ الظَّالِمِينَ» (35) أنفسكما لفعلكما ما لا ينبغي فعله «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها» عن الجنّة بسبب غروره لهما وإغرائهما بالأكل منها «فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ» من النعيم.(5/28)
مطلب إغواء إبليس لآدم وحواء وخروجهما من الجنة وإسكانهما الأرض:
قالوا إن إبليس بعد أن طرد من الجنة أراد دخولها لإغواء آدم وزوجته فلم يمكنه خزنتها من ذلك، فأتى صديقته الحية فأدخلته في فيها، وفي أثناء تعرضه لآدم سمعه يقول لو أن خلودا، فاغتنم الملعون هذه الكلمة وعدها فرصة لإغوائهما، وتمثل باكيا، فقال له آدم ما يبكيك؟ قال أبكي عليكما لأنكما تموتان فتفارقان هذا النعيم، فاغتما لذلك، ثم قال لهما هل أدلكما على شجرة الخلد؟ قالا بلى، قال هي التي نهاكما الله عنها، فأبيا قربانها، ثم حلف لهما بأنه ناصح لهما وأن الله لم ينهكما عن مثلها، فصدقا لأنهما يتحققان أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا، ولا يجرؤ أحد أن يكذب على الله، فأكلت حواء من مثل تلك الشجرة، وناولت آدم، فأكل منها فتهافتت عنهما ثيابهما، وبدت لهما سوءاتهما، وقال الله يا آدم ما حملك على ما فعلت؟
قال يا رب غرّني عدوك ولم أظن أنه سيحلف بك كاذبا، وان حواء هي التي بدأت بالأكل مما نهيتنا عنها، قال وعزتي وجلالي لأهبطنك إلى الأرض فلا تنال عيشك فيها إلا نكدا. راجع القصة مفصلة في الآية 16 من سورة الأعراف في ج 1، «وَقُلْنَا اهْبِطُوا» الخطاب لآدم وحواء وإبليس والحية «بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ 36» انقضاء آجالكم فيها، فأهبط آدم على جبل (نود) في سرنديب من أرض الهند، وحواء في جدّة من أرض الحجاز، وإبليس في نجد، والحيّة بأصبهان من أرض العجم، وقيل إن إبليس أهبط بالأيلة من أرض البصرة، فحرث آدم وزرع وسقى وحصد وداس وذرّى وطحن وعجن وخبز بمعاونة زوجته حواء التي اجتمع بها بعد الهبوط وبإلهام من الله تعالى حتى بلغ منه الجهد، وأكل هو وزوجته من كدهما، وقال إن حواء لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرما ولتدمي مرتين في الشهر، فرنت حواء عند ما سمعت كلام الله أي نظرت وتأملت عاقبته وحزنت، فقيل لها عليك وعلى بناتك الرنة. واعلم أن هذا واقع من آدم عليه السلام قبل تشرفه بالنبوة كما وضحناه في الآية 12 من سورة طه ج 1 فراجعه، وما قيل بعدم قتل الحيات خوفا من ثأرهنّ أو تأثما لا صحة له، بل ينبغي قتلها لأنها من المؤذيات، وقد(5/29)
جاء في الخبر أن في قتلها عشر حسنات. أخرج أبو داود عن ابن عباس قال:
قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ترك الحيات مخافة طلبهن فليس منا، ما سالمناهنّ منذ حاربناهن. وله عن ابن مسعود قال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: اقتلوا الحيات كلهن، فمن خاف من ثأرهن فليس مني. وفي رواية اقتلوا الكبار كلها إلا الجانّ الأبيض الذي كأنه قضيب فضة. وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن بالمدينة جنا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان. وفي رواية ان في هذه البيوت عوامر فإذا رأيتم منها شيئا فخرجوا عليه ثلاثا، فإذا ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر.
ومما يدل على أن ما وقع من آدم قبل النبوة قوله تعالى «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ» كانت سببا لقبول توبته، والتلقي قبول الكلام عن فهم وفطنة، والكلمات هي قوله تعالى (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الآية 23 من الأعراف ج 1، وتدل فاء التعقيب على أن توبته كانت عقب هبوطه بلا مهلة، وهذا ما ينافي القول بأن الله تعالى ألهمه أركان الحج وأمره أن يحج ويقول اللهم اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنبي. وما قيل إنه بقي ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه إلى السماء حياء من ربه، ينفيه قوله تعالى «فَتابَ عَلَيْهِ» عقب دعائه هذا الذي لقّنه له ربه «إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ» كثير الرجوع على عباده بقولهم إذا تابوا وأنابوا «الرَّحِيمُ 37» كثير الرحمة بهم لرأفته عليهم. قال تعالى «قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً» الأمر للأربعة المذكورين آنفا، وهو تأكيد للأمر الأول لما فيها من زيادة كلمة (مِنْها) لبيان أن الهبوط من الجنة، وزيادة لفظ (جَمِيعاً) للتوكيد على أن المراد الأربعة كلهم لا بعضهم ولما نيط به من زيادة قوله تعالى «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً» يؤدي بكم إلى الجنة التي أخرجتما منها.
وما قيل إن الهبوط الأول من الجنة إلى سماء الدنيا، والأخير من سماء الدنيا إلى الأرض يرده قوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) الآية، وفي هذه الجملة الأخيرة دلالة على جواز الجمع فيما زاد على الواحد، راجع الآية 78 من الأنبياء ج 2،(5/30)
لأن الهدى لآدم وزوجته خاصة ولا يتصور دخول إبليس والحية فيه، لأن إبليس محتم دخوله في جهنم على طريق التأبيد، والحية قطعا تكون ترابا كسائر الحيوانات كما مر آخر سورة النبأ ج 2، والقول بخلاف هذا يعارض النص، وكل ما خالف النص لا عبرة به، وما قيل إن المراد هما وذريتهما فيه بعد أيضا إذ لم يكن لديهما ذرية إذ ذاك ولم يتصورانها «فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ» المنزل إليه «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» من الشدائد والأهوال في الدنيا والآخرة «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (38) على ما فاتهم من نعيم الدنيا. وفي هذه الآية دليل أيضا على أن آدم حينما أخرج من الجنة لم يكن نبيّا، وإلا لم يقل له ما جاء أول هذه الآية، راجع الآية 114 فما بعدها من سورة طه ج 1، قال تعالى «وَالَّذِينَ كَفَرُوا» بألوهيتنا وجحدوا وحدانيتنا «وَكَذَّبُوا بِآياتِنا» المنزلة على أنبيائنا في هذه الدنيا وماتوا على ذلك «أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ» في الآخرة عقابا لتكذيبهم «هُمْ فِيها خالِدُونَ» (39) أبدا لا يخرجون منها ولا يموتون فيها، وهذه أول وصية ذكرها الله تعالى لبني إسرائيل في القسم المدني. قال تعالى «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ» لمّا كان المخاطب بالآيات الثلاث عشرة، بعد الست الأولى في هذه السورة هم المنافقون وأكثرهم من اليهود ذرية يعقوب عليه السلام إسرائيل الله، جاء على ذكرهم ثانيا يذكرهم النعم التي أنعم بها على أسلافهم، وكلمة (إسرا) هي صفوة أو عبد و (إيل) معناها الله جل جلاله أي يا أولاد صفوة الله أو عبده تذكروا نعمة إنجائكم من آل فرعون، وإحلالكم أرضهم وديارهم، ونعما أخرى ستأتي تباعا. واعلم أن النعم من الله على عبده قد تنحصر في ثلاثة أنواع: نعمة تفرد الله تعالى بها وهي إيجاد الإنسان ورزقه، ونعمة وصلت إليه بواسطة الغير ومكنه منها بتسخيرهم إليه فيها، ونعمة جعلت له بواسطة الطاعة وهي أيضا من الله الذي وفقه إليها، فتكون كلها منه تعالى إلى عبده وهو يقول أعطاني فلان وخلّصني فلان «وَأَوْفُوا بِعَهْدِي» المشار إليه في الآية 27 المارة كما وفّى به بعض آبائكم الأقدمين الذين تنعموا بتلك النعم بعد الذلّ والرق والقتل، نجعلناهم قادة وملوكا وأنبياء «أُوفِ بِعَهْدِكُمْ» الذي وعدتكم به من حسن(5/31)
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
الثواب ورفع الدرجات بالجنة «وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ» (40) لا ترهبوا سواي، فأنا المنقذ لكم من الضر الذي أوقعه فيكم القبط، وأنا الذي نجيتكم من الغرق وأغرقت عدوكم، وأنا الذي حميتكم في التيه فأطعمتكم وأسقيتكم وظللت عليكم الغمام لا أحد غيري
«وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ» من القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلم لكونه جاء «مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ» من التوراة المشتملة على التوحيد والنبوة والمعاد والإشارة إلى بعثة محمد بن عبد الله وإلى أنه خاتم النبيين ونبي آخر الزمان وأن من آمن به فقد آمن بالتوراة، ومن كذبه فقد كذبها «وَلا تَكُونُوا» أيها الإسرائيليون «أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ» أي القرآن فتسنون الكفر لمن بعدكم ويقتدي بكم غيركم، يجب عليكم وأنتم أهل كتاب أن تكونوا أوّل مؤمن به، لأنكم تعلمون من كتابكم أني منزل هذا القرآن على هذا النبي الذي جاء نعته فيه «وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي» المسطورة في التوراة المبينة لذلك «ثَمَناً قَلِيلًا» فتكتمون ما فيها من وصف هذا النبي وكتابه لقاء ذلك الثمن اليسير البخس من حطام الدنيا الذي تأخذونه من قومكم وتضيعون ما لكم عند الله إذا صدقتم وآمنتم من الخير العظيم، وأنتم تعلمون أن الدنيا وما فيها بالنسبة للآخرة لا يعدّ ان شيئا «وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ 41» لا تتقوا غيري، فلا ينجيكم أحد مما تكرهون سواي. وتقديم المفعول يفيد الحصر، أي احذروا عدم اتقائي لئلا تقعوا في الشقاء، وتيقنوا أن لا مخلص لكم غيري «وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ» بأن تكتبوا في التوراة ما ليس منها فتغشوا حقها بباطلكم «وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ» الذي هو فيها لقاء ذلك الثمن الزهيد «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ 42» أن ما تكتمون منها حق وما تبدونه باطل. وهذا الخطاب وإن كان خاصا برؤساء اليهود وأحبارهم الذين كانوا ينالون مالا من سفلتهم وجهلتهم لقاء ما يخلطون عليهم مما لم ينزل الله، إلا أنه عام في كل من يخلط الحق بالباطل، أو يخفي الحق ويظهر الباطل، وتؤذن هذه الآية العظيمة بوجوب إظهار الحق على كل أحد، وحرمة كتمانه وتبديله ومزجه بغيره مما هو ليس من كلام الله.
وكان سبب إقدامهم على ذلك لأمرين: الأول لأجل ما يأخذونه من حطام الدنيا، والثاني الخوف من أنهم إذا بينوا لهم الواقع مما هو مبين في التوراة عن صفات(5/32)
الرسول ولزوم اتباعه عند ظهوره، يؤمنون به فتذهب الرياسة منهم لأنهم يتبعونه ويتركونهم «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» مع المسلمين كما أمرتهم بالقرآن بإقامتها «وَآتُوا الزَّكاةَ» المفروضة عليكم لأنها لم تفرض بعد على المسلمين، وقد تكرر أن ذكرنا أن الصلاة والزكاة لم تخل أمة منهما من لدن آدم إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهما ومن بينهما من الأنبياء «وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ 43» من المسلمين وصلوا مثل صلاتهم جماعة بركوع وسجود، وذلك أن صلاتهم لا ركوع فيها أي آمنوا وأقيموا شعائر المؤمنين مع النبي محمد وأصحابه. وأنزل الله في رؤسائهم قوله جل قوله «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ» البر كلمة جامعة لكل خير وطاعة «وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ» فلا تعملون به، وذلك أن منهم من كان يأمر أقرباءه وحلفاءه وأصدقاءه باتباع محمد صلّى الله عليه وسلم، والثبات معه على دينه سرا، ويقولون لهم إنه نبي آخر الزمان حقا، وان التوراة تأمر باتباعه، وهم يعدلون عن الإيمان به حرصا على بقاء الرياسة بأيديهم، وما يأخذونه منهم من حطام الدنيا، أي كيف تفعلون هذا «وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ» التوراة وتعلمون بما فيها من الحق والأمر باتباعه ومجانبة الباطل «أَفَلا تَعْقِلُونَ 44» أيها الأحبار والرؤساء والقادة، أن ذلك منقصة في دينكم ودنياكم، إذ لا يليق بالإنسان أن يأمر بما لا يفعل وينهى عما يفعل. قال تعالى (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) الآية 88 من سورة هود في ج 2، وقال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
وفي هذه الآية تقريع وتوبيخ لهم عنى ما هم عليه. ويؤذن الاستفهام فيها بالتعجب من حالهم والإنكار لأفعالهم.
مطلب في العقل ومعناه وأحاديث ومواعظ في الصبر والتقوى وغيرهما والصلاة وما خوطب به بنو إسرائيل:
واعلم أن العقل لغة الإمساك، وهو مأخوذ من عقال الدابة ليمنعمها من الشراد، فكذلك العقل يمنع صاحبه من الكفر والأفعال القبيحة. واصطلاحا قوة تهيء قبول العلم فتصير لصاحبها ملكة بميز فيها الخير من الشر. وهو قسمان وهي وكسبي،(5/33)
والكسبي أفضل من الوهبي، لأنه يزداد تدريجا بسبب اتباع ما يستحسنه من أعمال الناس واجتناب ما يستقبحه من أفعالهم، والوهبي هو هو، إذ لا يستعمله صاحبه في الاتباع والاجتناب. قال سيدنا علي كرم الله وجهه:
إن العقل عقلان ... فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مطبوع ... إذا لم يك مسموع
كما لا تنفع الشمس ... وضوء العين ممنوع
روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى بالنار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر الناس بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه. وروى البغوي بسنده عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء خطباء أمتك، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون. وهذا مما يؤيد أن هذه الآية عامة في كل من هذه صفته، وان خصوصها في علماء بني إسرائيل لا يمنع عمومها وشمولها لغيرهم، وقيدها بهم لا يحول دون إطلاقها، لأن العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فعلى العاقل إذا أراد أن يسمع قوله ويقتدى بفعله أن لا يخالفها، إذ يصير محلا للانتقاد في الدنيا والعذاب بالآخرة، ولا يعمل لأجل الناس أو لإرضائهم، فقد قال صلّى الله عليه وسلم: من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله شرهم، ومن أحسن فيما بينه وبين الله أحسن الله فيما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن تحمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه. وعلى الإنسان أن يحسّن ما يخرج من لسانه ويلين جانبه، ويحلم عند الغضب، ويجتنب الحدّة مهما استطاع، فمن أكبر الشوائب وأفحش المصائب أن يكون المرء بذيء اللسان، شرس الطباع، خشن الجانب، سيء الآداب، تأخذه ثورة الغضب لأقل إساءة، والغضب يقبح صورة الغضبان، ويثلم دينه، ويعجل ندمه، وتبدو منه بوادر الحدّة لأدنى إهالة،(5/34)
وعلى الإنسان أن لا يغتر بحسنه وجماله وكمال هيئته دون أن يكون متحليا بعقل سليم وخلق مستقيم وعمل صالح، وينظر إلى قول القائل:
إلا يكن عظمي طويلا فإنني ... له بالخصال الصالحات وصول
ولم أر كالمعروف أما مذاقه ... فحلوا وأما وجهه فجميل
قال تعالى «وَاسْتَعِينُوا» أيها الناس على تقوية إيمانكم بالله ورسوله وعلى ما يصيبكم من مصائب الدنيا وعلى مشاق ما كلفتم به من العبادة وما نابكم من قسوة الفقر «بِالصَّبْرِ» فإن الجزع والضجر يزيدان في المصيبة ويمحقان الأجر «وَالصَّلاةِ» الدعاء إلى الله تعالى فيها، فإن ذكر الله مع الصبر يذوب معهما كل ضر، وانهما يهوّنان عليكم حب الدنيا بما فيها من رياسة ومال وسلطة وجاه «وَإِنَّها» أي هذه الأمور التي أمرتكم بها ونهيتكم عنها من بداية الخطاب إلى هنا «لَكَبِيرَةٌ» ثقيل الأخذ بها على الناس، ويشق عليهم القيام بها، كما نريد «إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ 45» منهم، فإنها خفيفة عليهم، لأن قوة إيمانهم وصحة عقيدتهم وواسع يقينهم يسهل عليهم ما يقربهم إلى الله، ويكرههم بما يباعدهم عنه. ثم وصف هؤلاء الخاشعين بأنهم «الَّذِينَ يَظُنُّونَ» يتيقنون «أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» بالآخرة فيعترفون بالبعث بعد الموت وبالحساب والعقاب والثواب «وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ 46» يوم القيامة، ومن اعتقد هذا هانت عليه الدنيا وما فيها، وأقبل بكليته إلى ربه.
قال بعض المفسرين إن الخطاب في هاتين الآيتين الأخيرتين للمؤمنين خاصة، وهو قول غير سديد، لأنّه يوجب تفكك النظم الجليل ويقطع المناسبة بينهما وبين ما قبلهما من الآيات، والأولى هو ما جرينا عليه من جعل الخطاب فيهما لليهود والمؤمنين معا لأن اليهود لا ينكرون أصل الصلاة والزكاة والصبر على المكاره في أمور الدين وانهم يعتقدون باليوم الآخر والحساب والعقاب والجنة والنار، وكذلك النصارى، لأن الشرائع، كلها منزلة من الله تعالى، وقد ذكرنا في سورة المؤمنين في الآية 52 ج 1 أن أصول الأديان كلها واحدة، وقلنا آنفا إن التخصيص والتقييد لا يمنع عموم والإطلاق، فيدخل فيهما جميع الأمة، ثم أكد التحذير والتخويف عليهم وتفطنهم لنعمه على آبائهم، فقال عز قوله «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي(5/35)
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ 47»
من أهل زمانكم، فاحتفظوا أيها الخلف الحاضر بشرف أسلافكم المفضّلين، وكرر صدر هذه الآية بمثل الآية 40 المارة وستكرر أيضا في الآية 123 الآتية، وهذه الوصية الثانية «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي» فيه «نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً» لزمها في الدنيا، بل لا بد ان تجازى هي نفسها على عملها. واعلم أن التقوى كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه الإنسان، وهي كلمة وجيزة جامعة لكل خير، ومعناها امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وعبر بعضهم عما ذكر بقوله ان لا يراك حيث نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك، وقال آخر إذا أردت أن تعصيه فاعصه حيث لا يراك أو اخرج من داره وكل غير رزقه. وتقوى الله تتضمن ما تضمنه حديث إن الله كتب الإحسان على كل شيء، وكذا ما تضمنه حديث جبريل الذي يسأل فيه حضرة الرسول عن الإسلام والإيمان والإحسان، لأن سائر أحكام التكليف لا تخرج عن الأمر والنهي، فإذا اتقى الله الشخص بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه فقد أتى بجميع وظائف التكليف. والأصل في ذلك قوله تعالى (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ... ) الآية 178 الآتية، وقوله تعالى (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) الآيتين 62 و 63 من سورة يونس في ج 1، فمن اتقى الله حسبما في الآية الأولى من الإيمان والإسلام فهو متق، والمتقي ولي الله، ومن اتقى مثلما في الآية الثانية فهو ولي، فصار معنى قوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث اتق الله حيثما كنت تكون ولي الله بتقواك إياه، ويحصل لك لوامح وصف الحمد والثناء في كل مكان وزمان اتقيته فيه، لقوله تعالى (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) الآية 187 من آل عمران الآتية، ويحصل لك أيضا الحفظ والحراسة من الأعداء لقوله تعالى (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) الآية 121 من آل عمران الآتية أيضا، ويحصل لك التأييد والنصر بقوله تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الآية 4 من سورة الطلاق الآتية، ويجعل لك أيها المتقي أيضا إصلاح العمل وغفران الذنوب لقوله تعالى(5/36)
(وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) الآية 72 من سورة الأحزاب الآتية، ويجعل فيك النور لقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) الآية 28 من سورة الحديد الآتية. والتقوى تورثكم المحبة لقوله تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الآية 77 من آل عمران أيضا، وتورثكم الإكرام لقوله تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) الآية 14 من سورة الحجرات الآتية، وتورثكم البشارة عند الموت بما يوجب لكم المسرة لقوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) الآية 10 من سورة يونس ج 2، وتورثكم النجاة من النار لقوله تعالى (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) الآية 72 من سورة مريم في ج 1، ولقوله تعالى (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) الآية 28 من سورة الليل في ج 1، وتورثكم الخلود بالجنة لقوله تعالى (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)
الآية 123 من سورة آل عمران الآتية. والتقوى التي تسمى تقوى هي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات والتباعد عن المحظورات، وقد وصّى الله بها عباده فقال عز قوله (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) الآية 130 من سورة النساء، ولهذا عرفها
بعض العلماء بأنها اسم جامع للحذر من جميع ما أمر الله به أن يحذر منه، لأن العبد تارة بحذر من تضييع الواجبات، وطورا من المندوبات فيتقيه، وتارة يحدر فوات أعالي الدرجات فيتقيه بأن لا يشتغل بما دونها، ومرة يحذر ارتكاب المحرمات، وأخرى المكروهات فينقيه لئلا يقع فيها، وقال بعض العلماء المراد بالتقوى أن يتقي العبد ما سوى الله فيجتنب كلّ ما يشغله عنه، وفي هذا المعنى قيل:
من عرف الله فلم تغنه ... معرفة الله فذاك الشقي
ما يصنع العبد بعز الغني ... والعز كل العز للمتقي
وقال أبو الدرداء:
يريد العبد أن يعطى مناه ... ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول العبد فائدتي ومالي ... وتقوى الله أفضل ما استفادا(5/37)
واعلم أن التقوى ظاهرا وباطنا، فالظاهر ما يحل بظاهر البدن، وهو المحافظة على حدود الله تعالى، فلا يتجاوز شيئا منها ما استطاع، وإذا أكره يبادر حالا للاستغفار والرجوع، والباطن ما يحل بباطنه من الإخلاص في العمل وحسن النية، وقد اتفقت الأمة على فضلها ولزوم التحلي بها وعدم مرافقة غير أهلها، ولهذا قال:
ولا تمش إلا مع رجال قلوبهم ... تحنّ إلى التقوى وترتاح للذكر
لأن الذي يريد أن يعيش عيشة طيبة توصله إلى الراحة الدائمة في الآخرة، عليه أن يقضي حياته مع المتقين كي يكون حي القلب دائم اليقظة بعيدا عن الغفلة، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة (التقوى هاهنا) يشير إلى صدره الشريف مكررا لفظها ثلاثا لأنه محل القلب الذي هو بمنزلة الملك للجسد، فإذا صلح صلح كله، وإذا فسد فسد كله، كما جاء في الحديث الآخر الصحيح أيضا، وذلك لأن التقرى تورث خشية الله، وخشية الله تمنع صاحبها من كل سوء، قالوا أمر الرشيد بحبس رجل ثمّ سأل السجان عنه فقال إنه كثير الصلاة والدعاء في سجنه، فقال خله يسألني إطلاقه، فعرض له بذلك، فقال قل لأسير المؤمنين كل يوم يفي من نعمته ينقضي من محنتي، والأمر قريب، والوعد الصراط، والحاكم هو الله. فلما بلغه الرشيد ذلك خرّ مغشيا عليه، ولما أفاق أمر بإطلاقه. لهذا على العاقل أن يخشى الله فيما يقول ويفعل ويعمل بالتقوى، وقال الغزالي: التقوى كنز عظيم فإن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر ورزق كريم وملك عظيم، لأن خيرات الدنيا والآخرة جمعت فيها. ومن علامة التحقق بالنقرى أن يأتي المتقي رزقه من حيث لا يشعر، ومن جهة لا تخطر بباله، لأن من يتقي الله يقف عند حدوده ويجتنب معاصيه، فيخرجه من طرق الحرام إلى الحلال، ومن الضيق إلى السعة، ومن النار إلى الجنة، ويرزقه من حيث لا يرجوه. وقال ابن عباس:
يخرج الله المتقي من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة.
راجع الآية الثانية من سورة الطلاق الآتية. وعنه أيضا قال من اتقى الله وقاه كل شيء، أي حفظه مما يخافه، وقال داود بن نصر الطائي: ما خرج عبد من ذل(5/38)
المعاصي إلى عز التقوى إلا أغناه الله تعالى بلا مال، وأعزه بلا عشيرة، وآنسه بلا أنيس. وقال ابن الوردي:
واتق الله فتقوى الله ما ... جادرت قلب امرئ إلا وصل
ليس من يقطع طرقا بطلا ... إنما من يتق الله البطل
هذا وإن الرجل إذا وفق لنقوى الله على ما ذكرنا لازمته الاستقامة، وهي كلمة جامعة لأنواع التكاليف. قال ابن عباس ما نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم في جميع القرآن أشد من قوله تعالى (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) الآية 114 من سورة هود في ج 2 ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم شيبتني سورة هود. قال القشيري الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها وبوجودها تحصل الخيرات ويكمل نظامها، لأن من لم يكن مستقيما في حاله ضاع سعيه وخاب جده. ودرجة الاستقامة هذه لا يطيقها إلا الأكابر الربانيون لما فيها الخروج عن المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات، لأنها تقتضي القيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: استقيموا ولن تحصوا. أي لن تقدروا على إحصاء لوازم الاستقامة كلها، وهذا لا يمنعكم من العكوف على الاستقامة، لأن ما يحصل منها يكفي عن غيرها، ولهذا قال العارفون ذرة استقامة خير من ألف كرامة. وقال الكاملون ما الكرامة إلا الاستقامة.
وعلى المنقي طالب الاستقامة أن يحفظ الله تعالى بطاعته وعدم التعدي على عباده ليحفظه برعايته ويجده أمامه فيما ينزل به من الشدائد، وأن يكل أمره إليه، فلا يسأل غيره في قضاء حوائجه، لأن خزائن الوجود كلها بيد الله تعالى، وأزمّتها إليه، ومفاتحها منوطة به، فلا معطي ولا مانع سواه، وعليه أن لا يطلب الإغاثة إلا منه وحده، كما أنه لا يخص بالعبادة غيره، راجع الآية 5 من سورة الفاتحة في ج 1، والآية 70 من سورة الأنبياء وما ترشدك إليه تجد ما يثلج صدرك.
وليتحقق هذا المتقي المستقيم أن جميع ما في الكون علويه وسفليه لو أرادوا أن ينفعوه بشيء لم يقدره الله له لا يقدرون، كما أنهم لو أرادوا أن يضروه بشىء لم يقدره الله عليه لن يقدروا، راجع الآية 13 من سورة الأنعام في ج 2 وما ترشدك إليه من الآيات. فإذا اتقيت أيها الإنسان واستقمت هان عليك أمر الدنيا والآخرة،(5/39)
ووجدت الله تعالى أمامك في جميع أمورك. فعليك أن تتعرف إليه حالة الرخاء والصحة لتجده حالة الشدة والمرض، كما وقع لأهل الغار في الكهف حينما وقع حجر أمامهم وسد عليهم باب الخروج. راجع الآية 26 من سورة الكهف في ج 2.
هذا وقد أوردنا ما يتعلق في بحث الاستقامة في آية هود المذكورة آنفا فراجعها مع ما أوردناه في حق التقوى هنا ففيه كفاية. ولنرجع إلى تفسير الآية التي نحن بصددها بعد أن شطح بنا القلم فيما استطردناه، وهي أن كل نفس لا بد وأن تجازى بما عملت هي نفسها عليه، فلا يكون بحالة من الأحوال مجازاة غيرها عنها، قال تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الآية 19 من سورة فاطر في ج 1، «وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ» إذا كانت كافرة مطلقا، وإذا كانت مؤمنة إلا بإذن الله، ولمن يرتضيه، راجع الآية 28 من سورة الأنبياء ج 2، «وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ» عنها أي فدية تقيها من عذاب الله «وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ 48» فيه من العذاب، وهذه الآية بمعرض الرد على اليهود الذين يزعمون أن آباءهم أصحاب موسى عليه السلام يشفعون لهم في الآخرة. قال تعالى معددا بعض نعمه عليهم بقوله عز قوله في قصة ثالثة ضمنها قصصا أخر متتابعة من أعمال اليهود وهي «وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ» وهؤلاء المخاطبون لم يشهدوا عهد فرعون وإذاقتهم عذابه بالعسف، إلا أنهم يعلمون ذلك بالاستقراء وبذكره بالتوراة «يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ» أي قتل الذكور وإبقاء الإناث للخدمة «بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ 49» راجع الآية 8 من سورة القصص في ج 1 وما ترشدك إليه في هذا البحث «وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ» وجعلنا فيه مسالك لتقطعوه وتتخلصوا من فرعون وقومه.
مطلب خروج بني إسرائيل من مصر وأخذهم ضريح يوسف وإنجائهم وإغراق فرعون والميقات الأول:
قالوا لما دخل بنو إسرائيل مصر زمن يوسف عليه السّلام كانوا اثنتين وسبعين نسمة، ولما خرجوا منها زمن موسى عليه السّلام كانوا ستمئة ألف وعشرين ألفا،(5/40)
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
عدا الذين دون العشرين وفوق الستين، قالوا وأخرج الله كل ولد كان في القبط من بني إسرائيل إلى بني إسرائيل، وكل ولد كان في بني إسرائيل من القبط إلى القبط، ولما أمره الله بإخراجهم أمرهم أن يستعيروا حلي القبط وأن يتركوا أصرجتهم مضيئة في دورهم لئلا يرتاب القبط ببقائهم، وليعلموا أن استعارة الحلي ليتزينوا بها في عيدهم، ففعلوا وخرجوا إلى باب البلد فأضلوه، فقال مشايخهم إنما أضللنا الباب بسبب العهد الذي أخذه يوسف علينا بأن لا نخرج من مصر حتى نأخذ ضريحه معنا، فتحروا قبره فلم يجدوه، فأخبرتهم عجوز أنه في النيل، فدعا موسى ربه، فانحسر النيل وظهر تابوته، فأخرجوه ووضعوه ضمن تابوت من رخام ونقلوه معهم، وداوموا سيرهم طيلة الليل، ولما بلغ فرعون خروجهم تبعهم بألف ألف وسبعمئة ألف، وعند طلوع الشمس دخلوا شاطىء البحر، فنظروا فإذا فرعون وقومه بأثرهم، فأوحى الله إلى موسى فضرب البحر ودخله وقومه، فدخلوه، فأنجى الله موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، راجع تفصيل هذه القصة في الآية 63 من سورة الشعراء في ج 1. قال تعالى «فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ 50» فعلنا بكم وبهم بأم عيونكم كيفية الإنجاء والإغراق بآن واحد،
«وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» ثلاثين من ذي القعدة وعشرا من ذي الحجة، ولم يقل نهارا لأن الأشهر العربية وضعت على سير القمر، وهذا هو الميقات الأول إذ يوجد آخر سنأتي على ذكره بعد. قالوا إن بني إسرائيل لم يكن لديهم شريعة ولا كتاب، وقد وعد الله موسى بإنزال التوراة ووقت له هذا الميقات، فاستخلف عليهم هارون وذهب لميقات ربه، وكان السامري يرى جبريل حين يأتيه ويرى فرسه لا تطأ شيئا إلا حيي وكان منافقا، فقبض قبضة من أثرها إذ عرف أنه إذا ألقاها على شيء يحيا، فقال لبني إسرائيل إن الحلي الذي أخذتموه من القبط لا يحل لكم فضعوه في هذه الحفرة، فوضعوه، فعمد إليه وصاغه عجلا وألقى التراب فيه، فصار يخور، فقال لبني إسرائيل هذا إلهكم الذي ذهب إليه موسى نسيه هنا. راجع تفصيل هذه القصة في الآية 148 من سورة الأعراف في ج 1، وذلك قوله تعالى «ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ» إلها فعبدتموه «مِنْ بَعْدِهِ»(5/41)
بعد ذهاب موسى إذ كان وعدهم أولا ثلاثين ليلة، ولم يعلموا بزيادة العشر، فلما مضت ظنوا أنه مات، لأن العقيدة الدينية في قوم موسى لم ترسخ في قلوبهم بعد، مع ما أظهره الله على يديه من الآيات الباهرات، ولهذا بادىء الرأي أذعنوا وسمعوا قول السامري وعكفوا على عبادة العجل، قاتلهم الله، إن موسى دعاهم إلى الله سنين، وأظهر لهم المعجزات الباهرة، فلم تثبت دعوته إلى الله الفاعل المختار في قلوبهم، وبكلمة بسيطة من السامري أذعنوا حالا لعبادة العجل الذي هو من صنع يده، وانقادوا له، ولهذا قال تعالى «وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ 51» في ذلك، لأن العجل عبارة عن صنم، فكيف تصدقون إلهيته بلا تأمل، ولا تدبر وبأنه إله موسى، وأن موسى نسيه «ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الفعل القبيح، وقبلنا تربتكم «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 52» حسن صنيعنا بكم من قبولكم بعد الإعراض وما أسلفناه لكم من النعم التي لا تقدر ولا يقدر أحد أن يعملها معكم، فضلا عن نعمة خلقكم وتمعكم بجوارحكم وحواسكم وإدرار الرزق عليكم وإيوانكم.
مطلب في الشكر وتوبة بني إسرائيل والميقات الثاني:
واعلم أن الشكر ثلاثة أنواع: شكر بالقلب وهو تصور النعمة، وشكر باللسان وهو الثناء على مؤتي النعمة، وشكر بالجوارح وهو مكافأة المنعم على النعمة.
وقيل في ذلك:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
قال موسى عليه السّلام: إلهي أنعمت علي النعم السوابغ، وأمرتني بالشكر، وإنما شكري إيّاك نعمة منك، فأوحى الله تعالى إليه يا موسى تعلمت العلم الذي لا فوقه علم، حسبي من عبدي أن يعلم أن ما به من نعمة فهي مني. وقال داود عليه السّلام: سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكرا كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة. قال تعالى «وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» التوراة «وَالْفُرْقانَ» عطف بيان على الكتاب، أو معرفة الفارق ما بين الحق والباطل لأول نظرة دون تأمل، بأن يلقي الله تعالى في قلبه عند مشاهدة الشيء أو سماع القول، هذا حق وهذا باطل «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 53» بهديه(5/42)
فتعلمون منه ما أحل لكم وما حرم عليكم فتأتون الخير وتذرون الشر على علم لأن الفعل والترك إذا كان عن جهل فهو جهل وإن كان حقا، قال تعالى «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ» الذين عبدوا العجل بعده بإغرار السامري «يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ» إلها زمن غيابي وعبادتكم له من دون الله وخرجتم عن العهد الذي أخذته عليكم وفاقا لعهد الله الأزلي بعدم عبادة غيره، فقالوا له ما نفعل حتى يغفر لنا، لأن الله الذي أمرتنا بعبادته يقبل الرجوع إليه قال «فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ» خالقكم قالوا وكيف هذه التوبة التي تمحو ذنبنا ويقبلنا بها إلهك قال «فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» وكان في شريعة موسى عليه السّلام أن من اقترف ذنبا كبيرا كالكفر فتوبته قتل نفسه، ولا يقبل الله توبتكم إلا بذلك، وبما أنكم ولا بد ميتون فقتلكم أنفسكم لرضاء الله عنكم أربح لكم، «ذلِكُمْ» القتل والتخلص من هذه الدنيا الفانية التي غررتم بها فتلاقوا ربكم تائبين خاضعين «خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ» من أن تموتوا حتف أنفسكم كفارا فتلقوه في دار البقاء على كفركم فتخلدوا في النار. وهذا بيان بأن توبتهم لا تقبل إلا بالقتل، وليس القتل هنا تفسيرا للتوبة، لأن التوبة عبارة عن الندم على الفعل والعزم على عدم العودة عليه، ولكن الله تعالى أوحى إن موسى عليه السلام أن توبة المرتد قتله، ولذلك قضى عليهم بالقتل، ولما وقع في قلوبهم ما هددهم به موسى من الخلود بالنار في الآخرة وتيقفوا ان قوله حق لما عرفوا منه، وأنهم لا بد ميتون، اختاروا قتل أنفسهم حذرا من عذاب الله، فقالوا نسلم لأمرة إلى الله، ونصبر على القتل، وجلسوا مختبين (الاحتباء ضم الساقين إلى البطن بثوب) وقيل لهم من حل حبوته أو اتقى بيديه أو بشيء آخر أو نظر لقاتله فهو ملعون، فصار الابن يقتل أباه، والأب ابنه، والأخ أخاه، والزوج زوجته، والزوجة زوجها، وقد أظلهم الله بسحابة حتى لا ترق قلوب بعضهم على بعض، وصار موسى وهرون يبكيان، ويتضرعان إلى ربهما، ويقولان يا ربنا (البقا البقا) أي اعف عن البقية، فأجاب الله دعاءهم وكشف عنهم السحابة وأمرهم بالكف عن القتل، فتفقد موسى وهرون القتلى فوجداهما سبعين ألفا، فحزنا عليهم، فأوحى الله تعالى(5/43)
إلى موسى ألم ترض أن أدخل القاتل والمقتول الجنة، ومن بقي مكفرا عنه؟
قال بلى يا رب، فأخبر قومه وأمر بدفن الموتى، وقال للباقين «فتاب عليكم» ربكم بامتثالكم أمره «إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 54» بالعفو عن الباقين وإدخال القاتل والمقتول الجنة. قال تعالى «وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» علانية مثل ما نراك وترانا، وذلك أن الله تعالى أمر موسى أن يأتي بأناس من بني إسرائيل يعتذرون عن عبادة العجل من الذين لم يعبدوه ولم ينهوا العابدين له عن عبادته. فاختار سبعين رجلا من خيارهم وأمرهم بالصوم والطهارة، وخرج معهم إلى طور سيناء، وهذا الميقات الثاني، فلما وصلوا قالوا لموسى أسمعنا كلام الله، فقال لهم أدنوا مني، فدخل الغمام، ودخلوا وراءه فسجدوا وسمعوه يكلم ربه وسمعوا كلام الله جل شأنه يقول له أنا الله ذو بكة لا إله إلّا أنا، أخرجتكم من مصر بيد شديدة، فاعبدوني لا تعبدوا غيري، ثم قالوا يا موسى أما وقد أسمعتنا صوته فأرناه عيانا، فإنا لا نؤمن لك حتى نشاهده عيانا «فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ» حال مقالتكم هذه لجرأتكم على ربكم بطلب رؤيته، والصاعقة صوت صيحة عظيمة هائلة راجع الآية 19 المارة «وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ 55» كيف متّم بسببها. ولا دلالة في هذه الآية على عدم استحالة جواز الرؤية في الآخرة، لأن بني إسرائيل عوقبوا بسؤالها وكان عقابهم بعدم إيمانهم بقول رسولهم بعد ظهور معجزته، ولأن سؤالهم كان تعنتا وعنادا، فلما رأى موسى ما حلّ بهم صار يبكي ويتضرع إلى الله ويقول يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم، فلو شئت أهلكتهم وإياي قبل أن نأتيك، أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ ولم يزل يتضرع حتى أحياهم الله تعالى كما أماتهم وهم ينظرون بعضهم إلى بعض كيف يحيون، كما نظر بعضهم إلى بعض كيف يموتون، وذلك قوله تعالى «ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 56» نعمة الإحياء بعد الموت زيادة على النعم الأولى. وتقدم بحث هذا الميقات الثاني في الآية 155 من سورة الأعراف ج 1 بأوضح من هذا، فراجعه.(5/44)
مطلب في التيه والمنّ والسلوى ومخالفتهم أمر الله ثانيا:
قال تعالى «وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ» في التيه ليقيكم من حر الشمس، إذ ليس لديكم ما تستظلون فيه رأفة بكم «وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى» غذاء وفاكهة لكم، إذ ليس لديكم ما تأكلون رحمة بكم. المنّ شيء أبيض كالثلج حلو ينزل على أوراق الأشجار ليلا بقدر ما يكفيهم كلهم، فيتناولونه نهارا.
والسلوى طير يشبه السّمان، قد سخره الله تعالى إليهم وذلله، فيأخذون منه ما يكفيهم أيضا كل يوم، فإذا كان يوم الجمعة يأخذون كفاية يومين وليلتين، لأنه لا يأتيهم يوم السبت وهم لا يحل لهم تناوله فيه. روى البخاري ومسلم عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين.
أي أن الكمأة شيء أنبته الله تعالى لخلقه من الأرض من غير سعيهم ولا مونة منهم، فهي منّ منّ الله تعالى علينا مثل المنّ لذي أنزل على بني إسرائيل لا هو نفسه، وماؤها شفاء للعين يعرفه ذو الخبرة به، لا لكل أمراض العيون، كالعسل نافع لبعض الأمراض لا كلها، وقد قال الله تعالى (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) الآية 77 من سورة النحل ج 2، والضار والنافع هو الله تعالى. راجع الآية 17 من سورة الأنعام ج 2، وقلنا لهم: (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) بلا تعب ولا كلفة «وَما ظَلَمُونا» حينما كفروا نعمتها وقالوا لن نصبر لك على طعام واحد، كما سيأتي قريبا «وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 57» ببخسهم حقنا وجحوده وعدم شكره، لأن وباله يعود عليهم. قال تعالى «وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ» أريحا قرية الجبارين الآتي ذكرهم في الآية 24 من سورة المائدة الآتية، أو بيت المقدس على قول، وقد أمروا أن يدخلوها بعد انقضاء أربعين سنة عليهم للبقاء فيه «فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً» بسعة بال وطيب حال وهناءة ورفاه «وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً» أي باب حطة من البيت المقدس إذا كان المراد بالقرية هو، وإنما سمي حطة لأن من دخله حطت عنه الذنوب، وإن كان المراد أريحا فيكون المعني أي باب شئتم، إذ لها سبعة أبواب «وَقُولُوا حِطَّةٌ» أي حط عنا ذنوبنا يا ربنا، فإذا فعلتم هذا أيها الإسرائيليون «نَغْفِرْ لَكُمْ(5/45)
خَطاياكُمْ»
لأن امتثالكم لأمرنا هذا عبارة عن طلب الاستغفار «وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ 58» منكم ثوابا زيادة على المغفرة التي طلبتموها. وسنأتي على سبب التيه ومدته وما وقع في الآية المذكورة من المائدة إن شاء الله تعالى القائل.
«فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ» فقالوا حنطة بدل حطة، ودخلوا زحفا على أستاههم بدل أن يدخلوه قائمين مستقيمين. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول صلّى الله عليه وسلم قيل لبني إسرائيل أدخلوا الباب سجدا وقولوا حطة، فدخلوا يزحقون على أستاههم، وقالوا حبة شعيرة. ورويا عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخثر اللحم (أي لم ينتن ولم يتغير) ، يشير في هذا إلى ادخار بني إسرائيل المنّ والسلوى يوما وليلة، مع أنه كان كل يوم يأتيهم عدا السبت، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر.
ويشير بهذه الفقرة الأخيرة إلى منازلة حراء آدم من الشجرة وأكلها منها قبله حتى أغرته «فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» وضع الظاهر موضع المضمر إظهارا في قبح أمرهم «رِجْزاً» عذابا مميتا «مِنَ السَّماءِ» من جهتها، وأوقعنا بهم ذلك العذاب المميت «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ 59» يخرجون عن طاعة الله ويخالفون أمر رسوله فيتجاوزون ما حده لهم. ونظير هذه الآيات الآيات 160 فما بعدها من سورة الأعراف ج 1. قال تعالى «وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ» في التيه لما أرهقهم العطش ولم يكن لهم ما يشربون منه البتة «فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ» لحجر معين بدليل التعريف فضربه امتثالا لأمر ربه «فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً» على عدد الأسباط لكل سبط عين بدليل قوله تعالى «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ» فلا يتعدى سبط على شرب غيره، وقلنا لهم «كُلُوا» من المنّ والسلوى حلوا ودسما «وَاشْرَبُوا» من الماء العذب الذي جاءكم «مِنْ رِزْقِ اللَّهِ» بلا مشقة ولا مؤنة «وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ 60» وفي هذه الآية معجزة عظيمة لسيدنا موسى عليه السّلام، إذ انفجر له من الصخرة ماء بضربة واحدة من يده في عصاه، وكونه اثنتي عشرة عينا أكبر من نبع الماء على أن معجزة محمد صلّى الله عليه وسلم أعظم، إذ فجر الله له الماء لأصحابه من بين(5/46)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)
أصابعه، لأن انفجار الماء من اللحم والدم لم يسبق له نظير لا من طريق المعجزة ولا من غيرها، لذلك فإنه أعظم من انفجاره من الصخرة التي ينفجر الماء منها عادة كما هو مشاهد،
قال تعالى «وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ» وذلك لأنهم صئموا من أكل المنّ والسلوى وشرب الماء بلا تعب ولا عمل، وسمّوها واحدا مع أنهما اثنين، لأنه لا يتبدل، فكان بمنزلة الواحد «فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها» البقل يشمل كل الخضراوات المأكولة «وَقِثَّائِها» يدخل فيه الخيار والبطيخ وأنواعهما «وَقَوْمَها» الحنطة وسائر الحبوب التي تخبز فهو كالجنس لمثلها، ولا وجه لتأويله بالثوم المعروف، لأنه داخل في قوله تعالى (وَبَصَلِها) الذي هو كالجنس أيضا يدخل فيه الثوم والكراث والبصيل وغيرها، وكذلك يقال فيما قبله وبعده، لأن الله تعالى ذكر أمهات الأشياء استغناء عما تفرع عنها «وَعَدَسِها» يعم كافة الحبوب التي تطبخ كالماش والهرطمان والرز وغيرها «وَبَصَلِها» يدخل فيه كل ذي رائحة كريهة كالبراصية والكرنب وشبهها «قالَ» لهم موسى عليه السّلام «أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى» أخس وأحقر مما لم يمكن الحصول عليه إلا بكدّ وكدح «بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ» أحسن وأطيب، وتتناولونه عفوا بلا تعب، وإذا كنتم تصرون على هذا «اهْبِطُوا مِصْراً» من الأمصار، وهذا الفرق بين مصر بلا تنوين علم على المدينة المعلومة والقطر المخصوص، وعلى مطلق بلدة بالتنوين، فإذا أردت الأول منعت من الصرف، وإذا أردت الثاني صرفت «فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ» من ذلك في أي بلدة تقصدونها «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ» الفاقة أحاطت بهم من كل جانب، لأنهم بمجرد دخولهم البلدان احتاجوا إلى الكد والجهد، وتذللوا لغيرهم لتحصيل معاشهم، وتمسكنوا لينالوا ما يقوتهم. ولا وجه لمن فسّرها بالجزية، لأنها لم تضرب عليهم، إلا أن اليهود كانوا ولا يزالون شديدي الحرص على المال، ولذلك تراهم أذلاء يتكالبون على جمعه يأتي طريق كان ولو كانوا أغنياء «وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ» رجوعهم بالغضب وانطباعهم على الذل وحب المال لسوء عقيدتهم وفساد نيّتهم وتكالبهم على الدنيا(5/47)
وعدم طاعتهم لرسلهم، والسبب في ذلك «بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ» المنزلة على رسوله «وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ» عدوانا «ذلِكَ» الكفر والقتل «بِما عَصَوْا» أوامر الله «وَكانُوا يَعْتَدُونَ 61» حدوده من قبل ويتجاوزونها. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا» بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، وهم المنافقون «وَالَّذِينَ هادُوا» سموا يهودا لقولهم (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) راجع الآية 155 من الأعراف في ج 1 «وَالنَّصارى» قوم عيسى عليه السلام سموا نصارى لأنهم من قرية الناصرة في فلسطين «وَالصَّابِئِينَ» الخارجين عن دين إلى غيره، لأنهم عدلوا عن اليهودية والنّصرانية وعبدوا الكواكب لزعمهم أن الله تعالى خلقها مدبرة لأمر هذا العالم، ولذلك يعظمونها، فهؤلاء «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ» منهم إيمانا خالصا قلبا ولسانا، وآمنوا برسوله وكتابه كذلك إيمانا حقيقا «وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» البعث بعد الموت، والعقاب والثواب، والجنة والنار بعد الحساب «وَعَمِلَ صالِحاً» مع إيمانه بما تقدم «فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» في الآخرة يثيبهم عليها من فضله «وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» من أهوالهما وعذابها «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 62» على ما فاتهم في الدنيا، لأنهم عرضوا خيرا منها.
ونظير هذه الآية الآية 69 من سورة المائدة الآتية.
مطلب رفع الطور على بني إسرائيل وكيفية مسخهم قودة وخنازير:
قال تعالى «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ» يا معشر اليهود وأعطيتمونا العهد على العمل بالتوراة، فنكثتم ونقضتم، ولما لم تمثلوا أمر رسولكم باتباع ما فيها وهددناكم بالعذاب الأخروي ولم تفعلوا، ولهذا فإنا سننزل بكم العذاب الدنيوي العاجل «وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ» حتى إذا لم تفعلوا بها أطبقناه عليكم، وها هو ذا فوقكم كالظلة «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ» فيها واعملوا به «بِقُوَّةٍ» جد وعزيمة انقيادا لقوتنا البالغة «وَاذْكُرُوا» اقرأوا وادرسوا واحفظوا «ما فِيهِ» من الأحكام والحدود والأوامر والنواهي، ولا تنسوا شيئا منها «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 63» سقوط جبل الطور عليكم. فلما رأوه لا محالة واقعا بهم سجدوا وقبلوا الأخذ بما فيها، وصاروا يرمقون الجبل من طرف أعينهم وهم سجود خشية(5/48)
هبوطه عليهم، ولذلك يسجدون حتى الآن على أنصاف وجوههم، زاعمين أنه إنما رفع عنهم هبوط الجبل بمثله. قال تعالى «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الميثاق الذي أخذ منكم قهرا على القبول بأحكام التوراة وحدودها أعرضتم عن قبول ما فيها وأدبرتم وتركتم العمل بها، ولم تخشوا أن بوقع بكم ما رفعه عنكم أو ينزل بكم ما هو أعظم «فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ» بكم بتأخير العذاب وإمهالكم للتوبة «لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» (64) بذهاب دينكم ودنياكم لأنكم غبنتم بضياع دنياكم سدى وسببتم لأنفسكم عذاب الآخرة اختيارا ورضاء. قال تعالى «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ» إذ جاوزوا حدود الله فيه لإقدامهم على ما نهوا عنه فيه احتيالا على الله وخلافا لأمره «فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» (65) مبعدين مطرودين من رحمة الله، فكانوا، وحولت صورهم البديعة الإنسانية إلى صور قبيحة حيوانية، «فَجَعَلْناها» أي الفعلة التي أوقعناها بهم «نَكالًا» عقوبة عظيمة وعبرة مؤثرة وعظمة بليغة «لِما بَيْنَ يَدَيْها» الذين حضروها منهم «وَما خَلْفَها» الذين يأتون بعدها من الأمم بتكرر السنين، إذ ينقلها السلف بصورة مستمرة إلى الخلف جيلا بعد جيل «وَمَوْعِظَةً» جعلناها «لِلْمُتَّقِينَ» (66) يتذكرون بها لأنها من أيام الله في عباده ومواقعه في بلاده، ويذكرون غيرهم بها ليعلموا كيفية فعلنا بهم.
وخلاصة هذه القصة أن الله حرم على اليهود صيد السمك يوم السبت، وقد ابتلاهم بأن ألهم السمك ذلك فصاروا يظهرون فيه عاثمين على وجه الماء، كما أخبر الله عنهم في الآية 162 من الأعراف في ج 1، فسؤلت لهم أنفسهم أن حفروا حياضا كبارا قرب الشاطى، وشرعوا لها من البحر جداول يجري فيها الماء إليها فيفتحونها يوم الجمعة، ويبقونها حتى صباح الأحد، فيتسرب السمك إليها فيسدونها عليه من جهة البحر، فيبقى السمك عاثما فيها لا يستطيع الرجوع إلى البحر، وإذا هرب إلى البرّ مات، فيضطر للبقاء في الحياض، فيأتون ويأخذونه دون كلفة، وبهذه الصورة احتالوا على صيده، وذلك في زمن داود عليه السّلام، واستمروا على ذلك مدة، ولما رأوا أن الله لم يعاقبهم قالوا قد أحل لنا العمل في السبت،(5/49)
فصاروا يفعلون فيه كل شيء، وانقسم الناس ثلاثة أقسام قسم صاد واستحل السبت، وقسم امتنع وسكت، وقسم امتنع ونهى، ولكنه لم يؤثر فيهم، فغضب الله عليهم ولعنهم وفصل بينهم وبين الآخرين بجدار حتى لا يرونهم، فقصدوهم وتسوروا الجدار لينظروهم، فإذا هم ممسوخون قردة وخنازير يتعاوون، وبقوا ثلاثة أيام ثم هلكوا عن آخرهم، قالوا ولم يمكث مسخ بعد ثلاث، ولم يتوالد البتة، وكان زعمهم هذا بتأويل الجواز، ولم يعلموا أن الله تعالى لا تخفى عليه حالتهم ونيتهم، ولهذا البحث صلة في الآية 73 الآتية إن شاء الله، ولهذا حذرهم الله تعالى سوء صنيع أسلافهم، لئلا يصيبهم ما أصابهم بأن يجعلوا هذه الحادثة نصب أعينهم يتذكرون فيها.
مطلب ما قاله الإمام المراغي وقصة البقرة وإحياء الميت:
هذا والعجب كل العجب من أن سماحة الأستاذ المراغي بمصر العظيمة اعتبر هذا المسخ عند تفسير الآية 65 من سورة البقرة معنويا، مستدلا بما رواه ابن جرير عن مجاهد بأنه ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم، وهو يعلم بأن ابن جرير ينقل الأقوال ثمّ يعلّق عليها، وقد بسط الموضوع بصورة لم تبق شكا في أن المسخ كان حقيقيا، على أن الله تعالى كرر هذه الحادثة في الآية 63 من سورة المائدة الآتية وأشار إليها في الآية 162 من الأعراف ج 1 بصورة صريحة لا مجال للتأويل فيها، وعلى قوله يقال أيضا بأن رفع الجبل كان معنويا، وموت السبعين المختارين في الآية 155 من سورة الأعراف كان صوريا، وما ذكره الله عن موسى والخضر وقصة البقرة كان صوريا، فما أدري أستكثر على الله ذلك، كلا وحاشا، ولكن قد يكبو الجواد، وزلة الكبير كبيرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال تعالى «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً» وذلك أن رجلا فقيرا ذبح ابن عمه الغني ليستولي على ماله وألقاه في قرية أخرى وادعى لدى موسى عليه السلام بدمه عليهم ودفعوا دعواه ببراءتهم منه ولا بينة لديه سوى وجود جثته في قريتهم، فسأل موسى ربه فأمره أن يذبحوا بقرة ويضربوا المقتول ببعضها فإنه يحيا ويخبر بقاتله «قالوا» أي المتهمون بالقتل(5/50)
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
يا موسى ما جوابك بموافق للسؤال «أَتَتَّخِذُنا هُزُواً» نحن ندفع عن أنفسنا دعوى القتل وأنت تأمرنا بذبح بقرة؟ وذلك لعدم علمهم الحكمة من ذلك لما بين الأمرين من التفاوت «قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» (67) الساخرين بكم وإني مثلكم في هذا ولكن الله أمرني به لإظهار أمر القتل الذي اتهمتم به، وهؤلاء كان عليهم أن يأتوا حالا بمطلق بقرة فيذبحوها، لأن موسى لم يعين لهم بقرة مخصوصة ولم يأمره الله بذلك ولكن شدّدوا فشدد الله عليهم، «قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ» حقيقتها وكم سنها «قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ» الفارض المسنة التي لم تلد أي لا كبيرة «وَلا بِكْرٌ» البكر الفتية التي لم تكن أهلا للولادة أي صغيرة «عَوانٌ» العوان النصف والوسط والتي نتجت بعد بطنها البكر من الخيل والبقر ومن النساء التي كان لها زوج ثمّ بين المراد بقوله عوان «بَيْنَ ذلِكَ» بين المسنة والبكر «فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ 68» ولا تكثروا السؤال عما لا يعني، فلم يكتفوا بذلك «قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ» شديد الصفرة كما تقول أسود حالك وأبيض أنق وأزرق صاف وأخضر أدهم أي «لَوْنُها» اصفر جدا «تَسُرُّ النَّاظِرِينَ» (69) رؤيتها لحسنها وتعجبهم بهجتها فيظهر على وجه ناظرها السرور «قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ» أسائمة أم عامله «إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ» (70) لما تأمرنا به
«قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ» ليست مذالة بالعمل «تُثِيرُ الْأَرْضَ» تحرثها للزراعة «وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ» ليست بساقية يستقى عليها الماء من البئر وغيره «مُسَلَّمَةٌ» من كل عيب «لا شِيَةَ فِيها» لا علامة ولون آخر من أبيض أو أسود أو غيره «قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ» البيان الشافي الذي لا إشكال فيه فصاروا يطلبون بقرة متصفة بما ذكر فلم يجدوا إلا واحدة عند غلام يتيم فكان هذا السؤال منهم لحكمة أرادها الله تعالى أيضا وهي أن رجلا صالحا عنده غلام صغير وعجلة صغيرة فتركها في غيضة وقال استودعنك يا رب هذه العجلة لا بني ثمّ مات، ونشأ الغلام(5/51)
صالحا مرضيا لأمه فقالت له يا بني إن أباك استودع ربك عجلة في الغيضة (الحرج) فاذهب وأت بها وعلامتها أنك إذا رأيتها يتخيل لك شعاع الشمس يخرج من جلدها فذهب فرآها فقال أعزم عليك برب إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلا أقبلت إلي فأقبلت فأخذها، وكان الناس عند ما يرونها يسمونها المذهبة فلما أتى بها إلى أمه قالت اذهب وبعها بثلاثة دنانير ولا تطلق بيعها إلا برأيي فأخذها إلى السوق فأرسل الله ملكا بصورة إنسان وأعطاه بها ثلاثة دنانير فباعها له على رضاء أمه، فقال له الملك أعطك ستة دنانير وبعينها دون مشورة أمك، قال لو وزنتها بالذهب لا أبيعها إلا برضاء أمي، فرجع فأخبر أمه، فقالت بعها بستة على رأيي، فرجع بها إلى السوق فجاءه الملك فقال بعتها لك بستة على رأي أمي، فقال أعطيك اثني عشر ولا تستأذن أمك، فقال مقالته الأولى، ورجع فأخبر أمه، فقالت بعها باثني عشر برأيي، ثم انثنت وقالت قد وقع في روعي أنّ الذي يأتيك ملك، فقل له أتأمرني أبيعها أم لا؟ فذهب وأخبره بما قالت أمه، فقال قل لأمك أمسكيها فإن موسى ابن عمران سيشتر بها بملء مسكها (جلدها) ذهبا، فرجع وأخبر أمه بما قال، واحتفظت بها ولما لم يجد أهل القرية بقرة موصوفة بما ذكر موسى إلا هذه أخذوها منه بوزن جلدها ذهبا، وأحضروها لموسى «فَذَبَحُوها» بأمره بقصد براءة ذمتهم من جرم القتل «وَما كادُوا يَفْعَلُونَ» (71) شراءها وذبحها لغلاء ثمنها ولكنهم اضطروا لذلك لبراءتهم، قال تعالى خطابا للمتخاصمين «وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها» اختلفتم وتدافعتم بسببها، لأن رب القتيل يسن قتل قريبه إليهم وهم ينكرون، وبعد أن قمتم بما أمرتم فاتركوا المخاصمة الآن «وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» (72) من أمر القتل لأنه سيفضح الأمر، قال تعالى «فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها»
فأخذوا لسانها فضربوا به القتيل فحيي وقال قتلني ابن عمي المدعي المذكور، فظهرت براءة أهل القرية وكذب المدعي فحرمه موسى من إرثه كله وأوقع عليه القصاص. وقد جاء في الخبر عن سيد البشر ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة، وهذا مما هو موافق لشرعنا الذي جاء به خاتم الرسل من حرمان القاتل ميراث مقتوله «كَذلِكَ»
كما أحيا الله هذا الميت(5/52)
«يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى»
يوم القيامة فلا تستبعدوا على الله شيئا أيها المنكرون البعث «وَيُرِيكُمْ آياتِهِ»
هذه وأشباهها «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»
(73) معانيها فتدبرونها وتستدلون بها على غيرها، هذا وإنما لم يقدم قصة القتيل على قصة البقرة لئلا تكون واحدة ويذهب الغرض من تقريعهم على قتل النفس المحرمة وعلى ترك المسارعة إلى امتثال الأمر بذبح البقرة. وفائدة الضرب المأمور به في هذه الآية الكريمة مع أن الله تعالى قادر على إحيائه دون ضربه ودون ذبح البقرة، لئلا يتوهموا بأن موسى أحياء بضرب من السحر الذي اتهموه به أو بالحيلة التي يزعمونها.
وإنما كانت بقرة ولم تكن شاة لأنها أعظم القرابين عندهم، وقد جرت عادتهم أن يتقربوا إلى الله بمثلها، ولحصول المال العظيم لصاحبها ابن الرجل الصالح، ولأنها كانت وديعة الله. هذا وهل يستطيع الأستاذ المراغي أن يقول ان هذه القصة معنوية، وهل قصة عزيز وقصة إبراهيم الآتيتين في الآية 258 فما بعدها وغيرهما مما لا يعد، صورية، رحمه الله لا نعلم ماذا أراد بجرأته هذه؟ تجاوز الله عنه.
الحكم الشرعي في مثل هذه الحادثة إذا وجد قتيل في قرية أو محلة ولم يعرف القاتل ولا بينة على القتل ولم يعلم الذي رماه فيها، فإن الإمام يختار خمسين رجلا من صلحاء القرية أو المحلة برأيه أو برأي ولي المقتول ويحلف كل منهم فيقول والله ما قتلته ولا أعلم له قاتلا، فإن حلفوا لا يقتصّ منهم ولكن تؤخذ دية القتيل من أهل القرية أو المحلة كافة، وإن كان في الطريق العام كانت ديته على بيت المال، لأن السلطان مكلف بأمن الطريق. قال تعالى «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» البرهان العظيم وهو إحياء الميت وإخباره عن قاتله وانتزعت منكم لرحمة وتلطختم بأدران الذنوب، فغلفّت وتكاثف صدأها «فَهِيَ كَالْحِجارَةِ» في صابتها «أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً» منها، لم قل كالحديد مع أنه أصلب من الحجارة لأنه يلين بالنار لكل أحد، وقد لان لداود عليه السّلام بغيرها، والحجارة غير قابلة للتلبين وقد تصير ترابا بالحرق لكنها لا تلين أبدا «وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ» فهي أفضل إذا من القلب القاسي ويرجى منها الفائدة بخلافه «وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ» كالعيون التي هي(5/53)
دون الأنهار «وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» أي ينزل بسرعة من قمة الجبل إلى أسفله انقيادا لأمر الله تعالى وهو قادر علي إفهامها. روى مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، وإني لأعرفه الآن. أي وان قلوبكم يا بني إسرائيل لا تخشى ولا تلين ولا تعقل قول المرسلين، فاعملوا ما شئتم «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (74) في الدنيا من الشرور.
مطلب مثالب بني إسرائيل وتحويفهم كلام الله ونقضهم عهوده:
وفي هذه الآية توبيخ على أفعالهم القبيحة الماضية وتهديد ليكف عنها أهل زمنه ولا يقدم على مثلها في المستقبل أبناؤهم. قال تعالى «أَفَتَطْمَعُونَ» يا سيد الرسل وإنما خاطبه بلفظ الجمع تعظيما له وتكريما لشائة لأنه هو الداعي للإيمان بالله وحده «أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ» هؤلاء اليهود وقد سمعتم ما وقع منهم تجاه نبيّهم «وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ» أي من آبائهم مع موسى عليه السّلام يوم الميقات «يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ» معه وبعده كانوا يسمعون التوراة التي هي كلام الله من موسى عليه السّلام نفسه «ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ» يغيرونه ويبدلونه «مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ» وعوه وفهموه إذ قالوا لموسى سمعنا الله يقول إن تفعلوا فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا، فخالفوه عمدا «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (75) أن الله تعالى لم يقل ذلك ويعلمون أنهم اختلفوه من أنفسهم فإذا حرفوا نعتك الموجود في التوراة الذي سمعه أسلافهم من موسى عليه السّلام فقالوا غير الواقع فليس بشيء عندهم أن يكذبوا عليك بعد أن كذبوا على الله تعالى «وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا» بك «قالُوا آمَنَّا» بما آمنتم به يا أصحاب محمد وقد علمنا أن صاحبكم صادق ونعته موجود عندنا في التوراة كما هو عليه الآن، ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى بحق المنافقين، وهذه بحق اليهود فقط، «وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا» أي رؤساؤهم الذين نزلت بحقهم هذه الآيات وهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد ووهب بن يهودا وأضرابهم إلى منافقيهم «أَتُحَدِّثُونَهُمْ» كيف تحدثونهم «بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» في كتابكم من وصف محمد وتخبرون أصحابه(5/54)
بأنه حق «لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ» بما تحدثونهم «عِنْدَ رَبِّكُمْ» في الآخرة كما يخاصمونكم به في الدنيا «أَفَلا تَعْقِلُونَ» (71) أن تصديقكم لهم يكون حجة عليكم فيحق عليكم القول باعترافكم، فيا سيد الرسل قل لهم «أَوَلا يَعْلَمُونَ» هؤلاء «أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ» (77) من أقوالهم وأفعالهم وأنه يخبر نبيه بها أفلا ينتهون عن مثل هذه الأعمال وهم يعلمون أن الله يفضحهم كما فضحهم في مواقع كثيرة. ثم طفق يعده مثالبهم فقال «وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ» جمع أمنية أي تلاوة مجردة، وكلمة تمنى تأتي بمعنى تلا كما في قوله:
تمنى كتاب الله أول ليلة ... تمني داود الزبور على رسل
وهي في الأصل بمعنى الأكاذيب «وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» (78) لا يدرون ما هو الكتاب «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ» قال بأيديهم مع أن الكتابة لا تكون بغيرها تأكيدا لنفي احتمال أمرهم غيرهم بها ولعلمه أن ستكون الكتابة بالآلة، وهذا ما يؤيد ما ذكرناه في الآية 48 من سورة العنكبوت في ج 2، على أنه صلّى الله عليه وسلم لا يكتب «ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» بلا خجل ولا حياء افتراء على الله، وذلك أنهم حرفوا صفة الرسول فكتبوا أنه طوال أزرق العينين سبط الشعر، بدل ما هو مكتوب في الأصل بأنه ربعة أكحل العينين حسن الشعر حسن الوجه، وصاروا إذا سئلوا عن صفته تلوا على السائل ما كتبوه وكتموا ما هو الواقع عند الله ومثبت في التوراة، وذلك ليس إلا «لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا» من جهلتهم وسفلتهم «فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» (79) من الجعل الذي يأخذونه من عوامهم على تبديلهم كلام الله وافترائهم عليهم «وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً» بقدر مدة عبادتهم العجل وهي عشرة أيام على ما قيل «قُلْ» لهم يا خاتم الرسل «أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً» على هذا وتمسكتم به «فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ» حتى قلتم هذا من حيث لم تأخذوا به عهدا من الله «أَمْ تَقُولُونَ» كذبا من عند أنفسكم «عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» (80) بهتا وافتراء عليه ورجما بالغيب(5/55)
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
«بَلى» تمسكم النار حتما إن بقيتم على كفركم، لأن «مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ» بأن مات مصرا عليها وهي لعظمها محيقة به من كل أطرافه «فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (81) لا يخرجون منها أبدا.
وأعلم أنه يوجد في القرآن ثماني آيات مبدوءة بلفظ بلى هذه والآية 111 الآتية والآيتين 75/ 125 من آل عمران الآتية والآية 81 من سورة يس و 14 من سورة القيامة في ج 1 و 59 من الزمر و 15 من الانشقاق ج 2، أما الآيات المبدوءة بالباء فهي 55 آية. «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (82) قال تعالى «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ» في التوراة «لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ» وحده «وَبِالْوالِدَيْنِ» أحسنوا «إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ» أحسنوا إليهم لخلوهم عمن يقوم بمعاشهم ومصالحهم وأخر المساكين لأنهم دون اليتامى القاصرين عن درجة البلوغ لأنهم يقدرون على أن ينتفعوا بأنفسهم في الجملة ويقدرون على نفع غيرهم بالخدمة كما قدم ذا القربى لأنهم أقدم والشفقة عليهم أعظم أجرا منها على غيرهم «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» عاملوهم بالمعروف وعاشروهم باللطف وألينوا لهم القول واخفضوا لهم الجانب وأحسنوا أخلاقكم معهم «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» وقد عدل في هذه الأوامر الثلاثة الأخيرة من الغيبة إلى الخطاب، وهي تتمة التكاليف الثمانية التي أمروا بها بالتوراة إيذانا بأمرهم بها، لأن الأول قوام الأخلاق، والأخير ملاك الدين وإعلاما بعدم قيامهم بها بدليل قوله «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ» عن القيام بهذه العهود وأعرضتم «إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ» أخذوا بها ولم يعرضوا عنها «وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ 83» حتى الآن أيها المخاطبون كإعراض الأكثر من آبائكم، وذكرنا في الآية 151 من الأعراف والآية 15 من الإسراء في ج 1 ما يتعلق بآيات بني إسرائيل والوصايا التي أنزلت عليهم ليعلموا بها بصورة مفصلة في الآية 151 من الأنعام في ج 2 فراجعها، «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ» أيها الإسرائيليون «دِماءَكُمْ» بأن يقتل بعضكم بعضا «وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ» أي لا يخرج أحدكم الآخر من داره وبلده «ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ» بهذا العهد وتعهدتم بإنقاذه(5/56)
«وَأَنْتُمْ» أيها الحاضرون الآن «تَشْهَدُونَ 84» على أحقية ذلك ووجوب الوفاء به كما شهد من قبلكم به لأنه مدون في كتابكم ولكنكم تفعلون بخلافه كالذين من قبلكم لقوله تعالى «ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ» المخاطبون «تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ» الآن كأن هذا العهد لم يؤخذ عليكم ولم تتعهدوا به وها انكم «تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» وتتعاونون على ظلمهم «وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ» بمالكم وتنقذونهم من أيدي أعدائهم «وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ» كما هو محرم عليكم قتلهم وعدم معاونتهم فهذه أربعة عهود نقضتموها باختياركم جرأة على الله وهي ترك القتل وترك الإخراج وترك المظاهرة ولك الأسرى وتمسكتم بغيرها «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ» فتوقنون ببعض ما عاهدتم الله عليه وهو فداء الأسرى «وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ» وهو القتل والإخراج وعدم التعاون «فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ» أيها اليهود على هذه المخالفات «إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» وهوان وذلة ومسكنة فيها «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ» الذي لا تطيقه الرواسي ولا مخلص لكم منه «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ 85» بل محصيه عليكم ومجازيكم به لا محالة «أُولئِكَ» الذين هذه صفاتهم وتلك حالتهم هم «الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ» بمقابل ثمن بخس فان «فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ» يوم القيامة «وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ 86» فيها. وسبب نزول هذه الآيات هو أن بني قريظة حلفاء الأوس وبني النضير حلفاء الخزرج كان بينهما عداوة قديمة وكانا يحاربان مع حلفائهم فإذا غلب أحد الفريقين خربوا ديارهم وأخرجوهم منها، وكانوا إذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له مالا وفدوه به، فعيرتهم العرب كيف يقتلونهم ثم يفدونهم، فيقولون أمرنا الله بأن نفديهم، فقال لهم العرب كيف إذا تقاتلونهم، قالوا نستحي أن تذل حلفاؤنا، فعيرهم الله تعالى فيما أنزله على رسوله في هذه الآيات، وأخزى بني قريظة بالقتل والأسر والسبي، وبني النضير بالإجلاء عن منازلهم إلى أريحا وأذرعات من أرض الشام كما سيأتي تفصيله في سورة الحشر الآتية. قال تعالى(5/57)
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا» اتبعنا «مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ» واحدا تلو الآخر، فبعد موسى يوشع، لأن هرون توفي قبله، ثم شمويل، فداود، فسليمان، فأرميا، فحزقيل، فالياس، فاليسع، فزكريا، فيحيى، وكل هؤلاء وما بينهم ممن لم يقص الله علينا أسماءهم وأقوامهم شريعتهم التوراة، ولما بعث عيسى بن مريم وأنزل الله عليه الإنجيل عدل بعض أحكامها وصار عمل عيسى ومن بعده بالتوراة والإنجيل معا، ولهذا قال تعالى «وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ» الموضحة
لأحكام التوراة والمعجزات الظاهرات التي لا تقبل التأويل كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وشفاء المرضى «وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» جبريل عليه السلام، وقد أمر أن يكون معه من حين ولادته إلى وقت رفعه، وهذا هو معنى التأييد، وما قاله بعض المفسرين إن المزاد به الإنجيل لأن فيه حياة الأرواح كالقرآن بعيد عن المراد، وإن كان الإنجيل كذلك، لمخالفته للظاهر الذي هو الحقيقة، فالعدول عنها إلى المجاز دون صارف لا وجه له، وقد صرح الله تعالى بإتيانه بالإنجيل بآيات كثيرة عدا هذه كما صرح بالتوراة لموسى ثمّ ذكر آياته كاليد والعصا وبعض معجزاته الأخرى، وروح القدس أطلق على سيدنا جبريل بمواقع متعددة حتى صار كأنه علما له، أما لفظ الروح فقط فيطلق على القرآن وعلى التوراة وعلى الإنجيل بذلك المعنى وعلى نوع خاص من الملائكة كما مر في الآية 38 من سورة الأنبياء في ج 2 «أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ» أيها اليهود «بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ» من الأمور «اسْتَكْبَرْتُمْ» عنه وخالفتموه تبعا لهواكم «فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ» مثل عيسى قبلا ومحمد الآن «وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ» (87) كزكريا ويحيى ومن تقدمهما «وَقالُوا» هؤلاء اليهود «قُلُوبُنا غُلْفٌ» خلقة مغشاة بأغطية لا يصل إليها ما جاء به محمد فأكذبهم الله بقوله ليست كذلك «بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ» طردهم وأقصاهم من رحمته بسبب كفرهم «فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ» (88) منهم بمحمد صلّى الله عليه وسلم، والأكثر الذين يكفرون به «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ» من التوراة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم «وَكانُوا مِنْ قَبْلُ» قبل نزوله وبعثة محمد «يَسْتَفْتِحُونَ»(5/58)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)
يستنصرون به «عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا» من مشركي العرب وغيرهم، إذ كانوا يقولون عند الشدة اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان الذي وصفته لنا في التوراة فكان يستجاب لهم وينصرون على أعدائهم، وكانوا يقولون للمشركين قد أطل زمان نبي يخرج بتصديق ما نحن عليه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فأكذبهم الله تعالى إذ لم يوفوا بقولهم هذا لقوله تعالى «فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا» وهو محمّد صلّى الله عليه وسلم «كَفَرُوا بِهِ» بغيا وحسدا لأنه ليس منهم «فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ 89» بما في كتب الله الجاحدين لرسله «بِئْسَمَا» قبح شيء «اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» على رسوله من القرآن بأن استبدلوا الباطل بالحق «بَغْياً» وعدوانا وإنكارا من «أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» كمحمد مثلا حسدا وطلبا لما ليس لهم، ولأنه ليس منهم «فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ» لأنهم ضيعوا التوراة إذ لم يأخذوا بما فيها، وكفروا بمحمد والقرآن أيضا، أي أنهم رجعوا بغضب كثير، لأن المراد به الترادف والتكاثر لا غضبان فقط، وعلى هذا قوله:
ولو كان رمحا واحدا لاتقيته ... ولكنه رمح وثان وثالث
أي رماح كثيرة «وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» (90) عند الله في الآخرة، وهذه الآية بلفظها هذا لم تكرر في القرآن.
قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» القرآن فما قبله «قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا» أي التوراة فقط مع أنهم لم يؤمنوا بها لجحدهم ما جاء فيها من لزوم الإيمان بالرسول محمد «وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ» أي الكتاب العظيم الذي أنزل بعد كتابهم والرسول الكريم الذي أرسل بعد رسولهم أي الإنجيل والقرآن وعيسى ومحمد «وَهُوَ الْحَقُّ»
لأن كلا جاء «مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ» من الكتاب العظيم الصحيح «قُلْ» لهم يا سيد الرسل إذا كنتم تؤمنون بما أنزل إليكم «فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ» قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وسلم ونزول كتابه ومن قبل مولد عيسى ونزول كتابه إلينا «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (91) بالتوراة، لأنها تمنع من معارضة الأنبياء ولو قولا، فضلا عن القتل، وتأمر باتباعهم ولم تتبعوهم.(5/59)
هذا، وقد أضاف الله تعالى ما فعله آباؤهم إليهم لرضاهم به، والراضي بالشيء كفاعله، ولأنهم أنفسهم مصرون على ما فعله أسلافهم بيحيى وعيسى ومحبذون له. قال تعالى «وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ» حينما ذهب لميقات ربه ليأتيكم بالتوراة «وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ» (92) كرره تأكيدا لإيقاع الحجة عليهم وتبكيتا بهم وتقريعا «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ» وقلنا لكم «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» كرره أيضا لتلك الغاية بزيادة قوله «وَاسْمَعُوا» سماع قبول وطاعة لما تؤمرون به. ونظير هاتين الآيتين الآيتان المارتين 51 و 67. قال تعالى حاكيا عنادهم «قالُوا سَمِعْنا» قولك «وَعَصَيْنا» أمرك ولولا مخافة هبوط الجبل علينا لما سجدنا «وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ» بأن تداخل حبه وتغلغل في قلوبهم فاندمج فيها، والأصل حب العجل وقد حذف إيجازا والحذف في مثله كثير في القرآن لأنه من أنواع البديع، وعبر بالشرب لأن من أراد حصر الحب أو البغض استعار له اسم الشراب لأنه أبلغ مساغا في البدن، ولهذا قال الأطباء الماء مطية الأغذية والأدوية.
وكان شدة حبهم العجل «بِكُفْرِهِمْ» بسببه حرصا على عبادته «قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ» الذي تزعمونه إشارة إلى قولهم (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) والمخصوص بالذم ما تقدم من قولهم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) وعبادة العجل، وفي إسناد الأمر إلى الإيمان تهكم بهم، وفي إضافة الإيمان إليهم إيذان بأنه ليس بإيمان حقيقة ينبيء عنه قوله جل قوله «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (93) لأن حرف (إِنْ) يؤذن بالشك ويدل على عدم الوقوع غالبا وهو تكذيب لهم من الله بدعواهم الإيمان، أي لو كنتم مؤمنين ما فعلتم «قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ» كما تزعمون وهذا إشارة لقولهم (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) في الآية 111 الآتية، ولقولهم (نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) الآية 21 من المائدة الآتية بما يدل على أنهما نزلنا قبل هذه الآيات، أي إذا كنتم كما تزعمون من خلوص الدار الباقية لكم «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (94) لأن من علم أن الجنة مأواه أحب الإسراع إليها تخلصا(5/60)
من هذه الدار الكدرة النكدة الفانية وتوصلا إلى السعادة الأبدية الهنية، قال تعالى «وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً» لعلمهم كذب ادعائهم بذلك «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» من القبائح، وخص اليد دون بقية الجوارح لأن مبدأ أكبر جنايات الإنسان من يده «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» (95) حال إيقاعهم الظلم وقبله، وصفهم بالظلم لأنه أعم من الكفر فكل كافر ظالم ولا عكس.
مطلب حرص اليهود على الدنيا وعداوتهم لجبريل عليه السلام وابن حوريا وعمر بن الخطاب وقوة إيمانه:
«وَلَتَجِدَنَّهُمْ» يا سيد الرسل «أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ» أي لا أحرص منهم عليها «وَ» حتى أنهم أحرص «مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» على الحياة مع أنهم لا كتاب لهم يعلمون منه أن هناك دارا أخرى ينعم بها المؤمن ويعذب فيها الكافر فلا لوم عليهم إذا حرصوا على البقاء في الدنيا، وفي هذه الآية زيادة توبيخ لليهود لأنهم يقرون بالمعاد ويتأهبون له، ويحرصون على الدنيا أكثر من المشركين الذين لا يعترفون به. ثم بين شدة حرصهم بقوله جل قوله «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» يا حسرهم وأسفهم لأنه لا ينفعهم تعميرهم مهما كان «وَما هُوَ» تعميرهم تلك المدة لو كان واقعا فإنه ليس «بِمُزَحْزِحِهِ» ومباعده أو محركه «مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ» تلك المدة أو أكثر منها، لأن مرجعه الآخرة ليبصر نتيجة أعماله «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ» (96) في دنياهم لا يخفى عليه شيء منه ومجازيهم عليها في الآخرة، ولما قال عبد الله بن صوريا أحد أحبار اليهود إلى محمد صلّى الله عليه وسلم أي ملك يأتيك من السماء؟ قال جبريل، قال هو عدونا فلو جاءك ميكائيل لآمنا بك، جبريل ينزل بالعذاب، ولأن الله تعالى أخبر نبينا أن بختنصر يخرب بيت المقدس ويهلكنا قتلا وتدميرا، وقد بعثنا رجلا ليقتله ببابل فدافع عنه جبريل قائلا له إن كان الله أمره بهلاككم فلن تسلطوا عليه، وإن لم يكن هو فعلى أي شيء تقتله، وكان بختنصر وهو الذي دافع عنه حتى بقي حيا وفعل ما فعل فينا، فأنزل الله تعالى «قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ» بسبب إتيانه بالقرآن لك وإنزاله من لدنا عليك يا سيد الرسل «فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ»(5/61)
أي القرآن كناية عن مذكور وإضمار ما لم يسبق ذكره يكون للتفخيم إذ يجعله لفرط شهرته دالا على نفسه. راجع الآية الأولى من سورة القدر والآية 33 من سورة ص في ج 1، وهذا شائع في كل مشهور متعارف، أي ان الذي يكره جبريل من أجل إنزال القرآن «عَلى قَلْبِكَ» يا سيد الرسل «بِإِذْنِ اللَّهِ» الذي أمره بذلك ولم يفعله من تلقاء نفسه، وكان ذلك القرآن «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب السماوية «وَهُدىً وَبُشْرى» من الله «لِلْمُؤْمِنِينَ» (97) بحسن العاقبة، قل لهم يا سيد الرسل «مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ» كان عدوا لله، ومن كان عدوا لله فهو كافر، ولهذا قال تعالى «فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ» (98) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سمع قول عدو الله بن صوريا من كان عدوا لأحدهما أي جبريل وميكايل فهو عدو للآخر، ومن كان عدوا لهما كان عدوا لله، فلما نزلت هذه الآية قال صلّى الله عليه وسلم لعمر قد وافقك ربك يا عمر، فقال والله لقد رأيتني في ديني بعد ذلك أصلب من الحجر. أي أنه لم يغتر بذلك كما وقع لعبد الله بن أبي سرح المار ذكره في الآية 14 من المؤمنين ج 2، وذلك أن القرآن العظيم كما ذكرنا في الآية 44 من سورة فصلت المارة في ج 2 نور لأناس ضلال لآخرين بآن واحد، لأن سيدنا عمر زادته إيمانا موافقته لربه في هذه الآية، وعبد الله بن أبي سرح لما رأى ما خطر بباله من إكمال الآية المذكورة وهي جملة (فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ونزلت الآية بها ارتد والعياذ بالله وقال ما قال فأنزل الله فيه (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ) الآية 193 من الأنعام في ج 2 فراجعها، ولما قال عدو الله المذكور ما جئتنا بشيء يا محمد ولم ينزل الله عليك آية أنزل الله تعالى «وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ» لا تحتاج إلى نظر أو تدبر «وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ» (99) الخارجون عن الطاعة، لأن آيات القرآن واضحة كافية لمن يريد الإيمان بها والاعتراف بمنزلها والتصديق لمن أنزلت عليه، ومن لم يرد لو ملأت له الدنيا آيات ينتفع بها أبدا. ولما قال مالك بن الصيف والله ما عهد الله إلينا في محمد عهدا أي في لزوم الإيمان به أنزل الله تعالى «أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً(5/62)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
نَبَذَهُ»
أي طرحه وقذفه «فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» (100) أن نقض الميثاق وجحود الحق ذنب يؤاخذ عليه وإلا لما فعلوه ولاعترفوا بعهد الله الذي أخذه عليهم بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم
«وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» هو محمد صلّى الله عليه وسلم بدليل قوله «مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ» من التوراة «نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» التوراة «كِتابَ اللَّهِ» الذي أنزل عليه وهو القرآن بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول. وقال بعض المفسرين إن المراد بكتاب الله في هذه الآية هو الإنجيل، لأنه نزل بعد التوراة وليس بشيء، لعدم سبق ذكره، لأن المكالمة هذه كلها مع اليهود. وقال أكثرهم إن المراد به التوراة، لأن المعرفة إذا أعيدت كانت عين الأولى، ولأن النبذ لا يكون إلا بعد التمسك، والأول الذي جرينا عليه الأولى، لأن الكلام مع حضرة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم لا مع عيسى وموسى عليهما الصلاة والسلام، والمعنى أن الرسول محمد يصدق ما بأيديهم من التوراة وهم بالعكس يكذبون ما جاءهم به من القرآن، ويتركونه ولا يؤمنون به مع أنه مصدق لكتابهم، فكأنهم نبذوه «وَراءَ ظُهُورِهِمْ» لعدم التقيد به والنظر إليه «كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» (101) شيئا مما جاء فيه حسدا وعداوة بمحمد، مع أنهم مأمورون باتباعه في كتابهم. قال تعالى «وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ» من السحر والشعوذة «عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ» في زمانه وعهده، وذلك أنه فشى في بني إسرائيل أن الشياطين يعلمون الغيب، فلما بعث سليمان عليه السلام جمع ما دونته الكهنة من أخبار الشياطين ودفنه تحت كرسيه، وقال لا أسمع بعد الآن أحدا يقول إن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه، فانتهوا، فلما مات سليمان تمثل الشيطان بصورة إنسان. وقال لبني إسرائيل هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا، قالوا نعم، قال احفروا تحت هذا الكرسي وأراهم مكانه وتباعد، فقالوا له أدن قال لا، وإنما قال لا لأن الشيطان إذا دنا من كرسيه احترق بأمر الله، وقال لهم إذا لم تجدوا ما ذكرته لكم فاقتلوني، فحفروا فرأوا تلك الكتب فأخرجوها، فقال لهم إن سليمان كان يحكم الجنّ والإنس والطير بهذه الكتب، فدونكم إياها واحرصوا عليها فهي الكنز الذي لا ينفد، ثم غاب عنهم، وفشا(5/63)
في الناس أن سليمان كان ساحرا، ولذلك فإن أكثر السحر يوجد عند اليهود، فأنزل الله تعالى براءته بقوله عز قوله «وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا» لأنهم «يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» ويأمرونهم به، ولم يكن سليمان ساحرا وإنما كان نبيا، وصاروا يدونون السحر ويعلمونه للناس لإغوائهم «وَ» يعلمون الناس أيضا «ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ» بلدة قديمة بأرض الكوفة من العراق، سميت بذلك على ما قيل، لأن تبلبل الألسن وقع فيها، ويفهم من قوله تعالى (وَما كَفَرَ) أن تعلم السحر كفر، وقدمنا ما يتعلق به في الآية 52 من سورة الشعراء المارة في ج 1، وهذا ما يدل على وجود الشياطين واختلاطهم مع البشر وأنهم كانوا قبل خلق آدم يسكنون الأرض بصورة ظاهرة كما بيناه في الآية 30 المارة وما ترشدك إليه من المواقع.
مطلب في السحرة وهاروت وماروت والحكم الشرعي في السحر والساحر وتعلمه وتعليمه والعمل به:
هذا وسبب إنزال الملكين على ما ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره أن الحكمة من ذلك هو أن السحرة كانوا يسترقون السمع من الشياطين ويلقون ما يسمعون بين الخلق، فيشتبه بالوحي النازل على الأنبياء، فأنزلهما الله تعالى إلى الأرض ليعلما الناس السحر فيظهر بذلك الفرق بين كلام الله تعالى وكلام السحرة.
وقال ابن جرير الطبري إن الله عرّف عباده جميع ما أمرهم ونهاهم ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم بما أمروا به ونهوا عنه، ولو كان الأمر على غير ذلك لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم، والسحر مما نهى عباده عنه من بني آدم، فغير منكر أن يكون الله تعالى علّمه الملكين اللذين سماهما «هارُوتَ وَمارُوتَ» اسمين أعجميين سريانيين وجعلهما فتنة لعباده كما أخبر عنهما بقوله «وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ» ابتلاء ومحنة «فَلا تَكْفُرْ» أي لا تتعلم السحر فتكفر إذا عملت به عملا يخالف شريعتك التي أمرك الله بها على لسان رسله باتباعها، حذار حذار أيها الإنسان، ومقاربة ما يؤدي إلى الكفر، وإنما يقولان ذلك ليختبر الله عباده الذين نهاهم عن السحر وعن التفريق الملمع به إليهما بقوله جل قوله(5/64)
«فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ» فيمتحض المؤمن بتركه ويجترىء الكافر على تعلمه والعمل به، وعلى هذا فيكون الملكان في هذا التعليم مطيعين لله تعالى إذ كان بإذنه، ولا يضرهما سحر من سحر بعد نهيهما إياه عنه، لأنهما أديا ما أمرا به، ومما يدل على أن السحر لا تأثير له بنفسه، قوله تعالى «وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» وهذا نص قاطع في عدم تأثيره، فلا عبرة بقول من يقول إن له تأثيرا ويخشى عليه الكفر إلا إذا تأول، وإلا فهو كافر بلا خلاف لمخالفته كلام الله تعالى «وَيَتَعَلَّمُونَ» هؤلاء السحرة «ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا» أولئك اليهود، لأن الكلام مرتبط بقوله تعالى (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) الآية 24 المارة. وقصة السحر مستطردة حتى لو حذفتها على سبيل الفرض إذ لا يجوز حذف حرف واحد من القرآن على القطع ويكفر فاعله، فوصلت ما بعدها بما قبلها لا ستقام المعنى مع استقامته معها، وهذا شأن جميع الآيات المعترضات في القرآن العظيم وهو من خصوصيات بلاغته، وقوة سبكه، وحسن نظمه، ومتانة معناه، وفصاحة مبناه، ومن جملة إعجازه، جل منزله والخيبة «لَمَنِ اشْتَراهُ» استبدل ما تتلوا الشياطين بما في كتاب الله تعالى واختاره عليه، ومن كان هذا شأنه «ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ» حظ ولا نصيب فيها «وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ» أي الذين باعوها به «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ 102» أن السحر والكفر سبب حرمانهم من الجنة «وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا» بمحمد وما جاءهم به «وَاتَّقَوْا» الكفر والسحر «لَمَثُوبَةٌ» لهم «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ» لهم مما يتقاضونه من الثمن البخس بغضب الله «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ 103» أن ثواب الله تعالى خير لهم من ذلك، وإن النجاة باتباع الدين الحق ليس بالشعوذة. هذا، واعلم أن السحر له وجود وحقيقة، والعمل به كفر إذا اعتقد بتأثيره بنفسه، أما إذا اعتقد أن المؤثر الحقيقي هو الله تعالى، فلا، وهو قد يؤثر بتأثير الله تعالى في الأبدان بالأمراض والجنون، وربما أدى إلى الموت، لأن للكلام تأثيرا في الطباع، فقد يسمع الإنسان ما يكره فيحمّ له، وقد مات رجال من كلام سمعوه بتقدير الله تعالى(5/65)
موتهم عليه، منهم عبد الواحد بن زيد وغيره كثيرون، راجع كتاب الخوف ص 123 فما بعدها من الجزء الرابع من كتاب إحياء العلوم للغزالي رحمه الله، وقال الأحنف بن قيس والله إني لأسمع الكلام أحمّ له ثلاثة أيام. الحكم الشرعي:
السحر من الكبائر التي نهى الله عنها، وتعلمه للعمل به حرام، وقد عده رسول الله صلّى الله عليه وسلم من السبع الموبقات في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة وأخرجه الشيخان في الصحيحين، وقد أمرتا باجتنابه، ولا يسعنا إلا الامتثال، وهو من حيث تعلمه على قسمين الأول يكفر صاحبه إذا اعتقد أن القدرة الحاصلة من التأثير نفسه حينما يفعله وهو المؤثر فيه كما إذا اعتقد المنجم أن الكواكب هي المؤثرة للفعالة فيما يقع من العوارض الكونية، وفي هذه الحالة يجب قتله شرعا بدليل ما رواه جندب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: حد الساحر (أي الذي هذه صفته) ضربه بالسيف- أخرجه الترمذي-. والثاني التخييل والتمويه بما يشاكل النيرجيّات والشعبذة التي لا يعتقد صاحبها قدرة لنفسه فيها، كمثل من يعتقد تأثير الكواكب بقدرة الله تعالى، ففي هذه الحالة تكون معصيته من الكبائر التي يحرم فعلها ولا تستوجب القتل كفرا. هذا، وما ذكروا من قصة هاروت وماروت من أن الملائكة قالت يا ربنا إن الذين اخترتهم لعمارة أرضك يعصونك، وإن الله قال لهم لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لفعلتم مثلهم، وإنهم قالوا سبحانك ما ينبغي لنا أن نعصيك، وانهم اختاروا من خيارهم عزا وعزاليا أي هاروت وماروت، فأهبطهما الله إلى الأرض وأمرهما أن يحكما فيها بالعدل، وبقيا شهرا على استقامتهما حتى اختصم إليهما امرأة تسمى الزهراء، وهنا حذف تاء التأنيث من فعل اختصم لوقوع الفعل بين الفعل والفاعل كقولهم جاء القاضي بنت الواقف، وهكذا كلما فعل بين الفعل الذي فاعله مؤنث وبعضهم أجازه مطلقا سواء كان الفاعل مؤنثا أم لا، واستدل بقول لبيد:
تمنّ ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
فإن يأت يوم يموت أبوكما ... فلا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي لا حليفه ... أضاع ولا خان الصديق ولا غدر(5/66)
إلى الحول ثمّ امم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
لكن ما جاء في الشعر لا يصلح غالبا للاستدلال، إذ يجوز فيه ما لا يجوز في النثر.
قالوا وكانت من أجمل الناس، فراوداها عن نفسها فأبت، إلا أن يقضيا لها على خصمها ففعلا، وبعد أن قضيا لها قالت لهما إلا أن تشربا الخمر، فأجاباها وشربا، فقالت لهما إلا أن تسجدا للصنم وتقتلا الرجل الذي قضيتما لي عليه، ففعلا ذلك أيضا، ثم قالت لهما إلا أن تعلماني الاسم الأعظم الذي به ترتفعان إلى السماء، فعلماها إياه فمكتبهما من نفسها، ثم طارت إلى السماء فمسخها الله كوكبا، فلما أفاقا من سكرهما، وأرادا الصعود إلى السماء كعادتهما فلم يقدرا وعلما ما حل بهما من غضب الله تعالى، فذهبا إلى إدريس عليه السلام إذ كانت هذه الحادثة المزعومة في زمنه عليه السلام ليستشفعاه بأمرهما، ففعل، فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا لعلمها أنه فان كالدنيا، فخسف بهما، فهما يعذبان حتى الآن، قالوا وإن رجلا قصدهما ليتعلم منهما السحر فوجدهما معلقين بأرجلهما، فقال لا إله إلا الله، فقالا مثله وسألاه، فقال أنا رجل من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، قال ففرحا بقرب خلاص عذابهما، لأنهما يعلمان أنه نبي آخر الزمان. فقصة باطلة لا أصل لها، وذلك لأن قولهم سبحانك ما ينبغي لنا أن نعصيك ردّ على الله تعالى الذي قال لهم لو ركبت فيكم ما ركبت فيهم لعصيتموني، وهذا كفر لم اثبت لأنهم معصومون قبل ذلك، فلا يجوز التصديق بوقوع هذا منهم، وقد اجمع المسلمون على أن الملائكة معصومون فضلاء، واتفقت ائمة المسلمين على أن حكم الرسول من الملائكة حكم الأنبياء في البلاغ عن الله تعالى والعصمة من الذنوب، ولأن الله تعالى لا يخير المشرك فكيف يخيرهما بين عذاب الدنيا والآخرة، وما خلق عذاب الآخرة إلا للمشركين والعاصين، وعلى القول بتوبتهما فإن صح فلا عقوبة عليهما، لأن باب التوبة مفتوح ولم يكونا بحالة يأس أو بأس، أما المرأة فلا يعقل أن تصعد إلى السماء بعد أن فجرت، وكيف بصيرها الله كوكبا وقد عظم الله الكواكب وأقسم بها، تدبر هذا تعلم أنها قصة لا حقيقة لها، كما أن من قال إن الملكين هما رجلان صالحان وقرأ بكسر اللام فهي قراءة لا صحة لها ولا توجد(5/67)
في السبعة، وان الذي أنزل على الملكين قد لا يكون سحرا، إذ لم يذكر في الآية حقيقة ما أنزل عليهما، وقد يكون والله أعلم شيء من الرقى والأدعية والتعاويذ التي يجوز تعليمها وتعلمها، والتي هي أشبه بالسحر لدى الناس، ولهذا فإن الملكين قالا ما يبرىء ساحتهما من السحر بلفظ فلا تكفر أيها الإنسان أي فتعلم الناس السحر بدل الرقيا، فإن تعليمه حرام قد بوصل إلى الكفر. وما ذكرناه موافق لظاهر القرآن وكل ما جاء على خلافه مما ذكره الغير قول لا يعضده شيء من السنة فلا يركن إليه من له إلمام بفقه معاني التنزيل، والله أعلم. وقدمنا ما يتعلق بالسحر والشعوذة آخر سورة الناس والآية 42 من سورة النجم والآية 45 من سورة الشعراء في ج 1، فراجعها ففيها ما يغنيك عن مراجعة غيرها.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا» وسبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يقولون راعنا يا رسول الله، أي راقبنا وانظرنا حتى نحفظ عنك ونفهم قولك، ولا يعلمون أن هذه اللفظة بلغة اليهود بالسريانية كلمة سب بمعنى أحمق، فقالت اليهود كنا نسبّه سرا فالآن نسبه علانية، وصاروا يأتون رسول الله ويقولون راعنا يا محمد، وقد تفطن لها سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، فقال لئن سمعتها من أحد لأضربن عنقه، فقالت اليهود ألستم تقولونها؟
فقال إنا نريد بها أمهلنا لا تعجل علينا، وأنتم تريدون غير ذلك قاتلكم الله ما ألعنكم وأخبثكم، فنهاهم الله تعالى عن قولها صيانة لكرامة حبيبه من الخبثاء «وَاسْمَعُوا» أيها الناس نهي الله تعالى عن هذه الكلمة لا تقولوها أبدا «وَلِلْكافِرِينَ» الذين يقولونها قصدا ولا يمتثلون نهي الله «عَذابٌ أَلِيمٌ 104» في الآخرة وخزي عظيم في الدنيا، قال تعالى «ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» الذين لم يتقيدوا بكتابهم وكذبوا الرسل «وَلَا الْمُشْرِكِينَ» من عبدة الأوثان «أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ» أيها المؤمنون لأنهم كرهوا نزول الوحي على الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم حسدا وبغيا، وذلك أن اليهود قالوا لحلفائهم المؤمنين حين كلفوهم الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم ما هذا الذي تدعوننا إليه بخير مما نحن فيه، ولوددنا لو كان خيرا لاتبعناه، فأكذبهم الله تعالى في هذه الآية كما أكذب المشركين(5/68)
في الآية 125 من سورة الأنعام المارة في ج 2، وقطع قلوبهم بقوله عز قوله «وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده، وهذه الجملة رد لقولهم إن النبوة فيهم وليست في العرب، وإن محمدا من العرب ليس منهم، أي لا تحديد لإرادة الله فإنه يختص نبوته من يريد تفضلا منه عليه «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 105» ولهذا اختص بها محمدا صلّى الله عليه وسلم.
مطلب في النسخ وأسبابه وأنه لا يكون إلا بمثله أو خير منه:
قال تعالى «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها» نفعا وأسهل عملا وأيسر فعلا وأكثر أجرا وأعظم ثوابا، لا أن آية خير من آية، لأن كلام الله كله خير وكلمه واحد، راجع الآية 101 من سورة النحل في ج 2، وقال بعض المفسرين نذهب بحفظها من القلوب ومحوها من الكتب، فلم نبق لها أثرا، وقرىء ننسئها أي نؤخرها لوقت آخر «أَوْ» ننزل «مِثْلِها» في النفع واليسر والسهولة والثواب والأجر كالصرف عن استقبال القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في الصلاة، لأن المصلي عليه أن يتوجه حيث أمره الله تعالى، فلا فرق عنده بين البيت المقدس والبيت الحرام «أَلَمْ تَعْلَمْ» يا سيد الرسل «أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 106» من نسخ وتبديل وتغيير «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يتصرف فيه كيف يشاء ويريد «وَما لَكُمْ» أيها الناس «مِنْ دُونِ اللَّهِ» إذا أنزل عليكم عذابه بسبب مخالفتكم «مِنْ وَلِيٍّ» يتولى أموركم أو يتولى عليكم فيحفظكم من عذابه «وَلا نَصِيرٍ 107» يمنعكم من حلوله بكم، أو يشفع لكم عنده. وسبب نزول هذه الآية أن المشركين قالوا إن محمدا يأمر أصحابه بأمر ثمّ ينهاهم عنه ويأمرهم بغيره، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، فما هذا إلا من تلقاء نفسه، فلو كان من عند الله كما يقول لما فعل ذلك. وقيل إن اليهود هم القائلون لهذا القول لا المشركون، لأن حضرة الرسول في بداية أمره كان يتعبد على ما ألهمه الله من شريعة جده إبراهيم عليه السلام والأنبياء بعده، فكلما نزل عليه مما هو معدل لشريعة من قبله يفعله ويترك ما كان يفعله قبلا، ويأمر أصحابه بفعله ويخبرهم بأمر(5/69)
الله به، لأن شريعته جاءت خاتمة للشرائع كلها ناسخة لما قبلها، فبين الله تعالى في هذه الآية حكمة النسخ، وأنه من عنده لا من عند محمد قطعا كما تكلم به اليهود أو المشركون. ونزولها في اليهود أولى، لأن هذه الآية مدنية، والغالب على سكانها اليهود، وهم الذين يجادلون حضرة الرسول بما نزل إليه من ربه مخالف لكتابهم، وإن ما نزل في المشركين هو آية الأنعام المذكورة آنفا رد لقولهم «لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ» . واعلم أن النسخ في اللغة النقل والتحويل، ومنه نسخ الكتاب بأن ينقل من كتاب لآخر، وهذا لا يقضي بإزالة الصورة الأولى بل بإثبات مثله في كتاب آخر، فعلى هذا يكون القرآن كله منسوخا، لأنه نسخ من اللوح المحفوظ وأنزل إلى سماء الدنيا جملة واحدة، وهذا ليس مرادا هنا. وقد يكون النسخ بمعنى الرفع والإزالة، وهو إزالة شيء بشيء يعقبه، كنسخ الشمس للظل، والشبب للشباب، وعلى هذا يكون بعض القرآن منسوخا وبعضه ناسخا، أي إزالة حكم بحكم آخر. وفي اصطلاح العلماء رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه، ومنه يعلم أنه كما أن شريعة موسى عليه السلام نسخت الشرائع المتقدمة عليها كأنه قامت مقامها، وكما أن إنجيل عيسى عليه السلام عدل شيئا من أحكام التوراة بدليل قوله تعالى في الآية 50 من آل عمران الآتية «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» فكان القسم المعدل بفتح الدال من التوراة منسوخا بالمعدّل بكسر الدال من الإنجيل، أما الزبور المنزل بينهما إذ لا يوجد فيه أحكام ولا حدود فلم يتعرض له، لأن مصلحة البشر المحتاجة للتعديل بحسب الزمان، والحاجة تتعلق بالأحكام والحدود فقط، أما الأدعية والاستغاثات الواردة في الزبور وغيره من الكتب والصحف القديمة فلا علاقة لها في هذا البحث. فكذلك القرآن العظيم عدل جميع الشرائع المتقدمة عليه فكل حكم مناف لما فيه فهو منسوخ به، وما لا فهو باق على حكمه لموافقته أحكام القرآن، والسبب في ذلك أنه هو الكتاب الإلهي الأخير الذي جاء صالحا لأمور الدنيا والدين إلى آخر الزمان، ولأن مشروعية النسخ إنما تكون للحاجة والمصلحة، فقد كان في عهد آدم عليه السلام مساغ لأن يتزوج الأخ أخته لاقتضاء(5/70)
المصلحة وكثرة التناسل وحاجة الزوج للزوجة وبالعكس، فلما تكاثر النسل وصاروا في غنى عن ذلك حرمت الأخت، وأبيحت ابنة العم والخال وما بعدها، وكان في عهد نوح عليه السلام مساغ لأكل جميع الحيوانات، ثم اقتضت المصلحة بتحريم بعضها لما فيه من الضرر لوجود الإنسان، وبعضها لما فيه الحاجة للإنسان، وفي
الأيام أيضا فقد حرم السبت على بني إسرائيل إلى زمن عيسى، فأبيح وحرم الأحد إلى مبعث محمد فأبيح وخصّت الجمعة بالتفضيل على غيرها، ولم يحرم العمل فيها إلا وقت الصلاة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 10 من سورة الجمعة الآتية.
وفي الجماد أيضا فقد كان البيت المقدس قبلة لمن قبلنا فأبدل بالكعبة، والنسخ في الأيام والجماد لحكمة لا نعلمها، لأن الظاهر أنه لا لحاجة البشر ولا لمصلحتهم وليس علينا أن نعرف العلة لكل ما حرم الله وحلل أو نهى وأمر، بل علينا الامتثال والقبول، لأن أفعال الله هو سبحانه أعلم بعللها، كما أنه لا يسأل عما يفعل، وعليه فإن النسخ فيما ذكرنا جائز عقلا وشرعا لا ينكره عاقل، وان القرآن العظيم ناسخ لجميع ما يخالفه من الكتب والصحف السماوية المتقدمة عليه بلا خلاف، وبعض آيه ناسخ لبعض عند كثير من المفسرين، والأقل قالوا بعدم النسخ وهو الأصح على المعنى المراد به إزالة الحكم من جميع جهاته، أما من بعضها فلا ينكر، لأنه عبارة عن تخصيص العام وقيد المطلق، وقد جرينا على ما جرى عليه القليل، والقليلون هم الممدحون في كتاب الله وكلام رسوله، ونسأل الله أن يجعلنا منهم.
وقد أجمعت العلماء على أن ثلاثا وأربعين سورة من القرآن لم يدخلها ناسخ، ولم يكن فيها منسوخ وهي: الفاتحة ويوسف والحجرات والرحمن والحديد والصف والجمعة والتحريم والملك والحاقة ونوح والجن والمرسلات والنبأ والنازعات والانفطار والمطففين والانشقاق والبروج والفجر والبلد والشمس والليل والضحى والانشراح والتين والقلم والقدر والبينة والزلزلة والعاديات والقارعة والتكاثر والهمزة وقريش والماعون والكوثر والنصر والمسد والمعوذات الثلاث. ويوجد فيه ست سور فيها ناسخ ولا منسوخ فيها وهي: الفتح والحشر والمنافقين والتغابن والطلاق والأعلى.
وأربعون سورة فيها منسوخ ولا ناسخ فيها وهي: الأنعام والأعراف ويونس وهود(5/71)
والرعد والحجر والنحل والإسراء والكهف وطه والمؤمنون والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والمضاجع والملائكة والصافات وص والزمر وفصلت والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف ومحمد وق والنجم والقمر والامتحان والمعارج والقيامة والإنسان وعبس والطلاق والغاشية والتين والكافرون. وما بقي وهو سبع وعشرون سورة فيها ناسخ ومنسوخ، وقد أشرنا إلى كل في محله فيما سبق، وسنبينه كذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى، وما ذكرنا في المقدمة في باب الناسخ لتفنيد القول بأن السنة لا تنسخ القرآن، كان استنباطا من هذه الآية وأقوال جهابذة العلماء، لأن السنة مهما كانت متواترة وصحيحة فلا تكون خيرا من القرآن ولا مثله أيضا من كل وجه، والله تعالى يقول «بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها» وحديث لا وصية لوارث المتمسكين به قوال النسخ ليس ناسخا لآية لوصية الواردة في الآية 181 من هذه السورة، بل هي على قول القائلين بالنسخ منسوخة بآية المواريث 11/ 12 من سورة النساء الآتية، لأن كون الميراث حقا يمنع من صرفه إلى الوصية وهي مانعة من الوصية لذكر أصحاب الاستحقاق فيها، أما على القول بعدم النسخ فسنأتي على ذكره عند تفسير الآيتين المذكورتين وسنتعرض لبحث النسخ عند كل آية قيل إنها منسوخة كما فعلنا في القسم المكي، وتبين أن النسخ على رأي القائلين به عبارة عن رفع حكم بعض الآيات بآية تأتي بعدها تخصص عمومها أو تقيد إطلاقها مثل آية عدة الوفاة بالحول التي نزلت بعدها الآية بأربعة أشهر وعشرة أيام، كما ستقف عليه، وكالآيات الست لمتقابلات التي ذكرناها في المقدمة في بحث النسخ، لأن في الثلاث الأول نوع تشديد ومشقة كقيام الليل كله، ومقابلة الواحد بالعشرة في الجهاد، وتقديم الصدقة عند مخاطبة الرسول، وفي الثلاث الأخر نوع تخفيف ويسر كقيام بعض الليل ومقابلة الاثنين بالواحد، وعدم تقديم الصدقة وفي بعض الآيات كثرة الثواب عن بعض، كصيام رمضان عن الأيام المعلومات والمعدودات لأنه أكمل، وهكذا، فيثبت لك من هذا أن القرآن لا منسوخ فيه البتة، وان جميع ما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلم ثابت فيه لم يغير ولم يبدل ولم يترك منه شيء كما أوضحناه في المقدمة، وأن الحديث الذي رواه البغوي بغير سند عن أبي أمامه(5/72)
بأن قوما أرادوا أن يقرأوا سورة من القرآن فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، وأن الرسول قال لهم رفعت تلاوتها وحكمها، فهو حديث غير صحيح، وهو ورواته من الضعف بمكان لا يصح الركون إليه، لأن القوم مجهولون والحديث بلا سند، ومثل هذا لا يرد على تعهد الله تعالى في حفظ القرآن الذي ألمعنا إليه في الآية 10 من سورة الحجر والآية 42 من سورة فصلت المارتين في ج 2.
ثم وصى الله تعالى المؤمنين بالثقة برسولهم وترك اقتراح الآيات ورد طعن المشركين واليهود بالنسخ، إذ جرّد الخطاب عنه وخصه بهم، فكأنه قال إياكم أن تكونوا فيما أنزل إليكم من القرآن مثل اليهود في ترك الثقة بالآيات واقتراح غيرها فتضلوا وتكفروا بعد الإيمان بقوله جل قوله «أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ» إذ سأله جماعة من أمته بعد أن أسمعهم كلام الله أن يريهم إيّاه عيانا، كما مر في الآية 56، فأهلكهم الله، أي من شأن العاقل أن لا يتصور ذلك وفي هذه الوصية كمال المبالغة والبلاغة، حتى كأنهم بصدد الإرادة فنهوا عنها، ولا يتوقف مضمون هذه الآية على تقدم سؤال أو سابقية وقوع حال، لأنها عبارة عن توصية، والتوصية لا تقتضي شيئا من ذلك، كيف وهو كفر كما أشار إليه الإله عزت إشارته بقوله «وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ 108» وهو مما لا يكاد يقع من المؤمن.
مطلب الاختلاف في سبب نزول الآية 108 وتفنيد الأقوال فيها ومجهولية الفاعل:
واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية مع أن مثلها لا يحتاج إلى سبب كما ذكرنا، وهكذا الحال في الوصايا فقال بعضهم إن المسلمين اقترحوا على رسول الله في غزوة خيبر أن يجعل لهم ذات النواط كما كان للمشركين، فقال صلّى الله عليه وسلم سبحان الله هذا كما قال قوم موسى لموسى «اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ» والذي نفسي بيده لتركبن سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، إن كان فيهم من أتى أمه يكون فيكم فلا أدري أتعبدون العجل أم لا. وإضافة الرسول إليهم إضافة إلى ما في نفس الأمر، وهذا بعيد، لأن غزوة خيبر وقعت في السنة السابعة من الهجرة وسورة البقرة هذه من أول ما نزل بالمدينة. وقال بعضهم إن اليهود(5/73)
قالوا يا محمد سل ربك أن ينزل عليك كتابا من السماء جملة واحدة كما أنزل التوراة على موسى، واختار هذا القول الفخر الرازي، وقال إنه الأصح، لأن المخاطب به في هذه السورة هم اليهود، والإضافة إلى ما في نفس الأمر دون الإقرار، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأل ما يكون مستبدلا به الكفر بالإيمان، وهو وجيه، لأن النبي أول وصوله المدينة أراد منهم الإيمان به، فجدير أن يطلبوا منه آية، إلا أنه سبق قبلها الخطاب للمؤمنين إذ صدر الآية المارة بقوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا» إلخ ولم يأت بعدها ذكر لليهود، وقال بعضهم وهو قول ابن عباس إن أهل مكة سألوا محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن بوسع عليهم أرض مكة ويفجر فيها الأنهار فنزلت، وهذا قد فات محله في سورة الفرقان في الآيتين 60 فما بعدها من سورة الإسراء في ج 1، لأن الحادثة مكية، وقد نزلت فيها الآيات بمكة، وهذه السورة مدنية، فلا يتجه شيء من هذه الأسباب لنزول هذه الآية، وقد ذكرنا في بحث النزول في المقدمة أن من القرآن ما ينزل بسبب ومنه ما ينزل بلا سبب، ولعل هذه الآية من القسم الثاني وهو الأوجه والله أعلم. على أن كلا من هذه الحالات الثلاث قد تكون الآية جوابا للسؤال عنها، لكن لا أنها سبب لنزولها، تدبر. ولم يقل جل قوله كما سأل أمة موسى إشارة إلى أن من سأل عن ذلك يصان اللسان عن ذكره وهذا أحد أسباب مجهولية الفاعل السبعة وهي الجهالة والخوف منه وعليه وتعظيمه وتحقيره والعلم به وصون اللسان عن ذكره. هذا، واعلم- والله أعلم- أن القصد من ذكر هذه الآية بعد آية النسخ تثبيت المسلمين على الأخذ بآيات الله وتنبيههم بعدم الإقدام على أسئلة كأسئلة اليهود وتحذيرهم منها وتوصيتهم بالثقة بها. قال تعالى «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ» أيها المؤمنون «كُفَّاراً» لتكونوا مثلهم «حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ» لا لأمر آخر وذلك «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» في التوراة والآيات المنزلة على نبيكم الموافقة لها المؤيدة لحكمها «فَاعْفُوا» عنهم لا تجادلوهم «وَاصْفَحُوا» عن إساءتهم لا تخاصموهم واصبروا عليهم «حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ» في جواز قتالهم «إِنَّ اللَّهَ عَلى(5/74)
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 109»
لا يعجزه شيء، وفي هذه الجملة إشارة إلى التهديد بالانتقام منهم ووعد للمؤمنين بالنصر عليهم. وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا يستقيم، لأن الأمر فيها موقت بالغاية الدالة عليه «حَتَّى» وإذ كانت الغاية غير معلومة فتكون آية السيف بيانا لها، وما قاله الطيّبي بأن النسخ بما جاء في التوراة والإنجيل من ذكر محمد فيكون انتهاء المدة بإرساله لقوله تعالى «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ» الآية 107 من سورة الأعراف في ج 1 لا يتجه أيضا، لأن غاية ما فيها البشارة بشرع محمد صلّى الله عليه وسلم وإيجاب الرجوع إليه، وهذا لا يوجب توقيت الأحكام ولا يقتضي النسخ. وهذه الآية حاكية حال أهل الكتاب منبهة على التحذير من الإصغاء إليهم والأمر بعدم عقوبتهم على ذلك القول الذي هو من أعظم الذنوب، لأن الرضاء بالكفر كفر، فكيف بمحاولة ردّ المؤمن إلى الكفر، لأن معنى العفو ترك العقوبة على الذنب وعدم تثريبهم عليه أيضا، ولأن معنى الصفح ترك التأنيب وهو أبلغ من العفو، لأن الإنسان قد يعفو ولا يصفح. وما قيل إنها نزلت في أحبار اليهود أو نفر منهم حينما قالوا للمسلمين أو لحذيفة بن اليمان وعمار بن
ياسر بعد وقعة أحد لو كنتم على الحق ما هربتم فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلا منكم، فقال عمار وكيف نقض العهد فيكم؟ قالوا شديد، قال إني عاهدت أن لا أكفر بمحمد ما عشت، قالت اليهود أما هذا فقد صبا، وقال حذيفة أما أنا فقد رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا، ثم إنهما أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخبراه بذلك، فقال قد أصبتما الخير وأفلحتما وما استدل به صاحب هذا القيل بما رواه الواحدي عن ابن عباس فليس بشيء، ولم يوقف على صحته ولا على سنده، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنه لم يوجد في شيء من كتب الحديث. قال تعالى «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» أيها المؤمنون ولا تلتفتوا لأقوالهم فهو أقوى لكم ولا بأفعالهم فهي أفعى لكم «وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ» ولو بكلمة طيبة أو إماطة أذى ما عن الطريق أو إسقاء الماء على الماء، وفي هذا تأكيد للعفو والصفح(5/75)
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
المذكورين آنفا وترغيب للقيام بهما، لأنهما من أعظم أنواع الخير، أما ما قاله بعضهم بأنه خاص بالصلاة والزكاة فهو خلاف الظاهر، لأنه مطلق خير، فإن عملتموه أيها المؤمنون «تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ» تروا ثوابه في الآخرة «إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 110» لا يخفى عليه شيء منه وأنه ينظر في كل شيء من أعمالكم ويجازيكم عليها
«وَقالُوا» أهل الكتابين «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى» فرد الله عليهم بقوله جل قوله «تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ» أي ذلك ما يتمنعونه على الله من الأباطيل، وهو قول لا حقيقة له، لأنه لا بد وأن يصدر من الله الذي بيده إدخال الجنة من يشاء من عباده، ثم كلف حبيبه بطلب الحجة منهم على قولهم بقوله عز قوله «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «هاتُوا بُرْهانَكُمْ» على دعواكم هذه مما أنزل الله عليكم في كتابكم «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 111» في ذلك، نزلت هذه الآية عند ما تناظر نصارى نجران مع يهود المدينة، وسيأتي بيان هذه المناظرة في أوائل سورة آل عمران الآتية بما يدل على أن هذه الآيات نزلت بعد سورة البقرة ووضعت هنا تبعا لسورتها كما هو الشأن في أمثالها، تأمل.
مطلب مناظرة اليهود والنصارى، ولغز في ذلك:
فقالت اليهود لا دين إلا دين اليهودية ولن يدخل الجنة إلا اليهود، وكفروا بعيسى عليه السلام، وقالت النصارى لا دين إلا دين النصرانية ولا يدخل الجنة إلا النصارى وكفروا بموسى عليه السلام وقد كذب بعضهم بعضا، فأكذبهم الله جميعا وبين لهم الدين الحق وأهل الجنة بقوله «بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ» في عمله مع الله وخلقه فهم أهل الحق ومن كان كذلك «فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ» في الآخرة ويدخل الجنة «وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 112» على ما فاتهم من الدنيا لأنهم وجدوا خيرا منها وهم في أمن من أهوال الآخرة. «وَقالَتِ الْيَهُودُ» في مناظرتهم تلك «لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ» من الدين «وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ» منه أيضا، وقد صدقوا جميعا إذ لا دين بعد البعثة المحمدية إلا دين الإسلام،(5/76)
كما كذبوا في الآية السابقة. وقد ألغز في هذا فقالوا: قوم صدقوا ودخلوا النار أي إذا ماتوا على ما عاشوا عليه من عقيدتهم الواهية كما يقال في اخوة يوسف عليهم السلام قوم كذبوا ودخلوا الجنة، لأن فعلتهم مع أخيهم أعقبتها التوبة منهم، والتشرف بالنبوة، قال تعالى مبكتا أولئك بأنهم يقولون هذا «وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ» وليسوا بأميين وليس في كتابهم شيء من ذلك، لأن التوراة بشرت بعيسى ابن مريم، والإنجيل بشر بمحمد وحقق ما في التوراة من وصفه ونبوة موسى «كَذلِكَ» مثل هذا القول الباطل «قالَ» مشركو العرب عبدة الأوثان «الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» لأنهم أمّيّون ولا كتاب لهم «مِثْلَ قَوْلِهِمْ» هذا من قبل بأن محمدا ليس على شيء وأن كتابه ليس بشيء «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 113» فيظهر المحق من المبطل ويجازى كلا بعمله. قال تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها» هذا ما نعاه الله عليهم بما أوقعوه في معالم الدين، كما نعى عليهم فيما تقدم الإيقاع في نفس الدين وهو عام في كل مسجد، أي لا أحد أظلم من هذا فعله. نزلت هذه الآية في المشركين الذين منعوا رسول الله وأصحابه من الصلاة في المسجد الحرام حينما كان في مكة، وإنما قيل مساجد والمنع من مسجد واحد لأن الحكم ورد عاما وإن كان السبب خاصا، لقوله تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ) الآيات في ج 1، وهي قد نزلت في الأخنس بن شريق. وقال الحسن وقتادة إنها نزلت في بختنصر حينما خرب بيت المقدس، وهذا كان قبل المسيح، فلا محل لذكره هنا وقد أشرنا إليه أول سورة الإسراء في ج 1 فراجعه. وقال بعض المفسرين نقلا عن ابن عباس إنها نزلت في طيطوس الرومي الذي غزا بني إسرائيل فقتلهم وسباهم وخرب بيت المقدس وأحرق التوراة ومنع إقامة ذكر الله فيه، وبقي خرابا إلى أن عمره المسلمون زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبقي في أيديهم إلى حرب الصليبيين إذ استحله النصارى أكثر من مئة سنة، ثم استخلصه الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي سنة 585 من الهجرة، وعلى هذا تكون من قبيل عطف القصة على القصة قبلها، وأتى بها هنا تقريرا لقبائحم(5/77)
وجرأتهم على شعائر الله، ولهذا يقول الله تعالى «أُولئِكَ» الذين تلك مثالبهم «ما كانَ» ينبغي «لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها» دخولا مطلقا «إِلَّا خائِفِينَ» ربها بخشية وخضوع وإخبات، احتراما لربها فضلا عن الجرأة على تخريبها، وهؤلاء المتجاسرون «لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» فظيع وذم قبيح كلما ذكروا بفعلهم المشين يتبعه سبي وضرب جزية وقتل وكل ما هو من أسباب الذل يقع عليهم في الدنيا «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» لا تطيقه أجسامهم، وهذا ليس بسديد أيضا، لأن الآيات قبلها بحق اليهود، وكذلك لا يصح نزولها بحق المشركين، إذ لم يسبق لهم ذكر، ولم يسبق ذكر المسجد الحرام في هذه الآيات. ومما يبعد صحة القول بأنها في حق المشركين هو أن القائل به قال إنها كانت عام الحديبية، وحادثتها وقعت في السنة السادسة من الهجرة، وهذه السورة من أول ما نزل في المدينة كما علمت فلا تنفق مع قوله، وهناك قول آخر بأنها نزلت في المشركين الذين ألجئوا حضرة الرسول وأصحابه إلى الهجرة ومنعوهم بسببها من أن يذكروا الله في المسجد من صلاة وغيرها، وكأنهم بذلك سعوا في خرابها، لأنها أنشئت لإقامة الصلاة والذكر، فإذا انقطعت
عنها فكأنها خربت، وفي هذا التأويل صرف الحقيقة إلى المجاز، والعدول إلى خلاف الظاهر وهو وجيه، إلا أن سياق الآية ينافيه، وعدم سبق الذكر يبعده، لأن هذه الحادثة في مكة، ولم يقل أحد بمكية هذه الآية، على أن كلا من الحوادث الثلاث صالحة لسبب النزول لو كانت منطبقة عليها، وقد ذكرنا غير مرة أن تعدد الأسباب جائز، أي بأن تكون آية واحدة لعدة حوادث وأسباب كثيرة (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) ، إذ لا مانع من تعدد أسباب النزول، ولكن الأولى أن يكون في حق اليهود خاصة، وذلك لما حولت القبلة إلى الكعبة شق عليهم فصاروا يمنعون الناس من التوجه إليها ويحملونهم على تخريب الكعبة وسعوا في تخريب مسجد الرسول في المدينة، فعابهم الله تعالى وبين سوء طريقتهم التي سلكوها في ذلك، لأن الآيات السابقة جاء سياقها بالتشنيع على أفعالهم، والآية الآتية كذلك، فكونها فيهم أولى، لأن المشركين لا بحث فيهم قبلها ولا بعدها. قال تعالى «وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ(5/78)
فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ 15»
نزلت هذه الآية في جماعة لم تتبين لهم القبلة فصلوا جهة تحريهم، ثم بان خطؤهم، فأخبروا حضرة الرسول فنزلت. وهذه الآية كالإرهاص في تبدل القبلة، لأنهم كانوا يصلون إلى بيت المقدس. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يسبّح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومىء وكان ابن عمر يفعله. وفي رواية لمسلم كان النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي على دابته وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيثما توجهت دابته فيه، وفيه نزلت الآية، وفيها إيماء أيضا إلى اليهود بأنهم مهما سعوا في خراب المسجد فلن يستطيعوا أن يسعوا في تعطيل عبادة الله تعالى، لأنها لا تتوقف على المسجد بل يمكن تأديتها في أي مكان كان، وإلى أي جهة كانت. قال تعالى «وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» وهذه نزلت في يهود المدينة أيضا لقولهم عزير بن الله، ويدخل فيها النصارى القائلون المسيح بن الله، والعرب القائلون الملائكة بنات الله، لأنها صالحة للكل، فنزه نفسه الكريمة بقوله «سُبْحانَهُ» عما يقولون «بَلْ» هو إله الوالدين والمولودين، لم يتخذ منهم ولدا ولا صاحبة له «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ملكا وعبيدا فكيف أن يتخذ منهم ولدا وهم «كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ 116» خاشعون طائعون مخبتون منقادون، وكلمة كل تقتضي الشمول والإحاطة، لأنه كلي يعم كل من فيهما وما بينهما، وبعض المفسرين خص الآية بالطائعين ولا دليل على التخصيص إلا القول بنفي الشمول عنها أحيانا، بدليل قوله تعالى (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) الآية 24 من سورة النمل في ج 1، لأن بلقيس لم تؤت مثل ملك سليمان حتى يصح أن يقال إنها أوتيت من كل شيء بمعنى الشمول، وصاحب هذا القول يقول بأن (من) في الآية صلة أي زائدة وليس بشيء، إذ لا زائد في القرآن، ولا يوجد فيه حرف إلا وله معنى خاص أو عام. واعلموا أيها الناس أن هذا الإله الذي يخضع الكون بما فيه لهيبة جلاله هو «بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» على غير مثال سابق كما أبدع الإنسان والحيوان والطير والجماد كذلك، لأن الشيء إذا كان له مثال أو صورة وأنشئ على صورته أو مثله لا يسمى بديعا ولا فاعله مبدعا، لأن المبدع الذي يعمل الشيء(5/79)
أولا، والذي يعمل بعده يسمى مقلدا، والتقليد بشيء يحمد أو يمدح عليه، لأن كل من له إلمام يقدر على عمل مثله. ولا يوجد في القرآن نظير هذه الآية إلا الآية 100 من سورة الأنعام في ج 2 «وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 117» حالا دون كلفة أو بمعونة شيء آخر فتراه موجودا بين الكاف والنون، كما أنك ترى الرمية تصيب الهدف بين سحب الزناد وصوتها، هذا تقريب للفهم، وإلا فهو غير ذلك «وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» من جهلة قريش المشركين «لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ» مشافهة فيخبرنا بأنك رسوله «أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ» على صدق ما تقوله لنا يا محمد لا تبعناك توا «كَذلِكَ» مثل هذا القول الباطل «قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» من الأمم السابقة «مِثْلَ قَوْلِهِمْ» هذا، لأن اليهود سألوا رسولهم عما يجوز وعما لا يجوز، وطلبوا أن يسمعهم نبيهم كلام الله، ولما أسمعهم طلبوا أن يريهم إياه فهلكوا «تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ» هذا، لأن اليهود سألوا رسولهم عما يجوز وعما لا يجوز،
وطلبوا أن يسمعهم نبيهم كلام الله، ولما أسمعهم طلبوا أن يريهم إياه فهلكوا «تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ» في الضلال، فوافق سؤالهم سؤالهم «قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ» الدالة على نبوتك وصدقك يا سيد الرسل بيانا شافيا كافيا «لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ 118» بها، أما غير الموقنين فلو نزلنا عليهم ما طلبوه وأمثاله معه لم يؤمنوا، وأنت يا خاتم الرسل ما عليك أن لا يؤمنوا «إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً» للمصدقين الموقنين «وَنَذِيراً» للمكذبين الشاكين «وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ 119» الذين يموتون على كفرهم وتكذيبهم لله ورسوله «وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ» يا سيد الرسل «الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» التي هم عليها، وليس فليس، وإذا كان كذلك «قُلْ» لهم يا خاتم الرسل «إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى» الموصل إلى المطلوب وهو الدين الحق دين الإسلام دين إبراهيم عليه السلام «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ» يا حبيبي وركنت لسلوك طريقتهم طلبا لرضائهم «بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ» بأنهم ليسوا على شيء من الدين، وأنك على الحق المبين، وهذا قسم من الله تعالى وجوابه قوله عزّ قوله «ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ 120» بدلالة اللام الموطئة للقسم في (وَلَئِنِ) وقد ذكرنا في الآية 65 من سورة الزمر في ج 2 وفيما قبلها أن أمثال هذا الخطاب يراد به أمته(5/80)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
عليه الصلاة والسلام، لأنه محال عليه أن يميل إلى أهوائهم، فراجعها ففيها ما يلذ السمع ويهج القلب.
قال تعالى «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» التوراة منهم «يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ» دون تحريف أو تبديل في معانيه أو مبانيه، وينقلونه للناس كذلك «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «يُؤْمِنُونَ بِهِ» حق إيمانه ويقودهم إيمانهم بكتابهم إلى الإيمان بك وبكتابك، لأن من جملة ما يؤمنون به في كتابهم نبوتك وكتابك. وفي هذه الآية إشارة إلى أن منهم من يؤمن كعبد الله بن سلام وأصحابه، أما المحرفون الجاحدون فهم المخصوصون بقوله تعالى «وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ» فيسيء تلاوته ويغير كلمه وينقلونه على غير ما هو عليه بحسب أهوائهم ويغرون الناس بذلك «فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ 121» في الدارين، أما الدنيا فقد خسروها وزال عنهم نعيمها بالموت مهما كان نعيمهم وطال أجلهم، لأن مصيرها الفناء، وأما الآخرة فلم يعملوا لها شيئا يؤهلهم لنيل نعيمها الدائم، وذلك هو الخسران المبين. قال تعالى «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ 122» تقدم تفسيرها في نظيرتها الآيتين 40/ 47 المارتين وكررت تأكيدا وتذكيرا لنعمه المتكررة عليهم «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ 123» وما في هذه الآية بالنسبة للآيتين المارتين مثلهما إلا نوع تفنن في التعبير من نظم العليم الخبير، ولا يقال إن المعنى فيها واحد من حيث الاستفادة، بل فيها زيادة التذكير في المحافظة على وصايا الإله القدير ولزوم التقوى في كل حال والتيقظ ليوم القيامة والخشية مما يقع فيه من الأهوال، والتيقن بأن الإنسان لا ينفعه إلا عمله الحسن. وأعلم أن مجيئها بعد الآية المتقدمة إيذان بتخويف المبدلين لكلام الله، وترهيب من نزول العذاب فيهم لعلهم يرجعون عن باطلهم، وأنى لهم أن يرجعوا وقد أعماهم حب الرياسة عن اتباع الحق، وأوردتهم أنفتهم إلى الهوان:
وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام
ت (6)(5/81)
مطلب فيما ابتلى به إبراهيم ربه والكلمات التي علمها له وبناء الكعبة وغيرها:
قال تعالى «وَ» اذكر يا أكمل الرسل لأمتك قصة أخرى «إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» اختبره فيها قبل نبوته، وهي ما قصه الله تعالى في الآيات 76 فما بعدها من سورة الأنعام في ج 2 من أمر الكوكب والقمر والشمس وإصراره على عبادة الله وتوحيده حتى أدى به الحال إلى أن ألقوه في النار، وبعد أن أنجاه الله منها على الصورة المبينة في الآية 50 فما بعدها من سورة الأنبياء في ج 2 أيضا هاجر إلى الشام وشرقي الأردن فالقدس، ثم ابتلاه بذبح ابنه على الصورة المارة في الآية 100 فما بعدها من سورة الصافات في ج 2 أيضا وقيل إن الذي اختبره بها في مناسك الحج أو أوامره ونواهيه التي قام أو اختصر بها بإلهام من الله تعالى، وقال ابن عباس هي ثلاثون شيئا سماهن شرائع الإسلام وهي عشرة في سورة براءة في قوله تعالى (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) الآية 14 الآتية منها، وعشرة في سورة الأحزاب وهي (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) الآية 36 الآتية أيضا، مثلها وعشرة في الآية الأولى فما بعدها من سورة المؤمنين، وعشرة في الآية 22 فما بعدها من سورة المعارج في ج 2، وفي رواية عشرة أشياء وهي من الفطرة خمسة في الرأس وخمسة في اليدين. روى مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشرة من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحى والسواك والاستنشاق بالماء والمضمض وغسل البراجم (ما بين طبقات الأصابع) ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء (الاستنجاء) وقص الأظفار، فهذه كانت فرضا على إبراهيم عليه السلام وهي علينا سنة، وقد أتى بها جميعها، ولذلك مدحه الله تعالى بقوله (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى الآية 38 من سورة والنجم في ج 1، وهو أول من قص شاربه وأول من اختتن وأول من ضيّف الضيف، وأول من رأى الشيب فقال يا رب ما هذا؟ قال وقار قال ربّ زدني وقارا، وسمي التكليف بلاء، لأنه يشق على الأبدان فعله وقيل إن آية (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) في قضية ذبح ابنه لا في هذه الكلمات وهو عليه السلام قد وفى بها وبغيرها من كل ما أراد منه ربه، تدبر قوله تعالى «فَأَتَمَّهُنَّ» قام بهن كلهن قياما كاملا، ولهذا «قالَ» تعالى «إِنِّي جاعِلُكَ(5/82)
لِلنَّاسِ إِماماً»
ليقتدوا بك بما تسنه لهم «قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» يا ربّ اجعل إماما للناس ليستنوا بسنتهم أيضا «قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ 124» من ذريتك وغيرهم، أي لا يصل إليهم ولا يناط بهم ذلك، ولا يكون منهم، لأن الإمامة والنبوة لإرشاد الخلق، ولا تكون إلا للصالحين منهم، والظالمون ليسوا بأهل لنصح الناس «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً» مرجعا وملجأ ومأوى «لِلنَّاسِ وَأَمْناً» لهم من تعدي الغير «وَ» قلنا لهم «اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» موقفا يصلّى فيه وقد اتخذ من ذلك اليوم وحتى الآن وإلى الأبد إن شاء الله تدوم صلاة الناس فيه وهي مقابل باب الكعبة في الحرم الشريف وهو حجر كان يقف عليه عند بناء الكعبة وكان فيه أثر أصابعه فاندرس من كثرة لمس الناس له وفوقه قبة بديعة وكان له عليه السلام بمثابة السلم المتحرك إذا أراد ارتفع وإذا أراد انخفض معجزة له عليه السلام كما هو الحال في سفينة نوح عليه السلام حيث كان إذا أراد سيرها قال بسم الله، وإذا أراد إيقافها قال بسم الله معجزة له، راجع الآية 41 من سورة هود ج 2، «وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ» عند ما أمرنا هما ببناء الكعبة «أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ» حوله بعد إكماله «وَالْعاكِفِينَ» المقيمين فيه المجاورين له الدائبين على الطوف به «وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ 125» فيه، وفي هذه الآية دلالة على وجوب المحافظة على طهارة المساجد كلها لأن المعنى المراد من المسجد الحرام مراد في غيره من حيث إقامة الشعائر الدينية، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم إن البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها. وهذا إذا كانت أرضه ترابا فقد يخرج البازق من إثمها بدفنها كفأفا، أما إذا كانت أرضه مفروشه، كما هي الحال في مساجدنا الآن، فيتعين إزالتها بالمسح بمنديل ونحوه، وإن لم يزل أثرها به فيتعين غسلها بالماء وإلا فلا يخرج من الإثم، هذا إذا كان بزاقا خالصا، أما إذا كان مشوبا بدم فيتعين على سبيل الفرض إزالته حتما لما فيه من التلويث بالنجس
الموجب لبطلان صلاة من يصلي عليه ولو بعد يبسه كيف وقد رغب الشارع في تنظيفها حتى قال: (إن إخراج القمامة منها مهور الحور العين) وقالوا إن ما يؤذي العين يؤذي المسجد وإن تعظيمها واجب(5/83)
وامتهانها حرام لأنها محل ذكر الله ولا يصح الاعتكاف إلا بها وإن حضرة الرسول حينما خرج للجبانة وقيل له إن هذا قبر فلانة قال التي كانت تقم المسجد؟ قالوا نعم فصف الناس وصلّى عليها وهي في قبرها، وذلك مما يدل على زيادة احترام المساجد ومحترميها، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 37 من سورة النور الآتية ولبعض ما يتعلق فيه في الآية 26 من سورة الحج الآتية إن شاء الله «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا» البلد المحتوي على الكعبة «بَلَداً آمِناً» يأوي إليه الناس بسبب أمنهم فيه على مالهم وأنفسهم، لأنه لا زرع ولا ضرع فيه ولا شجر ولا كسب ليرغب الناس بسكناه فإذا لم يوجد فيه أمن لا يقصد ولا يجلب إليه شيء لتعذر المقام فيه «وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ» على اختلاف أنواعها، وقد أبدل من أهله «مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ليخص بدعوته المؤمنين منهم فقط تأدبا مع الله عز وجل لأنه لما سأله أن يجعل النبوة في ذريته على الإطلاق قال له تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فكان بمثابة النهي له عن تعميم الدعاء ولذلك لم يجب دعوته لأن النبوة لا تكون إلا لخواص عباده، وهنا أجاب دعوته فيمن طلب ومن لم يطلب «قالَ وَمَنْ كَفَرَ» أرزقه أيضا لأنهم من جملة خلقي الذي تكفلت بإرزاقهم إذ لا يليق بي أن أخلق ولم أرزق، لأن الرزق يستوي فيه المؤمن والكافر ولكن من أصر على كفره «فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا» في هذه الدنيا «ثُمَّ أَضْطَرُّهُ» ألجئه وأرجه كرها «إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 126» النار في الآخرة لإهلها. قال تعالى «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ» أسس بنائه التي يرتكز عليها ودعائمه التي يقوم عليها «وَإِسْماعِيلُ» معه يعاونه على بنائه، فلما أكملاه قالا «رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ» لدعائنا «الْعَلِيمُ 127» بنيتنا «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ» فيما نستقبله من أعمارنا كما مننت علينا من قبل «وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» مؤمنة بك يا ربنا، منقادة لأوامرك. وقد أدخلا في دعائهما (من) التبعيضية للحكمة المارة في الآية قبلها «وَأَرِنا مَناسِكَنا» شرائع ديننا واعلام حجنا لهذا البيت «وَتُبْ عَلَيْنا» عما هفا منا وزلت به ألسنتنا(5/84)
وأقدامنا «إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ» كثير الرجوع بالمغفرة على عبادك «الرَّحِيمُ 128» بهم، ولا حجة في هذه الآية لمن جوز صدور الذنب من الأنبياء، لأن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه لا ينفك عن التقصير أحيانا بسهو أو غفلة أو بترك ما هو خلاف الأولى والأفضل، ولهذا قالا (وَتُبْ عَلَيْنا) لا أنه من ذنب كذنوبنا، بل هو على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقد بينا في سورة طه في الآية 121 ج 1 ما يتعلق في هذا البحث مفصلا فراجعه. قال تعالى «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ» في تلك الأمة المسلمة والجماعة المؤمنة المخلصة في إيمانها «رَسُولًا مِنْهُمْ» الضمير يعود إلى قوله (أَهْلَهُ) في الآية المتقدمة، وقد أجيبت دعوتهما، إذ بعث الله من ذرية ابنه إسماعيل محمدا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ» يبلغهم كلامك الذي توحيه إليه «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ» يبين لهم معانيه وحقائقه ودلائل التوحيد والنبوة والأحكام، وقد ذكر أولا التلاوة لأجل التلقي والدراسة والحفظ ليبقى مصونا عن التبديل والتحريف، ثم ذكر التعليم الموقوف على أسراره ومراميه «وَالْحِكْمَةَ» الإصابة بالقول والعمل للوقوف على مغازيه، إذ لا يسمى الرجل حكيما إلا إذا اجتمع له الأمران لأنه إذا قال ولم يصب كان جاهلا، وإذا عمل ولم يصب كان أحمق، وإذا أخطأ فيهما كان أخرق، راجع الآية 269 الآتية «وَيُزَكِّيهِمْ» من أدران الذنوب بما يتلوه عليهم، ويعلمهم أحكام دينه وشرائع سنته مما وافق سنة وشرع من قبله أو خالفهما، لأنهما الموافقان لعصره بإرادة الله تعالى وتشريعه لهم في الأزل، «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ» الغالب القادر «الْحَكِيمُ 129» فيما تشرع لعبادك من الأوامر والنواهي الموافقة لحكمتك.
وقد أجاب الله دعاءهما هذا كله، وأجمع المفسرون على أن المراد بهذا الرسول هو سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم، لأن هذا الدعاء وقع بمكة وإسماعيل عاش وتزوج ومات بمكة، وزوجته من عرب جرهم الذين أقاموا فيها كما مرت الإشارة لهذا في الآية 33 من سورة العنكبوت في ج 2، ولم يبعث من ذرية إبراهيم في مكة نبي بعد إسماعيل إلا محمد صلّى الله عليه وسلم. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لجندل في طينته (مطروح(5/85)
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
فيها على وجه الأرض صورة لم تجر فيها الروح) ، وسأخبركم بأول أمري انها دعوة ابراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور ساطع أضاءت لها منه قصور بصرى الشام قال تعالى «وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» أعملها ولم يفكر في مصيرها وجهل ماهيّتها ولم يتدبر ما هي فأهلكها وخسرها وصدر هذه الآية يفيد التعجب أي كيف يرغب عنها ولاملّة تضاهيها، وهي مما يرغب فيها ويركن إليها لأن صاحبها خليل الله وخيرته من خلقه لقوله تعالى «وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا» على جميع أهلها الموجودين في زمنه وشرفناه بالرسالة لإرشادهم «وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ 130» وفي هذه الآية تعريض لكل من يرغب عن الإيمان بمحمد، لأنه من ولد إبراهيم الذي تعظمه الشرائع والأمم أجمع، فالذي لا يرغب بدينه فقد رغب عن ملة إبراهيم التي جهّل الله تعالى كل من يصد عنها، وجعله سفيلا لا يعرف كرامة نفسه، ذليلا حقيرا سائرا في هوانه، وترغيب لمن يدخل في دينه الذي اصطفاه الله على سائر الأديان وجاءت هذه الآية ايضا بسياق ذكره عليه السلام في هذه الآيات دالّة على أن المقصود هو لا غير، وما قاله بعض المفسرين من أنها نزلت في عبد الله بن سلام حين دعا ولدي أخيه مهاجرا وسلمة إلى الإسلام، وعرفهما ما جاء في حق محمد في التوراة (من أن الله تعالى يقول إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه احمد من آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به فهو ملعون) فآمن سلمة وأبى مهاجر، لا يصح لأن عبد الله نفسه لم يسلم بعد حتى يكلف ولدي أخيه، وهذه وقعت منه ولكن بعد إسلامه، راجع الآية 10 من سورة الأحقاف ج 2. وبعد نزول هذه الآية، ولا علاقة لهذه الآية فيهم كما سيأتي في الآية 47 من النساء الآتية
«إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ» أثبت على إسلامك الذي نشأت عليه وذلك أن الأنبياء كلهم ولدوا مسلمين، وهذا كان في حال صغره حين خروجه من السرب واجتماعه بقومه واستدلاله عليهم بالكواكب، كما مرّ في الآية 75 فما بعدها من سورة الأنعام ج 2 «قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ 131» وحده لا للكواكب والأصنام، إذ تبين لي أن الخالق لهم ولكل شيء هو الله الذي لا رب غيره وهو رب الكون أجمع.(5/86)
مطلب وصية يعقوب وبقية قصة إسماعيل عليهما السلام:
قال تعالى «وَوَصَّى بِها» بكلمة الإسلام هذه التي أمره بها ربه «إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ» أيضا وصّى بها بنيه، والوصية آكد من الأمر لأنها تكون عند الخوف من الموت فيحتاط بها الإنسان الى ما هو أحوج، وقال كل منهما في وصيته لمن بعده «يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ» الحق الذي هو عبادته وحده والاعتراف والعمل بما أمر به والاجتناب عما نهى عنه فتمسكوا به وأمروا به غيركم «فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 132» لله مخلصون له مصدقون بما آتاكم، واحذروا كل الحذر من المخالفة والتقصير بنصح الخلق فإنكم مسؤولون عنهم كما أنكم مسؤولون عن أنفسكم، ولما قال اليهود لحضرة الرسول إن يعقوب أوصى عند موته باليهودية فكذبهم الله تعالى بقوله «أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ» حتى تقولوا أوصى بذلك كلا لم تكونوا ولم يوص، ثم بيّن لهم لفظ وصيته بقوله «إِذْ قالَ لِبَنِيهِ» الإثني عشر لما ذكرهم في الآية 7 من سورة يوسف فى ج 2 عند وفاته على طريق الاستفهام والاستخبار «ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي» إذا أنا مت قبلكم «قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 133» الآن وبعد وحتى نلقاه مخلصون له وحده، ثم توفي عليه السلام بعد أن أخذ عليهم هذا العهد بإقرارهم فمن أين تقولون أنه أوصى باليهودية يا أعداء الله وهو قد توفي على هذه الوصية، ولم تكن إذ ذاك يهودية، إذ كانت على عهد موسى، راجع الآية 156 من الأعراف في ج 1 فأعرض عنهم يا سيد الرسل وقل لهم «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ» من الخير في أقوالها وأفعالها، ونواياها «وَلَكُمْ» معشر أهل الكتاب «ما كَسَبْتُمْ» من العمل والقول والنية أيضا «وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ 134» كما نحن لم نسأل عن عملهم لأن كلا يسأل عن عمله فقط، وقدمنا في الآية 26 من سورة العنكبوت في ج 2 مبدأ هجرة إبراهيم وإسكان ابنه إسماعيل في مكة شرفها الله، ونذكر الآن منها من آخر ما ذكرناه هناك كما وعدنا. قال فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل عليه السلام ليطالع تركته فلم(5/87)
يجده، فسأل امرأته عنه فقالت خرج يبتغي لنا، وفي رواية ذهب ليصيد لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئنهم، فقالت نحن بشرّ، نحن في ضيق وشدّة، وشكت إليه، فقال إذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه، وذهب، فلمّا جاء إسماعيل ألقي فى روعه أن يسأل أهله كأنه آنس شيئا، فقال جاءكم أحد؟
قالت نعم جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألني عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة، فقال هل أوصاك بشيء؟ قالت نعم، أمرني أن أقرئك السلام وأنه يقول لك غير عتبة بابك، قال ذلك أبي، وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى وكان الطلاق عندهم متعارفا، إلا أنه لم يحدد كما هو الآن، وسنأتي على ذكره في الآية 222 الآتية إن شاء الله، فلبث ما شاء الله أن يلبث ثمّ أتاهم فلم يجده، فدخل على امرأته، فسأل عنه فقالت خرج يبتغي لنا، قال كيف أنتم وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت نحن بخير وسعة وأثنت على الله بما هو أهله، فقال وما طعامكم؟ قالت اللحم، قال وما شرابكم؟ قالت الماء، قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه، قال فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، وفي رواية فجاء فقال أين إسماعيل، فقالت امرأته قد ذهب يصيد ألا تنزل عندنا فتطعم وتشرب؟ قال ما طعامكم وشرابكم؟
قالت طعامنا اللحم وشرابنا الماء، قال اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم (قالوا فقال أبو القاسم بركة دعوة إبراهيم) قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه أن يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال أتاكم من أحد؟ قالت نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنّا بخير، قال فأوصاك بشيء؟ قالت نعم، يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، فقال ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك، ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا تحت درجته قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بولده والولد بالوالد (من المصافحة والتقبيل) .(5/88)
مطلب بناء البيت وحدوده من جهاته وتحريمه واحترام ما فيه وبدء بنائه:
ثم قال يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال فأسمع ما أمرك به ربك، قال وتعينني؟ قال وأعينك، قال فإن الله أمرني أن أبني بيتا هاهنا، وأشار إلى أكمة مرتفعة أي على ما حولها، فتحزبا على ذلك بكل حزم وعزم، وحضرا الأساس وطمخاه، وباشرا برفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع جاء إبراهيم بهذا الحجر فوضعه له، فقام إبراهيم عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله وهما يقولان (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، وفي رواية حتى إذا ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة ويقولان (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) .
وقيل إن امرأة إسماعيل قالت لإبراهيم انزل اغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الأيمن، ثم حولته إلى شقه الأيسر، فغسلت شق رأسه الأيسر، فبقي أثر قدميه عليه. وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب. وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال: قال عمر وافقت ربي في ثلاث، قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى فنزلت (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) الحديث. ورويا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله تعالى الى يوم القيامة، وانه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمته تعالى الى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلي خلاه، فقال العباس يا رسول الله إلا الأذفر فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال إلا الأذفر. ومن حرمة هذا البيت أنه لم يأته جبار يقصد خرابه إلا قصمه الله مثل صاحب القيل ومن قبله، أما الحجاج فإنه لم يأت بقصد خرابه بل لخلع ابن الزبير، ولم يتمكن من ذلك إلا برمي البيت بالمنجنيق، ولما حصل قصده(5/89)
أعاد بناءه وشيده وعظم حرمته وأحسن الى أهله. ومكة هذه محرمة قبل إبراهيم عليه السلام بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض.
وقوله تعالى (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) ولكن لم يظهر ذلك التحريم على لسان أحد من أنبيائه ورسله قبل إبراهيم عليه السلام، وكان الله تعالى ولم يزل يمنعها ممن أرادها بسوء ويدفع عنها وعن أهلها الآفات والعقوبات حتى بوأها إبراهيم وأسكن بها أهله، وسأل ربه ما سأل من إظهار تحريمها لعباده وفرض على الخلق ذلك. وحدود الحرم فيها من جهة طيبة طيب الله ثرى ساكنها ثلاثة أميال، ومن جهة الطائف سبعة أميال، ومن العراق عشرة، ومن جدة تسعة من قبل الجعرانة، وسبعة من اليمن، وسيأتي ما يتلعق بالحرم وما على المحرم إذا دخله في الآية 26 من سورة الحج الآتية وما على غير المحرم أيضا، وتفصيله على ما ينبغى في كتب الفقه فليرجع إليها من أراد الاستقصاء في ذلك. ومبدأ قصة بنائه على ما قالوا هو أن الله تعالى خلق موضع البيت قبل أن يخلق الأرض بألفي عام، فكانت زبدة بيضاء وعلى وجه الماء، فدحيت الأرض من تحتها، فلما أهبط الله آدم عليه السلام استوحش فشكا إلى الله تعالى فأنزل البيت المعمور، وهو من ياقوتة من بواقيت الجنة له بابان من زبرجد، ويقال زمرد أخضر، باب شرقي وباب غربي، فوضعه على موضع البيت، وقال يا آدم إني أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول العرش، ويصلّى عنده كما يصلّى عند عرشي، وأنزل الله عليه الحجر الأسود وكان أبيض واسود من مس الحيّض في الجاهلية، فتوجه آدم من الهند ماشيا إلى مكة، وأرسل الله إليه ملكا يدله على البيت، فحج آدم البيت وأقام المناسك، فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا له يرحمك الله يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. وقيل إن آدم عليه السلام هو الذي بناه على طراز البيت المعمور، وقد نظم الشيخ أحمد الكمسخاني أسماء من بنى الكعبة بقوله:
بنى الكعبة الغراء عشر ذكرتهم ... ورتبتهم حسب الذي أخبر الثقة
ملائكة الرحمن ثم آدم وابنه ... كذاك خليل الله ثم العمالقة(5/90)
وجرهم يتلو قصي قريشهم ... كذا ابن زبير ثم حجاج لاحقه
وخاتمهم من آل عثمان بدرهم ... مراد المعالي أسعد الله شارقه
وقال ابن عباس حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه، فكان على ذلك إلى أيام الطوفان، فرفعه الله إلى السماء الرابعة. وهذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه. وبعث الله جبريل عليه السلام حتى خبّأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق، فكان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيم عليه السلام فبناه على الصورة المار ذكرها.
وقيل إن الريح كنست له ما حول الكعبة حتى ظهر له أساس البيت الأول، وذلك قوله تعالى (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) الآية 27 من سورة الحج الآتية.
قال ابن عباس بناه من خمسة أجبل: من طور سيناء وطور زيتا ولبنان والجودي، وقواعده من حراء، فلما بلغ موضع الحجر أراد حجرة تكون علما فيه فصاح جبل أبي قبيس إن لك عندي وديعة يا إبراهيم، وقذف بالحجر الأسود فوضعه بمكانه الآن. وسيبقى إن شاء الله معظما محترما يتبرك به الناس إلى اليوم الذي قدره الله لخراب الكون، لما ورد أنه يسلط عليه قوما من الحبشة ينقضونه حجرا حجرا ويطرحونه في البحر، وهذا أيضا من جملة حرمته حتى لا تمسه أيدي الكفرة النجسة.
هذا، ويوجد سبع عشرة آية في القرآن مبدوءة بلفظ (تِلْكَ) أي بمثل هذه الآية قال تعالى «وَقالُوا» اليهود والنصارى يا أيها الناس «كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى» أي قالت اليهود كونوا أيها الناس يهودا، وقالت النصارى كونوا أيها الناس نصارى «تَهْتَدُوا» لأن كلا منهم يزعم أن دينه الحق وما سواه باطل ولم يعلموا أن دين اليهود عدل بما أنزل على النصارى ودين النصارى أبطل بما أنزل على المسلمين، ولم يبق على وجه الأرض دين حق إلا دين الإسلام، كما كان الحال في زمن إبراهيم، لهذا يقول الله لنبيه «قُلْ» لا تكونوا أيها الناس هودا ولا نصارى «بَلْ» تعالوا كلنا نتبع «مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» المرضية عند كل الأمم التي جددها حفيده محمد عليه الصلاة والسلام وإن إبراهيم كان «حَنِيفاً» مسلما لا يهوديا ولا نصرانيا كما يزعم اليهود والنصارى «وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 135» كما(5/91)
يزعم بعض كفرة العرب، وهذا هو الذي يرتضيه الله تعالى لا غيره، ومعنى حنيفا مائلا عن كل الأديان إلى دين الإسلام وعليه قوله:
ولكنا خلقنا إذ خلقنا ... حنيفا ديننا عن كل دين
مطلب كيفية الإيمان والإسلام والمعمودية ومن سنها وتحويل القبلة وأن الشهادة قد تكون بلا مشاهدة ومنها شهادة خزيمة:
قال تعالى مخاطبا سيد المخاطبين «قُولُوا آمَنَّا» كلنا أنا وأنتم ومن على وجه الأرض «بِاللَّهِ» وحده «وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا» من القرآن «وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ» من الصحف «وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ» الإثني عشر من الأحكام «وَما أُوتِيَ مُوسى» من التوراة «وَعِيسى» من الإنجيل «وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ» قبلهم من الوصايا «مِنْ رَبِّهِمْ» كزبور داود عليه السلام لأنهم كلهم على هدى منه يأتمرون بأوامره وينتهون عن نواهيه، وقولوا أيضا «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» كاليهود والنصارى وغيرهم بل نؤمن بهم كلهم ونصدق بما جاءوا به كله «وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 136» له بالعبودية مذعنون مخبتون خاضعون له بالعبادة «فَإِنْ آمَنُوا» هؤلاء المخاطبون «بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ» يا محمد أي بجميع الرسل والكتب «فَقَدِ اهْتَدَوْا» إلى الدين الحق مثلكم «وَإِنْ تَوَلَّوْا» عن هذا الإيمان وأعرضوا عنه أو عن شيء منه «فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ» خلاف عظيم وجدال كبير عداء بكم، وعنادا لكم، وحسدا بما أوتيتم، ومحاربة لله ورسوله، ونزاعا مع المؤمنين، وإذا تولوا ورضوا بما عندهم ولم يصغوا لإرشادكم، فاتركهم «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ» بالقهر والغلبة عليهم والعزة والظفر لكم «وَهُوَ السَّمِيعُ» لما تريدونه منهم من الخير «الْعَلِيمُ 137» بمن يقبله منكم أو يرده عليكم. وهذه الآية ضمان من الله تعالى لرسوله بالنصر، وإظهار لكلمته عليهم، وهي من الإخبار بالغيب لتحققه بعد نزول هذه الآية بثلاث سنين، إذ غزا بني النضير بالسنة الرابعة من الهجرة. ونزول هذه السورة كان في السنة الأولى منها، وأجلاهم عن بلادهم، ثم غزا بني قريظة وسباهم وضرب(5/92)
الجزية عليهم. واعلم أيها القارئ أن الإيمان على الوجه المذكور الجامع هو «صِبْغَةَ اللَّهِ» يظهره ويلبسه من يشاء من عباده فيعرف به كما يظهر أثر الصبغ على الثياب لأنه يتداخل في قلوبهم ويتغلغل فيها فيسطع نوره على وجوههم، قال تعالى (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) الآية الأخيرة من سورة الفتح الآتية، وتلك السيما (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) لعظمة الله تعالى نصبغته هي الصبغة المثلى، وقد جاء في الحديث الصحيح إن الإيمان نور يقذفه الله تعالى في القلب فيظهر على الوجه «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً» لا أحد البتة «وَنَحْنُ لَهُ» لذاته المقدسة وحضرته الكريمة مع الإيمان والإسلام على الصفة المارة الذكر «عابِدُونَ 138» طائعون مخلصون.
وجاء الإيمان المحقق في صاحبه بلفظ الصبغة للمشاكلة، لأن النصارى كانوا ولا يزالون يعمدون أولادهم أي يغسلونهم بماء يسمونه ماء المعمودية يضعون فيه شيئا من الصفرة يزعمون أن عيسى عليه السلام تعمد بمثله، أو مطلق ماء يقدسونه بما يتلون عليه من آي الإنجيل الشريف، وقد يأمرون الحامل فتغتسل فيه ويعتقدون أنه طهرة المولود كالختان، ولا يغتسلون من الجنابة بعد ذلك ولا يختتنون أيضا، لزعمهم أن الاغتسال بماء المعمودية كافيهم عنها والحال أن الأمر ليس كذلك، فإن المعمودية أول من سنتها سيدنا يحيى عليه السلام، ولذلك يسمونه في كتبهم يوحنا المعمدان الذي ألمعنا لذكره في الآية 7 من سورة الإسراء والآية 7 من سورة مريم المارتين في ج 1، وهي عبارة عن أنه عليه السلام كان يدعو الناس إلى توحيد الله، وكلما دخل أحد في دينه أمره بالغسل ويأمره أن يأمر أهله وأولاده به، وهو الذي عمّد عيسى عليهما السلام لأنه قام بالدعوة إلى الله قبله وهو أكبر منه بستة أشهر، وابن خالته، وهذا الغسل هو سنة من سنن الإسلام، لأن كل من يدخل فيه ينبغي له أن يغتسل إشعارا بطهارته عما كان عليه من الرجس، لأن الإسلام يجب ما قبله من الذنوب مهما كانت، فإذا دخل فيه كان كيوم ولدته أمه، فهذا هو معنى المعمودية لا غير، وليس الذنب على المعمّدين بفتح الميم بل على المعمّدين بكسرها الذين يبينون لهم الأمر على خلاف ما هو عليه في الأصل، قال:
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر(5/93)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الذين يريدون أن يهوّدوا الناس أو ينصروهم زاعمين أن ما هم عليه من الدين بعد بعثتك هو الحق «أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ» وتجادلوننا فيه وتخاصموننا من أجله «وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ» فنحن وأنتم فيه سواء، لأننا كلنا مربوبون له «لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ» لا أحد يستفيد من الآخر شيئا، ولا يثاب على عمله، ولا يعاقب، بل كل مسؤول عما يفعل، فله ثوابه وعليه عقابه «وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ 139» بالقول والعمل إسلاما وإيمانا، وقد نسبتم إليه يا أهل الكتاب الولد، وأنتم أيها المشركون عبدتم غيره، ومنكم من جعل الملائكة بناته، تعالى عن ذلك وتقدس، وقد علمتم أن الدين المرضي هو الذي يأمركم به أنبياؤكم قبلا، الذي منه متابعة محمد عند بعثته. نزلت هذه الآية عند ما قال أهل الكتاب لحضرة الرسول إن ديننا أقدم من دينكم والأنبياء كلهم منا ونحن أولى بالله منكم، قال تعالى «أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى» في زعمكم كلا لم يكونوا كذلك، وزعمكم هذا باطل لا يستند إلى كتاب أو كلام رسول، فإن لم يذعنوا لقولك «قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ» أعلم بما كانوا يدينون به كيف وقد أخبر بأنهم كانوا مسلمين، فلما قال لهم ذلك وعلموا أنه الحق لما عرفوه من كتابيهم سكتوا وخرسوا، «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ» وذلك أنهم يعلمون مما في كتبهم أن إبراهيم وولده كانوا مسلمين، وأن محمدا من ذريته، وأنهم وإن عملوا ما عملوا من الكتم والإخفاء، فإنه لا يؤثر في الحقيقة الواقعة، «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ 140» إن أنتم أغفلتم هذا وكتمتموه، فالله تعالى مطلع رقيب ناظر على جميع أعمالنا وأعمالكم، وهي محصية عنده وسيجازينا عليها الخير بأحسن منه والشر بمثله.
قال تعالى «تِلْكَ أُمَّةٌ» أمة إبراهيم وولده «قَدْ خَلَتْ» ومضت وقد أحصي عملها «لَها ما كَسَبَتْ» من الثواب «وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ» من العقاب «وَلا تُسْئَلُونَ» أنتم «عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ 141» تقدم مثلها حرفيا وكررت لاختلاف مواطن المجادلة التي يحسن فيها التكرار للتذكير والتأكيد.(5/94)
قال تعالى «سَيَقُولُ السُّفَهاءُ» الجهلة خفيفو العقول قليلو الروية «مِنَ النَّاسِ» بعد نزول آية تحويل القبلة «ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها» عند مجيئهم إلى المدينة، وأي شيء صرفهم عنها وهي قبلة جميع الأنبياء؟
«قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء المعترضين «لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ» وما بينهما فما كان منها قبلة كان بجعل الله تعالى، وهو الذي «يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 142» ومن هذه الهداية التوجه إلى الكعبة بعد البيت المقدس لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام. وسبب نزول هذه الآية على ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) إلى آخر الآيات. وفي رواية أبي اسحق وعبد بن حميد وأبي حاتم عنه بزيادة، فأنزل الله تعالى (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) إلخ الآيات، وهذا أليق بالمقام، وفيه ردّ لقول القائل إن قوله تعالى (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) متقدمة في التلاوة متأخرة في النزول عن قوله (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) إلخ، على أنه لا مانع من القول بنزولها قبلها لأنها جاءت بلفظ الاستقبال، فهي من قبيل الإخبار بالشيء قبل وقوعه كسائر المغيبات التي أخبر الله تعالى بها رسوله قبل نزولها، وإنما غاظ اليهود تحويل القبلة وأزعجهم جدا لأنهم يرون ذلك قصدا لمخالفتهم، حتى أنهم عمدوا إلى تخريب مسجد الرسول وحرضوا بعض الناس على تخريب الكعبة الشريفة، كما ألمعنا إليه في الآية 114 المارة، إذ كان نزولها وقت الأمر بتحويل الكعبة، وقد أخبر الله تعالى في هذه الآية عما صاروا يقولونه بينهم من أجل ذلك، وقد ذكرنا بعض هذا في الآية 115 المارة، لأن حضرة الرسول منذ دخل المدينة كان يحب التوجه إلى الكعبة، ولكنه لم يستبد بشيء يريده، إلا أن يقترن بأمر الله وإرادته، وكان في استقباله لبيت المقدس قرب لاستمالة اليهود إلى الإيمان به وتصديقه، لأن وصفه مذكور في كتابهم وعضّده التوجه لقبلتهم، ولكنه لم يزدهم ذلك إلا إنكارا وتعنّتا وحسدا وعنادا، فلما أمره الله بالتوجه للكعبة صاروا يتقولون بما تسوّله لهم أنفسهم الخبيثة من أن محمدا ما ترك(5/95)
قبلتهم إلا حسدا لعلمه أنهم على الحق وأن دينهم أعدل الأديان. قال تعالى «وَكَذلِكَ» كما جعلنا شريعتكم وسطا بين شريعة موسى وعيسى، لأن الأولى في غاية من الشدة والثانية في نهاية اليسر، فكانت بين الصعوبة والسهولة جعلنا قبلتكم وسطا بين المشرق والمغرب أي بين قبلتي اليهود والنصارى، لهذا «جَعَلْناكُمْ» يا أمة محمد «أُمَّةً وَسَطاً» لأنكم خير الأمم. وجاء في الخبر: خير الأمور أوساطها. قال زهير:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
وإنما جعلناكم أمة وسطا يا أمة محمد «لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» يوم القيامة في المشهد العظيم بأن الرسل بلغوا أممهم ما أرسلهم الله به «وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً»
بأنكم آمنتم به وصدقتموه. ونظير هذه الآية الآية الأخيرة من سورة الحج الآتية. قال بعض المفسرين شهيدا بمعنى رضيّا، إذ لو كان القصد الشهادة لقال لكم، لأن الشهادة لهم لا عليهم والشهادة للنفع تتعدى بإلى وبالضر بعلى، وهو وجيه من حيث اللغة، ولكن الأول أولى لمناسبة المقام، فإن الرسل تشهد على أممها بالخير والشر لا بالخير فقط ليحسن القول بذلك فضلا عن أن حروف الجر تخلف بعضها، تدبر. روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يجاء بنوح وأمته يوم القيامة فيقال له هل بلغت؟
فيقول نعم أي وربي، فيسأل أمته هل بلّغكم؟ فيقولون ما جاءنا من نذير، فيقال لنوح من يشهد لك؟ فيقول محمد وأمته، فيجاء بكم فتشهدون، ثم قرأ الآية، زاد الترمذي وسطا عدولا. واعلم أن الشهادة قد تكون بلا مشاهدة كالشهادة بالتسامع في الوقف والموت وغيرهما مما هو مبين في كتب الفقه، ولما كانت هذه الأمة سمعت من رسولها الصادق ما قصه عليها من أخبار الأمم وهو حقّ لا مرية فيه جاز لهم أن يشهدوا على الأمم بالتبليغ من قبل رسلهم، وهذا أقوى من المشاهدة لأن البصر قد يخطىء، وحضرة الرسول لا يخطىء وهو منزه عن الخطأ بالتبليغ، ومن هذا شهادة خزيمة رضي الله عنه التي عدها الرسول بشهادتين، لأنه كان جازما أن الرسول صلّى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، فشهد على ما أخبره به وسمي ذا الشهادتين.(5/96)
«وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها» وهي صخرة بيت المقدس متروكة وأمرناك باستقبال الكعبة «إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ» اتباعا جازما سالما من الشك والشبهة، فيراه الناس ويميزونه عن الغير، وإلا فهو عالم بذلك قبل وقوعه مما هو موافق لما عنده في الأزل لا عبثا ولا لعبا، أي ليعلمه الناس كما هو معلوم لدينا «مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ» ويظهر مخالفته لنا ولك علنا ويجاهر بمخالفتك «وَإِنْ كانَتْ» تولية القبلة «لَكَبِيرَةً» ثقيلة شاقة على الناس، لأن كل شيء خالف المألوف تستصعبه النفوس «إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ» فإنهم لا يرون فيها كافة بل يرونها يسرة سهلة لما فيها من اتباع رسولهم وأمر ربهم، فيتلقون كل ما كان كذلك بطيب نفس ورغادة بال ورغبة واشتياق وسرور. وهذه الجملة نظير الجملة المارة في الآية 45 بشأن الأوامر المارة فيها لقوله فيها (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) ولما قال حبي بن أخطب وأصحابه من اليهود إلى المؤمنين إن كانت صلاتكم إلى بيت المقدس هدى فقد تحولنم عنها وإن كانت ضلالة فكيف بمن مات منكم عليها، فأنزل الله «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» صلاتكم باستقبالكم القبلة السابقة لأنكم إنما استقبلتموها بأمر الله طاعة له ولرسوله، فإن صلاتكم إليها مقبولة مأجور عليها، كما أن استقبالكم البيت الحرام بأمر الله طاعة له ولرسوله مقبولة ومأجور عليها، وإنما سميت الصلاة إيمانا لاشتمالها عليه «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ 143» كثير الرحمة والرأفة بهم، لا يضيع عملا عملوه بأمره وإرادته، ولا يهدر ثوابه، كما أن من كان يتعبد على شريعة موسى، ولما بعث عيسى تبعه، ومن كان يتعبد على شريعة موسى وعيسى وعند بعثة محمد تبعه فتعبد على شريعته، فهو مأجور بكل منهما يثاب على الأخيرة كما يثاب على الأولى، فكل ما كان الإقدام عليه بأمر الله تعالى والانصراف عنه بأمره مثاب عليه، لأن القصد الامتثال. واعلم أن الفرق بين الرأفة والرحمة هو أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة، ولذلك حسن ورودها هنا، لأن الكلام فيمن مات وهو يستقبل في صلاته بيت المقدس، والرحمة اسم جامع لذلك المعنى وغيره في جميع الأقوال والأفعال من الإنسان والأنعام وغيرها. ثم بين جل شأنه العلة(5/97)
في إنزال الأمر بتحويل القبلة كما هو ثابت في سابق علمه، فقال «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» تحبّها يا سيد الرسل وتميل إليها لأنها قبلة أبيك إبراهيم، وكان صلّى الله عليه وسلم يتشوق إليها ويقول لجبريل وددت لو أن الله حولني إلى الكعبة، فيرد عليه بأني عبد مثلك وأنت كريم على ربك، فاسأله ذلك، ولكنه لا يسأله تأدبا، لأن علمه بما في قلبه كاف عن سؤاله، وكان صلّى الله عليه وسلم يتأذى من قول اليهود أن محمدا يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا، وهذه الجملة حكاية حال حضرة الرسول قبل تحويل القبلة، إذ كان يود بقلبه ويرمق بطرفه إلى السماء رجاء نزول الوحي إليه بذلك، وقد كان في مكة يستقبلها، ولهذا خاطبه ربه بقوله «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» جهته في مكة المكرمة «وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ» أيها المؤمنون «فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» نحوه وتجاهه «وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» من هؤلاء الذين يعترضون وينتقدون «لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ» التوجه إلى الكعبة هو «الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» لما هو مدون في كتبهم من أنه صلّى الله عليه وسلم يصلي إلى القبلتين، ولعلهم أن الكعبة كانت قبلة إبراهيم عليه
السلام، ثم هددهم بقوله «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ 144» من إنكاركم فيما يتعلق بأمر القبلة ومعارضتكم إلى محمد وأصحابه فيما هو حق ثابت عندكم، وانه لا بد مجازيكم على عنادكم وتعنتكم. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال إن النبي صلّى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يسقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وأخرج الترمذي وقال حديث حسن صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة، ثم قالت اليهود يا محمد ما هذا إلا شيء ابتدعته من نفسك، فتارة تصلي إلى بيت المقدس وتارة إلى الكعبة، فلو ثبت على قبلتك لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي تنتظره، فأنزل الله «وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ» كعبة البيت الحرام ولا طريقتك التي أنت عليها «وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ» مهما قالوا لك ومنّوك به من اتباع وسلوك طريقتك، لأنهم يكذبون(5/98)
في قولهم كله سواء باتباعك القبلة وغيره، لأنهم لا عهد لهم ولا ميثاق، فضلا عن الكلام «وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ» فلا اليهود تتبع النصارى في قبلتهم، ولا النصارى تتبع اليهود في قبلتهم أبدا، كما أن كلا منهم لا يتبع قبلتك هذه ما داموا على يهوديتهم ونصرانيتهم «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ» الفاسدة، وهذا على طريق الإرهاب والتهيج ليزداد تثبيتا في حقه وتحذير للسامعين من متابعة الهوى كما أشرنا إليه أواخر سورة القصص فى ج 1 والآية 64 من سورة الزمر ج 2، «مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ» في بطلان أهرئهم «إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ 145» وهذا محال عليه صلّى الله عليه وسلم، لأنه مقطوع له بأنه لا يتبع أهواءهم وهو معصوم من كل مخالفة، ولكن هذا مراد به غيره على حد (إياك أعني واسمعي يا جاره) كما أشرنا إليه في الآيات من القصص والزمر وغيرها.
قال تعالى «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» تقدم تفسيرها في الآية 20 من سورة الأنعام ج 2، وأوردنا عليه ما قاله عمر ابن الخطاب إلى عبد الله بن سلام وما رد عليه فراجعه، وأشرنا إلى عبد الله هذا في الآية 10 من سورة الأحقاف ج 2 أيضا، «وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ 146» أنه حق لا جهلا بل عنادا وحسدا. واعلم يا محمد أن الذي أنت عليه وأصحابك هو «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» فاثبت عليه وامر من اتبعك بالثبات عليه، فإنه هو الثابت عند الله «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ 147» فيه أبدا وهذه أيضا من قبيل تلك الآيات لأنه لا يمتري ولا يشك في شيء جاء من ربه. قال تعالىَ لِكُلٍّ»
من عباده ومخلوقاتهِ جْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها»
لهم وموجههم إليهاَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ»
أيها المؤمنون وبادروا بفعلها.
واعلموا أنكمَ يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً»
أنتم وأهل الكتاب والمشركون والمجوس والصابئون مؤمنكم وكافركمِ نَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 148»
لا يصعب عليه شيء وأهون عليه جمع ما تفتت من أجزائكم واضمحل من أسلافكم في البرّ والبحر أو الهواء. وفي هذه حث على التسابق لأعمال الخير والأولوية والأفضلية في الطاعات، وتحذير لمنكري البعث والمعترضين على أعمال الله(5/99)
تعالى القائل «وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ» التوجه إليه «لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ 149» كرر هذه الجملة تأكيدا للتهديد وتشديدا للتحذير ليكفوا عما يقولون في شأن القبلة وغيرها مما أنزله على محمد صلّى الله عليه وسلم «وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» سواء كنتم في بر أو بحر بعيدا أو قريبا. واعلم أن قائدة هذا التكرار هو أن الحادثة جاءت على خلاف ما يعهده اهل الكتاب في الرسول بعد مجيئه إلى المدينة وهو أول أمر وقع في تبديل القبلة لئلا يخطر بمال أحد أن الأمر بالتوجه هو لأهل المدينة خاصة أو لأهل مكة خاصة فاحتاج الأمر للتأكيد بالتكرار تقريرا له وإيضاحا لبيانه وإزالة لكل شبهة فيه وردا لاعتراض كل معترض وهو في الواقع رجوع إلى ما كان يستقبله حضرة الرسول من بداية أمره إلى وصوله إلى المدينة، لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام، وأن قريشا مع كفرهم وإشراكهم يستقبلونها عند ما يدعون الله ويتضرعون له في النوازل، وكان استقباله بيت المقدس عند وصوله المدينة بأمر الله تعالى اتباعا لأمره الأزلي في لوحه المحفوظ بأن نبي آخر الزمان يستقبل إليه بعد استقباله الكعبة ثم يعود إليها ليكون أقرب الى تصديق اليهود وأجلب لميلهم، كما أشرنا إليه آنفا. واعلم أن هذا التحويل لا يسمى نسخا بالمعنى المراد بالنسخ، إذ لا يوجد في القرآن ما يدل على أن النبي وأصحابه كلفوا أن يستقبلوا الكعبة. والنسخ الذي يريدونه هو رفع حكم ثابت في القرآن مقدم بنص لا حق ضده متأخر عنه، ولا يوجد في القرآن نص مقدم باستقبال الكعبة فلا معنى إدا للقول بالنسخ ولا قيمة لقول من قال إن تغير القبلة أول واقعة ظهر النسخ فيها في شرعنا، تأمل «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ» يحتجون بها بأن هذا مخالف لما في التوراة على ما يزعمه اليهود، لأنك صليت إلى قبلتهم، ولئلا تحتج قريش بأنك كيف تدعي دين إبراهيم وتصلي إلى غير قبلته، أما ما تقوله قريش بأن محمدا سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا لما علم أنها الحق، لأنها قبلة أبيه إسماعيل عليه السلام، فذلك قولهم بأفواههم، ولا يقوله إلا ذو العناد منهم.(5/100)
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
وقد أطلق على قول المعاندين الجاهلين لفظ حجة لأنهم يسوقونها مساق الحجة اشتقاقا من حجه إذا غلبه، ولا يعلمون أن الحجة كما تكون صحيحة تكون فاسدة، وقد تسمى حجة وهي باطلة. «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» استثناء متصل، أي لا حجة لأحد عليكم في استقبال الكعبة إلا حجة المتوغلين في اليهودية لكونها مخالفة لما في التوراة مع أنها موافقة لها وهم يكتمون ما فيها من الحق، وقد نص فيها على تحويل القبلة كما نص فيها على صفات الرسول. وحجة قريش من الرجوع إلى قبلتهم واهية لأنها قبلة حضرة الرسول بطريق الإرث لا قبلتهم، فظهر أن كلا منهم مبطل في دعواه ويحاول بالباطل ظلما وعدوانا «فَلا تَخْشَوْهُمْ» فيما يطعنون بكم من الأكاذيب المختلفة «وَاخْشَوْنِي» وحدي أنا الله الذي أحق بأن يخشى منه لأظهركم عليهم، «وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ» بهدايتكم لما فيه خيركم وصلاحكم «وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 150» لكل ما فيه نفعكم وإكمال نعمكم.
نزل أمر تحويل القبلة يوم الإثنين في منصف شهر رجب الحرام السنة الثانية من الهجرة. أو النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي الظهر في مسجد بني سلمة وكان قد صلّى ركعتين فتحول في الثالثة إلى جهة الكعبة واستقبل الميزاب وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين. وقبل كان التحويل بعد الصلاة إذ يفهم من هذا الحديث أن الوحي نزل عليه بتبديل القبلة وهو في الصلاة، تدبر.
ووصل الخبر إلى أعل قباء في صلاة الصبح، وقدمنا نص الحديث فيه في الآية 147 ونوهنا بالآية 115 المارتين ما يتعلق بهذا البحث فراجعه. الحكم لشرعي وجوب استقبال عين القبلة لتمسكي الشاهد، لها ولجهتها لغيره، ورخص المراكب النقل على ظهر دابته متجها تلقاء سمته، وتقدم الحديث في هذا أيضا في الآية 115 المرة أيضا، ويسنّ استقبالها في الوضوء والدعاء والقعود، ويكره حال لأخبثين وعند كشف العورة، ويكره لولي الصغير أن يقبله نحوها حال التغوط أو البول كما يحرم إلباسه الحرير وتحليه بالذهب والفضة. هذا،
ولما كان هذا من إتمام نعم الله على المؤمنين أردفها بكاف التشبيه فقال «كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ(5/101)
ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ 151»
كما أتممت عليكم النعمة بالإسلام والقبلة أتممتها عليكم بأن جعلت رسولكم منكم لأن خير الأمم من كان أميرها منها لأنها لا تذل بحكمه بخلاف المتسلط عليها من غيرها فقيه الهوان والصغار «فَاذْكُرُونِي» أيها الناس «أَذْكُرْكُمْ» عند مهماتكم وإفزاعكم ولا تغقلوا عن ذكري ومجدّوني دائما وعظموني لذاتي أحفظكم وأزدكم.
مطلب آيات الصفات والشكر على النعم والذكر مفرد أو جماعة وثواب الشهيد:
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل أنا عند ظن عبدي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه، وإن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة. وهذا من أحاديث الصفات التي جعل السلف الصالح تأويلها ظاهر لفظها، وأوله الخلف بأن المراد بالقرب القرب من رحمته وألطافه وبره وكرمه بإحسانه ومواهبه، وكلما ازداد العبد بما يقربه منه من أعمال الخير زاده الله تعالى من ذلك، لأن القصد من الشبر والباع والذراع والهرولة والمشي والقرب استعارة ومجاز، إذ يستحيل إرادة ظاهرها على الله تعالى، لأنه منزه عما هو من شأن خلقه. وقد أوضحنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 30 من سورة ق والآية 4 من سورة طه في ج 1 والآية 178 من سورة الأنعام والآية 65 من سورة الزمر في ج 2 فراجعها وما ترشدك إليه من المواقع. ورويا عنه: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه. ورويا عن أبي موسى الأشعري: مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر، كمثل الحي والميت. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: سبق المفردون، قالوا وما المفردون يا رسول الله؟ قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات. أي الذين ذهب القرن الذي كانوا فيه وبقوا فيه وحدهم، أو الهرمى الذين ذهب أقرانهم من الناس وبقوا وحدهم يذكرون الله تعالى.
ولهذا جاء في تأويل المفرّدين بأنهم هم الذين اهتزّوا في ذكر الله والذين تفقهوا واعتزلوا الناس والذين اختلوا بمراعاة الأمر والنهي. ثم أردف الذكر بطلب الشكر(5/102)
فقال جل قوله «وَاشْكُرُوا لِي» أيها الناس على ما غمرتكم به من النعم «وَلا تَكْفُرُونِ 152» بجحود شيء من نعمي عليكم فتحرموها. قال تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) الآية 7 من سورة إبراهيم في ج 2، وقال صلّى الله عليه وسلم: اشكروا النعم لا تكفروها فإنها إن زالت فهيهات أن تعود. فاحفظوها عباد الله بدوام شكرها لئلا تسلب منكم وتقطع عنكم ولا أشد على المرء من زوال النعم بعد أن اعتادها، حفظنا الله ووقانا وإلى شكره هدانا، ومن زوال نعمه حمانا. واعلم أيها العاقل أنه كما يجب شكر الله على نعمه يجب شكر خلقه على نعمهم عليك، قال صلّى الله عليه وسلم: أشكركم للناس أشكركم لله.
وأن تخص بالشكر والديك على نعمة التربية، قال تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) الآية 13 من سورة لقمان ج 2 وقال تعالى (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) الآية 23 من سورة الإسراء ج 1، وقد أسهبنا البحث في هاتين الآيتين في بحث الشكر فراجعهما. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ 153» بالمعونة والثبات والنصر والأعمال والمطالب والنيّات وكل ما تعذرت به الحقيقة من آيات الصفات وأحاديثها وشبهها يصار فيها حتما إلى المجاز لأن هذه المعية لا يعلمها غيره تعالى، ونؤوّلها بالمعونة منه على عباده ومساعدتهم على أمورهم والقيام بحقوقهم، ولما صارت واقعة بدر في 27 رمضان السنة الثانية من الهجرة واستشهد فيها ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار قال المنافقون ماتوا وذهب عنهم نعيم الدنيا ولذّتها، فأنزل الله جل جلاله «وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ» قولوا «أَحْياءٌ» حياة طيبة أحسن من حياتكم أيها الناس، لأنهم لا يزالون وإلى الأبد يذكرون بأنهم استشهدوا في طاعة الله ورسوله لإعلاء كلمة الله والذب عن أوطانهم وأعراضهم وإظهارا لأمر رسولهم على أعدائهم، وإنما نهى الله تعالى عن القول بأنهم أموات لئلا يتساووا في هذا الاسم مع غيرهم الذين قتلوا في سبيل الشيطان وعداوة أهل الإيمان، لأنهم لا يذكرون إلا بالشر، فهؤلاء أموات مادة ومعنى وإن كانوا أحياء، وأولئك أحياء مادة ومعنى وإن كانوا أمواتا، وحياتهم بعد الاستشهاد كناية عن بقاء(5/103)
ذكرهم الحسن عند الناس وتنعم أرواحهم في الخير عند الله، ويطلق على من لم يزل ذكره جاريا بين الناس أنه حيّ مجازا، فهم أحياء عند الله بالمعنى الذي يريده، «وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ 154» أيها الناس بكيفية حياتهم عنده، وإنما هو وحده يعلمها. قال الحسن إن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليها الروح والفرح كما تعرض النار على آل فرعون فيصل إليها الوجع والجزع.
قال تعالى «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ» أيها الناس «بِشَيْءٍ» نكره تعظيما لعظمه على حصول القوت خلقه ثم بينه بقوله «مِنَ الْخَوْفِ» من العدو وقلة الأمن «وَالْجُوعِ» بتعذر «وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ» بخسران التجارة وهلاك قسم من رؤس الأموال والزروع والضروع «وَالْأَنْفُسِ» بالموت أو القتل أو الغرق والحرق والتردي «وَالثَّمَراتِ» بعدم بلوغ الزروع وإدراك نضج الفواكه وتسليط الآفات الأرضية والسمائية عليها، فيحصل النقص في جميع الحبوب والخضر والفواكه والأموال والأولاد والحيوان. وتطلق الثمرات على الأولاد أيضا كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا مات ولد العبد قال تعالى لملائكته أقبضتم ولد عبدي، قالوا نعم، قال أقبضتم ثمرة فؤاده، قالوا نعم، قال فماذا قال عبدي، قالوا حمدك واسترجع، قال ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد. ويدخلون في معنى الكسب أيضا لما ورد وولد المرء من كسبه.
مطلب في الصبر وثوابه وما يقوله المصاب عند المصيبة:
ثم ذكر جل شأنه ما من شأنه أن يتسلى به المصاب فقال «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ 155» على تلك البلايا الموصوفين بقوله عزّ قوله «الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ» من تلك المصائب أو غيرها «قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 156» فلم يجزعوا منها ولم يفزعوا لغيره لأنهم عرفوا أنهم وما يملكون بتصرف الإله المتصرف بهم وبما يملكونه بما شاء، وليس لأحد أن يعارض المالك إذا تصرف بملكه «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ 157» يهدي الله، المسترشدون برشده. قال عمر الفاروق رضي الله عنه: نعم العدلان الصلاة والرحمة، ونعمت العلاوة الهداية. ويفيد عطف(5/104)
الرحمة على الصلوات أن الصلاة من الله رحمة وزيادة، ولذلك عطف عليها من عطف العام على الخاص. وروى مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون الآية اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها. وقيل ما أعطي أحد ما أعطيت هذه الأمة. يعني الاسترجاع عند المصيبة، ولو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب عليه السلام، ولم يقل يا أسفا على يوسف. والحكمة في تقديم تعريف هذا الابتلاء أن العبد إذا علم أنه مبتلى وظنّ نفسه على الصبر فإذا نزل به البلاء لم يجزع ويكون أشد إخلاصا منه في حال الرخاء، فيداوم العبد على التضرع والابتهال إلى الله لينجيه ممّا يترقب نزوله. روى البخاري عن أبي هريرة قال:
قال صلّى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا يصب منه أي يبتليه بالمصائب ليثيبه. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد قال: قال صلّى الله عليه وسلم ما يصبب المؤمن من نصب ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله عنه بها خطاياه.
ورويا عن عبد الله: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله عنه به من سيئاته كما تحط الشجرة ورقها. ورويا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم مثل المؤمن كمثل لزرع لا تزال الريح تفيئه ولا يزال المؤمن يصببه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجر الأرز لا تهتزّ حتى تحصد. وفي لفظ آخر حتى تنقعر.
وهو شجر معروف في لبنان يعمّر كثيرا حتى قيل إنه يوجد منه من زمن المسيح عليه السلام، أما الرز المعروف فهو داخل في الزرع. روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا إلا الجنة. فهذا كله وأمثاله عند الله تعالى للصابرين، وليس للجازع إلا الخيبة إذ تصير مصيبته اثنين هي وضياع أجرها، وليعلم العبد أن الله تعالى إذا أراد به خيرا عجل عقوبته في الدنيا بإحدى المصائب، وإذا أراد به شرا استدرجه فأملى له في الدنيا ليشدد عذابه في العقبى. قال تعالى (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) الآية 35 من سورة الأنعام في ج 2، فيظنون أن ما هم عليه حسن فيستزيدون منه حفظنا الله من غضب الله. وليعلم العبد أن عظيم الجزاء(5/105)
مع عظيم البلاء، وإذا أحب الله قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى وذلك الثواب، ومن سخط فله السخط والعذاب والعقاب، وحينما يرى الرجل يوم القيامة ما للمبتلين عند الله من الكرامة، يود لو قرضت أعضاؤه في الدنيا بالمقاريض رغبة فيما أعده الله لهم. أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة. وقال سعد بن ابي وقاص: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل (أي الأولياء والعلماء والصالحين) يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة هون عليه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة- أخرجه الترمذي-. فهذه هي التسلية الشرعية الشريفة، وهذا هو العزاء الحسن، وبهذه الطريقة ينسى الحبيب حبيبه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. والصبر هو حبس النفس على احتمال المكاره في ذات الله تعالى، وعلى تحمل المشاق في العبادات وسائر الطاعات، وتجنب الجزع والمحظورات عند المصيبة، وقدمنا في الآية 34 فما بعدها من سورة المؤمن في ج 2 والآية 35 من سورة فصلت ما يتعلق في هذا البحث فراجعهما، وقد جاء في الخبر عن سيد البشر أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش- أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود-. وأخرج عبد الرزاق عن عبد الله بن كعب بن مالك وأخرج مالك وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه أيضا عنه ما بمعناه. وإذا علمت هذا وأيقنت به فاعلم أن الشهداء أحياء من هذه الجهة، وإن كانوا أمواتا من جهة مفارقة الروح البدن، أو أنهم أحياء عند الله تعالى في عالم الغيب لأنهم صاروا إليه، وقد أشرنا إلى ما يتعلق بهذا في الآية 89 من سورة الإسراء ج 1 بصورة مفصلة فراجعها. ومن عرف قدرة الله لا يشك في ظاهر هذه الآية، لأنه تعالى قادر على أن يصير روحه في قالب كقالبه في الدنيا، فيأكل ويشرب في الجنة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 170 من سورة آل عمران الآتية إن شاء الله.
هذا، ولما أشار الله تعالى في الآية المتقدمة إلى الجهاد أعقبها ببيان بعض معالم الحج(5/106)
لما بينهما من المناسبة في مشقة النفس وتلف المال ولا سيما ذكر الصبر لأن كلّا من الجهاد والحج محتاج إليه لعلاقتهما في ذكر المناسك المتقدمة في دعوة إبراهيم عليه السلام.
مطلب في السعي وأدلة السمعية والحكم الشرعي فيه وكتم العلم:
قال تعالى «إِنَّ الصَّفا» الحجر الأملس «وَالْمَرْوَةَ» الحجر الأبيض اللين وهما علمان لموضعين معروفين بمكة، وقيل إن صفي الله آدم عليه السلام جلس على الأول فسمي الصفا، وجلست امرأته على الثاني فسمي المروة وهما «مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» وإعلام دينه وكل شيء معلم لقربان يتقرب به إلى الله من صلاة ودعاء وذبيحة، فهو شعيرة من شعائر الله ومشاعر الحج معالمه الظاهرة، فكل من المطاف والمنحر والموقف والمرمى من شعائر الله تعالى أي مناسكه في الحج، وقد جعلها الله أعلاما لطاعته «فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ» بالعمرة وهي الزيارة إلى الكعبة في غير موسم الحج أو فيه معه أو دونه «فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» بسعى بين الصفا والمروة أي الجبلين الواقعين في طرفي المسعى تجاه البيت الحرام «وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً» فعل فعلا زائدا على ما أوجبه الله عليه من الصلاة والصدقة والصيام والحج والعمرة والطواف وسائر أنواع الطاعات والقربات «فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ» لطاعته مثيبه عليها «عَلِيمٌ 158» بحقيقة نيته فيها وإنما قال تعالى من شعائر الله لأن للحج شعائر أخرى سنأتي على ذكرها عند قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) في الآية 196 الآتية إن شاء الله. وسبب نزول هذه الآية على ما رواه البخاري ومسلم عن عاصم بن سليمان الأحول قال: قلت لأنس أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ فقال نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتى أنزل الله هذه الآية. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له أساف، وعلى المروة صنم على صورة امرأة تدعى نائلة، زعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله حجرين فوضعا على الصفا والمروة ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا من دون الله، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنيين فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين، فأنزل الله هذه الآية. وهذا هو سبب الكراهة الواردة في(5/107)
الحديث، وعلى هذا وما جاء في سبب نزول الآية الأولى يفهم أن هاتين الآيتين نزلنا قبل فرض الجهاد وفرض الحج، لأن غزوة بدر بعد الأمر بالقتال وتكسير الأصنام بعد فتح مكة، وكلاهما لم يقع بعد. الحكم الشرعي وجوب الطواف بين الصفا والمروة، ويجب بتركه دم، وهو ليس من أركان الحج، وان قوله تعالى لا جناح عليه وإن كان يصدق على أن لا إثم على فعله فيدخل تحته الواجب والمباح والمندوب، وظاهر الآية لا يدل على الوجوب وعدمه، لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين هذه الأقسام الثلاثة لا يدل على خصوصية أحدها، بل لا بد من دليل خارج بدل على النص هل هو واجب أم لا. وهاك الأدلة على وجوبه، فقد روى الشافعي بسنده عن صفية بنت شبية قالت: أخبرتني حبيبة بنت أبي نخراة إحدى نساء بني عبد الدار قالت دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى ومئرزه ليدور من شدة السعي حتى لأقول إني لأرى ركبته، أي أنها لم تر ركبته، وإنما أرادت المبالغة من شدة سعيه ودوران إزاره بسببه، قالت وسمعته يقول اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي، وصححه الدارقطني وإذا صح فهو المذهب الحق.
وروى مسلم عن جابر في صفة حجة الوداع من حديث طويل قال: ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ) أبدا بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا الحديث. وروى البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم أرأيت قول الله (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) الآية فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة كلا لو كان كما تقول كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلّون لمناة، وكان مناة اسم صنم حذو (قديد) [موضع معروف على طريق المدينة مر به صلّى الله عليه وسلم عند هجرته ورأى فيه أم معبد وأظهر على يده معجزة حلب النعجة التي لا حليب فيها] وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة (للسبب المتقدم وهو وجود الصنمين عليهما) فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، فثبت من هذا كله وجوب السعي بينهما في قول الرسول وفعله وأمره.(5/108)
وقد قال تعالى (وَاتَّبِعُوهُ) الآية 158 من سورة الأعراف ج 1، وقال تعالى (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية 8 من سورة الحشر الآتية، وقال صلّى الله عليه وسلم: خذوا عني مناسككم. والأمر للوجوب ولقوله تعالى (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) الآية 113 من سورة التغابن الآتية، وما بعد هذه الأدلة القاطعة من دليل، وليعلم أن التمسك بقوله تعالى (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) ضعيف لعدم اقتضاء المراد من هذا التطوع أنه هو الطواف كما تقدم. ولما سئل علماء اليهود وأحبارهم عن آية الرحيم كتموها وأنكروا وجودها في التوراة كما أنكروا نعت الرسول أنزل الله تعالى قوله «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ» المنزل قبل القرآن على اليهود وهو التوراة المقدسة «أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ 159» من جميع خلقه ويستمروا على لعنهم ما داموا كاتمين لذلك «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا» وطهّروا أنفسهم بالصدق والتصديق «وَبَيَّنُوا» ما كتموه واعترفوا به «فَأُولئِكَ» القائمون بهذه الشروط الثلاث «أَتُوبُ عَلَيْهِمْ» وأقبلهم وأغفر لهم ذنوبهم السابقة وأكفر خطاياهم كلها «وَأَنَا التَّوَّابُ» لمن رجع إليّ كثير الرأفة به «الرَّحِيمُ 160» به فلا أعاقبه على ما سلف منه مهما كان، وهذه الآية وإن كان نزولها بمن ذكر فهي عامة في كل من يحذو حذوهم إذ لا مانع من شمول معناها لكل من يكتم شيئا مما أنزل الله سواء في التوراة أو إنجيل أو القرآن من أمر الدين والدنيا من مبدأ الكون إلى نهايته. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئا أبدا: هذه الآية وآية (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ. الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) الآية 188 من آل عمران الآتية.
الحكم الشرعي: يجب على العالم بشيء من أمور الدين الإجابة عند السؤال عنه وهو وجوب عيني، ويجب عليه وجوبا كفائيا إظهار علوم الدين للعامة والخاصة بأن يتصدر لها ويبثها بينهم إذا كان لا يوجد في المحل الذي هو فيه عالم غيره وإذا وجد فعلى أحدهم، فإن قام بذلك سقط الإثم عن الكل، وإلا فكلهم آثم.
وهكذا حكم كل وجوب كفائي كغسل الميت والصلاة عليه ودفنه. قال تعالى(5/109)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ 161» في الدنيا والآخرة بدليل قوله تعالى «خالِدِينَ فِيها» أي النار المستفادة من اللعن الذي هو طرد من رحمة الله «لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ» فيها «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ 162» يمهلون ليعتذروا ولا يؤجلون لوقت آخر. الحكم الشرعي: أجمعت العلماء على عدم جواز لعن كافر بعينه، وكذلك العاصي المعين والفاسق لعدم علم حاله عند الوفاة، فلعله يموت على الإيمان بسبب توبة يحدثها، وقدمنا في الآية 39 من سورة الأعراف ج 1 أن العبرة لآخر العمر وخاتمته لا لأوله ووسطه، راجع هذه الآية والآية 103 من سورة الأنبياء في ج 2، ويجوز لعن الكفار والظلمة والفسقة والعصاة على العموم.
قال تعالى (أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الآية 44 من سورة الأعراف ج 1، وقال صلّى الله عليه وسلم لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها، إذ كان مطلقا لم يخصّ به أحدا معينا، فتقع على من يستحقها. هذا وما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: لعن الله السارق يسرق البيضة والحبل فتقطع يده ولعن الله الواشمة والمستوشمة وآكل الربا ومؤكله ومن غير منار الأرض ومن انتسب لغير أبيه، فكله مطلق، لأن المحلى والمضاف لا يتقيد بل يعم الأفراد كافة، فمن هذا الوجه جاز لعنهم، لأن كلا منهم يدخل في عموم الآية المارة والحديث، تأمل.
«وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» أيها الناس هذه الجملة معطوفة على جملة (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) من عطف القصة على القصة، لأن الأولى مسوقة لإثبات النبوة وهذه لإثبات الوحدانية، وفيها انتقال عن زجرهم عما يعاملون به رسولهم إلى زجرهم عن معاملتهم ربهم، إذ يكتمون وحدانيته ويقولون عزيز والمسيح ابنا الله كما يقول فريق من العرب الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ 163» قال ابن عباس: قال المشركون يا محمد صف لنا ربك وانسبه وذلك لتوغلهم في شرف الأنساب ظنوا أن الرب له نسب مع أنه تعالى ذم المفاخرة بالنسب كما مر في الآية 101 من سورة المؤمنين ج 2، وقيل في هذا المعنى:(5/110)
وليس بنافع نسب زكي ... تدنسه صنايعك القباح
وقيل: لا ينفع الأصل من هاشم ... إذا كانت النفس من باهله
فأنزل الله هذه الآية. وعنه أيضا: قالوا ليأتنا محمد بآية تدل على ما يدعيه، فأنزل الله تعالى «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ» من ركوب وحمل وبلوغ بلد بعيد أو محل نزهة «وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» بالنبات لحاجة الإنسان والحيوان والطير والحوت «وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ» لمنافع الخلق أيضا من ركوب وحمل ورزق ومنها ما هو رزق لبعضها لأن الحيوان والحيتان والطير منها يأكل بعضه بعضا، ومنها ما يأكل جنسه بحسب التغلب، قال في المعنى:
ظلم القوي للضعيف جاري ... في الأرض والهواء والبحار
«وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ» في مهابها يمينا وشمالا وشرقا وغربا وجنوبا قبولا ودبورا، ونكباء وهي التي لا يعرف مهبها، وما فيها من المنافع لأناس ومضارّ لآخرين «وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» للنزول على من يشاء من عباده للشرب والسقي «لَآياتٍ» عظيمات كافية عن كل آية «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 164» أن جميع ذلك جعله الله للنفع والاعتبار فيستدلون بها على الخالق القادر المدبر لها ويتفكرون في تكوينها وتقلباتها ويقفون على عجائبها وغرائبها وبدائع صنعها وإتقان تكوينها، وأن كلا منها بقدر ومحور خاص لا يتغير ولا يتبدل ولا ينضب، وأن كلا منها دال على الفاعل المختار ومنوه على وجوب التفكر والتذكر بآلاء الله وعظمته ورأفته بعباده.
مطلب الدلائل العشر المحتوية عليها الآية 164 من هذه السورة:
واعلم أن في هذه الآية عشرة أنواع من البراهين النيرة القاطعة الدالة على الإلهية والوحدانية: النوع الأول آية السماء وهو سمكها وإتقانها وارتفاعها بغير عمد أو بعمد لا ترى لقوله تعالى (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) الآية 10 من سورة لقمان ج 2، ومثلها في الآية الثانية من سورة الرعد الآتية، لأنهما يحتملان المعنيين لأن السماء(5/111)
بناء والبناء الذي على هيأتها قد يكون بعمد ويكون بلا عمد، قال تعالى (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) الآية 12 من سورة عم في ج 2، وقال تعالى (أَمِ السَّماءُ بَناها) الآية 27 من سورة النازعات، وقوله تعالى (وَالسَّماءِ وَما بَناها) الآية 5 من سورة والشمس ج 1، وقال تعالى (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) الآية 27 من سورة الذاريات المارتين في ج 2، وقال تعالى (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) الآية 3 من سورة تبارك الملك في ج 2. النوع الثاني آية الأرض وهو مدها وبسطها وتمهيدها وتثقيلها بالجبال لئلا تضطرب ولم تجمع الأرض لثقل جمعها ومخالفته للقياس، ورب مفرد لم يقع في القرآن جمعه كالأرض، وجمع لم يوجد في القرآن مفرده كالألباب للقلة أيضا، وفي هذين النوعين من المبدعات ما لا يدخل تحت حصر.
والأرضين سبعة كالسماء بلا شبهة لقوله تعالى (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) الآية الأخيرة من سورة الطلاق الآتية فهي دليل قاطع على أن الأرضين سبع كالسموات، فلا حجة لمن ادعى أنها واحدة لعدم جمعها بالقرآن العظيم. النوع الثالث: آية الليل والنهار وهي اختلافهما وتعاقبهما بانتظام بديع لا يختلف ولا يدرك أحدهما الآخر، وقدمنا ما يتعلق بهما في الآية 12 من سورة الإسراء ج 1 فراجعها. والنوع الرابع آية الفلك وهو تسخيرها وجريانها على ظهر الماء موقرة بالأثقال وتسيرها الريح مقبلة ومدبرة. النوع الخامس: آية نفع الناس وهو ركوبهم لنزهة والتجارة ووضع القوة في القلب على ركوبها وإلا لم يتم الغرض من نفعها وكذلك الدواب.
السادس: آية تسخير البحر وهو حمل تلك الأفلاك العظيمة مع قوة سلطانه وهيجانه واستخراج اللآلئ منه للزينة والحيتان للأكل مع أنه مالح لا يستفاد منه ولكن كلمة الله أبت أن تبقي شيئا بلا فائدة. السابع: آية المطر وإحياء الأرض الميتة به وإخراج أنواع النبات منها مما ينفع جميع الحيوانات وإنزاله بمكان دون مكان وبقدر الحاجة وتزيين الأرض به، قال تعالى (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) الآية 6 من سورة الحج الآتية، وجاءت بلفظ خاشعة في الآية 40 من سورة فصلت في ج 2. الثامن: آية الرياح وهي آية عظيمة في القوة والنفع مع كونها جسم لطيف يحس به ولا يمسك ولا يرى وفيه حياة الوجود فلو أمسكه(5/112)
الله تعالى برهة عن خلقه لمات كل حي وانتهت الأرض. التاسع: آية السحاب وهو كونه معلقا بين السماء والأرض مثقلا بالمياه تسوقه الرياح إلى حيث شاء الله فتارة تذهب ما فيه وتفرقه، ومرة تجمعه بعد الشتات، وطورا تسرع بإنزال الماء منه، وأخرى تؤخره إلى أجل مقدور وقد تسوقه إلى مكان آخر، كل ذلك بتقدير العزيز العليم القدير الحكيم. العاشر: آية بثّ الدواب وهي آية كبرى لاجتماعها بعد تكونها من الماء في أصل واحد وهو الدم كما سيأتي في الآية 46 من سورة النور والآية 4 من سورة الرعد الآتيتين كيفية اتفاقها في ذلك الأصل وتفرقها في اللون والشكل والصورة واللغة والأخلاق والآداب وغيرها، فسبحان الإله الواحد الذي أحسن كل شيء خلقه. قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً» أمثالا وأشكالا وأشباها من الأصنام مع ما ظهر لهم من آيات الله الدالة على وحدانيته فيشركون به جل شأنه ما ليس بأهل للعبادة من صنع أيديهم وتصوير عقولهم مما هو محتاج للحراسة ويموهون بعضهم على بعض بأنها أنداد وليس في الوجود ندّ لله، تعالى عن ذلك، ولقلة عقولهم بل لكثرة جهلهم «يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ» بلا حياء ولا خجل «وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ» من حبهم لأوثانهم وأدوم وأثبت «وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم بنتيجة أعمالهم هذه ما هو مرتب عليها من العذاب «إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ» يوم القيامة على أفعالهم هذه ويعاينون بأم أعينهم «أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» ليس لأندادهم منها شيء ويتحققون أنها لم تغن عنهم شيئا من الله لهوانها عليه وظهور ضعفها لديهم «وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ 165» لعرفوا مضرة شركهم وأيقنوا عدم نفع أندادهم، ولو أنهم شاهدوا «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا» عند نزوله بهم جميعا فلم يبق بينهم تواصل «وَرَأَوُا الْعَذابَ» قد حاق بهم وخاب أملهم في متبوعيهم وندموا ولات حين مندم «وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ 166» التي كانت بينهم في الدنيا من صحبة وخلة وقرابة ومحسوبية ومنسوبية، لأن الله تعالى نفى ذلك كله وأذن بالشفاعة لخواص خلقه لمن ارتضى منهم، كما مرّ في الآية 19 من الأنبياء ج 2، «وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً» عودة أخرى إلى الدنيا ت (8)(5/113)
«فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا» في هذا اليوم الذي كنا نزعم نفعهم فيه «كَذلِكَ» كما أراهم مقاطعة رؤسائهم وقادتهم الذين كانوا يؤملونهم في الدنيا «يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ» السيئة التي اقترفوها في الدنيا التابعون والمتبوعون لأن كلّا منهم يندم على ما وقع منه وتظهر الندامة «حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ» يتحسرون المرة تلو الأخرى ندما وأسفا على عملها «وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ 167» إذ لا يفيدهم تحسرهم شيئا لوقوعه بغير محله وتفريطهم في الدنيا فلو كان ندمهم فيها لنفعهم أما وقد فات محله، فلا فائدة فيه إلا زيادة الأسف والأسى والتحسر. قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً نزلت هذه الآية في المشركين الذين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة والوصيا والحام الآتي بيانها في الآية 4 من المائدة الآتية، وقيل إن عبد الله بن سلام وأصحابه الذين حرموا على أنفسهم أكل لحوم الإبل لأنه محرم عند اليهود، وقيل في قوم من ثقيف وبني عامر وخزاعة وبني مدلج إذ حرموا على أنفسهم التمر والأقط، وكلها صالحة لأن تكون سببا للنزول ولا مانع من تعداد أسبابه إلا في عبد الله لأنه لم يسلم بعد «وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» طرقه وزلاته ووساوسه وإغراءه وإغواءه
وآثاره، جمع خطوة وهي ما بين قدمي الخاطر «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ 168» عداوته من زمن أبيكم آدم لم يخفها قط ولذلك في كل فرصة يريد تأثمكم انتقاما، وإنه «إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ 169» من تحليل وتحريم واتخاذ الأنداد واتباع الشبه والتشكيك بالحق قصدا لإظهار عداوته والتجاهر بها لإيقاعكم بالإثم ويمنّي لكم أقوال المذاهب الفاسدة التي لم تستند لكتاب أو سنة صحيحة للغاية نفسها وان أمره إليكم أيها الناس هو عبارة عن وسوسة يدسّها ويلقيها في قلوبكم فتكون خواطر تجدونها تحوك في صدوركم بحروف وأصوات منتظمة خفيفة تشبه الكلا في الخارج ليجركم لما يسيئكم ويشوش عليكم، وليس له سلطة يقسركم بها على الأخر بتسويلاته، كما اعترف بذلك في الآية 22 من سورة إبراهيم في ج 2. واعلموا أيها الناس أن الذي قدر إبليس وأعوانه على إيقاع الوسوسة في قلوبكم هو الله تعالى(5/114)
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
راجع تفسير سورة الناس والآيتين 11/ 17 من سورة الأعراف في ج 1، والآية 12 من سورة يونس، و 39 من الحجر، و 17 من الأنعام في ج 2، ومما يؤيد هذا ما جاء في الحديث الصحيح أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإنما أقدره الله تعالى على إيصال هذه الخواطر إلى قلوب البشر ليميزوا ويعلموا بعقولهم التي منحها الله تعالى إليهم الخير من الشر ويزنوا بميزان الشرع تلك الوساوس، فما كان موافقا أخذوه، وما كان مخالفا نبذوه، لأن الله تعالى إنما أعطاهم العقل ليفرقوا به بين الحق والباطل، والحسن والقبيح، والطيب والرديء، إذ قد يلقي الخبيث في الصدور ما هو حسن أيضا ليستجر به العبد إلى ضده، على أن الخاطر الحسن قد يكون من الملك الموكل بالقلب، فعلى الرشيد أن يتذكر ويعلم هل هو من الملك أم من الشيطان، وطريق معرفة هذا الميزان هو التمسك بالشرع، وطريق التمسك بالشرع هو التقوى المار تفصيلها في الآية 48 وقال تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ) الآية 212 الآتية. «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ» وذلك أن حضرة الرسول دعا اليهود وأمرهم باتباع دين الإسلام ونصحهم وأرشدهم، فقال بعض رؤسائهم رافع بن خارجة ومالك بن النصيص ما قاله المشركون وهو ما قصه الله «قالُوا» لا نتبع ما جئتنا به «بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا» من دين اليهودية كما قال المشركون، بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا من عبادة الأوثان، قال تعالى مؤنبا لهم كما قال لأولئك «وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ»
من أمور دين الحق «شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ 170» إلى طريقه الذي يوصلهم إليه ولا يحكمون عقولهم فيما هو أرجح، أيتبعونهم على ضلالهم؟
فقالوا له مثل قول المشركين أيضا هم أعلم منا بذلك، ثم ضرب الله مثلا لهم فقال «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا» من المشركين وأهل الكتاب القائلين باتخاذ الولد «كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ» النعيق صوت الراعي الذي ينادي غنمه «بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً» لأنها لا تعي منه إلا هذا، وهؤلاء كذلك لا يعون من النصح والإرشاد إلا الصوت، وذلك لأنهم «صُمٌّ» عن سماع الحق سماع قبول «بُكْمٌ» عن النطق به بعد أن عرفوه «عُمْيٌ» عن رؤيته، لأنهم لا ينظرون إليه نظر(5/115)
اعتبار فلا يألفونه عمه قلوبهم أيضا، لأنهم لا يفقهونه ولا يريدون أن يتدبروه، «فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ 171» شيئا ينفعهم من أمر الدين وقد شبه الله تعالى في هذه الآية الداعي إلى ربه وسلوك طريقه بالراعي، والكفرة بالغنم، ووجه الشبه هو أنه كما أن الغنم لا تعي من الراعي إلا الصوت ولا تفهم المراد منه لأنه قد يؤدي اتباعها صوته إلى الذبح كما هو الواقع عند أخذها إلى المذبح، فكذلك الكفار لا يسمعون من مرشدهم إلا صوته، فلا ينتفعون به ولا يهتدون لهديه، وقد يؤدي إعراضهم عنه إلى ضلالهم المؤدي إلى قذفهم في النار بجامع عدم الفطنة في كل منهما.
مطلب في الأكل وأحكامه وأكل الميتة والدم وغيرهما من المحرمات:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» ولا تلتفتوا إلى هؤلاء فيما يحللون ويحرمون من تلقاء أنفسهم «وَاشْكُرُوا لِلَّهِ» لنعمته عليكم في الأكل منها ومن غيرها، لأن به قوام أبدانكم، وملاك قوتكم على طاعة الله «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ 172» بإخلاص لا تقصدون وجه غيره بها، وهذا الأمر بالأكل واجب لحفظ النفس ودفع ضرر الجوع عنها لأنه داء دواءه الأكل، ومندوب للأكل مع الضيف لئلا يستحي فلا يشبع، ومباح في سائر الأوقات، وحرام بعد الشبع، ومكروه الشبع نفسه، إذ ينبغي أن يرفع يده ونفسه تشتهي الطعام ليجد له لذة وينتفع به، لأن من الشبع ما يؤدي إلى التخمة وإلى نفرة النفس من الطعام وإلى توسع المعدة ويسبب أمراضا كثيرة قد تؤدي إلى الموت. قال تعالى «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ» حتف أنفها عدا السمك والجراد لاستثنائهما بالحديث، والدابة الفارة التي لم يقدر على مسكها وأمكن إراقة شيء من دمها من أي موضع كان جاز أكلها ولا تدخل في حكم الميتة لإخراج دمها يفعل فاعل قصدا، والسمك لا دم له، إذ من شأن الدم أن يسودّ إذا يبس، ودم السمك إذا يبس ابيض، والجراد لا دم له أصلا «وَالدَّمَ» الجاري من الحيوان بحياته وعند ذبحه الذي يتجمد في الإناء والمصارين ويشوى، والدم الذي يمصّ من الحيوان الطيب يحرم تناوله أيضا وأكله بعد تجميده حرام، وكذلك الدم الخارج من الآدمي بقصد عرقه أو غيره كما كانت العرب تفعله في(5/116)
الجاهلية، فتشربه أو تجمده لتأكله، لأن المفصول من الحي كالميتة، اما الذي يبقى في العروق واللحم والقلب بعد الذبح فجائز أكله، لأنه غير جار، وكذلك الكبد والطحال لأنهما متجمدان خلقه، فضلا عن استثنائهما بالحديث كما سيأتي في آية المائدة إن شاء الله بصورة واضحة «وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ» المعروف، وحرمة هذه الأشياء الثلاثة لأمر طبي علمه تعالى قبل أن يطلع البشر عليه، وقد أظهر أخيرا بعض الأطباء الحاذقين بعض ما فيها من الضرر للإنسان وسيظهر الباقي إن شاء الله، لأن الكون لم يكمل بعد ولو كمل لخرب، إذ ما بعد التمام إلا النقصان، راجع الآية 25 من سورة يونس ج 2، وقد يكون هذا التحريم لأمر آخر في علم الله ليس لنا أن نسأل عن علته، لأن أفعال الله لا تعلل، وسواء كان التحريم من الله أو من حضرة الرسول فهو على حد سواء، قال تعالى (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية 8 من سورة الحشر الآتية «وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ» بأن ذبح للصنم أو على اسمه، وحرمة هذا والمعنى الآخر في حرمة الثلاث الأول تعبدي تعبدنا الشارع به فما علينا إلا الامتثال والاعتقاد بأنه تعالى لم يحرم علينا شيئا إلا لمنفعتنا، لأنه أحل لنا خيرا منها، وليست هذه المحرمات بعزيزة عليه بل هي خبيثة أراد تعالى تطهرنا منها إلا عند الضرورة لحفظ قوام هذا الوجود، فقد أباح لنا تناول ما يسد الرمق منها، لأن الضرورات تبيح المحظورات، هذا قال تعالى «فَمَنِ اضْطُرَّ» في غير حالتين الأولى أن يكون «غَيْرَ باغٍ» هو الذي يجد غير هذه المحرمات فيعدل عنها إليها شهوة وتلذذا، الثانية بينها بقوله «وَلا عادٍ» متعد بأكله منها زيادة على قدر الحاجة لسد الرمق أو يتزود منه لأن الضرورة تقدر بقدرها «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» إذا أخذ بقدر ما يسد رمقه عند عدم شيء من الحلال فهو مسموح له فيه «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» للمضطرين «رَحِيمٌ 173» بهم إذا لم يبغوا أو يعتدوا، وإنما عتبر عن الرخصة بالمغفرة إيماء إلى لزوم التحري في ذلك، بحيث لا يأكل إلا بعد تحقق الضرورة، وبعد التحقق يأكل بقدرها كما مرّ، وهذا من الرخص التي من الله بها على عباده، ولا يجوز للمؤمن تركها تأثما والأخذ بالعزيمة، لأنها من حقه الخالص، بخلاف الزنى والقتل لما فيهما من(5/117)
حق الغير والله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وحقوق الله مبنية على التسامح، وحقوق خلقه مبنية على التشاحح، وهذا ما اتفق عليه الأئمة من الحكم الشرعي في هذه الأشياء. ومما جاء من الأدلة على هذه المستثنيات ما قاله ابن أبي أوفى: غزونا مع رسول صلّى الله عليه وسلم سبع غزوات أو ستا، وكنا نأكل الجراد ونحن معه، وقد سأل الرسول جماعة من ركاب البحر فقال لهم هو الطهور ماؤه، الحل ميتته.
وروى الدارقطني عن عبد الرحمن بن زيد بن الحم عن أبيه عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أحل لنا من الدم دمان ومن الميتة ميتتان الحوت والجراد والكبد والطحال. واتفقت الأئمة على حل الدم الذي بين اللحم والعروق، وقال صلّى الله عليه وسلم: إذا سمعتم النصارى واليهود يهلّون لغير الله فلا تأكلوا، وإذا لم تسمعوهم فكلوا فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون، واتفقت على حل ذبائح أهل الكتاب الأئمة، فلا عبرة بمن خالف إجماعهم. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ»
ولا يبينونه للناس «وَيَشْتَرُونَ بِهِ» أي الكتمان «ثَمَناً قَلِيلًا» من حطام الدنيا ليتمتعوا به للمحافظة على مناصبهم «أُولئِكَ» الذين هذا شأنهم، وقد تقدم بأن المراد بهم علماء اليهود وأحبارهم «ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ» ، لأن الرشوة تؤدي إليها إذا كانت في ضياع حقوق الناس فلئن تكون موصلة إليها، ومدخلة فيها إذا كانت في ضياع حقوق الله ورسله من باب أولى، «وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» لاشتداد غضبه عليهم، أما السؤال فيتولاه ملائكته، وقيل لا يكلمهم كلاما يسرّون به، بل بما يوبخهم ويقرعهم، وهو خلاف الظاهر «وَلا يُزَكِّيهِمْ» من دنس الذنوب ودرن العيوب «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 174» جزاء جرأتهم تلك «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ» أي بطوعهم واختيارهم «فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ 175» أي شيء صبّرهم عليها، وهي لا يصبر عليها أحد برضائه، وإذا كان كذلك فلم يجرءون على عمل يؤدي إليها والصبر على عذابها؟ وهذا الاستفهام للتوبيخ والتعجب من اتباعهم الباطل وتركهم الحق من غير مبالات منهم بما يترتب عليهم من العقاب، فكانت ملابستهم هذه(5/118)
الحالة الهائلة عين النار لأنها توجب العذاب فيها قطعا، ثم بين سبب إيجابه لهم بقوله عز قوله «ذلِكَ» العذاب المساق إليهم «بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» ليؤمنوا به وهم على العكس كفروا به واختلفوا فيه «وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ 176» عن الحق يؤدي بهم إلى عذاب سحيق في أعماق جهنم يتسرون على الصبر عليه فيها.
مطلب أنواع البرّ والقصاص وما يتعلق بهما:
وبعد استدارة القبلة زعم اليهود والنصارى أن الإحسان كله في الجهة التي يستقبلونها فأنزل الله ردا عليهم «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» أيها النصارى واليهود «وَلكِنَّ الْبِرَّ» كل البر وهو لفظ جامع لأنواع الطاعات المالية والبدنية هو «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ» وحده «وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» البعث بعد الموت «وَالْمَلائِكَةِ» كلهم فمن بغض واحدا منهم كاليهود ولم يؤمن بهم كلهم كما تقدم في الآيتين 96/ 97 فليس بمؤمن بأحد منهم «وَالْكِتابِ» كله أيضا بما فيه صحف الأنبياء الأقدمين، فمن أنكر شيئا مما أنزل الله عليهم أو على بعضهم فليس بمؤمن بل هو كافر بالجميع «وَالنَّبِيِّينَ» كلهم أيضا، فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالجميع، أما عزير ولقمان وذو القرنين فمن جحد نبوتهم أو نبوة واحد منهم فلا يكفر للاختلاف الوارد في نبوتهم وولايتهم، وقد سئل حضرة الرسول عنهم فقال لا أدري كما روي عن الحاكم وأبي ذر. أما إنكار وجودهم أو وجود أحد منهم فهو كفر بلا خلاف لذكرهم في القرآن، وإن إنكار شيء مما جاء فيه كفر بلا خلاف «وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ» أي النفقة على حب الله مع حبه المال عن طيب نفس ورضاء خاطر فأعطاه «ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ» تقدم مثلها كثير وسيأتي في الآية 195 ما يتعلق في هذا البحث بصورة مفصلة في الآية 30 من سورة التوبة الآتية «وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ» لفك العبيد المكاتبين وفداء الأسرى «وَأَقامَ الصَّلاةَ» المفروضة محافظا على شروطها وأركانها، إذ لا يعد مقيما لها إذا ترك شيئا من ذلك «وَآتَى الزَّكاةَ» من فضل ماله صدقة واجبة، وقد كرر الله تعالى الحث على الزكاة(5/119)
في مواضع كثيرة قبل أن تفرض حثا على فعلها وترغيبا به وإعلاما بأنها ستفرض على هذه الأمة، وقد أعلن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرض الزكاة عقيب نزول هذه الآية قبل رمضان في السنة الثانية من الهجرة، لأن هذه الآية جامعة لأركان الإسلام الخمسة والزكاة من أركانه، ولأنه عبّر عنها مرتين فقال أولا (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) ثم قال (وَآتَى الزَّكاةَ) تدبر. أخرج الترمذي والدارقطني وجماعة عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول صلّى الله عليه وسلم في المال حق سوى الزكاة. وأخرج البخاري في تاريخه عن أبي هريرة رضي الله عنه مثله. وآية الزكاة غير ناسخة للصدقة لقوله تعالى (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) الآية 25 من سورة المعارج ج 2، ومثلها آية الذاريات بدون كلمة (معلوم) وكلاهما في الصدقة، ولقوله صلّى الله عليه وسلم:
لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعا وجاره طاو إلى جنبه. وللإجماع، على أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوا مقدار دفع الضرورة وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم، وإذا امتنعوا عن الأداء جاز الأخذ منهم سرقة، وللإمام أن يأخذ من أغنيائهم ويعطى فقراءهم بقدر الحاجة.
وأما ما روي عن علي كرم الله وجهه مرفوعا نسخ الأضحى كل ذبح، ورمضان كل صوم، وغسل الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة، فهو غريب معارض، وفي إسناده المسيب بن شريك، ليس بالقوي عند أهل الحديث، وعلى فرض صحته فيكون المراد منه الصدقة المقدرة، ولا يقال الغريب لا يحتج به، لأن ذلك إذا لم يعارض ولم يطعن براويه ووجد ما يعضده أيضا، فإذا فقدت هذه الشروط أو أحدها فلا يحتج به، تأمل، وراجع الآية 58 من الإسراء في ج 1 تجد ما يتعلق في هذا البحث. «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا» سواء فيه عهد الله أو عهد الرسول أو عهد الناس، لأن الوفاء بالعهد والوعد مطلوب «وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ» حال الشدة والفقر والفاقة «وَحِينَ الْبَأْسِ» القتال في سبيل الله وسمي القتال بأسا لما فيه من الشدة «أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا» بإيمانهم «وَأُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «هُمُ الْمُتَّقُونَ 177» ما نهى الله عنه القائمون بما أمرهم به المستجمعون لأنواع البر والخير. روى البخاري ومسلم عن(5/120)
أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا؟
قال أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان. ورويا أن ميمونة اعتقت وليدة (جارية) ولم تستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال (أو قد فعلت) ؟
قالت نعم، قال (أما أنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) . وأخرج أبو داود عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: للسائل حق ولو جاء على فرس. وأخرج مالك في الموطإ عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
أعطوا السائل ولو جاء على فرس. وأخرج أبو داود والترمذي عن أم نجيد قالت: يا رسول الله إن المسكين يقوم على بابي ولم أجد شيئا أعطيه إياه، قال إن لم تجدي إلا ظلقا محرقا فادفعيه إليه في يده. وفي رواية مالك في الموطأ:
ردّوا المساكين ولو بظلف محرق. وهذا مبالغة في قلة ما يعطى أي ردوه بشيء تعطونه إياه لا رد حرمان لأنه يؤذيه، فإن لم يوجد فبكلمة طيبة والأحسن أن يقال له اثنتا بوقت آخر. وقال صلّى الله عليه وسلم: آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان. وعلامة المؤمن صدق الحديث ووفاء الوعد وأداء الأمانة.
وروى البخاري ومسلم عن البراء قال: كنا والله إذا احمرّ البأس- أي اشتد الحرب- نتقي به- يعني برسول الله صلّى الله عليه وسلم أي نجعله وقاية لنا من العدو أن ينالنا سلاحه- وان الشجاع منا الذي يحاذي به. هذا، ولما تحاكم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعض أحياء العرب في دماء كانت بينهم في الجاهلية وجراحات، وكان أقسم ذو الطول منهم على الآخر ليقتلن الحر منهم بالعبد، والذكر بالأنثى، والاثنين بالواحد، أنزل الله جل جلاله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى» فرضوا بحكم الله وسلموا لقضائه، وأمر رسوله وأنزل الله تعالى لإزالة الأحكام التي كانت قبل مبعث الرسول، وهي أن اليهود يوجبون القتل بلا عفو والنصارى يوجبون العفو بلا قتل، والعرب تارة توجب القتل وتارة تكتفي بالدية، ويقتلون من عثروا عليه من أقارب(5/121)
القاتل، ويسلبون من وجدوا من أتباع السالب ويقتلون بالشريف عددا ويأخذون الدية مضاعفة، فأوجب الله تعالى رعاية العدل في هذه الآية، وأنزل في جواز العفو قوله عز قوله «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ» فصفح عنه بتانا أو قبل الدية في العمد «فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ» بشأن الدية، بأن لا يأخذ أكثر من حقه فيها ولا يعنفه على فعله «وَأَداءٌ» على القاتل «إِلَيْهِ» لولي المقتول تمام الدية «بِإِحْسانٍ» وطيب نفس دون مماطلة أو محاولة مقابلته لإحسانه بالعفو أو بقبول الدية، لأن العمد لا دية فيه قبل العفو، وهذا من أعظم أنواع الإحسان أن يتركه يقاد للقتل حتما، ولا يجوز له بعد العفو وأخذ الدية أن يتعرض للقاتل بشيء ما لأنه عدوان بحت، ولهذا قال تعالى «ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ» التخفيف فيقتل الجاني بعد العفو عنه أو بعد أخذ الدية منه «فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ 178» في الدنيا بأن يقتل قصاصا لخيانته وغدره، وهكذا كل قاتل متعمد غادر يقتل صبرا قصاصا فلا يعفى عنه، ولا تقبل الدية منه لنقضه عهده وتصوره وتصميمه على القتل بعد أمن القاتل على نفسه بعفوه أو أخذ الدية منه، ويجب عليه أن يسلم نفسه للقتل، وإلا فيكون عذابه الأخروي أشد وأفظع من عذاب الدنيا وأدوم، قال تعالى «وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ» بقاء لأن من يقصد القتل إذا علم أنه يقتل يمتنع عنه فيكون فيه بقاؤه وبقاء من همّ بقتله، وإذا قتل القاتل قصاصا ارتدع غيره عن القتل والجارح كذلك إذا علم أنه يقتصّ منه امتنع عن الجرح، ثم امتدحهم على طريق التيقظ والتحذير بقوله «يا أُولِي الْأَلْبابِ» يا ذوي العقول السليمة الذين لا يريدون إتلاف أنفسهم ولا إتلاف غيرهم ويحرصون على محافظة أنفسهم وغيرهم، ويا أيها الموفون بعهدهم الصادقون بوعدهم حافظوا على أنفسكم بالكف عن قتل غيركم، وانتهوا عن ذلك «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 179» إفتاء بعضكم بعضا وتجتنبون مطلق التعدي الذي قد يقضى عليكم بمثله، وكثيرا ما تؤدي الجروح للموت، فاجتنبوها أيضا، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك. وقد وقع اختلاف في كيفية القصاص، وهل هو مطلق القتل أم لا، فقال أبو حنيفة يقتل القاتل بالسيف، وقال الشافعي بما قتل(5/122)
به، وقال به مالك أيضا، ولأحمد رواية مع أبي حنيفة وأخرى مع الشافعي.
أخرج الترمذي عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل الوالد بولده. وقال الشافعي ومالك وأحمد: لا يقتل المؤمن بالكافر، ولا الحر بالعبد، ولا الوالد بالولد، والذمي يقتل بالمسلم، والعبد بالحر، والولد بالوالد، لأن الآية مفسرة لما أبهم من قوله تعالى (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ويستدلون بما روى البخاري عن جحيفة قال: سألت عليا رضي الله عنه هل عندكم عن النبي صلّى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن؟ قال لا والذي برأ النسمة إلا أن يؤتى العبد فهما في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت وما في هذه الصحيفة؟ قال العقل أي الدية، وسميت الدية عقلا لأنها تجمع من العاقلة أي جماعة القاتل من أوليائه وفك الأسير وأن لا يقتل مؤمن بكافر. وأخرج مسلم عنه كرم الله وجهه مثله. وقال بعضهم يقتل المسلم بالذمي والحر بالعبد، لأن آية (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ناسخة لحكم هذه الآية من حيث التكافؤ على أن آية (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) جاءت حكاية حال عما كان عليه بنو إسرائيل، إذ لم يميز الله بينهم لأنهم دون أمة محمد صلّى الله عليه وسلم التي خصها الله بقوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية 111 من آل عمران الآتية، ولهذا جعل الله لهم ميزه على غيرهم فجعل القتل مكافأة كما جعلها الشارع في الزواج الذي هو من نوع الحياة ضد القتل، لأن الله تعالى قال (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها [أي التوراة] أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) إلخ، الآية 45 من سورة المائدة الآتية، فهي عبارة عن خبر من الأخبار التي لا تنسخ ولا تنسخ والمعول على ما جاء في هذه الآية، وهذا البحث صلة في الآية المذكورة في سورة المائدة فراجعه، وأجمعوا على أن القاتل المتعمد يقتل، والمخطئ تؤخذ منه الدية فقط، وأن تقتل الجماعة بالواحد.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن غلاما قتل غيلة (خداعا ومكرا من حيث لا يعلم ما يراد به) فقال عمر لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به. وإنما قال أهل صنعاء لكثرتهم، لأنها كانت أعمر بلاد العرب وأكثر سكنا ومبالغة في الكثرة.
روى مالك في الموطأ عن ابن المسيب أن عمر قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه غيلة، وقال لو تمالأ (تعاون) عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا. وأن(5/123)
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
القاتل إذا استحل القتل كفر، ويقتل حدا، وإذا لم يستحله فلا، إلا أنه يكون مؤمنا فاسقا عاميّا، لأن من يقترف الكبائر دون استحلال يبقى على إيمانه بدليل تسميتهم مؤمنين، لأن الله تعالى صدر الآية بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وبدليل تسمية القاتل أخا لولي المقتول، فلولا أن الإيمان باق عليه لم تثبت له أخوة ولي المقتول، وبدليل ندب الله تعالى ولي المقتول للعفو عنه، والعفو من صفات المؤمن أما الآية 92 من سورة النساء الآتية محمولة على الاستحلال، هذا والله أعلم.
مطلب في الوصايا ومن يوصى له ومن لا وما على الوصي والموصى له والموصي:
قال تعالى «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» بأن ظهرت آثاره عليه وكان قادرا على الإيصاء «إِنْ تَرَكَ خَيْراً» مالا كثيرا «الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ» بر أي إذا لم يكونا أهلا لاستحقاق الإرث كما سيأتي «وَالْأَقْرَبِينَ» غير الوارثين أيضا وعلى المؤمن أن لا يخص بوصيته الأغنياء، لأن الفقراء أحق بالوصية إلا إذا كانوا فسقة وغلب على ظنه إنفاق ما يوصي به إليهم في طرق الشر، وهذه الوصية ينبغي أن تكون «بِالْمَعْرُوفِ» الذي لا وكس فيه ولا شطط بأن يعدل في ذلك عدلا «حَقًّا» لازما «عَلَى الْمُتَّقِينَ» (180) الإله الذي أمرهم بهذا، على أن لا يجنحوا بوصاياهم إلى غير العدل وإلى عدم الإيصاء إلا بالمعروف. وسبب نزول هذه الآية أن الجاهلية كانوا يوصون للأجانب طلبا للفخر والسمعة ورفع الصيت والشهرة، فأوجب الله في بداية الإسلام هذه الوصية لمن يترك مالا كثيرا بدليل تسميه خيرا، قال رجل لعائشة رضي الله عنها أريد أن أوصي، فقالت كم مالك؟ قال ثلاثة آلاف درهم، قالت كم عيالك؟
قال أربعة، قالت إنما قال الله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا كثيرا، وهذا يسير، فاتركه لعيالك.
قال تعالى «فَمَنْ بَدَّلَهُ» أي القول الواقع من المريض الموصي «بَعْدَ ما سَمِعَهُ» منه سواء كان وصيا أو وليا عند الكتابة أو القسمة أو الشهادة، وسواء وقع التبديل في قول الموصي أو فيما أوصى به «فَإِنَّما إِثْمُهُ» أي التبديل الواقع من أولئك «عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» خاصة، أما الموصي والموصى له فهما بريئان من هذا الإثم، فإذا أخبر الوصي أو الشهود أن الموصي(5/124)
أوصى للموصى له بأكثر من الموصى به وأخذه الموصى له غير عالم فلا إثم عليه، وإذا أخبروا بأقل منه فأخذه وسكت لعدم علمه فالموصي أيضا لا إثم عليه لأنه أوصى وحمل غيره مؤنة التنفيذ، ويكون الإثم في الحالتين على الوصي والشهود لكتمهم حقيقة الحال، ولهذا ختم الله تعالى الآية بقوله «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لقول الميت الموصي والوصي والشهود وبما أوصى به وشهدوا عليه «عَلِيمٌ 181» بحقيقة الأمر ممن يبدل قول الموصي وبكتم الشهادة، وفي هذه الجملة من التهديد ما لا يخفى.
قال تعالى «فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً» جورا وميلا وعدولا عن الحق في الوصية «أَوْ إِثْماً» ظلما منه فيها يستوجب الإثم بأن أسرف الميت في وصيته أو أخطأ فيها «فَأَصْلَحَ» هذا السامع الحاضر «بَيْنَهُمْ» بين الوصي والموصي له في الموصى به، واعلم (أن خافَ هنا بمعنى ظن في الكلام الشائع) وكيفية هذا الإصلاح المخاطب به كل من سمعه هو إذا رأى الوصي إفراطا في وصية الموصي بأن أوصى بأكثر من اللازم وكان عنده عيال فله أن ينصحه بأن يقتصد في الوصية فإذا لم يقبل ينصح الموصى له بأن يترك لورثة الموصي المفرط شيئا مما أوصى له به، فالفاعل لهذا من كل من يسمع وصية الموصي والمتوسط لعمل هذا الخير «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» في عمله بل يؤجر إذا خلصت نيته، وهذا قد يقع من الذين يكرهون أولادهم بقصد حرمانهم من الإرث فيوصون بجميع مالهم أو بأكثره للغير ولو تركوها لأولادهم لكان أحسن حتى لا يكونوا عالة على الناس، ولعل الله أن يصلحهم بسبب كفايتهم، وإن كان في هذا الفعل من الميت الموصي فيه ما فيه من الإثم فقد ختم الله تعالى الآية بقوله «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لمن فعل هذا وقبله «رَحِيمٌ 182» بالموصى له والورثة. وقد ذكرنا في الآية 44 من سورة النحل ج 2، وفي المقدمة ج 1 أن الآية لا تنسخ بالحديث، لأن الحديث لا ينسخ القرآن البتة، لأنه مهما كان صحيحا لا يساوي كلام الله فضلا عن أنه لا يكون خيرا منه، راجع الآية 107 المارة يظهر لك أن هذه الآية لم تنسخ بحديث (لا وصية لوارث) وإنما خصصت بآية المواريث الآتية في سورة النساء، وهذا الحديث لا يعارضها، لأن حضرة الرسول قال عند نزولها (إن الله قد أعطى كل(5/125)
ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث) أي بعد أخذ حقه، فكان هذا الحديث مبينا لهذه الآية ومفيدا أن الله تعالى كتب عليكم أن تؤدوا للوالدين والأقربين حقوقهم بحسب استحقاقهم من غير تبيين لمراتب استحقاقهم ولا تعيين لمقادير انصبائهم، بل فوض ذلك إلى آرائكم إذ قال (بِالْمَعْرُوفِ) أي العدل، فالآن قد رفع ذلك الحكم عنكم لتبيين طبقات استحقاق كل واحد منهم وتعيين مقادير حقوقهم بالذات، وأعطى كل ذي حق حقه منهم بحكم القرابة من غير نقص ولا زيادة، بأن يأخذ كل نصيبه المعين له في كلام الله إذ لم يبق مدخل للرأي في ذلك أصلا، وليس بعد بيان الله بيان، ومما يدل على عدم نسخ حكمها الذي قال به جمع من المفسرين ما ذهب إليه الحسن ومسروق وابن طاوس والضحاك ومسلم بن يسار بأن إطلاقها خصص بجواز الوصية لمن لا يرث من الوالدين والأقربين بسبب قتل أو رق خلاف دين، وبه قال ابن عباس وقتادة. ومن هنا تعلم أن لا نسخ في كتاب الله بالمعنى الذي يريده علماء الناسخ والمنسوخ، بل هو كما ذكرنا من حيث الإطلاق والتقييد والتخصيص والتعميم، تدبر. ولأن الوصية لمن لا يرث كالمذكورين أعلاه جائزة شرعا حتى الآن فضلا عن وقت نزول هذه الآية الكريمة، إذ كان كثير من الناس من أبوه أو أمه أو أبواه كفار وهو مسلم، وبالعكس، أو زوجته غير مسلمة، وبالعكس، تدبر. والآن كثير من المسلمين متزوجون بكتابيات.
روى البخاري ومسلم عن سعد ابن أبي وقاص قال: جاءني رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع السنة التاسعة من الهجرة من وجع اشتد بي، فقلت يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى وإني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي أما أتصدق بثلثي مالي؟ قال لا، قلت بالشطر؟ قال لا، قلت فالثلث يا رسول الله؟
قال الثلث والثلث كثير، أو قال والثلث كبير، إنك إن تذر ذريتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس. أي يسألونهم بأكفهم. ورويا عن ابن عباس قال في الوصية: لو أن الناس عفوا عن الثلث إلى الربع فإن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لسعد (والثلاث كثير) ، وقال علي كرم الله وجهه: لأن أوصي بالخمس أحب إليّ من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إليّ من أن أوصي بالثلث.(5/126)
فمن أوصى بالثلث فلم يترك. هذا وانظر ما قالته عائشة رضي الله عنها آنفا.
اعلم أن الحكم الشرعي في الوصايا جوازها عند كثرة المال المتروك وقلة العيال، وتستحب للفقراء وطرق الخير، وتكره إذا خصّ بها الأغنياء، وتحرم لمن يغلب ظنه أنه يصرفها في المعاصي لما فيها من إعانة العاصي على المعصية. فالصدقة على الأغنياء الأتقياء أي الوصية لهم أفضل، والأفضل والأكثر ثوابا على الفقراء الأتقياء لما ورد: اختاروا لصدقاتكم كما تختارون لنطفكم. أي أن الرجل كما يختار زوجته من أهل الدين، فكذلك ينبغي للمتصدق أن يخص بصدقته أهل الدين لينفقها في طاعة الله، ألا فليتق الله المؤمنون الموصوفون، وليعلموا بما يعود عليهم بالخير.
أخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن الرجل والمرأة (أي جنسهما) ليعملا بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران (أي يوصلا الضرر إلى آخر) في الوصية فتجب لهما النار، ثم قرأ أبو هريرة (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) الآية 12 من النساء الآتية، وذلك بأن لا يخص الوصية أو ينقص بعضها أو يوصي لغير أهلها، أو يحيف الوصي أو الورثة فيها كما مرّ تفصيله.
مطلب في الصوم وفرضيته والأعذار الموجبة للفطو والكفارة وإثبات الهلال وإنزال الكتب السماوية:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 183» الله فتعرضون عن شهواتكم الخسيسة إلى طاعة ربكم النفسية، لأن الصوم يعقم الشهوة، وقد فرض الله تعالى على هذه الأمة المحمدية الصوم، وأعلنه رسولها محمد صلّى الله عليه وسلم على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة، قبل غزوة بدر الموافقة في 17 رمضان السنة الثانية من الهجرة، بشهر وبضعة أيام، أي في أوائل شعبان، وقد أخبر الله في هذه الآية أن الصوم ليس من خصائص هذه الأمة بل هو فرض قديم، تعبد الله تعالى به الأمم السابقة، قالوا إن النصارى كانوا يصومون رمضان فشق عليهم في الحر فأجمعت علماؤهم على جعله في فصل معتدل من السنة بزيادة عشرة أيام كفارة(5/127)
لعملهم، ثم إن أحد ملوكهم مرض فنذر زيادة سبعة أيام إن شفاه الله، فشفي، ثم كان ملك آخر فأكمله ثلاثة أيام فصار خمسين يوما، ثم خففوه على أنفسهم بالاقتصار على عدم أكل كل ذي روح، وهم يصومونه الآن على هذه الصورة في موسم الربيع، وقد تواترت الآثار على أن الصيام متعبد فيه من لدن آدم عليه السلام ولم تخل أمة منه، فهو عبادة قديمة لم يخل زمن منها البتة. والعبادة إذا عمت سهلت، وإذا خصت شقّت. وكان قبل الإسلام من كل شهر ثلاثة أيام ويسمونها الليالي البيض الثالث والرابع والخامس عشر من كل شهر، وسميت بيضا لكمال البدر فيها، وبالنظر لما ورد فيها من الأخبار فإن بعض الناس وخاصة النساء يصومونها الآن، وكذلك اليوم العاشر من المحرّم الحرام المسمى عاشوراء، روى البخاري ومسلم عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة (أي النكاح) فليتزوج فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (أي خصاء) لأن الوجيء رخي الخصيتين ودقهما، ولما كان هذا الصيام الذي كتبه الله تعالى مبهما بينه بقوله عز قوله «أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» أي أنه أكثر ممّا كان قبل متعارفا من صيام أيام البيض وعاشوراء، ولما كانت هذه الأيام أيضا مهمة لأنها غير محصورة فإنها تحتاج إلى التوضيح والتحديد، لأن لفظ أياما يحتمل يومين فأكثر لأن الأمم الماضية كانت تصوم أياما معلومات من أشهر مخصوصة كالمحرم ورجب وذي الحجة، وصيام موسى عليه السلام كان إتمام شهر ذي القعدة وعشر من ذي الحجة فقد بينه بالآية التالية لهذه وشرع يبين الرخصة فيه فقال «فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ» يشق عليه فيها الصيام فاضطر لما رأى من الكلفة في حضر أو سفر إلى الفطر «فَعِدَّةٌ» أي عليه صوم مقدار عدة الأيام التي أفطرها «مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» بعد شفائه من مرضه أو عودته من سفره «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ» يكلفون بصومه فيرون فيه كلفة زائدة لكبر أو عجز ولا يتمكنون من القضاء، لأن كل أيامهم هكذا بخلاف المرض غير المزمن والسفر المنقطع إذ يتمكنون فيما بعدها من قضاء ما أفطروه بالشفاء والإقامة، أما الذين لا شفاء لهم كالزمنى والمرضى(5/128)
الذين لا يرجى برؤهم والهرم العاجز، فمثل هؤلاء إذا كانوا أغنياء يكون عليهم «فِدْيَةٌ» بدل صيامهم لأنهم معذورون كل عمرهم، والفدية الواجبة عليهم هي «طَعامُ مِسْكِينٍ» واحد غداءه وعشاءه عن كل يوم «فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً» بإطعام أكثر من مسكين نظرا لسعة حاله وطلبا للثواب وتحللا مما يجد في قلبه من الأسف على عدم قيامه بهذا الفرض وحرمانه من أجره لتصلبه في دينه «فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ» عند ربه وأعظم ثوابا له «وَأَنْ تَصُومُوا» أيها المسافرون والمرضى والعجزة مع تجشّمكم مشقة الصيام «خَيْرٌ لَكُمْ» عند ربكم واطمن لقلوبكم وأكثر أجرا من أخذكم بالرخصة «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (184) ما للصائم عند الله من الخير الذي هو خارج عن الحصر، فلو علمتم ذلك لتحملتم المشقة وصمتم براءة لذمتكم على أتم وجه وثلوجة لصدوركم بإزالة ما يحوك فيها من التأثم من الإفطار لأن الإثم حزاز القلوب وترقبا لحصول فرحة الإفطار وفرحة لقاء الملك الجبار.
وليعلم أنه يجوز الأخذ بهذه الأخيرية إذا لم يضر الصوم بالمريض أو المسافر أو العاجز، فإن ضرّ حرم عليهم الصوم ووجب الإفطار أخذا بالرخصة لصيانة النفس، إذ لا يجوز الأخذ بالعزيمة على الصيام إلا إذا تحقق القدرة وعدم المضرة، وإلا بأن علم من نفسه أو من إخبار طبيب أن الصوم يضره تركه حالا، ولهذا قال تعالى (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
إذ صدر الجملة الذي ختم بها الآية (بإن) المفيدة للشك، أي إن كنتم تعلمون أن صيامكم خير من الإفطار بأن تقدروا عليه دون كلفة ضارة فصوموا، وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولا حرج في هذا الدين السمح، ويشير قوله تعالى عَلى سَفَرٍ) أنه لا يجوز الإفطار إلا لمن أدركه رمضان وهو متلبس بالسفر، لأن المراد بقوله الآتي (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أي حضر رؤية الهلال وهو مقيم، ولهذا قال علي كرم الله وجهه وابن عباس رضي الله عنهما ذلك لمن أهل الهلال وهو مسافر. وأما من أنشأ السفر في رمضان فليس له أن يفطر، أي إذا خرج من البلد وهو صائم فليس له أن يفطر هذا اليوم الذي أنشأ فيه السفر بعد تلبسه بالصيام، راجع كتاب الصوم الجزء الثالث ص 91 من مبسوط الإمام السرخسي وهو موافق لظاهر القرآن، لأن كلمة على سفر غير كلمة مسافر.(5/129)
ثم بين تلك الأيام التي ذكرنا أنها تحتاج إلى التبيين بقوله جل قوله «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، وهذا من التدريج أحد أنواع البديع إذ لم يذكر نزوله في هذه الآية ليلا أم نهارا، ثم أنزل قوله تعالى (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) أول سورة حم الدخان في ج 2 ولم يذكر أي ليلة هي فأنزل الله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) هكذا ذكر الإمام الغزالي في إحيائه. على أن نزول سورة القدر قبل نزول حم الدخان، ونزولهما في مكة، والآية التي نحن بصددها نزلت في المدينة بعد سنين، فلا يتجه هذا بحسب النزول، أما على ترتيب القرآن فلا قول فيه، تأمل. ومن كرامة هذا الشهر على الله أنه أنزل فيه الكتب السماوية كلها، روى أبو داود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: أنزلت صحف إبراهيم لثلاث ليال مضين من رمضان، وأنزلت توراة موسى لست ليال من رمضان، وأنزل إنجيل عيسى لثلاث عشرة مضين من رمضان، وأنزل زبور داود لاثنتي عشرة ليلة من رمضان، وأنزل القرآن في الرابعة والعشرين لست بقين من رمضان، وتقدم أنه أنزل في السابعة عشرة أو العشرين منه كما أو ضحناه في المقدمة في بحث نزول القرآن، فيكون المراد من إنزاله في الرابعة والعشرين هو إنزاله جملة واحدة إلى بيت العزة في سماء الدنيا، ثم بدأ بإنزاله على حضرة الرسول في السابعة والعشرين، راجع المقدمة تقف على أصح ما جاء في هذا، «هُدىً لِلنَّاسِ» هو نفسه هدى على الإجمال «وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ» على التفصيل للحلال والحرام والحدود والأحكام «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ» وكان حاضرا مقيما غير معذور «فَلْيَصُمْهُ» وجوبا «وَمَنْ كانَ» حين هل الشهر أو قبله «مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ» وجوبا «مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» يصومها بدلها حال إقامته وشفائه «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ» أيها الناس «الْيُسْرَ» فيرخص لكم الإفطار في المرض والسفر والعجز «وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» فيشدد عليكم بما لا تقدرون عليه ولا تستطيعونه لأن الدين يسر «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ» لأيام الشهر كله أداء وقضاء «وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ» لصيامه وإكماله، إذ قدركم عليه «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (185) ربكم الذي(5/130)
لم يجعل عليكم حرجا في ما شرعه عليكم من الدين وتحمدونه على ما كتب عليكم من فرضه وما جعل لكم من الأجر على قيامكم بما كلفكم به، وفي هذه الجملة الأخيرة إشارة إلى صلاة عيد الفطر لأنها تعقب كمال الصيام، روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: كان يوم عاشوراء لقوم قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصوم معهم أيضا، فلما قدم إلى المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه. وما قيل إن قوله تعالى وعلى الذين يطيقونه فدية منسوخ لا صحة له، بل هي محكمة بدليل ما روى البخاري عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) قال ابن عباس ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان
أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا، وقال هي خاصة في حق الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم، ولكن يشق عليه، رخص له أن يفطره ويفتدي، وكذلك العجوز، وإنما جاز لها الفدية لعدم القدرة المستمرة، أما المريض والنفساء والمسافر فيجب عليهم القضاء عقب زوال عذرهم، فإن ماتوا ولم تمض مدة يتمكنون فيها من القضاء فلا فدية عليهم، وإلا فعليهم الفدية من مالهم. ووقت الصيام قد ذكره الله تعالى بأنه بعد رؤية الهلال من رمضان، وقال صلّى الله عليه وسلم: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وجاء في حديث آخر: الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأقدروا له، وفي رواية فأكملوا العدة ثلاثين يوما.
ومعنى أقدروا له أي احسبوا له حسابه، وفيه إشارة إلى جواز الأخذ بأقوال المنجمين الموقتين، وعليه قول ابن وهبان في منظومته:
وقول أولي التوقيت ليس بموجب ... وقيل بل والبعض إن كان يكثر
ومنه يعلم أن الشهر الفلكي غير الشهر الشرعي لأنه قد يولد ولا يرى، وقد يرى في مكان دون آخر، ولا خلاف في ذلك لاختلاف المطالع، ويشترط للصوم الرؤية في المكان الذي أنت فيه أو القريب منه لا الولادة، والمحل البعيد بالتعبير الشرعي وهو أن يكون غير القطر الذي أنت فيه، ويختلف القطر بثلاثين مرحلة أي مدة شهر كامل، ويشترط للرؤية في الصحو جماعة بنسبة أهل البلد، وفي الغيم(5/131)
اثنان، ويجوز أن يصام برؤية عدل واحد، ولا يجوز الإفطار إلا بعدلين.
هذا والمرض المبيح للفطر مطلق بإطلاق الله تعالى، فإن كان ما به لا يتكلف معه إذا صام صام، وإذا رأى تكلفا أو خاف زيادة المرض فليفطر، وكذلك المسافر، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم ليس من امبر الصيام في امسفر حملا على ما يتوقاه الصائم من المشقة.
والسفر المبيح للفطر المجمع عليه ثلاث مراحل مقدرة بثمانية عشرة ساعة، وهذا ما يطمئن إليه الضمير وتقنع به النفس وينشرح له الصدر ويتصور فيه المشقة، وهناك أقوال بأقل وأكثر لا يوثق بصحتها، والآية لا شك مطلقة وإبقاء المطلق على إطلاقه أولى، إلا أن السفر لا يطلق عادة على مسافة أو ساعة أو ساعتين مثلا من قصد الأمكنة القريبة، بل يطلق على الأمكنة البعيدة وأقلها ثلاثة أيام، وقد تعورف هذا، والعرف له دخل في الأحكام التي لا نص فيها، حتى ان الإيمان بني على العرف بإجماع الفقهاء وليعلم أن الثلاثة أيام يطرح منها أوقات الراحة والنوم، ولذلك تطلق المرحلة على اليوم، وأقل المراحل سفر بريد وهو أربعة فراسخ والفرسخ على أصح الأقوال فيه ساعة ونصف، لذلك قدرت بست ساعات، ومن قدره بساعة واحدة واعتبر البريد أربع ساعات واعتبر السفر اليومي على شطرين، قدّر قبل الظهر أربعة فراسخ وبعده أربعة وجعل مدة السفر مرحلتين أي ست عشرة ساعة، وعلى هذا مذهب الشافعي، وعلى الأول أبو حنيفة رحمهما الله، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 101 من سورة النساء الآتية عند بحث قصر الصلاة إن شاء الله تعالى، وكررت جملة (مَنْ كانَ مَرِيضاً) للتأكيد، وقال بعض المفسرين إنما كررت لئلا يتوهم نسخ الأولى بالثانية تبعا لجملة (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) لأن ابن عباس أولها بالقادرين على الصوم دون عجز وكبر، وعليه فالمطيق يفطر ويفدي، وغير المطيق يفطر ولا يفدي، فينعدم الصيام ويتعطل ركن من أركان الإسلام وهو لا يجوز قطعا ويتحاشى ابن عباس عنه. على أن الحديث المار ذكره ينفي هذا التأويل كما علمت، أما من أوّلها بالعاجزين كما جرينا عليه فلا يقول بالنسخ وهو الأولى والله أعلم. وقدمنا في الآيتين 11/ 17 من سورة سبأ ج 2 والآية 17 من سورة النحل ج 1 ما يتعلق بمعنى البريد والفرسخ وما يتشعب عنهما فراجعها.(5/132)
أما ما جاء في فضل رمضان فكثير نكتفي منه بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم إذا دخل رمضان صفدت الشياطين وفتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار. وروى البخاري ومسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. ورويا عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا الذي أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه. ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك. والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب، فإن شتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم. ورويا عن سهل ابن سعد قال: قال صلّى الله عليه وسلم إن في الجنة بابا يقال له الريّان يدخل منه الصائمون فيقدمون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق لئلا يدخل منه أحد (يضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمئة ضعف إلى أكثر (وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) وفضل الله ليس له حد فامثله فليعمل العاملون، وبه فليتنافس المتنافسون.
وسمي رمضان لا شتقاقه من الرمضاء وهي الحجارة المحماة بالشمس، ولما نقلوا أسماء الأشهر من السريانية إلى العربية سموها بالأسماء التي وقعت فيها من المواسم، وقد وافق رمضان أيام الحر فسمّوه به لذلك. واعلم أنه يجب على من أفطر بسبب مرض أو سفره أو عجز أو حيض أو نفاس أن يمسك عند زوال العذر، بأن شفي أو أقام أو طهرتا، وكذلك من فسد صومه بسبب ما وعليهم القضاء جميعا إلا العاجز المار ذكره، أما الصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم أثناء اليوم فعليهما الإمساك لا القضاء، لأنه لم يكن واجبا عليهما قبل، والمجنون كذلك، ومن أراد زيادة التفصيل فعليه بكتب الفقه، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
«وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ» منهم قرب مكانة لا قرب مكان، لأنه لا بعيد عليه «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» وهذا وعد من الله تعالى بإجابة دعاء عباده ولا أو فى من الله أبدا البتة، وقد يكون التخلف من العبد لعدم قيامة بشروط الدعاء المطلوبة منه فيه، والله تعالى أهل للإعطاء، ولكن العبد ليس بأهل للإجابة بسبب عصيانه وطيشه «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي»(5/133)
بالإيمان بي والتصديق لرسلي وكتبي والاعتراف بملائكتي واليوم الآخر إذا أرادوا أن أجيب دعاءهم «وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (186) لمصالح دينهم ودنياهم. وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا كيف يسمع ربنا دعاءنا، وتزهم يا محمد أن بيننا وبين كل سماء مسافة خمسمائة عام، وسمك كل سماء كذلك؟
وقال بعض الأصحاب يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ وقال بعضهم هل يجيب ربنا دعاءنا، وفي أي وقت ندعوه؟ فنزلت جوابا للكل.
وقد ذكرنا غير مرة أن لا مانع من تعدد الأسباب.
مطلب الدعاء وشروطه والجمع بين الآيات الثلاث فيه وشروط الإجابة:
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: لما غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو قال توجه لخيبر أشرف على واد، فرفعوا أصواتهم بالتكبير الله أكبر لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أيها الناس اربعوا (أرفقوا على أنفسكم) فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا بصيرا قريبا وهو معكم. ورويا عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له. واعلم أن هذه الآية وآية (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) الآية 10 من سورة المؤمن المارة في ج 2 مطلقة وآية (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) الآية 42 من الأنعام المارة في ج 2 أيضا مقيدة، والمطلق بحمل على المقيد، فلا يقال دعوت فلم يستجب لي، لأن الله تعالى يجيب لمن يشاء بفضله ويمنع من يشاء بعدله، والإجابة غير الإعطاء، وهذا هو وجه الجمع بين الآيات الثلاث، تدبر. ومن شروط الإجابة أكل الحلال، والإنابة إلى الله، والإخلاص له بالعمل، والاعتقاد بالإجابة، وعدم التردد، وأن يكون عند الدعاء خاشعا خاضعا، وأن يبدأه بحمد الله والصلاة على رسوله، ويختمه بهما، ويذكر حاجته في الوسط، فالله أكرم من أن يردها ويقبل طرفيها، وقل أن توجد هذه الشروط في الداعي، حتى ان بعض العلماء اشترط في الدعاء عدم اللحن، وقال إن الله لا يقبل دعاء ملحونا، ويفقد هذه الشروط يكون التخلف في الإجابة، لأن من(5/134)
لا يتصف بها لا يستحقها. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يستجاب لأحدكم ما لم يعجل بقوله دعوت فلم يستجب لي. ولمسلم:
لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل، قيل يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال يقول دعوت فلم يستجب لي فيستحسر، أي يستنكف عند ذلك ويدع الدعاء. ورويا عن أبي هريرة: إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن يعزم المسألة، فإن الله لا مكره له.
زاد البخاري ارزقني إن شئت يعزم المسألة فإن الله يفعل ما يشاء لا مكره له.
وقال صلّى الله عليه وسلم: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه. - أخرجه الترمذي- وأخرج أبو داود عن سلمان قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا (أي خالية يقال بيت صفر أي ليس فيه شيء) خاليتين. وأخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من الشر مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم إذا نكثر، قال، الله أكثر. أي أكثر إجابة إذا أكثرتم السؤال. وله عن أبي هريرة: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس شيء أكرم على الله من الدعاء. وله عن أنس: الدعاء مخ العبادة. وله عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من فتح له باب من الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سئل الله شيئا أحب إليه من أن يسأل العافية، وان الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل. وله عن سلمان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد العمر إلا البر. وله عن أبي هريرة أنه قال: من لم يسأل الله يغضب عليه.
وقيل في معناه:
لا تسألن بنيّ آدم حاجة ... وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب
وله عن خفالة بن عبيد قال: سمع النبي صلّى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته فلم يصل على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال النبي عجل هذا (أي لم يبدأ دعاءه بالحمد لله والصلاة على رسوله)(5/135)
ثم دعاه فقال له أو لغيره إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي ثم ليدع بما شاء. وقدمنا في الآيتين من الأنعام والمؤمن آنفا ما يتعلق بهذا أيضا فليراجع. قال تعالى «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ» ملامسة النساء ومباشرتهن، وهو كناية عن الجماع، لأن الله تعالى يكني عما يستقبح ذكره إشارة أو إيماء أو تعريضا بما يفهم منه المقصود تعليما لعباده ومراعاة للأدب في كل حال، وهذا الحل خاص «إِلى نِسائِكُمْ» اللاتي استحللتم مقاربتهن بكتاب الله تعالى «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» وذلك أن كلّا من الزوجين ستر للآخر عما لا يحل، كما جاء في الحديث: من تزوج فقد أحرز ثلثى دينه. ولهذا سمي كل منهما لباسا لصاحبه. وفي رواية: شطر دينة فليتق الله في الشطر الآخر. وروى البخاري ومسلم عن البراء قال: لما ينزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله فكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ» أي تأتون أهلكم خفية وسمي العاصي هنا خائنا مع أن الخائن هو الذي لا يؤدي الأمانة لأنه لا يؤتمن على دينه، وقد كان في بداية الإسلام إذا أفطر الرجل حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الأخيرة أو يرقد قبلها، ثم يحرم عليه كل ذلك إلى الليلة الأخرى، فوقع أن عمر الفاروق أتى أهله بعد هذا، فاغتسل وصار يبكي خشية من الله تعالى وهو لا تبكيه السيوف والأسنّة، فلم يقدر على كتم ما وقع منه في ذلك لصلابة دينه وعظيم يقينه، إلا أن ذكر ذلك لحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم بحضور جماعة من الأصحاب اعترفوا بعده مثل اعترافه، وكان بعضهم لا يقرب أهله رمضان كله تحاشيا من الوقوع فيما لا يحل، قال ابن عباس فكان ذلك أي فعل عمر مما نفع الله به الناس ورخص لهم ويسر، فلما اعترفوا للرسول وتابوا تاب الله عليهم وختم الله رخصته لهم بقوله «فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ» ما وقع منكم ورفع ذلك عنكم بفضله «فَالْآنَ» أيها المؤمنون جميعكم «بَاشِرُوهُنَّ» في ليالي الصوم وغيرها، وسميت المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة الزوج بشرة زوجته «وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» في علمه من الولد، ولا تقتصروا في الجماع الى إخراج(5/136)
الشهوة فقط وصيانة النفس من الوقوع في الحرام، بل اقصدوا الذرية أيضا، ثم أحل لهم الأكل والشرب الذي كانوا يعتقدون حرمته بعد العشاء أو النوم فقال جلّ قوله «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ» أي بياض النهار من سواد الليل فنسخ الله ما كان متعارفا عندهم من أن الصيام من العشاء إلى العشاء لأنهما أكلتان الغداء سقط بالصوم وبقي العشاء فقط، ثم إن الله تعالى تصدق على أمة محمد فشرع لهم السحور بدل الغداء إلا أنه قدم عن وقته فهو من خصائص هذه الأمة. روى البخاري عن البراء قال: كان أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وان قيس بن حرمة الأنصاري كان صائما فلما حضر الإفطار أتى أهله فقال أعندك طعام؟ قالت لا ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل فغلبته عنه فجاءته امرأته (وهو نائم) فقالت خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم فنزلت الآية فصاروا يأكلون ويشربون ويجامعون إلى أن يظهر بياض الفجر الصادق الذي هو كالخيط الأبيض الممتد في الأفق، أما الفجر الكاذب الذي يكون قبله مرتفعا مستطيلا في السماء لا معترضا بالأفق فليس بمانع من الأكل والشرب والجماع، فقد روى مسلم عن سمرة بن جندب قال: قال صلّى الله عليه وسلم لا يغرنكم في سحوركم أذان بلال (كان يؤذن بالسحر) ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا وبه يحرم على الصائم الأكل والشرب والجماع. وروى البخاري ومسلم عن سهل ابن سعد قال: لما نزلت (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) الآية
ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ) فكان رجال (من عوام الصحابة) إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعده (مِنَ الْفَجْرِ) وقد أخرت من هذه الآية لهذا السبب. وليعلم أن ما ذكرنا من النسخ في هذا آنفا هو باعتبار ما كان عليه الناس في الجاهلية، وليس بالنسخ الذي يريده من قال به، لأن النسخ الذي يريده هو إبطال حكم سابق بنص لا حق، ومن المعلوم أن الله تعالى لم ينزل علينا في كتابه هذا حرمة الجماع والأكل والشرب على الصائمين بعد(5/137)
العشاء أو في الليل حتى يقال إنه نسخ بهذه الآية، وعليه فلا معنى للنسخ ولا القول به هنا البتة كما هو الحال في الكعبة، لأن الله تعالى لم يأمرنا باستقبال البيت المقدس قبلا حتى يقال إنه نسخ استقباله بالأمر باستقبال الكعبة «ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ» أيها الصائمون بعد غياب الشمس من المحل الذي أنتم فيه لأنها قد تكون طالعة في غيره بسبب ارتفاع حدبة الأرض، فهي دائما طالعة عند أناس، غائبة عند آخرين، وما جاء أن الأرض مفروشة أو مبسوطة أو ممهدة أو ممدودة من كل ما يدل على استوائها من الآيات فهو بالنظر لما نراه لا بالنسبة لما هي عليه من التكوين الإلهي، فالنملة لا شك ترى البيضة مستوية مبسوطة بالنسبة لصغرها وعظم البيضة، فنحن أصغر من النملة بالنسبة للأرض بملايين الكرات. هذا، ومن قال إن المراد بالليل طلوع النجم قول غير وجيه ينافيه معنى الغاية، وما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم، أي جاز له الفطر. والتصريح بقوله وغربت كاف في الدلالة على عدم صحة قول من فسر الليل بطلوع النجم، لأن السنة مفسرة لكلام الله تعالى، ولأن أول الشيء عينه، وغياب الشمس أول الليل، وعلى الصائم أن يحتاط لئلا يخطئ في الإفطار فيضيع صيامه، كما عليه أن يحفظ جوارحه من الآثام الظاهرة والباطنة كي ينال أجره تماما، قال أحمد عبيده:
تصوم عن الطعام ولا تبالي ... بصوم الطرف واليد واللسان
وان لكل جارحة صياما ... جزيل الأجر موصول الزمان
«وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ» أي النساء «وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ» لا ليلا ولا نهارا سواء كان في رمضان أو غيره صيّاما كنتم أو مفطرين، وقد أنزل الله تعالى هذه الجملة لئلا يتوهم أن حكم الاعتكاف كحكم الصوم يحرم نهارا على الصائم، ويحل ليلا، بل يحرم الجماع في الاعتكاف ليلا ونهارا، وذلك أن المعتكفين يخرجون من المسجد ليأتوا أهلهم ثمّ يغتسلون ويرجعون إليه. والحكم الشرعي في الاعتكاف هو سنة مطلقا، وسنة مؤكدة في العشر الأواخر من رمضان،(5/138)
وهو الإقامة في المسجد على عبادة الله تعالى، فإذا جلس يذكر الله تعالى في المسجد فهو معتكف، ولا يصح خارج المسجد، ولا يشترط له الصوم إلا أن الأفضل أن يكون صائما، وليس له زمان محدود فيصح ولو دقيقة واحدة، ويفسده الجماع، ويكره فيه القبلة ونحوها، ولا بأس في خروجه من المسجد لحاجته. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان.
ولعمري لقد كان السلف الصالح يعتكفون فيه جماعات ووحدانا فلا تجد مسجدا إلا وفيه المعتكفون عاكفين على ذكر الله، ويا للأسف لا تجد الآن إلا ما ندر ممن بشار إليهم بالبنان، وإن من لا خلاق له في الآخرة قد ينتقدونهم على ذلك، فلا حول ولا قوة إلا بالله «تِلْكَ» الأحكام المبينة في الصوم والاعتكاف هي «حُدُودُ اللَّهِ» التي حذر قربانها ومنع من مخالفتها «فَلا تَقْرَبُوها» يا عباد الله، وهذا مبالغة في النهي عن إتيانها، لأنه إذا كان قربانها ممنوعا فكيف بفعلها حذار حذار عباد الله من ذلك. قال تعالى (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) الآية 14 من سورة النساء الآتية، وهناك آيات أخر في هذا المعنى تحذر من قربان حدود الله والتعدي عليها فلا تعتدوها أيها الناس. واعلم أن التوفيق بين القربان والاعتداء هو أن الأحكام منها ما هو محظور ومنها ما هو مباح وأقربها لهذه الآية (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ) ففيها تحريم الجماع في الاعتكاف مطلقا، وفي الآية قبلها (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) النص على تحريم الأكل والشرب والجماع في النهار، ولما كان الأقرب فيها جانب التحريم قال (فَلا تَقْرَبُوها) وإن من كان في طاعة الله فهو في حيز الحق فنهى أن يتعداه لئلا يقع في حيز الباطل فنهى عن أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل لئلا يقع في الباطل فهو كقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور، إلى أن قال: كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه. فنهى صلّى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن قربان الأمور المشتبهة حذرا من أن يقع في الحرام وحدود الله تعالى محارمه ومناهيه، فعليكم أيها الناس التباعد عنها لئلا تقعوا فيما ينهاكم عنه فتهلكوا «كَذلِكَ» مثل ما بين لكم تلك الأحكام «يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ» الدالة على معالم دينه وشعائر(5/139)
شريعته وبراهين توحيده بيانا شافيا «لِلنَّاسِ» أجمع «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» (187) ما حرم عليهم فيثابون بمجرد الامتثال.
مطلب أخذ أموال الناس باطلا والقضاء لا يحلل ولا يحرم ومعنى الأهلة وما كان في الجاهلية وأنه القتال الأولى:
قال تعالى «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ» ظلما بشهادة زور أو حلف يمين كاذبة «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (188) أنكم مبطلون في ذلك، كان ادعى لدى حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم ربيعة بن عدوان الحضرمي في أرض على امرئ القيس بن عابس الكندي، فقال له ألك بينة؟ قال لا، قال فك يمينه، فانطلق ليحلف، فقال صلّى الله عليه وسلم أما إن حلف على ما له ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض، فأنزل الله هذه الآية. وفي رواية تلا عليه قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا) الآية 75 من آل عمران الآتية، فارتدع عن اليمين وسلم الأرض له. ولهذا البحث صلة في الآية المذكورة آنفا، والآية 28 من سورة النساء الآتية أيضا. الحكم الشرعي: يحرم قطعا أكل مال الغير بغير حله ويستوجب فاعله العقاب سواء أكله غصبا أو قمارا أو بثمن خمر أو خنزير أو أجرة مغبنة أو رشوة، أو بأن يشهد زورا، أو كان أمانة فكتمها، أو وديعة فجحدها، أو غير ذلك. روى البخاري ومسلم عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سمع جلبة (صوتا عاليا) خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال إنما أنا بشر وأنه يأتيني الخصم منكم فلعلّ بعضهم أن يكون أبلغ من بعض. وفي رواية ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها.
فيفهم من هذا أن قضاء القاضي لا يحلّ حراما ولا يحرّم حلالا لأنه يحكم بما يظهر له من الدعوى والشهادة لا بعلمه ولا بمجرد الدعوى، وكان القاضي شريح يفهم المحكوم له ويقول له إني لأظنك ظالما، ولكن لا يعني إلا أن أقضي بما حضرني من البينة، ألا فليحذر المدعون من ادعاء الباطل ومن إقامة شهود الزور لأخذ مال الغير ظلما بالقضاء، وليحذر المدعى عليهم من الإقدام على الحلف كاذبا(5/140)
لهضم حق الغير الذي لا شاهد له إلا الله مع كونه عالما بأنه مدين له، فهي يمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، وهذا كلّه من معاني الإدلاء بالباطل إلى الحكام، أي النسبة إلى حكمهم، فهم لا يسألون عن أحكامهم إذا كانت موافقة لظاهر الشرع، وإنما يسأل المبطل، لأن الحاكم العدل ملزم بأن يحكم بالظاهر، والله تعالى يتولى السرائر، ولا تنطبق هذه الآية عليهم إلا في حال أخذ الرشوة، لأن فيها يكون الإدلاء إليهم، أجارنا الله ووقانا. روي أن رجلا خطب امرأة هو دونها، فأبت فادعى عند علي كرم الله وجهه أنه زوجها وأقام البينة، فقالت المرأة لم أتزوجه وطلبت عقد النكاح، فقال كرم الله وجهه قد زوجك الشاهدان وقد طلبت رحمها الله إجراء العقد بعد أن رأت الحكم عليها بالزوجية زورا لشدة تمسكها بدينها لتكون زوجة له بالوجه الشرعي، لأنها تزعم أن شهادة الزور لا تكفي، فأخبرها كرم الله وجهه أن شهادتهما بزوجيتها له كافية، وليس عليها إثم بمطاوعتها له، وإنما الإثم عليه وعلى الشهود، ولهذا ذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الحاكم إذا حكم ببينة بعقد أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ به من العقود فهو نافذ ظاهرا وباطنا، ويكون كعقد عقداه بينهما، وإن كان الشهود زورا. وذهب فيمن ادعى حقا في يد رجل وأقام بينة تقتضي أنه له، وحكم بذلك الحاكم أنه لا يباح أخذه له، وأن حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل محظورا عليه، وحمل الحديث على ذلك، والآية ليست نصا في مدعى مخالفيه، لأنهم إن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ مطلقا فممنوع، وإن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ في الجملة فمسلم ولا نزاع فيه، لأن الإمام الأعظم رضي الله عنه وأرضاه يقول بذلك، ولكن فيما سمعت، وإذا أردت تفصيل هذه القضية فارجع إلى كتاب أدب القاضي تر فيه ما تقنع به. قال تعالى «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ» ما سبب زيادتها ونقصها وكبرها وصغرها «قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» أي لصومهم وإفطارهم وآجال ديونهم وإجارتهم ونذورهم والحيض والنفاس ومدة العدة والحمل وزمن الحج ووقته وغير ذلك، وهذا خلاف السؤال وهو من أنواع البديع في المخاطبات، لأنه تلقي السامع بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تبينها على أنه الأولى له(5/141)
والأليق لحاله مما يتطلبه من اختلاف حال الهلال، وقد أفرد، تعالى الحج بالذكر مع أنه داخل في المواقيت، لأن العرب كانت تؤخر بعض الأشهر أحيانا كما أخبر الله عنهم بقوله (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) الآية 39 من التوبة الآتية، كان معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاري سألا حضرة الرسول عن مبدأ الهلال يكون رفيعا ثم يزداد تدريجيا حتى يمتلىء نورا، ثم يتناقص كذلك حتى يعود كما بدأ، وقالوا له إن اليهود يسألوننا كثيرا عن هذا، وإن سؤال اليهود أصحاب الرسول بمثابة السؤال منه، لذلك جاء بضمير الجمع، فإن سؤالهم كان السبب والعلة، فأجابهم الله عن الغاية والحكمة لتعلقها بمعاملتهم، ومنه يفهم جواز إعطاء الجواب على خلاف السؤال نظرا للمصلحة، ويسمى أسلوب الحكيم، والنبي صلّى الله عليه وسلم إنما بعث لبيان ذلك لتماسه بحاجتهم، لأن بيان سبب كبره وصغره وعلة ذلك بسبب حيلولة الأرض بينه وبين الشمس بعدا وقربا لا علاقة له بشيء من منافعهم، ولأن الأصحاب لا يعلمون علم الهيئة الموقوف معرفته على المكبرات والأرصاد والأدلة الفلسفية ولم يعتنوا به لعدم حاجتهم إليه في أمر الدين، ولو أن حضرة الرسول بين لهم ذلك فلعلهم لا يدركونه لا حتياجه لدقة فكر وبعد نظر في المعنى وتأمل بعيد، وعدم علمهم بذلك لا ينقص من قدرهم لأن علم الهيئة مبني على أمور لم تثبت بصورة جازمة، وما صنف بها من الكتب من قبل الفلاسفة وغيرهم، مبني على الظن
والتخمين والحسبان، ولذلك تجد أكثر أقوالهم متضاربة سواء الأولون والآخرون منهم، على أنه لا بأس يأخذ أقوالهم مما لا يخالف صراحة القرآن والسنة بالتأويل والتوفيق.
هذا، ولما بين الله تعالى لعباده ما يتعلق بالصيام وحل الأكل والجماع وتحريم أكل مال الغير بغير وجه شرعي مما كان معتادا في الجاهلية وفوائد تغير الأهلة بين لهم نوعا آخر كان متعارفا عندهم ويزعمون أن فيه قربة بأنه ليس بقربة لقوله عز قوله «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (189) روى البخاري ومسلم عن البراء قال: نزلت هذه الآية فينا فكانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت، فجاء رجل من الأنصار فدخل(5/142)
من قبل بابه فكأنه عيّر بذلك، فنزلت. وفي رواية كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها، فنزلت. أي أن هذه العادة المتخذة قديما قبل الإسلام ليست من البر في شيء، وأن البرّ هو تقوى الله التي فيها الفوز والنجاة والأجر والثواب. قال تعالى «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ» أي يبدأونكم بالقتال ولا تبدأوهم أنتم بالقتال، ولهذا قال تعالى «وَلا تَعْتَدُوا» بأن تقاتلوهم توا أو تقاتلوا غيرهم أو أولادهم وشيوخهم ونساءهم ورهبانهم والمستسلمين منهم لما فيه من الاعتداء المبغوض «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (190) على أنفسهم وعلى غيرهم، كان الرسول في بداية الإسلام وإلى حد نزول هذه الآية منهيا عن القتال ومأمورا بمعاملتهم بالرفق واللين ليؤمن مؤمنهم ويصرّ كافرهم، ولما اضطروه إلى الهجرة واستقر به الحال في المدينة واجتمع عليه أصحابه ومن آمن من غيرهم، أمره جل شأنه بقتال من بدأه بالقتال أو من تحدّاه به مقابلة لا عداء ولا انتقاما، بقصد إعلاء كلمة الله تعالى وإظهار عزّة المؤمنين. روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلّى الله عليه وسلم من قاتل حتى تكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. أي أن كل ذلك المسئول عنه غير مطلوب ولا هو في سبيل الله، بل هو لإظهار الشجاعة. وليقال إنه يقاتل ويناضل، وهذه الآية محكمة لأن معناها قاتلوا الذين أعدوا أنفسهم لقتالكم لا غير ممن ذكر أولا ومما سيأتي ذكره في الحديث الثاني. وهذه أول آية نزلت في القتال بعد الآية 39 من سورة الحج الآتية، لأنها نزلت قبل هذه، فراجعها تعلم السبب في ذلك، وبعدها وقعت غزوة بدر الأولى في 17 رمضان السنة الثانية من الهجرة.
روى مسلم عن بريدة قال: كأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو صرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال له اغزوا بالله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا (لا تخفوا شيئا من الغنائم) ولا تعتدوا (أي لا تقتلوا الشيوخ والمرضى والعجزى لأنهم لا يقاتلون) ولا تمثلوا (بأن تقطعوا آذان القتلى أو مذاكيرهم أو أنوفهم أو تشقوا بطونهم أو غير ذلك(5/143)
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)
مما يعد مثلة بنظر الناس) ولا تقتلوا وليدا. أي لأنه لا يقاتل، وهكذا النساء إذا كن لا يقاتلن فلا يجوز قتلهن. وقال بعض المفسرين إن هذه الآية نزلت بعد صلح الحديبية، وعلله بأن الأصحاب خافت أن لا تفي قريش بالمعاهدة وكرهوا أن يقاتلوهم إذا صدوهم عن المسجد الحرام أو الحرم ليرفع عنهم الحرج إذا بدءوهم بالقتال، لكنه بعيد، لأن صلح الحديبية وقع في السنة السادسة، وهذه في السنة الثانية، إلا أنه لا مانع من تطبيق حكمها عليها، إذ يجوز أن تكون آية واحدة لأسباب كثيرة كما مر غير مرة.
قال تعالى «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ» أي في أي مكان وجدتموهم وأدركتموهم، وذلك إذا لم ينجع معهم معاملة الرسول لهم باللطف وبدأوكم بالتعرض سواء قاتلوكم أم لا، لأن إقسارهم إياكم على الهجرة يعد تعرضا لقتالكم «وَأَخْرِجُوهُمْ» من ديارهم «مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ» من دياركم لأنهم كافرون مفتونون في دينهم «وَالْفِتْنَةُ» أي الشرك بالله، وإنما سمي فتنة لأن فيه فساد الأرض، ولأنه يؤدي إلى الظلم وجميع الشرور، لذلك عدّت «أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ» أي أن قتلكم إياهم دون الكفر الذي هم عليه، لأنه مما يوجب التخليد بالنار، والقتل دون استحلال لا يوجب ذلك، والكفر يخرج صاحبه من الأمة، والقتل لا يخرجه، فثبت أن الفتنة التي هي الشرك بالله والكفر به أشد من القتل «وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ» لما كان مبدأ هذه الآية عام استثنى الله تعالى منه المقاتلة في المسجد الحرام بشرط أن لا يبدءوهم بالقتال فيه «فَإِنْ قاتَلُوكُمْ» فيه فقد زال الحرج عنكم «فَاقْتُلُوهُمْ» فيه أيضا «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء «جَزاءُ الْكافِرِينَ» (191) لأن الجزاء من جنس العمل، ولأن الشر بالشر والبادي أظلم. وقال بعض المفسرين إن الفتنة هنا بمعنى الإخراج من الوطن لأنه أعظم المحن التي يفتتن بها الإنسان وهو أصعب من القتل على النفس لدوام تعبه وبقاء ألمه، وهو وجيه، لكن ما جرينا عليه أوجه، لأن الغربة مهما كانت شاقة على النفس فهي دون القتل الذي فيه عدم الإنسان فضلا عن بقاء أمل الرجوع إليه.
وهذه الآية تشير إلى حادثة الحديبية وهي التي ثبطت عزم الرسول صلّى الله عليه وسلم وصمم على(5/144)
قتالهم فيها، وبقي هو وأصحابه عازمين جازمين على القتال حتى وقع الصلح بينهم، وهي من قبيل الإخبار بالغيب لأنها نزلت قبل واقعة الحديبية بأربع سنين، ولولاها لما قال صلّى الله عليه وسلم ما قاله في قصة الحديبية الآتية في سورة الممتحنة، وحرض أصحابه على قتالهم عند منعهم لعلهم عدم جواز القتال في المسجد وحرمته في زمن الجاهلية، ولهذا قال بعضهم إنها نزلت في صلح الحديبية، وفي نقضهم هذا الصلح وتعرضهم لأصحاب الرسول. وهذه الآية محكمة أيضا، لأنها تأمر بعدم حل القتال في المسجد إلا لمن قاتل فيه، ولا سند لمن قال بنسخها ونسخ التي قبلها. قال تعالى «فَإِنِ انْتَهَوْا» عن القتال وتركوا الشرك وآمنوا «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما سلف منهم «رَحِيمٌ» (192) بعباده الذين تابوا وأتابوا إليه بعد عتوهم وعنادهم، ومن رحمته عدم تعجيل عقوبتهم لهذه الغاية. ولما رأى حضرة الرسول أن إمهال المشركين والعفو عنهم واللطف بهم لا يزيدهم إلا كفرا وبغيا وطغيانا طلب من غير طلب أن لا يرضى من مثلهم إلا الإسلام أو القتل، وكان هذا التمني الذي خطر على قلب الرسول مما هو ثابت في علم الله ومقدر نزوله عليه أنزل الله تعالى «وَقاتِلُوهُمْ» أي المشركين، لأن أهل الكتاب عصمهم دينهم وكتابهم الذي فيه شرائع وأحكام إلهية يرجعون إليها وان غيروا أو بدّلوا بعضه، فأمهلهم الله تعالى حرمة لكتابهم وما تمسكوا به من الدين، إلا أنه تعالى إذلالا لهم أمر أخيرا بأخذ الجزية منهم كما سيأتي بعد لعلهم يتدبرون ما في كتبهم من الحق فيتبعونه ويؤمنون بمحمد والقرآن «حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ» أي أديموا قتالهم واستمروا عليه إلى أن لا يبقى شرك على وجه الأرض، لأن المشركين كفرة لا كتاب لهم كي يؤمل فيهم الرجوع إليه، ولأن بقاءهم على الشرك يزيد في طغيانهم وبغيهم وضررهم على المؤمنين، لأنهم مهما تركوا لا يرجى منهم الرجوع إلى الحق، إذ لا دين لهم يسوقهم على سلوك سبل الرشد، لذلك عليكم بهم حتى يمحو نور الإيمان ظلمة الشرك «وَيَكُونَ الدِّينُ كله لِلَّهِ» وحده فلا يعبد من دونه شيء «فَإِنِ انْتَهَوْا» عما هم عليه وأسلموا لله وآمنوا برسوله وكتابه «فَلا عُدْوانَ» عليهم(5/145)
إذ لا يكون العدوان «إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» (193) منهم المصرين على كفرهم والذين تابوا وآمنوا فلا سبيل لكم عليهم لأنهم صاروا مثلكم. وهذه الآية محكمة أيضا لأنها في حكم آخر أشمل من الأول كما أن الأول أشمل مما قبله، ولهذا قال بعض المفسرين إن الأولى منسوخة بالثانية، والثانية منسوخة بآية (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) والثالثة هذه منسوخة بآية السيف الآتية، وهو قول ضعيف لا يعول عليه، لأن النسخ رفع الحكم، وهذه الآيات الثلاث حكمهن باق فلا معنى للقول بالنسخ، وغاية ما في الأمر أن يقال آية مطلقة وأخرى مقيدة، والقيد يخصص الشيء ولا يرفع حكمه، وإذا راجعت ما قدمناه في المقدمة والآية 107 المارة علمت أن لا ناسخ في كتاب الله هذا الناسخ لما قبله، ومن البعيد على الحكيم أن يتابع آيات تكون كل منها ناسخة الأخرى. قال تعالى «الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ» لما كانت الجاهلية تحترم الأشهر الحرم فلا تقاتل فيها ولا تنتقم ممن قاتلها إذا وجدته فيها وقدرت على قتله أيضا تأثما، وبقيت هذه العادة مطردة عندهم إلى نزول هذه الآيات الثلاث دون أن يخرمها أحد، وقد أباح الله تعالى لهم قتال المشركين فيها خلافا لما كانوا عليه وآباؤهم من قبل، فلأجل أن لا يتأثموا من ذلك أنزل الله تعالى هذه الآية كالتفسير للآيات قبلها، أي إذا قاتلوكم بالشهر الحرام فلا تتأثموا من قتالهم فيه بل قاتلوهم فيه أيضا، لأن العداء يرد بمثله بأي مكان كان حرمة للنفس والمال. وقال أكثر المفسرين إنها نزلت في عمرة القضاء لأن النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم خرجوا في ذي القعدة سنة ست من الهجرة فصدهم المشركون ووقع الصلح المشهور بالحديبية، ولما عاد في سنة سبع هو وأصحابه لقضاء تلك العمرة في شهر ذي القعدة أيضا أباح الله لهم في هذه الآية مقاتلتهم فيه إذا هم قاتلوهم كما قاتلوهم سنة ست وصدوهم عن البيت على أنه لم تقع مقاتلة بينهم، بل
وقع تلاحي وهو عبارة عن أخذ ورد وتهديد ووعيد في القتال ومنع من دخول مكة وشذوذ في المكالمة مما يؤدي إلى المقاتلة، وعلى فرض مقاتلتهم فقد أخبرهم الله تعالى في الآية الأولى بقوله (فقاتلوا الذين يقاتلونكم» لذلك فإن ما جرينا عليه أولى، ولأن عمرة القضاء هذه لم تكن عند نزول هذه الآية كما علمت من تاريخها.(5/146)
مطلب المقابلة بالمثل وفضل العفو والإنفاق في سبيل الله والإحسان:
ثم قال تعالى «وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ» مساواة ومماثلة كما فسر بقوله «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ» بقتال أو غيره «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ» قابلوه بالاعتداء سواسية على حد قوله تعالى (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) الآية 40 من الشورى في ج 2، ولهذا سماء اعتداء «بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» فإن زدتم عليه فقد ظلمتم، وإن نقصتم فقد عفوتم وصفحتم، ولأن يخطىء الإنسان بالعفو أحسن من أن يخطىء في القصاص، لأنه إذا جاوز استيفاء حقه فقد ظلم كما أن الخطأ في التبرئة خير من الخطأ في الحكم لأنه مما يوجب التوفي منه والابتعاد عنه «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها الناس من مجاوزة حقوقكم إلى ظلم الغير «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» (194) الذين يراعون في أمورهم حدود الله وحقوق الناس، ولا يتعدون في الانتقام فهؤلاء يكونون في حراسة الله تعالى وهو يصلح شأنهم بالنصر والتمكين، وإنما جمع الحرمات لأن القتال قد يجتمع فيه حرمات ثلاث حرمة الشهر إذا كان من الأشهر الحرم وحرمة البلد إذا كان في مكة وحرمة المتقاتلين إذا كانوا محرمين، أي إذا قاتلوكم في إحدى هذه الحالات الثلاث، أو حال اجتماعها، فقاتلوهم أنتم أيضا، لأن مقاتلتكم قصاص لمقاتلتهم، ولا إثم عليكم في ذلك. هذا، ولما أمر الله تعالى بالجهاد وكان أهم لوازمه المال أنزل الله جل شأنه «وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أي الجهاد والإنفاق صرف المال في وجوه البر، وأحسن أنواعه الجهاد ولا سيما عند الحاجة مثل ذلك الوقت، والذي يخصص المراد بهذا الإنفاق للجهاد مجيء هذه الآية بعد ذكره، على أنه مطلوب في الجهاد وغيره، ولكنه في الجهاد وزمن الحاجة أفضل وأكثر أجرا. والمراد بقوله جل قوله «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» التي هي التمسك بالأموال وترك الغزو في سبيل الله وعدم معاونة الغزاة بالمال لأنه يسبب تسلط العدو عليكم وإهلاككم. روى البخاري، ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا واحتسابا بالله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة حسنات.
وأخرج الترمذي والنسائي عن خزيم بن فانك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أنفق(5/147)
نفقة في سبيل الله كتب له سبعمئة ضعف. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من نفاق وروى البخاري عن حذيفة قال: أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.
قال نزلت في النفقة، أي لا تمسكوا عن الإنفاق خوف الفقر فتقولوا إن أنفقنا يذهب مالنا ونهلك، بل أنفقوا «وَأَحْسِنُوا» في الإنفاق والجهاد وغيره ولا تسرفوا بالنفقة ولا تبخلوا فتقتروا فيها على أنفسكم ومن تلزمكم نفقته الأقرب فالأقرب، لأنه صلة ونفقة وصدقة، ثم الأبعد فالأبعد عن طيب نفس وانشراح صدر، وهذا هو معنى الإحسان بالنفقة «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 195» ويزيدهم من فضله ويثيبهم على إحسانهم. روى سلمة عن أسلم بن عمران قال كنا بمدينة الروم فأخرجوا لنا صفّا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم وأكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس سبحان الله يلقي بنفسه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال أيها الناس إنكم تؤولون هذه الاية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لمّا أعزّ الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعزّ الإسلام وكثر ناصريه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه هذه الآية يردّ علينا ما قلنا، وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم في أصل صور قسطنطينة، فهم يتبركون في قبره فيزورونه احتراما، ويستشفعون به إلى الله في حوائجهم ويستسقون به حتى الآن، رحمه الله رحمة واسعة. قال تعالى «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ» بأن تأتوا بجميع أركانها وشروطها وواجباتها وسننها ومندوباتها وتجتنبوا مكروهاتها وتبدءوها بالمال الحلال والنيّة الخالصة، وتختموها بالعزم على اجتناب ما نهى الله عنه وتكملوها «لِلَّهِ» وحده لا لسمعة ولا لرياء ولا لتجارة محضة. واعلم أن أركان الحج خمسة: الإحرام من المحل المعروف كرابغ والجحفة مثلا، والوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة جزءا من النهار وجزءا(5/148)
من ليلة النحر، والطواف بالبيت للزيارة، والسعي بين الصفا والمروة، وحلق الرأس أو تقصيره. وأركان العمرة أربعة: الإحرام، والطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، وبهذه يتم كل من الحج والعمرة إذا لم يعقكم عائق «فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ» ومنعتم من قبل عدو أو وحش أو حبس أو مرض أو عرضت لكم حاجة لا غنى لكم عنها تمنعكم من الحج أو من إكماله أو نفدت نفقتكم أو ضاعت ولم تجدوا من تستدينون منه فتحللتم من حجكم وعمرتكم «فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» عليكم وهو شاة لأن أعلى الهدي بدنة، وأوسطه بقرة، وأدناه شاة يذبحها في المحل الذي أحصر فيه، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ذبح الهدي عام الحديبية فيها، ولما أخرج البخاري عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم معتمرين فحال كفار قريش دون البيت فنحر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحلق رأسه هناك. وقال أبو حنيفة:
يبعث بالهدي إلى الحرم ويواعد من يذبحه هناك على وقت مخصوص، حتى إذا غلب ظنه على وصوله يحل في ذلك استدلالا بقوله تعالى «وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ» الذي يجب أن يذبح فيه عادة. وقال الشافعي وأحمد ومالك: يذبحه حيث أحصر مستدلين بما تقدم. وهذا إرشاد من الله تعالى إلى عباده لتدارك ما قد يعتريهم من العوارض المتوقعة المخلة بالحج، ومنها ما جاء في قوله «فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً» وهذا بيان حكم الإخلال بنوع آخر غير الإحصار كجراح وبالأخرى كل ما يتوجع منه بدليل قوله «أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ» كصداع ودوخة أو قمل وغيره واحتاج إلى الحلق حال الإحرام فحلق رأسه «فَفِدْيَةٌ» عليه جزاء ذلك «مِنْ صِيامٍ» أقله ثلاثة أيام «أَوْ صَدَقَةٍ» أقلها إطعام عشرة مساكين كل واحد نصف صاع «أَوْ نُسُكٍ» ذبيحة أقله شاة، وأو هنا للتخيير فيفعل أيها شاء وهو الفدية التي يريدها الله تعالى وكل هدي أو إطعام يلزم المحرم فهو لمساكين الحرم إلا هدي المحصر فلأهل المحل الذي أحصر فيه على أحد القولين المتقدمين، روى البخاري، ومسلم عن كعب بن عجرة قال:
أتى عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر لي والقمل يتناثر على وجهي، فقال أيؤذيك هوام رأسك؟ قال قلت نعم يا رسول الله، قال فاحلق وصم ثلاثة(5/149)
أيام وأطعم ستة مساكين أو انسك نسيكة، لا أدري بأي ذلك بدأ. وفي رواية قال فيّ نزلت هذه الآية «فَإِذا أَمِنْتُمْ» من خوفكم وبرئتم من مرضكم وزال مانعكم من الإحصار الذي عاقكم «فَمَنْ تَمَتَّعَ» انتفع بالتقرب إلى الله تعالى «بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ» أي قبل انتفاعه بتقربه بالحج في أشهره أو من استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج مجددا.
وهذا حكم آخر لغير المحصور إذا أراد التمتع وهو الإحرام أولا بالعمرة، وبعد أن يكملها يتحلل ثم يحرم بالحج «فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» عليه أي شاة، ويسمى هذا الهدي هدي المتعة «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» هديا يذبحه لضيق ذات يده «فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ» عليه «فِي الْحَجِّ» في وقته وأشهره بين إحرام العمرة وإحرام الحج، والأحب أن يصوم السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة، وإن شاء فرقها، ولا يصح صوم يوم النحر ولا أيام التشريق «وَسَبْعَةٍ» أيام عليه أيضا «إِذا رَجَعْتُمْ» نفرتم وفرغتم من أعمال الحج. ولما كان النفر أو الفراغ سببا للرجوع أطلق الرجوع عليها على طريق إطلاق المسبب وإرادة السبب الخاص وهو النفر والفراغ، وله أن يصوما بعد الرجوع إلى أهله «تِلْكَ» الثلاثة أيام والسبعة «عَشَرَةٌ كامِلَةٌ» قائمة مقام الهدي الذي لزمكم ذبحه بسبب تحليلكم الإحرام بين العمرة والحج «ذلِكَ» الحكم الذي بيّن خاصّ «لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» لأن أهله وأهل مكة وما يشتمل عليها من المواقيت إذا تمتعوا أو قرنوا فلا هدي عليهم، لأنهم لا يجب عليهم الإحرام من الميقات كسائر أهل المدن الأخرى، لهذا فإن إقدامهم على التمتع لا يوجب خلال في حجهم، بل هذا على أهل الأرياف والبلاد الخارجة عن حدود الحرم «وَاتَّقُوا اللَّهَ» فيما يأمركم وينهاكم عنه في الحج وغيره «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ 196» على من تهاون بحدوده وخالف أوامره، ومن علم أنه كذلك صده علمه عن كل ما نهى الله عنه، وقد جاء لفظ الجلالة مع اكتفاء الإشارة إليه بالضمير لتقدم ذكره، لإدخال الروعة على من تحدثه نفسه بالمخالفة، ولتربية المهابة في قلب غيره، ولإلهاب قلوب الطائعين للإخلاص بطاعته. قال تعالى «الْحَجُّ(5/150)
أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ»
مبدؤها شوال وذو القعدة، ومنتهاها اليوم العاشر من ذي الحجة، وكماله الثالث عشر منه، وجمعت الأشهر، مع أن أقل الجمع ثلاث، وهنا شهران وبعض الثالث، لأن الشهر الذي أوله من أشهر الحج فآخره كذلك، لأن الحاج لا يرجع إلى أهله قبل نهايته غالبا لاشتغاله بالزيارة، أو لأن اسم الجمع يطلق على ما وراء الواحد، قال تعالى (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) الآية 5 من سورة التحريم الآتية، وقال تعالى (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الآية 46 من سورة النمل في ج 1 وفيهما ما يرشدك لمثله، على أن السفر سيكون بالطائرات المحدثة، وعليه قد يكون الحج والزيارة بأسبوع واحد، والله أعلم. وجاء في الآية الأولى (مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) أي الأهلة بلفظ عام، وهذه الآية بلفظ خاص، والخاص مقدم ومفسر له، وتفيد هذه الجملة أنه لا يجوز الإحرام بالحج إلا في أشهر المذكورة، لأن الإحرام بالعبادة قبل وقت الأداء لا يصح، فالخطبة في صلاة الجمعة لا تجوز قبل الوقت لأنها قائمة مقام الركعتين من الظهر حكما، فلأن لا يصح الإحرام وهو شروع في العبادة قبل وقته أولى، ولأن الإحرام لا يبقى صحيحا لأداء الحج إذا ذهب وقته، فلأن لا ينعقد قبل الوقت أولى، لأن البقاء أسهل من الابتداء، ولا يرد قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) هنا، لأن هذه الآية أخصّ منها، تدبر. واعلم أن الله تعالى فرض الحج على هذه الأمة دون غيرها واختلف في زمن فرضه والصحيح أنه سنة ست من الهجرة كما ذكره الطحاوي في حاشيته على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح.
مطلب في المحافظة على الأدب في الحج ولزوم التقوى فيه وجواز البيع والشراء في الموسم ودوام ذكر الله تعالى:
هذا، وما قاله تعالى «فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ» بأن ألزم نفسه به بالنية والإحرام لزمه الحج، أما إذا فرض على نفسه الحج في غيرها بأن نوى أو أحرم فلا يلزمه، لأنه في غير وقته، ومن ألزم نفسه الحج فيها «فَلا رَفَثَ» أي يجب عليه أن لا يرفث، وهو هنا كناية عن ذكر الجماع ودواعيه في محضر النساء «وَلا فُسُوقَ» أي خروج عن طاعة الله فيدخل النهى في هذه الكلمة عن جميع المعاصي(5/151)
«وَلا جِدالَ» مخاصمة مطلقة في قليل أو كثير بسبب وبلا سبب لإطلاق النهي عنها «فِي الْحَجِّ» في زمنه كله ومكانه جميعه، لأن الذنوب تضاعف هناك، كما أن الحسنات تضاعف أيضا لما ورد أن الصلاة في المسجد الحرام تعدل ألف صلاة.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه. «وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ» ويثيبكم عليه وفي هذه الجملة حث الحاج على عمل الخير وتحذير شديد من فعل الشر، وفيها إرشاد إلى البر والوفاق والآداب الحسنة والأخلاق العالية، وإيماء بملاطفة الغير ولين الجانب، وإشارة إلى اجتناب جميع ما يعد شيئا، والإقدام على سائر ما يعد حسنا ورمز عن التباعد عن كل ما لا يرضى الله به، وفعل ما رغّب فيه، بدلالة قوله «وَتَزَوَّدُوا» عباد الله من أعمال الخير والأفعال الصالحة ومن النفقة أيضا لإطعام المحتاجين والبائسين والتصدق على الفقراء والمساكين، واحذروا أن تقصروا في حمل النفقة لأنفسكم على الأقل بما يكفيكم لذهابكم وإيابكم لئلا تكونوا عالة على غيركم، لأن الله لم يكلّف غير المستطيع إلى زيارة حرمه، وكما يطلب التزود من الحاج في الزاد يطلب منه التزود في عمل الخير «فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى» عن كل محظور، ومنه التثقيل على الناس بالاستطعام وخير الزاد الموصل إلى العبادة في الدنيا والآخرة. وبعد أن حث جل شأنه على البر الشامل إثر تحذيره عن الشر العام أرشد عباده بأن يكون قصدهم بحجهم وعملهم ونفقتهم رضاه فقال «وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ» (179) خصهم بالذكر لأنهم يعلمون حقائق الأمور، قال الأعشى في هذا المعنى:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولا قيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله ... وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
وقال الآخر:
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ... ندمت على التفريط في زمن البذر
قال تعالى «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ» حرج ولا إثم أيها الحاج «أَنْ تَبْتَغُوا» بأن تتجروا فتبيعوا وتشتروا فتستفيدوا «فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ» رزقا(5/152)
وريحا في مواسم الحج، روى البخاري عن ابن عباس قال كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فلما كان الإسلام تأثموا أن يتجروا في المواسم كما كانوا قبلا فنزلت هذه الآية. الحكم الشرعي: تباع التجارة في موسم الحج إن لم تحدث نقصا في أعماله، والأولى تركها لغير المحتاج ليتجرّد للعبادة. فيا أيها المؤمنون إذا أحرمتم ودخلتم مكة شرفها الله وطفتم طواف القدوم وخرجتم إلى عرفات يقول الله تعالى لكم «فَإِذا أَفَضْتُمْ» دفعتم ونفرتم بعد إكمال وقوفكم «مِنْ عَرَفاتٍ» بأن وجدتم فيها في جزء من نهارها وجزء من ليلة العيد، لأن أول الوقوف من زوال الشمس يوم عرفة، وآخره طلوع الفجر من يوم النحر، ووقت الإفاضة من المزدلفة من بعد غروب شمس يوم عرفه إلى طلوع فجر يوم النحر، ويؤخر صلاد المغرب بسبب الازدحام وقت النفر ليجمعها مع صلاة العشاء بالمزدلفة، كما أنه يقدم عصر يوم عرفه فيصله مع ظهره بسبب الانشغال بالخطّ والترحال، ولا يجوز الجمع في غير هذين الوقتين في مذهب أبي حنيفة، إذ لم يثبت عنده في غيرهما، خلافا للإمام الشافعي إذ يجوز عنده لجمع تقديما وتأخيرا، مطلقا في السفر وفي الحضر لمرض أو لحاجة ماسة كالخوف والمطر، ولكل وجهة، روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال: دفع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب (بين مزدلفة وعرفات) نزل قبال ثم توضّأ (أي استنجى) ولم يسبغ الوضوء، فقلت الصلاة يا رسول الله، فقال الصلاة أمامك، ثم ركب، فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلّى المغرب ثم أناخ كلّ إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء، فصلّى ولم يصل بينهما شيئا. وجواب إذا الشرطية «فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ» في المزدلفة وهو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمى عرفة إلى وادي محسر، والمأزمان والوادي ليسا من المشعر الحرام، وسميت مزدلفة لأن الناس ينزلونها زلف الليل أي أوائله، وتسمى جمعا لأنهم يجمعون فيها المغرب والعشاء، وهذه التسمية الأخيرة بعد الإسلام إذ لا صلاة قبله تجمع فيه. والمأزمان هما المضيق بين جمع وعرفة، ويوجد مأزمان أيضا بين مكة ومنى، والمراد الأولان، وكل مضيق يطلق عليه مأزم. والمراد(5/153)
بذكر الله تعالى دوام الدعاء بالتلبية والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير. روى البخاري عن ابن عمرو بن ميمون قال: قال عمر كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع أي المزدلفة حتى تطلع الشمس، وكانوا يقولون أشرق بثير (جبل بمكة تشرق عليه الشمس فيرونها عليه من المزدلفة ويقولون بعده حتى نغير أن ندفع إلى النحر) فخالفهم النبي صلّى الله عليه وسلم فأفاض قبل طلوع الشمس. وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن أسامة بن زيد كان رديف النبي صلّى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، وكلاهما قال لم يزل النبي صلّى الله عليه وسلم يلبي حتى يرمي جمرة العقبة.
وروى جابر عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما صلّى الفجر بالمزدلفة بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام (وهو جبل يقف عليه الإمام ويسمى قزح) دعا فيه، كبر وهلل، ولم يزل واقفا حتى أسفر الفجر «وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ» لدينه الحق وشرعه الصدق ومناسك حجه، وأكثروا من الدعاء والتكبير والتهليل «وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ» قبل هدى الله لكم على يد رسوله «لَمِنَ الضَّالِّينَ» (981) عن طريق السداد تائهين في سبيل العناد، ثم ألمع إلى وجوب الوقوف بعرفات، فقال جل قوله «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ» من عرفات، وقد أشار إلى الوقوف بمزدلفة أيضا، إلا أنه ليس على طريق الوجوب وجيء بثم لتفاوت ما بين الإفاضتين، فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت:
كانت قريش ومن دان بدينها يقعون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس (لتشددهم في دينهم) وكانت سائر العرب يقفون بعرفة، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات فيقف فيها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى (ثُمَّ أَفِيضُوا) ، وروى البخاري ومسلم عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سئل أسامة بن زيد وأنا جالس كيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسير في حجة الوداع، قال كان يسير العنق (نوع من السير أشد من المشي) فإذا وجد فجوة (فرجة) نصّ أي أسرع في مشيه بأقصى وسع ناقته. وروى البخاري عن ابن عباس أنه دفع مع النبي صلّى الله عليه وسلم يوم عرفة فسمع النبي صلّى الله عليه وسلم وراءه زجرا شديدا وضربا للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع (السير السريع الشديد)(5/154)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
«وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ» من جميع ذنوبكم ومما خلاف الأولى أيضا «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لعباده «رَحِيمٌ 199» بهم يريد لهم الخير والنجاح في أمورهم كلها، وهذه بشارة من الله تعالى للحجاج بقبول حجهم وغفران ذنوبهم. قال تعالى «فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ» المارة كلها ورميتم جمرة العقبة وذبحتم نسككم واستقريتم في منى.
وصدر هذه الآية شرط جوابه «فَاذْكُرُوا اللَّهَ» بمثل ما تقدم عند التلبية فإنها تنتهي هناك، لأن الحاج لا يزال يلبي من حين يحرم حتى يذبح، ثم أرشدهم لأن يبالغوا في ذكره بقوله جل قوله «كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ» في الجاهلية «أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» من ذكرهم لأن الله أحق أن يكثر من ذكره، وكان الجاهليون يقفون في منى بين المسجد والجبل فيذكرون آباءهم ومفاخرهم ومآثرهم وفضائلهم ومحاسنهم وجميع مناقبهم كالكرم والشجاعة وإقراء الضيف ومحافظة الجار وسعة البيوت وكثرة العطاء نثرا وشعرا بما أوتوا من فصاحة وبلاغة، لرفع الصيت والشهرة وإظهار الرفعة بين الناس، فأمرهم الله تعالى في هذه الآية أن يبدلوا ذكر آبائهم بذكره، لأنه هو المنعم عليهم وعلى آبائهم، وهو أحق بالذكر والشكر من آبائهم.
«فَمِنَ النَّاسِ» الحجاج المشركين «مَنْ يَقُولُ» في ذلك الموقف «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا» زدنا من حطامها «وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ 200» حظ ولا نصيب لأنهم ينكرون وجودها، روى البخاري عن أبي هريرة قال:
قال صلّى الله عليه وسلم تعس (دعاء بالهلاك وهو الوقوع على الوجه من العثار) عبد الدنيا عبد الدرهم عبد الخميصة (ثوب فمن خزّ معلّم) إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس (وقع على رأسه وخاب وخسر) وإذا شيك (أصابته شوكة) فلا انتقش (لا أخرجت منه شوكة لأن الانتقاش إخراج الشوكة بالنقاش) .
«وَمِنْهُمْ» يعني الحجاج المؤمنين «مَنْ يَقُولُ» في دعائه «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» بأن تزيدنا من خيرها «وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً» بأن تزيدنا من ثوابها لعلمهم أنهم قادمون عليها «وَقِنا عَذابَ النَّارِ 201» في الآخرة لأنا موقنون بك وبرجوعنا إليها «أُولئِكَ» الطالبون خيري الدنيا والآخرة «لَهُمْ نَصِيبٌ» حظ وافر عظيم، لأن تنوين التنكير يدل على كبر ذلك النصيب «مِمَّا كَسَبُوا»(5/155)
فيها من الخير، لأن الدنيا مزرعة الآخرة، فكلما ربحوا في الدنيا من البرّ ضوعف لهم أجره في الآخرة «وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ 202» لا يعوقه محاسبة ناس عن أناس يحاسب الخلق كلهم بآن واحد محاسبة شخص واحد. وتشير هذه الآية إلى قرب الآخرة، لأن كل آت قريب، وكل ماض بعيد فبادروا أيها الناس بالأعمال الصالحة وأكثروا من الدعاء فإنكم محاسبون على أعمالكم، لأنه لا يخفى عليه شيء منها، وأن ما كان وما سيكون مدون في علمه، وأن حسابه كلمح البصر لا يحتاج إلى عقد يد أو جرّة قلم أو روية فكر، ولا يشغله شأن عن شأن، روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة. وروى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له هل كنت تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟ قال نعم. كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبحان الله لا تطيقه ولا تستطيعه، أفلا قلت اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قال فدعا الله به فشفاه. ورويا عنه أيضا قال: كان أكثر دعاء النبي صلّى الله عليه وسلم اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وقد قسم الله تعالى الناس في هاتين الآيتين إلى قسمين، فعليك أيها العاقل أن تكون من الثاني فقيه الخير أجمع. قال تعالى «وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ» أي يوم النحر وأيام التشريق الأربعة، وسميت بذلك لأن الأول تنحر فيه الذبائح والتي بعده يشرقون فيها لحومها وينشرونها على مواقع الشمس لتيبس. روى مسلم عن نبيشه الهذلي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر، ومن الذكر في هذه الأيام التكبير وروى البخاري عن ابن عمر أنه كان يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه وفي مجلسه وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا. وأجمع العلماء على أن المراد التكبير عند رمي الجمرات في منى بأن يكبر مع كل حصاة يرميها في أيام التشريق، وأجمعوا على أن التكبير في عيد الأضحى وأيام التشريق سنة أدبار الصلوات وأوله من صبح يوم عرفة إلى عصر اليوم الخامس، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك، ثم خيرهم الله تعالى بين التعجيل(5/156)
والتأخير إذا كان الغرض صحيحا بقوله عز قوله «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ» لأن الواجب أن يبيت الحاج في منى الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق فقط ليرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة عند كل جمرة سبع، وبعد الرمي في اليوم الثاني إذا أراد أن ينفر من منى «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» وهذا يسمى النفر الأول «وَمَنْ تَأَخَّرَ» إلى النفر الثاني فبات الليلة الثالثة من أيام التشريق في منى وأكمل الرمي فيه «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» ولا حرج، وإنما قال لا إثم عليه هنا مع أنه أكمل حالا من الصورة الأولى المرخص بها دفعا لما يخطر بباله أنه إذا لم يأخذ بالرخصة يأثم، فأزال الله تعالى تلك الشبهة بقوله (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) والذي تعجل لا إثم عليه لأنه أخذ بالرخصة، ومن يأخذ بالرخصة لا عتاب عليه لعدم أخذه بالعزيمة، لأن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وهذا التخيير وففي الإثم «لِمَنِ اتَّقى» الله في حجه، وإنما يتقبل الله من المتقين، أما من كان ملوّثا بالمعاصي حين اشتغاله بالحج فلا ينفعه حجه تعجّل أو تأخر، لأن تأديته ظاهرا لا تكفي عند الله. وقيل إن أهل الجاهلية منهم من يقول يأثم المتعجل، ومنهم من يقول يأثم المتأخر، فجاء فضل الله بنفي الإثم عن الفريقين، ولذلك قال لمن اتقى، لأن الجاهليين لا يتقون الله. ثم حثّ على التقوى فقال «وَاتَّقُوا اللَّهَ» في كل أقوالكم وأعمالكم وأحوالكم وأفعالكم قبل الحج وبعده لأنها الدليل الظاهر على قبول الأعمال، قالوا إن الحاج إذا لم تحسن حالته الدينية ومعاملته مع أهله والناس أجمعين بعد حجه فهو دليل على عدم قبوله حفظنا الله من ذلك، وحسن أحوالنا الظاهرة والباطنة. ثم هددهم بقوله جل قوله «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ 203» حتما فيجازيكم على أعمالكم كلها حتى نياتكم لأن من علم أنه يبعث ويعاقب ويحاسب ويثاب لا بد أن يلازم التقوى التي أكدها الله تعالى بعد ذكرها مرتين. قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» لأنه يظهر لهم من المودة والصدق خلاف ما يبطن من البغض والكيد والكذب نفاقا «وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ» من قوله للرسول وأصحابه أنه مؤمن يحب المؤمنين «وَهُوَ» والحال أنه «أَلَدُّ الْخِصامِ 204»(5/157)
لهم في الباطل شديد المجادلة في النفاق. روى البخاري ومسلم عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم «وَإِذا تَوَلَّى» هذا الصنف من المنافقين وأعرض عنك وعن أصحابك يا سيد الرسل ورأى نفسه بحالة لم يشاهده فيها أحد من المؤمنين «سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها» يقطع الطريق ويسلب المارة ويشهد الزور ويحرض على المؤمنين «وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ» بالتسبب إلى إتلافه «وَالنَّسْلَ» بالقتل والتعطيل «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ 205» ولا يرضى به، وفي هذه الجملة إشارة إلى شدة عداوة هذا الصنف من المنافقين إلى المؤمنين وإلى الدين الحق وإيذان في كذبه في دعواه تلك، وقد استنبط بعض العلماء ومنهم الحنابلة من هذه الآية لزوم التحقيق على من يتولى القضاء والشهادة، وأن لا يغر بظاهر حالهما فلعلهما من هذا الصنف. واعلم أنه لا يقال من هنا إن المحبة هي
الإرادة، لأن الإرادة غير المحبة، لأن الإنسان قد يريد الشيء ولا يحبه، بدليل تناول الدواء المر لا عن محبة له ولا رغبة فيه، وعليه فلا دليل في هذه الآية لمن ادعى أن المحبه عين الإرادة، تدبر. قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُ» لذلك النوع من الناس على نهج العظة والنصيحة «اتَّقِ اللَّهَ» واترك ما أنت عليه من هذه الحال الخبيثة والعادة القبيحة «أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ» حملته المنعة والأنفة والتكبر والحمية الجاهلية والأنانية النفسية والعجب والتيه «بِالْإِثْمِ» على دوام فعله والزيادة منه لجاجا وعنادا وعتوا، ولم يلتفت إلى النهي الموجه إليه «فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ 206» الفرش، قال ابن مسعود: إن من أكبر الذنوب عند الله تعالى أن يقال للعبد اتق الله فيقول عليك بنفسك، وقيل لعمر اتق الله فوضع خده على الأرض تواضعا لله تعالى. وسبب نزول هذه الآية أن الأخنس بن شريق خليف بني زهرة، وسمي الأخنس لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال الكفرة مع حضرة الرسول وأشار عليهم بالرجوع قائلا لهم إن محمدا ابن أختكم فإن يك كاذبا كفاكموه الناس، وإن يك صادقا كنتم أسعد الناس بعد فقالوا نعم ما رأيت، وكان يظهر إلى الرسول المحبة ويبطن البغض وهو لين الكلام منافق قاسي القلب. وقد ذكرنا في الآية 198 المارة أن حادثة بدر وقعت في(5/158)
17 رمضان السنة الثانية من الهجرة إلا أن الله تعالى لم يشر إليها عند وقوعها، وإنما أشار إليها في سورة الأنفال عند قوله تعالى (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) في الآية 5 منها وسنأتي على القصة هناك إن شاء الله، وهكذا فإنه تعالى تارة ينوه بالشيء قبل وقوعه وطورا عند حدوثه ومرة بعد وقوعه بقليل وأخرى بكثير.
قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ» يبيعها «ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» لا لشيء آخر بل ليستجلب لها رضاء الله ورأفته «وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ 207» أمثال هؤلاء، وهذه الجملة تقرير لما تقدم لأنه كلفهم بالتقوى وعرضهم للثواب ليصب رحمته عليهم، وقد ذكرنا فى الآية 143 المارة أن الرأفة رحمة خاصة يلطف بها على خواص عباده عطفاء عليهم.
مطلب مقتل زيد بن الدثنة وخبيب الأنصاري وإظهار حبهم لحضرة الرسول والصلاة عند القتل وقصة صهيب:
وسبب نزول هذه الآية أن كفار قريش طلبوا من حضرة الرسول أن يبعث لهم من أصحابه من يعلمهم أمر دينهم بحجة أنهم أسلموا، فبعث لهم خبيب بن عدي الأنصاري وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق ومرشد بن أبي مرشد الغنوي وخالد ابن بكر وعبيد الله بن طارق بن شهاب البلوي وثلاثة آخرين لم نتصل بأسمائهم، وأمرّ عليهم عاصم بن ثابت جد عاصم بن عمر بن الخطاب حتى صاروا في الفدفد (موضع بين عسفان ومكة وهو الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع) فتبعهم جماعة من بني لحيان بن هذيل، فلما أدركوهم أعطوهم العهد، ثم نكثوا بهم فقتلوهم إلا خبيبا وزيدا فقد أوصلوهما إلى مكة، فباعوا خبيبا إلى بني الحارث بن عامر ابن نوفل لأنه كان قتل أباهم الحارث في حادثة بدر، وباعوا زيد بن الدثنة إلى صفوان بن أمية بن خلف ليقتله بأبيه أيضا، فأرسله مع مولاه إلى التنعيم ليقتله في الحل واجتمع حوله رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فقال له عند ما قدموه إلى القتل أنشدك الله أتحب أن محمدا عندنا الآن هنا بمكانك وأنت في أهلك فقال والله ما أحب أن يصيب محمدا شوكة وهو في مكانه والذي هو فيه وأنا جالس في أهلي، فقال أبو سفيان ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب محمد من أصحابه،(5/159)
ثم قتله فسطاط مولى صفوان المذكور، ولما قدم خبيب إلى الصلب استأذن فصلّى ركعتين قبل قتله وقال لولا أنكم تظنون أني جزعت من الموت لزدت في صلاتي، ثم قتله عقبة بن الحارث بيده، وهو أول من سن الصلاة عند القتل، وقال قبل قتله: اللهم لا أجد من يبلغ سلامي لرسولك فأبلغه سلامي، ثم قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شقّ كان في الله مضجعي
وفي رواية: مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزّع
أي مفرّق، والشلو العضو من الإنسان، قالت بنت الحارث: لما كان خبيبا موثقا في البيت استعار مني موسى ليستحد به (يزيل شعر عانته لئلا يعيروه بعد صلبه وكانت هذه عادة عندهم فكل من يعرف أنه يقتل صلبا يفعل ذلك) قالت فدرج إليه غلامي فوضعه على فخذه، ففزعت، فقال أتخشين أن أقتله لأني مقتول، لا إن شاء الله، فصارت تقول ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب، ولقد رأيته يأكل من قطف وما بمكة يومئذ تمرة، وما هو إلّا رزق ساقه الله إليه. وهذا من نوع الكرامة التي أكرم الله بها مريم بنت عمران رضي الله عنهما، ولما بلغ محمدا صلّى الله عليه وسلم ذلك قال لأصحابه: أيكم ينزل خبيبا من خشبته وله الجنة؟ وذلك أنهم بعد أن قتلوه صلبوه تشهيرا، وكان ذلك من عادتهم، ولهذا فإن الحجاج لما قتل ابن الزبير صلبه وأبقاه حتى جاءت أمه وقالت أما آن لهذا الفارس أن يترجّل؟
لأن الحجاج عليه ما يستحق حلف لا ينزله من المصلبة حتى تشفع فيه أمه، وقد أبت أن تشفع به أو ترجو إنزاله، ولما نقل إليه قولها هذا قال أنزلوه فإن قولها ذلك بمنزلة الاستشفاع به. فقال الزبير بن العوام أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود فطفقا يمشيان الليل ويركنان النهار حتى أتيا التنعيم ليلا فرأيا خبيبا معلقا وحوله أربعون من المشركين نيام سكارى، فأنزلاه، فإذا هو رطب يتثنى ويده على جراحته لم يتغير، فحمله الزبير على فرسه تنفّس جراحته دما كريح المسك، وسارا به نحو المدينة، فلما حس المشركون ولم يروه أخبروا قريشا، فلحق بهما سبعون فارسا فقذفه الزبير عن فرسه والتفت إليهم، فقال ما بالكم أنا الزبير بن صفية بنت(5/160)
عبد المطلب، وهذا المقداد بن الأسود أسدان ضاريان يدفعان عن أشبالهما، فإن شئتم ناضلناكم، وإن شئتم نازلناكم، وإن شئتم انصرفتم، فنظروا فلم يجدوا معهم خبيبا، فرجعوا ثم إنهما تحريا جثة خبيب فلم يجداها، فسمي البليع أي الذي ابتلعته الأرض، وقدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبراه، قالا وكان عنده جبريل يقول له يا محمد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك، وأنزل الله فيهما هذه الآية لأنهما باعا أنفسهما في طاعة رسول الله طلبا لرضاء الله، والحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة لا يختلف في المعنى عن هذا، غير أن المذكورين كان أرسلهما رسول الله عينا في سرّية الربيع بعد وقعة أحد، ثم ساق القصة بأطول من هذا وقال بعض المفسرين إنها نزلت في صهيب بن سنان بن النمر بن قاسط الرومي وسبب نسبته للروم مع أنه عربي الأصل أن منازلهم كانت بأرض الموصل فأغارتهم الروم وسبوه فيمن سبوا فنشأ عندهم وبعد أن كبر لحق بمكة، حينما هاجر من مكة وتبعه المشركون ليردّوه، فقال والله لن تصلوا إلي إلا أن أرمي بكل سهم معي رجلا ثم أضرب بسيفي ما بقي بيدي، وإن شئتم دللتكم على مال لي دفنته في مكة تأخذونه وتخلون سبيلي، فرضوا منه ودلهم على موضع المال، فرجعوا عنه، ولما وصل إلى المدينة أخبر حضرة الرسول بهذا فنزلت، وكناه صلّى الله عليه وسلم بأبي يحيى، إذ قال له ويح أبي يحيى. وكل من هذه القصص صالحة لأن تكون سببا للنزول، وأصحها أولها، ويليها الأخيرة، والله أعلم، لأن الآية عامة في كل من يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلّب، وكل من يأمر بمعروف وينهى عن المنكر فيعذب أو يهان من أجله، وكل من يبذل نفسه في طاعة الله ورسوله ويجهدها في العبادة. أخرج الترمذي عن أبي سعد قال: قال صلّى الله عليه وسلم من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر. لأن العادل يحب أن ينصح ويأخذ بالنصيحة ولا تهابه الناس أن ترشده، أما الجائر فإنه يخاف منه ولا يحرؤ أحد على نصحه، لذلك أخبر حضرة الرسول بعظيم ثواب من يقدم على نصحه، لأنه من قبيل الجهاد لما فيه من تعريض النفس للبلاء. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً» السلم بفتح السين وكسرها الاستسلام التام والطاعة العامة، أي ادخلوا(5/161)
أيها المسلمون الموقنون في شعب الإيمان كلها ولا تخلوا بشيء من أحكامه، وهذا كالتحذير من عدم القيام بما تقدم من أحكام الإسلام وتأكيدا لأمرهم بالتقوى فيها.
ومن قال إن الخطاب فيها لكفار أهل الكتاب أو المنافقين يبعده تصوير الخطاب بتسميتهم مؤمنين.
مطلب لا يصح نزول الآية في عبد الله بن سلام وبحث قيم في آيات الصفات وأن المزين في الحقيقة هو الله تعالى:
وكذلك ما قيل إنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه الذين أقاموا بعد إسلامهم على تعظيم البيت وكراهة لحوم الإبل وألبانها وقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إن هذا مباح في الإسلام وواجب في التوراة، وطلبوا أن يقيموا صلاتهم ليلا وانها إعلام بإبطال حكم التوراة وأمر بإقامة شرائع الإسلام كافة، لأن عبد الله لم يسلم بعد ولو فرض إسلامه ففيه من الطعن ما فيه، وهو رضي الله عنه براء من ذلك والآية عامة مطلقة لم تخصص ولم تقيد مبنى ولا معنى كما هو ظاهر من سياقها وسياق ما قبلها، وعليه فتكون مخاطبا بها كل مؤمن بأن يعمل بجميع أحكام الإسلام وشرائعه، ويؤيد هذا قوله تعالى «وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» ووساوسه ودسائسه لأنه يوقعكم في الخطأ فيحن لكم ما هو قبيح في الإسلام ويقبح لكم ما هو حسن، لأن كل إخلال بشيء مما تقدم يكون في متابعة الشيطان «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ 208 ظاهر العداوة يزين لكم المعاصي ويلقي عليكم الشبهات ليؤثمكم وينتقم منكم بسائق عداوته مع أبيكم آدم عليه السلام، ثم هددهم وأوعدهم على الإخلال بما وصاهم بعد أن نصحهم وحذرهم من المخالفة بقوله عز قوله «فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ» الواضحات المفصلات للأحكام والحدود «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» غالب لا يعجزه شيء «حَكِيمٌ 209» لا ينتقم إلا بحق وإلا بعد إقامة البراهين على المجرمين ممن كان في قلبه شك أو شبهة في شيء مما جاءهم فما ينتظرون بعد تلك الدلائل الناصعة الباهرة «هَلْ يَنْظُرُونَ» هؤلاء الذين لم يؤمنوا المصرون على متابعة خطوات الشياطين «إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ» السحاب الأبيض الرقيق وسمي(5/162)
غماما لأنه يغم ويستر ما فوقه وما تحته «وَالْمَلائِكَةُ» بالرفع عطف على لفظة الجلالة، وقيل بالجر عطف على الغمام، وهذا على حد قوله (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) الآية 22 من سورة الفجر في ج 1، ولا يكون هذا إلا في يوم القيامة، أي ما ينظرون هؤلاء بعد ما قدمناه لهم من الهدى والإرشاد والآيات المخوّفات إلا ذلك اليوم بأن يموتوا وينقضي أجل برزخهم فيبعثوا ويحاسبوا على أعمالهم «وَقُضِيَ الْأَمْرُ» بفصل القضاء وبيان أهل الجنة من أهل النار يوم يقول الله تعالى (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية 60 من سورة يس في ج 1، «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ 210» لا إلى غيره فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار، وهذه الآية من آيات الصفات المنوه بها في الآية 158 من سورة الأنعام في ج 2، وإن مذهب السلف من أعلام السنه كالكلبي وسفيان بن عيينة والزهري والأوزاعي وسفيان الثوري وإسحق بن راهويه وابن المبارك والليث بن سعد ومالك وأحمد بن حنبل وجوب الإيمان بها على ظاهرها والتسليم لما جاء بها دون تأويل أو تفسير، وأن يوكل علمها الحقيقي إلى الله ورسوله مع الاعتقاد بأن الله تعالى منزه عن سمات الحدوث من حركة أو سكون، وأن تقرأ على ما هي عليه، وبه قال أبو حنيفة مع نفي التشبيه والكيف، وقال قائلهم في معنى هذه الآيات:
عقيدتنا أن ليس مثل صفاته ... ولا ذاته شيء عقيدة صائب
فسلم آيات الصّفات بأثرها ... وأخبارها للظاهر المتقارب
ونؤيس عنها كنه فهم عقولنا ... وتأويلنا فعل اللبيب المغالب
ونركب للتسليم سفنا فإنها ... لتسليم دين المرء خير المراكب
وإن مذهب الخلف الذي ذهب إليه جمهور العلماء المتأخرين والمتكلمين وأصحاب النظر على تأويلها وتفسيرها بما يناسب المقام، لأن الله تعالى منزه عن الذهاب والإياب والمجيء والإتيان، وأن تكون له يد أو رجل أو وجه وغيرها مما يوافق سمات خلقه وصفات الحدوث، لأنها لا تنفك عن الحركة والسكون المستحيلة عليه، وهو المبرأ عنها، ولهذا جنحوا إلى تأويل اليد بالقوة والرحمة مثلا، والمجيء والإتيان نسبوه لملائكته وعلمه لاعتقادهم أن المراد بها غير ظاهرها، ويستدلون بما يناسب(5/163)
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
هذا كقوله تعالىَ لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)
الآية 34 من سورة النحل في ج 2، لأن فيها تفصيلا مفسرا لما أجمل في الآية المفسرة هذه، والقرآن يفسر بعضه بعضا، ويقولون إن في مثل هذه الآيات حذفا، أي يأتيهم الله بما أوعدهم من العقاب على ما اقترفوه من الذنوب، وما وعد به من الثواب على ما قدموه من الخير، وسبب الحذف زيادة التهويل وبلاغته في الكلام زيادة في فصاحته، إذ لو ذكر لكان أسهل في باب الوعيد. وقال بعض المفسرين إن (فِي) هنا بمعنى الباء أي بظلل من الغمام، ويراد بالغمام العذاب، لأن الغمام مظنة الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان أعظم دهشة وأشد وقعا وأنفع في العظة وأنفع في القلب، وفي هذا ما لا يخفى من التكلّف، ومذهب السلف أسلم، والله أعلم.
وكما يقال في الآيات يقال في الأحاديث أيضا، راجع الآيتين المذكورتين من الأنعام والنحل في ج 2.
قال تعالى «سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ» الموجودين معك يا سيد الرسل في المدينة وغيرهم «كَمْ آتَيْناهُمْ» أي آتينا أسلافهم «مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ» على صدق رسالة موسى عليه السلام فأنكروها وبدلوها «وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ» آياته التي أنعم بها على عباده، وسميت الآيات نعما لأنها من أعظمها «مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ» فلم يعمل بها ولم ينته عن غيه «فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ 211» عليه يعذبه بما لا تطيقه قواه، وجاء اللفظ الكريم بالإظهار مع أن موقعه الإضمار بسبب تقدم ذكره لتربية الهيبة وإدخال الروعة في قلوب المتجاسرين على التبديل، لأن الآيات بعد أن وصلت إليهم وعرفوها بدلوها إذ لا يتصور التبديل قبل المجيء ثم ألمع إلى سبب إقدامهم عليه بقوله عز قوله «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا» فاغتروا بها ولهوا بزخارفها «وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا» لفقرهم وقلة ذات يدهم من حطامها وليس لديهم إلا تقوى الله «وَالَّذِينَ اتَّقَوْا» الشرك والكفر واجتنبوا المعاصي والمناهي وآمنوا بالله ورسوله وكتابه «فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» لأنهم يكونون في عليين وأولئك في سجين «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ 212» رزقا كثيرا لا يحصى، باق لا ينفد ولا ينقص، لأن كل ما يدخل تحت الحساب قليل نافد، وخزائن(5/164)
الله تعالى لا تنفد، ولا يقال لم أعطى هذا ومنع هذا، لأنه لا يسأل عما يفعل، وأفعاله لا تعلل. واعلم أنه لا يوجد في القرآن غير ثلاث آيات مبدوءة بحرف الزاي:
هذه والآية 13 من آل عمران الآتية والآية 7 من سورة التغابن الآتية أيضا، وقد نزلت هذه الآية والتي قبلها في المنافقين ورؤساء اليهود الذين يكتمون آيات الله لقاء ما يأخذونه من مال الدنيا الفاني، وفي أبي جهل وأضرابه الذين ينكرون البعث ويكذبون آيات الله ويتنعمون بما بسط لهم من نعيم الدنيا، وفي الحقيقة أن الله تعالى هو الذي زين لهم ذلك كما ألمعنا إليه في مواضع كثيرة، ويؤيد قراءة زين بالمعلوم أي بما أظهره لهم من زهرة الدنيا ابتلاء وامتحانا لهم، وبما ركب في أطباعهم من الميل والحب والرغبة إلى المجرمات، أي أن هذه الدنيا حسنت لهم الحياة فيها وتشربوا في محبتها حتى تغلغلت في قلوبهم، ولكن لا على سبيل الإلجاء والقسر بل على سبيل التحبب للنفس مع إمكان ردها، ولكن الناس نظروا إلى الدنيا بأكثر من قدرها فأعجبهم حسنها ففتنوا بها وعكفوا على الإقبال إليها والانهماك فيها، فرموا بكليتهم عليها، وأن الله تعالى زاد في إمالهم وكثر عليهم نعمه ومتعهم بالصحة والمال والجاه لعلهم يرجعون فلم ينجع بهم، وكان هذا من جملة التزيين للدنيا في أعينهم وقلوبهم. وقيل إن المزين لهم شياطين الإنس والجن الغواة الذين يحببون لهم الدنيا وما فيها من المحرمات حتى تهالكوا عليها وتفانوا فيها ويغفلونهم عن ذكر الآخرة والاعتراف بوجودها، ويقولون لهم إن القول بذلك حديث خرافة لينصرفوا إليها الضمير يعود للدنيا ويضمحلوا في حبها، ولكنه من الضعف بمكان، لأن غواة الإنس والجن والشياطين داخلون في هذا التزيين، وكلهم مزيّين لهم، والمزين لا بد وأن يكون مغايرا للمزين له. روى البخاري ومسلم عن حارثة بن وهب أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ألا أخبركم بأهل الجنة:
كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل عتل (فظ غليظ شديد لا ينقاد إلى الخير) جواظ (فاجر محتال قصير بطين) جغطريّ (متمدّح بما ليس فيه) مستكبر. ورويا عن أسامة بن زيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال:
قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين وأصحاب الجد (الحظ والغنى)(5/165)
محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار فإذا عامة من دخلها النساء.
ثم أعذر الله تعالى إليهم في إخلالهم بالأحكام فقال «كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً» متفقة على دين واحد زمن آدم عليه السلام، ولم يزل هو وذريته مسلمين لله حتى قتل قابيل هابيل فاختلفوا، ثم استمروا على شريعة واحدة شريعة شيث عليه السلام، ثم على شريعة إدريس إلى مبعث نوح عليه السلام، ثم اختلفوا فأقام نوحا ومن معه في السّفينة على دينه الحق وأهلك الآخرين، وهو أول رسول بعث لمن نجى معه من الغرق بعد الطوفان، ولهذا سمي أبا البشر الثاني.
مطلب الأنبياء والرسل المتفق عليهم والمختلف فيهم ورسالتهم وعددهم وعدد الكتب المنزلة عليهم:
ثم اختلفوا بعد وفاته «فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ» بعده لذرّيته «مُبَشِّرِينَ» المتقين برضوان الله «وَمُنْذِرِينَ» العاصين بسخطه إذا استمروا على طغيانهم، وقد جاء في الحديث: لا أحد أحب إليه العذر من الله. ولهذا أنزل الكتاب وأرسل الرسل، وجميع الأنبياء على ما قيل مئة ألف وأربعة وعشرون ألفا، منهم الرسل ثلاثمائة وثلاثة أو أربعة عشر، جاء في القرآن العظيم ذكر خمسة وعشرين منهم المتفق على نبوتهم وهم: آدم إدريس نوح هود صالح شعيب إبراهيم إسحق يعقوب إسماعيل يوسف أيوب يونس موسى هرون لوط داود سليمان الياس اليسع ذو الكفل- على القول بأنه غير الياس وهو الصحيح راجع الآية 130 من الصافات ج 2- وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. أما عزير وذو القرنين فمختلف في نبوتهم، راجع الآية 177 المارة والآية 82 من الأنعام والآية 83 من سورة الكهف في ج 2، ولبحثهم صلة في الآية 163 من النساء الآتية. والنبي هو من أمره الله تعالى بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول من أمر بتبليغه.
ومنهم من أرسل إلى أهل بيته خاصة، ومنهم إلى عشيرته، ومنهم إلى قومه، ولا رسالة عامة لجميع من على وجه الأرض من مبدئها لآخرها إلا لمحمد صلّى الله عليه وسلم، كما أن شفاعته عامة، لأنه خص بما لم يخص به غيره من إخوانه كما مرّ في الآية 79 من سورة الإسراء ج 1، وقد ذكرنا في الآية 26 من سورة هود في ج 2 أن(5/166)
رسالة نوح عليه السلام مبدأها خاص وآخرها عام، فراجعها. «وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ» يشمل الكتب المنزلة كلها لأن ال فيه للجنس وهي مئة وأربعة عشر فقط، أنزل منها على آدم عشرة، وعلى شبث ثلاثين، وعلى إدريس خمسين، وعلى إبراهيم عشرة، وعلى موسى عشر صحف والتوراة والزبور على داود، والإنجيل على عيسى، والقرآن على محمد صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين. وذكرنا في الآية 184 المارة أنها كلها نزلت في رمضان إنزالا ملابسا «بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ» كل نبي بكتابه المنزل عليه بالعدل «بَيْنَ النَّاسِ» حسما لمادة الخلاف ليعملوا فيها هم أيضا من بعده «فِيمَا اخْتَلَفُوا» أي الناس المذكورين في صدر الآية «فِيهِ» من الحقوق الجارية بينهم «وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ» في نفس الكتاب الذي يجب أن يتحاكموا إلى نصوصه فيما يقع بينهم من الخصومات «إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ» كاليهود والنصارى الذين في زمانك يا سيد الرسل، مع أنهم أهل لأن يتفقوا على أحكام كتبهم ولكنهم يا للأسف كفّر بعضهم بعضا، وتواطئوا على إنكار ما في كتبهم مما هو موافق لشريعتك وما هو مظهر نعتك وصفة كتابك وموجب للإيمان بك، ولم يزل الخلاف بينهم «مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ» المزيلة لهذا الاختلاف «بَغْياً بَيْنَهُمْ» وحسدا إذ لا عذر لهم في العدول عنك وعما جئت به لا حب بقاء الرياسة والحصول على حطام الدنيا «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» من أصحابك وأمتك «لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ» الذي هو رسالتك، واختلفوا في الجمعة فهداك الله وأمتك إليها، واختلفوا في الصيام وفي القبلة فهداكم إليهما، واختلفوا في إبراهيم وفي عيسى فهداكم الله للإيمان بهما كغيرهما من الأنبياء.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه بعدهم، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله إليه، فغد لليهود، وبعد غد للنصارى. وفي رواية سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له. زاد النسائي:
يعني يوم الجمعة (ثم اتفقا) فالناس لنا تبع اليهود غد والنصارى بعد غد. وروى(5/167)
مسلم عن حذيفة ما بمعناه «بِإِذْنِهِ» أمره وإرادته وفاقا لما هو في سابق علمه «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 213» ومن يشاء إلى الطريق المعوج لسابق شقائه أيضا. قال تعالى «أَمْ حَسِبْتُمْ» أيها الناس «أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ» بمجرد إيمانكم أو إسلامكم «وَلَمَّا يَأْتِكُمْ» يصيبكم بلاء ومشقة «مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ» من المحن والإحن والامتحان والاختبار إذ «مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ» وذاقوا من الفقر والفاقة والزمانة والخوف «وَزُلْزِلُوا» أزعجوا في حياتهم إزعاجا شديدا يشبه في عظمته الزلازل في الهول وبقوا على اضطرارهم «حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ» أي لم يبق لهم صبر مع أنهم أثبت الناس على الأهوال، حتى إذا استبطؤا نصر الله لهم حثّوا قومهم على الصبر وصرحوا لهم بأن الإيمان وحده وإن كان كافيا لدخول الجنة إلا أنه لا يكفي لإعلاء كلمة الله وقهر أعدائه ما لم ينضم إليه بذل النفس والنفيس في سبيل الله، وذلك لشدة الضيق وكثرة دواعي الضنك، وهؤلاء الممتحنون إذا أخلصوا لله تعالى يجابون فيقول لهم الله «أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ 214» فياتيهم ما وعدهم به حالا، لأن الأمر بلغ معهم غاية ما وراءها غاية في الشدة والضنك، قال تعالى (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) الآية 111 من سورة يوسف في ج 2، فكونوا أنتم أيها المؤمنون مثلهم واستنصروا ربكم حالة كربكم، فإنه لا بد أن يأخذ بيدكم وينصركم بمقتضى عهده إليكم وهو لا يخلف الميعاد (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) الآية 112 من التوبة الآتية، قال المفسرون رحمهم الله لما هاجر الرسول صلّى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة اشتدت فاقتهم لأنهم تركوا أموالهم في مكة واستولى عليها المشركون، وأظهرت اليهود العداوة لحضرة الرسول وأصحابه وآثر قوم من أهل المدينة النفاق على الإيمان، وأثّرت عليهم غزوة أحد التي وقعت قبل نزول هذه الآية في السنة الثالثة التي أشار الله تعالى إليها بقوله (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الآية 139 من آل عمران الآتية، وسنذكر القصة هناك إن شاء الله.
فأنزل الله تعالى هذه الآية تطيببا لقلوبهم وتسلية لما وقر في صدورهم. روى البخاري(5/168)
ومسلم عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا ألا تنتصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون. فاعتبروا أيها المؤمنون في هذا العصر كيف كان أسلافكم وكيف أعقب صبرهم الظفر، فهل لكم أن تتحملوا الأذى والمشقة الآن ولا تجبنوا ولا تيأسوا لتنالوا حقكم المغصوب، فهمّوا وجدوا وجاهدوا في القول والفعل والمال والنفس، ولا تستبطئوا نصر الله فإنه قريب منكم إذا اتقيتم وتوكلتم وآمنتم بما وعدكم ربكم من العز والظفر.
مطلب في الإنفاق والجهاد وفوائدهما وما يترتب على القعود عنهما من البلاء:
هذا، وبعد أن ذكر الله تعالى أحكام القصاص والوصية والصيام والحج والجهاد، وحذّر من الإخلال بشيء منها وحظر من اتباع وساوس الشيطان الذي يريد بكم الانتقام بسبب ما حل به من المخالفة لأمر الله لعدم سجوده لأبيكم آدم عليه السلام شرع يبين أحكام الإنفاق فقال تعالى قوله «يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ» لما فرض الله تعالى الزكاة على عباده فرضت مطلقة لم تقدر بقدر، ولذلك سألوا حضرة الرسول عن القدر الذي يجب عليهم إنفاقه من أموالهم والصنف الذي يجب أن ينفقوا منه من أموالهم هل هو عن النقد فقط أو يشمل الأنعام والحبوب، وكان أول من سأل على ما قيل عمر بن الجموح وكان متمولا وطاعنا في السن، فأنزل الله هذه الآية جوابا للغاية التي هي مصرف المال، ولم يكن الجواب بالسبب الذي هو القدر المنفق أو النوع المنفق منه كما تقدم في قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) الآية 190 المارة، قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين وغيرهم من ذوي الأموال «ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ» هذا وإن كان يطلق على المال الكثير كما مرّ في الآية 180، إلا أنه هنا تعظيما للصدقة يطلق على مطلق المال قليلا كان أو كثيرا، من أي نوع كان «فَلِلْوالِدَيْنِ» أولا إذا كانا محتاجين أداء لواجب حقهما عليكم(5/169)
لأنهما السبب الظاهري في وجودكم «وَالْأَقْرَبِينَ» منكم بعدهما لأنهم أولى بمعروفكم من غيرهم «وَالْيَتامى» الأولاد القاصرين ذكورا أو إناثا إذا لم يكن لهم مال متروك من أبيهم لعدم قدرتهم على الكسب وعدم وجود من يقوم بنفقتهم فهم بعد الأقربين أولى من غيرهم راجع الآية 177 المارة «وَالْمَساكِينِ» الذين لا يكفيهم كسبهم فهم أرجح من غيرهم «وَابْنِ السَّبِيلِ» أي الغريب المنقطع عن بلاده لفراغ ذات يده ولا يستطيع الاستدانة لعدم الوثوق به وإنما ذكر الله تعالى هؤلاء وخصهم بالنفقة لأن الإنسان لا يقدر أن يقوم بمصالح الفقراء كافة فعلمه أنه إذا لم يستطع أن يبذل الغني من ماله للكل فيقتصر على الأقرب والأولى والأحوج بترتيب بديع، وإذا كان عنده ما ينفق على غيرهم فيقول الله تعالى له «وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ» تطيب به أنفسكم طلبا لمرضاة الله لغير هؤلاء «فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ 215» لا يخفى عليه ما تنفقونه وسيدخر لكم ثوابه ويجازيكم عليه ويزيدكم من فضله. وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة قيل لا يلتفت إليه، إذ ليس في الآية ما ينافيه فرض الزكاة حتى ينسخ به، ولأن الله تعالى ذكر في هذه الآية متى تجب عليه النفقة أي من تلزمه نفقته من الوالدين والأقربين ومن هم أولى بالصدقة من غيرهم. قال الشافعي رحمه الله:
إن الصنيعة لا تعد صنيعة ... حتى يصاب بها طريق المصنع
قال تعالى «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ» من تصور الطبع لما فيه من مؤنة المال ومشقة النفس وخطر الموت، إلا أن من عرف ما أعده الله تعالى للمجاهدين من الفضل والكرامة والذكر الحسن هان عليه كل ذلك، ولا سيما إذا وعى قوله تعالى (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) الآية 170 من آل عمران الآتية، وعرف مغزى قوله جل قوله (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ) الآية 95 من سورة النساء، تأمل مرمى قوله عز قوله (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ) الآية 122 من سورة التوبة الآتية أيضا فضلا عن أنه إنما يكون فرضا على الأمة لإعلاء كلمة الله ونصرة رسوله وحفظ الأوطان وصيانة النفوس والأعراض، وإذلالا لأعداء الله ورسوله أعداء الإسلام، ولهذا يقول الله تعالى «وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا(5/170)
شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ»
كالجهاد، لأن فيه إحدى الحسنيين الظفر والغنيمة أو الشهادة والجنة، ويدخل في معنى هذه الآية الجليلة كل ما كان شاقا في الحال نافعا في المآل كشرب الدواء مثلا فإن النفس تكرهه، وإنما تقدم عليه لما تتوخاه فيه من حصول الشفاء وتمام العافية، وكذلك العبادات كالصوم والحج فإن النفس قد تكرههما مع أنه في عاقبتهما الخير والرضاء وكذلك سائر العبادات، لأن لفظ (شَيْئاً) في الآية يشمل كل ما تكرهه النفس، لأنه نكرة والنكرة تعم «وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ» كترك الجهاد وسائر العبادات والإنفاق والتخلف عن الغزو، لأن العدو إذا رآكم جبنتم ومللتم وجنحتم إلى الكسل وملتم إلى الراحة، تحداكم وغزاكم في عقر داركم ونال من بلادكم وأموالكم وأعراضكم، وسيطر عليكم فأذلكم وأهانكم، وإذا علم صلابتكم وثباتكم ودوام مهاجمتكم عليه ورآى حزمكم وحبكم للموت في سبيل شرفكم جبن وكف عنكم، ووقع في قلبه الخوف، فيدين لكم، وكذلك كل ما نهى الشرع عنه، فإن النفس تحبه، وتطمع فيه وتطمح عليه فتميل لارتكابه لقضاء نهمتها الخبيثة وشهوتها الخسيسة ولذتها الفانية، مع أن عاقبتها وخيمة في الدنيا لما يلحقه من مذمة الناس وسوء ذكره بينهم، وفي الآخرة لما يترتب عليها من العقاب الأليم، لأن الدنيا بما فيها فانية والعاقبة المحمودة لأهل التقوى، فلينظر الإنسان الأمر الذي يريد الإقدام عليه قبل فعله، فإن كان يرجو فيه خيرا فليقدم عليه ولو فيه مشقة، لأن الجنة حفت بالمكاره، وإن كان شرا فليتباعد عنه ولا يغتر في لذاته وشهواته، فإن النار حفت بالشهوات، قال صلّى الله عليه وسلم: إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته- أي بحسب اجتهادك وعقلك واستشارة من تعتقد صلاحه ونصحه لك وأمانته ودينه ومودته لك- واستخر الله تعالى فما خاب من استشار ولا ندم من استخار. «وَاللَّهُ يَعْلَمُ» خوافي الأمور وبواطنها وعواقبها «وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 216» إلا ظواهرها ولا تعلمون شيئا إلا بتعليم الله إياكم، فاتبعوا ما أمركم به وانتهوا عما نهاكم عنه. وقد ذكرنا أن لفظ عسى في القرآن إذا كانت من الله فهي لليقين، وإذا كانت من الغير فهي للتوهم والشك مثل لعل. واعلم أن الحكم الشرعي في الجهاد هو فرض عين على كل مسلم(5/171)
إذا هاجم العدو بلاد الإسلام، وفرض كفاية إذا كانوا في بلادهم وتحدوكم قبل الوصول إليكم، وفي هذه الصورة إذا قام به البعض من المسلمين سقط الإثم على الباقين، أما في الصورة الأولى فكلهم آثمون، ومسنون في كل وقت، ومن السنة أن نبدأهم به. أخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا. وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا. وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية 190 المارة أولاد وجه لقول من قال أن المخاطب بهذه الآية هم أصحاب محمد الموجودون في زمانه فقط، لأن الخطاب فيها عام لا يقيد بهم، إذ لا مخصص لذلك، ولم يقصد به أناس دون آخرين ولا زمان ومكان لأن سياق الآية يدل على التعميم وهي مؤيدة بالأحاديث الصحيحة فيدخل في خطابها كل الأمة إلى
يوم القيامة. وما قيل إنها منسوخة بآية التوبة 122 التي مطلعها (ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) إلخ لا وجه له أيضا، لأن هذه الآية خاصة مقيدة نافية وجوب الجهاد على العموم والتي نحن في صددها عامة مطلقة، وقد ذكرنا غير مرة بأن المقيد مخصص لا ناسخ، وأن المقيد دائما يحمل على المطلق، والخاص على العام. وكذلك لا يتجه القول بأنها ناسخة للعفو عن المشركين، إذ لم تتعرض لشيء من ذلك، وإنما هي عبارة عن إخبار الله تعالى عباده بأن الجهاد الذي أمرناكم به مفروض عليكم، لأنه مكتوب في أزله كذلك، لئلا يقوهم الغير بأنه مندوب أو مباح بدليل قول (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) إلخ، تأمل قوله تعالى «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين «قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ» إثمه، عظيم جرمه، وهذا على طريق إرخاء العنان بالاعتراف بعظم القتال فيه، ولكن الذي ارتكبوه فيه أكبر إثما وأعظم وزرا من القتال فيه، وهو المبين بقوله تعالى «وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» ومنع المسلمين من سلوكه ومن التمسك بدين الإسلام الحنيف وتفرعاته «وَكُفْرٌ بِهِ» وجحود بالإله الكبير الذي شرعه لعباده «وَ» صدّ المؤمنين عن دخول «الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» ومنعهم من الطواف به «وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ» وإجلاؤهم عنه(5/172)
وإلجاؤهم إلى الهجرة وترك أوطانهم وأموالهم ونسائهم «أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ» إثما وأعظم وزرا من القتال في الشهر الحرام وقد سماهم الله تعالى أهله لأنهم كانوا قائمين به كما يريد الله تعالى، أي هذه الأمور التي اقترفتموها نواء لأهل الإسلام وعداء لرسولهم وجحودا لدينهم وربهم «وَالْفِتْنَةُ» التي هي الشرك الذي أنتم عليه لتفتنوا الناس به «أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» الذي يحتجون به وهو قتل الحضرمي الآتي ذكره لأن ذلك كان خطأ وظنا أن اليوم الذي قتلوه فيه آخر جمادى الآخرة المباح فيه، ذلك لا على أنه يقين بأنه أول رجب الحرام. ثم بين إصرارهم على الفتنة بقوله «وَلا يَزالُونَ» هؤلاء الكفرة «يُقاتِلُونَكُمْ» أيها المؤمنين «حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ» الحق إلى دينهم الباطل «إِنِ اسْتَطاعُوا» وهيهات ذلك، لأن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب الطاهرة لا يبتغي صاحبه به بديلا، وأن الله تعالى إنما حذر عنه تأكيدا لتشربه في قلوبهم وتعظيما لشأنه عندهم فقال «وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ» فيبقى مرتدا «فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ» ولم يتدارك نفسه بالتوبة قبل حالتي اليأس والبأس «فَأُولئِكَ» المرتدون المصرون على ارتدادهم «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا» إذ تبين زوجة المرتد ويحرم ميراث أقاربه ويقتل حدا ويكون ماله فيئا للمسلمين لأن أقاربه يحرمون منه إذ لا توارث بين المؤمن والكافر إجماعا «وَالْآخِرَةِ» لأن الكفر يمحق ثوابها كما أن الإيمان يجب ما قبله «وَأُولئِكَ» المرتدون الخاسرون الدارين الممقوتون عند الله هم «أَصْحابُ النَّارِ» لأنهم عملوا في الدنيا لأجلها فقط وفعلوا ما يؤهلهم لها ولذلك «هُمْ فِيها خالِدُونَ 217» لا يخرجون منها أبدا.
مطلب متعلقات الجهاد وقصة قتل الحضرمي وأمر النبي رسله بعدم فتح الكتاب إلا بعد يومين من استلامه:
وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش أميرا على سرية في جمادى الآخرة السنة الثانية من الهجرة قبل غزوة بدر، مما يدل على أن هذه الآية متأخر نزولها عن سورتها. وهو جائز كما يتقدم النزول على الحادثة أو يقارنها. وكتب له كتابا وقال سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير(5/173)
يومين، فإذا نزلت فافتح الكتاب فاقرأه على أصحابك، ثم امض لما أمرتك به ولا تستكره أحدا منهم على السير معك فسار يومين ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه:
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أما بعد فسر على بركة الله بمن معك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة فارصد بها عيرا لقريش لعلك تأتينا منها بخير) فقال سمعا وطاعة، ثم قال لأصحابه ذلك وقال لهم إنه نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان يريد الشهادة فلينطلق، ومن كان يكره فليرجع، ثم مضى وبقي أصحابه معه، وهم ثمانية رهط ولم يتخلف عنه أحد، حتى إذا كانوا بمعدن فوق الفرع بموقع في الحجاز يقال له نجران والفرع مجرى الماء إلى الشعب، وفرع كل شيء أعلاه، وفرع القوم شريفهم، والمعدن كمجلس منبت الجواهر من الذهب وغيره، فلا يختص بمكان دون آخر، ولا يختص بالذهب والفضة بل بكل شيء يخرج من الأرض كالنحاس والحديد والرصاص وغيرها. أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غروان بعيرا لهما كانا يتعاقبانه فتخلفا في طلبه ومضى عبد الله بقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة موقع بين مكة والطائف، بينما هم كذلك إذ مرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وأدما ومن تجارة الطائف ومعها عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله ابن المغيرة ونوفل بن عبد الله المخزوميان، فلما رأوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هابوهم ونزلوا قريبا منهم، فقال عبد الله بن جحش وهو ابن عمة رسول الله لقومه:
إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم، وليتعرض لهم، فإذا رأوه محلوقا أمنوا، فحلقوا رأس عكاشة بن محصن، ثم أشرف عليهم، فلما رأوه أمنوا، وقالوا قوم عمّار فلا بأس علينا، وكان ذلك آخر يوم من جمادى الآخرة، وكانوا يرونه أول رجب، فتشاور القوم فيهم وقال بعضهم لبعض متى تركتموهم هذه الليلة ليدخلن رجب الحرام وليمتنعن منكم، فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم، فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرا الحضرمي بسهم فقتله، فكان أول قتيل من المشركين، وأسروا الحكم وعثمان، وهما أول أسيرين في الإسلام، وأفلت نوفل فأعجزهم، واستاق المسلمون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت قريش قد استحل محمد الشهر الحرام وسفك الدماء، وأخذ الحرائب أي المال،(5/174)
وعيروا المسلمين الموجودين في مكة بذلك، فبلغ ذلك حضرة الرسول، فجاء بعبد الله وأصحابه، وقال ما أمرتكم أن تقاتلوا في الشهر الحرام، ووقف العير والأسيرين ولم يأخذ شيئا منها، وعنفهم المسلمون على ذلك أيضا، فعظم هذا عليهم وظنوا أنهم قد هلكوا وسقط في أيديهم، فقالوا يا رسول الله إنا قتلنا الحضرمي ثم أمسينا فرأينا الهلال فلا ندري أصبناه فيه أم في جمادى الآخرة، وأكثر الناس في ذلك أي في انتقاد واقد ورفقائه لإقدامهم على قتل الحضرمي في الشهر الحرام الذي لا يجوز فيه استعمال السلاح ولو على قاتل أحدهم، فأنزل الله هذه الآية وأخذ رسول الله الخمس من هذه الغنيمة وهي أول غنيمة في الإسلام وقسم الباقي على أصحاب السرية، ثم بعث أهل مكة بفداء أسيريهما فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى يأتي سعد وعتبة الذين ذهبا بطلب بعيرهما حذرا من أن قريشا أصابتهما فلما جاءا فداهما فأسلم الحكم ثم استشهد في بئر معونة رحمه الله، ورجع عثمان إلى مكة فمات كافرا ثم أنزل الله تعالى في عبد الله بن جحش وأصحابه حينما قالوا لحضرة الرسول هل نؤجر على غزوتنا هذه ونطمع أن نعد غازين إذ يقول الناس إن لم يؤزروا لم يؤجروا قوله جل قوله «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 218» بهم يعفو عن هفوتهم ولا يؤاخذهم عليها أما الكفرة الذين يموتون على كفرهم فلهم الخيبة واللعنة وسوء العاقبة.
مطلب في الخمر والميسر ومخالطة اليتامى والنظر إليهم وبحث في النفقة أيضا وحفظ بيت المال
: قال تعالى و «يَسْئَلُونَكَ» يا سيد الرسل «عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ» القمار بجميع أنواعه وكافة أصنافه «قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ» ينتج عنهما مضار خطيرة ديفية ودنيوية «وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ» من أرباحهما والاتجار بهما، لأن الخمر يحتاج إلى اعمال ينتفعون بما يأخذونه من الأجرة، وفي بيعه وشرائه ينتفع آخرون لكثرة تصريفه بسبب كثرة استعماله، لأنه كان يقدم للناس كما تقدم القهوة الآن والشاي للقادمين الزائرين. والميسر هو نيل المال دون تعب ولا كد ولا جهد وربما من يكسب يعطي منه كما هو المعتاد الآن عند من يتعاطاه، فينتفع(5/175)
الغير منه ايضا، لأن المال الذي يأتي عن غير طريق التعب يهون على النفس إنفاقه.
وقيل في هذا:
ومن أخذ البلاد بغير حرب ... يهون عليه تسليم البلاد
فالمنافع المذكورة في الآية عبارة عن هذا لا غير. وسبب حرمة القمار هو أكل أموال الناس بالباطل، وقال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) الآية 189 المارة ومثلها الآية 29 من سورة النساء الآتية، وهو داخل في قوله صلّى الله عليه وسلم: إن رجالا يتخوضون في مال الغير بغير حق فلهم النار روى البخاري ومسلم أنه صلّى الله عليه وسلم قال: من قال لصاحبة تعال أقامرك فليتصدق.
فإذا كان مطلق القول يقتضي الكفارة والصدقة تنبيء عن عظيم ما وجبت أو سنّت له، فما ظنك بالفعل مباشرة؟، ويدخل في الحديث الأول ما يسمونه الآن (يا نصيب) ألا فليحذره وليتجنّبه من يتق الله، لأنه تخوض في مال الغير وهو من الباطل المنصوص عليه بالآية المارة. قال عمر ابن الخطاب ومعاذ بن جبل: أفتنا يا رسول الله في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل والمال، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقد أنزل الله تعالى في الخمر أربع آيات الأولى مكية وهي قوله تعالى (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ) الآية 67 من سورة النحل في ج 2 فراجعها فقد بينا فيها ما يقتضي هذا البحث، والثانية هذه مدنية فتركها جماعة كراهية الدخول في الإثم المشار إليه فيها لوصفه بالعظم، واستمر عليها الباقون لعدم الأمر باجتنابها وعدم قدرتهم على منع أنفسهم وقمع شهواتها، وقد ذكرنا ما يتعلق فيها بالمقدمة وسنأتي على تمام البحث في الآيتين 43 من النساء و 90/ 91 من المائدة بصورة مفصلة إن شاء الله القائل «وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» ولهذا اجتنبها ذو والنفوس الطاهرة والإيمان القوي، لأنهم فهموا منها أن ما كثر إثمه كثر وزره وما عظم عقابه حرم فعله «وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ» من أموالهم إذ لم يبين لهم الله القدر اللازم إنفاقه ليعملوا به، وإنما كرروا السؤال لأن الجواب في السؤال الأول لم يأت على قصدهم بل كان للغاية من الإنفاق كما مر، وكذلك لم يبين حضرة الرسول لهم ذلك، ولكنه يكثر من ترغيبهم بالإنفاق «قُلْ» يا سيد الرسل أنفقوا «الْعَفْوَ»(5/176)
أي الزائد على حوائجهم وذلك أنهم كانوا رضي الله عنهم لما سمعوا حضرة الرسول يكثر من الحث على الانفاق ويطنب في فضله صار منهم لشدة حرصه على ثواب النفقة ينفق جميع ما عنده، حتى إن منهم لا يبقي ما يحتاج إليه للأكل، فأمرهم في هذه بإنفاق الفاضل عن حاجتهم لكثرة ذوي الحاجة إذ ذاك من المهاجرين والأنصار في بداية الإسلام، وكان السؤال في الآية 210 السابقة عن المنفق والمصرف فوقع هنا عن المقدار والكيفية. وكلمة العفو يجوز فيها الضم والفتح. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول. وأخرج بن خزيمة مثله بزيادة تقول المرأة أنفق علي أو طلقني، ويقول مملوكك أنفق علي أو بعني، ويقول ولدك إلى من تكلني. وأخرج بن سعيد عن جابر قال: قدم أبو حصين السّلمي بمثل بيضة الحمامة من ذهب، فقال يا رسول الله أصبت هذه من معدن (هو ما ذكر بيانه آنفا) فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض عنه صلّى الله عليه وسلم، ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه، ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته، فقال يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس! خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول. فاشترط حضرة الرسول العنى عن الحاجة للمتصدق، فصاروا يمسكون ما يكفيهم ويتصدقون بالفاضل إلى أن حدد لهم حضرة الرسول القدرة الواجب إنفاقه في الزكاة، فمنهم من اقتصر عليه، ومنهم من داوم على إنفاق ما يفضل عن حاجته لقوة إيمانه ورغبة فيما أعده الله تعالى للمتصدقين من الأجر. ومن عقل تفسير هذه الآية على نحو ما ذكرنا علم أن القول بالنسخ لا وجه له. «كَذلِكَ» مثل هذا البيان الشافي «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ» الموضحات لما تسألون عنه «لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ 219 فِي الدُّنْيا» فتعلمون أنها زائلة فتأخذون منها قدر ما يكفيكم وتنفقون الفاضل فتنتفعون بثوابه في الدنيا «وَالْآخِرَةِ» التي يجب أن تتفكروا فيها بعاقبة أمركم فتكثروا من الإنفاق مما تجود به نفوسكم من انعام الله عليكم وتزودوا لها من أعمال الخير رجاء ما أعده الله تعالى لأهل الخير،(5/177)
قالوا حينما أراد الملك الظاهر وضع ضريبة لأجل نفقات الحرب، واستفتى الإمام النوري فقال لا تتحقق هذه الحاجة إلا بعد بيع ما في قصر الملك من المماليك والأواني الذهبية والفضية التي هي من بيت المال، فإذا لم تكف فله وضع الضريبة المذكورة. ومن هذا القبيل قدمت مذكرة إلى (سالاز) رئيس وزارة البرتقال بطلب اعتماد إعانة لفرقة المغنين العازمة على السفر، فوقع بما نصه: كيف أعطي مالا للمغنين في الوقت الذي لا أجد ما أعطيه للباكين
!. فاعتبروا أيها الناس وقيسوا بين هذا ووضعنا الحاضر مما تصرفه الحكومة من بيت المال على ولائم لا علاقة لها بالحرب ولأناس لا يستحقونها وفيها ما فيها. ألا فليتقوا الله ولينفقوا مما أنعم الله عليهم في وجوه البر والخير وإن كانوا لأبد فاعلين فليكن من مال أنفسهم ويتركوا مال بيت المال لما خصص له ولحاجة الجيش عند الحاجة لحفظ ثغور المسلمين وأموالهم وأنفسهم وأعراضهم. قال تعالى «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى» قال ابن عباس لما أنزل الله (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) الآية 34 من الإسراء في ج 1، صاروا يتحرجون حتى عن مخالطتهم فأنزل الله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين «إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ» أي مخالطتكم لهم وإرشادكم إياهم لما فيه صلاحهم خير من مجانبتكم لهم وإعراضكم عنهم وأكثر أجرا لأن في ذلك النظر إلى أحوالهم ومناظرة أموالهم وتعليمهم كيفية استرباحها لهم لئلا تأكلها الزكاة، لأن ما لا يزيد ينقص فيسبب أضرارا لهم في المستقبل «وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ» وتجالسوهم فيتعلموا طرق المعاش والمعاشرة مع الناس والتخلق بالأخلاق الحسنة واجتناب السيئة ويأنسوا بكم ويعرفوا ما يضرهم وينفعهم «فَإِخْوانُكُمْ» أولئك اليتامى ومن واجب الأخوة المخالطة والملازمة لا التقاطع والمباعدة «وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ» لأحوالهم «مِنَ الْمُصْلِحِ» لها فكونوا مصلحين بتعليمهم الأخلاق العالية وأحوال البيع والشراء وسائر العقود التي من شأن البشر أن يتعلمها، وإن تركهم وشأنهم قد يوجب لهم الفساد والإفساد فتأثموا وتصيبكم منهم معرة، والله مطلع على نياتكم، فأحسنوا إليهم بما يفضي لخيرهم ومثوبتكم «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ» بأن شدد عليكم الأمر وضيقه في وجود المخالطة وتنية أموالهم وحرمكم من ربحها، بأن يجعلكم(5/178)
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
كالخدم لهم، ولكن رحمة بكم وبحال اليتيم لم يشأ ذلك توسعة عليكم لاحتياج بعضكم إلى الربح بمال الغير لقلة ذات يده «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» لا يعجزه شيء قادر على التضييق عليكم في ذلك «حَكِيمٌ 220» يأمر بالتوسعة على عباده بما فيه صلاحهم من احتياج بعضهم إلى بعض لأن التعاون في هذه الدنيا مطلوب فجعل للخلق رابطة فيما بينهم لا غنى لهم عنها. وبعد أن ذكر الله تعالى ما يتعلق بالأيتام والإنفاق شرع يذكر ما يتعلق بالنكاح الذي هو من ضروريات البشر أيضا، لأن غالب ما ينزل في المدينة عبارة عن أحكام وحدود وغالب ما ينزل بمكة عقائد وأخبار مما هو بمنزلة التخلية والأحكام بمثابة التحلية ولا تكون التحلية إلا بعد التخلية تأمل
قوله تعالى «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ» حرة حسنة «وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ» تلك الكافرة بما لها وجمالها ونسبها «وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ» حر قوي «وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ» ما له ونسبه وجاهه وشجاعته «أُولئِكَ» المشركون والمشركات «يَدْعُونَ إِلَى» الشرك والكفر المؤديين إلى «النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى» الإيمان به ورسوله وكتابه المؤدية إلى «الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ» وإرادته وتوفيقه «وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ 22» بمعانيها فيعرفون معزاها ويتعظون بمرماها. فيتباعلون بمن مخافتها. كان صلّى الله عليه وسلم بعث أبا مرشد يسار بن حصين أبي مرشد الفنوي إلى مكة ليخرج منها ناسا من لمسلمين سرا، فلما قدمها سمعت به خليلته عناق فجاءته وكافته أن يواقعها كما كان في الجاهلية، فقال لها ويحك إن الإسلام حال دون هذا، فقالت له تزوجني، فقال لها حتى استأذن رسول الله، فقالت له أبي تتبرّم واستعانت عليه بزبائنها، فضربوه، فلما رجع أعلم حضرة الرسول بما وقع له معها واستأمره بزواجها، فأنزل الله هذه الآية في هذه الكافرة، أما المؤمنة فهي خنساء وليدة حذيفة بن اليمان أعتقها وتزوجها وقال لها لقد ذكرت في الملأ الأعلى على سوادك ودمامتك. وقيل نزلت في عبد الله بن رواحه لأنه كان أعتق أمة وتزوجها، فعاتبه العرب وعرضوا عليه حرة مشركة، فأبى ولا مانع من تعدد أسباب النزول واعلم أن الشق الأخير من الآية(5/179)
خطاب إلى أولياء النساء عامة ينبئهم به أن لا يزوجوا المسلمات إلى المشركين، ولا يتزوجوا المشركات، لذلك السبب. الحكم الشرعي: يحرم على القطع زواج المسلم بالكافر والكافرة بالمسلم ولا ينعقد النكاح بإجماع الأمة، وحكم المجوس حكم المشركين لأنهم ليسوا بأهل كتاب، ويجوز أن يتزوج المسلم كتابية لأنه مؤمن بنبيا ونبيّها وكتابه وكتابها لا العكس، لأن الكتابي يجحد نبي المسلمة وكتابها ويوشك أن يحملها على الارتداد عن دينها، لأن الرجال قوامون على النساء وخاصة النصارى فلا طلاق عندهم إلا بالزنى ويوشك أن يضارها ولا سبيل للتخلص منه إذ لا مساغ للتفريق عندهم إلا بالزنى وهو محرم تأباه المسلمة، فيضطرها الحال على البقاء في الشقاء وتحمل الضيم والأذى والذل والهوان مما لا يلتئم وعزة المؤمنة وهذه الأشياء محتملة الوقوع مع الكتابية أيضا إلا أن حملها على الإسلام خير عند الله وعند زوجها، وإذا لم تعجبه يطلقها، وإذا ضارها فلها طلب التفريق، فاحتمال بقاء الضرر عليها معنى معدوم، لأن الشريعة الإسلامية كفلت لها حقها وساوتها بالمسلمة. وهذه الآية محكمة لأن اسم الشرك لا يتناول إلا عبدة الأوثان ولا وجه للقول بنسخها في حق الكتابيات لعدم دخولهن فيها، وما قيل إن اصحاب الشرك يتناولهن لأن اليهود تقول عزير بن الله والنصارى تقول المسيح بن الله لا يطرق على جميع أهل الكتاب بل هو مقتصر على من يقول ذلك بمعنى غير قابل للتأويل والتفسير، ولهذا قال تعالى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) الآية 20 من سورة المائدة وهي مكررة فيها لأن الله جلت قدرته هو الأب الأكبر لجميع البشر ولكن لا على المعنى المتحقق بالأبوة تعالى الله وتنزه عن ذلك، كما أن الخلق كلهم أولاده وعياله، ولكن لا على المعنى المتحقق في البنوة كما سنأتي على تفصيل هذا في الآية المذكورة في محلّها إن شاء الله القائل «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ» لهم يا حبيبي «هُوَ أَذىً» للذين يقربون زوجاتهم معه لقذارته «فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ» أيها الناس إن أردتم المحافظة على صحتكم وطاعة ربكم «فِي الْمَحِيضِ» مدة وجوده، فإنه يسبب لكم الأذى، قيل هو الجذام ولا داء أقبح منه، فقد جاء بالأخبار من أتى حائضا وجذم فلا يلومن إلّا نفسه.(5/180)
فاحذروا أيها الناس قربان نسائكم معه «وَلا تَقْرَبُوهُنَّ» مبالغة في عدم المجامعة، وإلا فالقربان بلا جماع غير ممنوع كما ستعلم فلا تجامعوهن «حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ» بانقضاء مدة الحيض واغتسلن منه «فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ» أي في القبل محل الحرث «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ» عما نهوا عنه بعد أن فعلوه جهلا أو عمدا ثمّ تابوا فتركوه، ولم يعودوا إليه امتثالا لأمره «وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ 222» من الأقذار الظاهرة والباطنة والمعاصي الحسية والمعنوية.
مطلب في الحيض والنفاس وما يجوز معهما وما يمتنع وكفارة من يقرب الحائض وفي الإتيان في الدبر:
روى مسلم عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسألوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية فقال صلّى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شيء إلا النكاح. فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حفير وعباد بن بشير فقالا يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا نجامعهن، فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي لكراهة ما سمع منهما بعد نزول هذه الآية، فقال الحاضرون هذه الحادثة غضب رسول الله حتى ظننا أنه قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أنه لم يجد عليهما أي لم يغضب، وإنما غضب من سؤالهما الأخير لمغايرته ما جاء في الآية الشريفة وهو لا يغضب إلا لله، لذلك أبان لهما بفعله هذا أنه لم يجد عليهما إلا أنه أفهمهما بأن سؤالا كهذا تجد قول الله يوجب غضبه، لينتهي الآخرون عن مثله، وليعلموا أن نهيه عن عدم قربان الحائض ليس لمخالفة اليهود وإنما هو اتباع لوحي الله الواجب إتباعه وافق شرع اليهود أم خالفه، لأن شرعنا ناسخ لما تقدمه من الشرائع كلها.
الحكم الشرعي: أجمع المسلمون على تحريم الجماع زمن الحيض وعلى كفر من يستحله لمخالفته القرآن، فقد أخرج الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: من أتى حائضا أو امرأة في دبرها، أو كاهنا (أي أو جاء كاهنا يستشيره) فقد كفر بما أنزل على محمد. أي إذا استحل(5/181)
ذلك ولم ير بأسا به. وأخرج الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم في الرجل يقع على امرأته وهي حائض قال يتصدق بنصف دينار. وفي رواية إن كان دما أحمر (أي في أول الحيض) فدينار، وإن كان أصفر (أي في أواخره) فنصف دينار، وهذه كفارته إذا لم يستحل، أما إذا استحله فلا كفارة فيه، وإنما فيه الكفر والعياذ بالله وعليه التوبة والرجوع الى الله وإلا فيقتل. وأجمعوا على جواز الاستمتاع بالحائض بما فوق السرة ودون الركبة، وجواز مضاجعتها، فقد أخرج في الصحيحين عن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم من إناء واحد وكلانا جنب وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض، أي يستمتع بي. وأجمعوا على أن الحائض يحرم عليها الصوم والصلاة ودخول المسجد وقراءة القرآن ومس المصحف وحمله، ووجوب قضاء الصوم لعدم تكرره، وعدم قضاء الصلاة لتكررها. وقد أخرج في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يأمرها بقضاء الصوم دون الصلاة، وأجمعوا على عدم ارتفاع شيء مما حرمه الحيض عنها حتى تغتسل أو تتيمم الا الصوم فإنه إذا انقطع دمها بالليل ونوت صيام النهار صح. وقال أبو حنيفة يجوز جماعها بعد مضي أكثر مدة الحيض إذا فاتها وقت صلاة ولم تعتسل، وظاهر الآية يؤيد الإجماع وقراءة التشديد في يطهّرن يؤكده، وانما جعلت كفارة من يجامع زوجته وهي حائض دينارا أو نصف دينار، لأنه والله أعلم يقابله دفع البلاء المتوقع حدوثه الوارد بالحديث الشريف المار ذكره، لأن الصدقة تدفع البلاء. قال تعالى «نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ» مزرع ومنبت الولد كما أن الأرض مزرع ومنبت الحب شبه جل جلاله قبل المرأة بالأرض، والنطفة بالبذر، والولد بالنبات، تشبيها بليغا «فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ» من قيام وقعود واستلقاء وعلى طرف مقبلة أو مدبرة وعلى أي صورة وحالة ومكان وزمان شئتم، ولكن في القبل، لأنه محل الزرع المعبّر عنه بالحرث كالأرض الطيبة المنبتة، فإن الله تعالى أحل لكم ذلك كله كيف شئتم عدا أيام الصوم والحج والحيض والنفاس والأمكنة المحترمة. وتشير هذه الآية الى تحريم إتيان النساء في أدبارهن، ولهذا المغزى عبر عنه تعالى بالحرث ويؤيد هذا ما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ملعون من أتى المرأة في دبرها(5/182)
- أخرجه أبو داود- راجع الآية 26 فما بعدها من العنكبوت في ج 2 وما ترشدك إليه من المواضع. وقد أجمع العلماء على تحريم إتيان النساء في أدبارهن لأن الله تعالى حرم الفرج حال الحيض للأذى العارض وهو الدم، فمن باب أولى أن يحرم الدبر الملازم للنجاسة دائما المولدة للأمراض التناسلية، أعاذنا الله من ذلك، وقاتل فاعليه ولأن الله تعالى نص على ذكر الحرث وهو محل النبات فلا يجوز العدول عنه الى غيره، ولا يجوز بل يحرم على القطع تأويل محل الحرث بالدبر، لأنه سباخ لا ينبت، ولقوله تعالى (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) الآية السابقة، والله قد أمر أن يكون بالفرج دائما إلا وقت الحيض والنفاس للأذى والقذارة، والدبر محل الأرجاس دائما والأذى متحقق فيه، فالإتيان بالدبر مخالف للقرآن والحديث ويكفر مستحله وهذا هو الحكم الشرعي فيه. وما قيل إن الإمام مالك استدل في هذه الآية على جواز إتيان النساء في أدبارهن مكذوب عليه، وحاشاه من ذلك وتنزهت ساحته رضي الله عنه عما هنالك، وكذلك ما حكاه زيد بن أسلم عن نافع ومحمد بن المنكدر لا حقيقة له لمخالفته إجماع الفقهاء الذين أجمعوا على أن الحرث لا يكون الا بحيث يكون النسل فيجب أن يكون الوطء حيث يكون النسل، راجع تفسير هذه الآية في الجزء الأول، ص 321 في تفسير مجمع البيان للطبري.. وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري ومسلم عن جابر قال: كانت اليهود تقول إذا جامعها فمن ورائها جاء الولد أحول، وفي
رواية للترمذي: كانت اليهود تقول من أتى المرأة في قبلها من دبرها وذكر الحديث، وما قيل إنها نزلت في إتيان النساء في أدبارهن يرده ما رواه عبد الله بن الحسن أنه لقي سالم بن عبد الله بن عمر فقال له يا عم ما حديث يحدثه نافع عن عبد الله أنه لم يكن ير بأسا في إتيان النساء في أدبارهن فقال كذب العبد وأخطأ وإنما قال عبد الله يؤتون في فروجهن من أدبارهن، وعلى هذا يؤول ما رواه ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم حينما قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم هلكت، قال وما أهلكك؟ قال حولت رحلي الليلة فلم يرد عليه حتى أوحى الله لرسوله في هذه الآية والحديث هذا أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح وحاشا عمر أن يصدر منه غير الإتيان في القبل، إذ لا يميل الى ذلك المحل الخبيث عاقل فكيف(5/183)
بمعدن العقل والمروءة؟ هذا واعلم أن كل ما ورد من الأحاديث في هذا الشأن محمول على هذا ولا يقول بغيره إلا منافق خبيث، وما قاله بعض الإمامية فهو من هذا القبيل استنادا على تأويل الحديث بما ليس مطلوب في معناه فلا يلتفت إليه والأكثر منهم على خلافه، وكل من له مكة من علم أو لمعة من إدراك أو ذرة من إيمان يقول بحرمته ولا يتردد في تأويل هذه الآية وتفسير هذه الأحاديث إلا على ما ذكرنا فضلا من أن الطبع السليم والغيرة الإنسانية يمجّانه ويقبحانه ويلعنان فاعله «وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ» الأولاد الذين هم مظنة الانتفاع بهم في الدنيا والآخرة بإتيان النساء في فروجهن كما أمركم الله وإياكم أن تجعلوا نطفكم في غير محل الحرث فتهلكوا في الدنيا بالأمراض السارية الناشئة عن قذارة المحل، وفي الآخرة بالطرد من رحمة الله والتعرض لعذابه الأليم. ومما يؤكد قوله تعالى «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أن تتجاوزوا ما أمرتم به الى ما نهيتم عنه، وهذه الجملة مما تؤيد ما جرينا عليه في تفسير هذه الآية، إذ لا معنى للتقديم هنا غيره، لأنه معدوم في الأدبار. قال تعالى مهددا لمن خالف ذلك «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ» أيها العصاة بعد الموت فيجازيكم على مجاوزة أوامره «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ 223» الذين يمتثلون أوامر الله بالكرامة والرضوان. قال تعالى «وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) وهذه الآية جاءت كالمعترضة بين أحكام النساء التي هي من تنمة معاملات النكاح، وذلك أنه كان بين عبد الله بن رواحة وختنه بشير بن النعمان شيء، فحلف لا يدخل عليه ولا يكلمه، وكلما قيل له فيه يقول حلفت فلا أتداخل في أمره الا أن تبرّ يمني فأنزل الله هذه الآية له ولغيره الى قيام الساعة، أي لا تجعلوا أيها المؤمنون الحلف سببا مانعا للبر والتقوى والإصلاح بين الناس وموجبا للقطيعة بينكم ولا تحلفوا على شيء من ذلك ومن حلف فعليه أن يكفر عن يمينه ويفعل ما هو الأحسن لقوله جلّ قوله «أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لأقوالكم كلها الموثقة بالإيمان وغيرها «عَلِيمٌ 224» بما هو الأصلح لكم، ولذلك ينهاكم عن الحلف وعن أن تجعلوه سببا حائلا لأعمال البر والخير. تشير هذه الآية الى النهي عن الإقدام على كثرة الحلف لما فيه من(5/184)
الجرأة عليه. وقد ذم جلّ شأنه مكثره بقوله (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) الآية 10 من سورة نون في ج 1 وقوله تعالى (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) الآية 92 من سورة المائدة الآتية. وترك الحلف والتباعد عنه محمود عند العرب حتى إنهم يصفون قليله بأقوالهم، قال كثير:
قليل الألايا حافظ ليمينه ... وإن سبقت منه الأليّة برّت
أي كان لم يقصد الحلف، ولكن سبق لسانه به، ومع هذا فإنه يبر بها احترام لشأنها، ولهذا يقول الله تعالى إنما نهيتكم عن الحلف إرادة أن تبروا به لأن توقيه من البر والتباعد عنه من التقوى والرجوع الى ما هو الأحسن من الإصلاح.
وقال بعض المفسرين إن الآية على حذف حرف الجر، أي من أن تبروا إلخ من حيث لا حاجة لتقدير من أوفى على قول الآخر أي في أن تبروا، أو تقدير أي أن لا تبروا لجواز حذفها في لغة العرب لمعلوميتها، قال امرؤ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي إليك وأوصالي
أي لا أبرح تدبر. روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من حلف علي يمين فرأى خيرا منها فلياتها وليكفّر.
مطلب في الأيمان وكفّارتها والإيلاء والطلاق والعدة وكلمات من الأضداد وما يتعلق بحقوق الزوجين:
وترمي هذه الآية إلى النهي عن الحلف بالله لما ذكرنا ما فيه من الجرأة عليه، ألا فليحذر المكثرون من الحلف وليعظموا أسماء الله لأن في الإكثار من الحلف تهاونا يؤاخذ عليه العبد، أما الذين لا يتهاونون بالأيمان وقد يقع منهم ذلك بمعرض الكلام مما هو غير مقصود فيقول لهم ربهم «لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ» أي مما لم يكن عن فكر وروية وما لا عقد له ولم يكن مقصودا كقول الرجل لا والله ما الأمر هكذا وبلى والله كان ذلك مما قد يكون من الإنسان بمعرض الكلام والمخاطبة من غير عقد اليمين ونيته، فلا كفارة عليه ولا إثم، أما الذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب فيه ليرضي الناس أو ليعتذر لهم أو يقتطع بيمينه مال أحد فهو أعظم وأعظم من أن يكون فيه كفارة، وإنما(5/185)
الكفارة على من حلف أن لا يفعل شيئا مباحا ثمّ فعله، أو أن يفعله ثمّ لا يفعله.
قال مالك في موطأه: أحسن ما سمعت أن اللغو هو حلف الإنسان على الشيء يتيقن أنه كذلك ثمّ يوجد بخلافه، فهذا لا كفارة عليه ولا إثم، وما عدا ذلك فقيه الكفارة والإثم، أما اليمين الغموس التي فيها هضم حقوق الناس فلا كفارة فيها لعظمها عند الله كالقتل العمد لا دية فيه لعظمه أيضا «وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ» أي ما وقع منكم عن قصد وعزم ونية وجزمتم على فعله وعقدتم عليه، وهذا هو معنى كسب القلب المراد بالآية. الحكم الشرعي:
لا ينعقد اليمين إلا باسم الله تعالى أو بصفة من صفاته، فمن حلف باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته على نحو ما تقدم ولم يبر بيمينه فعليه الكفارة وهي عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو صيام ثلاثة أيام على التخيير كما سيأتي في الآية 93 من المائدة، ومن حلف بغير ذلك فهو آثم، لأنه عظم المخلوق به وهو غير معظّم تعظيم من يحلف به، ولهذا فلا كفارة عليه إهانة للمخلوق به. روى ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أدرك عمر وهو يسير في ركب ويحلف بأبيه فقال صلّى الله عليه وسلم:
إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت.
- أخرجاه في الصحيحين- «وَاللَّهُ غَفُورٌ» للأغي ومن كان يمينه غير مقصود، ومن حلف على شيء سابق يتحققه «حَلِيمٌ 225» بقبول كفارة من يخطئ في حلفه لا يعامل فاعل هذين النوعين وما ألحق بهما بالشدة، ولا يعاجل من يكذب بيمينه المعقودة بالنية والقصد، كما لا يعاجل العصاة بالعقاب، فهو رءوف بعباده لا يستفزه الغضب، ولا يستخفه جهل الجاهلين قال تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الآية آخر سورة فاطر في ج 1 ومثلها الآية 11 من سورة النحل في ج 2. قال تعالى «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ» أي انتظار «أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ» رجعوا عن يمينهم وآتوا نسائهم «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» للزوج الحالف إذا تاب وأناب إلى ربه وآب عن إضرار زوجته «رَحِيمٌ» (226) بعباده إذ يقبل توبتهم وكفارتهم ما دامت روحهم في جسدهم غير حالتي اليأس والبأس «وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ» بأن أصروا على(5/186)
إبلائهم وأرادوا إيقاع الطلاق على زوجاتهم فلم يقربوهم طيلة هذه المدة «فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لإيلائهم «عَلِيمٌ» (227) بنياتهم، وفي هذه الجملة وعيد على عدم الفيئة، وقد جاءت هذه الآية بمناسبة الأيمان. الحكم الشرعي: الإيلاء والحلف على ترك وطء الزوجة أربعة أشهر فأكثر، قال ابن عباس كانت الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئا فلم تفعله حلف لا يقربها السنة والسنتين، فيدعها لا أيما ولا ذات زوج، فلما جاء الإسلام جعله الله تعالى أربعة أشهر وأنزل هذه الآية، فإذا مضت ولم يطأها خلالها بانت منه بطلقة واحدة، لأنه عزم بذلك على طلاقها، وإن وطئها فيها بقيت في عصمته ووجبت عليه الكفارة وهي ما تقدم بيانها آنفا، وإذا حلف لأقل من أربعة أشهر فلا يعد موليا، فإن وطئها قبل هذه المدة المحلوف عليها فعليه الكفارة، وإلا فلا شيء عليه وتبقى في عصمته. قال تعالى «وَالْمُطَلَّقاتُ» سواء بالإيلاء أو بإيقاع الطلاق عليهن أو بتفريق الحاكم أو باليمين «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ» أي حيضات لقوله صلّى الله عليه وسلم: دعي الصلاة أيام أقرائك، ولهذا صرف معناه إلى الحيض، وإطلاقه على الطهر غير مراد هنا، لأن نص الحديث يكون حقيقة على الحيض، ومن أراد المجاز وصرفه الى الطهر بعد هذا لا عبرة بقوله إذ لا محيد عن هذا وان كان يطلق على الطهر لأنه من الأضداد، كالجون يطلق على الأسود والأبيض، والسدفة تطلق على الظلمة والضياء، والجلل على الكبير والصغير، والنبل على الصغار والكبار، والناهل على العطشان والريان والرهوة على الارتفاع والانحدار، والظن على الشك واليقين، والمفرع في الجبل على المصعد والمنحدر، وفعل مسر بمعنى أخفى وأعلن، وأخفى بمعنى أظهر وكتم، وباع بمعنى اشترى وشبع بمعنى جمع وفرق. الحكم الشرعي: إذا أوقع الرجل الطلاق على زوجته بعد الخلوة بها وقبل الدخول فعليها العدة، وإذا طلقها قبل الخلوة فلا عدة عليها ولا يحل لها الزواج قبل مضي العدة على اليقين في الحالة الأولى، ولهذا قال تعالى «وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ» من تكون الولد لما فيه من انقطاع نسبه لأبيه وتوريثه منه ما لا يستحق من غيره لأن كتمان عدم انقضاء الحيض فيه ابطال حق الزوج من الرجعة إذا كان الطلاق(5/187)
رجعيا، إذ له مراجعتها ما دامت في لعدنى، وله تجديد النكاح عليها بعدها إذا كان الطلاق دون الثلاثة، أو بالإيلاء أو بالتفريق والفسخ «إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» فلا يكتمن ذلك لأنه يفضي الى زواجهن بالغير ويضيع نسب الولد.
وهذه الآية تشير الى أن هذا من باب كتم الأمانة، فإن الصدق فيه من فعل المؤمنات، وكما لا يجوز لهن كتمان عدم انقضاء مدة الحيض الأخير، لأنه ثلاث حيضات لا يجوز لهن أن يكتمن الطهر لما فيه من المحاذير وهو الرجعة، فتكون بغير محلها وامتداد النفقة من حيث لا يجوز لها أخذها، وكل الزوجات في هذه الأحكام سواء المؤمنة والكتابية وحتى الكافرة قبل تحريم زواجها «وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ» من أجل العدة إذا كان الطلاق رجعيا أو بالفسخ أو التفريق أو بائنا دون الثلاث «إِنْ أَرادُوا» أي الرجال «إِصْلاحاً» مع مطلقاتهن وعزموا على حسن معاشرتهن «وَلَهُنَّ» أني النساء من الحق على الأزواج «مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ» من حقوق الزوج وكل ذلك يجب أن يكون «بِالْمَعْرُوفِ» من غير إضرار لأن الزوجية لا تتم إلا بمراعاة الحقوق بينهما، فيجب على الزوج أن يقوم بما تحتاجه زوجته حتى الزينة وأن يطعمها مما يطعم ويكسوها بنسبة أمثالها، وحاله ويقوم بمصالحها ويتزين لها ويسأل العلماء عما يتعلق بأمر دينها إن لم يعرف هو ذلك، وإلا فلها الذهاب بنفسها للعالم ليعرفها ما لها وعليها. - ويجب عليها طاعته والانقياد الى عصمته، وأن تحافظ على ما له وولده ونفسها، ولا تتزين إلا له ولا تبد زينتها لغيره، وتحفظه إذا غاب فلا تدخل أحدا ولا تجلس أحدا على فراشه، وتفعل كل ما يرضيه مما لا يكون فيه معصية لله وتتجنب كل ما يسوءه إلا فيما يرضي الله. روى مسلم عن جابر أنه ذكر خطبة النبي صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع وقال فيها: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانات الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهون، أي لا يؤذن لأحد بالدخول ليتحدث معهن (وكان هذا عند الجاهلية لا بأس به، ولا يتصور فيه معنى آخر كالزنى مثلا، لأن فيه الحد والرجم) يؤيده قوله (فإن فعلن ذلك فاضربوهن) (وقد أجمع العلماء على أن(5/188)
المراد بهذا الضرب) ضربا غير مبرح (فلو كان المراد به الزنى لقال عليهن الحد والرجم) تدبر. وكما لكم عليهن ذلك، فإن لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف «وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» منزلة عالية، لأنه أعقل منها وأكمل شهادة وأكثر حقا في الإرث والدية وأتم دينا، ولأنه صالح للقضاء دونها. قال صلّى الله عليه وسلم:
ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة، ولجواز تزويجه وتسرّيه عليها، ولأن طلاقها بيده ويملك الرجعة بعد الطلاق الرجعي شاءت أم أبت، ولأنه المكلف بنفقتها فضلا عما يسوقه إليها من المهر «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» غالب عليكم أيها الزوجين إن هضمتم حق بعضكم، فإنه ينتقم منكم «حَكِيمٌ 228» بتفضيله الرجال على النساء للأسباب المتقدمة وأسباب أخرى هو يعلمها، لأنه لا يأمر إلا لمنفعة الخلق ولا ينهى إلا عما يضرهم وإن كانوا لا يعقلون بعض المنافع المأمور بها والمضار المنهي عنها. قال تعالى «الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ» بعدهما بالمراجعة قولا أو فعلا «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» بأن تطلقوهن طلقة ثالثة وتتركوهن بمعروف مثل ما أخذتموهن، إذ لا يحل لكم إمساكهن قبل الطلاق إضرارا بهن ولا بعده، لأنهن حرمن عليكم.
وسبب نزول هذه الآية أن الجاهلية كانوا يطلقون ما شاءوا ويرجعون على نسائهم دون عدد معلوم بالغ ما بلغ، إلا أنهم يتقيدون بالعدة فقط من حيث الرجوع، بحيث لو طلقها مرارا كثيرة له مراجعتها في العدة وهكذا، وكان هذا أيضا جاريا في بداية الإسلام إلى يوم نزول هذه الاية، حتى إن رجلا قال لامرأته والله لا أطلقك فتبيني ولا آويك أبدا، قالت كيف؟ قال أطلقك وكلّما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت وأخبرت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، فسكتت حتى جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبرته، فسكت حتى أنزل الله هذه الآية فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا من كان طلق ومن لم يطلق. الحكم الشرعي: يملك الحر على زوجته ثلاث تطليقات متفرقات ولو في مجلس واحد فإنها تبين منه بينونة كبرى (خلافا لما جرى عليه المصريون حديثا من اعتبار الطلقات المتعددات في مجلس واحد طلقة واحدة استنادا لما أن هذا كان متاعارفا في بداية الإسلام، على أن سيدنا عمر رضي الله عنه أقر الأول وعمل به وأمر به، ولكن الناس سائرون إلى(5/189)
ما تستخفه نفوسهم ويحبذون ذلك، ولعل هذا ينجز وتعمد الحكومة على العمل به لأن الناس ميالون إلى كل ما فيه يسر ولو خالف عمل السلف الصالح، وفيه إشارة إلى قوله صلّى الله عليه وسلم: لتتبعن سبل من قبلكم حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه، ولتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع. كان صلّى الله عليه وسلم ناظر إلى ما تحدثة أمته من بعده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) وله مراجعتها بعد طلقة أو طلقتين في العدة دون رضاها، وله تجديد العقد عليها بمهر جديد ورضاها بعدها.
ويملك على زوجته الأمة طلقتين فيراجعها بالعودة بعد الواحدة دون رضاها وبعدها برضاها وعقد ومهر جديدين. وفي الطلاق البائن دون الثلاث يجوز العقد عليها ضمن العدة وبعدها برضاها ومهر جديد. ثم حذر الله تعالى الرجال من أن يضارّوا النساء كي يأخذوا ما أعطوه لهنّ من المهر بقوله عز قوله «وَلا يَحِلُّ لَكُمْ» أيها الرجال «أَنْ تَأْخُذُوا» على الطلاق «مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً» أبدا من مهر أو غيره إذا طلقتموهن برضاكم، وهذا في غير المخالعة إذ يجوز أخذ شيء من المهر أو كله إذا كانت لا تريده، أما هو إذا كان لا يريدها فلا يحل له أخذ شيء أصلا «إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ» من واجبات الزوجية المارة الذكر والمحبة والألفة والمودة القلبية، إذ النفرة فيها موجبة لعدم القيام بحقه كالنفرة منه «فَإِنْ خِفْتُمْ» يا أولياء الزوجين «أَلَّا يُقِيما» الزوجان منكم «حُدُودَ اللَّهِ» بينهما كما هما مكلفان بها وتحققتم أن كلا منهما لا يقوم بواجبه تجاه الآخر كما هو مطلوب منه دينا ومروءة «فَلا جُناحَ» لا إثم «عَلَيْهِما» إذا طلب كل منهما أو أحدهما فراق صاحبه ولا بأس على المرأة «فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ» نفسها من المال الذي تعطيه لزوجها بمقابل خلعها، ولا إثم على الزوج في أخذ ذلك، لأنه تكبّد مهرها أولا وفراقها ثانيا لأنها لم تألفه وقد أخذها على حب بها، وعلى الحكام أن يقوموا بذلك وأن يمكن الأولياء صلاحية التفريق بينهما إذا لم يمكن الإصلاح وبقاء الزوجية على ما يريد الله، إذ لا يجوز أن تبقى المرأة مضارة لزوجها، ولا الزوج مضارا لها، ولا أن يبقى مع امرأة لا تألفه، والدين يسر لا عسر فيه، والشريعة غراء سمحة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآيتين 35 و 128(5/190)
من سورة النساء الآتية. «تِلْكَ» الأحكام المارة الذكر هي «حُدُودَ اللَّهِ» الواجب عليكم أيها المؤمنون الوقوف عندها «فَلا تَعْتَدُوها» وتعرضوا أنفسكم للشقاق والخصومة في الدنيا والعقاب والعذاب في الآخرة، ولهذا يهددكم ربكم بقوله جل قوله «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ» التي حدها لعباده «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 229» أنفسهم بما يحيق بهم من النزاع والنفرة في الدنيا، والجزاء في العقبى لتجاوزهم على الله ذاته بعدم اتباعهم أوامره، ومن أظلم ممن يتجاوز عليه.
نزلت هذه الآية في جميلة بنت عبد الله بن أبي أوفى أو في حبيبة بنت سهل الأنصاري كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها، فشكت لأبيها بأنه يضربها ويشتمها، فقال ارجعي إلى زوجك فإني أكره أن تشكو المرأة زوجها، قالت فرجعت المرة بعد الأخرى وأبوها لا يسمع لها، فذهبت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وذكرت له ذلك، وقالت يا رسول الله لا أنا ولا هو، فأرسل إليه وسأله، فقال يا رسول الله والذي بعثك بالحق نبيا ما على وجه الأرض أحب إلي منها غيرك، فقال لها ما تقولين؟ فكرهت أن تكذب، فقالت صدق وهو أكرم الناس حبا لزوجته، وما كنت أحدثك حديثا ينزل عليك خلافه، وإني أبغضه، فسأله فقال أعطيتها حديقة نخل، فقال لها تردين عليه حديقته وتملكين أمرك؟ قالت نعم، فرضي وطلقها. وروى البخاري عن ابن عباس ما يؤيد هذا وإنما أمرها بإعادة المهر لأن القصور كله منها، وكان هذا متعارفا في الجاهلية، ومعمول به في الإسلام حتى الآن عند عرب البادية بلا نكير. وعليه العمل بالمحاكم الشرعية أيضا أما إذا كان القصور من الجهتين فلا ينبغي أن يعاذ كل المهر بل بعضه ولا يجوز أخذ الكل إلا إذا كان كلّه منها وبطلبها التفريق كما في هذه القضية، لأنه مغبون مظلوم، ولذلك قال لها صلّى الله عليه وسلم تردّين عليه حديقته، ولهذا فإذا كان هو الذي لا يريدها فلا يجوز له أخذ شيء منه أصلا كما سيأتي في الآية 21 من سورة النساء أيضا لما فيه من الوعيد والتهديد. ومع هذا إذا احتمل الزوج سوء خلق زوجته وهي كذلك فهو أولى وأثوب ولهما الأجر العظيم عند الله تعالى، لأن أبغض الحلال إلى الله الطلاق كما جاء في الحديث الشريف الذي أخرجه أبو داوود عن ابن عمر،(5/191)
وكذلك إذا كان دميما وهي وسيمة، أو بالعكس فللصابر على صاحبه ثواب عظيم عند الله. وجاء أيضا أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة- أخرجه أبو داود والترمذي عن ثوبان- ولا يجدر بالمرأة العاقلة أن تكون كالمتاع والدابة تباع من واحد إلى آخر وإن كان حلالا، فلو تحملت زوجها على سوء خلقه ودمامته خير لها، من أن تطلقه وتأخذ غيره خلوقا وضيئا ولا تدري هل تنشرح عنده أم لا، وقد يهون عليها فراق الآخر أيضا، وقد تندم على الأول، ومهما كانت شريفة عليها أن تتواضع لزوجها مهما كان إذا تقيد بحقوقها وراعى شروط الإسلام معها، فقد روي عن معاذ في حديث ساقه عن النبي صلّى الله عليه وسلم لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت أن تسجد المرأة لزوجها. وما بعد هذا تحريض على طاعة الزوجة لزوجها وناهيك به «فَإِنْ طَلَّقَها» ثلاثا «فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ» هذا الطلاق البات «حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» نكاحا حقيقيا بالدخول الشرعي المنبئ عنه قوله صلّى الله عليه وسلم الآتي بعدا. نزلت هذه الآية في تميمة أو عائشة بنت عبد الرحمن القرضي لما روى البخاري ومسلم عن عائشة، قالت جاءت امرأة رفاعة القرضى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت إني كنت عند رفاعة فطلقني بت الطلاق، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وانما معه مثل هدية الثوب فتبسم صلّى الله عليه وسلم وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته. أي أن العقد ووجود الخلوة لا يكفيان لحل الرجوع إلى الزوج الأول بل لا بد من الدخول حقيقة «فَإِنْ طَلَّقَها» الزوج الثاني بعد وطئها على الوجه المار ذكره «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا» بعقد ومهر جديدين، وهذه الرجعة معلقة على الشرط المبين بقوله تعالى «إِنْ ظَنَّا» تيقنا «أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ» بينهما من حقوق الزوجية المارة وإلا فلا إذ لا فائدة من المراجعة «وَتِلْكَ» الأحكام المبينة أعلاه هي «حُدُودَ اللَّهِ» الواجب مراعاتها على الزوجين والتقيد بها «يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (220) ماهيتها ويفهمون مغزاها ويفقهون مرماها فيعملون بها. الحكم الشرعي: يشترط للزوجة التي تريد الرجوع إلى مطلقها باتا أن تتزوج بغيره بعد انقضاء عدتها منه، ثم يشترط أن تمكن الزوج(5/192)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
الثاني من الدخول بها حقيقة، وبعد طلاقها منه وانقضاء عدتها تعود لزوجها الأول بعقد ومهر جديدين، وإلا فلا تحل له إذا فقد أحد هذه الشروط. واعلم
أنه لا يجوز أن تزوج نفسها لمدة معلومة، لأن هذا نكاح باطل وعقد فاسد، لأن النكاح إذا لحقه شرط كهذا أفسده، وعقد النكاح عندنا معشر أهل السنة والجماعة لا يكون موقتا كمن يذهب مذهب حل المتعة، والزواج لمطلق التحليل مشئوم مذموم فاعله. روى ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه لعن المحلل والمحلل له. - أخرجه الترمذي- وورد أنه قال هو التبس المستعار. وقال نافع أتى رجل إلى ابن عمر فقال إن رجلا طلق امرأته ثلاثا فانطلق أخ له من غير مؤامرة فتزوجها ليحلها للأول، فقال لا إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله، وإنما قرن رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا الفعل باللعن لأنه ليس من أخلاق المؤمن لمنافاته الشروط المطلوبة فيه والغيرة على نفسه، والمؤمن عزيز لا ينبغي أن يعمل ما فيه هو انه بين الناس.
كراهة الطلاق وجواز الخلع على مال وحرمة أخذه إن كان لا يريدها ووقوع الطلاق الثلاث:
قال تعالى «وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ» طلاقا رجعيا أو بائنا دون الثلاث «فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» شارهن على انقضاء العدة، والذي يؤيد أن معنى بلغن هنا قاربن قوله تعالى «فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» أرجعوهن لعصمتكم وأبقوهن عندكم وعاملوهن بالحسنى، ولو كان معناه قضين عدتهن وخلفها لما أمر الله تعالى بإمساكهنّ إذ لا يجوز لأن الطلاق يصير بائنا والبائن لا بد له من عقد ومهر جديدين. وجاء في القرآن بالألفاظ الصريحة للطلاق، وهناك ألفاظ تعورف عليها بوقوع الطلاق كالحرام وغيره مما عده بعض العلماء من الكناية عن الطلاق، وعده غيرهم من الصريح. ومن الكنايات المتفق عليها لفظ (تراكي طالق فقد جاء في فتاوى الخليلي من الشافعية ص 130 ما نصه لا ريب أن هذه الصيغة كناية طلاق.
ولا بد في الكنايات من النيّة، فلو نوى الرجل إيقاع الطلاق على زوجته بما ذكره(5/193)
وقع، وإن لم ينو فلا. وهناك كنايات اصطلح عليها مبينة في كتب الفقه مثل روحي وأنت خلية برية، فكلها تحتاج إلى النية، أما صريح الطلاق فلا يحتاج بل يقع بمجرد صدوره وهو من الثلاث التي جدهن جد وهزلهن جد، والطلاق الثلاث بلفظ واحد قد تعارفوا على وقوعه ثلاثا مع أنه لا يعتبر ظاهرا إلا طلاقا واحدا ولو تكرر في مجلس واحد يعتبر واحدا أيضا كما عليه الآن محاكم حكومة مصر اتباعا لما كان في بداية الإسلام، وإن إيقاعه ثلاثا كان بخلافة عمر رضي الله عنه زجرا للناس من أن يلوكوا بألسنتهم كلما تغالطوا أو تخالفوا على شيء حلقوا بالطلاق الثلاث أو أوقعوا الطلاق الثلاث على زوجاتهم بلفظ واحد أو بألفاظ متعددة.
ولكن مع الأسف لم يؤثر فيهم هذا، فتراهم كلما قاموا أو قعدوا حلفوا بالطلاق أو طلقوا، ولهذا فإن ما ذهبت إليه حكومة مصر فيه وسعة للعوام ورحمة بالنساء الغائلات، إذ يطلقن بلا سبب. وجاء في صحيح مسلم أن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر رضي الله عنهما طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر إن الناس قد استعجلوا في أمر كان فيه إتاءة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه. أي أوقعه ثلاثا زجرا لهم، وكان ذلك زمن الأصحاب والخلفاء الراشدين ومن بعدهم، واستمر عليه العمل حتى الآن، واعتبار الثلاث واحدة مأخوذ من قوله تعالى (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) باعتبار أن ما يوقعه المطلق من الطلاق مهما كان متعددا يعتبر مرة واحدة، وعليه الفخر الرازي وجماعة من المفسرين.
راجع الجزء السادس ص 5 من المبسوط للإمام السرخسي. هذا، وحكم الرجعة أن يشهد رجلين على قوله راجعت زوجتي فلانة لعصمة نكاحي ضمن العدة أو يعاملها معاملة الأزواج خلال العدة، فيكون راجعها فعلا «أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» بأن تتركوهن بلا رجعة حتى تنقضي عدتهن، فيملكن أمرهن، وهذا مما يؤكد أن معنى بلغن قاربن كما مر «وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً» بهنّ لا رغبة «لِتَعْتَدُوا» عليهن فيضطررن لفداء أنفسهن بأن تراجعوهن لهذه الغاية لا للإمساك بالمعروف، ولهذا يقول الله تعالى «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ» الإمساك بقصد الإضرار «فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» وعرضها لعذاب الله بمخالفته حدوده التي نهى عنها ومخالفة أمره(5/194)
من الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان «وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ» التي بينها لكم في حق النساء وغيرهن «هُزُواً» لعبا وسخرية من غير مبالاة بها ولا تدبر لما يترتب على الإعراض عنها من العذاب. وهذه الجملة والتي قبلها جاءت بالتهديد والوعيد لمن يقدم على مخالفة ما حده الله في أمر النساء خاصة، لأن الإضرار بقصد أخذ الفداء عظيم عند الله، لا سيما إذا كانت المرأة فقيرة، فإنها تضطر للبقاء تحت ظلمه، والله تعالى لا بد أن يغتار للمظلوم في الدنيا والآخرة. وسبب نزول هذه الآية أن الجاهليين كانوا يكثرون من الطلاق والمراجعة بقصد إضرار الزوجة وإلجائها لرد ما دفعوه لها من المهر بعد قضاء شهوتهم منها، وإذا عوتوا على فعلهم هذا قالوا إنا لا عبون غير جادين بما نوقعه على أزواجنا، فمنعهم الله من ذلك وأوعدهم وهددهم لئلا يعودوا لمثله. أخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة. وعن أبي الدرداء: ثلاث اللاعب فيهن كالجاد النكاح والطلاق والعتاق. وعن عمر رضي الله عنه:
أربع مقفلات النذر والطلاق والعتق والنكاح. ومعنى مقفلات أنه متى نطق بهن الرجل وجين عليه إذا لم تعلق على شرط فإنهن لا يقعن إلا بوقوعه «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» فيما بين لكم مما لا بد لكم منه والزموا أنفسكم الأخذ بها لتظهر عليكم آثار هذه النعمة «وَ» اذكروا نعمة «ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ» واعملوا بها لأن الله «يَعِظُكُمْ بِهِ» لتنتفعوا بامتثال ما أمركم به وبانتهاء ما نهاكم عنه في كتابه وعلى لسان رسوله «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها الناس خافوه واخشوا عقاب عدم امتثال أمره «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 231» لا يخفى عليه حالكم ونيتكم، فأحسنوا قلبا وقالبا وإلا فإنه سيصب عليكم بلائه من حيث لا تشعرون ولا مخلص لكم منه. نزلت هذه الآية في ثابت بن يسار الأنصاري لأنه طلق امرأته حتى إذا شارف أجل انقضاء عدتها راجعها بقصد إضرارها وإلجائها لإعادة ما أخذته من المهر. قال تعالى «وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» أي انقضت عدتهن، ويدل على أن المراد هنا من (بلغن) قضين قوله جل قوله «فَلا تَعْضُلُوهُنَّ» أيها الأولياء فتمنعوهن(5/195)
من الزواج، لأن معنى العضل هو المنع والضيق والشدة، قال أوس بن حجر:
وليس أخوك الدائم العهد بالذي ... يذمك إن ولّى ويرضيك مقبلا
ولكنه النائي إذا كنت آمنا ... وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
أي لا تمنعوهن «أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ» الأول بعقد جديد إذا كان الطلاق دون الثلاث لأن الآية مصدرة بطلقتين والذي مر كله مفرع عنها، ومما يدل على أن المراد بالأزواج هم الأول قوله تعالى «إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ» أي بعد ما وقع بينهم النفار والشقاق وحلوا الاختلاف فيما بينهم «ذلِكَ» الذي وعظكم الله به «يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ويعلم أن الله سيعاقبه فيه، فمن لا يتعظ بموعظة الله لا يؤمن به ولا يؤمن باليوم الآخر، فيكون خارجا عن حدود الله مخالفا أوامره مقترفا نواهيه دون تأويل «ذلِكُمْ» الذي أمر، به من ترك العضل والإضرار والإمساك بالمعروف والإحسان «أَزْكى لَكُمْ» أيها الناس عند الناس، لئلا يقال فيكم ما يثلب كرامتكم من الانتقاد، ومظنة أخذ الفداء من النساء، أو زواجهن ثانيا لأخذ مهورهن في حالة العضل «وَأَطْهَرُ» لقلوبكم وقلوب الناس مما يحوك فيها من ذمكم وغيبتكم، وأجمع للمودة وأقرب للثناء الذي هو خير من الغنى، وأبعد من أن تمزّقوا أعراضكم بما تلوكه ألسنة الناس فيكم، وأزكى لكم عند الله تعالى لرضاه عليكم بامتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه وزواجره رغبة لا رهبة، ومن هنا أخذ العلماء اشتراط رضى الولي بالنكاح قريبا كان أو بعيدا ثيبا كانت أو بكرا، ولهذا البحث صلة في الآية 25 من سورة النساء الآتية «وَاللَّهُ يَعْلَمُ» بأن الذي حده لكم في هذه الآيات هو خير لكم في دينكم ودنياكم وعاقبة أمركم «وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 232» عواقب الأمور وما يترتب على الامتثال في الإصلاح بينكم وما ينجم عن الخلاف من عواقب سيئة، لأنكم تجهلون النتائج وما ينشأ عنها. وليعلم أن حكم هذه الآيات كلها عام مطلق، وأن نزولها بسبب خاص لا يخصص عمومها ولا يقيد إطلاقها، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، والآية الأخيرة نزلت في معقل بن يسار المزني إذ منع أخته جميلة من الرجوع إلى زوجها عاصم بن عدي أبي القداح(5/196)
لأنه زوجها إليه رغم طلبها من الكثيرين، فطلقها وتركها عنده حتى انقضت عدتها وخطبت من قبل الغير، فكلفه أن يرجعها إليه فأبى لأنه تركها حتى خطبت وقال والله لا أنكحها لك أبدا وهي تريد الرجوع إلى زوجها الأول، فلما نزلت الآية كفر عن يمينه وأنكحها إياه لإرشاد الرسول له ولغيره بأن من حلف يمينا ورأى أن في حنثه خيرا فعل ما هو الخير وكفر عن يمينه كما مر، وقد أخرج هذا الحديث البخاري والنسائي وغيرهما في معقل المذكور، وقيل نزلت في جابر بن عبد الله لما طلق ابنة عمه زوجها وأراد إرجاعها فأبى عليه قائلا أتطلق ابنة عمي ثمّ تريد أن أرجعها إليك. كأنه أنف من ذلك تعظما عليه ولا مانع من تعدد الأسباب.
مطلب في الرضاع وعدة الوفاة والطلاق وما يجب فيهما ونفقة الأولاد والمعتدات:
قال تعالى «وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ» من مطلقهن «حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ» أي يبلغ غايتها، لأن أقل الحمل ستة أشهر، فأكثر الرضاع سنتان لقوله تعالى (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) راجع الآية 15 من سورة الأحقاف في ج 2 تجد تفصيل هذا البحث وما يتعلق به، وهذا الأمر للندب لأن المطلقة لا تجبر على إرضاع ابن مطلقها إلا إذا لم يأخذ ثدي غيرها، وكذلك لا تجبر على الإرضاع حال قيام الزوجية، لأنه لو كان واجبا عليها لما استحقت الأجرة عليه المبينة بقوله تعالى «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» بقدر حالة الطرفين قدر الاستطاعة لا ضرر فيه ولا إضرار بالنسبة لليسار والإعسار وأمثالهما «لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها» قدر طاقتها «لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها» بأن ينزع منها إذا كانت تريد إرضاعه وتربيته، لأنها خير له وأسفق من يغرها مهما كانت قريبة له وهي أرفق به ولبنها أحسن له من لبن غيرها ومن اللبن المجمد أو الميبس لأن الله خلق لكل ما يليق به ويحسنه، وهو الذي أحسن كل شيء خلقه، وفي أخذه منها إضرار بها لانشغال فكرها عليه وضيق صدرها من فراقه وَلا» يضار «مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ» بأن يكلف أن يعطيها أكثر من أجر مثلها أو خارجا عن وسعه وطاقته، وأن لا تلقيه عليه بعد أن ألف إرضاعها فيكلف على المراجعة بإرغامها على إرضاعه(5/197)
لأن الولد يتضرر أيضا في هذه الحالة علاوة على ضرر أمه «وَعَلَى الْوارِثِ» لأبي ولي الصغير «مِثْلُ ذلِكَ» مثل ما على أبيه لو كان حيا، إذ يجب عليه أن يقوم مقام أبيه بحقه، وإذا كان للولد مال فنفقته من ماله لا على وليه ووارث أبيه، إلا أن الولي عليه أن يتولى ما له ويحافظ عليه وينميه له «فَإِنْ أَرادا» الوالدان أو الولي والأم «فِصالًا» فطاما قبل الحولين «عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ» بينهما ومع الغير وظهر لهما بعد التروي أن فطامه بالسن الذي بلغ إليه حين إرادة الفصال لا يضره وتحقق ذلك لديهما بإخبار العارفين بذلك، واتفقا عليه «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما» في فطامه ولا حرج ولا إثم، ولوليه أخذه منها إذا أسقطت حقها في حضانته أو سقطت بوجه من الوجوه الشرعية كزواجها بأجنبي أو تحقق عدم أمنها عليه، لأن الولد له لا لأمه، وقيل في المعنى:
لا تزدري بفتى من أن يكون له ... أم من الروم أو سوداء عجماء
فإنما أمهات الناس أوعية ... مستودعات وللأبناء آباء
وإن تبين أن فطامه يضرّه فلا يجوز وتحبر على إمساكه إذا كان لا يقبل ثدي غيرها حتى يستغني، وإلا فيرضعه غيرها، ولهذا قال تعالى «وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ» غير أمهاتهم لعلة أو لغير علة وكان يقبل ثدي المرضعة «فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» في ذلك ولا إثم إذا كانت أمه راضية بذلك ولا مانع يمنعها من حضانته، لأن هذا جائز حتى حال قيام الزوجية فلأن يجوز بعدها أولى بشرط عدم تحقق الضرر بالولد وبما «إِذا سَلَّمْتُمْ» أمه ما تراكم عليكم من نفقة وأعطيتم «ما آتَيْتُمْ» الظئر الذي ترضعه ما تستحقه من الأجرة إذا لم تكن متبرعة حتى يأمنوا على الولد من الضرر، وليكن تسليمكم الأجرة لأمه أو لمرضعته «بِالْمَعْرُوفِ» عن طيب نفس وليطيب قلب المرضعة وتزداد رغبة في النظر إلى الولد والمحافظة عليه كابنها فلا تفرط فيه، ولا تعتذر من عدم إرضاعه، ولا تهمله، ولا تنصرف عنه لما يشغلها عنه، وتراعيه حق رعايته «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها الآباء والأولياء والمرضعات والأمهات في حقوق الأولاد، فإن في مخالفتها ضياع الولد وهضم حقوق والديه وأوليائه إذا كان القصور من أمه، وحقوق أمه إذا كان(5/198)
القصور من أبيه أو وليه، وعلى المقصر الآثم «وَاعْلَمُوا» أيها الأولياء والأمهات والمرضعات «أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ» في الأولاد وغيرهم «بَصِيرٌ» (233) في ظواهر أعمالكم وبواطنها فاحذروه وأحسنوا نياتكم. وفي هذه الجملة من التهديد ما هو غني عن البيان، وهذا هو الحكم الشرعي في الرضاع والحضانة وقد علمتم مدة الرضاع. أما الحضانة فهي سبع سنين للولد، وتسع للبنت على أصح الأقوال، والأصل فيها الاستغناء عن الخدمة عرفا بأن يستغنيا عن خدمة الأم في نظافتهما ولباسهما وأكلهما وشربهما، وإلا فلا، ولهذا الأمر في هذا الشأن للقاضي النقي الأمين ويفهم من الآية أن كلا من الأب والولي مكلف بنفقة المرضعة وكسوتها علاوة على حوائج الولد الضرورية حتى نهاية مدة الرضاع، أما في الحضانة فيكلف الولي بنفقة كافية للولد كافلة بجميع لوازمه وأجرة الحاضنة بمثابة خادمة له، وتختلف النفقة والأجرة باختلاف الأشخاص والأمكنة، ويراعى فيها قوله تعالى آنفا (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) وقوله عزّ قوله (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) الآية الآتية والأحسن أن يكون باتفاق الطرفين ليعطيها المعطي عن طيب نفس ويأخذ الآخذ كذلك، وهي أحسن من التقدير بمعرفة الخبراء، لأن كلا منهما يميل لطرف غالبا، وقد لا يرضى بتقديرهما أحدهما أو كلاهما، والنفقة تثبت ويلتزم بها بالتراضي أو بحكم القاضي، وتعتبر من يوم الطلب سواء كانت في ماله أو في مال وليه لئلا يتضرر بالتسويف والمماطلة التي قد تكون من الولي أو من الحاكم قال تعالى «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ» يتركون «أَزْواجاً» واحدة فأكثر أحرارا أو إماء «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً» من الأيام. وجاء عشر بلفظ التأنيث لأن العرب إذا أبهمت في العدد من الليالي والأيام غلبوا الليالي حتى أن أحدهم يقول صمت عشرا من الشهر وذلك لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام، فإذا أظهروا الأيام قالوا صمنا عشرة أيام «فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» بانقضاء هذه المدة «فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» أيها الأولياء «فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ» من الزينة وغيرها حتى انقضت مدة حدادهن على أزواجهن أما في أثناء العدة فليس لهن التزيّن ولا الخضاب ولا غيره، وإذا فعلن أثمن وإذا لم ينههن أولياؤهن أثموا أيضا لما فيه من مخالفة أمر(5/199)
الله وإغضاب أولياء أزواجهن المتوفين «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (234) لا يخفى عليه شيء من أحوالكم، قد أعلم الله تعالى عباده في هذه الآية أن عدة الوفاة غير عدة الطلاق، لأن الحزن فيها أشد منه، ولأن في الطلاق أمل المراجعة ولو بعد زوج آخر، وهذا الأمل منعدم في الوفاة، ولأن الطلاق قد يكون عن شقاق وعداوة ونفرة وهذه أيضا منعدمة في الوفاة غالبا، وجاءت عامة في كل من توفى عنها زوجها، إلا أن هذا العموم مخصوص فيما إذا كانت حاملة فإن عدتها تنقضي بوضع حملها حرة كانت أو أمة كما سيأتي في الآية 5 من سورة الطلاق، إذ جاءت مطلقة لم تقيد بقيد ما وعامة لما تخصص ومتأخرة في النزول عن غيرها إذ لم ينزل بعدها شيء في أمر
العدة فيدخل في إطلاقها المعتدة عن طلاق أيضا فإنها بالوضع تنتهي عدتها كالمتوفى عنها زوجها. ويشترط لعدة الوفاة الإحداد وهو ترك الزينة حتى الكحل والطيب واللباس غير المعتاد للبيت والحلي وغيره، وعلى كل امرأة فقدت عزيزها أن تحد عليه على أن لا تزيد على ثلاثة أشهر إلا بالوفاة، فتكون أربعة أشهر وعشرة أيام. روى مسلم عن عائشة قالت: إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا.
وهذا إذا مات عندها، أما إذا مات في غير بلد فتحد من يوم بلوغها خبر وفاته، لأن الغائب عنها زوجها لا تتزين عادة إذ يحرم عليها الزينة لغير زوجها. وقال أكثر العلماء إن الإماء عدتهن نصف عدة الحرائر سواء في الوفاة والطلاق. قال تعالى «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ» أشرتم ولوحتم، لأن التعريض هو أن يضمن المتكلم كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده وغير مقصوده، ولكن إشعاره بجانب المقصود أتم وأوضح، وأصله إمالة الكلام عن نهجه إلى عرض منه أي جانب منه، وكان يحول حوله ولا يظهره، كقول المحتاج جئت لأسلم عليك ويذكر حاجته تلويحا بما يريده، بخلاف الكتابة لأنها الدلالة على الشيء يذكر لوازمه وروادفة كقولك طويل النجاد لا طويل، وكثير الرماد للكريم، وعريض الوساد للبليد، وكقول المحتاج للغني أنا كالذي أي ان لفظ الذي يحتاج إلى الصلة كي يتم الكلام به، والفقير يحتاج للصلة ليسد عوزه فكل ما يوعز به «مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ» المتوفّى رجالهن بطريق(5/200)
التعريض جائز، أما التصريح أثناء العدة فمحظور. هذا، وقد قال الشرنبلالي في حاشيته على الدرر هذا إذا كانت عن وفاة وكذلك إذا كانت عن طلاق فلا يجوز التعريض أيضا ولو كان بائنا كما في البيتين أي ضمن عدة الطلاق فقط وذلك والله أعلم حرمة لمطلقها الحي لأنه قد يتأذى والأذى معدوم في الميت، وحرمة الميت دون حرمة الحي، لأنه أفضل منه بما يصنع من عبادته لربه وخيره لخلقه وصلة لرحمه.
والتعريض هو أن يقول فلانة صالحة جميلة فمن يرغب في نكاحها ويطلب تزويجها وأني محتاج للزواج إذا يسر الله لي مثلها، ويجوز أن يسمعها هذا القول بنفسه أو بالواسطة، فإذا كانت ترغب فيه حبست نفسها له وردت خطبة غيره. والخطبة بكسر الخاء كالجلسة من الخطيب بمعنى الشان أو من الخطاب بمعنى الاستلطاف بالقول. أما الخطبة بضم الخاء فهي خطبة الجمعة وشبهها. والتعريض بما ذكر مباح، وكذلك بما يتصوره في فكره أو يتخيله بقلبه لقوله تعالى «أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ» بأن عزمتم على زواج من توفى عنها زوجها وأصررتم عليه، فلا حرج ولا إثم في ذلك الإضمار مهما كان نوعه، لأنه غير منهي عنه، وهو عبارة عن حديث النفس الذي لا يؤاخذ عليه العبد وإنما أباح الله تعالى لكم هاتين الطريقتين ولم يؤثمكم عليهما لأنه «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ» بين للناس وبين أنفسكم وفي قلوبكم بسائق الشهوة والتمني الذين لا يخلو أحد منهما «وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا» بأن تتصلوا بهن وتقولوا لهن صراحة بأنكم تريدون الزواج بهن أو تأخذوا منهن عهدا أو ميثاقا على التزوج بكم وإذا كان هذا في السر منهيا عنه ففي الجهر من باب أولى وقال أكثر المفسرين ان كلمة (سِرًّا) هنا بمعنى نكاحا وزواجا أو جماعا أو زنى وكله خلاف الظاهر لأن الله تعالى أذن أول الآية بالتعريض ونهى في آخرها عن التصريح يؤيده قوله جل قوله «إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً» بما يشابه الألفاظ المتقدمة ويجوز أن تتذاكروا مع وليها بمثل تلك الألفاظ وتزيدوا عليه بأنكم تحبون الانتساب إليه وترغبون بمصاهرته في المتوفى عنها زوجها لكمالها وأدبها ونسبها وحسنها فكل هذا لا إثم فيه ولا حرج في فعله «وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ» في العدة أو تحقنوا إجراءه أو تصمموا عليه فيما بينكم إذ ترك العزم على العقد(5/201)
واجب عليكم «حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ» سمى الله العدة كتابا لأنها فرضت فيه وكتبت على البشر فإذا قضيت فلا محذور عليكم في الخطبة تصريحا وإجراء العقد علنا «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ» فضلا عما تتكلمون به شفاها «فَاحْذَرُوهُ» أيها الناس لا تخالفوا أمره أو تروغوا عن تعاليمه «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما سبق منكم في هذا الشأن لأنكم لا تعلمون تحريمه ولم يسبق النهي عنه من قبل نبيكم لعدم تلقيه وحيا عنه «حَلِيمٌ» (235) يستر على عباده ما يقع منهم ولا يستفزه الغضب فيفضحهم حال ارتكابهم ما حرم عليهم بل يمهلهم ويؤخر عقوبتهم لعلهم يتوبون. قال تعالى «لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ» تجامعوهن «أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً» فلم تسموا لهن صداقا وهذه الجملة معطوفة على العقد المخفي وهذا التفسير أولى من جعل (أَوْ) بمعنى إلا لأنه خلاف الظاهر وأن هذا النوع من أنواع الطلاق آت في الآية التالية وهو فيما إذا كان العقد لم يسم فيه مهرا وقد نزلت في رجل من الأنصار تزوج من بني حنيفة امرأة ولم يسم لها مهرا ثمّ طلقها فقال صلّى الله عليه وسلم أمتعها ولو بقلنسوة، ووجه نفي الحرج مع أنه لا حرج بالطلاق قبل المس أو بعده لما فيه من سبب قطع الوصلة ولهذا قال تعالى «وَمَتِّعُوهُنَّ» تطييبا لخاطرهن بما تطيب به نفوسكم أيها المطلقون من أنواع المتاع لا تضييق عليكم فيما تعطونه لها «عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ» بحسب إمكان الرجل ومكانته وإمكانه «مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ» من غير حيف ولا عنف بلين ورفق وطيب نفس. واعلموا أن تمتع المطلقات كان ولا يزال «حَقًّا» واجبا لازما لا ندبا ولا مباحا «عَلَى الْمُحْسِنِينَ» (236) معاملة النساء الذين يراعون حقوقهن ويرغبون فى إرضائهن إجابة لإرادة ربهم وهذه المتعة هي المسماة الآن بنفقة العدة ويجبر الزوج عليها في كل الأحوال إلا إذا لم يختل بها إذ لا عدة عليها ولا نفقة عليه لأنها شرعت بمقابل حبس المرأة نفسها عن الزواج خلالها، أما إذا طلقت على هذه الصورة فينبغي أن يعطيها المتعة سواء اختلى بها أم لا لإطلاق الآية ولأنها عبارة عن تطييب قلبها لأنها قد يلحقها حيف وتهمة بسوء خلقها أو خلقها أو نسبها هذا إذا لم يكن الطلاق على طلبها وإلا لا. قال تعالى «وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ(5/202)
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ»
أي يلزمكم نصف «ما فَرَضْتُمْ» على أنفسكم
من المهر المسمى عند العقد لا مهر المثل لأنه لا يرجع إليه إلا عند عدم التسمية «إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ» عنكم أو يسامحونكم به أنفسهن أو أولياؤهن برضائهن والنون في (يَعْفُونَ) ضمير جمع المؤنث ولهذا لم يسقطها الناصب إذ يستوي فيه الرفع والنصب، ومن قال إنه ضمير الرجال قال إن النون علامة الرفع ولم يسقطها الناصب لأن الفعل مبني لا يؤثر فيه الناصب كما لم تسقط الواو التي هي ضمير المذكر وإنما سقطت الواو التي هي لام الفعل وإسناده للنساء أولى بالمقام، يؤيده قوله تعالى «أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» من أوليائهن إن كن قاصرات أو غير حائزات شروط التصرف لأن الولي هو القيّم عليها وقد يكون هو الذي زوجها وهو الذي ألزم الزوج مهرها ولذلك له أن يعفو عن المهر وغيره «وَأَنْ تَعْفُوا» أيها الأولياء والنساء البالغات الحائزات حق التصرف عن نصف المهر المذكور أو عن بعضه فتبرئوا ذمة الأزواج منه فهو «أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» من أن تأخذوه وفي حالة العفو ينبغي للزوج أن يمتعها بما تسمح به نفسه تطييبا لخاطرها، ثم بين سبب العفو بقوله عز قوله «وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ»
لأنكم تقاربتم بسبب هذا الزواج فليدم بينكم الإحسان لأن في الأخذ قطيعة له وسبب للتخاصم وفيه حث الطرفين على كرم الأخلاق وإذا عفى الزوج وترك المهر كله فهو أولى والفضل لمن تسمح نفسه بما يستديم به مودة الآخر إذ قد يؤدي هذا التسامح إلى الرجعة فلا يبقى محل للحقد والبغضاء والمشاحنة وهذا هو المعروف والإحسان المطلوبين في التفريق «إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (237) لا يضيع عمل عامل منكم فاعملوا خيرا لأنفسكم لتجدوا ثوابه عند ربكم القائل «حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ» المكتوبات «وَالصَّلاةِ الْوُسْطى» خاصة وهي صلاة الصبح على أصح الأقوال لمزيد الاعتناء بها ولزوم المحافظة عليها لأنها ثقيلة على من لم يوفقه الله لفضلها، لأن من الناس من يغفل عنها ويعرضها للضياع فيصليها قضاء وهيهات الأجر بين القضاء والأداء، وإنما رجح كونها الصبح لأنها تصلّى بمفردها سفرا وحضرا لا تقصر ولا تجمع مع غيرها ولأنها واقعة بين جمعين الظهر والعصر والمغرب والعشاء،(5/203)
ولأنها في وقت يتكاسل فيه الناس للذة النوم ورطوبة الهواء في الصيف وشدة البرد بالشتاء وفتور الأعضاء وتمادي النعاس وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين المقدرين عظيم ثوابها فهي عليهم خفيفة سهلة يسرة يأتونها برغبة وطيب نفس، وهناك أقوال بأنها العصر أو الظهر وقد بيناها في الآية 79 من سورة الإسراء في ج 1 فراجعها.
وحجة من قال إنها العصر وقوعها بين صلاتي نهار وليل: الصبح والظهر، والمغرب والعشاء. وحجة من قال إنها الظهر وقوعها وقت اشتغال الناس ولأنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي محمد عليهما الصلاة والسلام ولأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين كما ذكره بعضهم، إلا أنه لا يتجه لأن الصلاتين اللتين قبلها وبعدها مختلفتان.
وحجة من قال إنها المغرب لضيق وقتها وانشغال الناس عنها بالأعمال والطعام والنزهة.
وحجة من قال إنها العشاء كراهية الحديث بعدها إلا بخير وسنيّة تأخيرها إلى ثلث الليل لما فيه من قطع السمر المنهي عنه. ولكل وجهة وأحسنها أو لها لقوله تعالى (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) الآية المارة من الإسراء، أي يدونها ملائكة الليل والنهار لرؤيتهم لها بخلاف سائر الأوقات، وقال الشيخ محي الدين في فتوحاته إنها الوتر لقوله صلّى الله عليه وسلم: إن الله زادكم صلاة وهي الوتر ألا فصلوها إلخ، وقوله: الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني وكرره، ولختمه تعالى الآية بقوله:
(وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) وفيها القنوت في بحث مطول فراجعه. ومن أراد أن يصيبها يقينا فعليه المحافظة على كل الصلوات لأن الحكمة من إخفائها هذا كساعة الإجابة من يوم الجمعة وليلة القدر من رمضان والاسم الأعظم من الأسماء الحسنى ليستغرق العبد أوقاته في الدعاء والذكر والصلاة وإحياء الليالي فيصيب الهدف.
«وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ» (238) خاشعين خاضعين لهيبته وعظمته في صلاتكم وصيامكم وذكركم وقيامكم ودعائكم مطيعين له في كل ما يأمر وينهى، وفي هذه الجملة إشارة إلى أنها الصبح لأن القيام من النوم يكون فيها، والقنوت الذي أخذ به الإمام الشافعي فيها، والخشوع فيها أكثر من غيرها لأن الإنسان ينتبه من نومه صافي القلب لم يشغله شاغل عدا ذكر الله، وإنما ذكر الله تعالى الصلوات في تضاعيف أحكام الزواج والطلاق والنفقات والرضاع إيذان بشدة الاعتناء بها والمثابرة عليها(5/204)
من غير اشتغال عنها بشأن أنفسهم وغيرهم، وتشير إلى لزوم المحافظة عليها.
«فَإِنْ خِفْتُمْ» حال وقت أداء الصلوات من عدو أو غيره ولم تقدروا على الإتيان بها كاملة الأركان والشروط «فَرِجالًا» أي ائتوا بها قياما لأنه أبلغ في الجواز «أَوْ رُكْباناً» إذا لم تأمنوا على أنفسكم حالة القيام وفي فعلها حيثما توجهت به دوايكم ماغ لكم أيضا، وسيأتي لهذا البحث تفصيل في الآية 101 من سورة النساء فراجعها «فَإِذا أَمِنْتُمْ» من خوفكم هذا «فَاذْكُرُوا اللَّهَ» صلوا كعادتكم وعبر بالذكر عن الصلاة لا شتمالها عليه ولأنه معظم أركانها «كَما عَلَّمَكُمْ» من إكمال ركوعها وسجودها وإتمام خشوعها وخضوعها «ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» (239) شيئا قبل واحمدوا الله على ما علمكم، ويؤذن ذكر الصلاة وما يتعلق فيها بين تلك الآيات المتعلقة بالطلاق وتفرعاتها بالحث على العفو والنهي عن الترك وأخذ الفضل من المهور والإضرار بالنساء وغيره من جميع ما نهى عنه وأمر به، لأن الصلاة تهيء النفس لفضائل الأعمال كما يكمل بها فواضل الملكات لكونها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقد جيء بها هنا كالاعتراض بين البحثين ليجمع بين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلقه بالإعلام بأنها حقيقة هي معظم الدين المستعان بها على فروعه، وقد جاء في الحديث أنها عماد الدين ومعراج المؤمنين فمن قام بها حق القيام امتنع من الضرر والإضرار وأقدم على العفو والرفق والإحسان بخلق الله أجمع فضلا عمن كان بينه وبينهم صلة. قال تعالى «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً» ويوصون «وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ» بأن يمتعن «مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ» ويبقين في بيوتهن «غَيْرَ إِخْراجٍ» منها فهؤلاء تجب نفقتهن في ماله إذا أوفين بوصية أزواجهن طيلة تلك المدة «فَإِنْ خَرَجْنَ» من تلقاء أنفسهن إذ لا يجوز للورثة إخراجهن تنفيذا لوصية الميت المطلوب اتباعها «فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» أيها الوارثون ولا إثم وإنما يكون عليكم الإثم إذا أخرجتموهن وخالفتم الوصية أو قطعتم عنهن النفقة في تلك المدة ولا حرج عليكم بعد خروجهن قبل إكمال الحول أو بعده «فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ» كزينة معتادة ولباس طيب وغيره، لأن الحداد مطلوب في أربعة أشهر(5/205)
وعشرة أيام فقط التي هي مدة العدة بالنص المتقدم فإذا قضين هذه المدة فلهن أن يفعلن ما يشأن مما هو متعارف من زينة وطيب وأن يتزوجن بعدها ولا يجبرن على تنفيذ هذه الوصية للسبب الآتي «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 240» فيما شرع من الأحكام لعباده وما بين لهم من شرائعه. نزلت هذه الآية في حكيم بن الحارث الطائفي لما هاجر إلى المدينة وأبواه وزوجته وأولاده فلما مات رفع أمرهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فأعطى ميراثه لأبويه وأولاده ولم يعط امرأته شيئا لأن آية الميراث لم تنزل بعد وكانوا لا يورثون الزوجة وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها سنة كاملة إذ كانت العادة مطردة بأن الزوج بوصي لزوجته بذلك إذا أحبت البقاء سنة أو إلى تاريخ خروجها بإرادتها من بيت زوجها، لأن قضية التمتع إلى الحول ليس واجبا عليها بصريح هذه الآية بل مندوبا ومتوقفا على وصية الميت به فإن لم يوص فلا، ومما يؤكد الندب قوله تعالى «فَإِنْ خَرَجْنَ» فلو كان واجبا لكان عليهن الإثم ولجاز منعهن من الخروج ولهذا فإنهن بالخيار من تنفيذ وصية زوجها ببقائها سنة أو خروجها بعد إكمال الأربعة أشهر وعشرة أيام إلا أن إكمال السنة أولى بحقها رعاية لحق زوجها. ومن قال إن هذه الآية منسوخة بالآية الأولى المبينة أن عدة الرفاة أربعة أشهر وعشرة أيام لأن الأمر فيها للوجوب لا وجه له لأن المقدم لا ينسخ المؤخر إجماعا، وما احتج به القائل بالنسخ على ظن أن هذه الآية التي نحن يصددها متقدمة في التلاوة متأخرة في النزول عن الآية الأولى عدد 235 كآية (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) فإنها متأخرة في النزول عن آية (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) المتقدمة في التلاوة يحتاج إلى دليل قطعي ولا شيء من ذلك، وغاية ما قاله المفسرون انها متقدمة في المعنى، وهذا لا يضر ولا ينطبق عليه ما نحن فيه، راجع الآية 142 المارة تعلم أنها متقدمة في النزول والتلاوة والمعنى كهذه أيضا، لأن القائل لا يستند إلى دليل يؤيد قوله ولا إلى نقل صحيح، ولو فرضنا جدلا وقلنا إنها متقدمة في المعنى لا نقول بالنسخ لعدم وجود شرطه وهو التقدم نزولا وتلاوة ورتبة. ولا يقال أيضا إن هذه الآية
ناسخة للآية الأولى لأن الأولى جاءت بلفظ الأمر وهذه على الندب وهو أدنى حالا من الأمر والأدنى لا ينسخ الأعلى لأنه أضعف منه بدرجات(5/206)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)
والضعيف لا ينسخ القوي كما أوضحناه في المقدمة في بحث النسخ. وغاية ما في هذه الآية الدلالة على أمر بن إعطائها النفقة والسكنى من مال زوجها حسب وصيته كما كان الأمر في الجاهلية وفي بداية الإسلام، وإبقائها في بيته سنة كاملة باختيارها تنفيذا لوصية زوجها، وهذا غير العدة الواجبة عليها لأنها على القطع وهذه على التخيير، فلو فرض أن أوصى الآن زوج زوجته بذلك ورضيت فلا مانع من تنفيذ وصيته شرعا كسائر وصاياه وعلى كل حال الأحسن أن تقضي الزوجة عدتها في بيت زوجها سواء كانت عدة طلاق أو عدة وفاة، ولكن الأمر الآن جار على خلافه فلا تجد مطلقة تبقى في بيت مطلقها يوما واحدا والقصور من الطرفين في هذا.
قال تعالى: «وَلِلْمُطَلَّقاتِ» كلهن على اختلاف أنواع الطلاق «مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا» واجبا مفروضا «عَلَى الْمُتَّقِينَ 241» ما نهى الله عنه كلّا أو جزءا وعليهم أن يتسامحوا في هذه المتعة ما استطاعوا تطييبا لقلوبهن وجبرا لخاطرهن، وقد أمتع الحسن بن علي رضي الله عنهما احدى مطلقاته بثمانية آلاف درهم وكان جوابها له متاع قليل من حبيب مفارق «كَذلِكَ» مثل هذا البيان الواضح «يُبَيِّنُ» اللَّهُ لَكُمْ «آياتِهِ» المتعلقة بينكم وبين أزواجكم في حالتي الطلاق والوفاة ويمتنّ عليكم بتوضيحه «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 242» معانيها فتعملوا فيها وتعلموا الغزي منها أيها المؤمنون. هذا وقد جاءت هذه الآية مبالغة في زيادة البيان لجميع ما تقدم. وخلاصة الحكم الشرعي في هذا أن الرجل إذا تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها ولم يسم لها مهرا ولم يختل بها فعليه المتعة فقط وأقلها ثوب وإزار وخمار، ولا حد لأكثرها بحسب ما تسمح به نفسه إذ لا عدة له عليها توجب حبسها عن الزواج بغيره كي يجبر على النفقة ولها أن تتزوج يوم طلاقها وانما كانت المتعة تفضلا وكرما منه إذا كان الطلاق وقع بطلبها وان كان عفوا منه كان عليه تطييب خاطرها بما تسمح به نفسه. ثانيا إذا تزوجها وسمى لها مهرا وطلقها قبل الدخول والخلوة فلها نصف المهر المسمى فقط ولا عدة عليها ولا نفقة لها عليه وله أن يمتعها بما تجود به نفسه أيضا.
ثالثا إذا تزوجها ولم يسم لها مهرا وطلقها بعد الدخول والخلوة الشرعية فعليه مهر مثلها كأختها أو عمتها المشابهة لها بالحسن والبكارة والنسب والحسب(5/207)
وعليها العدة وعليه نفقتها وجوبا ما دامت في العدة. رابعا إذا تزوجها وسمى لها مهرا ودخل بها ثمّ طلقها فلها تمام المهر وعليه نفقة العدة وتسمى هذه المتعة في الحالات التي يجب على الزوجة فيها العدة نفقة عدة وفي الحالات التي لا تجب فيها العدة متعة.
مطلب قصة ذي الكفل ونادرة السلطان سليم وقصة أشمويل عليه السلام:
ثم طفق جل شأنه يقص علينا ما جرى على بعض أنبيائه فقال جلّ قوله:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ» وذلك أنه حلّ فيهم الطاعون فهربوا من بلدهم خوف إصابتهم به وهذا استفهام تعجب أي أرأيت يا سيد الرسل حالة هؤلاء أشاهدت مثلهم «فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا» بأن أمر ملائكته أن يصيحوا بهم صيحة هائلة فماتوا كلهم دفعة واحدة «ثُمَّ أَحْياهُمْ» بدعوة نبيهم ذي الكفل عليه السلام واسمه حز قيل ابن بوذي ثالث خلفاء بني إسرائيل وسمي ذا الكفل لأنه كفل سبعين نبيا وخلصهم من القتل ويسمى ابن العجوز لأنها كانت عقيما وسألت ربها بعد الكبر والهرم فأعطاها إياه وكانوا في قرية تسمى «ادواردان» وقد وقع بهم الطاعون فخرج قسم منهم وبقي الآخر ففتك بالباقين وعقب انقطاعه عاد النازحون فقال بقية المتخلفين منهم لو نزحنا معهم ما أصابنا ما أصابنا من فقد أولادنا وآبائنا ونسائنا وأقاربنا فإذا عاد الطاعون سنفعل مثلهم فعاد الطاعون الكرة عليهم فخرجوا جميعا من تلقاء أنفسهم دون رضاء نبيهم المشار اليه ونزلوا بواد (أفيح) فأرسل الله إليهم ملكين فصاحا بهم فماتوا عن آخرهم وقد فعل الله ذلك بهم ليعلموا هم والذين من بعدهم أن من قدر عليه الموت لا مناص له منه، فصار نبيهم يبكي ويقول يا رب كانوا يعبدونك معي وبقيت وحيدا وبقي يدعو ويتضرع الى ربه مدة أسبوع فأوحى الله إليه أني قد جعلت حياتهم بيدك فقال لهم أحيوا بإذن الله فحيوا كلهم معجزة له عليه السلام فقاموا وعاشوا معه دهرا طويلا وسحنة الموت على وجوههم، وكان موتهم هذا الذي استمر ثمانية أيام على ما قيل عقوبة لهم لما صدر منهم من القول المار ذكره فلا يقال كيف ماتوا مرة ثانية في الدنيا لأن إحياءهم كان لاستيفاء(5/208)
آجالهم المقدرة عند الله تعالى ولذلك أحياهم، فلا يرد عليه ما جاء في قوله تعالى (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) الآية 57 من سورة الدخان في ج 2 لأن معجزات الأنبياء من خوارق العادات والآية عامة مخصصة بمعجزات الأنبياء كموت سيدنا عزير عليه السلام وإحيائه كما سيأتي في القصة الآتية بعد وفيها رد على منكري البعث، إذ ثبتت الحياة بعد الإماتة بصراحة هذه الآية بلا تعريض ولا تلويح، والذي يقدر على إحيائهم في الدنيا ألا يقدر على إحيائهم في الآخرة؟ بلى وهو على كل شيء قدير وهو أهون عليه وله المثل الأعلى. روى البخاري ومسلم عن عمر أنه خرج فلما جاء (سرع) بلغه أن الوباء قد وقع بها فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فرارا منه، فحمد الله عمر ثمّ انصرف. «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ» يبصرهم بما يعتبرون به كما بصر أولئك ليتعظوا «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ 243» أفضال الله عليهم فالكافر لا يشكر والمؤمن قليل شكره، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) الآية 14 من سورة سبأ في ج 2. قال تعالى «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» يا أيها الذين أحييناكم بعد الموت «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (244) بمن يتعلل منكم عن القتال قولا ونية وأن الله تعالى يعامل الإنسان بمقتضى طويته. وفي هذه الآية تمهيد للقتال الذي سيفرضه الله تعالى على رسوله وأمته وتشجيع عليه وإعلام بأنه لا مفرّ لأحد من الموت، وأحسن أنواعه أن يكون في سبيل الله، وقيل فيه:
من لم يمت بالسيف مات بغيره ... توعت الأسباب والموت واحد
وقيل أيضا:
وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تكون جبانا
ثم أكد جل شأنه الأمر في تضاعيف الترغيب بالعمل الصالح بالوعد بمضاعفة ثواب المجاهد على وجه يتضمن تسلية الإنسان في بذل نفسه في سبيل الله وبذل ماله لعيال الله فقال «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ» نفسه وماله «قَرْضاً حَسَناً» عن طيب نفس وحسن نية وإخلاص قلب «فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً»(5/209)
لا حساب لها لأن عطاء الله لا يدخل تحت الحساب فضلا عن وصفه بالكثرة لأنه يبارك له في نفسه وماله وولده «وَاللَّهُ يَقْبِضُ» الرزق فيقتره على من يشاء لا بسبب الإنفاق «وَيَبْصُطُ» يوسعه ويكثره على من يشاء لا بسبب البخل «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 245» فرادى كما بدأكم أول مرة وتتركون ما خولكم إياه من مال وولد وراءكم في الدنيا وتحاسبون عليهما في الآخرة، فقدموا لأنفسكم ما استطعتم من الخير تربحوا وتنجحوا. أمر الله تعالى قوم ذي الكفل المذكورين بالجهاد بعد أن أحياهم وأخبرهم بفضله تمهيدا لشكره على ما أنعم به عليهم وقد نسبها لهم مع أنها من جملة أفضاله تكريما، قال عطاء الله الاسكندري: ومن فضله عليك أنه خلق ونسب إليك وقد أخبرهم أن من جاهد فكأنما أقرض الله نفسه وماله وقد تعهد الله بمضاعفة هذا القرض ومن أوفى بعهده من الله ومن يتعهد له الله يغنيه ويكفيه عن غيره. ويطلق القرض على كل ما أسلفه الرجل من خير أو شر، قال أمية ابن الصلت:
كل امرئ سوف يجزى فرضه حسنا ... أو سيئا أو مدينا كالذي دانا
وإن القبض والبسط في الرزق لحكمة تقتضيها إرادة الله لا لكون الرجل تقيا أو شقيا، فمن عرف هذا وأيقن بأن الخير فيما يختاره الله لعبده لا فيما يتصوره هو هان عليه ذلك ورضي بما عنده واستراح، قال القائل:
إذا ما تمنى الناس روحا وراحة ... تمنيت أن أشكو إليك وتسمع
فمن يشكو إلى الله ما يلاقيه منه يسمع خيرا ويصرف النظر عن الدنيا وينكب للآخرة، وقيل في المعنى:
تزود من الدنيا فإنك راحل ... وبادر فإن الموت لا شك نازل
وإن امرأ قد عاش سبعين حجة ... ولم يتزود للمعاد لجاهل
ودنياك ظل فاترك الحرص بعد ما ... علمت فإن الظل لا بد زائل
وعليه فليثق الإنسان بربه، وليقنع بما أعطاه، وليتيقن أن الخير في الواقع، وليحذر أن يكثر على ربه الأماني، فالكيس من دان (حاسب) نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني. وليعلم هذا وأمثاله أن:(5/210)
ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
نادرة: - نزل السلطان سليم الأول العثماني سامحه الله في قارب يريد العبور من الآستانة إلى اسكدار، وكان معه أستاذه شيخ الإسلام العلامة شمس الدين أحمد چلبي الشهير بابن كمال فخاطبه السلطان أثناء جريان القارب فيها بقوله:
فيم اقتحامك لج البحر تركبه ... وأنت يكفيك منه مصّة الوسل
فأجابه فورا من بحر بيته بقوله:
أريد بسطة كف أستعين بها ... على قضاء حقوق للملا قبلي
فتعجب من حسن جوابه وأحسن إليه. ثم ذكر جل ذكره على طريق الاستفهام التقريري والتعجب التذكيرين بقصة أخرى من عجائب أفعاله البديعة وصنائعه الغريبة فقال تعالى يا سيد الرسل «أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ» من أشرافهم من أهل الحل والعقد في المملكة وهؤلاء المتعجب منهم كانوا «مِنْ بَعْدِ» موت «مُوسى» عليه السلام «إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ» هو على ما قيل شمعون ابن يوشع عليه السلام، ومقول القول «ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» معه «قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا» مع ذلك الملك الذي تريدون أن يبعثه الله إليكم لأني أتوقع أن لا توفوا بوعدكم «قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» معه «وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا» من قبل الذين غلبونا ألا نريد أن نأخذ بثارنا منهم فلا بد لنا من قتالهم لننتقم منهم، فسأل نبيهم ربه عز وجل فبعث لهم ملكا وفرض عليهم القتال معه «فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا» عنه وأعرضوا عن الجهاد معه وأخلفوا عهدهم وضيعوا أمر الله «إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» ثبتوا على عهدهم مع الملك وظلم المخالفون أنفسهم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ 245» الذين ينكثون عهدهم ويخلفون وعدهم. وخلاصة القصة الثانية قالوا إن يوشع بن نون عليه السلام كان أقام في بني إسرائيل خليفة لسيدنا موسى وسيدنا هرون عليهما السلام ومن بعده كالب بن يوقنا ثم حز قيل المار ذكره آنفا بالقصة المبينة في الآية 242 المارة، فأقاموا أوامر الله تعالى فيهم بحكم التوراة بعد موت ذي الكفل حز قيل (وهذا(5/211)
غير الياس المسمى ذا الكفل راجع الآية 213 المارة وما ترشدك إليه من المواضع) عظمت فيهم الأحداث وغيروا أوضاع الدين وبدلوا قسما من التوراة ونسوا عهد الله فيهم على ما فيها وعبدوا الأصنام، فبعث الله تعالى إليهم الياس ليجدد عهده فيهم ويأمرهم أن يطيعوا الله ويعملوا بأحكام التوراة، ومن بعده اليسع، فأقاموا فيهم ما شاء الله تعالى ومن بعدها عظمت الأحداث فيهم والخطايا فسلط الله عليهم العمالقة قوم جالوت ويسمون (الباشانا) يسكنون ساحل الروم بين مصر وفلسطين فغلبوهم على أراضيهم وسبوا ذراريهم وضربوا عليهم الجزية وأهلكوهم حتى لم يبق من سبط النبوة إلا امرأة حبلى فأمسكوا بها لئلا تبدل مولودها بذكر إن كان أنثى، فدعت الله تعالى فرزقها غلاما سمته شمعون ومعناه سمع الله دعائي، وكانوا ينطقون السين شيئا ومعناه بالعبرانية إسماعيل، فكبر وترعرع وتسلم التوراة بكفالة شيخ من كبارهم، فلما بلغ أتاه جبريل عليه السلام وهو نائم جانب الشيخ لأنه كان لا يأمن عليه أحدا فيظل ملازما له فدعاه بلحن الشيخ يا اشمويل فقام فزعا إلى الشيخ وقال يا أبتاه رأيتك تدعوني إفكره أن يقول له لا خوفا عليه، فناداه ثانيا فقال يا أبتاه تدعوني فقال له نم ولا ترد علي إن دعوتك، فناداه الثالثة وظهر له وقال اذهب إلى قومك وبلغهم رسالة ربك فإن الله قد بعثك فيهم نبيا، فلما أتاهم كذبوه وقالوا له إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل معه آية على نبوتك، ولهذا لم يقل لهم إن بعثت لكم ملكا لا تقاتلون معه كما التمسوا منه مع أنه أظهر مبالغة في إظهار تخلفهم عنه لأنهم إذا كانوا لا يقاتلون عند فرض القتال عليهم فلأن لا يقاتلون عند عدم فرضه من باب أولى. قالوا فدعا الله تعالى فأتى بعصا وقرن فيه دهن القدس وقيل له ان الملك الذي يجب أن يقاتلوا معه يشترط أن يكون من بني إسرائيل وأن يكون بطول العصا وإذا أدخل عليك نش الدهن بالقرن، وكان طالوت بن قيس من سبط بنيامين بن يعقوب مستوفيا لهذين الشرطين بعد أن استعرض كثيرا منهم على مرأى من قومه ولما أدخل عليه نش الدهن بالقرن فاستجمعت فيه الشروط الثلاثة فقال لهم هذا هو ملككم، وكان دباغا وسمي طالوت مبالغة في طوله فملكه عليهم وكان قوام منك بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعتهم طاعة أنبيائهم وكانت الملوك تنقاد(5/212)
إلى الأنبياء فلا يعملون شيئا إلا بإرشادهم. قال تعالى «وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً» حسب طلبكم فتهيأوا للقتال معه «قالُوا أَنَّى» من أين «يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا» وكيف يستحقه «وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ» لأنه ليس من سبط الملوك وفينا من
سبطه سبط يهوذا بن يعقوب كداود بن ميشا وغيره ولا هو من سبط النبوة سبط لاوى بن يعقوب الذي كان منه موسى وهرون وغير هما لهذا فانا لا نقبله ملكا علينا إذ يشترط أن يكون من أحد السبطين المذكورين فضلا عن أنه رجل دباغ فقير «وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ» فكيف نملكه علينا لأن الملك يحتاج للمال أكثر من احتياجه للسطوة بالرجال ويجب أن يكون من سبط الملك أو النبوة، قاتلهم الله على عنادهم هذا، الله يخبر نبيهم بأن طالوت أهل للملك وهم يقولون نحن أحق به منه «قالَ» نبيهم عليه السلام لا تعترضوا «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ» وكان أعلم بني إسرائيل في زمنه «وَالْجِسْمِ» وهذه فضيلة أخرى ينشأ عنها شدة القوة وهي مع العلم ركنان عظيمان لحفظ الملك والمال وليدلهما «وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ» من عباده لم يخصه بسبط ولم يجعله إرثا ولم يشترط له الغنى إذ قد يمكنه الله منه «وَاللَّهُ واسِعٌ» الرزق ويده أبوابه «عَلِيمٌ 247» بمن يؤهله للملك والرزق لأنهما من فضله وسعته يفيضهما على من يشاء من عباده.
مطلب في التابوت ومسيرهم للجهاد ومخالفتهم توصية نبيهم بالشرب من النهر وقتل جالوت وتولية داود عليه السلام:
ثم إنهم طلبوا من نبيهم علامة على ملكية طالوت من قبل الله تعالى بعد أن لم يقبل منهم ما طعنوه به فدعى الله ربه فأخبره بعلامته «وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ» الذي فقد منكم وآل فيه للعهد لأنه كان معروفا عند أسلافهم وعندهم بالاستقراء من أنبيائهم وهو على ما قالوا أنزل على آدم عليه السلام وكان فيه صور الأنبياء وهو من خشب الشمشام وكان طوله ثلاثة أذرع وعرضه ذراعين ولم أقف على نوعه وماهيته بأكثر من هذا،(5/213)
وورثه شيث عليه السلام وتداوله أولاده من بعده إلى أن صار إلى ابراهيم وإسماعيل فيعقوب ثمّ وصل إلى موسى عليه السلام وكان يضع فيه التوراة وبعض الأشياء المقدسة وورثه أنبياء بني إسرائيل وكانوا يستنصرون به على أعداءها ويستشفون به «فِيهِ سَكِينَةٌ» قالوا هي كناية عن روح من روحه تعالى تخبرهم بلسان نبيهم عما يختلفون فيه وطمأنينة يسكنون إليها عند خوفهم وجزعهم هي لكم يا بني إسرائيل أمن «مِنْ رَبِّكُمْ» يوقعه في قلوبكم عند الخوف فتأمنوا وتخبتوا وتطمئنوا عند الجزع والفزع وتتسع قلوبكم عند الضيق وتنشرح له «وَبَقِيَّةٌ» فيه أيضا «مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ» من رضاض الواح التور والعصا وأشياء أخر محترمة عندهم تلقوها من الأنبياء الأقدمين، ويدل على هذا قوله صلّى الله عليه وسلم: أوتيت مزمارا من مزامير آل داود. أي داود نفسه، وهذه النساء جارية عند بعض العرب فيقولون آل فلان للشخص نفسه (وإن أهل قضاء الميادين من أعمال محافظة دير الزور تستعمل هذه النسبة حتى الآن) وهناك أقوال أخر في معنى التابوت والسكينة والبقية لا يركن إليها لعدم الوثوق بصحتها. قالوا وكانت العمالقة المار ذكرهم حينما غزوهم وسبوهم أخذوه منهم، وإنما سلطهم ان عليهم لتركهم تعاليم دينهم وإرشادات أنبيائهم وانشغالهم بشهواتهم واستحلالهم ظلم بعضهم ولما وضعوه في بيت أصنامهم رأوها تنكست فتشاءموا منه، ثم وضعوه في ناحية من مدينتهم فأصاب أهلها وجع في أعناقهم وهلك أكثرهم، فطرحوه في قرية من قراهم فسلط الله على أهلها الفأر حتى صارت الفأرة تبيت مع أحدهم فيصبح ميتا ثم دفنوه في فناء البلد قصار كل من يتبرز هناك يصاب بالباسور، فتحيروا في أمره فقالت لهم امرأة من بنات الأنبياء لا يزال المكروه فيكم ما زال عندكم، قالوا نعمل؟ فأمرتهم أن يأتوا بعجلة فيضعوه فيها ويربطوه لئلا يقع ويعلقوا العجلة بثور ويضربو هما ضربا مبرحا حتى يخرجا من حدود مدينتهم، ويتركوهما على وجههما ففعلوا ذلك ورجعوا، فأرسل الله أربعة من ملائكته يسوقونهما حتى أو صلاهما أراض بني إسرائيل، فلما رأوه كسروا نير الثورين وقطعوا حبالهما وأخذوا التابوت وانصرف الثوران لأهلهما، وإنما قال تعالى «تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ» لأنهم هم الذين وجهوا(5/214)
الثورين إلى جهة بني إسرائيل، قالوا فصار بنو إسرائيل يهللون ويكبرون ويحمدون الله تعالى ودانوا لملكهم بعد أن رأوا هذه العلامة التي أخبر عنها نبيهم، وهناك أقوال أخر بأنهم رأوه نازلا من السماء وأن الملائكة أتتهم به من أرض التيه حتى أوصلته إلى بيت طالوت فأراهم إياه، والله أعلم، لأن القصة معلومة والكيفية مجهولة.
قالوا ولبث فيهم أشمويل عليه السلام أربعين سنة يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه إلى أن مات عليه السلام بعد قتل جالوت كما سيأتي «إِنَّ فِي ذلِكَ» أي إتيان التابوت بما فيه من السكينة والبقية بواسطة الملائكة «لَآيَةً لَكُمْ» عظيمة وبرهانا ساطعا على نبوة أشمويل وملكية طالوت «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 248» بربكم ورسالة نبيكم وتصديق ملككم، فلما رأوا الدليل القاطع أذعنوا وصدقوا، ثم أمرهم بالجهاد ليسترد لهم شرفهم من العمالقة فأجابوه ولم يتخلف منهم إلا العاجز والمعذور والصغير وساروا معه إلى العمالقة. قال تعالى «فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ» لهم نبيهم أشمويل «إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ» تعبرونه لأن عدوكم وراءه وقد يلحقكم العطش عنده وإن الله تعالى يمتحنكم هناك فيعلم الطائع منكم من العاصي له وسيقول لكم لا تشربوا من هذا النهر «فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي» ولست منه لمخالفة أمر الله «وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ» يذقه بتاتا «فَإِنَّهُ مِنِّي» وأنا منه لا نقياده لأمر الله «إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ» فشربها منه فلا بأس عليه لأنها رخصة له فيبقي من أهل بيتي وداخلا في طاعتي وتظهر طاعته لله وإلا فقد بارزه بالمعصية، ولما دخلوا النهر المذكور وكان قد لحقهم العطش كما أخبرهم نبيهم «فَشَرِبُوا مِنْهُ» خلافا لتوصية نبيهم وأمر ملكهم «إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» لم يشرب قالوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا. روى البراء بن عازب قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتحدثون أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوزه إلا مؤمن بضعة عشر رجلا وثلاثمائة- أخرجه البخاري-. قالوا وكان من اغترف منه بكفه كفته تلك الغرفة لنفسه ودابته وقوي قلبه وصح إيمانه وعبر النهر سالما لأنها معجزة نبي، ومن شرب منه رأسا فعبّ عبّا غلبه العطش فلم يروه ما كرع منه واسودت شفتاه وجبن وبقي ملقى على الشاطئ، وقالوا إن الشرب بعد العطش(5/215)
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
والتعب يورث الاستسقاء ولهذا منعهم نبيهم وتراهم لكثرة ما شربوا منه انتفخت بطونهم وعجزوا عن المشي والعبور مع رفاقهم، وهذا النهر بين الأردن وفلسطين «فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا» المتخلفون الذين خالفوا أمر ملكهم وتوصية نبيهم عند ما شاهدوا كثرة العدو من وراء النهر «لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ» وذلك لما عرفوه من سطوتهم قبل وشدة بأسهم التي ذاقوها، ثم «قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ» الذين عبروا النهر مع ملكهم طالوت واكتفوا بغرفة من النهر وتمسكوا بتعاليم نبيهم وقد ازداد يقينهم بالله لما نفث في روعهم من القوة والإيمان بعد أن رأوا المعجزة بغرفة الماء بلى إن لنا من شدة صبرنا وإيقاننا بتحقق وعد الله لنا بالنصر والغلبة عليهم فإنا نقابلهم ولا نبالي بكثرتهم، قال تعالى «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ 249» بالنصر والمعونة والصبر ثمّ تأمروا بينهم على لقاء عدوهم وأقدموا على قتاله «وَلَمَّا بَرَزُوا» طالوت وجنوده «لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ» وصار بحيث كل منهم يرى الآخر لأن الأرض التي فيها الطرفان واسعة بارزة «قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً» على لقاء عدونا واصرف الرعب عن قلوبنا بسبب كثرتهم وقلّتنا «وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ 250» فأجاب الله دعاءهم بأن أزال الخوف عنهم وملأ قلوبهم بالإيمان وحبب إليهم الغلبة وألقى الرعب في قلوب أعدائهم ونصرهم عليهم
«فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ» حين التقى الجمعان وردوهم إلى الوراء فكسروهم «وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ» ملك العمالقة على ما هو عليه من القوة والعظمة وما معه من العدة والعدد «وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ» أي النبوة والحكم بين الناس ولم يجتمعا لأحد قبله من بني إسرائيل لأن الملك كان في سبط والنبوة في سبط كما تقدم آنفا فهو أول عظيم تولى السلطتين الدينية والزمنية، راجع الآية 50 من سورة ص المارة في ج 1، «وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ» من صنعة الدروع وغيرها زيادة على علومه في الدين والحروب والسياسة وكان عليه السلام مع ما أوتي من الملك الكبير لا يقتات إلا من كد يده وأنزل عليه الزبور المشتمل على الأدعية والاستغاثات والحكم والأمثال(5/216)
وخصّه بحسن الصوت والألحان حتى كانت الوحوش تدنو منه عند ما يتلو الزبور وتظلله الطيور حنانا لسماع صوته وتسكن الرياح وتركد المياه عند ذلك، وكان بارعا في سياسة الملك وضبط أموره بتعليم الله تعالى إياه لأنه ليس في بيت الملك ولم يتلق تعاليمه من أحد ولم يختلط مع الساسة لأنه كان راعيا حتى تولى الملك وهو ابن ميشا أصغر أخواته الثلاثة عشر ولم يظن به ما ظهر منه قالوا أوتي سلسلة متصلة بالمجرة تأتي له بالأخبار الهوائية من كل مكان وكان يحاكم بعض الناس إليها عند عدم وجود الأدلة الظاهرة وكان إذا لمسها ذو العاهة شفي ثمّ رفعت عند ما ظهر المكر والخداع بين الناس فتمسكوا بالحيل مما يغر الناس في ظاهر القول وإبطان ضده فمن ذلك أن رجلا أودع آخر جوهرة ليردها إليه عند حاجته إليها فلما استحسنها الوديع وعمد على إنكارها نقر عكازه وجعلها فيه وسده عليها ولما جاءه المودع وطلبها منه قال رددتها لك فتحا كما إلى داود ولما لم يكن بينة لديه كلف الوديع أن يمس السلسلة فقال لصاحب الجوهرة إذ كلفتني هذا فامسك عصاي هذه كي أتقدم إلى السلسلة فأمسكها وهو لا يعلم أن جوهرته فيها فتقدم إلى السلسلة وقال يا رب إن كنت تعلم أن الوديعة وصلت لصاحبها هذا فقرب مني السلسلة فتقربت ولمسها إذا وصلت حقيقة لصاحبها باعتبارها في يده ضمن العكاز ثمّ رفعت السلسلة لهذه الحيلة. ثم إن الله تعالى زاد سيدنا داود على ذلك كله بأن علمه كلام الطيور والدواب وكل شيء كما أشرنا إليه في الآية 17 من سورة النحل ج 1 والآية 10 من سورة سبأ ج 2 «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ» بدل من الناس المنصوب بالمصدر وقرىء دفاع مصدر دافع «بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» وبطلت منافعها من الحرث والنسل لأن هذه الأشياء لا تتم إلا بالأمن والأمن لا يكون إلا بالسلطان ولهذا ينصر الله الصالحين لعمارتها على المفسدين فيها وقضى يبقاء أهلها لأجل مسمى عنده. واعلم أن صدر هذه الآية يضاهي الآية 41 من سورة الحج الآتية فراجعها «وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ 251» بإرسال الرسل وتنصيب الملوك لإزالة الفساد ونشر الصلاح بين الناس ولو لم يكفّ بالصالحين طغيان المفسدين وبغي العابثين لأهلك القوي الضعيف ودمر الفجار الأبرار وأعدم السخفاء الشرفاء وهكذا لو لم يدفع الله تعالى بجنوده(5/217)
المسلمين وأصحاب حضرة الرسول الأعظم عدوان الكفرة والمنافقين لتعطلت معالم الدين وفسد الكون بانتشار المعاصي وإعلان الملاهي والمناهي، وقد ذكر الله تعالى لنبيه هذه القصة وما قبلها تذكيرا لأصحابه وإعلاما بأنه تعالى ينصر المؤمنين ويدحض الكافرين، وإيذانا بأنهم إذا صبروا وأطاعوا تكون لهم الغلبة والعاقبة الحسنة في الدنيا كما كانت من قبلهم وهذه العاقبة تفضي إلى العاقبة الحسنى بالآخرة أيضا. هذا وخلاصة هذه القصة على ما ذكره الأخباريون أنه لما خضع الإسرائيليون لطالوت وانتدبهم للقتال كان الوقت قيظا وسلكوا في طريقهم مفازة لحقهم على أثرها التعب والعطش، ولما طلبوا الماء من نبيهم قال لهم الماء أمامكم وان الله سيختبركم فيه على ما مر آنفا وكان من جملة الذين عبروا النهر سيدنا داود عليه السلام وكان يرمي بالقذافة (المقلاع) وكان يقول لأبيه لا أرمي شيئا إلا أصبته، فقال له قد جعل الله رزقك في قذافتك، ثم قال لأبيه يا أبت وجدت أسدا رابضا بين الجبال فأخذت بإذنه وركبته فقال هذا خير يريده الله بك، ثم قال يا أبت أرى الجبال تسبح معي إذا
سبحت فقال هذا خير أعطاه الله. ثم نادى طالوت في معسكره من قتل جالوت زوّجته ابنتي وناصفته ملكي، فلم يجبه أحد هيبة منه فاستشار النبي شمعون فيمن يبرز له، وذلك أن جالوت قال لطالوت لا حاجة للقتال واهراق الدماء فليبرز لي واحد فإن قتلني أخذ ملكي وإن قتلته أخذت ملكه (ومن هنا قال عمرو بن العاص إلى معاوية لماذا تهريق دماء المسلمين فابرز إلى علي فإن قتلته كفيته وإن قتلك كان الملك له، فلم يفعل لعلمه أنه ليس من رجاله، ثم قال معاوية ابرز له أنت ولك ملك مصر إن قتلته فقبل وتقدم إلى البراز فخطفه علي ورض به الأرض ونزل ليقطع رأسه فكشف له عن سوءته لأنه يعرفه كرم الله وجهه لا ينظر حتى إلى سوأة نفسه فتركه، وفيه يقول أبو فراس الحمداني في معرض الذم لأمثاله:
ولا خير في دفع الردى بمذلة ... كما ردها يوما بسوءته عمرو)
فأوحى الله إلى شمعون أن يأتي بقرن فيه دهن القدس وتنور حديد ثمّ يدخل الناس في التنور ويضع على رؤوسهم القرن فالذي يسيل دهنه على رأسه حتى يصير كهيئة الإكليل ويملأ التنور وجوده بحيث لا يتغلغل فيه هو الذي يقتل جالوت، فدعا(5/218)
عامة بني إسرائيل فلم تظهر تلك العلامة على أحد منهم فسأل هل بقي أحد قالوا لم يبق إلا أولاد ميشا وهم ثلاثة عشر فأحضرهم واختبرهم فظهرت العلامة على داود عليه السلام، فقال له طالوت هل لك أن تقتل جالوت؟ قال نعم، قال هل آنست من نفسك ما يدل على هذا؟ قال نعم إني أرى الغنم فيما بينها الأسد والنمر والذئب فيأخذ منها فألحقه فأفتح لحييه وأخرجها من قفاه واستخلص ما يأخذه، فقال أنت لها وكان رآه حينما سال الوادي يحمل شاتين شاتين ويخلصهما من السيل فقال الذي يرحم البهائم يكون بالناس أرحم فيجهد نفسه في تخليصهم من ضنك جالوت الغاشم، فأخذه إلى المعسكر وأمره بالبروز إلى جالوت فأخذ قذافته ووضع أحجارا في مخلاته، قالوا إنها كلمته بذلك بأن قالت له خذنا واحذف بنا جالوت فإنك تقتله ولهذا فإنه ترك السلاح الذي أعطاه له الملك طالوت قائلا إن لم ينصرني ربي لا ينصرني سلاح طالوت، فلما برز قال له جالوت أتيتني بأحجار كما يؤتى الكلب، قال نعم وأنت شر منه، فقال جالوت مهلا لأقسمنّك شطرين، وكان متأهبا بأعظم السلاح فضلا عن أنه مشهور بعظمته وجبروته وقوته وأن الملوك تخشاه وتهابه وتخاف لقاءه وتفزع منه الجيوش فلا تقابله أبطالها، فلما هجم عليه تلقاه داود بثلاثة أحجار متتابعة من قذافته أصابته كلها وخرقت دماغه وخرجت من قفاه وأصابت من وراءه فأماتته أيضا، فتقدم إليه وجره كالجيفة وألقاه بين يدي طالوت، ففرح وابتهج كل بني إسرائيل وهزم جيش جالوت واستسلم لطالوت فاستولى عليهم جميعا فقال داود لطالوت أنجز لي وعدك، قال هات الصداق، قال وما هو؟ قال لنا أعداه غلف (غير مطهرين) تقتل منهم مئتي واحد وتأتيني يقفهم، ففعل فزوجه ابنته وشاطره ملكه، فمال الناس إليه وأحبوه لما هو عليه من كريم السجايا والتقوى كيف وقد أهله الله تعالى الملك والنبوة، فلما رأى ذلك طالوت أحس بمفارقة الملك فصار يدبّر له المكائد ليمكر به فيقتله ليتخلص منه حرصا على ملكه وبقاء الرياسة في عقبه، فبلغ ذلك زوجته فقالت يا داود إنك لمقتول الليلة من قبل أبي وإني لا أقدر على ردّه، قال وما جرى؟ قالت لا علم لي إلا ميل الناس إليك، فملأ زقا من خمر ووضعه على تخته وسجاه ونام تحته، فجاء طالوت ليلا وقال لابنته(5/219)
أين داود، قالت هو ذاك على التخت، فجرد سيفه وضربه تلقاء رقبته فانشق الزق وفاح ريح الخمر، فقال رحمه الله ما أكثر شربه للخمر وخرج، فلما أصبح عرف أنه لم يفعل شيئا فخاف منه أن يأخذ بثأره فأكثر حرسه وحجابه وأحكم غلق أبوابه، وتوارى داود عن الأنظار حتى سنحت له فرصة تمكن معها من الدخول على طالوت ليلا فوضع سهما عند رأسه وسهما عند رجليه وخرج، فلما أفاق ورأى ما رأى هاله ذلك وعرف أنه لو أراد قتله لقتله فقال رحم الله داود هو أرحم مني ظفر بي فكف عني وظفرت به فأردت قتله فهو خير مني، ثم شدد على حجابه وحرسه وأحكم أبوابه، فدخل عليه ثانيا وأخذ كوزه الذي يشرب به وقطع شعرات من لحيته وشيئا من طرف ثوبه وتركه وخرج، فلما أفاق ورأى ذلك تحير من أمره وعرف أنه لا يقدر على الاحتراز منه فسلط العيون عليه وأمر شرطته بطلبه وصار يتعقبه بنفسه فأدركه يوما بالبرية يلحقه فدخل غارا فتبعه فلم يجده وصار هو وجنوده يتحرونه فلم يجده ورأى العنكبوت معشعشا على الغار الذي اختبأ به، وهذه معجزة له تضاهي معجزة محمد صلّى الله عليه وسلم لأنه أعطي معجزات الأنبياء كلهم فقالوا لو دخله لتخرق، ثم إن العلماء والعباد طعنوا على طالوت بملاحقة داود فقتل منهم خلقا كثيرا ليرتدع الباقون عن لومه فلم ينجع بهم ثمّ أتي بامرأة تعلم الاسم الأعظم فأمر خبازه بقتلها لأنها لم تعلمه به وقد تحقق أنها تعرف مكانه بسبب معرفتها الاسم الأعظم
فرحمها الخباز ولم يقتلها وأمرها بالتواري عن الأنظار وقال في نفسه لعلنا نحتاج إليها، ثم. أوقع الله الندم في قلب طالوت على ما وقع منه فاختلى عن الناس وطفق يحاسب نفسه على ما فعل بداود والعلماء والعباد وصار يبكي حتى رحمه الناس من كثرة بكائه وصار يذهب إلى المقابر فيسمع منها صوتا لا تؤذينا أمواتا كما أذيتنا أحياء، فازداد همه وحزنه وبكاؤه وصار يصيح ويقول من يعلم لي توبة أتوبها فيسمح الله لي ما فعلته، فقال له خبازه إن دللتك على عالم يقبل توبتك قتلته؟ قال لا والله فدله على الامرأة فذهب إليها وكانت مرابطة على قبر أشمويل عليه السلام الذي مات بعد قتل جالوت، فقالت يا صاحب القبر قم باسم الله الأعظم وذكرته فقام من قبره ينفض عن رأسه التراب وخرج فقال ما فعلت من بعدي يا طالوت لا تقبل(5/220)
توبتك حتى تخرج من ملكك وتقاتل في سبيل الله أنت وولدك العشرة فتقتلوا جميعا ثم سقط ميتا وأعيد إلى حفرته وطم عليه التراب فقام طالوت أشد ما كان حزنا لعلمه أن أولاده لا يطاوعونه على ذلك فظل يبكي حتى سقطت أسفاره، فسأله أولاده فأخبرهم بما قال له النبي، فقالوا لا خير لنا بالحياة بعدك فتجهزوا وصاروا يقاتلون في سبيل الله حتى قتلوا عن آخرهم عليهم الرحمة والرضوان، فهذه والله أعلم حكمة قبول التوبة ظاهرا والحكمة الباطنة التي أرادها الله خلو الحكم لداود حتى لا يطالبه به أحد من أولاده بحسب الإرث الجاري عندهم بمقتضى العادة والتوارث، وكانت مدة ملكه أربعين سنة فملك بعده داود، وقد مرت قصته في الآية 82 من سورة سبأ في ج 2 فراجعها.
مطلب التفاضل بين الأنبياء واختصاص كل منهم بشيء وتفضيل محمد على الجميع وإعطائه ما أعطاهم كلهم من المعجزات:
قال تعالى «تِلْكَ» القصص العظيمة والأخبار الهامة هي «آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ» يا سيد الرسل «بِالْحَقِّ» الواقع الذي لا يشك به أهل الكتاب الذين في بلدك وغيرهم لثبوته في كتبهم «وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ 2، 2» حقا الفرد العلم الغنيّ عن التعيين وقد أمرناك بتلاوة هذه القصص والأخبار عليهم مع علمهم بأنك أمي ولم تتعلم من أحد ليعترفوا بصدقك لأن سماعها منك معجزة واضحة كافية على رسالتك «تِلْكَ» الجماعات الكرام الذين قصصنا عليك أخبارهم يا أكمل الرسل هم إخوانك «الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» في الرّتب والمعجزات وهذا ردّ لمن قال إنهم متساوون لأن التفاضل موجود بين عوام البشر فلأن يكون بين خواصهم من باب أولى، ثم بين الله تعالى هذا التفاضل بقوله عز قوله «مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ» شفاها بلا سفير كموسى عليه السلام وقد خصّه به، لأن التكليم من أفضل معجزاته وأعظمها فلا تقاس باليد والعصا ورفع الجبل وفلق البحر وإخراج الماء من الصخر وغيرها لأنها دونها بكثير «وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ» فوق بعض «دَرَجاتٍ» كثيرة وخص بعضهم بما لم يخص به الآخر وهذا ما عليه إجماع الأمة، وأو لو العزم أفضل من غيرهم ومحمد أفضل من الجميع لعموم رسالته(5/221)
وشفاعته ولاحتواء كتابه على ما في كل الكتب والصحف المنزلة وعلى ما سيكون إلى يوم القيامة ولكونه خاتم الأنبياء ودوام حكمه لآخر هذا الكون ولإتيانه بمعجزات الأنبياء كافة وزاد عليهم بانشقاق القمر وحنين الجذع فضلا عن كلام الحجر والبهائم وغيرها مما لا يحصى، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 74 من سورة يونس والآية 28 من سورة سبأ في ج 2 والآية 158 من الأعراف في ج 1 وأشرنا إلى ذلك بمواضع أخرى منها ما مر وما سيمر عليك إن شاء الله فراجعها.
واعلم أن الله تعالى رمز في هذه الآية له صلّى الله عليه وسلم من غير تصريح لأن في الإبهام والرمز تعظيما وتفخيما ولأن رفع الدرجات التي صارت له ليلة المعراج لم تكن لنبي قبله، راجع الآيتين 8/ 79 من سورة الإسراء في ج 1، وقد سئل الحطيئة من أشعر الناس قال زهير والنابغة. ثم قال لو شئت لذكرت الثالث يعني نفسه. وقد يقول القاضي في حكم قضى القاضي وحكم بكذا يريد نفسه. ويفعل الرجل من الجماعة الأمر ويقول فعله أحدكم وهو أبلغ من أن يقول أنا «وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ» كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى علامة دالة على رسالته إليهم من قبلنا لما قضت إرادتنا بإرساله إلى بني إسرائيل ليجدد لهم العهد «وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» جبريل عليه السلام فكان معه منذ ولد حتى رفع وهو نفسه معجزة لكونه من غير أب ولهذا خصه بالذكر، وقد أسند جل جلاله الضمير هنا لذاته الكريمة وفي صدر الآية لاسمه المبارك مع أن المقام كله فيها مقام خطاب لتربية المهابة العظمى، ولوح عن موسى بالتكليم لاختصاصه به، وصرح باسم عيسى لرد ما بين أهل الكتابين فيه من التفريط والإفراط وأشار بالرفع لمحمد الدال عليه قوله وإنك لمن المرسلين زيادة في تبجيله واحترامه «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ» اجتماع أتباعهم على كلمة واحدة لفعل و «مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ» وما اختلفوا فيما بينهم «مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ» على أيدي رسلهم «وَلكِنِ اخْتَلَفُوا» لأمر أراده الله تعالى تأييدا لمشيئته التي أرادها أول الخلق ليكونوا فريقا في الجنة وفريقا في السعير «فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ» وأوفى بعهده الذي عاهد الله عليه في عالم الذر ففاز بفضل ربه في جنته «وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ» عمدا لنقض عهده بعد قيام الحجة عليه بسخط الله(5/222)
فزج في جهنم «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا» ولا اختلفوا «وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ 253» بخلقه حسبما خلقهم عليه يوفق من يشاء ويخذل من يشاء ليردهم لسابق علمه فيهم، سأل رجل عليا كرم الله وجهه عن القدر قال: طريق مظلم فلا تسلكه، فأعاد عليه السؤال قال بحر عميق فلا تلجه، فأعاد عليه الثالثة، قال سر قد خفي عليك فلا تغشاه. فقد ظهر في هذه الآية أن الرسل متفاضلون واختلاف أممهم من بعدهم وتعدد أديانهم واختلافهم فيما بينهم عما أراده الله تعالى فيهم منذ خلقهم وأن اتحادهم على طريقة واحدة محال، وفيها تسلية لحضرة الرسول محمد مما يجده من الحزن والغم لعدم اهتداء قومه وقبولهم وحي الله وعدم التفاتهم إليه.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ» أي لا تنفع فيه الصحبة والمودة والصداقة ولا تقبل فيه الفدية وقد سمي الفداء هنا بيعا لأنه شراء النفس من الهلاك «وَلا شَفاعَةٌ» لأحد تخلصه من عذاب الله إلا لمن ارتضى وأذن فهو عام مخصوص، راجع الآية 23 من سورة سبأ في ج 2 «وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ 254» لأنهم وضعوا الأشياء في غير محلها. واعلم بأن هذه الآية تشير إلى أن في الإنفاق في سبيل الله تأليف القلوب في الدنيا والنفع في الآخرة. وبعد أن ذكر جل شأنه الأحكام المتعلقة بخلقه أردفها بذكر ما تفرد به من الشؤون الجليلة الموجبة للعمل بأحكامه وتخصيصه بالعبادة بقوله «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ» الدائم بعد كل حي كما هو قبل حي «الْقَيُّومُ» على كل شيء القائم بتدبير كل شيء «لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ» السنة الفتور الذي يتقدم النوم والوسنان الذي هو بين النائم واليقظان فيكون الوسن نوما خفيفا يسهو فيه الإنسان ويغفل، والنوم الحقيقي هو المزيل للشعور والقوة والحس، وهذا كله نقص وتغيير وآفة لأنها تفضي إلى عدم العلم بما يقع والله تعالى منزه عن النقص والآفات والتغيير، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) الآية 43 من سورة فاطر ج 1 ومثلها الآية 66 من سورة الحج الآتية، فلو وقعت منه سنة تعالى عن ذلك لسقطت السموات على الأرض وخرب الكون لأنه قائم بقيومته. روى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطيبا بخمس كلمات(5/223)
فقال إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط (الميزان) ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور- وفي رواية النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
وهذا من أحاديث الصفات راجع بحثها في الآية 210 المارة «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا لا ينازعه فيهما وما فيهما أحد، وقد أجرى هنا لفظ ما تغليبا لمن لا يعقل على من يعقل لأن الغالب فيهما ما لا يعقل «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» استفهام بمعنى النفي أي لا يشفع أحد لأحد قط إلا بإذنه والاستفهام الإنكاري كهذا لا يجاب إلا بلا «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» مما هو أمام خلقه في الدنيا «وَما خَلْفَهُمْ» ما وراء خلقه كافة بالآخرة «وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ» لا يعلم أحد البتة من هؤلاء المخلوقات كلها كنه شيء ما من معلوماته «إِلَّا بِما شاءَ» أن يحيط علمهم به بأن يعلم من شاء من خلقه الخواص الخلص كالأنبياء والعارفين بعض معلوماته مما فيه معجزة أو كرامة، قال تعالى (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) الآية 27 من سورة الجن في ج 1، قال الغزالي رحمه الله: إن الله عالم بكل معلوم وعلمه محيط بكل شيء وليس شيء من العلى إلى الثرى إلا وقد أحاط به علمه لأن الأشياء بعلمه ظهرت وبقدرته انتشرت.
مطلب عظمة العرش والكرسي وأفضل آية في القرآن والأحاديث الواردة في ذلك والإكراه في الدين:
قال تعالى «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» الكرسي هو ما يجلس عليه وسط العرش وهما أي الكرسي وللعرش اسمان للسرير لا يعرف كيفيتهما وعظمتهما إلا هو فكما أنه جل علاه لا مثل له فلا مثل لكرسيه وعرشه، راجع الآية 7 من سورة هود في ج 2 وما ترشدك إليه عن هذا البحث، ويدلك على عظمتهما ما أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: إن السموات السبع والأرضين السبع لو بسطن ثمّ وصلن بعض ما كن في سعته (أي الكرسي) إلا بمنزلة الحلقة في المفازة. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه(5/224)
عن أبي ذر أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الكرسي فقال: يا أبا ذر ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة وان فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة. وفي رواية الدارقطني والخطيب عن ابن عباس قال:
سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن قوله تعالى (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية قال كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره «وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما» لا يثقل عليه ولا يشق ولا يجهده حفظ السموات والأرض وما فيهما وبينهما «وَهُوَ الْعَلِيُّ» الرفيع الذي لا يدانيه أحد ولا يقرب من رفعته شيء «الْعَظِيمُ» (255) الذي دل لهيبته كل عظيم وخضع لعظمته كل كبير، وقد أتت جمل هذه الآية بلا عطف لأنها على سبيل البيان كما ترى، وقد جاء في فضلها أحاديث كثيرة نذكر منها ما رواه مسلم عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) إلخ، فضرب في صدري وقال ليهنك العلم يا أبا المنذر. وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة وفيها آية هي سيدة القرآن آية الكرسي. وأخرج أبو داود عن وائلة بن الأصقع أن النبي صلّى الله عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان أي آية في القرآن أعظم؟ فقال صلّى الله عليه وسلم (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) إلخ. وذلك لجمعها بين أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والقيّومية والملك والقدرة والإرادة، لأن الله تعالى أعظم مذكور في القرآن فما كان ذكرا له توحيد وتمجيد كان أعظم الأذكار، فطهر لك من هذا أن هذه أعظم آيات القرآن. وأما أجمع آية فيه فهي الآية 90 من سورة النحل، وأرجى آية فيه الآية 54 من سورة الزمر في ج 2. واعلم أن هذه الآية توجب على العباد الإخلاص في العمل لله تعالى وحده وعدم الاعتماد على غيره لأن الشفاعة وإن كانت مرجوّة من الرسول ومن يؤهله الله لها فلا تكون إلا بإذنه كما علمت ولا بد أن تكون مصحوبة بالأعمال الصالحة لأن الذين يخلطون بأعمالهم الصالحة عملا سيئا يرجى لهم، راجع الآية 106 من سورة التوبة الآتية، مع لعلم بأن الله تعالى لا قيد عليه في شفاعة ولا غيرها قد يغفر لمن يشاء مع كثرة ذنوبه،(5/225)
ويعذب من يشاء مع كثرة حسناته لا يسأل عما يفعل. قال تعالى «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» والحق من الباطل والهدى من الضلال والإيمان من الكفر، فيقال لمن أصاب ووفق رشد وفاز، ولمن خاب وخسر ضل وغوى، قال الشاعر:
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لم يعدم على الغي لائما
تصرح هذه الآية الجليلة بأن الله تعالى لم يجر أمر الإيمان على الإجبار بل على الاختيار إذ من حق العاقل أن لا يحتاج إلى التكليف والإلزام بل يختار الخير لنفسه بلا تردد أو تلعثم، قال تعالى (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الآية 30 من سورة الكهف في ج 2، إذ ترك فيها الخيار لخلقه بعد أن دلهم على الأحسن وأرسل إليهم من يرشدهم للأصلح، قال تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) الآية 100 من سورة يونس ج 2، فقد أشار في هذه الآية إلى رسله أن لا يقسروا أممهم على الإيمان وإنما عليهم أن يبينوا لهم طريقه ومنافعه في الدنيا والآخرة ويتركوهم وشأنهم إذ ليس عليهم إلا الإنذار كما نص عليه فى آيات كثيرة من القرآن العظيم، وهذه الآية نزلت في المجوس وأهل الكتاب إذ تقبل منهم الجزية ولا يكرهون على الإسلام بخلاف مشركي العرب إذ لا يقبل منهم إلا الإسلام، قال تعالى (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) الآية 17 من سورة الفتح الآتية، وأو فيها بمعنى إلا، كما سيأتي في تفسيرها لأن المشركين لا دين لهم ولا يجوز أن يتركوا همجا هملا وهم من البشر وقد أعطاهم الله تعالى العقل ومن حق العاقل أن لا يحتاج إلى التكليف والإلزام بل هو نفسه بمقتضى عقله يختار الدين الحق لوضوح الحجة فيه، وبما أن أهل الكتاب يزعمون أن دينهم الحق ولم يوصلهم عقلهم إلى غيره فيتركون وشأنهم، قال تعالى (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) الآية 39 من سورة فاطر في ج 1، وهذه الآية محكمة غير منسوخة لأنها جارية مجرى الأخبار وهي لا يدخلها النسخ. قال ابن عباس: كانت الجاهلية إذا كانت امرأتهم لا يعيش لها ولد تنذر إذا عاش لتهودنه أو تنصرنه وجاء الإسلام وفيهم من هؤلاء فلما جلت بنو النضير أرادت الأنصار استرداد أبنائهم الذين من هذا القبيل فأبوا،(5/226)
قال لما نزلت هذه الآية قال صلّى الله عليه وسلم خيّروهم فإن اختاروكم فهم لكم وإلا فاجلوهم معهم، وقال ابن عباس إن هذه الآية نزلت في هؤلاء فعلى فرض صحة قوله هذا فلا تكون أيضا منسوخة. على أن الواقع ينفي صحة نزولها فيهم لأن حادثة بني النضير كانت بعد نزول هذه الآية بكثير لكونها في السنة الرابعة من الهجرة، وما قيل إنها نزلت في ولدي الحصين المتنصرين قبل بعثة الرسول حينما كلفهما أبوهما بالإسلام، وقال يا رسول الله أيدخل بعضي في النار وأنا أنظر، على فرض صحته أيضا لا تكون منسوخة لأن هؤلاء كلهم يعدون أهل الكتاب، فلا وجه لقول من قال بالنسخ البتة. قال زيد بن أسلم كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا على الدين، وكذلك في المدينة لم يكره أحدا من أهل الكتابين على الإسلام وإنما أكره عليه مشركي العرب ولم يقبل منهم إلا السيف أو الإيمان «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ» مبالغة الطغيان وهو كل ما يطغي الإنسان من شيطان وإنسان كالسحرة والكهنة وغيرهم وكل ما عبد من دون الله «وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى» تأنيث الأوثق أي السبب الموصل إلى دين الإسلام المفضي إلى جنة الله فمن كان متمسكا بها فقد صح إيمانه واعتصم به وأوفى بالعهد الذي أخذه عليه في عالم الذر «لَا انْفِصامَ لَها» ولا انقطاع لأنه عقد نفسه مع ربه عقدا وثيقا لا تحله الشبهة، وهذا تمثيل المعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه «وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لإيمان المؤمن وكفر الكافر «عَلِيمٌ» (256) بنيتهما فيعلم الإيمان عن رغبة أو إكراه، ومن هو منافق في إيمانه أو مخلص فيه، كما يعلم المكره على الكفر من الراغب فيه. وهذه الآية ترشد إلى أن الإيمان لا يقبل إلا عن رغبة فيه وقناعة في صحته وأخيريته، لأن المكره على الإيمان لا يعمل بما يقتضيه له من الأعمال. والحكم الشرعي هو هذا. وما روي عن ابن مسعود أن حكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) الآية 75 من سورة التوبة والآية 10 من سورة التحريم الآتيتين لا محل له لأن الدين عقيدة ذاتية عريقة في نفس الإنسان لا سلطان لأحد عليهما غير الله تعالى القائل (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ)
ولأن من آمن بلسانه قبل منه وعومل معاملة المسلمين ودفن في مقابرهم(5/227)
وقد كف الشرع عما في القلب لعدم الاطلاع عليه إلا من قبل الله. قال تعالى «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا» يتولى أمورهم ولا يكلهم إلى غيره ومن عنايته بهم أنه «يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» أفرد لفظ النور لوحدة الحق وجمع الظلمات لتنوع فنون الباطل. وأعلم أن كل ما في القرآن من لفظ الظلمات من هذا القبيل يراد به الكفر ومن لفظ النور يراد به الإيمان، إلا في سورة الأنعام فإن المراد بهما اللّيل والنّهار كما بيناه أولها في ج 2، وسمي الكفر ظلمة لأنه يحجب القلب عن إدراك الحقيقة والإيمان نورا لوضوح طريقه وبيان أدلته «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ» إذ فوضوا أمورهم إليها واتكلوا عليها وتمادوا في طاعة أوثانهم ورؤسائهم الذين يميلون بهم إلى البغي والطغيان، وكل ما يؤدي إلى الشقاء الأخروي يسمى طاغوت وهؤلاء الأولياء «يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ» الإيمان المؤدي إلى الجنة في الآخرة ويردونهم «إِلَى الظُّلُماتِ» الكفر الموصل إلى النار بسبب ما يسولونه لهم من طرق الإغواء والإغراء والصد عن طريق الهدى والرشد «أُولئِكَ» الكافرون وأولياؤهم «أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (257) إلى ما لا نهاية عقوبة لهم على كفرهم.
مطلب محاججة النمروذ مع إبراهيم عليه السلام وقصة عزير عليه السلام وسؤال إبراهيم عن كيفية إحياء الموتى وجوابه عليها:
قال تعالى «أَلَمْ تَرَ» يا سيد الرسل «إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ» وهو النمروذ إذ جادل خليله إبراهيم بما يزعمه من القوة من «أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ» بأن جعله ملكا على طائفة من خلقه وانه بدل أن يشكر نعمته طغى وتجبر وبغى وتكبر حتى ادعى الربوبية، وهو أول من ادعاها ثمّ تبعه من بعده أخوه فرعون، وقيل أول من ادعى هذه الدعوى شداد بن عاد كما تقدم في الآية 70 من سورة الأنبياء ج 2 تطفلا عليه لعنه الله ومن اتبعه في كفره، وهو أول من لبس التاج أيضا، وهذه المحاججة بعد أن كسر الأصنام وقبل أن يلقى في النار إذ كان النمروذ أخرجه من السجن وقال له من هو ربك الذي تدعونا إليه؟ فأجابه بما ألهمه الله بقوله «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ» وإذ هنا منصوبة بفعل مقدر أي أذكر يا محمد لقومك ما قاله الخليل(5/228)
إلى النمروذ حينما سأله عن ربه فقال «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» أي ينشىء الحياة والموت، فلم ينتبه الطاغي إلى المعنى المراد من السيد إبراهيم عليه السلام بل انتبه وانتقل لمعنى آخر ليبرر حجته أمام قومه «قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ» فقال إبراهيم هيا افعل، فأخرج رجلين من السجن حكم عليهما بالموت فقتل أحدهما وعفا عن الآخر، فزعم ذلك الضال على قصر عقله وقلة فهمه أن الإحياء والإماتة هما ما فعله لأنه وأمثاله ينظرون إلى الظاهر أو أنه فعل ذلك تجاهلا كما مر، وكان على السيد إبراهيم أن يقول له أمام قومه أحي من قتلت ليعلموا أن المراد من قوله هذا لا ما فعله ولكنه عليه السلام لم يلتفت إلى حمقه فضرب صفحا عن مجادلته بالحقائق لأنه ليس من أهلها وانتقل إلى حجة أخرى أوضح من الأولى بالنسبة لنمروذ لا تقبل الالتواء وهي ما ألهمه الله أيضا «قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ» وهو ربي «فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ» إن كنت ربا لقومك كما تزعم، فدهش الخبيث من هذا وانقطعت حجته كما أشار بهذا قوله تعالى «فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ» إذ لم يقدر على ما يجاوب به لتمحضه بالكفر «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (258) إلى الصواب ويعميهم عما يدحضون به خصمهم إذ لو كان موفقا لقال له سل ربك يفعل ذلك أولا لأفعل ذلك بعده، ولكن الكافر ضعيف الرأي قد حجبت ظلمة كفره نور بصيرته وغشت أصداء الجهل رؤية بصره لذلك لا يهتدي إلى الرشد على أنه لو قال لفعل الله ذلك لإبراهيم خليله كما فعل لأنبيائه وأحبابه ما هو أكبر من هذا ولما لم يجد بدا وقد حنقه الغضب فأمر بزجه في النار فزج فيها ونجاه الله كما مر في الآية 71 من سورة الأنبياء في ج 2، وقد استشهد الخليل عليه السلام في هذه الآية على ولاية الله للمؤمنين وأن الكافرين أولياؤهم الشياطين على طريقة ذكر القصتين المارقين في الآيتين 241/ 246 وأشار في هذه أن الله تعالى إذا تولى عبدا ألهمه الصواب والرشد ودله على الفلاح والفوز في أقواله وأعماله وأن من يعدل عن معونة ربه يمنى بالإخفاق والخسار فى الدنيا ويكون مصيره الدمار في الآخرة، وترمي هذه الآية إلى جواز المحاججة في الدين لإظهار كلمة الله واستعمال الحجج العقلية والدلائل الكونية على(5/229)
إثبات دعواه. وقد استشهد جل شأنه على ولايته للمؤمنين خاصة بقوله «أَوْ» هل رأيت يا سيد الرسل أحدا «كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ» هي بيت المقدس بعد أن خرّبها بختنصر، راجع قصته في الآية 6 من الإسراء في ج 1 «وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها» في هذه الجملة حذفان أي خالية من السكان وساقطة حيطانها على سقوفها بأن تهدمت جدرانها بعد خرور سقوفها فصارت الجدران فوقها «قالَ» ذلك المار وهو عزير عليه السلام «أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها» أي كيف يكون ذلك ومتى يكون على طريق الاستبعاد لا الإنكار بل لما كان فيها من البناء الرفيع المحكم استبعد إعادتها على ما كانت عليه «فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ» أحياه بعدها و «قالَ له كَمْ لَبِثْتَ» ميتا وكانت إماتته وقت الضحى «قالَ لَبِثْتُ يَوْماً» ثم لما رأى بقية من الشمس وكان إحياؤه آخر النهار قال «أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» ظانا أنه أميت الضحى وأحيي العصر قبل المغرب «قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ» ميتا وإذا أردت يا عبدي تحقيق ذلك لتقنع بحسب الظاهر «فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ» قالوا كان تينا «وَشَرابِكَ قالوا
كان عصيرا تزود بهما وكان كل منهما «لَمْ يَتَسَنَّهْ» لم يتغير ولم ينتن مع أنه مما يتغير سريعا وليس من الأطعمة والأشربة التي تدخر فلا تتغير سريعا كمعمولان الحلويات في دمشق وحلب والأشربة الأوربية فإنها قد تبقى أشهرا إلا أنها مهما كانت ومهما وضع فيها من الأجزاء فلا تبقى معشار هذه المدة على حالها، وقد رآها عليه السلام كما تركها حين أميت لم يطرأ عليها شيء وقد مر عليها تلك المدة وهذه معجزة له عليه السلام على القول بنبوته وكرامة على القول بولايته «وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ» إذ رآه عظاما بالية مفككة بعضها عن بعض وهذا الدليل الظاهري على قدم لبثه ميتا المدة التي ذكرها الله «وَلِنَجْعَلَكَ» أيها الإنسان الكامل ببقائك حيا «آيَةً لِلنَّاسِ» يستدلون بها على البعث بعد الموت لأن من يحي الميت في الدنيا بعد هذه المدة لا غرو يحييه في الآخرة «وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ» من حمارك «كَيْفَ نُنْشِزُها» ترفعها من الأرض فتردها إلى أماكنها من الجسد ونركبها بعضها مع بعض كما كانت «ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً» كحالتها الأولى «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ» ذلك «قالَ(5/230)
أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ»
الذي أحياني وأحيا حماري على الصورة المارة وأبقى زادي وشرابي على حاله طيلة تلك المدة ليحيي بيت المقدس ويعيد بناءه كما كان وأحسن ويحيي الموتى في الآخرة ويجمع أجزاءهم المتفرقة ورفاتهم المبددة والمنمحقة ويعيدهم على ما كانوا عليه في الدنيا وهو «عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (259) مما يتصوره البشر وما لا يسعه عقله ولا يخطر على باله، ويعلم من هذا أنه تعالى لا يتقيد في الخلق والتكوين والحياة والموت بالأسباب الظاهرة والعادات المتعارفة والسنن المعقولة والتجارب المعمولة وأن كل ما خطر ببالك فالله فوق ذلك، وهذه قصة أخرى قصها الله تعالى على رسوله من عجائب قدرته. وما قيل إن المار ارميا بن حلفيا من سبط هرون ويعنون به الخضر عليه السلام، لا يصح لأن الخضر اسمه بليا ابن ملكان على أصح ما قيل فيه، وكذلك ما قيل إن القرية (دير سابرآباد) بفارس ليس بشيء، وأضعف من هذين القيل بأن المار رجل كافر شاك بالبعث لأن الله أجلّ من أن يخاطب كافرا مهانا كما لا يليق أن يجعل الله الكافر آية ليعتبر بها الناس لذلك فإن ما جرينا عليه هو الأولى والأليق والأصوب والأصح، وهذا الخلاف كالخلاف في ذي القرنين الذي نوهنا به في الآية 99 من سورة الكهف ج 2، فراجعه ففيه ما لا تجده في غيره. وليعلم أن ليس القصد معرفة المار أو معرفة القرية بل القصد تعريف منكري البعث قدرة الله تعالى، وفي هذه القصة دلالة على قول من قال بنبوته حيث أخبر اليهود بما في كتبهم وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ولم يتعلم من أحد، ومن هنا ادعت اليهود بأنه ابن الله، تعالى الله عن ذلك وقاتلهم على بهتهم، وذلك لأن الله أحياه بعد موته ولأنه أملى عليهم التوراة عن صدر غيب بعد أن أحرقها بختنصر على مرأى منهم، فقالوا لو لم يكن ابن الله لما جعلها في قلبه وهو لم يعرفها، ولم يحيه بعد ما أماته ويحيي حماره كرامة له، ولم يجزم جمهور العلماء بنبوته كلقمان وذي القرنين والكل متفقون على ولايتهم. قالوا وبعد موت عزير بسبعين سنة أرسل الله ملكا إلى بوشك ملك الفرس وأمره أن يعمر بيت المقدس وايليا ويعيد هما كما كانا فانتدب الملك الف قهرمان مع كل واحد الف عامل فعمرو هما على ما كانا عليه وعادت بنو إسرائيل مع عزير إليهما كما هو مفصل بالقصة(5/231)
المشار إليها في سورة الإسراء آنفا. قال تعالى «وَ» اذكر يا سيد الرسل لقومك قصة أخرى «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ» تعالى «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ» بذلك يا خليلي، وقد رأيت ما رأيت من عظمتي وكبريائي وبطشي وإنقاذي لك وأفعالي وصنايعي مع غيرك وآثار أعمالي في ملكوتي «قالَ بَلى» يا رب رأيت وصدقت وآمنت وعرفت كيف أهلكت أعداءك وأنجيت أولياءك وخاصّك «وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» بالمعاينة كي يصير عندي علم اليقين عين اليقين، راجع الفرق ما بينهما في الآية 95 من الواقعة في ج 1، وهذا الاستفهام للتقرير ولذلك أجابه ببلى قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى للعالمين بطون راح
أي ألستم كذلك وتسمى هذه الهمزة همزة إثبات وإيجاب. وخلاصة هذه القصة أنه عليه السلام رأى رجلا ميتا بساحل طبريا (بحيرة ما بين فلسطين والأردن وسورية ينصب عليها نهرا الليطاني وبانياس إذ يجتمعان ببحيرة الحولة وينسابان إليها، عرضها عشرة أميال وطولها عشرون ميلا تقريبا بيضوية الشكل ويخرج منها نهر يلتقي مع نهر الأردن ونهر الشريعة الجاري بواد اليرموك ويختلطان معه فتمر هذه الأنهار تحت جسر يسمى جسر المجامع لذلك المعنى وينساب إلى بحيرة لوط المسماة بالبحر الميت حيث لا يعيش به حيوان) قد توزع لحمه ذئاب البر والبحر فإن مد البحر انتابه حيتانه، وان جزر نهشته السباع فإذا ذهبت عنه تناولته الطيور، فقال يا رب قد علمت أنك تجمعها، أي لحرم الأموات من بطون السباع وأجواف الحيتان وحواصل الطير فأرني كيف تحييها فأزداد يقينا، فعاتبه الله على ذلك، فقال يا رب ليس الخبر كالمعاينة، وهو عليه السلام لم يكن شاكا وحاشاه ولكنه أحب ذلك كحب المؤمنين رؤية ربهم في الآخرة، ونبيهم في الدنيا والآخرة، ويسألونها بدعائهم فكان عليه السلام طامعا بإجابة دعائه فسأله ذلك لأنه خليله، وقد وعده بإجابة دعائه وقيل في المعنى:
ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المشاهدة الخليل
ولما نزلت هذه الآية قال قوم شك إبراهيم ولم يشك محمد صلّى الله عليهما وسلم(5/232)
فقال نحن أحق بالشك من إبراهيم، أي أن الشك مستحيل في حق إبراهيم لأن الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقا إلى الأنبياء لكنت أحق به، وكيف يتصور الشك له وقد وقع لعيسى بن مريم وله ولمن قبله من الأنبياء عليهم السلام، ومن المعلوم أنه لم يشك البتة ففيه أي في هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم نفي الشك عنهما، وقوله صلّى الله عليه وسلم (أنا أحق بالشك) إلخ على سبيل التواضع وهضم النفس، وكذلك ما وقع لسائر الأنبياء فليس بالشك الذي نعرفه نحن، وفي شرح هذا الحديث (بقية) ولفظه عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) إلخ. ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي «قالَ» تعالى مجيبا طلب خليله بعد أن قال له من أي نوع تريد الإحياء وقال من نوع الطير، قال جل قوله «فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ» أي أملهن واضممهن وقربهن «إِلَيْكَ» ثم قطعهن وفرقهن ومزقهن واخلطهن «ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ» من هذه الجبال البعيدة بعضها عن بعض «مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ» إليك بعد ذلك فإنهن «يَأْتِينَكَ سَعْياً» مسرعات عائشات كما كانت، ولم يقل طيرانا لأنه أبلغ حكمة وأبعد للشبهة إذ لو جاءت طائرة لتوهم أنها غيرها أو أن أرجلها غير سليمة «وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» منيع لا ينال ولا يغلب ولا يرضى لمناصريه الخذلان لأنه يؤيدهم بمختلف الوسائل ويلهمهم فصل الخطاب من حيث لا يشعرون من أين يأتهم النصر «حَكِيمٌ» (260) لم يجعل لغيره تأثيرا في الإحياء والإماتة بالغ الحكمة في جميع أموره متناء في مراميها غير متناهية مراميه فأخذ عليه السلام طاوسا إشارة إلى ما في الإنسان من حب الزينة والجاه، ونسرا إعلاما بشدة شغفه في الأكل، وديكا إيذانا بكثرة ولعه بالنكاح، وغرابا تنبيها إلى تمكن حرصه في الدنيا، وإنما اختص الطيور من الحيوانات لأن همته عليه السلام في العلو إلى الملكوت والوصول إلى عالم الجبروت، لأنه عليه السلام سبّاح في مجال اللاهوتية سوّاح في ميدان الناسوتية فشاكلت معجزته همته وفي انتقاء هذه الأصناف من الطيور مشابهة إلى ما في الإنسان من أوصافها، وفيها إشارة إلى أن(5/233)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)
الإنسان إذا ترك هذه الشهوات الذميمة لحق بالعالم العلوي وارتقى أعلى الدرجات بنيل السعادة ومال إلى ما أمره به ربه وجانب ما نهاه عنه. قالوا ثم ذبحها عليه السلام وقسم كل طائر أربعة أجزاء ووضع كل جزء من الأربعة على جبل، قالوا وضع الأجزاء بعد أن خلطها بعضها ببعض، والجبال واحد بجهة الشرق، والآخر بالغرب، والثالث بالقبلة، والرابع بالشمال، بالنسبة للمكان الذي هو فيه، وتباعد عنها وأمسك رءوسها بيده ثم قال لها تعالين بإذن الله تعالى فصارت كل قطرة من دم وجزء من لحم وقطعة من عظم وملزم ريشة ومشعر أسر تنطاير إلى أصل طيرها وتلتصق به، وهو عليه السلام ينظر حتى إذا لقيت كل جثه بعضها وتكاملت أجزاؤها قامت وطارت في السماء بغير رأس، وهو جالس في مكانه ينظر عظمة فعل ربه وكبير قدرته وجليل عمله ونزلت إلى الأرض من قمم الجبال وأقبلت تمشي إليه متجهة نحو رءوسها حتى وصلت إليه فلاقت كل جثة رأسها الذي بيده واتصلت به فكان كل منها كما كان قبل الذبح، وطارت في السماء، فوقع ساجدا على الأرض إجلالا وتقديسا لربه جل وعلا، سبحان من حير في صنعه العقول، سبحان من أعجز بقدرته الفحول ومن هنا يعلم أنّ الله تعالى إذا تولى عبده بذاته وكان ذلك العبد قد فوض أمره إليه، فإنه لا يرد طلبه ويمنحه سلطة وإرادة تنقاد إليه بسببها العظماء بما يظهره على أيديهم من المعجزات التي يعجز عن مثلها البشر. وتؤذن هذه الآية أن سر الحياة وطريقة الإحياء والإماتة منحصرة به تعالى لا تكون أبدا إلا بإرادته وتومىء إلى أن قوة الإيمان بالله تعالى قد ينشأ منها العجائب، وانظر قوله صلّى الله عليه وسلم: رب أشعث أغبر لو أقسم
على الله لأبره.
مطلب في الصدقة الخالصة والتوبة وما يتعلق بهما وبيان أجرها وعكسه:
وبعد أن ذكر الله تعالى لحبيبه أوائل هذه السورة وأواخرها من القصص الغريبة ليقصها على قومه وعلى أهل الكتابين ليعلموا أن ذلك كله بتعليم الله تعالى إياه، ولعلهم أن يؤمنوا به ويصدقوه شرع يحث على التصدق في سبيله على عياله والمجاهدين لإعلاء كلمة الله، فقال جل قوله «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ(5/234)
فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ»
قد لا توجد سنبلة فيها مائة حبة ولا حبة تنبت سبع سنابل غالبا وقد يكون ذلك نادرا لعدم الاستحالة ولذلك جاز ضرب المثل فيه على الدخن والذرة والسمسم وشبهها فقد تنبت الحبة أكثر من ذلك إذا حلت بركة الله «وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ» زيادة على هذا لأن رزقه بغير حساب وخزانته لا تنفد وهذا كله ترغيب للمتصدقين وعبرة للمقتصدين وتعليم للعالمين، فكما أن التاجر إذا علم أنه يربح بالحية إذا اشتراها أو زرعها ذلك الربح يقدم للشراء والزرع عن رغبة، فكذلك من يطلب الأجر عند الله تعالى في الدار الدائمة إذا علم تضاعف الواحد إلى عشرة أو إلى سبعمئة وإلى أن يشاء الله يسارع إلى النفقة بطيب نفس وانشراح صدر طلبا لنيل ثواب ربه المضاعف الموصل إلى الجنة الدائمة ذات النعيم الأبدي الذي هو أوثق من ما يتوخى التاجر لأن ثواب الله مكفول بوعده الصادق الذي لا شك فيه، بخلاف التاجر فإنه مظنون، وقد يعتريه آفات تحول دون ربحه وقد يضيع رأس ماله «وَاللَّهُ واسِعٌ» في قدرته على مجازاة عباده بأكثر مما يرجونه، كثير الفضل عليهم عظيم الجود «وَاللَّهُ واسِعٌ» في قدرته على مجازاة عباده بأكثر مما يرجونه، كثير الفضل عليهم عظيم الجود «عَلِيمٌ (261) » بالقدر الذي يضاعفه لعباده يعلم من منهم من يتفق عن رغبة وطيب قلب ممن ينفق سمعة ورياء، فالصدقة إذا كانت عن رغبة فيما عند الله من مال حلال، كانت عند الله بمكان عظيم، يربيها له كما يربي أحدكم فلوه، وإذا كانت عن سمعة ورياء أو من مال حرام أو مما يكره أو من فيها أو عنف آخذها فقد يستوفي ثوابه عنها في الدنيا من مدح أو ذم وماله في الآخرة من نصيب كما ستعلم مما يأتي. واعلم أن هذه الآية ولآيات الثلاث عشرة الآتية نزلت كلها في الصدقة والمتصدقين ولم تجمع هكذا آيات إلا في هذه السورة المباركة وأن الأولى منها ترمي إلى ترغيب وتشويق الناس إلى الإقدام على الصدقات والخمس التي تليها فيمن يتصدق مخلصا بصدقته لوجه الله تعالى والتي بعدها في بيان المخلص في صدقته من غيره، قال تعالى «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً» بأن تقول لمن تعطيه أعطيتك كذا أو تعيّره بحاجته وفقره وأخذه للصدقة(5/235)
أو يجاهر بها أمامه على ملأ من الناس، والمنّ في اللغة الإنعام قال الأنباري:
فمنّى علينا بالسلام فإنما ... كلامك يا قوت ودرّ منظم
قال صلّى الله عليه وسلم: ما من الناس أحد أمنّ علينا في صحبته ولا ذات يده من ابن أبي قحافة.
والمنة النعمة، ومن صفاته تعالى المنّان بمعنى المتفضل على عباده المحسن إليهم، وهو هنا بمعنى النقص والعيب وفيه قال بعضهم:
طعم الآلاء أحلى من المنّ ... وهو أمر من الآلاء مع المن
وقال بعضهم: صنوان من المن من منح سائله ومنّ، ومن منع نائله وضن.
وقيل في هذا المعنى:
وإن امرأ أسدى إلي صنيعة ... وذكّرنيها مرة للئيم
والمقصودون في هذه الآية «لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) » قالوا إن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه لأنه جهز غزاة المسلمين إلى تبوك الذي أطلق عليهم جيش العسرة بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وجاء أيضا بألف دينار عداها فصبّها في حجر النبي صلّى الله عليه وسلم، قال عبد الرحمن بن سمرة: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يدخل يده فيها ويقلبها ويقول ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم. وقال بعض المفسرين نزلت في عبد الرحمن بن عوف إذ أتى حضرة الرسول بأربعة آلاف درهم وقال يا رسول الله عندي ثمانية أمسكت أربعة لنفسي وعيالي وهذه أربعة لربي، فقال له بارك الله لك فيما أمست وفيما أنفقت. وإن السيدين عثمان وعبد الرحمن لهما مآثر في النفقة والصدقة كثيرة لا ينكرها إلا معاند، كيف وهما من العشرة المبشرين في الجنة ولعثمان خاصة اليد البيضاء في شراء بئر رومة ووقفها على المسلمين ومساعدة المسلمين بماله ونفسه بمواقف جمة، والآية لا شك عامة يدخل فيها كل متصدق مخلص، وإن من يحمل على سيدنا عثمان على ما وقع منه إبان خلافته لا حق له بذلك لأنه مجرد اجتهاد وهو صاحب الأمر إذ ذاك فليس لأحد الخوض بما عزي إليه والأعمال بالنيات ولا عبرة بما يقوله الغلاة الذين يهرفون بما لا يعرفون ويتقولون بما يظنون. أخرج ابن ماجه وغيره عن علي كرم الله وجهه وأبي الدرداء وغيرهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من أرسل بنفقته في سبيل(5/236)
الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمئة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمئة ألف درهم، ثم تلا هذه الآية. أي أن له من الأجر بقدر ذلك. وعن معاذ بن جبل: أن غزاة المنفقين قد خبأ الله تعالى لهم من خزائن رحمته ما ينقطع عنه علم العباد. واعلم أن هذه الآيات تشير إلى إنفاق المال في وجوه البر ومصالح المسلمين تزيد في ثروة المنفق وسعة رزقه في الدنيا ويضاعف له الأجر في الآخرة إذا خلا من أمرين المنّ على المتصدق عليه وإلحاقه ما يؤذيه قولا أو فعلا، وتؤذن بتحريم المن على المنفق عليه والتشهير به، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك. وبعد أن بين الله تعالى ثمرة الصدقة المخلصة من الشوائب حذّر تعالى مما يوجب الشحناء مع المتسئلين إذا لم يرد أن يعطيهم أو لم يكن لديه ما يعطيهم أن يعتذر لهم بما ذكره وهو «قَوْلٌ مَعْرُوفٌ» للفقير ورد جميل وحسن اعتذار له «وَمَغْفِرَةٌ» بأن تستر عليه سؤاله ولا تفضح حاله والصفح عما يقابلك به والتغاضي عما يصدر منه إذا تأثر من خيبة طلبه «خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً» وكل كلام ثقيل على النفس أو ينكمش منه الوجه فهو أذى، ففظاظة الكلام والتعنيف من الأذى أيضا فليجتنبه المتصدق جهد استطاعته «وَاللَّهُ غَنِيٌّ» عن عباده كلهم وقادر على رزق الفقراء ومن دونهم ولكنه يريد إثابة عباده بما أنعم عليهم وتحليتهم بالتصدق منه ولا سيما إذا كانت على المجاهدين فإنها أعظم أجرا وأدوم ذكرا «حَلِيمٌ (263) » لا يعجل عقوبة البخيل والمانّ بالصدقة والمؤذي المتصدّق عليه بكلامه واكفهرار وجهه بل يمهلهم ليتوبوا ويرجعوا ويقول لهم «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى» وذلك لأن النفوس طبعت على حب الثناء وكثيرا ما ينكر الخلق الجميل فيما بينهم ويجحدون الإحسان عليهم وهذا مما يوغر بعض الصدور الضيقة فتنفجر بالمن والأذى على منكري المعروف، لهذا حذرهم الله تعالى من أن يقولوا ما يبطل أجر صدقاتهم وإنما رغبهم بالتجمل لهؤلاء الثقلاء كي لا يكونوا «كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ» فيبطل أجر نفقته بسبب حب السمعة والصيت فيها «وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» الذي يثاب فيه المخلص ويعاقب المرائي، لأن هذه الآية تومىء(5/237)
بأن التصدق رياء من سمات المنافقين لا المؤمنين ولهذا وصمهم بعدم الإيمان ثم وصفهم بقوله «فَمَثَلُهُ» أي المنفق المرائي «كَمَثَلِ صَفْوانٍ» حجر أملس «عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ» مطر شديد «فَتَرَكَهُ صَلْداً» لا تراب عليه ولا غبار وهؤلاء «لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ» من
ثواب نفقاتهم «مِمَّا كَسَبُوا» في الدنيا لأنهم كفروا نعمة الله «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) » إلى سبيل الخير، وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفقة المرائي المانّ بصدقته أو المقطب وجهه عند السؤال فالنفقة هي التراب والمن والأذى هو المطر إذ يذهب به ولا يبقى له أجرا فكذلك هؤلاء يعدمون ثواب صدقاتهم يوم القيامة ويعاقبون على فضول أموالهم وعدم إحسانهم على عيال الله والمجاهدين في سبيله فيندمون على ما كان منهم ولات حين مندم. قال تعالى «وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ» على الإنفاق في طاعته تصديقا لثوابه ورغبة بوعده «كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ» مكان مرتفع عن الأرض إذ يكون ثمرها أزكى وزرعها أزهى من غيره قال الأبوصيري:
كأنهم في ظهور الخيل نبت ربى ... من شدة الجزم لا من شدة الحزم
وهذه الربوة «أَصابَها وابِلٌ» غيث غزير نافع «فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ» مثلين عن غيرها «فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ» مطر خفيف أو ندى فإنه يكفيها ولا ينقص ثمرها ولا يخل بزهرتها «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) » لا يخفى عليه شيء من نفقاتكم ونياتكم، وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لنفقة المخلص فكما أن هذه الجنة تزكوا في كل حال ولا تختلف قل مطرها أو كثر فكذلك نفقة المؤمن الخالصة ينميها الله تعالى له قلت أو كثرت، وقد جاء عنه صلّى الله عليه وسلم:
إن الله ليربي صدقة أحدكم كما يربي أحدكم فلوه. وإنما قال فلوه ولم يقل ولده لأن من له ولع بتربية الخيل يصرف جهده على نسلها ويتعاهده بنفسه أكثر مما يتعاهد ولده وهو واقع مشاهد لا ينكره أحد. هذا وما نقلناه من سبب نزول الآية 262 المارة بما قام به عثمان وعبد الرحمن رضي الله عنهما من تقديم المال في غزوة تبوك لا يوثق به لأن غزوة تبوك كانت في السنة التاسعة من الهجرة بعد نزول هذه الآية بسبع سنين تقريبا لأنها نزلت في السنة الثانية تقدمة لآية فرض(5/238)
الزكاة التي تتعقبها، وما قيل إن الزكاة فرضت بآية براءة 103 فبعيد عن الصواب كما سنذكره في تفسير هذه الآية إن شاء الله، لذلك فإن ما ذكرناه من أن الآية 262 عامة في المومى إليهما وغيرهما أولى لأن سياقها ينافي ما ذكروه من الأسباب والله أعلم. واعلم أن هذه الآية تشير إلى أن خير البر ما كان قصد به وجه الله طلبا لمرضاته وأن الخير الذي يرجى ثوابه في الآخرة، ما كان منبعثا عن طيب النفس وخلوص النية للذين هما ملاك سعادة الإنسان لأن الإخلاص لله تعالى في كل شيء واجب، وليتحقق هذا المخلص أنّ الله تعالى سيخلفه عليه وأن الإحسان للناس مطلوب، قال أحمد بن المتيم النحوي:
إذا ما نلت في دنياك حظا ... فأحسن للغني وللفقير
ولا تمسك يديك عن قليل ... فإن الله يأتي بالكثير
قال تعالى «أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» أي صاحب هذه الجنة وهو معطوف بالمعنى على أيود كأنه قيل: أيود أحدكم لو كانت له جنة «وَأَصابَهُ الْكِبَرُ» ولم يكن له غيرها ولا قدرة له على الكسب مع غاية احتياجه إليها «وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ» صغار عاجزون عن الكسب أيضا «فَأَصابَها إِعْصارٌ» ريح مستديرة مرتفعة إلى السماء كالعمود «فِيهِ نارٌ» عظيمة بدليل التنكير الدال على التهويل والتكبير «فَاحْتَرَقَتْ» تلك الجنة بسببها «كَذلِكَ» مثل البيان الواضح «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ» على النفقة المقبولة وغير المقبولة «لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) » فيهما فتعملون ما لا تندمون عليه يوم القيامة يوم لا ينفع الندم، وهذا مثل ثالث ضربه الله تعالى لعمل المنافق المرائي الذي يعدم ثواب نفقته في الآخرة، فالعمل في حسنة كالجنة المنتفع بها، واحتياجه لها في الدنيا كاحتياج الرجل يوم القيامة للثواب، وإحراقها وقت عجزه وهو بحالة يكون أحوج إليها من غيرها، كإبطال الثواب عند ما يكون أشد حاجة له يوم القيامة، فيلحقه من الغم والخسرة أكثر مما يلحق صاحب الجنة المحترقة لأنه قد يأمل إخلاصها بعد وفي الآخرة تنقطع الآمال. قال الحسن هذا مثل قلّ والله(5/239)
من يعقله من الناس شيخ كبير ضعف جسمه وكثر عياله أفقر ما كان إلى جنته وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا، قال ابن عباس نزلت هذه الآية مثلا لرجل غني يعمل الحسنات ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها. وترمي هذه الآية إلى أن الفرق بين المرائي والمنّان في النفقة من حيث وقع المصيبة وتأثيرها في النفس لأن المرائي لم يبرح ثوابا على نفقته فلا يحزن لحرمانه من ثوابها لأن قصده إظهارها للناس وحمده عليها وقد حصل على ذلك في الدنيا، والمنّان كان يرجو ثواب صدقته فحرمه الله بسبب منّه وأذاه.
وتشير إلى أن كل ما يغضب الله تعالى بسبب زوال النعم وإلى عدم الاغترار بنعم الله لأنه يؤدي إلى سلبها وأن عدم وجود النعمة مبدئيا خير من وجودها وسلبها، فعلى العاقل أن يحذر من نقم الله أكثر مما يتطلب من نعمه وأن يتلبس بالطاعة كلما زاده الله خيرا لأن المعصية تسبب الزوال.
مطلب أدل آية على فرض الزكاة ومعنى الحكمة والحكم الشرعي في الزكاة والنذر:
هذا وبعد أن حذر الله جل شأنه المنفقين مما لا ينبغي فعله ليتنزهوا عنه بين ما ينبغي مراعاته في المنفق ليكون الإحسان متناسبا مع شرف الغاية التي أنفق المال من أجلها فقال «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ» من تجارة وصناعة أو جرايه وزراعة أي أنفقوا من أطيب ما تحرزون من ذلك وأحسنه وأكمله «وَ» أنفقوا أيضا «مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ» من أنواع الحبوب والثمار والفواكه والخضار التي تدخر «وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ» تقصدون الرديء «مِنْهُ تُنْفِقُونَ» على الفقراء وغيرهم «وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ» أي ذلك الخبيث لو فرض إعطاؤه لكم من قبل الغير «إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ» بأن تتسامحوا بأخذه وقت الحاجة فأولى لكم أن لا تأخذوه بغيرها لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يراه فيأخذه حياء أو غصبا أو عند اليأس من أخذ غيره إذا تركه فيأخذه مكرها عن غير رضا وطيب قلب «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ» عن صدقاتكم وقادر على رزق الفقراء من فضله دونكم بل واغنائهم عنكم ولكن إظهار فضلكم على الغير وتفاضلكم بينكم وبيان أثر نعمه عليكم(5/240)
«حَمِيدٌ (267) » لما تتصدقون به وأنه يظهر حمدكم على لسان عباده فيثنون عليكم، ثم حذرهم خوف فقدان ذات اليد بسبب التصدق، فقال عز قوله «الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ» يخوفكم به كي لا تتصدقوا ليحول دون ما أعده الله لكم من الثواب حسدا وليظهر على ألسنة الناس ذمكم «وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ» هذه الكلمة في جميع القرآن بمعنى ما يستقبح فعله ويفحش كالزنى واللواطة إلا هنا فإنها بمعنى البخل الذي هو منع الزكاة لأن هذه الآية من أوضح الآيات الدالة على فرض الزكاة على النقود والحبوب وغيرها لعموم لفظها وشموله، والعرب تسمي البخيل فاحشا قال طرفة بن العبد:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد
«وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا» خلفا لما تتصدقون به مع العفو عن ذنوبكم «وَاللَّهُ واسِعٌ» العطاء لا تنفذ خزائنه يعطي من يشاء بغير حساب وهو «عَلِيمٌ (268) » بمن يتصدق لوجهه ممن يتصدق لغيره. تنبه هذه الآية إلى أن ما يحصل في قلب المنفق من خوف الفقر هو من الشيطان فينبغي أن لا يلتفت إليه لأنه من جملة مكايده، وأن ما يقع في قلبه من رجاء توسعة الرزق بسبب النفقة هو من الله فليثق به فإنه لا بد أن يزيده من فضله، وتشير إلى أن الشيطان يغري البشر على البخل لئلا ينفق والله جل جلاله يغريكم على الكرم مع وعد الخلف، فعلى العاقل أن يكون حكيما فيميل إلى ما به النفع الدائم لأن الله تعالى «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ» من عباده ممن هو أهل لأن يتبصر بها لأنها لا تكون بالكسب ولا بالجهد ولا بالتعليم بل هي من الله الذي يبصر عبده بطرق الخير ويهديه لسلوكها، ويعرفه طرق الشر ويصرفه عنها، وهذا هو معنى الحكمة وهي أعظم ما يؤتى العبد بعد الإيمان «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ» الحقيقة التي هي النبوة «فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» لأنها ملاك خير الدنيا والآخرة «وَما يَذَّكَّرُ» بمواعظ الله وعبره وأمثاله «إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (269) » لأنهم هم المنتفعون بها العالمون بما ينتج عنها. قالوا إن الحكمة بمطلق معناها لا التي بمعنى النبوة بنيت على ثلاث: أيدي الصين وأدمغة اليونان وألسنة العرب. واعلم أن هذه الآية تشير إلى(5/241)
أن من عرف حبائل الشيطان ولم يركن إليها وأيقن بوعد الله فهو من أهل الحكمة الجامعة كل خير المتيقن في قلوبهم صدق كل ما سمعوه عن الله ورسوله، قال تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) الآية 38 من سورة ق في ج 1، لأن القلب ملك الجوارح إذا صلح صلحت وإذا فسد فسدت. واعلم أن مغزى هذه الآية وما قبلها جعل ما يتصدق به الإنسان لوجه الله وأن يكون خير ما له إذ لا يليق بالمحسن أن يعطي ما ينكف عن أخذه وتعافه نفسه، راجع قوله تعالى (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) الآية 63 من سورة النحل في ج 2، وتحذير الأخذ بقول من يقول إن النفقة تورث الفقر لأنه من وساوس الشيطان وخداعه وان يأخذ بقول من يقول إن النفقة تورث توسع الرزق وتزيد في العمر وأن الكرم من صفات الله التي يجب على الغني الاتصاف بها، والبخل من صفات الشيطان الذي يجب الاجتناب عنه، وترمي إلى أن الحكمة هي من مواهب الله تعالى ولا طريق لها إلا الإلهام ومن يرد الله به خيرا يفقهه في معانيها وعواقبها ومراميها لأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها. وقالوا القلوب تحتاج إلى أقواتها من الحكمة كما تحتاج الأبدان إلى الغذاء. وقال بعض الحكماء ليهنه طعام من أكله ما حله وعاد على ذوي الحاجات من فضله. وقال آخر احذر مذلة الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع. وقال ما أكلته وأنت مشتهيه فقد أكلته وما أكلت وأنت لا تشتهيه فقد أكلك وقال قصير ما الحيلة فيما أعي إلا الكفّ عنه ولا الرأي فيما لا ينال إلا اليأس منه وقال الإسكندر لا توجد لذة الملك إلا بإسعاف الراغبين واغاثة الملهوفين ومكا المحسنين، وقال البغي ذميم العقبى، وهدم البيوت القديمة غير محمود، والحرب مأمون العاقبة، ودماء الملوك لا يجوز إراقتها، وسلطان العقل على باطن العاقل أشد من سلطان السيف على ظاهر الأحمق، والسعيد من لا يعرفنا ولا نعرفه، والملوك إذا دبرت ملكها بمال رعيتها كانت بمنزلة من يعمر سطح بيته بما ينفقه من أساسه وقال رجل لكسرى ثلاث كلمات بألف دينار وهي: ليس في الناس كلهم خير ولا بد منهم، فالبسهم على قدر ذلك. وقال اردشير الدين أساس، والملك حارس وما لم يكن له أساس فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع، وقال لا شيء أضر(5/242)
على الملك من معاشرة الوضيع ومداناة السفيه، وقال كما تصلح النفس بمعاشرة الشريف تفسد بمخالطة السخيف، وكتب له رجل ينصحه بأن قوما سبّوك، فقال إن كان سبهم بألسنة شتى فقد جمعت ما قالوه في ورقتك. فجرحك أعجب ولسانك أكذب.
راجع الآية 17 من سورة النمل في ج 1 فيما يتعلق بالحكم والأمثال. ثم ذكر جل شأنه حكما آخر شاملا لكل أنواع النفقات فقال «وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ» خالصة لله أو مشوبة بشيء مما ذكر «أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ» مطلق للخير والشر فاوجبتموه على أنفسكم «فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ» ويجازيكم عليه بحسب نيتكم، فإما أن يخلف عليكم ما هو خير منه في الدنيا ويثيبكم عليه في الآخرة، وإما أن يكافيكم عليه بالدنيا بإشاعته على ألسن الناس، ويؤزركم عليه في الآخرة لأنكم لم تريدوا بها وجهه فتكونوا ظالمي أنفسكم «وَما لِلظَّالِمِينَ» المانعين رفدهم ولم يوفوا بنذورهم في الدنيا «مِنْ أَنْصارٍ (270) » يدفعون عنهم عذاب الله يوم الجزاء في الآخرة. وقد قرر الله تعالى الوعيد على البشر في هذه الآية لبيان فظاعة حال البخيل الذي لم يؤد حق الله من ماله إلى عياله، وقد أيأسه من المعين والخليل عند ما يكون أحوج إليهما، واعلم أن الأمر في هذه الآية للوجوب لأنها أدلّ وأعم وأشمل آية على فرض الزكاة، فيدخل فيها الذهب والفضة وأرباح النجارات وحاصلات الزروع والأشجار وغيرها من كل ما يقتات به ويدّخر وما يكتسب من هذا وغيره، أما الذي لا يدّخر كالبطيخ بأنواعه والخيار بأصنافه وبعض الفواكه والخضار فلا زكاة فيها، وتفصيل ما يجب زكاته وما لا، ونصاب كل منها في المال والعروض والحيوان والحبوب مفصل في كتب الفقه فراجعها. قال أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله إن المراد بهذه النفقة التي أمرنا الله باختيارها من الطيبات هي الزّكاة المفروضة، لأن الأمر فيها للوجوب. وقال مالك إن المراد بها مطلق الصدقة، والأول جرى عليه أكثر العلماء والمفسرين، إذ لا نهي في الآية عن التصدق بالرديء، وهو مخصوص بصدقة الفرض. قال عبيدة السلماني سألت عليا كرم الله وجهه عن هذه الآية فقال نزلت في الزكاة المفروضة كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه الرديء، فقال تعالى (وَلا تَيَمَّمُوا(5/243)
الْخَبِيثَ)
إلخ، وقال بعض المفسرين نزلت في أناس من الأنصار كانوا يتصدقون بأردأ تمرهم على اهل الصفة فنهاهم الله عن ذلك، وأعلمهم بأنهم لو كانوا هم الآخذين لم يأخذوه إلا عن إغماض وحياء فكيف يعطونه؟ وعليه فإن التصدق بالحرام لا يجوز لأنه أخبث من الرديء. روى الأثرم في سننه عن عطاء بن السائب قال: أراد عبد الله ابن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طليحة من الخضراوات صدقة، فقال له موسى ليس لك ذلك إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول ليس في ذلك صدقة، وهذا الحديث من أقوى المراسيل لاحتجاج من أرسله وهو دليل من قال إن هذه الآية نزلت في الزكاة المفروضة، ومن قال إنها في صدقة التطوع استدل بما أخرج في الصحيحين عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة. وهذا ليس بشيء وإن كان الحديث صحيحا لأنه لا يدل على أن هذه الآية نزلت في صدقة التطوع، وتفيد الآية الأخيرة هذه وهي العاشرة من آيات الصدقة المشار إليها في الآية 261 إلى أن الله تعالى يعلم برّكم ونفقاتكم ونذوركم وأن من لم يوف بها فهو ظالم لنفسه التي أمر بتطهيرها وتزكيتها، وفيها وعيد وتحذير وتهديد لمن لم يوف بنذره لأنه هو الذي أوجبه على نفسه فصار من قبيل العهد، وقد أمر الله تعالى بالوفاء به كما مر في الآية 152 من سورة الأنعام في ج 2، وما أشير إليه فيها من المواضع. والحكم الشرعي: وجوب الزكاة على من ملك النصاب فاضلا عن حوائجه كلها المبين تفصيلها في كتب الفقه المشحونة بكل ما يخطر على بالك بشرط حول الحول على النقدين وأموال التجارة وكل ما يعد عروضا، أما الزروع والحبوب فبنمو اسمها وعلى ما يفضل من نصابها. والحكم الشرعي في النذر إذا كان خيرا وجب الوفاء به، وإن كان شرا كفر عنه. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه. وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلم من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا في معصية الله فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين،(5/244)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
ومن نذر نذرا فأطاقه فليف به. وأخرج النسائي عن عمران بن حصين: لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم. وروى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن النذر وقال إنه لا يأتي بخير، وإنما يتخرج به من البخيل.
وسبب النهي كون الناذر يلزم بنذره فيأتي به تكلفا من غير نشاط على سبيل المعاوضة.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إن النذر لا يقرّب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له، ولكن النذر يوافق القدر. فخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج.
مطلب الهداية من الله، وفضل إخفاء وإعلان الصدقة، والربا وما يتعلق به والحكم الشرعي فيه:
قال تعالى مبينا الحكم فيما تقدم من النفقات «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ» فتعطوها جهارا علنا «فَنِعِمَّا هِيَ» الخصلة الحميدة فيها «وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ» سرا عن الناس «فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» من الجهر لمظنة الإخلاص ودفع خواطر الرياء والسمعة، لما فيها من الستر على الفقير وخاصة المتعفّف، وفي هذه الآية إشارة إلى أن الإخفاء أفضل وإن كان الأمران جائزان إذ قد بوجد من هو محتاج للنفقة ولا يقبلها علنا خوف الفضيحة أو حياء من أن يطلع الغير على حاجته لها، فإعطاؤها له سرا فيه جبر لخاطره وسد لخلته وصيانة لماء وجهه، وفيها كرامة للمتصدق أيضا، وفضيلة له وبعدا عن شوائب المنّ والأذى، لأن من يتصف بهاتين المثلبتين لا يتصدق سرا. واعلم أن نفقة السر على الوجه المار ذكره فيها فضيلة أخرى بينها تعالى بقوله «وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ» بمقابل إخفائكم صدقاتكم بقصد أخذها عن طيب نفس كإعطائها عن طيب نفس وأجرها عند الله أكبر من الصدقة العلنية «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) » لا يخفى عليه تصدقكم ونيتكم فيه. وتؤذن هذه الآية بأن النفقات يثاب عليها صاحبها أخفاها أم أعلنها إذا صلحت النية إلا أن الإسرار بها أحسن، وتشير إلى أن المرء في أعماله وأقوله وأفعاله مراقب من قبل ربه فليحرص على أن تكون حالاته كلها خالصة له، وإلى أن النية متى خلصت في العبادة فإظهارها وإخفاؤها سواء لا يحط(5/245)
من قيمتها ولا ينقص من ثوابها. قال تعالى «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ» بأن تلزم أن تجعلهم كلهم مخلصين في نفقاتهم غير ماتين بها ولا مؤذين آخذيها ولا كونهم مراثين بها ولا أن لا ينقفوا من الرديء، وإنما عليك يا سيد الرسل تبليغهم ما نوحيه إليك وإرشادهم للعمل به فقط «وَلكِنَّ اللَّهَ» الذي أرسلك وجعلك هاديا بإرشادك إياهم «يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» ويوفقه لما يشاء من الطرق المخلوق إليها «وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ» مطلق مال قل أو كثر حسنا أو ردينا خالصا أو مشوبا سرا أو علنا «فَلِأَنْفُسِكُمْ» ثوابه «وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ» أي لا تنفقوا إلا خالصا لوجه ربكم، وجاء النفي هنا بمعنى النهي مبالغة فيه، لأن ظاهر هذه الآية خبر ومعناها نهي «وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ» أجره في الآخرة وافيا ويخلفه عليكم في الدنيا مضاعفا. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا.
ورويا عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أنفق ينفق عليك. ورويا عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي (تشحّي) فيوعي الله عليك. وفي معناه ما قاله الشيخ حسير رمضان الخالدي مدرس الفرات في بعض قصائده:
وكالدرهم الدينار صرفا وإن تكن ... دراهم نوعي أو دنانير تمنع
فقد أشار فيه إلى المنع الشرعي والمنع النحوي أيضا. وأخرج الترمذي عن خولة الأنصارية قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن هذا المال خضر حلو من أصابه بحق بورك له فيه، وربّ متخوض (الذي يأخذ المال من غير حله أو من غير وجهه) فيما شاءت له نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار يحث هذا الحديث على طلب الحلال من الكسب ويحذر على الابتعاد عن الحرام روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن حلال أم من حرام. وروى البخاري أيضا عن المقداد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل(5/246)
من عمل يده، وان نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده. هذا وان الله تعالى يوف لكم أجور صدقاتكم «وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) » فلا تنقصون شيئا من ثوابها الذي وعدكم إياه بل يجزيكم جزاء وافيا ويضاعفه لكم إن شاء على حسب نياتكم فيها، والقصد من هذا تهيج المتصدقين إلى التصدق والعمل بأحكام هذه الآيات ليتم غرض المتصدق عليهم الموجب لفوز المتصدقين. قالوا إن أناسا كانوا يتصدقون على قراباتهم من أهل الكتاب ثم ان النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن التصدق على المشركين ليحملهم على الإسلام رأفة بهم، فصار بعضهم يتأثم من ذلك، فأنزل الله هذه الآية. أي ليس عليك يا محمد هداية من خالفك في ذلك المنع، لأن الهداية من خصائص ربك وأجرها لمنفقها. وقد ذكر الله أنه لا يقبل إلا الخالص منها، فدعهم يا سيد الرسل وما يفعلون، فإنهم إذا تصدقوا على المسلمين لوجه الله لا لإعانتهم على الكفر فهو يثيبهم عليها، وإلا فيعاقبهم، لأن الجزاء من جنس العمل، والأعمال بالنيات، قال تعالى (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) الآية 60 من سورة الرحمن الآتية، وقال جل قوله (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) الآية 122 من سورة النساء الآتية، وقال (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) آخر سورة الزلزلة الآتية أيضا، فعلى قدر العمل وبحسب النية يكون الثواب والعقاب.
وليعلم أن القصد من النفقة صلة الرحم وسد خلّة المحتاج وليست للأغنياء ولا لغير المحتاجين الذين تودون إعطاءهم إياها وإنما هي خاصة «لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أي حبسوا أنفسهم للجهاد وبقصد إعلاء كلمة الله ثم الفقراء والمساكين الأحوج فالأحوج وبقية الأصناف الثمانية الآتي ذكرهم في الآية 60 من سورة التوبة الآتية، وإنما خص هؤلاء لأنهم «لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ» لأنهم غير مطلقين ليسلكوا سبل العمل والتجارة والزراعة والصيد وغيرها من طرق الرزق لتأمين معاشهم بسبب عجزهم مادة ومعنى، ومن هذا الصنف الذين يحبسون أنفسهم على عبادة الله ليل نهار لا يخرجون للأسواق والطرقات، والذين هم بعدم تصديهم للسؤال من هذا القبيل أيضا إذ «يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ» أمرهم وشأنهم «أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ» عن المسألة وعدم إظهار الذلة والمسكنة وظهورهم بالتجمل والعفة(5/247)
«تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ» السيما والسمة والسميا بمعنى العلامة وهي ما يظهر على وجه الإنسان من الاصفرار بسبب الجوع، وما يرى من ثيابهم الخلقة، وتلبسهم بالخضوع والخشوع لله، كل هذا مما ينم عن شدة حاجتهم مما يغني اللبيب عن احتياجهم لسؤاله، بل يتفرس فيهم ويعطيهم كفايتهم، فهم أكثر أجرا من غيرهم «لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً» إلحاحا فيكررون الطلب المرة بعد المرة، ولا يبارحون المحل حتى يأخذوا منه، ومنهم من يغلظ القول عند عدم الإعطاء، كسؤال زماننا لهذا عليكم أن تفعلوا الخير ما استطعتم معهم «وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) » تفيد هذه الآية عدم الميل إلى التصدق إلى المؤمن فقط، إذ يجوز أن يعطيها لذوي الحاجة من غير المؤمنين، لأن الخير للخيّر أن يتحرى بصدقته الأحوج إلا عند التساوي يرجح المؤمن، كما أنه يرجح الطائع على العاصي والقريب على البعيد. لما نزلت هذه الآية بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير كثيرة لأهل الصفة لأنها نزلت فيهم، وكانوا أربعمائة رجل لا مال لهم ولا مأوى ولا قرابة يأوون إليهم، وإنما ركنوا إلى المسجد يتلون القرآن ويخرجون مع كل سر للجهاد في سبيل الله، لذلك حث الله عباده للإنفاق عليهم ومواساتهم، لأنهم كانوا مع فقرهم لا يظهرون للناس بصفة المعدمين مع ظهور علامة الفقر عليهم، وهذا من غنى القلب. واعلم أن هذه الآية توعز بحرمة السؤال في غير الضرورة له قال صلّى الله عليه وسلم المسألة لا تحل إلا لثلاث: لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لأنه دم موجع. وقد بينا آنفا أن الصدقة تعطى للمسلم وغيره من ذوي الحاجة ونعني بها صدقة التطوع، أما صدقة الزكاة المفروضة فقد أجمع العلماء على صرفها للمسلمين من الأصناف الثمانية خاصة لقوله صلّى الله عليه وسلم أمرت أن آخذ الصدقة من أغنياء وأردها على فقرائكم، لأن تخصيص الأخذ في هذا الحديث من الأغنياء يخصصه الزكاة المفروضة، لأن غيرها تكون من الغني وغيره من كل من عنده فضل حوائجه ولو لم تجب عليه الزكاة. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال:
رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس الغني عن كثرة العرض ولكن الغني غنى النفس. ورويا الحسن: ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين(5/248)
الذي لا يجد غناء يغنيه ولا يفطن به فيتصدق عليه ولا يقوم لمسألته الناس. فأمثال هؤلاء يجب أن يتصدق عليهم لأنهم مع عوزهم لا يطلبون من الناس، لا سؤال زماننا الذين لولا قول الله تعالى (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) وقوله صلّى الله عليه وسلم: لو صدق السائل ما أفلح من رده. لما أعطينا أحدا منهم لقمة، لأنا بعد اطلاعنا على أحوال بعضهم وتيقننا من غناهم ووجوب الزكاة عليهم صرنا نشك في كل سائل، ولكن قال صلّى الله عليه وسلم اعطوا السائل ولو جاء على فرس، وما علينا إلا الامتثال، وإلا لأفتينا بعدم جواز التصدق على من لم يتحقق فقره، لأن فيه إعانتهم على الكسل والمعصية، لأن من عنده وجبة يوم يحرم عليه السؤال، فكيف بمن عنده قوت سنة، ومن يسأل وببيع ما يحصله بالسؤال، ومن يتجر ويرابي، فقد اختلف علينا الأمر ولم نقدر نفرق بين المحتاج وغيره، ولم نتبين لنا من اتخذ السؤال حرفة ممن هو محتاج إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. سمع عمر رضي الله عنه سائلا يسأل بعد المغرب، فقال لواحد من قومه عش الرجل فعشاه، ثم سمعه ثانيا يسأل، فقال ألم أقل لك عش الرجل؟ قال قد عشيته، فنظر عمر فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزا، قال له لست سائلا ولكنك تاجر، ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة، وضربه بالدرة. ولهذا صار بشك في أحوال السؤال وصاروا يعملون لهم محالا للأكل والشرب والنوم قطعا لمادة السؤال. هذا ومن أعمال الوليد الممدوحة أنه فرض للمجذومين نفقة خاصة كي لا يسألوا، وعين لكل أعمى قائدا، ولكل مقعد خادما، ونفقة لحفظة القرآن، وبنى دورا للضيافة. روى البخاري ومسلم عن ابن الزبير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها خير له من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سأل الناس وله ما يغنيه (عن المسألة) جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خدوش أو خموش أو كدوح، قيل يا رسول الله ما يغنيه؟ قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب- أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي-. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: من سأل الناس تكثرا فإنما سأل جمرا فليستقل أو ليستكثر. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:(5/249)
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سأل وله قيمة اوقية (أربعون درهما) فقد ألحف.
أخرجه أبو داود، وأخرج النسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سأل الناس وله أربعون درهما فهو ملحف، قال تعالى «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) » على ما فاتهم من الدنيا والله يخلف لهم ما أنفقوه فلا يخشون الفقر في الدنيا، وثواب نفقاتهم يقيهم أهوال يوم القيامة. هذه الآية خاتمة الآيات الأربع عشرة المشار إليها قبل، بأنها كلها في أنواع الصدقات وحال أهلها، وهذه الأخيرة نزلت في علي كرم الله وجهه، إذ بعث بوسق لأهل الصفة ليلا ومثله نهارا، وكان ذات يوم يملك أربعة دنانير فتصدق بواحد ليلا وبواحد نهارا وبالثالث سرا وبالرابع علنا، وهي عامة جار حكمها في كل متصدق بمقتضاها، لأن أكثر آي القرآن العظيم عام، وهذه الآية تؤيد ما ذكر في الآية 271 المارة من أن نفقة السر أفضل من العلانية، لأن الله قدم فيها نفقة الليل على نفقة النهار، ونفقة السرّ على العلانية ضمنا، وتشير هذه الآية صراحة إلى الأفضلية. هذا وقد أجمع العلماء على أن إظهار صدقة الفرض أحسن، للاقتداء بفاعليها، وإخفاء صدقة التطوع أجمل لما فيها من جبر خاطر آخذها بحالة لا ذل فيها ولا انكسار قلب، بل بطيب نفس وقلب منشرح. أخرج في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلّه، إمام عادل وشاب نشأ في طاعة الله ورجل قلبه معلق بالمجسد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تابا في الله تعالى اجتمعا على ذلك وافترقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه من خشية الله ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه. وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 62 من سورة براءة إن شاء الله، وقدمنا ما يتعلق بها في الآيتين 215/ 219 والآية 119 قبلهما أيضا فراجعها واعلم أن هذه الآية الأخيرة من آيات الصدقة تدل على أن أفضل أنواع الخير ما كان متتابعا متواصلا، وأن الأحسن أن لا يخصص الرجل صدقته بأناس دون(5/250)
آخرين، ولا بوقت دون وقت، لأن صدقة التطوع لا وقت لها، أما صدقة الفرض فوقتها وقت وجوبها وهو حولان الحول وصدور المواسم، ولا يتحتم على من تجب عليه أن ينفقها حالا بل يتريث ليجد من ينفقها عليه ويختار الأحوج والأدين والأقرب والأتقى، لما جاء في الخبر اختاروا لصدقاتكم كما تختارون لنطقكم. ولما رغب الله في الصدقة فرضها ونفلها التي هي بذل المال بلا عوض رجاء منّه عليهم طفق ينفر عن الربا وهو أخذ المال بلا عوض بقوله جل قوله «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا» ويعاملون الناس فيه ويأكلون فضله، لأن المال يحرز ويصرف ولا يؤكل وإنما ذكر الأكل دون اللباس والسكن الذين هما من المال أيضا لأنه معظم الأمر المقصود في المال، ولأنه لا يستغنى عنه استغناء اللباس والسكن، فهؤلاء المرابون «لا يَقُومُونَ» من قبورهم يوم يقوم الناس لرب العالمين عند الصيحة الثانية ليذهبوا إلى المحشر فيحاسبوا ويثابوا أو يعاقبوا «إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ» أي يصرعه ويخبطه بالأرض، لأن الخبط ضرب على غير استواء ومنه قولهم خبط عشواء مثلا للرجل الذي يتصرف في الأمور على غير هدى وروية وتدبر بسبب ما أصابه «مِنَ الْمَسِّ» الجنون يقال مس الرجل إذا كان به جنون، أي يبعثه مجنونا مخبلا مختلا، وهذه علامتهم في الموقف العظيم فيفضحون بين الناس كغيرهم من الزناة وشربة الخمر والمقامرين لأن ذلك اليوم يوم الفضيحة، أجارنا الله من ذلك، وقد مثلوا لحضرة الرسول ليلة الإسراء بكبر بطونهم كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري، لأن الربا ربا في قلوبهم والعياذ بالله فلا يستطيعون الإسراع يوم يحشر الناس سراعا كما بيناه أول سورة الإسراء في ج 1 «ذلِكَ» الذي يحل بهم يوم القيامة. «بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا» أي أنه حلال، لأنه مبادلة مال بمال كالبيع وقد قاسوه بمقياس إبليس الذي ذكرناه في الآية 12 من سورة الأعراف في ج 1 وهم من أتباعه لأنهم يسببون لهلاك الناس بإحراز أموالهم دون مقابل، وهو يسبب إهلاكهم بما يسول لهم «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا»
وليس الحلال كالحرام، وقد كذبوا بقياسهم هذا لأن الربا فيه زيادة نفس المال بمقابل(5/251)
تأخير الأجل فقط، والبيع ليس كذلك، لأن البدل فيه من غير جنس المبدل منه، ولأن الريح في قيمة المال البيع لا بنفس المال ولا من جنسه، فإذا باع ثوبا قيمته عشرة بأحد عشر، فقد جعل ذات الثوب بمقابل الأحد عشر، وجعل التراضي عليه، فلم تكن هذه الزيادة بغير عوض، وفي الربا يكون الزائد بغير عوض، لأنه يعطيه عشره ويأخذ منه أحد عشر مثلا، فتكون هذه الزيادة بمقابل الإمهال فقط، والإمهال لا يكون عوضا مقابلا لهذه الزيادة لأنه ليس مالا ولا شيئا من جنس المال المعطى. وأعلم أن ما حرم بالنقدين حرم بغير هما من مكيل وموزون من الأشياء الستة المبينة بالأحاديث الآتية، لأن العبرة بالفضل، فكل ما كان متفاضلا لا يجوز كما سنيينه بعد «فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى» وامتنع عما نهي عنه «فَلَهُ ما سَلَفَ» قبل النهي فلا يؤاخذ عليه البتة «وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ» فإنه يعفو عنه بامتثاله وامتناعه عن تعاطيه، فلا يطالبه بما تقدم عن زمن النهي «وَمَنْ عادَ» إلى فعل ما نهي عنه واستحل أخذ الزيادة عن رأس ماله وأمر على تعاطيه «فَأُولئِكَ» الذين تمادوا على الربا هم «أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (275) لا يخرجون منها أبدا وهكذا كل مستحل ما حرم الله عليه، لأنه يكون كافرا بالاستحلال، فيستحق الخلود كالكافرين بالله المشركين به. واعلم أن آية الربا هذه من آخر آيات القرآن نزولا إذ لم ينزل بعدها إلا آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية 4 من سورة المائدة الآتية، وآية (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) 284 الآتية. روى مسلم عن جابر قال:
لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال هم سواء.
وسبب تحريمه منع الناس من الاتجار بأموالهم بأنفسهم وبالواسطة، وانقطاع المعروف بين الناس، لأن المرائي لا تطيب نفسه أن يقرض أخاه دون فائدة تعود عليه، ويؤدي إلى حرمان الناس من أجر القرض الذي هو أفضل من الصدقة، ويسبب زيادة المال بلا تعب أو مشقة، ويأمن من خوف التلف والخطر في الأجل والسفر، فضلا عن هذه الأسباب فإن ما حرمه الله نصا وجب الانتهاء عنه اتباعا لأمر الله وامتثالا له توا دون الوقوف على سببه، لأن الله تعالى مالك الخلق، والمالك(5/252)
المطلق له أن يتعبد خلقه بما شاء، ويحكم فيهم بما يريد، وليس للمخلوق إلا الانقياد لأمره والخضوع لحضرته، وسواء كان له سبب أم لا، وسواء علمت الحكمة منه أو لم تعلم، لأن أفعال الله لا تعلل، ولأن العلة لا تدور مع المعلول، راجع الآية 92 من سورة يونس ج 2، لذلك فإن الحكم الشرعي التحريم البات، وعلى الإمام حبس المصر عليه حتى يتوب عن تعاطيه، وإذا لم ينته لقوته وجب على المسلمين محاربته كالبغاة، فإذا قدروا عليه وأصر على تعاطيه ضربوا عنقه بسبب استحلاله ما حرم الله، وهو في أشياء مخصوصة بينها رسول صلّى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبرّ بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال صلّى الله عليه وسلم الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فقد أربى. وروى مسلم عن عبادة بن الصامت قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد، فقد نص عليه السلام على هذه الأصناف الستة فقط، وعليه فإن ما عداها لا ربا فيه، فلو باع ثوبا بثوبين أو كتابا بكتابين، أو إناء بإناءين، فلا ربا ولا حرمة فيه. والقرض الذي فيه زيادة يعد من الربا المحرم لأن كل قرض جرّ نفعا فهو ربا، وكذلك لو أقرضه شيئا واشترط عليه أن يردّ له أحسن منه فهو ربا لوجود العلة وهي الفضل بلا مقابل، يدل على هذا ما روي عن مالك قال: بلغني أن رجلا أتى ابن عمر فقال إني أسلفت رجلا سلفا واشترطت عليه أفضل مما أسلفته، فقال عبد الله فذلك الربا- أخرجه مالك في الموطأ-.
فإن لم يشترط جاز، لما روي عن مجاهد أن ابن عمر استلف دراهم فقضى صاحبها خيرا منها، فأبى أن يأخذها لأنها خير من دراهمه، فقال ابن عمر قد علمت، ولكن نفي بذلك طيبة- أخرجه مالك في موطأه-. فمن استقرض مثلا ليرة حميدية ذهبا فأدى ليرة رشادية، جاز لأن وزنهما واحد وقيمتهما الأصلية واحدة،(5/253)
ولكن يشترط عدم الشرط من المقرض وطيب النفس من المستقرض. والربا نوعان:
ربا فضل أي زيادة وربا نسيئة أي تأخير بالأجل، فإذا باع جنسا من الأشياء الستة بجنسه نفسه اشترط فيه التماثل والمساواة إن كان موزونا أو مكيلا، واشترط التقايض بالمجلس، وإذا باع جنسا بآخر كالدراهم بالدنانير والحنطة بالشعير جاز فيه التفاضل، واشترط أن يكون يدا بيد بالمجلس فإذا زاد في الأول وأخر في الثاني وقع الربا كما هو صريح الأحاديث المارة والآتية. قال تعالى «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا» يذهب بركة مال المرابي ويعرض صاحبه للخسران والهلاك، وإن طال به الزمان فقل أن ينتقل لأحفاده، وكثر أن يكون الحق في زمنه وأولاده «وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ» ينميها ويبارك في المتصدق منه ويضاعف الأجر لصاحبه إذا كان حلالا، قال تعالى (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) الآية 92 من آل عمران الآتية، والتصدق بالحرام فضلا عن أنه لا ثواب فيه فقيل إن من يتصدق فيه طلبا للأجر يكفر لما فيه من معنى الاستحلال. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما تصدق أحد بصدقة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيده وإن كانت تمرة فتربوا في كنف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله. ثم ألمع جل شأنه إلى أن أكل الربا بعد هذا النهي لا يكون إلا من الانهماك في الإثم المؤدي إلى الكفر بقوله جل قوله «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) » مصر على كفره مستحل لأكل الربا وغيره من المحرمات متماديا في الإثم مستمرا عليه، وتشعر هذه الآية بأن من هذا شأنه يكون كثير الكفر عظيم الإثم يكرهه الله تعالى ومن كان كذلك فالنار أولى به. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» تقوية لإيمانهم وإشعارا بإخلاصهم «وَأَقامُوا الصَّلاةَ» المفروضة عليهم بشروطها وأركانها، وهذا هو معنى الإقامة «وَآتَوُا الزَّكاةَ» المفروضة عن طيب نفس لأهلها مع الكلام الطيب والإعطاء بالمعروف «لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» واف كامل مضاعف «وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» مما يخافه غيرهم من الذين لم يقوموا بذلك كله «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) » على ما فاتهم من حطام(5/254)
الدنيا وزخارفها، لأن الله تعالى عوضهم خيرا منها في الآخرة. وبعد ما أباح لهم ما أكلوه من الربا قبل نزول هذه الاية بين لهم حكم ما عقدوه منه قبل النهي ولم يستوفوه بعد، فقال عز قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا» على الذين أخذوا منكم مالا وهو ما فضل عن رءوس أموالكم فقط «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) » قولا وفعلا قلبا وقالبا فخذوا رءوس أموالكم واتركوا بقايا الربا حتى تقوا أنفسكم من عقابه، واعلم أن ذروا لا ماضي له، وكذلك ما تصرف منه مثل: تذر ويذر وتذررون إلخ وهما مكرران كثيرا في القرآن.
«فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا» ما أمرتم به ولم تتركوا ما نهيتم عنه «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» لأن إصراركم على ما حرم عليكم وعدم انتهاءكم عما نهيتم عنه إعلام بطلب المبارزة والمحاربة مع الله ورسوله وهو مما لا قبل لكم به، وهذا كناية عن التشديد في الزجر والكف عن الربا في الدنيا، وعدم أخذ الفضل المعقود عليه قبل النهي والمبالغة في الوعد والتهديد في الآخرة. قال أهل المعاني حرب الله النار وحرب رسوله السيف. وقد بينا آنفا وجوب محاربة المصرّ عليه على الإمام، «فَإِنْ تُبْتُمْ» ورجعتم فإن الله تعالى يقبل إنابتكم ويعفو عما سلف منكم، وإذا فعلتم هذا وطابت نفوسكم بترك الفضل مما عقدتموه قبل النهي ولم تستوفوه، أما بعده فالعقد باطل من أساسه حرام ملاحقته لا يجوز تقاضيه، وفي كلا الحالتين «فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ» ، الغريم بأخذ الزيادة منه عنها «وَلا تُظْلَمُونَ (279) » بنقص شيء من رأس المال، بل تأخذونه كما أعطيتموه كاملا. وهذا البحث بحث بحت واسع في الآية 131 من سورة آل عمران الآتية فراجعها. كان العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان يتعاطيان الربا، فقال لهما بعض مدينهما إن أخذتم حقكما كله مني لم يبق لدي ما يكفي عيالي، فخذ النصف وأضعف لكما النصف الثاني إذا أخرتماه، وذلك قبل النهي، ففعلا فلما حلّ الأجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، فقالا سمعا وطاعة، وأخذا رأس مالهما وهناك أقوال أخر في أن سبب نزولها في العباس وخالد بن الوليد أو في أربع اخوة من ثقيف كانوا يتعاطون الربا، ولا مانع من تعدد الأسباب، والمعنى واحد(5/255)
وان كلا منهم قال نتوب إلى الله، ولا قوة لنا على محاربة الله ورسوله، وصار كل من كان له دين مرابيا به يكلف دائنه بدفع رأسماله فقط قبل حلول الأجل، لأن الدين أصبح قرضا مستحقا، والقرض لا أجل له، إذ يحق للمقرض مطالبة المستقرض متى شاء، فشكا بعضهم الإعسار لأنهم كانوا يستدينون على المواسم ولم ينتهوا لإدائه قبل حلوله، فأنزل الله «وَإِنْ كانَ» المدين فاقد المال «ذُو عُسْرَةٍ» لا قدرة له على أداء ما عليه «فَنَظِرَةٌ» عليكم أيها الدائنون «إِلى مَيْسَرَةٍ» مدينكم بأن تمهلوهم إلى وقت وحالة يتمكنون من الأداء.
مطلب فائدة انظار المعسر وتحذير الموسر عن المماطلة بالأداء وأجر العافي عن الدين والتوبة عن الربا وآخر آية نزلت فيه:
وهذه الآية وإن كانت في حق الربا فيدخل في عمومها كل دين مستحق عجز عجز المدين عن أدائه لما فيه من الأجر العظيم، لأن هذه الآية جاءت مستأنفة بدليل قوله تعالى (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) إلخ إذ أثبت الفاعل ولم يضمره ليعود قطعا على المستدين ربا. وكان في الآية تامة بمعنى وجد إذ لو كانت خاصة بدين الربا لقال وإن كان ذا عسرة إلخ ليعود ضمير الفاعل الذي هو اسم كان على المستدين بالربا، ولكانت ناقصة، روى مسلم عن أبي قتادة أنه طالب غريما له فتوارى عنه ثم وجده، فقال إني معسر، قال آلله قال آلله، قال فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من سره أن ينجيه الله من كروب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه. وروى مسلم عن أبي اليسر قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من أنظر معسرا أو وضع عنه أظلّه الله في ظله يوم لا ظلّ إلا ظله. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أخذ أموال النّاس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله، وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال مطل الغني ظلم. ورويا عنه أيضا أنه صلّى الله عليه وسلم قال كان فيمن قبلكم تاجر يداين الناس، فإن رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه. وأخرج أبو داود عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه به(5/256)
عبد بعد الكبائر التي نهى الله عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء. ورويا عن كعب بن مالك أنه تعاطى ابن أبي حدود دينا كان له في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى، فقال يا كعب قلت لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك، فقال كعب قد فعلت يا رسول الله، قال قم فاقضه. ورويا عن أبي هريرة أنه كان لرجل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم سنّ من الإبل، فجاءه يتقاضاه، فقال أعطوه، فطلبوا سنا فلم يجدوا إلا سنا فوقها فقال أعطوه، فقال أوفيتني وفاك الله، فقال صلّى الله عليه وسلم إن خيركم أحسنكم قضاء. وفي رواية أنه أغلظ لرسول الله حتى همّ به بعض أصحابه، فقال دعوه فإن لصاحب الحق مقالا. وأخرج النسائي عن محمد بن جحش قال كنا جلوسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرفع رأسه إلى السماء ثم وضع يده على جبهته، ثم قال سبحان الله ماذا نزل من التشديد، فسكنا وفزعنا، فاما كان من الغد سألته يا رسول الله ما هذا التشديد الذي نزل؟ فقال والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحي وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه. ثم طفق جل جلاله يحتهم على ما هو خير لمن هو مستغن عن دينه بقوله «وَأَنْ تَصَدَّقُوا» بالفضل ورأس المال على المعسر «فهو خَيْرٌ لَكُمْ» عند الله من استيفائه من المعسر «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) » ما أعد الله تعالى في الآخرة من الخير الجزيل لمن يفعل هذا فصلا عما يناله من الثناء الجميل في الدنيا من الناس والدعاء الكثير من المتصدق عليه. واعلم أن آيات الربا هذه تثبت أن المرابين محكوم عليهم بالجنون مهما كانوا عليه من العقل لأنهم استحلوا ما حرم الله ولم يمتثلوا أمره بالكف عنه، ولأنهم آثروا البطالة على العمل واستعملوا ما أنعم الله به عليهم من المال لغير ما خلق له من طرق التجارة، وتومئ إلى أن الربا يوجب التقاطع والعداء بين الناس ويحملهم على التخاصم، ويولد القسوة في القلوب، وينزع منها الشفقة والرأفة، ويلقي بذور الحقد والحسد في نفوس الفقراء لما يروا من شدة الحرص والشح من الأغنياء، ويؤدي إلى ارتكاب الجرائم المخلة بالأمن، وقد يؤدي أيضا إلى الانتحار المنهي عنه في أصعب المواقف، وينذر بمحو(5/257)
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
ثروة المرابين وحرمانهم لذة الكسب الحلال ونزع صفات الحمد والشكر منهم، وإنزال نعوت الذم والقدح فيهم. هذا ويشترط للتوبة
عن الربا أربعة شروط: الإقلاع فورا، والندم على ما سلف، والعزم على عدم العودة إليه، ورد الفضل لأهله إذا كان بعد نزول النهي وبعد بلوغ الدعوة النبوية، فمن كان منه ذلك ونوى رد فضل الربا لأهله ثم عجز عنه أو تعذر عليه معرفة من أخذ منهم أو ورثتهم فالله تعالى أكرم بأن يعفو عنه ويرضي خصومه، أما الكافر إذا أسلم وكان يتعاطى الربا فلا يطالب بالردّ، لأن الإسلام يجبّ ما قبله، كما لا يطالب بالزكاة على ما قبل الإسلام، هذا هو الحكم الشرعي فيه. وإذا كان للمسلم حديثا ربا على الكفرة وكانوا محاربين جاز له استيفاؤه منهم، كما يجوز لغيره أخذ ما لهم بالربا والقمار والبيوع الفاسدة وشبهها. واعلم أن الله تعالى ذكر في القرآن العظيم الربا في أربعة مواضع مرة في مكة وهو قوله تعالى (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً إلخ 79 من سورة الروم، وثلاث مرات في المدينة في هذه الآيات المارات، وفي الآية 130 من آل عمران، وسنأتي على تمام البحث فيها إن شاء الله، والخمر كذلك نزلت فيه أربع آيات مرة في مكة وثلاث في المدينة، راجع الآية 217.
قال تعالى «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ 281» لأن العمل فيه جار على قانون العدل الحقيقي، وهذه الآية الجليلة نزلت بعد آية المائدة 4 التي نزلت في مكة يوم النحر في حجة الوداع، وهي آخر آية نزلت في القرآن ووضعت في هذه السورة بمكانها هذا بإشارة من النبي صلّى الله عليه وسلم وإخبار من الأمين جبريل عليه السلام وعاش بعدها رسول الله واحدا وعشرين يوما، وما جاء من أن آخر آية نزلت هي آية الربا فيه تسامح، إذ المراد بها أنها من آخر ما نزل من العقود ويراد بهذه آخر ما نزل من آيات القرآن، أما آخر ما نزل من السور فهو سورة النصر متفق عليه. ولهذا البحث صلة في الآية 3 من سورة المائدة الآتية فراجعه، وعليه يكون انقطاع الوحي في 11 صفر سنة 11 من الهجرة، ومنهم من قال عاش بعدها تسع ليال، فيكون ختم الوحي 23 صفر سنة 11، ومنهم من قال سبع ليال، فيكون آخر الوحي في 25 صفر(5/258)
سنة 11، ومنهم من قال ثلاث ساعات، وسنوفي هذا البحث في الآية المذكورة آنفا من سورة المائدة إن شاء الله تعالى.
مطلب في الكتابة والشهادة على الدين وتحذير الكاتب والشاهد من الإضرار بأحد المتعاقدين وحجر القاصر ومن هو بحكمه:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ» بيعا كان أو قرضا أو سلفا وغيره، وهذا الأمر للندب، لأن الله تعالى يقول بعد (الَّذِي اؤْتُمِنَ) وهذا الشرط صرفه عن الوجوب «وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ» ، من غير زيادة ولا نقص ولا تقديم ولا تأخير، وفي هذا حفظ لحق الطرفين، فيأمن المدين من طلب زيادة أو تقديم في الأجل، ويأمن الدائن من جحود الدين وتذرعه بزيادة المبلغ وظن الدائن بنقصه، ومن نسيان شهادة الشهود «وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ» وتفضل به عليه في معرفة الكتابة وليكتب كما شرعه الله وأمره به من عدم الزيادة والنقص، وهذا الأمر للندب أيضا والصارف له عن الوجوب قوله تعالى (وَلا يُضَارَّ) إلخ، لأن الوجوب لا يقيد ولا يخصص ولا يعلق على شرط، ومتى وجد في الأمر أحد هذه انصرف من الوجوب إلى الندب، وهذه الآية على حد قوله تعالى (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) الآية 18 من سورة القصص في ج 1، لأن من خصه الله تعالى بفضيلة علم أو مال أو جاه ينبغي أن ينفع بها عباده كما نفعه بها. وبعد أن نهاه الله عن الإباء أمره بقوله «فَلْيَكْتُبْ» هذا الكاتب الذي اختاره الطرفان وائتمنا به ما يصلح أن يكون حجة عند الحاجة، ويراعى حالة الطرفين ولا يخص أحدهما بالاحتياط ويهمل الآخر، بل يحافظ على حقهما معا، وعلى هذا الكاتب أن يجتنب الألفاظ التي لها معان تنصرف لضرر أحدهما والكلمات التي هي من الأضداد لئلا يقع النزاع من أجلها، لأن القصد من الكتابة رفع ما يتوقع من النزاع ودفع ما يتوهم من الخلاف وتأمين حق الطرفين، فكل كلمة يتوقع منها حصول شقاق بسبب تعدد معانيها يجب عليه اجتنابها.
وينبغي لمن يتصدى لهذه الكتابة أن يكون عالما باللغة التي يكتب بها عربية(5/259)
أو غيرها، وبالفقه وأصول المدانيات، والبيوع والسلم وغيرها، ليدمج الشروط المقتضية لكل منها فيما بكتبه «وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ» أي المدين، لأن الكتاب يلزمه وحده، فهو الذي يعترف فيه ويبين قدره ونوعه وجنسه وصفته وأجله، ورب الدين يسمع ذلك، فإذا اختلفا فعليه أن يتوقف عن تدوينه حتى يتم الوفاق بينهما عليه، وأن لا يكتب شيئا لم يتفقا عليه صراحة لا ضمنا وتلويحا ولا تعريضا ولا سكوتا، وأن يكون عن رضى منهما واختيار وإيجاب وقبول لا غضبا ولا إكراها ولا تلعثما «وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ» في كل ما يكتبه، وقد جمع جل شأنه بين اسمه ووصفه الجليلين في هذه الجملة مبالغة في الحث على التقوى.
وضمير الفاعل يعود إلى المملي أي يحذّره ربه من أن يزيد أو ينقص شيئا مما أراده الطرفان، وأكد هذا الأمر بقوله «وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً» أي من ذلك الحق الذي اتفق عليه الطرفان، بأن يكتبه حرفيا وانتهي عن البعض يشمل الكل «فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً» مبذرا لماله أو مجنونا أو معتوها أو جاهلا بالإملاء «أَوْ ضَعِيفاً» طفلا صغيرا أو شيخا هرما «أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ» بنفسه لمرض أو عمى أو كان محبوسا لا يمكنه الحضور أو غائبا يتعذر عليه المجيء أو لا يعرف ماله وما عليه، فهؤلاء كلهم لا يصح إقرارهم، ولذلك قال تعالى «فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ» الأمين عليه والمحافظ لماله أو وكيله أو وصيه المختار أو المنصوب من قبل القاضي أو المترجم إذا كان يحسن اللغة أو أخرس إملاء ملابسا «بِالْعَدْلِ» الواجب إجراؤه، أي الحق بين صاحب الحق والمولى عليه، فلا يزيد ولا ينقص، وعلى المترجم عن الذي لا يعرف اللغة وعن الأخرس أن يوقعا معهما «وَاسْتَشْهِدُوا» أيها المتعاقدان على عقودكم كلها «شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ» أيها المؤمنون لا من غيركم، وقد يجوز أيضا استشهاد الغير في بعض الحالات كما سيأتي في الآية 106 من سورة المائدة الآتية «فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ» وتأمنون بهم على حقكم وتطمئنون بهما، والسبب في عدم كفاية المرأة الواحدة نقصان عقلها ودينها وكثرة نسيانها المنبئ عنه قوله تعالى «أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما»(5/260)
الشهادة وتنساها «فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى» التي لم تنس بسبب التداول بينهما والمذاكرة فيها حتى يؤدياها معا لا على الانفراد ولا متعاقبتين «وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا» لتحمل الشهادة أو لأدائها عند الحاكم وهي واجبة على النصاب إذا لم يكن لإثبات الحق نصاب غيره «وَلا تَسْئَمُوا» أيها المتعاقدون من «أَنْ تَكْتُبُوهُ» أي الدين قليلا «صَغِيراً» كان «أَوْ كَبِيراً» كثيرا «إِلى أَجَلِهِ» أي لا تملّوا أو تضجروا من كتابته مهما كان فإنه يعود عليكم بالنفع، قال زهير:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبالك يسأم
أي يمل «ذلِكُمْ» إثبات الدين بالكتابة والشهود «أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ» أعدل واثبت وأعون «لِلشَّهادَةِ» لأن الشاهد إذا رأى خطه تذكر الحادثة وشهد بالحق عن يقين بلا تردد «وَأَدْنى» أقرب إلى «أَلَّا تَرْتابُوا» تشكوا بمقدار الدين والأجل وكيفية الشهادة بهما، وهذا واجب عليكم أو مندوب في كل العقود «إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ» ولم يعين لعقدها أجل وهي بين أيديكم جميعا وتحت تصرفكم أيها المتعاقدون «فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ» إثم ولا حرج من أن «أَلَّا تَكْتُبُوها» بعد التجاحد في مثل هذه الحالة، لأن كلا منهم واضع يده عليها، وظاهر الحال يدل على كونها لهما معا، ولتمكن كل منهما من أخذ حقه منها أي وقت شاء. وعود الضمير إلى المداينات المذكورة سابقا المعبر عنها بالعقود كما جرينا عليه أولى من عودها إلى التجارة، وعليه يكون الاستثناء متصلا، وكذلك يكون متصلا إذا أعدت الضمير إلى الاستشهاد أي أشهدوا في كل المداينات والعقود إلا في عقد التجارة التي تتعاطونها معا.
وقال بعض المفسرين يعود الضمير إلى التجارة وجعل الاستثناء منقطعا وفيه عود الضمير إلى ما هو متأخر لفظا ورتبة وهو جائز في فصيح الكلام، ولكن الأول أولى.
واعلم أن من كان عنده شهادة لأحد وقد مات رب الدين والورثة لا تعلم ذلك فيترتب عليه إعلام الورثة بذلك دون دعوة من الحاكم أو من أحد منهم لإظهار الحق، وما جاء في الآية من لزوم دعوة الشهود لأداء الشهادة في غير هذه القضية(5/261)
وما شاكلها من معلومية الشهود عند المدعي، لأن الشاهد ترد شهادته إذا تبرح لأدائها دون تكليف، ولهذا فإن/ ما/ في قوله تعالى (إِذا ما دُعُوا لا تعالى زائدة لما فيها من ثم النفي لمثل هذه الحالة، راجع الآية 124 من سورة براء الآتية في بحث ما هذه. وكذلك من يتسرع بحلف اليمين قبل أن يكلف الحلف فلا عبرة بحلفه لمظنة التهمة في هاتين القضيتين وما شابههما، تدبر قوله تعالى «وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ» أيها الناس لتكون عقودكم صحيحة ظاهرا وباطنا فيما بينكم أنفسكم وفيما بينكم وبين الله سواء كان البيع ناجزا أو معلقا أو لأجل خوفا من وقوة التجاحد والاختلاف في البيع والثمن والشرط والأجل أو في الكل «وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ» بأن يقسر على الكتابة وهو لا يضار أيضا بإملائه بأن يزيد أو ينقص ويضع بعض كلمات متضادة أو لها معان قد تضر بأحدهما «وَلا شَهِيدٌ» يجبر على الشهادة أو يمتنع بعد تحملها عن أدائها أو يزيد أو ينقص فيها، هذا وجد غيرهما إذ الوجوب كفائيا، والأمر على الندب أو الاحتمال كون الكاتب والشاهد مشغولين بما يهمهما، وأن تكليف الكتابة أو الشهادة يضرّ بهما فيصار لغيرهم أما إذا لم يوجد غيرهما فيجب حينئذ عليهما وجوبا عينيا بأن يكتب الكاتب ويشهد الشاهد لما في الامتناع من الضرر بغيرهما، لأن وجوب العين يتأكد ويلزم الرحمن بعينه، والكفائي إذا أقام البعض به سقط عن الآخرين كغسل الميت وتكفينه وو حمله والصلاة عليه. ثم أكد النهي عن الإضرار الذي هو خروج عن الطاعة اللاحق أثره بهم غالبا بقوله «وَإِنْ تَفْعَلُوا» ما نهيتم عنه أو تمتنعوا عما أمرتم به «فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ» وخروج عن الطاعة التي ينتج عنها وقوع الشحناء بينكم ثم هذا التأكيد بقوله عن قوله «وَاتَّقُوا اللَّهَ» فيما نهيتم عنه وأمرتم به وفي محق حقوق بعضكم كحقكم، فإن التقوى بهذا كغيره أزكى لكم وأطهر لقلوب «وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ» إذا اتقيتموه أشياء كثيرة من أمور دينكم ودنياكم مما هو لكم فيها وعند ربكم «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) » لا تخفى عليه أموركم هذه الجملة تهديد ووعيد لمن يجحد شيئا من العقود أو يخالف فيها وللشهود أيضا لا يكتموا شيئا من الشهادة وتشير إلى أن تقوى الله تورث العلم بما لا يعلم،(5/262)
أطول آية في القرآن العظيم وأقصر آية فيه آية (ثُمَّ نَظَرَ) 22 من سورة المدثر في ج 1. واعلم أن الأمر بالكتابة عند وجود الكاتب في حالة الحضر ولهذا يقول تعالى «وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ» بعيدا أو قريبا «وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً» أو آلة الكتابة أو ما يكتب عليه ويكتب به وأردتم أن تتعاقدوا أو تتداينوا «فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ» لنثقوا على أموالكم وليس الغرض جواز الرهن في السفر، وإنما الفرض التوثق من الدين في حالة عدم وجود الكاتب والشهود، وإلا فالرهن جائز سفرا وحضرا، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي على طعام أخذه منه لأجل، وإنما أشار الله إليه مبالغة في تحفظ الناس على أموالها من أن يأخذها من لا يؤديها فتسبّب الأحقاد والأضغان بينهم، لأن المال عديل الروح وكثيرا ما يقتل الرجل عند ماله أو من أجله، وقد أباح الشارع الدفاع عنه فقال قاتل دون مالك. ولأجل شدة المحافظة على المال التي يتأتى من عدم إيفائه الشحناء ولهذا قال تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) الآية 5 من سورة النساء الآتية، وقال صلّى الله عليه وسلم احترسوا على أموالكم بسوء الظن أي لا تؤتوها من يغلب على ظنكم عدم الوفاء بل توثقوا من حسن معاملة من تدينونه بالتحقيق عن أحواله من كل الجهات «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» لحسن ظن فيه أو تجربة أو كان قريبا أو صديقا متوغل الصداقة معكم ولم تجدوا كاتبا ولا شهودا وليس عنده رهن وأعطيتموه مالكم ثقة منكم به، فإن الله تعالى يأمره بقوله «فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ» أي دينه وإنّما سمي أمانة لأنه صاحبه وقد أمن من جحوده فأعطاه إياه بلا سند ولا شهود
ولا رهن، فصار كأنه أمانة، والأمانة لا يجب عليها الإشهاد ولا الكتابة ولا الرهن، لأن الأمين مصدق بردّها له في قوله. وتومئ هذه الآية إلى حث المدين أن يكون عند حسن ظن دائنه فيه، وحمله على أدائه عند حلول أجله دون مطل أو تعلل. ثم أكد الله تعالى على المدين لزومه التأدية بقوله «وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ» بعدم الجحود وأن يفيه له بالحسنى مقابلة لفعله معه بقضاء حاجته في حالة يمكنه الامتناع فيها عن أن يدينه بحجة عدم وجود كاتب أو شهود أو رهن.
وبعد أن ندبه وحذره من المطل والتسويف ولزوم أداء الأمانة عند طلبها امتثالا(5/263)
لأمره خاطب الشهود بقوله عز قوله «وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ» إذا دعيتم إليها لأنها أمانة فى أعناقكم وفي كتمانها إبطال الحق وضياع المعروف، ولهذا بالغ في الوعيد والتهديد على كتمانها فقال «وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» مخطئ فاجر، وأضاف الإثم إلى القلب لأن كل أمر أول ما يحدث يحدث في القلب ثم ينطق به اللسان أو تنفذه الجوارح إلا من عصم الله، لأن القلب رئيس الأعضاء إذا صلح صلح الجسد كله وإذا فسد فسد الجسد كله- كما في الحديث الذي رواه النعمان بن بشير عن البخاري- ولذلك فإن إثمه أعظم الآثام، قال ابن عباس أكبر الكبائر الإشراك بالله وشهادة الزور وكتمان الشهادة. وقال لما حرم الله الربا أباح السلف وقال أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى (أياما أو شهورا أو سنين) قد أحله الله تعالى في كتابه وأدن فيه، وهذا سبب نزول هذه الآية، وله شروط معلومة في كتب الفقه يجب التقيد بها لصحة عقده ولئلا يدخله الربا. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون من التمر العام والعامين، فقال لهم من أسلف في تمر ففي كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) » لا يعزب عنه شيء من أعمالكم. وتومئ هذه الآية إلى تحذير من يكتم الشهادة ولم يؤد ما ائتمن عليه، وان المراد بإثم القلب مسخه والعياذ بالله، ومن هنا قيل: ما أوعد الله على شيء كإبعاده على كتم الشهادة، فانظر رحمك الله ما أعجب نظم هذه الآيات في تنظيم الإدارة الإنسانية، لأن عدم المضارة المذكورة من الطرفين والكاتب والشهود جزء من أجزاء الإدارة اللازمة للبشر، ومع هذا فإن الله جل جلاله قد بالغ في التأكيد على القيام بها بالعدل والتشديد على من يخرم شيئا منها، وقد كرر لفظ التقوى فيها لأنها تقي الإنسان من الوقوع فيما لا يرضي الله، لأنه قد يفرط في أمور يظنها من التقوى وليست منها، وقد يتسامح في أمور يظنها من التقوى وليست منها أيضا، بل قد تؤدي لما يحذر منه كمن يعطي ماله لسفيه أو يدين غيره بلا سند ولا شهود مع القدرة عليها، إذ ليس من الدين تفريط المرء في حفظ ماله إذ يعرضه لضياعه ومن ترك أمرا من أمور الدين أحوجه الله إليه، ولهذا أوجب الشارع الحجر(5/264)
على الإنسان في الأحوال المارة الذكر في الآية السابقة، لأن الدين يأمر باتخاذ الوسائل لصيانة المال كما يأمره باتخاذها لصيانة النفس، ولهذا وضع الله تعالى أسسا للتعامل لانتظام معاملة الناس فالتوثق بها خير ضمان لمصلحة العامة. والحكم الشرعي في المداينات ما ذكرناه في تضاعيف تفسير الآيتين المارتين، ويفهم منها أن تصرف السفيه والمجنون وغير كامل التمييز غير مقبول شرعا، وأن إقرار الولي والوصي والقيم يعتبر عمن هو تحت الولاية والوصاية، لأنه محجور شرعا عن التصرف بماله ولا تعتبر عقوده، لأنه بحكم القاصر، ويعلم قوله تعالى (مِنْ رِجالِكُمْ) اشتراط كون الشاهد في الحقوق مسلما على مثله والكافر على مثله، بخلاف الجنايات فإنها تقبل فيها شهادة غير المسلم على المسلم، وقد رجم صلّى الله عليه وسلم يهوديا بشهادة يهود عليه في الزنى، وأن يكون العاقد حرا لأن العبد لا يملك عقود المداينات، وترمي إلى أن لا يكتفى بشاهد واحد، أما ما جاء بالاكتفاء بشاهد ويمين فهو مما لم يذكره الله تعالى في كتابه، ولهذا قال (وَامْرَأَتانِ) أي في حال عدم وجود رجلين، وقال بالائتمان عند عدم وجود الشاهد والكاتب والرهن، وان قضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي يثبت عند الشافعي رحمه الله ومالك وأحمد بشاهد ويمين، فهو من خصوصياته إذا تحقق ثبوته. قال تعالى «لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا في تضاعيف ملكه بجميع الكائنات، وإذا علمتم ذلك فإن قوله جل قوله «وَإِنْ تُبْدُوا» أيها الملوان الذين فيهما «ما فِي أَنْفُسِكُمْ» فتظهروه ليطلع عليه بعضكم فيمدحوكم على الخير أو يذموكم على الشر علنا أو جهرا «أَوْ تُخْفُوهُ» لئلا يطلع عليه أحد، فهو معلوم ومدون عنده في لوحه قبل خلقكم، ولذلك فإنكم يوم تحشرون إليه «يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ» أظهر
الاسم الكريم مع تقدم ذكره لإدخال الروعة والمهابة في قلوب عباده، أي أنه يحاسبكم عليه خيرا كان أو شرا، وقد عنون عن العمل بقوله (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) لأن العمل مسبوق بالعزم وهو من النفس.(5/265)
مطلب المحاسبة غير المعاقبة ومعنى الخطأ والنسيان والهمّ والطاقة والإصر وغيرهما:
ومن رحمته بكم لم يقل يعاقبكم أو يؤاخذكم، لأن المحاسبة عبارة عن المعاتبة وتعريف الشخص بأن الله تعالى مطلع على سره وخواطر نفسه وضمائر قلبه، فضلا عما يفعله جهارا ويقوله علنا، وبعد أن يطلع عبده على ذلك يغفره له بمقتضى فضله كما يعذب عبده على ما يبديه إن شاء يحكم عدله. يدل على هذا ما رواه صفوان ابن محرز المازني قال: بينما عمر يطوف إذ عرض له رجل، فقال يا أبا عبد الرحمن أخبرني ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم في النجوى، قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول أعرف ربي أعرف مرتين، فيقول الله سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم تطوى صحيفة حسابه، وأما الآخرون، وهم الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين- أخرجاه في الصحيحين-. وان حديث اهمّ المقدم ذكره في الآية 84 من سورة القصص في ج 1 يؤيد هذا لأن إخفاء ما في النفس عبارة عما يحدث في القلب. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت نفسها ما لم يعملوا به أو يتكلموا.
ولا وجه لقول من قال إن هذه الآية منسوخة، لأنها خبر من الأخبار لا يدخلها النسخ كما بيناه في بحث النسخ في المقدمة وعند كل بادرة، وحجة من قال بنسخها هو ما رواه أبو هريرة من أن هذه الآية لما نزلت على رسول اشتد ذلك على أصحابه وقالوا كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والصدقة، وقد أنزلت هذه الآية ولا نطيقها، فقال أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا، بل قولوا سمعنا وأطعنا، فأنزل الله في أثرها «فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) »
كامل القدرة بالغ المغفرة يغفر للمؤمنين بفضله ويعذب الكافرين بعدله. قال تعالى «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ» آمنوا بما آمن به رسولهم «كُلٌّ منهم «آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ» نحن معاشر(5/266)
المؤمنين «بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» كما فعل من قبلنا إذ آمنوا ببعض وكفروا ببعض كما أشرنا إليه في الآية 85 المارة، بل نؤمن بجميع الأنبياء والرسل وما أنزل الله عليهم من صحف وكتب وما ذكروه لنا عن ربهم وآمنوا به إيمانا خالصا «وَقالُوا» هؤلاء المؤمنون «سَمِعْنا» قول ربنا «وَأَطَعْنا» أمره نطلب «غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ» نعلم بأنه «إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) » في الآخرة فأحسن مآبنا إليك، ثم أنزل بعدها «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» قدرتها وطاقتها، فخرج هنا حديث النفس والوسوسة، لأنهما خارجان عن الوسع فهما خارجان عن التكليف، لأن دفعها فوق الطاقة، وفي المؤاخذة عليها حرج، وقد قال تعالى (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الآية 77 من سورة الحج الآتية، والله أكرم من أن يتعبدنا بما لا نطيق، وأجلّ من أن يضيق علينا في الدين، وهذا لا يكون حجة في دعوى النسخ لما ذكرنا، ولأن الله لم يرتب عليه عقابا ليخففه في هذه الآية، وعلى فرض صحة حديث أبي هريرة فإن الأصحاب الذين راجعوا حضرة الرسول هم من عوام الصحابة أمثاله، ولهذا خاطبهم صلّى الله عليه وسلم بقوله (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين) أي الآية 93 المارة، ولأنهم ظنوا أن الله يعاقبهم على ما يخطر بقلوبهم، ولذلك قالوا «لَها» أي لكل نفس ثواب «ما كَسَبَتْ» من أعمال الخير «وَعَلَيْها» وزر «مَا اكْتَسَبَتْ» من أفعال الشر، ثم علّم الله تعالى عباده كيف يدعونه بقوله قولوا «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» أمرا من أمورك أو نهيا من نواهيك، لأنا لا تخلو من أحدهما فاغفر لنا تقصيرنا في هاتين الحالتين أيضا زيادة عما تحدثه نفوسنا، فإنك واسع المغفرة بالغ الرحمة. هذا وقد قال العلماء إن التصور إذا وصل حد التصميم والعزم يؤاخذ عليه الإنسان لقوله تعالى (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) الآية 255 المارة لأن هذا من الكيفيّات النفسانية التي تلحق بالملكات بخلاف سائر ما يحدث بالنفس وعليه قوله:
مراتب القصد خمس هاجس ذكروا ... فخاطر فحديث النفس فاستمعا
يليه هم فعزم كلها رفعت ... سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا(5/267)
واعلم أن هؤلاء لو كانوا من خواص الصحابة لما خطر لهم ذلك ولعرفوا المغزى من قوله تعالى (يُحاسِبْكُمْ) ولم يثقل عليهم ذلك هذا وليعلم أن النسيان ضد التذكر والخطأ ضد العمد ولما كان التحرز عنهما ممكنا وأنهما إنما ينشآن من التفريط وقلة المبالات ونحوهما مما يدخل تحت التكليف جازت المؤاخذة عليهما ولولا هذا لما كان لسؤال عدم المؤاخذة عنهما معنى إلا أنه تعالى خفف عن هذه الأمة فرفع عنها المؤاخذة بهما بما ألهمهما من هذا الدعاء، وقد صح عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. ولفظ رفع يشير إلى ذلك، ويفهم من هذه الآية والحديث أن الأمم السالفة كانت تؤاخذ بهما وأن عدم المؤاخذة بهما من خصائص هذه الأمة، يدل على هذا ما قيل إن بني إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به أو أخطأوا فيما نهوا عنه عجلت لهم العقوبة فيخرم الله عليهم بها شيئا مما كان حلالا لهم من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب، فأمر الله المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم على شيء من ذلك، قال تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) الآية 185 المارة، وعلى هذا فإن ما يصدر من التفريط وقلة المبالاة وسبق اللسان يدخل تحت العسر ويوشك أن لا يؤاخذنا الله عليه برحمته «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا» فلم يقدروا على الوفاء به فعذبتهم عليه، والإصر هو العهد والميثاق الثقيلان الغليظان مثل قتل النفس لأجل قبول التوبة، وقطع العضو المخطئ وطرف الثوب للنجاسة وأداء ربع المال في الزكاة، والفضيحة بالذنب إذ يجدها المذنب مكتوبة على باب داره وغيرها من التكاليف الشاقة التي ابتلى الله بها اليهود لسوء أعمالهم، لأننا لا نستطيع تحملها لما ترى من ضعفنا «رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» من أمثال تلك الأشياء، «وَاعْفُ عَنَّا» ما سبق من كبائر ذنوبنا وامحها عنا بفضلك «وَاغْفِرْ لَنا» صغائرها وما وقع منا سهوا وخطأ ونسيانا وإكراها برأفتك، ولا تفضحنا بشيء فعلناه «وَارْحَمْنا» رحمة عامة شاملة تطهر قلوبنا بها من وساوس الشيطان وخطرات النفس وحديث القلب وما يحوك في الصدر، ونجنا من عقابك وعذابك وعتابك.
وهذه الثلاثة بمقابل الثلاثة قبلها، وفي معناها قيل:(5/268)
أنا مذنب أنا مسرف أنا عاصي ... هو راحم هو غافر هو عافي
قابلتهن ثلاثة بثلاثة ... وستغلبن أوصافه أوصافي
«أَنْتَ مَوْلانا» وناصرنا ومؤيدنا لا مولى لنا غيرك ولا عمدة لنا سواك «فَانْصُرْنا» بفضلك ولطفك وكرمك «عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) » أعدائك وأعدائنا المناوئين لرسولك الجاحدين كتابك. قال أبو هريرة قال ابن عباس في حديث طويل يرويه عنه مسلم في هذه الآية قال تعالى قد غفرت لكم ولا أؤاخذكم ولا أحمل عليكم ولا أحملكم إصرا، قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم.
واعلم أيها العبد أن الله تعالى لو لم يرد إجابة الدعاء ما علمه عباده، وفيه قيل:
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه ... من فيض جودك ما علمتني الطلبا
فاغتنم هذا وتبتل إلى ربك صباح مساء، واسأله فإنه جواد كريم، لأن هذه الآية تدل صراحة على جواز غفران الذنوب لأصحاب الكبائر من المؤمنين، فكن عظيم الثقة بالله دائم الاستعانة به، كثير الرجاء، فإنه عند ظن عبده. روى البخاري ومسلم عن بن مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه، أي من كل ما يحذر منه ومن كل هامة وشيطان، فلا يقربه تلك الليلة شيء وقيل إذا قرئ على المصروع أربع آيات من أول البقرة إلى المفلحون وثلاث من وسطها آية الكرسي والآيتان بعدها وثلاث من آخرها من (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) إلى آخر السورة برىء بإذن الله تعالى، وهو من المجرب إذا صحت النية والعقيدة وطهرت النفس، لأن لآيات الله تعالى في مثل هذه الأمراض تأثيرا شديدا، وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا في تفسير الآية 82 من سورة الإسراء ج 1.
وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلّى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة، وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوق فيقبض منها، قال (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) قال فراش من ذهب، قال فأعطي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثا، أعطي الصلوات الخمس، وخواتيم البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا المقتحمات أي الذنوب العظام التي تولج مرتكبها النار. وأصل الاقتحام الولوج. وروى مسلم(5/269)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
عن ابن عباس قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنده جبريل عليه السلام إذ سمع نقيضا من فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال هذا باب من السماء قد فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال هذا ملك نزل من السماء إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته. وقدمنا أول هذه السورة من الأحاديث ما يؤكد فضلها ويؤيد نفعها، فلا بدع إن شفى الله ببركتها المصروع وغيره، وقد ختم الله هذه السورة الجليلة بمعنى ما بدأه بها من صفات المؤمنين الفاضلة، وجل صنوف الأحكام والشرائع والمواعظ والحكم في تضاعيفها حسبما قضته حكمته البالغة من سنن وقواعد تربط الأسباب بالمسببات والمقدمات بالغايات، وبين فيها ما يجعل النفس البشر قادرة على التصرف في كثير من مخلوقاته لتستفيد من القوى التي وهبها لها ومما سخر لها من الحيوان والمعادن لتتمكن من أداء مهمتها في الأرض وإعمارها. هذا ويوجد سورة المؤمن المارة في ج 2 مختومة بما ختمت به هذه السورة فقط. والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة الأنفال عدد 2 و 98 و 8
نزلت بالمدينة بعد سورة البقرة عدا الآيات من 30 إلى 36 فإنها نزلت بمكة.
وهي خمس وسبعون آية، وألف وخمس وسبعون كلمة، وخمسة آلاف وثمانون حرفا.
لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به هذه السورة في القرآن العظيم، ويوجد سورتان مختومة بما ختمت به النساء والنور، ومثلها في عدد الآي سورة الزمر فقط.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى يا سيد الرسل إن قومك
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» هي غنائم الحرب «قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ» لا يحكم بتقسيمها أو تخصيصها أحد غيرهما «فَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها المؤمنون، ولا تختلفوا فيها أو تتخاصموا من أجلها، بل اتركوها لمن وهبها لكم وفوضوا الأمر فيها لله(5/270)
والرسول «وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ» واتركوا الشقاق وكونوا متآخين مجتمعين على كلمة الحق بينكم أنفسكم وبينكم وبين ربكم ولا تستبدوا بشيء أبدا حتى يقضى لكم فيه «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 1» بهما إيمانا صحيحا كاملا في القول والفعل والنية.
مطلب في الأنفال وكون الإيمان يزيد وينقص وقصة بدر ورؤيا عاتكة وتعهد الشيطان:
واعلم أن سبب نزول هذه الآية ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال:
قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه، فأعجبني، فجئت به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت إن الله قد شفى صدري من المشركين، فهب لي هذا السيف، فقال ليس هذا لي ولا لك، اطرحه في القبض (أي مجمع الغنائم المسماة بالأنفال جمع نفل) فطرحته وفي ما لا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد أنزلت سورة الأنفال، فقال يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وانه قد صار لي فاذهب فخذه- أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح- وأخرجه مسلم في حديث طويل قال: فأخذته وذهب ما كان يحوك في صدري، وعلمت أن حضرة الرسول لم يمنعه مني لأمر آخر، وإنما أراد قضاء الله في ذلك وغيره. ومن الطاعة أن لا يقول الرجل لولي أمره في شيء فعله لم فعلته، ولا في شيء لم يفعله لم لا تفعله أبدا. وليعلم بأنه أعم بما يفعل وبما لا يفعل، وما تؤول إليه العاقبة وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما كان يوم بدر قال النبي صلّى الله عليه وسلم من قتل قتيلا فله كذا وكذا، فأما الشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم، فقالت الشيخة للشبان أشركونا معكم فإنا كنا رداءا ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا، فاختصموا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنزلت.
واخرج أحمد وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في السنن وغيرهم عن أبي أمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، فساءت فيه أخلاقنا، فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول(5/271)
الله. وهذا أولى بأن يكون سببا للنزول، لأنه لو لم يكن اختلاف وتخاصم في النفل لما وقع السؤال عنه، ولما قال تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) إذ لا حاجة إلى التحذير والأمر بالصلح بعد الجواب. وقد جاءت روايات متعددة بشأن السيف المذكور على خلاف ما جاء في حديث سعد، ولذلك قالوا إنه أي الحديث الذي رواه سعد المار ذكره مضطرب، لأن البخاري أخرج في ناسخه عن سعيد بن جبير أن سعدا ورجلا من الأنصار خرجا يتنقلان، فوجدا سيفا ملقى، فخرا عليه جميعا، فقال سعد هو لي، وقال الأنصاري هو لي، لا أسلمه حتى آتي رسول الله، فأتياه فقصّا عليه القصة، فقال عليه الصلاة والسلام ليس لك يا سعد، ولا للأنصاري، ولكنه لي، فنزلت. وأخرج عبد ابن حميد وأبو الشيخ وابن مردويه وغيرهم عن سعد أنه قال أصاب رسول الله غنيمة فإذا فيها سيف فأخذته فأتيت رسول الله فقلت نفلني هذا السيف، فأنا من علمت، فقال ردّه من حيث أخذته، فرجعت به حتى أردت أن ألقيه في القبض لا متني نفسي، فرجعت إليه فقلت أعطنيه، فشد لي صوته وقال ردّه من حيث أخذته، فأنزل الله هذه الآية.
فالاختلاف في هذه الروايات ينفي الاعتماد على ذلك، وسياق الآية يوافق رواية ابن عباس والعمدة عليها لا على ما رواه سعد والحادثة وقعت بعد الرجوع من بدر ويؤكدها جمع الغنائم وجعلها في القبض ثم تقسيمها بمعرفة الرسول على المسلمين، ويدل عليها حديث عبادة بن الصامت المار ذكره. والنفل هو ما ينفله الغازي أي يعطاه زائدا على سهمه من المغنم، كان يقول الإمام تحريضا على البلاء في الحرب من قتل قتيلا فله سلبه، أو يقول لسرية ما أصبتم فهو لكم أو نصفه أو ربعه، وهذا لا يخمس، إذ يلزم الإمام الوفاء بوعده وهو مما يزيد في عزم المجاهد وحزمه وتقدمه لكل سرية، لأنه إذا علم أن ما يصيبه يكون له يزداد رغبة في لقاء الأعداء وهمة ونشاطا في خوض الحرب زيادة على رغبته في إعلاء كلمة الله وطاعة رسوله والشهادة في الآخرة. واعلم أن استباحة الغنائم من خصائص هذه الأمة، لأنها كانت حراما على من قبلها فتكون شريعة هذه الأمة ناسخة لشرائع من قبلها من الأنبياء ومخصصة لآية الخمس الآتية، وهي محكمة غير منسوخة بها كما قال عبد الرحمن(5/272)
ابن زيد قول لابن عباس، وعلى هذا فإن معناها أن الغنائم لله ورسوله يضعها حيث يشاء، وقد بين الله تعالى مصارف الغنائم في آية الخمس بدليل ما صح من حديث بن عمر: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سرية فغنمنا إبلا فأصاب كل واحد منا اثني عشر بعيرا وفضّلنا بعيرا. - أخرجاه في الصحيحين- وعليه فإن للإمام أن ينفل ما شاء بما يشاء ولمن شاء قبل التخميس، وإن حادثة بدر هذه أول حادثة وقعت بين حضرة الرسول نفسه وأصحابه وبين مشركي العرب من أهل مكة، وهي أول حرب شهدها حضرة الرسول. قال تعالى «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» خافت وضعفت هيبة لجلال ربهم واستعظاما لعزة سلطانه «وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً» ويقينا وطمأنينة تفيد هذه الآية أن الإيمان يزيد وينقص وهو ما اعتمدته قبلا وذكرت أن الخلاف فيه بين الأشاعرة والماتريدية لفظي، لأن الإيمان من حيث هو إيمان لا يزيد ولا ينقص، ومن حيث الأعمال فلا شك أنه يقبل الزيادة ويتعرض للنقصان، لأن ذا الأعمال الصالحة أكمل إيمانا من غيره، فإذا كان الإيمان تصديقا بالقلب وإقرارا باللسان واعتقادا بالجنان فمن هذه الحيثية لا يزيد ولا ينقص، وإذا كان مع ذلك عملا بالأركان وفعلا بالجوارح فإنه يزيد وينقص حتما، وإذا قبل الزيادة فإنه يقبل النقص، فلا وجه لقول من يقول إنه يقبل الزيادة فقط. ولهذا أجاز الشافعي للرجل أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وأوجب أبو حنيفة أن يقول: أنا مؤمن حقا وأن من وصل الاستثناء في هذه الجملة فهو مشرك في إيمانه، وقدمنا في الآية 5 من سورة البقرة المارة ما يتعلق في هذا البحث بصورة واضحة، وله صلة في الآية 125 من سورة التوبة الآتية فراجعها. ثم زاد في وصف أولئك المؤمنين فقال «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» (2) في أمورهم فلا يخشون ولا يرهبون غيره، ولا يعتمدون إلا عليه. هذا، ولما كان الخوف والرجاء والخضوع والخشية عند ذكر الله تعالى وزيادة الإيمان واليقين عند تلاوة القرآن والتوكل على الله والتفويض إليه عند العزم على الأعمال والأفعال، وهذه كلها من أعمال القلوب، وهي من كنوز البر التي عدها الإمام الشافعي رحمه الله في قوله:(5/273)
يا من تعزز بالدنيا وزينتها ... والدهر يأتي على المبنيّ والباني
ومن يكن عزّه الدنيا وزينتها ... فعزّه عن قليل زائل فاني
واعلم بأن كنوز الأرض من ذهب ... فاجعل كنوزك من برّ وإحسان
ثم أتبعها بما هو من أعمال الجوارح فقال جل قوله «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ» بأوقاتها مكملين شروطها وأركانها «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) » في وجوه البر والقربات «أُولئِكَ» الجامعون لهذه الصفات الخمس الحسيّة والمعنوية «هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا» وصدقا الكاملو الإيمان قولا فعلا «لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ» في جنته العالية على حسب كمال إيمانهم وصلاح أعمالهم «وَمَغْفِرَةٌ» لذنوبهم بأن يبقيها مستورة في الدنيا فيما بينه وبينهم ولا يفضحهم عليها بالآخرة كرما منه، ولا يؤاخذهم بها «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) » لهم في مقعد صدق لا يكدره كد الكسب وهم المعيشة، ولا يشوبه خوف الحساب، ولا يعتريه توهم الفقر، ولا يتطرق إليه مظنة النفاد، الملازمات لرزق الدنيا. وان ما ذكر هو للمؤمنين بالآخرة حق لا مرية فيه «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ» من المدينة إلى بدر إخراجا «بِالْحَقِّ» الوحي إليك من لدنه. وهذه الآية هي المشيرة إلى غزوة بدر التي وعد الله بها رسوله النصر، وهي مرتبطة بالآية الأولى من هذه السورة، وما بينهما من الآيات معترضات فهي من باب المقدم والمؤخر «وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» بك وبربك وكتابك من أصحابك «لَكارِهُونَ (5) » خروجهم معك لقتال أعدائك الكافرين بسبب قلة عددهم وعددهم، ولم يعلموا أن الذي أخرجك من بيتك ما أخرجك إلا ليجعل النصر حليفك والظفر قرينك «يُجادِلُونَكَ» كراهية القتال، لأنهم لم يتمرنوا عليه، ويتصورون بأنفسهم أنك لم تدرب على القتال أيضا، لأنهم لم يعهدوك قاتلت قبل، وإن جدالهم لك «فِي الْحَقِّ» الذي أمرناك به «بَعْدَ ما تَبَيَّنَ» لهم أنك لا تعمل شيئا من نفسك لا يليق بهم بعد ما رأوا من صدقك وعدم استدراك شيء من عندك، وتراهم وهم سائرون معك «كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) » الموت بأعينهم، شبه حالهم في فرط فزعهم بحال من يقدم للقتل وهو ينظر إلى دواعيه ويعلم أنه ميت، ولا أبلغ من هذا(5/274)
التشبيه أبدا «وَ» اذكر يا سيد الرسل لقومك نتيجة ما هم كارهون الذهاب إليه مقدما، ليطمئنوا ويسكن فزعهم، وقل لهم «إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ» في غزوتكم هذه التي أنتم كارهون الذهاب إليها «إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ» طائفة أبي سفيان مع العير أو طائفة أبي جهل مع النفير «أَنَّها لَكُمْ» وان الله يعلمه أيهما تختارون «وَتَوَدُّونَ» أيها المؤمنون المتقاعون عن الذهاب مع رسولكم «أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ» أي طائفة أبي سفيان والعير «تَكُونُ لَكُمْ» إذ لا سلاح فيها ولا قتال، لأنكم تجنحون إلى سفساف الأمور طلبا للفائدة العاجلة «وَيُرِيدُ اللَّهُ» لكم طائفة أبي جهل والنفير لتقاتلوهم وتكسروا شوكنهم، لأن الله يختار لكم معالي الأمور من النصر وعلو الكلمة ليعلي شأنكم «أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» التي سبقت بوعد النصر إلى رسوله والظفر بأعدائه «وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ» (7) ويهلكهم فلا يبقي لهم شأنا، ويريد أيضا «لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ» فيمحقه ويدحضه فيمحو الكفر ويظهر الإسلام ويثبته «وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) » ذلك وهو كائن لا محالة رغم أنوفهم. قال ابن عباس وغيره في سبب نزول هذه الآيات: إن أبا سفيان أقبل من الشام في أربعين راكبا من قريش ومعهم تجارة كبيرة، وقد أخبر الله بهم نبيه صلّى الله عليه وسلم، فانتدب لهم أصحابه، فخف بعضهم وثقل بعضهم لظنهم أنه لم يلق حربا بعد، ولم يعلموا أن الله تعالى علمه كل شيء، كما ظهر لهم بعد، فسمع أبو سفيان بمقدم الرسول وأصحابه، فأرسل قمقما بن غراز الغفاري ليستفز أهل مكة ويخبرهم الخبر، فرأت عاتكة بنت عبد المطلب رؤيا قصتها على أخيها العباس وهي أنها رأت راكبا وقف بالأبطح وصرخ بأعلى صوته ألا فانفروا يا غدر إلى مصارعكم في ثلاث، وان الناس اجتمعت اليه ودخلوا المسجد ثم صرخ ذلك الصارخ من أعلى الكعبة وعلى رأس أبي قبيس بما صرخ به أولا، وأرسل صخرة أرفضت بأسفل الجبل لم يبق بيت إلا دخله فلقة منها، فقال اكتمها انها لفضيلة، وذكرها للوليد بن عتبة، واستكتمه إياها فذكرها الوليد لأبيه وفشت في قريش، وكل سرّ جاوز الاثنين شاع، أي خرج من الشفتين، إذ في كتمانه بقاؤه في القلب، وقيل جاوز الرجلين وليس بشيء لأنه إذا جاوز(5/275)
صاحبه فشا فكيف بغيره، راجع الآية 7 من سورة الروم ج 2، قالوا ثم بينما العباس يطوف بالبيت استدعاه أبو جهل بن
هشام فقال له يا بني عبد المطلب ما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم، سنتربص هذه الثلاث التي ذكرت عاتكة في رؤياها، فإن كانت حقا فيكون، وإلا سنكتب كتابا بأنكم أكذب أهل بيت في العرب، ولما لم يرد عليه العباس جاءه نساء بن المطلب وقلن له أقررت لهذا الخبيث أن يقع في رجالكم حتى تناول النساء، ولم يكن عندك غيره، فذهب في اليوم الثالث وأقسم ليتعرضنّه، ودخل المسجد وأراد أن يمر عليه، فإذا هو يسمع صوت قمقم يصيح يا معشر قريش اللطيمة تعرض محمد لأموالكم، ولا أرى أنكم تدر كونها الغوث الغوث، وقد جدع بعيره وحول رحله وشق قميصه، وهذه من شأن المستغيث المستهلك علامة عندهم على صدق أخباره، قال فشغل عني وتجهز أشراف قريش إلا أبا لهب أرسل عنه العاص بن هشام بن المغيرة، وقد اجتمعت للسير، ثم ذكرت بعضها ما بينها وبين بني بكر بن عبد مناف بن كنانة من الحروب، وخافت أن تخلفهم على أموالهم ونسائهم، فتصوّر لهم الشيطان بصورة سراقة بن مالك بن خشعم من أشراف بني بكر، وقال لهم إني جار لكم من كنانة كما سيقصه الله بعد في الآية 47 من هذه السورة، وخرجوا مسرعين، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأصحابه لليال مضت من رمضان، وأتاه الخبر بمسير قريش، فأرسل العيون ثم نزل عليه جبريل في هذه الآية وما بعدها، فاستشار أصحابه إلى أيهما يمضي أللعير أم للنفير، فقال أبو بكر وعمرو المقداد، امض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، ولا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى، فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغمار (مدينة بالحبشة) لجادلنا معك من دونه حتى نبلغه. فدعا لهم بخير، ثم قال أشيروا علي أيها الناس، فقال سعد بن معاذ كأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال أجل (وذلك أنه لم ير على الأنصار وجوب نصرته خارج بلادهم ولم يعاهدهم أو يعاهدونه على ذلك، فأحب أن يختبرهم، لأن مبايعته لهم كانت مختصرة على ما يقع عليه في ديارهم) ، قال امض لما أمرت به يا رسول الله فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما يتخلف منا أحد، وإنا(5/276)