إسحق كما ستقف عليه بعد قليل «وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ» ابنه الثاني من السيدة سارة بنت عمه والأول إسماعيل من الجارية هاجر «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما» ذرية إبراهيم وإسحق قالوا أخرج من صلبهما الف نبي أولهم يعقوب وآخرهم عيسى عليهم السلام «مُحْسِنٌ» لنفسه ولغيره أنبياء وأولياء «وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ 113» بين ظلمه بتعديه حدود الله أي أن من ذريتهما كفرة ظلمة عصاة أيضا، ومن هنا يعلم أنه لا يلزم من فضل الأب فضل الابن وبالعكس، فقد يكون الأب نبيا والولد كافرا كنوح عليه السلام وابنه كنعان، وإبراهيم عليه السلام وأبيه آزر.
وفيها تنبيه على أن الخبث والطيب لا يجري أمرهما على العرف والعنصر، فقد يلد البر الفاجر والفاجر البر وهذا مما يهدم أمر الطبائع والعناصر وأن العقب السيء لم يعد عيبا ولا نقيصة على أصله وإنما ينحصر في النّاقص والعيب بالمعيب، كما أن الأصل لا يعد عيبا على الفرع من حيث الكفر وغيره ولا ينطبق هذا على قوله صلّى الله عليه وسلم إياكم وخضراء الدمن فان العرق دساس فإن هذا خاص بمن ضرب على أصلها بفاحشة خشية أن يقتص منها عنده لقوله صلى الله عليه وسلم من زنى زني به ولو بحيطان داره أي لا ينجو من القصاص البتة ألا فليتق الله من أراد أن يحافظ على عرضه وأن الشرف يكون فيمن كان آباؤه إسلاما أكثر فهو أشرف ممن آباؤه إسلاما أقل.
وخلاصة هذه القصة على ما قاله الأخباريون هي أنه لما بشر ابراهيم بالولد قال هو ذبيح الله فلما شب قيل له أوف بنذرك، فأخذ سكينا وتعجيلا واستصحب ابنه وهو ابن ثلاث عشرة سنة أو سبع سنين وقال له لنذبح قربانا حتى بلغ به المذبح من منى قال له يا أبت أين القربان؟ قال يا بني أمرت بذبحك وكان ليلة رأى ليلة الثامن من ذي الحجة، فلما أصبح تروى أي تفكر هل رؤياه هذه من الله أو من الشيطان فسميت ليلة التروية ثم رآها ثانيا ليلة التاسع منه فعرف أنها من الله حقا فسميت ليلة عرفة ثم صمم على نحره ليلة العاشر فسميت ليلة النحر.
فاستسلم الغلام لأمر الله وقال يا أبت أفعل ما تؤمر وأشدد رباطي لئلا أضطرب واكفف ثيابي لئلا تتلطخ بالدم فتراه أمي فتحزن فينقص أجرها واستحد الشفرة وأسرع بمر السكين على حلقي ليهون علي الموت وأقرئ أمي مني السلام وأوصها(3/459)
بالصبر والاستسلام، فقال إبراهيم نعم العون أنت يا بني على تنفيذ أمر الله، ففعل به ما ذكره وقبله وبكى كل منهما، ثم أضجعه ووضع السكين على حلقه وأمرّها بشدة وسرعة فلم تذبح، فحدها ثانيا وثالثا وأراد الذبح بعزم وحزم فلم تذبح، قالوا وقد ضرب الله تعالى بصفحة من نحاس على حلقه لئلا يحس بإمرار السكين ولا يبعد هذا على الله، إلا أن الحق الحق أعلم أنه تبارك وتعالى لم يرد ذبحه فلم تؤثر السكين فيه لأنه لم يودعها قوة الذبح إذ ذاك وهذا أبلغ في القدرة من خلق النحاس، قالوا ولما رآه إسماعيل أنه لم يذبحه ظن أن ذلك من شفقته عليه فقال يا أبت كبني على وجهي لئلا تدركك الرحمة علي برؤية وجهي فتمنعك الرأفة والرقة عن تنفيذ أمر الله، والحال لا يوجد شيء من ذلك، لأن طاعة الله عنده أحب إليه من ابنه ونفسه والناس أجمعين، ولكن الله تعالى لم يرد ذبحه وهذا مما يؤيد ما ذكرناه غير مرة بأن الأمر غير الإرادة راجع الآية 148 من سورة الأنعام المارة، ففعل أيضا ما أشار به عليه ابنه ووضع السكين على رقبته وجرها كالعادة فلم تذبح، ولما شدد بالجر بها انقلبت على قفاها، فعلم الله كما هو عالم من قبل صدق عزيمته وانقياد ابنه لأمره ففداه بكبش من الجنة وهو الذي قربه هابيل ابن آدم عليه السلام.
مطلب الحيوانات والجمادات التي تحشر وتبقى ورمي الجمار والحكم الشرعي في الأضحية:
وهذا الكبش وحمار عزير وكلب أهل الكهف وعصا موسى وناقة صالح تحشر وتبقى في الجنة كما جاءت بها الأخبار، أما غيرها من الحيوانات والجمادات عدا التي عبدت من دون الله فستكون ترابا والله أعلم. قال ابن عباس لو تمت ذبيحة إسماعيل عليه السلام لصار على الناس ذبح أولادهم سنة ولكن الله لطف بعباده ففداه ولهذا صارت الأضاحي سنة أو واجبة على اختلاف فيها بين المذاهب. قالوا وتعرض الشيطان لإبراهيم في المشعر محل الذبح في منى فسابقه فسبقه إبراهيم ثم ذهب إلى جمرة العقبة فتعرض له الشيطان أيضا فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات أيضا حتى ذهب، ثم أدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات أيضا حتى ذهب، فصار الرمي منذ ذلك الزمن(3/460)
عادة للحاج إلى ظهور البعثة النبوية، فجعل من سنن الحج، وهو واجب في مذهب الشافعي، وفي تركه نسك وعدد الحصى التي يرمي بها سبعون حصاة سبع يوم العيد وثلاث وستون أيام التشريق الثلاث كل يوم واحد وعشرون لكل موقع من مواقع الرمي سبع، وفي رواية أخرى أن ابراهيم عليه السلام بعد بناء البيت أخذ جبريل عليه السلام يريه مناسكه ويعلمه ما ينبغي لعبادة الله وحده وإذا بإبليس عليه اللعنة تمثل له في مواطن الجمرات فقال له جبريل كبر وارمه سبع حصيات ففعل. فعلى المسلم أن يستشعر هذا بقلبه ويبعد عنه بلسانه عند الرمي فهي حركة صغيرة تعبر عن عاطفة كبيرة يستعين بها أثناء عبادته في درء نزعات الشيطان واخلاص العبادة للرحمن، وقال الغزالي في الاحياء فليقصد برمي الحجار الانقياد للأمر وإظهار الرق للعبودية وانتهاض الامتثال والتشبه بإبراهيم عليه السلام، وما قيل إن محل الرجم قبر أبي رغال قيل كاذب لأنه ليس في هذه الأمكنة وقبره معروف في محل واحد والرجم في ثلاث محال فلو كان لكان الرجم في مكان واحد وقدمنا ما فيه في سورة الفيل ج 1 فراجعه، قالوا ولما ذبح الكبش قال جبريل الله أكبر فقال إسماعيل لا إله إلا الله والله أكبر فقال ابراهيم الله أكبر ولله الحمد فصارت سنة عند الذبح وفي الحج وبعد الصلوات في العيد من زمن ابراهيم إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، الحكم الشرعي: وجوب الأضحية على كل من ملك النصاب عند أبي حنيفة، ومن نذر أن يذبح ابنه لربه ذبح شاة استدلالا بهذه القصة وقال بقية الأئمة بسنيتها، هذا وقال أهل الكتابين وبعض علماء الإسلام أن الذبيح هو اسحق وبه قال عمر وابن مسعود والعباس من الأصحاب، ومن التابعين سعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء ومقاتل والزهري والسدي وقول لابن عباس إذ كانت هذه الرؤيا بالشام، وإنه ذهب به إلى النحر في منى وفداه الله كما مر في القصة، وقال عبد الله بن سلام وأبو بكر وابن عمر وابن عباس من الأصحاب، ومن التابعين الحسن وسعيد بن المسيب والشعبي ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وفي رواية عن عطاء بن أبي رباح ويوسف بن ماهك عن ابن عباس والمقوس أنه إسماعيل، وحجة القول الأول أن الله تعالى قال وبشرناه(3/461)
بغلام حليم فلما بلغ معه السعي أمر بذبح من بشر به وليس في القرآن أنه بشر بغير اسحق، وقال تعالى في سورة هود وبشرناه بإسحاق وقال تعالى في هذه السورة وبشرناه بإسحاق نبيا بعد قصة الذبح بما يدل على أنه تعالى إنما بشره بالنبوة لما تحمل من المشقة في قصة الذبح وأن أول الآية وآخرها يدل على أنه اسحق وقد مر في سورة يوسف أن يعقوب لما كتب الكتاب لعزيز مصر كتب من يعقوب بن اسحق ذبيح الله بما يدل على أنه هو الذبيح، وحجة القول الثاني أن الله تعالى ذكر البشارة بإسحاق في السور الأخر غير هذه بعد الفراغ من قصة الذبح، فقال تعالى (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) بما يدل على أن الذبيح غيره ولقوله في سورة هود (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) فكيف يأمره بذبح اسحق وقد وعده بأنه سيأتي منه حفيد له اسمه يعقوب، وقال تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) الآية
74 من سورة الأنبياء الآتية، وكرر معناها في سور أخرى فلو كان المذبوح اسحق لما بشره ربه بأن يكون له حفيد منه وهذا القول وحده كاف الدلالة على أن الذبيح إسماعيل إذ لو كان الذبيح اسحق لحصل الشك لسيدنا إبراهيم بصحة الرؤيا لأن الله وعده بأنه سيتزوج ويأتي له ولد اسمه يعقوب فكيف يأمر بذبحه؟ هذا وأن وصف إسماعيل بالصبر دون اسحق يدل على أنه هو الذبيح لما فيه من المناسبة الصريحة ولأنه وصف بصدق الوعد بقول تعالى (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) الآية 153 من سورة مريم المارة في ج 1 حيث وعد أباه بالصبر والموافقة على ذبحه والامتثال لأمر ربه حين قص عليه رؤياه وقد وفى بذلك، وهذا كله يدل دلالة كافية على أن الذبيح هو إسماعيل ويؤيد هذا أن قرني الكبش كانتا معلقتين على الكعبة في أيدي ولد إسماعيل، وبقيت كذلك، إلى أن احترقت زمن ابن الزبير، قال الشعيبي رأيت قرني الكبش موطنين في الكعبة، وقال ابن عباس والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وان رأس الكبش لمعلق بقرنين في ميزاب الكعبة وقد وحش أي يبس. وقال الأصمعي سألت أبا عمر بن العلاء عن الذبيح أإسحاق أم إسماعيل، فقال يا أصمعي أين ذهب عقلك متى كان اسحق بمكة إنما كان إسماعيل، وان اليهود تعلم ذلك، ولكن يحسدونكم معشر العرب(3/462)
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)
على أن يكون أباكم ويدعون أنه اسحق لأنه أبوهم. والقول الفعل ما جاء عن خاتم الرسل أنه قال أنا ابن الذبيحين يعني جده إسماعيل وأباه عبد الله، لأن عبد المطلب كان نذر لأن بلغ عدد بنيه عشرة ليذبحن أحدهم وهو آخرهم، وقد حقق الله له ذلك وبادر بذبحه ثم تحاكم إلى الأزلام فوضع عشرة من الإبل وابنه فوقع على ابنه ثم وضع عشرين وضرب الأزلام فوقعت على ابنه وهكذا حتى بلغت ماية من الإبل فوقعت عليها ففداه بها وذبحها كلها، ولذلك صارت دية الرجل مائة من الإبل من ذلك اليوم وأقرها الإسلام، وسئل أبو سعيد الضرير عن ذلك فأنشد:
إن الذّبيح هدين إسماعيل ... نص الكتاب بذاك والتنزيل
شرف به خصّ الإله نبيّنا ... وأتى به التفسير والتأويل
إن كنت في أمته فلا تنكر له ... شرفا به قد خصه التفضيل
قال تعالى «وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ 114» بالنبوة والرسالة والنّصر «وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما» المؤمنين «مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ 115» وهو الاستعبار من فرعون وقومه القبط ولا كرب أعظم من الرق والأسر «وَنَصَرْناهُمْ» جمع الضمير باعتبار أن النصر لهما ولقومهما المؤمنين بهما على القبط وملوكهم أجمع وإلا ففيه دلالة على أن الجمع يكون على ما فوق الواحد كما سيأتي في الآية 78 من سورة الأنبياء الآتية «فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ 116» عليهم بنصرتنا لهم «وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ 117» البليغ في بيانه المستنير في هدايته وهو التوراة، والإتيان لموسى خاصة ولما كان هرون يعمل معه فكأنه أوتيه لأنه مرسل مثله وقد كذب اليهود بإنكار رسالته وشوهوا التوراة بتحريفها وشطب ذلك منها وغيره مما يتعلق برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم «وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ 118» الموصل من تمسك به إلى الجنة في الآخرة فكل من سلكه بإحسان ومات على ذلك إلى بعثة عيسى ابن مريم فهو ناج وكل من تمسك بالإنجيل إلى بعثه محمد فهو ناج إذا مات قبل البعثة أو صدق بها وآمن بمحمد وإلا فهو هالك «وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ 119» ثناء حسنا دائما ما تعاقب الجديدان وهو «سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ 120» في الدنيا والآخرة
«إِنَّا كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الذي جزيناهما به(3/463)
«نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 121» على عملهم من عبادنا أجمع «إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ 122» بنا المخلصين لنا
مطلب قصة إلياس عليه السلام وقسم من قصة لوط عليه السلام:
قال تعالى فيما قصة على نبيه أيضا بعد تلك القصص «وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ 123» إلى أهل بعلبك وهو إلياس بن يس وقيل ابن بشير وهو ضعيف جدا بل هو ابن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هرون عليه السلام بن عمران وما قيل إنه إدريس ضعيف أيضا ومخالف للظاهر ولا مستند له إلا الظن وهو لا يغني شيئا في الاستدلال على الحق إذ بين إدريس وإلياس قرون كثيرة لأنه من آدم وإلياس من نوح وإدريس لم يبعث بعد إلى أهل بعلبك فهو قول مخالف للنص تدبر، وراجع الآية 85 من سورة الأنبياء الآتية بشأن نسبه «إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ» وكانوا من بني إسرائيل ولذلك أضيفوا إليه «أَلا تَتَّقُونَ 124» الله وهو في الجملة وما بعدها مقول قوله عليه السلام «أَتَدْعُونَ» باستغاثتكم وتطلبون في حوائجكم وترجون في مهماتكم «بَعْلًا» هو اسم صنم لهم يعبدونه وقد أول بعضهم تدعون بيعبدون وهو هنا خلافه الظاهر كما ترى في هذه الآية وإلا فانه يأتي دعى بمعنى عبد، ويصح المعنى في مواضع كثيرة راجع الآية 48 من سورة مريم في ج 1 وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ 125 فلا تسألونه وهو خالقكم والصنم من خلقكم الذي هو من خلق الله أيضا لأن العبد مخلوق لله وصنعه مخلوق لله أي انكم بفعلكم هذا تتركون «اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ» وهذه كلها بالنصب صفة لأحسن الخالقين المتقدم «آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ 126» هو أحق أن تلجأوا إليه في أموركم وهو أحرى بأن يجيبكم لأن هذا الصنم لا يضر ولا ينفع ولا يعقل ولا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم فكيف ترجون منه ما تأملون فلم يصغوا «فَكَذَّبُوهُ» ولم يلتفتوا إليه ولم يعبئوا بنصحه ولم يعتنوا به قال تعالى مهددا لهم على استخفافهم «فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ 127» يوم القيامة فنحاسبهم ونجازيهم على كفرهم بالنّار التي لا يسلم من عذابها «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ 128» له الذين استخلصهم لعبادته «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ 129» ثناء مستمرا ما بقي الملوان وهو(3/464)
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)
«سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ 130» أي الياس وقومه كما تقول، المحمديين واليسوعيين والموسويين، وهذا مما يؤيد أن أباه يسن كما ذكرنا لا بشر
«إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 131» في الدنيا إحسانا في الآخرة جزاء إحسانهم ومثل ذلك الجزاء الحسن نجزي نبينا الياس «إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ 132» بنا المصدقين لرسلنا. وخلاصة قصته على ما قاله الأخباريون هو أنه لما مات حزقيل عليه السلام كثر الفساد في بني إسرائيل وعبدوا الأصنام فبعث الله تعالى لهم الياس نبيا وكان الأنبياء بعد موسى يبعثون بتجديد أحكام التوراة وكان يوشع لما فتح الشام قسمها على بني إسرائيل فأصاب سبطا منهم بعلبك ونواحيها وهم الذين بعث إليهم الياس وكان ملكهم اسمه آجب، قد ضل وأضل وأجبرهم على عبادة الأصنام، وكان لهم صنم يسمى بعلا مصوغا من الذهب بطول عشرين ذراعا وله أربعة أوجه وقد فتنوا به وجعلوا له أربعمائة سادن وسموهم أنبياء، وكان الشيطان يدخل ويتكلم بما يضللهم فيحفظونه السدنة ويأمرون الناس به وصار الياس عليه السلام ينهاهم عن عبادته ويأمرهم بعبادة الله فلم يذعن لدعوته إلا الملك فإنه آمن به واسترشد برشده وكان له زوجة جبارة يستخلفها عند غيابه فاغتصبت جنينه من رجل كان يتعيش بها فلما عارضها قتلته فأمر الله الياس أن يخبر الملك وزوجته بان الله غضب عليهما باغتصابهما الجنّة وقتل صاحبها لأن الملك لما لم يردعها عدّ راضيا بفعلها وأن يخبرهما بأنهما إذا لم يردا الجنة لورثته يهلكهما فيها ولا يتمتعان بها إلا قليلا فأخبرهما الياس فاشتد غضب الملك عليه وقال له يا الياس ما أراك تدعو إلا إلى الباطل، وهمّ بقتله فهرب الياس وارتد الملك عن الإيمان ورجع إلى عبادة الأوثان وبقي الياس مستخفيا بين الجبال سنين وهم يتحرونه ولم يقفوا على أثره، فضاق صدره عليه السلام، وسأل الله أن يميته، فقال تعالى له ما هذا وقت إعراء الأرض منك، لأن صلاحها بك، فقال يا رب أعطني ثأري من بني إسرائيل، قال ما تريد، قال اجعل خزائن المطر بيدي ثلاث سنين، فإنه لا يذلهم إلا هذا، فأعطاه الله ذلك ومنع عنهم المطر فهلكت الماشية والهوام والشجر وجهد الياس، وهو لم يزل مستخفيا وقد عرف قومه أن البلاء جاءهم بسببه، فمر ذات يوم بعجوز منهم فضافها فأخرجت له قليلا(3/465)
من الدقيق والزيت، فأكل ودعا لها بالبركة فلم تحس إلا وقد ملئت جربانها دقيقا وخوابيها زيتا، فاطلع الناس عليها وعلى ما عندها من الخير، فقالوا لها من أين لك هذا، قالت ضافني رجل فقدمت إليه ما عندي من دقيق وزيت فأكل ودعا لي بالبركة، ومنذ فارقني رأيت أجربتي ملئت دقيقا وخوابيّ زيتا ووصفته لهم فعرفوه، وطفقوا يطلبونه يمينا وشمالا شرقا وغربا فلم يجدوه، ثم انه أوى إلى بيت عجوز أخرى لها ابن يقال له اليسع بن أخطوب وكان مريضا فدعا له فعوفي بالحال وآمن به، ثم إنه لما رأى ما حل بقومه من الضيق والضنك رقّ لهم ورأف بهم فأظهر نفسه إليهم مفاديا بها طلبا لإيمانهم به ورجوعهم إلى عبادة الله وتركهم الأوثان بعد أن آنس منهم الركون إليه والالتجاء إلى ربه، وقال لهم قد هلكتم وهلك كل شيء بخطيئتكم فأخرجوا أصنامكم واستسقوا بها، فإن مطرتم فذلك كما تقولون وإلا فيتحقق لديكم أنكم على باطل فتنزعون عن عبادتها، ثم إني أدعو الله ربي فإذا أفرج عنكم آمنتم به وتركتم الأوثان، قالوا لقد أنصفت فخرجوا وأخرجوا أصنامهم، ودعوا فلم يستجب لهم، ولم يزالوا حتى أظهروا عجزهم وعجز آلهتهم، وكلفوه بأن يدعو هو إلهه، فشرع عليه السلام يدعو واليسع يؤمن على دعائه وقد انتهت المدة التي منع الله بها السماء أن تجرد عليهم حسب طلبه السابق، فأغاثهم الله تعالى غيثا جلل أراضيهم كلها، فحييت واخضرت ودبت الحياة بمواشيهم وترعرعوا وتنفسوا من ألم القحط وتروحوا من الجدب لكثرة ما أفاض الله عليهم من الخير الذي أدرّ الضرع وأكثر الزرع، فنكثوا بعهودهم ونقضوا وعدهم وأصروا على كفرهم، لأن النعم التي غمرتهم أنستهم ما كانوا عليه من الشدة وصاروا يسخرون بنبيهم كلما يدعوهم إلى الإيمان ويطالبهم بالوفاء بالعهد، وقد أيس من إيمانهم فدعا الله أن يريحه منهم، فأجاب الله دعاءه وقال له أخرج إلى موضع كذا لمكان عيّنه له وما جاءك فاركبه ولا تخف، فخرج هو واليسع وإذا بفرس من نار دنت منه فوثب
عليها فانطلقت به في الهواء فناداه اليسع بماذا تأمرني فألقى إليه رداءه فاستدل به على استخلافه فلبسه ورجع يدعو الناس إلى طاعة ربه واقتفى آثار دعوة الياس عليهما السلام، قالوا وان الله تعالى قطع عن الياس الحاجة إلى الطعام والشراب(3/466)
فصار إنسيا ملكيا أرضيا سماويا وكأنه لهذه الحكاية قال بعض المفسرين إنه إدريس عليه السلام لما أشار إليه في الآية 57 من سورة مريم بقوله (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) في ج 1، مع أن إدريس كان رفعه على غير هذه الصورة راجع قصته في الآية المذكورة، على أن القصص كلها ما لم تستند إلى آية أو حديث لا عبرة بها.
هذا، وقد سلط الله على الملك المرتد وقومه عدوا لهم فأرهقهم وقتل الملك وزوجته ارببل في الجنة التي غصبتها كما أخبرهم نبيهم الياس، وقد نبأ الله اليسع وبعثه إليهم فآمنوا به، قال تعالى «وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ 133» من قبل إلى طائفة من عبادنا فتغلبوا عليه وأرادوا البطش بأضيافه فاذكر يا محمد لقومك «إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ 134» من الإهلاك الذي حل بقومه «إِلَّا عَجُوزاً» هي زوجته واعلة لأنها على دين قومه وليست من عشيرته لأنه غريب عنهم كما تقدم راجع الآية 78 من سورة هود المارة وتطلع على تفصيل قصته في الآية 79 من سورة الأعراف في ج 1 «فِي الْغابِرِينَ 135» الباقين في العذاب «ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ
136» تدميرا فظيعا فلم نبق منهم أحدا «وَإِنَّكُمْ»
يا أهل مكة «لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ»
عند ما تسافرون إلى الشام «مُصْبِحِينَ
137» نهارا «وَبِاللَّيْلِ»
أيضا إذ ترون منازلهم وآثار أطلالهم بذهابكم وإيابكم صباح مساء «أَفَلا تَعْقِلُونَ
138» كيف كانوا وما حل بهم من العذاب حتى دمروا وأهلكوا بسبب كفرهم وتعندهم مع نبيهم فاتعظوا لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من العذاب لأنكم متقمّصون بالأعمال السيئة التي أهلكوا من أجلها من الكفر والتكذيب والاستهزاء، ولو أنهم آمنوا بنبيهم وصدقوا بما جاءهم به لما أهلكوا، قال تعالى «وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
139» إلى أهل نينوى من قبل الله تعالى فدعاهم للإيمان فلم يقبلوا، واذكر لقومك قصته يا محمد «إِذْ أَبَقَ»
هرب من قومه حين رفع الله عنهم العذاب غضبا عليهم أو حين استبطأ نزوله بهم وقد نفذ الوقت الذي وعدهم به خوفا من أن يصموه بالكذب فقر منهم «إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
140» المملوء، قالوا لما وصل إلى البحر كان معه زوجته وولداه فجاء المركب فقدم امرأته ليركب بعدها فحال بينهما الموج وذهب المركب وتركه وجاءت موجة أخرى فأخذت ابنه الأكبر، ثم جاء ذئب وأخذ(3/467)
فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)
ابنه الآخر وبقي فريدا، فجاء مركب آخر فركبه، فقال الملاح إن فيكم عاصيا عبدا آبقا من سيده إذ لا موجب لوقوف المركب غير هذا، فانظروا من هو، فاقترعوا لمعرفة ذلك الآبق فيما بينهم، فوقعت القرعة على يونس، فقالوا له بعد الاعتراف بأنه آبق من سيده وعنى بذلك ربه لا بد من رميك في البحر، لأن العادة المطردة عندنا كذلك، ولئن يغرق واحد خير من أن يغرق الكل، فاستسلم فأخذوه وزجوه بالماء،
وذلك قوله تعالى «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
141» المغلوبين في القرعة «فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ 142» فعل فعلا يلام عليه بالنسبة لمقامه وذلك على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين لأنه لم يفعل على رأيه ما يعاقب عليه «فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ 143» لنا المكثرين لذكرنا الراجعين لأمرنا «لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ» لبقي في جوف الحوت «إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 144» من قبورهم الأموات هو وقومه وغيرهم، وكان تسبيحه عليه السلام كما ذكر ربه في الآية 87 من سورة الأنبياء الآتية (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وهذا هو الذي نجاه، وكان عليه السلام يديم ذكر ربه قبل ذلك لا يفتر عنه أبدا ولهذا عده الله من المسبحين، وجاء في الحديث اذكروا الله في الرخاء يذكركم بالشدة «فَنَبَذْناهُ» أجبنا دعاءه وأخرجناه من بطن الحوت وقذفناه «بِالْعَراءِ» الأرض الخالية من النبات والشجر «وَهُوَ سَقِيمٌ 145» عليل البدن من حرارة بطن الحوت، جاء في الخبر أن الملائكة لما سمعت تسبيح يونس عليه السلام قالوا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة وقالوا غريبة لأنهم لم يسمعوا بشرا يذكر الله فيها قبل، وإنما يسمعون الحيتان والديدان وغيرها وهو يختلف عن ذكر البشر، فقال تعالى ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، قالوا ربنا ذلك العبد الصالح الذي كان يصعد عمله الصالح إليك كل يوم وليلة؟ قال هو ذاك، قال فيشفعون له، فأمر الله الحوت فقذفته بأرض نصيبين من قاعدة ربيعة وهي مجاورة لديار بكر ويليها من جهة الشرق الشمالي ديار مضر ويسمونها الآن جزيرة ابن عمر، وهذا مما يدل على أن المراد بالبحر هو دجلة التي تصب في البحر بعد اختلاطه بالفرات بالقرنة قبل البصرة، فعلى هذا(3/468)
يكون ركوبه في نهر دجلة الواقع عليها بلد نينوى التي بعث لأهلها وقد التقمه الحوت الذي أمره الله بأن يأتي من البحر إلى محل ركوبه وسبح به حتى أدخله البحر وطاف به ما شاء الله من البحار حتى ألهمه ذلك التسبيح العظيم فعاد به إلى قرب المحل الذي التقمه من أرض نصيبين قالوا وذلك بعد ثلاثة أيام، قال تعالى «وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ
146» القرع الطويل غير الكوسا وغير المحزق الذي يسبح عليه وهو معروف، والحكمة من اختيار الله تعالى لهذه الشجرة دون غيرها لأنها سريعة النبات والنمو ولأنها لا يقف الذباب عليها فضلا عن الإظلال، وكان خروجه عليه السلام مثل الفرخ الذي لا ريش له إذ هري لحمه من سخونة بطن الحوت وكل شيء يؤذيه إذا لمسه، لذلك لطف الله به فأنبت عليه هذه الشجرة، قالوا وكانت هناك وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها صباح مساء وبقي حتى اشتد لحمه وجمد عظمه وثبت شعره، فنام ذات ليلة تحت ظلالها، فلما استيقظ وجدها يابسة فحزن لما فاته من ظلها ودفع الذباب عنه فجاءه جبريل عليه السلام وقال له أتحزن على شجرة يا يونس ولا تحزن على مئة ألف من أمتك قد تابوا وأسلموا، وذلك قوله تعالى «وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ 147» في نظر الرائي أي إذا رآهم أحد يقول هؤلاء مئة ألف وأكثر لأن الإرسال كان قبل أن يصيبه ما أصابه فذهب إليهم «فَآمَنُوا» به وكان إيمانهم بالله تعالى عند معاينتهم العذاب بعد أن تركهم راجع القصة في الآية 97 من سورة يونس المارة، قال تعالى «فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ 148» انقضاء آجالهم فيها حسبما هو مقدر في علمنا، هذا وإنما لم يختم الله تعالى قصتي لوط ويونس عليهما السلام بالسلام كما ختم القصص قبلهما لأنه ختم هذه السورة بالسلام على جميع المرسلين وهما من جملتهم وقد سبق بحث لهذه القصة في الآية 49 من سورة نون في ج 1 فراجعها، ثم التفت جل جلاله إلى رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم وخاطبه بقوله «فَاسْتَفْتِهِمْ» عطف على قوله أول السورة (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) وذلك بعد أن بين الله معايبهم بإنكار البعث طفق يبين مثالبهم مما نسبوه إليه تعالى فقال سلهم يا محمد «أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ» اللاتي يستنكفون عنهن ويقتلونهن خشية العار أو نفقتهن «وَلَهُمُ الْبَنُونَ 149»(3/469)
أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
الذين يرغبون فيهم ويتفاخرون ويتباهون وهذه الآية على حد قوله تعالى (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) الآية 11 من سورة والنجم المارة في ج 1، وقوله تعالى (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) الآية 57 من سورة النحل الآتية
، أي كيف يليق بقومك يا حبيبي أن ينسبوا لي ما يكرهون ولأنفسهم ما يحبون وأنا المنزه عن ذلك كله «أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ 150» على ذلك حتى يسمونهم بنات «كلا» يا أكرم الرسل ليسوا بأولاد الله بل عباده وهم من أشرف الخلق وأقدسهم عن النقائص ولم يشاهدوا خلقهم ولم يعلموا به ولم يكن لي بنات ولم يولد لي شيء
«أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ 151» «وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ 152» في زعمهم ونسبتهم ولم نخلقهم إناثا ولم يشاهدوا خلقهم فهم مبرأون عما وسموهم به لأنهم لا يوصفون بذكورة ولا بأنوثة لأنهم لا شهوة لهم «أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ 153» اختارهن عليهم وأنتم تعدون الأنوثة من أخس صفات الحيوان أيليق بكم هذا «ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ 154» على الله هذا الحكم الجائر الذي لا ترضونه لأنفسكم وهو جهل صادر منكم بذات الربوبية الأقدس «أَفَلا تَذَكَّرُونَ 155» بمقامه الجليل وترتدعون عما تتقولون، وهذا استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع أي لا يكون شيء من ذلك جائز البتة «أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ 156» على زعمكم هذا كلا لا دليل ولا حجة ولا برهان ولا أمارة بذلك فإن كان عندكم به شيء «فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ»
الذي فيه هذا «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
157» بقولكم، قال تعالى «وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً» إذ قالوا إن الله تعالى تزوج من الجن وهم حي على حدة منهم إبليس عليه اللعنة.
مطلب في الجن ونصرة الله تعالى أنبياءه وما يستخرج من الآية:
أخرج ابن الياس وعبد بن حميد وابن جرير وغيرهم عن مجاهد قال: قال كفار قريش الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك فقال لهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه على سبيل التبكيت فممن أمهاتهم؟ فقالوا بنات سروات الجن أي أشرافهم.
ورواه أيضا ابن أبي حاتم عن عطية وقال ابن عباس هم حي من الملائكة يقال لهم الجن ومنهم إبليس، وقيل إن المراد بالجن الملائكة وسموا جنا لاستتارهم.(3/470)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
والحق أن الجن فصيلة على حدة لقوله تعالى (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) الآية 27 من سورة الحجر المارة، وقد نسب الله تعالى إليهم إبليس بقوله (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الآية 50 من سورة الكهف الآتية، وقدمنا ما يتعلق بالجن في الآية الأولى من سورة الجن في ج 1 فراجعه تعلم أن خلقهم كان قبل آدم وألمعنا لهذا البحث في الآية 28 من سورة الحجر المارة بأنهم ليسوا من الملائكة وأنهم سكنوا الأرض قبل آدم وأفسدوا فأهلكهم الله وشتتهم راجع الآية 30 من سورة البقرة في ج 3، قال تعالى «وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ» بتعليم الله إياهم «إِنَّهُمْ» قائلي هذا القول «لَمُحْضَرُونَ 158» في الآخرة بالموقف العظيم ومزجوجون في نار الجحيم، فلو كانوا مناسبين الله أو أصهاره أو شركاءه تعالى الله عن ذلك كله لما عذبهم، وقد أخبر واخباره حق بأنه محاسبهم على إفكهم هذا ومعاقبهم عليه ومجازيهم على بهتهم في النار، ثم إنه نزه نفسه المنزهة بقوله «سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ 159» حضرة الربوبية ويفترون عليه من نسبة الولد والزوجة لذاته المبرأة عن ذلك، ثم أخبر جل إخباره بأن كلا من الجن والإنس القائلين بحق الله ما لا يليق محضرون ومحاسبون على ما تفوهوا به ونائلهم جزاء عملهم القبيح «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ 160» عملهم إليه منهما فهم ناجون وإن إخلاصهم يوصلهم الجنة ويتنعمون بها واعلموا أيها المشركون
«فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ 161» من دون الله «ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» على الذات المقدسة بما تصمونها به «بِفاتِنِينَ 162» مضلين ومفسدين أحدا من خلقه، وأعاد بعض المفسرين ضمير عليه إلى ما فيكون المعنى ما أنتم بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة «إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ 163» حذفت الياء من (صال) وجعلت الكسرة دالة عليها لالتقاء الساكنين على كونه مفردا لأن معناها هنا يدل على المفرد، أما كلمة (صالُوا) الواردة في الآية 59 من سورة ص المارة في ج 1 فقد حذف منها النون للاضافة وللالتقاء الساكنين فيها أيضا لأنه بلفظ الجمع ولهذا لم يكتب هنا بالواو لأنه بلفظ المفرد وقرىء بضم اللام قراءة شاذة على أنه معنى من جمع أي لا يفعل هذا الفعل المنهي عنه إلا من سبقت له الشقاوة من علم الله وقدر له دخول النار. هذا، وقد جاء في هذه الآيات(3/471)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)
من الإخبار بسخط الله العظيم على هؤلاء الكفرة المتجارئين على الله والإنكار الفظيع لأقاويلهم الكاذبة والاستبعاد الشديد لأباطيلهم وتسفيه أحلامهم وتركيك عقولهم وسخافة أفهامهم مع الاستهزاء بعقولهم والسخرية بأشخاصهم ما لا يخفى على المتأمل. ثم حكى الله عن ملائكته فقال «وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ 164» عند الله وهذا اعتراف منهم بالعبودية له جل شأنه وقد تمثل بهذا القول سيدنا جبريل عليه السلام ليلة الإسراء عند مفارقته لحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم حينما صعد للقاء ربه كما مر في الآية الأولى من الإسراء في ج 1 وقال له في مثل هذا المكان يترك الخليل خليله أو الحبيب حبيبه، فأجابه (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) أي في القرب والمعرفة والمشاهدة لا يمكن أن يتعداه خضوعا لعظمة الإله وخشوعا لهيبته وتواضعا لجلاله. هذا، ومن قال إن المراد بالجنّة هنا الملائكة جعل هذه الجملة من قولهم على الاتصال بكلامهم السابق إلى من قوله سبحان الله عما يصفون إلى قوله تعالى «وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ 165» حول العرش في عبادة ربنا كصفوف الإنس في الصلاة أمامه وقوله «وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ 166» له العابدون ولسنا المعبودين ولا منسوبين لحضرته بالمعنى الذي ذكره قومك يا محمد «وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ 167» «لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ 168» وذلك أنهم يقولون قبل نزول القرآن على رسولهم محمد لو أن عندنا كتابا من كتب الأقدمين مثل اليهود والنصارى «لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ 169» له العبادة واتبعنا ما فيه وانقدنا لأوامره ونواهيه ولما أتاهم هذا الكتاب الجامع لكل الكتب والذي فيه أحسن الذكر على لسان أكمل البشر «فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ 170» غب كفرهم وعاقبة أمرهم، وهذه الآية على حد قوله تعالى (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) الآية 156 من سورة الأنعام المارة، ويقرب منها بالمعنى (وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) الآية 133 من سورة طه في ج 1،
قال تعالى «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ 171» التي وعدناهم بها عند ما نرسلهم لهداية الأمم وهي قوله جل قوله (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) الآية 21 من سورة المجادلة(3/472)
في ج 3 وحروفها بحساب الجمل عن السنة الشمسية 1958 «إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ 172» على من خالفهم وناوأهم لأنهم جندناَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
173» على غيرهم من جميع الأخبار، واعلم أن حروف هذه الآية المباركة بحساب الجمل 1360 وحروف الأولى 644 فيكون مجموع حروف هاتين الآيتين 172/ 173 بحسب السنة الشمسية أيضا 2004 وحروف الآية 173 وحدها على حساب السنة القمرية 1360 والآية 103 من سورة يونس المارة 1468 أيضا فنسأل الله تعالى تحقيق وعده بنصرة الإسلام وإكمال عزهم ورفع رايتهم على سائر الأمم من الآن حتى يتم كماله فيها وهو على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وقد سمى الله هاتين الجملتين كلمة لا نتظامهما في معنى واحد فكانتا في حكم الكلمة على حد قوله تعالى (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) الآية 100 من سورة المؤمنين الآتية وهي إشارة إلى قوله (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا) وهي كلمات لا كلمة وعليه تعبيره صلّى الله عليه وسلم عن لا إله إلا الله محمد رسول الله بكلمة أيضا. هذا، ولا يقال إن من الأنبياء من لم ينصر وقد يغلب ويقتل أيضا لأن النصر إذا لم يكن في الدنيا فهو في الآخرة محقق لكافة الرسل والعبرة في الدنيا للغالب في النصرة الفعلية أما في المحاججة فلا شك أن النصرة لجميع الأنبياء كما هو معلوم من قصصهم التي قصها الله علينا، قال تعالى يا أكرم الرسل «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ 174» إلى مدة يسيرة فقد قرب نزول العذاب بهم إذ طفح الكيل وبلغ السيل الزبى وهذا من قبيل التهديد والوعيد فمن قال إن هذه الآية منسوخة بآية السيف فقد هفا لأنها من الأخبار وكل ما كان فيه تهديد ووعيد لا يتطرقه النسخ «وَأَبْصِرْهُمْ» إذا حل بهم ما يوعدون به من العذاب «فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ 175» وقوعه فيهم وسوف هنا للوعيد لا للتبعيد تدبر. ولما هددهم حضرة الرسول بذلك قالوا: ومتى يكون ما توعدنا به يا محمد؟
فقال تعالى مجاوبا لهم عن نبيه «أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ 176» كفرة قومك وهذا استفهام على طريق التوبيخ بسبب استعجالهم ما فيه بؤسهم وشقاؤهم «فَإِذا نَزَلَ» العذاب «بِساحَتِهِمْ» فناء دورهم والساحة المكان المتسع أيضا العرصة الكبيرة أمام الدور «فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ 177» بئس الصباح صباحهم وساء(3/473)
وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
المساء مساؤهم، روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم غزا خيبر فلما دخل القرية قال: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، قالها ثلاثا، وقد فتح الله عليه ففتحها، قال تعالى «وَتَوَلَّ عَنْهُمْ» يا حبيبي «حَتَّى حِينٍ 178» انقضاء الأجل المقدر لنصرتك عليهم «وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ 179» كررت هذه الجملة تسلية لحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم على تسليته الأولى وتأكيدا لوقوع الوعد إلى تأكيده الأول وقيل لا تكرار لأن الآية الأولى في عذاب الدنيا وهذه في الآخرة والأول أولى، ثم نزه ذاته الكريمة ثانيا وهي أهل للتنزيه في كل لحظة فقال «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ» الغلبة والعظمة والقدرة والجبروت «عَمَّا يَصِفُونَ 180» هؤلاء الكفرة ربهم وخالقهم ومالك أمرهم ومربيهم مما لا يليق بجنابه العظيم هذا
«وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ 181» جميعهم من آدم إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 182» على إهلاك الأعداء ونصرة الأولياء، وفي هذه الآية تعليم لعباده بأن يختموا كلامهم بحمد ربهم في الدنيا لأنه خاتمة كلام أهل الجنة وقد ختمت سورة الزمر الآتية بمثل هذه الآية، وجاء في سورة يونس المارة الآية 10 (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) .
هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة لقمان عدد 7- 57- 31
نزلت بمكة بعد الصافات عدا الآيات 27، 28، 29 فإنهن نزلن بالمدينة وهي أربع وثلاثون آية، وخمسمائة وثمان وأربعون كلمة وألفان ومئة وعشرة أحرف.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «الم» 1 تقدم ما فيه قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه إن لله في كل كتاب سرا وسر القرآن في أوائل السور، ونقل عن علي كرم الله وجهه أنه كان يقول يا كهيعص يا حمعسق كأنه بعدها من أسماء الله والله أعلم بما فيه. وفيه من مفاتح أسماء الله الحسنى الله(3/474)
العادل المنتقم راجع أول سورة يونس المارة وما ترشدك إليه «تِلْكَ» الآيات المنزلة عليك يا أكرم الرسل هي «آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» 2 المثبت فيه كل ما كان وسيكون بأنه كائن بمقتضى الحكمة البالغة التي لا تنخرم وقد أنزلنا عليك يا سيد الرسل هذه الآيات لتكون «هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ» 3 الذين يعملون الحسنات لأنفسهم ولغيرهم الموصوفين بقوله عزّ قوله «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» 4 بأنها حق واقع لا محالة بلا شك ولا ريب «أُولئِكَ» المتصفون في هذه الصفات كائنون «عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ» بطرق الصواب السداد «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» 5 الفائزون بكل مطلوب الناجحون بمقاصدهم الناجون من كل سوء الظافرون بآمالهم وما يبتغونه من الدنيا والآخرة، قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ» بأن يستبدل الزّمر والغناء والمعازف وشبهها بكلام الله تعالى ويختارها عليه وذلك أن البيع معاوضة شيء بشيء فهو استبدال معنى عبّر عنه بالشراء «لِيُضِلَّ» الناس بغير علم ولا هدى «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» العدل السوي أي انه ما شرى ذلك إلا ليصد الناس عن دين الله الذي هو الطريق المستقيم والأمر القويم «وَيَتَّخِذَها» تلك الطريقة الحقة «هُزُواً» يسخر بها ويحمل الناس على الاستهزاء بها «أُولئِكَ» الذين هذه حالتهم «لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» 6 عند الله يذلهم به ويخزيهم «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ» الذي هذا شأنه «آياتُنا» المنزلة على رسولنا ليأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويزجر الذين يضلون أنفسهم وغيرهم بها «وَلَّى» أدبر بظهره معرضا عنها و «مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها» لأنه لم يلتفت إليها بقلبه ولا بقالبه «كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً» ثقلا يمنعه عن السمع ولا وقر بها «فَبَشِّرْهُ» يا سيد الرسل على طريق التهكم إذ وضع بشره بدل أنذره وخوفه «بِعَذابٍ أَلِيمٍ» 7 في الدنيا والآخرة.
مطلب تحريم الغناء وبيع الغانيات ورواسي الأرض:
نزلت هذه الآية بالنضر بن الحارث بن كلدة كان يتجر في الحيرة فيأتي بأخبار العجم، قيل إنه جاء بأخبار كليلة ودمنة معربة (وهي معروفة) إلى الحجاز وصار(3/475)
يحدث بها قريشا ويقول لهم إن محمدا يحدثكم عن عاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث رستم وإسفنديار وأخبار الأكاسرة، ويشتري لهم القينات والمغنيين ويجمعهم إليه صباح مساء ليسمعهم تلك الأساطير والغناء من القيّنات والزمر والمعازف من المغنين لئلا يجتمعوا إلى محمد ويسمعوا كلام الله، ومن هذا يعلم كثافة جهله لأن محمدا صلّى الله عليه وسلم يأتيهم بشيء قديم لا يعلمه العرب ولا العجم ولا آباؤهم من المغيبات والأحكام والقصص والأخبار والأمثال والحدود مما لم يكن في قرنهم الذين هم فيه ولا الذي قبله، أما أخبار الأكاسرة وما في كليلة ودمنة فهي أمور واقعة في قرنهم وزمنهم وأخبارها متناقلة فيما بينهم غير خافية على آبائهم الموجودين معهم ومثل هذا لا يعد غيبا ولا معجزا ولا يصح أن يتحدى به لأن كثيرا منهم من يحسن نظم مثله بخلاف آيات الله التي هي من الغيب ولا يقدر أحد أن يأتي بمثلها لأنها مما يعجز عنه البشر، روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل تعليم المغنيات (الغناء) ولا بيعهن (ليغنين) وأثمانهن حرام وفي مثل هذا نزلت (وَمِنَ النَّاسِ) الآية وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله تعالى له شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت- أخرجه الترمذي- ولفظه عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تبيعوا القينات المغنيات ولا تشتروهن ولا خير في تجارتهن وثمنهن حرام وفي مثل هذا نزلت (وَمِنَ النَّاسِ) الآية إلخ. وجاء عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من استمع إلى قينة صبّ في آذانه الآنك (الرصاص المذاب) يوم القيامة. ولا شك أن الغناء مفسدة للقلب منفذة للمال مسخطة للرب وكلما أشغل عن ذكر الله تعالى فهو لهو ولغو والله تعالى يقول:
(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) الآية 3 من سورة المؤمنين الآتية، وقال تعالى:
(وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) الآية 32 من الفرقان المارة في ج 1، وفي مدح الله تعالى الذين يعرضون عن اللغو ذم للذين يتوغلون به، هذا وأن الأحاديث كالأساطير والأضاحيك من كل ما لا يعتد به ولا خير فيه من الكلام ويستعمل في قليل الكلام وكثيره لأنه يحدث شيئا فشيئا محشوّ بالكذب فسماعها من اللغو(3/476)
المنهي عنه شرعا والنضر المذكور قتله رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد واقعة بدر، وقد عرف من مغزى هذه الآية ومعنى الأحاديث المارة ذم الغناء صراحة وقد تضافرت الآثار وكلم العلماء والأخيار على ذمه سواء كان برفع الصوت أو خفضه في كل مكان وزمان، أخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال:
إذا ركب الرجل الدابة ولم يسم ردفه الشيطان فقال تغنّه، وإن كان لا يحسن قال تمنّه، وذلك ليشغله عن ذكر الله تعالى. وأخرجا أيضا عن الشعبي قال عن القاسم بن محمد إنه إذا سئل عن الغناء قال للسائل أنهاك عنه وأكرهه لك، فقال السائل أحرام هو؟ قال انظر يا ابن أخي إذا ميز الله تعالى الحق من الباطل في أيهما يجعل سبحانه الغناء، يريد أنه يجعله في الباطل إذ ليس بحق ليكون مع الحق، وما بعد الحق إلا الضلال، ويكفي في ذمه أنه من الشيطان كما مر في الحديث السابق من أن الشيطان يوسوس له فيه، حتى انه إذا عرف أنه لا يحسنه وسوس له بالتمني لما يخطره بباله، فالغناء من أهواء النفس، والتمني رأسمال المفلس.
وأخرجا عنه أيضا قال: لعن الله تعالى المغني والمغني له. وجاء في السنن عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الغناء ينبت النّفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. وقال يزيد بن الوليد الناقص: يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة وانه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل المسكر فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزناء وإنما سمي ناقصا مع أنه أعدل ملوك بني أمية عدا عمر بن عبد العزيز رحمه الله لأنه يعد من جملة الخلفاء الراشدين لنقصه أعطية الجند ويسمى عمر الأشج لشجة فيه، ولذا يقال أعدل ملوك الأمويين الأشج والناقص. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن الله تعالى حرم القيناء وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها ثم قرأت الآية المارة. الحكم الشرعي: قال القاضي أبو الطيب والقاضي عياض والقرطبي والماوردي نقلا عن الإمام أبي حنيفة إنه حرام، وقال في التتارخانية إن التغنّي حرام في جميع الأديان، وذكر في الزيادات أن الوصية للمغنين والمغنيات مما هو معصية عندنا وعند أهل الكتاب، وعده صاحبا الهداية والذخيرة(3/477)
من الكبائر، ويستثنى منه التغني بالأعياد والأعراس ومن يغني لنفسه لدفع الوحشة وما كان فيه وعظ وحكمة، ويدخل فيه ما يفعله بعض أهل الطرائق بحضور الولدان المرد والنساء وهو أشد حرمة، لأن الذي يراه من مثلهم يظن جوازه من قبل المشايخ الذين أسسوا هذه الطرق وحاشاهم من ذلك وإنما يجوزون ما كان لله وفي الله وإلى الله من القصائد والأشعار المملوءة نصحا وزجرا عن المناهي والملاهي وترغيبا للتوغل بذكر الله ومحبة أحبابه وفعل الخير من مجالسهم المباركة، أما غير هذا فهو دخيل عليهم من ذوي الأهواء الفاسدة ولهذا قال مالك رضي الله عنه إنما يفعله (أي الغناء المؤدي للهو واللغو وغيره) عندنا الفساق، ومن أخذ جارية وظهرت مغنية فله ردّها بالعيب وأجمعت الحنابلة على تحريم الغناء. والقول الوسط:
إذا لم يكن في الغناء مفسدة كشرب الخمر والنظر إلى الأجنبية والمرد وقول الزور ومما يرغب إلى الشهوات الدنيئة فهو مباح، وعلى كل حال تركه أولى لأنه يشغل عن ذكر الله في الدنيا ويكون في الآخرة مع الباطل في وزن الأعمال.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» زيادة على إيمانهم في الدنيا «لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ» 8 في الآخرة جزاء أعمالهم الحسنة «خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا» وهو لا يخلف وعده «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» 9 الذين يهين أعداءه بغلبته القاهرة ويعزّ أولياءه بحكمته البالغة وهو «الذي خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ» في هذه الجملة قولان صحيحان فمن قال إنه لا عمد لها البتة وقف على قوله (عَمَدٍ) ، ومن قال إن لها عمدا غير مرئية وقف على قوله «تَرَوْنَها» أي إن لها عمد عظيمة ولكنكم لا ترونها أو هي بلا عمد كما ترونها وكل بليغ في القدرة والآية محتملة للوجهين والله قادر على الأمرين لا يعجزه شيء، وجيء بهذه الآية كالاستشهاد على عظيم قدرته وكمال عزته وبليغ حكمته التي هي ملاك العلم وإتقان العمل وتمهيد قاعدة التوحيد وتقريره وإبطال مادة الشرك وتبكيت أهله «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ» جبالا شامخات ثوابت «أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» لئلا تتحرك وتضطرب بكم أيها الناس فجعلها ساكنة فيما ترون من نعم الله عليكم ومن تمام النفع بها لأنها لو خلت من هذه الثوابت لمادت بالمياه المحيطة بها الغامرة(3/478)
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
لأكثرها وبالرياح العواصف التي تقتضي الحكمة هبوبها وهذا مبني على كونها كروية كما ذهب إليه الغزالي وأكثر الفلاسفة، وإلا فلو كانت بسيطة لما أثرت فيها الرياح والمياه على فرض عدم وجود الرواسي. هذا ولا دلالة في الآية على انحصار حكمة الله بإلقاء الرواسي فيها لسلامتها من الميد بل إن لذلك حكما أخرى لا نعرفها وكذا لا دلالة فيها على عدم حركتها على الاستدارة دائما كما ذهب إليه أصحاب فيثاغورس وغيره وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 19 من سورة الحجر المارة.
واعلم أن هذه الآية الكريمة تشير إلى ما عبر عنه الجغرافيون بالقشرة الباردة أيضا لأن الرواسي هي الصخور الجامدة في أديم الأرض فانظر رعاك الله هل كان في زمن نزول القرآن على حضرة الرسول الأعظم من يعرف أو يعلم أن الأرض كانت مائرة ثم برد ظهرها فتكونت قشرتها، كلا ثم كلا، ولكنه من غيب الله تعالى أجراه بواسطة أمينه جبريل عليه السلام على لسان محمد رسوله صلّى الله عليه وسلم راجع الآية 27 من سورة الحجر المارة أيضا. واعلم أن الأفرنج لم يتوسعوا في معلوماتهم هذه إلا بعد نزول القرآن لأنهم يعرفونه من عند الله وأن ما فيه حق وصدق لذلك تدبروا فيما لا تسعه عقول الآخرين وتفكروا فيما تبحّ فيه أقوالهم وتعجز عنه أفعالهم وأعمالهم هذه التي صار الآن يضرب بها وبمعلوماتهم وموضوعاتهم الأمثال فيما هو من أمور الدنيا ولوازمها ونحن تقهقرنا عن ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال تعالى «وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ» من جميع انواع الدواب والدابة تطلق على ما دبّ على وجه الأرض وفي بطون المياه من إنسان وحيوان وطير وحوت ووحش وحشرات وغيرها «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً» على تلك الأرض «فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ» وصنف «كَرِيمٍ 10» حسن كثير النفع
«هذا» الذي تشاهدونه أيها الناس وما قص عليكم من المخلوقات كلها «خَلْقُ اللَّهِ» الذي يدعوكم لعبادته رسولكم محمد بن عبد الله أسوة بمن تقدمه من الرسل الكرام «فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» من شركائكم الذين هم في غاية السفالة وأنتم تعبدونها وتتخذونها آلهة فإنها لم تخلق أو ترزق شيئا «بَلِ الظَّالِمُونَ»(3/479)
عاجزون عن جواب الحق لا يعترفون لنا بذلك لأنهم عن معرفتنا «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ 11» ظاهر يمنعهم من الاعتراف بنا لا يستطيعون إخفاءه.
مطلب من هو لقمان وحكمه ووصاياه وبر الوالدين:
ثم شرع يقص على رسوله من علم غيبه ليقصه على قومه فقال تعالى قوله «وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ» هو ابن باعوراء بن ناحود بن تارخ آزر والد إبراهيم عليه السلام، وقيل إن لقمان هذا الذي يقص الله تعالى علينا أخباره عبد حبشي، وقيل إنه أسود زنجي، وقيل السود أربعة: لقمان وبلال ومهجع مولى عمر بن الخطاب والنجاشي ملك الحبشة الكائن زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم ورضي عنهم وسيأتي ذكره في الآية 69 من المائدة في ج 3 واتفق الحكماء على أن لقمان كان حكيما لا نبيا قال في بدء الأمالي:
وذو القرنين لم يعرف نبيا ... كذا لقمان فاحذر عن جدال
وقالوا إنه عاش ألف سنة حتى أدرك داود عليه السلام وتلمذ لألف نبي وتلمذ له ألف نبي وكان مفتيا وقاضيا في بني إسرائيل قبل ظهور داود وهذا من خصائصه ومقتضيات شرع من قبله أما في زماننا هذا وشريعة من قبلنا من هذه الأمة الإسلامية عدم جواز الجمع بين الإفتاء والقضاء في رجل واحد لأن الإفتاء غير القضاء قالوا ونودي في المنام هل نجعلك خليفة بين الناس فقال إن خيرني ربي قبلت العافية ولم اختر البلاء وإن عزم فسمعا وطاعة فإن فعل بي ربي أعانني وعصمني، فقالت له الملائكة وهو لا يراهم ولم يا لقمان؟ قال إن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كل مكان إن عدل فبالحري أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، وذل الدنيا المؤدي إلى الجنة خير من شرفها الموصل إلى النار ومن اختارها على الآخرة فتنته ولم يصب نعيم الآخرة فعجبت الملائكة من حسن منطقه وبلاغته وكثير معناه فنام وانتبه وإذا هو يتكلم بالحكمة وهي الإصابة بالرأي والحنكة في الأمر وشيء يجعله الله تعالى في القلب فينوّره فيدرك فيه كما يدرك الناس بأبصارهم بل إدراك البصيرة آكد وأحق وأصدق لأن ما يدرك بالبصر يحتمل الخطأ وما يدرك بالبصيرة لا يحتمله، وقالوا إنه تكلم باثنى عشر بابا من الحكمة أدخلها الناس في كلامهم وقضاياهم،(3/480)
وقالوا إن سيده قال له اعطني أطيب مضغتين من الشاة فأعطاه القلب واللسان، ثم قال له أعطني أخبثهما فأعطاهما إياه أيضا، فسأله عن ذلك، فقال لا شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا. ومن حكمه ليس مال كصحة، ولا نعيم كطيب النفس، وشر الناس الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا. وقوله لابنه إن الدنيا بحر عميق غرق فيه كثيرون فاجعل سفينتك فيها تقوى الله وحشوها الإيمان وشراعها التوكل على الله، لعلك تنجو ولا أراك ناجيا. أي لأن النجاة بيد الله يهبها لمن يشاء من عباده ممن يوفقه للعمل الصالح. ولهذا قرن العمل الصالح مع الإيمان في أكثر آي القرآن حتى كأن الإيمان بلا عمل لا ينفع كالعمل بلا إيمان.
وقدمنا أن الإيمان وحده كاف للنجاة إذا شاء الله له الخلق والأمر. ومن حكمه قوله: من كان له من نفسه واعظ كان الله له حافظا، ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله عزا، والذل في طاعة الله أقرب من التعزز في المعصية، وضرب الوالد لولده كالسماد للزرع. وقال يوما لابنه لا تطلب الإمارة حتى تطلبك فإن طلبتك أعنت عليها وإذا طلبتها وكلت إليها، يا بني زاحم العلماء بركبتيك وانصت لهم بأذنيك، فإن القلب يحيا بنور العلم كما تحيا الأرض بماء السماء، يا بني لا تضحك من غير سبب ولا تمش من غير أرب، ولا تسأل عما لا يعنيك، يا بني لا تضيع مالك وتصلح مال غيرك فإن مالك ما قدمت ومال غيرك ما تركت. وله حكم أخرى كثيرة أفاضها الله عليه من نور معرفته ولهذا أعطاه الحكمة ومن يعطها فقد أعطي خيرا كثيرا. وكررت كلمة الحكمة بالقرآن سبع عشرة مرة في معان بالغة تكرمة لمن أوتيها فيا فوز من كانت الحكمة رائده في كل أحواله، ويا سعادة من عامل الناس بها بأقواله وأفعاله. قال تعالى لعبده لقمان «أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» صنيعه بك ولطفه عليك، وإن هنا مفسرة بمعنى أي لأن في إتيان الحكمة معنى القبول ولهذا فسرت بالشكر فإذا علم الإنسان أمرين أحدهما أهم من الآخر فإذا اشتغل بالأهم كان عمله موافقا لعلمه وإن أهمل الأهم كان مخالفا للعلم ولم يكن من الحكمة، وقد أمره ربه بشكر نعمه وبين فائدتها بقوله «وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ» إذ يعود نفعه إليها بازدياد النعم ورضاء المنعم «وَمَنْ كَفَرَ»(3/481)
نعم الله عليه فلم يؤد شكرها أو استعملها في معصيته فيرجع وبال كفره عليه «فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ» عنه غير محتاج لشكره «حَمِيدٌ 12» حقيق بأن يحمد نفسه بنفسه وإن لم يحمده أحد قمين بأن يحمده خلقه على السراء والضراء والشدة والرخاء، وجدير بأن يشكر ولو لم ينعم عليه «وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ» بتقوى الله والإحسان لخلقه أي اذكر يا محمد لقومك ما قاله لقمان لابنه من النصح «يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ» غيره بل اعبده خالصا باعتباره الإله الواحد الذي لا رب غيره «إِنَّ الشِّرْكَ» بالله تعالى يا بني واتخاذ آلهة من دونه للعبادة أو إشراك غيره معه في أعمالك الصالحة «لَظُلْمٌ عَظِيمٌ 13» لا أعظم منه أبدا لكونه وضع الشيء في غير محله، وهذا إشارة إلى التكميل لأن أعلى مراتب الإنسان الكمال في نفسه والتكميل لغيره، فقوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) إيماء إلى الكمال وإرشاده لابنه بما ذكر رمز إلى التكميل وكان رضي الله عنه أول ما بدأ بالإرشاد ابنه وبالأهم وهو الشرك إذ غلّظه بالوصف تحذيرا من قربانه، وهذا أيضا من الحكمة لأن الأقرب أولى بالمعروف والأعظم وزرا أوجب بأن ينهى عنه أولا. ومن حكمته أنه كان صحب داود عليه السلام وكان يشغله بسرد الدروع فيشتغل ولا يسأل عنه لماذا هو، فلما نظمها داود ونسجها ولبسها قال لقمان نعم لبوس الحرب هذا، وقال الصمت حكمة وقليل فاعله، فقال داود بحق سميت حكيما يا لقمان. ثم قال له ذات يوم كيف أصبحت يا لقمان؟ قال أصبحت بيد غيري، فصعق داود لقوله هذا، وفي سكوت لقمان وعدم سؤاله داود عن صنع السرد أي الزرد وهو الحلق الذي تنسج منه الدروع إعلام إلى أن اتباع أمر النبي لازم فيما يعقل وما لا يعقل إظهارا للانقياد والخضوع له والتعبد لله الذي أرسله. قال تعالى «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ» أن يبرهما ويحسن إليهما مؤمنين كانا أو كافرين «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً» بتعب ومشقة وضعف أوهن جسمها ثقله «عَلى وَهْنٍ» لأنه يتتابع عليها ضعف الحمل وضعف الطلق وضعف الولادة وضعف الرضاع فيحل بها شدة بعد شدة ومشقة بعد مشقة من تعاهده ومراقبته ليل نهار وتنظيفه صباح مساء وانشغال قلبها عنده في كل لحظة «وَفِصالُهُ» فطامه عن الرضاع(3/482)
الذي يكون «فِي عامَيْنِ» تعانيه به وهن أيضا، والعامان لمدة الرضاع هي غايتها، قال تعالى (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) الآية 233 من سورة البقرة، وسنبين تفصيله هناك إن شاء الله القائل للإنسان «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» فكما أني خلقتك فهما سبب في نشأتك ولهما حق التربية عليك كما لي حق
الخلق ولهذا فإن من لم يشكرهما لم يشكر الله، وبما أن حقهما ينقطع في الدنيا وحقه باق قال «إِلَيَّ الْمَصِيرُ 14» في الآخرة لا لغيري فإذا أحسنت لي بالعبادة ولهما بالإحسان وشكرت نعمتنا أثبناك وإلا عاقبناك، واعلم أيها الإنسان أنك مكلف بالإحسان لوالديك «وَإِنْ جاهَداكَ» حملاك وأقسراك «عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي» شيئا «ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» من أصناف الأوثان وكلفاك أن تعبدها معي أو من دوني «فَلا تُطِعْهُما» في هذا إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ومع هذا فعليك أن تديم الإحسان إليهما إذ يفهم من ظاهر الآية وجوب طاعتهما في كل شيء عدا الإشراك بالله مكافأة لعظيم حقهما، ومما يؤيد هذا قوله جل قوله «وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» ولا يمكن مصاحبتهما في الدنيا بالمعروف والحسنى إلا بطاعتهما فيما يأتيان ويذران ومعاملتهما بجميل الخلق والحلم احتمال الأذى والصفح عن غلطتهما وادامة البر والصلة لهما ولمن يوادهما ولو كانا كافرين، ومن البر إرشادهما بالمعروف إلى دين الحق والدعاء لهما بالتوفيق إذا لم يفعلا، وعلى كل تجب طاعتهما إلا في الإشراك فالأمر بطاعتهما عام خص منه الشرك فقط وما هو معصية كما مر، وقدمنا ما يتعلق بهذا بصورة مفصلة في الآية 24 من سورة الإسراء في ج 1 فراجعه ففيه كفاية، وقد ذكر الله تعالى مشقة أمه دون أبيه لأن مشقة الأب عبارة عن الكسب والنصب في سبيله والتألم والسهر لما يؤذيه مما قد تشاركه فيه الأم وتنفرد هي بذلك الوهن العظيم وإنّ ما ينفرد به الأب لا يعد شيئا بالنسبة لما تنفرد فيه الأم مدة حمله ورضاعه فضلا عن ولادته التي لا يضاهيها وهن. ثم أمر الله هذا الإنسان الذي خلقه وصوره وأحسن خلقه وهداه النجدين بقوله «وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ» الأنبياء فمن دونهم الأمثل فالأمثل وتخلق بأخلاقهم في الدنيا في ذلك كله وغيره، فيها إشارة إلى اتباع الشيخ(3/483)
الكامل من السادة الصوفية، تأمل وراجع الآية 38 من سورة المائدة في ج 3 والآية 120 من التوبة في ج 3 والآية 51 من الإسراء في ج 1، «ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ» جميعا في الآخرة أنت وأبواك وولدك والخلق كلهم «فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 15» في الدنيا إذ لا يخفى عليّ شيء من عملكم السري والجهري الخالص والمشوب، وسأجازي كلا بحسبه. وقد جاءت هاتان الآيتان معترضتين بين وصية لقمان لابنه على سبيل الاستطراد لما فيهما من المناسبة لما قبلهما ولما فيهما من النهي عن الشرك الذي هو أعظم المنهيات. قال بعض المفسرين إن المراد بهاتين الآيتين أبو بكر رضي الله عنه لأنه حينما أسلم جاء إليه عثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، فأنبوه على إسلامه وصار يأمرهم بالإيمان ويحذرهم من البقاء على الشرك ولم يزل بهم حتى أسلموا بإرشاده، نقلا عن ابن عباس رضوان الله عليهم أجمعين.
مطلب قوة إيمان سعد بن أبي وقاص وآداب المشي والمكالمة ومعاملة الناس:
وقال بعضهم إنها نزلت في سعد ابن أبي وقاص لأنه لما أسلم قالت له أمه:
لتدعن هذا الدين أو أترك الأكل والشرب والاستظلال حتى أموت فتعير فيّ وبقيت ثلاثة أيام لا تأكل ولا تشرب ولا تستظل وهو يراجعها ويتلطف بها ويقطع أملها من الرجوع عن الدين الحق، ولم تفعل وأصرت على ما عزمت عليه، فقال لها: والله لو كان لك مائة نفس وخرجت واحدة تلو الأخرى ما تركت ديني، فلما رأت ذلك منه عادت فأكلت وشربت واستظلت بعد أن أيست من رجوعه عن دينه رحمه الله ورضي عنه وحشرني معه لم تأخذه رحمه الله الأنفة الجاهلية التي كانت قريب عهد به لصلابته في دينه الذي اعتنقه حديثا كأنه كان قديما متلبسا به وشدة عزمه وحزمه ورغبته في الدين الحق ومن يهده الله فلا مضل له أبدا، على أن هذه الآية عامة تحتمل هذين السببين وغيرهما. قال تعالى حكاية عن عبده لقمان «يا بُنَيَّ إِنَّها» أي الخطيئة التي تعملها «إِنْ تَكُ» في الصغر والقلة «مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ» أو أقل وإنما ذكر الله هذه الحبّة لأنها أكثر ما تكون في أقوال العرب يضربون بها الأمثال عند المبالغة في قلة الشيء، وهذه الآية جواب عن قول ابن لقمان لأبيه يا أبت إذا أخطأت ولم يرني أحد هل أحاسب عليها أم لا؟ فأجابه بما ذكر الله(3/484)
وزاده تأكيدا بقوله «فَتَكُنْ» هذه الحبة «فِي صَخْرَةٍ» أي في بطنها ووسطها «أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ» بأن يستخرجها ويحاسب صاحبها عليها ويعاقبه من أجلها وهو يعلم ذلك ويعلم ما هو أدق منه، هذا إذا عملها، أما إذا كانت نية وحزما وعزما فقط فإنه يحاسبه عليها ولا يعاقبه، وإن كان امتناعه عن فعلها مخافة الله فإنه يثاب عليها كما سيأتي تفصيله في الآية 284 من سورة البقرة في ج 3 «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ» أيها الإنسان بعباده يعطف عليهم «خَبِيرٌ 16» بمكان وزمان الخطيئة التي تصدر من عبده وكذلك جميع ما يقع في كونه قليلا كان أو كثيرا ليلا أو نهارا «يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ» لربك «وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ» غيرك «عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ»
من الأذى وتحمل سوء أخلاق غيرك ولا تقابل أحدا بما يكره «إِنَّ ذلِكَ» الذي أمرتك به كله هو «مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ 17» المقطوعة المتحتمة على البشر تشير هذه الآية إلى أن هذه الأمور الأربعة مأمور بها كل الأمم وهو كذلك إذ لا تخلو أمة من التعبد بها قال تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) الآية 6 من سورة الزمر، وقال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الآية 14 من سورة الشورى الآتيتين، لأن المرسل الشارع واحد والمرسلين على طريقة واحدة والمرسل إليهم مختلفون فهم الذين يغيرون ويبدلون في الشرائع، قال تعالى «وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ» وجهك من اطلاق الجزء وإرادة الكل «لِلنَّاسِ» فتعرض به أنفة منهم وتكبرا عليهم بل قابلهم به كله بطلاقة وبشاشة ولين جانب وعطف ولطف وموعظة حسنة «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً» خيلاء تعاظما على الناس وبطرا أو تعجبا وفرحا وأنانيّة بنفسك الخبيثة «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» 18 على الناس بما يراه لنفسه من المناقب عليهم هذا وما قاله بعض المفسرين من أن المراد بقوله تعالى (وَلا تُصَعِّرْ) إلخ أي لا تذلل نفسك من غير حاجة فتلوي عنقك لا يناسب ما بعدها وأن تأويله بميله عن الناس أولى بالمقام لأنه من فعل المتكبرين المنهي عنه، قال ابن عباس رضي الله عنهما:
وكنا إذا الجبار صعر خدّه ... أقمنا له من ميله فتقوما(3/485)
وسياق ما قبله النهي عن أفعال المتجبرين وكذلك سياق ما بعده وهو قوله «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ» توسط وليكن بين الهرولة والتبختر وأن يكون تؤدة بالسكينة والوقار لأن الهرولة تذهب بهاء المؤمن والتبختر من الكبر وكلاهما مذموم راجع الآية 37 من الإسراء في ج 1، وقوله تعالى «وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ» ما استطعت وكلم الناس بقدر ما يسمعون ففيه الوقار لك والكرامة لمن تكلمه وكانت العرب في الجاهلية تفتخر بجهارة الصوت وتمدح به قال شاعرهم:
جهير الكلام جهير العطاس ... جهير الرداء جهير النعم
فجاء الإسلام بذمه لأن خفض الصوت أوقر للمتكلم واحفظ للأدب وأدمث للخلق وأبسط لنفس السامع وأدعى لفهمه ويكفي فيه ذما قوله تعالى «إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ» أقبحها وأوحشها وأمجّها للطبع «لَصَوْتُ الْحَمِيرِ 19» وذلك لأنه أشبه بأصوات أهل جهنم من حيث أوله زفير وآخره شهيق ولزيادة علوه يكاد أن يصرع سامعه القريب. فترشد هذه الآية الكريمة إلى أن رفع الصوت غاية في الكراهة ومخالف للآداب وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه أن يكون الرجل خفيض الصوت ويكره أن يكون جهيره، راجع الآية الأخيرة من سورة الإسراء في ج 1 تعلم أن كل هذا يؤيد ما جرينا عليه من أن المراد بالتصعير الإعراض عن الناس بالوجه تجبرا، قال تعالى «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» من الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغيرها والبحار والأنهار والمعادن والدواب وغيرها فكل ما فيها مسخر لمنافعكم أيها الناس «وَأَسْبَغَ» أتم وأكمل وأفاض «عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً» لتدركوها بحواسكم الظاهرة والباطنة المتقدمة في الآية 5 من سورة يوسف المارة، ومن النعم الظاهرة حسن الصورة واعتدال القامة وكمال الأعضاء والنطق بجميع الحروف والرزق والمال والجاه والأولاد والخدم والأمن والأدب والعافية التي هي أساس لكل نعم وكل نعمة دونها ليست بنعمة، ومن النعم الباطنة العقل والفهم والفكر والمعرفة والخلق الحسن والتروي في الأمر وعدا ذلك نعم كثيرة ظاهرة وباطنة أنعم الله بها على عباده لا يحصيها العبد ولا العد(3/486)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
قال تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) الآية 18 من سورة النحل ومثلها الآية 24 من سورة إبراهيم الآتيتين فراجعهما، ثم طفق جل شأنه يذكر بعض أحوال المتنطعين فقال «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ» نزلت هذه الآية في أمية بن خلف وأبي بن خلف وأضرابهم الذين كانوا يجادلون حضرة الرسول في صفات الله تعالى وهم جهال في الله لا علم لهم يستدلون به على جلال صفاته «وَلا هُدىً» يهتدون به إلى الصواب ليعرفوا عظيم قدرته وجليل هباته «وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ 20» يسترشدون به إلى أوامره ونواهيه ليعرفوا الحق من الباطل ومن كان كذلك ليس له أن يجادل في شيء من آيات الله فضلا عن ذاته المقدسة، أما أهل العلم والهدى والكتاب فإنهم لا يجادلون في ذلك لكمال يقينهم وصدق إيمانهم وقوة دينهم وشدة عقيدتهم فيه، وهؤلاء الفسقة
«وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ» واتركوا هذا الجدال المجرد عن أدلة عقلية صحيحة أو نقلية صريحة لأنها غير مستندة إلى كتاب أو اقتداء برسول «قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ» في هذا الجدال والمراء «ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا» من التقاليد المتناقلة، قال تعالى «أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ» أي آباءهم الذين كانوا يقتفون آثارهم «إِلى عَذابِ السَّعِيرِ 21» أي أيتبعونهم ولو كانوا كذلك؟! وهذه الآية على حد قوله تعالى (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) الآية 170 من البقرة في ج 3 بعد قوله حكاية عنهم (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) والواو هنا حالية والاستفهام للتعجب «وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ» نفسه من اطلاق الجزء وإرادة الكل وإنما صح لأن الإقبال بالوجه إقبال بالكل «إِلَى اللَّهِ» بأن يفوض أمره إليه ويخلص بقلبه وقالبه لجلاله «وَهُوَ مُحْسِنٌ» في أعماله وأقواله «فَقَدِ اسْتَمْسَكَ» توثق على أتم حال «بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى» القوية من الشدة في الحبل المتين المأمون الانقطاع أي اعتصم بعهد الله الذي لا ينقض ووعد الله الذي لا يخلف بخلاف عهد ووعد الكفرة الذين لا يهمهم النكث فيه والخلف له لعدم تقيدهم بدين صحيح يرجعون إليه، مثل الله تعالى حال المتوكل عليه المخلص له بحال المتدلي من علو أو المترقي إلى فوق المحتاط لنفسه من الوقوع بأن يتمسك بأمتن(3/487)
عروة من عرى الحبل «وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» 22 لا لأحد سواه وله فيها الأمر يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد «وَمَنْ كَفَرَ» بعد إبداء هذه الدلائل الناصعة والإرشاد الصريح «فَلا يَحْزُنْكَ» يا سيد الرسل «كُفْرُهُ» لأن وباله عائد عليه وهو وأضرابه «إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ» في الآخرة، جمع الضمير باعتبار معنى من حيث تصلح للجمع والافراد «فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» في الدنيا ويحاسبهم عليه ويجازيهم بمقتضاه «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ 23» دخائلها فما بالك بغيرها إذ هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، تأمل فيما حكاه الله عن لقمان في مخاطبته لابنه تعلم بعض معلومات الله في خفايا الأمور، قال تعالى وهؤلاء «نُمَتِّعُهُمْ» في هذه الدنيا «قَلِيلًا» مدة آجالهم المقدرة لهم فيها في علمنا وهي مهما كانت، قليلة «ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ» نلجئهم في الآخرة فنردهم ونسوقهم سوقا عنيفا «إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ 24» قاس شديد فظيع لا يقادر قدره ولا تطيقه الأجسام، قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ» فقلت يا سيد الرسل لعبدة الأوثان «مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» فإنهم حتما «لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» وحده خلقها وبرأ ما فيها فيا أكرم الرسل «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» على إلزامهم الحجة بالإقرار على دلائل التوحيد بحيث لا ينكرها الجاحد المكابر «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ 25» أنهم ملزمون بهذا الإقرار حتى إذا نبهتهم لم ينتبهوا له. وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 7 فما بعدها من سورة العنكبوت الآتية إن شاء الله «لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف فيهما وبمن فيهما كيف شاء «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ» عن جميع عباده وكل مكوناته «الْحَمِيدُ 26» في ذاته وصفاته وأفعاله.
مطلب الآيات المدنيات وسبب نزولها والحكمة من تأخيرها:
وهذه الآيات المدنيات الثلاث وسبب نزولها أن اليهود قالوا يا محمد بلغنا أنك تقول: (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) الآية 85 من الإسراء في ج 1 أتعنينا بهذا أم قومك فقط؟ قال كلا عنيت، قالوا ألست تقول وتتلو فيما جاءك أنا أوتينا التوراة فيها علم كل شيء يريدون الآية 145 من الأعراف في ج 1 والآيات 43 فما بعدها من المائدة في ج 3 قال صلّى الله عليه وسلم هي من علم الله قليل وقد آتاكم الله بما إن(3/488)
عملتم به انتفعتم (يعني القرآن) قالوا تزعم هذا وأنت تقول (مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) الآية 269 من البقرة في ج 3، لأن هذه الحادثة وقعت بالمدينة بعد نزول سورة البقرة وهي أول ما نزل فيها فكيف يجتمع علم قليل مع خير كثير فأنزل الله تعالى «وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ» مدادا حبرا يكتب فيها كلها «ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ» إذ لا نهاية لها «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» لا يعجزه شيء منيع لا يغلبه غالب «حَكِيمٌ 27» لا يخرج أمر عن حكمته وهذه ماهية علم الله وقد آمنت بها لأنه كما أنه لا يعرف كنه ذاته أحد فلا يعرف ملاك علمه أحد ولا يحيط علم الخلق كلهم بمعلوماته وهذه الآية أبلغ من آية الكهف 108 الآتية المتقدمة عليها في النزول لأنها مكية وهذه مدنية فراجعها فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، قال تعالى «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ» أيها الناس بالنسبة لقدرة الخلاق «إِلَّا كَنَفْسٍ» أي خلق وبعث نفس «واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لأقوالكم «بَصِيرٌ 28» بأعمالكم فاحتفظوا أن يراكم حيث نهاكم «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ» يدخله ويدبحه فيه «وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» أيضا بصورة مستمرة «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ» منهما «يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده دائبا إلى يوم القيامة راجع الآية 13 من سورة فاطر في ج 1 والآية 5 من سورة الزمر الآتية «وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 29» لا يخفى عليه شيء من أعمالكم كلها ولقائل أن يقول ما هو السبب في تأخير هذه الآيات عن سورها ولم تنزل معها المكية في مكة والمدنية في المدينة؟ فنقول إن تأخيرها لأمر اقتضته الحكمة الإلهية، لأن الله رتب الأسباب على مسبباتها، وقد سبق في علمه الأزلي أن يكون السؤال عنها والواقعة المنبئة عنها في المكان والزمان الذي قدره لها أزلا فأخر تنزيلها لوقتها، لأن لكل شيء أجلا ولكل أجل كتاب وقد ذكرنا غير مرة أن أفعال الله لا تعلل وأن ما جاء عنه وعن رسله مما لم نعقله لقصر فينا يجب أن نعتقده ونعمل فيه ولا نسأل عن السبب إذ علينا الامتثال والإيمان والتسليم وإلا إذا ترددنا وشككنا أو توقفنا فلسنا بمؤمنين ولا مسلمين، تدبر هذا(3/489)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
وسلم تسلم. واعلم أن كل ما خطر ببالك فالله فوق ذلك ويكفيك أنه لا يسأل عما يفعل، راجع بحث نزول القرآن في المقدمة تعلم أن «ذلِكَ» الإله القادر على خلق السموات والأرض وما فيهما المدبر أمرهما والمسخر ما فيهما من أجرام مولج الليل في النهار وبالعكس ومجري الكواكب في أفلاكها بانتظام والجاعل ما فيها منه ما هو مستقر وما هو سائر في محوره وما هو جار في غيره وما هو طالع وما هو آفل الذي جعل في هذا العكس والطرد والاختلاف والاتفاق والسير والقرار الجاعل فيها منافع مخصوصة منها ما اطلع عليه البشر ومنها ما لم يطلع عليه تعلم أيها القارئ المتدبر «بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» وأن ما يوقعه في ملكه هو الحق وأنه الإله الذي لا إله غيره المستحق للعبادة المستجيب للدعاء «وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هو الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ» في صفاته «الْكَبِيرُ 30» السلطان في ذاته العظيم الشأن المتعال في أسمائه الحسنى ونظير هذه الآية الآيتين 7/ 63 من سورة الحج في ج 3
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ» عليكم أيها الناس «لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ» العجيبة الدالة على كمال قدرته «إِنَّ فِي ذلِكَ» السير على الهواء المجرد مع عظمها وثقل حمولتها «لَآياتٍ» بديعات «لِكُلِّ صَبَّارٍ» على أوامره وتحمل ابتلائه «شَكُورٍ 31» لنعمائه في سرانه وضرائه، وهذان الوصفان من أكمل سمات المؤمن لأن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر، وإنما ذكر الله تعالى هذين الوصفين بعد ذكر الفلك لأن الراكب فيها لا يخلو عنهما كما لا يخلو من الاستدلال على قدرة الله وعظيم نعمته على خلقه. قال تعالى «وَإِذا غَشِيَهُمْ» الكفرة المذكورين أثناء ركوبهم البحر «مَوْجٌ كَالظُّلَلِ» بارتفاعه إذ يصير فوقهم كالظلة يظل من تحته كالسحاب والجبل الشاهق ورأوا الموت بأعينهم بأن تحقق عندهم الغرق «دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» وينسون أوثانهم التي يشركونها في عبادته حالة الرخاء والأمن وذلك لعلمهم أنه لا ينجيهم من الشدائد إلا هو «فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ» وأمنوا الغرق الذي كان محيقا بهم «فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» متوسط في حاله لانزجاره في الجملة عدل فيما عاهد الله عليه، ومنهم من لم يوف بعهده ولم يعتبر بما أراه الله من الخوف والأمن وهو المعنى بقوله تعالى(3/490)
«وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ» غدار نكاث للعهد نقّاض للوعد «كَفُورٍ 32» جحود لتلك النعمة كما هو جحود لغيرها من قبل ولم يذكر في هذه الآية السابق بالخيرات لأن الأصناف ثلاثه، راجع الآية 32 من سورة فاطر في ج 1. وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنهما، وما قيل إنها نزلت في عكرمة ابن أبي جهل حين هرب عام الفتح إلى البحر وقد أمّن رسول الله الناس إلا أربعة، إذ قال صلّى الله عليه وسلم اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة. وهم عكرمة هذا وعبد الله ابن حنظل ومقيس بن حبابة وعبد الله بن أبي صرح، وأنه لما ركب البحر جاءهم ريح عاصف فقال أهل السفينة أخلصوا لله ربكم فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا، فقال عكرمة لئن لم ينجني في البحر الإخلاص لله الواحد فما ينجيني في البر غيره، اللهم إن عافيتني مما أنا فيه لآتين محمدا وأضع يدي بيده ولأجدنّ عفوا كريما، فسكن الريح فرجع إلى مكة وأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه لا يصح، لأن هذه الآية مكية نزلت قبل الهجرة وعكرمة أسلم سنة الفتح فبين نزول هذه الآية وحادثة إسلام عكرمة سنتان وإن ما نزل بعد الهجرة يكون مدنيا وعكرمة بعد إيمانه ذلك لا يسمى (مقتصدا) بل كامل الإيمان لأنه جاء طائعا راضيا مختارا إلى حضرة النبي وآمن به إيمانا خالصا وعمل بإيمانه ومات عليه، قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ» فلا يفيده شيئا ولا يغنيه من عذاب الله فتيلا «وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً» حذف شيء من الأول لدلالة الثاني عليه على حد قوله:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
وذلك لأن كل إنسان يقول فيه نفسي نفسي فلا شفقة ولا خلة ولا شفاعة إذ ذاك إلا لمن ارتضى فإذا كان هؤلاء ينقطع بينهم المودة ولا أشفق من الوالد على ولده ولا أعظم حجة منه له ولا حق أكبر من حق الوالد على ولده ولا أوجب حرمة عليه منه ولا طاعة له إلا لله ومع هذا لا يلتفت أحدهم للآخر فغيرهم من باب أولى وذلك لشدة الهول واهتمام كل امرئ بنفسه قال تعالى (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) الآية 18 من سورة عبس المارة ج 1، وهذا مما وعد(3/491)
الله به عباده «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» كائن لا محالة في ذلك اليوم الذي يكون فيه المشاححة بين الناس كما أن وعده في غيره حق أيضا «فَلا تَغُرَّنَّكُمُ» أيها الناس هذه «الْحَياةُ الدُّنْيا» لأنها فانية فلا تنخدعوا بزخارفها وتمويهها «وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ 33» الشيطان الذي أوقعه في البلاء غروره وكل ما يغر الإنسان من مال أو جاه أو شهوة فهو غرور لأنها كلها من طرق الشيطان التي يزينها للناس فهو أخبث الغاوين فلا يرجيكم بالتوبة ويمنيكم بالمغفرة، وإنه يدس لكم السم في الدسم لأن الإنسان لا يدري متى يباغته أجله وإذ ذاك يندم ولات حين مندم وتكون ممن سقط في يده راجع الآية 5 من سورة فاطر في ج 1 في هذا البحث، فعلى العاقل أن يسرع في التوبة ويجتهد في العبادة كي يلاقي ربه على حالة مرضية، لأن الإنسان يموت على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه فلربما جاءه الموت وهو يتلبس بحالة سيئة والعياذ بالله فيندم من حيث لا ينفعه الندم والله تعالى وإن أمهل عبده فإنه لا يهمله وقد يستدرجه من حيث لا يعلم.
مطلب الأمور الخمسة التي لا يعلمها إلا الله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» وقت قيامها في أي سنة وشهر ويوم وساعة ولحظة من ليل أو نهار «وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ» في الوقت والزمان والمكان الذي يريده ويقدره له بقدر معلوم عنده «وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ» هل ذكر هو أم أنثى تام الخلق أم ناقصه أو زائد فيه، احمر أو أسود أو ما بينهما من الألوان حين قذف النطفة من الرجل في رحم المرأة كما يعلم أجله ورزقه وشقيا أو سعيدا وما يعتريه من تكوينه إلى موته وإلى بعثه وحشره وإلى دخوله الجنة أو النار وما بعد ذلك، فالأشعة الحديثة عجزت عن معرفة الولد بعد كمال خلقه في بطن أمه أهو ذكر أم أنثى والله تعالى أخبر أنه يعلم ذلك كله وهو نطفة في الرحم لم يكوّن بعد كما يعلم ما وراء ذلك من الحالات التي تعتوره إلى ما شاء الله والبوصلة المحدثة لمعرفة نزول المطر المشار إليها في الآية 102 من سورة الصافات المارة لا تدل إلا على ترطيب الجو المستفاد منه مظنة نزول المطر خلال أربع وعشرين ساعة على الأكثر ولا يمكن بوجه من الوجوه أن يعرف منها وقت نزوله على الضبط البتة،(3/492)
لأن الله تعالى قد يحدث في الجو ما يسلب منه تلك الرطوبة التي دلت عليها الإبرة من تأثير الرياح أو غيرها فلا ينزل المطر لذلك فلا تتعارض هذه الإبرة وغيب الله تعالى، لإنه مما اختص به فالبشر مهما بلغ من العلوم والمعارف عاجز أن يعلم شيئا من الغيب المبين في هذه الآية. وبمناسبة هذا كان أخبرني ذات يوم السيد جميل بك السلاحوار من أهالي حلب بأن أذهب إلى الدار لأنه ستصير اليوم عواصف قوية، فقلت له من أين عرفت هذا؟ قال من الإبرة الموجودة لدي فقلت له لا يكون شيء إن شاء الله، فقال لا بد من كونه، ثم تفرقنا ولم يقع شيء طيلة اليوم والليلة، فصادفته في اليوم الثاني وقلت له أين ما أخبرتني به من العواصف البارحة، فقال يا أخي إنه أمر محقق ولكن حدث في الجو تبدل حال دون وجودها والله على كل شيء قدير، فقلت له من الآن فصاعد لا تجزم بشيء من هذا فإن الله تعالى يغير الأحوال، فقال آمنت بالله وصدقت. وإن ما يعدّه أهل هذا العصر من العلوم المحدثة بزعمهم قد تكون قديمة لأنهم لم يطلعوا على كل ما اطلع عليه الأوائل من العلوم فمن ينظر إلى فنّ الهندسة وصنع الأبنية القديمة والأصباغ والنقوش والتصوير والتصبير يعلم أن الأواخر لم يبلغوا بعد ما بلغه الأوائل لأنهم حتى الآن عن معرفته عاجزون وهناك تحنيط الأموات لم يقفوا على أجزاء تركيبه ومرض السرطان لم يقفوا على توقيفه مما يدل على أن جل الأشياء قديمة والناس يتأسون بآثارهم ويقتفون مآثرهم فما عثروا عليه برعوا. به وما لم يعثروا عليه فسيعثرون عليه بعد لأن الدنيا لم تكمل بعد راجع الآية 24 من سورة يونس المارة «وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً» من خير أو شر «وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ» في سهل أو جبل في قرية أو بادية في بحر أو نهر ولا تدري بأي أرض تدفن ولا كيفية موتها هل بحرق أو تردي أو غرق أو افتراس أو غير ذلك، وهذان الأمران وأمر الساعة لم يتطرق إليها بحث ما بوسائل معرفتها من أهل العلوم العصرية البتة ولما يتطرق والله أعلم. لأن نهاية عقول العالمين فيها عضال وغاية سعي الساعين فيها ضلال ولهذا فإن كل ما بذله ويبذله البشر لمعرفة هذه الأمور الخمسة على الحقيقة غايته العجز لأن ما اختص الله به لنفسه لم يطلع عليه عباده،(3/493)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)
لذلك فإن نتيجة البحث فيها عقيمة، وعاقبتها وبال إذ قد تؤدي إلى اختلال العقل أو الانتحار لأن لكل علم أصولا تحده ولا حد لعلوم الله، وإذا تدبرت في قوله تعالى (عِنْدَهُ) وكلمتي (وَما تَدْرِي) (وَما تَدْرِي) علمت أنهما تشيران إلى أن هذه الثلاثة لا يحوم حول حماها البشر وإن الاثنين الآخرين وهما نزول الغيث وما في الأرحام قد يتطرق إليهما لأن العلم فيهما لا ينافي علم الله ولكن لا يقف على ما فيهما على الحقيقة فلا يبلغون مداهما مهما توغلوا فيهما كما هو في علم الله، وإذا تأملت قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ» الإله العظيم المبدع هو وحده لا غير «عَلِيمٌ» في هذه الأشياء
الخمسة وغيرها «خَبِيرٌ 34» بتفصيلاتها وأزمان حدوثها وقد علمت أنها من خصائصه لا دخل لخلقه فيها فسلم تسلم واعتقد ترشد. واعلم أن كل ما خطر ببالك فالله فوق ذلك، وسبب نزول هذه الآية على ما قالوا هو أنه جاء الحارث بن عمرو بن حارثة ابن حفصة من أهل البادية فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الساعة ووقتها وقال إن أرضنا أجدبت فقل لي متى ينزل الغيث وتركت امرأتي حبلى فما تلد ولقد علمت بأي أرض ولدت فأخبرني بأي أرض أموت، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: مفاتح الغيب خمس وتلا هذه الآية. ويوجد في القرآن سورتان مختومتان بلفظ (خَبِيرٌ) هذه والعاديات فقط، هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة سبأ عدد 8- 58- 34
نزلت بمكة بعد لقمان إلا الآية 6 فإنها نزلت بالمدينة وهي أربع وخمسون آية، وثمنمئة وثلاثون كلمة، وألف وخمسمائة واثنا عشر حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف فيهما وما فيهما كيف يشاء ويختار «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ» كما لذاته المقدسة في الدنيا إلا أن الحمد في الدنيا يكون سنة دائما ويكون واجبا بمقابلة النعمة وليس هو في الآخرة كذلك(3/494)
لأنها ليست بدار تكليف وإنما يكون الحمد فيها سرورا بالنعم وتلذذا بما يناله أهلها من الشهوات قال تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) الآية 75 من سورة الزمر الآتية (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الآية 34 من سورة فاطر في ج 1، وفيه الآيتان من سورة النمل (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ) 15 الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) 60 فهو الحقيق بالحمد الجدير بالشكر الخليق بالمدح دنيا وأخرى «وَهُوَ الْحَكِيمُ» بتدبيرهما وما فيهما كما أحكم أمرهما وأمر من فيهما «الْخَبِيرُ 1» بما كان وسيكون فيهما «يَعْلَمُ ما يَلِجُ» مقدار ما يدخل ويتغلغل ويكون «فِي الْأَرْضِ» من المطر والنبات والمعادن والكنوز والبذور والأموات وغيرها «وَما يَخْرُجُ مِنْها» من النبات والعيون وأنواع المعادن والكنوز وغيرها لأن منها ما هو داخل ومنها ما هو خارج «وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ» من أمطار وثلوج وصواعق وبركات وغيرها «وَما يَعْرُجُ فِيها» من أقوال وأعمال وملائكة وطيور ومن اختصه من خواص خلقه كإدريس والياس واليسع وعيسى ومحمد عليهم السلام وأرواح الأنبياء والشهداء والصالحين راجع الآية 57 من سورة مريم وأول سورة الإسراء في ج 1 والآية 132 من الصافات المارة والآية 56 من المائدة الآتية في ج 3 «وَهُوَ الرَّحِيمُ» بإنزال ما يحتاجه خلقه وادخاره لمنافعهم «الْغَفُورُ 2» لما يقع منهم من السوء والمعاصي لسعة حلمه وعظيم عفوه وكبير عطفه «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» مع هذا كله «لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ» فأقسم جل قسمه وأكده باللام والنون ثم خصه بما يدل على زيادة التأكيد بقوله لحبيبه «قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ» الساعة المقدر إتيانها في علمه وقد وصف حضرته المقدسة بقوله «عالِمِ الْغَيْبِ» الذي من جملته الساعة وذلك لأنهم أنكروا البعث واستبعدوا وعد الله فيه واستبطأوا تنفيذ تهديده ولذلك جاء الجواب بهذا القسم العظيم وأكد علمه للغيب كله بقوله جل قوله «لا يَعْزُبُ» يغيب ولا يبعد «عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ» المثقال «وَلا أَكْبَرُ» منه «إِلَّا» وهو مدون «فِي كِتابٍ مُبِينٍ» لكل شيء الذرة فما فوقها من نام وجامد وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ عنده(3/495)
الجامع المانع وهو وما فيه في علم الله تعالى، كلا شيء راجع الآية 61 من سورة يونس المارة ثم بين سبب إتيان الساعة بقوله عز قوله «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في الدنيا جزاء حسنا في الآخرة «أُولئِكَ» المؤمنون ذوو الأعمال الصالحة «لَهُمْ» فيها عند ربهم «مَغْفِرَةٌ» لذنوبهم وستر لعيوبهم «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ 4» في جنات النعيم «وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا» قصد إبطالها وتكذيبها ويحسبون كونهم «معجزين» لنا، كلا، لا يظن هؤلاء المفسدون أنهم يفوتوننا ولا ينالهم عقابنا لأنهم في قبضتنا ولا ملجأ لهم غيرنا وقرىء مُعاجِزِينَ ويعزب بكسر الزاي والضم أفصح «أُولئِكَ» الساعون بذلك لا ينجون منا وإن مرجعهم إلينا «ولَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ» هو أشد كل عذاب وأسوأه ويطلق على الموت ولذلك وصفه بقوله «أَلِيمٌ 5» لا تقواه قواهم وهذه الآية المدنية المستثناة من هذه السورة.
مطلب أصول الدين التي لا يتطرق إليها النسخ والآية المدنية وما وقع من هشام وزين العابدين:
قال تعالى «وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» من مؤمني أهل الكتاب وأصحاب حضرة الرسول ويدخل في هذه الآية علماء هذه الأمة وخواصها الموجودون حين نزولها ومن بعدهم إلى يوم القيامة أي يعتقدون بأن «الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ» الذي لا مرية فيه كما يروا كتبهم حقا لأنها منزلة من لدنا «وَ» يرون أيضا أنه «يَهْدِي» يدل ويرشد «إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ» الغالب لكل شيء «الْحَمِيدِ 6» لعمل عباده المحمود منهم كما أن كتبهم أيضا تدل على طريق الله وتحت الناس على سلوكه لأن الكل منه ولأن مبلّغيها أنبياؤه ورسله، فجميع الكتب السماوية لا تختلف قيد شعرة في أصول الدين الحق التي هي التوحيد والنبوة والمعاد، لأن من أنكر أحدها فليس من أهل الكتاب، وأما الفروع ففيها اختلاف لأنها معرضة للتبديل والتغيير بحسب المصلحة والزمن والمكان لأن النسخ الوارد لا يتطرق إلا للفروع ويحول حول تلك الأصول البتة، وكونه في العبادات من صفاتها، وفي المأكولات من أصنافها وأجناسها، وفي ضروب الملبوسات وأنواعها(3/496)
والحلي والزينة وتعلقاتها، وأنواع المعاملات وتفرعاتها فقط، وإنما أدخلنا أصحاب الرسول وخواص هذه الأمة في هذه الآية مع أنها في أهل الكتاب نزلت لأن لفظ أوتوا العلم يشملهم وهم متصفون بما احتوت عليه، وفّق الله هذه الأمة للتمسك بها وإرشاد الزائغين عنها وأدام النفع بعلمائها وصلحائها إلى يوم القيامة وهم ملح الأرض لا خلا الكون منهم. انتهت الآية المدنية وهي كغيرها معترضة بالنسبة لما قبلها وبعدها وهذا من كمال بلاغة كتاب الله وفصاحته «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بعضهم لبعض في تقرير إنكار البعث فيما بينهم عطف على الآية الثالثة فما بعدها «هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ» يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلم عبروا عنه بلفظ النكرة تجاهلا وهو عندهم العلم المفرد قال الأبوصيري:
خفضت كل مقام بالإضافة إذ ... نوديت بالرفع مثل المفرد العلم
كيف لا وهو أعرف المعارف وأشهر من الشمس في رابعة النهار وهكذا آله المقتفون أثره ومن هذا ما وقع لهشام بن عبد الملك حين أراد أن يستلم الحجر الأسود ولم يتمكن لازدحام الناس عليه ممن يعرف كونه الملك ومن لا يعرفه ولما جاء حينذاك زين العابدين وأراد استلامه انشق له الناس صفّين احتراما له حتى مشى بينهم على هينة واستلم فقال هشام تجاهلا من هذا فأجابه الفرزدق فورا:
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا
وليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم
إلى آخر قصيدته الرنانة التي سارت بها الركبان ولم يبال بسلطانه تجاه آل البيت الذين أوجب الله محبتهم علينا، قالوا وكانت امرأته معه فقالت له والله هذا هو الملك والشرف لا ملكك وسلطانك، وهكذا كانت الشعراء تصدع بالحق ولا تخشى الملوك فماذا تراهم لقاء غيرهم وأين شعراؤنا الآن منهم فقد تبدل كل شيء ولا حول ولا قوة إلا بالله الذي «يُنَبِّئُكُمْ» أيها الكفرة ويقول لكم ذلك الرجل إنكم «إِذا مُزِّقْتُمْ» قطعتم وفرقت أوصالكم وفتتت «كُلَّ مُمَزَّقٍ» بحيث صرتم ترابا ورفاتا وهباء «إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ 7» فتنشئون كما كنتم، وهذا بزعمهم أعجوبة غريبة لا يمكن أن تكون ولا تعرف من قبل. ثم تساءلوا بينهم(3/497)
ما ترون «أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» فيما يقوله هذا الرجل «أَمْ بِهِ جِنَّةٌ» وصار بحيث لا يعي ما يقول ولا يدرك مغزى كلامه مما يلقى على لسانه من الوهم والخيال فيظنه حقيقة، فرد الله عليهم بقوله «بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» أمثالكم الذين يستعظمون على الخالق الأول إعادة ما خلقه بعد أن أماته، هم المختلة عقولهم الكذبة في هذه الدنيا الذين سيكونون غدا بالآخرة التي يجحدونها «فِي الْعَذابِ» الشديد «وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ 8» عن الحق الذي كانوا ينكرونه في الدنيا ويكذبون رسل الله الذين جاؤهم به «أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» المحيطة بهم وهما في قبضتي «إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ» كما خسفناها بقارون وصاحبيه «أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً» قطعا «مِنَ السَّماءِ» كما اسقطنا على أصحاب الأيكة «إِنَّ فِي ذلِكَ» الخسف والإسقاط وما في السماء والأرض من آيات وعبر «لَآيَةً» عظيمة وعظة مؤثرة «لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ 9» خاشع خاضع لإلهيّتنا كافية بأن يستدل بها على قدرتنا الكاملة وعظمتنا الجليلة.
مطلب مميزات داود وسليمان ومعجزات القرآن وكيفية موت سليمان عليهم السلام:
قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا» الملك والكتاب مع النبوة والرسالة ولم تجمع لنبي قبله، وزدناه على ذلك حسن الصوت حين يتلو الزبور الذي أنزلناه عليه، ولقد خصصناه بفضل آخر على إخوانه المرسلين بأن «قلنا يا جِبالُ أَوِّبِي» سبّحي الله واذكريه «مَعَهُ وَالطَّيْرَ» سخرناها له أيضا وأمرناها بأن تسبح معه فكان عليه السلام إذا سبح ربه سبحت معه الجبال والطيور والخلائق بدوي يبهر العقول والأسماع فيالها من نعمة عظيمة «وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ 10» خاصة له أيضا ليعمل منه لبوسا للحرب ولم يلنه لأحد قبله، ومع هذه النعم العظام كان عليه السلام يتنكر ويمشي في قومه ويسألهم عن نفسه ليعرف عيوبه ولا عيب فيه وإنما يفعل ذلك تعليما لأمته، فقيض الله له ملكا في صورة بشر فقال له عند ما سأله نعم العبد لولا خصلة واحدة قال وما هي قال إنه يأكل من بيت المال هو وعياله، فتنبه وسأل ربه أن يغنيه عنه، فعلمه صنعة الدروع التي تقي لا بسيها تأثير(3/498)
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
ضرب السيف والرمح بمشيئة الله تعالى، وإلا فلا واقي من قدر الله، وهو أول من نسجها واتخذها آلة للحرب، وكانت قبل صفائح فصار يعمل منها وببيعها ويأكل هو وأهله من ثمنها ويتصدق بالفضلة وأوحى إليه تعالى
«أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ» ألهمه ربه كيفية عملها، وقيل إنّ (أَنِ) هنا مفسرة لألنا له الحديد ليعمل دروعا واسعة، من السبوغ بمعنى التمام والكمال فغلب على الدروع وقيل في المعنى:
لا سابغات ولا جاءوا بأسلتة ... تقي المنون لدى استيفاء آجال
وتجمع على سوابغ كما في قوله:
عليها أسود ضاربات لبوسهم ... سوابغ بيض لا تمزقها النّبل
والسرد خرز ما خشن وغلظ قال الشماخ:
فظلت سراعا خيلنا في بيوتكم ... كما تابعت سرد العنان الخوارز
واستعير لنظم الحديد والنظم اتباع الشيء بالشيء من جنسه فيقال للدرع مسرودة لأنه توبع فيها الحلق بالحلق قال:
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبّع
ثم علمه الله تعالى كيفية نسجها فقال «وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ» أمره ربه بالتقدير عند نسج الدروع لئلا تكون المسامير رقاقا رفيعة فتفلت ولا غلاظا كبارا فتكسر الزرد ثم خاطبه وآله بقوله «وَاعْمَلُوا» آل داود «صالِحاً» فيما يتعلق بأمور دينكم ودنياكم لا في عمل الدروع خاصة لعموم الخطاب، ولم يخلق الإنسان إلا لأن يعمل صالحا وأوله عبادة الله ثم صيانه النفس من مشاق الدنيا والآخرة ثم الأدنى فالأدنى حتى الحيوان، يؤيد هذا قوله «إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 11» لا يخفى علي شيء فلو كان خاصا بالدروع لما احتاج إلى هذه المراقبة المؤكدة، هذا وقد ظهر أن الحكمة من إلانة الحديد هو تعلمه هذه الصنعة التي هي من لوازم الجهاد الذي هو أحد أركان الدين. قال تعالى «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ» سخرها له كما سخر لأبيه داود ما ذكر «غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ» عند ما تسير به وبحاشيته على البساط، قالوا كانت تسير من دمشق إلى إصطخر صباحا فيتغدى فيها ويستريح ثم تسير من إصطخر إلى كابل مساء فيبيت فيها وهذه مسافة شهرين على(3/499)
الأقدام والإبل وهو يقطعها في ساعتين أو ثلاث ساعات من أول النهار وآخره على أكثر تعديل إذا كان يسير سيرا وسطا بريح ليّنة، وعليه فإنه عليه السلام يقطع مسافة شهر بساعة واحدة أو ساعة ونصف على بساطه بقصد النزهة فإذا حزبه أمر فيمكنه أن يقطع تلك المسافة وأكثر بطرفة عين بالريح العاصف كما جيء له بعرش بلقيس من اليمن إلى الأرض المقدسة بلحظة واحدة وهذا مما يعجز عنه البشر لأن الطائرات الحديثة مهما عظمت لا تقطع هذه المسافة بطرفة عين، وكذلك القطارات مهما عظمت لا تقدر أن تفله وتنقله بمثل هذه المسافة بالنظر لوصفه المار ذكره في الآيتين 23- 42 من سورة النمل المارة في ج 1، ولهذا البحث صلة في الآية 81 من سورة الأنبياء الآتية، فانظر رعاك الله قبل اختراع الطائرات هل كان أحد يصدق إمكان اجتياز مسافة شهرين بغدو ورواح ومسافة كل منهما تقدر بساعة أو ساعة ونصف إذ تقدر مسافة كل منهما من ثلاثة أميال إلى خمسة على أكثر تعديل لأن الغدو، والرواح يطلق كل منهما على ساعة واحدة أو ساعة ونصف راجع كتب اللغة تجد أن الغدو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس والرواح آخر ساعة من النهار بما يقابل الغدو، على أنا لا نعلم ماذا يحدث بعد لأن الله علم الإنسان ما لم يعلم وسيخلق لنا ما لم نعلمه لأن عمل البشر من خلقه ولولا أن يقدرهم عليه لما استطاعوا عمله تدبر معجزات القرآن وإخباره بالمغيبات المشيرة إلى هذه الحوادث والوقائع الكائنة والتي ستكون راجع الآية 38 من سورة الأنعام المارة. قال تعالى «وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ» هو النحاس قال تعالى (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) الآية 92 من سورة الكهف الآتية، أي انه تعالى أذاب له النحاس كما ألان الحديد لأبيه «وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ» كل شيء يأمرهم به فيذعنون له قسرا لأن الله تعالى هددهم بقوله «وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا» الذي أمرناهم به وهو لزوم طاعته فيما يأمر به سليمان وينهى وأن ينقادوا له وأن الذي يمتنع أو يحاول «نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ 12» قالوا وكل الله بهم ملكا فمن أمره سليمان منهم فامتنع ضربه بسوطه فيحترق والله قادر على أكثر من ذلك فصاروا «يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ(3/500)
كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ»
فالمحاريب اسم للقصر العظيم يحارب صاحبه غيره بحمايته وهو اسم مبالغة لمن يكثر الحرب ويطلق على المكان الذي يقف فيه الإمام قال ابن حيوس:
جمع الشجاعة والخشوع لربه ... ما أحسن المحراب في محرابه
والقدور معلومة والجفان الأواني التي يوضع فيها الطعام وانظر إلى قول الأعشى في ذلك:
نفى الذمّ عن آل المحلق جفتة ... كجابية السيح العراقي تفهق
وقول الأفوه الأودي:
وقدور كالربى راسية ... وجفان كالجوابي مترعة
أي ملأى بالطعام ووصف القدور بأنها راسيات لعظمها لأنها لا تنقل من محلها بل تبقى على الأثافي لكثرة الطبخ فيها وثقلها وشبه الجفان أي القصاع بالجوابي التي تسقى بها الأنعام لكبرها أيضا ولأن الطعام فيها دائما للضيفان كما أن الحياض يبقى فيها الماء وإنما ذكر الجفان قبل القدور مع أن القدور مقدمة عليها إذ يطبخ فيها أولا ثم يصب في الجفان بمناسبة ذكر المحاريب التي تطلق على ما ذكر وعلى الدور والمساجد التي فيها المحاريب من إطلاق الجزء وإرادة الكل وعلى الخلوات المتخذة للعبادة، وأما التماثيل فهي عبارة عن صور من رخام ونحاس وزجاج وذهب وفضة، قالوا انهم جعلوا منها ما هو على صور الملائكة وصالحي البشر وما هو على صور الطيور والحيوانات وغيرها إذ كان مباحا في شريعته وهذا مما يخالف شريعتنا ومنسوخ بها، فيا هل ترى ماذا يقول الذين ينكرون الجن في هذه الآيات القاطعات التي لا تقبل التأويل إذ صرحت بأنهم يعملون للبشر ما ذكره الله تعالى في هذه الآية ويسخّرون لأمرهم، وقد مر أول سورة الجن وفي الآيتين 17 و 38 من سورة النمل في ج 1 ما يؤيد هذا وله صلة في الآية 29 من الأحقاف الآتية والآيات المبينة في هذه السورة، لهذا فلا قول لهم إلا الجدال بآيات الله التي لا يجادل بها إلا الذين كفروا راجع الآية 4 من سورة غافر الآتية. قالوا ومن جملة ما صوروا له أسدين تحت كرسيه ونسرين فوقه وطواويس وعقبان ونسورا على درجه إلى عرشه، وقالوا إذا صعد إليه بسط الأسدان ذراعيهما وإذا جلس عليه ظلله النسران وقامت تلك(3/501)
الطيور الأخر على الدرج فيها به من أراد الدنو منه مهما كان غير الهيبة التي تحصل له من الجنود المصطفين شمال يمين والشياطين القائمين حول قصره ليل نهار وغير الهيبة التي كساها الله تعالى إياه فضلا عن وقار النبوة ودهشة الرسالة وبهاء الجمال وعظمة الملك والسلطان، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء، قالوا ومن جملة ما شيدوا له من الأبنية العظام مدينة القدس وجعل لها اثنى عشر بابا على عدد الأسباط، وكان بناؤها بالرخام والصفائح والبلور ثم بنوا له ما ذكرناه في الآية 15 من سورة النمل في ج 1 والبيت المقدس الواقع تحت الجامع القائم الآن وكان أبوه داود عليه السلام شرع فيه ولم يكمله كما أن الجامع الأموي بدمشق شرع فيه الوليد بن عبد الملك وبعد وفاته أكمله أخره سليمان لهذا قالوا إن سليمان بن عبد الملك بدأ ملكه بخير وهي إكمال البيت المقدس وختمها بخير وهو استخلافه عمر بن عبد العزيز وهذه صدفة لأن داود عليه السلام توفي قبل إكمال القدس أي جامعه وأكمله ابنه سليمان على النحو الموجود الآن تحت الجامع القائم ومواقفه غريبة وكان قديما مبنيا مرصوفا بالجواهر والذهب والفضة ولكن لما هدمه بختنصر أخذ جميع ما فيه راجع الآية 6 من سورة الإسراء ج 1، قال تعالى «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً» لنعمنا هذه عليكم «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ 13» لنعمتي قالوا كان عليه السلام قسم ساعات الليل والنهار عليه وعلى أهل بيته للعبادة فلا تمضي ساعة إلا ويقع فيها عمل صالح لله تعالى منه أو من أفراد عائلته، قال تعالى «فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ» بانتهاء أجله المقدر أمتناه وترك ما خولناه إياه وراء ظهره من الملك والسلطان الذي لم يكن لأحد قبله ولا بعده، ألا فلا يغتر أحد بهذه الدنيا فمهما أوتي منها لم يؤت مثل داود وسليمان، ومهما عاش فيها لم يعش مثل نوح والخضر عليهم السلام، فليستعمل العاقل عقله ويتق ربه فما بعد التقوى زاد نافع إلى المعاد.
قالوا كان عليه السلام يتجرد للعبادة السنة والسنتين والشهر والشهرين في بيت المقدس ويدخل معه شرابه وطعامه وكان كل يوم ينبت في محرابه شجرة فيسألها عن اسمها ومنافعها فيقلعها ويأمر بغرسها إن كانت للأكل أو الدّواء أو لغيره حتى نبتت الخرنوبة، فسألها فقالت نبت لخراب مسجدك، قال عليه السلام ما كان الله ليخربه(3/502)
وأنا فيه فنزعها وغرسها في حائطه، وقال اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أنهم لا يعلمون الغيب، لأنهم يزعمون أنهم يعلمون شيئا منه ويفخرون به على الإنس، وقام يصلي في محرابه على عادته، فمات عليه السلام وهو متكىء على عصاه، فبقي قائما عليها وهو ميت بإرادة الله تعالى وتثبيته وهو الفعال لما يشاء القادر على كل شيء. وكان لمحرابه كوى تنظر الجن إليه منه فيرونه قائما فيدأبون على أعمالهم الشاقة التي أمرهم بها ووكل عليهم ملائكة يراقبونهم غير الذين وكلهم من قومه ويحسبونه حيا ولا ينكرون عدم خروجه لأنهم يعلمون أنه ينقطع للعبادة المدد المبينة أعلاه ولذلك بقوا بعد موته زمنا يعملون ما يأمرهم به الموكلون عليهم من الإنس ولا يقدرون أن يخالفوهم خوفا من الملك الموكل عليهم المار ذكره في الآية 11 وبقي وبقوا هكذا حتى أكلت عصاه الأرضة فسقط على الأرض فعلموا بموته لأن سقوطه لم يكن على هيئة العبادة التي كان يتعبد بها، وهذا معنى قوله تعالى «ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ» عصاه تقرأ بالهمز وعليه قوله:
ضربت بمنسأة وجهه ... فصار بذاك مهينا ذليلا
وبدون همز وعليه قوله:
إذا دببت على المنساة من هرم ... فقد تباعد عنك اللهو والغزل
قال تعالى «فَلَمَّا خَرَّ» سقط على الأرض «تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ» ظهر لهم الأمر بأنهم لا يعلمون شيئا مما كانوا يزعمونه من أمر الغيب وتبين لقوم سليمان جهلهم به أيضا ولهذا رد الله عليهم بقوله «أَنْ لَوْ كانُوا» أي الجن «يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ» لعلموا بموته وتركوا العمل الشاق ولما استقروا على الذل والمشقة و «ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ 15» لنفوسهم من الموكلين عليهم من الإنس والملائكة، وظهر لدى العام والخاص كذبهم في ادعائهم علم الغيب، والمراد بالجن هنا الكفرة منهم لأن المؤمن لا يكون مهانا في ملك نبيه راجع الآية 14 من سورة النمل والآية 24 من سورة ص في ج 1 فيما يتعلق بعظمة ملك داود وسليمان عليهما السلام، قال تعالى «لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ» بن يشجب بن يعرب بن قحطان «فِي مَسْكَنِهِمْ» مأرب من أرض اليمن «آيَةٌ» دالة على وحدانية الله تعالى كافية لمن اعتبر وهي(3/503)
«جَنَّتانِ» على شفير الوادي، يشعر بهذا قوله عز قوله «عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ» من الوادي وكان لكل منهم في جهة اليمين بستان وفي جهة اليسار بستان ولهذا يمنّ الله عليهم بقوله «كُلُوا» يا آل سبأ «مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ» هذه النعمة العظيمة واعملوا بطاعته فإن مأرب «بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ» كثيرة النبات لطيب أرضها ليست برطبة ولا يابسة ولا سبخة ولا محجرة ولا يوجد فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا شىء من الهوام الضارة حتى أن الرجل إذا دخلها وكان في ثيابه قمل أو برغوث يموت من طيب هوائها والخاصيّة التي أودعها الله فيها «وَرَبٌّ غَفُورٌ 16» ربكم يا آل سبأ يعفو عما يقع منكم إن شكرتم وآمنتم «فَأَعْرَضُوا» عن دعوة أنبيائهم ولم يقبلوا نصحهم ولم يراعوا حق هذه النعم المسبلة عليهم بل كذبوهم، قال وهب كانوا ثلاثة عشر وذكره ابن عباس ولم أقف على أسمائهم، وقد ذكّروهم نعم الله وحذّروهم عقابه وأنذروهم عذابه فلم ينجع بهم وقالوا ما نعرف لله علينا نعمة فقولوا لربكم يحبس عنا المطر وسائر نعمه قال تعالى فحق عليهم القول «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ» قال ابن عباس كان لهم سد بنته السيدة بلقيس على وادي المياه وجعلت له أبوابا وبنت دونه بركة فجعلت لها اثنى عشر مخرجا يفتحونها عند الحاجة لسقي جنبيتهم وكانت وجهت إليها مياه السيول فإذا جاء المطر احتبس من وراء السد فيمتلأ ذلك الوادي العظيم بما يزيد على حاجتهم سنريا، وكانت قسّمته بينهم بنسبة حاجة كل منهم وبقوا ينتفعون به في حياتها وبعد موتها مدة كثيرة على حسب وضعها، فلما طغوا وجابهوا أنبياءهم بما ذكر آنفا وقالوا لهم إن كان ما تقولونه حقا فافعلوا وإنا لسنا بحاجة إلى إرشادكم ولا نخاف من تهديدكم ووعيدكم، وكان قولهم هذا موافقا لأجل الانتقام منهم في قدر الله الذي قدره عليهم وكفروا هذه النعم بغيا وعتوا سلط الله تعالى الخلد على السد فثقبه فطغى الماء على جنتيهم فأغرقهما وأخرب أراضيهم وأغرقها وفاض الماء على دورهم فأخربها فمزّقوا كل ممزّق وندّ منهم من ند وصار يضرب بهم المثل عند العرب يقولون ذهبوا أيدي سبا وتفرقوا أيادي سبا «وَبَدَّلْناهُمْ» بسبب كفرهم بجنتيهم ذاتي الفواكه الطيبة والخيرات الكثيرة «جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ(3/504)
خَمْطٍ»
حريف حامض ومرّ وكل شجرة ذات شوك سمي ثمرها خمط «وَأَثْلٍ» شجر الطرفاء وشجر آخر يشبهه أعظم منه «وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ 17» وثمره يسمى النبق ويغسل بورقه بدلا من الصابون كورق الخطمي والأسنان وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بأن يغسل الذي وقصته ناقته بماء وسدر زيادة في التنظيف «ذلِكَ» الفعل الذي فعلناه بهم والتبديل الذي بدلناه جزاء «جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ 18» بلى ولا نجازي الشكور بل ننعم عليه، وهذا استفهام تقريري لا يجاب إلا ببلى وحقا إنه تعالى لا يجازي بأسوأ المجازات إلا الأكثر كفرا لأن كفور والكلمات التي على وزنه كشكور وغفور وغرور وعقور من أسماء المبالغة، قال تعالى «وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها» بالأشجار والأنهار والقرى أي قرى الشام وبيت المقدس «قُرىً ظاهِرَةً» متواصلة لا تنقطع الواحدة تلو الأخرى، قالوا كان بين سبأ والشام أربعة آلاف قرية عامرة لا
تقطع الواحدة حتى ترى الأخرى «وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ» بحيث جعلنا بين كل قرية وقرية مرحلة صغيرة تقدر باعتبار مشي الأقدام والإبل بأربعة فراسخ أي بريد واحد، وقد اختلف في تقديره فمنهم من قال ساعة ونصف، ومنهم من قال ساعة واحدة، وعلى كل فالفرسخ ثلاثة أميال والميل ألف باع والباع أربعة أذرع بذراع العامة وهذه على أكثر تعديل تكون ستة ساعات بسير الأقدام والإبل وأربعة بسير البغال والخيل وتقطع بساعتين أيضا، وقلنا لهم «سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ 19» من الجوع والعطش والعدوان فبطروا وجحدوا هذه النعم وسئموا الراحة التي عزّ طلبها على غيرهم ولم يصبروا على السعة والعافية التي يتوق إليها كل مخلوق «فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا» فهو أجدر أن نشتهيها ونتزود للسفر إليها من الزاد والراحلة، فعجل الله لهم الإجابة «وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» بهذا الدعاء وطلب المشقة بطرا ففعلنا بهم ما فعلنا «فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ» لمن بعدهم يتحدثون بشأنهم وعبرة يعتبرون بهم وعظة لغيرهم «وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ» بأن فرقناهم وبدّدناهم في البوادي والقفار وشتتنا شملهم فذهب الأزد إلى عمان وخزاعة إلى تهامة والأوس والخزرج إلى يثرب(3/505)
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
وآل خزيمة للعراق ولحقت فرقة منهم إلى الشام فنزلوا على ماء يدعى غسّان فسموا الغساسنة، وهم فرقة من الأزد ومنهم بنو جفنه رهط الملوك «إِنَّ فِي ذلِكَ» المذكور في قصتهم «لَآياتٍ» عظيمات وعبر جسيمات ودلائل باهرات «لِكُلِّ صَبَّارٍ» عن لذات المعاصي وعشاق الطاعات «شَكُورٍ 20» نعم الله عليه قلّت أو كثرت وسجية المؤمن الصادق الصبر على البلاء والشكر على النعماء فإذا ابتلي صبر ورضي وإذا أعطي شكر وتصدق.
مطلب تصديق ظن إبليس وبحث نفسي في قوله تعالى ماذا قال ربكم:
«وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ» على أهل سبأ ومن حذا حذوهم وحقق ما كان يتوفاه منهم وظفر بما يأمله من طاعتهم له وعصيانهم لله تعالى يا ويلهم «فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» بالله إيمانا كاملا مخلصين العمل لحضرته، وفريقا انهمكوا في لذاتهم وركنوا إلى شهواتهم وانقادوا لوساوس الشيطان فعصوا الله وفسقوا واختاروا العمى على الهدى لأن الخبيث عليه اللعنة لما طلب إنظاره من الله تعالى ما كان متيقنا إتمام ما وعد به من إضلال العباد بل قال لأغوينهم ولأظنهم على سبيل الظن فلما اتبعه وأطاعه فريق منهم فقد صدق ظنه في هؤلاء خاصة وفي أمثالهم عامة بطوعهم ورضاهم واختيارهم بدليل قوله تعالى حكاية عنه وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم الآية 22 من سورة ابراهيم الآتية أي أنه لم يقهرهم ويلجئهم لطاعته قسرا لأنه لم يشهر عليهم سلاحا سيفا ولا سوطا وإنما وعدهم ومنّاهم وموّه عليهم الحق وزخرف لهم الباطل ورغبهم بالشهوات وحسن لهم القبيح وأغراهم بالتسويف وغرهم بطول الأمل فانكبوا عليه وصفقوا لديه واقتفوا أثره ومالوا بكليتهم إليه ولو شاء الله لمنعه من ذلك وحال بينه وبينهم ومنعهم من الانقياد إليه
«وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ» ليجبرهم على طاعته «إِلَّا» إنه لم يفعل ذلك ويحجزهم عنه «لِنَعْلَمَ» وهو عالم من قبل ويظهر ما هو في علمه لخلقه «مِنْ» منهم «يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ» على رضى منه فيصدق بوجودها بطوعه واختياره «مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ» برضاه ورغبته فينكر وجودها ووقوعها ومما يؤيد أن المراد بالعلم في هذه الآية علم الوقوع(3/506)
والظهور بين الناس وأنه تعالى شأنه عالم بذلك أزلا قوله جل قوله «وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ 21» فمن كان رقيبا على كل شيء لا يغرب عن علمه شيء وما قدره على خلقه من بعض معلوماته قال تعالى قد يعلم ما أنتم عليه الآية الأخيرة من سورة النور في ج 3 (وقد) هنا تفيد التقليل أي أن الذي أنتم عليه أيها الناس جزء من بعض معلوماته قال تعالى «قُلِ» يا محمد لكفار قومك الذين حبس عنهم الغيث «ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ» أنهم آلهة «مِنْ دُونِ اللَّهِ» ليكشفوا عنكم ما نزل بكم من القحط والجدب ليظهر لهم عجزهم وتيقنوا أنهم «لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ» لأنهما وما فيهما وبينهما ملك لله وحده ولا يقع فيهما شيء إلا بأمره «وَما لَهُمْ» لتلك الأوثان التي يزعمونها شريكة لله «مِنْ شِرْكٍ» في أمر من أموره لا فيهما ولا في غيرهما البتة «وَما لَهُ» وما لله «مِنْهُمْ» من آلهتهم «مِنْ ظَهِيرٍ 22» يعاونه على تدبير ما يقع بينهما من خير أو شر «وَ» اعلموا أيها الناس أن الله تعالى يقول «لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ» لأحد ما من الأوثان والملائكة وكافة الخلق «إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ» فيها فقط وهذا تكذيب لقول الكفرة بأن الأوثان تشفع لهم عند الله مع أنه في ذلك اليوم يتجلى الجبار على خلقه فيأخذهم الخوف والوجل برّهم وفاجرهم «حَتَّى إِذا فُزِّعَ» كشف الفزع «عَنْ قُلُوبِهِمْ» وذهب الحزن عنهم من هيبة كلام العرب جل جلاله في ذلك اليوم المهول أي عن المشفوع لهم والشافعين لأن المستشفعين يتثبّتون بأذيال الرجاء من الشافعين النائمين على قدم الالتجاء إلى باب ذي القدرة والعظمة مستأذنين من حضرته الشفاعة لعصاة المؤمنين، أما الكافرون فهم بمعزل عن هذا ويبقون منتظرين خائفين لا يدرون بماذا يجابون في ذلك الوقت العصيب وقد غشيهم الفزع ومما يدل على هذا قوله تعالى (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) وقوله جل قوله (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) الآيتين من آخر سورة عمّ الآتية فالكل إذا ينتظرون كلمة من رب العزة ليتباشروا في إطلاق الناس بالشفاعة حتى أزيل وحتى هنا للغاية ولا غاية بلا مغيا وتكييف المغيا هنا كأن قيل كيف(3/507)
يمكن استحصال الإذن في ذلك الموقف، العظيم للشافعين، وكيف يكون حال المستشفعين؟ فقيل يقفون منتظرين وجلين خلف سرادق العظمة والهيبة والجلالة لا يدرون ماذا يوقّع لهم الملك الأعظم على رقعة سؤالهم منه، حتى إذا ذهب الخوف عن قلوبهم فتكون هذه الجملة هي الغاية. وما ذكرناه من حصول الإذن هي المغيا.
والفزع عبارة عن انقباض النفس ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف مثل الجزع إلا أنه لا يقال فزعت من الله بل خفت وهو من الاضداد تقول فزعت بمعنى خفت وفزعت بمعنى أزيل عني الفزع وفعله يتعدى بعن كما في هذه الآية وبمن إذا كان بمعنى الخوف. «قالُوا» المشفوع لهم للشافعين «ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا» الشفعاء قال الله «الْحَقَّ» أي أذن بالشفاعة وكل قوله حق ويؤذن بهذا قوله جل قوله «وَهُوَ الْعَلِيُّ» على عباده لا يرد سؤالهم «الْكَبِيرُ 23» عن أن يخيب أملهم وهذا من نتيجة كلام الشافعين اعترافا بعلو عظمته عن أن يرد أيديهم صفرا وجليل كبريائه عن أن ييأسهم من فيض رحمته، وما جرينا عليه من هذا التفسير لهذه الآية العظيمة هو المناسب لسياق التنزيل وسباق اللفظ الجليل مما تقدمها.
أما من فسرها على نزول الوحي واستشهد بما رواه البخاري ومسلم فقد قال إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله كأنه صلصلة على صفوان، وبما أخرج أبو داود عن ابن مسعود إذا تكلم الله تعالى بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كجرس السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا جاء فزع عن قلوبهم يقولون يا جبريل ماذا قال ربك فيقول الحق فيقولون الحق. فهذه الأحاديث وشبهها لم تثبت أن الرسول قالها في معرض هذه الآية والقائلون بهذا لم يبنوا وجه اتصال هذه الآية بما قبلها ولم يبحثوا عن الغاية بشيء، ولم يتعرفوا للمغيا ليركن إلى بعض ما قالوه، ولذلك فإن ما جرينا عليه هو الأولى والأوفق وإن ما مشى عليه أكثر المفسرين هو بالنظر إلى ظاهر اللفظ ومطابقته لهذه الأحاديث فنزلوا تفسير الآية عليه كما ساقوا مثل هذه الأحاديث في مسألة استراق السمع، راجع بحثه في الآية 18 من سورة الحجر المارة وعلى هذا مشى السيد محمود الألوسي في تفسيره روح المعاني إذ نظر إلى مطابقة المقام الموافق(3/508)
لظاهر الكلام وظهر له ما قاله غيره في هذا المقام بأنه نظر إلى ظاهر اللفظ فعدل عن أقوالهم، والحق يقال إنه بمراحل كثيرة في الحسن والمطابقة للواقع وموافقة التنزيل ومناسبة الآي. عما قاله غيره، ولهذا اخترنا قوله أيضا بما زدنا عليه من التصرف ومن أراد زيادة التفصيل في هذا البحث فليراجع تفسير هذه الآية في ص 139 فما بعدها من ج 7 من تفسيره المذكور وقد مشى عليه صاحب روح البيان السيد إسماعيل حقي والإمام النسفي وجار الله الزمخشري من قبله والله أعلم وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل. قال تعالى «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فإن لم يجيبوك يا محمد بأن الذي يرزقنا هو الله فبادرهم أنت و «قُلِ اللَّهُ» الذي يرزق أهل السموات والأرض من إنسان وحيوان وطير وحوت وغيرها وقل لهم أيضا إذا لم يقلعوا عن محاججتك على طريق الإرشاد في المناظرة «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً» لفظ هدى يعود للضمير الأول على حضرة الرسول «أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 24 ولفظ الضلال يعود إلى الضمير الآخر العائد للكفرة على سبيل اللف والنشر المرتب، وهذا الكلام على جهة الإلزام والإنصات في المحاجة كما تقول لمجادلك أحدنا كاذب لا على طريق الشك، لأن حضرة الرسول يعلم حقا بأنه ومن اتبعه على هدى من الله وأن من خالفه وجحد ما جاء به في ضلال وهو من قبيل التعريض ليكون أوصل للغرض وأوفى بالمقصود من غير تصريح بتعنيف الخصم وهذا شأن المنصف المهذب وعليه قول حسان:
أتهجوه ولست له بكفء ... فشرّ كما لخيركما الفداء
وإن ما جرينا عليه من قول من قال إن أو هنا بمعنى الواو أي إني لعلى هدى وإنكم على ضلال لأن اختلاف حرف الجر قد أدى بالمطلوب لأن المهتدي مستعل فأدخل عليه على المفيدة للاستعلاء والمضل منغمس في الظلمة فأدخل عليه في المؤدية لذلك، وإنما قلنا إن هذا شأن المنصف في المجادلة لأنه لو قال لهم رأسا أنتم ضلال مبطلون لأنماظهم وصيرهم إلى العناد وجرأهم للمقابلة فيردون عليه بأغلظ رد لما هم عليه من السفاهة، ولفات الغرض المقصود من استجلابهم لما يريده منهم من سلوك سبيله، والعقل يحكم بأن تكون المناظرة على الوجه الأحسن للانقياد وطريقة اللف والنشر(3/509)
المرتب من بديع الكلام وفصيحه وكثيرا ما تستعمله العرب في أقوالها وتستعذبه قال امرؤ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
ومنه قوله:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل
فيظهر لك من هذا أن اعتبار «أو» بمعنى الواو في هذا الموضع، فيه بعد ومخالفة للظاهر، ولا يجوز بالمفسر والمؤول أن يركن إلى وضع حرف مكان آخر أو كلمة مكان غيرها إذا لم يكن جريها على ما هي عليه. هذا ثم أتى بما هو أدخل في الانصاف وأبلغ في القبول فقال جلّ قوله «قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا» أي لا تؤاخذون به على فرض صدوره منا، وهذا مجاراة لمثل كلامهم إذ لا إجرام في الحقيقة «وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ 25» بل كل يسأل عما عمل وفي إسناد الإجرام إلى المخاطبين وهو مزجور عنه ومحظور والعمل للمخاطبين وهو مأمور به مشكور غاية في حسن المخاطبة ونهاية في الإنصاف في طيب المكالمة ودلالة بالغة على كمال الأخلاق وعلو الآداب، ولا يخفى ما في هذا التعبير من الحسن من حيث ذكر الأجرام المنسوبة إلى النفس بصيغة الماضي الدالة على التحقيق وذكر العمل المنسوب إلى الخصم بصيغة المضارع التي لا تدل على ذلك، وزعم بعضهم أن هذا من باب المشاركة وأن هذه الآية منسوخة بآية السيف وليس بشيء لأنها من باب التعريض الغير مضر وهي خبر من الأخبار لا يدخلها النسخ كما أشرنا إليه غير مرة، ثم ختم المكالمة بالتبري عن عمل شيء من نفسه وتفويض الأمر فيما يتعلق بينه وبينهم إلى ربه فقال ما قال له ربه «قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا» نحن محمدا وأصحابه وبينكم أيها المشركون «رَبُّنا» نحن وأنتم يوم القيامة فيحاسبنا على أعمالنا «ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا» يقضي ويفصل ويحكم حكما «بِالْحَقِّ» لا ميل ولا حيف ولا جور فيه «وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ 26» بما يفتح لأنه يحكم بين خلقه بما هو الواقع الموافق لنفس الأمر أما حكام الدنيا فغاية العدل في أحكامهم الاعتماد على البينات وهي لا تخلو من زور وكذب وكتم للحقيقة خاصة في زمننا هذا، وفي تسمية القضاء بالفتح إشارة(3/510)
إلى وجه فصل الخصومات فتحا تشبيها لما حكم فيه بأمر مغلق كما يشبه بأمر متعقد في قولهم حلال المشكلات، قال تعالى «قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ» بربي الواحد الأحد «شُرَكاءَ» من أوثانكم هل تقدر أن تخلق أو ترزق أو تنفع أو تضر؟ قل لهم يا حبيبي «كَلَّا» لا تفعل شيئا من ذلك لأنها مفتقرة إلى من يصلحها ويحفظها من التعدي، وإذا كانت كذلك فكيف تصلح أن تكون آلهة، وكيف يليق بكم أن تعبدوها «بَلْ» القادر على فعل ذلك كله والمستحق للعبادة «هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ» الغالب على كل شيء «الْحَكِيمُ 27» فيما يفعله ويدبره «وَما أَرْسَلْناكَ» يا سيد الرسول لهؤلاء الكفرة خاصة «إِلَّا كَافَّةً» أي رسالة عامة «لِلنَّاسِ» أجمعين على اختلاف مللهم ونحلهم وألوانهم ولغتهم فكن لمن أطاعك منهم «بَشِيراً وَنَذِيراً» لمن عصاك «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 28» عموم رسالتك لمن على وجه الأرض عربهم وعجمهم فيحملهم جهلهم بذلك على مخالفتك فعرفهم هذا وعظهم ودارهم وتلطف بهم ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم. وهذا من قبيل تقديم المعذرة لأن من هو في علمه كافر لا ينفعه النصح ومن هو في أزله مؤمن لا تستهويه الضلال.
مطلب عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم ومجادلة الكفرة فيما بينهم:
وهذه الآية تدل صراحة على عموم رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم لعامة الخلق راجع الآية 158 من سورة الأعراف في ج 1 فيما يتعلق في هذا البحث. روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل (وأهل الكتاب لا تصح صلاتهم إلا في كنائسهم) ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة (أي العامة وإلا فكل نبي يشفع بأمته وأهل الخير يشفعون بمن يأذن الله لهم من خلقه خاصة) ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة، أي بداية ونهاية بخلاف رسالة سيدنا نوح راجع الآية 74 من سورة يونس المارة تجد أولها خاصة وآخرها عامة، وكان من الأنبياء من يرسل إلى أهل بلده خاصة ومنهم من يرسل إلى أهله فقط(3/511)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)
وخص محمدا صلّى الله عليه وسلم بعموم الرسالة إلى الناس كافة. قال تعالى «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ» الذي تعدنا به يا محمد من نزول العذاب «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 29» فيما تقولون وتهددونا به، وهذه الآية في ترتيب القرآن لم توجد في أوله حتى سورة يونس ومنها إلى الأنبياء وفيما بعد مكررة كثيرا. قال تعالى ردا عليهم يا أكرم الرسل «قُلْ» لهؤلاء المستبطئين سخطنا عليهم المطالبين بنزول ما توعد به من العذاب «لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ 30» فميعاده في الدنيا الموت إذا لم يباغتكم غيره قبله وفي الآخرة البعث، وهاتان الساعتان المقدرتان لموتكم وبعثكم لا يمكن بوجه من الوجوه تقديمهما لحظة ولا تأخيرهما عما هو مقدر في علمنا الأزلي وإنكم بعد البعث سترون ساعة الحساب وساعة الحكم وساعة الدخول في النار لا محالة وسيشدد حزنكم عند ما تشاهدون المصدقين الطائعين يدخلون الجنة ومغبّة ما حكاه الله عنكم في قوله
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» قولا غير ما ذكر من الاستبطاء واشنع منه وهو قولهم جرأة على ربهم «لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ» المنزل عليك يا محمد «وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب الأخرى كالتوراة والإنجيل والزبور والصحف أيضا، قال تعالى تفظيعا لشأنهم في الآخرة وما تؤول إليه حالتهم الخاسرة «وَلَوْ تَرى» يا حبيبي «إِذِ الظَّالِمُونَ» أنفسهم بهذه الجرأة على الله في ذلك الموقف العظيم وأمثالهم وقد تخلى عنهم أربابهم المزيفون العاجزون «مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» الحقيقي وقد تجلى عليهم باسمه المنتقم لرأيت أمرا فظيعا هالك مرآه، ولو تراهم يا أكمل الرسل حين يتلاومون على سوء صنيعهم في الدنيا إذ «يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ» فيوقع كل منهم الملامة على الآخر «يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا» في الدنيا وهم الأتباع الوارد ذكرهم في الآية 164 من سورة البقرة في ج 3 للذين استكبروا وهم الرؤساء الآتي ذكرهم في الآية 11 من سورة إبراهيم الآتية «لَوْلا أَنْتُمْ» منعتمونا في الدنيا عن الأيمان بالرسل «لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ 31» بهم ولنجونا من هذا البلاء ولم يمسسنا سوء في هذا الموقف «قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ» كلا لا صحة لهذا لأنا لم نصدكم(3/512)
ولم نمنعكم عن الإيمان بالرسل «بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ 32» باختياركم ورغبتكم وقد رضيتم بالإشراك وآثرتم الكفر على الإيمان بطوعكم «وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» اعلم أن كلمة مكر هذه مضافة لمضاف محذوف وهو الضمير الذي يعود إلى الرؤساء وبحذفه أضيف لما بعده إضافة المصدر لمفعوله وعليه يكون المعنى صدنا مكركم بنا أيها الرؤساء واحتيالكم علينا وتزيين آلهتكم المزعومة لنا وتظاهركم مظهر الصادق حتى ظننا بكم أنكم على خير «إِذْ تَأْمُرُونَنا» ليل نهار صباح مساء «أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ» الواحد ونكذب الرسول الذي يأمرنا بعبادته ورفض ما سواه وأنتم تأمروننا بتكذيبهم أيضا «وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً» أمثالا على ما كان عليه آباؤنا وآباؤكم الأقدمون، فلما سمعوا هذا منهم وقد صارحوهم به على رءوس الأشهاد سقط في أيديهم جميعا «وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ» بينهما إذ ظهر، خطأوهما، وقيل إن فعل أمر من الأضداد فيأتي بمعنى أضمر كما مر وبمعنى أظهر ولهذا قال بعضهم إنهم أظهروا الندامة لبعضهم وعدلوا بهذا الفعل عن حقيقته إلى المجاز بحسب الظاهر وبعضهم أجراه على ظاهره كما جرينا عليه دون حاجة للعدول وهو أولى إذ لا وجود لصارف يصرفه عن حقيقته وإنما أسروا الندامة أسفا على ما فات لعدم الفائدة من إظهارها وقد بهتوا «لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ» أحاق بهم لقوله تعالى «وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا» التابعين والمتبوعين وزجرا في جهنم جزاء كفرهم فانظروا «هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ 33» في الدنيا من كفر وعصيان وسخرية، قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها» من الرؤساء والقادة إلى الرسل «إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ 34» هذه الآية كتسلية لحضرة الرسول مما مني به من قومه من التكذيب بما جاءهم به والاستهزاء بحضرته العالية وإن ما قاله فيه أهل مكة قاله الأمم السالفة لأنبيائهم وزيادة، راجع الآية 118 من سورة البقرة في ج 3 إذ لم ينفرد هو وحده بذلك كما أن قومه لم يبتدعوا تلك الأقوال والأفعال الشائنة بل إنهم قلدوا من قبلهم ليهون عليهم ما يلاقيه منهم «وَقالُوا» أيضا أولئك المترفون الذين غرّهم المال والجاه والولد متبجحين على المؤمنين وغيرهم(3/513)
«نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً» من أتباع الرسل المساكين ولو لم يكن ما نحن عليه من الدين مرضيا لما منحنا الله هذه النعم المترادفة ولهذا نقول لكم «وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ 35» في الآخرة أيضا إذا كانت هناك آخرة كما تزعمون لأنا لسنا مذلولين في الدنيا، قال تعالى ردا عليهم «قُلْ» يا محمد لهؤلاء المغبونين بما لديهم من حطام الدنيا «إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» يضيق على من يشاء وليس سعة الرزق دليل على الرضى كما زعمتم كما أنه ليس في ضيقه امارة على الغضب «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 36» ذلك ومنهم من تجبّر واعترض على الله تعالى في البسط على أناس والضيق على آخرين كابن الراوندي إذ قال:
كم عالم عالم أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصيّر العالم النحرير زنديقا
أي كافرا نافيا للصانع العدل الحكيم قائلا لو كان له الوجود لما كان الأمر كذلك فلا حول ولا قوة إلا بالله وهو في هذا القول البذيء يعني نفسه والقائل بقوله لا كل عالم فالعالم العاقل هو من يقول:
ومن الدليل على القضاء وحكمه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
والأكثر الذي عليه الناس الآن فيما قبل وبعد والله أعلم عدم الاجتماع بين العلم والمال غالبا قال الشافعي رحمه الله:
فمن أعطى الحجى حرم الغنى ... ضدان يفترقان أي تفرق
وذلك لحكم أرادها الله تعالى ولتتفرق الفضائل بين خلقه فمن فاته العز بالمال خلفه العز بالعلم وبالعكس:
رضينا قسمة الجبار فينا ... لنا علم وللأعداء مال
فإن المال يفنى عن قريب ... وإن العلم يبقى لا يزال
اللهم اجعلنا مع هؤلاء مع الكفاية ولا تجعلنا من أولئك ولا من الذي يقول:
أعطيتني ورقا لم تعطني ورقا ... قل لي بلا ورق هل تنفع الحكم
قال ردا عليهم أيضا «وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ» أيها الناس «بِالَّتِي(3/514)
تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى»
أي تقريبا مرضيا واسم الموصول واقع على الأموال والأولاد جميعا لأن جمع التكسير يستوي فيه عقلاؤه وغير عقلائه في حكم التأنيث ولأن المجموع منها بمعنى جماعة فلذلك صح الإفراد فيه والتأنيث «إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ» هم المقربون عند الله الحائزون على رضانا لا المتولون الجاهدون أنفسهم بجمع الحطام فمثل هؤلاء المؤمنين الذين دعموا إيمانهم بالأعمال الصالحة «لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا» فيضاعف لهم الواحد بعشرة إلى سبعمئة وإلى ما شاء الله «وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ» الطبقات العالية من الجنان يسكنون منعّمون «آمِنُونَ 37» من كل هائل وشاغل في مقعد صدق عند مليك مقتدر «وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي» إبطال «آياتِنا» ويفسدون في الأرض معاندين لنا يحسبون أنفسهم «مُعاجِزِينَ» لا نقدر عليهم فائتين من عذابنا سابقين قدرتنا «أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ 38» من قبل ملائكتنا لا يجديهم ما عولوا عليه ولا ينفعهم ما أمّلوه «قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ» في وجوه البر والخير وصلة الرحم «فَهُوَ يُخْلِفُهُ» من فضله الواسع «وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ 39» لأن رزق السلطان جنده والسيد مملوكه والرجل عياله من رزق الله تعالى أجراه على يدهم، وقد يكون في رزقهم منّ ولا منّ في رزق الله. وهذه الآية بخلاف الآية الأولى لأنها كانت ردا على الكفرة وهي عامة وخالية من الضمير بعد كلمة (يَقْدِرُ) ومن كلمة (لِمَنْ يَشاءُ) وهذه خاصة ومقيدة بلفظ من عباده وبالضمير ولشخص واحد باعتبارين والضمير فيها وإن كان بموقع المبهم إلا أن الآية الأولى خالية منه وذكره بعد مشتملا عليه كالقرينة على إرادة التخصيص فلا تكرار لأنها مساقة للوعظ والتزهيد في الدنيا والحض على التقرب إليه تعالى بالإنفاق والأولى مساقة للرد على الكفرة. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال الله تبارك وتعالى يا ابن آدم أنفق أنفق عليك. وعنه: ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا. وعنه: ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزّا وما تواضع أحد لله إلا رفعه. قال تعالى(3/515)
قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
«ويوم نحشرهم جميعا» المستضعفين والمستكبرين وأوثانهم «ثمّ نقول للملائكة» لأنهم من جملة المعبودين على غير علم منهم ولا رضى «أَهؤُلاءِ» الكفرة «إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ 40» في الدنيا استفهام تقريع وتبكيت
«قالُوا سُبْحانَكَ» لم يوالونا ولم نوالهم وإنا وإياهم من جملة عبادك «أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ» فنتبرأ إليك يا ربنا مما يفترونه علينا ويلصقون بنا ما ليس لنا به علم ولا حق والحق يا سيدنا إنهم لم يعبدوننا «بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ» الشياطين الذين زينوا لهم عبادتنا فعبدونا طاعة لهم وخيّلوا لهم صورنا فصورونا على ما شاءوا من حيث لم يروننا وصاروا يعبدون تلك الصور بزعمهم أنها صورنا، ولهذا صار «أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ» بأولئك الشياطين «مُؤْمِنُونَ 41» مصدقون أنها صور الملائكة.
مطلب ليس المراد بالجن هنا الملائكة ران إسماعيل لم يترك كتابا، ومخاطبة حضرة الرسول الناس كيف كانت:
هذا وما قيل إن المراد بالجن هنا الملائكة قول غير سديد لمخالفته ظاهر القرآن وعدم مناسبته للواقع ولأن الله تعالى عبّر عن الملائكة في مواقع كثيرة بلفظ الملائكة وعن الجن بلفظ الجن فالعدول عن المعنى الموضوع للفظ عدول عن الحقيقة المرادة منه، هذا وقد ألمعنا لهذا البحث في الآية 158 من الصافات المارة فراجعه، ومنه ومن هنا تعلم أن ليس المراد بالجن هنا والجنة هناك الملائكة، بل الشياطين كما ذكرناه «فَالْيَوْمَ» أيها العابدون والمعبودون «لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا» ويدخل في هذه الآية الملائكة دخولا أوليا لأن السياق ينوه عنهم ليعلم عابدوهم على رءوس الأشهاد ظهور عجزهم وقصورهم وخيبة رجائهم بشفاعتهم بالكلية فغيرهم من المعبودين من باب أولى. «وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا» عطف على قوله تعالى (ثم نقول للملائكة) إلخ، ويراد بالظالمين هنا الكفرة منهم بدليل قوله تعالى «ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ 42» لأن الظالمين المؤمنين لا يكذبون بالبعث ولا عذاب الآخرة ويؤيده قوله تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا» الذي يتلوها يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلم(3/516)
«إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ» من الآلهة «وَقالُوا ما هذا» الذي يزعم أنه كلام الله «إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً» مختلق من قبله «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ» القرآن المجيد المنزل بالحق «لَمَّا جاءَهُمْ» على لسان الرسول الحق «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ 43» لأنه يفرق بين المرء وزوجه والوالدة وولدها والأخ وأخيه، وهذا على زعمهم لما يرون أن المؤمن يترك زوجته وأمه الكافرتين والأب يهجر ابنه وأخاه الكافرين والابن أباه والأخ يعرض عن أخته وأخيه بسائق إيمانهم وقوة يقينهم مع مراعاة حقوقهم والانفاق عليهم وطاعتهم فيما عدا الشرك، راجع الآية 15 من سورة لقمان المارة لا بما يزعمونه، قال تعالى «وَما آتَيْناهُمْ» هؤلاء الكفرة «مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها» قبل كتابك هذا يا سيد الرسل «وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ 44» ينذرهم بأس الله ويخوفهم عذابه ويحذرهم مما هم عليه لأن إسماعيل عليه السلام لم يتجرد للنذارة ويقاتل عليها قومه ولم يترك لهم كتابا يتدارسونه بينهم بعده كأهل الكتابين ويتبعون ما فيه ولم يرسل إليهم رسول بعده يأمرهم وينهاهم ويبلغهم أحكام دينهم إلا محمد عليه الصلاة والسلام «وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» الرسل أيضا مثلهم كثمود كذبت صالحا وعاد كذبت هودا وأصحاب الأيكة شعيبا «وَما بَلَغُوا» قومك هؤلاء «مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ» أي المكذبين الأقدمين لرسلهم السابقين من القوة وطول العمر والنعم والأموال والأولاد «فَكَذَّبُوا رُسُلِي» وجحدوا آياتي على كثرة انعامي عليهم مادة ومعنى «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ 45» للمكذبين السالفين وكيف كان عقابي لهم على تكذيبهم كان شيئا عظيما فلو رأيتموه يا أهل مكة لرأيتم أمرا فظيعا وقد قصصناه عليكم أفلا تتعظون بهم وتخافون سوء عاقبتكم وأن يحل بكم ما حل بهم من العذاب، فيا أكرم الرسل «قُلْ» لهم «إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ» أي لا أرشدكم بخصلة واحدة هي ملاك الأمر وقوامه وهي «أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى» اثنين اثنين «وَفُرادى» واحدا واحدا «ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا» فيما بينكم وبين أنفسكم فتتناظروا وتتحاوروا ثم يعرض كل منكم نتيجة فكره على صاحبه حتى إذا ظهر لكم يقينا من النور الذي يحصل من(3/517)
مصادمة أفكاركم أنه «ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ» كما تزعمون بادىء الرأي وتعلمون حقا أنه من أكملكم وأعقلكم وأرحمكم و «إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ 46» تعجز عنه قواكم ليس إلا وعرفتم أنه لا يريد إلا نجاتكم منه آمنتم به وصدقتموه إن كان لكم عقول تنتفعون بها، لأنكم ما جرّبتم عليه كذبا طيلة هذه المدة، ومن كان لا يكذب على الناس فهو أجدر أن لا يكذب على الله، لا سيما وقد علمتم أنه من أحسن قريش أصلا، وأزكاهم قولا وأعلاهم حسبا، وأصدقهم لهجة، وأوزنهم حلما، وأحدهم ذهنا وأرضاهم رأيا، وأذكاهم نفسا، وأشرفهم نسبا، وأجمعهم لما يحمد عليه ويمدح به، وأبعدهم عما يلام عليه، وهو أرجحهم عقلا، وأوضحهم خطابا، وأقواهم حجة، وأوفاهم برهانا، وأكملهم كتابا، وأنصحهم بيانا، وأعدلهم دليلا، يظهر لكم من هذه الخصال التي لا تنكرون شيئا منها إذ أجمعت كلمتكم على تسميته بالأمين. إنكم مخطئون بما تصمونه به من الجنون
والسحر والكهانة واعلموا أن إلحاحه عليكم بالإيمان ما هو إلا حبا بكم وحرصا عليكم من أن ينالكم غضب الله وخشية من إيقاع عذابه بكم ليس إلا، فيا حبيبي يا محمد «قُلْ» لهم «ما سَأَلْتُكُمْ» على هذا النصح والإرشاد «مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ» هذا جواب شرط محذوف تقديره أي شيء سألتكم من جعل عليه فهو لكم، والمراد منه في السؤال رأسا، كقولك لصاحبك إن أعطيتني شيئا فخذه وأنت تعلم أنه لم يعطك شيئا فما هنا شرطية واقعة مفعولا لسألتكم «إِنْ أَجْرِيَ» على التبليغ في الإنذار ما هو «إِلَّا عَلَى اللَّهِ» وحده لا عليكم «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ 47» ومن جملة الأشياء التي هو شهيد عليها عدم طلبي جعلا منكم على نصحكم وإنما أرجو عليه ثوابا من الله الذي أرسلني إليكم «قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ» فيرسل الوحي من السماء إلى رسوله على لسان أمينه جبريل عليه السلام، ومعنى القذف الرمي بشدة والدفع بالقوّة، ويراد منه هنا الإلقاء والتنزيل، وهو موافق للمعنى المراد لأنه من العلي الأعلى إلى عبده «وهو عَلَّامُ الْغُيُوبِ 48» خفيات الأمور وبواطنها «قُلْ جاءَ الْحَقُّ» الذي لا أحق منه وهو القرآن الذي جاء بالتوحيد والإسلام «وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ» بعد(3/518)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
ظهور الحق ووضوحه بشيء يقبل بل يذهب ويضمحل ولم يبق له إبداء أمر ما ابتداء «وَما يُعِيدُ 49» فلم يبق له إعادة أي فعل ثانيا وهذا المعنى مأخوذ من الهلاك وهو الموت فإن الحيّ إذا مات لم يبق له إبداء شيء ولا إعادته كما تقول لا يأكل ولا يشرب وتريد أنه ميت، قال عبيد بن الأبرص:
أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد
وقال بعضهم إن المراد بالباطل هنا إبليس أي انه لا يبدي لجماعته خيرا ولا يعيده لهم وانه لا يخلق أحدا ابتداء ولا يعيده إذا مات لأن الباطل هو الصنم الذي لا ينفع ابتداء ولا يضرّ انتهاء وما جرينا عليه أليق بالمقام وأنسب بالمقال والله أعلم.
ولما قال الكفرة إلى محمد صلى الله عليه وسلم قد ضللت بتركك دين آبائك أنزل الله ردا عليهم بما فيه تقرير الرسالة أيضا بقوله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الزائغين الطائشين «إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي» ويكون وباله عليها لأن النفس الكاسبة للشر الأمارة بالسوء تنال جزاءها، وهذا من باب التقابل لمثل كلامهم وإلا فالضلال عليه محال ولذلك جاء بأن التي هي للشك ونسب الضلال للنفس لأنها مجبولة على السوء «وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي» من الحق الذي شرفني به والتوفيق الذي منحني إياه «إِنَّهُ سَمِيعٌ» لأقوالي مجيب لدعائي «قَرِيبٌ 50» مني ومن خلقه أجمع لا يخفى عليه شيء من أحوالنا فيجازي الضال منا ويثيب المهتدي إذا شاء،
ثم التفت إلى حبيبه وخاطبه بقوله عزّ قوله «وَلَوْ تَرى» يا حبيبي «إِذْ فَزِعُوا» هؤلاء الضّلال عند بعثهم من قبورهم وقد غشيهم الخوف والوجل وأخذتهم الدهشة وصاروا بحالة لا يعلمون ما يفعلون ولا يعون ما يتكلمون ولا يعرفون ما يشاهدون ولا يدرون أين يذهبون، وإذ ذاك «فَلا فَوْتَ» لأحد منهم من الله ولا نجاة من عذابه ولا مهرب من عقابه ولا خلاص من حسابه «وَأُخِذُوا» من قبل ملائكة العذاب «مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ 51» من الأرض من تحت أقدامهم أو من الموقف الذين هم عليه وسيقوا إلى جهنم وزجّوا فيها جماعات ووحدانا لرأيت أمرا مزعجا أهابك مرآه وشيئا فظيعا وددت أن لا تراه «وَقالُوا» وهم في العذاب وقد عرفوا أن عقابهم هذا بسبب عدم الإيمان بك(3/519)
وبكتابك وبربك «آمَنَّا» الآن «بِهِ» بذلك كله وطلبوا العودة إلى الدنيا ليقروا بإيمانهم لديك، ولكن فاتهم هذا إذ تركوه وراءهم «وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ» لهذا الإيمان في الآخرة وقد فات وقته في الدنيا ولا يمكن العودة إليها ليتمكنوا من تناول ما يريدونه «مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ 52» عنها إذ لا بعدا أبعد مما بين الدنيا والآخرة وكان تناول الإيمان في الدنيا قريبا منهم فأهملوه، والتناوش هو التناول عن قرب بسهولة قال الراجز:
فهي تنوش الحوض نوشا من علا ... نوشا به تقطع أجواز الفلا
وقال بعضهم إن التناوش أرادوا به الرجوع إلى الدنيا واستدل بقول الأنباري:
تمنى أن تؤوب إلي مي ... وليس إلى تناوشها سبيل
أي رجوعها، وعليه فلا مانع من تأويل التناوش هنا بالتئاول أيضا ويصح المعنيان أي كيف يتمكنون من تناوش الإيمان «وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ» في الدنيا لمّا كان ذلك ممكنا وقد جحدوه بطوعهم ورضاهم في الدنيا «وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ» أي يقولون رجما بالغيب بأن محمدا كاذب وأن الله لم ينزل كتابا عليه وأن لله شركاء وأن الأوثان التي يعبدونها تنشفع لهم وأن لا بعث ولا حساب ولا عقاب وأن الملائكة بنات الله وأن محمدا ساحر كاهن وأنه لا جنة ولا نار وقولهم هذا «مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» 53 عن الصدق وهو ناشىء من جهلهم بالله ومن مجرد ظنهم الفاسد ووهمهم الخائر، والمراد بهذه الآية تعظيم ما كانوا عليه من الكفر والتكذيب لمحمد صلّى الله عليه وسلم على ما هو عليه من الصدق والأمانة ولأن كفرهم بشيء لا يعلمونه كالبعث بعد الموت وما بعده من أمور الآخرة وقد غرتهم الدنيا بشهواتها «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ» الآن من الرجوع إليها ليؤمنوا ويصدقوا بما جاءهم به نبيهم ويوحدوا الله ويتوبوا مما كانوا عليه ويعملوا صالحا ليتمتعوا بالجنة ذات النعيم الدائم كغيرهم من المؤمنين، وقد أنهكهم الندم على ما فاتهم في الدنيا من الإيمان الذي سبب حرمانهم من النعيم وأوصلهم إلى عذاب الجحيم، والله تعالى يعلم أنه لو أجاب طلبهم لما فعلوا، قال تعالى (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الآية 28 من الأنعام المارة، لهذا لم يجب طلبهم وفعل بهم فعلا فظيعا «كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ»(3/520)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
نظرائهم من الكفار إذ لم يقبل طلب أحد منهم ولا إيمانه ولا توبته ولا تأخير العذاب عنه «مِنْ قَبْلُ» في الدنيا حال يأسهم منها ولم يؤخر الله عذابا نزل على أحد ولم يقبل توبته حال اليأس أو البأس إلا قوم يونس في الدنيا راجع الآية 98 من سورته المارة تقف على الأسباب الداعية لذلك. أما في الآخرة فلا يجاب طلب أحد ما من ذلك كله أبدا لأنهم جنوا على أنفسهم بإضاعة الفرصة بالدنيا وقد أخبروا فيها من قبل أنبيائهم أن لا مجال في الآخرة بقبول شيء من ذلك البتة حيث «إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ» من وجود هذا اليوم ولم يصدقوا الرسل به بل كانوا في ريب «مُرِيبٍ 54» لشدة إنكارهم وجحودهم وعدم التفاتهم إلى نصح الرسل واتهامهم لهم بالكذب فكان جزاؤهم اليوم على أفعالهم في الدنيا لا دافع له ولا مؤخر وقد جف القلم به فتقطع أفئدتهم من سماع هذا الكلام ويكثر صياحهم في النار وحسرتهم على تفريطهم. هذا، ولا يوجد سورة مختومة بهذه اللفظة غير هذه، هذا والله أعلم وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.
تفسير سورة الزمر عدد 9- 59- 39
نزلت بمكة بعد سورة سبأ عدا الآيات 52 و 53 و 54 فإنهن نزلن بالمدينة، وهي خمس وسبعون آية والف ومئة واثنتان وسبعون كلمة، وأربعة آلاف وتسعمئة وثمانية أحرف وتسمى سورة تنزيل، ولا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به، ومثلها في عدد الآي الأنفال فقط.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: هذا «تَنْزِيلُ الْكِتابِ» بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ والخبر مقدر وبالنصب على أنه مفعول لفعل مقدر أي اقرأ هذا التنزيل الذي ينزل عليك يا محمد من قبل ربك من القرآن المدون في اللوح المحفوظ الثابت في أزلنا والذي قدر قديما إنزاله عليك «مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ 1» الذي يجري أمره وينفذ نهيه بمقتضى الحكمة بلا مدافع ولا ممانع، واعلم يا سيد الرسل «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» هذا «الْكِتابَ بِالْحَقِّ»(3/521)
الصريح الواضح وبمقتضاه «فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ 2» من شوائب الشرك والرياء، وهذا مما يراد به غيره صلى الله عليه وسلم من أمته لأنه لا شك بإخلاصه وبعده من الإشراك ولا مانع بأن يخاطب الأمير ما يراد به من الجند لأن الملك لا يولي أميرا إلا وهو يعتقد حزمه وأمانته وقد يحذره الهرب والخيانة أمام جنده ليكون أبلغ إمضاء فيهم «أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ» من كل شائبة الكامل الذي لا أكمل منه «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» سخفا بعقولهم يقولون «ما نَعْبُدُهُمْ» لذاتهم «إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» يتمكنون به من الشفاعة لهم مع أنهم شابوا عبادة الله بعبادتهم، فاتركهم يا حبيبي الآن ولا تتعرض لهم بأكثر من النصح والترغيب «إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ» وبين معبوديهم عند ما يأمرك بقتالهم وقسرهم على الإيمان كما يفصل بينك وبينهم يوم القيامة وحذف الثاني بدلالة الأول عليه قال النابغة:
فما كان بين الخير لو جاء سالما ... أبو حجر إلا ليالي قلائل
أي بين الخير وبيني وقال بعض المفسرين بينهم وبين المخلصين بالعبادة لله ويقرّب المعنى الأول قوله جل قوله «فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» لأنهم يوم القيامة يجحدون عبادتهم ويتبرأون منهم ويصير بينهم الرد والبدل في تكذيب بعضهم راجع الآية 41 من سورة سبأ والآية 44 من سورة الصافات والآية 130 من سورة الأنعام المارات والاختلاف على القول الثاني يكون في أمر التوحيد وأمر الشرك وادعاء كل صحة ما اتصف به ونتيجة حاله في إدخال المؤمنين الجنة والمشركين النار والكل جائز. قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ» بقوله إن الأصنام تشفع له أو تقربه من الله لأنه كذب محض ولذلك وصفه بقوله «كَفَّارٌ 3» كثير الكفر وإنما دحضه بلفظ المبالغة لأنه كفر من وجوه: جحود وحدانية الله واثبات الشريك له واتخاذه ربا دونه، ومن كان هذا شأنه فالهداية لا تناله لأنه غير قابل لها والله تعالى لا يفيض القوابل إلا بحسب القابليات كما يشير إليه قوله عز قوله (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) الآية 50 من سورة طه في ج 1 وقوله (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) الآية 84 من سورة الإسراء ج 1 أيضا وقولهَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
الآية 33 من سورة النحل(3/522)
الآتية لسيىء استعداده على قبول الضلال وعدم استعداده لقبول الهدى ختم عليه بذلك لأنه خلقه كذلك. قال تعالى (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) الآية 7 من الشورى الآتية وهذا من الأزل، لأنه حينما خلق الخلق قال هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار، وقال صلّى الله عليه وسلم: كل ميسر لما خلق له تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
فهو الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)
الآية 7 من سورة السجدة الآتية، وهو الذي لا يسأل عما يفعل. قال تعالى «لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً» كما يزعمون، تعالى عن ذلك «لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ» لا منازع له ولا معارض ولكنه لم يرد فامتنع أن يقال اتخذ ولدا «سُبْحانَهُ» تنزه عن ذلك وتقدس عما لا يليق به «هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ» في ملكه المبرأ عن انضمام الأعداد والمتعالي عن التجزي والولاد «الْقَهَّارُ 4» لكل شيء المحتاج إليه كل شيء، وهذه مسوقه لتحقيق الحق الذي هو تنزيهه جل شأنه عن ذلك وإبطال القول بأن الملائكة بناته، ويدخل فيه ما نسبه أهل الكتابين من بنوّة عيسى وعزير عليهما السلام مضاهاة للعرب الذين نسبوا بنوة الملائكة إليه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا وتقدس تقديسا عظيما ببيان استحالة اتخاذ الولد في حقه على الإطلاق ليندرج فيه استحالة ما قيل اندراجا أوليا، ومن هذا الباب نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه مطلقا، وحاصل معنى الآية والله أعلم:
لو أراد سبحانه اتخاذ الولد لامتنعت تلك الإرادة لتعلقها بالممتنع أعني الاتخاذ. لكن لا يجوز على الباري إرادة ممتنعة لأنها ترجح بعض المكنات على بعض، وأصل الكلام لو اتخذ الولد لامتنع لاستلزامه ما ينافي الإلهية فعدل إلى لو أراد الاتخاذ لامتنع أن يريده ليكون أبلغ وأبلغ، ثم حذف هذا الجواب وجيء بدله (لَاصْطَفى) تنبيها على أن الممكن هذا لا الأول وأنه لو كان هذا من اتخاذ الولد في شيء لجاز اتخاذ الولد عليه سبحانه تنزه عن ذلك، فقد تحقق التلازم وحق نفي اللازم واثبات الملزوم دون صعوبة. واعلم أن اتخاذ الولد يقتضي التبعيض وانفصال شيء من شيء ويقتضي المماثلة أيضا بين الولد والوالد، هذا وإن الوحدة الذاتية الحقيقية التي هي في أعلى مراتب الوحدة الواجبة له تعالى بالبراهين القطعية العقلية تأبى التبعيض والانفصال إباء ظاهرا لأنهما من خواطى الحكم، وقد اعتبر في مفهوم الوحدة الذاتية(3/523)
سلبه فتأبى الاتخاذ المذكور وكذا تأبى المماثلة سواء فسرت بما ذهب إليه الجبائي وأضرابه من قدماء المعتزلة وهي المشاركة في أخص صفات الذات كمشاركة زيد لعمرو في الناطقية أم فسرت بما ذهب إليه المحققون من الماتريدية وهي المشاركة في جميع الصفات الذاتية كمشاركته له في الحيوانية والناطقية، أم فسرت بما نسب إلى الأشعري وهو التساوي بين الشيئين من كل وجه. هذا ويفهم من لفظ القهار الذي ختمت به هذه الآية الزجر والتهديد لأولئك المتخذين إلها غير الله الناسبين إليه الولد، وفائدة هذا الزجر والتخويف ليرتدعوا عن القول بذلك وإنما اقتصر على التهديد فقط مع أنهم يستحقون أكثر منه لأن علاج الرجل المصر على بطله أن تأتي له بما يزيل الإصرار عن قلبه حتى يسمع الدليل ويعيه فيفضي إلى المقصود، ولهذا فإن الطبيب يتقدم إلى المريض أولا يسقى بشيء منضج ليفتت ما في أمعائه ثم بالحقنة لإخراج تلك الفتات التي كانت متحجرة فيها ثم بالمسهل لإفراغ تلك الأمعاء وتطهير المعدة مما كان فيها إذ لو أعطاه المسهل رأسا لما نفعه بل قد يضره لأن المواد الفاسدة اليابسة لا يؤثر عليها وإذا لم تخرج هذه لا يتيسر لمسهل التطهير بل قد لا يتيسر له الخروج أيضا فتمتلىء الأمعاء فتتلاشى ويحصل الموت بالأجل المقدر على هذا، فإجراه التهديد أولا يجري مجرى المنضج والتفتيت واسماع الدليل بعده يجري مجرى الحقنة وقبول ذلك يجري مجرى المسهل تدبر. قال تعالى «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» خلقا مشتملا على الحكم والمصالح بالعدل والصواب «يُكَوِّرُ» يلف ويغيّب ويغشي «اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ» إذا طرأ عليه، إذ يضمحل فيه ولا يبقى له أثر «وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ» إذا حدث عليه فيفعل فيه ما فعل فيه التكوير هو اللف واللّي يقال كار العمامة وكوّرها على رأسه إذا لفها ولواها شبه سبحانه تغيب أحدهما بالآخر بشيء ظاهر غشيه ما غيبه عن الرؤية بحيث يلبسه مكانه لاشتماله عليه، ومن قال إن المعنى يحمل أحدهما على الآخر فتحصل الزيادة والنقصان فيهما فقول لا يتجه هنا بل يكون في تفسير قوله تعالى (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) الآية 13 من سورة فاطر المارة في ج 1، ونظيرها في الآية 27 من آل عمران والآية 6 من سورة الحديد في ج 3، ولا يخفى أن الإيلاج غير التكوير(3/524)
لفظا ومعنى «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» عنده وسيبقى هذا الجريان مستمرا حتى إذا أراد خراب هذا الكون فرطه، وكما أن هذا الجريان لأجل معين فهو لمكان معين وبطريق معروف أيضا لا يزيغ عنه قيد شعرة وبانتظام تام على مر الأعوام فسبحانه من مدبر مبدع علام، فانتبهوا أيها الناس لهذا الإله «أَلا هُوَ الْعَزِيزُ» الغالب كامل القدرة لا مثيل له «الْغَفَّارُ 5» كثير المغفرة واسع الرحمة عظيم الفضل كثير الإحسان لمن تفكر واعتبر بمصنوعاته، كما أنه قاصم الرقاب ومهلك ألباب من لم يتعظ ويتدبر بآياته ومبتدعاته فهو الإله الواحد العظيم الذي «خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» هي نفس آدم عليه السلام «ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها» حواء رضي الله عنها لأنه خلقها من ضلعه فهو من تراب وهي من عظم ولحم ودم وسائر الخلق من النطف والتكوين سبحانه نوع خلقه أربعة أنواع متقابلة، خلق آدم بلا أب ولا أم وحواء من أب بلا أم وعيسى من أم بلا أب وبقية البشر من أب وأم «وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ» لما كانت الأنعام لا
تعيش إلا بالنبات، والنبات لا يقوم إلا بالماء، والماء ينزل من السماء، قال تعالى (وَأَنْزَلَ) أي أحدثها وأنشأها بأسباب نازلة من السماء كالأمطار والثلوج وأشعة الكواكب الناشئ عنها العشب الذي تقتات به الحيوانات، وهذا على حد قوله تعالى (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) الآية 26 من الأعراف في ج 1، لأن اللباس نفسه لم ينزل من السماء وإنما أنزل الماء فأنبت القطن وغيره من كل ما ينسج والنبات الذي غذى متنه الحيوان الذي يحصل منه الصوف والشعر والوبر وغيره وأنعش دود القز وشبهه الذي يحصل منه الحرير وغيره فاتخذت الألبسة منها، وقال بعضهم معنى (أَنْزَلَ) قضى وحكم وقسم، وأراد بأن قضاء الله تعالى وقسمه يوصف بالنزول من السماء لأنهما مدونان باللوح المحفوظ وكل ما يقع في الكون فهو نازل مما هو مكتوب فيه، وهو كما ترى «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» تقدم بيانها في الآية 143 من سورة الأنعام المارة «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ» أنتم وأنعامكم وغلب في الخطاب من يعقل على من لا يعقل لشرفه عليه. واعلم أن مخلوقات الله تعالى ما يكونه تكوينا فيكون بنفسه من غير البطن وهذا داخل في لفظ الخلق ويكون(3/525)
خلقه تدريجا حتى يكمل فيدخل في قوله تعالى خلقا من بعد خلق أما الإنسان وقسم من الحيوان فيكون «خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ» في الرحم المشتمل عليه البطن من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى لحم وعظم «فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ» ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة وهي الجلدة الرقيقة التي تشتمل على الجنين «ذلِكُمُ» أيها الناس الذي يفعل هذه الأشياء وغيرها مما لا يطيق على جزء بعضه أعظم البشر ولو كان بعضه لبعض ظهيرا هو «اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ» كله وحده «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» الذي لا يستحق العبادة غيره فهو المعبود الحق «فَأَنَّى تُصْرَفُونَ 6» أي كيف تعدلون عن الحق إلى الباطل بعد أن اتضح لكم. ولهذا البحث صلة في الآية 12 من سورة المؤمنين الآتية والآية 4 من سورة الحج في ج 3، واعلموا أيها الناس أنكم «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ» وأنتم محتاجون إليه «وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ» لأنه يؤدي بهم إلى النار، ولذلك ينهاهم عنه ويرضى لهم الإيمان المؤدي إلى الجنان ولذلك يأمرهم به، والرضى بالشيء مدحه والثناء عليه والله تعالى قد ذم الكفر وقبحه وحبذ الإيمان ومدحه، والفرق بين الإرادة والرضى ظاهر وإن إرادته منهم لا يعني أنه أمرهم به أو رضيه عنهم، راجع الآية 149 من سورة الأنعام المارّة وما ترشدك إليه تقنع «وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» (يقرأ باختلاس ضم الهاء حتى يرضه لا بالإشباع) لأن في الرضا نجاتكم من العذاب وفوزكم بالجنة، ويفهم من هذه الآية أن الله تبارك وتعالى أراد بالشكر هنا الإيمان لمجيئه بمقابلة الكفر، غير أنه إذا فسر الكفر فيها بكفران النعمة والشكر بشكرها أولى لأن الآية عامة وابقاء اللفظ على عمومه أولى من تخصيصه بدون صارف يصرفه عن عمومه ولكن لم أر من قال به ولذلك قدمنا ما عليه الجمهور والاتباع خير من الابتداع «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» تقدم تفسيرها في الآية 18 من سورة فاطر والآية 38 من سورة والنجم في ج 1 والآية 164 من سورة الأنعام المارة «ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ» في الآخرة «فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» في الدنيا ويجازيكم عليه دون حاجة إلى سؤال أو اعتراف أو شهود «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ 7» ومن كان عالما بخفيّات الأمور(3/526)
وسرائرها فهو بعلانيتها وظواهرها أعلم «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ» من كل ما يتضرر به الإنسان أو يتألم منه مادة ومعنى «دَعا رَبَّهُ مُنِيباً» راجعا خاضعا خاشعا مستغيثا «إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ» أعطاه وأعاره وراعاه ومعنى خوّله جعله ذا خول أي عبيد وإماء وخدم وأصله تعهد الشيء والرجوع إليه مرة بعد أخرى والمحافظة عليه وأطلق على العطاء «نِعْمَةً مِنْهُ» تفضلا منه لا لغرض ولا لعوض «نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ» وهو الضر وترك الدعاء أيضا بكشفه، ولم يكتف بهذا الصدود عن ذلك المنعم بل مال إلى الافتراء عليه «وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً» أمثالا صيرها آلهة معه ولم يقتصر على ضلاله بل عمد «لِيُضِلَّ» غيره «عَنْ سَبِيلِهِ» الحق القويم، فيا أكرم الرسل «قُلْ» لهذا الكافر وهو على ما قيل عتبة
بن ربيعة أو حذيفة المخزومي «تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا» في هذه الدنيا الفانية لأنها بالنسبة للآخرة قليل ومهما عاش بها ابن آدم أو ملك منها فهو قليل وقد تهون بعين المؤمن إذ يرجو عند ربه خيرا منها وتعظم بعين الكافر لكونه صفر اليدين في الآخرة إذ يقال له فيها «إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ 8» أجارنا الله منها، وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنه ومن قال بأنها نزلت في أحد المذكورين فقوله لا يخصصها لأن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ كما أن قوله تعالى «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ» عامة أيضا في كل من كان ديدنه ذلك. وما جاء أنها نزلت في أبي بكر أو عمر أو عثمان رضي الله عنهم وكلهم أهل لأن ينزل فيهم قرآن وأن يوصف بما في هذه الآية لا يخصصها أيضا «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» استفهام إنكاري أي لا يستوون عند الله وعند عقلاء الأمة لأن العالم من ينتفع بلبّه لقوله تعالى «إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ 9» بآيات الله والجهال لا قلوب لهم حيّة تعي ذلك فلا يتذكرون ولا يذكرون.
مطلب في الخوف والرجاء والتعريض بالهجرة لمن ضاقت به أرضه:
يستدل من هذه الآية أن جانب الرجاء أكمل وأولى أن ينسب إلى الله تعالى لأنه أضيف في هذه الآية الحذر في مقام الخوف للنفس الإنسانية، وأضيفت الرحمة(3/527)
في مقام الرجاء إلى الحضرة الربانية، ويؤيد هذا ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت (أي محتضر) فقال له:
كيف تجدك؟ قال أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي، فقال صلّى الله عليه وسلم لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه تعالى ما يرجو وآمنه مما يخاف- أخرجه الترمذي- فيجب على المؤمن أن يكون دائما بين الخوف من عقاب الله بالنظر لتقصيره تجاهه والرجاء لرحمته بالنظر لواسع فضله، وفي حالة الصحة يرجح الخوف على الرجاء، وفي حالة الشدة يغلب الرجاء على الخوف، ولا ينبغي أن يبالغ في الرجاء فإنه إذا جاوز حده يكون أمنا والله تعالى يقول (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) الآية 99 من سورة الأعراف المارة في ج 3، ولا يبالغ في الخوف فإنه إذا جاوز حده يكون يأسا وقال الله تعالى (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) الآية 87 من سورة يوسف المارة، وافتتح الله تعالى هذه الآية بالعمل وختمها بالعلم لأن العمل من باب المجاهدات وهو البداية في سلوك طريق الله السوي والعلم من باب المكاشفات وهو النهاية لبلوغ المقصد العلي فإذا حصلا للإنسان دل ذلك على كماله وفضله، قال تعالى «قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ» بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فإن «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا» العمل بعد الإيمان والتقوى «فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ» عظيمة في الآخرة لا مثيل لها ولا توصف لأنها من قبل من ليس كمثله شيء «وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ» لا تضيق بكم فإذا رأيتم جورا في قسم منها فاتركوه وانزلوا غيره، وهذه أول آية عرّض الله بها إلى رسوله بالهجرة من مكة لأنها ترمز إلى أنه إذا لم يتمكن الإنسان من فعل الإحسان الذي أمره ربه به في وطنه فليهجرها ويهاجر إلى غيرها من بلاد الله تعالى مما يمكنه إجراء ما أمر به من العبادة كما فعل الأنبياء والصالحون من قبل إذ تركوا أوطانهم التي أهينوا فيها لأجل الله وتوطنوا غيرها، فلا عذر لكم بأن لا تحسنوا في أعمالكم وأقوالكم بسبب بقائكم بأرض يمنعكم أهلها من ذلك، واصبروا على مبارحة دياركم ومفارقة تعلقاتكم من أهل ومال وجاه ونشب وعشيرة «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ» عند الله الذين صبروا من أجله «بِغَيْرِ حِسابٍ 10» بشيء كثير(3/528)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
لا يعرف حسابه ولا يهتدي إليه حاسب، وذلك لأنهم صبروا على الجلاء طاعة لله تعالى وطلبا لازدياد فعل الخير ولئلا يفرطوا بأوقاتهم دون أن يقدّموا لله تعالى بها حسنات، قال علي كرم الله وجهه: كل مطيع يكال له كيلا ويوزن له وزنا إلا الصابر فإنه يحثى له حثيا. وروي أنه يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صبا بغير حساب حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا لو أن أجسادهم تقرض بالمقاريض لما يذهب به أهل البلاء من الفضل.
وهذه الآية عامة مطلقة محكمة ولا تزال كذلك إلى آخر الزمان، وما جاء من الآثار بأنها نزلت في سيدنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة لأرض الحبشة لا يقيدها ولا يخصصها لما تقدم آنفا في الآية 8 و 10، وعلى هذا فإنه يجب على كل من لم يتمكن من القيام بأمر دينه كما ينبغي في بلدة ما أن ينتقل إلى غيرها لإقامة شعائر دين الله كما هو مفروض عليه ولا عذر له بالتفريط لأن الله تعالى لم يضيق عليه ولم يقسر خلقه على الإقامة في بلد واحد بل وسع عليهم بالنقلة وجعلهم بالخيار، فأي قرية أراد الإقامة فيها لأمر دينه ودنياه أيضا فله ذلك وجاء في الخبر عن سيد البشر أن من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وجبت له الجنة.
فعلى العاقل البصير المتفكر أن لا يصغي لوساوس الشيطان من تخويفه بضيق العيش قال تعالى (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) الآية 100 من سورة النساء في ج 3، ولهذا البحث صلة واسعة في تفسيرها وفي الآية 55 من سورة العنكبوت الآتية إن شاء الله القائل
«قُلْ» يا سيد الرسل «إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ 11» وحده لا لغيره ولا تكرار في هذه الآية لأن الأولى خطاب من الله إلى رسوله، وهذه أمر من الله إليه بأن يفهم قومه غاية عبادته وأن يقول لهم أمرت بالإخلاص لعبادته فأخلصوا أنتم العبادة إليه «وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ 12» من هذه الأمة كما كان جدي إبراهيم عليه السلام راجع الآية 163 من سورة الأنعام المارة والآية الأخيرة من سورة الحج في ج 3، فاتبعوني وأسلموا لله تفوزوا بخيري الدنيا والآخرة، «قُلْ» يا سيد الرسل «إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي» في هذه الدنيا بعدم تبليغكم ما أمرني به «عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 13» وهو يوم القيامة الذي لا أعظم منه هولا،(3/529)
وقدمنا في الآية 15 من سورة الأنعام نظير هذه الآية وانها نزلت حين قال كفار قريش لحضرة الرسول ما حملك على ما أتيتنا به ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وقومك فتأخذ بها ليجتمع عليك فخذك وعشيرتك ومن والاهم فأنزل الله هذه الآية وفيها مزدجر عظيم لمن ألقى السمع لمعناها وكان له قلب يعي مغزاها لأنه صلّى الله عليه وسلم مع جلالة قدره وشرف طهارته ونزاهته وعلو مقامه ومنصبه خائف حذر من هول ذلك اليوم ووجل مما يكون فيه فكيف بنا يا ويلنا إن لم يرحمنا الله، ثم أكد عليه ربه بقوله «قُلِ» لقومك الذين يريدونك على دينهم الباطل لا أتبع أهواءكم وإنما أعبد «الله مُخْلِصاً لَهُ دِينِي 14» لا أرغب في عبادة شيء غيره وإن ما يعبده آبائي وقومي باطل وإنكم على ضلال باتباعهم، أخبر الله سبحانه في هذه الآية أنه صلّى الله عليه وسلم يخص الله وحده بعبادته ويخلص لجلاله دينه، وفي الآية الأولى أي الثانية بالنسبة للآية التي بصدر هذه السورة أنه مأمور بالعبادة والإخلاص لله تعالى فلا تكرار أيضا لأن الكلام أولا واقع في نفس الفعل وإتيانه، وثانيا فيما يفعل الفعل لأجله، ولهذا رتب عليه قوله جل قوله «فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ» ففيه الخسار العظيم والوبال الشديد عليكم، وهذه الجملة فيها تهديد ووعيد وليست من باب الأمر بل من باب التبليغ والزجر يدل عليه قوله عز قوله «قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» فهولاء الكاملون في الخسران الجامعون لوجوهه وأسبابه باختيارهم الكفر ورضاهم به وقد وصف الله تعالى خسرانهم بغاية الفظاعة بقوله سبحانه تنبيها لاجتنابه «أَلا ذلِكَ» الخسران المزدوج «هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ 15» لأن أهله استبدلوا الجنة بالنار والدرجات بالدركات في الآخرة كما استبدلوا الطاعة بالعصيان والتصديق بالجحود في الدنيا ثم بين نوعا من هذا الخسران فقال «لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ» أطباق وأعطية «مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ» فراش ومهاد، وهذا من باب اطلاق اسم الضدين على الآخر لأن الظلل لا تكون من تحت بحال من الأحوال لمعلوميتها كما تقول (خرق الثوب المسمار) برفع الثوب ونصب المسمار لمعلوميته أيضا إذ لا يكون الثوب خارقا للمسمار بحال ما البتة.(3/530)
مطلب المراد بالتخويف للمؤمنين والأخذ بما هو أحسن وأنواع البشارات للمؤمن:
«ذلِكَ» العذاب الشديد «يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ» المؤمنين لأنهم هم المنتفعون بالتخويف، فإذا سمعوا ما نعى الله من حال الكفار في الآخرة الذين رجحوا الباطل على الحق وأهلكوا أنفسهم وأهليهم الذين اتبعوهم على ما هم عليه اشتدّ وجلهم وأكثروا من إخلاصهم لربهم وبالغوا في توحيده وداوموا على طاعته وأكثروا من تمجيده، ولهذا فإنه تعالى قد شرفهم بإضافتهم لذاته المقدسة فناداهم حرصا عليهم «يا عِبادِ فَاتَّقُونِ 16» واجعلوا خشيتي نصب أعينكم ولا تتعرضوا إلى سخطي فقد حذرهم نفسه بعد أن خوفهم ناره التي وعدها لعصاته، وقال بعض المفسرين إن التخويف خاص بالكافرين طلبا للإيمان به، ولكن ما جرينا عليه أولى لئلا يختلف المراد من الجملة الثانية عن الأولى إذ لا شك أن المراد بالثانية المصدرية (يا عِبادِ) المؤمنين خاصة كالآية الأولى ونظيرها الآية 41 من سورة الأعراف في ج 1، وقال بعض المفسرين: المراد بالآية المؤمنون والكافرون، وهو وجيه لولا إضافة التشريف والاختصاص لجنابه المنيع، وهناك قول بأن الإضافة لا تختصّ بالمؤمنين فقط وإن كان فيها ما فيها من التشريف الذي يختص به المؤمنون غالبا لأن الكل عباده وقد استدل صاحب هذا القول بقوله تعالى (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) الآية 5 من سورة الإسراء في ج 1، وهم ليسوا بمؤمنين وقد بينا المراد بها فراجعها، قال تعالى «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها» تباعدوا عن عبادتها لأن أن وما بعدها في تأويل المصدر والطاغوت مبالغة الطغيان راجع الآية 74 من الأنعام المارة، فتجافوا عنها «وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ» رجعوا بكليتهم إليه وتركوا تقليد آبائهم بعبادتها عن رغبة وإخلاص فهؤلاء «لَهُمُ الْبُشْرى» من قبل رسلهم بالجنة عن إيمانهم ومن قبل المؤمنين بالثناء عليهم بالأعمال الصالحة في الدنيا وتبشرهم الملائكة بثوابها عند موتهم فتقرّ أعينهم وفي قبورهم أيضا تبشرهم بالأمن من عذابها وفي الموقف عند بعثهم تتلقاهم بالبشارة بالخلاص من هوله وفزعه وبعد الحساب تبشرهم بالفوز والنجاة وعند الصراط تبشرهم بالسلامة وعند دخول الجنة تبشرهم بالدرجات العالية، اللهم اجعلنا منهم. ثم خاطب حبيبه بقوله يا سيد(3/531)
الرسل «فَبَشِّرْ عِبادِ 17» ثم خصّهم بقوله «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ» مطلق عام في كل قول ولا وجه لتخصيصه بالقرآن العظيم كما ذكره بعض المفسرين بلا دليل يستند إليه «فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» مدحهم الله جلّ مدحه لتمييزهم بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل فإذا اعترضهم ما هو واجب فعله وما هو مندوب اختاروا الواجب، وإذا اعترضهم مكروه ومباح اختاروا المباح، وكذلك يختارون ما هو أكثر ثوابا، فيتركون الانتقام لأنفسهم ممن ظلمهم مع القدرة عليه ويركنون للعفو عمن تعدى عليهم مطلقا، ويختارون العفو على القصاص، ويميلون إلى التصدق بالفضل عن الصدقة المفروضة، وهكذا يميلون إلى الأحسن عند الله ولو فيه هضم حقهم. وليعلم أن ما أمر الله به ورسله كله حسن وقد يكون فيه أحسن بحسب التفاضل بالعمل به من حيث كثرة الثواب وإذلال النفس كما في العفو عن القصاص والتصدق بالفضل وتكرار الحج والإكثار من صلاة النّفل وذكر الله والأخذ بالعزيمة وترك الرخص وما أشبه ذلك راجع الآية 145 من سورة الأعراف في ج 1 تجد ما يتعلق في هذا، وما هو موافق لشرعنا من الشرائع القديمة، وما هو مخالف له، وله صلة في الآية 42 من سورة الشورى الآتية وفي الآية 55 من هذه السورة أيضا. هذا، وما قاله ابن عباس رضي الله عنهما من أن هذه الآية نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد حينما جاءوا على أبي بكر رضي الله عنهم جميعا وأخبرهم بإيمانه وآمنوا كلهم لا يخصصها فيهم بل هي عامة في كل محتسب تائب نائب إلى ربه. واعلم أن هؤلاء السبعة والسادة عمر وعلي وعامر بن الجراح هم العشرة المبشرون بالجنة الفائزون بخير الدنيا والآخرة، وقد سألت الله أن يحشرني مع سعد بن أبي وقاص عند تفسير الآية 14 من سورة لقمان المارة والآن أوكد رجائي من ربي بذلك «أُولئِكَ» الموصوفون هم «الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ» إلى طريقه المستقيم فوحدوه وعبدوه ومجدوه كما ينبغي لذاته المقدسة «وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ 18» القلوب الواعية المنتفعون بعقولهم، قال تعالى «أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ» بنص قوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) الآية 120 من سورة هود المارة وقوله في الحديث
القدسي:(3/532)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)
(هؤلاء إلى النار ولا أبالي) ممن اختاروا الكفر على الإيمان والضلال على الهدى فاستحقوه، أيقدر أحد أن ينجيهم منه كلا «أَفَأَنْتَ» يا حبيبي تقدر «تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ 19» كلا لا تستطيع ذلك البتة لدخولهم في حكمه الأزلي ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، قال ابن عباس يريد به أبا لهب ولكن الآية عامة كما ترى يدخل فيها كل من حقت عليه كلمة العذاب من جميع الكفار لأنها مسوقة في أضداد الموصوفين بالآية المتقدمة التي حكمها عام أيضا، قال تعالى «لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ» هذا استدراك بين ما ليشبه النقيضين والضدّين وهم المؤمنون والكافرون وأحوالهما، والمراد بالمتقين هنا الموصوفون بتلك الخصال العالية والأخلاق السامية «لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ» جمع غرفة وهي العلّية «مَبْنِيَّةٌ» بعضها فوق بعض «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» لتمام الزينة وكمال النظارة لا لحاجة الشرب لأن أهل الجنة لا يكلفون السقيا منها فإذا أرادوا الشرب ناولهم الخدم ما يشتهون من أنواع الأشربة، وهذا الذي ذكر من الإكرام للمتقين هو «وَعْدَ اللَّهِ» لهم بذلك على لسان رسلهم وعدا مؤكدا «لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ 20» الذي وعده عباده وحاشاه من ذلك وهو الآمر عباده بإنجازه. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدريّ الغابر في الأفق من الغرب أو المشرق لتفاضل ما بينهم، فقالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين.
قال تعالى «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» بحسب ما نرى راجع الآية 44 من سورة هود المارة «فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ» أنهارا وعيونا وجداول وبركانا تخرج من عروق الجبال والأرض كعروق الجسد في الحيوان التي تجري فيها الدماء «ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ» بالماء النازل على وجه الأرض أو بالمستقر بالبرك والعيون والجاري في الجداول والأنهار إذا سقى به الأرض بالدلاء والنواعير والآلات الحديدية والسيح وغيره «زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ» أخضر وأسود وأزرق وأبيض وأحمر وأصفر وما بين ذلك من الألوان، لأنك إذا مزجت بعضها ببعض يظهر منها ألوان أخر(3/533)
لأن أصل الألوان أربعة: أبيض وأسود وأحمر وأخضر، فإذا مزجت الأبيض مع الأحمر صار أخضر وهكذا «ثُمَّ يَهِيجُ» يثور والمراد بالهيجان هنا والله أعلم أن يجف وييبس وهذا من مجاز المشارفة لأن الزرع إذا تم جفافه يشرف على أن يثور ويذهب من منابته وانه بعد تلك الألوان البهية المختلف أزهارها «فَتَراهُ مُصْفَرًّا» إذ تحيل لونه الكواكب والأرياح بما يضع الله فيها من التأثير وهو الملك القدير الذي أنبته من لا شيء «ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً» هشيما مفتتا بعد ما كان يهتزّ بالأرض الرابية به المزدهرة بنوّاره «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإنزال والإدخال والإخراج والإنبات والألوان والجفاف والتفتيت «لَذِكْرى» عظيمة وعبرة كبيرة وعظة جسيمة «لِأُولِي الْأَلْبابِ 21» المنتفعين بعقولهم المستدلين بها على كمال قدرة الإله العظيم وفي إعادة هذا الزرع بعد يبسه وفتاته دليل على البعث بعد الموت، قال تعالى «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ» فاهتدى به «فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ» وبصيرة ويقين من أمره وهذا ليس كمن طبع الله على قلبه فقسى وضل والعياذ بالله فتاه في ظلمات الجهل «فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» والقسوة جمود وصلابة في القلب ومما يزيدها كثافة الغفلة عن ذكر الله تعالى ومما يصقلها وينورها دوام ذكر الله، وإذا كانت النفس خبيثة الجوهر لا يزيدها سماع ذكر الله إلا كدورة لتراكم الرّين عليها وتلبد الصدأ، وإذا كانت طيبة الجوهر فذكر الله يصقلها ويرققها ويلينها لطهارتها ونظافتها وذلك كالشمس فإن حرارتها تعقد الماء ملحا وتلين الشمع الجامد وقد تذيبه بالنظر لجوهر كل وقابليته، هكذا ذكر الله وتلاوة كتابه إذا سمعها الكافر إزداد قلبه قساوة وجحودا وإذا سمعها المؤمن ازداد قلبه لينا ورقة وفناء في الله بحسب جوهر كل وقابليته، يؤيد هذا قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً ... وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) الآية 114 فما بعدها من سورة التوبة في ج 3 فراجعها «أُولئِكَ» قساة القلوب «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ 22» لا خفاء عليه، إذ حقت عليهم كلمة العذاب، وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنه من الفريقين فيها، وما جاء أنها نزلت في أبي بكر الصديق وأبيّ بن خلف الزنديق أوفي حضرة الرسول الكامل وأبي جهل العاطل(3/534)
أو في علي وحمزة وأبي لهب وولده لا يقيدها عن إطلاقها ولا يخصصها عن عمومها، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فيدخل فيها من شرح الله قلبه للإسلام من المشار إليهم وغيرهم وقساة القلوب المذكورون وأضرابهم دخولا أوليا وتشمل كل من على شاكلة الفريقين المرضي عنهم وعليهم والمغضوب عليهم من ساعة نزولها إلى قيام الساعة، وقد ألمعنا لهذا البحث في الآية 125 من سورة الأنعام المارة ففيها ما يشفي الغليل ويكفي النبيل، قال تعالى «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ» هو القرآن لأنه فاق ما تقدمه من الكتب والصحف كلها فضلا عن الأحاديث النبوية من جهة اللفظ، لأنه أفصح وأجزل وأبلغ في كل كلام، ومن جهة المعنى لأنه منزه عن التناقض والاختلاف، ومن جهة المضمون لاشتماله على كل ما أنزل الله عن الأنبياء السالفين، ومن جهة الإعجاز لأن الله تعالى تحدى بسورة منه الإنس والجن ومن جهة الأخبار بالغيب لأنه أخبر عما وقع قبل نزوله وأشار لما يقع بعد، ولفظ الحديث في الآية كناية عن أنه كلام محدّث به لا بمعنى أنه مقابل للقديم، ومن قال بالتلازم من الأشاعرة القائلين بحدوث الكلام اللفظي جعل الأوصاف الدالة على الحدوث لذلك الكلام اللفظي لا لكلام الله الأزلي الخالي عن الصوت والحرف، لأن كلام الله قديم كذاقه
والكلام في هذا يجر إلى الكلام بخلق القرآن وعدمه وقد عقدت له مطلبا خاصا في المقدمة فراجعه. وقد يطلق لفظ الحديث هنا على القرآن من باب المشاكلة فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول هذه الآية أن قوما من الصحابة قالوا يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان وبأخبار الدهر فنزلت. ثم وصف قوله أحسن الحديث لكونه «كِتاباً مُتَشابِهاً» في وعظه وحكمته وإعجازه وآياته ليصدق بعضه بعضا وكونه «مَثانِيَ» يثنى بالتلاوة ويكرر فيه الأمر والنهي والوعد والوعيد والقصص والأخبار والأمثال والأحكام «تَقْشَعِرُّ» ترجف وتضطرب وتتحرك «مِنْهُ» من سماعه والنظر إليه «جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ» عند سماع آيات العذاب والوعيد والتهديد، والاقشعرار هو تقبض الجلد تقبضا شديدا عند عروض خوف شديد ودهوم أمر هائل بغتة فيقال اقشعر جلده وقف شعره وقلوبهم أيضا تقشعر بدليل قوله «ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» عند سماع آيات الرحمة.(3/535)
مطلب في الصعق الذي يحصل لبعض الناس عند تلاوة القرآن وسماع الذكر:
روي عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا اقشعر جلد المؤمن وفي رواية العبد من خشية الله تعالى تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها.
وروي عن عبد الله ابن عروة بن الزبير قال لجدته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم كيف كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرىء عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله عز وجل تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم قال فقلت لها إن أناسا اليوم إذا قرىء عليهم القرآن خرّ أحدهم مغشيا عليه، قالت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي أنها استنكرت ما سمعته. وروي أن ابن عمر مر برجل من أهل العراق ساقط فقال ما بال هذا؟ قالوا إنه قرىء عليه القرآن أو سمع ذكر الله فسقط، قال ابن عمر إنا لنخشى الله وما نسقط، يريد انتقادهم. وقال ما كان هذا صنيع أصحاب محمد قال ابن سيرين: بيننا وبين هؤلاء أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه ثم يقرأ القرآن من أوله إلى آخره (أي بحضوره على تلك الصفة) فإن رمى بنفسه فهو صادق. وقال عبد الله بن الزبير: جئت أمي فقلت وجدت قوما ما رأيت خيرا منهم قط يذكرون الله تعالى فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله تعالى فقالت لا تقعد معهم. ثم قالت رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتلو القرآن ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن فلا يصيبهم هذا أفتراهم أخشى من أبي بكر وعمر. وقال قتادة في هذه الآية: إن الله نعت أولياءه بالقشعريرة والبكاء واطمئنان القلب إلى ذكر الله ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما هذا من أهل البدع، وإنما هو من الشيطان.
وقال ابن جبير الصعقة من الشيطان. واعلم أن هذه الأخبار وأمثالها تنعى على السادة الصوفية صعقهم وتواجدهم وضرب رءوسهم بالأرض وأيديهم بعضها ببعض عند سماع القرآن وبأثناء الذكر والقصائد الإلهية والمحمدية وما هو منها في ذكر بعض الأكابر من العارفين، وعذرهم في ذلك حسبما تقوله مشايخهم لضعف القلب عن تحمل الوارد من معاني الآيات والأذكار وأوصاف الكاملين وما وقع منهم أو عليهم، فإن من يقع منه ذلك ليس في الكمال والمناقب كأصحاب رسول الله والتابعين في الصدر الأول لضعف قوة تحملهم، وهو دليل نقصهم عن مراتب الكمال، لأن(3/536)
السالك لطريقهم إذا كمل رسخ وقوي قلبه ولم يصدر منه شيء من ذلك، ويقولون ليس في هذه الآية وشبهها أكثر من اثبات الاقشعرار واللين وليس فيها نفي اعترائهم حالة أخرى، بل في الآيات إشعار بأن المذكور فيها حال الراسخين الكاملين لقوله تعالى (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) فعبر بالموصول ومقتضى معلومية الصلة أن لهم رسوخا في الخشية.
وفي كلام ابن سيرين ما يؤيد ذلك ومن حمل الأمر على غير الكاملين أجاز وقوعه من غيرهم ومتى ما كان الأمر ضروريا فلا اعتراض على من يتصف به وإنا نرى وقوع هذا كله من بعض المريدين لا منهم كلهم ولم نر هكذا أحوالا من مشايخهم بما يدل على أن الوصول لدرجة الكمال تحول دون ذلك أما ما يقع من بعض المتصوفة رياء وسمعة باختياره وقصده فذلك هو الذي تعوذت منه أسماء رضي الله عنها وقال فيهم قتادة وابن جبير وغيره ما قالوه آنفا، وقدمنا في الآية 43 من سورة المزمل ج 1 ما يتعلق بها فراجعه، وله صلة في الآية 31 من سورة الرعد في ج 3 وفي مراجعة هذا وذاك تعلم أن الصعق له أصل صحيح في الشرع فسلم له وإياك أن تعترض على هؤلاء السادة فإن لحومهم مسمومة والله تعالى ينتصر لهم لأنهم أولياؤه، وقد جاء في الحديث القدسي عن النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال:
من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وإن الله جلت عظمته لم يطلب محاربة أحد من عباده عدا صنفين هؤلاء وأكلة الربى إذ يقول جل قوله (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ) الآية 280 من سورة البقرة في ج 3. هذا وقد يكون من هؤلاء السادة من لا ناصر له إلا الله وقد حذر حضرة الرسول من ظلم من لا ناصر له، وروي عنه أنه قال: اشتد غضب الله على من ظلم من لا يجد ناصرا غير الله، وروى الطبراني في الكبير والضياء في المختار وابن أبي عاصم والخرائطي في مساوئ الأخلاق أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام يقول الله وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين «ذلِكَ» الحديث الحسن هو «هُدَى اللَّهِ» وقرآنه المنزل على رسوله من اللوح المحفوظ وكلامه الأزلي «يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ» هدايته إلى دينه القويم «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ» من قساة القلوب «فَما لَهُ مِنْ هادٍ 23» يهديه البتة، قال تعالى «أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ(3/537)
الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ»
بالأعمال الصالحة التي قدمها في دنياه كمن هو آمن منه كلا ليس سواء لأن غير المتقي ظالم وفي ذلك اليوم يهلك الظالمون بدليل قوله عز قوله «وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ» من قبل خزنة جهنم «ذُوقُوا» هذا العذاب جزاء «ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ 24» في الدنيا من الآثام، قال تعالى يا أكمل الرسل لا تحزن على ما ترى من قومك فقد «كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» رسلهم كما كذبوك هؤلاء «فَأَتاهُمُ الْعَذابُ» من عندنا بعد إصرارهم على الكفر بغتة «مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» 25 على حين غفلة وساعة غرة من حيث لا يخطر ببالهم وقوعه وفي حالة لا يتوخون بها حدوثه «فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ» الذل والهوان «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ» وأشد وأعظم «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ 26» ذلك علما يقينا لآمنوا واعتبروا من قبلهم ولما عبدوا ما لا يعقل ولا يبصر ولأخلصوا عبادتهم للإله الواحد ولما مسهم السوء. قال تعالى «وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» يحتاج إليه الناظر في أمور الدنيا والدين «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ 27» ولم يتذكروا لأنهم لم يشغلوا حواسهم فيما خلقت لها فطمس الله عليها وحرمهم فوائدها وجعل هذا القرآن «قُرْآناً عَرَبِيًّا» بلغتك ولغة قومك «غَيْرَ ذِي عِوَجٍ» مستقيما بريئا من التناقض والاختلاف وأنزله على خير رجل منهم ومن جنسهم «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 28» الكفر والتكذيب وقدم التذكر في الآية الأولى على التقوى في هذه الآية لأن الإنسان إذا تذكر وعرف الشيء ووقف على فحواه اتقاه واحترز منه واجتنبه، قال تعالى (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) متنازعون بخدمته يتجاذبونه بينهم لسوء أخلاقهم وقلة آدابهم (والشّكس السيء الخلق) «وَرَجُلًا» عبدا مملوكا أيضا «سَلَماً لِرَجُلٍ» خاصا له وحده «هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا» أي لا يستويان في الصفة والحالة، لأن الاستفهام هنا إنكاري لا يجاب إلا بالنفي «الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ 29» أن الله تعالى وحده هو المستحق للعبادة وهذا مثل ضربه الله تعالى للكافر الذي يعبد آلهة متعددة فلا يعلم أيهم يرضى منه وأيهم يسخط والمؤمن الذي يعبد الله وحده فهو على بينة من أمره. وليعلم أن إيراد المثل في(3/538)
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)
القرآن هو للتذكر والاتعاظ به والمراد بضربه لتطبيق حالة عجيبة بأخرى شبهها وجعلها مثلها، وعليه يكون المعنى أن الله تعالى يقول لرسوله اضرب لهم هذا المثل واسألهم أي هذين أحسن وأحمد «إِنَّكَ» يا سيد الرسل «مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ 30» نزلت هذه الآية في كفرة قومه صلّى الله عليه وسلم الذين كانوا يتربصون موته ليتخلصوا منه قاتلهم الله، كيف وهو إنما أرسل رحمة لهم وكان يجهد لنفسه ليخلصهم من عذاب الله؟
يقول الله تعالى له لا يتمنوا لك يا حبيبي الموت فكلهم ميت ولا شماتة في الموت لأنهم مثلك يموتون كما تموت ولا سواء لأنك تلاقي ربك في جنته وهم يلاقون العذاب بناره والميت بالتشديد والتخفيف من حل به الموت وأنشد أبو عمرو:
تسألني تفسير ميت وميّت ... فدونك قد فسرت إن كنت تعقل
فمن كان ذا روح فذلك ميّت ... وما الميت إلا من إلى القبر يحمل
راجع الآية 9 من سورة فاطر في ج 1 لتستوفي هذا البحث، قال تعالى
«ثُمَّ إِنَّكُمْ» أيها الناس بركم وفاجركم «يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ 31»
مطلب الخصومة يوم القيامة وضمير صدق به ومراتب التقوى:
لما نزلت هذه الآية قال الزبير يا رسول الله أتكرر علينا الخصومة بعد الذي كان منا في الدنيا؟ قال نعم، فقال إن الأمر إذا لشديد. رواه عبد الله بن الزبير وأخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نقول ربنا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم حنين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا. وعن إبراهيم قال لما نزلت هذه الآية قالوا كيف نختصم ونحن اخوان فلما قتل عثمان قالوا هذه خصومتنا.
وقال ابن عمر: كنا نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين وقلنا كيف نختصم وديننا واحد وكتابنا واحد حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفت بأنها فينا نزلت. وروى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
من كانت عنده مظلمة لأخيه عن عرض أو مال فليتحلله اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه. وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم(3/539)
قال: أتدرون من المفلس؟ قالوا إن المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنبت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذت من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار. واعلم أن من الناس من يموت فيخلص الناس من شره، ومنهم من يموت فتبكيه الناس أجمع، فاحرص أيها العبد أن تكون الثاني. قال أبو الحسن الأسدي: مات رجل كان يعول اثني عشر ألف إنسان فلما حمل في النعش على أعناق الرجال حصل له صرير فقال رجل في الجنازة:
وليس صرير النعش ما تسمعونه ... ولكنه أعناق قوم تقصّف
وليس فنيق المك ما تجدونه ... ولكنه ذاك الثناء المخلّف
قال تعالى «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ» فأضاف له شريكا فجعل له بنين وبنات «وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ» الأمر الذي هو الصدق نفسه وهو ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم الصادق المصدوق «إِذْ جاءَهُ» على لسان نبينا وأميننا من لدنا فانتبهوا يا قوم «أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ 32» أمثال هؤلاء بلى فيها منازل كثيرة لهم أجارنا الله منهم ومنها «وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ» الوحي الحق من عندنا «وَصَدَّقَ بِهِ» آمن بمحمد صلّى الله عليه وسلم ومن تبعه مؤمنا وهذا المراد من ضمير به كما هو المراد في قوله تعالى (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الآية 54 من سورة البقرة في ج 3 أي هو وقومه، وهذا التفسير أولى وأنسب بالمقام لأن الأوجه في العربية أن يكون جاء وصدق لفاعل واحد لأن التغاير يستدعي إضمار الذي وهو غير جائز في العربية ويستدعي أيضا إضمار الفاعل من غير تقدم الذكر له وهذا بعيد أيضا في النصيح، وقال بعض المفسرين إن ضمير به يعود إلى أبي بكر رضي الله عنه، وعليه يكون المعنى والذي جاء بالصدق يعني محمدا وصدق به يعني أبا بكر كما قال أبو العالية والكلبي وجماعة ويروونه عن علي عليه السلام وقال السدي وجماعة أيضا: إن ضمير به يعود إلى محمد صلّى الله عليه وسلم وضمير جاء إلى جبريل عليه السلام. وقال مجاهد وجماعة: إن ضمير به يعود إلى علي كرم الله وجهه وضمير(3/540)
جاء إلى محمد صلّى الله عليه وسلم. وقال آخرون: إن ضمير جاء يعود إلى محمد وضمير به إلى المؤمنين. فهذه خمسة أقوال كل منها في المعنى صحيح لكن ما جرينا عليه هو الموافق لسياق الآية والله أعلم. «أُولئِكَ» محمد وأتباعه الذين اقتفوا أثره وماتوا على متابعته «هُمُ الْمُتَّقُونَ 33» العريقون في التقوى، وجاءت هذه الجملة بالجمع مع أن ما قبلها مفرد باعتبار دخول الأتباع تبعا، ولا يخفى أن مراتب التقوى متفاوتة ولحضرة الرسول أعلاها وأوفاها ومن بعده أول من آمن به من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الأرقاء يلال ثم الأمثل فالأمثل رضي الله عنهم أجمعين، أو أنّ الموصول واقع صفة لموصوف محذوف تقديره الفريق أو الفوج الذي جاء بالصدق وصدق به فيكون مفرد اللفظ مجموع المعنى، أو أن اللام في والذي للجنس فيشمل الرسل والمؤمنين اجمع، يؤيد هذا قراءة ابن مسعود (والذين جاؤا بالصدق وصدقوا به) ولكنها قراءة شاذة، إذ لم يتابعه أحد من القراء عليها لما فيها من زيادة الواو، وما قيل إنه قد يستعاض عنها بإشباع الضمة يجوز لو كان الأصل مضموما أما والأصل جاء مفتوحا فلا، وما قيل إن النون محذوفة من الذي والأصل الذين واستشهدوا بقوله:
إن الذي جاءت يفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم مالك
قال أبو حبان ليس بصحيح لوجوب جمع الضمير في الصلة حينئذ كما في البيت ألا ترى أنه إذا حذفت النون من المثنى كان الضمير مثنى أيضا كما قال:
ابني كليب إن عمي اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا
فلو فرض جواز حذف النون أيضا لا يصح كما علمت، وعليه فالأصح هو الذي جرينا عليه على ما هو في المصاحف وقراءة أبي صالح وعكرمة ابن سليمان، وصدق مخففّا أي جاء وصدق به الناس بأنه أداه إليهم كما جاءه، فالضمير والموصول فيها عائدان لحضرة الرسول كما ذكرنا أيضا، وهناك قراءة أخرى (وَصَدَّقَ) على البناء للمفعول مشدّد أي صدقه الناس به وهي أيضا تؤيد ما قلناه، وقد ذكرنا غير مرة أن لا عبرة للقراءة المخالفة لما في المصاحف المدونة من لدن عثمان رضي الله عنه حتى الآن وإلى الأبد إن شاء الله، فكل قراءة لا يوافق رسمها رسم ما في المصاحف(3/541)
لا عبرة بها البتة أما ما كان موافقا بالحروف ومختلفا بالحركات مثل قراءة (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) الآية 46 من سورة هود المارة و (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) الآية 11 من سورة الحج ج 3 على الفعلية فهما أو المصدرية في الأولى والفعلية في الثانية والحالية والصفة أيضا فلا بأس فيها «لَهُمْ» لهؤلاء الذين مر ذكرهم من الخير والكرامة «ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ» الجزاء الحسن العظيم هو «جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ 34» في أفعالهم وأقوالهم «لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا» في الدنيا «وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ 35» في الآخرة ويتجاوز عن سيئاتهم. وليعلم أن إضافة أسوأ وأحسن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفصيل كما تقول الأشبح أعدل بني أمية ويوسف أحسن أخوته. هذا ولما كثر تهديد المشركين لحضرة الرسول وتجاهروا له بالعداء وخاف أصحابه أن يبطشوا به، إذ لم يبق من أقاربه من يقف بأعينهم بعد وفاة أبي طالب وخديجة رحمها الله أنزل الله جل شأنه ما يثبت به قلوب أصحابه وينفي عنهم ذلك الرجل قوله عز قوله «أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ» محمدا عن الناس أجمع أعداءه وغيرهم وقادر على حفظه من أذاهم بلى وهو القادر على كل شيء، وقرىء عباده أي جميع الأنبياء كافة وذلك أن أقوامهم قصدوهم بالسوء أيضا فكفاهم الله شرهم وكافأهم بالحسنى، والقراءة هذه جائزة لما علمت أن المد والإشباع جائز، وهذا الاستفهام يجاب ببلى، لأن همزة الاستفهام الإنكاري إذا دخلت على كلمة النفي أفادت الإثبات فيكون حكم الاستفهام فيها تقريريا كما هنا ولا يجاب إلا ببلى وإذا دخلت على الإثبات أفادت النفي، فيكون الاستفهام إنكاري ولا يجاب إلا بلا كما في قوله تعالى (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ) الآية 10 من سورة إبراهيم الآتية، ومما يدل على أن الضمير في عبده يعود لحضرة الرسول خاصة دون عباده الآخرين على القراءة الأخرى قوله جل قوله «وَيُخَوِّفُونَكَ» يا سيد الرسل «بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» أي الأوثان وذلك لقول الكفرة يا محمد إن لم تكف عن شتم آلهتنا أصابك الخبل والجنون بسببها ولقد ضلوا بقولهم هذا مع ضلالهم «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ 26» يهديه ولا ينفعه الهدى لأنه مكبوب عند الله ضال من الأزل «وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ» أبدا(3/542)
لأنه ثابت في علم الله أنه مهتد ولا مبدل لما في علمه «أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ» غالب لا يغالب منيع لا يمانع ولا ينازع «ذِي انْتِقامٍ 37» من أعدائه ينتصف منهم لأوليائه، وهذا الاستفهام مثل الاستفهام السابق أي بلى هو كذلك، قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ» يا سيد الرسل أي هؤلاء الذين يخوفونك بأوثانهم وقلت لهم «مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» لظهور الأدلة على ذلك ووضوح البراهين لما تقرر عقلا وجوب انتهاء جميع الممكنات إلى واجب الوجود فإذا أجابوك ولا شك أنهم مجيبون بأن الذي خلقهن هو الله وإلا فأجبهم أنت بأنه هو الذي خلقهن وما فيهن فإنهم لا يعارضونك في ذلك «قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من هذه الأوثان «إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ» فيسكتون خشية الكذب لأنه معيب في كل زمان عند كل ملة حتى ان قوم يونس عليه السلام كانوا يقتلون الكذاب، راجع الآية 97 من سورته المارة، ثم قل لهم أيضا «أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ» فيسكتون أيضا لعلمهم أنها لا تكشف ضراء ولا تمسك رحمة ولا تفعل شيئا أبدا «قُلْ» بعد اعترافهم هذا لعجز آلهتهم عن فعل شيء من ذلك بدليل سكوتهم الذي هو بمثابة الإقرار «حَسْبِيَ اللَّهُ» هو كافيني منهم ومن أوثانكم وبالنصر والظفر عليكم
كما وعدني به، عليه وحده توكلت و «عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ 38» لا على غيره فقد خاب وخسر من توكل على غيره، ثم أشار إلى تهديدهم فقال «قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ» حالتكم التي تتمكنون عليها من عدواني وتكذبي والمكانة بمعنى المكان واستعيرت عن العين للمعنى كما استعير هنا وحيث للزمان مع أنها للمكان «إِنِّي عامِلٌ» على مكانتي أيضا حذف من الثاني بدلالة الأول كما يحذف أحيانا من الأول بدلالة الثاني راجع الآية 33 من سورة لقمان المارة وان عمله صلّى الله عليه وسلم هو دأبه على نصحهم وإرشادهم ليس إلا «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ 39» غدا إذا لم تؤمنوا وتصدقوا «مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ» في الدنيا «وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ 40» في الآخرة لا يتحول عنه أبدا أنا أم أنتم وقد ختم هذه الآية بالوعيد الشديد كما بدأها بالتهديد بما خبىء لهم من العذاب الأليم وهي قريبة في المعنى من الآيتين 54/ 55 من سورة سبأ المارة وفيها ما فيها فراجعها.(3/543)
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50)
مطلب الروح والنفس ومعنى التوفي والفرق بينه وبين النوم وان لكل واحد نفسين:
قال تعالى «إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ» الذي لا أحق منه «فَمَنِ اهْتَدى» به فانما يهتدى «لنفسه» إذ يعود فائدة هداه لها «وَمَنْ ضَلَّ» شرد عن طريق هداه «فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» لأن وبال ضلاله عائد عليه «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ 41» لتجبرهم على الهدى وتحفظهم من الضلال، وإنما الفاعل لذلك هو «الله الذي يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ» الأرواح راجع الآية 85 من سورة الإسراء في ج 1 تجد معنى النفس والروح وماهيتها وما يتعلق فيهما وهل هما شيء واحد أم لا بصورة مفصلة تكفيك عن كل مراجعة «حِينَ مَوْتِها» عند انقضاء آجالها «وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ» يتوفاها «فِي مَنامِها» لأن النوم موت خفيف، إذ يقطع الله تعالى تعلقها بالأبدان أي تعلق التصرف فيها عنها ظاهرا وقطع تعلقها بالأبدان بالموت عبارة عن قطع المتعلق بها ظاهرا وباطنا وإنما سمى كل منهما توفّيا لأنه بمعنى القبض فيهما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) الآية 60 من سورة الأنعام المارة، إذ لا تميزون ولا تتصرفون فانتم والموتى سواسية من هذه الحيثية، راجع تفسير هذه الآية أيضا لتعرف الفرق بين الموت والنوم المبين في قوله عز قوله «فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ» فلا يردها إلى أجسادها حتى يوم البعث «وَيُرْسِلُ الْأُخْرى» الناثمة التي لم يحن أجلها بعد فيبقها بالحياة متمتعة «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده حتى انقضائه «إِنَّ فِي ذلِكَ» القبض والإرسال من قبل الملك الفعال «لَآياتٍ» عظيمات دالات على كمال قدرة الإله الواحد على البعث «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 42» بمعناها ويعقلون مغزاها. واعلم أن لكل إنسان نفسين نفس بها الحياة تفارقه عند الموت فتزول الحياة بزوالها، ونفس بها التمييز تفارقه عند النوم ويبقى معها التنفس في الجسد فقط دون تصرف أو تمييز. فيعلم من هذا أن هناك نفسا وروحا فتخرج النفس عند النوم وتبقى الروح ويخرجان معا عند الموت، ومن قال إن الروح هي التي تخرج عند النوم والنفس هي الباقية في الجسد مع شعاع الروح وبها يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عادت إلى جسدها بأسرع من لحظة، استدل بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:(3/544)
إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم يقول باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين. وقد أوضحنا هذا البحث بصورة مسهبة في تفسير الآية 85 من الإسراء في ج 1 فراجعها أي ما يتعلق بالرؤيا فعليك بمراجعة الآية 5 من سورة يوسف المارة ففيها ما ترشدك إلى ما تريد ويكفيك عن غيره، قال تعالى «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ» بلا إذن منه ولا سلطان لهم به عليه «شُفَعاءَ» يشفعون لهم عندنا بزعمهم، فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الجهلة أتتخذونها شفعاء بادى الرأي «أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً» من أمرها ولا من غيرها «وَلا يَعْقِلُونَ 43» ماهيتها كما لا يعلمون عبادتكم لهم ولا يفقهونها أتتخذونها عبثا وجهلا «قُلْ» يا أكمل الرسل لهؤلاء الضلال إن هذه الأوثان لا يصلحون للشفاعة لعدم علمهم بها وإن الشفاعة الحقيقية المرجو نفعها هي «لِلَّهِ» وحده لا يملكها أحد دونه ولا يقوم بها أحد إلا بإذنه وإلا لمن يرضاه الله فتكون «الشَّفاعَةُ» كلها «جَمِيعاً» له وحده كذلك «لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وحده لا يشاركه فيهما أحد ولا يرزق من فيهما غيره وإن ما يملكه الناس من أجزاء الأرض فهو استعارة لأجل مسمى عنده «ثُمَّ إِلَيْهِ» أيها الناس كلكم وما تملكون «تُرْجَعُونَ 44» في الآخرة ثم بين تعالى بيانه سفه لكفرة بقوله جل قوله «وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ» نفرت واستكبرت وانقبضت وأنفت «قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» كأبي جهل والوليد بن المغيرة وصفوان وأبيّ وأضرابهم لأن الآية عامة واكفهرّت غمّا وغيظا فظهر على أديم وجوههم غبرة وقترة وعلى عيونهم ظلمة من عظيم انقباض أرواحهم. وهذه الآية على حد قوله تعالى (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) الآية 46 من الإسراء في ج 1 فراجعها «وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» كاللات والعزى وغيرهما من الأوثان «إِذا هُمْ» أي أولئك المشمئزين «يَسْتَبْشِرُونَ 45» فرحا لافتتانهم بها فتنبسط وجوههم وتتهلل ويعلوها البشر لكثير ما ملئت قلوبهم من السرور والابتهاج بذكرها فيا حبيبي «قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وصف(3/545)
نفسه جلت
وعلت بكمال القدرة ثم نعتها بكمال العلم فقال «عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» السر والعلانية «أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ» المؤمنين والكافرين «فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 46» من أمر دينك وتوحيدك. يفيد هذا الأمر الإلهي العظيم جنوح حضرة الرسول إلى الدعاء والالتجاء إليه تعالى مما قاساه من نصب قومه في دعوتهم له وما ناله من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد وبيان حالهم في الدنيا وما يؤول إليه في الآخرة، وفيه تسلية له ومعلومية جهده وجده وبذل وسعه وسعيه عند ربه وتعليم لعباده كلهم بالالتجاء إليه فيما يهمهم وما لا يهمهم، ودعاؤه بأسمائه الحسنى، لأن أسماءه تعالى توقيفية، فلا يجوز تسميته بغيرها راجع الآية 8 من سورة طه في ج 1 تجد ما سمى الله به نفسه ورسوله منها. سئل الربيع بن خيثم عن قتل الحسين رضي الله عنه فتأوه وتلا هذه الآية، وعليه فإذا ذكر لك أيها القارئ شيء مما جرى بين الأصحاب رضوان الله عليهم، فاقرأ هذه الآية فإنها من الآداب التي ينبغي أن تحفظ. روى مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء كان نبي الله صلّى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام الليل؟ قالت:
كان إذا قام الليل افتتح صلاته قال: اللهم رب جبريل وميكائيل واسرافيل عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. قال تعالى «وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» من منقول وغيره «وَمِثْلَهُ مَعَهُ» وطلب منهم به فداء أنفسهم من عذاب الله «لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ» وهذا من ضرب المحال حيث لا يقبل الفداء، ويستحيل أن يكون لهم شيء من الأرض باستحالة وجود مثله لأن أحدا يوم القيامة لا يملك مثقال ذرة وإنما هذا من قبيل زيادة التحسر والتأسف والندم والأسى لما يشاهدونه من الأهوال المحيطة بهم المشار إليها بقوله الفصل «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ» العالم بخفايا الأمور أشياء «ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ 47» بها ولا يظنونها ولا تخطر ببالهم أنه نازل بهم ولا يتوقعونه لأنه فوق التخمين والحسبان وحديث النفس. ونظير هذه الآية التي أوعد بها الكافرون ما وعد الله به المؤمنين هي قوله تعالى (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ(3/546)
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)
لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)
الآية 17 من سورة السجدة الآتية، ومن هذا القبيل قوله صلّى الله عليه وسلم في صفة ثواب أهل الجنة: فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. هذا وبعد أن أظهر الله لهم أنواع العقاب عن سيئات لم يكونوا يتصورونها أنها مستحقة للعذاب أظهر لهم عقابا أشد عن سيئات يعلمونها فقال جل قوله «وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا» من الشرك به وتكذيب رسله وجحد ما جاؤهم به وبان لهم خيبة ظنهم بشفاعة الأوثان فذهلوا من فظاعته «وَحاقَ» أحاط «بِهِمْ» من كل جوانبهم سوء «ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ 48» في الدنيا فيفعلونه ولا يلقون له بالا إلا السخرية والاستهزاء. قال تعالى «فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ» من مرض وفقر وشدة «دَعانا» وحدنا لإزالته «ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا» بعد إجابة دعائه وإزاحة بلائه «قالَ» هذا جواب إذا ولذلك فلا يحسن الوقف على كلمة (مِنَّا) بل على «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ» من الله بأني أهل له كما قال قارون قبله راجع الآية 78 من سورة القصص في ج 1 وقد ذكر الضمير هنا في أوتيته مع أنه عائد للنعمة بالنظر للمعنى، أي شيئا أو قسما من الإنعام «بَلْ هِيَ» النعمة التي أوتيها مع كفره وعصيانه «فِتْنَةٌ» نقمة لا نعمة في الحقيقة بل هي استدراج وامتحان ليختبرك أيها الإنسان أتشكرها فتكون نعم حقيقية أو تكفرها فتكون نقمة بحتة، وما قرىء بل فتنة وفاقا لضمير أوتيته ليست بشيء، لما فيها من نقص كلمة هي، ولا يجوز نقص شيء من كتاب الله «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ
45» أنها فتنة وبلاء ومحنة.
وجاء العطف بالفاء لأن قوله (فَإِذا مَسَّ) إلخ مسبب عن قوله (وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ) إلخ، وقد وقع أول هذه السورة مثله إلا أن العطف كان بالواو فيكون غير مسبب عما قبله كما هنا وهذه الآية عامة. وما جاء أن المراد بالإنسان هو حذيفة بن المغيرة فعلى فرض صحة نزولها فيه لا يقيدها لأن سبب النزول لا يكون سببا للقيد في الآيات العامة، قال تعالى إن هؤلاء الكفرة لم ينفردوا في هذه المقالة وإنما «قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» مثل قارون وأضرابه «فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ 50» من متاع الدنيا ولم يأخذوا معهم منه شيئا للآخرة البتة
«فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ(3/547)
ما كَسَبُوا»
أي عقابه ووباله وخسف بهم وبأموالهم راجع الآية 78 من سورة هود المارة من قصة قوم لوط «وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ» قومك يا محمد الذين قالوا مقالتهم تلك «سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا» أيضا إذا أصروا عليها ولم يتوبوا حتى ماتوا، فيحين الأجل المقدر لإنزال العذاب بهم مثلهم «وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ 51» لنا ولا يستطيعون الإفلات منا، فلا يفوتهم عذابنا، لأن قدرتنا غير عاجزة عنهم، ولا مهرب هناك. وهذه الآيات المدنيات الثلاث، قال تعالى «أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» يضيق على من يشاء بلى إنهم يعلمونه ولكن لا يعرفون حكمته «إِنَّ فِي ذلِكَ» البسط والتقتير لآيات دالات على حكمتنا «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 52» بنا ويعون مرادنا وذلك أن الله تعالى يعطي من يشاء لا لكرامته وتقواه وعلمه، ويحرم من يشاء لا لإهانته وعصيانه وجهله، وقيل في المعنى.
كم من أديب فهيم عقله ... مستكمل العلم مقل عديم
ومن جهول مكثر ماله ... ذلك تقدير العزيز العليم
فمن علم أن هذا التقسيم جاء من الله على وفق الحكمة ومقتضى المصلحة علم فساد قول ابن الراوندي المار ذكره في الآية 36 من سورة سبأ المارة وبطلان قول من قال إن السعد والنحس بسبب النجم الطالع عند ولادة الإنسان السعيد أو المشئوم، لأن الساعة التي ولد فيها السلطان والمثري ولد فيها أناس كثيرون فلم لم يساعدهم الحظ بمقتضى طالعهم كما صار لذينك، وقيل في المعنى:
فلا السعد يقضي به المشتري ... ولا النحس يقضي علينا زحل
ولكنه حكم رب السماء ... وقاضي القضاة تعالى وجل
قال تعالى «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» بتغاليهم في المعاصي وإفراطهم في اللذات وتفريطهم بأمور الآخرة وإعراضهم عن ربهم «لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» التي وعدها التائبين من عباده الراجعين إليه وغيرهم، فهي واسعة لأكثر ما تتصورونه ولا تضيق عما أنتم عليه وغيركم «إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» بالعفو عنها عدا الشرك لورود النص باستثنائه، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ(3/548)
أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)
الآيتين 48/ 116 من سورة النساء في ج 3 «إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ 53» بعباده يغفر ما كان منهم ويكشف ما يهمهم ويستر ما يشينهم صغرت هذه الذنوب أو كبرت فهي في جنب عفو الله لا شيء.
مطلب آيات الرجاء وعظيم فضل الله وما جاء عن بني إسرائيل وحرق الموتى:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن أناسا من المشركين أكثروا من القتل والزنى والشرب وهنك الحرمات كلها فقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الذي تدعو إليه لحسن، لو تخبرنا لما عملناه كفّارة فنزلت الآيات 68 فما بعدها من سورة الفرقان المارة في ج 1، وهي (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) إلى قوله (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) قال يبدل شركهم إيمانا وزناهم إحصانا، ونزلت هذه الآية المفسرة أيضا- أخرجه النسائي- وعنه قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه يدعوه إلى الإسلام رغبة بنشر دين الله وشفقة على عباده مع أنه قاتل عمه وأعز الناس عليه يومئذ لشدة حرصه على إقامة هذا الدين جزاه الله عنا خيرا ووفق أمته لاتباعه، فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثاما يضاعف له العذاب، وأنا قد فعلت ذلك كله؟
فأنزل الله (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) الآية من سورة الفرقان أيضا، فقال وحشي هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك؟ فأنزل الله آيتي النساء المذكورتين آنفا، فقال وحشي أراني بعد ذلك في شبهة، فلا أدري أيغفر لي أم لا؟ فأنزل الله هذه الآية المفسرة، فقال وحشي نعم فجاء وأسلم وحسن إسلامه.
وهذه الحادثة أولى بأن تكون سببا للنزول لأنها مدنية والحادثة مدنية فتكون أليق بسبب النزول من تلك، وإن ما بعدها يجوز أن يكون سببا للنزول لأن الآية الواحدة قد تكون لحوادث كثيرة متوافقة، وهو ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نزلت في عياش ابن ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا (الصرف التوبة والنافلة والعدل الفدية والفريضة) قوم أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا به في الدنيا، فأنزل الله هذه الآية فكتبها عمر بن الخطاب(3/549)
بيده وبعث بها إلى عياش ورفقائه فأسلموا جميعا وهاجروا، فقال ابن عمر كنا معشر أصحاب رسول الله نرى أو نقول ليس بشيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) الآية 34 من سورة محمد صلّى الله عليه وسلم في ج 3، فلما نزلت هذه الآية قلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا، فقلنا الكبائر والفواحش، قال لكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا هلك، فنزلت هذه الآية فكففنا عن القول في ذلك، وكنا إذا رأينا من أصحابنا من أصاب شيئا من ذلك خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئا رجونا له. وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى عز وجل يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة. - أخرجه الترمذي- والعنان بفتح العين ما بدا لك من السماء، واعنانها نواصيها، والقراب بضم القاف الملء أي بملء الأرض، والله أكرم وأكبر من ذلك، وقدمنا ما يخص هذا في الآية 160 من سورة الأنعام المارة وله صلة في الآية 31 من سورة الشورى الآتية فراجعها ففيها ما يثلج الصدر من عظيم فضل الله وكذلك الآية 20 من سورة يوسف المارة أيضا والآية 70 من سورة الفرقان والآية 5 من سورة والضحى والآية 84 من سورة الإسراء في ج 1 «وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ» إسلاما كاملا وانقادوا لأوامره انقيادا تاما وتباعدوا عن نواهيه تباعدا بعيدا وأخلصوا له التوبة إخلاصا صحيحا حال كونكم خاضعين خاشعين «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ 54» إذا حل بكم ومن ذا الذي ينصركم من الله أيها الناس كلا لا أحد، انتهت الآيات المدنيات. واعلم أن الآية الثانية منها عدا 53 صرحت برجاء الرحمة من عشرة وجوه: 1 إن المذنب عبد والعبد محتاج لرحمة سيده وإفاضة إنعامه عليه، 2 إنه أضافه إليه ومن يضفه لذاته الكريمة يؤمنه من عذابه، 3 إن الإسراف الذي نسبه إليه ضرر وهو أكرم من أن يجمع ضررين على عبد، 4 إنه لم ينهه عن القنوط إلا ليؤمله بالرجاء، 5 أضاف الرحمة لأعظم أسمائه الحسنى(3/550)
فتكون أعظم أنواعها لذلك العبد، 6 إنه أضاف الغفران لذلك الاسم العظيم لتأكيد المبالغة في إيفاء الوعد بها، 7 إنه أكد ذلك الغفران ليكون عاما مطلقا يشمل هذا العبد وغيره، 8 إنه وصف ذاته بالرحيم مرة أخرى إشارة إلى تحصيل موجبات تلك الرحمة، 9 إن هذين الوصفين يفيدان الحصر، والحصر يفيد الكمال ولا تكون الرحمة كاملة إلا إذا عمت، 10 إنه وصف نفسه فيها بالغفور وهو لفظ يدل على المبالغة بالمغفرة ولا تكون إلا إذا عمت أيضا. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا ثم خرج يسأل هل له توبة فأتى راهبا فسأله فقال هل لي من توبة؟
قال لا، فقتله وجعل يسأل فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فضرب صدره تخوفا فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقرّبي وإلى هذه أن تباعدي، وقال قيسوا ما بينهما فوجد أقرب إلى هذه بشبر فغفر له. - لفظ البخاري- ولمسلم: فدلّ على راهب فأتاه فقال له إن رجلا قتل تسعة وتسعين نفسا هل له من توبة فقال لا فكمل به مئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل صالح فقال إنه قتل مئة نفس فهل من توبة قال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها ناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي وإلى هذه أن تباعدي (يعني القرية التي جاء منها والقرية التي ذهب إليها) وقال قيسوا ما بينهما فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة. ورويا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان رجل أسرف على نفسه، وفي رواية لم يعمل خيرا قط، وفي رواية لم يعمل حسنة قط، فلما حضره الموت قال لبنيه إذا أنا مت فاحرقوني ثم اطحنوني ثم ذرّوني في الريح فو الله لأن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا قط، فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال اجمعي ما فيك منه، ففعلت فإذا(3/551)
هو قائم، فقال ما حملك على ما صنعت؟ قال خشيتك يا رب، أو قال مخافتك يا رب، فغفر له بذلك. ولعل المجوس وبعض الهنود ومن نحا نحوهم الذين يحرقون موتاهم أخذوا ذلك من هذه القصة، لأن هذا الرجل الذي ذكره حضرة الرسول لم يكن من أهل زمانه بل ممن تقدم من الأمم، وقد بقوا على عادتهم تلك ولم تبلغهم الدعوة، أو بلغتهم فلم يتبعوها وبقوا على ما هم عليه حتى الآن، وقد استحسنها من لا خلاق لهم من الدين بحجة أنها أقطع لجراثيم الموتى من أن تنتقل ذراتهم إلى الأحياء، ولم يعلم أن في هذه إهانة للمؤمن، وقال صلّى الله عليه وسلم: كرامة الميت دفنه، وفي القبور مانع من انتشار الذرّات لأنها تحت الأرض بقامة وبسطة يد، وكيف يركن قلب المؤمن إلى حرق ميته وهو أعز الناس عليه، وفي دفنه ذكرى له على مر الأيام بالخير إن كان من أهل الخير فيعملون بعمله، وإن كان من أهل الشر فيجتنبون عمله، فيكون خيرا نشا عن شر. وعنه أيضا قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول كان في بني إسرائيل رجلان متحابان أحدهما مذنب والآخر مجتهد في العبادة فكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنبه فيقول له اقتصر، فوجده يوما على ذنب، فقال اقتصر فقال خلّني وربي أبعثت علي رقيبا، فقال والله لا يغفر لك الله، أو قال لا يدخلك الجنة، فقبض الله روحهما فاجتمعا عند رب العالمين فقال الرب تبارك وتعالى للمجتهد أكنت على ما في يدي قادر؟ وقال للمذنب اذهب فادخل الجنة، وقال للآخر اذهبوا به إلى النار. قال أبو هريرة تكلم والله بكلمة أوبقت دنياه وآخرته- أخرجه أبو داود. وقال زيد بن أسلم: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال انطلقوا به إلى النّار، فيقول يا رب فأين صلاتي وصيامي، فيقول الله اليوم أقنطك من رحمتي كما كنت تقنط عبادي من رحمتي. وعنه أيضا أن رجلا كان في الأمم الماضية يجتهد في العبادة ويشدد على نفسه ويقنط الناس من رحمة الله ثم مات فقال أي رب مالي عندك؟ قال النار، قال يا رب فأين عبادتي واجتهادي؟
فقيل له إنك كنت تقنط الناس من رحمتي في الدنيا، فأنا اليوم أقنطك من رحمتي.
وقال مقاتل: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يرخص لهم في معاصي الله عز وجل. وعليه فلا ينبغي للواعظ والخطيب(3/552)
أن يقتصر على الوعيد ويترك الوعد لأنه ربما قنط الناس فيدخل فيما ذكر، قال صلّى الله عليه وسلم يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا. أي يسروا على الناس بذكر ما يؤلفهم لقبول الموعظة، لأن التيسير في التعليم يورث قبول الطاعة ويرغب في العبادة، وبشروا بفضل الله وعظيم ثوابه، وسعة رحمته، وشمول عفوه، وجزيل عطائه ومغفرته، ولا تعسروا في كل الأوقات ولا تنفروا عباد الله بما تشددون عليهم من الزجر والوعيد فيقنطوا أو ييأسوا، فتتسببوا في إضلالهم «وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» .
أمر الله عباده باتباع الأحسن بعد أن أمرهم بالتقوى ووعدهم بالمغفرة إعلاما بأنه تعالى يريد منهم ما هو أكثر ثوابا وأعظم أجرا، وقد ذكرنا ما يتعلق بالأحسن في الآية 18 المارة من هذه السورة وبينا فيها ما يراجع بذلك ففيه كفاية.
مطلب اتباع الأحسن وما هو الحسن والأحسن معنى ومقاليد السموات والأرض:
ولا يخفى أن الأحسن يكون في الأوامر والإرشادات إلى خير الدارين والأحكام والحدود وإصلاح ذات البين لا في القصص والأخبار والعبر والأمثال بما وقع من الأقدمين، هذا من جهة، ومن أخرى فإن أحسن ما أنزل الله من الكتب السماوية وأجمعها وأفضلها هو هذا القرآن المجيد لقوله تعالى (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) الآية 24 المارة، وعليه فيكون المنزل ثلاثة أصناف: ذكر جل شأنه في القرآن الأحسن يؤثر على غيره ويؤخذ به، والأدون منه لئلا يرغب فيه، والقبيح ليجتنب، ولهذا يجب على الخلق كافة اتباع ما في القرآن من الأحكام الحسن منها والأحسن، لأنه ناسخ لما تقدمه مما يخالفه منها، وعليه فإن الخطاب في هذه الآية عام لكل الأمة، لأنه أنزل للأمة أجمع، وقد أمر صلّى الله عليه وسلم بدعوة من على وجه الأرض كلهم، فمن أجاب فهو من أمة الإجابة، ومن أبي فهو من أمة الدعوة، فهلموا عباد الله لإجابة دعوة ربكم «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ 55» بأن يفاجئكم على حين غرة وأنتم غافلون فتعتذرون ولا يقبل منكم، قال صلّى الله عليه وسلم:
إياكم وما يعتذر منه، وهو «أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ» حين ترى أهوال القيامة(3/553)
وفظايع العذاب «يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ» أي حق الله وأمره وطاعته، وهذا مما يطلق عليه الجنب، قال القائل:
أما تتقين الله في جنب وامق ... له كبد حرى عليك تقطع
أي الجانب المؤدي لرضائه كالتقصير في الطاعات ومخالفة الأوامر والتفريط في حقوق الغير وفي كل ما يتعلق به حق الله تعالى وحق عباده وحيواناته لأن لكل حقا، قال صلى الله عليه وسلم اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم، أي من الإماء والحيوان بأن تحمل فوق طاقتها أو تضرب بدون تقصير، وجاء في الخبر: يعاقب ضارب الحيوان بوجهه لا بوجهه إلا بوجهه حيث يضرب على النفار لا على العثار، لانه يكون غالبا من إهمال الراكب. قال تعالى حكاية عن هذه النفس المفرطة «وَإِنْ كُنْتُ» في الدنيا «لَمِنَ السَّاخِرِينَ 56» بمن يحذرني هول هذا اليوم وينصحني عن التفريط في ضياع عمري سدى، وهذه الجملة ترددها كل نفس فرطت في دنياها ندما وحزنا وغما على ما فاتها من عمل صالح وقول مرشد وقبول إرشاد «أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي» للتقوى وقبول نصح الناصحين «لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ 57» الشرك ودواعيه في الدنيا ولم يحل بي العذاب الآن في الآخرة «أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ» عند طرحها فيه بشدة وعنف وتذوق ألمه «لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً» عودة إلى الدنيا «فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 58» فيها إلى نفسي وإلى الناس أجمع باتباع أوامر ربي وطاعة رسله وهكذا يتمنى هذه الأماني وغيرها، ولكن في غير وقتها والتمني رأسمال المفلس، لهذا فإن الله تعالى يرد تمنياته ولا يقبل أعذاره ويخاطبه أن الأمر ليس كذلك «بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي» في الدنيا وأرسلت إليك رسلي فطلبوا منك الانقياد لأوامري وسلوك سبل هدايتي وبلغوك كتي فأبت نفسك الخبيثة إلا عصياني وأعرضت «فَكَذَّبْتَ بِها» وبمن جاءك بها «وَاسْتَكْبَرْتَ» وأنفت عنها وتعاليت عليها واستهزأت بها عدا التكذيب والجحود «وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ 59» بها وبمن جاءك بها والآن جئت تتمنى الاماني الفارغة بقبول اعتذارك وجوابها أن يقال لك اخسأ ولا تتكلم، راجع الآية 108 من سورة المؤمنين الآتية ففيها بحث نفيس «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ» يا سيد الرسل «تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى(3/554)
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ»
سوادا بشعا شنيعا لا يقاس بما تراه من تراه من سواد الدنيا فهو نوع مكروه قبيح منتن والعياذ بالله، والجملة من المبتدأ والخبر حال اكتفى فيها بالضمير عن الواو وعلى أن ترى فيها بصرية لا اعتقادية أما إذا كانت عرفانية قلبية فالجملة في محل نصب مفعول ثاني لها «أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ 60» عن آياتي والإيمان برسلي وكتبي، بلى وجاهه فيها منازل شتى الواحد منها أشر من الآخر يأوي إليها أمثال هؤلاء
«وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ» بظفرهم وفلاحهم وبلوغهم المقصد الهنيء الأسنى، لأنهم قطعوا مفازات الجهل بميثاق الطاعات، والمفازة الطريق بالجبل وهي من الأضداد لأنه الطريق الوعر فإذا قطعه فاز بمقعده وبلغ الراحة «لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ» هو كل ما تستاء منه النفس وأعظمه عذاب النار وهو المراد هنا والله أعلم لمناسبة المقام إذ لكل مقام مقال «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 61» على ما فاتهم في الدنيا لأنهم رأوا خيرا منها ولا يصيبهم أذى يؤدي إلى حزنهم ولا ينال قلوبهم غم يسبب حزنهم بل يكونون فرحين مسرورين بما آتاهم «اللَّهُ» ربهم من فضله العميم الواسع كيف لا وهو «خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» مما هو كائن أو سيكون في الدنيا والآخرة من خير وشر وإيمان وكفر في خلقه لا بطريق الجبر بل بمباشرة المتصف بها والمتعرض لأسبابها، وفي هذه الآية ردّ صريح على المعتزلة ومن نحا نحوهم المنزهين الله عن خلق الشرور وإرادة الكفر، راجع ما يتعلق في هذا البحث في الآية 40 من سورة الأنعام المارة «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ 62» فهو القائم بحفظ الأشياء كلها والمتصرف بها كيف يشاء بمقتضى الحكمة وفق ما هو سابق في علمه، فأمر كل شيء موكل إليه دون منازع أو معارض أو مشارك، وتدل هذه الجملة على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأنها لو وقعت بخلقهم لكانت موكولة إليهم فلا حجة للمعتزلة أيضا فيها وهم القائلون بخلق أفعال العبد نفسه.
واعلم أن صدر هذه الأمة لم يختلف في أفعال وأعمال العباد بل كان الخلاف بينهم وبين المجوس والزنادقة في خلق الأمراض والسباع والهوام فبين الله تعالى في هذه الآية أنها كلها من خلقه والشيء الوارد من الآية عام يدخل فيه كل ما يتقولون عنه «لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» مفاتح خزائنها بيده جل جلاله وهما وما بينهما(3/555)
وفوقهما وتحتهما ملك لعظمته يتصرف فيهما وبما فيهما كيفما يشاء ويختار. وكلمة مقاليد قيل إنها فارسية معربة من إقليد قال الراجز:
لم يوذها الديك بصوت تغريد ... ولم يعالج غلقها باقليد
والصحيح أنها عربية لتكلم العرب بها قبل نزول القرآن، وقدمنا ما يتعلق بجميع هذه الكلمات الموجودة في القرآن العظيم في الآية 182 من سورة الشعراء في ج 1 فراجعها، والمراد في المقاليد هنا والله أعلم ما ذكرناه من أنه لا يملك أمرهما ولا يتمكن من التصرف فيهما غيره، إذ لا يقدر على ذلك إلا الله، كما أنه لا يقدر على حفظهما وما فيهما غيره. هذا، وقد أخرج ابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم وغيرهم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قوله تعالى (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقال لا إله إلا الله والله أكبر سبحان الله والحمد لله أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الأول والآخر والظاهر والباطن يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شي قدير. وجاء في رواية ابن مردويه عن ابن عباس مثله بزيادة كثيرة. وهناك خبر آخر عن ابن عمر بمعناه أيضا وأخبار أخر لم نعتمد صحتها، وعليه يكون المعنى أن لله تعالى هذه الكلمات يوحّد بها سبحانه ويمجّد وهي مفاتيح خير السموات والأرض من تكلم بها من المؤمنين أصابه ذلك الخير، ووجه إطلاق المقاليد على هذه الكلمات أنها موصلة إلى الخير كما توصل المفاتيح إلى ما في الخزائن، وقد ذكر صلّى الله عليه وسلم شيئا من الخير لمن يقولها في حديث ابن عباس وهي عشر خصال لمن قالها في اليوم مئة مرة 1 أن يحرس من إبليس وجنوده، 2 أن يعطى قنطارا من الأجر 3 أن يتزوج من الحور العين، 4 أن تغفر ذنوبه، 5 أن يكون مع سيدنا إبراهيم عليه السلام، 6 أن يحضر موته اثنا عشر ملكا يبشرونه بالجنة، 7 ويزفونه من قبره إلى الموقف كما تزف العروس، 8 أن يحفظ من هول الموقف، 9 أن يعطى كتابه بيمينه 10 أن بمر على الصراط ويدخل الجنة. والحديث بتمامه بالدر المنثور والله تعالى على كل شيء قدير فيعطي لمن يشاء هذا الفضل على هذه الكلمات وأقل منها وبلا شيء أيضا إذا شاء وقد ألمعنا إلى مثل هذا في الآية 59 من سورة الأنعام المارة وله صلة في الآية 198 من سورة(3/556)
الشورى الآتية «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ 63» وهذه متصلة بما قبلها أي أنه تعالى ينجي المتقين ويهلك الكافرين ويجعل صفقتهم خاسرة (وجملة اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) معترضة مشار فيها إلى أنه الذي لا يخفى عليه شيء لأنه الخالق لكل شيء الفاتح كل شيء «قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ 64» بعد أن ظهر لكم الدليل القاطع والبرهان الساطع مما تقدم بأنه لا يستحق أحد العبادة غيره، وجاءت هذه الآية بمعرض الجواب للكفرة القائلين لحضرة الرسول أن يوافقهم على دين آبائهم وعبادة أوثانهم تبكيتا لهم كيف يدعونك يا سيد الرسل إلى هذا «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ» الأنبياء إخوانك بأن يبلغوا كل فرد من أممهم فيقولون له «لَئِنْ أَشْرَكْتَ» شيئا مع ربك بالعبادة «لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» بسبب الشرك وكما أن الإيمان يجب ما قبله فالشرك يمحق ما قبله من الأعمال الصالحة، واللامان في لئن وليحبطن موطئتان للقسم كأنه جل قوله يقول اعلم أيها الرجل وعزتي وجلالي لئن أشركت ليحبطن عملك «وَلَتَكُونَنَّ» أيها الإنسان «مِنَ الْخاسِرِينَ 65» لخيري الدنيا والآخرة.
مطلب في عصمة الأنبياء والردة وخلاف الأئمة وإحباط العمل وتعريفات منطقية:
وإنما صح هذا الخطاب على ظاهره لحضرة الرسول ولمن قبله من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام مع علمه بمعصوميتهم واستحالة الشرك عليهم، لأن المراد به غيره من أممهم على طريق ضرب المثل (إياك أعني واسمعي يا جاره) وعلى فرض المقصود به الأنبياء لأن الخطاب موجه إليهم خاصة فيكون لتبهيج حضراتهم وإقناط الكفرة والإيذان بشناعة الشرك وقبح الكفر وكونهما بحيث ينهى عنهما من لا يكاد يقربهما، وإذا كان ينهى عنهما من لا يتصور مباشرتها منهم فكيف بمن عداهم وهما على غاية من الذم ونهاية من الشؤم، وعلى القول بأن المراد أمم الأنبياء فتفيد هذه الآية التنبيه الشديد والوعيد الأكيد لمن يشرك بالله وتهدده بأن مصيره والعياذ بالله إلى الخسران الذي ما بعده خسران، وما استدل به صاحب المواقف على جواز صدور الكبائر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس بشيء ولا وجه له، وقد أوضحنا ما يتعلق بعصمة الأنبياء في الآية 44 من سورة يوسف المارة وفي الآية 124(3/557)
من سورة طه في ج 1 وأشرنا فيها إلى المواضع التي تكلمنا فيها على هذا من آيات القرآن العظيم، فراجعها ففيها كفاية. هذا وما ذكرناه من أنه على سبيل الفرض والتقدير بالنظر لظاهر الآية لأن احتمال الوقوع فرضا كاف في القضية الشرطية كما هنا.
وليعلم أن القضايا قسمان: حملية وهي ما ينحلّ طرفاها إلى مفردين كزيد كاتب أو ليس بكاتب، وشرطية وهي ما لا ينحل طرفاها إلى مفردين مثل إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود. ولكل منهما أقسام يرجع في معرفتها إلى علم المنطق.
وليعلم أيضا أن القضية والخبر والمطلوب والنتيجة والمسألة في الأصل شيء واحد ولكنها تختلف من حيث التسمية فقط، فإنها من حيث اشتمالها على الحكم تسمى قضية، ومن حيث اشتمالها على الصدق والكذب تسمى خبرا، ومن حيث كونها جزءا من الدليل تسمى مقدمة، ومن حيث كونها نتيجة تسمى علما، ومن حيث كونها يسأل عنا في العلم تسمى مسألة. قال صاحب التلويح: الذات واحدة واختلاف العبادات باختلاف الاعتبار، وقيل في المعنى:
عباراتهم شتى وحسنك واحد ... وكل إلى ذلك الجمال يشير
عود على بدء: إلا أنه ينبغي أن يعلم أن استحالة الوقوع في المعصية على جميع الأنبياء شرعية كما ستقف عليه من مطالعة المواقع التي أرشدناك لمراجعتها أيها القارئ المنصف الكريم، وقد استدل السادة الحنفية من عدم تقييد الإحباط بالاستمرار على الشرك إلى الموت بأن الردة تحبط العمل الذي قبلها مطلقا وبوجوب قضاء الحج فقط لأن ثواب حجه قبل الردة أحبط بها أيضا، أما عدم قضاء الصلاة والصيام والزكاة مثلا فلم يوجبوه باعتباره دخل في الإسلام حديثا والدخول بالإسلام يكفر ما قبله من الآثام، فلو فرض أنه لم يصلّ ولم يزكّ قط كسائر الكفرة فإنه لا يكلف بشيء من ذلك، لأن الإيمان يجب ما قبله. وقال السادة الشافعية إن الردة لا تحبط العمل السابق عليها ما لم يستمر المرتدّ على الكفر إلى الموت، وقالوا إن ترك التقييد هنا اعتماد على التصريح به في قوله تعالى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الآية 218 من سورة البقرة في ج 3، وقالوا إن هذه الآية من حمل المطلق على المقيد. وقال بعض الحنفية في(3/558)
الرد عليهم: إن في الآية المستدل بها توزيعا وكيفيته أن قوله تعالى (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) ناظر إلى الارتداد في الدين، وقوله (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) إلخ ناظر إلى الموت على الكفر، وعليه فلا قيد فيها للآية التي نحن بصددها ليصح الاحتجاج بها متى حمل المطلق على المقيد، ومن هذا الخلاف نشأ الخلاف في الصحابي إذا ارتد ثم عاد إلى الإسلام بعد وفاة سيد الأنام أو قبلها إلا أنه لم يره هل يسلب عنه اسم الصحبة أم لا؟ فمن ذهب إلى الإطلاق قال لا، وهو ما عليه الحنفية، ومن ذهب إلى التقييد قال نعم، وهو ما عليه الشافعية. وليعلم أن هكذا خلافات وأمثالها بين الأئمة لا علاقة لها بأصول الدين المجمع عليها إذ لم يقع اختلاف ما قط في ذلك. أما ما يتعلق في الفروع فإن ما يقع من الاختلاف فيها عبارة عن اختلاف الرأي والاجتهاد، وهذا مما لا يخلو منه البشر في كل زمان ولا يضر بل يحصل من تصادم الأفكار وتحاكك الآراء فيه فوائد جلى ومنافع عظمى، لأنك إذا لم تقدح الزناد على الحصى لم تحصل النار «بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ 66» الدائبين على شكر النعم المتوالية عليك من ربك فيزيدك بها فضلا، قال تعالى «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» ولا عظموه حق تعظيمه وما عرفوه حق معرفته حين دعوك قومك يا محمد إلى عبادة آلهتهم وأشركوا بالإله الواحد ما لا يستحق العبادة وجعلوا له بنين وبنات وهو منزه عن ذلك كله وكيف يكون هذا «وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» بما فيها من جبال وأبحار وغيرها «وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ» بما فيها من كواكب وخلائق وغيرها «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ 67» به من الأوثان، راجع الآية 91 من سورة الأنعام المارة تنبئك عما يتعلق في هذه الآية العظيمة المصورة لعظمة جلال الله والموقفة على كنه هيبته. والقبضة المرة الواحدة من القبض وهي المقدار المقبوض بالكف، مع العلم بأن هذه الآية مكية، وتلك التي بالأنعام مدنية. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون، ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون. وفي رواية يقول(3/559)
أنا الله ويقبض أصابعه أنا الملك، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى أني أقول أساقط هو برسول الله، لفظ مسلم. وللبخاري: إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه ويقول أنا الملك. ورويا عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: جاء جبريل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا محمد إن الله يضع السماء على إصبع والأرض على إصبع والجبال على إصبع والشجر والأنهار على إصبع وسائر الخلق على إصبع، ثم يقول أنا الملك. فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال (وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) . وروى البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: يقبض الله الأرض
ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض. قال أبو سليمان الخطابي ليس فيما يضاف إلى الله عز وجل من صفة اليدين شمال لأن الشمال محل النقص والضعف وقد روى كلتا يديه بيمين وليس لها عندنا معنى اليد الجارحة إنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها، ويصح أن يقال عقيدة: له جل شأنه يد لا كالأيدي ووجه لا كالأوجه وهكذا إجراؤها على حالها دون تأويل أو تفسير، وتنتهي بها إلى حيث انتهى بها كتاب الله والأخبار المأثوره الصحيحة في كل آية من آيات الصفات التي ألمعنا إليها قبلا في مواقع كثيرة كالآية 158 من الأنعام المارة وغيرها ففيها ما تبتغي، ولهذا البحث صلة في الآية 105 من سورة الأنبياء الآتية.
مطلب ما هو النفخ في الصور ولماذا وفي الصعق ومن هم الشهداء:
قال تعالى «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ» القرن الذي قدمنا بحثه في الآية 73 من سورة الأنعام بصورة مفصلة فراجعها، والنافخ هو سيدنا إسرافيل عليه السلام «فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» أي مات خوفا وجزعا من هول الصيحة الأولى «إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» راجع الآية 87 من سورة النمل المارة في ج 1، تعلم المستثنيين من الموت عند النفخة الأولى. قال السيد محمد الهاشمي في شرحه شطرنج العارفين للشيخ محي الدين العربي قدس الله سره: إن المستثنين سبع 1 الجنة 2 والنار 3 والعرش 4 والكرسي 5 واللوح 6 والقلم 7 والأرواح، والله أعلم بذلك. وإذ كان بين النفختين مدة لا يعلم حقيقتها إلا الله جاء العطف في الآخرة(3/560)
على الأول بما يدل على التراخي، وهو قوله تعالى «ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ 68» ماذا يأمر الله فيهم بعد قيامهم من قبورهم، وقيل إن ما بين النفختين أربعون سنة بدليل ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما بين النفختين أربعون، قالوا أربعون يوما؟ قال أبيت، قالوا أربعون شهرا؟ قال أبيت، قالوا أربعون سنة؟ قال أبيت (وهذا ورع منه رضي الله عنه لأنه لم يسمع من الرسول ما يتذكره على الضبط هل هي ساعات أم أيام أو شهور أو سنون، ولم يتذكر إلا لفظ الأربعين، ولهذا لم يتجاسر على تمييزها، هذا أبو هريرة الذي يطعن في أحاديثه من لا خلاق له من التقوى، فإذا كان لا يستطيع أن يبين ماهية الأربعين في الحديث وهو عبارة عن اخبار لا علاقه لها في الأحكام والحدود، فكيف يتصور أن يقول شيئا لم يسمعه من حضرة الرسول فيما يتعلق فيها وكيف يظن به أن يتكلم بشيء لم يتحققه، ألا فلينتبه المتقولون وليتقوا الله في أصحاب رسوله ولا يظنوا بهم إلا الخير والصدق، وليحذروا أن ينسبوا إليهم غير ذلك، وقد سمعوا من نبيهم قوله: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، وليس من شيء إلا يبلى إلا عظم واحد هو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة، وقدمنا ما يتعلق بعجب الذنب في الآية 99 من سورة الإسراء ج 1 فراجعه.
قال تعالى «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها» حين تجلى لفصل القضاء بين خلقه «وَوُضِعَ الْكِتابُ» الذي فيه صحائف أعمال الخلق ليحاسب كلا بمقتضي عمله وجيء باللوح المحفوظ لمقابلته بكتب الأعمال التي دونها الحفظة ليظهر للمنكرين أن كل شيء وقع من خلقه ثابت عنده في علمه ومدون في كتابه قبل وقوعه «وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ» ليسألهم عن تبليغ رسالتهم وعما أجابهم به قومهم ويستشهدهم عليهم وهو أعلم بذلك كله، وإنما ليطلع عباده على ذلك وليعلموا أنهم هم الذين ظلموا أنفسهم لا غير «وَالشُّهَداءِ» يؤتى بهم أيضا ليشهدوا عليهم وهو أعلم بما اقترفوه هذا إذا كان المراد بالشهداء الشهود، أما إذا أريد بهم شهداء الحرب الذين قتلوا في سبيل الله تعالى فيكون إحضارهم لإكرامهم وسرورهم بالفوز والنعيم الدائم،(3/561)
وإذا أريد بهم الحفظة أو الموكلون بأعمال الخلق الكاتبون لحسناتهم وسيئاتهم فيكون إحضارهم ليتلى عليهم ما دوّنوه ليسألوا عنه بحضور المكتوب عنهم ليتبين لهم هل ظلموهم بشيء من ذلك أم لا، وإذا أريد بهم الرجال العدول الأبرار من كل أمة فيكون حضورهم لسؤالهم هل أن الرسل بلغوا أممهم رسالة ربهم أم لا، لأن من الناس من يجحد مجيء الرسل، وإذا أريد بهم أمة محمد يكون المراد من حضورهم أن يشهدوا على الأمم السالفة بأن رسلهم بلغوهم أوامر الله ونواهيه عند ما يقولون ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيقال لهم من أين علمتم أنهم بلغوهم وأنتم بعدهم ولم تجتمعوا معهم؟ فيقولون من كتاب أنزله الله علينا ذكر فيه أن الرسل بلغوا أممهم وهو حق وصدق، ومن أقوال رسولنا محمد الذي أخبرت يا ربنا أنه لم ينطق عن هوى، وان قوله وحي منك يوحى إليه، وقد علمنا أنه حق وأن رسالته صدق، ومما يدل على أن هذه الأمة تشهد يوم القيامة على الأمم التي قبلها قوله تعالى:
(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) الآية 143 من البقرة في ج 3، ومثلها الآية الأخيرة من سورة الحج في ج 3 أيضا «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ» لكل ما يستحقه بموجب عمله «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ 69» شيئا فلا يزاد على سيئات المسيء، ولا ينقص من حسنات المحسن وينال كل جزاء ما عمله إذا عاملهم بعدله، أما إذا عاملهم بفضله الواسع الذي يدخل فيه من يشاء جنته عمل أو لم يعمل فهو أهل لذلك فقد يعفو عن المسيء ويضاعف للمحسن أضعافا كثيرة وهو جل عطفه لا يسأل عما يفعل «وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ» جزاء «ما عَمِلَتْ» في دنياها من خير أو شر «وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ 70» قبل محاسبتهم وقبل الإطلاع على كتبهم والاستشهاد عليهم إذ ليس هو بحاجة إلى كتاب أو شاهد، ولكن ليعترفوا أنفسهم بما وقع منهم، وليعلموا أن الله ما ترك لهم مثقال ذرة مما عملوه، وأنه قضى عليهم ولهم بما يستوجبونه، لأن الحاكم إذا أفهم المحكوم عليه جرمه وأسبابه وأدلته التي أدانته به ووجه ثبوته عليه بالبراهين التي لا تقبل التأويل والحجج القاطعة لرد دفاعه يوقع الحق على نفسه ويلومها ويبرأ الحاكم من الحيف والجور والخصومة، ولا يوقر بقلبه غلا عليه،(3/562)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
وإذا لم يفعل ذلك فيقول له لماذا حكمت عليّ وبماذا أثبت التهمة الملصقة بي؟ ولو كان في الحقيقة فاعلا فيوقع اللوم على الحاكم ويسند إليه الجور والحيف والخصومة من حيث لا لوم عليه في الحقيقة إلا تقصيره بعدم بيان الأسباب المذكورة.
قال تعالى «وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ» محل تنفيذ العقوبة المترتبة عليهم بعد تفهيمهم الحكم من الحاكم العدل وبيان أسبابه وتبيانه واعترافهم بجرمهم «زُمَراً» أفواجا بعضهم إثر بعض بواسطة شرطة العذاب الذين خصصهم الله تعالى لهذه الغاية في يوم النّهاية أذلاء مهانين مكبلين بالسلاسل والأغلال بدلالة لفظ السوق «حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها» لأنها كانت مغلقة لئلا يتأذى منها من ليس من أهلها لا خشية الفرار إذ لا فرار هناك كدور السجن في الدنيا فإنها تكون دائما مغلقة حتى إذا جيء بسجين جديد فتحت فأدخل وأغلقت أيضا، إهانة لهم وإعلاما بأن إدخالهم قسرا إذلال لهم «وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها» الموكلون بها المفوضون بتعذيب أهلها بأنواع العذاب المقدر لهم بعلم الله وبالمكان المعين لهم من قبله حين يقضى عليهم لأن جهنم دركات الواحدة أشر من الأخرى عند إرادة إدخالهم الدركة المخصّصة لهم ليذوقوا وبال أمرهم من عذابها، ويقال لهم توبيخا وتقريعا «أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ» من جنسكم في الدنيا «يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ» المنزلة عليهم من لدنه «وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى» إذ لم يبق مجال للإنكار والاحتجاج كما لا مجلل للفرار ولا محل لتعقيب الحكم من استئناف وتمييز وإعادة محاكمة كأحكام الدنيا إذ لا معقب لحكم الله، ولهذا يقول الله تعالى حكاية عنهم «وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ» الصادرة من الإله العظيم شديد العقاب المبينة في الآية 119 من سورة هود المارة «عَلَى الْكافِرِينَ 71» يعنون أنفسهم لأنهم كفروا بالله ورسله وما جاءهم من الوحي «قِيلَ» فتقول لهم الملائكة المذكورون بعنف وشدة بعد ما سمعوا قولهم «ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها»
لا مخرج لكم منها البتة، وإنما قالوا أبواب لأن كلا منهم له عذاب دون الآخر، فيدخل كل الباب الذي فيه محل عذابه، ثم يقال لهم بعد أن يستقر كل في مكانه هذا مثواكم «فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ 72» عن طاعة الله(3/563)
ورسله المستأنفين عن قبول النصح والإرشاد المعرضين عن الهدى والصواب والسداد.
قال تعالى «وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ» التي حكم لهم بدخولها والتنعم بنعيمها «زُمَراً» جماعات وزرافات على مراكبهم ومراتبهم، وجاء هنا لفظ السوق للمقابلة أو أنه للمراكب لا للراكبين لإرادة السرعة إلى دار الكرامة بالهيبة والوقار والاحترام، فشتان بين السوقين «حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها» قبل وصولهم زيادة في تبجيلهم وليحصل لهم كمال السرور بدخولها رأسا من غير انتظار لأن الخزنة فتحوا أبوابها ووقفوا عليها صفوفا منتظرين قدومهم ليتشرفوا بهم كما هي الحالة في الدنيا عند قدوم أمير أو وزير أو عند ما يدخل السلطان مقامه في الأيام الرسمية ليتقبل التبريكات من رعيته والسلام عليه إذ يقف الجنود والموظفون صفوفا عن يمين وشمال الباب الذي يجلس فيه إكراما له وإعلاما بأنها مهيأة لهم، فيدخلون بالاحترام والتكريم وتؤدى لهم التحية عنده دخولهم وخروجهم، وهكذا في الآخرة تقف الملائكة صفوفا لاستقبال أهل الجنة، وشتان بين هؤلاء الصفوف وتلك الصفوف، راجع الآية 50 من سورة ص في ج 1. ومن هنا فليعلم أهل الدنيا الفرق بين تلك الحالتين، وعند ما يقبل أهل الجنة تحييهم الملائكة عن يمين الأبواب وشمالها احتراما لهم بدلالة قوله تعالى «وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ» مقاما ونفسا «فَادْخُلُوها خالِدِينَ 73» فيها أبدا فيدخل كل منهم الباب المهيء له فيها منزله بحسب عمله، اللهم اجعلنا منهم بكرمك «وَقالُوا» بعد أن رأوا فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في الدنيا «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ» الذي وعدنا به أنبياؤه في الدنيا «وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ» ملكنا أرض الجنة بدلا من أرض الدنيا والمراد بالأرض التي استقروا عليها بعد دخولهم الجنة تشبيها بأرض الدنيا من حيث الاسم وإلا لا مشابهة ولا مقايسة، وجعلنا «نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ» من قصورها ومضاربها ومنتزهاتها التي منحنا الله إياها مما تشتهيه أنفسنا وتلذ أعيننا «فَنِعْمَ» الأجر «أَجْرُ الْعامِلِينَ 74» خيرا الفاعلين حسنا في الدنيا، الجنة ونعيمها:
نعمت جزاء المؤمنين الجنة ... دار الأماني والمنى والمنة(3/564)
«وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ» عليهم محيطين بهم ومحدقين صفوفا «مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ» إلى حيث يشاء الله تعالى إذ ذكر لنا ابتداء الغاية وسكت عن المغيا فلا يعلمها غيره لأن عرش الرحمن يكون في عرصات في الأرض، قال تعالى (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) الآية 18 من سورة الحاقة الآتية، وذلك بعد أن تبدل الأرض غير الأرض والسموات، راجع الآية 48 من سورة إبراهيم الآتية، لأن أرضنا هذه لا تحويه وهي بالنسبة له كحلقة ملقاة في فلاة، وقال تعالى:
(وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا) الآية 22 من سورة والفجر المارة في ج 1، وقال تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) الآية 38 من سورة النبأ الآتية وهؤلاء الملائكة ديدنهم «يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» تلذذا لا تعبدا إذ لا تكليف هناك وهذا التسبيح والتحميد من الملائكة بمقابلة أبواق الجند وترتيلاتهم في الدنيا «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ» من قبل الحق ووضع كل من الفريقين بمنزلته المخصصة له بقضاء قاضي القضاة الأبدي «وَقِيلَ» والقائل والله أعلم المؤمنون «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 75» شكرا على ما أولاهم من هذه الكرامة الأبدية، فالحمد الأول كان على انجاز وعده وإيراثهم الأرض، وهذا الحمد الثاني على القضاء بالحق فلا تكرار، والأول فاصل بين الطرفين بالوعد والوعيد والرضى والسخط، والثاني للتفريق بينهما بحسب الأبدان فريق في الجنة وفريق في السعير، ثم إن الملائكة تحمد الله تعالى أيضا على ذلك القضاء لخلاصهم من تهم ما نسبوه إليهم من العبادة. ويوجد أربع سور مختومة بمثل هذه اللفظة هذه والصافات والقلم وكورت. هذا، والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة المؤمن عدد 10- 60- 40
(وتسمى سورة غافر) نزلت بمكة بعد سورة الزمر عدا آيتي 56/ 57 فإنهما نزلنا في المدينة، وهي خمس وثمانون آية، والف ومئة وتسعون كلمة، وأربعة آلاف وتسعمئة وستون حرفا، ويوجد في القرآن سبع سور مبدوءة بما بدئت به، وهي هذه والسجدة والشورى والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف، ولا يوجد مثلها في عدد الآي.(3/565)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «حم 1» اسم للسورة ومبدأ أسماء الله المحسن والحكيم والحاكم والحنان والمنان والحي والمميت والمجيد والمبدئ المعيد، قال ابن عباس: لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم، والمر، وحم، ونون اسم الله الرحمن حروف مقطعة، وحم بمعنى حمّ أي قضي الأمر بما كان وما سيكون من مبدأ الكون إلى منتهاه، وهذه السور السبع تسمى آل حميم.
قال الكميت بن يزيد في الهاشميات:
وجدنا لكم في آل حم آية ... تأولها منا تقي ومغرب
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إن مثل صاحب القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلا فمر بأثر غيث، فبينما هو يسير ويتعجب منه إذ هو على روضات دمثات، فقال عجبت من الغيث الأول فهذا أعجب منه وأعجب، فقيل له إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن، وإن مثل هذه الروضات الدمثات مثل آل حم وتجمع بالمدّ كالطواسين والطواسيم وتقرأ بالتفخيم ومد الحاء وفتحه وإسكان الميم، وقرأها حمزة وغيره بالإمالة، وقرأها قراء المدينة بين الفتح والكسر، وقرأها بعضهم بكسر الميم ويجمعها على حاميمات، ومن شواهد هذا الجمع ما قاله ابن عساكر في تاريخه:
هذا رسول الله في الخيرات ... جاء بياسين وحاميمات
أما معناها فأحسن الأقوال فيها قول من قال الله أعلم بمراده بذلك كما هو الحال فيما تقدم من الأقوال في الر والم والمص وطسم وطس وق ونون وص، وشبهها لأنها رموز بين الله تعالى ورسوله لا يعرفها على الحقيقة غيرهما، راجع ما ذكرناه أوائل السور المذكورة تجد ما تريده، إذ لم نترك قولا قيل فيها وزدنا فيها ما لم يقله أحد وهو أنها رموز بين الله ورسوله، ومنها اتخذ الملوك والأمراء الشفرة التي لا يعرفها غيرهما، لأن جميع ما في الدنيا أخذ من كتب الله السماوية، سواء ما يتعلق بالملوك والحكام والأحكام والآداب والأخلاق والتنعيم والتعذيب والحراسة والمراسيم وغيرها. «تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ» الغالب المنيع، والكلام فيها كالكلام في مبدأ سورة الزمر المارة لفظا ومعنى وإعرابا، إلا أنه هنا يجوز(3/566)
جعل تنزيل فما بعده خبرا لحميم، وهناك ختم الآية بلفظ الحكيم، وهنا بلفظ «الْعَلِيمِ 2» بكل ما كان وسيكون في الدنيا والآخرة وهو من تفتن النظم ولا شك أن البليغ علمه بالأشياء وكنهها يكون حكيما بتصرفاتها ووصفها ووضعها في محالها «غافِرِ الذَّنْبِ» مهما كان لمن يشاء عدا الشرك «وَقابِلِ التَّوْبِ» من أي كان مهما كان فاعلا، وساتر لما كان قبل التوبة من الذنوب «شَدِيدِ الْعِقابِ» لمن يبقى مصرا على كفره وعناده لاستكباره عن الرجوع إلى ربه «ذِي الطَّوْلِ» السعة والغنى والأنعام الدائم «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ 3» والمرجع في الآخرة. قد اشتملت هذه الآية العظيمة على ست صفات من صفات الله تعالى ملزمة للإقرار بربوبيته واستحقاقه للعبادة إذ جمعت بين الوعد والوعيد والترغيب والترهيب وهي وحدها كافية للإيمان به تعالى وبما جاء عنه من كتاب ورسول لمن كان له قلب واع وآذان صاغية.
مطلب الجدال المطلوب والممنوع وبحث في العرش والملائكة ومحاورة أهل النار:
قال تعالى «ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» بالله ورسله وكتبه، أما المؤمنون فلا يجادلون بل يمتثلون أوامر ربهم فيه وينقادون لها ويسلمون لما جاء به الرسل ويحققونه فعلا. واعلم أن هذه الآية والآية 176 من سورة البقرة في ج 3 وهي (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) من أشد آيات القرآن على المجادلين فيه. أخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: إن جدالا في القرآن كفر، وقال المراء في القرآن كفر.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم قوما يتمارون، فقال إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله عزّ وجل بعضه ببعض، وإنما أنزل الكتاب ليصدق بعضه بعضا، فلا تكذبوا بعضه ببعضه فما علمتم منه فقولوه وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه. وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:
هاجرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج صلّى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب، فقال إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب.
وقد نزلت هذه الآية في الحارث بن قيس السلمي أحد المستهزئين، والمراد بالجدال(3/567)
ما كان منه بالباطل من الطعن في آيات الله المبرأة من الطعن، وما كان القصد منه ادحاض الحق وإطفاء نور الله عز وجل، يؤيد هذا ما سيأتي من تشبيه حال كفار مكة بكفرة الأحزاب قبلهم. أما الجدال في آيات الله لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها ومقاومة آراء أهل العلم في استنباط معانيها وبلاغة مبانيها وردّ شبه أهل الزيغ عنها وإحراقهم بإفحامهم وإظهار جهلهم فيها فهو أعظم من الجهاد في سبيل الله تعالى، وهو لازم على كل قادر كامل عارف في كلام الله. هذا، وما نقلناه من الأخبار أعلاه يومىء إلى هذا إذ يشعر أن نوعا من الجدال في القرآن كفر فدحضه من أعظم القربات لله تعالى وهذا يسمى جدالا عن آيات الله لا في آيات الله، فلذلك كان محمودا لأن الجدال يتعدى بعن إذا كان للمنع والذّب عن الشيء، ويتعدى بغي إذا كان بخلافه وهو المذموم «فَلا يَغْرُرْكَ» يا سيد الرسل «تَقَلُّبُهُمْ» تصرف الكفرة المجادلين «فِي الْبِلادِ 4» ذاهبين آئبين سالمين غانمين في تجاراتهم وزراعاتهم وزياراتهم، فإن عاقبة أمرهم الهلاك والخسار، ومرجعهم إلى العذاب والدمار.
واعلم أنه كما كذبك قومك «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ» الرسل أمثالك «قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ» الذين تحزبوا على رسلهم بالتكذيب وقاتلوهم فنصر الله رسله عليهم، وفي هذه الآية إشارة إلى أن قوم محمد وأقاربه سيتحزبون عليه أيضا، وقد كان منهم ذلك كما سيأتي في الآية 9 من سورة الأحزاب في ج 3، «وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ» فيقتلوه، وفي هذه الجملة إيماء أيضا إلى أن قوم محمد سيهون بقتله وكان منهم أيضا كما سيأتي في الآية 31 من سورة الأنفال، وسيأتي تفصيله في بحث الهجرة في سورة العنكبوت إن شاء الله. هذا سببها الظاهري، أما سببها الباطني فهو علو شأن الإسلام وشموخ حكمته وارتفاع رايته وتعظيم أهله «وَجادَلُوا» رسلهم «بِالْباطِلِ» كما جادلوك به «لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ» الذي جاءوهم به ويمحقوه بقصد إبطاله، ولكن الله تعالى يأبى إلا أن يتم نوره ويطفىء كلمة الكفر على رغم أنفهم. قال تعالى «فَأَخَذْتُهُمْ» ودمرتهم عقابا لفعلهم ذلك «فَكَيْفَ كانَ عِقابِ 5» إياهم أي كان عقابا مهولا يتعجب منه المتعجبون «وَكَذلِكَ» مثل ما وجب العذاب على أولئك أقوام الرسل قبلك(3/568)
«حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ» بالعذاب «عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا» من قومك، لأن السبب الداعي إليه واحد وهو «أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ 6» في الآخرة فضلا عن عذاب الدنيا الذي عجلناه لهم، يقرأ أنهم بالكسر على أن الجملة بدل من قوله كلمة ربك وبفتح الهمزة على حذف لام التعليل وهكذا. قال تعالى «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ» من الملائكة «وَمَنْ حَوْلَهُ» منهم الحافّين به وهم سادات الملائكة وأعيانهم. وكلمة الذين كلام مستأنف مبتدأ خبره «يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ» بأنه الواحد الفرد الصمد الذي لا شريك له ولا وزير ولا صاحبة ولا ولد، وهذا إظهار لشرف الإيمان وترغيب المؤمنين به، لأنهم مؤمنون حقا وإيمانهم به معلوم، وهذا على حد وصف الأنبياء بالصلاح والصدق والوفاء وهم كذلك إظهارا لوصف هذه الخصال، وترغيبا للمؤمنين بالاقتداء بهم فيها. وكيفية تسبيحهم والله أعلم هو: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم من هيبة جلاله، وهم أشد خوفا من جميع أهل السموات، لأن العبد كلما ازداد قربا من ربه ازداد معرفة به، وكلما ازداد معرفة ازداد خشية منه، ولذلك من عرف ربه هابه كما أن الذي يتقرب من الملك يعرف من سطوته مالا يعرفه غيره البعيد عنه، فيشتد خوفه بقدر قربه منه ومعرفته له «وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا» ويقولون في استغفارهم «رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً» أي وسع علمك ورحمتك كل شيء فكل منها تمييز محول عن الفاعل «فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا» من عبادك من كفرهم وعصيانهم «وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ» القويم في الدنيا وآمنوا برسلك وكتبك فاعف عنهم يا مولانا «وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ 7» في الآخرة «رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ» على لسان رسلك يا ربنا، هم «وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ» الغالب المنيع سلطانه البديع شأنه «الْحَكِيمُ 8» فيما يفعل الذي لا يقع في ملكه إلا ما هو مقتضى حكمته الباهرة. ونظير هذه الآية بالمعنى الآية 21 من سورة الطور الآتية والآية 22 من سورة الرعد في ج 3 فراجعهما،(3/569)
ومنها يفهم أن مطلق الإيمان كاف لإلحاقهم بهم وإدخالهم الجنة، لأن الإنسان متى ما وسم بالإيمان صار صالحا لدخول الجنة ولو لم يعمل شيئا، وذلك من فضل الله بعباده «وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ» وأجرهم من عقابها بكرمك وجودك وإحسانك «وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ» الموجبة للعذاب وتمنعه من قربانها بفضلك وتوفيقك وهدايتك «يَوْمَئِذٍ» يوم إذ كان في الدنيا «فَقَدْ رَحِمْتَهُ» رحمتين رحمة في الدنيا من أن يوصم بها، ورحمة في الآخرة بالنجاة من عقابها ووبالها. واعلم أن لفظ السيئة عام في كل شيء يعمله الإنسان بنفسه أو بغيره مالا وبدنا مادة ومعنى من كل ما يطلق عليه لفظ قبيح وجميع الحركات الرذيلة والإشارات البذيئة «وَذلِكَ» اتقاء السيئات في الدنيا والرحمة بالآخرة هو «الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 9» في جوار الله تعالى في جنته فلا فوز أعظم منه ولا تصل العقول إلى كنه عظمته.
انتهى كلام الملائكة عليهم السلام وهو كلام جميل بديع جامع مانع محصور في جهتين التمجيد للرب وطلب المغفرة لأهل الإيمان. قال مطرف: أنصح عباد الله تعالى للمؤمنين الملائكة، وأنمش الخلق لهم الشياطين. وقد وردت أخبار كثيرة في وصف الملائكة والعرش ضربنا عنها صفحا لعدم الوثوق بصحتها، ولأنهما في الحقيقة فوق ما يقولون ولا يعرف حقيقتهما وصفتهما على ما هما عليه إلا الله تعالى، وما نقل من الأخبار لا قيمة له، لأنهما مما لم يشاهد وما لم يشاهد لا يوصف. هذا، وقد أخرج جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى عزّ وجل من حملة العرش إن ما بين شحمتي أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمئة عام. وروى جعفر عن محمد عن أبيه عن جدّه قال: ما بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية كخفقان الطير المسرع ثلاثين الف عام. فما بالك ببقية الأوصاف التي ذكرها الأخباريون؟ لأن العقل لا يسعها، فعلى العاقل أن يكتفي بما وصف الله في كتابه من كونهم غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأن العرش من عظم خلق الله، وأن الملائكة أقوياء أشداء متناهون في العظمة، وقدمنا ما عثرنا عليه من الأقوال الصحيحة في الآية 20 من سورة التكوير والآية 54 من سورة الأعراف والآية 4 من سورة طه والآية الأولى من سورة الإسراء في(3/570)
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
ج 1 والآية 6 من سورة هود المارة فراجعها. هذا، وقد جاء دعاء الملائكة شاملا وكأنها القائل:
إن تغفر اللهم فاغفر جمّا ... فأي عبد لك لا ألمّا
أشار إلى دعائهم. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ» يوم القيامة من قبل خزنة جهنم حين يضجون من المكث فيها فتقول لهم الملائكة «لَمَقْتُ اللَّهِ» لكم «أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ» والمقت البغض الشديد والبغض نفار النفس من الشيء ترغب فيه، وهو ضد الحب وأشده لمن يراه متعاطيا القبيح من الأعمال، فالكفار يمقتون أنفسهم من طول المكث في جهنم، لأنها أمرتهم بالسوء الذي من أجله وقعوا فيها فيغضبون عليها ويغيظونها ويعضون أناملهم من الغيظ حتى يأكلونها وينكرون على أنفسهم بما قادتهم إليها شهواتهم على رءوس الأشهاد، فعند ذلك تناديهم الملائكة كما قص الله عز وجل فتقول لهم «إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ 10» بالله وتكذبون رسله تبعا لأهوائكم واقتداء بآبائكم، فهذا جزاؤكم، فيجاوبونهم بقولهم
«قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ» الموتة الأولى حينما أشهدهم على أنفسهم في عالم الذر وأخذ عليهم العهد بالإيمان به وبرسله، راجع الآية 152 من سورة الأعراف في ج 1، ثم خلقهم بعد هذه الموتة التي كانوا بعدها في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات مستقرين ومستودعين، ثم أماتهم بعد انقضاء آجالهم في الدنيا، والموتة الثانية في القبر بعد الإحياء للسؤال «وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ» الأولى في الدنيا بالولادة والظهور إلى عالم الظهور من دنيك المستودع والمستقر راجع الآية 99 من سورة الأنعام المارة، قال الغزالي: الولادة الأولى الخروج من الصلب والترائب إلى مستودع الأرحام فهو في الرحم في قرار مكين إلى قدر معلوم، ثم تكون الولادة الثانية من الرحم إلى هذه الدنيا، والحياة الثانية الإحياء للبعث في الآخرة، ونظير هذه الآية الآية 29 من سورة البقرة فراجعها. هذا، وقد عدد في هذه الآية أحوال المحنة والبلاء أربعة: موت في عالم الذر وموت في الدنيا وحياة في الدنيا وحياة في الآخرة، وكلها عرضة إلى المحن والبلايا، وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على عذاب القبر وفسروا الحياة الثانية فيه والموتة الثانية(3/571)
التي تعقب هذه الحياة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 46 من هذه السورة، وقالوا أيضا لربهم «فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا» الآن وتبنا عما كنّا عليه في الدنيا «فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ 11» للرجوع إلى الدنيا لنعمل صالحا يا إلهنا لأنا عرفنا كل شيء كنا نكرهه وننكره أنه حق كالبعث وإنزال الكتب وإرسال الرسل والجنة والنار وغيرها والحساب والعقاب على كل ذرة من الأفعال وكل حرف من الأقوال وكل حركة من الأطوار وكل فتيل ونفير وقطمير، وتحقق لدينا أن الشرك باطل والأوثان لا تنفع وأن الملائكة وعزير وعيسى عباد الله تعالى ليس لهم من الأمر شيء ولا شفيع ولا شفاعة إلا بإذن الله لمن يريده، وأن الله منزه عن الصاحبة والولد لا وزير له ولا شريك. فقيل لهم لا طريق إلى الرجوع إلى الدنيا ولا سبيل إلى الخروج من النار «ذلِكُمْ» الذي أوقعكم في العذاب وحرمكم من ثواب الآخرة منّى لكم الرجوع إلى الدنيا هو «بِأَنَّهُ» كنتم «إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ» به واشمأزت نفوسكم من ذكره «وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا» تصدقوا وتستبشروا، وقد بلغتكم رسلكم مصيره وحذرتكم هول هذا اليوم الذي تخلدون فيه بما أنتم عليه من العذاب، وليس بوسع أحد إجابة طلبكم، ثم تقول لهم الملائكة أيضا قولوا كما نقول نحن لا مناص مما حكم الله به «فَالْحُكْمُ لِلَّهِ» في هذا اليوم العصيب «الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ 12» الذي لا أعلى ولا أكبر منه، ولا رادّ لحكمه ولا معقب لقضائه.
مطلب احتجاج الحرورية ومعنى الروح وإعلان التفرد بالملك وإجابة الكل لله به:
قيل كان الحرورية أخذوا قولهم لا حكم إلا لله من هذه الآية، قال قتادة:
لما خرج أهل حروراء قال علي كرم الله وجهه من هؤلاء؟ قيل المحكمون أي القائلون لا حكم إلا لله، فقال رضي الله عنه: كلمة حق أريد بها باطل. واستدلالهم هذا فاسد واه، ويكفي الرد عليهم قوله تعالى (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) الآية 35 من سورة النساء ج 3 وقوله تعالى (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) الاية 95 من المائدة ج 3، فإذا كان جل جلاله أمر بالتحكيم لحل خلاف بين الزوجين وتقدير قيمة الحيوان المصاد أو مثله فلئن يأمر بالإصلاح بين المسلمين على(3/572)
طريق التحكيم من باب أولى وخاصة ما يتعلق بأمر الإمامة. قال تعالى «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ» الدالة على قدرته في كل شيء من مكوناته:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
قالا أو حالا «وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً» ماء هو نفسه رزق، وفي الآية 5 من سورة الجاثية الآتية (مِنْ رِزْقٍ) لأنه أفضل الأرزاق وأحوجها للبشر، ويتسبب عن نزوله جميع الأرزاق لجميع الحيوانات على اختلاف أجناسها وأنواعها وفصائلها شرابا وقوتا وفاكهة غطاء ووطاء ولباسا «وَما يَتَذَكَّرُ» في هذا الرزق الذي فيه حياة كل نام وبقاء كل جامد «إِلَّا مَنْ يُنِيبُ 13» إلى خالقه في جميع أموره، فالخاشع الخاضع هو الذي يتذكر في تلك الآيات الباهرات المبرهنة على وجود الخالق وصدق ما جاء به رسله، ولذلك «فَادْعُوا اللَّهَ» أيها الناس حالة كونكم «مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» من كل شك وريبة وشبهة ومرية «وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ 14» إنابتكم وإخلاصكم فلا تلتفتوا إليهم، وألجئوا إلى ربكم ذلك الإله العظيم «رَفِيعُ الدَّرَجاتِ» المعارج المعظمة في غيوبه وفي صفات جماله وجلاله وكماله وهي مصاعد الملائكة إلى عرشه العظيم حين يعرضون إليه عليها وهو كناية في علو عزّته وشامخ ملكوته ورفعة شأنه وارتفاع سلطانه وسامي برهانه، ورفيع وما بعده اخبار لقوله تعالى (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ) إلخ أو كل منها خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو رفيع، وكلمة رفيع لم تكرر في القرآن «ذُو الْعَرْشِ» المجيد الذي وسع كرسيه السموات والأرض وهو الذي «يُلْقِي الرُّوحَ» التي هي «مِنْ أَمْرِهِ» ولم يعلم أحد ماهيتها، أو الوحي المعبر عنه بالروح لما فيه من حياة الأرواح «عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» الذين اصطفاهم لطاعته واجتباهم لرسالته، وقال بعضهم إن الروح هنا جبريل عليه السلام (فتكون جملة من أمره) سببية، أي يلقى الروح من أجل تبليغ أمره، ولا يخفى أن الروح يطلق على معان كثيرة الروح المعلوم والقرآن وجبريل والوحي، وكلها ينعم الله بها على عبادة المهتدين في تفهيم الإيمان والمعقولات الشريفة، والكل جائز هنا، والأولى أن يكون بمعنى الوحي لمناسبته لما بعده، والله أعلم. وقد أسهبنا البحث في الآية 86 من سورة(3/573)
الإسراء فراجعها في ج 1 «لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ 15» هو يوم القيامة إذ يتلاقى فيه الأولون والآخرون وأهل الأرض والسماء والأنبياء وأممهم والعابدون والمعبودون والظالمون والمظلومون والمتحابّون في الله، فتراهم «يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ» ظاهرون للعيان لا يخفى أحد عن أحد، لأن الله يعطي الخلق قوة الإبصار بحيث يرى بعضهم بعضا جميعا، لا تحول رؤية أحد عن أحد، ثم يتجلى عليهم بحيث «لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ» من أشخاصهم، ولا من أحوالهم وأفعالهم، كيف وهو المطلع عليهم في حين كونهم في الرحم إلى وقت وقوفهم بين يديه في الآخرة إلى ما بعد ذلك، لا يعزب عن علمه ذرة مما عملوه في الدنيا وما يصيبهم مثلها في الآخرة وإنما خصّ يوم بروزهم وهو عالم قبل ذلك وبعده، ولو اختفوا في أطباق الأرض أو في أقطار السماء، لأنهم كانوا في الدنيا يتوهمون أنه لا يراهم إذا استتروا بالحجب وأنه قد تخفى عليه بعض أحوالهم، أما اليوم فقد زال توهمهم وانمحق ظنهم، لأنهم مكشوفون على وجه البسيطة التي لا عوج فيها ولا ارتفاع، ثم يقول الله تعالى لجميع خلقه «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ» فتخضع الخلائق إجلالا لهيبته وإعظاما لجلاله وخاصة ملوك الدنيا فإنهم ينحنون لعظمته ويطأطئون رءوسهم لجلاله حياء وخجلا لا يتكلم أحد منهم، فيجيب الربّ نفسه بنفسه «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» 16 الذي قهر عباده بالموت وبعثهم قسرا للحساب والجزاء الذي لا رب غيره. وقيل إن أهل الموقف كلهم بلسان واحد يقولون لله الواحد القهار، فالمؤمنون على طريق التلذذ والتذكر والكافرون على جهة الذل والصغار. وما قيل إن هذا النداء يكون بعد النفخة الأولى وفناء العالم ينافيه ظاهر الآية، لأن التلاقي لا يكون إلا بعد النفخة الثانية، والبروز يكون في المحشر، والنداء يكون لحاضر يسمع لا لميت، فبطل هذا القيل من ثلاث وجوه، ويؤكد بطلانه الدليل الرابع وهو قوله عز قوله «الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» في دنياها «لا ظُلْمَ الْيَوْمَ» على أحد منكم، ولا يكون هذا إلا يوم الحساب إذ يحاسب فيه كل على ما عمل إن خيرا يكافى خيرا منه وإن شرا يجازى شرا بمثله، الحقير والخطير والقوي والضعيف والغني والفقير سواء، فليأمن الكل من الظلم لأن
الحاكم هو ملك الملوك وقاضي(3/574)
القضاة الذي لا يبالي بأحد ولا يراعي أحدا «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ 17» يحاسب الخلق كلهم بآن واحد محاسبة شخص واحد، لا يشغله حساب أحد عن غيره ولا يلهينه جزاء واحد عن الآخر، كما لا يشغله شأن عن شأن. انتهى خطاب الله لخلقه الذي سيخاطبهم به في الآخرة، وقد أعلمهم به الآن ليكونوا على بصيرة من أمرهم فيتفوه ويحذروه ويخافوه. ثم التفت إلى حبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم فقال «وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ» القيامة سميت آزفة لقرب وقتها، لأنها لا شك آتية وكل آت قريب، ولا يبعد على الله شيء قال الشاعر:
أزف الرحيل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قد
أي لا تستبعدوها أيها الناس، فإنها مباغتتكم وسترون من شدة هولها «إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ» تصعد قلوبهم إلى حناجرهم من شدة الفزع وكثرة الوجل فتكون في تراقيهم لا تعود لأماكنها فيستريحوا ولا تخرج من أفواههم فيموتوا حال كونهم «كاظِمِينَ» مكروبين ممسكين أنفسهم على قلوبهم ممتلئين خوفا وجزعا، لأن في ذلك اليوم «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ» صديق شفوق أو قريب ودود أو حبيب رءوف يميلون إليه، ولا يقدر أحد أن يحميهم ولو بكلام «وَلا شَفِيعٍ» لهم في ذلك اليوم «يُطاعُ» قوله أو يسمع كلامه لأن شفعاء الكفرة أوثان مهانة لا شفاعة لها وأنها قد تتبرأ منهم وتنكر عبادتهم لها، وقد يأتي يطاع بمعنى يجاب قال الشاعر:
رب من أنضجت غيظا قلبه ... قد تمنى لي موتا لم يطع
وعليه يكون المعنى ما لهم شفيع يجاب طلبه، أي أن لهم أصدقاء وشفعاء ولكن لا يجاب طلبهم، وفي تلك الساعة شفعاء المؤمنين أيضا لا يقدرون أن يشفعوا إلا لمن يأذن لهم بشفاعته، فلا يتكلمون بالشفاعة لأحد إلا بإذنه ولمن يرتضيه سواء كانوا أنبياء أو أولياء أو شهداء أو أصدقاء وأقرباء صلحاء، فالكل إذ ذاك سكوت لا يقبل قول ولا يسمع كلام، إلا أن المؤمنين لهم أمل بالشفاعة من هؤلاء الكرام على الله تعالى وهو لا يخيب أملهم، أما الكافرون فلا أمل لهم البتة، لأن الله يهين أوثانهم التي كانوا يأملون شفاعتها، فتتقطع أفئدتهم أسفا وأسى وحزنا.(3/575)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)
واعلموا أيها الناس أن ذلك الإله الجليل الذي ستعرضون عليه في ذلك اليوم «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ» استراق النظر من أحدنا إلى ما لا يحل، فكل نظرة لما نهى الله عنه تسمى خائنة يحاسب عليها العبد، ألا فليتق الله الإنسان وليصرف نظره عن المحارم إلى ما أحل الله والتفكر في ملكوته والتملي من كتابه، ولا يستحسن إلا الحسن الجائز له أن يستحسنه، قال بعض العارفين:
وعيني إذا استحسنت غيركم ... أمرت الدموع بتأديبها
لأن البكاء من خشية الله يطهر المساويء «وَما تُخْفِي الصُّدُورُ 19» يعلمه أيضا وما هو أخفى لاستواء السر والعلانية عنده، فكل ما تضمره القلوب من خيانة أو غل أو غش أو حسد أو غيره يعلمه الله، فافعلوا ما شئتم أيها الناس فهو لكم بالمرصاد «وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ» بينكم وبينه وبينكم وبين عباده وأعدائه، لا رجاء ولا رشاء ولا مودة ولا مكانة ولا مال ولا جاه ولا منصب ولا عشيرة «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» أوثانا ويعبدونها بدله أو يشركونها معه بالعبادة «لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ» لدعاتهم ولا لعبادهم في ذلك اليوم وقد كانوا في الدنيا يقضون بينهم بحق وباطل بحسب ما تهواه أنفسهم، أما اليوم فالحكم كله لله ولا يكون إلا بالحق وهذا من قبيل التهكم فيهم، لأن من لا يوصف بالقدرة لا يقال له يقضي أو لا يقضي، وهذا أبلغ من جعل يقضي هنا من باب المشاكلة لأن القصد السخرية بهم لا الاستدلال على صلاحيتهم للإلهية والقضاء. واعلم أنا قد نأتي بالضمائر في مثل هذا كضمائر العقلاء موافقة لزعم عابديها، لأن القرآن العظيم أتى بمثل ذلك لهذا الفرض «إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ» لأقوال خلقه «الْبَصِيرُ 20» بأفعالهم فيكافيء كلا بما يستحقه بمقتضى عمله، وفي الآية تعريض بأن أصنامهم لا تبصر ولا تسمع ولا تعلم ولا تقدر على شيء،
قال تعالى «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ» وكيف أهلكناهم وبقيت ديارهم خاوية «كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ» من قومك يا سيد الرسل «قُوَّةً» على تحمل المشاق والقتال وغيره «وَآثاراً فِي الْأَرْضِ» أيضا أكثر منهم لأنهم مكثوا فيها وعمروا أكثر منهم كما يعلم من المعالم المتروكة عنهم وأطلال ديارهم،(3/576)
ومع هذا كله فلم تغن عنهم قوتهم وتعميرهم من الله شيئا «فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ» التي عملوها، فاعتبروا بهم وأقلعوا عما يوجب أخذكم، فالعاقل من اعتبر بغيره «وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ 21» يقيهم عذابه أو يحول دون نزوله بهم «ذلِكَ» الأخذ الفظيع من قبل الإله العظيم «بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» ليؤمنوا «فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ» بكفرهم وعدم طاعتهم أنبيائهم وعدم اكتراثهم بهم وبما أظهروه لهم من الأدلة الواضحة على وحدانيته «إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ 22» دائمه لا مخلص لأحد منه ولا مهرب لمن قدّر له منه، وكل عقاب دون عقابه هين، لأنه منته ولا نهاية لعقاب الله.
قال تعالى فيما يقصه على نبيه «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ» 23» «إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ 24» كرر الله تعالى هذه القصة لنبيّه بأوسع مما ذكرها قبل في سورة القصص في ج 1 وما بعدها وغيرها تسلية له لئلا يحزن على عدم إيمان قومه ولا يضجر مما وصموه به فإن قوم موسى جابهوه بأكثر مما وصمت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم ولتكون له أسوة به فلا يجزع، وليقف على ما فعلوه به عدا ذلك «فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا» لم يكتفوا بتكذيبه وإنكار معجزاته ورميه بالكذب والسحر بل «قالُوا» لقومهم «اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ» حتى لا يتابعه أحد، ويتركوا دينه كما فعلوا بقومه ذلك قبل ولادته ورسالته، فأبطل الله كيدهم وقال «وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ 25» لأن الطريقة التي اتبعوها أولا كانت بقصد موسى، وقد حفظه الله منهم حتى ربّاه في داره، فعودهم إليها الآن بقصد التخلي عنه وعدم إيمان أحد به، ورجوع قومه إلى دينهم لا يغني عنهم من تنفيذ قضاء الله بإبقائهم مؤمنين واستخلاصهم من قبضة فرعون وقومه، كما لم تغن أعمالهم الأولى من قتل موسى، إذ حفظه الله ونجاه من كيدهم.
مطلب قصة موسى مع فرعون واستشارة فرعون قومه بقتله ومدافعة مؤمن آل فرعون عنه:
ثم ذكر الله تعالى ما كان يضمره فرعون لموسى عليه السلام وهو «قالَ فِرْعَوْنُ»(3/577)
لوزرائه وخاصته وحاشيته «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ» ليمنعه مني وذلك أنه كان مصممّا على قتله وكلما أراد تنفيذ ما صمم عليه يكفونه عنه خوف سوء السمعة لئلا يقول الناس إنه عجز عن معارضته بالحجة فقتله. وهذا قول حق قد أنطقهم الله به ليحفظ الله موسى من القتل تنفيذا لوعده بذلك المار في الآية 45 من سورة طه والآية 25 من سورة القصص المارتين في ج 1، وقد نصحوا ملكهم بهذا، وهكذا الوزراء الذين يحرصون على سمعة ملكهم يشيرون عليه بكل ما يحفظ سمعته من الشوائب. على أن فرعون لا يقدر على قتله لو وافقوه عليه، لأن الله تعالى حافظه ومنجز وعده له بإهلاك فرعون واستخلاص قوم بني إسرائيل منه، والخبيث فرعون يعرف يقينا بدهائه وذكائه أن موسى نبي مرسل من الله وأنه لا يستطيع إيقاع أي شيء به، وأنه سيهدم ملكه، ولو هم بقتله لعاجله الله بالهلاك، قبل أن يمسه الله بسوء. ولذلك لم يجرؤ عليه، وإلا فهو السفّاك للدماء بأقل شيء، وإنما كان يهدد تهديدا رغبة بامتداد أجله ويموه على قومه بما يقول وليظهر أنه قادر على قتله وقال لهم بما يستعجلهم لموافقته «إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ» السوي الذي أنتم عليه ويغير سلطانكم ويستذلكم فيتفوق عليكم «أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ 26» الهيجان بسبب ما يدعو إليه فيكثر القتل وتتعطل معايش الناس ومصالح الدولة، ولهذا أريد أن توافقوني على قتله، قاتله الله على هذا التمويه، إذ ما هو عليه ليس بدين يرتضى حتى يخاف على تبديله، وهل على وجه الأرض أفسد منه في زمانه حتى يخاف الفساد، ولكن حب الرئاسة حبذّ له بيع الباقية بالفانية، وحمله على ذلك. ولما سمع موسى قوله ورأى ما هو عازم عليه قال ما أخبر الله عنه بقوله عز قوله «وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ 27» مخاطبا قومه عليه السلام بالتجائه إلى ربه مما توعده به فرعون، كما أن فرعون خاطب قومه بما أراده فيه محتجا بما ذكره من الترهات، وإنما قال (لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) لأن فرعون وقومه لا يعتقدون وحدانية الله، فجاهرهم بذلك. ونظير هذه الآية الآية 121 من سورة الأعراف المارة في ج 1، ولما كان مؤمن آل فرعون المار(3/578)
ذكره في الآية 7 من سورة القصص المارة في ج 1، يسمع قول فرعون وآله وقول موسى عليه السلام، أخذته الأريحية، فانتبهت مروءته «وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ» بموسى وربه من يوم ألقي في البحر، راجع قصته في الآية المذكورة آنفا من القصص «أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا» أيها الناس بسبب «أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ» استفهام إنكار بتعجب لأن مثل هذا ينبغي أن يتّبع لا أن يقتل، وكيف تقتلونه «وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ» اليد والعصا وإزالة العقدة وإفحام السحرة «مِنْ رَبِّكُمْ» برهانا واضحا على صدق دعوته وفي قوله رحمه الله (مِنْ رَبِّكُمْ) بعث لهم على أن يقتدوا به بالكفّ عن تعرضه فيما يدعيه «وَإِنْ يَكُ كاذِباً» كما تزعمون «فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ» لا يلحقكم من وباله شيء «وَإِنْ يَكُ صادِقاً» وكذبتوه بما جاءكم عنادا لا بد «يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ» به من العذاب إن لم يحل بكم كله. وهذه على طريقة التقسيم في بديع الكلام، أي الأمر لا يخلو من أحد هذين الأمرين وكان أوعدهم بعذاب الدنيا والآخرة، وعليه يكون المراد بالبعض هنا عذاب الدنيا، لأنه مهما عظم فهو جزء قليل من عذاب الآخرة، وقد تأتي بعض بمعنى الكل، قال عمرو القطامي:
قد يدرك المتمني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
ولعلها التأني بدليل مقابلتها بالمستعجل. وقال:
إن الأمور إذا الأحداث دبرها ... دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
وقال الآخر:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها
أي لا أزال أترك ما لم أرضه من الأمكنة إلا أن أموت، والأولى حملها على ظاهرها، لأن هذه الشواهد ليست بقوية لإمكان حمل بعض منها على ظاهرها، هذا، وقد أراد بخطابه فرعون ووزراءه وحاشيته الذين استشارهم بقتل موسى، وقد سلك رضي الله عنه في كلامه هذا غاية في المداراة ونهاية في الإنصاف بتوفيق الله له وهدايته للإيمان «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ 28» وهذه الجملة أيضا فيها مجاملة ومجاهلة، لأن ظاهرها الذي يريد أن يفهمه لهم هو إن(3/579)
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
كان موسى متجاوزا الحد في دعواه، فإن الله يخذله فتخلصون منه دون أن تقتلوه، وباطنه وهو الذي يريده أن فرعون باغ متجاوز الحد كثير الكذب وأن الله لا بد أن يخذله ونتخلص منه، فلا توافقوه على قتل موسى. ثم قال رضي الله عنه مذكرا لهم ما هم عليه من النعم ومهددا لهم بزوالها إن لم يطيعوه «يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ» على غيركم «فِي الْأَرْضِ» وقاهرين أهلها وغالبين على من فيها «فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ» عذابه بسبب إقدامنا على قتله «إِنْ جاءَنا» ولا راد له حينئذ، أي لا تتعرضوا له فتكونوا عرضة إلى عذاب الله الذي لا يمنعنا منه أحد إذا نزل بنا. انتهى كلام المؤمن آمننا الله وإياه من عذابه ثم «قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ» ما أشير عليكم يا قوم «إِلَّا ما أَرى» لنفسي من النصح «وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ 29» طريق الصلاح برأيي الصائب الذي لا أدخر منه شيئا ولا أسر غير ما أظهر وإني لا أستصوب إلا قتله لما فيه من المصلحة العامة لكم ولملككم، وان ما ترونه من خلافي فهو خطا وستعلمون ذلك، قاتله الله لو عرف سبيل الرشاد لآمن به ولكنه عديم الرشاد لأن الله بعثه رحمة له ولقومه فأبى قبولها ولما لم يتعرض لقول المؤمن لأنه لا يعرفه مؤمنا بموسى وهو يسمع كلامه، انبعثت فيه الغيرة وخاف أن تتفق الكلمة على قتله لما ذكر لهم فرعون من مصلحة بقاء الملك فقوى عزمه وأخذ بالعزيمة وبادر يرد عليه بما يخوفه فيه سوء العاقبة فقال فيما يحكيه عنه ربه «وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ» إن أجمعتم على قتله هلاكا عاما يستأصلكم «مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ 30» الأمم الذين تحزبوا واجتمعوا على رسلهم
«مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ» إذ عمهم الله بالغرق «وَعادٍ» إذ أهلكهم الله بالريح العقيم «وَثَمُودَ» دمرهم الله بالصيحة «وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ» أهلكوا كذلك بعذاب من عند الله فكان لكل يوم دمار قوم، والمراد باليوم الأيام، وإنما لم يجمع لأن جمع الأحزاب المتضمن طوائف مختلفة زمانا ومكانا وعنصرا اغنى عن جمع اليوم «وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ 31» فيعذبهم بغير ذنب، ولكنهم أرادوا الظلم فظلموا فدمرهم الله، ونحن يا قومنا نخشى إن أردنا قتل هذا الرجل أن يصيبنا مثل ما أصابهم. ولما رآهم أصغوا لكلامه(3/580)
تلبس بالجزم طلبا للكف عما أشار به فرعون، وأملا بإيمان قومه، فبادرهم بأمر الآخرة بعد أن لم ينجح معهم التهديد بأمور الدنيا، فقال «وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ 32» يوم القيامة سمي بذلك، لأن الناس تتنادى فيه كما حكاه الله تعالى في الآية 47 من سورة الأعراف ج 1، وينادى فيه سعد فلان وشقي فلان، وينادى بخلود أهل النار وخلود أهل الجنة، ويقول المؤمن (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) ويقول الكافر (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) كما سيأتي في سورة الحاقة الآتية ذلك اليوم الذي يتبرأ فيه الناس من آبائهم وأمهاتهم «يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ» عن موقف الحساب متجهين إلى موقع العذاب «ما لَكُمْ» في ذلك اليوم المهول الذي يبرأ فيه الوالدان من أولادهم «مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ» يقيكم من عذابه، لهذا فإني أقول لكم يا قوم إن أصررتم على قتله ضللتم «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ 33» يهديه البتة، وهذا تخويف لهم بالعذاب الأخروي الدائم بعد أن حذرهم العذاب الدنيوي الفاني، وبعد أن أيس من إيمانهم وقبولهم نصحه بالكف عنه، ورأى الوزراء والحاشية غير مبالين بذلك، لأن ملكهم يريد قتله لمصلحتهم ولم يروا أنهم يخالفونه بعد أن بث لهم نصحه من أنه لا يريد لنفسه إلا ما يريده لهم من الخير لأنهم رأوا أنفسهم مخطئين قبلا حين استشارهم بقتله أول أمره، وقالوا (أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أما الآن وقد استفحل أمره وتبعه بعض قومه فلم يقدروا أن يصرحوا له بعدم قتله خوفا من أن يجابهم باللوم والتعنيف على ما سبق منهم وأنهم السبب في إبقائه لاتباعه رأيهم، وخافوا أن يفاجئهم فيبين لهم سوء رأيهم وخطأ تدبيرهم، ولربما أن يستفحل أمره أكثر من ذي قبل فيعجزون عن مقابلته ويصيرون سببا لضياع الملك، إلا أنهم لم يقدروا على مجابهة المؤمن بما داهمهم به من التهديد بسوء العاقبة لأنه لا يقابل بباطل فجنحوا عنه وأطرقوا والتزموا السكوت، فقوي جنان المؤمن وطفق يونجهم على ما وقع من آبائهم الأولين من تكذيب الرسل، فقال «وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ» بن يعقوب ابن إبراهيم «مِنْ قَبْلُ» مجيء موسى بن عمران هذا المتصل نسبه به «بِالْبَيِّناتِ» الواضحات كتعبير الرؤيا والإخبار بالغيب، وحفظ أهل مصر من الهلاك بالقحط بما(3/581)
ألهمه الله من التدبير، وقد مكث عليه السلام أربعا وعشرين سنة يدعوهم إلى الله تعالى وتوحيده وأن يتركوا أوثانهم بما قد حكى الله عنه في الآية 37 من سورته المارة، لأنهم كانوا عبدة أوثان وقوم فرعون كذلك، لأنهم على أثرهم وزادوا عليهم عبادة فرعون لقوله (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) كما سيأتي في الآية 25 من النازعات الآتية أي على هذه الأصنام التي هي أربابا، لأنه كان يأمرهم بنحت الأصنام وتصويرها وعبادتها، وأنه يرى نفسه فوقها، لذلك ادعى تلك الدعوى الفاغمة التي لم يدعها أحد قبله إلا أخوه نمروذ الذي أنكر وجود الإله العظيم وأظهر لهم أن لا إله إلا هذه الأصنام، وأنه ربها وربهم، وزاده هذا الخبيث بما وصف به نفسه من العلو قال تعالى فيما يحكيه عن تذكير ذلك المؤمن الصادق الحازم موبخا لهم صنيعهم الأول بقوله «فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ» من الدعوة لتوحيد الله وترك الأوثان، لأنكم لا تزالون تعبدونها وظننتم أن يوسف ملك لا نبي ولم تنتفعوا بهديه «حَتَّى إِذا هَلَكَ» يوسف عليه السلام «قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا» فأقمتم على كفركم ولم تصدقوه، وهكذا جاءكم موسى نبيا مثله فكذبتموه أيضا وأصررتم على ضلالكم «كَذلِكَ» مثل ضلالكم الأول الواقع من أسلافكم والضلال الثاني الحادث منكم «يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ» في العصيان «مُرْتابٌ 34» شاك في أمر النبوة. واعلموا يا قومي ان المتجاوزين الحد في الطغيان الشاكين في الدين القويم هم «الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ» بغية تكذيبها
ورغبة في إبطالها «بِغَيْرِ سُلْطانٍ» لديهم وحجة يحتجون بها وبرهان يدافعون به ودليل «أَتاهُمْ» من الله العظيم فهؤلاء «كَبُرَ» جدالهم هذا وعظم «مَقْتاً» بغضا شديدا «عِنْدَ اللَّهِ» رب الأرباب على الحقيقة «وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا به» يكبر ويعظم أيضا، لأن المؤمن من يتخلق بأخلاق الله «كَذلِكَ» مثل ما طبع الله على قلوب المكذبين قبلا، فجعلها لا تعي الحق ولا تهتدي لسلوكه «يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ» بالكسر وينوّن «مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ 35» منكم وممن يعمل عملكم ويقتفي أثركم، وإنما خص القلب لأنه عمود البدن فإذا قوي قوي سائره وإذا ضعف ضعف باقيه، وإذا فسد فسد الجسد كله وإذا صلح بنور(3/582)
الحكمة وفقت الأعضاء لكل حسن من قول أو فعل. ولهذا خص القلب بهاتين الخصلتين ووصفه بهما، لأنه منبع الكبر والجبروت، كما أنه معدن الخصال الحسنة، فهو الكل بالكل فلم يرد فرعون ولا قومه على هذه الآيات البينات التي جمع فيها هذا المؤمن الغيور فأوعى، لأنها حجج داحضة قاطعة وبراهين لامعة ساطعة قامعة ودلائل باهرة وامارات واضحة بالغة لا جواب لها إلا القبول ممن أراد الله له القبول والسكوت ممن أراد الله له الهلاك، وإن فرعون خاصة يعلم أن ما جاء به هذا المؤمن الذي لم تأخذه في الحق لومة لائم، ولم يخش فيه إلا الله حقا لا مرية فيه، فلما غشيهم السكوت التفت فرعون إلى رأس وزرائه وخاطبه بقوله كما قصّ الله عنه:
مطلب بناء الصرح وسببه والقول السائد ما اتخذ الله وليا جاهلا ولو اتخذه لعلمه:
«وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً» قصرا عاليا مرتفعا في السماء ظاهرا المرائي على بعد، وقد مرّ بيانه في الآية 38 من سورة القصص في ج 1 فراجعه تعلم ماهيته وما فعل الله به «لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ 36» ثم بين هذه الأسباب العظيمة فأبدل منها «أَسْبابَ السَّماواتِ» يريد أطرافها وأبوابها وكل ما أداك إلى الشيء فهو سبب كالرشاء الحبل الموصل إلى الماء في غور البئر «فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى» نصب الفعل لجواب الترجي وهو جائز عند الكوفيين كالتمني ولم يجزه البصريون، وخرجوا نصب الفعل هنا على أنه جواب للأمر وهو (ابن) وعليه قوله:
يا ناق سيري عنقا فسيحا ... إلى سليمان فتستريحا
أي سيري فتستريح، قال تعالى حاكيا قول هذا الخبيث «وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً» فيما يدعيه من أن له ربا سواي، بل هو الكاذب قبحه الله وأرداه، قالوا إنه أراد بهذا البناء الرفيع رصد أحوال الكواكب التي هي أسباب تدل على الحوادث الأرضية، فيرى هل فيها ما يدل على رسالة موسى، لأنه كان حزاء يعرف في النجوم، وهذا يدل على أنه كان معترفا بوجود الله تعالى، ومما يؤيد اعترافه بالله محاورة المؤمن له ولقومه المارة والآتية وعدم ردّه عليه هو وقومه، وكان اقتصارهم على أمر قتل موسى وعدمه مع الصفح عما يتعلق بالآلهة دليل على اعترافهم بالإله العظيم، إذ ما من أحد إلا ويعترف بوجوده، قال تعالى (وَلَئِنْ(3/583)
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)
الآية 26 من سورة لقمان المارة وهي مكررة كثير في القرآن بألفاظ مختلفة والمعنى واحد، وهو نسبه كل شيء لله «كَذلِكَ» مثل هذا التزيين والصد البذيين «زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ» فانهمك فيه انهماكا لا يرتدع عنه «وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ» السوي الموصل إلى الله وصد قومه عنها فضل وأضلهم ومنعه الله من تنفيذ ما كاده لموسى «وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ 37» دمار وفساد وهلاك، ولما رأى المؤمن وجوم فرعون وقومه تجاه ما أسمعهم من التحذير والتهديد وضرب المثل فيمن قبلهم قويت شكيته فكر عليهم بالنصح والإرشاد والترغيب فيما عند الله تعالى لمن آمن به وصدق رسله، وصرح لهم بإيمانه بالله وحده والدار الآخرة بما ذكر الله عنه وهو «وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ» فيما عرضته عليكم من الهدى ودللتكم عليه من طرق الرشاد المؤدية للخير والسداد «أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ 28» الحقيقي الموصل إلى الله لأن الطريق الذي يريدكم فرعون عليه هو طريق الفساد لا الرشاد وهو من أسماء الأضداد وهو يعلم ذلك إلا أن توغله في حب الرياسة وتمحضه في الأنانية والعناد وانهماكه في الشهوات أدى لتصلبه في الأمر وللتمويه عليكم في القول وليغريكم فيما يسرده عليكم لاستدامة استعبادكم وامارته عليكم فأطيعوني، وأنا الناصح الصادق البار بكم، أن تؤمنوا بموسى الذي جاء بما جاء به يوسف قبل الذي خلص أهالي مصر وغيرها من الهلاك المادي والمعنوي، وإن موسى سيخلصكم أيضا من محن الدنيا وعذاب الآخرة إذا آمنتم به، والرشاد نقيض الغي وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون هو طريق الغي، لأن غايته التنعيم بالدنيا الفانية وأنه يريدهم للآخرة الباقية ونعيمها الدائم، وشرع يذم الدنيا ويصغرها بأعينهم فقال «يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ» يسير يتمتع بها أياما قليلة ثم تنقطع «وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ 39» الأبدي الذي لا يزول فاعملوا لها لتنالوا نعيمها فهو باق لا يزول أبدا واعملوا يا قوم خيرا إن «مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً» في هذه الدنيا «فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها» سوءا في الآخرة غير جزاء الدنيا «وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» في الآخرة جزاء(3/584)
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
عملهم الحسن «يُرْزَقُونَ» من النعم الجسيمة والخيرات العظيمة «فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ 40» رزقا واسعا بلا تبعة ولا تقتير ولا إسراف ولا تقدير بمقابلة العمل بل أضعافا مضاعفة فضلا منه ورحمة، وفيها إشارة إلى عظيم فضل الله وشرف ثوابه ومزيد عطائه
«وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ 41» في هذه الآية طلب منهم أن يوازنوا بين ما يدعونه إليه من اتخاذ الأوثان الموصلة إلى النار أندادا لله- تعالى عن ذلك- وبين دعوته لهم إلى دين الله الموصل إلى الجنة ليتفكروا في هاتين الدعوتين ويميزوا بينهما ويعرفوا ثمرة كل منهما، ولهذا قال لهم «تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ» أنه إله وإني لا أعلم إلها غير الإله الواحد الحق «وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ 42» لمن أناب إليه، ذكر لهم صنفين عظيمين من صفات الله تعالى الذي يدعوهم لعبادته بأنه منيع غالب قوي الجانب لا يقابل ولا يغالب، فمن التجأ إليه أوى إلى ركن شديد لا يقدر أحد أن يتسلط عليه، وأنه كثير المغفرة لمن يرجع إليه فلا يهولن من يأوي إليه كثرة ذنوبه وعظيم خطأه فإنه يسترها له مهما كانت، وهو واسع المغفرة، وهذا مما قذفه الله في قلب هذا المؤمن الكامل من نور الإيمان والمعرفة، فجعله ينطق بالحكمة توا، إذ أبدل جهله علما وكفره إيمانا وجبنه شجاعة، ومن هنا قيل: ما اتخذ الله من ولي جاهلا ولو اتخذه لعلمه «لا جَرَمَ» حقا «أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» من البقاء على دينكم وعبادة الصنم الذي «لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ» مقبولة «فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ» لأنه لا ينطق حتى يدعو الناس لعبادته ومن لا يقدر على النطق لا يجيبه أحد، وإن من حق المعبود أن يدعو العباد لعبادته، فإذا لم تكن له دعوة مجابة في الدنيا فمن باب أولى أن لا تكون له في الآخرة، ولهذا عطفها عليها، لأنها فضلا عن أنها لا تجيب عابديها فيها فإنها تتبرأ منهم وتنكر عبادتهم حينما يؤهلها الله للنطق لهذه الغاية «وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ» جميعا نحن وأنتم «وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ» المتجاوزون حدود الله في استرقاق عباده السفاكين لدماء الأبرياء الغاصبين أموالهم بغير حق، فكأنه رحمه الله أراد أن يختم كلامه بما افتتحه وهو (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) فقال وإن المسرفين في القتل وغيره(3/585)
من سائر المحرمات «هُمْ أَصْحابُ النَّارِ 43» لا غيرهم لأن كل متجاوز حدود الله بالقتل والكفر والشرك والفواحش ومات مصرا عليها فهو من أهل النار، كما جاءت به الآيات والآثار. ولا يقال هنا إن الله لا يحدد عليه، فله أن يعفو عن أمثال هؤلاء ويدخلهم الجنة، وله أن يدخل من أهل الجنة النار لأنه جل ذكره لا يسأل عما يفعل، ثم ضربهم بآخر سهم من كنانته فقال «فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ» الآن يا قوم غدا إذا لم تؤمنوا بربي وتسمعوا رشدي عند معاينتكم العذاب في الآخرة، وتندمون ولات حين مندم ولا ذكرى أقول لكم قولي هذا «وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ» وحده، فإذا أردتم أن توقعوا بي شرا بعد نصحي إليكم فهو لا بد منقذي منكم، ولهذا فلست بسائل عن وعيدكم وتهديدكم، فافعلوا ما شئتم، وذلك لما أطال عليهم وجاهرهم بإيمانه هددوه بالقتل أيضا إن لم يقلع عما يقوله لهم فأجابهم بأنه قد أدى ما هو واجب عليه وأنه لا يبالي بهم لأنه معتمد على الله، ولهذا ختم مجادلته بقوله «إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ 44» يعلم المحق من المبطل وما يؤول إليه أمري وأمركم فهموا به ليأخذوه فهرب من بين أيديهم وأعماهم الله عنه فطلبوه فلم يجدوه وذلك قوله تعالى «فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا» فحال دون وصولهم إليه وحفظه من مكرهم وأذاهم «وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ 45» وذلك بعد أن هرب موسى بني إسرائيل ولحق بهم فرعون وجيشه حتى وصلوا إلى البحر وتراءوا وكان ما كان كما بيناه في الآية 53 من سورة الشعراء في ج 1 فراجعه، فكان عذابهم الدنيوي بالغرق، ولعذاب الآخرة أشد كما سيتلى عليك بعد هذا، ومن قال إن هذا المؤمن هو موسى قول لا قيمة له فهو أوهى من بيت العنكبوت، وكأن هذا القائل استكثر على هذا المؤمن أن يقع منه مثل هذا ولم يدر أن نظرة من بحر جوده تقلب المريض صحيحا، والأبكم فصيحا، والمجرم بريئا، والكافر وليا، والفاجر بارا، والرجس طاهرا، قال تعالى معرضا بعذاب آل فرعون الأخروي بعد أن ذكر عذابهم الدنيوي في الآية 130 من سورة الأعراف المارة في ج 1 بقوله عز قوله «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا»
وهذا العرض يكون لهم في البرزخ بعد الموت، هو غير(3/586)
عذاب الآخرة بدليل قوله تعالى «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ» يقال لخزنة جهنم «أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ 46» أعظمه وأكبر أنواعه وأفظع ألوانه وأقبح أشكاله، ومنه إراءتهم أمكنتهم في الجنة لو كانوا مؤمنين ثم زجهم في النار حتى وصلوا إلى قعرها.
مطلب عذاب القبر ومحاججة أهل النار وبقاء النفس والدجال:
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشية إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال هذا مقعدك حتى يبعثك لله إليه يوم القيامة. وفي هذا دليل ظاهر على بقاء النفس وعذاب القبر في البرزخ لا غبار عليه، لأن المراد من العرض في الآية والمقعد في الحديث هو برزخ القبر لا غير، ولأن البعث يكون منه، ولا يراد منه وجوده في الدنيا، لأنه لم يكن حاصلا فيها، ولا يقال إنه خاص بآل فرعون لأنه إذا ثبت في حقهم ثبت في غيرهم، إذ لا قائل في الغرق، تدبر. وقد أخرج ابن أبي شيبة وهناد وعبيد بن حميد عن هذيل بن شرحبيل أن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو وتروح على النار، فذلك عرضها. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن مسعود نحو ذلك، وهذه الطير صور يخلقها الله تعالى من صور أعمالهم كما يخلق لتمثيل أرواح الشهداء طيرا خضرا ترتع في الجنة لتنعم في البرزخ قبل نعمة الآخرة.
ويؤيد هذا، الحديث الوارد، القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار. وأحاديث أخرى في هذا المعنى، وهذا البحث صلة في الآية 24 من سورة نوح الآتية إن شاء الله، والله على كل شيء قدير. ومما يشهد لهذا ما أخرجه ابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن أبي هريرة أنه كان له صرختان في كل يوم غدوة وعشية كان يقول أول النهار ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار، ويقول أول الليل ذهب النهار وجاء الليل وعرض آل فرعون على النار، فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله تعالى القائل عز قوله «وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً» في(3/587)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
الدنيا «فَهَلْ أَنْتُمْ» الآن «مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً» حصة وجزءا «مِنَ النَّارِ 47» بأن تدفعوا عنا ألمها ولو ساعة لقاء ما كنا نخدمكم في الدنيا وننقاد لأمركم بمخالفة الرسل «قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا» لأتباعهم المستضعفين «إِنَّا كُلٌّ فِيها» فلا نستطيع أن ندفع عن أنفسنا فكيف يمكننا أن نتحمل عنكم قسما من عذابها فاسكتوا «إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ 48» ولا راد لحكمه ولا دافع لقضاءه «وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ» لما اشتد عليهم البلاء فيها هلم «ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ 49» لنستريح فيها من ألمها المبرح «قالُوا» لهم «أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ» وينذرونكم أيها الكفرة لقاء يومكم هذا ويحذرونكم وباله؟ «قالُوا بَلى» جاءونا ونصحونا وخوفوها هول هذا اليوم وعذابه ولكنا كذبناهم «قالُوا» لهم «فَادْعُوا» أنتم لأنفسكم لا ندعو لكم نحن لأنكم لا عذر لكم بعد أن بلغكم الرسل ذلك، ولم تصغوا لإرشادهم. قال تعالى قاطعا لأطماعهم «وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ 50» لا يسمع ولا يجاب لأنه عبث باطل دعوا أو لم يدعوا،
ثم ذكر ما يغيظهم ليزدادوا غما فقال «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» بإعلاء كلمتهم على مجادليهم وتوفيقهم إلى الحجج الظاهرة والبراهين القاهرة والدلائل الباهرة مع النصر الفعلي على أعدائهم في الدين كما نوهنا به في الآية 103 من سورة يونس والآيتين 172/ 173 من سورة الصافات المارات وله صلة في الآية 47 من سورة الروم الآتية «وَ» إنا نحن الإله القادر كما ننصرهم في الدنيا سننصرهم «يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ 51» من الحفظة والأصفياء والكتب وغيرها فيشهدون على الأمم بما فعلوا في الدنيا وتكذيبهم للرسل وفيه تشهد الأمم الصالحة للرسل على أنهم بلغوا أممهم فكذبوهم ويكون لهم هذا النصر أيضا «يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ» لأنهم اعذروا في الدنيا بالإنذار من قبل الرسل والدنيا هي محل قبول العذر، أما الآخرة فلا اعتذار فيها ولا إنذار بل يكون لهم فيها التوبيخ والتقريع واللوم «وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ» أيضا وهي الطرد من رحمة الله والبعد عنه «وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ 52» جهنم وبئست الدار هي. ولفظة يوم الأخيرة بدل من(3/588)
الأولى لأنه حال قيام الأشهاد لا تنفع المعاذير، قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى» بجميع وسائله «وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ 53» ليهتدوا به ويعملوا بمقتضاه بحياته وبعد وفاته لأنا جعلناه «هُدىً» للناس، لأن التوراة المعبر عنها بالكتاب هنا أجمع كتاب أنزل من بدء الخليقة حتى نزول القرآن العظيم، لأنه الجامع لكل ما في الكتب المتقدمة عليه «وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ 54» يتذكرون بها، لأن ذوي القلوب الواعية هم أهل التذكر والتفكر فيها، وعلى هذا فإن قومه لم يعملوا بها ومن عمل منهم بها كان مرغما، وقد هجروها من بعده ولم يتقيدوا بوصاياها وأهملوا أحكامها وغيروا وبدلوا قسما منها. ثم التفت إلى حبيبه محمد وخاطبه عزّ خطابه بقوله «فَاصْبِرْ» يا سيد الرسل على أذى قومك وتحمل جفاهم ولا يهمنك عدم سماعهم لقولك وما تتلوه عليهم من كتابك، فقد صبر قبلك الرسل إخوانك على أقوامهم حتى أتاهم الوقت المقدر لعذابهم، وأنت اصبر إلى أن يحين عذابهم الذي وعدناك به «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ» بإظهار دينك وإعلاء كلمتك ونصرتك عليهم وإهلاكهم «حَقٌّ» منجز لا يخلف عن موعده المقدر له «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» الذي تراه ذنبا بالنسبة لمقامك، وإن لم يكن ذنبا بالنسبة لأمتك كترك ما عمله أولى وأفضل، وهذا من قبيل التعبد لزيادة الدرجات له صلّى الله عليه وسلم ولتستنّ أمته بذلك، وقدمنا بأن الذي يعد ذنبا على الأنبياء هو من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين، وأوضحنا ذلك في الآية 65 من سورة الزمر المارة وغيرها، وهذا الاستغفار أحد قسمي الطاعة وهي التوبة عما لا ينبغي فعله، والقسم الثاني الاشتغال بما ينبغي فعله، وهو قوله تعالى قوله «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ 55» بعد التوبة لأن التوبة من قبيل التخلية، والتسبيح بعدها من قبيل التحلية، والتحلية تكون عادة بعد التخلية.
مطلب الآيتان المدنيتان وعصمة الأنبياء وكلمات لغوية والدجال ومن على شاكلته:
وهاتان الآيتان المدنيتان من هذه السورة، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ» وهم كفار اليهود الجهلة فهم «إِنْ فِي صُدُورِهِمْ» مما يجادلون به ما هو «إِلَّا كِبْرٌ» في نفوسهم حملهم عليها وانهم مهما تعاظموا(3/589)
«ما هُمْ بِبالِغِيهِ» أي ذلك الكبر الذي يتوخونه بقصد الترؤس على غيرهم والتعالي عليك يا أكرم الرسل، فأنت أكبر مما يراد بك من كبر وتعاظم «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ» من كيدهم ومجادلتهم الباطلة والتجئ إلى ربك من مكر من يريد بك المكر وما جدالهم إلا حسدا على ما أولاك الله من النعم الكثيرة الدائمة في الآخرة «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ» لما يقولون فيك «الْبَصِيرُ 56» لما يريدونه من البغي عليك وهو حافظك من كل ما يتوقعونه به. وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا لحضرة الرسول إن صاحبنا المسيح بن داود يأتي آخر الزمان فيبلغ سلطانه البر والبحر ويرد الملك إلينا وأنه يكون منهم ويفعل ما يفعل وهو آية من آيات الله، وجادلوه مجادلة بغير حق، لأن المسيح هو عيسى عليه السلام بن مريم الذي كذبوه وأهلوه وأرادوا قتله، ففداه الله بالمنافق يهوذا كما سيأتي في الآية 157 من سورة النساء في ج 3، ولكنهم يريدون الدجال ممسوح العين اليمنى لأنهم من أتباعه وسيخرج آخر الزمان لإغراء الناس فيقتله السيد عيسى بن مريم، إذ يكون نزوله إلى الأرض زمن خروج الدجال كما يأتي تفصيل هذا في الآية 61 من سورة الزخرف الآتية، قال أبو العالية هذا الأمر من الله لرسوله بالاستعاذة من الدجال. واعلم أن الكبير بالكسر معظم الشيء وبالضم أكبر ولد الرجل، ومثله العظم بالضم أكثر الشيء ومعظمه وبالسكون نفس الشيء، والجهد بالفتح الطاقة وبالضم المشقة، ومثله الكره بالضم إذا أكرهت غيرك، وبالفتح إذا أكرهك غيرك، والعرض بالضم الناحية وبالفتح ضد الطول، وربض الشيء بالسكون وسطه، وبالفتح نواحيه، والميل بالسكون ما كان فعلا كقولك مال عن الحق وبالفتح ما كان خلقة تقول في عنقه ميل، والحمل بالفتح والسكون حمل كل أنثى وكل شجرة، وبكسر الحاء ما كان على الظهر، والقرن بالسكون المثل من جهة السن، وبالكسر مثله في الشدة، والعدل بالسكون مثل الشيء وبالكسر زنته، والحرق بالسكون من النار في الثوب والبدن، وبالفتح نفس النار، ولهذا البحث صلة أول سورة الكهف الآتية.
قال تعالى «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ» قال أبو العالية المراد بالناس هنا الدجال، وليس بشيء، لأنه بنى قوله هذا على أن(3/590)
المجادلين اليهود جادلوا حضرة الرسول في أمره فنزلت الآية الأولى فيهم، وهذه نزلت بعدها معها، وهذا فيه بعد إذ لا يلزم من كون الآية الأولى فيهم لزوم كون الثانية فيهم أيضا إذ ليس كل آية مدنية في حق اليهود، إذ لا مانع أن تكون في مشركي العرب وغيرهم المجادلين في البعث واستعظام إعادة الأجسام بعد فتاتها على حد قوله تعالى (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) الآية 86 من سورة يس في ج 1 أي أن خلق هذين الهيكلين العظيمين أعظم من خلق الناس وإعادتهم بعد إماتتهم فتكون مسوقة لمنكري البعث، لأنهم لا يستدلون بالأكبر على الأدنى، ولأن إعادة البشر بالنسبة إلى بداية خلقه كلا شيء، كما أن إعادتهم بالنسبة لخلق السموات والأرض كلا شيء «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 57» لكونهم في غاية الجهل ونهاية من البلادة فيما يتعلق بأمور الدين ومكونات الكون ومبتدعاته، أما الأقل منهم أولو الألباب الذين يستدلون بالأدنى على الأكبر ويعتقدون قدرة الله فوق كل قدرة وقادرة على كل شيء لأنهم ينتفعون بجوارحهم فيتفكرون ويتدبرون، ولو أن الأكثر استعملوا عقولهم لما أنكروا على الله قدرته، ولكن قد استولت الغفلة عليهم فحالت دون تأملهم بذلك. روى مسلم عن هشام بن عروة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال، أي أكبر فتنة منه وأعظم شوكة في انقياد الناس إليه. وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم ذكر الدجال فقال إنه أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية. ولأبي داود والترمذي عنه رضي الله عنه قال: قام النبي صلّى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال إني أنذركموه وما من نبي إلا أنذره قومه لقد أنذره نوح قومه، ولكن سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه تعلمون أنه أعور، وإن الله تعالى ليس بأعور، وذلك أن الخبيث يدعي الإلهية مع نقصه والله تعالى منزه عن النقص ومبرأ منه، والعور عيب والأنبياء معصومون منه أيضا، لأنهم كاملو الخلقة. راجع الآية 84 من سورة يوسف المارة وما ترشدك إليه من السور الأخرى. وروى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما من نبيّ(3/591)
إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب، الا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر. وفي رواية لمسلم: بين عينيه كافر ثم تهجى ك ف ر يقرأه كل مسلم. وروى البخاري ومسلم عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن مع الدجال إذا خرج ماء ونارا، فأما الذي يرى الناس أنه نار فماء، والذي يراه الناس أنه ماء فنار محرقة، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يرى أنه نار، فإنه ماء عذب بارد. ورويا عن المغيرة بن شعبة قال: ما سأل أحد رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الدجال ما سألته، وأنه قال لي ما يضرك؟ قلت إنهم يقولون إن معه جبلا من خبز ونهر ماء، قال هو أهون على الله من ذلك. أي هذا أهون على الله من أن يجعل ما خلقه الله على يده مضلّا للمؤمنين ومشككا لقلوبهم، وإنما جعله الله له ليزداد الذين آمنوا إيمانا ويثبت الحجة على الكافرين، وليس معناه أن ليس معه شيء من ذلك، لما ثبت في الحديث المتقدم أن معه ماء ونارا، وإذا كان معه ماء ونار فلم لا يجوز أن يكون معه جبل خبز ونهر ماء، وإنما أعطي هذا لأنه يظهر والناس في زمن قحط وجدب كما سيأتي بعد. وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يأتي المسيح من قبل المشرق وهمته المدينة حتى ينزل دبر أحد، ثم تصرف الملائكة وجهه إلى الشام، وهناك يهلك. وروى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة. وأخرج الترمذي وقال حديث حسن صحيح
عن مجمع ابن حارثة الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول يقتل ابن مريم الدجال في باب لد. وأخرج البغوي بسنده عن أسماء بنت زيد الأنصارية قالت:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيتي فذكر الدجال، فقال إن بين يديه ثلاث سنين، سنة تمسك السماء ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها، والثانية تمسك ثلثي قطرها والأرض ثلثي نباتها، والثالثة تمسك السماء قطرها والأرض نباتها كله، فلا تبقى ذات ظلف ولا ضرس من البهائم إلا هلكت. ومن أشد فتنته أنه يأتي الأعرابي فيقول أرأيت إن أحييت لك ابنك ألست تعلم أني ربك؟ فيقول بلى، فيتمثل له الشيطان نحو إبله كأحسن ما تكون ضرعا وأعظمه أسنمة، ويأتي الرجل قد مات أخوه(3/592)
ومات أبوه فيقول أرأيت إن أحييت لك أخاك وأباك ألست تعلم أني ربك؟
فيقول بلى فيتمثل له الشيطان نحو أخيه ونحو أبيه (يستفاد من هذا أن ما يظهره الله على هذا الخبيث هو من نوع السحر، وهو كذلك والله أعلم، لأنه ينص على أن الشيطان يتمثل بذلك) قالت ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم لحاجته ثم رجع والقوم في اهتمام وغمّ مما حدثهم، قال وأخذ بلحمتي الباب، فقال فيهم أسماء، فقالت يا رسول الله لقد خلعت أفئدتنا بذكر الدجال، قال إن يخرج وأنا حي فأنا حجيجه، وإلا فإن ربي خليفتي على كل مؤمن، قالت أسماء فقلت يا رسول الله إنا لنعجن عجيننا فما نخبزه حتى نجوع فكيف بالمؤمن يومئذ؟ قال يجزيهم ما يجزي أهل السماء من التسبيح والتقديس. وهذا من شدة شفقتها على المؤمنين، وإلا فهي رضي الله عنها آمنة من ذلك. وفي رواية عنها قالت: قال النبي صلّى الله عليه وسلم يمكث الدجال في الأرض أربعين سنة، السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كاضطرام السعفة في النار. وجاء في صحيح مسلم: قلنا يا رسول الله ما لبثه في الأرض؟
قال أربعون يوما يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر الأيام كأيامكم هذه، قلنا يا رسول الله فذاك الذي كسنة أتكفينا له صلاة يوم؟ قال لا، أقدروا له قدره، قلنا يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال كالغيث استبدرته الريح.
وفي رواية أبي داود عنه: فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، فإنها جوازكم من فتنته، وفيه ثم ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيدركه عند باب لد فيقتله. وفي هذا الحديث إشارة إلى بركة آيات الله ونفعها لكل شيء حتى للأمن من فتنة الدجال وهو كذلك، راجع الآية 82 من سورة الإسراء في ج 1. هذا وإن اليهود لم يريدوا من تعظيم الدجال ومن نسبته إليهم حين أن جادلوا حضرة الرسول إلا نفي رسالة عيسى بن مريم عليه السلام وجحود كونه المسيح المبشر به في التوراة والذي أخبر عنه الأنبياء قبل، الذي رفعه الله تعالى إلى سمائه، وسينزله آخر الزمان، لأنهم يقولون الذي سيخرج آخر الزمان هو الدجال لعنه الله وأخزاهم وأذلهم، فقد كذبوا أولا بأن المسيح بن مريم ليس هو من نسل داود المبشر به مع أنه هو، لأن أمه من نسل داود، وقد(3/593)
نسبه الله تعالى إلى إبراهيم جد داود في القرآن العظيم، راجع الآية 85 من سورة الأنعام والله أصدق القائلين، وكذبوا ثانيا بقولهم لحضرة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم لست بصاحبنا، يعنون لست نبي آخر الزمان، والله تعالى يقول خاتم النبيين، راجع الآية 96 من سورة الأحزاب في ج 3، وكذبوا ثالثا بأن الدجال هو المسيح وهو نبي آخر الزمان، ولم يبعث الله نبيا من لدن آدم إلى محمد صلوات الله عليهم، إلا وقد حذّر أمته من الدجال وأنذرهم إياه كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة والأخبار الصريحة، وكل ذلك من الجدال بالباطل مكابرة وعنادا ليس إلا. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ألا أحدثكم حديثا عن الدجال ما حدث به نبي قومه؟ إنه أعور وإنه يجيء بتمثال الجنة والنار فالتي يقول إنها الجنة هي النار، والتي يقول إنها النار هي الجنة، وإني أنذركم كما أنذر نوح قومه. فأولى لهؤلاء اليهود أن يكون النبي المسيح الذي ينتظرونه أعور كذاب وأنه يدعي الإلهية وأولى. أما كونه آية من آيات الله فلا ينكر، لأنه من أمارات الساعة، وأماراتها آيات وعبر للناس وإن منها ما يزيد المؤمن إيمانا، وما يزيد الكافر كفرا، قال تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً ... وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) الآيتين 134/ 135 من سورة التوبة في ج 3، فهذه الآيات والأحاديث والأخبار الثابتة المتواترة الصحيحة حجة قاطعة وبرهان قوي ساطع على أن الدجال الملعون ليس بالمسيح المأمون ولا بالنبي الذي هو خاتم الرسل الذي لا نبي بعده، وإنما هو كذاب خداع مموّه أعور أشقر يظهر لأتباعه الذين أكثرهم من اليهود الحق باطلا والباطل حقا والصدق كذبا والكذب صدقا، ومثبتة وجوده ومجيئه وكونه آية من آيات الله، وإن ما يقدره الله على يده من إراءة الماء والنار والخبز وإحياء الموتى صورة والخصب وتمثال الجنة والنار وانباع كنوز الأرض وإنزال المطر بإشارته إلى السماء وإنبات الأرض الكلا وغيرها مما تشبه الكرامات والمعجزات ابتلاء لخلقه واختبارا لتمييز الخبيث من الطيب، وإن اليهود ينتظرونه يوما فيوما، لأنهم يزعمون أن خروجه عز لهم وسلطان وإعادة لملك إسرائيل المبرأ منهم ومن أعمالهم وأقوالهم. هذا، ثم إن الله تعالى بعد ذلك(3/594)
يعجزه عن كل شيء حتى عن حفظ نفسه ثم يتفرق أتباعه عنه ويقتله عيسى بن مريم عليه السلام. قال الجبائي المعتزلي ومن وافقه من الجهمية وغيرهم بصحة وجوده، ولكن ما يأتي به من الأشياء الخارقة عبارة عن خيالات لا حقائق لها، وقالوا لو كانت حقا لضاهت معجزات الأنبياء. أي أنها من قبيل السحر كما ذكرنا آنفا استنباطا من معنى الحديث، إلا أن التمسك بهذا الاستنباط وحصره فيه قد يكون خطأ منهم، لأن الدجال الخبيث لم يدع النبوة ليكون ما يأتي به تصديقا لها، وإنما هو قاتله الله يدعي الإلهية وهو مكذب لها في نفس دعواه بصورة حاله ووجود دلائل الحدوث فيه ونقص صورته وعجزه عن إزالة عور عينه وإزالة الشاهد الذي بين عينيه وعجزه عن دفع القتل عن نفسه، فلا يغتر به إلا العوام من الناس لشدة الفاقة التي تحصل بسبب القحط وبذلك يستصحب معه الخبز الكثير، أما المؤمنون فلا يحول صحاهم خداعه ولا تصل إلى قلوبهم
خزعبلاته لعلمهم بحاله، والله أعلم.
قال تعالى «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ» كناية عن الجاهل والعالم ولذلك حث الأنبياء على تعليمهم العلم لأممهم ليكونوا على بصيرة من هذه الفتن وأشباهها «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ» أي لا يستوون أيضا، فتذكروا أيها الناس وتفكروا وكونوا على بصيرة من أمركم فإنكم «قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ 58» في الأمثال التي يضربها الله لكم لأن تذكركم في مكوناته قليل جدا وإنكم في غفلة عنها لأنكم لو توغلتم في الفكر في معاني أمثال الله ومغازيهه لو قفتم على علوم كثيرة وفوائد وفيرة ولعرفتم الفرق بين الأعمى والبصير والمحسن والمسيء ولتيقنتم «إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها» ولا شك ولا مرية في مجيئها عند كل مؤمن عارف «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ 59» بها، لأن الكفرة والجهلة دائما أكثر من المؤمنين والعالمين في كل زمان وأوان لا في كل مكان، إذ قد يوجد مكان على العكس وهو نادر، وهذا العموم يخص منه بداية ذرية آدم إلى زمن قتل قابيل هابيل وبداية الزمن الذي رسى فيه نوح عليه السلام ومن معه بالسفينة على الجودي لأن الأكثر بل الكل مؤمنين على القول بأن الطوفان عم وجه الأرض كلها وإنه لم يبق إلا نوح ومن معه ولهذا سمي بأبي البشر الثاني.(3/595)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70)
مطلب في الدعاء والعبادة وإنعام الله على عباده ومراتب الإنسان في الخلق وذم الجدال:
قال تعالى «وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» دعاءكم قال بعض المفسرين ادعوني هنا بمعنى اعبدوني بدليل قوله «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي» ولا يدعوني «سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ 60» صاغرين أذلاء مهانين لأنهم لم يدعوه ولم يعبدوه ولم يعترفوا بربوبيته، ولا يخفى أن الدعاء مخ العبادة بل هو العبادة نفسها وزبدتها كقولك الحج عرفة والدين النصيحة أي معظمه فإبقاء اللفظ على ضاهره أولى. ومما يدل على هذا ما رواه النعمان بن بشير صاحب معرة حلب قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول على المنبر الدعاء هو العبادة، ثم قرأ هذه الآية، أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. وأخرج الترمذي عن أنس بن مالك: الدعاء مخ العبادة. هذا، ولا يقال إن الإنسان يدعو فلا يستجاب له، لأن للدعاء شروطا وآدابا أمها الإخلاص، وأبرها اليقين، وملاكها أكل الحلال، وقوامها رد المظالم، فالتخلف يكون من جهة الداعي لا من جهة الإله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء القائل (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، وقد يكون الداعي يدعو وقلبه مشغول بغير الدعاء وقد يدعو بما لا مصلحة له به ولا فائدة لغيره أو بما فيه قطيعة رحم أو تعد على الغير، وقد يدعو فيما فيه المصلحة والصلة، ولكنه غير متيقن بالدعاء ولا موقن بالإجابة، أما إذا اتصف بالشروط المطلوبة فيكون جديرا بالإجابة حالا أو مآلا بحسب المصلحة المقدرة، والله أكرم من أن يرد سائله من بحر جوده الذي لا ينضب وواسع عطائه الذي لا ينفد، وقدمنا في الآية 111 من سورة الإسراء ما يتعلق في هذا البحث بصورة واسعة، فراجعها وما ترشدك إليه، وله صلة في الآية 185 من سورة البقرة في ج 3 فراجعها أيضا.
قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ» تأخذوا راحتكم من التعب بالنوم والاضطجاع وأنكم من الوحشة باجتماعكم بنسائكم وأولادكم «وَالنَّهارَ مُبْصِراً» لتتمكنوا فيه من قضاء حوائجكم وأشغالكم من من غير حاجة إلى ضياء آخر ولتقوموا فيه بوسائل معاشكم وتتعرفوا فيه لفضل ربكم فتصيبوا منه حظكم «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ» عظيم لا يوازيه(3/596)
فضل في هذا وفي غيره «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» 61 فضله ولا يراعون حقه فيمنع استمرار نعمه عليهم لعدم شكرهم إياها، وإذا لم يسلبها منهم يسلبها من أولادهم، وهذا مما لا يمتري فيه أحد، لأنه واقع مشاهد «ذلِكُمُ» الإله العظيم كاشف الكربات ومجيب الدعوات الفعال لما ذكر هو «اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ 62» بنسبة هذا لغيره وتنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره وتختلقون له أندادا وهو لا مثل له وتفترون له شركاء وهو المنفرد في السموات والأرض وتكذبون بقولكم إن الله أمرنا بهذا وهو لم يأمركم به «كَذلِكَ» مثل هذا الإفك الواقع من قومك يا محمد «يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا» من قبلهم «بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ 63» ويكذبون الرسل الذين جاءوهم بها أيضا، قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً» تستقرون عليها في حلّكم وترحالكم «وَالسَّماءَ بِناءً» كالسقف المرفوع الذي تستظلون به من الشمس والمطر والرياح وغيرها ولكن شتان بين بنائكم وبنائه وظلالكم وظلاله.
وفي هذه الآية إشارة إلى كروبة الأرض، راجع الآية 9 من سورة لقمان المارة وما تدلك عليه من المواقع «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» بأن ميزكم عن الحيوانات باعتدال القامة والأكل باليد والنطق واللباس والحسن والعلم «وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» غير رزق الحيوانات مما لذّ وطاب «ذلِكُمُ» الرب الجليل المدبر لذلك كله والمنعم بما هنالك هو «اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ 64» مؤمنهم وكافرهم إنسهم وجنهم وملكهم وحيواناتهم وطيورهم ووحوشهم وحيتانهم وحشراتهم وديدانهم وعوالم الله لا تحصى، وقد رتب الخلق جل جلاله على ثلاث مراتب: الطفولة وهي مرتبة النشوء والنماء، وبلوغ الأشد وهي مرتبة كمال التزايد إلى قبيل تطرق الضعف، والشيخوخة وهي مرتبة التراجع حتى بلوغ أرذل العمر، فالذي قسم هذا التقسيم «هُوَ الْحَيُّ» الباقي وما سواه هالك، وفيما تقدم أشار أولا لفضله المتعلق بالمكان بعد أن أشار فيما قبل إلى فضله المتعلق بالزمان، وهنا أشار إلى العلم التام والقدرة الكاملة والحياة الدائمة، ثم ختم بالدلالة على محض وحدانيته بقوله «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ» أيها الناس كلكم برّكم وفاجركم لا تشركوا(3/597)
معه غيره حالة كونكم «مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» وقولوا بنهاية دعاءكم «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 65» والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، ولما كلف بعض كفرة قريش مكة حضرة الرسول لعبادة أوثانهم، وكان هذا التكليف قد تكرر منهم عند كل مباحثة في أمر الدين أنزل الله تعالى قطعا لأطماعهم عن ذلك «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الملحين عليك بما لا يكون منك «إِنِّي نُهِيتُ» نهيا باتا ومنعت منعا جازما من قبل ربي الحق الواحد «أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من جميع الأوثان «لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي» ببطلانها وعدم نفعها «وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ» إسلاما محضا حقيقيا «لِرَبِّ الْعالَمِينَ 66» وحده لا شريك له وأن أدعوكم لعبادته من حين تشريفي بالنبوة إلى وقت انقضاء أجلي لا أفتر ولا أحول عن هذا أبدا، وقد جاءت هذه الآيات الثلاث مختومة بلفظ رب العالمين جل جلاله، ولم يسبق مجيئها على هذا النمط ولا تعد مكررة، لأن مبدأ كل آية منها ومغزاه يغاير الأخرى، فالأولى للشكر على أفضاله، والثانية على توحيده، والثالثة على الاستسلام إليه، فتدبر أيها القارئ إذا أردت أن تظفر وتفوز بمعرفة كلام الله. واعلم أن المستحق للعبادة «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ» أي خلق أباكم آدم عليه السلام الذي هو أصلكم «مِنْ تُرابٍ» وخلق زوجته حواء منه من لحم وعظم ودم «ثُمَّ» خلقكم أنتم ذريته كلكم «مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً» جعل جل شأنه مراتب الإنسان بعد خروجه من رحم أمه ثلاثة.
مطلب في مراتب الخلق على ثلاث وحالة المجادلين وأمر النبي بالصبر وشيئا من أفضاله على خلقه:
وكذلك جعل المراتب في الرحم ثلاثة بعد تكوينه: الأولى علقة مكونة من النطفة المخلوقة من الماءين، والثانية مضغة مكونة من لحم ودم، والثالثة جنين مكون من لحم وعظام وأمعاء، فهو ما دام في بطن أمه يسمى جنينا وعند الولادة وليدا وما بعدها طفلا، وما دام في الرضاع صبيا ومن الفطام إلى تسع سنين غلاما ومن سبع إلى اثنتي عشرة سنة مميزا ومن اثنتي عشرة إلى خمس عشرة مراهقا، ومنها إلى(3/598)
ثماني عشرة بالغا، ومنها إلى إحدى وعشرين رشيدا، ومنها إلى ثلاث وثلاثين كهلا وحتى الأربعين، ومنها إلى الستين شيخا، وإلى الثمانين أيضا، إلا أن الستين هي سن الكمال أي منتهاه، إذ يبدأ من الأربعين وما دون الأربعين يسمى شابا وفتى وبعد الثمانين هرما، ويطلق لفظ الرجل على الكامل في الرجولية والفتى على الكريم اللطيف الشجاع، ويطلق لفظ الولد والذرية على من لم يبلغ الحلم. وبعد كمال أربعة أشهر في رحم أمه تنفخ فيه الروح فتنتقل بعد كمال مدته من برزخ المشيمة إلى برزخ الحضانة إلى برزخ الاستغناء كما تنتقل بعد استيفاء الأجل في الدنيا من برزخ الدنيا إلى برزخ القبر ومنه إلى برزخ الآخرة، فالانتقالات أيضا ثلاث ثم في الآخرة من برزخ القبر إلى برزخ الموقف فإلى برزخ الحساب فإلى الجنة أو النار، فسبحانه من إله عظيم قدر ما أراد وأراد ما قدر وهو القائل «وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ» ذلك التنقل فيسقط قبل تمام خلقه أو بعده أو يموت في الرحم أو عند الولادة أو قبل الشبوبية أو قبل الكهولة أو قبل الشيخوخة كما هو مقدر عنده تعالى المشار إليه بقوله «وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى» لبقائكم في الرحم من لحظات وأيام وشهور فلا تخرجون منه قبل استيفائها، وكذلك بقاؤكم في الدنيا محدود لا يتقدم ولا يتأخر «وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 67» هذه الأحوال العجيبة التي تعتوركم منذ نشأتكم إلى دخولكم الجنة أو النار، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 5 من سورة الحج ج 3، فتتفكروا في قدرته البالغة وإبداعه الباهر، واعلموا أنه «هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» من أحياه من نطفة وسواه بشرا سويا عند انقضاء أجله «فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 68» بلا كلفة ولا عناء، راجع الآية 95 من سورة الأنعام المارة «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ» من كفرة قومك وينكرون البعث وغيره مما تخبرهم عن ربك «أَنَّى يُصْرَفُونَ 69» الصدق إلى الكذب ويعدلون الحق إلى الباطل في هذه الآية تعجيب لحضرة الرسول من أحوال قومه المختلفة وآرائهم المضطربة الموصوفين بقوله عزّ قوله «الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ» كله أو بعضه لأن فيه ال للجنس فيشمل الكتب السماوية كلها، وكذلك إذا اعتبرت للاستغراق «وَ»(3/599)
إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)
كذبوا «بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا» من التعاليم الدينية المقتبسة من الشرائع الإلهية والوحي المقدس والصحف المنزلة عليهم «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ 70» سوء عاقبتهم، وفي هذه الجملة تهديد شديد ووعيد كبير وصفه بقوله
«إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ» في أيديهم وأرجلهم بها «يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ 71» الماء الشديد الغليان «ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ 72» يوقدون فيها، والسجور لإيقاد النار في التنور لغة أهالي دير الزور ولم يكرر هذا الفعل في القرآن، وجاء بلفظ الماضي في الآية 6 من سورة الإنفطار، وبلفظ المفعول في الآية 6 من سورة الطور الآتيتين، وجاء لفظ إذ، بصدر هذه الآية مع أنها للماضي موضع، إذا للمستقبل لكونها واقعة في إخبار الله المتيقنة الوقوع المقطوع بها، وإلا فلا يجوز إيقاع مثلها في غير كلام الله لكونه غير محقق، تأمل. وقد تكرر في هذه السورة ذكر الجدال في آيات الله في ثلاث مواضع، ولكن كلا منها لأناس مخصوصين وأصناف مختلفين. ولذلك فلا يعد تكرارا، ومن قال باتحاد الأقوام المجادلين قال بالتكرار وهو غير وجيه، لأن التكرار قد يكون للتأكيد لما في الجدال في آيات الله ما يوجب غضبه جل جلاله، لذلك شدد فيه ليتباعد الناس عنه ويوقنوا بما أنزله إليهم إيقانا جازما دون تردد، ويسلموا لأوامر رسلهم، فيكون التكرار لحاجة في الأمر وهو مطلوب، قال تعالى «ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ» وهم في النار «أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ 73» أروني إياهم هاتوهم ليشفعوا لكم كما كنتم تزعمون في الدنيا «قالُوا ضَلُّوا عَنَّا» عابوا في وقت نحن أحوج ما يكون إليهم من غيره في زعمنا وفقدناهم في حالة كنا نظن وجودهم فيها، لأنا لأجلها عبدناهم ثم قالوا بعد أن لم يجدوهم «بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ» في الدنيا «شَيْئاً» أبدا «كَذلِكَ» مثل هذا الإضلال «يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ 74» ويحيرهم في أمرهم حتى يفزعوا إلى الكذب والإنكار «ذلِكُمْ» العذاب الذي حل بكم «بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ» بالدنيا «بِغَيْرِ الْحَقِّ» بطرا وأشرا وظلما لأنفسكم «وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ 75» تحتالون وتتكبرون على الناس وتتوسعون في الأرض بغير الحق أيضا وقد حذف من الثاني بدلالة الأول كما مر(3/600)
آنفا، وهذا الفعل لم يكرر في القرآن وجاء منه (مَرَحاً) في الآية 17 من سورة الإسراء في ج 1، ثم يقال لهم «ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ 76» عن توحيد الله وطاعة رسله وتعس مقرهم ومنزلهم، قال تعالى مخاطبا حبيبه بقوله عزّ قوله «فَاصْبِرْ» على أذى قومك يا أكرم الرسل وتحمل أذاهم وجفاهم حتى يأتي الوقت المقدر لنصرتك عليهم «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» منجز لا محالة إلا أنه لا يؤخر ولا يقدم عن أجله المقدر في علمه «فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ» بحياتك من القتل والأسر والجلاء «أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ» قبله فنريكه في الآخرة لأنهم لا يفلتون منا «فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ 77» وننتصف لك منهم وقد أراه الله عذابهم الدنيوي في بدر وما بعدها وسيريه عذابهم الأخروي أيضا البتة «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ» خبره وقومه في هذا القرآن «وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ» ولقد آتيناهم آيات معجزات وكذبهم أقوامهم أيضا، فلا توجد في نفسك غضاضة فلك أسوة بهم وفي هذه الآية تسلية له صلّى الله عليه وسلم من ربه جلّ وعلا كي لا يضيق صدره مما يرى من قومه، ونظير هذه الآية الآية 38 من سورة الفرقان في ج 1 والآية 167 من سورة النساء في ج 3 فراجعهما. قال تعالى «وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ» من تلقاء نفسه أو بحسب اقتراح قومه عليه إذ لا يتمكن من الإتيان بها «إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» فإذا أذن له أظهرها على يده وإلا لا «فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ» بعذاب قوم «قُضِيَ بِالْحَقِّ» بين الرسل وأممهم «وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ 78» الذين يكلفون أنبياءهم بالمعجزات ويجادلونهم بالباطل عنادا ومكابرة، ثم بين نبذة من أفضاله على خلقه فقال تعالى «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها»
أي اللاتي للركوب كالإبل والخيل والبراذين وشبهها «تَأْكُلُونَ 79» ففيها نعمتان نعمة الركوب ونعمة الأكل، ومنها للأكل فقط كالغنم والمعزى وغيرهما، ومنها للأكل والعمل كالبقر والجاموس وغيرهما، إذ تستعمل للحراثة وقد تستعمل الإبل لها وللسقي «وَلَكُمْ فِيها» كلها «مَنافِعُ» أخرى غير الأكل والركوب والعمل من حليب ولبن وزبدة وسمن وجبن واقط وصوف ووبر وشعر للباس(3/601)
وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
والبيوت وغيرها «وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ» من زيارة البلاد والآثار الموجبة للعبر وللنزه وحمل الأثقال والاتجار لكسب الأموال
بأثمانها أو بالمقايضة وتنميتها والكرم بها وغير ذلك كثير «وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ 80» برا وبحرا
َ يُرِيكُمْ»
الله تعالى ياتِهِ»
في تنقلاتكم عليها من البلاد البعيدة القائمة والمدمرة لتعتبروا بها وتشكروا الذي عافاكم مما ابتلى أهلها من العذاب الباقي أثره في ديارهم لتتذكروا فترجعوا إلى ربكم خشية أن يصيبكم ما أصابهم ولنعتبروا بهاَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
81» أيها الناس وهي ظاهرة لا يمتري فيها أحد، إلا من لم يكن عنده لمعة من فكر أو ذرة من عقل، وجاءت كلمة أي هنا مذكرة في محل التأنيث لأن الشائع المستفيض هو تذكير أي في المذكر والمؤنث وقد جاء تأنيثها في المؤنث في قوله:
بأي كتاب أو بأية سنة ... ترى حبهم عارا علي وتحسب
قال تعالى «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ» من قومك يا محمد «وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ» التي كانوا فيها أولئك المتمردون ومصانعهم وقصورهم فيها تدل على ذلك، لأنها منها ما هو باق حتى الآن فضلا عن وجودها زمن نزول القرآن وأن البشر الآن يعترف بعجزه عن الإتيان بمثل ما شيدوه من البناء والصروح وعظم هندستها وقوة إتقانها ومع ذلك كله «فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ 82» فيها من وقايتهم من عذاب الله، وقد مرّ نظير هذه الآية في الآية 21 من هذه السورة ولا تعد مكررة لما في هذه من الألفاظ ما ليس في تلك. ولذلك ذمهم الله تعالى بقوله (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) الآية 30 من سورة النجم في ج 1، وقوله بما يقارب هذه الآية لفظا ومعنى «فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ» بأمور الدنيا وتدبيرها واستغنوا عما جاءهم به الأنبياء ولم يعلموا أن ذلك وحده جهل في الحقيقة إذا لم يضموا إليه العلم بأمور الآخرة، ولذلك ذمهم الله في الآية 9 من سورة الروم الآتية بقوله (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) وفي الآية 66 من سورة(3/602)
النمل المارة في ج 1 بقوله (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) ولهذا فقد لحقتهم الخيبة وغشيهم الغم والحزن على ما فرحوا به في الدنيا «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ 83» على الأنبياء وما جاءوهم به وذلك فرحهم بالسخرية على ما يبلغونهم من الأوامر والنواهي والآداب الإلهية حتى أنزل الله فيهم (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) الآية 12 من الصافات المارة، قال تعالى «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» عذابنا وقد أحاط بهم من كل جانب «قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ 84 في الدنيا مع أنهم كانوا يشمئزون من ذكر الله وحده ويفرحون بذكر آلهتهم كما نعى الله عليهم حالتهم بقوله (وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) الآية 45 من سورة الزمر المارة ومثلها الآية 46 من سورة الإسراء في ج 1، قال تعالى «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» لأنه لا إيمان في حالتي البأس واليأس، ولا توبة مقبولة أيضا في هاتين الحالتين وهذه «سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ» ولا مجال لتبديل ما سنّه الله، راجع الآية 158 من سورة الأنعام المارة والمواضع التي تدلك عليها «وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ 85» لأنهم لم يعرفوا ذلك الخسار إلا عند إملاكهم ولا يلجأون إلى التوبة إلا في غير إبانها وإلا فهم خاسرون دائما حال نزول العذاب وقبله وبعده، ومجموع جملة وخسر إلخ بحساب الجمل 1360 مثل الجملة المارة في الآية 173 من سورة الصافات، فنسأل الله أن يدمر الكفرة وبعلي كلمة الإسلام من الآن فصاعدا، وأن يديم خسار الكفرة وخاصة اليهود، ويجمع شمل المؤمنين ويديم ربحهم، ويرفع رتبتهم على من سواهم، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة، هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين.(3/603)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)
[الجزء الرابع]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تفسير سورة فصلت عدد 11- 61- 41
نزلت بمكة بعد سورة غافر المؤمن، وهي أربع وخمسون آية، وتسعمئة وست وتسعون كلمة، وثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون حرفا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «حم» 1 «تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» 2 تقدم مثله وفيه ما فيه. واعلم يا أكرم الرسل أن المنزل عليك من لدنا هو «كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ» تفصيلا شافيا وبينت تبيينا كافيا وافيا وأعني به «قُرْآناً عَرَبِيًّا» أنزلناه «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» 3 هذه اللغة حق العلم فيجيلون النظر في مبانيه ويتفقهون في معانيه ويعرفون المراد منه، وفي هذه الآية إيذان بتعليم اللغة العربية للوقوف على معاني القرآن العظيم، فيجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلمها، لأن القرآن لا يقرأ إلا بها:
مطلب عدم جواز ترجمة القرآن وبحث في الزكاة وفي معجزات القرآن:
وان الترجمة باللفظ والمعنى غير ممكنة، إذ الحروف العربية لا توجد كلها في اللغات الأجنبية، فيضطر المترجم الى تبديل حرف بغيره أو تحريره، ويجر هذا التغيير الى تبديل كلمة تعطي غير المعنى المراد من أجلها، ومن المعلوم أن تغير شيء من كتاب الله كفر، إذ قد يختل المعنى المقصود منه وهو مبرأ من الخلل، أما تفسيره باللغات الأجنبية مع المحافظة على متنه فجائز، ومن هنا طرأ التحريف على الكتب السماوية المترجمة، راجع هذا البحث في المقدمة تقف على ما تريده. وقد جعلنا هذا الكتاب المنزل عليك يا خاتم الرسل (بشيرا) للطائعين المنقادين لأحكامه بالجنة ونعيمها «وَنَذِيراً» للعاصين الجاحدين له بالنار وجحيمها «فَأَعْرَضَ»(4/1)
أكثرهم عن الأخذ به والامتثال لأوامره «أَكْثَرُهُمْ» عنه لسابق سقائهم «فَهُمْ» أي قومك يا سيد الرسل «لا يَسْمَعُونَ» 4 اليه تكبرا وأنفة مع أنه بلغتهم، وقد أنزل على رجل منهم، وعلى هذا المثل السائر (زجرته فلم يسمع) «وَقالُوا» لرسولنا الذي يدعوهم إليه «قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ» أغطية كثيفة «مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ» ولذلك لا نفقهه «وَفِي آذانِنا وَقْرٌ» ثقل وصمم ولهذا لا نسمعه «وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ» ستر كثيف غليظ مانع من الرؤية حاجز، من التواصل والتوفيق لما بين ديننا ودينك من البون الشاسع، وأرادوا بذكر هذه الموانع المختلقة إقناطه عليه السلام من إجابتهم إليه، وذلك أنه لما كان القلب محل المعرفة والسمع والبصر معينين على تحصيل المعارف قالوا له أن هذه الثلاثة محجورة عن أن يصل إليها شيء من قولك، فكيف تريد أن نعي ما تقوله لنا أو نفهمه «فَاعْمَلْ» على ما يقتضيه دينك واتركنا «إِنَّنا عامِلُونَ» 5 على ديننا أيضا. قيل إن السبب في نزول هذه الآية أن قريشا أقبلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم ما يمنعكم من الإسلام فتسودوا العرب فقال له أبو جهل ذلك القول وأخذ ثوبا فمده بين يدي الرسول وبينهم حتى لا يرى أحدهم الآخر، وقالوا له إنك بشر مجنون ليس إلا قال تعالى «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» كما تقولون ولست ملكا ولا بي مما تقولونه من الجنون والسحر، وإنما «يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» سميع بصير لا أصنام جامدة لا تفقه ولا تعلم ولا تسمع ولا تبصر «فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ» يا قومي وارفضوا ما أنتم عليه «وَاسْتَغْفِرُوهُ» من الشرك «وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ» 6 به غيره «الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ» لبخلهم وحبهم للمال وعدم شفقتهم على الفقراء المعدمين والأرامل المحتاجين، ولم يعلموا ما أعد الله للمشركين ولا يفقهون كنهه، قال ابن عباس المراد بالزكاة هنا تزكية النفس من الشرك بحجة ان الزكاة لم تفرض، إلا أن المعنى لا يستقيم لوجود فعل يؤتون، فمعه لا يجوز أن يقال يزكون أنفسهم، بل يعطون الزكاة والإعطاء يكون من الشخص لغيره مما هو عنده، وليس لديهم زكاة في هذا المعنى ليعطوها لأنفسهم، لهذا يكون الأولى أن يراد بالزكاة هنا ما كان متعارفا إعطاؤها عندهم(4/2)
قبل نزول القرآن، كصلاة الركعتين قبل فرض الصلاة، إذ لم تخل أمة من الصلاة والزكاة والصيام، إذ تعبدهم بها كما تعبد هذه الأمة بها على اختلاف بالقدر والهيئة، فعلى ظاهر هذه الآية يكون عدم إعطاء الزكاة كفرا، ولهذا حكم أبو بكر رضي الله عنه بكفر مانعي الزكاة، وحجة من قال إنها تزكية النفس ان الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وهما حاصلان فلا يلزم الكفر وقال الفراء كانت قريش تطعم الحاج فمنعته عمن آمن بحمد أي، ونزلت «وَهُمْ» قومك يا محمد مع عدم إتيانهم بها تراهم «بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» 7 جاحدون وجودها مع انها حق ثابت يعترف بها أهل الكتب السماوية كلهم، ومما يدل على هذا أن المراد بالزكاة إعطاء المال، قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» التي من جملتها انفاق المال للمعوزين «لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» 8 به عليهم لأنه بمقابل أعمالهم الصالحة وعطاء هذا الأجر فضل من الله تعالى، لأنه هو الذي أعطى المال للمتصدق وهو الذي وفقه للتصدق وجعل ثواب الزكاة غير مقطوع ولا منقوص لما فيها من الرأفة على عباد الله وعياله، هذا ولو كان المراد بالزكاة هنا تزكية النفس لكانت هذه الآية معترضة لعدم مناسبة ذكرها بل جيء بها استطرادا تعريضا بالمشركين المستغرقين بالدنيا التاركين للآخرة، وقد جعل جل شأنه منع الزكاة مقرونا بالكفر، لأنها معيار الإيمان المستكين بالقلب، ولهذا خصها
من بين أوصاف الكفرة، وقيل إن المال شقيق الروح، وهو عند من لا إيمان له أغلى منها قال بعض الأدباء البخلاء:
وقالوا شقيق الروح مالك فاحتفظ ... به فأجبت المال خير من الروح
أرى حفظه يقضي بتحسين حالتي ... وتضييعه يقضي لتسآل مقبوح
قال في الكشف: الأولى إبقاء اللفظ على ظاهره لأن صرفه عن حقيقته الشائعة من غير موجب لا يجوز، كيف ومعنى الإيتاء لا يقر قراره، نعم لو كان بدل يؤتون يأتون كما في قوله تعالى «وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى» الآية 56 من سورة التوبة لجاز ذلك بالنظر للفرق بين الإيتاء والإتيان، ولم يقرأ أحد من القراء بها، لهذا لا يجوز الركون لذلك القول، ولا يخفى أن اطلاق الاسم(4/3)
على طائفة مخرجة من المال على وجه القربة من أناس عندهم فضل على حاجتهم كان شايعا قبل فرض الزكاة، وكان يسمى عندهم زكاة أيضا، وكانوا متفاخرين بإعطائها، بدليل قول أمية بن الصلت في مدح طائفة من قومه: الفاعلون للزكوات، وإن ما جاء في تفسير الإمام الرازي من ان ويلا خصت بالأصناف الثلاثة المشركين، ومانعي الزكاة والكافرين حسن جدا لولا ان الآية عدتهم صنفا واحدا، إذ وصفت المشركين بمانعي الزكاة وسمتهم الكافرين تدبر هذا، وان خطتنا في هذا التفسير المبارك اتباع الظاهر ما استطعنا، لأن الجنوح الى التأويل مع إمكان عدمه قد يكون خوضا والخوض قد يؤدي الى الوقوع فيما لا ينبغي، وقد ذم الله تعالى الخائضين راجع الآية 67 من سورة الأنعام المارة والآية 140 من سورة المائدة والآية 31 من سورة التوبة في ج 3، لهذا أرى الكف عن التوغل في مثل هذا مطلوبا لأن الله تعالى لو شاء لقول ما يقدمون على تأويله، ولكنه لم يشأ، فعلى العاقل أن يترك مشبثته لمشيئة الله ويعلم أن كثرة ذكر الزكاة في القرآن العظيم لزيادة الحث على اعطائها وشدة التحذير من منعها، لأن بذل المال في سبيل الله أقوى دليل على الاستقامة وصدق النية وقوة الإيمان ونصح الطوية، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا قرت بها عصبيتهم ولانت شكيمتهم، وما ارتد بنو حنيفة إلا بمنع الزكاة، ففي هذه الآية بعث لاستنهاض همم المؤمنين على أدائها عن طيب نفس وتخويف عظيم على منعها، قيل إن هذه الآية الأخيرة نزلت بالزمى والمرضى والهرمي المتحقق عجزهم عن العمل الصالح بأن يكتب لهم مثله، بدليل ما رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول، إذا كان العبد يعمل عملا صالحا فشغله مرض أو سفر كتب الله له كصالح ما كان يعمل، وهو صحيح مستقيم. فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الكفرة القائلين ذلك القول المشار اليه في الآية الخامسة ما يلي:
مطلب خلق السموات والأرض وما فيها ولماذا كان في ستة ايام وفي خلق آدم:
«أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ» استفهام انكار عن هذا المنكر وعن المنكر الآخر المبين في قوله «وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً»(4/4)
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)
أكفاء وأشباها من الملائكة والجن وغيرهما من سائر الأوثان المنحوتة من أحجار وأخشاب والمصوغة من الفضة والذهب والحديد وغيرهما من المعادن بصنع أيديكم لا تقدر على خلق شيء لأنها عاجزة عن حفظ نفسها ومع هذا فإنكم تعبدونها وتعرضون عن الإله الخلاق «ذلِكَ» المستحق للعبادة وحده «رَبُّ الْعالَمِينَ» 9 أجمع الناطق منهم والأعجم والمتحرك والجامد «وَجَعَلَ فِيها» في الأرض التي خلقها في يومين الأحد والأثنين «رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها» راجع الآية 9 من سورة لقمان المارة «وَبارَكَ فِيها» بالأشجار والثمار والزروع والأنهار والحيوان والحيتان من جميع ما يحتاجه البشر وغيره «وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها» أرزاقها لكل ما فيها وكميّتها وكيفيتها «فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ» اليومين الأولين والخميس والجمعة لأنه خلق السماء بعد الأرض في يومي الثلاثاء والأربعاء قبل خلق الروامي وتقدير الأقوات لا انه غيرهما وهذا كما تقول سرت من القنيطرة الى دمشق في يومين والى النبك في أربعة أيام أي في تنمة أربعة أيام، ولا بد من هذا التقدير لأنه بغيره يكون تمام الخلق بثمانية أيام وهو مناف لما جاء في قوله تعالى في آيات عديدة في ستة أيام كما أوضحناه في الآية 54 من سورة الفرقان والآية 59 من الأعراف في ج 1 «سَواءً لِلسَّائِلِينَ» 10 الذين يسألونك يا أكرم الخلق عن مقدار الزمن الذي خلق ربك فيه الأرض وما فيها بلا زيادة ولا نقص
«ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ» شيء ظلماني كالدخان، وقد مرّ أن عرش الرحمن كان على الماء وكان قبله عماء، راجع الآية 6 من سورة هود المارة، وأحدث الله في هذا الماء سخونة، فارتفع زبد ودخان، فأما الزبد فبقي على وجه الماء فأيبسه الله وأحدث منه الأرض، وأما الدخان فارتفع وعلا، فخلق منه السموات، قال الراجز في صفة الأرض:
فبطنها محشوة بالغار ... وقشرها قد شق بالبحار
ومما يدل على هذا قوله تعالى (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) الآية 7 من سورة الطور الآتية، وقوله صلّى الله عليه وسلم: (البحر طباق جهنم) وقد أسهبنا البحث في هذا في الآية 27 من سورة الحجر المارة فراجعها، وفي هذه الآية معجزة من معجزات القرآن أيضا، إذ لم يكن عالم أو فيلسوف في ذلك العهد أخبر حضرة الرسول أن هذا الكون(4/5)
كان بادىء بدء مملوء بالسديم أي الأثير والهيولى، مع أن هذه القضية لم تعرف إلا بعد نزول القرآن بمئات من السنين. والدخان أجزاء أرضية لطيفة ترتفع بالهواء مع الجرارة، والبخار أجزاء مائية ترتفع في الهواء مع الأشعة الراجعة من سطوح المياه، فعبر بالدخان عن مادة السماء أي الهيولى والصورة الجسمية أو عن الأجزاء المتصغرة المركبة منها أي الأجزاء التي لا تتجزأ. ولما كان أول حدوثها مظلمة سميت بالدخان تشبيها لها به من حيث أنها أجزاء متفرقة غير متراصة ولا متواصلة عديمة النور، أشبه شيء بالدخان. أما الإستواء فقد تقدم توضيحه في الآية 54 من سورة الأعراف والآية 5 من سورة طه المارتين في ج 1، وهو متى ما عدّي بعلى يكون بمعنى الاستيلاء والاستعلاء كقوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) الآية المذكورة من طله، ومنى ما عدي بإلى كما هنا يكون بمعنى الانتهاء، فاحفظ هذا وتذكره عند كل جملة من هذا القبيل، وراجع بيانه فيما أرشدناك إليه من المواضع.
قال تعالى «فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً» وهذا تمثيل لتحتيم قدرة الله تعالى فيها واستحالة امتناعهما المشعر به «قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» 11 فوجدتا كما أرادهما الله تعالى، وجاء الجمع بلفظ العقلاء لأنه تعالى لما خاطبهما بأوصاف العقلاء أجراهما في الجمع مجرى من يعقل، ونظيره (ساجِدِينَ) في الآية 4 من سورة يوسف وهو جمع للكواكب وقد خاطب الله تعالى من لا يعقل بصيغة من يعقل في كثير من آي القرآن، لدلك السبب، ولهذا جرينا أيضا على هذا المجرى تبعا لكلام الله تعالى ولتلك الأسباب نفسها. وليعلم أن الله تعالى خلق أولا الأرض، ثم السماء، ثم دحا الأرض، بدليل قوله تعالى (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) الآية 30 من سورة النازعات الآتية لا انها خلقت بعد السماء بل خلقت قبلها ودحيت بعدها، ولهذا قلنا آنفا في الآية العاشرة إن خلق الأرض في يومي الأحد والاثنين وما فيها في يومي الخميس والجمعة، إذ كان خلق السماء في الثلاثاء والأربعاء تدبر، ولا تغفل. وعلى هذا «فَقَضاهُنَّ» ذلك الإله العظيم كلهن وما فيهن وسواهن «سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها» مما أراد أن يكون فيها مما لا يعلمه على الحقيقة غيره، ولهذا البحث صلة في الآية المذكورة من(4/6)
سورة النازعات الآتية إذ يفهم من هذه الآية أن خلق الأرض ودحوها قبل خلق السماء، وآية النازعات توضح أن الدحو بعد خلق السماء وهو ما أجمع عليه المفسرون وقال الأخباريون وأصحاب السير والمؤرخون: أول ما خلق الله التربة، أي الأرض بلا دحو ولا بسط ولا مد ولا تمهيد في يومي الأحد والإثنين، ثم سوى السموات السبع وما فيهن في الثلاثاء والأربعاء، ثم مد الأرض ودحاها وشق بحارها وأنهارها وثقلها بالجبال وجعل فيها فجاجا وأودية في الخميس والجمعة، ثم خلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة أي سوى خلقه من التراب وتركه ولم ينفخ فيه الروح بدليل أول سورة الإنسان وما جاء في الأخبار أن إبليس كان يمر به ويتأمله ويفكر في خلقه، ويقول إنه أجوف لا يتمالك، وهكذا إلى أن أراد الله تعالى نفخ الروح فيه فنفخها وصار بشرا سويا، أو أنه خلقه في غير تلك الجمعة التي أتم فيها خلق السموات والأرض، بدليل خلق الجان الذين سكنوا الأرض قرونا كثيرة، ثم فسدوا وبغوا فأهلكهم الله ولم يبق منهم طائعا في الظاهر إلا إبليس بدلالة الآية 30 من البقرة في ج 3 فراجعها، وبعد أن خلق الله الحيوانات بأصرها والوحوش والأشجار وكل ما في الأرض خلق آدم أي نفخ فيه الروح، لأن كل ما في الأرض خلقه لأجله ولذريته. هذا واعلم أن الله تعالى قادر على خلق الكون بما فيه وإبادته في لحظة واحدة، لأنه عبارة عن الأمر بلفظ كن فيكون بين الكاف والنون، قال تعالى (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) الآية 81 من سورة يس وهي مكررة كثيرا في القرآن في المعنى، وقال تعالى (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) الآية 20 من سورة القمر المارة في ج 1، وإنما القصد من خلقها في ستة أيام هو أنه جعل لكل شيء حدا محدودا لا يتعداه، فلا يدخل شيء من مخلوقاته في الوجود إلا بالوقت الذي قدره لدخوله، وانه ليعلّم خلقه التثبت في الأمر والتأني بفعله، قال صلّى الله عليه وسلم التأني من الله والعجلة من الشيطان، وانه إذا جعل الشيء دفعة واحدة ظن وقوعه اتفاقيا، وإذا حدث تدريجيا شيئا فشيئا على سبيل المصلحة والحكمة كان أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة، والقول الفصل في هذا وأمثاله هو أن يقال إن أفعال الله لا تعلل، ومن علم أنه لا يسأل(4/7)
هما يفعل، وأيقن بالقدرة، وأن الحكيم لا يفعل شيئا إلا عن حكمة، وعلم أن الله أحكم الحاكمين حكما وحكمة، سكت وسلم فحفظ وغنم وسلم، وإلا فهو على خطر عظيم حفظنا الله ووقانا. وهو القائل «وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ» كواكب مختلفة في الحجم والشكل واللون والضياء والسير «وَحِفْظاً» من الشيطان الذي يسترق السمع، راجع الآية 11 من سورة الصافات المارة «ذلِكَ» الصنع البديع والتقدير العظيم «تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» 12 البالغ علمه كل خفي وجلي
العالم بشئون خلقه كلها وفيما أودعه في مكوناته من الحكم والمنافع والمصالح لعباده «فَإِنْ أَعْرَضُوا» عنك يا سيد الرسل بعد أن أبديت لهم ذلك ولم يعتبروا بما أبدعه ربك من الآيات الدالات على وحدانيته وعظيم سلطانه وبالغ قدرته «فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» 13 وقرئ صعقة والصعق الموت خوفا، وذلك أن عادا أهلكوا بالريح وثمود بالصيحة، وإنما أهلكهم الله لأنهم حين «إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ» من كل جانب بمعنى أنهم بذلوا وسعهم وقصارى جهدهم بأنواع الإرشاد والنصح وأنذروهم «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» وحده واتركوا عبادة الأوثان «قالُوا» عنادا وعتوا إنا لا نطيع بشرا مثلنا «لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً» يدعوننا لعبادته لأن البشر لا يصلح للنيابة عن الله في الدعوة إليه «فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» 14 لا نصدق بما جئتم به ونكذبكم لأنكم مثلنا لا فضل لكم علينا يؤهلكم لهذه الدعوة.
مطلب قول رسول قريش لمحمد صلّى الله عليه وسلم وما رد عليه به حضرة الرسول والأيام النحسات:
قال ملأ من قريش وأبو جهل: قد التبس علينا أمر محمد فالتمسوا رجلا عاقلا عالما بالشعر والسحر والكهانة يكلمه ويأتينا ببيانه، فاتفقوا على عتبة بن ربيعة، فذهب إليه، وقال يا محمد أنت خير أم هاشم، أنت خير أم عبد المطلب، أنت خير أم عبد الله، فيم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا، فإن كان ما بك للرياسة عقدنا لك ألويتنا فكنت رئيسا ما بقيت، وإن كان ما بك من الباءة زوجناك عشر نساء تختارهن من بنات قريش كلها، وإن كان ما بك من المال جمعنا لك ما تستغني به(4/8)
أنت وعقبك من بعدك، والنبي صلّى الله عليه وسلم ساكت، فلما فرغ قال اسمع يا عتبة:
بسم الله الرحمن الرحيم حم حتى بلغ هذه الآية، فقام عتبة وأمسك على فيه، وناشده الرحم، ورجع إلى أهله، واحتبس عن قومه لما أدركه من مغزى ما تلاه عليه وقر لديه معناه، وما دخل في روعه من الخشية، فقال أبو جهل صبأ والله عتبة يا معشر قريش، وأعجبه طعام محمد لفاقته، هلم فانطلقوا إليه نؤنبه على ذلك، فلما وصلوا إليه قال له أبو جهل ما قال وزاد على التأنيب بأن قال له سنجمع لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب عتبة وأقسم لا يكلم محمدا أبدا، وقال يا معشر قريش إني من أكثركم مالا، ولكن أتيته فكلمته، وذكر لهم ما قال له، فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة، وقرأ عليهم ما سمعه منه، ولما قرأ (فَإِنْ أَعْرَضُوا) نهضت فأمسكت بقية وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب، وهذا الذي ألزمني بيتي ما هو كما يقول أبو جهل، وأنتم تعلمون أني لست بذلك الرجل. وهذا الخبر رواه البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبد الله ونقله محمد بن كعب القرظي بزيادة، وقال إن عتبة كان سيدا حليما، وكانت هذه القصة بعد إسلام حمزة رضي الله عنه وتكاثر المسلمين، وقال أطيعوني يا معشر قريش واعتزلوه، فو الله ليكوننّ له نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه، وإن يظهر فعزّه عزكم، وأنتم أسعد الناس به.
قالوا سحرك والله، لقد جئت بغير الوجه الذي ذهبت به، قال هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم، ولم يرد الله له، ولأبي جهل وجماعته الخير، فأصروا على عنادهم فهلكوا كفارا. «فَأَمَّا عادٌ» قوم هود عليه السلام «فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» وتعاظموا على أهلها واستولوا على ما ليس لهم منها ظلما «وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً» لينزعنا عنها، يهدّدون نبيهم بهذا القول حينما خوفهم عذاب الله معتمدين على ضخامة أجسادهم وقوة سواعدهم، قالوا كان أحدهم يقلع الشجرة من الأرض والصخرة من الجبل بيده، فرد الله عليهم بقوله عزّ قوله «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً» لأنه قادر على إبادتهم بصيحة من أحد ملائكته، ولو شاء لانتزع قوتهم وجعلهم أضعف خلقه ولكنهم بغوا بما(4/9)
أنعم الله عليهم «وَكانُوا بِآياتِنا» التي أريناهم إياها «يَجْحَدُونَ» 15 ويكذبون قدرتنا مع اعترافهم بها «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً» عاصفا شديدا باردا له صوت قاصف، وهذا أحد أسماء رياح العذاب، وعاصف وقاصف وعقيم، ورياح الرحمة لها أربعة أسماء أيضا: ناشرات ومبشرات ومرسلات وذاريات، ويأتي في القرآن العظيم ذكر الريح غير الموصوف للعذاب، والرياح للرحمة، كما أن المطر للعذاب، والغيث للرحمة، وكان ذلك الريح الصرصر «فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ» نكدات مشؤومات مغيرات للنعم مكدرات للعبش، قالوا كان أولها يوم الأربعاء من صفر، وآخرها الأربعاء من آخره، قالوا وما أنزل الله عذابا إلا يوم الأربعاء، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 20 من سورة القمر في ج 1 والآية 102 من سورة الصّافات والآية 22 من سورة الحجر المارتين، وذكرنا أنه لا قباحة للأيام، وأن الشؤم والقباحة بعمل أهلها، قال الأصمعي:
إن الجديدين في طول اختلافهما ... لا يفسدان ولكن يفسد الناس
وقال الآخر:
نعيب زماننا والعيب فينا ... وما لزماننا عيب سوانا
إلى أن قال: ولو نطق الزمان لقد هجانا راجع الآيتين 62/ 51 من سورة الزمر المارة، ومنه تعلم أن النحس والسعد والصفاء والكدر بتقدير الله تعالى لا علاقة للأيام والنجوم والأمكنة وغيرها بذلك، واعلموا أيها الناس إنما أرسلنا عليهم هذا العذاب بالدنيا «لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ» بسبب استكبارهم فيها فيذلوا ويحتقروا «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى» أشد إهانة وأكثر مهانة «وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ» 16 منه البتة وكل ما كان من الله لا رافع ولا مؤخر له.
قال تعالى «وَأَمَّا ثَمُودُ» قوم صالح «فَهَدَيْناهُمْ» ودللناهم على طريق النجاة بواسطة نبيهم «فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى» اختاروا الكفر على الإيمان بطوعهم ورضاهم سوقا ورغبة ولم يلتفتوا لدعوة نبيهم عليه السلام ونبذوا نصحه وإرشاده وراء ظهورهم «فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ» داهية وقارعة الذل والمهانة «بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» 17 في الدنيا من إهانة نبيهم واحتقار(4/10)
معجزته وهي الناقة إذ عقروها فعقرهم الله «وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا» منهم مع نبيهم «وَكانُوا يَتَّقُونَ» 18 التعدي عليه وعلى معجزته فأنجيناهم معه جزاء خشيتهم عقاب الله الدنيوي وخوفهم عذابه الأخروي.
مطلب معنى الهداية وما قيل فيها وشهادة الأعضاء وكلام ذويها:
واعلم أن معنى الهداية لدى أهل السنة والجماعة هو الدلالة فقط وصلت إلى المطلوب أو لم تصل، قال تعالى (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الآية 53 من سورة الشورى الآنية، لأن الله تعالى أنزل الآيات وأرسل الرسل وأعطاهم العقل وأمرهم بالهداية ومكنهم منها وأزاح عللهم ولم يبق لهم عذرا لحصول بغيتهم بحصول موجبها ومقتضيها، ولا وجه لقول بعضهم اشتراط التوصل إلى المطلوب أخذا من قوله هديته فاهتدى بمعنى حصول البغية كما تقول ردعته فارتدع لما تقدم، كما لا وجه لاستدلالهم في هذه الآية على أن الإيمان باختيار العبد على الاستقلال بناء على قولهم في قوله تعالى (فَهَدَيْناهُمْ) بكونه دل على نصب الأدلة وإزاحة العلة، وقوله (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى) يدل على أنهم أنفسهم آثروه، لأن الإيمان لا يكون إلا بتوفيق الله تعالى، ولأن لفظ (فَاسْتَحَبُّوا) يشعر بأن قدرة الله تعالى هي المؤثرة، وأن لقدرة العبد مدخلا ما، وهو الجزء الاختياري للإنسان الذي يجعل له رغبة ورضا وشوقا ما، في فعل ما يقدم عليه، على أن المحبة مطلقا ليست اختيارية محضة بالاتفاق وإيثار العمى وهو الاستحباب المأخوذ من معنى استحبوا، وهو لا يكون إلا من الأفعال الاختيارية، ومعنى كون المحبة ليست اختيارية انها بعد حصول ما تتوقف عليه من أمور اختيارية تكون بجذب الطبيعة من غير اختيار للشخص في ميل قلبه وارتباط هواه بمن يحبه، فهي نفسها غير اختيارية باعتبار مقدماتها. اختيارية بحسب ما تؤول إليه لأنها لا تكون إلا عن رغبة وميل، ولذلك كلّفنا بمحبة الله تعالى ومحبة رسله صلوات الله عليهم وسلامه. قال تعالى (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) الآية 189 من الأعراف في ج 1 فقد جعل علّة ميلها كونها منه بما يدل على أن المحبة ميل روحاني طبيعي، وإليه الإشارة بقوله صلّى الله عليه وسلم: الأرواح جنود بجندة ما تعارف منها أتلف. وقد تكون المحبة لأمور أخر كالحسن والإحسان والكمال(4/11)
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
ولها آثار يطلق عليها محبة كالطاعة والانقياد والتعظيم، وهذه هي التي يكلف الإنسان بها، لأنها اختيارية، فتدبر وتفكر وافهم واعرف وفتح عينيك تهدى وترشد.
قال تعالى «وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ» المتوغلون في إنكاره وجحود آياته وتكذيب أنبيائه «إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ» 19 يستوقف أولهم ليلحق آخرهم. فيحبسون حتى إذا تكاملوا سيقوا إلى أرض الموقف «حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ» فروجهم وأيديهم وأرجلهم وجميع جوارحهم لأنها هي التي للامس الحرام بدليل تخصيصها بعد، وإنما كنى الله تعالى عنها بالجلود تحاشيا عن ذكرها وتعليما لعباده الأدب بالمكالمات، وكثير أمثاله في القرآن وشهادتهم «بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» 20 بالدنيا فينطق كل بما وقع منه إذ تكت الألسنة عن النطق: فعلت الجوارح
«وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا» بما كتمناه نحن لئلا تعذبوا «قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ» ولا نقدر على المخالفة والكتمان «وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» من لا شيء، فهو قادر على انطاقنا «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» 21 بعد الحساب إذ يضعكم موضع المجازات المترتبة عليكم، كما أرجعكم إليه بعد الموت «وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ» أيها العصاة عند ارتكابكم الفواحش بالحيطان والحجب خيفة من الله ليسترها عليكم الآن، وإنما كنتم تستترون خشية أن يطلع عليكم الناس وما كنتم تظنون «أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ» بأفعالكم القبيحة «وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ» 22 في دنياكم من الخير والشر، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
اجتمع قريشيان وثقفي، أو ثقفيان وقريشي عند البيت كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم، فقال أحدهما للآخر أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا، وفي رواية قال: فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية. على أن الآية عامة ولا قول في الحديث من حيث الصحة، لأنه جاء برواية الشيخين وناهيك بهما ثقة، وإنما في كونه سببا للنزول وعلى صحة ذلك فإنه لا يخصص حكم الآية، ومثل هذا القول يقال في الحديث المذكور في(4/12)
الآية 8 المارة آنفا، وقدمنا في الآية 65 من سورة يس في ج 1 ما يتعلق في شهادة الأعضاء من الأحاديث ما به كفاية فراجعها، فإذا كان الله تعالى وكل بالإنسان حفظة يحصون عليه أعماله وأنفاسه، وفضلا عن هذا فإنه يستنطق جوارحه عما يقع منها، فينبغي للمؤمن أن لا يمر عليه حال إلا بملاحظة ربه عز وجل، فإن عليه رقباء منه، قال أبو نواس:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما يخفى عليه يغيب
ويكفيك قوله تعالى (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) الآية 42 من سورة إبراهيم الآتية، ولا يستغرب نطق الأعضاء بما وقع منها بقدرة الله تعالى، بعد أن نرى الأسطوانة تتكلم بما وقع عليها، والشريط السينمائي ينطق بما تكلم عليه على اختلافه، وهما من صنع البشر، فما بالك بما هو من صنع الله خالق البشر، إذا لا يتطرق أحدكم بالظن في ذلك فيهلك، وقد قال تعالى «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ» أوقعكم في الردى، أي الهلاك، وفي هذه الإشارة الدالة على البعد إيذان بغاية بعد منزلة ظنهم في الشر والسوء «فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» 23 بسبب ظنكم ذلك، لأن الله تعالى أنعم عليكم في هذه الجوارح لتستعملوها فيما خلقت لها فتنالوا سعادة الدارين، فإذا حرفتموها لغير ما خلقت لها كانت سببا لشقائكم فيها، لأن استعمالكم إياها في طرق الخير يؤدي إلى إدراك ما تهتدون به إليه من اليقين ومعرفة رب العالمين الموصلة للسعادة الأبدية، وصرفها لغير ذلك يؤدي إلى كفران النعمة الموصل إلى الشقاء الأبدي، قال بعد أن حكم عليهم بشهادة أنفسهم وأعضائهم «فَإِنْ يَصْبِرُوا» على ما صاروا إليه من العذاب أو لا يصبروا «فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» لأن صبرهم ليس فيه مظنة الفرج حتى يأملوا الانتفاع به فصبرهم وفجرهم بحقهم سواء، والآية هذه على حد قوله تعالى (أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) الآية 20 من سورة إبراهيم الآتية، وقوله تعالى (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) الآية 16 من سورة الطور الآتية «وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا» يطلبوا العتبى والرضاء «فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ» 24(4/13)
أيضا، إذ لا سبيل للرضاء حتى يكونوا من المسترضين ولا محل له «وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ» هيأنا لهم أخدانا من نظرائهم الشياطين (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» من زخارف الدنيا المحيطة بهم «وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ» الصادر ممّا بالعذاب «فِي» جملته «أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ» 25 دنياهم وآخرتهم كغيرهم من الأمم الظالمة «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» من أهل مكة «لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ» الذي يتلوه عليكم محمد «وَالْغَوْا فِيهِ» قولوا عند قراءته قولا لا رقوع له كي يتشوش القارئ ويلتبس على السامع «لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» 26 في لغوكم على تلاوة محمد، فلا تتركون مجالا للسامع أن يفهمه كما هو، وذلك أن المشركين علموا عذوبة ألفاظ القرآن وكمال معانيه وجزالة جمله، وعرفوا أن من أحبط به علما وعقله مال إليه، فخافوا على أنفسهم وغيرهم من الانخراط في الدين المنزل عليه وقبول ما جاءهم به، فلذلك صار بعضهم يوحي إلى بعض بأن كل من يسمع محمدا يقرأ فليكثر من اللغو ورفع الصوت ليختلط عليه الأمر وعلى السامع أيضا، فلا يعقله تماما خشية تسرب قوله إلى الناس فيؤمنوا به، فأنزل الله هذه الآية ينعى عليهم بها سوء صنيعهم، راجع الآية 115 من الأعراف في ج 1، ثم هددهم بقوله «فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» أظهر مكان الإضمار إشعارا بعظم عقابهم المشار بكونه «عَذاباً شَدِيداً» على فعلهم هذا «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ» 27 تهديدا مؤكدا بالقسم، أي وعزتي وجلالي لأعاقبتهم على سيئاتهم هذه بأسوأ منها ولا نكافئنهم على أعمالهم الحسنة من صلة رحم وإقراء ضيف وإغاثة ملهوف وغيرها، لأنهم كانوا يفعلونها لنشر الصيت رياء وسمعة وتفاخرا، ولا نثيبنهم على الأحسن من أعمالهم مما هي خالية من تلك الشوائب، لأنا كافيناهم عليها في الدنيا من صحة وسعة رزق وجاه وغيرها، بل نجازيهم ونعاقبهم على أفعالهم السيئة بأعظم العقوبات وأسوئها، وعلى الأسوإ أكثر من السيء «ذلِكَ» التشديد عليهم بالجزاء «جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ» المحاربين له في الدنيا هو «النَّارُ» التي لا يقاس عذابها بعذاب «لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ» الإقامة الدائمة «جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا(4/14)
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
يَجْحَدُونَ»
28 ويكذبون رسلنا الذين جاءوهم بها ويسخرون بهم «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بعد قذفهم بالنار وعدم النظر إلى طلباتهم الواهية «رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا» في الدنيا عن الدين القويم وأوقعانا في هذا العذاب الأليم «مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا» في هذه النار انتقاما منهم «لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ» 29 فيها فيتالا عذابا أكبر من عذابنا، لأنهما هما اللذان أوقعانا فيه، فلا يلتفت إلى قولهم لأن أولئك لهم مكان خاص في النار أيضا مع أمثالهم.
مطلب ما للمؤمنين المستقيمين عند الله ومراتب الدعوة إلى الله ودفع الشر بالحسنة:
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا» بأفعالهم وأقوالهم على إيمانهم «تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ» بالرحمة من الله عند الموت وفي القبر وزمن البعث تؤنسهم وتقول لهم «أَلَّا تَخافُوا» من هذه الأهوال التي ترونها في المواقع الثلاثة «وَلا تَحْزَنُوا» على ما فاتكم من الدنيا فإن الله تعالى أبدلكم خيرا منها وآمنكم من كل هم وغم وعناء، والحزن غم يلحق الإنسان من توقع مكروه أو خوف فوات محبوب أو حصول ضار، «وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» 30 بها على لسان رسلكم في الدنيا والآن
«نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ»
وأنصاركم ومتولوا أمركم كما كنا لكم «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ»
اليوم «فِي الْآخِرَةِ»
كذلك لا نقارقكم أبدا حتى تدخلوا مقركم في الجنة «وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ»
من أكل وشرب ولبس وظلال وترف وصحبة ونساء وغيرها «وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ»
31 تطلبون وتتمنون من كل ما يخطر ببالكم وهذا أعم من الأول «نُزُلًا» هذا الذي ذكر كله بمقام ما يقدم للضيف أول نزوله من شراب وقهوة، فما بالك بما يقدم له بعد، وناهيك برب المنزل «نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ» 32 بالنازلين كثير المغفرة لما وقع منهم كيف وهو أكرم الأكرمين ممطر الألطاف والكرامة على عصاته، فكيف بأضيافه ومطيعيه «وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ» أيا كان من عباده المخلصين وأمر بطاعته ونهى عن معصيته، وهذا عام في كل مؤمن يدعو الناس عامة طائعهم وعاصيهم برّهم وفاجرهم إلى عبادة الله ويدخل فيه الأنبياء بالدرجة(4/15)
الأولى ثم الأمثل فالأمثل، ولا وجه لتخصيصها بالرسل عليهم السلام كما قاله بعض المفسرين، لأن إجراءها على عمومها أوفق للفظ وأنسب بالمعنى وأحسن بالمقصد «وَعَمِلَ صالِحاً» بإخلاص وحسن نية «وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» 33 المذعنين المنقادين لله تعالى قلبا وقالبا. واعلم أن للدعوة إلى الله مراتب: الأولى دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالآيات والمعجزات والحجج والبراهين المقرونة بالتحدي وبالسيف إذا لم ينجع ذلك. الثانية دعوة العلماء بالحجج والبراهين وطرق الإرشاد والنصح وضرب الأمثال فقط، ولا شك أن العلماء أقسام: علماء بالله، وعلماء بصفاته، وعلماء بأحكامه، وقد يجمع الكل بواحد إذا كان من العارفين:
وليس على الله بمتنكر ... أن يجمع العالم في واحد
وكل من هؤلاء مكلف بإرشاد الناس إلى طرق الهداية، أوتوا من قوة في النطق وفي الدلائل الشرعية. الثالثة دعوة المجاهدين، وهذه لا تكون إلا بالسيف لأنهم مأمورون من قبل ولي الأمر يقتال الكفار حتى يؤمنوا، وفقال الخارجين عن الطريقة الإسلامية حتى يذعنوا، فإذا آمن الأولون وأذعن الآخرون وجب عليهم الكف عن قتالهم، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. الرابعة دعوة المؤذنين إلى الصلاة، فينبغي لمن سمع الصوت أن يجيب الداعي، ولهذا فما روي عن عائشة أن هذه الآية نزلت في المؤمنين خاصة، مع أنها عامة لا يخصصها رواية عائشة رضي الله عنها على فرض صحة نزولها فيما قالت، لأنها مطلقة في كل من يدعو إلى الله ويحث الناس على سلوك طريقة السوي لا يقيدها قيد أبدا. هذا، وعلي من يتصدى للإرشاد أن يكون بمقتضى الآية 135 من سورة النحل الآتية «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ» في الآثار والأعمال والأحكام، بل بينهما برن شاسع، فيا أيها الإنسان الكامل «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» بالإحسان إلى من أساء إليك والصبر على أذاه والتأني عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند القدرة، فهذه هي الحالة التي وصفها الله بالأحسن، وشتان بين من تحلى بالخصال الممدوحة، ومن تقمص بالخلال المذمومة، والآية عامة في كل فعل حسن وسيئ قليلا كان أو كثيرا، خطيرا كان أو حقيرا، فعلى العاقل أن يحسن لمن أساء إليه، ويصل من(4/16)
قطعه، ويعرض عمن آذاه، ويعطي من حرمه، ويمدح من يذمه، ويدعو لمن شتمه، ويعفو عمن تعدى عليه أو على ماله أو ولده أو أهله، اتباعا لكلام الله وأحاديث رسوله، ولا يتأنى في ذلك، ففي التأني تفوت الفرص، وهو محمود في غير هذا وأمثاله مثل تزويج البكر وإقراء الضيف ودفن الميت وغيره، كان سيدنا عيسى عليه السلام إذا مرّ بأناس يشتمونه يدعو لهم فقال له أصحابه في ذلك، فقال كل ينفق مما عنده. وعليه المثل المشهور: وكل إناء بالذي فيه ينضح.
وكان من تعاليمه عليه السلام: من ضربك على خدّك الأيمن فأعطه الأيسر، ومن أخذ ثوبك فأعطه رداءك، وكان يأمر بمحبة الأعداء والعفو عن الاعتداء، وكان أزهد الناس في الدنيا عاش ثلاثا وثلاثين سنة في الأرض، ورفع إلى السماء ولم يختص بمحل يأوي إليه حتى آواه الله برفعه إليه «فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» 34 مخلص صادق في محبتك ولوع في مودتك، لأن الله تعالى يقلب عداوته صداقة محضة بأن يجعله أدنى لك من قريبك، قال:
إن العداوة تستحيل مودة ... بتدارك الهفوات بالحسنات
«وَما يُلَقَّاها» أي تلك الخصال الحميدة «إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا» على أنفسهم وتحملوا المكاره وتجرعوا الشدائد وكظموا الغيظ وتركوا الانتقام، فصارت طبيعتهم الصبر وشأنهم العفو وديدنهم التحمل «وَما يُلَقَّاها» الأمور المذكورة آنفا ويقوم بها «إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» 35 أي موقق للخير ميسّر للهدى مسوق المرشد ذو نصيب كبير من كمال النفس، وحظ عظيم من طهارة القلب، وحصة جليلة من مكارم الأخلاق.
مطلب في النزغ وسجود التلاوة وعهد الله في حفظ القرآن:
قال تعالى «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ» أيها الإنسان الكامل «مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ» فتحس بما ينخسه في قلبك ويوسوس فيه بصدرك من ترغيبك لفعل ما لا ينبغي فعله وصرفك عن القيام بتلك الخصال النفيسة وحثك للانتقام، فاحذر أن تطيعه، وإن حاك في نفسك شيء من اجراء المقابلة «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ» منه والجأ إليه(4/17)
ليحفظك من خدعه وغشه «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ» لمن يستغيث به فيجيبه وهو «الْعَلِيمُ» 36 بصدق ركونك إليه فيحفظك من شر نزغاته، ويحول دون التفاتك إليه، وقدمنا ما يتعلق بالنزغ في الآية 100 من سورة يوسف وفي الآية 12 من سورة يونس المارتين، وفيهما ما يرشدك لمراجعته من الآيات الباحثة عن هذا.
اعلم أن مناسبة هذه الآية لما قبلها هو دفع ما يتوهم إن فعل ذلك بمقابل إساءة الغير قد يكون ذلا أو خوفا أو عازا من الناس، وإن حصول هذه الوساوس من الشيطان الذي لا يريد إلا الشر للإنسان، كيف وقد حذّرنا الله منه بقوله عزّ قوله (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً) الآية 60 من سورة النساء في ج 3، بأن تجنحوا بكليتكم إلى المساوى والمكاره وتعرضوا عن العفو ومكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، فعلى العاقل أن ينتبه لذلك، لأن تلك الأعمال الحسنة ما هي إلا من علو النفس وزكاة القلب وكمال الإيمان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ» الدالة على توحيده وعظيم قدرته وبالغ حكمته «اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» المسخّرات بأمره لمنافع الخلق وما في الكون كله يخضعون لعظمته ويسجدون كل بحسبه انقيادا لجلاله، فإذا علمتم هذه تفعل هذا وهي دونكم في العقل والفضل، فيا أيها العقلاء «لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ» لأنها ليست بأهل لذلك ولأنها من جملة مخلوقاته الكائنين في قبضته «وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ» لمنافعكم فهو وحده المستحق للسجود «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» 37 تخصونه بعبادتكم وتطلبون ثوابها «فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا» عن حصر السجود لله وعمدوا إلى غيره، فاترك يا أكمل الرسل هؤلاء الذين اختاروا المخلوقين على الخالق «فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ» من الملائكة الكرام يسجدون له كما يسجد المؤمنون أمثالك و «يُسَبِّحُونَ» له «بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ» 38 من عبادته ويملون منها ولا يتكاسلون عنها وهنا موضع السجود على الوجه الأكمل لا عند قوله (تَعْبُدُونَ) كما قاله بعض القراء، بل عند تمام هذه الآية الأخيرة لأن السجود يكون عند تمام المعنى المراد به فتكون السجدة آية واحدة فقط، كما في الإنشقاق والنجم والسجدة والفرقان(4/18)
والحج ومريم والعلق والأعراف والرعد، وتكون آيتين كهذه، وسجدة ص، وتكون ثلاث آيات كالنمل والنحل والإسراء، وعلى هذا لا يكون السجود إلا عند ختام الآية الأولى بل عند تمام الثانية في فصّلت هذه وص، وعند تمام الثالثة في النمل والنحل والإسراء، وهذه السجدة من عزائم السجود، وقدمنا ما يتعلق فيها في الآية 45 من سورة ص في ج 1، وفيها ما يرشدك لما تتمناه. قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً» متكامنة من شدة التبيس مغبّرة وعليها آثار الذل بسبب ذواء نبلتها «فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ» تمايل نباتها وتحرك بمرور الرياح عليه «وَرَبَتْ» فاشت وانتفخت ولانت، ونظير هذه الآية الآية من سورة الحج في ج 3 مع اختلاف في بعض الكلمات، فقل يا أكرم الرسل لهؤلاء المنكرين إعادة الأجسام من قومك «إِنَّ الَّذِي أَحْياها» بعد يبسها المشابه للموت في الإنسان «لَمُحْيِ الْمَوْتى» من البشر وغيرهم مرة ثانية كما خلقهم أول مرة وهو أهون عليه «إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 39 لا يعجزه شيء وليس عليه شيء بأهون من غيره. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا» وينحرفون عن تأويلها فيميلون عن الحق المبشرة به إلى الباطل الذي يريدونه على حد قوله تعالى (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) الآية 45 من المائدة في ج 3، وهي مكررة في القرآن لفظا ومعنى. واعلم يا سيد الرسل أن هؤلاء «لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا» لأنا نراهم ونرى ما يعملون، وفي هذه الجملة تهديد كبير بعظيم مجازاتهم «أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ» هذا تمثيل للكافر على الإطلاق «خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً» من العذاب «يَوْمَ الْقِيامَةِ» وهذا تمثيل للمؤمن مطلقا أيضا، وما قيل إن هذه الآية نزلت في أبي جهل وحضرة الرسول، أو في أبي بكر أو عمار بن ياسر أو عمر أو عثمان أو حمزة على اختلاف الأقوال في ذلك، وفرض صحة هذا السبب لا يقيدها عن عمومها ولا يخصصها عن إطلاقها، لأن العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. ثم ذكر تعالى ما هو غاية في التخويف والتهديد والوعيد لأولئك الملحدين بقوله عز قوله «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ» أن تعملوه أيها الكفرة «إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» 40 والبصير بالشيء يعلمه ويعلم ما يستحقه(4/19)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
فاعله من العقوبة، وهذه الآية غاية في التشديد وعظم التهديد للملحدين خاصة، ويدخل فيها من على شاكلتهم من الكفرة
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ» الجملة من ان واسمها وخبرها واقعة مبتدأ وجملة (أُولئِكَ يُنادَوْنَ) إلخ خبرها، وما بينهما اعتراض، والمراد بالذكر هنا هو القرآن «وَإِنَّهُ» ذلك الذكر ولَكِتابٌ عَزِيزٌ» عديم النظير محمي بحماية الله كريم عليه محفوظ؟؟؟ التبديل والتغيير والتحريف «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ» الذي يريده الملحدون ليوقعوا فيه تناقضا بزعمهم «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ» قبله وأمامه «وَلا مِنْ خَلْفِهِ» ورائه ودبره، لا يتطرق إليه الباطل بوجه من الوجوه لأنه «تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» 41 في أقواله وأفعاله محمود على ما أسداه من النعم المتتابعة إلى خلقه، ومن أجلّها هذا القرآن المصون، وتقدم في الآية 9 من سورة الحجر ما يتعلق في هذا البحث، المراجعة. ثم إنه جل شأنه عزى حبيبه محمد على ما يلاقيه من قومه بقوله جل قوله «ما يُقالُ لَكَ» يا حبيبي مما تراه من الأذى والجفا في القول والفعل «إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ» فلك أسوة بهم فلا تضجر ولا تحزن «إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ» لمن آمن بك منهم ومن غيرهم عما سبق من ذنبه مهما كان «وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ» 42 لمن أصر على التكذيب «وَلَوْ جَعَلْناهُ»
ذلك الكتاب المعبر عنه بالذكر «قُرْآناً أَعْجَمِيًّا» يتلى بغير لغة قومك «لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ» بالعربية لفهمناه وآمنا به فكيف تريد أن نؤمن بما لا نفهمه «ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ» كيف يكون ذلك أتهدى أمة عربية بلسان أعجمي لا تعيه كلا، لا يكون ذلك، أي لتذرعوا بالإنكار في هذه الحجة ولصح قولهم (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) الآية 5 المارة، لأنهم لا يحيطون بمعناه أما وأنه أنزل بلغتهم فلم يبق لهم ما يعتذرون به، فلا يصح قولهم ذلك بأنه أعجمي لا نفهمه. وفي هذه الآية إشارة على أنه لو نزل بلسان العجم لكان قرآنا فيكون دليلا لأبي حنيفة رحمه الله في جواز الصلاة إذا قرأ بالفارسية، وتقدم أن بينا عدم جواز ترجمة القرآن باللغات الأجنبية في الآية 3 المارة، لأنها لا تحتوي على جميع الحروف العربية، فليس بوسع أعظم عالم باللغة المترجم إليها وباللغة العربية أن يعبر(4/20)
عن كل كلمة منه بلفظها ومعناها من غير أدنى تغيير فيها بل تعرض المحال، لأن إمكان وجود لغة أجنبية تحتوي على الحروف العربية كلها محال، وإن ما اطلعتما عليه من اللغات التركية والإفرنسية والعبرية والسريانية والكردية والهندية والإنجليزية والألمانية لا تحتوي عليها، وغيرها كذلك، وإمكان التعبير عن بعض كلماته لا يكفي، لأنه لا يجوز أن يترك منه حرف واحد. أما ما جاء عن أبي حنيفة فهي عبارة عن حفظ آية طويلة أو ثلاث آيات قصار بمقدار ما تصح به الصلاة للعاجز عن تعليمها بالعربية خشية من ترك الصلاة التي لا تصح بغير القراءة، فذلك ممكن، إذ يوجد في القرآن ما هو ممكن الترجمة بذلك القدر من آيات الدعاء والرجاء، أما كله أو نصفه أو عشره أو معشاره فلا يمكن البتة، لأنه خارج عن طوق البشر، وقدمنا في الآية 195 من سورة الشعراء في ج 1، ما يتعلق بهذا البحث بصورة موضحة فراجعها.
مطلب القرآن هدى لأناس ضلال الآخرين بآن واحد، وعدم جواز نسبة الظلم إلى الله تعالى:
قال تعالى «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً» من الضلال وإرشاد للحق «وَشِفاءٌ» من مرض الشرك والشك الذي يحوك بالقلب وبعض الأمراض لصاحب اليقين القوي الاعتقاد، راجع الآية 80 من سورة الإسراء ج 1، «وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» به «فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ» ثقل وصمم عن سماعه «وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» لا يبصرونه لأنهم لا ينظرون إليه عن صدق وحقيقة ولا يسمعونه سماع قبول فيكون ظلمة وشبهة ومرضا عليهم فهو بآن واحد نور لأناس ظلمة لآخرين، لأنهم لا ينتفعون به فيكون عليهم بالضد من غيرهم «أُولئِكَ» الصم العمي عن القرآن «يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» 44 فلم يسمعوا ذلك النداء ولم يعوه، شبه الله تعالى عدم فهمهم بما دعوا إليه بمن ينادى من مسافة بعيدة فإنه إن سمع الصوت لا يفقه المعنى، وهو مثل يقال للذي لا يفهم: أنت تنادي من مكان بعيد، والنداء على الشخص من بعد فيه إهانة له وعدم اكتراث به، ولهذا فإن الكفرة يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبح أعمالهم بأشنع أسمائهم من مكان بعيد هوانا بهم وإذلالا لهم، فتعظم السمعة عليهم وتتكاثف المصائب بفضيحتهم على رؤوس الأشهاد. قال تعالى(4/21)
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ» من قبل قومه، فمنهم من آمن ومنهم من كفر مثل قومك يا محمد «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» بتأخير العذاب «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» في الدنيا وأهلكوا جميعا كسائر الأمم السالفة، ولكن أرجأناهم بمقتضى سابق علمنا ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم «وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» 45 صفة مؤكدة للشك، كما أن قوم موسى كانوا في ريب من كتابهم «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» 46 فلا يعذب إلا المسيء بحسب إساءته فقط، وحاشاه من الظلم، وقدمنا في الآية 16 من سورة يونس المارة ما يتعلق بعدم جواز نسبة الظلم إلى الله فراجعها، ونظير هذه الآية الآية 15 من سورة الجاثية الآتية، إلا أنها ختمت بغير ما ختمت به هذه. قال تعالى «إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ» عند السؤال عنها، أي إذا سئلت يا سيد الرسل عن زمن القيامة فقل علمها عند الله وحده «وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها» أو عينها، ومن الأولى مؤكدة للتنكير مما يزيد عمومه وإطلاقه، أي مطلق ثمره من جميع أنواعها، وكذلك من قوله «وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ» وأمره وإرادته أي لا يكون شيء من ذلك كما لا يكون غيره بغير علم الله وأنه ما يقع من ذلك على لسان بعض العارفين من الإخبار بوقت الإثمار ووقت تكون الحمل وزمن الوضع وبيان الموضع، هو من إلهام الله تعالى إياهم. أما ما يقوله المنجمون والسحرة والكهنة فمن طريق الحسبان والظن والتوسم، راجع الآية 76 من سورة الحجر المارة تجد هذا البحث مستوفيا «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي» الذين سميتموهم بالدنيا أحضروهم إليّ الآن لأسألهم عن الذي حدا بهم لهذه الدعوى الباطلة «قالُوا آذَنَّاكَ» أخبرناك يا ربنا وأعلمناك بأنه «ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ» 47 الآن بأن لك شركاء البتة، وذلك لأن الذين اتخذوهم شركاء ينكرون ذلك ويتبرءون منهم عند معاينة العذاب، وقبله في الوقف وهو الحساب. قال تعالى «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ» من الشركاء «مِنْ قَبْلُ» في الدنيا «وَظَنُّوا» أيقنوا إيقانا لا ريب فيه أنهم «ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ» 48 من العذاب ولا محيد عنه وحاص(4/22)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
بمعنى عدل ومال وماد وحاد وهرب، والأنسب بالمقام ما ذكرناه «لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ» لا يمل ولا يضجر من تكرار طلبه بل يظل يسأله مالا وولدا وجاها ورياسة وعافية بصورة دائمة، ولو أعطى أحدكم نهرين لتمنى الثالث «وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ» من شدة وفقر وفاقة أو مرض وذل أو فقد شيء ما «فَيَؤُسٌ» شديد اليأس من روح الله «قَنُوطٌ» 49 كثير التفاؤل بالشر وقطع الرجاء من رحمة الله وفضله، ولقد بولغ هذا الكلام من جهتين من جهة الصيغة، لأن فعولا من صيغ المبالغة، ومن جهة التكرار، وهذه صفة الكافر بالدنيا والآخرة أيضا. قيل نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة أو عتبة بن ربيعة، وهي عامة يدخل في عمومها هذان الكافران وغيرهما دخولا أوليا. قال تعالى في وصف هذا الكافر أيضا «وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا» من غنى وعافية ورياسة «مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ» من فقر ومرض وذل
«لَيَقُولَنَّ» بلا حياء ولا أدب «هذا لِي» حقي استحقيته بعملي «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ» التي تخبرنا بها يا محمد «قائِمَةً» واقعة، يريد أنه ليس موقنا بالبعث، وأن أهل هذه الدنيا يحيون حياة ثانية، ثم أقسم الخبيث فقال «وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي» على فرض صحة قولك «إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى» المنزلة الحسنة بالآخرة أيضا كما هي بالدنيا على فرض وجودها، وهذا قياس مغلوط أشبه بقياس أخيه إبليس الذي أشرنا إليه في الآية 12 من الأعراف في ج 1، لأن نعم الدنيا لا يستدل بها على نعم الآخرة من حيث حيازتها، لأن الدنيا تملك بالمال والآخرة بالأعمال. قال تعالى مقسما ومؤكدا «فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» أمثل هذا القائل أن الأمر ليس كما زعم وأنهم مستحقون الإهانة لا الكرامة «بِما عَمِلُوا» في الدنيا من السوء ثم أقسم ثانيا فقال «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ» 50 شديد لا يطاق في نار جهنم على ما فرط منهم.
قال تعالى «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى» تباعد بطرا عن شكر المنعم «بِجانِبِهِ» بنفسه تعاظمأ وتكبرا ووضع الجانب مكان النفس، لأن مكان الشيء وجهته لينزل منزلة نفسه، ومنه قول الكتاب في مكاتباتهم إلى جناب وجانب فلان يريدون نفسه وذاته، وعليه قوله تعالى:(4/23)
(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) الآية 46 من سورة الرحمن ج 3 أي ذاته، وقول الشاعر:
ذعرت به القطا ونفيت عنه ... مقام الذنب كالرجل اللعين
وقال أبو عبيد نأى نهض بجانبه وهو عبارة عن التكبر وشموخ الأنف، هذا وقد يعبر عن ذات الشخص بالمقام والمجلس بقصد التعظيم والاحتشام عن التصريح بالاسم ويتركون التصريح لزيادة الاحترام، قال زهير:
فعرض إذا ما جئت بالبان والحمى ... وإياك أن تنسى فتذكر زينبا
سيكفيك من ذاك المسمى إشارة ... فدعه، مصونا بالجلال محجبا
وليس من هذا قوله تعالى (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) الآية 36 من سورة النساء ج 3، وقوله تعالى (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) الآية 56 من سورة الزمر المارة كما ستطلع عليه في تفسيرها إن شاء الله «وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ» 51 كثير مستمر كناية عن الإقبال على الدعاء بكليته والإلحاق به والابتهال صباح مساء، والعرض من وصف الأجسام وهو أقصر الامتدادين والطول أطولهما، ويفهم عرفا من العريض العظم والاتساع، يقال بالقلم العريض أي الكبير الذي يقرأ عن بعد، وإن صيغة المبالغة وتنوين التنكير فيه يشعران بذلك. ويستلزم وصف الدعاء بالعرض وصفه بالطول أيضا، هذا وقد تضمنت هذه الآيات نوعين من طغيان الإنسان الأول شدة حرصه على جمع الدنيا وشدّة جزعه على الفقد، والتعريض بتظليم ربه، تعالى عن ذلك، في قوله هنا لي مديحا فيه سوء اعتقاده بالمعاد المستجلب لتلك المساوى كلها، والثاني بين طيشه المتولد عنه إعجابه بنفسه واستكباره عند وجود النعمة واستكانته عند فقدها، وقد ضمّن ذلك ذمّه بشغله بالنعمة عن المنعم بالحالتين أما في الأولى فظاهر، وأما في الثانية فلأن التضرع جزعا على الفقد ليس رجوعا إلى المنعم، بل تأسفا على الفقد المشغل عن المنعم كل الإشغال، تدبر، قال تعالى أيها الناس «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ» هذا القرآن «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» كما ذكرت لكم «ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ» لقولكم إنه ليس من عنده، أخبروني «مَنْ أَضَلُّ» منكم بتجارئكم على هذا القول، وقد وضع محل هذه الجملة «مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ» خلاف «بَعِيدٍ» 52 عن الحق وهو أبلغ إذ تفيد لا أضل منكم أبدا، لأنكم في(4/24)
خلاف بعيد غاية البعد عن الحق السوي، قال تعالى «سَنُرِيهِمْ آياتِنا» عند حلول الوقت المقدر لخذلانهم «فِي الْآفاقِ» نواحي الأرض شرقا وغربا، ومن جميع جهاتها، وأفاق السماء نواحيها وجوانبها أيضا، والأفق القطر وما تراه من اتصال السماء بالأرض يسمى أفقا أيضا، وفسر بعض المفسرين هذه الآية بما أجراه الله تعالى على يد نبيه صلّى الله عليه وسلم وأصحابه وخلفائه الكرام رضي الله عنهم ومن حذا حذوهم وتبع خططهم من فتوحات البلاد والقرى والاستيلاء على الأراضي الدالة على قوة الإسلام ومتانة شكيمة المسلمين للمؤمنين الذين اخترقوا البلاد شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وافتتحوها وكانوا واسطة هداية أهلها، وعلى وهن الباطل وتفرق جنده وتشتيت أهله وخذلان الكفرة وإذلالهم، وذلك استدلالا من معنى السين في (سنريهم) لدلالتها على الاستقبال أي أنّا سنري أصحابك وأمتك بعدك آياتنا الدالة على قدرتنا بمحق الباطل وإظهار الحق من بعدك، كما أريناكه في حياتك، وعليه يكون الخطاب في الآية عاما للكافرين والمؤمنين الموجودين زمن صاحب الرسالة فمن بعدهم، ولا مانع من ذلك «وَفِي أَنْفُسِهِمْ» نريهم آياتنا أيضا بإنزال البلاء على الكافرين من قحط أو خوف وقتل وأصر وجلاء كما أراهم في بدر وما بعدها من المواقع وزمن الفتح وبعده، وبمقابل هذا للمسلمين رخاء وظفر وعز وغنيمة، وفي هذه الآية على التفسير الأول إشارة إلى فتح مكة عنوة لما فيها من معنى لتهديد في لفظ سنريهم والوعيد وهو من الإخبار بالعيب وإن مكة شرفها الله لم تفتح عنوة على يد أحد قبله قط، وعلى التفسير الثاني إلى فتح بلاد العرب خاصة استشعارا من قوله (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) والبلاد الأخرى عامة وإلى أن ذلك كله كائن لا محالة لإخبار الله تعالى به، وهذا وإن كان فتحا بالنسبة إلى الأرض والبلاد فهو آية بالنسبة إلى الأنفس، ونفس الإنسان فيها آيات كثيرة لم يحط بها البشر، ومن قرأ علم التشريح ووقف على ماهيته وشاهد تراكيب الإنسان عرف مغزى قول علي كرم الله وجهه:
وتحسب أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
ومن العجيب أن بعض العلماء بالطب مع وقوفهم على علم التشريح ينكرون الإله مع أن المنكر يجب أن يؤمن لما يرى من صنع المبدع في هذا الوجود،(4/25)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
ولكن من يضلل الله فماله من هاد «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ» القرآن المخبر عن ذلك هو «الْحَقُّ» المنزل من عند الله العاوي عن كل شائبة «أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ» يا سيد الرسل الذي أنزل عليك هذا القرآن وجعل فيه بيانا لكل شيء مما كان ويكون «أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» 53 لا يغيب عن علمه ما يقع في جميع مكوناته وإن كل ما يجري فيها يراه ويسمعه وتكون بأمره وإرادته، قال تعالى «أَلا إِنَّهُمْ» قومك يا حبيبي مع ظهور هذه الآيات المثبتة للتوحيد والتنزيه والأمر بالعدل والإحسان، لم يزالوا «فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ» في الآخرة لأنهم ينكرون البعث وسيعلمونه حين يشاهدونه «أَلا إِنَّهُ» ذلك الإله الواحد العظيم القادر على كل شيء «بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ» 54 إحاطة ضافية لعلمه بواطن الأمور وظواهرها، ومن كان كذلك فلا يخفى عليه شيء البتة. ولعظم شأن معاني هذه الآية رءف فيها أداة التنبيه ليتنبّه القارئ إلى معانيها ويتذكر ويتفكر فيما انطوت عليه هذا. ومنا قيل إن هذه الآية تنبىء عن أن علوم الله تعالى غير متناعيه، قيل ولولا يلتفت إليه بل إنها تفضي أن علمه محيط بكل شيء من الأشياء، وتقيد أن كل واحد منها مثناه لا كون مجموعها متناهيا، ولا أن علوم الله متناهية تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بهذه اللفظة غير هذه السورة.
هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة الشورى عدد 12- 62 و 42
نزلت بمكة بعد سورة فصلت عدا الآيات 23 إلى 27 فإنهن نزلن بالمدينة، وهي ثلاث وخمسون آية، وثلاثمائة وستون كلمة، وثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «حم عسق» 1 فصل بينهما بعض القراء وجاءت عليه المصاحف خطأ هكذا (حم) 1 (عسق) 2 ولم يفصل بين (المص) و (كهيعص) و (المر) لأنه وقع بين سور أوائلها حم فقط فأجريت(4/26)
مجرى نظائرها، ويجوز وصلها، وعلى الفصل يكون حم مبتدأ وعسق خبر، وعلى الوصل تكون كلها مبتدأ لخبر مقدر أو خبر لمبتدأ محذوف، وفيه من مبادئ أسماء الله الحسنى الحليم والمالك والعالم والسلام والقهار والقادر، ويكون اسما للسورة، ولا يعلم المراد منه على الحقيقة إلا الله تعالى، راجع تفسير ما قبله، هذا، وإن ما جاء في تفسير روح البيان لاسماعيل حقي وابن كثير في تفسيره من أن ملكا من آل النبي محمد صلّى الله عليه وسلم اسمه عبد الله أو عبد الإله يكون خراب الدولة على يده إلى آخر ما ذكراه، قيل لا ثقة به ولا عمدة عليه، ولا ينطبق على الواقع ولا يوجد ما يؤيده ولا يعرف مصدر نقله ولا من أين تلقيا ذلك، فهي خرافة لا يلتفت إليها، ولذلك لم ننقلها، وإن آل النبي الذين هم آله حقا لا يقع منهم إلا الإصلاح وهم أغير على هذه الأمة وملكها من كل أحد على الإطلاق، وإنك إذا قرأت تلك الأسطورة تمجها وتكذبها من عبارتها، سامحهم الله كم يودعون كتبهم من الغث ما لا فائدة فيه. راجع الآية 58 من الإسراء في ج 1، «كَذلِكَ» مثل ما أوحي إلى الرسل قبلك يا سيدهم «يُوحِي إِلَيْكَ» ربك الذي رباك هذا القرآن «وَ» أوحى كتبا سماوية أيضا «إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ» كموسى وداود وعيسى وصحفا إلى غيرهم كشيث وإبراهيم، وأوحى وحيا بالتكلم وبواسطة الرسل والإلهام لهؤلاء وغيرهم من كافة الأنبياء والرسل ربهم ومرسلهم ومتولي أمورهم «اللَّهُ» الواحد في ملكه «الْعَزِيزُ» الغالب بقهره «الْحَكِيمُ» 3 المصيب في صنعه الذي «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا «وَهُوَ الْعَلِيُّ» الشأن «الْعَظِيمُ» 4 السلطان الذي لا يشغله شأن عن شأن «تَكادُ السَّماواتُ» على عظمهنّ وقوتهنّ «يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ» من عظمته وهيبته ويكدن يتشققن أيضا من قول الكافرين إن له شريكا وإن الملائكة بناته وقول أهل الكتابين إن عزيرا وعيسى ابناه وهو منزه عن الصاحبة والولد والشريك والنظير والوزير والمعين.
هذا، والقياس أن يكون التفطر من تحت وقد بولغ فيه لكبير ما يسنده لصاحب الجلالة والعظمة فأسند إلى الفوق، فيا أيها الناس نزهوا ربّكم عن ذلك كله، وخذوا بقول أنبيائكم عنه كيف لا تفعلون ذلك «وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ»(4/27)
وينزهونه عما يقول الظالمون مما لا يليق بكبريائه من البهت والافتراء «وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ» من المؤمنين الذين يبرثون الحضرة الإلهية مما عزي إليها فانتبهوا أيها الناس لتقديس الملائكة وقدسوا ذلك الإله القوي البرهان، ولأجل أن تنتبهوا لذلك جاء جل جلاله بأداة التنبيه، فقال عز قوله «أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ» لمن يرجع إليه تائبا منيبا «الرَّحِيمُ» 5 بعباده كلهم ومن رحمته يريد لهم الخير ومن عميم إحسانه شاء أن يبدل سيئات من يخلص إليه التوبة حسنات بعظيم فضله وكبير كرمه وجليل رأفته راجع الآية 70 من سورة الفرقان في ج 1، قال تعالى «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» لينصروهم ويشفعوا لهم جهلا وعنادا اتركهم الآن يا حبيبي ما عليك منهم «اللَّهُ» ربك ومالك أمرك وأمرهم «حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ» رقيب على أحوالهم محيط بهم وهو الذي يجازيهم على ذلك إذا بقوا مصرّين «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ» 6 تدافع عنهم وتجهد نفسك لأجلهم لأن أمرهم غير مفوض إليك وإنما أنت منذر لهم فقط وإن قولهم هذا ليس بضائرنا، ولله در القائل في هذا المعنى:
ما حطك الواشون عن رتبة ... عندي ولا ضرك مغتاب
كأنهم اثنوا ولم يعلموا ... عليك عندي بالذي عابوا
«وَكَذلِكَ» مثل ما أوحينا إلى غيرك من الأنبياء ما أنزلناه عليهم من الكتب والصحف والتكلم بلسانهم ولسان أقوامهم لينذروهم بلغاتهم «أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا» بلغتك ولغة قومك «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى» مكة أي أهلها من إطلاق المحل وإرادة الحال فيه بلغتهم دون حاجة إلى ترجمة، لأن الأنبياء يترجمون الموحى المنزل إليهم بلغة قومهم ليفهموه وأنت لم يحجك ربك إلى الترجمة.
مطلب تسمية مكة أم القرى وقوله ليس كمثله شيء وإقامة الدين وعدم التفرقة فيه ومقاليد السموات:
وإنما سميت مكة أمّا لأن الأرض دحيت من تحتها أو لأنها من أشرف البقاع «وَمَنْ حَوْلَها» من البلاد بما يعم منتهى أطرافها الأربع لغاية الشرق والغرب ونهاية الجنوب والشمال، لأن رسالته عامة لجميع أهل الأرض، فلا تقيد هذه الآية(4/28)
رسالته بمن حوالي مكة من العرب وغيرهم، بل عامة كما ذكرنا، راجع الآية 158 من الأعراف في ج 1 والآية 28 من سورة سبأ المارة وغيرها من الآيات الصريحة القاطعة بعموم رسالته صلّى الله عليه وسلم، وكذلك الأحاديث الصحيحة شاهدة على عموم رسالته، ولهذا البحث صلة في الآية 4 من سورة السجدة الآتية فراجعها. «وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ» يوم القيامة وسمي به لقوله تعالى (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) الآية 99 من الكهف الآتية، وقوله تعالى (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) الآية 103 من سورة هود المارة وغيرها ولأن فيه اجتماع الأولين والآخرين وأهل الأرض والسماء «لا رَيْبَ فِيهِ» فهو كائن لا شك وفيه يفترق الناس لا محال منهم «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ» للنعيم والسعادة «وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» 7 للعذاب والشقاوة وذلك بعد أن يحاسبوا في الموقف الذي جمعوا فيه «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً» على دين واحد «وَلكِنْ» لم يشأ ذلك ل «يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ» بتوفيقه للإيمان «وَالظَّالِمُونَ» الذين خذلهم كما سبق في علمه اختيارهم للكفر يدخلهم في عذابه «ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» 8 يمنعهم من العذاب المقدر عليهم «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» أم منقطعة مقدرة ببل وهي حرف انتقال من بيان ما قبلها إلى ما بعدها، والاستفهام لإنكار الوقوع، ونفيه على أبلغ وجه وآكده لإنكار الواقع واستقباحه، كما قيل إن المراد بيان اتخاذهم الأولياء ليس بشيء لأنها أصنام لا تقدر على نصرتهم بل على الحقيقة لأن المعنى اتخذوا أصناما من دون الله وهو باطل، لأن الولي من يقدر على نصرة مواليه وهي ممتنعة في الأوثان، وإذا أرادوا أولياء على الحقيقة «فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ» وحده «وَهُوَ «يُحْيِ الْمَوْتى» وإن الأوثان لا تقدر على إحياء شيء «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 9 والأصنام عاجزة عن كل شيء، وعليه يكون المعنى أن الجدير بأن يتخذوا وليا يقدر على الإحياء والإماتة وعلى كل شيء لا الأوثان العاجزة عن حفظ نفسها. قال تعالى «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ» أيها المؤمنون مع هؤلاء الكافرين من أمر الدين كالتوحيد وإنكار البعث واتخاذ الأوثان آلهة وشركاء مع الله الواحد وجعلهم أولياء لكم من دونه، فلا تكثروا الجدال فيه معهم لأنهم عاتون(4/29)
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
معاندون «فَحُكْمُهُ» أي حكم ما اختلف فيه مفوض «إِلَى اللَّهِ» وحده وهو الذي يحاسبهم عليه ويجازيهم يوم يعاقب فيه المبطلون والظالمون ويثاب فيه المحقون والمهتدون «ذلِكُمُ» الحاكم العدل الذي يقضي بينكم بالحق في ذلك اليوم العصيب هو «اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» 10 أرجع في كل ما يهمني كيف لا وهو
«فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وشافيا عن بعضهما، راجع قوله تعالى (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) الآية 31 من سورة الحج في ج 3 «جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً» قال جل قوله من أنفسكم لأنه خلق حواء من آدم وهي أصل في الزوجات كما قال (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) يريد به آدم، لأنه أصل البشر والمعنى أنه استق حواء من آدم كما استق السماء من الأرض، راجع الآية 27 من سورة الحج وأول آية من النساء في ج 3 والآية 189 من الأعراف في ج 1 «وَمِنَ الْأَنْعامِ» خلق لكم «أَزْواجاً» أصنافا راجع الآية 143 من سورة الأنعام المارة «يَذْرَؤُكُمْ» يخلقكم ويكثركم، لأن ذرّ وذرأ بمعنى كثر وخلق «فِيهِ» أي التزويج المستفاد مما ذكر قبله «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» أبدا فلا يشبه ذاته المقدسة شيء أصلا، ويطلق الشيء على جميع المكونات عرضا كان أو جوهرا، والله تعالى منزه عن ذلك، ولا كاسمه اسم، قال تعالى (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) الآية 66 من سورة مريم في ج 1، والمحال كل المحال أن تكون الذات القديمة مثل المحدثة أو يكون لها صفة حادثة أيضا، وهذا لا يتوقف على تحقيق مثله في الخارج فعلا، بل يكفي تقرير المثل بالقوة فقط لأن ذاته لا يماثلها ذات في الوجود بوجه ما، وكنى بالمثل عن الذات، لأن المماثلة إذا كانت منتفية عمن يكون مثله وعلى صفته، فلأن تكون منتفية عمن يكون كذاته من باب أولى، وتقدم جواز إطلاق الشيء على الله تعالى في الآية 19 من سورة الأنعام المارة، وإقامة المثل مقام النفس شائع في كلام العرب، يقولون مثلك لا يبخل، وهو أبلغ من قولهم أنت لا تبخل، لأنه إذا نفي عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى، قال القائل:
جلّ المهيمن أن تدرى حقيقته ... من لا له مثل لا تضرب له مثلا
لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسدّه فقد نفوه عنه، قال أوس بن حجر:(4/30)
ليس كمثل الفتى زهير ... خلق يوازيه في الفضائل
وقال الآخر:
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم ... ما ان كمثلهم في الناس من أحد
أما قوله تعالى: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) فهو الوصف الأعلى الذي ليس لغيره جلّ شأنه، كما سيأتي في الآية 60 من سورة النحل والآية 27 من سورة الروم الآتيتين إن شاء الله، ويجوز عقيدة إطلاق الشيء على الله تعالى، قال في بدء الأمالي:
نسمي الله شيئا لا كالاشيا ... وذاتا عن جهات الست خالي
«وَهُوَ السَّمِيعُ» لأقوالنا خفيها وجليها لفظها ورمزها «الْبَصِيرُ» 11 بأعمالنا كلها «لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» مفاتحها بيده، وهي وما فيهما ملكه يتصرف فيهما كيف يشاء. وتقدم البحث في هذا في الآية 63 من سورة الزمر بصورة مفصلة فراجعها، «يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» يضيق على من يشاء بحسب الحكمة «إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» 12 ومن مقتصى علمه إعطاء كل ما يستحقه «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً» أي أن الذين الذي شرعه لك ربك يا محمد ليس بشيء جديد، وإنما هو الذي شرعه لمن قبلك من الأنبياء، وقد تطابقت الشرائع على صحته وأجمعت على دعوة أممهم إليه من حيث أصوله الراسخة، لأن الكل مرسلون من قبله على نمط واحد ووتيرة واحدة، فكلهم يدعون إلى توحيد الله وعبادته والاعتراف بأنبيائه، وبالبعث بعد الموت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. «وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» يا أكرم الرسل من القرآن فيه ما أوحينا به لمن قبلك «وَما» أي الذي «وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى» من قبلك عبارة عن أمرنا لهم «أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ» وأمروا أممكم بالاستقامة فيه وواظبوا عليه وشيدوا أركانه يحفظه من الزيغ وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 194 من سورة الشعراء المارة في ج 1، وإنما ذكر تعالى هؤلاء الأنبياء دون غيرهم لأنهم من أولي العزم، ولأنهم أكثر الناس أتباعا، ولأنهم أصحاب الشرائع المعظمة، وقد ذكرهم الله تعالى في الآية 7 من سورة الأحزاب مجتمعين أيضا، لأنهم خمسة لا سادس لهم على القول الصحيح،(4/31)
وإن شأنهم في قدم النبوة أعلى من غيرهم وشهرتهم في الكون أكثر من غيرهم، ولأن جهادهم في استمالة قلوب الكفرة وأهل الزيغ بلغ الغاية القصوى، ولهذا فإن كلّا من الأمم متفقة على نبوتهم وحبهم عدا قسم من اليهود المنكرين نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وتقدم البحث في هذا أيضا في الآية 57 من سورة المؤمن المارة واعلم ممأنه لم يرسل نبي إلا وله شرع أمر بإقامته، وإن الدين عند الله هو دين الإسلام، دين إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء، وخاصة فيما لم يقع فيه اختلاف قط، وهي الأصول الثلاثة: التوحيد والنبوة والمعاد، وتوابع هذه الأصول ثلاثة أيضا: الإيمان بالكتب السماوية وبالقضاء والقدر والطاعة للرسل.
«وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» لأن إقامته مع الاختلاف تؤدي إلى التفرقة وهي مذمومة في غير أمر الدّين فكيف به، هذا أمر الله عباده بإقامة الدين والاجتماع عليه، وتقدم بحث هذا أيضا في الآية 159 من سورة الأنعام المارة فراجعها. وأعلم أن ليس المراد من إقامة الدين هنا الشرائع الأخرى، لقوله تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) الآية 48 من سورة المائدة، لذلك فإن ما يعود المرسل الأول يكون بمقتضى شرائعهم، وما يعود لنبينا محمد وأمته يكون بحسب ما أنزل الله عليه وشرعه على لسانه لأن شريعته ناسخة لما قبلها وباقية إلى الأبد وصالحة لكل زمان، ولهذا ختم بها جميع الشرائع كما ختم بصاحبها باب النبوة، إذ بلغت الكمال اللائق، ولا يصلح الكون إلا بتطبيقها، فعلى أولي الأمر السهر عليها والعمل بها ليتم لهم الأمر ويستتب الأمن، قال تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) الآية 3 من سورة المائدة في ج 3، وقال تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) الآية 85 من آل عمران في ج 3، فيا أيها الناس أرضوا بما رضيه الله لكم، واعملوا به، لأن العمل بغيره لا يقبله الله وتكون عاقبته الخسران «كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ» من رفض عبادة الأوثان ولم يعظم عليهم رفض عبادة الرحمن، لهذا فإنهم ليسوا بأهل لأن يختارهم الله لإقامة دينه «اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده الصالحين لذلك الدين القويم «وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ(4/32)
يُنِيبُ»
13 لجنابه ويرجعه عن خطأه لصوابه. ونظير صدر هذه الآية في المعنى الآية 163 من النساء في ج 3، قال تعالى «وَما تَفَرَّقُوا» أي الأمم السابقة من أهل الكتابين خاصة فمن قبلهم عامة عن الدين القويم والشرع الصحيح «إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ» بصحته من قبل الله على لسان رسلهم وكان ذلك التفريق «بَغْياً بَيْنَهُمْ» على أنبيائهم وحسدا لهم ببقاء الرياسة ليس إلا «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» يا سيد الرسل بتأخير عذابهم «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده لا ينقدم ولا ينأخر لأنه من الأمور المقضية المبرمة في الأزل «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» بتعجيل العقوبة وإنزال العذاب بسبب اختلافهم في الدين وتفريقه «وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ» من أبنائهم وأحفادهم «لَفِي شَكٍّ مِنْهُ» أي الكتاب تقليدا لما كان عليه آباؤهم وأجدادهم، ثم وصف ذلك الشك بأنه «مُرِيبٍ» 14 مبالغة فيه لأن الريب قلق النفس واضطرابها ويسمى الشك مريبا لأنه يزبل الطمأنينة «فَلِذلِكَ» لأجل تفرقهم وبغيهم على رسلهم وشكهم في كتبهم المنوهة بك وبنبوتك وصدق ما جئنهم به من ربك، ولأجل ما شرع لهم من الدين المستقيم الجدير بأن يتنافس فيه المتنافسون «فَادْعُ» إلى الائتلاف والتوحيد اللذين وصى بهما الأنبياء قبلك وإلى الاتفاق على الملة الحنيفية.
مطلب في الاستقامة والمراد بالميزان وآل البيت وعدم أخذ الأجرة على تعليم الدين:
«وَاسْتَقِمْ» عليها أنت وأمنك، وأدم الدعوة إليها «كَما أُمِرْتَ» من قبلنا «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ» الباطلة المختلفة وآراءهم الفاسدة «وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ» أي بجميع الكتب المنزلة من عند الله، لأن النكرة إذا أطلقت عمت، فتشمل كل كتاب أنزله الله من لدن آدم إلى زمنه، وقدمنا ما يتعلق في بحث الاستقامة على الدين في الآيتين 112/ 119 من سورة هود المارة بصورة مفصلة فراجعهما. واعلم أن في هذه الآية تعريضا بالكافرين وبعض أهل الكتاب الذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض من الكتب السالفة والآيات القرآنية، ولهذا قال تعالى على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلم «وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ» فيما أمرني فيه ربي من الأحكام المنزلة عليّ من لدنه فلا أخص بعضا دون بعض،(4/33)
وأبلغ شريعته جميع خلقه الذين أراهم بنفسي، وبالواسطة لمن لم أرهم، وأعدل بينكم في الخصومات إذا تحاكمتم لدي، فلا أجور ولا أحيف على أحد، ولا أخاصم أحدا إلا بالحق ولأجل الحق، لأن الذي أدعوكم إليه هو «اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ» ورب الخلق أجمع فكما لا يختص به واحد دون آخر لا يرضى أن يتميز أحد على أحد بدون الحق، فهذه خطتي التي أمرت بها يا قوم، فإن لم تقبلوا فتكون «لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ» لا تسألون عما أعمل ولا نسأل مما تعملون.
وهذه الجملة على حد قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) الآية الأخيرة من سورة الكافرون في ج 1، وعلي حد قوله (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية 24 من سورة سبأ المارة، وإذ ظهر الحق الصريح فأقول لكم «لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ» ولا خصومة ولا محاججة وجاءت هنا الحجة بمعنى الاحتجاج وهي الأصل «اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا» فيجازي كلا على عمله «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» 15 في الخصومات والمحاججات، ولا وجه لقول من قال بنسخ هذه الآية بآية السيف من المفسرين إذ ليس فيها ما يدل على المتاركة وإقرار الكفار على ما هم عليه من الكفر وإنما هي من باب التعريض راجع الآية 25 من سورة سبأ المارة تجد مثل هذا.
قال تعالى «وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ» ويخاصمون في دينه «مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ» بعد استجابة الناس لدينه ودخولهم فيه فهولاء «حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ.» باطلة زائلة مهجورة غير مقبولة «عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» 16 في الآخرة، وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنه من الناس أجمع، وما قيل إنها نزلت في كفار بدر بعد أن استجاب الله تعالى دعاء حضرة الرسول بظفره عليهم قول لا دليل لقائله عليه، لأن هذه الآية مكية بالاتفاق وواقعة بدر بعد الهجرة وهو لم يهاجر بعد وكذلك القول بحمل الاستجابة على استجابة أهل الكتاب لا يتجه لأن أهل الكتاب لم يباحثهم حضرة الرسول إلا في المدينة ولم يجب دعوته أحد منهم إلا فيها، لذلك فحمل الاستجابة على من أجابه لدين الحق وهو في مكة من أهل مكة، والمحاججون هم روساء الكفر أولى وأنسب في المقام. قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» مفصلا فيه الدلائل(4/34)
والأحكام ليجري عليه الناس «وَالْمِيزانَ» آلة العدل، لأن المراد به والله أعلم نفس العدل والإنصاف والتسوية بين الناس، أنزله أيضا وأمر خلقه فيه ليتحلوا به فيستقيم أمرهم ويعدلوا فيما بينهم. راجع رسالة القسطاس المستقيم للإمام الغزالي رحمه الله تجد أن المراد بالميزان ما ذكرته، لأنه يقول في قوله تعالى (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) الآية 7 من سورة الرحمن في ج 3، إن هذا الميزان الذي قابله الله بالسماء لا يتصور أنه الذي يزن به الناس الخس والبصل مثلا، بل إنما هو العدل الذي به قوام الدنيا والآخرة إلخ، ما جاء فيها. «وَما يُدْرِيكَ» يا سيد الرسل «لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ» 17 حدوثها ولعلّها مظلّة عليك ولا تراها، فعليك أن تأمر الناس باتباع الكتاب وإجراء العدل بينهم قبل أن يفاجئهم الأجل وقبل حلول يوم وزن العمل الذي يظهر فيه الرابح في هذه الدنيا من الخاصر.
واعلم انما «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها» استعجال إنكار واستهزاء فيقولون لك لما تخوفهم بها متى هي، ليتها تأتي الآن حتى يظهر لنا الذي نحن عليه حق أم أنت وأصحابك. وذلك لجهلهم بها وبعظمة الله «وَالَّذِينَ آمَنُوا» بها وصدقوا بوجودها «مُشْفِقُونَ» خائفون وجلون «مِنْها» لعلمهم بحقيقتها وحقيقة ما فيها من الأهوال «وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ» الكائن لا محالة فانتبهوا أيها؟؟؟
«أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ» يجادلون «فِي السَّاعَةِ» ويخاصمون بوجودها جهلا ويشكون بحقيقتها «لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» 18 عن الصواب، لأن البعث بعد الموت أقرب الغائبات بالمحسوسات، لأنه يعلم من إحياء الأرض بعد موتها وغيره من الأدلة العقلية فضلا عن السمعية «اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ» كثير الإحسان إليهم جليل النعم عليهم بالغ البرّ بهم «يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ» من كل نام بحسبه وبقدر ما يكفيه «وَهُوَ الْقَوِيُّ» باهر القوة على كل شيء «الْعَزِيزُ» 19 الغالب على كل شيء المنيع الذي لا يدافع ولا يرافع «مَنْ كانَ» منكم أيها الناس «يُرِيدُ» بأعماله وكسبه «حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ» من واحد إلى عشرة إلى سبعمئة إلى ما لا نهاية والله كثير الخير جليل العطاء واسع الفضل «وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا» مؤثرا لها على الآخرة فإنا أيضا «نُؤْتِهِ(4/35)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)
مِنْها»
ما قدرناه وقسمناه له فيها أزلا لا نعطيه غيره «وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» 20 أبدا لأن همته كانت مقصورة على الدنيا، ومن كان كذلك فإنه يؤتى حظه المقدر له من كل ما فيها كاملا ويكافأ على أعماله الحسنة كالصدقة والصلة وقول المعروف وإماطة الأذى وغيرها من عافية ورزق وجاه وولد وغيره، فيأتي في الآخرة محروما من ثوابها، لأنه لم يقصد بها وجه الله،
قال تعالى «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ» من الأوثان «شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ» من الشرك فيه وإنكار البعث والكتب والرسل والجنة والنار. والاستفهام هنا إنكاري أي ليس لهم شرع ولا شارع على حد قوله تعالى (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) الآية 43 من سورة الأنبياء الآتية، قال تعالى مهددا لهؤلاء الفجرة «وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ» السابقة منا بتأخير العذاب «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» بإنزاله وفرغ من عذابهم وجدالهم وإنكارهم «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ» أنفسهم بالكفر أمثال هؤلاء «لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 21 في الآخرة غير عذاب الدنيا ويوم القيامة بأكرم الرسل «تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا» خائفين أشد الخوف من وبال أعمالهم الدنيوية «وَهُوَ» أي العذاب المترتب عليهم جزاء أعمالهم «واقِعٌ بِهِمْ» لا محالة لأنه محتم عليهم أزلا «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ» يكونون في أطيب بقاعها جزاء لأعمالهم الحسنة «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ» فيها من كل ما لذّ وطاب وخطر بالبال «عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ» الجزاء الحسن «هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» 22 الذي لا أكبر منه لأنه من الإله الكبير، وهذه الآيات المدنيات في هذه السورة. قال تعالى «ذلِكَ» النعيم العظيم «الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ به عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» بأن قرنوا أعمالهم الطيبة بفعل ما هو صالح لأن الإيمان بلا عمل كالصوم بلا صلاة والحج بلا زكاة «قُلْ» يا حبيبي لمن تبلغهم أحكامي «لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ» أي التبليغ «أَجْراً» جعلا ما ليكون مدار للتهمة والظن بي، ولا أطلب منكم شيئا عما أبلغه لكم من كلام ربي ولا لموعظة ما لإرشادكم «إِلَّا» شيئا واحدا «الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» لا غيرها أريد منكم أبدا، قال ابن عباس لم تكن بطن من قريش إلا وله صلّى الله عليه وسلم فيهم قرابة، لهذا(4/36)
قال لا أريد منكم لقاء نصحي وإرشادي للأخذ بكلام ربي إلا أن تحفظوا قرابتي وتصلوا رحمي وتكرموهم، لأن هذه الآية نزلت في الأنصار حينما قالوا له تمنّ علينا يا رسول الله، قال لا أريد شيئا إلا المودة في القربى. قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه فيما يرويه البخاري عن ابن عمر ارقبوا محمدا في أهل بيته. وروى مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إني تارك فيكم ثقلين أولها كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم في أهل بيتي، كررها صلّى الله عليه وسلم تأكيدا في حبهم وإكرامهم والصحيح أن أهل بيته نساؤه ومن حرمت عليهم الصدقة بعده، وآل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس رضوان الله عليهم. وهذا الطلب لا يسمى أجرا بالنسبة لقريش في الحقيقة، لأن قرابته قرابتهم، فتكون مودتهم لازمة بل يكون فيه الأجر بالنسبة للأنصار المخاطبين في هذه الآية. أخرج الترمذي عن ابن عباس قال قال صلّى الله عليه وسلم أحبّوا الله لما يغذوكم به، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبّي.
وعلى كل لا يقال إنه لا يجوز طلب الأجر على تبليغ الرسالة، لأن ذلك ممنوع إذا كان أجرا ماديا كالدراهم وغيرها، أما الكفّ عن أذية أهله وإرادة مودتهم فلا يسمى أجرا بالمعنى المتعارف، وعليه فإن طلب المودة في القربى ليس بأجر، فيرجع الحاصل على لا أجر البتة، ولهذا فلا ينتقد عليه إلا كما ينتقد على القول فيهم.
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
لأن هذا ليس بعيب يلام عليه، بل يمدح فيه، ولأن المودة بين المسلمين واجبة، فهي في أهل البيت أوجب، ولهذا كان الاستثناء متصلا. أما من جعل الاستثناء منقطعا فقد ركن إلى تقدير فعل (تَوَدُّونَ) وعمد على الوقف على كلمة أجرا أي إلا أن تودوا أقاربي أو تقدير أذكركم المودة في القربى، والأول أولى كما ترى لما في الأخير من لزوم وتقدير ما الأمر في غنى عنه ولا حاجة فيه. هذا ولا معنى لقول من قال إن هذه الآية منسوخة بآية (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) الآية 47 من سورة سبأ المارة، وهي آية مقدمة في النزول على هذه الآية لفظا ورتبة ومن المعلوم أن المقدم لا ينسخ المؤخر، راجع(4/37)
بحث النسخ في المقدمة، وهذا من جملة المرامي التي من أجلها أقدمت على هذا التفسير المبارك ورتبته بحسب النزول ليعلم القارئ خطأ القائلين بنسخ أمثال هذه الآية متى ما عرف أنها متقدمة، لأن العلماء رحمهم الله أكثروا من أقوالهم بالنسخ ومنهم من تغالى فيه حتى خالف الأصول التي وضعت لمعرفة الناسخ والمنسوخ كهذه الآية وآيات الإخبار والوعد والوعيد وغيرها، سامحهم الله. وليعلم أن مودته صلّى الله عليه وسلم وأقاربه وكفّ الأذى عنهم من فرائض الدين، فقد روي أنه لما نزلت هذه الآية قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال علي وفاطمة وابناهما. وقد أجمع السلف والخلف الصالحون على مودتهم، فلا يصح القول بوجه من الوجوه بنسخ هذه الآية أبدا، وعفا الله عن هؤلاء الذين لا هم لهم إلا أن يقولوا هذا ناسخ وهذا منسوخ ولولا الراسخون في العم الواضعون أصول علم الناسخ والمنسوخ والوافقون لأمثالهم على ما يتقولون به من النسخ بالمرصاد لتوسعوا بأكثر من هذا. وأخرج بن جرير عن أبي الديلم قال لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله عنهما أسيرا، أقيم على درج دمشق، فقام رجل من أهل الشام فقال الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم، فقال له علي: أقرأت القرآن؟ قال نعم، قال أقرأت آل حم؟ قال نعم، قال أما قرأت (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ؟ قال فإنكم لأنتم هم؟ قال نعم، قال فأطرق أي ندما على ما قال وأسفا. فانظروا أيها الناس كيف قاتل من قاتل من أهل الشام أناسا لا يعرفونهم ولا يقدرون مكانتهم. راجع الآية 137 من الأعراف في ج 1، وقال علي كرم الله وجهه قال الله فينا في آل حم آية لا يحفظ مودتنا إلا مؤمن. يعني هذه الآية.
وقال الكميت:
وجدنا لكم في آل حم آية ... تأولها منا تقي ومعرب
وقال عمر الهيتي:
بأية آية يأتي يزيد ... غداة صحائف الأعمال تتلى
وقام رسول رب العرش يتلو- وقد صمت جميع الخلائق- قل لا وقال الآخر:(4/38)
أترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جدّه يوم الحساب
وأخرج ابن حبان عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا أدخله الله تعالى النار، وأخرج احمد والترمذي وصححه النسائي عن المطلب بن ربيعة قال دخل العباس على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال إنا لنخرج فترى قريشا تتحدث، فإذا رأونا سكتوا، فغضب صلّى الله عليه وسلم ودر عرق بين جبينه، ثم قال والله لا يدخل قلب امرئ ايمان حتى يحبكم لله تعالى ولقرابتي.
وما أحسن ما قيل:
داريت أهلك في هواك وهم عدا ... ولأجل عين الف عين تكرم
وقد سئل ابن الجوزي في جامع دمشق هل يوجد لهذا المثل في القرآن ما يشير اليه، قال نعم قال تعالى (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) الآية 33 من سورة الأنفال في ج 3 ولهذا أكثر الناس من الثناء عليهم إرضاء لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وطاعة لربه، حتى أنهم أفرطوا بذلك، ومنهم من يمدحهم رياء، قال علي رضي الله عنه لرجل أفرط في الثناء عليه وكان يتهمه في مودته: أنا دون ما نقول وفوق ما في نفسك رضي الله عنه ما أعظمه وأحلمه. قالوا كان الشيخ محي الدين العربي يكره الشريف عونا ويندد به، فرأى في النوم السيدة فاطمة رضي الله عنها وهي معرضة عنه، فقال لها لماذا يا سيدتي؟ فقالت لكراهتك عونا، فقال أما تعلمين ما يفعل من المظالم؟ فقالت له أما تعلم أنه منا أهل البيت؟ فانتبه مرعوبا لشدة غيظها عليه، فذهب اليه، فلما رآه عرف الغضب في وجهه لما كان يسمعه من ذمه، فقال على رسلك يا ابن بنت رسول الله والله ما جاء بي إليك وأنت تعلم ما أنا عليه من كراهتك إلّا اني رأيت كذا وكذا، ولهذا جئتك معتذرا، فلما سمع منه الرؤيا تهلل وجهه، وقال اشهد يا محي الدين اني أشهد الله بأني تبت اليه من كل ما كنت أفعل ولا أعود اليه وحسن حاله بعد ذلك. رحم الله الجميع رحمة واسعة فهؤلاء أهل البيت أيها الناس، حبهم ايمان وبغضهم كفر اهـ ملخصا من الفتوحات المكية، وكلما كانت جهة القرابة أقوى كان طلب المودة أشد، وقد تساهل الناس في هذا الزمن في حبهم حتى انهم لم يلتفتوا إليهم، وأفرط آخرون فجعلوا(4/39)
حبهم رفضا وسلكوا محببهم في سلك الروافض وهم فرقة من إخواننا الشيعة لا الشيعة أنفسهم الذين يفضلون عليا فضله الله على غيره من الأصحاب رضوان الله عليهم أجمعين لقرابته من رسول الله ومصاهرته له ولقوله إن عليا مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي. ولأن نسبه بسببه، ولميزات أخرى كثيرة سنأتي عليها في غير هذا الموضع إن شاء الله. وآخرون قالوا بحبه وادعوا فيه ما هو براء منه، وهو من التفريط بمكان، أما أنا فأقول ما قاله الشافعي رحمه الله:
ان كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
ولكنه ليس برفض من واجبات الدين، ولكن بلا تفريط ولا افراط، وقد سئل الإمام الجوزي عن المثل السائر (مدّ رجلك على طول فراشك) هل يوجد في القرآن ما يشير اليه؟ قال نعم قال تعالى (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) الآية 45 من سورة الفرقان في ج 1 أي لا إفراط ولا تفريط، رحمه الله ما أكثر دقة نظره في القرآن وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية 38 من سورة الانعام فراجعها. وعلى هذا فيجب على كل مؤمن احترامهم وتعظيمهم والقيام بحقوقهم وقضاء مصالحهم وعدم النظر إلى بعض هفواتهم، فإن غصن الشجرة منها وإن مال، والعبرة بالخاتمة نسأل الله حسنها، قال تعالى «وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً» مضاعفا «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» 23 للمحبين الطائعين «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» بما جاء به من الكتاب وقد كذبوا «فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ» فينسيك القرآن أو يجعلك من المختوم على قلوبهم لو كذبت علينا يا محمد، لأنه لا يجترئ على افتراء الكذب علينا إلا من كان كذابا مثل بعض قومك، وهذا تعريض حسن بأنهم هم المفترون المطبوع على قلوبهم، لأن الكلام جاء بمثابة التعليل لقولهم، وقد أتى بأن بدل إذا مع أن عدم مشيئته تعالى مقطوع به إرخاء للعنان ليفهموا بأنه لو كان محمد نفسه فعل ذلك لختم على قلبه، وهو معصوم بعصمة الله محال عليه أن يقع منه شيء يغضبه، فكيف بغيره «وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ» وهذا تأكيد بأن ما يقوله(4/40)
محمد صلّى الله عليه وسلم ليس بمفترى، وكيف يكون مفترى ومن عادته تعالى أن يمحق الباطل «وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» المنزلة على رسوله بطريق الوحي «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» 24 ودخائلها وخفيات الأمور وبواطنها فلا يخفى عليه شيء مما يحوك في صدورهم وما هو قار في قلب محمد. وهذه الآية تدل دلالة تامة على تنزيهه من الافتراء وطهارة ما هو ثابت في خلده عن أن يصره بشيء من ذلك. وقال بعض المفسرين في هذه الآية إن يشأ يربط على قلبك بالصبر حتى لا يشق عليك أذاهم، وهو حسن ولكن ما جرينا عليه أحسن وأوفى بالمرام وأنسب بالمقام وأليق لسياق الكلام، وقد مشى عليه جهابذة من العلماء، قال ابن عباس رضي الله عنهما لما نزلت (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) الآية، قالوا يريد أن بحثنا على أقاربه من بعده فأخبره جبريل عليه السلام بأنهم لتهموه فأنزل الله تعالى هذه الآية «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» بالتجاوز مما تابوا عنه «وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ» صغارها وكبارها «وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» 25 سرا وعلما من خير وشر. انتهت الآيات المدنيات وهي لها مناسبة بما قبلها وبعدها كما لا يخفى بخلاف غيرها وإن كانت معترضة، فالقاعدة من كونها تأتي معترضة، وإنك إذا حذفتها وقرأت ما بعدها متصلا بما قبلها صح المعنى، أغلبية، تدبر. قال تعالى «وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» دعوة ربهم ويجيب الله دعاء المؤمنين إذا دعوه وفعل استجاب وأجاب بمعنى واحد، وكل منهما يتعدى باللام للداعي وبنفسه الدماء وعليه قوله:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
«وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» فوق ما يستحقون بحسب أعمالهم «وَالْكافِرُونَ» بالله تعالى الذين لا يدعون ولا يعترفون بألوهيته «لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» 26 جزاء ألفتهم عن دعاء الله وكفرهم به. تدل هذه الآية المكية بأن الله تعالى لا يجيب دعاء الكافرين، وهو كذلك، قال تعالى (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) الآية 16 من سورة الرعد ج 3، ومن قال إنه تعالى يستجيب لهم فإنه على طريق الاستدراج، والمؤمنون على طريق التشريف، وهذه الآية المدنية الرابعة، وقد(4/41)
نزلت في أصحاب الصفّة حينما سألوا رسول الله أن يغنيهم الله من فضله ويبسط عليهم الرزق ويدر عليهم الأموال.
مطلب بسط الرزق وضيقه والتوبة وشروطها والحديث الجامع ونسبة الخير والشر:
قال جل قوله «وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ» بعضهم على بعض، وعتوا عتوا كبيرا، إذا أعطوا زيادة على حاجتهم النسبية لأن الإنسان شرير بالطبع، فإذا وجد الغنى والقدرة والصحة رجع لمقتضى طبيعته، ولو أن الله تعالى يرزق عباده من غير كسب لتفرغوا إلى الفساد، ولكن شغلهم به حكمة منه قال الشاعر:
إن الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للمرء أي مفسدة
وقال الآخر:
عليك بالقصد لا تضب مكاثرة ... فالقصد أفضل شيء أنت طالبه
فالمرء يفرح بالدنيا وبهجتها ... ولا يفكر ما كانت عواقبه
حتى إذا ذهبت عنه رفارقها ... تبين الغين فاشتدت مصائبه
وعلى القانع أن يثق بالله فإنه لا يضيعه ويعطيه ما يكفيه وليقل كما قال:
أتتركني وقد أيقنت حقا ... بأنك لا تضيع من خلقت
وأنّك قاسم للرزق حتما ... تؤدّي ما رزقت كما قسمت
وإني واثق بك يا إلهي ... ولكن القلوب كما علمت
«وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ» لمن يشاء بقدر حاجته «إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ» 27 بما يناسبهم يغني هذا والغناء خير له ويفقر هذا والفقر خير له بمقتضى حكمته، فلو أغناهم جميعا أو أفقرهم جميعا لتعطلت مصالح الكون، ولا يخفى ان البغي مع الفقر أقل منه مع البسط، وكلاهما سبب ظاهري للإقدام على البغي، والإحجام عنه، فلو عم البسط القلب البغي حتى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن. ولهذا يشير قوله صلّى الله عليه وسلم إذا أحب الله عبدا حماه الدنيا كما يضل أحدكم يحمي مقيمه الماء. وإلى ذلك يوعز سبب النزول المشار اليه أعلاه، وينظر إليه قول خبّاب بن الأرت: نظرنا إلى أموال بني قريظة،(4/42)
والنضير وبني قينقاع فتمتيناها، فنزلت هذه الآية. ولا يضرّ تعدد أسباب النزول، فقد تكون آية واحدة لأسباب كثيرة. هذا، واعلم أن التوبة واجبة في كل ذنب، وشروطها أن يقلع عن المعصية، وأن يندم على فعلها، وأن يعزم على أن لا يعود أبدا «فإن فقد أحدها لا تصح، وهذا فيما يتعلق بالذنوب التي بين العبد وربه، أما إذا كانت بين الناس يزبد عليها شرط رابع وهو الاستحلال من صاحبها وإبراء ذلك من كل حق، مثلا إذا كان غصب مالا من أحد فيجب ردّه اليه أو مسامحته من قبله، وإن قولا أو فعلا فبالمسامحة والعفو من قبله، وإن لم يعين له ما قال وما فعل إذ قد يكون مما لا يقال خشية الفتنة فيكون الإفشاء أشد ضررا من الذنب. وليعلم أن مصائب الدنيا لا تختص بواحد دون آخر فيشترك فيها الصديق والزنديق، إلا ان المؤمن أكثر مصابا من غيره، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم: خص البلاء بالأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. أو ان أكثره في هؤلاء لأنه لا يتعداهم تدبر. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: والله اني لأستغفر الله وأتوب اليه في اليوم أكثر من مائة مرة، وفي رواية للغزالي انه صلّى الله عليه وسلم قال إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة، وذلك لترقيه سبعين مقاما عما كان فيه حيث يرى دائما بعدا بين حالته الحاضرة والماضية بسبعين درجة، ولهذا قيل حسنات الأبرار سيّئات المقربين، لأن الأبرار إذا وصلوا إلى درجة المقربين رأوا أنفسهم مقصرين، وان عملهم الأول يحتاج إلى توبة واستغفار. وروى مسلم عن الأعز بن يسار قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا أيها الناس توبوا إلى الله جميعا، فاني أتوب إليه في اليوم مائة مرة. ورويا عن عبد الله بن مسعود قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لله أفرح بتوبة عبده من المؤمن من رجل نزل في أرض دويّة مهلكة (أي فلاة لا ماء فيها ولا نبات والمفازة في الجبل والأرض الوعرة وتسميها العامة الدوّة) معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد الحر والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها طعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده. وفي رواية لهما من لفظ(4/43)
مسلم: فأخذ بخطامها ثم قال من شدة فرحه اللهم أنت عبدي وأنا ربك من شدة الفرح، أي بدلا من أنت ربي وأنا عبدك. وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها. وروى انس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله عز وجل من أهان لي وليا بارزني بالمحاربة، واني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحرود، وما تقرّب إليّ عبدي المؤمن بمثل ما افترضته عليه، وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته
ولا بد له منه، وإن في عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة، فأكفه عنه ان لا يدخله عجب فيفسده ذلك، وان من من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وان من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانهم إلا الفقر، فلو أغنيته لأفسده ذلك، وان من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو صححته لأفسده ذلك، إني أدير أمر عبادى بعلمي بقلوبهم، إني عليم خبير، أخرجه البغوي بإسناده وهذا الحديث الجامع لأحوال العباد من أحاديث الصفات، وقدمنا ما يتعلق بأمثاله في الآية 158 من الأنعام المارة، وفيها ما يرشدك إلى المواقع التي فيها ما يتعلق بذلك، فراجعها.
وجاء عن صفوان بن عسال المرادي قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله جعل بالمغرب بابا عرضه مسيرة سبعين عاما للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله، وذلك قوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) الآية 158 المنوه بها أعلاه، أخرجه الترمذي حديث حسن صحيح انتهت الآية المدنية، وهي كالتي قبلها. قال تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا» أي اشتد يأسهم من نزوله، الله حبسه عنهم ولا يعلمون وقت إطلاقه «وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ» بقيض الغيث عليهم(4/44)
«وَهُوَ الْوَلِيُّ» الذي يتولى أمور عباده بإحسانه ولطفه بسائق رأفته «الْحَمِيدُ» 27 على انعامه المحمود على إنزال بركات السماء وبسط منافعها، المتعطف على خلقه بما ينفعهم وكشف ما يضرهم، وقد ذكرهم الله تعالى في هذه النعمة لأن الفرح بعد الشدة بحصول النعمة اتمّ وأدعى للشكر. قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ» أوجد وفرق «فِيهِما مِنْ دابَّةٍ» هي لغة ما دبّ على وجه الأرض، وعرفا ذوات الأربع من الحيوان فقط «وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ» بعد تفرقهم وتشتتهم «إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ» 29 وجاز إطلاق لفظ الدابة على من في السماء لأن الدبيب لغة المشي الخفيف ويحتمل أن يكون للملائكة مشي مع الطيران أو أن الله تعالى خلق فيها أنواعا من الملائكة أو أصنافا من الحيوانات يدبون دبّا كالإنسان، أو أن الملائكة أنفسهم قد يتمثون بالبشر فيمشون مشيا، لأن لهم التشكل بصور غير صورهم، كجبريل حينما تمثل للنبي مرة بصورة أعرابي في حديث الإيمان والإسلام والإحسان، ومرة بصورة دحية الكلبي، قال تعالى «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ» من الذنوب، لأن جل البلاء من الأوجاع والقحط والغرق والحرق وغيرها من المصائب يوجدها الله تعالى عقوبة لمقتر في الأعمال المكروهة، وقد يوجدها عفوا للثواب كما ذكر آنفا، وبما أن البشر هو المسبب لعملها نسبها الله إليه، وإلا في الحقيقة كل من عند الله، قال إبراهيم عليه السلام بعد أن نسب الهداية والطعام والشراب لله تعالى «وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) الآية 80 من سورة الشعراء ج 1، نسب الشفاء لله كما نسب الإحياء والإماتة إليه، لأنها متحققة منه لا علاقة للعبد وغيره فيها البتة، ونسب المرض لنفسه لأن أكثر أسبابه من الأكل والشرب والحر والقر وإن كانت بإيجاد الله تعالى، إلا أنه هو المسبب لها باختياره ورغبته، وهذا من قبيل التأدب مع الله تعالى، إذ ينبغي للعاقل أن ينسب الخير إلى الله والشر لنفسه، لأن اقترافه له برضاه وشهوته، وإن عقابه عليها من هذه الحيثية «وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» 30 من الذنوب فلا يعاقب عليها وعن كثير من خلقه فلا يجازيهم على سيئتهم.
روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي ثميلة قال: قال علي رضي الله عنه ألا أخبركم(4/45)
بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم (وَما أَصابَكُمْ) الآية هذه وسأفسرها لكم يا علي، ما أصابكم من مصيبة أو مرض وعقوبة أو بلاء في الدنيا فيما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثني عليكم عقوبته في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه. وفي هذا الحديث بشارة عظيمة للمؤمنين المصابين، اللهم إنا نسألك العفو والعافية وأن ترزقنا الصبر إذا ابتلينا، وتعظم لنا الأجر عليه. وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يصيب المؤمن شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة. وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو لله عنه أكثر. قال ابن عطاء من لم يعلم أن ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه وأن ما عفا عنه مولاه أكثر، كان قليل النظر في إحسان ربه إليه.
مطلب أرجى آية في القرآن والقول بالتناسخ والتقمص وفي معجزات القرآن وبيان الفواحش والكبائر:
وقال علي كرم الله وجهه: هذه أرجى آية في القرآن لأن الكريم إذا عاقب مرة لا يعاقب ثانيا وإذا عفا لا يعود. راجع الآية 84 من سورة الإسراء والآية 5 من سورة الضحى في ج 1 والآية 160 من سورة الأنعام والآية 53 من سورة الزمر المارتين. هذا، وقد تعلق في هذه الآية من يقول بالتناسخ بحجة أنه لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لما تألموا، مع أن السياق والسياق من هذه الآية يدلان على أنها مخصوصة بالمكلفين أصحاب الذنوب فإن من لا ذنب له كالأنبياء قد تصيبهم مصائب، لما جاء في الخبر: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، كما مر آنفا، ويكون ذلك لرفع درجاتهم أو لحكم أخرى خفيت علينا، فالأطفال والمجانين غير داخلين في الخطاب لأنهم غير مكلفين، وبفرض دخولهم أخرجهم التخصيص بأصحاب الذنوب فيما يصيبهم من المصائب، فهي لحكم خفية، قيل مصائب الطفل رفع درجته ودرجة أبويه أو من يشفق عليه بحسن الصبر، لا لأن لهم حالة سابقة كما زعموا، ثم إن المصائب قد تكون عقوبة على الذنب(4/46)
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
وجزاء عليه بحيث لا يعاقب عليه يوم القيامة بدليل الأحاديث المذكورة آنفا، فلا وجه إذا لما تعلق به القائل بالتناسخ ولا دلالة في الآية. والقائلون بالتناسخ هم فرقة من الفلاسفة يعتقدون أن الروح إذا ماتت ولم تستكمل فضائلها تنسخ أي تنقل إلى نطفة أخرى لاستكمال الفضائل المزعومة، ويقرب من هذه عقيدة الدروز الذين يقولون بالتقمص أي إذا مات الميت تتقمص روحه أي تنقل إلى إنسان أو حيوان ولد ساعة موته، وهذه عقائد عقلية ساذجة لا أصل لها ولعلها سرت عليهم من الخوارج الخارجين عن شرائع الإسلام (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) ، والدين عند الله هو الإسلام دين أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام
«وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» الله ولا فائتينه عن أن يصيبكم بذنوبكم بل هو قادر عليكم لا تستطيعون الهرب من قضائه والتفلّت من قبضته «وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» إذا أراد معاجلتتكم بالعقوبة «مِنْ وَلِيٍّ» يدافع عنكم «وَلا نَصِيرٍ» 31 ينصركم ويحميكم منه «وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ» السفن الجاريات على الماء «فِي الْبَحْرِ» والأنهار التي هي في عظمها «كَالْأَعْلامِ» 32 الجبال العالية وأصل العلم بفتح العين الأثر الذي يعلم به الشيء كعلم الطريق والجيش، ولذلك سمي الجبل علما سواء كان عليه نار كما قالت الخنساء:
وإن صخرا لنأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
أو لم يكن قيل إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما سمع قولها هذا قال قاتلها الله ما رضيت بتشبيهه بالجبل حتى جعلت على رأسه نارا. وهذه الآية من الإخبار بالغيب أيضا، لأنه عند نزولها لم تكن هذه المراكب الضخمة، والبواخر العظيمة التي هي حقيقة في كبرها كالجبال، فسبحان من أودع كتابه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة وما بعده، لأن فيه ما يكون من حالتي أهل الجنة والنار بعد يوم القيامة أيضا، قال تعالى «إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ» تلك السفن «رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ» أي البحر أو النهر، لأن السفن إذ ذاك والآن أيضا تجريها الرياح بالشراع «فإذا سكنت وقفت بخلاف سفينة سيدنا نوح الجسيمة التي كان سيرها ووقوفها بكلمة اسم الله راجع الآية 46 من سورة هود المارة، وهذا معجزة له(4/47)
عليه السلام، أما المراكب العظيمة ذوات المحركات وإن كانت تسير بقوة البخار فإن الرياح تؤثر فيها تأثيرا قد يلحىء ربانها إلى الوقوف إذا رأى مريا خوفا من الغرق لأنه لا يقدر أن يسيرها بانتظام لما تلعب فيها الرياح يمينا وشمالا حتى تكون كالكرة بيد الشاب، فيمشيها بتؤده لأنها مهما عظمت فهي عند اشتداد الريح وهيجان البحر كتبنة صغيرة، وقد رأيناها عيانا هكذا بسفرنا إلى الحجاز، وممن عظيم ما رأينا لم تسمح أنفسنا بالعودة بحرا ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لزيارة بيته الحرام وضريح نبيه عليه الصلاة والسلام «إِنَّ فِي ذلِكَ» المذكور من آيات الله «لَآياتٍ» عظيمات دالات على قدرة القادر وعبرة مؤثرة «لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» 33 لنعم الله من كاملي الإيمان، لأن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر، وهذه صفه المؤمن يصبر في الشدة وبشكر في الرخاء فيظفر بمطلوبه كما قيل:
وقلّ من جد في أمر يطالبه ... واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
قال تعالى «أَوْ يُوبِقْهُنَّ» يغرقهن ويهلكهن «بِما كَسَبُوا» ركابها من الذنوب الموجبة لذلك، لأن السفن لا جرم لها، ولهذا عاد الضمير على راكبيها وعود الضمير على ما ليس بمذكور جائز إذا تقدم ما يدل عليه أو كان معلوما كما هنا، راجع الآية 4 من سورة القدر في ج 1، «وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ» 34 بأن ينجيهم بفضله ورحمته ومنّه وعطفه ولطفه «وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ» 35 محيد يحيدون عنه ويلجأون إليه إذا وقفوا في مثل هذه الشدائد وعرفوا بطل جدالهم. واعلم أن (وَيَعْلَمَ) في صدر هذه الآية جار على الاستئناف على قراءة نافع وابن عامر، وقرأ الباقون بالنصب عطفا على تعليل محذوف، أي لينتقم منهم وليعلم الذين يجادلون إلخ، «فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ» أيها الناس من الحطام «فَمَتاعُ الْحَياةِ» في هذه «الدُّنْيا» تتمتعون فيها به لانقضاء آجالكم، ثم تتركونه، وهذا مما يستوي فيه المؤمن والكافر «وَما عِنْدَ اللَّهِ» من الثواب الذي خبأه لكم بمقابل أعمالكم الصالحة «خَيْرٌ» من زخارف الدنيا وجاهها «وَأَبْقى» منها وأدوم وأحسن «لِلَّذِينَ آمَنُوا» بنعيم الآخرة «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» 36 في أمورهم كلها،(4/48)
وما قيل إن هذه الآيات نزلت في أبي بكر رضي الله عنه حين تصدق بكل ماله لا يتجه، لأن هذه الآية مكية وهو رضي الله عنه تصدق بالمدينة لا بمكة، لهذا فإنها عامة في كل من اتصف بما جاء فيها، ويدخل فيها الصديق دخولا أوليا، لأنها غير مقيدة بزمان فتشمل كل من هذا شأنه إلى يوم القيامة. ثم قسم الله تعالى عباده من جهة التحمل إلى ستة أقسام فقال أولا «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ» كالشرك بالله ونسبة الولد والزوجة إليه تعالى عن ذلك «وَ» يجتنبون «الْفَواحِشَ» كل ذنب عظيم قبحه يسمى فاحشا كالزنى واللواطة والقذف والسرقة من محل محرم والقتل عمدا، راجع تفصيلها في الآية 32 من سورة الأعراف في ج 1 «وَإِذا ما غَضِبُوا» على من أساء إليهم «هُمْ يَغْفِرُونَ» 37 إساءته لا يعاقبونه عليها ويكظمون غيظهم حلما وعفوا، فهؤلاء داخلون في قوله تعالى:
(وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) الآية 134 من آل عمران في ج 3، ثانيا «وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ» لما دعاهم إلى الإيمان به «وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» إذا أرادوا عمل شيء يهمّ المجتمع تذاكروا فيه فيما بينهم لا يستبدون برأيهم، فقد ورد: ما تشاور قوم إلا هدوا لما فيه رشدهم، «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» 38 في سبيل الخير ووجوه البر. واعلم أن المشورة هي استخراج الرأي بمراجعة الناس بعضهم إلى بعض، فتحصل من تصادم الآراء واحتكاك الأقوال النتيجة المرضية التي يجمع عليها للتشاورون أو أكثرهم، كما تحصل النار من قدح الحجر بعضه ببعض أو بالزناد. وتشير الآية إلى مدح المشاورة والمتشاورين، وقد جاء في الخبر: ما خاب من استشار ولا ندم من استخار. أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: من أراد أمرا فشاور فيه وقضى هدي لأرشد الأمور. وأخرج عبد بن حميد والبخاري في الأدب وابن المنذر عن الحسن قال: ما تشاور قوم قط إلا هدوا وأرشد أمرهم، ثم تلا هذه الآية. وقد كانت الشورى بين النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه فيما يتعلق بمصالح الحروب، وكذا بين الأصحاب رضي الله عنهم بعده، وكانت بينهم في الأحكام كقتال أهل الردة وميراث الجد وعدد حد الخمر وغير ذلك مما لم يرد فيه نص شرعي، لأن(4/49)
الشورى تكون إذا لم يكن نص، ولهذا أتت القاعدة الشرعية (لا اجتهاد في مورد النص) هذا في الأحكام والحدود، أما في الأمور الإدارية والسياسية والتي مصدرها العرف والعادة فيؤخذ بما يقر عليه رأي الجماعة، لأن الأمة لا تجمع على ضلالة. وفيما يتعلق بالحروب لا بأس من اتخاذ ما لم يتخذه العدو، لأن الحرب خدعة، ولذا جاز فيه الكذب على العدو. أخرج الخطيب عن علي كرم الله وجهه قال: قلت يا رسول الله الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن ولم يسمع منك فيه شيء؟ قال اجمعوا له العابد من أمتي واجعلوه بينكم شورى، ولا تقصوا برأي واحد.
فعلى هذا ينبغي أن يكون المستشار عاقلا عابدا وأن يؤخذ بقول الأكثر كما يستفاد من قوله ولا تقضوا برأي واحد. وأخرج الخطيب أيضا عن أبي هريرة مرفوعا:
استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا. والشورى على هذا الوجه من جملة أسباب صلاح الأرض، ففي الحديث: إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم أسخياءكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم أشراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها. وقيل:
إذا استشارك عدوك فاخلص له النصيحة لأنه بها خرج من عداوتك ودخل في مودتك.
وهذه الآية عامة محكمة نافذة إلى الأبد، حكي عن ابن الفرس أن هذه الآية نزلت بالمدينة وقد انفرد وحده بهذا إذ لم يقل به غيره، وان الغرس ما احتج به على ذلك من أن وقوع المشورة في القتال وغيره لم يكن إلا في المدينة لا يؤيد كون هذه الآية مدنية، لأن كثيرا من الآيات المكيات تنطبق على حوادث وقعت في المدينة، وكثيرا من الآيات المدنيات تنطبق على وقائع حدثت في مكة، فلا يعني أن هذا مكي وذلك مدني، لأن إثبات ذلك متوقف على السماع الصحيح والقول غير المطعون فيه من الرجال الثقات، وقدمنا في الآية 32 من سورة النمل في ج 1 ما يتعلق في هذا البحث وله صلة في الآية 159 من آل عمران الآتية في ج 3 فراجعهما، وثالثا «وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ» بأن تعدي عليهم ظلما وعدوانا «هُمْ يَنْتَصِرُونَ» 39 لأنفسهم ممن بغى عليهم من غير تعد عليه مراقبا قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) الآية 195 من سورة(4/50)
البقرة ج 3، وذلك أن المؤمن خلق عزيزا يأبى الذل وسكوته في مثل هذه الحالة هوان فيه ومهانة عليه، وقال تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) الآية 9 من سورة المنافقين ج 3، وعلى هذا يؤول قول الإمام الشافعي: زن من وزنك، بما اتزنك. وما وزنك به فزنه. من جاء إليك، فرح إليه. ومن جفاك، فصدّ عنه. ومع هذا إذا عفا وهو قادر على الانتصار لنفسه فهو أحسن وقد أخذ بالعزيمة وهي أحسن من الرخصة إذا لم يكن فيها إغراء للسفيه إذ يكون حط من الكرامة وقد يأباها خلق المؤمن، قال:
ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمّته ... وذا يشجّ فلا يرثي له أحد
وقال الآخر:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وقال الآخر:
فوضع الندى في موضع السيف بالعدى ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
أما إذا كان يملك نفسه كالقائل:
إذا فاه السفيه يسب عرضي ... كرهت أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلما ... كعود زاده الإحراق طيبا
وقول الآخر:
فأعرض عن شتم الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
فلا بأس، فقد أخذ بالعفو والصفح المحمودين، وكان من ذوي النفوس الطاهرة النقية يأبى أن يطرأ عليها معنى الذل وخاصة إذا كان يقصد تحمل الأذى قربة إلى الله تعالى فلا يحب الانتصاف لنفسه، فهو من الكاملين ولا يظن به ما يظن بغيره من الهوان والضعف. وإذا كان الإعراض عن المقابلة تمدها كقوله في السكوت عن إجابة اللئيم في سبابه:
ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني ... فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلما ... كعود زاده الإحراق طيبا(4/51)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
فلا بأس أيضا لأنه مهما كان يعد من مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب. ورابعا المقابلة المعنية بقوله تعالى «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ» عملها المساء إليه بالسيء هي أيضا «سَيِّئَةٌ مِثْلُها» لأنه إذا جازى الرجل من أساء إليه بمثل إساءته له فقد أساء أيضا، إلا أنه لا يجازى على ذلك، لأنها بالمقابلة بلا زيادة، لهذا سمى جزاء السيئة سيئة أيضا، لمشابهتها لها صورة وإلا فليست بسيئة حقيقة، وبما أن الله تعالى لا يرغب الانتصار للنفس ويحب العفو فقد سمى الانتصار سيئة، ولهذا أعقبها بقوله «فَمَنْ عَفا» عمن أساء إليه «وَأَصْلَحَ» بغض النظر عن العقوبة ولم يجابه خصمه بمثل سيئته «فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» ومن كان أجره على الله سعد وفاز، لأن الله تعالى يكافىء عن القليل كثيرا، ومن انتقم حرم من هذا الأجر العظيم، لأن الانتقام قد يقع فيه تعدي لأنه من الصعب أن يقابل التعدّي بمثله تماما، ولهذا حذر الله تعالى عن التعدي المستلزم للظلم، فختم هذه الآية بقوله عز قوله «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» 40 الذين يتجاوزون حد الانتصار والبادئين غيرهم بالظلم لا بالمقابلة، وعلى كل البادي أظلم.
خامسا قال تعالى «وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ» لنفسه بأن قابل الاعتداء بمثله لأن نفسه لم تسمح بالعفو وليس من أولي التحمل ولا التمدح «فَأُولئِكَ» الآخذين تارهم ذيّا عن كرامتهم وحفظا لعزّهم «ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ» 41 يؤاخذون به لأنهم أخذوا بالعزيمة وفعلوا ما خول لهم فلا عقاب عليهم ولا عتاب ولا عيب عليهم «إِنَّمَا السَّبِيلُ» الطريق الموجب للعقوبة يكون «عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ» مبدئيا بلا سبب «وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ» يفسدون فيها ويتكبرون على أهلها ويعملون المعاصي ويطفون على الناس «بِغَيْرِ الْحَقِّ» تجبرا وأنفة وأنانية بقصد التعاظم عليهم «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 42 في الآخرة غير الذي يبتليهم الله به في الدنيا مما لم يعف عنه، إذ قد يسلط عليهم من هو أظلم منهم فينتقم لذلك المظلوم. وقد جاء في الخبر: الظالم سيفى انتقم به وأنتقم منه. قال تعالى في وصف الصنف السادس وهو أحسنهم «وَلَمَنْ صَبَرَ» على ما نابه من الغير «وَغَفَرَ» له تعديه عليه فضلا عن أنه لم يقابله به ولم يؤنبه عليه ولم يعاتبه به أيضا مع قدرته على الانتقام «إِنَّ ذلِكَ» الصبر على الأذى(4/52)
مع المغفرة عمل مبرور. ولهذا أشار إليه بالصبر إعلاما بحسنه وتعاظمه على النفس إذ قل أن تجد من يتخلق بهذه الأخلاق الحميدة غير الأولياء وقليل ما هم، ولهذا أشار تعالى بجليل ثوابه وكبير أجره وجميل عمله عنده بقوله عزّ قوله «لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ 43 التي أمر الله تعالى بها خلّص عباده لأن الصبر على المكاره من خصال الأنبياء والغفران مع القدرة من أفعال العظماء وهاتان الخصلتان من شأن أولي العزم.
هذا، وقد ذكر الله تعالى في هذه الآيات ألست من قوله (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) إلى هنا اثنتي عشرة خصلة متداخلة، ولذا قلنا ستة أقسام، لأن في كل قسم خصلتين، وكلها من كرائم أخلاق المؤمن وأحاسن صفاته، إرشادا لعباده للأخذ بها، وحثا لهم على التحلي بمكارم الآداب. قال:
وإنما الأمم الأخلاق ما صلحت ... فإن هم فسدت أخلاقهم فسدوا
وقائله حميد بن ثور الهلالي، وإن أمير الشعراء السيد شوقي قال:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فانظر بين المتقدم والمتأخر تجد البون شاسعا. هذا، والتمسك بآداب الأنبياء تعليما للأمراء والحكام أن يتقبدوا بهم، فيفعلوا ما أرشدوا إليه من تلك الخصال العالية، فيكونوا أكبر شأنا من غيرهم، وعلى الناس أن تتأسى بهم، لأن العبد إذا عفا عن أخيه فالله تعالى أولى بأن يعفو عنه، إذ لا يخلو أحد من قصور تجاه مولاه، ومن هنا أخذت قاعدة إسقاط الحق العام تبعا للحق الشخصي. وأعلم أن الله تعالى جعل عباده شطرين، شطر أخذ بالعزيمة التي هي من العزم وهو عقد القلب على إمضاء الأمر بالصبر والمغفرة والصفح مما هو موافق لشريعة سيدنا عيسى عليه السلام، راجع الآية 34 من سورة السجدة المارة، وهؤلاء الذين مدحهم الله تعالى فيها وقليل ما هم، وشطر أخذ بالرخصة وهي الانتصاف والمقابلة بالمثل وهذه من خصائص هذه الأمة التي جعلها الله سبحانه أمة وسطا وخير أمة أخرجت للناس وخير الأمور أوساطها، ومما خصت به من السنّة مما بوافق هذا قوله صلّى الله عليه وسلم:
أنصر أخاك ظالما أو مظلوما. ونصر الظالم ردعه عن الظلم، وخيرها في هذه الآية بين الأمرين الرخصة والعزيمة وندبها إلى ما هو الا حسن بقوله (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ(4/53)
ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)
الآية 55 من سورة الزمر المارة، ومدح هؤلاء بقوله عز قوله (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) الآية 19 منها فراجع هاتين الآيتين ففيهما كفاية. قيل دخل رجل دميم على امرأته وقد تزينت له فقال لها:
لقد أصبحت رائعة في الجمال، فقالت له أبشر فإن مصيرنا الجنة، قال وكيف؟
قالت لأنك أعطيت مثلي فشكرت ولأني ابتليت بمثلك فصبرت، والشاكر والصابر في الجنة. وهذا إذا حسنت النية في الصبر والشكر وكان القصد من الانتصاف والمقابلة ما ذكرناه آنفا في تفسير الآيتين المذكورتين فيكونون ممدوحين أيضا كما يشير إليه سياق التنزيل وسياقه، إذ جاء بمعرض المدح وإلا فلا ثواب ولا عقاب، وقد أثبتنا لك أيها القارئ فيما يلي جملة أحاديث في هذا الموضوع لتلين عريكتك وتخفض جناحك وتجنح إلى العفو رغبة بما يعده الله تعالى للعافين أمثالك في يوم أنت أكثر احتياجا إليه، عنك تمتنع من الانتقام الذي فيه حظ النفس الخبيثة الأمارة بالسوء فتحرم من الأجر المقدر على العفو والصفح، فمنها ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قال موسى ابن عمران عليه السلام يا ربّ من أعزّ عبادك عندك؟ قال من إذا قدر غفر.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا وقف العباد للحساب نادى مناد ليقم من كان أجره على الله فليدخل الجنة، ثم نادى الثانية ليقم من أجره على الله تعالى، قالوا ومن ذا الذي أجره على الله تعالى؟ قال العافون عن الناس، فقام كذا وكذا ألفا فدخلوا الجنة بغير حساب. وأخرج أحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن رجلا شتم أبا بكر رضي الله عنه والنبي صلّى الله عليه وسلم جالس فجعل عليه الصلاة والسلام يعجب ويتبسّم فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي صلّى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر فقال يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت؟ قال إنه كان معك ملك يردّ عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان، ثم قال عليه الصلاة والسلام ثلاث من الحق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله تعالى إلا أعزّ الله عز وجل بها نصره، وما فتح رجل باب عطية(4/54)
يريد بها صلة إلا زاده الله تعالى بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله تعالى بها قلة. وفي هذا الحديث تنبيه لأبي بكر رضي الله عنه على ترك الأولى والأخذ بالعزيمة، ولا وجه لقول من قال إن فيه عتبا من حضرة الرسول وهو فعل بعض ما وقع عليه، والله تعالى يقول في مثله (ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) الآية 41 المارة، لأن التنبيه شيء والعتب شيء آخر، وكذلك لا يعد لوما لأنه لم يقترن بقول الرسول له لم فعلت أو لم قابلته. هذا وقد أمر صلّى الله عليه وسلم بعض الأشخاص برد الشتم فقد أخرج النسائي وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت عليّ زينب رضي الله عنها وعندي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأقبلت عليّ تسبني، فردعها النبي صلّى الله عليه وسلم فلم تنته، فقال لي سبّيها، وفي رواية دونك فانتصري، فسببتها حتى جفّ ريقها في فمها ووجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتهلهل سرورا. وهذا من قبيل التعزير لزينب بلسان عائشة، لما أن لها حقا في الرد، وقد رأى صلّى الله عليه وسلم المصلحة في ذلك ففوض إليها إقامة هذا الحق عنه. الحكم الشرعي: هو أن للقاضي أن يعزر من استحق التعزير بشتم غير القذف، وكذا للزوج أن يعزر زوجته على شتمها غير محرم، وقد يغلب في التعزير حق العبد فيجوز فيه الإبراء والعفو واليمين والشهادة على الشهادة وشهادة رجل وامرأتين، وقد يكون حقا محضا لله فلا عفو فيه إلا إذا علم الإمام انزجار الفاعل فله ذلك، وإذا لم تطاوع نفسه على العفو فعليه السكوت حالئذ لئلا يفرط منه ما لا يتلافى فهو سبيل السلامة قال أحمد بن عبيد:
لعمرك ما شهود الناس إلا ... بلاء والسلامة في الغياب
فغب ما استطعت إلا عن كريم ... يرى لقياك من خير الطلاب
يهدّي إن دللت على صواب ... ويهدي إن زللت إلى الصواب
ويهدي بصدر هذا البيت بمعنى يهتدي. وسيأتي لهذا البحث صلة عند قوله تعالى (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) الآية 178 من سورة البقرة في ج 3 إن شاء الله «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ» يتولى أمره ويهديه إلى رشده «مِنْ بَعْدِهِ» كما أن من يهديه فما له من مضل «وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ» يوم القيامة «يَقُولُونَ» يسألون ربهم ثم بين صورة سؤالهم بقوله عزّ قوله(4/55)
«هَلْ إِلى مَرَدٍّ» إلى الدنيا لنعمل صالحا وهل «مِنْ سَبِيلٍ» 44 إلى ذلك لنؤمن بالله ورسله وكتبه فلا يجابون إلى طلبهم «وَتَراهُمْ» يا سيد الرسل «يُعْرَضُونَ عَلَيْها» أي النار المستفادة من لفظ العذاب آنفا «خاشِعِينَ» متقاصرين متضائلين خاشعين «مِنَ الذُّلِّ» الذي رأوه والهوان الذي حلّ بهم «يَنْظُرُونَ» إلى النار القادمين إليها «مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ» أي بمسارقة لشدة الخوف كنظر المقتول إلى الجلاد والتيس إلى الجزار والمحكوم بالإعدام إلى المشنقة. «وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا» عند رؤيتهم أولئك «إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ» الذين اتبعوهم في الدنيا وعملوا بأعمالهم «يَوْمَ الْقِيامَةِ» إذ عرضوهم للعذاب باتباعهم أعمالهم، وكذلك خسروا الذين لم يتبعوهم من أهليهم لأنهم صاروا إلى الجنة وانفردوا عنهم في النار، فصارت خسارتهم مزدوجة فانتبهوا أيها الناس لهذه الخسارة الفظيعة «أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ» 45 لا يتحول عنهم ولا يتحولون عنه «وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ» من عذاب ذلك اليوم «مِنْ دُونِ اللَّهِ» لأن الأمر كله له «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ» 46 طريق إلى النجاة فلا يصل إلى الحق في الدنيا ولا إلى الجنة في الآخرة، فيا أيها الناس «اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ» وآمنوا به وانقادوا لرسله «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ» حين لا يستطيع من بالكون كله على دفعه أو تأخيره، واعلموا أنه «ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ» يقيكم من عذابه ولا ملتجى تلجأون إليه منه «يَوْمَئِذٍ» يوم يأتيكم وهذا التنوين عوض عن جملة وقد يكون عن كلمة ويكون عن حرف كما سنبين كلا بمحله وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ» 47 مما اقترفتموه من الذنوب لأنكم إذا جحدتموها أقرت بها جوارحكم «فَإِنْ أَعْرَضُوا» عن إجابتك يا حبيبي ولم يلتفتوا إلى نصحك «فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» حتى تهتم بشأنهم ويضيق صدرك من عدم إيمانهم «إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ» لما أرسلت به إليهم ما عليك غيره، وليس لك أن تقسرهم على الأخذ بإرشادك، وقد علمنا أنك قمت بما أمرناك به، فاتركهم الآن حتى يحين اليوم الذي قدر فيه إيمان من يؤمن منهم وتعذيب من بصر على(4/56)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
كفره «وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً» من غنى وصحة وأمن وأولاد ورياسة «فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ» من فقر ومرض وخوف وذل «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» من الخبائث التي جنوها «فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ» 48 لما أسلفناه من النعم قبلها وكان عليه قبل أن يغمط حق النعمة أن يتأمل أن زوالها كان بسبب كفره وأنه إذا تاب وأناب فالله أكرم من أن يرد عليه نعمه لا أن يقابلها بالإعراض والجحود.
مطلب أنواع التوالد وأقسام الوحي ومن كلم الله من رسله ورآه:
قال تعالى «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وما فيهما لا لغيره ولا لأحد شركة معه فيهما، فهو وحده يتصرف بهما كيفما شاء وأراد «يَخْلُقُ ما يَشاءُ» لا يحق لأحد الاعتراض عليه، وليس يوجب عليه إجابة طلب أحد من خلقه «يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ» 49 فقط «أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً» كثيرين بدلالة التنوين، قالوا ولد لأنس بن مالك مئة ولد، وكذلك لعبد الرحمن بن عمر الليثي، وخليفة السعدي، وجعفر بن سليمان الهاشمي، وهذا من الغرائب ولكن ليس على الله بغريب ولا عجيب «وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً» لا يولد له البتة من الذكور والإناث «إِنَّهُ عَلِيمٌ» بما يناسب كلا من خلقه فعطاؤه عن حكمة وتخصيصه عن حكمة ومنعه عن حكمة «قَدِيرٌ» 50 على ما يريده من هذا وغيره. وما قيل إن هذه الآية نزلت في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأن منهم لوطا وشعيا لم يرزقا إلا بنات وإبراهيم لم يرزق إلا ذكورا ومحمدا صلّى الله عليه وسلم ذكورا وإناثا وعيسى ويحيى لم يولد لهما، لا يتجه، لأن عيسى ويحيى لم يتزوجا، والآية عامة في جميع خلقه، وليس المراد من يزوجهم أن بولد ذكر وأنثى في بطن واحدة توءما كما قاله بعض المفسرين إذ لا دليل على التخصيص بل مجرد إعطائهم ذكورا وإناثا في بطن أو بطون متفرقين لا مجتمعين، كما هو الظاهر، والله أعلم. وقدم الله تعالى الإناث على الذكور في هذه الآية لا لشرفهن ولكن لسياق التنزيل بأنه يفعل ما يشاء هو لا ما يشاءونه فصار تقديمهن أهم والأهم واجب التقديم، تدبر.
قال تعالى «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ(4/57)
اللَّهُ»
كما يكلم أحدكم صاحبه وما يكلمه جل شأنه «إِلَّا وَحْياً» إلهاما كما روي عنه صلّى الله عليه وسلم قوله فنفث في روعي، أو مناما كما وقع لإبراهيم عليه السلام في ذبح ولده، وكما ألهمت أم موسى بقذفه في البحر، قال صلّى الله عليه وسلم رؤيا الأنبياء وحي. وما جاء أنه صلّى الله عليه وسلم كلم ربه ليلة الإسراء كما أشرنا إليه أول سورة الإسراء في ج 1 في بحث الإسراء والمعراج فهو مخصوص به دون سائر الأنبياء إذ ما من عموم إلا وخصص منه البعض، ولرؤيته صلّى الله عليه وسلم لربه عز وجل في الدنيا من خصوصياته أيضا وهي حق ثابت لا مرية فيها، ولم يره بالدنيا بعيني رأسه غيره ولم يكلمه أحد مشافهة مع الرؤية غيره أيضا. وقد ثبت لموسى عليه السلام تكليم الله فقط من غير رؤية، وليعلم أن رؤية الله تعالى وتكليمه جل شأنه لا بوصفان بوصف، ولا يكيفان بكيفية، لأن النطق عاجز عن بيان ذلك، وهذا أنكر من أنكر لسوء ظنه ويقينه، وصدّق من صدق بحسن إيمانه وعقيدته، وهذا نوع من أنواع الوحي. والثاني بيّنه بقوله «أَوْ» يسمع الموحى إليه كلامه المقدس الخالي عن الحرف والصوت المنزه عن الشبيه والمثيل «مِنْ وَراءِ حِجابٍ» يحجب السامع في الدنيا عن الرؤية لا أن يحجب الله عن رؤيته، لأنه جل شأنه لا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام ولا يحجبه حجاب، وذلك من غير رؤية كما سمع موسى عليه السلام كلامه من الشجرة وكما سمعت الملائكة كلامه في دعوتهم للسجود لآدم عليهم السلام، راجع الآية 45 من سورة الإسراء في ج 1 في بحث الحجاب، هذا. والنوع الثالث هو المذكور في قوله «أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا» من ملائكته الكرام «فَيُوحِيَ» ما يتلقاه منه بِإِذْنِهِ» عز وجل إلى المرسل إليه «ما يَشاءُ» أن بوحيه من الوحي المقدس «إِنَّهُ عَلِيٌّ» عن سمات وصفات خلقه «حَكِيمٌ» 51 صائب المرمى فيما بوحيه من الأمور القولية والفعلية. وسبب نزول هذه الآية على ما نقله الآلوسي رحمه الله في تفسيره روح البيان نقلا عن البحر أن قريشا قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ألا تكلم ربك وتنظر إليه إن كنت صادقا كما كلمه موسى؟ فقال لهم لم ينظر موسى ربه، فنزلت. وهذا أصح مما نقله الإمام علي بن محمد بن ابراهيم البغدادي في تفسير الخازن المسمى لباب التأويل من أن سبب نزولها هو أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم ألا تكلم(4/58)
ربك إلخ، لأن السورة مكية والآية ليست بمستثناة منها، واليهود لم يجادلوا حضرة الرسول في مكة ولم يقع معهم أخذ ورد إلا بالمدينة، وهذه الآية محمولة على عدم جواز النظر في الدنيا ولا دليل فيها على عدم جواز الرؤية في الآخرة، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث وتقسيم الوحي وجواز رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة في الآية 52 من سورة المزمل، والآية 60 من سورة والنجم، والآية 60 من الإسراء في ج 1، وتطرقنا لها في غيرها من السور وفي الآية 53 من سورة يونس، والآية 36 من سورة يوسف، والآية 103 من سورة الأنعام المارات، وأشرنا إلى المواقع التي تطرقنا فيها لهذا البحث فراجعها. قال تعالى «وَكَذلِكَ» كما أوحينا للرسل من قبلك كتبّا وصحفا «أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» يا خاتم الرسل «رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» قرآنا فيه حياة الأرواح في الدنيا والنجاة الطيبة والنعيم الدائم في الآخرة، وما قيل إن المراد بالروح هنا جبريل عليه السلام قيل غير سديد، لأنه لو كان المقصود هو لقال جل شأنه وهو أعلم بما يقول أرسلنا إليك روحا فقط، لأن جبريل هو من أمر الله أيضا فيكون في الكلام تكرار دون حاجة. هذا، وقد اجتمعت له عليه الصلاة والسلام أنواع الوحي كلها، إذ تشرف في بداية رسالته بالرؤيا الصادقة والنفث في الروع أي القلب، ثم بإرسال الملك جبريل عليه السلام إليه، ثم تكليمه ليلة الإسراء، وزاده الله شرفا على سائر الرسل بالرؤيا الدنيوية.
قال تعالى «ما كُنْتَ تَدْرِي» يا سيد الرسل قبل أن شرفناك بالرسالة «مَا الْكِتابُ» القرآن الذي أكرمناك به «وَلَا الْإِيمانُ» بنا على وجه التفصيل الذي علمته بعد ذلك، وليس المراد بالإيمان هنا معناه الحقيقي الذي هو ضدّ الكفر، لأن الأنبياء مجمع على إيمانهم الإجمالي قبل النبوة كما علمت من ذكرهم، وكان صلّى الله عليه وسلم كغيره من الأنبياء يوحد الله تعالى قبل النبوة ويبغض الأصنام ويتعبّد على دين إبراهيم عليه السلام كما من قبله يتعبّد على دين من قبله من الأنبياء، بل المراد من الإيمان هنا والله أعلم الإيمان بتفاصيل الشرائع للذكورة في الكتاب المنزل عليه، لأنه في بداية أمره لم يعلم أنّ كتابا ينزل إليه، فكيف يعلم تفصيلات ما فيه، وقد يأتي الإيمان بمعنى الصلاة، قال تعالى (وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) الآية 149 من البقرة(4/59)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
في ج 3، إذ أجمع المفسرون على أن المراد به في هذه الآية الصلاة كما سيأتي في تفسيرها إن شاء الله، ولهذه الأسباب يجوز أن يعدل هنا عن الحقيقة إلى المجاز لوجود الصارف وعدم إمكان الصيرورة إليها والأخذ بمجرد الظاهر، وقد ألمعنا في المقدمة أن طريقتنا في هذا التفسير لزوم الظاهر ما استطعنا، وأن لا نحيد عنه، وهذا مما لم نتمكن من التقيد بظاهره لما علمت «وَلكِنْ جَعَلْناهُ» أي ذلك الكتاب «نُوراً» يهتدى به من الضلال، ومما يؤيد عود الضمير إلى الكتاب لا إلى الإيمان قوله «نَهْدِي بِهِ» بذلك الكتاب «مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا» لأنه أمر محسوس يهتدى به، أما الإيمان فمعنى من المعاني يقر في القلب ويعبر عنه اللسان «وَإِنَّكَ» يا خاتم الرسل «لَتَهْدِي» الناس «إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 52 عدل سوي «صِراطِ اللَّهِ» وطريقه الموصل إلى الحق الدال على الرشد، كيف لا وهو سبيل الله العظيم «الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف بهم كيف يشاء ويريد لا يسأل عما يفعل فانتبهوا أيها الناس «أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» 53 كلها في الآخرة مشاهدة كما هي الآن في الدنيا وما ترى منها بيد غيره فهو صورة إذ في الحقيقة لا أمر إلا لله ولا يقع شيء إلا بأمره وإرادته، وهناك يجد المحسن نواب إحسانه والمسيء عقاب وجزاء إساءته.
ولا يوجد سورة مختومة بمثل هذه الكلمة، ولا مثلها في عدد الآي. هذا، والله أعم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه وسلم.
تفسير سورة الزخرف عدد 13- 63 و 43
نزلت بمكة بعد سورة الشورى عدا الآية 54، فإنها نزلت بالمدينة، وهي تسع وثمانون آية، وثمنمئة وثلاث وثلاثون كلمة، وثلاثة آلاف وأربعمائة حرف.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «حم» 1 تقدم ما فيه، وقد أقسم الله تعالى فقال «وَالْكِتابِ الْمُبِينِ» 2 لكل شيء وجواب القسم قوله عز قوله «إِنَّا جَعَلْناهُ» أي الكتاب الملقى إليك يا محمد المشار إليه آخر السورة المارة «قُرْآناً عَرَبِيًّا» بلغتك ولغة قومك «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» 3(4/60)
معانيه فلا تحتجوا بعدم فهمه «وَإِنَّهُ» هذا القرآن ثابت عندنا مدوّن «فِي أُمِّ الْكِتابِ» اللوح المحفوظ. وسمي أما لأن كل الكتب السماوية المنزلة على الرسل وغيرها مسجلة فيه ومنه ينسخ ما ينزله الله على من يشاء من عباده، قال تعالى:
(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) الآيتين من آخر سورة البروج في ج 1، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة والباقون بضمها وهو الصواب ولهذا يقول تعالى «لَدَيْنا لَعَلِيٌّ» شرفا ومنزلة وشأنا «حَكِيمٌ» 4 لا يتطرق إليه البطلان على مرور الدوران، راجع الآية 42 من سورة فصلت المارة وما ترشدك إليه من المواضع في حفظ هذا القرآن وتعهد الله به «أَفَنَضْرِبُ» نذود وننحى ونترك «عَنْكُمُ» يا أهل مكة «الذِّكْرَ» بالقرآن فلا نذكركم به ونهملكم «صَفْحاً» إعراضا عنكم، فلا نأمركم ولا ننهاكم، أو نمسك عن إنزاله بسبب «أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ» 5 بأنواع الكفر والمعاصي ونبقيكم سبهللا، كلا، لا نفعل ذلك من أجل انهماككم وإصراركم على المعاصي والكفر، بل ننزله عليكم ونكلفكم بالإيمان به وترك ما أنتم عليه، لئلا تقولوا في الآخرة ما جاءنا من كتاب ولا نذير.
قرأ نافع وحمزة بكسر الألف من أن، أي إن كنتم مسرفين لا نضرب عنكم الذكر، وقيل إن أن هنا بمعنى إذ، مثلها في قوله تعالى (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الآية 278 من البقرة في ج 3، أي والجزاء مقدم على الشرط، وقرأ الباقون بفتحها على التعليل وهو الأحسن والأوفى بالمرام. قال تعالى «وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ» 6 قبلكم «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» 7 مثلما يسخر بك قومك فلا تضجر لما ترى منهم، فإن لك أسوة بإخوانك الأنبياء، وهذه تقدير للآية قبلها مبينة أن إسراف الأمم السابقة الكثيرة في التكذيب لم يمنعنا من إرسال الرسل إليهم ولا إنزال الكتب عليهم، فكذلك إسراف قومك يا محمد لم يحل دون إرسالنا إياك إليهم وإنزالنا كتابك عليهم، وفيها تسلية لحضرة الرسول ليهون عليه ما يلاقية من قومه، قال تعالى يا محمد لا يغرّ قومك ما هم عليه من القوة والكثرة في المال والولد «فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً» وقوة ومن هم أكثر منهم أموالا وأولادا، وهذا نوع آخر(4/61)
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)
من التسلية لحضرة الرسول صرف فيه الخطاب من قومه إليه ضمن إخباره عن حكاية حال سابقة لقوله جل قوله «وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ» 8 أي القصة التي أهلكوا فيها وحالتهم مع أنبيائهم إذ سلف ذكرهم على التفصيل فيما قصه الله قبل، وقد كرره مرارا حتى صار ما أوقعه بالأولين كالمثل السائر، فحذّر قومك من أن ينزل بهم مثله ويصيبهم ما أصابهم، يريد قوم نوح وصالح وهود وشعيب ولوط وموسى وعيسى، ومن بينهم. قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ» بالغ القدرة منيع الجانب العظيم الذي لا يكيّف «الْعَلِيمُ» 9 بما فيهن وبالحكمة التي خلقهنّ من أجلها لأنهم لا يستطيعون أن يقولوا خلقهن غيره تعالى ولا يتمكنون من إنكارهما أو نسبة شيء بما فيهن منهما لأولهم خشية الكذب المستقبح عندهم، وذلك الإله الفعال «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً» لتستريحوا عليها، ومنه مهد الصبي السرير الذي ينام فيه لأن فيه استراحته ومنامه، وإنما جعلها مهدا ليمكن مخلوقاته من الانتفاع بها «وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا» في الصحارى وفجاجا في الجبال ومرتفعا في الأودية ليتيسر لكم المشي عليها لتمام النفع «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» 10 في أسفاركم لمقاصدكم من القرى والبلاد والمراعي والمقالع وغيرها.
مطلب نعمة المطر ونعمة الدواب والأنعام وما يقال عند السفر والرجوع منه:
«وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» فيه حياتكم، وهذا من جملة رأفته بكم أيها الناس ورحمته بدوابكم وأنعامكم وجعله «بِقَدَرٍ» لكل خلقه من نام وجامد يحسب الحاجة إليه وقدر ما اقتضته المشيئة المبينة على الحكم والمصالح، فلم يشح عن الحاجة ولم يزد لحد الغرق الذي لا يكون إلا للعذاب أو أمر آخر يريده، وهذا القدر الذي ذكره لا يعلمه غيره والإبرة المحدثة (أودوميتر) لا تفيد على التحقيق نزوله بالبقعة التي هي فيها أو بساعة معلومة، لأن المطر قد يكون فيها أو بأطرافها قريبا منها أو بعيدا، وقد يكون قليلا بمكان كثيرا بآخر، لهذا لا يعرف مقداره على الضبط، لأنه قد يكون فوقها قليلا وبأطرافها كثيرا وبالعكس، وبمقدار ما تتأثر منه الأرض، لذلك فإن ما يزعمونه من تقدير الأمطار هو بحسب التخمين(4/62)
والحسبان بالنسبة للبقعة المغروزة فيه الآلة، وهذا إذا لم يطرأ على الجو ما يغير رطوبته، فإذا طرأ قد لا تمطر تدبر. «فَأَنْشَرْنا» أحيينا «بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ» مثل هذا الإحياء للأرض الميتة بالمطر «تُخْرَجُونَ» 11 من قبوركم أحياء في الآخرة بعد موتكم في الدنيا «وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها» من ذوات الأرواح والنمو من بشر وحيوان وحوت وطير وحشرات ونبات هو ذلك الإله العظيم الذي خلق السموات والأرض «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ» 12 عليه برا وبحرا وتحت الأرض والبحر وفي الخلاء «لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ» ما ظهر منه لجهة العلو وبطن الفلك بالنسبة للركوب فيه يسمى ظهرا لأن ظهرها طائف على الماء «ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ» على لطفه بكم وعطفه عليكم «إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ» أي الفلك أو ظهور الأنعام والدواب وغيرها من كل ما يركب، فيدخل فيه الطائرات والغواصات والسيارات على اختلاف أنواعها، وهذا الشكر واجب، لأنه بمقابل نعمة الركوب والتسخير، لأنها أقوى منكم سواء أكانت بنفسها أو بما يسيرها من ماء وهواء أو بخار أو قوة أخرى، ومن نعمته تذليلها فلولا تذليل الحيوان للإنسان ما استفاد منه شيئا لا ركبا ولا أكلا، راجع قوله تعالى (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) الآية 72 من سورة يس في ج 2، والآية 32 من سورة الشورى المارة لتعلم هذه النعمة العظيمة، وأنها تستحق الذكر والشكر، ولها صلة في الآية الأخيرة من سورة لقمان المارة أيضا، «وَتَقُولُوا» عند استواءكم على ما تركبونه شكرا لمسخره لكم «سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا» الفلك والأنعام والمراكب «وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» 13 مطيقين وضابطين بسبب قوتها وصعوبتها والصعب القوي لا يكون قرينا للضعيف، ولولا نعمة الله علينا بتذليلها لما كان لنا أن نقرن هذه الدواب والفلك والمراكب والسيارات والطيارات وغيرها، لأنها أقوى منا، قال عمر بن معد يكرب:
لقد علم القبائل ما عقيل ... لنا في النائبات بمقرنينا
وقال ابن هرم:
وأقرنت ما حملتني ولقلّما ... يطاق احتمال الصدّ يا دعد والهجر(4/63)
بما يدل على أن قرن بمعنى طاق، ويقول الراكب أيضا «وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ» 14 في المعاد وآخر ما تركب عليه هو النعش، اللهم أحسن سيرنا إليك وأكرم وفادتنا عليك، روى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا للسفر حمد الله وسبح وكبر ثلاثا ثم قال سبحان الذي إلخ اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون سفرنا هذا وأطوعنا بغده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من عناء السفر (تعبه وشدته) وكآية المنظر وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد. وإذا رجع قالهن وزاد فيهن آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون. قال تعالى «وَجَعَلُوا لَهُ» كفار قريش لذلك الإله العظيم مع إنعامه عليهم «مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً» نسبوه إليه وهو قولهم الملائكة بنات الله لأن الولد جزء من الوالد «إِنَّ الْإِنْسانَ» جنسه «لَكَفُورٌ مُبِينٌ» 15 مظهر جحوده لنعم الله بلا حياء ولا خجل. قال تعالى على طريق الاستفهام الإنكاري «أَمِ اتَّخَذَ» لنفسه «مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ» وأنتم أيها الكفرة تأنفون منهن «وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ» 16 منهم أي كيف يؤثركم على نفسه لأن من يقدر على الاتخاذ يتخذ لنفسه الأحسن فكيف يجدر بهم أن يقولوا هذا «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا» من جنس البنات وآثر ذكر الرحمن إعلاما بأنه لولا سبق رحمته وسعتها لأهلكهم بهذا القول الذي لا يجوز نسبته له تعالى «ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا» صار مكفهرا من سوء ما بشر به «وَهُوَ كَظِيمٌ» 17 مملوء كربا وشدة حزن وغيظ وغم بحيث لا يكاد يتحمل أكثر مما هو فيه، قيل إن بعض العرب هجر زوجته لأنها جاءت ببنت فخاطبته بقولها:
ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا ... ليس لنا من أمرنا ماشينا
وإنما نأخذ ما أعطينا ... حكمة رب ذي اقتدار فينا
فلم يرد عليها لشدة غضبه. قال تعالى توبيخا لهؤلاء الكفرة «أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا» بالتشديد مبينا للمفعول وقرىء بالتخفيف وقرىء يناشأ بالمفعول أيضا بمعنى الإنشاء(4/64)
كالمغالات بمعنى الاغلاء أي يتربّى «فِي الْحِلْيَةِ» الزينة يريد البنات لأنهن يزخرفن بالحليّ ليرغب فيهن أو باعتبار أنهن ناقصات، ولهذا احتجن للتزيين «وَهُوَ» جنس البنات «فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ» 18 لضعف حالهن وقلة عقولهن، أي ألا ينسبوا لله الولد الذكر القادر علي الخصومة والإتيان بالبرهان والحجة إذا كانوا لا بدّ ناسبين له تعالى ولدا، تعالى عن ذلك، أفضلوا أنفسهم عليه فجعلوا له البنت ولهم الولد، قاتلهم الله. وما قيل إن هذه الآية بالأصنام لأنهم كانوا يزينونها بالذهب والفضة، يبعده قوله (فِي الْخِصامِ) لأن الأصنام جامدة لا تخاصم ولا توصف بشيء من الأنانية، والكلام وارد على تقبيح قولهم، وانهم من عادتهم المناقضة في أقوالهم ورميهم القول بغير علم رجما بالغيب. وتشير هذه الآية على النشء في الزينة والنعومة بالعيش من المعايب والمذام، لأنه من صفات ربات الحجال فعلى الشهم أن يتباعد عن ذلك ويأنف عنه ويربأ بنفسه عن التشبه بهن ويعيش كما قال عمر رضي الله عنه: اخشوشنوا في اللباس واخشوشنوا في الطعام وتمعددوا، فإن الحاضرة لا تدوم، أي تزيّوا بزيّ خشن الطعام واللباس، لأن كلمة تمعددوا تأتي لثلاث معان: التزيّيّ بزيّ الغير، والبرء من المرض يقال تمعدد إذا برىء، والضعيف إذا أخذ بالسمن يقال له تمعدد أيضا كما في القاموس، والأول هو المنطبق على المعنى المراد والله أعلم. هذا، وإذا أراد أن يزين نفسه فليحلها بلباس التقوى قال تعالى (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) الآية 26 من الأعراف في ج 1، وقال عليه السلام: ليس للمؤمن ان يذلّ نفسه، وإنما زينة الرجل الصبر على طاعة الله والتزين بزينة التقوى، وإن كان لا بد فاعلا ومقلدا غيره فليتزين بما أحلّ الله له من اللباس لا غير على أن لا يتشبه بما هو من خصائص النساء، لأن ذلك من التخنّث الذي تأباه مروءة المؤمن، وقد جمع الكفرة في مقالتهم هذه ثلاث كفرات:
نسبوا إلى الله الولد وهو كفر، ونسبوا إليه أخس النوعين وهو كفر مزدوج لما فيه من الإهانة بنسبة شيء لجلاله لا يرضونه لأنفسهم، وجعلوا هذه البنات المشئومات من الملائكة وهو كفر لاستخفافهم بالملائكة وتسميتهم إناثا وهم ليسوا بإناث بل هم جنس خاص لا يوصف بأنوثة ولا بذكورة، لذلك شنع الله عليهم بقوله عز قوله(4/65)
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)
«وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ» حتى يجزموا بذلك وهذا تهكم بهم لأنهم لم يشهدوا خلقهم وإنما قالوه جرأة على الله قاتلهم الله «سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ» هذه على إفكهم هذا «وَيُسْئَلُونَ» 19 عنه يوم القيامة. نزلت هذه الآية حينما قال لهم حضرة الرسول وما يدريكم أن الملائكة إناث؟ قالوا سمعناه من آبائنا ونشهد أنهم لم يكذبوا، فوبخهم الله على ذلك وعلى قولهم «وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ» أي الملائكة والأصنام، والسياق يؤيد الأول إذ لم يسبق للأصنام ذكر، وقد استدلوا بنفي مشيئة الله ترك عبادتها على امتناع النهي عنها أو على حسنها، وقالوا إن الله لم يشأ ترك عبادتها، ولو شاء لتحققت مشيئته ولعجل عقوبتنا على عبادتها، بل إنه شاء عبادتها لأنها متحققة، فتكون مأمورا بها أو حسنة، ويمتنع أن تكون منهيا عنها أو قبيحة.
وهذا استدلال باطل لأن المشيئة لا تستلزم الأمر أو الحسن لأنها عبارة عن ترجيح بعض الممكنات على بعض حسنا كان أو قبيحا، وقد استدلت المعتزلة فيها أيضا على أن الله تعالى لم يشأ الكفر من الكافر وإنما شاء الإيمان لأن الكفار ادعوا أن الله تعالى شاء منهم الكفر وما شاء منهم ترك عبادة الأوثان لقولهم (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) أي لو شاء منا ترك عبادتها لمنعنا من عبادتها ولكن شاء عبادتها فلم يمنعنا، فوبخهم الله تعالى ورد عليهم قولهم واعتقادهم بقوله «ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ» البتة بدلالة التنكير والتأكيد بحرف الجر «إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» 20 يحزرون ظنا وتخمينا وهو كذب محض لأن الله تعالى لم يشأ عبادتها ولم يرض بها ولم يستحسنها، وعدم تعجيل العقوبة هو عدم حلول الأجل المعين لها وسبق الكلمة منه تعالى بذلك، راجع ما تقدم في الآية 163 من الصافات المارة، لأن الله تعالى قدر لكل ما يقع في كونه وقتا لا يتعداه ولا يسبقه.
قال تعالى «أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ» أي القرآن ذكرنا لهم فيه ما يزعمونه «فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ» 21 كلا لم نأتهم بكتاب ولم نرسل لهم رسولا بعد إسماعيل غير محمد وحيث لم يكن لهم حجة يتمسكون بها من حيث العيان ولا من حيث العقل ولا من حيث السمع، وإنما حجتهم التقليد المحض المشار إليه بقوله عزّ وجل(4/66)
«بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ» طريقة مأخوذة من الأم وهو القصد وتطلق على الدين لأنه يؤم أي يقصد ويقتدى به يقال فلان لا أمّة له أي لا دين له ولا نحلة، قال قيس بن الحطيم:
كنا على أمة آبائنا ... ويقتدي بالأول الآخر
وقال غيره: وهل يستوي ذو أمة وكفور. وقيل الأمة بمعنى الجماعة وهو كذلك، إلا أنه لا يتجه هنا «وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ» 22 باتباعهم التقليدي فقط، أخبر الله حبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم بأن قومه مسبوقون بمقالتهم هذه وأنهم ما يقولونها إلا تقليدا لآبائهم كما أن اتّباعهم تقليدي عار عن البرهان على صحة بقوله جل قوله «وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها» رؤساؤها وأغنياؤها «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» 23 وقومك كذلك معترفون بهذا التقليد وهو داء قديم فيهم لا يعدل عنه إلا من وفقه الله، وفيه تسلية لحضرة الرسول، لأن ما يسمعه من قومه سجية فيهم تناقلوها دون سند أو حجة أو دليل، فيا أكرم الرسل «قل» لهؤلاء المتنطعين «أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى» بدين أصوب وأعدل وأقوم «مِمَّا» من الدين الذي «وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ» وأحسن منه وأيسر ألا تقبلونه وتتركون دين آبائكم، فأجابوه بما حكى الله عنهم رأسا دون ترو بالأمر «قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» 24 لسوء حظهم وسبق شقائهم، قالوا هذه المقالة القبيحة ولم يوفقوا أن يقولوا يتبعك إذ جئننا بدين خير من ديننا ودين آبائنا، وهذا كقول قوم صالح (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) الآية 76 من الأعراف، قاتلهم الله تشابهت قلوبهم، ويشير عدم توفيقهم لقول الحق الذي به نفعهم ما جاء في الآية 32 من سورة الأنفال ج 2، قال تعالى «فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ» إذ آثروا الكفر على الإيمان باختيارهم ورضاهم «فَانْظُرْ» يا سيد الرسل «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» 25 من الإهلاك والتدمير «وَ» اذكر لقومك يا محمد «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ» 26 من الأوثان وإني لا أعبد «إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ» 17 إلى دينه(4/67)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40)
القويم الحق وطريقه المستقيم الصدق «وَجَعَلَها كَلِمَةً» أي جعل براءته تلك من الأوثان «باقِيَةً» تردد «فِي عَقِبِهِ» ذريته وبعض من بعده وهي كلمة لا إله إلا الله، لأن قوله (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) جاريا مجرى لا إله وقوله (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) جاريا مجرى إلا الله، فلا يزالون يلهجون بها ويوحدون الله بالعبادة «لَعَلَّهُمْ» إذا تلقوها عنه عقبا بعد عقب، وقد أشرك بعضهم فلم يقلها «يَرْجِعُونَ» 28 عن الشرك إلى التوحيد اقتداء بجدهم الكريم، وان من أشرك منهم يرجع إلى الله بدعاء من وجد منهم، لأن ذريته عليه السلام لم تخل قط ممن يوحد الله ويدعو إليه منذ نشأ إلى يومنا هذا، وإلى يوم القيامة إن شاء الله القائل «بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ» قومك يا محمد «وَآباءَهُمْ» من قبلهم بالنعم المترادفة ولم أعاقبهم «حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ» من عندنا وهو القرآن «وَرَسُولٌ مُبِينٌ» 29 موضح لهم الحق من الباطل من الأحكام والحدود والأخبار «وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ» بدل أن يصدقوه «قالُوا هذا سِحْرٌ» قد افتريته من عندك يا محمد «وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ» 30 فزادوا بالطين بلة والنار شرارة إذ ضموا العناد إلى الكفر والاستخفاف إلى البهت، فسموا القرآن سحرا وكفروا به، وسموا الرسول ساحرا وكذبوه
«وَقالُوا» فوق ذلك كله مفترحين علينا رأيهم الفاسد «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» 31 صفة لرجل، وفيه دليل على جواز الفصل بين الصفة والموصوف يريدون أعماهم الله الوليد بن المغيرة من قريش مكة وعروة ابن مسعود من الطائف من ثقيف، فرد الله تعالى عليهم مؤنبا لهم جرأتهم هذه «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ» كلا لا حقّ لهم بذلك ولم تكن النبوة خاصة بالأشراف والأغنياء الذين يزعمون، وإنما هي فضل الله يختص به من يشاء من عباده الذين هم أهل لها، قال تعالى (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الآية 125 من الأنعام المارة، فهو أعلم بمن يصطفيه لها، ثم ضرب مثلا بقوله عز قوله «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» فجعلنا هذا غنيا وهذا فقيرا وهذا شريفا وهذا حقيرا «وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ» متفاوتة في الأموال والأولاد والنسب والعشرة والجاه والمنصب «لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً(4/68)
سُخْرِيًّا»
في مصالحهم ويستخدموهم بأشغالهم حتى يتعايشوا وبترافدوا. وهذا لا لكمال في الموسع عليه ولا لنقص في المفتر عليه، بل ليستقيم نظام العالم، ولولا ذلك لما سخر أحد لأحد، ولأفضى الحال إلى خراب الكون، إذ لا يستغني أحد عن معاونة الآخر، وفي التساوي تنعدم الفائدة، إذ لا ينقاد أحد لغيره، فعلى العاقل أن يتدرج في هذه الدنيا ولا ينظر إلى ما يجمعه الأغنياء من الحطام، بل ينظر إلى ما هو نافع له في عقباد «وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» 32 لأنهم وما يجمعونه فان ورحمة الله باقية، وهذا مما يزهد في الانكباب على الدنيا ويعين على التوكل والانقطاع إليه تعالى، قال ابن الوردي:
فاعتبر نحن قسمنا بينهم ... تلقه حقا وبالحق نزل
ويرحم الله الشافعي إذ يقول:
فأعددت للمرت الإله وعفوه ... وأعددت للفقر التجلد والصبرا
فمن تمسك بهاتين العدّتين أمن من هول الدارين وفاز بالنجاة.
مطلب هو ان الدنيا عند الله وأهل الله وتناكر القرينين يوم القيامة والإشارة بأن الخلافة القريش وما نزل في بيت المقدس:
قال تعالى «وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً» فيجتمعون على الكفر ويطبقون عليه رغبة فيه إذا رأوا السعة عند الكفرة «لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ» مصاعد من فضة أيضا «عَلَيْها يَظْهَرُونَ» 33 إلى العلو كالدرج والسلم الذي يصعد عليه للعلو «وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً» من فضة أيضا «وَسُرُراً» من فضة «عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ» 34 خصّ السرر لأنها مما يجلس عليها المنعّمون «وَزُخْرُفاً» وجعلنا ذلك كله مزينا بالذهب والجواهر مرصعا بالأحجار الكريمة «وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا» يتمتع بها الإنسان مدة حياته أو بعضها ثم تذهب بذهابه وهي سريعة الزوال خاصة عند فقدان الشكر «وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ» 35 الكفر والمعاصي الصارفين جوارحهم وأموالهم في رضاء الله فهذه هي النعم الدائمة التي يجب أن يمتع بها المؤمن قال:
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار(4/69)
العرار وردة طيبة الرائحة ناعمة وكان القائل مر بها قبل العشية وهو سائر، فإذا لم يشمها في ذلك الوقت فاته ريحها، فكذلك الإنسان إذا لم يمتع نفسه في هذه الدنيا بالعمل الصالح وهو قادر عليه فاته ذلك بالسقم والهرم والموت على حين غرة فيندم ولات حين مندم، لذلك يجب على العاقل أن لا يضيع الفرص بالتسويف والتأني.
وليعلم أن الدنيا بما فيها كله زهيد عند الله تعالى ولذلك يقول في صدر هذه الآية (لَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ) إلخ أي لأعطيت الكفار أكثر أسباب الحياة المفيدة للرزق ليتنعموا بها في هذه الدنيا الحقيرة، ولكن لم نفعل ذلك لئلا تزداد الرغبة في الكفر، وتشير هذه الآية إلى الإعراض عن الدنيا وزينتها والتحريض على التقوى والتمسك بالدين القويم. أخرج الترمذي وصححه وابن ماجه عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء. وعن علي كرم الله وجهه قال: الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب في يد مجذوم. هذا، وأخذ من هذه الآية قاعدة شرعية وهي إذا كان بناء سفلي لرجل وعليه بناء علوي لآخر فيكون السقف لرب البيت الأسفل لا لصاحب العلو لأنه منسوب إلى البيت. وقرىء سقفا بضمتين وبضم وسكون وفتح وسكون. وأخرج الترمذي بحديث حسن عن المسور بن شداد جدّ بنى فهر قال: كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على السخلة الميتة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها؟ قالوا من هوانها ألقوها يا رسول الله، قال فإن الدنيا أهون على الله تعالى من هذه الشاة على أهلها.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر. راجع الآية 104 من سورة يوسف المارة تعلم هذا. وان الله تعالى لم يعط الكفرة جميع الأسباب المفضية للنعم كراهية أن يرغبوا فيها فتؤدي بهم إلى الكفر حين يرون أهله منعمين، فيتوهمون أن ذلك لفضيلة فيهم. قال تعالى «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ» فلم يذكره عند شدّته ورخائة ويعش بضم الشين بمعنى يتعامى ويتجاهل، وقرىء بفتح الشين أي يعمى، والفرق بينهما أن الأول من عشا يعشو إذا نظر ولا آفة في بصره، والثاني عشي يعشى إذا كان في بصره آفة(4/70)
فلا يكاد يبصر جيدا، إذ يصير على عينيه كالضباب، ونظيره عرج بضم الراء لمن به عرج حقيقة، وعرج بفتحها لمن مشى مشية الأعرج من غير آفة في رجله، وفعل يعش هذا من الأول أي يتعامى «نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً» يحمله على الغفلة عن ذكره ويسوقه إلى الهفوات في أقواله وأفعاله «فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» 36 لا يفارقه أبدا فيزين له العمى ويخيل له أنه على الهدى حتى يستولي عليه، فيجب على الإنسان المسارعة لفعل الخير والتملّي في ذكر الله بعين بصره وبصيرته، ولا يترك للشيطان مجالا في قلبه ليستولي، ولهذا فإن من يداوم على ذكر الرحمن يتباعد عنه الشيطان فلا يقربه مادام ذاكرا له. قال تعالى «وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ» يصدون العاشين «عَنِ السَّبِيلِ» السوي والهدى والرشد «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» 37 بسبب وساوسه ودسائسه يريهم الشر خيرا والإيمان كفرا، وقد جمع الضمير في أنهم لأن من مبهمة في جنس العاشي، ولفظ شيطان مبهم في جنسه أيضا، فأرجع الضمير في أنهم الذي يعود على الشيطان مجموعا لذلك، ولأن من باعتبار معناها تدل على الجمع «حَتَّى إِذا جاءَنا» وقرأ بعضهم جاءنا أي العاشي وقرينه «قالَ» العاشي لقرينه اذهب عني «يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ» غلب المشرق على المغرب كما غلب القمر على الشمس في القمرين، أو أنه أراد مشرق الصيف ومشرق الشتاء، لما بينهما من البعد، والأول أبلغ لأنه المتعارف ولأنه أكبر بعدا، أي انك أهلكتني بمقارننك في الدنيا، ليتني لم أتعرف عليك «فَبِئْسَ الْقَرِينُ» 38 أنت، قال تعالى «وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ» العتاب والمجادلة والحذر من قرب بعضكم لبعض «إِذْ ظَلَمْتُمْ» أنفسكم بالأمس أي الدنيا ولم تذكروا يومكم هذا الذي منه حذركم أنبياؤكم «أَنَّكُمْ» اليوم «فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ» 39 كما كنتم في الدنيا مشتركين بالكفر، قالوا إن عموم البلوى بطيب القلب، وعلى هذا قول الخنساء في بعض رثائها لأخيها صخر:
ولولا كثرة الباكين عندي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزّي النفس عني بالتأسي
فهؤلاء يؤسيهم اشتراكهم في العذاب ولكن لا يروّحهم لعظم ما هم فيه،(4/71)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
قال تعالى «أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ» في علم ربك الأزلي «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 40 كلا لا تقدر أن تهديه ولا تفدر على هداية من أضللناه
«فَإِمَّا» مركبة من إن الشرطية وما التأكيدية للشرط مثل لا التي في الاقسام «نَذْهَبَنَّ بِكَ» لنمينك وننقلك إلى الدار المهيأة لكرامتك قبل أن نوقع فيهم ما قدر لهم من العذاب «فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ» 41 لك منهم بعدك في الدنيا وفي الآخرة لا محالة، لأنا لا نتركهم سدّى وهم قد فعلوا ما فعلوا، واقتصر بعض المفسرين هنا على عذاب الآخرة وبعضهم على عذاب الدنيا لقوله تعالى (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) إلخ الآية 43 من سورة يونس المارة والقرآن يفسر بعضه بعضا، وما جرينا عليه أتمّ فائدة وأوفق بإطلاق الانتقام، وأما تلك الآية فليس فيها ذكر الانتقام فلا تدل على تخصيص العذاب في الدنيا، لأن من يهدده الله بعذابه في الآخرة لا يؤمنه من عذاب الدنيا، كما أن من يعذبه في الدنيا لا يحتم عذابه في الآخرة «أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ» به من العذاب الدنيوي قتلا وأصرا وجلاء في حياتك «فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ» 42 في كل وقت، وهذا من قبيل التسلية لحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم وإعلاما له بإنجاز وعده إياه بالانتقام الشديد من المشركين في حياته أو بعد وفاته، وقد كررت هذه الآية معنى في الآية 46 من يونس والآية 77 من المؤمن المارتين وفي الآية 40 من سورة الرعد في ج 3 وغيرها لأنها بمثابة العهد لحضرة الرسول من ربه عز وجل بنصرته والانتقام له من أعدائه، قال تعالي يا محمد «فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ» من هذا القرآن وأدم العمل به كما أنت عليه «إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 43 في طريقتك لا ميل فيها ولا عوج «وَإِنَّهُ» القرآن الموحى إليك «لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ» في حياتك وبعد موتك وشرف عظيم تذكرون فيه بالملأ الأعلى وفي الأرض «وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ» 44 عنه يوم القيامة هل قمتم بحقه فشكرتموه حق شكره وعظمتم منزله حق تعظيمه أم لا راجع الآية 30 من سورة الفرقان في ج 1، ويؤذن إفراد الضمير بالخطاب كله وجمعه آخر الآية أن المراد بمن يسأل هو قومه، لأنهم هم الذين يترقب منهم التقصير حاشا البشير النذير أن يقصر في شكر ربه وتعظيمه،(4/72)
كان صلّى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية إذا سئل لمن يكون الأمر في أمتك من بعدك؟
يسكت، لأن الله لم يخبره بذلك وهو لن ينطق من نفسه فيما هو من هذا القبيل، فلما نزلت هذه الآية صار يقول لمن يسأله: هو لقريش. وقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان. وروى البخاري عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبّه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عدي بن حاتم قال: كنت قاعدا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال ألا إن الله تعالى علم ما في قلبي من حبي لقومي فبشرني فيهم فقال سبحانه وتعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) فجعل الذكر والشرف لقومي في كتابه (الحديث) . راجع بحث النزول في المقدمة، وفيه: فالحمد لله الذي جعل الصدّيق من قومي والشهيد من قومي، إن الله تعالى قلب العباد ظهرا وبطنا فكان خير العرب قريش وهي الشجرة المباركة، إلى أن قال عدي ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذكر عنده قريش بخير قط إلا سرّه حتى يتبين ذلك السرور في وجهه للناس كلهم. وكان عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يتلو هذه الآية التي تشير إلى أن الإنسان بالطبع يرغب في الثناء الحسن والذكر الجميل ولو لم يكن هذا مرغوبا فيه لما امتنّ به على رسوله بقوله (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) ولما طلبه إبراهيم عليه السلام من ربه بقوله (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) الآية 84 من سورة الشعراء ج 1، وهو لا يسأل الله شيئا لنفسه من نجاته من النار، راجع الآية 83 من الصافات المارة، والآية 258 من البقرة في ج 3 وما يرشدانك إليه تقف على ما جرى لإبراهيم مع قومه وربه وأبيه والنمرود وغيرهم، وذلك لأن الثناء خير من الغنى، وقائم مقام الحياة الشريفة، ولذا قيل ذكر الفتى هو عمره الثاني، وقال ابن زيد:
إنما المرء حديث بعده ... فكن حديثا حسنا لمن وعى
وقال الآخر:
إنما الدنيا محاسنها ... طيب ما يبقى من الخبر(4/73)
فقد يكون الذكر أفضل من الحياة لأنه يحصل في كل مكان بخلافها، حكي أن الطاغية هلاكو بعد أن بلغ ما بلغ من الظفر سأل أصحابه من الملك؟ فقالوا أنت دوخت البلاد، وأطاعتك الملوك، وملكت الأرض، وصار العباد في طوعك، وكان المؤذن إذ ذاك يؤذن، فقال كلا، الملك هذا الذي له أكثر من ستمئة سنة قد مات، وهو يذكر الآن على المآذن كل يوم وليلة خمس مرات ذكرا مكررا من ملايين الناس، يريد محمدا صلّى الله عليه وسلم. ولو لم يقل هذا الجبار هذه الجملة الدالة على حضرة الرسول لصرف قوله إلى الملك الأعظم حضرة المولى جلّ جلاله لأن ذكره على المآذن أكثر من ذكره رسوله صلّى الله عليه وسلم ولاثيب بكلامه هذا ثوابا عظيما يوشك أن يقربه إلى الله، ولكن أبت نفسه بل أبى الله أن يلهمه ذلك، وهو إنما قالها بحق الرسول حسدا ليس إلا. وهذه الآية نزلت في بيت المقدس قبل الهجرة زمن الإسراء، فتصير مكية أيضا، وهي «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ» 45 قال ابن عباس لما أسري بالنبي صلّى الله عليه وسلم بعث له آدم وولده من المرسلين، فأذن جبريل وأقام الصلاة، وقال يا محمد تقدم فصلّ بهم، فلما فرغ من الصلاة قال له جبريل اسأل يا محمد وتلا الآية، ان قريشا زعمت أن لله شريكا وأن الملائكة بناته، وزعمت اليهود والنصارى أن له ولدا، فاسأل هؤلاء الأنبياء جميعهم هل كان شيء من ذلك، فقال صلّى الله عليه وسلم لا أسأل قد اكتفيت. وقالت عائشة رضي الله عنها: قال عليه السلام ما أنا بالذي أشك، وما أنا بالذي أسأل، فكان صلّى الله عليه وسلم أثبت يقينا من ذلك.
هذا، وقال أبو القاسم المفسر في كتابه التنزيل: نزلت هذه الآية في بيت المقدس ليلة المعراج، فلما أنزلت وسمعها الأنبياء عليهم السلام أقرّوا لله تعالى بالوحدانية وقالوا بعثنا في التوحيد، وبهذا قال الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد، وهذا القول أقوى وأوثق من القول بأنها نزلت في السماء ليلة المعراج، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يصلّ بالأنبياء في السماء، وإنما صلى بالملائكة كما بيناه في قصة الإسراء والمعراج أول سورة الإسراء في ج 1، على أن ما وقع في المعراج لا يعد حجة لوجود الخلاف فيه بخلاف الإسراء المجمع عليه وعلى كفر من ينكره، وكانت الصلاة بالأنبياء(4/74)
ليلة الإسراء في بيت المقدس. وهذا الأذان والصلاة الكائنة بالأنبياء في الأرض والتي بالسماء بالملائكة هي غير الأذان والصلاة المفروضة، لأنها لم تفرض بعد إذ كان ذلك عند العروج، وقد ذكرنا ما يؤيد هذا هناك، وهذا التفسير أولى من تقدير كلمة (أمم) قبل لفظ (مَنْ) أي اسأل أمم من أرسلنا من قبلك من أقوامهم الموجودين في زمنك من أهل الكتابين وغيرهم، إذ لا مانع من إجرائها على ظاهرها، ولا حاجة إلى تقدير مضاف محذوف أو تأويل آخر، وعلى كل إنه لم يأت نبي ولا رسول ولا كتاب بعبادة غير الله تعالى القائل «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ» إلى فرعون «إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ» 46 إليكم وإلى بني إسرائيل، وفيها تعريض لما يدعيه فرعون من الربوبية الكاذبة «فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا» المار ذكرها في الآية 132 من الأعراف في ج 1 «إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ» 47 سخرية بها واستهزاء، وقد علمت ما فعل الله بهم، قال تعالى «وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها» التي أريناها لهم قبلها، أي أن كل آية منها موصوفة بالكبر والعظم على حد قولك إخواني كل منهم أكرم من الآخر أي كلهم كرماء، وعليه قول الحماسي:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري
أي كلهم أكابر عظماء «وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ» الأدنى أولا كالقحط والنقص والطوفان والدم والقمل والجراد «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» 48 عن كفرهم لترحمهم فلم يرجعوا، ولم تؤثر بهم الآيات ونقضوا عهودهم التي أعطوها لموسى بالإيمان به عند كشف كل آية «وَقالُوا» فرعون وملؤه «يا أَيُّهَا السَّاحِرُ» الماهر في السحر، إذ كان السحرة عندهم مقدمين لما يرون من أعاجيبهم، كما أن الطبيب كان مقدما زمن عيسى عليه السلام، وذا الفصاحة في عهد محمد صلّى الله عليه وسلم وكان التفاخر بها ساريا بينهم فالطبيب والبليغ له القدم الأعلى عند قومه «ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ» بأننا إذا آمنا يكشف عنا العذاب فاسأله يكشفه «إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ» 49 وقد دعى فكشف عنهم وعادوا مصرين على كفرهم ومتهمين رسولهم بالسحر، قال تعالى «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ» الأخير كما هو الحال في كل مرة(4/75)
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» 50 بعهدهم أيضا، ويقولون ما أصابنا إلا الخير لما يروا بعد كشف كل آية من آيات عذابهم خيرا وبسطة
«وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ» بقصد إغرائهم «قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي» وكان قصره يمر من تحته نهر النيل يتدفق يمينا وشمالا، قالوا له نعم، ثم قال لهم «أَفَلا تُبْصِرُونَ» 51 عظمتي وفقر موسى وضعفه، قالوا نعم نبصر وقد جمعهم وخطب فيهم هذه الغاية، قال لهم «أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا» يشير إلى موسى عليه السلام وقد كذب بل شر من كل ذي شر، ثم وصم موسى عليه السلام وحاشاه مما وصمه به، فقال ما موسى بخير مني بل أنا خير من هذا «الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ» 52 يفصح عن كلامه عايه الخبيث باللثغة التي سببها هو كما بيناه في الآية 27 من سورة طه في ج 1، وأجاب نفسه بالتفضيل عليه ولم ينتظر جواب قومه الذين جمعهم وألقى عليهم هذه الجملة، إذ انتقل بنفسه من ذلك إلى الإخبار بالأخيرية، وعليه قول الشاعر:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أم أنت بالعين أملح
ثم بين نوعا آخر من أسباب افتخاره فقال «فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ» مثلي ليعلم الناس أنه ألقي إليه مقاليد الملك فيطيعونه وينقادون لأمره، وكان في ذلك الزمن إذا سور الرجل بسوارين من ذهب وطوق بطوق من ذهب يكون دلالة على سيادته في قومه، ويريد الملعون بقوله هذا أن لو كان لما يدعيه موسى من صحة بأنه رسول الله رب العالمين أجمع لألبسه الذي أرسله أسورة ذهبية إعلاما برسالته وإيذانا بلزوم طاعته لينقاد له الناس «أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ» 53 بعضهم ببعض متتابعين يشهدون له بصدق ما جاء به ويعينونه على من خالفه على الأقل إذا لم يحلّ بما يدل على السيادة والحاكمية، قالوا له لم يسور ولم تأت معه الملائكة قال لهم حينئذ لا صحة لدعواه قالوا نعم، وقد ظن اللعين أن الرياسة والقوة من لوازم الرسالة في المرسل ولم يعلم أن الله الذي أرسله كافيه عن ذلك، ويقرب من قوله قول كفار قريش (لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ) الآية 31 المارة.(4/76)
مطلب الآية المدنية وإهلاك فرعون ونزول عيسى عليه السلام وما نزل في عبد الله بن الزبعرى:
هذه الآية المدنية من هذه السورة وذلك أنه حينما تليت عليهم الآيات المارّة التي ذكرها الله تعالى عن فرعون قالوا وكيف أطاعه قومه وهم عقلاء، وكان بهم قوام الملك، وكيف سمعوا قوله، قال تعالى «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ» بما موّه عليهم من كلامه، ولمّا رآهم يسمعون له علم أنهم سخفاء، لأنه يعلم أنه لا يصغي لقوله ذلك عاقل، وأنه استفزهم بكلامه، فأذعنوا له وطأطئوا رءوسهم لسلطانه، وقد استزلهم بما ألقى عليهم من عظمة لجهلهم بحقيقة الأفضلية التي ذكرها لهم وعدم علمهم بأن الرسالة لا تستلزم الرياسة والمال والقوة، وكانت هذه الثلاثة من دواعي التسلط على البشر فموّه عليهم بها وهو يعرف من أين تؤكل الكتف، فصدقوا أقواله الواهية «فَأَطاعُوهُ» ووافقوه على تكذيب موسى بما استخف من عقولهم «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» 54 خارجين عن الطاعة منقادين لإغواء فرعون مغرورين في النظر إلى الأمور الظاهرة، قال تعالى «فَلَمَّا آسَفُونا» أسخطونا وأغضبونا بإفراطهم لطاعة فرعون وتفريطهم بالإعراض عن موسى وصاروا بحالة يؤسف عليها فقد استوجبوا إنزال العذاب عليهم وعدم الحلم الذي عاملناهم به لذلك «انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ» 55 مع فرعون وملائه الذين أركسوهم بذلك «فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً» إلى النار وقدوة إلى الكفار «وَمَثَلًا» عبرة وموعظة «لِلْآخِرِينَ» 56 من بعدهم بأن صار حديثهم تتداوله الألسن وصار يضرب المثل لسيدهم، فيقال لكل باغ لم يقبل النصح مثلك مثل فرعون، وتقدمت كيفية إغراقهم في الآية 53 من سورة الشعراء ج 1، قال تعالى «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا» بالعبادة من حيث أن النصارى عبدته كما عبدت العرب الملائكة «إِذا قَوْمُكَ» يا سيد الرسل «مِنْهُ» من هذا المثل «يَصِدُّونَ» 57 بكسر الصاد أي يضجّون وقرىء بضمها بمعنى يعرضون عنك ولا يلتفتون لقولك، والقراءة الأولى أولى وأنسب بالمقام، أي يرتفع لهم جلبة وضجيج فرحا أو ضحكا مع إعراض وتمايل «وَقالُوا» قومه من قريش «أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ» يعني عيسى عليه السلام يخاطبون(4/77)
محمدا صلّى الله عليه وسلم قال له ربه «ما ضَرَبُوهُ لَكَ» أي المثل بعيسى «إِلَّا جَدَلًا» خصومة بالباطل لا حقا ولا لطلب التميز بين الحق والباطل، بل لئلا يفهموا الحق فيذعنوا له «بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» 58 ألدّاء شديد والخصومة واللجاج على طريق المغالبة والمكابرة والوقاحة، أخرج الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا هذه الآية. وقد نزلت هاتان الآيتان في عبد الله بن الزبعرى القرشي قبل إسلامه، إذ كان يقول لحضرة الرسول إذا كان الآلهة المعبودة كلها في النار وأن اليهود عبدت عزيرا والنصارى عيسى بن مريم وبنو مليح من العرب عبدت الملائكة ونحن عبدنا الأوثان فترضى أن تكون آلهتنا مع هؤلاء، ونحن مع أولئك، إذ ليس ما عبدناه بأحسن مما عبدوه، ولسنا بأحسن منهم أيضا، ففرحت قريش، ارتفعت أصواتهم بالضحك على زعمهم أنه حج محمدا صلّى الله عليه وسلم، ولم يعلموا أن هؤلاء بمعزل عن أن يكونوا معبودين، كيف وهم عبيد لمولاهم وهم أطوع الناس إليه، ولم يرضوا بعبادتهم وأنهم سيتبرءون منهم بحضورهم في الموقف العظيم يوم يخيب ظنهم وظن أمثالهم بكل معبود من دون الله تعالى، فرد الله عليهم بما تقدم من أنهم ضربوا لك هذا المثل على طريق الجدال عنادا وعتوا، وسيأتي تمام هذا البحث في الآية 99 من سورة الأنبياء الآتية إن شاء الله فراجعه. قال تعالى «إِنْ هُوَ» ما عيسى ابن مريم الذي ضربتم به الأمثال وقلتم ما قلتم فيه بأنه إله وهو براء من ذلك، إذ ليس بإله وما هو «إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ» بالنبوة والرسالة كسائر عبادنا الذين اصطفيناهم لإرشاد العباد «وَجَعَلْناهُ مَثَلًا» عبرة عجيبة وآية كبيرة «لِبَنِي إِسْرائِيلَ» 59 إذ خلقناه من غير أب كما خلقنا آدم من للتراب، راجع الآية 90 من آل عمران في ج 3، وصار يضرب فيه المثل ليتأكدوا من قدرة الله تعالى ويعلموا أن العبد المخلوق لا يكون إلها، قال تعالى «وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا» ولدنا منكم يا أهل مكة وأنتم رجال ليس من شأنكم الولادة كما ولدنا حواء من آدم على خلاف ما جرت به العادة «مَلائِكَةً» كما ولدنا عيسى، وهذا تذييل لوجه دلالته على القدرة البالغة وهو أعجب وأبدع من خلق عيسى من غير أب،(4/78)
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)
أقررناهم «فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ» 60 يخلفونكم فيها في
السكن والتصرف كما كنتم خلفا لمن قبلكم وكما يخلفكم أولادكم، وإذا صيرناهم كذلك فإنهم لا يستحقون العبادة أيضا لأنهم مخلوقون مثلكم، إلا أن خلقهم على طريق الإبداع وشأنهم التقديس والتحميد والتسبيح، وأنتم خلقكم بطريق التوالد وشأنكم العمل، ومع هذا فنحن قادرون على أن نخلقهم منكم ونجعلهم يعملون كما تعملون من عمارة الأرض ويعبدونني ويطيعونني كالملائكة في السماء ونجعلهم متصرفين في الأرض، كما أن الملائكة يتصرفون في السماء
«وَإِنَّهُ» عيسى ابن مريم «لَعِلْمٌ» علامة «لِلسَّاعَةِ» أي نزوله من محل رفعه علامة على قرب القيامة، وهذه الآية صريحة بأن سيدنا عيسى سينزل من السماء إلى الأرض التي رفع منها، ويؤيد هذا ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد. وفي رواية أبي ذرّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ليس بيني وبين عيسى نبي وانه نازل فيكم فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصّرتين (المحصرة من الثياب التي فيها صفرة خفية) كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل (أي أن له لمعانا وبريقا خلقة) فيقاتل الناس على الإسلام، يدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويهلك الله تعالى في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الدجال، ثم يمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون. وعنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم وفي رواية فامامكم منكم قال ابن ذؤيب فأمّكم بكتاب ربكم عز وجل وسنة نبيكم صلّى الله عليه وسلم. ويروى أنه ينزل على تينة من الأرض المقدسة يقال لها أفيق (وهذه واقعة على بحيرة طبرية وهي مركز قضاء الزوية الآن من أعمال حوران ويحتمل أن رفعه كان منها) وبيده حربة وهي التي يقتل فيها الدجال فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر فيتأخر الإمام فيقوم عيسى ويصلي خلفه علي شريعة محمد صلّى الله عليه وسلم ثم يقتل الخنزير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس (المراد بتخريبها إزالة ما فيها من الصور والتماثيل وقلبها إلى مساجد عادية أو أنه يهدمها جزاء لما(4/79)
وقع فيها من المحرمات) ويقتل النصارى إلا من آمن أي آمن به ومشى على شريعته التي يقوم فيها في الأرض وهي شريعة محمد صلّى الله عليه وسلم) وقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أيضا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ينزلنّ ابن مريم حكما عدلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية وليتركن القلاص فلا يسقى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد.
وقرأ ابن عباس (لعلم) بفتح العين واللام أي علامة على الساعة، وهذه القراءة كالتفسير لعلم بكسر الغين وسكون اللام بأنه بمعنى العلامة وهي قراءة جائزة ولو كانت على خلاف ما عليه المصاحف إذ لا زيادة فيها ولا نقص، أما ما جاء بأن أبيا قرأ (وإنه لذكر للساعة) فلا يجوز لأنها تخالف رسم القرآن وحروفه أيضا، وكل قراءة هذا شأنها لا عبرة بها ولا قيمة لنقلها كما أشرنا إلى ذلك غير مرة، وإن القراءات السبع كلها لا تخالف القرآن رسما ولا حروفا، وما جاء فيها من مد المقصور وقصر الممدود وإشباع بعض الحروف بالحركات واختلاس بعض الحركات ونقلها لما بعدها وحذفها مثل بامركم وفي الأرض وبامركمو وما أشبه ذلك فلا بأس به، إذ لا تبديل لأصل الكلمة ولا زيادة ولا نقص، تدبر. هذا وإن السيد عيسى عليه السلام كما أنه ثبت رفعه إلى السماء بالآية القرآنية 158 من سورة النساء في ج 3 وبالأحاديث الصحيحة، كذلك نزوله ثبت في هذه الآية وبالأحاديث الصحيحة المار ذكرها، وأنه عليه السلام يعمل بالشريعة المحمدية ويأخذ أحكامه من الكتاب والسنة، وقال بعضهم إنه يأخذ الأحكام من نبينا عليه الصلاة والسلام شفاها بدليل حديث أبي يعلى الذي فيه: والذي نفسي بيده لينزلن عيسى بن مريم، ثم لئن قام على قبري وقال يا محمد لأجيبنّه. وقد تجتمع روحانيته بروحانيته ويأخذ عنه، وقد وقع لكثير من الكاملين رؤيته صلّى الله عليه وسلم مناما والأخذ منه، كما وقع لبعضهم رؤيته يقظة والأخذ عنه كالشيخ عبد القادر الجبلي والشيخ خليفة بن موسى النهر ملكي والشيخ أبي العباس المرسي وغيرهم، وواقعة الرفاعي رحمه الله مشهورة متواترة حينما زار قبره الشريف وقال بحضور جماعة لا يحتمل تواطؤهم على الكذب:(4/80)
في حالة البعد روحي كنت أرسلها ... تقبل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت ... فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
فمدها صلّى الله عليه وسلم وقبلها بحضور جم غفير وتناقلتها الركبان وشاع خبرها في مشارق الأرض ومغاربها، وألفت فيها الرسائل والمدائح، وقد رد الجلال السيوطي على منكري ذلك مستدلا بالحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي. وأخرج الطبراني مثله من حديث مالك بن عبد الله الخثعمي ومن حديث أبي بكرة، وأخرج الدارمي مثله من حديث أبي قتادة وقال الإمام محمد بن أبي جمرة: هذا يدل على أن من يراه في النوم فسيراه في اليقظة، وان رؤيته بصفته المعلومة إدراك الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للخيال.
هذا، وقد جاء في الخبر: ما من مسلم يسلم عليّ إلا ردّ الله تعالى عليّ روحي حتى أرد عليه السلام. وأخرج بن عدي عن أنس: بينا نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ رأينا بردا ويدا، فقلنا يا رسول الله ما هذا البرد الذي رأينا واليد؟ قال قد رأيتموه؟ قالوا نعم، قال ذلك عيسى بن مريم سلم علي. وفي رواية ابن عسكر عنه كنت أطوف مع النبي صلّى الله عليه وسلم حول الكعبة إذ رأيته صافح شيئا لم أره، قلنا يا رسول الله رأيناك صافحت شيئا ولا نراه، قال ذلك أخي عيسى بن مريم انتظرته حتى قضى طوافه فسلمت عليه. فهذه الأحاديث وغيرها تدل دلالة واضحة على صحة الاجتماع بحضرة الرسول والأخذ عنه، ولا بدع فقد جاء بالقرآن العظيم خطاب الملائكة لمريم في الآية 45 ولزكريا في الآية 39 من آل عمران في ج 3 ولإبراهيم ولوط في الآية 69 فما بعدها من سورة هود المارة وغيرها، وثبتت رؤية الملائكة لكثير من أصحاب رسول الله بغير هورهم الحقيقية، وإن قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) الآية 30 من سورة السجدة المارة تقيد جواز نزول الملائكة على غير الأنبياء. أما صفة ذاته الشريفة التي يجتمع بها من يراه وكيفية حياته في البرزخ وردّ روحه إليه كما جاء في الحديث فلا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى، والصحيح أن عيسى عليه السلام قد يوحى إليه كما في حديث(4/81)
مسلم وغيره عن النواس بن سمعان، وجاء في رواية صحيحة: فبينما هو كذلك إذ أوحى الله تعالى يا عيسى إني أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحوّل عبادي إلى الطور (أي لا قدرة ولا طاقة يقال ما لي بهذا الأمر يد ولا يدان لأن المباشرة والدفاع إنما يكونان باليد واليدين فكأن يديه معدومتان لعجزه عن الدفع بهما) وذلك الوحي على لسان جبريل عليه السلام وما جاء في الخبر: (ألا لا وحي بعدي) باطل لا أصل له، وكذلك ما اشتهر أن جبريل عليه السلام لا ينزل إلى الأرض بعد وفاه النبي صلّى الله عليه وسلم باطل لا أصل له أيضا، ويرده خبر الطبراني: ما أحب أن يرقد الجنب حتى يتوضأ فإني أخاف أن يتوفى وما يحضره جبريل عليه السلام.
فإنه يدل على أن جبريل ينزل إلى الأرض ويحضر موت كل مؤمن توفاه الله على الإيمان وهو على طهارته، ومن نفى الوحي أراد نفى وحي التشريع وهو كذلك، لأن ما ذكر من الوحي وحي لا تشريع فيه، لأن شريعة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم باقية إلى الأبد، وان عيسى عليه السلام يحكم فيها ويبقى في الأرض أربعين سنة وقيل سبع سنين تتمة الثلاث والثلاثين سنة التي مكثها قبل رفعه والله أعلم، راجع الآية 55 من سورة المؤمن المارة لتقف على ما يتعلق في هذا البحث، وان المهدي يقدمه للصلاة فيقول له إنما أقيمت لك ويصلي خلفه بما يدل على دفع توهم نزوله ناسخا بل متبعا لشريعة محمد ومؤيدا كونه مفتديا بشريعته، وما عدا هذه الصلاة يكون هو الإمام دائما، لأنه صاحب الوقت ولا يجوز أن يتقدم عليه أحد، وان الدنيا ستيتهج بأهلها مدة مكثه، ثم أنه عليه السلام يموت ويصلي عليه المؤمنون ويدفن بالحجرة الشريفة في الحرم النبوي. وما بعده من خير لأهل الأرض وإذ ذاك يكون بطنها خيرا من ظهرها، لأن موته عليه السلام علامة على قرب الساعة وهو حق واقع لا محالة «فَلا تَمْتَرُنَّ بِها» لا تشكوا بها أيها الناس إذ لا محل للشك في نزول عيسى ولا موته بعد إقامته المدة المقدرة له في الدنيا، قال تعالى «وَاتَّبِعُونِ» إيها الناس واهتدوا بهداي وتمسكوا برسلي وتعبدوا بشرعي «هذا» الذي أدعوكم إليه على لسان رسلي «صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» 61 يوصل إلى النجاة فإياكم أن تنحرفوا عنه «وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ» عن سلوك هذا الطريق السوي ولا تسمعوا(4/82)
لوساوسه بعدم التصديق بما جاءكم في كنابي وعلى لسان رسولي وعدم الإيمان بي «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» 62 عداوته من زمن آدم فاحذروه وتباعدوا عنه لا يوقعنكم بأشراكه فتندموا.
مطلب في عيسى عليه السلام أيضا وفي الصحبة وماهيتها ووصف الجنة وهل فيها توالد أم لا:
قال تعالى حاكيا عن سيدنا عيسى عليه السلام زمن إرساله الأول بمناسبة ذكر نزوله «وَلَمَّا جاءَ عِيسى» قومه «بِالْبَيِّناتِ» التي أظهرها الله على يديه من إبراء الأكمه والأبرص وشفاء المرضى وإحياء الموتى وغيرها «قالَ» إلى قومه المرسل إليهم «قَدْ جِئْتُكُمْ» يا بني إسرائيل «بِالْحِكْمَةِ» العدل والحلم والعلم والإنجيل والنبوة «وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ» في الكتاب المنزل علي من ربي عز وجل «بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» من التوراة في أمر الدين والدنيا، وقال في الآية 50 من آل عمران في ج 3 (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) وكان عليه السلام غابة همه في الدعوة ما يتعلق بأمر الدين لأنه عن الدنيا بمعزل لذلك لم يبالغ في أمر الدنيا ولم يلتفت إليها ولم يلفت نظرهم إليها «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» 63 فيما آمركم وأنهاكم وإني أقول لكم «إِنَّ اللَّهَ» فاطر السموات والأرض «هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ» لأني بشر مثلكم قد فضلني بالنبوة والرسالة «فَاعْبُدُوهُ» كما أنا أعبده وحده «هذا» الذي أنا عليه من التوحيد الذي أدعوكم إليه هو «صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» 64 يوصلكم إلى الجنة إن تمسكتم بعبادة ربكم الواحد «فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ» من بين من بعث إليهم من اليهود والنصارى وتحزبوا عليه وهموا بقتله وهم اليعقوبية والنسطورية والملكانية والشمعونية الذين كانوا في زمنه، وقدمنا شيئا من هذا في الآية 165 من الأعراف في ج 1، «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم وغيرهم بالإنكار على عيسى والإصرار على قتله «مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ» 65 في الآخرة راجع الآيتين 33/ 34 من سورة مريم في ج 1، قال تعالى «هَلْ يَنْظُرُونَ» قوم عيسى بإصرارهم على الكفر به وقتله «إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً» على حين غرة من انهماكهم في هذه الدنيا «وَهُمْ(4/83)
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
لا يَشْعُرُونَ»
66 بها وإذ ذاك يرون سوء صنيعهم فيه. وإلى هنا انتهى ما جاء في حق عيسى عليه السلام. قال تعالى «الْأَخِلَّاءُ» على المعاصي في الدنيا «يَوْمَئِذٍ» يوم تقوم الساعة ويقفون في الموقف يكون «بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» فيه، لأن كلّا منهم يحمل على صاحبه وخليله بما حل به من العذاب، فيقول له أنت الذي سببته لي «إِلَّا الْمُتَّقِينَ» 67 الذين تحابوا في الدنيا على تقوى الله وتخاللوا من أجله فهؤلاء ينتفعون بها بالآخرة فيشفعون لبعضهم كما انتفعوا بها في الدنيا بأمر بعضهم بعضا بالمعروف ونهيهم عن المنكر ويرون ثواب ما كانوا مجتمعين عليه ويتناصحون فيه، راجع الآية 63 من سورة يونس المارة والآية 31 من سورة إبراهيم الآتية في بحث الصداقة، ويقول الله تعالى لهؤلاء «يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» مما يخاف الناس العصاة من أهوال يوم القيامة «وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ» 68 على ما فاتكم في الدنيا، قال المعتمر بن سليمان إن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلا فزع، فينادى يا عبادي، فيرجوها كل أحد، فيتبعها قوله عز قوله (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا) التي أظهرناها على أيدي رسلنا «وَكانُوا مُسْلِمِينَ» 69 لنا منقادين لأوامرنا، فييأس الكفار ويقفون حائرين مبهوتين، ويقال لهؤلاء المؤمنين «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ» المؤمنات «تُحْبَرُونَ» 70 تسرون فيها وتنعمون بنعيمها فيظهر على وجوههم آثار الفرح والسرور والرضاء
ثم «يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ» جمع صحيفة أواني الطعام «مِنْ ذَهَبٍ» بيان لنوعها وجنسها «وَأَكْوابٍ» أوانى الشرب من ذهب أيضا، ولما كان الطعام عادة أكثر من الشراب جمع الصحاف جمع كثرة والأكواب جمع قله «وَفِيها» أي الجنة التي أدخلوها «ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ» من المأكول والمشروب والملبوس والمنام والنساء وغيرها، وجاء هنا ذكر لذة العين التي هي جاسوس النفس بعد اشتهائها تخصيص بعد تعميم كما ذكر أولا الوصف الشامل لكل لذة ونعيم بعد ذكر الطواف بأواني الذهب الذي هو بعض من النعيم والترفه تعميم بعد تخصيص، قال تعالى «وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ» 71 أبدا لا تتحولون عنها «وَتِلْكَ الْجَنَّةُ» العظيمة بهية المنظر منعشه الأرواح(4/84)
«الَّتِي أُورِثْتُمُوها» شبه الله تعالى ما استحقوه بأعمالهم الصالحة من الجنة ونعيمها الباقي لهم، بما يخلفه الرجل لوارثه من الأملاك والأموال، ويلزم من هذا التشبيه تشبيه العمل نفسه بالمورث بكسر الراء فاستعير الميراث لما استحقوه، ثم اشتق أورثتموها فيكون هناك استعارة تبعية، وقيل تمثيلية، وجاز أن تكون مكنية، فالتبعية هي التي لا تجري الاستعارة فيها ابتداء غير اسم الجنس بل تبعا، وردها السكاكي إلى المكنية، وهي لفظ المشبه به المتروك المستعمل في المشبه المرموز إليه بذكر لازمه كلفظ السبع المتروك في قولنا: أظفار المنية نشبت بفلان، والتمثيلية هي الهيئة الحاصلة في الذهن المنتزعة من عدة أمور نحو إني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، لمن يتردد في الفتوى والأمر، ولكل أقسام مذكورة في محلها، وقد فسرها الخطيب بغير هذه التفاسير، ومن أراد تمام الاطلاع على هذا فليراجع علم البيان. هذا، ويقول الله تعالى قوله وقد جعلت لكم الجنة ميراثا «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 72 بسبب عملكم الطيب في الدنيا ونعم الميراث الجنة الدائمة من الدنيا الفانية يا عبادي الأبرار «لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ» لا يحصى نوعها ولا جنسها فهي ألوان وأشكال وطعمها متنوع لا يقدر أن يصفها واصف ولا يعدها عاد «مِنْها تَأْكُلُونَ» 73 متى اشتهيتم بلا تعب ولا ثمن، أخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رجل يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم هل في الجنة خيل فإني أحب الخيل؟ قال إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من يا قوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت. وسأله آخر فقال: يا رسول الله هل في الجنة من إبل فإني أحب الإبل؟ قال فلم يقل له ما قال لصاحبه فقال إن يدخلك الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك. وجاء في حديث آخر أنه لا ينزع أحد في الجنة من ثمرها ثمرة إلا بنت مكانها مثلها. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما من أحد إلّا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فالكافر يرث المؤمن منزلته في النار والمؤمن يرث الكافر منزلته في الجنة وذلك قوله تعالى (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ) الآية، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 43 من سورة الأعراف وله صلة في الآية 32 من سورة النحل الآتية.(4/85)
وأخرج هناد وعيد بن حميد في الزهد عن ابن مسعود قال: تجوزون الصراط يعفو الله، وتدخلون الجنة برحمة الله، وتقتسمون المنازل بأعمالكم. أي بفضل الله لأن الأعمال وحدها لا تكفي، وهذا معنى قوله صلّى الله عليه وسلم: لن يدخل أحدكم الجنة. بعمله أي على سبيل الاستقلال والسببية، وعلى هذا فلا تعارض بين الأحاديث. واعلم أن الآية السابقة تفيد أن ما كان بين الناس في الدنيا من مودة ومحبة وخلة تنقطع كلها إلا ما كان منها على تقوى الله وطاعته ورضاه، وهؤلاء هم المتحابون في الله، المتصادقون على محبته. روي عن علي كرم الله وجهه في تلك الآية قال: خليلان مؤمنان وخليلان كافران، مات أحد المؤمنين فقال يا رب إن فلانا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر ويخبرني أني ملاقيك، يا رب فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني، فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما فيقول ليئن كل منكما على صاحبه، فيقول نعم الأخ ونعم الخليل ونعم الصاحب، قال ويموت أحد الكافرين فيقول يا رب إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني
غير ملاقيك، يا رب أضلّه ولا تهده كما أضلني، ولا تكرمه كما أهانني، فإذا مات خليله الكافر جمع بينهما فيقول ليئن كل منكما على صاحبه، فيقول بئس الأخ وبئس الخليل وبئس الصاحب. وقيل في هذا:
وليس أخوك الدائم العهد بالذي ... يذمك ان ولى ويرضيك مقبلا
ولكنه النائي إذا كنت آمنا ... وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
وقال الآخر:
وتعجب في قطعي مودة صاحب ... وقد كنت قدما مولعا بوداده
فقلت لها يا عزّ لا تعجبي له ... من الحزم قطع العضو عند فساده
هذا وقد ذكر الله تعالى الملاذ كلها ولم يذكر اللذة الكبرى وهي النظر إلى وجهه الكريم، على انها تدخل في قوله (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) وعلى هذا قوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي عن أنس: حبب إليّ الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة. وقال قيس بن ملوح:(4/86)
ولقد هممت بقتلها من حبها ... كيما تكون خصيمتي في المحشر
حتى يطول على الصراط وقوفنا ... وتلذ عيني من لذيذ المنظر
ولهذا قال جعفر الصادق رضي الله عنه: شتان ما بين ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، لأن جميع ما في الجنة من النعيم والشهوات في جنب ما تلذّ الأعين كإصبع تغمس في البحر، لأن شهوات الجنة لها عد ونهاية لأنها مخلوقة، ولأتلذ عين في الدار الباقية إلا بالنظر إلى الباقي جل جلاله ولا حد لذلك ولا صفة ولا نهاية.
ولسائل أن يسأل هل في الجنة توالد لأنه من جملة ما تشتهيه النفس؟ فالجواب نعم أخرج الإمام احمد وهناد والدارمي وعيد بن حميد وابن ماجه وابن حبّان والترمذي وحسّنه وابن المنذر والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري قال قلنا يا رسول الله إن الولد من قرة العين وتمام السرور، فهل يولد لأهل الجنة؟ فقال عليه الصلاة والسلام إن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي. قال ابن منده لا ينكر هذا الحديث إلا جاهل أو جاحد أو مخالف للكتاب والسنة لأنه من جملة ما يشتهى وهو مذكور في الكتاب والسنة.
وقال في حاوي الأرواح إسناد حديث أبي سعيد على شرط الصحيح فرجاله يحتج بهم. وقال السفاريني في البحور الزاخرة حديث أبي سعيد أجود أسانيده اسناد الترمذي. وقال الأستاذ أبو سهيل فيما نقله الحاكم إنه لا ينكره إلا أهل الزيغ.
وأما من قال إنه لا يولد لهم فقد احتج بقوله تعالى (أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) والمطهرات لا يحضن ولا ينفسن كما أنهن لا يبلن ولا يتغوطن، وان الولد يجعل من المني ولا مني هناك، ويعقبه الطمث والوجع ولا وجع هناك، ولم ينظر. هذا القائل إلى أن الله تعالى قادر على أن يولدهن في الجنّة بلا نفاس ولا ألم ويحملهن بلا حيض وبلا مني، لأن في اشتراط لزوم ذلك تعجيزا للقدرة. وما قيل إن التوالد في الدنيا لبقاء النوع الانساني وهو باق في الجنة بلا توالد فيكون عبثا، يرد عليه أنه ما المانع من أن يكون هناك للذة ونحوها كالأكل والشرب والسماع والنظر فإنها للدنيا لشيء، وفي الجنة لشيء آخر. بقي هنا أن من أصحاب النفوس الخبيثة الذميمة من يقول انه ليشتهي اللواط في الجنة وهو بعيد عنها كما يشتهيها في الدنيا وهو من أهلها، فيقال(4/87)
له إنها لا تكون في الجنة لأن ما لا يلبق أن يكون فيها لا يشتهيه أهلها لأن أنفسهم طاهرة سليمة من الأرجاس، والجنة مقدسة لا يدخلها إلا مقدس وهذه الفعلة القبيحة لا يشتهيها في الدنيا إلا ذو والأنفس الرذيلة مثل المعتزلي الذي أشرنا إليه في الآية 84 من الأعراف في ج 1 ومن تحدثه نفسه بذلك ويشتهي اللواطة في الجنة فالجنة عليه حرام، لأن ذلك دليل على ولعه فيها والوالع فيها لا شك مستحلّ ومستحل الحرام كافر بالإجماع ولا يشم ريح الجنة لوطي، وهو داخل في قوله تعالى «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ» 74 لأنها خبيثة وأهلها خبثاء وأنفسهم خبيثة والخبيث أحق أن لا يخرج من النار ويدوم عليه العذاب وأجدر أن «لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ» العذاب أبدا «وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» 75 آيسون من رحمة الله وأنى لأمثالهم الرحمة في الآخرة وكانوا لا يؤمنون بها وكيف يرجون لطف الله وهم قد كفروا به، قال تعالى «وَما ظَلَمْناهُمْ» بتخليدهم بالعذاب لأنا لا نعذب أحدا بلا جرم «وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ» 76 أنفسهم بجناياتهم وشهواتهم وسوء فعلاتهم الدنيئة. قال تعالى «وَنادَوْا يا مالِكُ» خازن النار يستغيثون به، قيل لابن عباس إن ابن مسعود قرأ يا مال فقال ما أشغل أهل النار عن الترخيم، وهذا الثناء على طريق الاستفهام المعنوي «لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» هذا العذاب فنموت ونستريح منه فرد عليهم بقوله «قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» 77 فيه لا خلاص لكم منه خلود بلا موت، راجع الآية 108 من سورة هود المارة «لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ» الذي وعدناكم به على لسان رسلنا يا أهل النار «وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» 78 لأنكم في الدنيا كنتم تنفرون عنه ولا تقبلونه لما فيه من تعب النفس وعدم رغبتها له وقد اخترتم رغبة الدنيا عليه فتعبتم بالآخرة. قال تعالى مخبرا حبيبه محمدا صلّى الله عليه وسلم بما يحوك في صدر قومه من تجمعاتهم ومذاكراتهم في شأنه «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً» في المكر بك والكيد لك، وذلك أنهم كانوا مجتمعين في دار النّدوة يتناجون فيما يفعلونه به ليتخلصوا منه وقد بعث رحمة لهم، قال تعالى لا تخشهم يا حبيبي «فَإِنَّا مُبْرِمُونَ» 79 أمورا كثيرة من أنواع الكيد والمكر بأعظم وأكبر مما يتصورونه ومهيئون لهم ما يدحض إبرامهم مما(4/88)
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
يخلصك منهم «أَمْ يَحْسَبُونَ» هؤلاء الكفرة الذين يريدون اغتيالك بما تسول لهم أنفسهم الضالّة الغاشمة فيظنون «أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى» وحياتك يا حبيبي أنا أسمع له منهم وأعلم بما تحدثه به أنفسهم «وَرُسُلُنا» أيضا الموكلون بالخلق والمرسلون لهذه الغاية «لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ» 80 ما يقع منهم سرا وعلنا لا يتركون منه شيئا، لأنا أرسلناك لتدبر لهم أسباب الرحمة الدائمة رحمة بهم، وهم يحيكون لك أسباب العذاب ليجلوك أو يحبسوك أو يقتلوك ولجهلهم لا يعلمون أنا حافظوك منهم ومن غيرهم ومؤيدوك عليهم، وهذا إيماء لحضرة الرسول بالهجرة عن قومه الذين أشغلوا أنفسهم بكيفية التخلص منه وهو متعب نفسه الكريمة بماهية خلاصهم من الكفر وإنجائهم من العذاب، ولكن كل ينفق مما عنده، وكل إناء بالذي فيه ينضح.
«قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الذين يزعمون أن الملائكة بنات الله «إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ» كما تظنون «فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ» 81 له المعظمين شأنه ولسبقتكم بطاعته كما يعظم ابن الملك احتراما للملك، وهذا على سبيل الفرض والتمثيل لغرض وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد لأنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال، فالمعلق بها محال مثلها، ونظيره قول سعيد بن جبير للحجاج حين قال له: والله لأبدلنك في الدنيا نارا تلظى، فقال سعيد لو عرفت هذا إليك ما عبدت إلها غيرك.
وهاتان الآيتان باعيتان على المشركين عداوتهم لمحمد صلّى الله عليه وسلم وإسنادهم الولد إلى الله وهو منزه عنه «سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» 82 من الافتراء عليه وهو براء من الولد وغيره «فَذَرْهُمْ» يا سيد الرسل ودعهم «يَخُوضُوا» في أباطيلهم «وَيَلْعَبُوا» في دنياهم ويستبروا في اللهو «حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» 83 به بالدنيا قتلا وأسرا أو الجلاء والموت وفي الآخرة بأنواع العذاب الأليم «وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ» الآية يعبد ويقدس ويطاع لا إله غيره له الخلق والأمر. ونظير هذه الآية 4 من سورة الأنعام المارة من حيث المعنى فكأنه جلّ ذكره ضمّن معنى المعبود فيهما وحذف الضمير الراجع إلى الموصول لطول الكلام ليصح تعليق الجار والمجرور فيه وهو هو(4/89)
ولا يقال هنا إن النكرة إذا أعيدت تكون غير الأولى لأن المعنى هنا أن نسبته إلى السماء بالألوهية كنسبته إلى الأرض، وهي دلالة قاطعة على أنه تعالى غير مستقر في السماء وكما أنه غير مستقر في الأرض وهو إلههما فكذلك هو إله السماء مع أنه غير مستقر فيها تدبر. ومن الشك فاحذر فتسقط إلى الحضيض. واعلم أن كل ما خطر ببالك فالله تعالى غير ذلك، راجع الآيتين 18/ 103 من سورة الأنعام المارة «وَهُوَ الْحَكِيمُ» في تدبير خلقه «الْعَلِيمُ» 84 بما يصلحهم «وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» وقت قيامها فلا يعلمه غيره «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» 85 في الآخرة «وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ» لأن أمرها منوط به وحده وما يزعمون من أن أوثنهم تشفع زور وبهت، لأنها باطلة ولا يأذن الله بالشفاعة لأحد «إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ» كالأنبياء والرسل والملائكة ومن يشاء من عباده العارفين الكاملين، ولمن يأذن لهم من غيرهم أن يشفعوا له «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» 86 بحالة المشفوع له لأن الشهادة عن غير علم بالمشهود به لا يعوّل عليها. وجمع الضمير هنا باعتبار معنى من، كما أن الإفراد باعتبار لفظها والاستثناء متصل لأن المراد به أي بالذين يدعون هم المشركون وبمن دونه كل من يعبد من دون الله عز وجل لما في معنى من من معنى الشمول والعموم.
وسبب نزول هذه الآية أن النضر بن الحارث ونفرا معه قالوا إن كان ما يقول محمد حقا بأنه يشفع لمن يتبعه فنحن نتولى الملائكة وهم أحق بالشفاعة منه وكذلك قول اليهود والنصارى إن عزيرا والمسيح يشفعان لهم، فردّ الله تعالى على هؤلاء كلّهم بأن ما يتوخونه من الشفاعة من أولئك باطل لأنهم لا يملكون شيئا من الشفاعة لهم، وأن الذين يمكن أن يشفعوا هم الذين اعترفوا بالإله الواحد الحق إذا خولهم ذلك لمن يشاء من عباده، فالشافعون مقيدون بمشيئة الله والمشفوع لهم مقيدون برضاء الله، راجع الآية 79 من سورة الإسراء والآية 109 من سورة طه في ج 1. ولهذا البحث صلة في الآية 28 من سورة الأنبياء الآتية، قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» أوثانكم أم الله «لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» الذي خلقهن لعلمهم بعجز أوثانهم لأنها من صنع أيديهم فقل لهم عند ذلك «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ» 83 تختلقون(4/90)
القول بأن أصنامكم شركاء لله، والشريك لا بد وأن يعمل مثل شريكه أو أقل منه وشركاؤكم عاجزون عن عمل شي ما في السموات والأرض، فكيف تسندون لهم أمر الشفاعة وهم لا يدفعون عن أنفسهم سوءا، وكيف تعبدون غير الله مع اعترافكم بأنه خالقكم ورازقكم؟ وفي هذه الجملة تعجيب مما هم عليه من المناقضات «وَقِيلِهِ» قول محمد صلّى الله عليه وسلم «يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ» قومي «قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ» 88 بك ولا يصدقوني وفيه معنى التحسر والتحزّن منه صلّى الله عليه وسلم وهنا قد شكا إلى ربه تخلف قومه عن الإيمان كما قال ابن عباس وقال قتادة هذا نبيّكم يشكو قومه إلى ربه وهو آسف من ذلك. وفيه معنى القسم أي وحق قيله، وإنما أقسم بقيله لبيان رفع جنابه وعلو شأنه والتعظيم لدعائه والتبجيل لا لتجائه إليه، قال تعالى «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ» يا سيد الرسل لا تدع عليهم وأمهلهم كما أمهلتهم ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم «وَقُلْ سَلامٌ» أي اتركهم الآن لأن السلام هنا سلام متاركة لا سلام تحية، ومن قال إنه سلام تحية استدل بجواز السلام على الكفار وابتداؤهم بالتحية محتجا بما أخرجه ابن أبي شيبة عن شعيب بن الحجاب قال كنت مع علي بن عبد الله العارفي فمر علينا يهودي أو نصراني فسلم عليه، فقال شعيب فقلت انه يهودي أو نصراني فقرأ علي هذه الآية. وما أخرجه بن أبي شيبة أيضا عن عون بن عبد الله قال قلت لعمر بن عبد العزيز كيف تقول في ابتداء أهل الذمة بالسلام فقال ما أرى بأسا أن تبدأهم، قلت ولم؟ قال لقوله تعالى وتلا هذه الآية. وان هذين الحديثين لا حجة فيهما، لأن اليهود والنصارى من أهل الكتاب الذين لا يقولون بنبوة عيسى وكونه ثالث ثلاثة ولا بإلهيته، والذين لا يقولون بنبوة عزير وبالبداء على الله من اليهود وليسوا من الكفار والمشركين مع الله غيره المعهودين بقوله تعالى: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) 89 عاقبة أمرهم وسوء صنيعهم وقبيح اعتقادهم وفساد آمالهم وخيبة رجائهم لأنها بحقهم خاصة لا دخل لأهل الكتابين بها والأولى بالسياق أن يكون سلام متاركة مثل سلام ابراهيم عليه السلام لأبيه، كما مر في الآية 47 من سورة مريم في ج 1.
هذا، وما قيل ان هذه الآية منسوخة بآية السيف قيل غير سديد، قال الإمام: وعندي أن التزام النسخ في أمثال هذه المواضع مشكل، لأن الأمر(4/91)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)
لا يفيد الفعل الا مرة واحدة، فإذا أتى به مرة واحدة فقد سقطت دلالة اللفظ فأي حاجة فيه الى التزام النسخ، ومثله يمين الفور فهي مشهورة عند الفقهاء، وهي دالة على أن اللفظ المطلق قد يتقيد بحسب قرينة العرف، وإذا كان الأمر كذلك فلا حاجة فيه الى التزام النسخ والله أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب. هذا واستغفر الله، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا، آمين.
تفسير سورة الدخان عدد 24- 64- 24
نزلت بمكة بعد الزخرف وهي تسع وخمسون آية وثلاثمائة وست وأربعون كلمة، وألف وأربعمائة وواحد وثلاثون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «حم» 1 تقدم ما فيه وهو رمز بين الله ورسوله لا يعلمه غيرهما، وهذا من معجزات القرآن (أن المنزل عليهم لا يعلمون وقت انزاله أن هناك كلمات معروفة عند المخاطب أو المخاطب مجهولة عند غيرهما، ومنه أخذت الملوك الرموز فيما بينهم (شفرة) لا يعرفها غيرهم، ثم أقسم جل قسمه فقال «وَالْكِتابِ الْمُبِينِ» 2 المظهر الحلال والحرام والحدود والاحكام. وجواب القسم قوله «إِنَّا أَنْزَلْناهُ» أي القرآن العظيم المقسم به بلفظ الكتاب «فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» هي ليلة القدر السابعة والعشرون من شهر رمضان سنة 41 من ميلاده الشريف، إذ أنزل فيها جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في سماء الدنيا، ثم نزل مفرقا بحسب ما أراده الله تعالى القائل (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) الآية 186 من سورة البقرة في ج 3، وقال هنا (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) وقال (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) السورة المارة في ج 1، وانما وصفها بالبركة إذ لا أبرك ولا أعظم ولا أحسن ولا أشرف مما نزل فيها، لا سيما أنها كانت ليلة الجمعة فصارت مباركة من وجوه شتى، وإنما أنزله ليلا لأن الليل زمن المناجاة ومهبط النفحات ومورد(4/92)
الكرامات ومحل الاسرار ومجمع الأبرار وفيه فراغ القلوب واجتماع المحب بالمحبوب بخلاف النهار. ولهذه الأسباب وقع الإسراء ليلا كما أشرنا اليه أول سورة الاسراء ج 1 فراجعها وراجع سورة القدر وآية البقرة المذكورة أعلاه لتقف على ما يتعلق بها.
مطلب في ليلة القدر وليلة النصف من شعبان وفضل الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأعمال:
وتفسير هذه الليلة بليلة القدر هو ما عليه ابن عباس وقتادة وابن جبير ومجاهد وابن زيد والحسن وأكثر المفسرين وهو الموافق لظاهر التنزيل وهناك أقوال لعكرمة وغيره بأنها ليلة النصف من شعبان المسماة ليلة البراءة ومشى عليه بعض المفسرين لما روى البغوي بسنده أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال تقطع الآجال من شعبان الى شعبان حتى أن الرجل ينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى. ولما روى عن عائشة رضي الله عنها قالت قصدت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة فخرجت أطلبه فإذا هو بالبقيع رافعا رأسه الى السماء فقال يا عائشة أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟ قلت ما بي من ذلك ولكني ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال إن الله عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم بنى كلب. - أخرجه الترمذي وابن أبي شيبة والبيهقي وابن ماجه- قالوا وبينها وبين ليلة القدر أربعون أو واحد وأربعون يوما ما عداهما، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما إن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر. وهذه الأحاديث والأقوال على فرض صحتها غاية ما فيها عدّ ليلة النصف من شعبان مباركة، وهو كذلك لأنها لا تزال معظمة يقومها الناس ويصومها البعض ويتصدقون فيها، إلا أنها ليس فيها ما يدل على أن القرآن أنزل فيها، ولا يوجد ما يقابل النصوص الظاهرة الصريحة المارة المثبتة بأن المراد في هذه الليلة الواردة في هذه السورة هي ليلة القدر وما ورد لا ينافي أفضلية ليلة البراءة المشار إليها بما تقدم وبما أخرجه ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى(4/93)
السماء الدنيا فيقول: ألا مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلي فأعافيه، ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر. وبما أخرجه أحمد ابن حنبل في المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يطلع الله تعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن وقاتل نفس، وفي رواية وقاطع رحم. إلى غير ذلك من الأحاديث التي تؤيد أفضليتها على غيرها عدا ليلة القدر، ولا أعلم كيف صرفوا هذه الليلة إلى ليلة النصف من شعبان مع صراحة القرآن بأنها ليلة القدر، والقرآن يفسر بعضه بعضا ولا يوجد حديث صحيح يصرفها بل ولا غير صحيح، وأما أقوال المفسرين فمجرد اجتهاد منهم وقد أخذ بعضهم عن الآخر دون استناد لقرآن أو سنة، ولم يذكر في هذه الأحاديث أنها ليلة النصف من شعبان، وهنا يظهر لك قول المغالين بأنها ليلة البراءة أنه غير مستند على نص صريح من الكتاب والسنة أنها هي، أما فضلها فلم يختلف فيه اثنان. واعلم أن ما ورد في فضل بعض الليالي والأيام والأوقات وما قيل إن لله خواصّ في الأزمنة والأمكنة والأشخاص هو بالنسبة لما يقع فيها من الأعمال والأفعال والأقوال، وإلا فالأيام والساعات والمواقع متساوية من حيث هي، وعلى هذا فإن أفضل السنين السنة التي ولد فيها محمد صلّى الله عليه وسلم وهي عام الفيل التي حمى الله بها بيته، وأهلك من قصد نخريبه أبرهة ومن معه، وأفضل الشهور شهر رمضان لذكره تعالى باسمه في القرآن العظيم ولإنزال القرآن فيه ولتشريف سيدنا محمد بالرسالة فيه أيضا، ثم ربيع الأول لوقوع ولادته الشريفة فيه، ثم رجب لانه مفرد الأشهر الحرام المذكورة صراحة في القرآن الكريم ولوقوع الإسراء فيه وتحريم القتال فيه، ثم شعبان لوقوعه بين رجب ورمضان ولكون ليلة البراءة فيه المحترمة لسنية صيامها وقيامها، وقد ورد بارك الله في خميسها وسبتها لوقوعهما في جوار الجمعة، ثم ذو الحجة لوقوع الحج فيه ولكون الأيام المعدودات والمعلومات المنوه بهما في القرآن العظيم فيه ومنها يوم عرفه ويوم التروية ويوم النحر وأيام التشريق، وقد وردت أحاديث كثيرة في فضلها، ثم شوال لوقوعه بين رمضان وذي القعدة
الحرام ولكون عيد الفطر فيه واستحباب صيام الأيام الستة منه، ثم ذو القعدة لمجاورته ذا الحجة، ولهذا(4/94)
فإن الدار إذا كانت بين جيران صالحين تفضل على غيرها وتعتز بجوارها حتى قيل بجيرانها تغلو الديار وترخص. ثم المحرم شهر الأنبياء ورأس السنة وآخر الأشهر الحرام وفيه يوم عاشوراء وفيه أجاب الله تعالى دعوة أنبيائه وأهلك أعداءه.
وأفضل الأيام يوم الجمعة لما فيه من اجتماع الناس لسماع الذكر، ولأنها بمثابة العيد وجاء أنها حج المساكين وفيها ساعة الإجابة، راجع الآية 4 من سورة القدر في ج 1.
هذا في الأزمنة، أما الأمكنة فأفضل بقعة في الأرض بل وفي السماء البقعة التي ضمت جثمان سيد الكائنات عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد أجمع على هذا السلف والخلف ولما دفن فيها رثته ريحانته فاطمة رضي الله عنها فقالت:
ماذا على من شمّ تربة أحمد ... أن لا يشمّ مدى الدهور غواليا
صبّت علي مصائب لو أنها ... صبّت على الأيام صرن لياليا
وقال الأعرابي حينما زار تلك الروضة المطهرة:
يا خير من دفنت في الترب أعظمه ... وطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي فداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ورثاه حسان رضي الله عنه فقال:
كنت السواد لناظري ... فعمى عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
ولم يسبقه سابق ولا يلحقه لاحق بمثل هذا، ثم المسجد الحرام المشتمل على الكعبة المعظمة، وقد جاء أن الصلاة فيه تعدل مئة ألف صلاة بغيره، ثم مسجده صلّى الله عليه وسلم لاحتوائه على الروضة المقدسة، وورد أن الصلاة فيه تعدل ألفا بغيره، ثم المسجد الأقصى لاحتوائه على الصخرة الشريفة والحرم المقدس مهبط الأنبياء ومجمع أضرحتهم الطاهرة، وجاء أن الصلاة فيه تعدل خمسمائة صلاة بغيره، مما يدل على أفضلية هذه المواقع الكريمة، ثم مدافن الأنبياء والأولياء العارفين والعلماء الكاملين لقربهم من الله تعالى والجوامع والمساجد والمحال التي يقام ذكر الله بها ويتلى فيها كتابه وأحاديث نبيه. أما الأشخاص فأفضل من عليها الرسل الفخام والأنبياء العظام، ثم الأمثل فالأمثل من الأولياء العارفين والعلماء العاملين والشهداء والشجعان المقاتلين(4/95)
في سبيل الله فمن دونهم، وقد نص الله تعالى على تفضيل الأنبياء وكونهم درجات لما أوتوا من منّ الله عليهم وتوفيقه، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وأما الأعمال فلبعضها أيضا فضل وشرف على بعض بالنسبة لفاعلها وللزمان والمكان المعمولة فيه وبحسب النيات والمقاصد والإخلاص، قال ابن الفارض رحمه الله:
وعندي عيد كل وقت أرى به ... جمال محياها سبعين قريرة
وكل الليالي ليلة القدر إن دنت ... كما كل أيام اللقا يوم جمعة
أما التسمية فمقتضى الحال سميت ليلة القدر لما يقدر الله تعالى فيها من الأمور، وسميت مباركة لما يعود فيها من البركة على العاملين فيها وليلة الرحمة لما يقع فيها من رحمات الرحمن على عباده، وسميت ليلة البراءة ليلة النصف من شعبان لما أن من قبل فيها برىء من الذنوب وصار كيوم ولدته أمه نقيا وليلة الإجابة لما أن الله يطلع فيها على عباده فيجيب ما يطلبونه منه، وليلة العرض لما فيها من اطلاع الله تعالى على عباده المتعرضين لألطافه، وليلة الصك لأن العامل إذا استوفى الخراج من الناس أعطاهم صكا بوفاء ما عليهم من الذّمة فكذلك الباري جل جلاله يكتب لعباده المقبولين صكا بقبول أعمالهم وغفران ذنوبهم، ويوم العيد لأن الله تعالى يعود بالإحسان على عباده فيه، وقد جاء في الخبر: إذا كان يوم العيد وخرج الناس إلى الجبّانة يقول الله تعالى ما حق الأجير إذا أكمل عمله؟ فتقول الملائكة أن يعطى أجره، فيقول الله اشهدوا أني قد غفرت لهم. وليلة التروية لأن الخليل رأى فيها ذبح ولده، وليلة عرفة لأنه عرف أن تلك الرؤيا من الله حقا فعزم على تنفيذها، ويوم النحر لنحر إبراهيم ولده إسماعيل وفاء لأمر ربّه. هذا، وما قيل إن آدم عليه السلام تلاقى مع حواء في عرفة فسمي به لم يثبت ثبوتا يصح الاستناد إليه ويستدل فيه، وهكذا لم يوضع اسم إلا لمعنى في الأصل زمن وضعه والله أعلم. قال تعالى «إِنَّا كُنَّا» نحن إله السموات والأرض ولم نزل «مُنْذِرِينَ» 3 الناس أن يجتنبوا مخالفتنا ويحذروا عقابنا، واعلموا أيها الناس أن تلك الليلة المباركة «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» 4 مفصول مقضى به حسب حكمتنا بمقتضى إرادتنا، قال ابن عباس يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر(4/96)
يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)
ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال حتى الحجاج فيبرم وينفذ ذلك، لأن الكتابة لا تكون إلا ليلة البراءة كما تقدم، قال تعالى ما معناه نأمر بكل شيء «أَمْراً» نصب على الاختصاص وإن الأمر المحكم الذي أنزلناه حاصل «مِنْ عِنْدِنا» بمقتضى علمنا وتدبيرنا وحكمتنا «إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» 5 الرسل إلى الأمم السابقة لأجل إرشادهم وقد أرسلناك يا محمد إلى من على وجه الأرض وخاصة لأهل زمانك «رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» إليهم ورأفة بهم ونعمة عليهم «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ» لأقوالهم إذا أجابوا دعوتك وآمنوا بك «الْعَلِيمُ» 6 بأفعالهم كلها. ومن قال إن الضمير في أنزلناه لا يعود للكتاب وأراد بالكتاب اللوح المحفوظ المقدس أعاده إلى غير موجود لمعلوميته كما في قوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) كما أشرنا إليه في الآية 34 من الشورى المارة، قال تعالى «رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ» أيها الناس «مُوقِنِينَ» 7 به عن علم فهو رب هذين الهيكلين العظيمين ومن فيهما ومرسل الرسل رحمة ومنزل الكتب هدى، وهذا كما تقول إن هذا الإنعام الكثير هو انعام فلان الذي تسامع الناس بكرمه وداع صيته لدى الخاص والعام، أي بلغك حديثه أو حدثت عنه أو ذكرت لك قصته «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» عنى القطع والجزم هو الذي «يُحْيِي وَيُمِيتُ» وهل تعلم أحدا يقدر على هذا غيره، كلا ثم كلا، هذا هو الإله العظيم القهار «رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» 8 لا ربّ غيره، وإن هذه الأصنام ليست بآلهة لأحد وليست بقدرة على شيء من ذلك بل عاجزة عن كل شيء، قال تعالى مخبرا نبيه بعدم إيقانهم بذلك «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ» منه، ولذلك تراهم «يَلْعَبُونَ» 9 فلم يتأثروا من هذه الآيات ولم يلقوا لها بالا ولم يوقروا مبلغها لهم بل يسخرون منه ويستهزئون به «فَارْتَقِبْ» يا سيد الرسل عذابهم «يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ» 10 يراه كل أحد وذلك أن الهواء يتكدر في سني الجدب والقحط لما يخالطه من الغبار فيراه الرائي كأنه دخان حتى ان الجائع يصير على بصره مثل الغشاوة فيرى الفضاء ما بينه وبين السماء كأنه دخان
«يَغْشَى النَّاسَ» أجمع حتى يقولوا من شدة جزعهم منه «هذا عَذابٌ أَلِيمٌ» 11 لا يطيقه البشر، ولهذا سماه عذابا ووصفه بكونه مؤلما، لأنه ناشىء عن شدة الجوع.(4/97)
مطلب آية الدخان والمراد ببكاء السماء والأرض ونبذة من قصة موسى مع قومه وألقاب الملوك وقصة تبّع:
وليعلم أن هذا الدخان ليس بالدخان الذي هو آية من آيات الساعة، لأن ذلك لم يحضره حضرة الرسول، ولو كان المراد هو لما خاطبه به بقوله تعالى:
(فَارْتَقِبْ) وإنما هو ما ذكرنا والله أعلم، وذلك لمن حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم لما رأى قومه لا يزالون يتمادون في الإنكار والكذب دعا عليهم فقال: اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف. فأجاب الله دعاءه فأخذتهم سنة قد حصت أي أهلكت كل شيء حتى أكلوا الجيف والجلود وقد أثر فيهم الجوع حتى صار أحدهم يرى الفضاء كهيئة الدخان، فأتاه أبو سفيان فقال يا محمد إنك جئت تأمر بطاعة الله وبصلة الرحم وإن قومك أنهكهم الجوع، فادع الله لهم يرفع عنهم ما حل بهم وإلا هلكوا. فأنزل الله هذه الآية إلى قوله (عائِدُونَ) .
يؤيد هذا ما رواه البخاري ومسلم عن مسروق قال: كنا جلوسا عند عبد الله ابن مسعود وهو مضطجع بيننا، فأتاه رجل فقال يا أبا عبد الرحمن إن قاصّا عند باب كنده يقصّ ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار ويأخذ المؤمنين كهيئة الزكام، فقام عبد الله وجلس وهو غضبان فقال يا أيها الناس اتقوا الله، من علم منكم شيئا فليقل به ومن لا يعلم شيئا فليقل الله أعلم، فإن من العلم أن يقول، الله أعلم، فإن الله عز وجل قال لنبيه صلّى الله عليه وسلم (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) الآية 88 من سورة ص في ج 1، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما رأى الناس إدبارا، قال اللهم سبعا كسبع يوسف. وفي رواية للبخاري قالوا «رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ» 12 فقيل له إن كشفنا عنهم القحط عادوا فدعا ربه فكشف عنهم وسقوا الغيث، وأطبقت السماء عليهم فشكوا كثرة المطر فلجأوا إليه صلّى الله عليه وسلم، فقال اللهم حوالينا ولا علينا فكشف عنهم.
ومع ذلك عادوا إلى إصرارهم وكفرهم فانتقم الله منهم يوم بدر، فذلك قوله تعالى (فَارْتَقِبْ) إلى قوله (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) . هذا، وإطلاق الدخان على ما يراه الجائع(4/98)
أو على الذي يرى عند تكدر الهواء لا يأباه وصفه بقوله (مُبِينٍ) لأنه مما يتخيل ويتوهم أنه دخان ظاهر، وقد يقره العقل. واعلم بأن إرادة الجدب من هذا الدخان والمجاعة مجاز من باب ذكر السبب وإرادة المسبب، وهذا هو الصارف عن إرادة الظاهر، لأنه لو كان المراد به الدخان الذي هو من علامات الساعة لما صح قوله تعالى على لسانهم (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ) ولم يصح أيضا قوله جل جلاله (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) الآية، إذ لا يكون شيء من ذلك يوم القيامة.
هذا، وما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال (خمس قد مضين أي من علامات الساعة اللزام والروم والبطشة والقمر والدخان) فهو غير هذا الدخان المقصود في هذه الآية، وعلى فرض صحته فيها وهو بعيد فتكون الآية على ظاهرها وتلزم بأن نقول إن المخاطب بها غيره صلّى الله عليه وسلم ممن لم يخلق بعد أو نجبر أن نقول بوقوعها في زمانه صلّى الله عليه وسلم وهو خلاف الواقع، إذ لم يثبت أن هذه العلامة وقعت بزمنه صلّى الله عليه وسلم. وعلى كل الحالين فلا يصح تأويلها به والله أعلم. هذا وقد وقع في دير الزور وأطرافها سنة 1931- 1932 غبار في أوقات متفرقة بسبب انقطاع الأمطار ويبس الأرض وارتفع بالجو فأظلم الأفق وصار ذلك الفضاء العظيم ملآن بما يشبه الدخان حتى أنرلنا المصابيح لأنا صرنا بحالة لم ير أحدنا الآخر من كثافة ذلك الغبار ولا نستطيع الخروج إلى الساحات والطرق وضاقت النفوس وأولئك كثير من الأطفال والشيوخ أن يهلكوا لولا أن منّ الله تعالى علينا بكشفه بعد ساعات، بما يدل على أن هذا مثل ذلك، وأن الدخان الذي هو من علامات الساعة لم يقع بعد، وما رواه البغوي بإسناد الثعلبي عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أول الآيات الدخان ونزول عيسى بن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين (على وزن اقرن جزيرة اليمن) تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا.
قال حذيفة يا رسول الله وما الدخان؟ فتلا هذه الآية (المارة) يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام، وأما الكافر كمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره، فعلى فرض صحة هذا الحديث فهو صريح بأنه يكون آخر الزمان وهو من علامات الساعة ولا ينطبق(4/99)
بصورته المبينة في هذا الحديث على هذه الآية بمقتضى ما فسرت به وواقع الحال في ذلك الزمن، إذ لم يثبت وقوعه البتة على الصورة المبينة في هذا الحديث، وتلاوة الآية من قبل حضرة الرسول على فرض صحته يكون من قبيل التمثيل، لأن الآية صالحة لذلك مجازا لا حقيقة، وعليه فإن ما جرينا عليه من التفسير هو ما عليه جمهور جهابذة المفسرين ومروى عن قتادة وأبي العالية والنخعي والضحاك ومجاهد ومقاتل واختاره الزجاج والقراء. قال تعالى «أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى» أي كيف يتذكرون ومن أين يتعظون بما أصابهم «وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ» 13 لكل ما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم فهو أعظم واولى من أن يتذكروا به ولم يتذكروا «ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ» ولم يلتفتوا إليه ولم يصغوا لإرشاده «وَقالُوا مُعَلَّمٌ» من قبل الغير يعنون عداما غلاما لبعض ثقيف أعجمي ولم يكتفوا بقولهم معلم بل قالوا «مَجْنُونٌ» 14 أيضا لأنه يغشى عليه كالمجنون، وذلك أنهم يرونه حين ينزل عليه الوحي كالمغمى عليه، قال تعالى «إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ» القحط الذي حل بكم إجابة لدعوة نبيكم ومؤخرون العذاب الآخر «قَلِيلًا إِنَّكُمْ» يا أهل مكة «عائِدُونَ» 15 إلى الكفر والجحود لا محالة سواء أمهلناكم أم لا، ولهذا لم نرجئكم كثيرا، فانتظروا «يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى» فيكم بالدنيا في بدر وغيرها وفي الأخرى أكبر وأشد لأن يوم بدر مهما كان عظيما لا يبلغ هذا المبلغ الموصوف بالآية ولا يحصل به الانتقام النام من الكفرة، ولكن يوم القيامة بعد الفصل بين الناس «إِنَّا مُنْتَقِمُونَ» 16 منكم الانتقام القاسي وناهيك بالجبار إذا كان هو المنتقم كفانا الله شر انتقامه «وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ» قبل قومك يا سيد الرسل «قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ» 17 على ربه مثل ما أنت كريم عليه، ولما كان إرساله للقبط قوم فرعون ولبني إسرائيل قومه قال موسى لفرعون وملائه «أَنْ أَدُّوا» أعطوا وسلموا «إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ» الذين استعبدتموهم وتخلوا عنهم «إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ» من الله بذلك «أَمِينٌ» 18 على أداء الرسالة إليكم «وَأَنْ لا تَعْلُوا» تترفعوا وتتبختروا وتستكبروا «عَلَى اللَّهِ» الذي أرسلني إليكم، وإن شئتم بيّنة على صدقي «إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ(4/100)
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30)
مُبِينٍ»
19 دليل واضح وبرهان ساطع تقتنعون به إذا لم يتغلب عليكم العناد والمكابرة. فلما سمعوا هذا منه هددوه وتوعدوه بالقتل إن لم يكف عنهم فقال لهم «وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ» 20 تقتلوني رجما بالأحجار أو تؤذوني بكلام قبيح، وإنما قال عذت، لأن الله تعالى أخبره بقوله (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) الآية 35 من سورة القصص في ج 1، راجع تفسيرها
ولوثوقه بعهد ربه أنهم لا يتمكنون من أذاه كرّ عليهم فقال «وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ» 21 أيها القبط وخلوني واتركوا لي بني إسرائيل قومي إذ أيس منهم وعلم بإعلام الله إياه أن القبط لا يؤمنون «فَدَعا رَبَّهُ» قائلا في دعائه «أَنَّ هؤُلاءِ» القبط قوم فرعون «قَوْمٌ مُجْرِمُونَ» 22 لا يهتدون إلى الرشاد لكثرة إجرامهم، فاهلكهم يا رب وأنجز لي وعدك فيهم، فأجابه بقوله «فَأَسْرِ بِعِبادِي» بني إسرائيل خاصة «لَيْلًا» وهذا إعلام بتلبية طلبه بإهلاك القبط وإنجاء بني إسرائيل «إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ 23 من فرعون وقومه، فخرج بهم إلى البحر فدخله وقومه، ثم تبعه فرعون وقومه فدخلوه وراءهم حتى صاروا جميعا فيه، قال تعالى «وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً» ساكنا على حالته حتى يكمل خروج قومك منه ويكمل دخول آل فرعون «إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ» 24 كلهم جميعا لا محالة وأنت وقومك كلهم ناجون فلا تستعجل، فامتثل أمر ربه، ولما تم خروج بني إسرائيل وتكامل دخول القبط أمره ربه أن يأمر البحر ينطبق عليهم، فأمره فانطبق عليهم، فلم ينج منهم أحد، كما لم يغرق من بني إسرائيل أحد، ثم نعى الله تعالى حال المغرقين بعد أن اطمأن موسى وقومه فقال «كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» 25 تدفق بين البساتين «وَزُرُوعٍ» متنوعة تركوها «وَمَقامٍ كَرِيمٍ» 26 محل قعود مزخرف عظيم بناؤه كانوا ينعمون به وليس بمقام واحد بل مقامات كثيرة بدليل التنكير «وَنَعْمَةٍ» جليلة وهي نعم كثيرة أيضا عظيمة «كانُوا فِيها فاكِهِينَ» 27 ناعمين أشرين بطرين، لأنهم لم يقدروها ولم يشكروها، لذلك حرموا منها «كَذلِكَ» مثل هذا الفعل الفظيع أفعل بأعدائي فيذهبوا هدرا «وَأَوْرَثْناها» تلك البساتين والأنهار والقصور وغيرها(4/101)
مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)
«قَوْماً آخَرِينَ» 28 هم بنو إسرائيل إذ عادوا إلى مصر بعد ذلك واحتلوا محالهم «فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ» إذ لا عمل صالح لهم يصعد إلى السماء أو يعمل في الأرض لتفقداه فتبكيان على فقده بخلاف المؤمنين فإنهما تبكيان عليهم لأن لهم فيها عملا صالحا قارا وصاعدا، وذلك لأن السماء تبكي على فقد عبد كان لتسبيحه وتكبيره وتهليله وقراءته فيها دوي كدوي النحل، وإن الأرض تبكي على فقد عبد كان يعمرها بالقيام والركوع والسجود والقعود للصلاة والاعتكاف والذكر وللإصلاح بين الناس قال النابغة:
بكى حارث الجولان من فقد ربه ... وحوران منه جاشع متضائل
وقال جرير:
لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع
وقال الفرزدق يرثي عمر بن عبد العزيز:
الشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
أي لا تعجب كيف طلعت في زمن حقها أن لا تطلع أو تطلع كاسفة. والقمر منصوب بواو المعية ونجوم منصوب بكاسفة، وقرأ بعضهم برفع النجوم والقمر على أنهما فاعل تبكي، والأول أولى تدبر. ونقل صاحب الكشاف عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: ما من مؤمن يموت في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض.
«وَما كانُوا مُنْظَرِينَ» 29 لو أنهم طلبوا الانتظار حين نزول العذاب ولم نمهلهم، لأنه وقع في وقته المقدر، وهو لا يتقدم ولا يتأخر «وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ» 30 هو قتل أبنائهم واستحياء نسائهم للخدمة والاسترقاق، ولا هوان يضاهيه، ولا مهانة تساويه، وتلك الحقارة عليهم
«مِنْ فِرْعَوْنَ» وقومه وملائه «إِنَّهُ كانَ عالِياً» على ما في أرض مصر وتوابعها أجمع متكبرا عليهم متجبرا يفعل فيهم ما يشاء، عاتيا «مِنَ الْمُسْرِفِينَ» 31 في أنواع الظلم، إذ تجاوز حده حتى انه ادعى الربوبية «وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ» 32 لأنا قدرنا أن يكون منهم أنبياء وأولياء وملوك وأمراء وأناس صالحون لزمانهم «وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ» بعد إنجائهم من الفرق الذي هو الآية الكبرى بحقهم(4/102)
وإغراق أعدائهم بآن واحد وإنزال المن والسلوى عليهم وإظلالهم بالغمام وتفجير الماء من الصخرة في التيه وغيرها «ما فِيهِ بَلؤُا» اختبار وامتحان «مُبِينٌ» 33 ظاهر لننظر كيف يعملون، ونظهر لمن بعدهم ذلك، ونري من عاصرهم إياه، وإلا فنحن عالمون بما يقع منهم قيل خلقهم، راجع قصتهم مفصلة في الآية 52 فما بعدها من سورة الشعراء في ج 1، قال تعالى بعد أن قص على حبيبه ما جرى لموسى مع قومه «إِنَّ هؤُلاءِ» قومك يا سيد الرسل «لَيَقُولُونَ» 34 لك عند ما تخبرهم بالبعث بعد الموت «إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ» 35 بعدها مرة ثانية ويقولون لك لفرط «جهلهم فَأْتُوا بِآبائِنا» الذين ماتوا قبلنا «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 36 أنا نحيا بعد الموت، قال تعالى «أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ» ملك اليمن، قالوا إن المراد به أسعد بن مليك المكنّى بأبي كرب، وكانت ملوك اليمن تلقب بلفظ تبع، كما أن ملوك الحبشة تلقب بالنجاشي والروم بقيصر والفرس بكسرى والقبط بفرعون والترك بخاقان والعرب بالخليفة، وسمي تبعا لكثرة أتباعه بالنسبة إلى غيره في ذلك الزمن عدا قوم الملك حمير لأن الملك كان فيهم، يقول الله تبارك وتعالى يا أكرم الرسل إن قومك المتطاولين عليك ليسوا بأحسن من قوم تبع لا في العمل، ولا أقوى منهم في الشدة، ولا أكثر منهم في الأموال والأولاد والعدد والعدد، فلماذا يتطاولون عليك؟ قالوا وكان تبّع سار بقومه وجيوشه نحو المشرق وحيّر الحيّرة وبنى سمرقند وعاد إلى المدينة حيث ترك ابنا له فيها عند ذهابه، وعلم أن أهلها قتلوه غيلة وصار يقاتلهم لأجله، وصمم على استئصالهم وتخريب بلدتهم، وصار أهلها يقاتلونه نهارا ويقرونه ليلا، فقال إن هؤلاء لكرام، ثم جاءه حبران عالمان من بني قريظة وقالا له أيها الملك لا تفعل ما صممت عليه وإن أبيت أن تسمع قولنا حيل بينك وبين ما تريد، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة، قال ولم؟ قالا إن هذه المدينة مهاجر نبيّ يخرج من قريش اسمه محمد، وسيكون في منزلك الآن قتال بين أصحابه وعدوهم، قال ومن يقاتله وهو نبي؟ قالا قومه، فانكف عن قتالهم وعدل عن استئصالهم وتخريب بلدتهم، وترك دم ابنه حرمة لما قالوه، وقفل إلى اليمن وأخذ الحبرين مع نفر(4/103)
من اليهود معه بغاية الإكرام، فصادفه بالطريق نفر من هذيل وقالوا له ندلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة، قال ما هو؟ قالوا له مكة وأرادوا بذلك إهلاكه لأن مكة لا يقصدها أحد بسوء إلا أهلكه الله كما هو متعارف بينهم، فاستدعى الحبرين واستشارهما في ذلك، فقالا له لا تفعل، لأن هؤلاء لم يريدوا نصحك وإنما أرادوا قتلك لأن هذا البيت لا يناوئه أحد إلا هلك فاتخذه مسجدا وانسك عنده وانحر واحلق رأسك وأكرمه واصنع عنده ما يصنعه أهله، فقال أفعل وأخذ النفر من هذيل وقطع أيديهم وسمر أعينهم ثم صلبهم ودخل مكة فنزل الشعب الطامح ونحر فيه ستة آلاف بدنه وكسا البيت بالوصائل وهي برود تصنع باليمن وهو أول من كساه كما أن أول من سمي تبعا أول ملوك اليمن، وأقام فيه ستة أيام، وطاف وحلق، وانصرف، فلما دنا من اليمن حال من فيها من قومه بينه وبين دخوله، لأنه ترك دينهم، فخطب فيهم ودعاهم إلى الإيمان بالله وحده وهو خير من دينهم، لأنهم عبدة أوثان، فطلبوا منه أن يتحاكموا إلى النار التي هي أسفل جبل عندهم ومن شأنها أن تحرق الظالم ولا تضر المظلوم، فوافقهم على ذلك، فخرجوا بأوثانهم وما يتقربون به إليها في دينهم، وخرج هو والحبران وما معهما من الكتب في أعناقهما، وقعد الفريقان عند مخرج النار، فخرجت وغشيتهم، فأكلت الأوثان وما قربوه لها معها، والرجال
الذين كانوا يحملون القرابين، وخرج الحبران يتلوان التوراة، ونكصت النار حتى رجعت إلى المحل الذي خرجت منه فأعلن تبع إيمانه بالله وأصر قومه على الكفر، فذمهم الله «وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الكافرة وأخبر عن مصيرهم بقوله جل قوله «أَهْلَكْناهُمْ» بكفرهم وعدم انقيادهم للإيمان كما أهلكنا قوم تبع هؤلاء بسبب عنادهم. قالوا وكان هذان ومن معهم أصل اليهود في اليمن، وان تبعا آمن بمحمد حسب إخبارهما له عنه قبل مبعثه وولادته، وكان بينه وبين مبعثه سبعمئة سنة، ومما نسب لتبع هذا قوله:
وكسونا البيت الذي حرم الله ... حلاء معصيا وبرودا
وأقمنا به من الشهر عشرا ... وجعلنا لنا به إقليدا
وخرجنا منه نؤم سهيلا ... قد رفعنا لواءنا معقودا(4/104)
يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
هذا وأخرج أحمد بن حنبل في مسنده عن سهيل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم. وأخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت: لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا، ألا ترى أن الله تعالى ذم قومه ولم يذمه.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لا تقولوا في تبع إلا خيرا فإنه قد حج البيت وآمن بما جاء به عيسى بن مريم. وهذا يدل على أنه بعد مبعث عيسى عليه السلام، والأول أصح لأن الحبرين لم يذكرا عن عيسى شيئا، ولعله آمن بما جاء به موسى لأن الحبرين من أتباعه، والحادثة هذه قبل الميلاد بمئة وثلاثين سنة تقريبا، أو أنه عاش لمبعث عيسى عليهم السلام، قالوا وإن الحبرين أخبراه لا يدرك محمدا صلّى الله عليه وسلم فأوصى الأوس والخزرج أن يقيموا بالمدينة وأن يؤازروه إذا خرج وهم أحياء، وأن يوصوا من بعدهم بمؤازرته، وقال رحمه الله أيضا:
حدثت بأن رسول المليك ... يخرج حقا بأرض الحرم
ولو مدّ دهري إلى دهره ... كنت وزيرا له وابن عم
قالوا وكتب كتابا بإيمانه وأودعه لديهم على أن يعطيه لحضرة الرسول العربي من يبلغ زمانه منهم. قال تعالى «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» 38 لأنه إذا لم يكن بعث ولا حساب يترتب عليه الثواب والعقاب، فيكون خلق الخلق لمجرد الفناء لعبا بل عبثا، وهذا دليل قاطع على البعث.
ولبحثه صلة في الآية 16 من سورة المؤمنين الآتية، فراجعه. «ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» الجد الصحيح القاطع «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» 39 ذلك ولهذا قال المؤمنون (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا) الكون وما فيه (باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) الآية 191 من آل عمران في ج 3، قال تعالى مهددا لهم ولأمثالهم من الكفرة «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ» بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل والمؤمن والكافر «مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ» 40 قومك فمن قبلهم ومن بعدهم
«يَوْمَ لا يُغْنِي» فيه «مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً» من الأشياء أي لا تنفع القرابة والصداقة والخلّة والسيادة من أي ولي كان «وَلا هُمْ» الموالي والرؤساء «يُنْصَرُونَ» 41 أيضا فلا يقدرون على نصرة أنفسهم، ولا دفع العذاب عنهم،(4/105)
فكيف ينفعون غيرهم «إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ» فلا يخلص من العذاب غير الذين يرحمهم الله فإنهم يخلصون ويشفعون لغيرهم أيضا بإذن الله لمن يشاء رحمته. راجع الآية 86 من سورة الزخرف المارة «إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ» الغالب على أعدائه «الرَّحِيمُ» 42 بأوليائه. قال تعالى «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ» 43 مرّ ذكرها في الآية 42 من الصافات فراجعها فهي «طَعامُ الْأَثِيمِ» 44 في جهنم وهي خاصة بكثيري الآثام كبيري الكفر عامة، وما قيل إنها خاصة في أبي جهل على فرض صحته لا يقيد عمومها وشرابه فيها «كَالْمُهْلِ» در درى الزيت وعكره ووسخه حال حرارته «يَغْلِي فِي الْبُطُونِ» 45 حال نزوله فيها «كَغَلْيِ الْحَمِيمِ» 46 الماء المتناهي في الحرارة. أخرج الترمذي وقال حديث صحيح عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن تكون طعامه، أجارنا الله ثم يقال لذلك الأثيم بعنف وشدة «خُذُوهُ» جرّوه واسحبوه «فَاعْتِلُوهُ» احملوه وأوقعوه «إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ» 47 وسطها «ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ» 48 الماء الشديد الغليان وإضافة العذاب إلى الحميم إضافة مبالغة أي عذابا هو الحميم، وسمي عذابا لعظم حرارته، ثم يقال له على سبيل التبكيت والتحقير «ذُقْ» هذا أحد أنواع العذاب المخصّصة لك «إِنَّكَ» تزعم في الدنيا «أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» 49 عند قومك وتصف نفسك بهاتين الصفتين، ولا تعلم أيها الكافر أن العزيز من أعزه الله، لا من أعزته الدنيا بحطامها، والكريم من أكرمه الله لا من احترمه الناس لماله أو جاهه أو عشيرته أو رياسته:
مطلب دعاء أبي جهل في الدنيا ومأواه في الآخرة ونعيم الجنة ومعنى الموتة الأولى:
قيل كان أبو جهل يقول: ما بين لابتيها (يريد مكة) أعز وأكرم مني فتقول له خزنة جهنم على طريق التوبيخ والتقريع والسخرية (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) . واعلم أن لفظ الشجرة فيها ثلاث لغات: فتح الشين وكسرها وإبدال الجيم ياء، ويوجد الآن طائفة من العرب في العراق ينطقون الجيم ياء فيقولون ريل بدل رجل. ويقال لهذا الأثيم أيضا «إِنَّ هذا» العذاب جزاء «ما كُنْتُمْ بِهِ»(4/106)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
في الدنيا «تَمْتَرُونَ» 50 تشكون بصحته ولا تصدقون من أخبركم به، هذا وقد علمت أن هذه الآية عامة في جميع الكفار فيدخل فيها أبو جهل وأضرابه دخولا أوليا لأنهم كانوا يقاومون حضرة الرسول بأنواع المقاومات وهو أكرم الخلق وأعزهم على الله. انتهى وصف حال أهل النار حمانا الله منها. وهناك وصف أهل الجنة، رزقنا الله إياها،
قال تعالى «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ» 51 من كل سوء، والمقام بفتح الميم المكان وهو من الخاص الذي استعمل بمعنى العام، وبالضم موضع الإقامةِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ»
52 جارية خلالها لزيادة البهجة وحسن النضارة، وأهل هذه الجنات «يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ» الحرير الرقيق «وَإِسْتَبْرَقٍ» ما ثخن منه ويسمى ديباج قيل هو أعجمي معرب أو أنه خرج من الأعجمية لاستعماله في العربية قبل نزول القرآن. ومعنى التعريب جعل الكلام الأعجمي عربيا لتصرفه وإجرائه مجرى الكلمات العربية بتغيره عن منهاجه الأعجمي وتمشيته على أوجه الإعراب، راجع الآية 182 من سورة الشعراء في ج 1، تقف على جميع الكلمات الموجودة في القرآن المقول فيها إنها أعجمية هي عربية، «مُتَقابِلِينَ» 53 يعني هؤلاء الأبرار في جلوسهم، ينظر بعضهم إلى بعض بشوق ومحبة، وهذا من آداب المجالسة والمخاطبة، لأن في الصدود وإعطاء الظهر للجليس والمخاطب إهانة وعدم اكتراث بكلامه، راجع الآية 44 من سورة الصافات المارة والآية 16 من سورة الواقعة في ج 1، «كَذلِكَ» كما أكرمناهم بما ذكرنا، فقد أحببناهم «وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ» 54 نقيات بيض واسعات الأعين يحار الرائي من وصفهن «يَدْعُونَ فِيها» يطلبون أهل الجنة «بِكُلِّ فاكِهَةٍ» أرادوها فتحضر لهم حالا «آمِنِينَ 55 من تعب قطفها وانقطاعها وغسلها، لأن ثمر الجنة يدنو لطالبه، دائما لا ينقطع، طاهر زكي لا يتقيد بموسم، أو بقطر كثمار الدنيا ولا ينقص، إذ يخلق الله بدله حين قطفه، ومهما أكثروا من أكلها فهم بمأمن من مضرّتها، بخلاف ثمار الدنيا، لأن الله تعالى جعل في كل قطر زمنا للفواكه والخضراوات بحسب ما يوافق أهله، والبيئة التي هم فيها، حتى ان الحكماء الأقدمين حذروا أكلها بغير موسمها، وقبل نضجها، ولو علم الله فيها خيرا لهم لجعلها دائمة(4/107)
في كل مكان، إذ لا يعجزه شيء، ولجعلها مما يدخر كالزيتون والتين والتمر والزبيب وغيرها، ولذلك ينبغي أن يتحاشى عن أكلها في غير موسمها وقيل نضجها، ويكثر منها وقتها لما فيها من النفع للوجود بصورة لا تؤدي إلى التخمة، قال تعالى «لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ» لأن الجنة محل الخلود دائما «إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى» التي فارقوا الدنيا بها، وإنما ليستثنى الموقة الأولى من موت الجنة مع أنها لا موت فيها البتة، لأن السعداء جعلنا الله منهم إذا ماتوا يصيرون بلطف الله تعالى إلى أسباب الجنة لما يرون من نعيم برزخ القبر فيلقون فيه الروح والريحان، ويرون منازلهم في الجنة عند خروج أرواحهم، كما مر في الآية 89 من سورة الواقعة فى ج 1، فكأن موتهم في الدنيا كان في الجنة لانصالهم بأسبابها ومشاهدتهم إياها، لأن الله تعالى قال في سورة الواقعة المذكورة (إِذا بَلَغَتِ) الروح (الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ) عند بلوغ الروح الحلقوم لا تقدرون على التكلم ولكنكم (تَنْظُرُونَ) منزلتكم في الجنة أو النار، وإنما جعل الله تعالى هذه الرؤيا في تلك الحالة حتى لا يقبل فيها إيمان ولا توبة لأنها حالة يأس، وإلا لما مات أحد على الكفر، راجع الآية 90 من سورة يونس المارة وما ترشدك إليه من الآيات المتعلقة في هذا البحث. قال تعالى «وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ» 56 وقرىء ووقّاهم بالتشديد للتكثير «فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ» أي أن ذلك العطاء بمجرد الفضل من الله لأن أعمالهم لا تؤهلهم ذلك ولا بعضه، بل لا يستحقون بعملهم على الله شيئا، لأنه مهما كان كثيرا لا يقابل بعض نعم الله عليهم «ذلِكَ» وقايتهم من النار وإدخالهم الجنة «هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» 57 الذي لا أعظم منه. قال تعالى ملتفتا لحبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ» القرآن المشار إليه أول السورة «بِلِسانِكَ» يا سيد الرسل «لَعَلَّهُمْ» قومك المشار إليهم آنفا في الآية 22 المصدرة بقوله (أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي لعلهم يتفكرون به فيؤمنون حين «يَتَذَكَّرُونَ» 58 به فيتعظون ويرجعون عن غيّهم وطغيانهم وإلا «فَارْتَقِبْ» فيهم نزول العذاب كما «إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ» 59 ما يحل بك من الدوائر بزعمهم، وستكون عليهم دائرة السوء. هذا، ولا وجه لقول من قال إن هذه الآية منسوخة بآية السيف، لأن(4/108)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)
غاية ما فيها إخبار الله تعالى نبيّه عما يحل بقومه الكافرين وما يناله عباده المؤمنين، ومن المعلوم أن الاخبار والوعيد والتهديد لا يدخلها النسخ، راجع بحث الناسخ والمنسوخ في المقدمة. هذا، ولا يوجد سورة مختومة في هذه اللفظة غير هذه.
وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين
تفسير سورة الجاثية عدد 15- 65- 45
نزلت بمكة بعد سورة الدخان عدا الآية 14، فإنها مدنية، وهي سبع وثلاثون آية وأربعمائة وثمانون كلمة، وألفان ومئة وواحد وتسعون حرفا، وتسمى سورة الشريعة وسورة الدهر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «حم» 1 راجع ما قبله تجد معناه «تَنْزِيلُ الْكِتابِ» القرآن عليك يا سيد الرسل «مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ 2 لتبشر به المؤمنين وتنذر به الكافرين الذين يطلبون منك نزول الآيات «إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ» عظيمات دالات على قدرة القدير كافية «لِلْمُؤْمِنِينَ» 3 بها فلا حاجة لإنزال غيرها، لأنهم إذا أجالوا النظر وأنعموا الفكر فيها تزيدهم هدى ونورا إذا أرادوا الإيمان، والذين لا يريدونه لا تنفعهم كثرة الآيات لأنهم لا يستدلون بها على موجدها، فلا تزيدهم إلا عمى وضلالا، لأن فيهما «وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ» فيهما «مِنْ دابَّةٍ» صغيرة أو كبيرة ناطقة أو عجماء «آياتٌ» أيضا لأن في هذه الدواب المختلفة الجنس والنوع والعقل والمعاش والفعل والتناسل دلائل كثيرة على الصانع المبدع «لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ 4» أنه الإله الفعال لكل شيء، أما الذين لا يوقنون فلو ملأت لهم الأرض آيات لا يؤمنون لأنهم في غفلة عن ما يؤدي لفوزهم وخلاصهم «وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» وما يحصل من تعاقبهما من ظلمة ونور، وزيادة ونقص، وطول وقصر بصورة منتظمة لا تنخرم حتى يأذن الله بخراب هذا الكون، آيات أيضا عظيمات دالات علي حكمة الحكيم لمن كان له قلب حي «وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ» غيث(4/109)
لأنه ينشأ عنه ومن هنا للتأكيد والتقوية راجع الآية 13 من سورة المؤمن المارة ويراد به هنا المطر للعلة نفسها هناك لأن أعظم الأرزاق هو الماء ومنه يتغذى ما يكون رزقا لجميع الخلق «فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ» التي هي معدن الأرزاق «بَعْدَ مَوْتِها» يبسها ويبس نباتها، وفيها الاستدلال على البعث بعد الموت، لأن الذي أحياها يحيي الموتى «وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ» يمينا وشمالا شرقا وغربا، وجعلها باردة وحارة ومعتدلة وشديدة كدرة وصافية لينة وعاصفة «آياتٌ» عظيمات أيضا دالات على وجود الإله المغير لها المعبود بالحق وعلى نفي الأوثان العاجزة عن كل شيء «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» 5 مراد الله في ذلك كله. اعلم أرشدك الله أن في ترتيب هذه الآيات آيات أيضا لمن تدبرها وتفكر فيها، لأنه إذا نظر هذين الهيكلين الجسيمين علم بالضرورة أنه لا يقدر على صنعها إلا الرب العظيم فآمن به، وإذا تفكر في خلق نفسه وكيفة تقلبها من حال إلى حال فنظر في أصل خلقه وخلق الحيوانات بالولادة والتولد ومصيره ومصيرها ازداد إيمانا، وإذا استحد فكرته وراجع فطنته في الحوادث المتجددة ليل نهار وما يقع صباح مساء أيقن بأن لا فاعل مختار لهذه الأشياء إلا الواحد القهار، وإذا تدبر تصاريف الرياح وتقلبات الدهر واستدل بإحياء الأرض بالمطر بعد اليبس الذي هو بمثابة الموت لها على حياة البشر بعد موته لأن السبب واحد فيهما استحكم إيمانه وكمل يقينه وعقل الحكمة التي أرادها ربه من إيجاد الكون وأخلص لله ففاز بخير الدنيا والآخرة، ولهذا ختم الله الآية الأولى بالمؤمنين، والثانية بالموقنين، والثالثة بالعاقلين، ومن اجتمعت فيه هذه الخصال الثلاث أفلح وفاز فاعقل هذا في الدنيا هداك الله لحكمته لتتوصل في الآخرة إلى فسبح جنته «تِلْكَ آياتُ اللَّهِ» الذي برأ كل شيء وأحسن خلقه وهداه لما فيه هداه، وقد أوجدها عبرة وعظة لأولي الألباب ليعقلوا معناها ويعرفوا مغزاها، «نَتْلُوها عَلَيْكَ» يا سيد الرسل «بِالْحَقِّ» الناصع بواسطة أميننا جبريل لتتلوها على قومك علهم يؤمنوا بها وإذا لم يفعلوا فقل لهم «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ» 6 أي لا يؤمنون أبدا، إذ غلب على عقولهم الإفك، وحجب قلوبهم وسخ الإثم، وصم آذانهم رين التكذيب، وعمى أبصارهم(4/110)
غلو الشرك. وهذه الآية التي عجب فيها الوليد فذكرها إلى قومه كما أشرنا إليه في الآية 28 من سورة المدثر في ج 1 فراجعها. واعلم يا سيد الرسل أن من لم يؤمن بما نتلوه عليه من هذه الآيات المدللات له «وَيْلٌ» وهلاك كبيرِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ 7 يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ»
فلا يلتفت إليها ولا يعتبر بها «ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً» يأنف عنها ويتجبر «كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها» لشدة عتوه وعناده، وثم هنا للاستبعاد وعليه قول جعفر بن عليه:
لا يكشف النعماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
«فَبَشِّرْهُ» يا سيد الرسل «بِعَذابٍ أَلِيمٍ» 8 توبيخا له وهذه البشارة على طريق التهكم والسخرية، لأن البشارة تكون في الأمر السّار، فإذا اقترنت بضدّه كان معناها الإنذار وأريد بها التقريع، قال تعالى «وَإِذا عَلِمَ» بالتخفيف والبناء للفاعل، وقرأه بعضهم بالتشديد والبناء للمفعول، أي إذا تيقن هذا المستكبر «مِنْ آياتِنا شَيْئاً» بسماعها منك «اتَّخَذَها هُزُواً» وصار يسخر بها ويقرؤها على أضرابه ليضحكوا منها، لأنهم لا يفقهون معناها بسبب كثافة صدأ قلوبهم، وقد صدهم الله عنه لخبث طوبتهم وسوء نيتهم «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» 9 ثم بين نوع إهانته بقوله عزّ قوله «مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ» ومن أمامهم أيضا لأن الوراء الجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام، ومن كانت جهنم وراءه فهي قدامه حتما لأنه إذا زج فيها صارت وراءه، لأنها كانت أمامه «وَلا يُغْنِي» يدفع ويمنع «عَنْهُمْ ما كَسَبُوا» شيئا في الدنيا من العمل لقبحه ولا من إخوانهم لأنهم أشرار مثلهم، ولا من المال لأنه من حرام، فلم يجمعه من حل، ولم ينفقه في سبيل الله، ولا من الأهل لأنهم كفرة، وعلى فرض إيمانهم فلا صلة بين المؤمن والكافر ولا تراحم البتة، وإذا كان لهم عمل طيب فقد كوفئوا به في الدنيا «وَلا» يغني عنهم أيضا «مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ» لأنها إن كانت أصناما فلا تضر ولا تنفع، وإن كانت الملائكة وعزير والمسيح فإنهم يتبرءون منهم، وهم لا يشفعون إلا لمن أذن الله بالشفاعة له ورضيها كما مرّ غير مرة، ولبحثها صلة في الآية 28 من سورة(4/111)
هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
الأنبياء الآتية «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» 10 نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث لأنه كان يشتري من أحاديث العجم ويتلوه على الناس ليشغلهم عن سماع القرآن ويحبذ لهم سماعها، والاستهزاء بالقرآن، قاتله الله الذي وهي عامة في كل من هذا شأنه ونزولها فيه لا يقيدها.
قال تعالى «هذا» الكتاب المنزل عليك يا سيد الرسل «هُدىً» لمن عقله يهتدي به ورشد لمن استرشد به «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ» هو عليهم عمى وضلالة «لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ» هو أشد العذاب في الآخرة كما أن الموت أشد عذاب الدنيا ولذلك يطلق عليه لفظ الرجز «أَلِيمٌ» 11 نعت للزجر على قراءة الجر، وللعذاب على قراءة الرفع، ثم عدد أفضاله على عبده بقوله عز قوله «اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ» التي تركبونها وتحملون أثقالكم عليها «فِيهِ» في البحر «بِأَمْرِهِ» جل أمره لأنها تجري بالرياح، وهي لا تهب إلا بأمر الله والتي تجري بالمحركات كذلك بأمره، إذ لو شاء لما تحركت والتي بقوة البشر أيضا بأمره إذ لو أراد لأعجزهم «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» من ربح التجارة وزيارة البلدان والاجتماع بالإخوان واستخراج اللآلئ «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» 12 نعمه عند سيرها وبلوغكم مقاصدكم إذا كنتم لا تشكرونه دائما «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ» من الكواكب وغيرها «وَما فِي الْأَرْضِ» من حيوان ونبات ومعادن لتنتفعوا بها «جَمِيعاً مِنْهُ» وحده وأنى لغيره شيء من ذلك لعجزه عن جزء بعض ما هنالك «إِنَّ فِي ذلِكَ» التسخير من حيث لا حول لكم ولا قوة عليه «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» 13 في آلائه ومكوناته فيتعظون ويعتبرون، وهذه الآية المدنية قال تعالى يا أكرم الرسل «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ» ولا يتوقعون وقائعه بأعدائه ولا يخافون انتقامه مع استحقاقهم إياه فالرجاء مجاز عن التوقع كما أن الأيام مجاز عن الحوادث واستعمالها شائع في ذلك «لِيَجْزِيَ قَوْماً» أي المؤمنين وتنوينه للتعظيم ولفظ قوم يدل على المدح «بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» 14 من العمل الصالح الذي من جملته العفو والصفح عمن يعتدي عليهم. وسبب نزول هذه الآية على ما حكاه ابن عباس هو أن النبي صلّى الله عليه وسلم نزل بأصحابه في غزوة بني المصطلق على بئر المريسيع،(4/112)
فأرسل ابن أبي غلامة ليستسقي فأبطأ عليه، فلما أتاه قال له ما حبسك؟ قال غلام عمر قعد على طرف البئر فما ترك أحدا يستسقي حتى ملأ قرب النبي صلّى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر، فقال ابن أبي لعلامة ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل (سمّن كلبك يأكلك) قاتله الله ما أخبثه وكلامه، ولكن الدنّ ينضح بما فيه، ويكفي أنه رئيس المنافقين الذين ماتوا على نفاقهم. فبلغ ذلك عمر فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه، فأنزل الله هذه الآية. وما قيل إنها نزلت في عمر رضي الله عنه حينما شتمه المشرك من غفار بمكة قبل الهجرة فهمّ أن يبطش به غير سديد، لأن الآية مدنية بالاتفاق كما علمت، ولأن المسلمين في مكة عاجزون عن البطش، والذي لا يقدر ينتصر لنفسه لا يؤمر بالعفو. وما قاله بعضهم إن هذه الآية منسوخة لا يصح، لأن المراد بها ترك النزاع في المحقرات والتجاوز عن بعض ما يؤذي «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ» ثواب عمله «وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها» وزر إساءته «ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» 15 في الآخرة فيعاملكم بما كنتم تعملون في الدنيا، ونظير صدر هذه الآية الآية 45 من فصلت المارة «وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ» بين الناس «وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» الحلال ولا طيّب إلا وهو حلال ولا حلال إلا وهو طيب «وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» 16 في زمانهم وعلى من قبلهم عدا نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأنهم من أولي العزم للاجماع على تفضيلهم «وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ» يعرفون بها الحلال من الحرام والحق من الباطل والجد من الهزل «فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ» الذي هو موجب للاتفاق لا الاختلاف، فكان اختلافهم بعد العلم «بَغْياً بَيْنَهُمْ» حاكوه بينهم حسدا للأنبياء وحبا ببقاء الرياسة، وهذا تعجب من حالهم لأن العلم يرفع الاختلاف لا يوقعه «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» 17 بمحض العناد وإظهار التكبر وليس عن جهل ليعذروا به، لأن التوراة أنزلت على نبيهم موسى عليه السلام مفصل فيها كل شيء يحتاجونه من أمر الدين والدنيا، فاختلافهم في تأويلها وعدم قبولهم بعض أحكامها ما هو إلا بغي وتجبر وطغيان، قال تعالى «ثُمَّ جَعَلْناكَ» يا سيد الرسل «عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ(4/113)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)
الْأَمْرِ»
العائد لدينك وآتيناك سنة مستوية ومنهاجا قويما وطريقة مستقيمة «فَاتَّبِعْها» أنت وقومك المؤمنين بك «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» 18 طريقتك
هذه وأخيرتها مما يدعونك إليه من طرق آبائهم المعوجة «إِنَّهُمْ» هؤلاء الكفرة الذين يريدونك على دينهم وسنة آبائهم الضالة لو أطعتهم على فرض المحال واتبعت أهواءهم «لَنْ يُغْنُوا» يمنعوا ويدفعوا «عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» أراد إيقاعه فيك «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» في الدنيا ولا وليّ لهم في الآخرة ولا يتبعهم إلا ظالم مثلهم «وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ» 19 فيها وأنت خلاصتهم، فدم على ما أنت عليه من التوجه إلى الله والإعراض عن وأعدائه أعدائك، وهذا الخطاب الموجه إلى حضرة الرسول مراد به غيره من أصحابه الذين معه لأنه معصوم من اتباع الكفرة، راجع الآية 63 فما بعدها من سورة الزمر المارة، قال تعالى «هذا» القرآن المنزل عليك يا حبيبي «بَصائِرُ لِلنَّاسِ»
في قلوبهم وكما هو نور لأبصارهم وحياة لأرواحهم، هو معالم لحدودهم وأحكامهم «وَهُدىً» من الضلال لمن اتبعه «وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» 20 به ويصدقون بما فيه
«أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا»
اكتسبوا بجوارحهم اليد والرجل واللسان والفرج وغيرها ففعلوا فيها «السَّيِّئاتِ»
هي كل ما ساءك فعله فيك من الغير أو خالف أمر دينك أو أغضب غيرك صنعه «أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ»
كلا لا نفعل ولا ينبغي لنا أن نفعل ذلك، وإن كانوا هم يحكمون بالمساواة فقد «ساءَ ما يَحْكُمُونَ»
21 وبئس القضاء قضاؤهم ذلك، إذ لا يستوي الخبيث والطيب، كما لا تستوي الظلمات والنور، راجع الآية 104 من سورة المائدة ج 3. قال بعض كفرة قريش لإن كان ما تقولونه في البعث حقا لنفضلنكم فيه كما فضلناكم في الدنيا بالمال والنشب والسعة والجاه، فأنزل الله هذه الآية يخبرهم فيها بأنه شتان ما بين المؤمن والكافر في الآخرة، لأن المؤمن مؤمن في حياته ومماته بالدنيا والآخرة، والكافر كافر في حياته ومماته فيهما، ومال الدنيا زائل لا محالة فلا قيمة له ولا عبرة بالتفاضل فيها، أما حال الآخرة الذي هو محل التفاضل والتنافس فهو باق للمؤمنين في نعيم الجنة، وباق للكافرين في جحيم(4/114)
النار، والبون شاسع بين الحالتين فليس من أقعد على بساط الموافقة، كمن أجلس مع مقام المخالفة، ولا بد من الفرق وإعلاء المؤمنين وإخزاء الكافرين في يوم لا شفيع فيه ولا معين إلا من رحم الله، وأذن له بالشفاعة. قال مسروق: قال لي رجل من أهل مكة هذا مقام أخيك تميم الداري، ولقد رأيته قام ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله يركع بها ويسجد ويبكي (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ)
الآية، ولما بلغها الفضيل جعل يرددها ويبكي ويقول ليت شعري من أي الفريقين أنت يا فضيل؟. قال تعالى «وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» ويعدل فيهما بين خلقه بالحق فينصف المظلوم من الظالم ويظهر التفاوت بين المسيء والمحسن، فإذا لم يكن كل ذلك في الحياة لأمور اقتضتها حكمته فلا بد من كينونها في الممات أي بعده حتما. وهذه الآية بمعرض الإنكار على حسبانهم تساوي الفريقين بدليل قوله «وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» في دنياها «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» 22 في الآخرة فلا يزاد على جزاء الظالم ولا ينقص من مكافآت المحسن.
مطلب تفنيد مذهب القدرية وذم اتباع الهوى وأقوال حكيمة، والدهر:
قال تعالى «أَفَرَأَيْتَ» أيها الإنسان الكامل «مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» فصار تبعا لما تهواه نفسه «وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ» منه بعاقبة أمره «وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ» فلم يجعله يسمع الهدى «وَقَلْبِهِ» فلم يدعه يعقله «وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً» فلم يتركه يراه فمن هذا شأنه أخبروني «فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ» استفهام إنكاري، أي لا يهديه أحد البتة لأنه لا يجاب إلا بلا «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» 23 أيها الناس فنلاحظون وتقولون لا هادي إلا الله، ولا مضل لمن هداه، ولا هادي لمن أضله.
قال الواحدي: لم يبق للقدرية مع هذه الآية عذرا وحيلة لأن الله تعالى صرح بمنعه إياه عن الهوى حتى أخبر بأنه ختم على جوارحه كلها وعطلها عن النظر إلى طريق الهدى، وقيل في هذا المعنى:
إذا طلبتك النفس يوما بشهوة ... وكان إليها للخلاف طريق
فدعها وخالف ما هويت فإنمّا ... هواك عدو والخلاف صديق(4/115)
لأن أصل الشر كله متابعة الهوى وكل الخير في مخالفته، وقيل:
نون الهوان من الهوى مسروقة ... فأسير كل هوى أسير هوان
وقال أبو عمرو موسى بن عمر الأشبيلي الزاهد:
فخالف هواعا واعصها إن من يطع ... هوى نفسه ينزع به شر منزع
ومن يطع النفس اللجوجة ترده ... وترم به في؟؟؟ أي مصرع
واعلم أن متابعة الهوى مذمومة قبل الإسلام، قال عنترة:
إني امرؤ سمح الخليقة ماجد ... لا أتبع النفس اللجوج هواها
وقال الأبوصيري:
وخالف النفس والشيطان واعصهما ... وإن هما محضاك النصح فاتهم
ولا تطع منهما خصما ولا حكما ... فأنت تعرف كيد الخصم والحكم
وقال غيره:
هي النفس إن تمهل تلازم خساسة ... وإن تنبعث نحو الفضائل تبتهج
قال ابن عباس: ما ذكر الله هوى إلا ذمه. وقال وهب: إذا شككت في خير أمرين فانظر أبعدهما من هواك. وقال سهل التستري هواؤك داؤك، فإن خالفته فدواؤك، وجاء في الحديث والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، وفي حديث آخر: ثلاث مهلكات، شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه. فيجب على النبيه النبيل أن يعرض عن هواه فإنه مفارقه، وإلا فهو نار ثانية عليه يذهب معه إلى جهنم، قال:
جمع الهواء مع الهوى في مهجتي ... فتكاملت في أضلعي ناران
فقصرت بالممدود عن نيل المنى ... ومددت بالمقصور في أكفاني
وهذه نزلت في الحارث بن قيس السهمي، إذ كان لا يهوى شيئا إلا ركبه.
وحكما عام في كل من اتبع هواه، وفيها إعلام عن ذم الهوى واتباع الشهوات ما فيها لمن اتبع ذلك، لأن جواهر الأرواح منها ما هو مشرق علوي نوراني، فلا يميل إلا لما يرضي خالقه مبدعه، ومنها ما هو رذيل سفلي ظلماني فلا يميل إلا لما يعجب نفسه، وإن الله تعالى يقابل كلا بما يليق بماهيته وجوهره. ونظير هذه الآية(4/116)
الآيتان 43- 44 من سورة الفرقان، في ج 1 فراجعهما. قال تعالى «وَقالُوا» منكرو البعث بعد هذه الآيات البينات على إثباته «ما هِيَ» الحياة «إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» لا حياة بعدها أبدا «نَمُوتُ» أي يموت آباؤنا «وَنَحْيا» نحن بعدهم ونموت نحن ويحيا أبناؤنا بعدنا، وهكذا أرحام تدفع وأرض تبلع، أو نحيا نحن ونموت، لأن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا ولا تعقيبا، وعلى هذا قوله تعالى (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ) أي رافعك إلى السماء الآن ومتوفيك بعد، راجع الآية 55 من سورة آل عمران ج 3 «وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» في كره ومره واختلاف جديديه. واعلم أن الدهر اسم لمدة العالم من مبدإه إلى منتهاه، ويعبر به عن كل مدة طويلة، بخلاف الزمن، فإنه يقع على القليل والكثير.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الله عز وجل يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار.
وفي رواية يؤذيني ابن آدم، ويقول يا خيبة الدهر، فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما. وفي رواية يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار. وأخرج مسلم لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر. وأخرج أبو داود والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم: يقول الله عز وجل استقرضت عبدي فلم يقرضني، وشتمني عبدي وهو لا يدري، يقول وا دهراه، وأنا الدهر. وأخرج البيهقي: لا تسبوا الدهر، قال الله عز وجل أنا الأيام والليالي أجودها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك. ومعنى ذلك أن الله تعالى هو الآتي بالحوادث، فإذا سببتم الدهر على أنه فاعل وقع السب على الله تعالى عز وجل، ولهذا عدّ بعض العلماء سب الدهر من الكبائر، لأنه يؤدي إلى سبه تعالى وتنزه وهو كفر، وما أدّى إليه فأدنى مراتبه أن يكون كبيرة، وقالت الشافعية مكروه لا غير. وعندنا نحن الحنفية تفصيل، فمن سب الدهر وأراد به الزمان كما هو المتعارف لدى العامة فلا كلام في الكراهة، وإذا أراد رب الزمن وهو الله عز وجل ولا أظن أحدا يريد ذلك فلا كلام في الكفر، راجع الآية 139 من سورة الأنعام المارة. ومن هذا القبيل إذا نسب فعل الأشياء إلى الكواكب(4/117)
وغيرها، فإن أراد أنها بنفسها تؤثر يكون كفرا، وإذا قال المؤثر هو الله وإنما اقتضت قدرته أن يكون إذا كان كذا كان كذا فلا بأس، وإن أطلق في هاتين المسألتين فمحل تردد لاحتمال الأمرين، والأولى أن يحمل على ما هو الأحسن في مثل هذا. وكانوا قبل الإسلام يستدون الإهلاك إلى الدهر إنكارا منهم لقبض الأرواح من قبل ملك الموت بإذن الله، وكذلك يستدون كافة الحوادث إليه لجهلهم أنها بتقدير الله تعالى، وهؤلاء بخلاف الدهرية لأنهم مع اسنادهم الوقائع إلى الدهر لا يقولون بوجوده تعالى، بل يقولون إن الدهر مستقل بالتأثير، أما هؤلاء فيعترفون بوجود الله. قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ... )
الآية 9 من سورة الزخرف المارة، وهي مكررة كثيرا في القرآن «وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» 24 أي لا علم لهم ولا يقين فيما يقولونه، لأن مصدره الحسبان والميل إلى ما يشتهون من القول من غير موجب، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول من غير حجة أو بينة فاسد باطل، وإن متابعة الشك والوهم منكر. واعلم أن بعض العلماء أنكر قراءة أنا الدهر بضم الراء الوارد في حديث أبي داود المار ذكره بداعي لو كان صحيحا لكان من جملة أسمائه تعالى، ويرويه بفتح الراء ظرفا لأقلب، أي إني أقلب الليل والنهار الدهر، ولكن يردّه رواية مسلم (فإن الله هو الدهر) لذلك إن الجمهور على ضم الراء ولا يلزم أن يكون من أسمائه تعالى، لأنه جار على التجوز ولا مانع لأن الله تعالى له أسماء كثيرة لا يعلمها غيره وهذه التسعة والتسعون المشهورة هي أسماؤه الحسنى، راجع الآية 8 من سورة طه في ج 1 تعلم أن أسماءه لا تحصى وأن لها مشتقات كثيرة، قال تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ» واضحات لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير لأنها ظاهرة «ما كانَ حُجَّتَهُمْ» بعدم قبولها والأخذ بها «إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا» الذي ماتوا قبلنا «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 25 أنت وأصحابك يا محمد بأن ربكم الله يحيي بعد الموت، فيا سيد الرسل «قُلِ» لهؤلاء الجهلة «اللَّهُ يُحْيِيكُمْ» من العدم ابتداء من نطفة ضعيفة ميتة «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» عند انقضاء آجالكم من الدنيا «ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ» أنتم ومن قبلكم ومن بعدكم(4/118)
أحياء كما يقتضيه معنى الجمع «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» الذي مجيئه حق «لا رَيْبَ فِيهِ» لأنه لا بد واقع «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» 26 حقيقة قدرته تعالى وتصرفه في ذلك «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ» بدل من يوم في صدر الآية والعامل بهما «يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ» 27 إذ يصيرون إلى النار. قال تعالى «وَتَرى» يا سيد الرسل في ذلك اليوم الرهيب «كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً» على ركبها بين يدي الله عز وجل تنتظر القضاء بالعدل من الحاكم العدل وإذ ذاك «كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا» الذي نمقته حفظتها بأعمالها وأقوالها ويقال لها «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 28 في الدنيا عن الخير خيرا منه وعن الشر بمثله. ثم يقول الله تعالى «هذا» الذي أحصاه حفظتنا هو «كِتابُنا» لأنا أمرناهم بتدوينه وهو منطبق على ما كان في علمنا قبلا وهو الآن «يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ» الذي وقع منكم بلا زيادة ولا نقص لأنه موافق للحق الذي هو في لوحنا أزلا، واعلموا أيا الناس «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ» نأمر الملائكة بنسخ وكتابة «ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 29 في الدنيا مما هو مدون عندنا، لأن الاستنساخ لا يكون إلا عن أصل. وتدل هاتان الآيتان على أن استحقاق العقوبة لا يكون إلا بعد مجيء الشرع، على أن الواجبات لا تجب إلا بالشرع خلافا للمعتزلة القائلين إن بعض الواجبات تجب بالعقل. هذا ومما يؤيد التفسير الذي جرينا عليه ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: إن الله تعالى خلق النون وهي الدواة، وخلق القلم، فقال اكتب، قال ما أكتب؟ قال ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول بر أو فاجر، ورزق مقسوم حلال أو حرام، ثم ألزم كل شيء بيانه، وذلك دخوله في الدنيا متى، وخروجه منها كيف، ومقامه فيها كم وخروجه منها كيف، ثم جعل على العباد حفظة وعلى الكتاب خزانا، فالحفظة يستنسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم، فإذا فنى الرزق وانقطع الأمر وانقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم، فيقول الخزنة ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا، فترجع فيجدونه قد مات. ثم قال ابن عباس: ألستم قوما عربا تسمعون الحفظة يقولون (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ) وهل يكون(4/119)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
الاستنساخ إلا من أصل؟ وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه رضي الله عنه أنه سئل عن الآية، فذكر نحو ذلك، ثم قال هل يستنسخ الشيء إلا من كتاب؟
وقد روى الاستنساخ من اللوح عنه جماعة «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ» و «ذلِكَ» الإدخال «هُوَ الْفَوْزُ» للمؤمنين والظفر العظيم «الْمُبِينُ» 30 الظاهر لهم في الجنة جزاء عملهم
«وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» فيقال لهم يوم الحساب وظهور الحجة عليهم «أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ» في الدنيا من قبل رسلي وتحذركم من هول هذا الموقف «فَاسْتَكْبَرْتُمْ» عن الأخذ بها منهم «وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ» 31 معتادين الإجرام حتى صارت ديدنا لكم لا يحتمل انفكاككم عنها «وَ» قد كنتم في الدنيا أيضا «إِذا قِيلَ» لكم «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ» بالبعث «حَقٌّ وَالسَّاعَةُ» هذه التي أنتم فيها الآن حق «لا رَيْبَ فِيها» أيضا «قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ» ولم تلتفتوا إلى أن الذين أخبروكم بها هم رسل الله وأنهم يتكلمون عن الله وبأمر الله وجاوبتموهم بقولكم «إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا» بما تقولونه فلا نعتقده إلا توهما ولا نقول به إلا حدسا كأن الذين يعظونكم بذلك ليسوا بشيء وقد أكدتم تكذيبهم بقولكم «وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ» 32 ما تقولونه وبقيتم شاكين بوجود هذه الحياة ومنكرين يوم الجمع هذا لأنه عندكم لا يعقل وإن ما لا يعقل لا يكون، ولم تعلموا أن أفعال الله لا تدرك، وأنها لا تقابل إلا بالخضوع لها، فانظروا الآن إلى ما كان منكم في الدنيا. قال تعالى «وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا» في الدنيا وجزاؤه لأن العقوبة تسيء صاحبها وتقبح منه لذلك سميت سيئات ولما رأوها مجسمة أمامهم دهشوا «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» 33 من أنواع العقاب الذي كان أخبرهم به رسلهم، إذ كانوا ينكرون ولا يصدقون ويسخرون بهم عند ما يذكرون لهم ذلك ويخوفونهم به «وَقِيلَ» لهم بعد إدخالهم النار وإحاطة العذاب بهم «الْيَوْمَ نَنْساكُمْ» فنترككم في هذا الشقاء ونجعلكم كالمنسيين بالنسبة لكم وهذا من باب المقابلة أي المتروكين لأن الله تعالى لا ينسى شيئا وذلك «كَما نَسِيتُمْ» في الدنيا «لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» في الآخرة ولم تبالوا به ولم تصفوا(4/120)
لنصح أنبيائكم وإرشادهم لكم بالعودة إليه «وَمَأْواكُمُ» الذي تأوون إليه للاستراحة وعند النوم هو «النَّارُ» لا راحة لكم ولا نوم فيها بل عذاب دائم مستمر «وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» 34 يخلصونكم منها أو يمنعون عذابها عنكم «ذلِكُمْ» الجزاء الشاق والعذاب الذي لا يطاق «بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» بنعيمها الزائل وبهجتها المزخرفة وشغلكم حكامها عن الاعتراف بهذا اليوم. «فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها» أبدا وقرىء بضم ياء يخرجون وفتحها وهو أحسن «وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» 35 يسترضون فلا يطلب منهم إرضاء ربهم والإيمان به وبالبعث والنبوة لأنه لا يقبل عذر فيه ولا توبة. والالتفات من الخطاب إلى الغيبة إيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب استهانة بهم، وأن الخطاب للخزنة الذين نقلوهم من مقام المخاطبة إلى غيابة النار، والالتفات من أنواع البديع المستحسنة في الكلام. قال تعالى «فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ» 36 إخبار مراد منه الإنشاء أي احمدوا ربكم أيها الناس ومجدوه وعظموه لأنه ربكم ورب كل شيء «وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فكبروه وعزروه وحق للرب أن يعظم ويمجد ويكبر ويحمد «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب في الانتقام من أعدائه البليغ في النصرة لأوليائه «الْحَكِيمُ» 37 في أحكامه وإحكامه. وقد ختمت هذه السورة بمثل ما بدئت به من الصفتين الجليلتين كما هو شأن كثير من السور، وتفيد هذه الصفات أن الكمال كله في القدرة والرحمة والحكمة ليس إلا لله وأن لا متّصف بكمال هذه الصفات غير الإله العظيم الكبير في سمواته وأرضه، المتصرف بما فيهما، ويوجد سورتان مختومتان بهذه اللفظة، الحشر والتغابن، روى مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: العزّ إزاره والكبرياء رداؤه، فمن ينازعه عذبه. وأخرج الرقاق وأبو مسعود عنهما: يقول الله عز وجل العزّ إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني في واحد منهما قذفته في النار. وهذا مخرج على ما تعتاده العرب في بديع استعارتهم، وذلك أنهم يكنون عن الصفة اللازمة بالثوب، فيقولون شعاره التقوى ولباسه الزهد، فضرب الله عز وجل بالإزار والرداء مثلا له جل شأنه في(4/121)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
انفراده في صفة الكبرياء والعظمة. وفي هذا إعلام بأنهما ليسا كسائر الصفات التي يتصف بها بعض المخلوقين مجازا كالرحمة والكرم وغيرهما، وشبههما بذلك لأن المتصف بهما يشملانه كما يشمل الرداء الإنسان، ولأنه لا يشاركه في ردائه وإزاره أحد، فكذلك الله تعالى لا ينبغي أن
يشاركه فيهما أحد، لأنهما من صفاته اللازمة المختصة به وهذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تفسير سورة الأحقاف عدد 16- 66- 46
نزلت بمكة بعد الجاثية، عدا الآيات 10، 15، 35 فإنها نزلت بالمدينة، وهي خمس وثلاثون آية، وستمئة وأربع وأربعون كلمة، وألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «حم» 1 تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» 2 تقدم تفسيرها بنظيراتها التي قبلها حرفيا «ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» الذي تقتضيه الحكمة الكونية والتشريعية وهذا الاستثناء مفرغا من أعم الأحوال من فاعل خلقنا أو مفعوله، أي ما خلقناهما في حال من الأحوال إلا حالا ملابسا بالحق، وفيه دلالة على وجود الصانع وصفات كماله وابتغاء أفعاله على حكم بالغة عظيمة وانتهائها إلى غايات جليلة بالغة، وكل ذلك يؤجل إلى قدر مقدر في اللوح المحفوظ لا يتبدل ولا يتغير، ولا يقدم ولا يؤخر، يدلك عليه قوله عز قوله «وَأَجَلٍ مُسَمًّى» ينتهي إليه فناؤهما، وهو معلوم لديه وحده، لأن علمه مما اختص به نفسه المقدسة. قال تعالى «وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا» به في هذا القرآن من بعث وحساب وغيره «مُعْرِضُونَ» 3 عنه لا يلتفتون إليه والواو للحال أي والحال أنهم في إعراض عريض عنه، فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء المعرضين «أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» أخبروني عنها وكيف تعبدونها وهي أوثانا جامدة لا حقيقة لها «أَرُونِي» ماهيتها و «ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ» حتى تستحق العبادة «أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي(4/122)
السَّماواتِ»
حتى عدلتموها بخالقها كلا «ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا» القرآن جاء فيه ما تقولونه، وهو ليس فيه شيء من ذلك «أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ» وبقية منه يؤثر عن الغير، ومن هنا سميت الأحاديث أخبارا، أي أروني مطلق علم من العلوم السالفة «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 4 في زعمكم هذا بأنها أهل للعبادة فإذا لم يكن عندكم شيء من ذلك فأنتم إذا ظالمون.
مطلب عدم سماع دعاء الكفرة من قبل أوثانهم وتفتيده وتبرؤ الرسول صلّى الله عليه وسلم من علم الغيب وإسلام عبد الله بن سلام:
«وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ» دعاءه ولو ظل دائبا يدعوها ليل نهار «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» لا تجيبه لأنها جماد لا تبصر ولا تسمع ولا تفهم باللفظ ولا بالإشارة «وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ» 5 لأنهم لا يدرون بهم. هذا إذا كانوا أصناما أو كواكب، أما إذا كانوا من ذوي العقول فإن كانوا من المقربين المقبولين عند الله كعيسى والمسيح وعزير والملائكة فلاشتغالهم عنهم بما هو خير، أو كونه بمحل ليس من شأنه الذي فيه أن يسمع دعاء الداعي، لأن الله تعالى يصون سمعهم عن سماع دعائه، لأن ما لا يرضاه الله يؤلمهم سماعه، وإن كان لا يضره لأنه لم يأمر به ولم يرده، ويتنزه الله تعالى عن مثله، وإن كان من أعداء الله كشياطين الجن والإنس الذين عبدوا من دون الله فإن كان ميتا فلاشتغاله بما هو فيه من الشر لو فرض سماعه، والميت ليس من شأنه السماع ولما يتحقق منه السماع إلا معجزة كسماع أهل القليب لقوله صلّى الله عليه وسلم ما أنتم بأسمع منهم وما جاء في السلام على الأموات وأنهم يردون السلام فذلك من قبل أرواحهم الخالية عن أجسادهم، لأن الأرواح كلها خالدة المنعم منها والمعذب، وهؤلاء المتخذين للعبادة ليسوا بأولئك، وإن كان حيا فإن كان بعيدا عنه فالأمر ظاهر بعدم السماع وإن كان قريبا سليم الحاسة فلا فائدة من إجابته، إذ لا يقدر على إجابة طلبه.
قال تعالى «وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ» العابدون والمعبودون «كانُوا» أي المعبودون «لَهُمْ» لعابديهم «أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ» 6 جاحدين لها منكريها يقولون كما أخبر الله عنهم (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) الآية 63 من سورة(4/123)
القصص في ج 1، وهي مكررة في المعنى كثيرا فيخذلون حينذاك ويعلمون أنه قد سقط في أيديهم «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ» الذي أتاهم على لسان رسولهم وهو القرآن «لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» 7 وإنما حكموا عليه بأنه سحر لعجزهم عن الإتيان بمثله، وعلى الأنبياء بأنهم سخرة لأن الأمور التي تظهر على أيديهم خارقة للعادة «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ» من لدن نفسه أي إذا لم يقولوا سحر قالوا اختلقه «قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ» فيكون تجاوزا على الله «فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» يدفع عني عذابه أو يمنعه من الوصول إلي فكيف افتري عليه لأجلكم وأنتم لا تستطيعون كف عقوبته عني ولكن «هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ» من القدح في وحي الله والطعن فيّ «كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ» لمن عصاه إذا لم يكن مشركا به «الرَّحِيمُ» 8 بمن أطاعه ورجع إليه. تشير هذه الآية إلى أن من تاب وأناب لربه فإنه يغفر له ويرحمه، وهو كذلك إذا شاء «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ» حتى تقولوا إني ابتدعت ما جئتكم به (الابتداع أن يأتي الرجل بما لم يكن قبل) ولم تنكرر هذه الكلمة في القرآن، أي لأني لست أول رسول أرسله الله لهداية البشر حتى تعجبوا وتقولوا ما تقولون، إذ بعث رسل قبلي جاءوا أقوامهم بمثل ما جئتهم به، فكيف تنكرون نبوتي وتجعلونها بدعة «وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ» فيما يستقبل من الزمان في هذه الدنيا هل أخرج أو أقتل أو أحبس كما فعلت الأقوام السالفة بأنبيائهم، ولا أعلم هل تصرون على تكذيبكم لي فتهلكون خسفا أو غرقا أو رهبة، أو تؤمنون فتنالون ما وعدني به ربي إليكم من نعيم الآخرة كغيركم من الأمم المكذبة والمصدقة؟ لأن هذا كله من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله لأني بشر مثلكم لا علم لي به إلا أن الله تعالى أخبرني بأن المؤمن مصيره في الآخرة الجنة، والكافر مرجعه النار، وأمرني أن أخبركم بهذا، وهو حق لا مناص منه. وفي هذه الآية ردّ على من ينسب إلى الأولياء علم الغيب من الأمور الكلية والجزئية، لأن الأنبياء أنفسهم صرّحوا بعدم علمهم الغيب إلا ما يوحيه الله إليهم منه، وما لا يكون للنبي لا يكون للولي قطعا.(4/124)
قال في بدء الأمالي:
ولم يفضل ولي قط دهرا ... نبيا أو رسولا بانتحال
وقال النسفي لا يبلغ ولي درجة الأنبياء. وقال إن نبيا واحدا أفضل من جميع الأولياء فتنبه، واعلم أن الولي مهما بلغ من علو الشأن والرفعة لا ينال أدنى درجات الأنبياء، فضلا عن الرسل. قال تعالى يا أكرم الرسل قل لقومك ما أتبع فيما أقوله لكم سحرا ولا كهانة ولا اختلاقا ولا خرافات «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» من ربي وإني لست بساحر ولا كاهن ولا قصاص «ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» 9 لكم شريعة الله كما أوحاها إلي لا أبتدع شيئا فيها من نفسي ولا أنقل لكم عن غيره شيئا أبدا، واعلم أن البدع والبديع من كل شيء المبدأ، والبدعة تطلق على ما لم يكن زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم، وتكون حسنة إذا أجمع على حسنها المؤمنون، وسيئة إذا أجمعوا على قبحها، ولا عبرة بقول البعض في التحسين والتقبيح.
هذا، قالوا لما نزلت هذه الآية فرح المشركون وقالوا واللات والعزّى ما أمرنا وأمر محمد عند الله إلا واحدا، ولولا أنه ابتدع ما يقوله من ذاته لأخبره الذي بعثه ما يفعل، وقال الكلبي: لما ضجر أصحاب محمد من أذى المشركين قالوا له حتى متى تكون على هذه الحالة فقال ما أدري ما يفعل بي ولا بكم، وهل أترك في مكة أم أومر بالخروج إلى أرض رفعت لي بالمنام ذات نخيل وشجر.
وما أخرجه أبو داود في ناسخه من أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة الفتح ج 3 (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) وأن الأصحاب قالوا له هنيئا لك يا نبي الله، قد علمنا ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله الآية 48 من الأحزاب ج 3 وهي (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً) وقوله تعالى (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الآية 5 من سورة الفتح ج 3، لا يصح لأن هذه خبر من الأخبار لا يدخلها النسخ وهي محكمة.
وهذه الآية المدنية الأولى من هذه السورة، قال تعالى «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ» هذا القرآن الذي أتلوه عليكم منزل «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ» أيها اليهود «وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ» في المعنى يعني التوراة والإنجيل(4/125)
والزبور والصحف السماوية «فَآمَنَ» ذلك الشاهد وهو عبد الله بن سلام على أن القرآن من عند الله كما آمن بالتوراة بأنها من عنده «وَاسْتَكْبَرْتُمْ» عن الإيمان به أنفة وعدوانا وظلما لأنفسكم وغيركم «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» 10 ويناسب هذه الآية في المعنى الآية المدنية 17 من سورة هود المارّة، يروى البخاري ومسلم عن سعيد بن العاص قال: ما سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول لحي يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، قال وفيه نزلت هذه الآية.
وأخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال: بلغ عبد الله بن سلام مقدم النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة، وهو في أرض يخترق النخيل، فأتاه وقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة، ومن أي ينزع الولد إلى أبيه، ومن أي شيء ينزع الولد إلى أخواله؟ فقال صلّى الله عليه وسلم أخبرني بهن آنفا جبريل، أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيارة كبد الحوت، وأما الشّبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبقت كان الشبه لها، قال أشهد أنك رسول الله. ثم قال يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود ودخل عبد الله ابن سلام البيت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ فقالوا أعلمنا وابن أعلمنا وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أفرأيتم إن أسلم عبد الله، قالوا أعاذه الله من ذلك، زاد في رواية، فأعاد عليهم، فقالوا مثل ذلك، قال فخرج عبد الله إليهم، فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فقالوا شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه، زاد في رواية، فقال عبد الله بن سلام هذا الذي كنت أخافه يا رسول الله أن يصموني به وأنا براء مما يقولون، ولكن الشريف يخاف أن يلصق به ما يعيبه، وبهذا ثبت كذب اليهود وبهتهم.
قالوا وكان اسمه الحصين، فلما أسلم سماه رسول الله عبد الله، وفي كتب اليهود أن الحصين هذا رأى النبي صلّى الله عليه وسلم حينما قدم بصرى وصار يتردد إليه ويعلمه التوراة، حتى انهم نسبوا تأليف القرآن إليه لعنهم الله وأخزاهم ما أبهتهم، لأن هذا لم يصل(4/126)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
إلى مكة، ولم ير النبي صلّى الله عليه وسلم إلا بعد الهجرة بالمدينة، فلما رآه وصارت اليهود تقول هذا كذاب، قال لهم وجه هذا ليس بوجه كذاب، على أنه لو فرض صحة اجتماعه به في بصرى فإن ذلك الوقت كان عمره صلّى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة، ولم تحدثه نفسه بنزول كتاب عليه كي يؤلفه له، ولم يدع النبوة ليركن إليه ويعلمه، ولم يبق في بصرى زمنا يستوعب تعرفه به فضلا عن تعليمه، وقد بقي حتى بلغ الأربعين من عمره، ولم يتكلم بشيء من الوحي، قاتلهم الله على إفكهم وكفرهم، وما هذا إلا حسد منهم لعبد الله على إيمانه ليس إلا وكان من أمره ما كان رضي الله عنه، ولهذا البحث صلة في الآية 47 من سورة النساء في ج 3، لأنه رضي الله عنه تأخر في إعلان إسلامه لليهود خوفا من الطعن فيه كما يشير إليه قوله (هذا الذي كنت أخافه) بالحديث المار ذكره في معرض العذر عن تأخير إسلامه، وهناك أقوال بأن الشاهد في هذه الآية موسى عليه السلام شهد على التوراة التي هي مثل القرآن بأنها منزلة من عند الله، كما شهد محمد على القرآن فآمن من آمن بموسى والتوراة واستكبرتم يا معشر قريش عن الإيمان بالقرآن ومحمد، وأن الآية نزلت في محاججة كانت بين الرسول وقومه، واستدل صاحب هذا القول بأن السورة مكية، وعبد الله بن سلام أسلم في المدينة، والأول أولى، لأن هذه الآية من المستثنيات بمقتضى الأحاديث الصحيحة المتقدمة، ومنها ما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن عوف ابن مالك الأشجعي أنها نزلت بالمدينة في قصة عبد الله بن سلام، وروى ذلك عن محمد ابن سيرين وهو ما عليه جمهور المفسرين وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وروى ذلك ابن سعيد وابن عساكر عن عكرمة.
قال تعالى «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» من أهل مكة «لِلَّذِينَ آمَنُوا» منهم بمحمد صلّى الله عليه وسلم «لَوْ كانَ» ما جاء به محمد «خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ» هؤلاء المؤمنون به بادئ الرأي لفقرهم ومهانتهم عندنا يعنون عمارا وصهيبا وابن مسعود وأمثالهم من فقراء المسلمين، ويسكتون عن أبي بكر وأصحابه الذين آمنوا قبل هؤلاء «وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ» هؤلاء الكفرة «فَسَيَقُولُونَ» عنادا وجحودا «هذا» الذي جاء به محمد وآمن به هو وأولئك «إِفْكٌ قَدِيمٌ» 11 كان يقوله مثله من قبله لقومه ليس بقرآن. قال(4/127)
تعالى ردا لقولهم كيف يقولون ذلك «وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى» أنزلناه عليه كما أنزلنا هذا القرآن على محمد «إِماماً» يقتدي به قومه «وَرَحْمَةً» منا لمن آمن به وصدقه وعمل به وهو شاهد أيضا لما جاء به محمد لأن ما جاء فيه من المعاني مطابقة لما في قرآنه من التوحيد والوعد والوعيد والقصص والأخبار «وَهذا كِتابٌ» أنزلناه عليك يا محمد «مُصَدِّقٌ» لما قبله من الكتب في المعنى وخاصة فيما هو في كتاب موسى لأنه أعم من غيره بالنسبة لسائر الكتب وجعلناه «لِساناً عَرَبِيًّا» حال من فاعل مصدق وهو الضمير العائد للكتاب «لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا» منهم بلسانهم كي يفهموه ويعوه «وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ» 12 العاملين به «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا» على إيمانهم وجمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والاستقامة في الدين التي هي منتهى العمل «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» مما يخافه غيرهم أن يلحقهم ما يكرهونه «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» 13 على ما فاتهم من الدنيا لأن الله عوضهم خيرا منها في دار جزائه ولا على ما يناله غيرهم مما يحبونه لأن كلا منهم راض بما أعطاه الله ويعتقد أن لا أحد أحسن منه من صنفه ولذلك فلا تحاسد عند أهل الجنة، راجع الآية 30 من فصلت «أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» 14 في دنياهم من الإحسان وناهيك بإحسان يكون من الملك الديان. وهذه الآية المدنية الثانية، قال تعالى «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً» بأن يحسن إليهما ولا يسيء «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً» حين ثقل عليها «وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً» بشدة الطلق حالة الوضع «وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ» فطامه عن الرضاع «ثَلاثُونَ شَهْراً» وذلك أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وأكثر مدة الرضاع سنتان، فإذا وضع لأكثر من ستة نقص من مدة الرضاع مثل ما زاد على مدة أقل الحمل، فإذا كان الوضع لتسعة مثلا كان الرضاع واحدا وعشرين شهرا وهكذا، أما من يولد لتمام سنتين على قول أبي حنيفة أو لتمام أربع سنين على قول الشافعي رحمهما الله فهو نادر، وعلى كل يكون رضاعه دون السنتين، ولهذا البحث صلة في الآية 14 من سورة المؤمنين الآتية، «حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ» جمع لا واحد له من لفظه.(4/128)
وقال سيبويه واحده شدة، راجع تفصيل ما فيه في الآية 14 من سورة القصص في ج 1، «وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً» هي نهاية تمام قوته واستوائه وغاية كمال شبابه وعقله وكماله، ولهذا جاء في الحديث أن الشيطان يمر يديه على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ويقول له يأبى وجه لا يفلح. وأخرج أبو الفتح الأزدي من طريق جديد عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا: من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره على شره فليتجهز إلى النار. وقيل في هذا المعنى:
إذا المرء في الأربعين ولم يكن ... له دون ما يهوى حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى ... وإن جرّ أسباب الحياة له العمر
لأنه والعياذ بالله ينطبع على ما هو عليه فيصعب تبديل خلقه كما يستحيل تغير خلقه، وفي هذا المعنى أيضا يقول الآخر:
وماذا يبتغي الشعراء مني ... وقد جاوزت سنّ الأربعين
وقال الآخر:
أبعد شيي أبتغي الأدبا ... وكنت قبلا فتى مهذبا
إلا من شملته عناية الله فخصه بلطف منه بسائق ما قدر له في الأزل، لأنه قد يسبق عليه كتابه كما جاء في الحديث الصحيح المار ذكره. «قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي» ألهمني ووفقني «أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ» بالإيمان والهداية والرشد «وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ» مني بأن يكون خالصا لوجهك «وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي» بأن تكون صالحة مرضية أنتفع بها وتنتفع بي في الدنيا والآخرة «إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» 15 قلبا وقالبا «أُولئِكَ» أمثال هذا القائل هم «الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا» في الدنيا من الطاعات، لأن المباحات وإن كانت حسنة إلا أنها قد تكون لا حسنة ولا قبيحة فلا يثاب عليها، ولهذا عبّر بالأحسن جل إحسانه القائل «وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ» فلا نؤاخذهم عليها وسيعدّون «فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ» في الآخرة وكان هذا الوعد بالقبول والتجاوز وإدخال الجنة لهؤلاء الشاكرين التائبين «وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» 16 به في الدنيا على لسان رسلهم لا خلف فيه البتة.(4/129)
مطلب فيما اختص به أبو بكر ورد عائشة على مروان ومعرفة الراهب:
أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهم أنها نزلت في أبى بكر الصديق رضي الله عنه، وقال علي كرم الله وجهه إنها نزلت في أبي بكر حيث أسلم أبواه جميعا، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أنه أسلم أبواه غيره وأوصاه الله بهما، ولزمت هذه الوصية من بعده، وفي قوله كرم الله وجهه (مِنَ الْمُهاجِرِينَ) دليل على مدنية هذه الآية، إذ لم تطلق هذه الكلمة على أحد قبل الهجرة. قال ابن عباس وقد أجاب الله دعاءه فأعتق تسعة من المؤمنين كانوا يعذبون في الله منهم بلال، ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه ووفقه لفعله. وقد أجاب دعاءه بإسلام أهله أيضا فاجتمع له أبواه أبو قحافة عثمان بن عمرو، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو، وابنه عبد الرحمن، وحفيده أبو عتيق، وكلهم مسلمون. ولم يجتمع لأحد من الصحابة مثل هذا، وقد صحب رضي الله عنه محمدا صلّى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة والنبي ابن عشرين سنة في تجارة إلى الشام، فنزلوا منزلا فيه سدرة، فقعد صلّى الله عليه وسلم في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين، فقال له الراهب من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب نسبة لجده ليعلمه مقامه وقدره لأن عبد المطلب مشهور في مكة وغيرها، وكان يلقب بقاضي العرب وخطيب الحرم ليحترمه، فقال الراهب هذا والله نبي، وما استظل تحتها بعد عيسى أحد إلا هذا، وهو نبي آخر الزمان، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، فكان لا يفارقه في سفر ولا في حضر، وبعد أن شرفه الله بالنبوة آمن به، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ودعا ربه بما حكاه الله عنه في هذه الآية. وما قيل إنها نزلت في سعد بن أبي وقاص لم يثبت، وهو أهل لأن ينزل به قرآن لأنه من العشرة المبشرين بالجنة، ومن رءوس المهاجرين الأخيار وأحبهم إلى النبي المختار، والآية بلفظها عامة يدخل فيها كل من هذا شأنه ويدخل فيها أبو بكر وسعد وأمثالهما من الصحابة دخولا أوليا، وعلى القول بأنها خاصة بالصديق فيكون لفظ الإنسان بالآية من العام المخصوص، لأن لفظ الإنسان(4/130)
لم يأت في القرآن العظيم إلا في سياق الذم، قال تعالى (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) الآية 17 من عبس (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الآية 6 من الإنفطار (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) الآية 6 من الإنشقاق (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) الآية 2 من العصر في ج 1 وقال (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) من آخر الأحزاب في ج 3، فهذه كلها في معرض الذم، فتكون الأولى في معرض المدح هنا، إذ ما عموم إلا وخص منه. قال تعالى «وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما» تضجر منهما كراهية لهما راجع الآية 23 من الإسراء في ج 1، «أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ» هذه الجملة مقول القول أي أأنشر حيّا من قبري بعد بلائي «وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي» فلم يحيى منهم أحد «وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ» عليه لما سمعا كلامه الدال على إنكار البعث، وعدم الإيمان وصارا يقولان له «وَيْلَكَ» هلاكك من وبال هذا الكلام، وأصل الويل الدعاء بالثبور والهلاك، ويقوم مقام الحث على الفعل أو تركه «آمِنْ» بالله وصدق رسوله واعتقد بالحياة الآخرة بعد الموت، فقد وعد الله به رسله وأخبرونا به «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» واقع لا محالة، وأنه سيدخل المؤمنين الجنة والكافرين به النار البتة «فَيَقُولُ» لهما «ما هذا» الذي تدعوان إليه بأن أصدقه وأقبله «إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» 17 خرافاتهم الكاذبة الملعقة، وهذه الآية عامة في كل كافر دعواه والداه إلى الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، فلم يفعل ولم يصغ لقولهما، وما زعمه مروان في الحديث الذي رواه البخاري عن يوسف بن ماهك قال:
كان مروان على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له، فقال له عبد الرحمن بن ابي بكر رضي الله عنهما شيئا، فقال لشرطته خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه، فقال مروان هذا الذي أنزل الله فيه (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) فقالت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها من وراء الحجاب ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن (تريد مما هو يفيد الذم) إلا ما أنزل الله في سورة النور من براءتي. ومما يؤيد قول عائشة وينفي قول مروان عليه ما يستحق من الملك الديان قوله تعالى «أُولئِكَ» العاقون الكافرون هم «الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ(4/131)
الْقَوْلُ»
بالعذاب المقدر أزلا «فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ» 18 الآخرة كما خسروا الدنيا، وعبد الرحمن رضي الله عنه وعن والديه من أفاضل المؤمنين فلا يتصور دخوله في هذه الآية البتة، وإسلام أبويه قبله لا يقتضي نزول هذه الآية فيه، لأن إسلامه جب ما قبله فضلا عن أنه من أبطال المؤمنين، وله مواقف مشهورة يوم اليمامة وغيره، لهذا فلا يعقل نزول هذه الآية فيه، بل هي عامة في كل مؤمنين دعيا أولادهما للإيمان، قال تعالى «وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا» بحسب برهم وكمال إيمانهم، وللكافرين الدركات بمقتضى عقوقهم وعصيانهم، وفيه تغليب الدرجات على الدركات «وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ» يوم القيامة «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» 19 فيها فلا يزاد على سيئات المسيء ولا ينقص من حسنات المحسن.
مطلب فى قوله (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ) الدنيا وكيفية إهلاك قوم عاد:
«وَ» اذكر لقومك يا محمد «يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ» فيقال لهم على رءوس الأشهاد «أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها» فلم يبق لكم في الآخرة ما تكافأون عليه لأنكم استوفيتم حظكم في الدنيا «فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ» الذي فيه الذل والصغار والخزي والهوان «بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» بطرا، والكبرياء من خصائص الإله فلا يحق لكم أن تتصفوا به بسبب ما خولكم من نعمه من مال وولد ورئاسة بل عليكم أن تشكروا نعمه وتتواضعوا لجلاله ليزيدكم «وَ» يجازيكم أيضا «بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ» 20 تخرجون عن طاعته وتتجاوزون حدوده وتقعون في حماه، وقد وصف الله تعالى هذا الصنف بالاستكبار وهو من عمل القلب، والفسق وهو من عمل الجوارح، وجعل عذابهم بالذل والهوان بمقابلة ذلك.
روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا هو متكىء على رمال حصير قد أثر في جنبه، فقلت أستأنس يا رسول الله؟ قال نعم، فجلست فرفعت رأسي في البيت فو الله ما رأيت شيئا يرد البصر إلا أهبّة ثلاث، فقلت أدع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس(4/132)
والروم ولا يعبدون الله، فاستوى جالسا، ثم قال أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟
أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت استغفر لي يا رسول الله.
طلب المغفرة رضي الله عنه إذ فهم من كلام صاحبه صلّى الله عليه وسلم أن طلبه ذلك مما لا ينبغي أن يقع من مثله وظن أنه أخطأ باقتراحه ذلك، غفر الله له ورضي عنه يخاف من مثل هذا وهو مبشر بالجنة، فكيف بنا أيها الناس؟ نسألك اللهم العفو والعافية والرضاء، ولنذكر نبذة مما كان عليه حضرة الرسول لعلنا نتعظ ونقنع بما عندنا رزقنا الله القناعة بالدنيا والشفاعة بالآخرة. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت:
ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
ورويا عنها قالت: كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا إنما هو (غذاؤنا) الأسودان التمر والماء إلا أن نؤتى باللحم، أي من قبل الغير. وروى البخاري عن أبي هريرة قال:
لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار أو كساء قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. وروى البخاري عن ابراهيم بن عبد الرحمن أن عبد الرحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائما فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، فكفن في برده إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، قال وأراه قال قتل حمزة وهو خير مني فلم يوجد ما يكفن به إلا برده، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وقد خشيت أن تكون عجّلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام. وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير. وقال جابر بن عبد الله: رأى عمر بن الخطاب لحما معلقا في يدي، فقال ما هذا يا جابر. فقلت اشتهيت لحما فاشتريته، فقال أو كلما اشتهيت يا جابر اشتريت أما تخاف هذه الآية (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) إلخ. وجاء رجل إلى عمر فرآه يأكل في قصعة وآخرين يأكلون في قصعة أخرى، فجلس معه بزعمه أن الذي أمامه أحسن فإذا هي عظام وعصب فقال ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال فما تظن، إنا إذا ذبحنا الجزور بعثنا بمطايبها إلى آل محمد صلّى الله عليه وسلم، والذي يليه إلى(4/133)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)
المهاجرين والأنصار، والذي يليه إلى من حضر من المسلمين، وما بقي لعمر وآل عمر، على أننا أعلم بصلاء الجداء منكم، ولكن لا نريد أن يقال لنا غدا (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) إلخ. وعليه فلا يظن أحد أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصبر على قلة الأكل وأدونه لعدم قدرته على غيره، كلا كيف وقد خيره الله أن يجعل له جبال مكة ذهبا، ولكن هذا من باب الزهد له صلّى الله عليه وسلم ولعمر رضي الله عنه، والآية في كفار قريش لأنهم كانوا مستغرقين في لذات الدنيا معرضين عن الآخرة تاركين ما يوصل إليها من خير
ولهذا ذكرهم الله بقوله «وَاذْكُرْ» يا محمد لقومك الكافرين «أَخا عادٍ» هودا عليه السلام «إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ» جمع حقف رمل مستطيل فيه اعوجاج وانحناء يقال احقوقف الشيء أي أعوج أو كثيب الرمل المعوج، وقال ابن عباس هو واد بين عمان ومهرة، فيه ذلك الكثيب المنكسر وإلا فاللغة لا تسمي الوادي حقفا وإنما ذكرهم بهم لأنهم كانوا أكثر منهم أموالا وأولادا وقوة وجاها وقد سلط الله عليهم العذاب بكفرهم ليتعظوا بمن قبلهم لئلا يصيبهم ما أصابهم «وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ» جمع نذير بمعنى الرسل «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ» أي قبل نبيهم وبعده قال لهم «أَلَّا تَعْبُدُوا» أحدا ولا شيئا «إِلَّا اللَّهَ» وحده المستحق للعبادة «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ» إن عبدتم غيره «عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» 21 في هوله عظيم في عذابه ترتعد له القلوب وتذل فيه الجبابرة وتقشعر له الجلود وتهان فيه الأكاسرة والقياصرة «قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا» تصرفنا بما تموه علينا من الكذب «عَنْ» عبادة «آلِهَتِنا» التي دأبنا عليها وآباؤنا من قبلنا، كلا لا نقبل منك «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا» به من العذاب «إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» 22 في قولك «قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ» وحده بوقت مجيء العذاب الذي هددتكم به لم يخبرني به «وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ» من لدنه لتعلموا أني قمت بواجبي نحركم وأديت ما أمرت به «وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ» 23 أهمية عذاب الله ولا تلقوا إليه بالا، فلم يلتفتوا إلى قوله، قال تعالى «فَلَمَّا رَأَوْهُ» أي العذاب الذي وعدهم به نبيهم وقد بينه الله بقوله جل قوله «عارِضاً» في ناحية السماء «مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ» قال ابن عباس(4/134)
أوديتهم بين عمان ومهرة، وقيل في مهرة في أراضي حضرموت باليمن، ففرحوا فرحا شديدا، لأن المطر كان حبس عنهم مدة طويلة، وكانوا أهل عمل، إلا أنهم يسيرون إلى المراعي ومواقع القطر في الربيع، فإذا هاج العود ويبس رجعوا إلى منازلهم، وهم من قبيلة إرم «قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» لأن العارض هو السحاب يعرض في ناحية السماء ثم يطبق بآفاقها فيمطر إن شاء الله، قال الأعشى:
يا من يرى عارضا قد بت أرقبه ... كأنما البرق في حافاته الشعل
وقال الآخر:
يا من رأى عارضا أرقت له ... بين ذراعي وجبهة الأسد
قال تعالى ردا على زعمهم «بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ» من العذاب «رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ» 24 لا طاقة لقوى البشر على تحمله ولا تقدر على دفعه، وهذه الجملة صفة ريح لأنه نكرة والجمل بعد النكرات صفات وبعد المعارف أحوال، وهذه الريح المشئومة «تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ» تمر به وتهب عليه «بِإِذْنِ رَبِّها» لأنها مرسلة منه بالعذاب فلا تبقي لما تمر به أثرا، فأهلكهم الله جميعا «فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ» خالية، والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية، أو لسيد المخاطبين خاصة، وقرىء يرى على الغيبة بالمجهول وهي المثبتة بالمصاحف «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الصارم «نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ» 25 قالوا إن تلك الريح كانت تحمل الفسطاط وتحمل الظعينة حتى ترى كأنها جرادة، فدخلوا بيوتهم حين رأوها وأغلقوا أبوابها، فقلعت الأبواب وصرعتهم، وأهالت عليهم الرمال سبع ليال وثمانية أيام، حتى دفنتهم وصار لهم أنين تحت الرمال، ثم كشفتها عنهم وحملتهم فرمتهم في البحر وتركت بيوتهم خالية، قالوا وإن هودا عليه السلام خط على نفسه ومن آمن به خطا فصارت تمر بهم لينة باردة معجزة له عليه السلام. روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به، وإذا تخيلت السماء (تغميت، والمخيلة السحاب الذي يظن فيه المطر) تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر،(4/135)
فإذا أمطرت السماء سرّي عنه (كشف وأزيل ما كان به من الغم) فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال لعله يا عائشة كما قال قوم عاد (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً) الآية.
وتمام القصة مبينة في الآية 58 من سورة هود المارة فراجعها وما ترشدك إليه، قال تعالى «وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ» أي قوم عاد «فِيما» في شيء عظيم «إِنْ» نافية بمعنىّ ما أي ما «مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ» يا أهل مكة من قوة الأبدان وطول الأعمار وكثرة الأموال «وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً» يستعملونها فيما خلقت لها من النظر في آلاء الله ليفقهوا أمر دينه فصرفوها لغير ما خلقت لها من أمور الدنيا الصرفة «فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ» يحول دون ذلك العذاب لأنهم استعملوها في معصية الله، فكان وجودها نقمة لا نعمة «إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ» التي أظهرها على أيدي أنبيائهم «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» 26 أحاط بهم العذاب جزاء سخريتهم، وفي هذا تهديد لأهل مكة ووعيد كبير لما يجابهون به نبيهم، «وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى» بإهلاك أهلها كديار ثمود وقرى قوم لوط وحجر صالح وقرى عاد باليمن، وإنما خاطب أهل مكة بهذا لأنهم يرونها بأسفارهم وحلة الشتاء والصيف «وَصَرَّفْنَا» بينا وكررنا «الْآياتِ» الدالة على التوحيد والبعث والأوامر والنواهي «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» 27 إلى الإيمان بذلك، فلم يفعلوا وأصروا على كفرهم «فَلَوْلا» هلا «نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً» يتقربون بها إلى الله ليشفعوا لهم عنده فعبدوها من دونه. ألا عبدوا الله وحده كي ينصرهم ويخلصهم مما حل بهم «بَلْ ضَلُّوا» عن الطريق السوي فلم يتقربوا إليه وتقربوا إلى أوثانهم التي غابت «عَنْهُمْ» عند حلول العذاب بهم فلم ينتفعوا بهم «وَذلِكَ» قولهم إنها تقربهم إلى الله وتشفع لهم عنده هو «إِفْكُهُمْ» اختلاقهم الكذب «وَما كانُوا يَفْتَرُونَ» 28 من البهت على الملائكة وعيسى وعزير من إسناد عبادتهم إليهم، إذ تبرءوا منهم وأنكروا عبادتهم لهم وعلمهم بهم أيضا، ولهذا فقد غشيهم العذاب ولم يجدوا من ينقذهم منه، ولو أنهم تعرفوا إلى الله وتقربوا له لنجاهم منه، ثم شرع جل شرعه(4/136)
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
ببيان ما وقع لحبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم مع الجن ليذكره لقومه، وقد مر أول سورة الجن ما يتعلق برؤيتهم وحضورهم لدى الرسول بصورة مفصلة فراجعها في ج 1.
مطلب تكليف الجن ودخولهم في رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم وأولي العزم من الرسل:
قال تعالى «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ» منك كما يستمعه الإنس لأنه صلّى الله عليه وسلم مرسل إليهم أيضا كما أوضحناه هناك «فَلَمَّا حَضَرُوهُ» أي مجلسك الذي كنت تتلوه فيه «قالُوا» بعضهم لبعض «أَنْصِتُوا» تأدبا واحتراما لسماعه وليعوا ما يأمر به وينهى عنه، فأصغوا وبقوا منصتين «فَلَمَّا قُضِيَ» فرغ من القراءة وتفاهموا مع حضرة الرسول وأجابهم لما سألوا عنه «وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ» 29 لهم سوء عاقبة الطغيان ومخوفيهم من هول القيامة والوقوف لدى الملك الديان لأنهم بعد أن آمنوا به صلّى الله عليه وسلم أمرهم تبليغ قومهم ما سمعوا منه وأن يؤمنوا بالله، ولما ذهبوا إليهم «قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى» يفهم من هذا أنهم كانوا يتدينون بالتوراة ولم يذكروا عيسى لأنه عليه السلام كان يعمل بالتوراة عدا ما غيرت منها شريعته بما جاء في الإنجيل المنزل عليه وهي أجل الكتب السماوية وأجمعها بعد القرآن، ويدل على عملهم بالتوراة قوله تعالى «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب السماوية الإنجيل فما قبله، لأن الذي فيها كله موجود بالقرآن، ثم وصفوه بوصف أعظم بقولهم «يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ» الذي يجب اتباعه من العقائد والأحكام «وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ» 30 لا يضل متّبعه ولا يزيغ
«يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ» الذي أنزل عليه هذا الكتاب الجليل وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي أرسله الله لإرشاد هذا العالم كله «وَآمِنُوا بِهِ» وصدقوه واعملوا بكتابه.
واعلم أن الإيمان داخل بالإجابة، وإنما خصوه بالذكر ثانيا لأنه الأصل وهو المقصود من الإجابة، فيكون من باب ذكر العام وعطف أشرف أنواعه عليه، فإذا فعلتم «يَغْفِرْ لَكُمْ» الله ربه وربنا وربكم ورب الكون أجمع «مِنْ ذُنُوبِكُمْ» التي اقترفتموها «وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» 31 حق عليكم بسبب كفركم بالله وتعديكم على الغير. تفيد هذه الآية الكريمة أن الجن كالإنس منهم المؤمن(4/137)
ومنهم الكافر، وأن مؤمنهم معرض للثواب وكافرهم مهيء للعقاب، وإنما عبر بمن لأن الغفران لا يعم كل الذنوب إذا لم يشأ الله ذلك، لأن منها ما هو حق خالص لله مبني على المسامحة، ومنها ما يتعلق بها حق الغير فيتوقف غفرانها على إرضاء أربابها لأنه مبني على المشاححة، فقد لا تسمح نفسه بعفوها، فالأولى تكفرها التوبة فقط، والثانية التوبة وتأدية الحقوق، والمقاصصة أو العفو، والتي فيها حق الله حق العبد فيلزم لها كلا الشرطين، راجع الآية 27 من سورة الشورى المارة تعلم تفصيل هذا، على أن الله تعالى إذا أراد خيرا بأمثال هؤلاء فإنه يرضي خصومهم ويدخلهم الجنة جميعا، قال ابن عباس وابن أبي ليلى إن الجن كالإنس يثابون على الإحسان ويعاقبون على الإساءة ويدخلون الجنة والنار بسبب أعمالهم، ونراهم في الآخرة من حيث لا يروننا عكس حالتهم في الدنيا كما ذكرناه في الآية 27 من سورة الأعراف في ج 1، وهذا أصح الأقوال في الجن يؤيده قوله تعالى (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) الآية 56 من سورة الرحمن في ج 3، قال هذا حمزة بن حبيب، وقال عمر بن عبد العزيز يكونون في رحاب الجنة وربضها أي فنائها، ثم هددوا قومهم فقالوا لهم «وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ» فإنه يخذله ويأخذه أخذا قويا «فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ» لأنه في قبضة ذلك الإله العظيم الذي لا يفوته فائت ولا يهرب من جزائه هارب سواء دخل في أعماق الأرض أو طار في أقطار السماء أو غاص في أعماق البحور، ولهذا البحث صلة في الآية 33 من سورة الرحمن في ج 3 فراجعه «وَلَيْسَ لَهُ» لهذا الذي لا يجيب داعي الله من «مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ» يمنعون وصول العذاب إليه أو ينصرونه منه «أُولئِكَ» الذين لا يجيبون داعي الله الآبون عن الإيمان به «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 32 ظاهر معرضين عن سلوك الطريق القويم. وفي هذه الآيات دلالة ظاهرة واضحة على عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم إلى الجن، وعلى أن الجن هم رسله إلى قومهم كرسل سيدنا عيسى عليه السلام، كما أشرنا إليه في الآية 28 من سورة سبأ وفيها ما يرشدك إلى الآية 158 من سورة الصافات والآية 128 من سورة الأنعام المارات فيما يتعلق بهذا وغيره فراجعها تجد ما تريده إن شاء الله. أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن الحبر أنه قال:(4/138)
صرفت الجن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرتين. وقد نقلنا في القصة على ما ذكره الخفاجي أن الأحاديث دلت على أن وفادة الجن كانت ستة مرات، وبذلك يجمع بين الاختلاف الوارد في الروايات بأن كان عددهم سبعة، وقيل تسعة، وقيل اثنى عشر، وقيل ثلاثمائة، وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أنهم اثنا عشر ألفا، وعن مجاهد أنهم واحد وأربعون، وهذا الاختلاف في العدد أيضا يدل على أن لقاءهم بحضرة الرسول كان ست مرات وكل راو روى عددا مما ذكر، وكما وقع الاختلاف في الوفادة والعدد والمكان وقع الاختلاف في الزمن، وقدمنا أيضا ما يتعلق فيه أول سورة الجن، وإلى هنا انتهى ما يتعلق بالجن، أما تاريخه فقد أخرج أبو نعيم في الدلائل والواقدي عن أبي جعفر قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجن في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من النبوة أي كان أول اجتماعهم به. هذا والله أعلم.
قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا» قومك يا محمد «أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ» يعجز ويتعب أو يتحيّر وحاشاه من هذا كله «بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى» مرة ثانية كما خلقهم أول مرة قل يا أكرم الرسل «بَلى» هو قادر على ذلك وهو أهون عليه، لأن الإبداع وهو اختراع ما لم يكن أعظم من الإعادة لأن لها مثالا وهو على غير مثال «إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 33 وإحياء الموتى شيء مقدور لله، فينتج إحياء الموتى مقدور لله، وذلك أن قوله (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) تشير إلى كبرى لصغرى سهلة الحصول كما ذكرنا، ويلزم منها أنه تعالى قادر على إحياء الموتى كما أنشأهم أول مرة. واعلم أن ما قرأه بعضهم بدل قدير (يقدر) لا يلتفت إليه ولا تجوز هذه القراءة كما مر في الآية 58 من سورة الأنعام، ولبحث القراءة صلة في الآية 11 من سورة الحج في ج 3.
قال تعالى «وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا» من منكري البعث وغيرهم «عَلَى النَّارِ» يوم القيامة يقال لهم «أَلَيْسَ هذا» الذي تشاهدونه من الإحياء بعد الموت والعذاب الذي أوعدكم به الرسل في الدنيا «بِالْحَقِّ» والصدق كما أخبروكم به «قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ» تعالى «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» 34 بذلك وتجحدونه. وهذه الآية الثالثة المدنية كما قال صاحب البحر(4/139)
عن ابن عباس وقتادة رضي الله عنهم وقد التفت بها جل جلاله إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم يسليه بها عما هاجمه به قومه فقال عز قوله «فَاصْبِرْ» يا أكرم الرسل «كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ» ذوو الثبات والجد والحزم «مِنَ الرُّسُلِ» قبلك وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام وهو خاتمهم، راجع الآية 13 من سورة الشورى المارة والآية 7 من سورة الأحزاب في ج 3، وهذا أصح الأقوال في عددهم، وقال بعض العلماء إن الرسل كلهم أولوا عزم، لأنهم امتحنوا وصبروا عدا من استثنى الله بقوله في حق آدم (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) الآية 115 من سورة طه. وفي حق يونس بقوله (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) الآية 48 من سورة القلم المارتين في ج 1، وقال آخرون هم الثمانية المذكورون في الآيتين 85/ 86 من سورة الأنعام المارة، وعلله بقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الآية 97 منها وقال غيرهم أنهم تسعة: نوح لصبره زمنا طويلا على أمته، وإبراهيم لصبره على الإلقاء بالنار، وإسماعيل لصبره وتسليم نفسه للذبح، ويعقوب على فقد ولده، ويوسف على البئر والسجن والمرأة، وأيوب على البلاء العظيم الذي ابتلي به، وموسى على قومه، وداود لبكائه على خطيئته أربعين سنة، وعيسى على الزهد في الدنيا، وهذا القول ضعيف لعدم ذكره خاتم الرسل الذي امتحن بأكثر منهم وصبر على أذى قومه مع قدرته عليهم بتقدير الله إياه على الانتقام منهم، والقول الأول هو الصحيح، وقد نظمهم بعض الأجلة بقوله:
أولو العزم نوح والخليل الممجد ... وعيسى وموسى والحبيب محمد
أي اصبر يا محمد على دعوة الحق ومكابدة الشدائد كما صبر إخوانك الرسل من قبلك «وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ» نزول العذاب الذي وعدناك به ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم وأنهم مهما مكثوا في هذه الدنيا لا يعد شيئا بالنسبة لطول الآخرة «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ» من العذاب وأهوال القيامة «لَمْ يَلْبَثُوا» في الدنيا «إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ» لأنهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا لما يرون من أهوال القيامة وطولها حتى يظنونه ساعة واحدة. واعلم يا سيد الرسل أن هذا القرآن الموحى إليك وما فيه من الآيات البينات «بَلاغٌ» كاف من الموعظة وان(4/140)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)
فيه العبرة لمن له قلب واع وسمع سامع وبصر ناظر وفكر ثاقب وتدبر واسع، أما من ليس له شيء من ذلك فهو عات فاسق، ولهذا يقول الله تعالى «فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ» 35 الخارجون عن طاعة الله الذين لا يتعظون بالإنذار والوعيد. ولا يوجد سورة مختومة بمثل هذه اللفظة ولا مثلها في عدد الآي.
قال قوم من القوم ما في الرجاء لرحمة الله أقوى من هذه الآية، أخرج الطبراني في الدعاء عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إذا طلبت حاجة وأحببت أن تنجح فقل لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم، لا إله الا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم، بسم الله الذي لا إله إلا هو الحي الحكيم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا ساعة أو ضحاها، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون. اللهم إني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، اللهم لا تدع لي ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين وعلى أتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة الذاريات عدد 17- 67- 51
نزلت بمكة بعد سورة الأحقاف وهي ستون آية، وثلاثمئة وستون كلمة، وألف ومئتان وتسعة وثلاثون حرفا، لا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «وَالذَّارِياتِ ذَرْواً» 1 الرياح التي تذر التراب وغيره فتفرقة وتبدده تشبيها بتذرية الهشيم لاجتماع التفرق في كل «فَالْحامِلاتِ وِقْراً» 2 السحب التي تحمل المياه حملا ثقيلا «فَالْجارِياتِ(4/141)
الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)
يُسْراً»
3 الفلك التي تجريها الرياح على الماء بسهولة وتؤده، كما يشعر به قوله يسرا، ويراد بها السفن ذات الشراع «فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً» 4 الرياح التي تقسم الأمطار وتفرق السحب إلى حيث يشاء الله وبالمقدار الذي يعلمه الكائن بأمره، لا دخل ولا تأثير لها ولا لغيرها بشيء منه. هذا، وقد أقسم الله تعالى بهذه الأشياء لعظم منافعها وجواب القسم قوله «إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ» حق لا خلف فيه فكل ما أخبركم به الرسول من البعث والحساب والثواب والعقاب والجنة والنار صدق لا مرية فيه «وَإِنَّ الدِّينَ» الجزاء على الأعمال وغيرها حسنها وسيئها والحساب عليها «لَواقِعٌ» 6 حتما والوعد به منجز حقا ثم أكد قسمه بقسم آخر فقال «وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ» 7 البناء المتقن الرصين الذي لا تفاوت فيه المستوي الحسن البديع الخلق، المزيّن بالنجوم البديعة وقيل الطرق، قال زهير:
مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح فريق لضاحي مائه حبك
جمع حبكة كطريقة يقال حبك الماء للتكسّر الجاري فيه إذا ضربته الريح، ويؤيد الأول قوله تعالى في الآية 47 الآتية (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) والآية 5 من سورة والشمس (وَالسَّماءِ وَما بَناها) في ج 1، وقوله (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) الآية 27 من النازعات الآتية وأقسم تعالى بها لحسن خلقها وجواب القسم قوله «إِنَّكُمْ» يا أهل مكة ويا أيها الناس أجمع «لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ» 8 فيما أنزلناه على رسولنا فمنكم من يقول ساحر ومنكم من يقول كاهن ومن يقول شاعر ومن يقول أساطير الأولين في حق القرآن وكهانة وسحر أيضا، ومنكم من يقول افتراه من نفسه وتعلمه من الغير، ومنهم من يقول لو نشاء لقلنا مثل هذا «يُؤْفَكُ» يصرف «عَنْهُ» عن الإيمان به «مَنْ أُفِكَ» 9 من صرفه الله عن خيره وحرمه من هداه ومنعه من رشده بسبب اختلاق هذه الأكاذيب «قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ» 10 الكذابون المبهتون
«الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ» غفلة وجهالة وعمى «ساهُونَ» 11 عن التعرض لنفحات نور القرآن لاهون عن التفكر في معناه معرضون عن الإيمان به لشدة انهماكهم في زخارف الدنيا وتوغلهم في شهواتها «يَسْئَلُونَ» سؤال سخرية واستهزاء «أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ» 12 الذي تذكره لنا يا محمد، كأنهم أعماهم الله(4/142)
يريدون أن يريهم إياه عيانا، فقل لهم يا سيد الرسل يرون اليوم الذي يسألون عنه «يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ» 13 يحرقون فيها، يقال فتنت الشيء أحرقته وأزلت خبثه لتطهر خلاصته، وسيعرفونه حقا يوم تقول لهم خزنة جهنم «ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ» عذابكم المعد لكم الذي هو نتيجة كفركم بالرسل ومرسلهم والكتب والبعث والحساب والعقاب والجنة والنار ونمرة جحودكم بذلك التي اقتطفتموها بأيديكم الأثيمة ويقال لهم أيضا «هذَا» الإحراق والتعذيب هو «الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ» 14 وتسألون عنه في الدنيا «إِنَّ الْمُتَّقِينَ» في ذلك اليوم «فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» 15 جارية بينها «آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ» من الكرامة وحسن القبول لأن الأخذ قبول عن قصد «إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ» في حالة الدنيا قبل دخولهم الجنة «مُحْسِنِينَ» 16 في أعمالهم ومعاملاتهم مع أنفسهم وغيرهم.
مطلب قيام الليل وتقسيم الأعمال والصدقات والتهجد وآيات الله في سمائه وأرضه:
ثم وصف معاملتهم معه جل جلاله بقوله «كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ» 17 لأنهم يؤثرون عبادة الله على النوم فيستغرقون أكثره بالصلاة والذكر «وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» 18 ربهم عن تقصيرهم بالنهار أيضا لأنهم عرفوا أنهم مهما عبدوه لا يؤدون بعض شكره، على حد قول الشيخ بشير الغزي دفين حلب رحمه الله:
لو أن كل الكائنات السنه ... تثني علي علاه طول الأزمنه
لم تقدر الرحمن حق قدره ... ولم تؤد موجبات شكره
إلخ ما جاء في أرجوزته في نظم الشمسية في علم المنطق، وهؤلاء الكرام دعموا إيمانهم بالعمل الصالح الجثماني والمالي أيضا، يفيده قوله عز قوله «وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ» منها معلوم لديهم يعطونه «لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» 19 الذي ليس عنده شيء ولا يجري عليه شيء من الزكاة المفروضة ومن صدقة الفطر والتطوع، إذ يجوز فيها انفاق ما زاد على الحاجة كما في الآية 22 من سورة البقرة في ج 3 المنبه عن إنفاق الفضل عن الحاجة، وهذا الإنفاق رغبة وعن طيب نفس طلبا لما عند الله من الثواب، لأن الأعمال الصالحة ثلاثة: مالي فقط وهو الزكاة، وجثماني فقط وهو الصلاة والذكر، ومالي وجثماني وهو الحج. والمحروم هنا يراد به والله أعلم(4/143)
المتعفف الذي لا يسال بدليل قرنه بالسائل، ولهذا نبه الله عليه، لأن الناس غالبا لا يعطون إلا من يسأل ولا يكادون يعطون المتعفف لظنهم أنه مكتف، ولكن الله تعالى ذمّ الذين لا يعرفونهم إذ يجب على الأغنياء تفقد أمثالهم لأن التصدق عليهم أفضل منها على غيرهم، وقد جاء بالخبر: اختاروا لصدقاتكم كما تختارون لنطفكم، قال تعالى (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ... لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) الآية 271 من البقرة في ج 3 فقد جعل جل شأنه الذين لا يتفقدون المتعففين جهلاء ليتقضوا لذلك ويرفعوا عنهم وصمة الجهل وليتعظ الذين يريدون وجه الله في صدقاتهم، وإنما خص الأسحار بالاستغفار لأنها في ثلث الليل الأخير وهو وقت مبارك فيه يطلع الله تعالى على عباده وهو وقت غفلة أكثر الناس، ولهذا فإن العارفين سارعوا إلى التهجد فيه، لأنهم يعرفون ما فيه، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟. ولمسلم قال: فيقول أنا الملك أنا الملك، وذكر الحديثين، وفيه حتى يضيء الفجر، وزاد في رواية من يقرضني غير عديم ولا ظلوم؟ يريد نفسه تقدست وعلت. فمالكم أيها الناس معرضون عن التعرض لهذه النفحات القدسية والرحمات الرحمونية، فهلموا إليها اغتنموها ولا تضيعوا أوقاتكم سدى وتهملوا أنفسكم فيفوتكم هذا الخير في هذا الوقت فهو مظنة القبول، والإجابة إذا صحت النية وخلصت من الأهواء وكانت الرغبة إلى الله متوفرة، وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله(4/144)
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
إلا أنت لا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وروى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: من تعارّ في الليل (يقال تعار الرجل من ذنوبه إذا انتبه وله صوت) فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم قال اللهم اغفر لي أو قال دعا استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته. ولهذا جعلت صلاة الليل من السنن المؤكدة لما فيها من الثواب العظيم في الدنيا بتنوير القلب وتطهيره، وبالآخرة بالفوز في جنات النعيم.
واعلم أن المراد من هذا الحق حق الزكاة المفروضة لأن هذه الآية جاءت بمعرض الإخبار عن أوصاف المتقين فلا يقصد منها الإنشاء فيقال إن السورة مكية والزكاة لم تفرض إلا في المدينة، وسبق أن ذكرنا غير مرة بأن الزكاة لا على قدر المفروض بالمدينة، كانت متعارفة قديما قبل الإسلام وبعده، راجع الآية 7 من سورة فصلت المارة، وكذلك الصلاة كانت متعارفة إذ لم تخل أمة منهما، إلا أن القدر والهيئة لم يكونا على ما نفعله الآن، وان الله تعالى لم يبين في كتابه ذلك وإنما أبانه حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم أما الأصل فقد تعبد الله به الأمم كافة بواسطة رسله، قال تعالى «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ» واضحات عظيمات الدلائل على وجود الإله القادر وحكمته البالغة وتدبيره الباهر لما فيها من الجبال والأودية والأنهار والعيون والبحار والمسالك والفجاج والطرق للسائرين فيها، فمنها السهل والوعر والصعب والرخو والرملة والعذبة والسبخة والمعادن المتنوعة والدواب المنبئة المختلفة في الصورة والشكل واللون والكبر والصغر، فمنها الطيب والخبيث، والمفترس والهادئ، والنفور والألوف، وفيها أنواع النبات والأشجار المثمرة وغيرها، المتباينة في الجنس والنوع والفصل والضر والنفع والطعم والرائحة وغير ذلك «لِلْمُوقِنِينَ» 20 بالله المصدقين بكتبه ورسله واليوم الآخر المستدلين بها على مبدعها، الآخذين العظات والعبر من كيفياتها وكمياتها وماهيتها.
«وَفِي أَنْفُسِكُمْ» أيها الناس آيات جليلة وعظيمة وعظات كبيرة «أَفَلا تُبْصِرُونَ» 21 إبصار ناظر مدقق ونظر مبصر محقق يستعين بعين بصره على عين بصيرته فيتعظ بما(4/145)
انطوى عليه جسمه من البراهين الدالة على الخالق إذ ليس في العالم من شيء إلا وفي ذات الإنسان له نظير، وذلك مثل انفراده في هذه الهيئة النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة، والتمكن من الأفعال البديعة واستنباط الصنايع المختلفة، واستجماع الكمالات المتنوعة، واحتياره على سائر الحيوانات بالنطق واعتدال القامة، وكما أن الإختلاف في الأرض والمياه والحيوان والطير والحوت والحشرات فكذلك هو الإنسان، فمنه الأسود ومنه الأحمر والأبيض والأصفر وما بين ذلك، ومنه الاختلاف في المأكل والمشرب والملبس والمنام، ومنه اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع، فمنها ما هو من أصل واحد، ومنها ما هو من أصول متنوعة، ومنها ما هو موافق للحيوان بسبيل الطعام ومجرى الشراب ومخرجهما، وقد بيّنا مراتب خلق الإنسان في الآيتين 64/ 67 من سورة المؤمن، فراجعهما واعتبر وتيقظ.
ويكفي على عظمة الخالق وكمال قدرته خلق أصلك من تراب وأنت من نطفة فعلقة فمضغة فلحم ودم وعظم، ثم روح وحركة وكلام وسمع وبصر وعقل وشباب وكهولة وشيخوخة وهرم، وكذلك في الغذاء فمنه موافق لغذاء الحيوان كالحضروات والحبوب واللحم، ومنها ما هو مباين كالتبن والشوك والحشيش وغيره. واعلم أن الله تعالى جمع في الإنسان ما لم يجمعه في الحيوان، لأن الحيوان الذي يأكل اللحم لا يأكل النبات والذي يأكل النبات لا يأكل اللحم غالبا، والإنسان يأكلهما معا، وجمع فيه ما لم يجمعه في الملائكة، ولا في الحيوان، لأن الملك له عقل بلا شهوة، والحيوان له شهوة بلا عقل، والإنسان جامع لهما، فسبحان من أودع في كل خلقه عظات لا تحصى وعبرا لا تستقصى، ولله در القائل:
دواؤك منك ولا تشعر ... وداؤك فيك ولا تبصر
وتحسب أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
مطلب في الرزق وأنواعه وحكاية الأصمعي، وفي ضيف إبراهيم عليه السلام:
قال تعالى «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ» 22 به مقدر عند الله تعالى على تعاطي الأسباب، فقد يكون عفوا وبتسخير الغير، قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الآية 2/ 3 من سورة الطلاق(4/146)
في ج 3، راجع هذا البحث في تفسيرها وفي كتاب قوت القلوب لأبي طالب المكي تجد ما لا يخطر يبالك. واعلموا أيها الناس أن ما قدر لكم لا حق بكم لا محالة وإن أعرضتم عنه، أما غير المقدر فلو طلبتموه بجميع أسباب السعي فلن تدركوه، فدع أيها العاقل همك واهتمامك فيه:
الذي إليك حاصل لديك ... والذي لغيرك لم يصل إليك
ومن الرزق ما هو مقسوم، قال تعالى (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) الآية 32 من سورة الزخرف المارة، ومنه ما هو مضمون وهو ما به قوام البنية لأن الله قدره له عند خلقه، ويطلق الرزق على المطر لأنه سببه من إطلاق السبب وإرادة المسبب عنه، ولأنه نفسه رزق، لأن الماء من أعظم الأرزاق وأنفعها، راجع الآية 13 من سورة المؤمن والآية 5 من سورة الجاثية المارتين، وكذلك فإن ما أودعه الله فيها من الزّين والكواكب والمطالع والمغارب التي ينشأ عنها اختلاف الفصول من مبادئ الرزق أيضا، والعلم بسيرها ومنازلها وبروجها وما أودعه الله فيها من التأثير لنضج الأثمار والحبوب وتلوينها وطعمها والشفاء من الأمراض والعاهات رزق أيضا، فكل ما توعدون به أيها الناس في الدنيا والآخرة من خير وشر ونفع وخسر رزق أيضا، فابتغوا عند الله الرزق، وخذوا من كل شيء أحسنه لتفوزوا وتنجوا. قال تعالى مقسما بذاته العالية «فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ» إن كل ما توعدون به على لسان رسلكم «لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ» 23 وهنا جواب القسم الثالث العظيم من لدن حضرة الرب العظيم، أي فكما كل إنسان ينطق بلسانه ولا يتمكن من النطق بلسان غيره فكذلك يأتيه رزقه الذي قسم وقدر له في الدنيا ولا يقدر أن يأكل رزقه غيره، وان ما وعده به رسوله في الآخرة من البعث والحساب والعقاب والثواب واقع لا ريب فيه، كما أنه لا شك لكم في نطقكم، فلا تظنوا خلافه، وهذا من قبيل ضرب المثل كقولك (إن هذا الأمر كما ترى وتسمع) أي كما أنك لا تشك أنك ترى وتسمع فلا تشك في هذا الأمر. قال الأصمعي أقبلت من جامع البصرة، فطلع علي أعرابي على قعود، فقال ممن الرجل؟ فقلت من بني أصمع، قال من أين أقبلت؟ قلت من(4/147)
موقع يتلى فيه كتاب الله، قال أتل على شيئا منه، فتلوت (وَالذَّارِياتِ) إلى قوله تعالى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) الآية، قال حسبك، فقام على قعوده ونحره ووزع لحمه على من أقبل وأدبر، وعمد إلى قوسه وسيفه فكسرهما وولى. وقد عجبنا جميعا من حاله وفعله وإدباره، ثم بعد سنين حججت مع الرشيد وطفقت أطوف البيت، وإذا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي، وإذا قد نحل جسمه واصفر لونه، فسلم علي واستقرأني السورة، فقرأتها حتى بلغت الآية، فصاح وقال قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، ثم قال وهل غير ذلك؟
قلت بلى، قال زدني، فقرأت (فَوَ رَبِّ السَّماءِ) الآية، فصاح وقال يا سبحان الله من الذي أغضب الجليل الجبار حتى خلف، ألم يصدقوه حتى حلف؟ وكرر هذه الجملة ثلاثا وخرجت معها نفسه. رحمه الله رحمة واسعة ورزقنا التصديق بآيات الله تعالى على ما يريده. ثم شرع يقص لحبيبه ما وقع لجده، وهذه القصة ولو أن فيها بعض ما قصه سابقا إلا أن القصص المكررة كل واحدة منها فيها ما لم يكن في غيرها ولنفي بالمقصود، وهذا من بلاغة القرآن العظيم وفوائد التكرار:
قالوا لمسلم فضل ... قلت البخاري أولى
قالوا البخاري مكرر ... قلت المكرر أحلى
فقال تعالى قوله يا سيد الرسل «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ» 24 وصفهم بالكرم لأنهم ملائكة كرام عليه أو لأن إبراهيم الكريم أكرمهم أو لأنهم ضيوفه وهو مكرم على الله، ولفظ ضيف يطلق على الواحد والجمع ولذلك جاء وصفه جمعا كالصوم والزور، قيل كانوا تسعة عاشرهم جبريل عليه السلام، راجع قصتهم في الآية 69 من سورة هود المارة. واذكر لقومك يا حبيبي «إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً» عليك يا إبراهيم يا خليل الرحمن «قالَ سَلامٌ» ثم سكت وصار يتملأ بهم ويتعجب من حالتهم إذ دخلوا عليه بلا استئذان، ورأى أن عملهم هذا منكر، فقال أنتم «قَوْمٌ مُنْكَرُونَ» 25 لأن دخلو لكم قبل أن نأذن لكم وقبل أن تستأذنوا عندنا منكر، ولم يجر في عرفنا وأنتم غرباء عن هذه البلاد ولا معرفة لنا بكم، فكيف تجاسرتم على هذا، أولا تعرفون أن عوائدنا هنا عدم(4/148)
جواز الدخول إلا برخصة من صاحب البيت، أنبهم عليه السلام من جهة عدم مراعاتهم العوائد المتعارفة، ولكنه عذرهم بكونهم غرباء عن بلاده، ولأنهم سكتوا ولم يردوا عليه بشيء بما استدل به على أنهم عرفوا تقصيرهم، لأنه لم يشك بهم أنهم غير بشر لمجيئهم بصفة البشر ولم يسألهم عن هويتهم وهم لم يذكروا له شيئا «فَراغَ إِلى أَهْلِهِ» ذهب بانسلال حتى لا يحسوا به أنه ذهب ليحضر لهم قراهم وهكذا عادة الكرام إذا نزل بهم الضيف ينسلون من أمامه ليهيئوا له قراه من حيث لا يشعر ولئلا يمنعوه من ذلك، فأسرع وذبح وطهى، كما يدل عليه قوله «فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ» 26 مشوي لقوله في الآية 69 من سورة هود المارة (بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) والقرآن يفسر بعضه، فحمل عليه كما يحمل المقيد على المطلق، راجع الآية 45 من سورة الأنعام المارة «فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ» زيادة في إكرامهم لأنه لم يدعهم إليه بل وضعه أمامهم، وهذا من آداب الضيافة التي شرحناها في الآية المذكورة من سورة هود المارة، فرآهم لم يأكلوا «قالَ أَلا تَأْكُلُونَ» 27 بلين ولطف كما تدل عليه أداة الطلب الخاصة بالرفق والاحترام، لأنه أراد تلافي ما بدر منه عند دخولهم، ولا سيما أنهم لم يجادلوه، فلم يترك شيئا من آداب الضيافة قولا وفعلا إلا فعله معهم، ولما رآهم لم يجيبوا دعوته ولم يمدوا أيديهم لأكله وهو من خير ما يقدم للضيف خشي منهم ووجل وساوره الخوف، لأنه أنبهم ولم يعرفهم وأصروا على عدم الأكل «فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» لأن عدم الأكل يدل على سوء الظن، وهو أمارة على الضغائن، وهذه عادة معروفة عندهم ولا تزال حتى الآن فصار يدخل ويخرج فلما أحسوا به أنه قلق من عدم أكلهم ووقع في قلبه الرهبة منهم وهم جماعة وهو واحد «قالُوا لا تَخَفْ» وأخبروه بأنهم ملائكة الله «وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» 28 كثير العلم «فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ» لما سمعت قولهم هذا «فِي صَرَّةٍ» صيحة مأخوذة من صرير القلم والباب والهودج والرحل، أي صارت تولول كعادة النساء إذا سمعن شيئا، وصرتها هذه هي قولها في آية هود المارة (يا وَيْلَتى) وقيل الصرة الجماعة المنضمين لبعضهم، كأنها جاءت مع نسوة ينظرن الملائكة الكرام «فَصَكَّتْ وَجْهَها» عند سماعها تلك البشارة،(4/149)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
أي ضربت يديها على وجهها تعجبا، وهذه أيضا من عادتهن عند ما يسمعن ما ينكرنه «وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ» 29 لم تلد قط فكيف بعد هرمها وهي مع عقمها عجوز «قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ» وقضى أن تلدي ولدا مع كبرك وعقمك هذا «إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ» فيما يفعل والحكيم لا يصعب عليه ما يريده «الْعَلِيمُ» 30 فيما أنت عليه من العقم والكبر وهرم زوجك أيضا وسائر مخلوقاته، وختمت آية هود 73 المارة بقوله (حَمِيدٌ مَجِيدٌ) لأن الحكاية هناك أبسط منها هنا، فذكروا ما يدفع الاستبعاد بقوله (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) ولما صدقت أرشدت إلى القيا بشكر الله وذكر نعمته بقولهم (حَمِيدٌ مَجِيدٌ) وهنا لم يقولوا (أَتَعْجَبِينَ) فتبهوها إلى ما يدفع تعجبها بقولهم (الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) ومن كان حكيما عليما لا يقال له كيف عمل ولم عمل، تدبر.
هذا واعلم أنه عليه السلام لما عرفهم ملائكة وهو يعلم أنهم لا يأتون إلا لمهمّة، خاطبهم بقوله كما حكى الله عنه «قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ» 31 فما شأنكم بعد هذه البشارة لأنه عرف أن الأمر ليس مقصورا عليها ولا بد من أمر عظيم جاءوا لتنفيذه «قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ» 32 متوغلين بالإجرام القبيحة وهم قوم لوط، قال وما تفعلون بهم قالوا «لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ» 33 مرسلة «مُسَوَّمَةً» من سوّمت الماشية إذا أرسلتها في المرعى أو معلّمة بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا بل هي «عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ» 34 بحقوق الله المتجاوزين ما سنه لهم نبيّهم ولم يقنعوا بما أبيح لهم، فجادلهم إبراهيم بذلك كما سيأتي في الآية 33 من العنكبوت الآية، ولد مر منه في الآية 73 من سورة هود المارة فأعلموه أنه لا مناص من إهلاكهم وتركوه وتوجهوا إلى قرى قوم لوط فلما وصلوها، قال تعالى «فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» 35 بلوط عليه السلام قالوا «فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» 36 أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن أهل البيت لوط وابنتاه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنهم كانوا ثلاثة عشر واستدل في هذه الآية على اتحاد الإيمان والإسلام للاستثناء المعنوي، أي لم يكن المخرج إلا أهل بيت واحد، وإلا لم يستقم الكلام، فإن الإيمان والإسلام(4/150)
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
صادق على الأمر الواحد كالناطق والإنسان، أما على الاتحاد المفهوم وهو المختلف فيه عند أهل الأصول والحديث فلا، وإنما خصهم بالإيمان أولا لأنه أهم من الإسلام إذ لا يكون مؤمن إلا وهو مسلم، لأن الإسلام أعم من الإيمان، وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه، وقد يكون مسلما لا مؤمنا، قال تعالى (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) الآية 14 من سورة الحجرات ج 3، لأن الإسلام مطلق الانقياد بخلاف الإيمان، تدبر. وسيأتي تمام هذا البحث في تفسير الآية المذكورة آنفا «وَتَرَكْنا فِيها آيَةً» علامة من آثارهم ظاهرة «لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ» 37 ليستدل بها على تدميرهم وإهلاكهم من يأتي بعدهم، فيمتنعون عما يوجب إيقاع مثله فيهم، قال تعالى «وَفِي مُوسى» تركنا في أراضي القبط الذين كذبوه آية أيضا ليعتبر من خلفهم بهم فيرتدعوا عن معاصي الله «إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ» ملك مصر «بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» 38 برهان ظاهر وحجة قاطعة ودليل ساطع كاليد والعصا والآيات المبينة في الآية 130 من سورة الأعراف في ج 1، «فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ» أعرض الخبيث عنه بجنبه وهو أشد من الإعراض بالوجه وأكثر احتقارا وأعظم أنفة واستكبارا عنه، أو مع ركنه الذي يتقوى به من ملائه ووزرائه وجنوده، والأول أولى «وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» 39 فلا نطيعه ولا نركن إليه، وبعد أن أظهر لهم جميع تلك الآيات وقابلوه بالإصرار على الكفرَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ»
هو وقومهَ هُوَ مُلِيمٌ»
40 حالة إتيانه بما يلام عليه من الكفر والعناد، راجع تفصيل هذه القصة في الآية 63 من الشعراء في ج 1،
قال تعالى «وَفِي عادٍ» تركنا أيضا أثارا وعبرا لما كذبوا نبيهم هودا عليه السلام «إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ» 41 التي لا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا ولا خير فيها ولا بركة إذ هي المستأصلة المهلكة لجميع من أرسلت عليهم دون أن تترك منهم أحدا، قال تعالى في وصفها «ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ» 41 القش المكسر البالي المفتت وهو كل يابس دريس من نبات الأرض، راجع قصتهم في الآية 72 من سورة الأعراف المذكورة وفي الآية 58 من سورة هود المارة، «وَفِي ثَمُودَ» تركنا(4/151)
عبرا ومتعظا عند ما كذبوا نبيهم صالحا «إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ» 43 انقضاء الأجل المضروب لنزول العذاب فيكم وهو ثلاثة أيام بعد عقر الناقة «فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ» تكبرا وتجبرا عن طاعته وطاعة رسوله «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ» 44 راجع قصتهم في الآية 39 من سورة الأعراف في ج 1، «فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ» من عليهم عند مشاهدتهم نزول العذاب ولا من قعود إذ هلك القائم قائما والقاعد قاعدا «وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ» 45 إذ لا دافع لعذاب الله، ولا مانع منه، ولا رافع له، ولا قوة لأحد على مقابلته «وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ» هؤلاء الأمم المهلكة أهلكناهم غرقا لأنهم كذبوا نبيهم «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» 46 خارجين عن الطاعة، راجع قصتهم في الآية 39 من سورة هود المارة. هذا، وبعد أن قص الله على نبيه أخبار هؤلاء المهلكين بصورة مجملة بعد أن قصها عليه بالسورة المذكورة مفصلة من باب ذكر المجمل بعد المفصل أحد أنواع علم البديع المستحسنة وذكر ما يتعلق بالحشر والنشر، شرع يذكر له أفعاله العظيمة فيما يتعلق بالتوحيد والوحدانية ويؤدى إليهما مما هو نعمة للإنسان والحيوان، فقال جل قوله «وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ» بقوة وقدرة خارجة عن طوق المخلوقين وخارقة للعادة، وما قيل إنه جمع يد تضعيف وليس هنا استعمال المجاز مكان الحقيقة لأن الأيدي معناها الحقيقي القوة، قال تعالى في وصف أنبيائه (أُولِي الْأَيْدِي) الآية 45، وقال تعالى (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) الآية 17 من سورة ص ج 1، إذ لايراد بها الجارحة البتة، وبناؤها شيء عظيم خارج عن تصور البشر وإحاطته دال على عظمة منشئه القائل «وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ» 47 بناءها بحيث تكون الأرض بالنسبة لها كحلقة ملقاة في فلاة، وهذا من معجزات القرآن لأنه قبل اكتشاف النجوم ذوات الأذناب الطويلة بالآلات الرصدية ما كان أحد يعلم إن الفضاء واسع لا نهاية له مدركة، حتى انه وسع تلك الكواكب التي تحتاج إلى محيط لا يحده عقل البشر، والآيات الدالة على أن السماء مبنيّة كثيرة منها ما ذكرناه آنفا في تفسير الآية 7 المارة، ومنها ما جاء في الآية 32 من سورة البقرة في ج 3، وفي الآية 12 من سورة النبأ الآتية وغيرها «وَالْأَرْضَ فَرَشْناها»(4/152)
وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
بسطناها ومددناها «فَنِعْمَ الْماهِدُونَ» 48 نحن الإله الكبير العظيم، وهذه الآية لا تنافي كرويتها، لأن كل قسم منها بالنسبة لمن هو عليه مفروش ممهد، وفي قوله تعالى (مَدَدْناها) في الآية 19 من سورة الحجر المارة معجزة أخرى، إذ لا يعلم أحد في عهد نزول القرآن أنها ذات طول غير الله تعالى، راجع الآية 15 من سورة الحجر المذكورة «وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ» صنفين اثنين ذكر وأنثى، حقيقة ومجازا مادة ومعنى «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» 49 صنع الله فالسماء والأرض زوجان، وكذلك الشمس والقمر، والليل والنهار، والبر والبحر، والسهل والجبل، والحر والبرد، والصيف والشتاء، والخريف والربيع، والنور والظلمة، والحلو والحامض، والمالح والباهت، والإنس والجن، والذكر والأنثى من الحيوان والنبات، والوحش والطير، والحوت والحشرات، والإيمان والكفر، والحق والباطل، والسعادة والشقاوة وغيرها، أفلا توجب الذكرى أيها الناس فتستدلوا بها على مبدعها وتؤمنوا به وتصدقوا رسله وكتبه «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ» اهربوا من عذابه طلبا لثوابه ومن معصيته إلى طاعته بالإذعان لأوامره ونواهيه والانقياد لما يرضى بكليتكم «إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» 50 لما جئتكم به من الحجج القاطعة والأدلة القوية والبراهين الساطعة والأمارات الظاهرة
«وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» تشركونه بعبادته وتسمونه إلها زورا وإفكا، لأنه لا شريك له ولا وزير، فاحذروا هذا كل الحذر «إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» 51 كرر جل جلاله على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلم الشطر الأخير من هذه الآية عند النهي عن الشرك، لأن الأولى عند الأمر بالطاعة إعلاما بأن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل، كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان، والغرض من ذلك زيادة الحث على التوحيد والمبالغة في الفصيحة. قال تعالى «كَذلِكَ» مثل ما كذبك قومك ووضعوك بما لا يليق، فإنه «ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا» فيه قومه مثل ما قاله قومك فيك «ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» 52 وهذا من قبيل التسلية له صلّى الله عليه وسلم من ربه عز وجل ليوطن نفسه الكريمة على تحمل الأذى والطعن فيه، أسوة بإخوانه الأنبياء، ولهذا قال تعالى مقرعا لهم وموبخا(4/153)
صنيعهم معه بقوله عز قوله «أَتَواصَوْا بِهِ» أي هل وصى بعضهم بعضا بهذه الألفاظ الدالة على التكذيب والإهانة للرسل حتى تناقلوها جيلا بعد جيل، كلا «بَلْ هُمْ» أنفسهم «قَوْمٌ طاغُونَ» 53 حملهم بغيهم على ذلك وتشابهت قلوبهم فوقرت وملئت من كراهية الحق فنطقت بتلك الألفاظ كما تكلم بها أسلافهم لا أنهم تواصوا بها، لأنه إذا توجد التواصي من القوم بعضهم لبعض كقوم نوح عليه السلام إذ طال أمده فيهم فصاروا يوصي بعضهم بعضا بعدم طاعته لأنه ساحر إلخ، فلا يوجد من الأقوام الماضية لغيرهم، إذ أن عذاب الاستئصال الذي أوقعه بهم يحول دون ذلك، لعدم بقاء من ينقل ما وقع منهم، ولهذا جاء القول علي طريق الاستفهام الإنكاري والتعجب من اتفاقهم على كلمات: ساحر كاهن مجنون مختلق شاعر متعلم وغيرها، والأشنع من هذا توغلهم كلهم بالطغيان على أنفسهم وغيرهم وخاصة الأنبياء، ومن كان كذلك لا جرم يصدر منه كل قبيح، وإذ كان قومك يا سيد الرسل من هذا القبيل «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ» واتركهم ولا يهمنك شأنهم «فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ» 54 على عدم إيمانهم، لأنك بلغت وأنذرت وبذلت جهدك في نصحهم، فما عليك أن لا يؤمنوا، فحزن صلّى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية وظن أصحابه أن الوحي انتهى وأن العذاب قرب أو ان نزوله، فأنزل بعدها «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» 55 الذين هم في علم الله تعالى أنهم يؤمنون، فيؤمنون وتزيد المؤمنين إيمانا، فسري عنه صلّى الله عليه وسلم وابتهج أصحابه، وفرحوا بذلك وقرت أعينهم وطابت نفوسهم وقوي أمله صلّى الله عليه وسلم، وصار يبالغ في إرشادهم ونصحهم وتذكيرهم. قال تعالى «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»
56 ويوحدوني ويعرفوني أني ربهم وخالقهم ومحييهم ومميتهم «ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ» يرزقونه أحدا من خلقي ولا أن يرزقوا أنفسهم أيضا، لأني أنا الكفيل بأرزاق الخلق كلهم «وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ» 57 أسند جل شأنه الإطعام لذاته الكريمة، والمراد عياله الفقراء، لأن من أطعمهم لأجله فكأنما أطعمه، وإلا فهو المنزه عن الطعام والشراب، وكل ما هو من صفات المخلوقين وحوائجهم.
والآية تبين أن شأنه جل شأنه مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم، لأنهم(4/154)
يملكونهم للاستفادة منهم، والله مالكهم ليعبدوه لأنه خلقهم لعبادته فقط وليعلموا استحقاقه العبادة ويعملوا بما يوصلهم إليه، وقد صح في حديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت لو أنك عدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أن فلانا استطعمك فلم تطعمه، أما علمت لو أنك أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقي، قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أن عبدي فلانا استسقاك فلم تسقه، أما علمت لو أنك أسقيته لوجدت ذلك عندي. أخرجه مسلم، والمعنى أن الله تعالى يقول إني خلقت العباد للعبادة ليعلموا أنهم مخلوقون لها، وأنه تعالى غير محتاج لهم ولا لعبادتهم ولا يريد الاستعانة منهم كما يستعين ملاك العبيد بعبيدهم لمصالحهم، لأن الله غني عن كل خلقه «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ» لهم جميعا وأن الترازق الذي يجري بينهم لبعضهم بتسخيره وتقديره وجعله الأسباب مرتبة على المسببات، وإلا فكل يأخذ رزقه الذي قدره له الله، «ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» 58 الشديد الذي لا يلحقه في أفعاله تعب ولا نصب ولا مشقة، فيوصل أرزاق عباده إليهم ولو لم يطلبوها أو يعملوا لأجلها «فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا» من كفار مكة الذين أفنوا عمرهم بغير ما خلقوا له وأشركوا به غيره في الدنيا «ذَنُوباً» حظا وافيا ونصيبا ضافيا من العذاب يوم القيامة «مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ» الكفار من الأمم الماضية الهالكة قبلهم «فَلا تَسْتَعْجِلُونِ» 59 بإنزاله فليترقبوا وليتربصوا له رويدا فهو نازل بهم لا محالة إن أصروا على ظلمهم وحينئذ يطلبون تأخيره فلا يمهلون لحظة واحدة، وفي هذه الجملة تهديد عظيم لهؤلاء الكفار لو عقلوه. واعلم أن استعمال الذنوب بفتح الذال بمعنى الحظ والنصيب شائع في العربية، قال علقمة بن عبد التيميّ يمدح الحارث بن أبي شمر الغساني وكان أسر أخاه شاسا:
وفي كل حي قد ضبطت بنعمة ... فحق لشاس من نداك ذنوب(4/155)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)
فلما سمعه قال نعم وأذنبة وأطلقه من أسره، وقال الآخر:
لعمرك والمنايا طارقات ... ولكل بني أب منها ذنوب
وقيد قوله بابن الأب لاستثناء عيسى عليه السلام، لأنه لم يمت، على أنه عليه السلام قد يكون له نصيب من المنايا بعد نزوله كما صح في الأخبار، راجع الآية 58 من سورة الزخرف المارة، وهو من الأصل الدلو الذي يستسقى به الماء في البئر ويقتسم به الماء، قال الراجز:
إنا إذا نازلنا غريب ... له ذنوب ولنا ذنوب
وإذ أبيتم قلنا القليب. قال تعالى «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» 60 به على لسان رسلهم، وهذا وعيد لهم بالويل والثبور من هول وفظاعة ما يلاقونه في الآخرة من العذاب على ما فعلوه بالدنيا من العصيان والكفر، وختمت هذه السورة بما ذكر أولها في قوله (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) فقال (فَوَيْلٌ) إلخ، أي مما يوعدون إذا لم يتوبوا ويرجعوا عمّا هم عليه، إذ يكون مصيرهم الهلاك الذي ما فوقه هلاك. هذا والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة الغاشية عدد 18- 68- 88
نزلت بمكة بعد الذاريات، وهي ست وعشرون آية، واثنتان وتسعون كلمة، وثلاثمائة وواحد وثمانون حرفا، ويوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به وهي سورة الإنسان، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «هَلْ أَتاكَ» يا سيد الرسل «حَدِيثُ الْغاشِيَةِ» 1 التي تغشى الناس بأهوالها وتغطيهم بفظائع أحوالها، وفي التقدير بالاستفهام إعلام الناس بأن حضرة الرسول لا يعلم شيئا عنها عند نزول هذه السورة، وأن ما يعلمه بطريق الوحي الإلهي، وإيذان بأنه يتلى عليه ما لم يسمعه من أحد، وإشارة إلى زيادة الاعتناء بما يتنزل عليه لما له من الشأن العظيم(4/156)
«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ» أي يوم تقوم القيامة المعبر عنها بالغاشية، ان وجوه أصحابها «خاشِعَةٌ» 2 ذليلة خاضعة، وهذا من إطلاق الجزء وإرادة الكل، وهذه الوجوه التي تشاهد على غاية من الهوان فرءوس أهلها «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ» 3 دائبة على العمل في نار جهنم تعبة من مشقة الأعمال وشدة العذاب التي تلاقيه ذلك اليوم جزاء عملها في الدنيا وتوغلها في الترف والرّفاه، فكما كانت تعمل في الدنيا لغير الله فإنها تعمل في الآخرة لقاءه في نار جهنم عملا تكل منه الجبال، فطورا تجر بالسلاسل والأغلال وتارة تخوض بالنار كما تخوض الإبل في الوحل، ومرة ترقى صعودا بأعالي جهنم وتهبط منه، وبذلك كله فإنها «تَصْلى ناراً حامِيَةً» 4 لأنها في سوائها وإذا عطشت فإنها «تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ»
5 متناهية في الحرارة، قال تعالى (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) الآية 16 من سورة محمد صلّى الله عليه وسلم في ج 3، وإذا سألت عن طعامهم فيها أيها الإنسان فإنهم «لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ» فيها «إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ» 6 هو يابس الشبرق شوك ترعاه الإبل مادام رطبا، فإذا يبس تحاشته لأنه سم قاتل، قال أبو ذؤيب:
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ... وصار ضريعا بان عنه النمائص
وقال ابن غرازة الهذلي يذم سوء مرعى إبله:
وحبسن في هزم الضريع فكلها ... حدباء دامية اليدين حرود
أي أن طعامهم فيها يشبه هذا النبات الخبيث، وشرابهم ما علمت، وليس سواء، فبينهما كما بين نارنا ونار جهنم. قال المشركون لما سمعوا هذه الآية إن إبلنا لتسمن على الضريع استهزاء وسخرية، لأن الإبل لا تأكله أبدا ولا يسمى ضريعا إلا بعد يبسه لأنه مادام أخضر يسمى شبرقا، فكذبهم الله بقوله «لا يُسْمِنُ» الضريع الدابة أبدا «وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ» 7 البتة لأنه لا يؤكل حتى يشبع، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) الآية 27 من الحاقة الآتية، لأن للنار دركات لكل دركة نوع من العذاب ويكون على قدر الذنب العقاب، فمنهم طعامهم الزقوم، ومنهم ذو الغصة، ومنهم الضريع، ومنهم الغسلين، كما سيأتي أجارنا الله من ذلك كله، وهذا ما وصف الله به أهل النار، وهاك(4/157)
لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
وصف أهل الجنة جعلنا الله من أهلها، قال تعالى «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ» 8 أهلها، وهذا أيضا من إطلاق الجزء وإرادة الكل، منعمة برضاء الله وجنته «لِسَعْيِها» الذي فعلته بالدنيا «راضِيَةٌ» 9 به لما رأت حسن جزائه فى الآخرة لأنه «فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ» 10 لا يدرك الطرف مداها
«لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً» 11 في لهو وباطل بل كل ألسنتها التسبيح والتهليل والتحميد والتسليم «فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ» 12 إلى حيث أراد طلبها بمجرد إشارة منه دون تكلف ما لا تحتاج لجر أنابيب ووضع رافعات وصبابات، وهذا للشرب والنظارة و «فِيها» للجلوس والنوم «سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ» 13 أنشأها الله لعباده، وناهيك بشيء ينشئه الله، فصف من حسنها وماهيتها وعلوها وزخرفها ما شئت فلن تدرك حقيقتها ولن تقدر أن تحيط علما بها لأنها من مصنوعات الله، وسبب ارتفاعها ليشرف من عليها على ما خوّله ربه من الملك الواسع والنعيم الشاسع «وَأَكْوابٌ» طوس مستديرة وأكواز بلا عرى من فضة وذهب كما يشعر بعظمها التنوين «مَوْضُوعَةٌ» 14 بعضها جنب بعض على حواف الأعين الجارية مملوءة مهينة للشرب بقدر ما يشرب الشارب «وَنَمارِقُ» وسائد، قال زهير:
كهولا وشبانا حسابا وجوههم ... على سرر مصفوفة ونمارق
يؤيد هذا التفسير قوله تعالى «مَصْفُوفَةٌ» 15 بعضها لبعض للاتكاء عليها، وهذا أحسن من تأويلها بمطارح، لأن الصف عادة أكثر استعمالا في الوسائد، وما جاء في قولهن:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
لم يرد بها الوسائد لأنها لا يمشى عليها بل يراد منها ما بينه الله بقوله «وَزَرابِيُّ» وهي ما نسميها الآن سجّادا وأحسن أنواعه شغل العجم، أما هذا فهو من إبداع المبدع، وهو فوق ما نتصوره، فاسع أن تكون أهلا بأن تمشي وتجلس عليه «مَبْثُوثَةٌ» 16 مبسوطة متفرقة في الغرف والباحات والأبهاء والساحات ومحال النزه وغيرها بحيث أينما أردتها وجدتها بالغرف والجنان والصحارى.(4/158)
مطلب في الإبل وما ينبغي أن يعتبر به، والتحاشي عن نقل ما يكذبه العامة:
وبعد أن وصف الله النار والجنة وأهلهما التفت إلى عباده حدثا لهم على الاعتبار في بعض مخلوقاته التي هي بين أيديهم ومسخرة لهم، فقال جل قوله «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» 7 والإبل جمع لا واحد له من لفظه ومفردها جمل وبعير وناقة وقعود، ويجمع الجمل على جمال، والبعير على أباعر وأبعر وبعران، والقعود على قعدان، والناقة على نياق ونوق، وإنما خص الإبل لأنها من أنفس أموال العرب إذ ذاك وحتى الآن عند أهل البادية، وأعزّها عليهم، ولها مكانة عندهم حتى انهم يتفاخرون فيها، ولم يروا قبل أعظم منها للركوب والحمل والأكل، ولهم فيها منافع كثيرة، وذلك أنهم أنكروا ما وصفه الله من الجنة والنار وأهلهما فذكرهم الله بهذا النوع من مخلوقاته العجيبة الصنع المذللة لهم، مع أنها أقوى منهم ليعلموا أن الذي خلقها قادر على خلق ما وصف في الجنة والنار ليسترشدوا بذلك.
هذا وان الفيل مما يعرفونه أيضا وهو أقوى من الإبل، إلا أنه لا منافع فيه مثل ما في الإبل ولم يطلعوا عليه كلهم، ولأنه لا يؤكل، ولا لبن له ولا صوف، وليس بلين الجانب كالإبل تقودها الأولاد وتعقلها المرأة، وتقنى للزينة والتجارة والركوب والدر، وتحمل الأثقال وفيها خواص لا توجد بغيرها، كاحتمالها العطش والمشاق في السفر، وتحمّل وهي باركة، وترعى من النبات ما لا يرعاه غيرها، والفيل خلو من هذه الصفات، وقد اخترع القبان منها بالنظر لسرتها وطول عنقها، ولها ميزة في خلقها وتركيب أعضائها وتأثرها بالصوت الحسن حتى انها قد تودي بحياتها من شدة طيّها المسافة البعيدة عند سماعها الحداء، ولها من الشفقة على أولادها ما لم يوجد عند غيرها، كما أن عندها من الحقد ما يقابل ذلك على من يعتدي عليها عند هيجانها اى الذكور منها، وقد ذكرنا ما يتعلق في بحثها في الآيتين 138/ 143 من سورة الأنعام المارة فراجعهما. وإنما ذكّرهم الله تعالى ببعض نعمه عليهم، لأن المراد منه التذكر في دلائل توحيده وبراهين قدرته وإمارات صنعه مما يرون ويعلمون، أما مخلوقاته الأخرى الموجودة في ذلك الزمن والتي وجدت الآن وما ستوجد بعد فهي وإن كانت أعظم في الاستدلال إلا أن ضرب المثل بما هو موجود(4/159)
أكثر تأثيرا مما لم يوجد، فإذا قلت لهم توحيد سفينة عظيمة تمشي بالبخار على البحار وسيارات تقطع مسافة اليوم في ساعة، وطيارات تطوي الشهرين بيوم، وهاتف وراد ينقلان الصوت من المغرب إلى المشرق بلحظات لم يصدقوا، فلهذا اقتصر الله تعالى على ما هو معلوم عندهم كلهم. ومن هذا قوله صلّى الله عليه وسلم كلموا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله. أي إذا ذكرتم لهم أشياء كهذه يخشى أن يكذبوه، ولو قلتم إن الله أخبر بها رسوله يوشك أن يكذبوا وإذا كذبوكم فقد كذبوا الذين نقلتم عنهم فيؤدي إلى الكفر الذي جاء الأنبياء لإزالته. ومن هذا الحديث المروي عن الدجال بأنه يبلغ خبر خروجه المشرق والمغرب بيوم واحد، فقد أنكره كثير من العلماء لاستحالة وصول الخبر المذكور بيوم واحد إذ لم يكن عندهم لا سلكي أو راد أو هاتف، أما الآن فلا تجد من ينكره من هذه الحيثية، وكذلك حديث: تطبخ المرقة في مكة وتؤكل في المدينة وهي حارة، وحديث تقارب البلدان وغيرها من المغيبات التي أخبر عنها الرسول المكرم ووقع الشك في صحتها، ومن هذا قوله تعالى (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الآية 188 من البقرة في ج 3، عند سؤالهم عن الأهلّة، فلو قال لهم ما يذكره الفلكيون والطبيعيون في هذا لم يصدقوه. قال تعالى «وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ» 18 بلا عمد أو بعمد غير مرثية على كلا التفسيرين في الآية الثانية من سورة الرعد في ج 3، والآية 9 من سورة لقمان المارة، إذ لا يدرك أطرافها أحد ولم يقف على كنهها أحد ولم يطلع على بنائها أحد كما لا ينالها أحد «وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ» 19 على الأرض بصورة ثابتة راسخة لا تزول ولا تزال إلا بقدرة الملك المتعال، إذ جعلها رواسي للأرض لئلا تميد بأهلها، راجع الآية 9 من سورة لقمان المارة، «وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ» 20 بسطت ومهدت ليستقر عليها كل شيء، فانظروا أيها الناس إلى هذه الأشياء، واعلموا أن من يقدر عليها يقدر على خلق ما وصف في الجنة والنار وما أعده لأهلها، وأنكم لا تقدرون على خلق ذبابة ولا تخليص ما تسلبه منكم فضلا عن خلق الإبل والسماء والجبال والأرض وما فيها من البدائع والعجائب، ألا له الخلق والأمر، راجع الآية 72 من الحج ج 3.(4/160)
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
ولما لم ينجع بهم هذا ولم يعتبروا ويتعظوا التفت إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم وخاطبه بقوله «فَذَكِّرْ» قومك يا سيد الرسل واحرص على إيمانهم ودم على ما أنت عليه «إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ» 21 فقط فلا يمنعك عدم قبولهم لنصحك وإصغائهم لرشدك من إدامة التذكير، لأنك يا حبيبي «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» 22 لتجبرهم على الإيمان ولا بمسلط لتكرههم عليه، وإنما عليك البلاغ فقط وقد قمت به، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا وجه له، لأن غاية ما فيها التهديد والتخويف تمهيدا للذارة والبشرة وترغيبا للتصديق بما جاءهم به، وإن الله تعالى ما أنزل آية السيف وأمر رسوله بالقتال حتى غربل الناس وأوضح لرسوله المؤمن من الكافر وأظهر له من يؤمن طائعا مختارا راغبا، ومن يؤمن كرها وخوفا.
هذا، وإن الاستثناء في قوله تعالى (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى) عنك وأعرض إعراضا كليا «وَكَفَرَ» 23 وأصر على كفره، متصل في ضمير عليهم ومحله الجر تبعا له، أي فإنك متسلط على هذا الصنف من الكفرة المدبرين عن الإيمان إدبارا كليا مثل الوليد وأبو جهل وأضرابهما، ولهذا أمر الله الرسول بالجهاد وأباح له قتل أمثال هؤلاء وسبيهم وإجلاءهم وأسرهم، وقد عاتبه على أخذ الفداء من أمثالهم، راجع الآية 67 من سورة الأنفال ج 3، وقد جعل جزاءهم الدنيوي هذا، أما العقاب الأخروي «فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ» 24 في دركات جهنم ولا أكبر من عذابها، فيكون في هذه لآية إيعاد لهم في المدارين، وإشارة بأنه سيسلط عليهم وتظهر كلمته، وهذا لا ينافي حصر الولاية بذاته تعالى، لأنه الولي لا غيره وليّ، وان ذلك يكون بإذنه وأمره وإرادته، وعليه فيكون المعنى لست يا سيد الرسل على هؤلاء الكفرة الممتنعين من التصديق بك والإيمان بربك بمجبر ولا مكره إلا على من تولى وكفر بأن دام على كفر، فإنك مسلط عليه. وما قاله الزمخشري وغيره تبعا له أو من بنات فكره وأولاد ذهنه من أن الاستثناء هنا منقطع وإن المعنى لست بمسئول عنهم لكن من تولّى وكفر منهم فإن الله تعالى له الولاية عليه، فهو بعيد عن المعنى المراد والله أعلم، حتى ان عصام الدين قال فيه إشكال لأن المستثنى المنقطع هو المذكور بعد إلا غير مخرج من متعدد قبله لعدم دخوله فيه(4/161)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
مخالف في الحكم وليس من تولى وكفر خارجا عن قوله عليهم، وليس حكمهم مخالفا له، تدبر. «إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ» 25 رجوعهم بعد الموت لنا لا لغيرنا «ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ» 26 في الموقف ومجازاتهم وناهيك بنا إذا حاسبنا أو عفونا، وقيل:
حاسبونا فدققوا ... ثم منّوا فأعتقوا
هكذا عادة المترك ... بالمماليك يرفقوا
وفي رواية يشفقوا. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، وعلى من تبعهم بإحسان ورضوان من الله ومغفرة ورحمة.
تفسير سورة الكهف عدد 19- 69- 18
نزلت بمكة بعد الغاشية، عدا الآيات 28 ومن 83 إلى 101 فإنهن نزلن بالمدينة، وهي مئة وعشر آيات، وألف وخمسمائة وسبع وخمسون كلمة، وسنة آلاف وثلاثمائة وستون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ» محمد بن عبد الله بن عبد المطلب «الْكِتابَ» القرآن العظيم العربي السوي «وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً» 1 في مبانيه ولا بمعانيه، لأن العوج في المعاني كالعوج في الأعيان، يقال في رأيه عوج كما يقال في عصاه عوج، ولكن يقال لما يدرك بالعين بفتح العين، ولما لا يدرك بكسرها. ومن هذا القبيل الغين بفتحتين الخديعة في الرأي، وبفتح وسكون الخديعة في البيع والشراء، والسكن بالفتح ما سكنت إليه، وبالسكون أصل الدار، والغول بالفتح البعد، وبالضم ما اغتال الإنسان، واللحن بالفتح الفطنة، وبالسكون الخطأ بالكلام، والخمرة بالفتح الريح الطيبة، وبضم الخاء في اللبن والعجين والنبيذ، والجد بالفتح الحظ، وبالكسر الاجتهاد، راجع الآية 17 من سورة الفرقان في ج 1 والآية 56 من سورة المؤمن المارة تجد ما يتعلق بهذا البحث «قَيِّماً» عدلا مستقيما جيء بهذه تأكيدا لأن(4/162)
نفي العوج يغني عن الاستقامة، ولذلك وصفه به إذ رب مستقيم مشهود له في الاستقامة لا يخلو عن أدنى عوج أو عوج في ذاته ورأيه عند تصفحه وتفحصه «لِيُنْذِرَ بَأْساً» عذابا عظيما في الدنيا والآخرة «شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ» للكافرين به «وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ» عند الله «أَجْراً حَسَناً» 2 لا أحسن منه وهو الجنة ونعيمها الدائم، يدل عليه قوله «ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً» 3 لا يتحولون عنه «وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» 4 من الملائكة وهم قريش ومن حذا حذوهم، ويدخل في هذه الآية الذين اتخذوا عزيرا والمسيح ولدين له من النصارى واليهود، تنزه عن ذلك تأسيا بهم، راجع الآية 30 من سورة التوبة والآية 16 من سورة المائدة في ج 3، وبما أن قولهم هذا كله بهت وافتراء محض قال تعالى «ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ» أبدا وإنما صدر منهم هذا القول عن جهل مفرط بذات الإله المنزه عن ذلك، وانتفاء العلم قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه، وقد يكون في نفسه محالا لا يستقيم تعلق العلم به كهذا القول، لأنه ليس من العلم لاستحالته «وَلا لِآبائِهِمْ» به علم فإنهم قالوه عن جهل أيضا وتلقوه عنهم جهلا دون نظر وتدبر وتفكر «كَبُرَتْ» هذه الكلمة منهم وعظمت «كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ» من غير أن تحكم بها عقولهم ولكن لا عقل لمن يقولها ما أكبرها من كلمة «إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» 5 بحتا غير مطابق للواقع، وبعضهم عرّف الكذب بأنه الخبر الغير مطابق للواقع مع علم قائله أنه غير مطابق للواقع، ولا وجه لهذه الزيادة في الحد لأن الكثيرين يقولون هذا القول ولا يعلمون كونه باطلا غير مطابق للواقع، فظهر أن هذه الزيادة باطلة «فَلَعَلَّكَ» يا سيد الرسل «باخِعٌ نَفْسَكَ» مهلكها «عَلى آثارِهِمْ» حين تولوا عنك لما أنذرتهم ودعوتهم للإيمان حزنا عليهم وتتبع طرفك حسرات عليهم لتباعدهم عنك، شبهه وإياهم برجل فارق أحبته فصار يساقط الدموع على آثارهم وأطلال ديارهم وجدا عليهم وتلهّفا على فراقهم، راجع الآية الثانية من سورة الشعراء في ج 1، وهنا كأنه يشير إلى ما جاء آخر السورة امارة من قوله (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) وهو وجه المناسبة بمجيئها بعدها، وقد أبان الله تعالى سبب تأسفه(4/163)
وتأوهه عليهم بقوله «إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ» الجليل الشأن أي القرآن المعبر عنه بصدر السورة بالكتاب ووصفه بالحديث بالنسبة لما نتلوه نحن لأن تلاوتنا له حادثة وهو قديم منزه عن الحدوث، راجع بحث خلق القرآن بالمقدمة «أَسَفاً» 6 مفعول لأجله أي أنك قاتل نفسك لأجل التأسف عليهم لعدم إيمانهم، فلماذا يكون منك هذا؟ أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا جهل والنضر بن الحارث وأمية بن خلف والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأبا البحتري، في نفر من قريش اجتمعوا (على خلاف رسول الله ومناوأته) وكان صلّى الله عليه وسلم قد كبر عليه ما يرى من خلافهم إياه وإنكارهم ما جاء به من الهدى فأهمه ذلك وأغمه، فأنزل الله هذه الآية يسليه بها. وقال بعض المفسّرين إن معنى باخع قاتل والقتل والإهلاك شيء واحد، قال ابن الأزرق:
لعلك يوما إن فقدت مزارها ... على بعده يوما لنفسك باخع
أي مهلك. وقال الفرزدق:
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه ... لشيء نحّته عن يديه المقادر
أي القاتل. قال تعالى «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ» من الجبال والأودية والبحار والأنهار والنبات والأشجار والمعادن والحيوان «زِينَةً لَها» كما زينا السماء الدنيا بالكواكب المختلفة ليغتر أهلها بها وتأخذ قلوبهم زخارفها وذلك «لِنَبْلُوَهُمْ» نختبرهم ونمتحنهم «أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» 7 فيها وأزهد لما يعطى منها من غيره المنهمك في حبها لنظهر للناس ذلك وليعلموا من يميل إليها بكليته ممن يرغب عنها، وإلا فالله عالم بذلك قبل ذلك «وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها» من الزينة بعد كمالها وتطاول أهلها «صَعِيداً» أرضا ملساء «جُرُزاً» 8 يابسة بعد أن كانت خضراء زاهية ونفعل بأهلها كذلك بأن نسلبهم ما جمعوه منها حتى يأتوننا صفر اليدين خاسرين الدنيا والآخرة، راجع الآية 94 من سورة الأنعام المارة، وقد أكدت الجملة بأن واللام إيذانا بتحقيق وقوعه وهو واقع لا محالة في الوقت المقدر لخراب الدنيا، راجع الآية 25 من سورة يونس المارة.(4/164)
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
مطلب قصة أهل الكهف ومن التوكل حمل الزاد والنفقة، وخطيب أهل الكهف:
قال ابن عباس: إن قريشا اجتمعوا وقالوا إن محمدا نشأ فينا بالأمانة والصدق وما اتهمناه بكذب قط، وقد ادعى ما ادعى فابعثوا نفرا منكم إلى يهود المدينة واسألوهم عنه، فإنهم أهل كتاب، فبعثوا جماعة إليهم، فقالت اليهود سلوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب عن كلها أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبي، وإن أجاب عن اثنتين ولم يجب عن واحدة فهو نبي، فاسألوه عن فتية فقدوا في الزمن الأول ما كان شأنهم فإنه كان لهم حديث عجيب، وعن رجل بلغ مشرق الشمس ومغربها ما خبره، وعن الروح (راجع الآية 85 من الإسراء في ج 1) فرجعوا وأخبروا قومهم بذلك، ثم انهم سألوا النبي صلّى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ» الغار الواسع يكون في الجبل «وَالرَّقِيمِ» اللوح المكتوب عليه أسماؤهم وقصتهم «كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً» 9 أتظنّ يا محمد أن شأنهم أعجب من آياتنا التي منها خلق السماء والأرض وما فيهما وعليهما كلا، بل في خلقنا ما هو أعجب وفي صنعنا ما هو أبدع من ذلك، وإذ سألوك عنهم يا حبيبي فاذكر لهم ما نوحيه إليك مما هو أوضح مما عند أهل الكتاب وغيرهم وأصح «إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ» جمع فتى وهو الطريّ من الشباب والجمع للقلة «إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً» هدى ونصرا وأمنا من أعدائنا ورزقا ومغفرة «وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا» الذي نحن عليه من مفارقة الكفرة والركون إلى دينك القويم «رَشَداً» 10 واهتداء للطريق الموصل إليك.
قال تعالى «فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً» 11 أي أجبنا دعاءهم وهديناهم الدخول في الغار الذي صاروا إليه وألقينا في قلوبهم أن يناموا فيه قناموا حالا مع أن الخائف لا ينام وجعلنا عليهم حجابا ثقيلا بحيث لا تنبههم الأصوات إلى الوقت المقدر ليقظتهم منه كما سيأتي «ثُمَّ بَعَثْناهُمْ» أيقظناهم من نومهم «لِنَعْلَمَ» لا شك أنه تعالى عالم وإنما أراد إعلام الناس بذلك ليعرفوا «أَيُّ الْحِزْبَيْنِ» المختلفين في مدة نومهم «أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً» 12 الأمد المدة التي لها حد والفرق بينه وبين الزمان أن الأسد يقال باعتبار الغاية بخلاف الزمن فإنه عام في المبدأ(4/165)
والغاية ومثله المدى «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ» يا سيد الرسل «نَبَأَهُمْ» خبرهم قصصا صحيحا «بِالْحَقِّ» الذي لا مرية فيه وهو «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً» 13 بإيمانهم وبصيرة في تصديقهم ومعرفة بإسلامهم «وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ» الطاهرة المملوءة بالعقيدة الراسخة بوجود الإله الواحد والبعث والجنة والنار لأنا نورناها بنور البصيرة، ثم أوقرناها بالصبر، وقويناها باليقين «إِذْ قامُوا فَقالُوا» لملكهم الجبّار دقيانوس حين أنبهم على عدم عبادة الأوثان وعدم الاعتراف بألوهيتها «رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً» إن دعونا غير إلهنا الحق تبعا إلى هواكم وخوفا من عقابكم فيكون قولنا قولا «شَطَطاً» 14 أشرا كذبا محضا وبهتا، لأن الشطط هو الغاية في البعد والنهاية في مجاوزة الحد، وقالوا أيضا «هؤُلاءِ قَوْمُنَا» الذين اتبعوا «اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً» وفي هذا تبكيت وتقريع، لأن الإتيان بالحجّة على صحة عبادة الأوثان محال «لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ» وإذا لم يأتوا فقد ظلموا أنفسهم «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» 15 لا أظلم ممن زعم أن لله شريكا. قال تعالى «وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ» تركتم قومكم «وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ» من الأوثان فرارا من دينهم الذي يريدونكم عليه قسرا أيتها الفئة الصالحة حفظا لدينكم وحرصا عن صدكم عنه، وذلك أنهم هربوا من أمام الملك لما رأوه يريد الفنك بهم لما سمعه منهم من الطعن في دينه وهجروا أوطانهم وفارقوا قومهم حبا بدينهم وحرصا عليه وقال بعضهم لبعض أثناء الهرب «فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ» وكلهم يعرفه بدليل مجيئه معرفا، فتراكضوا نحوه ولجأوا إليه وأعمى الله جماعة الملك الذين لحقوقهم ليقبضوهم ويحضروهم أمامه ليعذبهم على ما وقع منهم، إن يروهم، كيف لا وقد ألهمهم الله تعالى قوله «يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً» 16 منتفعا ويسرا وسهولة، ثم اختفوا فيه وألقى الله عليهم النوم الثقيل. وقد ذكر الله تعالى ما خصهم به من اللطف والعطف لقوة يقينهم وثبات عزيمتهم فقال «وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ» تميل وتعدل «عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ» جانبه(4/166)
وجهته «وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ» تتركهم وتزورّ عنهم «ذاتَ الشِّمالِ» لجانبه وجهته «وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ» من متسع الغار «ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ» وعجائبه وبدائعه لأن من كان في ذلك السمت لتصيبه الشمس وهي لا تمسهم إكراما لهم وهم لم يقصدوا ذلك الغار إلا بهداية الله «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ» وفي هذه الجملة ثناء عليهم لسلوكهم سبل الهداية وعطفا عليهم لتخصيصهم بتلك الكرامة ولطفا بهم لإنقاذهم من الضلالة «وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» 17 من دونه البتة «وَتَحْسَبُهُمْ» أيها الناظر إليهم «أَيْقاظاً» لأن أعينهم مفتحة «وَهُمْ رُقُودٌ» نيام، والواو هنا للحال، وهذا من جملة ما خصّهم الله به ليهابهم منّ يدخل عليهم فيتحاشاهم وينكص خوفا منهم لأنهم جماعة وفي ظل كهف فلا يتجاسر أحد من أن يقربهم. قال تعالى «وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ» من جانب لآخر بصورة متمادية بدليل تضعيف الفعل لئلا تأكلهم الأرض وزيادة في حرمتهم حفظا لكيانهم وإكراما لشأنهم «وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ» عتبة باب الكهف ومحل غلقه لو كان له باب يغلق كالحارس لهم من الهوام وغيرها يقلب معهم أيضا مفتوحة عيناه وقد سعد بسعادتهم ويدخل الجنة معهم فلا يوجد فيها من نوعه غيره فهو من المخصوصين كحمار عزير وعصا موسى وناقة صالح وكبش إسماعيل، ولهذا صار بعض الشيعة يسمون أولادهم كلب علي وسمي ما وراء عتبة الدار وصيدا لأنه يوصد بالعمد ويدقر بها لئلا يفتح. راجع آخر سورة الهمزة في ج 1، «لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ» أيها الإنسان الكامل وهم
على حالتهم تلك «لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً» لما ترى عليهم من الهيبة التي ألقاها الله عليهم ليبقوا على حالتهم حتى انقضاء الأجل المضروب لقيامهم كما سيأتي «وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً» 18 لما ألقى الله عليهم من الهيبة ووضعية كلهم ووحشة مكانهم، قال ابن عباس: غزونا الروم مع معاوية فمررنا بالكهف، فقال معاوية لو كشف الله لنا عنهم لنظرناهم، فقال ابن عباس منع الله ذلك من هو خير منك، وتلا عليه (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) الآية، لأن المخاطب بها سيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم. قال تعالى «وَكَذلِكَ» مثل ما أمتناهم بذلك اليوم «بَعَثْناهُمْ» أحييناهم من موتهم(4/167)
بانقضاء آجالهم المقدرة في علمنا «لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ» عن مدته لاشتباههم بها كما سيأتي في القصة «قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ» بعد إفاقتهم «كَمْ لَبِثْتُمْ» في رقدتكم هذه، لأنهم لم يروا تغييرا ما من أنفسهم إلا ما أنكروه من طول أظفارهم وشعورهم «قالُوا» بعضهم لبعض «لَبِثْنا يَوْماً» كعادة النائم إذ لا يزيد على اليوم غالبا، ولما نظروا إلى الشمس، وقد يقي منها بقية، وكان نومهم غدوة النهار، ورأوا آثار النوم بأعينهم كأنهم لم يستوفوا معتادهم منه، فقالوا «أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» إلا أنهم في شك من قولهم هذا لما رأوا طول أظفارهم وشعورهم، بما يدل على أن نومهم أكثر من أن يقدر، فارتبكوا و «قالُوا» بعضهم لبعض «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ» فوضوا العلم إلى الله لئلا يخطئوا في التقدير، ثم أحسوا بالجوع فقال بعضهم لبعض «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ» الفضة المضروبة المتعامل بها تداولا بين الناس وهو بكسر الراء المال من الدراهم فقط، وبفتحها المال و؟؟؟ والإبل كما في أدب الكاتب لابن قتيبة، وقيل في المعنى:
أعطينني ورقا لم تعطني ورقا ... قل لي بلا ورق هل ينفع الورق
وفي رواية الحكم، والكاغد الذي يكتب عليه بفتح الراء، ويطلق على الفضة الغير مضروبة أيضا «هذِهِ» إشارة إلى ورقكم. وفي حملهم هذه النقود عند فرارهم دليل على جواز حمل النفقة وما يصلح للمسافر لئلا يكون عالة على غيره أو يعرض نفسه للهلاك الحسي أو للتسؤّل وهو الهلاك المعنوي، وهذا رأي المتوكلين على الله، قال صلّى الله عليه وسلم: اعقلها وتوكل، وقال بعض الأجلة: إن توكل الخواص ترك لأسباب بالكلية، مسندلا بما روي عن خالد بن الوليد أنه شرب السم فلم يصبه شيء، وأن سعد ابن أبي وقاص وأبا مسلم الخولاني مشيا بالجيوش على متن البحر، وكذلك البراء الحضرمي خاض بقومه البحر، وتميم الداري دخل الغار الذي فيه النار ليردّها بأمر عمر رضي الله عنهم. وقال الإمام أحمد وإسحق وغيرهما من الأئمة بجواز دخول المفاوز بغير زاد وترك التكسب والتطبيب لمن قوي يقينه وتوكله، ودليل الاحتياط مع التوكل فعل موسى عليه السلام وفتاه حينما سارا إلى الحضر إذ حملا معهما حوتا كما سيأتي في الآية 61 الآتية وعمل هؤلاء الأبرار(4/168)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)
وحبري تبّع المار ذكره في الآية 37 من الدخان المارة وقول خاتم الرسل المار ذكره أكبر برهان على ذلك، «إِلَى الْمَدِينَةِ» هي اخنوس ويطلق عليها الآن طرطوس وهي غير طرطوس اللاذقية «فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً» أي الباعة الذي طعامه زكيّ حلال نظيف «فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ» لنأكله «وَلْيَتَلَطَّفْ» في مشيه وحركته ويلين الكلام مع أهل المدينة من باعة الطعام وغيرهم، ويترفق بمن يكلمه أثناء ذهابه وإيابه وشرائه ومن يعامله أو يسأله ويستر حاله ويكتم شأنه «وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً» 19 من أهل المدينة وغيرها ولا بما كان لنا مع ملكها، ولا عما نحن فيه الآن «إِنَّهُمْ» الكفرة من أهلها «إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ» أيها الإخوان ويعرفوا مكانكم ويطلعوا على قصتكم «يَرْجُمُوكُمْ» بالحجارة حتى تموتوا شر موتة وأعيبها «أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ» التي هربنا منها وصرنا إلى ما نحن فيه من أجلها «وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً» إن عدتم إلى الكفر بعد إذ نجاكم الله منه «أَبَداً» 20 لا في الدنيا ولا في الآخرة، إذ يستعبدونكم في الدنيا ويسترقونكم فلا يتيسر لكم الخلاص منهم والرجوع بالتوبة إلى ربكم فتموتمون على ملتهم، وفي الآخرة تردون إلى عذاب النار.
وقد بالغ خطيبهم رحمه الله في تحذيرهم ونصحهم بما لا مزيد عليه، مما يدل على صدق إيمانه بربه وزهده بدنياه طمعا بآخرته، وإن إصغاءهم لمرشدهم دليل على أنهم كلهم ذلك الرجل.
قال تعالى «وَكَذلِكَ» مثل ما أمتناهم لحكمة أحييناهم لحكمة و «أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ» أطلعنا أهل المدينة عليهم لحكمة أيضا و «لِيَعْلَمُوا» أي الذين ينكرون البعث أشباه قومك يا سيد الرسل «أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» بالبعث بعد الموت «وَأَنَّ السَّاعَةَ» المعينة لخراب الكون الدنيوي وظهور الأخروي حق «لا رَيْبَ فِيها» أيضا واذكر لقومك يا حبيبي «إِذْ يَتَنازَعُونَ» أهل المدينة الذين اطلعوا عليهم «بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ» وقت توفاهم الله من كيفية إخفائهم في الغار وإظهارهم، فاتفقوا بعد أن رأوهم رجعوا إلى كهفهم وماتوا فيه ثانيا «فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً» أي سدوا باب الكهف عليهم حتى يحفظوا من تطرق الناس إليهم، ولا حاجة لأن يعلم الغير مكانهم «رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ»(4/169)
وعلمه كاف عن علم الناس «قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ» أي حكام المدينة الملك وأعوانه الذين أسلموا عند ظهور آيتهم كما سنوضحه بعد في قصتهم «لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً» 21 وكان كذلك، ومن هنا استنبط جواز المحافظة على قبور الأنبياء والأولياء بالبناء عليها تخليدا لذكرهم، تدبر. ثم إن الخائضين في أمرهم من أهل الكتاب والمسلمين الذين يكونون بعدهم عند ما يزورون قبورهم هذه «سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ» وهذا قول اليهود «وَيَقُولُونَ» أي النصارى «خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ» وقولهما هذا «رَجْماً بِالْغَيْبِ» من غير علم واستناد «وَيَقُولُونَ» المسلمون «سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء لا أحد منكم يعلم عددهم على الحقيقة وإنما «رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ» منكم و «ما يَعْلَمُهُمْ» من الناس «إِلَّا قَلِيلٌ» من الأولين والآخرين، وهذا هو الحق من الحق لأن العلم بتفاصيل العوالم والكائنات وما فيهما من الماضي والحال والمستقبل لا يكون إلا الله.
مطلب أسماء أهل الكهف وقول في الاستثناء وقول أبو يوسف فيه والملك الصالح في قصة أهل الكهف:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا من أولئك القليل كانوا سبعة، وهم:
1 مكسليخا 2 يمليخا 3 مرطونس 4 بيلونس 5 سارينوس 6 ذوقواس 7 كشقيططنوس وهو الراعي وكلبهم قطمير. وقوله هذا حق، والله أعلم، لأن الله تعالى أردف الجملتين الأوليين وهما (ثَلاثَةٌ) إلخ و (خَمْسَةٌ) إلخ بقوله جل قوله (رَجْماً بِالْغَيْبِ) ولم يقل بعد جملة (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ) إلخ شيئا وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه فوجب أن يكون المخصوص بالظن القولين الأولين وأن يكون الثالث هو الصواب والله أعلم. «فَلا تُمارِ فِيهِمْ» لا تجادل يا سيد الرسل بعددهم وشأنهم أحدا «إِلَّا مِراءً ظاهِراً» بلا توغل فيه ولا قطع في حقيقته، وعليك أن تقف عند حد ما قصصناه عليك من أمرهم ولا تزد عليه شيئا «وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً» 22 من أهل الكتابين أي الذين سألهم وقد قريش عنهم ليسألوك عنهم، ولا ترجع لقول أحد بشأنهم بعد أن أخبرناك عنهم وبينا لك حقيقتهم.(4/170)
هذا، ولما سألت قريش حضرة الرسول عنهم كما ذكرنا في الآية الثامنة المارة آنفا قال لهم غدا أخبركم، لأنه لا يعرف عنهم شيئا ولم يوح إليه بهم قبل سؤالهم ولا وقته، فأخّر الجواب انتظارا لنزول الوحي عليه لأنه لا ينطق عن هوى، وبما أنه عليه السلام لم يقل إن شاء الله لم يوح إليه في الغد، ولبث الوحي أياما لئلا يغفل مرة ثانية عن إسناد المشيئة لله في كل حركاته وسكناته، ثم أنزل الله تعالى أثر قصتهم هذه قوله جل قوله «وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ» من الأشياء أبدا «إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً» 23 على الجزم بل لا بد من أن تعلقه بالمشيئة فنقول «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» إذ لا يقع شيء دون مشيئته، فإذا قلت إني عازم أن أفعل أو أتكلم كذا فقل متصلا إن شاء الله، لأنك لا تدري أتوفق لذلك أم لا، وهذا نهي تأديب من الله لحضرة رسوله وتعليم لأمته كي تفتدي به «وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ» المشيئة في قول أو فعل وقلها عند تذكرك. الحكم الشرعي: يمتد الاستثناء عند ابن عباس سنة، مثلا إذا قال قولا أو حلف فيجوز لديه أن يتبع قوله ذلك على الفعل والقول بالمشيئة إلى سنة. وقال الحسن إلى أن يتفرقا من المجلس ولا يمتد بأكثر من ذلك، وجوّز بعض العلماء إلحاقها في الزمن القريب ولم يجوزه الآخرون إلا متصلا بالقول أو الفعل، وهذا ما عليه العمل الآن، وقد دسّ بعض الناس إلى الخليفة العباسي بأن أبا يوسف يخالف في حكمه قول جده ابن عباس بقصد أن ينال منه، فأرسل إليه وسأله قال له نعم، لأن هذا القائل يريد أن يبايعك اليوم ويعطيك ما شئت من عهد وميثاق ويمين ويقول بعد ذلك إن شاء الله فينقضي بغيك، وقد أردت سد هذا الباب لئلا يتمسك أحد بقول جدك فيكون حجة عليك، فاستحسن ذلك منه وأقره وجعل عليه العمل، وهو رحمه الله أخذه من هذه الآية إلا أنها مقيدة بالنسيان فلا يجوز تطبيقها بعدمه.
«وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً» 24 من هذا الذي أنا عليه في نبأ أصحاب الكهف وغيرهم من الآيات والحجج الدالة على نبوتي، وهذا لأن الكامل لا يزال يترقى في الكمالات مهما علت رتبته فيها، وعليه فلا محل للقول بأن الذي عليه الرسول هو غاية الرشد ولا أقرب مما هو عليه، لأن الكمالات(4/171)
لا نهاية لها، وفي هذا رد أيضا لمن قال إن حضرة الرسول لا يحتاج إلى إنشاء الصلاة عليه لكماله وعلو مرتبته. قال تعالى «وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ» شمسية «وَازْدَادُوا تِسْعاً» 25 بحساب الأشهر القمرية وهذه المدة مدة لبثهم نياما في الكهف وهي كالبيان للمدة المتقدمة، وجواب السائلين عن مدة لبثهم فإن جادلوك يا سيد الرسل في مدة لبثهم بعد هذا اليمان فلا تلتفت إليهم لأنه محض عناد ولا تمارهم فيه و «قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا» لا أنا ولا أنتم وهو الأجدر والأحسن بك من الأخذ والرد معهم لأنه هو الذي «لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وحده جلّ علمه «أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ» به وقد حذف بدلالة الأول، أي ما أسمعه بكل مسموع وأبصره بكل مبصر ويبصر جلّ شأنه ما لا نبصره ويسمع ما لا نسمعه، لأن قوانا كليلة عاجزة، وهاتان الكلمتان صيغتا تعجب أي ان ذلك أمر عجيب من شأنه أن يتعجب منه ولا امتناع من صدور التعجب من صفاته تعالى، أما التعجب منه فممتنع، راجع الآية 11 من سورة الصافات المارة، وقل لمن يقول لك إن للكفرة أولياء يشفعون لهم عند الله الذي تدعوهم إليه «ما لَهُمْ» أي أهل السموات والأرض كلم «مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ» غير الإله المنفرد في أمره الذي لا يقبل أن يتدخل أحد فيه «وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً» 26 من خلقه، فلئن لا يشرك معه من مصنوعاته شيئا من باب أولى.
هذا آخر ما قصة الله تعالى علينا من شأن أهل الكهف، فيجب الوقوف عنده وإسناد علم ما عداه إليه تعالى بأن يقول المسئول إذا سئل عن أكثر من هذا، الله أعلم بشأنهم، لأنا لا نعلم إلا ما قصة الله علينا فيهم. هذا، وإن في قوله تعالى في الآية 9 المارة (أصحاب الكهف والرقيم) ردا لما قاله بعضهم إن أصحاب الكهف هم المعنيون في هذه الآيات، وأصحاب الرقيم هم الذين ذكرهم حضرة الرسول في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم والبخاري عن أبي هريرة عن سالم عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم فآواهم المبيت إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل وسدت عليهم باب الغار، فقالوا والله لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم(4/172)
كان لي أبوان شيخان كبيران إلخ. وهو حديث طويل يراجع في محله، لأن هؤلاء يطلق عليهم أهل الكهف وأهل الغار، والمذكورون في الآيات أهل الكهف وأهل الرقيم، كما سيتبين لك من القصة الآتية إن شاء الله التي خلاصتها كما قاله الأخباريون:
إن غالب أهل الإنجيل بعد عيسى عليه السلام عظمت فيهم الأحداث والخطايا وطغت ملوكهم، فعبدوا الأوثان وأكرهوا قومهم على عبادتهم، ولما صار الأمر إلى دقيانوس شدد في ذلك كثيرا وأراد هؤلاء الفتية الذين هم من أشراف قومهم على عبادتها فأبوا وصاروا يجادلونه في عدم صلاحيتها للعبادة، فخاف أن يتبعهم قومه، فهددهم بالقتل إذا لم يوافقوه على عبادتها، فأبوا وانصرفوا من أمامه، فأمر بإحضارهم فهربوا ومروا براعي غنم، فلما عرف أمرهم ترك غنمه وتبعهم هو وكلبه، وما زالوا حتى بلغوا الكهف، فدخلوه واختبارا به وناموا، وأضل الله جنود الملك عنهم كما أضل جنود فرعون عن اللحاق بموسى عليه السلام، راجع الآية 22 من سورة القصص فما بعدها ج 1، وأعمى الناس عن مكانهم طيلة هذه المدة وحفظهم الله من البلى بما قصه علينا في كتابه وهو خير حافظا، كما أعمى الله قريشا عن حضرة الرسول حينما تخبأ في الغار الوارد في الآية 40 من سورة التوبة في ج 3، راجع تفصيلها في بحث الهجرة آخر هذا الجزء. ولما لم يقفوا على خبرهم ولم يهتدوا لهم وقد أيسوا منهم بعد أن صرفوا غاية جهدهم، فأمر الملك أعوانه أن يكتبوا أسماءهم وأنسابهم وتاريخ فقدهم والمكان الذي فقدوا به والسبب الداعي لهربهم على صحيفة من نحاس ففعلوا، ثم أمر بحفظها في خزانته ليطلع عليها من بعدهم، وبقي دقيانوس ومن بعده على حالتهم، ثم بعد زمن عظيم ملك تلك المدينة رجل صالح اسمه بندوسيس فتحزب قومه معه وصار منهم من يدعو إلى الإيمان تبعا للملك ويقر بالبعث والحشر، ومنهم من أصر على التكذيب وعبادة الأوثان، ولما رأى الملك ظهور الكفرة على غيرهم حزن ودخل بيته وجعل تحته رمادا ولبس مسحا وصار يتضرع إلى الله بأن يظهر له آية تحق الحق وتبطل الباطل، فألقى الله في نفس أولياس من أهل البلد الذي فيه الكهف أن يبني حظيرة لغنمه على باب الكهف، ونزع ما كان من الحجارة عليه، فأذن الله تعالى لهم باليقظة فقاموا كأنما استيقظوا(4/173)
من ساعتهم، فقالوا ليمليخا صاحب نفقتهم اذهب إلى المدينة متنكرا مترفقا وانظر ماذا يقول الجبار دقيانوس فينا وأتنا بطعام تشتريه من أحد المؤمنين، وقال مكسليخا اثبتوا يا إخواني على الإيمان وارفضوا الأوثان رفضا باتا ولا تخافوا من أحد أبدا على فرض عثورهم علينا ومطاردتنا، لأننا ملاقو الله، ثم تكلموا بينهم على مدة لبثهم وكلوا يظنون أنهم ناموا ليلة وقعدوا على عادتهم، ولما رأوا حالتهم وطول أظفارهم وشعرهم عرفوا أن نومهم كان كثيرا جدا، فقوضوا أمر علم موتهم إلى الله كما ذكر الله، ثم خرج يمليخا من الكهف ورأى الأحجار مبعثرة فلم يلق لها بالا، وتوجه نحو المدينة حتى إذا دخلها تخيل له أشياء لم يعهدها قبل، حتى انها غير مدينتهم، فدنا إلى بياع الطعام فأعطاه قطعة من فضة وقال له أعطني بها طعاما، فلما تناولها رأى نقشها قبل ثلاثة قرون وأكثر، فقال له من أين لك هذه لعلك وجدت كنزا من هذا الورق؟ فلم يعرف ما يقول له، فاجتمع الناس وصاروا يكلمونه وهو لم يرد عليهم، فأخذوه إلى مدير المدينة وكان مؤمنا اسمه اريوس واسم صاحبه الذي معه طنطيوس وهو مؤمن أيضا، وظن يمليخا أنهم أخذوه إلى دقيانوس، فانقطع قلبه من الخوف وصار يبكي ويقول يا ليت إخوتي معي فنقدم جميعا بين يدي هذا الجبار لأنا تواثقنا على الإيمان وعدم الافتراق أحياء وأمواتا، فقال له يا فتى أين الكنز؟ فقال لا كنز عندي هذا ورق آبائي ونقش هذه المدينة وو الله ما أدري ما شأني وشأنكم وماذا أقول لكم، فقالا له من أنت؟ فقال يمليخا من أهل هذه المدينة، فقالا أنت بمن يعرفك، فصار ينظر إلى وجوه القوم فلم يعرف أحدا، فقالا له أنت كذاب، فاغتاظ من وصمهم له بالكذب، فلم يرد عليهم ونكس بصره إلى الأرض واختار السكوت إذ لم يعرف ماذا يقول لهم، فقالا له لا نرسلك ولا نصدق قولك أبدا، لأن نقش هذا الورق قديم وأنت شاب فكيف تزعم أنه مال أبيك ونقش هذه البلدة، ولكن بين لنا الحقيقة لنتركك، قال أخبروني ما فعل الملك دقيانوس؟ فقالا لا يوجد على الأرض ملك بهذا الاسم، إن كان قديما فقد هلك، فقال إني حيران وإن قلت لكم حقيقتي لا
تصدقوني، فقالا قل لعلنا نستنبط من كلامك ما نستدل به على خفية الأمر، فقال نحن فتية(4/174)
كنا على دين واحد وهو عبادة الله وحده، فأكرهنا الملك دقيانوس على عبادة الأوثان، فهربنا منه وتبعنا راعي غنم وكلبه، وقد أوينا إلى الكهف بجبل مخلوس ونمنا فيه، فلما انتبهنا لم نعلم المدة التي نمنا فيها لما رأينا من هيأتنا، وقد أرسلني إخوتي لأشتري لهم طعاما والتجسس الأخبار، وقد ظهر لي تبدل كثير في المدينة وأهلها، ولما أعطيت قطعة من ورقي لبائع الطعام صار على ما ترون، وإن لم تصدقوا فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي، فانطلقا وغالب أهل المدينة معهم، ولما قربوا من الكهف سمع أصحابه اللغط، فظنوا أن جنود الملك جاءت لتأخذهم فسلم بعضهم على بعض وقالوا لنذهب إلى الجبار ونرى صاحبنا، فلما هموا ليخرجوا فإذا المديران ويمليخا وأهل البلد على باب الكهف، فتقدم يمليخا وقص عليهم الخبر، فعرفوا أنهم كانوا تياما بأمر الله ذلك الزمن الطويل، وأوقظوا ليكونوا آية للناس على صدق البعث، ثم رأوا تابوتا من نحاس داخل الكهف مختوما، وكان رجلان مؤمنان بدروس وروماس يكتمان إيمانهما زمن الملك دقيانوس كتبا أنساب الفتية في لوح من رصاص ووضعاه في التابوت وطرحاه في الكهف، ففتحوه فإذا فيه:
إن مكسليخا ويمليخا ومخشلينا وطرطوس وكشطونس وبيرونس وديموس وبطيوش وقالوس والكلب قطمير كان هؤلاء فتية هربوا من ملكهم دقيانوس مخافة أن يفتنهم عن دينهم، فدخلوا الكهف، فلما أخبر الملك بمكانهم أمر بسده عليهم بالحجارة وإنا كتبنا أسماءهم وشأنهم ليعلم من بعدهم حقيقتهم. فلما رأوا ذلك عجبوا ودهشوا، وأرسلوا خبرا إلى ملكهم الصالح بندوسيس أن أقبل، فإن الله أظهر لك آية على البعث، فجاء ودخل الكهف هو ومديراه وحيوهم بالسجود المعتاد إذ ذاك وتعانقوا معهم وصاروا يسبحون الله تعالى ويحمدونه ويمجدونه، ثم ان الفتية بعد ذلك قالوا للملك ومديريه إنا نستودعكم الله وناموا فتوفاهم الله تعالى. ثم إن الملك أمر بأن يصنع تابوت لكل منهم ليوضع فيه وأن يدفنوا في الكهف كل بمحل نومته وأن يعمر مسجد على باب الكهف، وكان ذلك، ولما رجعوا تحروا خزانة الملك فوجدوا لوحا مكتوبا فيه أسماؤهم وأنسابهم وشأنهم كما في اللوح الذي وجدوه بالتابوت الكائن معهم في الكهف، وقد آمن أهل البلد كلهم لظهور هذه الآية العظيمة، والله أعلم.(4/175)
هذا على القول بأنهم كانوا بعد المسيح، وهناك قول آخر بأنهم كانوا قبل موسى عليه السلام، والقرآن لم يبين لنا زمانهم، لذلك يجب أن نحيل العلم بزمانهم وعددهم إلى العليم الخبير وهو أسلم. وفي إكرام هؤلاء الفتية دليل على صحة كرامات الأولياء، وكذلك قصة عرش بلقيس المارة في الآية 39 من سورة النمل وما ذكرناه أول سورة الجن وما ذكر في سورة مريم في الآية 16 فما بعدها من سورتها في ج 1 وآخر سورة الأحقاف المارة وما ذكر في الآية 37 من سورة آل عمران ج 3 عن مريم وزكريا، والأدلة السمعية والنقلية والعقلية تدل على ثبوتها، والأخبار متواترة والآثار شاهدة ومؤكدة على وجودها ولا ينكرها إلا فاسق مارق.
قال تعالى «وَاتْلُ» يا أكرم الرسل «ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ» مما أخبرك به عن هذه القصة وغيرها ولا تلتفت إلى الأقاويل فيما يخالف ذلك لأنه محرف مبدل مغير وإن ربك «لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ» ولا مغيّر لها البتة «وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً» 27 حرزا تلجأ إليه فيه منه عند إلمام ملمة. وملتحد في الأصل المدخل في الأرض، قال خصيب الضمري:
يا لهف نفسي ولهف غير مجدية ... عني وما عن قضاء الله ملتحدا
ويأتي بمعنى الميل والعدول، والأنسب هنا ما ذكر أولا. وهذه الآية المدينة الأولى من هذه السورة.
مطلب أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بملازمة الفقراء المؤمنين والإعراض عن الكفرة مهما كانوا، وقصة أصحاب الجنة:
قال تعالى «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ» إلى غيرهم وتتركهم «تُرِيدُ» بمجالسة غيرهم من الأشراف والأغنياء بقصد «زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا» فتستبدل محبتهم وهم مؤمنون بسبب فقرهم وميلهم للآخرة بأناس كفرة دنيويين لكونهم أغنياء ورؤساء كلا لا تفعل «وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ» في شهوات الدنيا وملاذها وهو عيينة الآتي ذكره النازلة في حقه هذه الآية، وأمية ابن خلف الذي يقول في حقه جل قوله «وَكانَ أَمْرُهُ»(4/176)
في الآخرة «فُرُطاً» 28 هلاكا وخسرانا، والفرط الظلم والاعتداء ومجاوزة الأمر عن حده وضياع الأمر عن وقته وتعطيل العمر في اللهو والسرف في الشيء الباطل، نزلت هذه الآية قيل وما بعدها في سيدنا سلمان الفارسي ورفقائه رضي الله عنهم، وذلك حين أتى عيينة بن حصن الفزاري إلى حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم قبل أن يسلم وهو من المؤلفة قلوبهم، وكان عند حضرة الرسول جماعة من فقراء المسلمين، فقال له أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها إن أسلمنا أسلم الناس، وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء، فنحهم عنك، حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلسا على حده لأنا لا نرضى أن نجالسهم، فلم يلتفت لقولهم. ومن قال إنها نزلت في أمية ابن خلف، قال إن هذه الآية مكية بالنظر لأن السورة مكية، والصواب ما جرينا عليه وعليه أكثر المفسرين، وقد أخرجه ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان عن سلمان رضي الله عنه، وروى أبو الشيخ عنه ذلك، وإن حضرة الرسول صار يلتمسهم ويتعاهدهم أكثر من ذي قبل، حتى قال الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، ثم قال إلى سلمان وأبي ذر وأمثالهما معكم الحياة والممات. أما الآية المكية التي نزلت في سيدنا بلال ورفقائه الخمسة التي تضاهي هذه الآية، فهي الآية 52 من سورة الأنعام المارة كما أشرنا بها عن هذا فراجعها. ثم التفت إلى حبيبه صلّى الله عليه وسلم وخاطبه بقوله «وَقُلِ» يا سيد الرسل لقومك عاملي القلوب عما يراد بهم في الآخرة «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ» أيها الغافلون عن ذكره انتبهوا فإليه الأمر ومنه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ» بهذا القرآن المنزل عليّ من ربي «وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ: وهذه الجملة جارية مجرى التهديد على حد قوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) الآية 40 من فصّلت المارة، وإني لست بمعرض عن هؤلاء لأجل إيمانكم، فإن آمنتم فلكم الجنة، وإن أصررتم على كفركم وظلمتم أنفسكم فالله تعالى يقول «إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها» السرادق الحجرة التي تحيط بالقسطاط، وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن فقد شبه الله تعالى ما يحيط بهم من النار بالسرادق حول الحجرة، أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال(4/177)
أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)
رسول الله صلّى الله عليه وسلم سرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار أربعون سنة، أي مساقة عرضه «وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا» من شدة العطش فيها «يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ» يشبه عكر الزيت المذاب الشديد الحرارة «يَشْوِي الْوُجُوهَ» لعظم حرارته عند شربه «بِئْسَ الشَّرابُ» ذلك «وَساءَتْ» النار «مُرْتَفَقاً» 29 منزلا لأهلها ومتكأ ومجتمعا، وجيء بهذه اللفظة للمشاكلة مع الآية الآتية وإلا ليس لأهل النار ارتفاق ولا منزل يتكأ فيه ولا مجمع محمود، أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله تعالى (كَالْمُهْلِ) كعكر الزيت، فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه، أي جلدته أعاذنا الله تعالى منه وأدخلنا في قوله «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا» 30 في دنياه، وجملة إنا فما بعدها معترضة بين صدر آيتها وصدر قوله تعالى
«أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ» ذلك الثواب عند رب الأرباب «وَحَسُنَتْ» جنة عدن دار الإقامة والخلود «مُرْتَفَقاً» 31 متكأ ومقرا ومجلسا لأهلها، راجع معنى السندس وما بعده في الآية 53 من سورة الدخان المارة ومعنى الأساور في الآية 53 من سورة الزخرف المارة وجعل بعض القراء والمفسرين هاتين الآيتين 30/ 31 آية واحدة وقال إن جملة (لا نضيع) إلخ معترضة بين صدر الآية وعجزها وهو سديد لولا وجود كلمة (أولئك) لهذا فهي آيتان مرتبطتان ببعضهما. قال تعالى «وَاضْرِبْ لَهُمْ» يا سيد الرسل «مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً» 32 لتكون جامعة للقوت والفاكهة والخضر والزينة معا «كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها» ثمرها من كل ذلك «وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً» إشعار بأنها حملت حملها المعتاد ونبت حب الزرع كله فلم تجحد منه الأرض شيئا يؤدي إلى نقص الحاصل «وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً» 33 لإتمام النفع وإكمال الزينة لأن أحسن القصور وألطف البساتين ما يجري فيها الأنهار «وَكانَ لَهُ» لصاحبها «ثَمَرٌ» بالفتح جمع ثمرة وبالضم(4/178)
الأموال المثمرة على الإطلاق «فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ» حالة مخاطبته له «أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً» 34 أنصارا وحشما، لأن من كان كذلك كثر أصحابه قال:
الناس أعوان من والته دولته ... وهم عليه إذا عادته أعوان
والناس عبيد الدرهم والدينار، قال هذا القول لأخيه المؤمن «وَدَخَلَ جَنَّتَهُ» أفردها بالذكر لأنها في الأصل واحدة ولكن لما فصل بينها بالنهر صارت اثنتين بحائط واحد «وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» بما قاله وما خطر بباله من القول السيء الذي أخبر الله عنه بقوله جل قوله «قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً» 35 شك الخبيث في دمارها لطول أمله في الدنيا وغروره بعاقبته ونماديه في غفلته وأكثر الناس الآن هكذا مسجلين في الديوان مسلمين، ولم يعملوا عمل الإسلام ويزعمون أنهم مؤمنون وذلك بسبب انهماكهم في الدنيا وغرورهم فيها، ثم تطاول هذا الكافر ولم يكتف بإنكاره وما قاله لأخيه بل تطرق لإنكار البعث أيضا فقال «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً» كما يقال ثم بغى وطفى وقال على فرض صحة ما تزعمون أننا نحيا ونرد إلى الله فأنا أقسم لكم «وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها» من هذه الجنة التي ترونها «مُنْقَلَباً» 36 مرجعا وعاقبة في الآخرة التي تقولون بوجودها كما أعطاني في هذه الدنيا، ومن هذا القبيل تفوهات بعض السفهة الآن ردهم الله للهدى ووفقهم للرشد ووقانا وإياهم من الردى «فَقالَ» أخوه المؤمن «له» لأخيه الكافر وقد محى الله كلا منهما صاحبا فقال «لِصاحِبِهِ» لأن الصاحب يطلق على الأخ لغة وعلى غيره فلا منافاة لما ذكر من أنهما أخوان «وَهُوَ يُحاوِرُهُ» يجادله بما مر ذكره مستفهما منه بقوله «أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا» 37 حتى قلت ما قلت ذكره رحمه الله بنعمة الخلق والذكورة والتعديل في الخلقة لعله يتذكر نعم الله عليه فيرجع عما هو عليه، ولما لم يرد عليه لما رأى من كلامه له من التأنيب مضى ونفخ إبليس في أنفه، أعرض عنه أخوه المؤمن وقال له «لكِنَّا» أصلها لكن انا حذفت الهمزة من أنا ونقلت حركتها إلى نون لكن فتلاقت النونان نون لكن ونون انا(4/179)
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
فأدغمتا بعد أن سكنت الثانية فصارت لكنا «هُوَ اللَّهُ رَبِّي» وقرىء لكن أنا على الأصل وهو استدراك لقوله أكفرت، أي أنت بمقالتك تلك كافر لكن أنا مؤمن «وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً» 38 أبدا، ثم قال على طريق الأمر بالحث والإزعاج وهلا «وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ» بدل مقالتك السيئة تلك «ما شاءَ اللَّهُ» اعترافا بأن ما فيها منه وبأمره ومشيئته «لا قُوَّةَ» على عمارة وإنبات ما فيها وحفظه من الآفات لأحد ما «إِلَّا بِاللَّهِ» بمعونته ولطفه في ذاتك أيها المغرور «إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً» 39 تكبرت على وتعاظمت
«فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ» في الدنيا أو في الآخرة «خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَ» ما تدري لعله «يُرْسِلَ عَلَيْها» على جنتك التي أطغتك «حُسْباناً» شهبا وصواعق أو نارا، قال حسان:
بقية معشر صبّت عليهم ... شآيب من الحسبان شهب
نازلة «مِنَ السَّماءِ» فيدمرها أو يحرقها «فَتُصْبِحَ صَعِيداً» أرضا غبراء لا شية فيها يدل على أنها كانت جنة ذات أشجار وزروع «زَلَقاً» 40 جرداء ملساء تزلق فيها الأقدام لا ثبات فيها، وأصل الزلق المشي في الوحل والزّلل في الرجل، شبه عروها من النبات بعد أن كانت ملتفة بأرض وحلة أو رملة لا شيء فيها مما يستمسك به «أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً» في أعماق الأرض «فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً» 41 لا تناله الأيدي ولا الدلاء فتيبس أشجارها ونباتها.
قال تعالى «وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ» من جميع جهات الجنة إذ أرسل عليها نارا فأحرقتها كلها وصاعقة فأحرق نباتها وغار ماؤها «فَأَصْبَحَ» صاحبها ذلك المغرور بها عند مشاهدتها والنظر إليها «يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ» يضرب أحدهما بالأخرى تأسفا ولهقا عليها، قال عمر ابن أبي ربيعة:
وضربنا الحديث ظهرا لبطن ... وأتينا من أمرنا ما اشتهينا
وذلك حزنا وندما «عَلى ما أَنْفَقَ فِيها» من المال والتعب وحرمانه من منافعها وبهجتها «وَهِيَ خاوِيَةٌ» ساقطة مترامية «عَلى عُرُوشِها» أي سقطت جدران الجنة على عروش الكرم، وهذا كناية عن تدميرها كلها وخلائها(4/180)
من كل ما كان فيها لأن خوا بمعنى خلا «وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً» 42 قال هذا لما سقط في يده وقال يا ليتني سمعت موعظة أخي، لأنه عرف أن ما أتاه كان بسبب الكفر والطغيان، لذلك أظهر ندمه حين لات مندم، وقد خاب أمله من الناس لأنهم كانوا يلتفون حوله بغية ما عنده، فلما ذهب ذهبوا عنه على حد قوله:
رأيت الناس قد ذهبوا ... إلى من عنده ذهب
ومن لا عنده ذهب ... فعنه الناس قد ذهبوا
يدل على هذا قوله تعالى «وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ» فيحفظون له جنته «وَما كانَ مُنْتَصِراً» 43 هو أيضا لعجزه. قال تعالى «هُنالِكَ» في ذلك المقام مقام نزول الهلاك وإيقاع الهوان وصبّ العذاب «الْوَلايَةُ» الحقيقية بكسر الواو بمعنى السلطان والملك وبفتحها النصرة والتولي «لِلَّهِ الْحَقِّ» وحده لا يملكها غيره فلا حائل يحول دون تنفيذها ولا مانع يمنع وقوعها «هُوَ خَيْرٌ ثَواباً» لأهل طاعته «وَخَيْرٌ عُقْباً» 44 بضم القاف وسكونها وعلى وزن فعلى شاذا وكلّها بمعنى العاقبة، ضرب الله تعالى هذا المثل بمناسبة الآية المتقدمة النازلة بحق عيينة بن حصن الفزاري وأصحابه المار ذكرهم وفقراء المسلمين سلمان وأصحابه، وذلك أن رجلين من بني إسرائيل ورثا ثمانية آلاف دينار فاقتسماها بينهما، فأما أحدهما فتزوج بألف وبنى قصرا بألف وشرى جنة بألف واشترى متاعا وخدما بألف واسمه قطروس، وأما الآخر واسمه يهوذا فتصدق بها وطلب ثوابها جنة وقصرا وزوجة ومتاعا وخدما في جنته، فأصابته حاجة فتعرض إلى صاحبه، فقال له ما فعلت بمالك؟ فأخبره الخبر، فقال له وإنك لمن المصدقين بأنك تثاب وتعطى وأنك تبعث؟ قال نعم، فقال والله لا أعطيك شيئا ما دامت هذه عقيدتك، فقال والله لا أحول عنها أبدا، وسيغنيني الله عنك ويرديك، فأنزل الله هذه الآية بحقهما وهذان هما المشار إليهما في الآية 50 من سورة الصافات المارة لا المشار إليها في سورة نون ج 1، تأمل.(4/181)
مطلب مثل الدنيا وتمثيل الأعمال بمكانها وزمانها ونطقها يوم القيامة كما في السينما:
قال تعالى «وَاضْرِبْ» يا سيد الرسل «لَهُمْ» لقومك على صحة البعث «مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ» من كل صنف ونوع وجنس ولون وشكل كان ملتفا بعضه على ببعض متكاثفا زاهيا رابيا تهتز به الأرض ابتهاجا وحسنا «فَأَصْبَحَ» بعد ذلك «هَشِيماً» يابسا مفتتا «تَذْرُوهُ الرِّياحُ» واعلم أن كلمتي تذروه والذاريات لم تكررا في القرآن، أي تنسفه يمينا وشمالا «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً» 45 ضرب الله تعالى هذا المثل يشبه به حال الدنيا في نضرتها وزينتها وما يطرأ عليها من الهلاك والفناء بالنبات في الأرض يخضر ويزهو ثم ييبس ويتكسر فتطيره الرياح ثم يحييه الله تعالى بالمطر فيعود كما كان كأن لم يطرأ عليه شيء، وهكذا الخلق ينشأ من الماء أيضا فيكثرون ويتباهون بالأموال والأولاد والرياسة والجاه ثم يموتون ثم يحييهم الله تعالى كما كانوا، ثم يعاملون بمثل أعمالهم، فيحيا حياة طيبة دائمة من حيّ على بينة ويهلك هلاكا قبيحا دائما من هلك على بينة. ونظير هذه الآية في المعنى الآية 34 من سورة يونس المارة. قال تعالى «الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا» يتفاخر بها أهلها «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» زينة الحياة الآخرة وهذه «خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً» من زينة الدنيا «وَخَيْرٌ أَمَلًا» 46 ممّا يؤمله الإنسان من جميع خيرات الدنيا لعظيم جزائها عند الله، وهو نائلكم حقا، لأن وعد الله بها صادق، وأكثر آمال الدنيا كاذبة قد لا ينالها الإنسان، روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس. وأخرج مالك في الموطأ أن هذه الكلمات هي الباقيات الصالحات، والحقيقة أنها كل عمل صالح.
قال تعالى «وَ» اذكر يا محمد لقومك «يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ» عن مواقعها هذه فتجعلها هباء منثورا، راجع الآية 107 من سورة طه والآية 4 من سورة الواقعة في ج 1، وأمثالها كثير في القرآن «وَتَرَى الْأَرْضَ» بعد ذلك «بارِزَةً»(4/182)
ظاهرة للعيان لا بناء فيها يسترها ولا شجر يحجبها ولا جبل يغطيها ولا خلق عليها ولا فيها، راجع الآية 4 من سورة الإنشقاق في ج 1 والآية 2 من سورة الزلزلة في ج 3 ولا أنهار ولا بحار، وذلك عند النفخة الأولى «وَحَشَرْناهُمْ» الموتى المدفونين فيها أحياء بعد ذلك وسقناهم إلى الموقف فأحضرناهم فيه بعد النفخة الثانية «فَلَمْ نُغادِرْ» نترك في بطن الأرض والماء والحيوان والحوت والهواء «مِنْهُمْ أَحَداً» 47 إلا أحضرناه في أرض المحشرَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا»
للحساب والجزاء كما يستعرض القائد العام جنوده لا يخفى عليه منهم أحد، أما القائد فقد يخفى عليه آحاد وشتان بين الخالق والمخلوق فيقول لهم الله عزّ وجل وعزتي وجلاليَ قَدْ جِئْتُمُونا»
أيها الخلقَ ما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ»
في الدنيا وحدانا لا مال ولا ولد ولا نشب ولا رياش عندكمَ لْ زَعَمْتُمْ»
في الدنياَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً»
48 في الآخرة نلاقيكم فيه ونقاضيكم على أعمالكم من صدق وإيمان وكفر وخسران. ونظير هذه الآية الآية 94 من سورة الأنعام المارة. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بموعظة فقال: أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا (قلقا) - لأن الغرلة القطعة التي تقطع من جلدة الذكر وهي موضع الختان- كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين، ألا وان أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام، ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول يا رب أصحابي، فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح- يريد عيسى عليه السلام-: (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم) إلى قوله (العزيز الحكيم) ، قال فيقال لي إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، زاد في رواية فأقول سحقا سحقا. قال بعض العلماء المراد بهم- والله أعلم- هم الذين ارتدوا بعده ومنعوا الزكاة من العرب، ولكن الحديث عام فيشمل هؤلاء وغيرهم من أمثالهم، وان من خصّه فيهم استنبط اختصاصه من قوله صلّى الله عليه وسلم (أصحابي) إذ لا يسمى صاحبا إلا من شاهد حضرة الرسول أو شاهده الرسول ليدخل الأعمى ومات على ذلك «وَوُضِعَ الْكِتابُ» أل فيه للجنس إذا أريد به أهل اليمين(4/183)
وأهل الشمال، وظاهر ما بعده تخصيصه بأهل الشمال فقط، فتكون أل فيه للعهد أي الكتاب المعهود الذي فيه صحف أعمالهم، قال صاحب الجوهرة في منظومته:
وواجب أخذ العباد الصحفا ... كما من القرآن نصا عرفا
وقال بدء الأمالي:
وتعطى الكتب بعضا نحو يمنى ... وبعضا نحو ظهر أو شمال
والحكم الشرعي: وجوب اعتقاد هذا، ومن أنكره فهو كافر لإنكاره كلام الله دون تأويل أو تفسير، قدمنا ما يتعلق بهذا في الآيتين 36/ 37 من سورة الإسراء المارة في ج 1، وله صلة في الآية 9 فما بعدها من سورة المطففين الآتية، «فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ» خائفين من سوء أعمالهم «وَيَقُولُونَ» عند مشاهدته «يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ» استفهام تعجب من كونه «لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً» من أعمال بني آدم وغيرهم «إِلَّا أَحْصاها» أثبتها ودونها فيه «وَوَجَدُوا» فيه كل «ما عَمِلُوا» في دنياهم «حاضِراً» بحيث يخيل إليهم فعلهم وقولهم كما أوقعوه في الدنيا بتخييل حقيقي وتمثيل واقعي بحيث ينطق كل بما وقع منه، بخلاف تمثيل أهل الدنيا (سينما) فإنه صوري وما يسمعونه من الكلام ليس من كلام الأشباح المخيلة نفسها بل من الشريط المعروض كالأسطوانات التي تمر عليها الإبرة، ونظير هذه الآية الآية 21 من آل عمران ج 3، فيسمعون كلامهم أنفسهم وكلام من تكلموا معه ويسمعون نطق جوارحهم بما عملت وبأي مكان وزمان يرونه أيضا ويرون جزاءه مهيأ بنسبته «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» 49 بحيث لا ينقص ثوابا ولا يزيد عقابا ولا يعذب أحدا بغير جرم، ولا يثيب أحدا بغير عمل صالح، وهذا لا على سبيل الوجوب إذ له جل جلاله إثابة العاصي وعقاب الطائع إذ لا يسأل عما يفعل وإنما يعامل العاصي بمقتضى العدل والطائع بحسب الفضل، فمن أين لكم أيها الناس بعد هذا تنكرون إعادة خلقكم وتكذبون رسلكم، وقد ضرب لكم الأمثال الحقيقية عليه وقص عليكم رسله نتيجة ما تؤولون إليه.(4/184)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
مطلب إبليس من الجن لا من الملائكة وانواع ذريته وما جاء فيهم من الأخبار:
قال تعالى «وَ» اذكر يا محمد لقومك بعد قصة أهل الكهف وأصحاب الجنة وحال البعث ومنكريه «إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ» وهذا السجود للتحية والتكريم لا للعبادة، لأن سجودها خاص بالمعبود العظيم وحده، وكان اسمه عليه اللعنة بالسريانية عزازيل، وبالعربية الحارث، فلمّا عصى سمي إبليس لأنه أبلس وأيس من رحمة الله وغيرت صورته إلى السمرة والزرقة بعد البياض والصفرة والحمرة. وهذا الخبيث الذي لم يتمثل أمر ربه «كانَ مِنَ الْجِنِّ» وهذا كلام مستأنف كأنه قيل لم لم يسجد مع الملائكة، فقيل لأن أصله من الجن لا من الملائكة إذ لو كان منهم لما تخلف عن أمر ربه لأنهم لا يعصون الله فيما يأمرهم طرفة عين ولا يغفلون عن ذكره، فثبت أنه من الجن بنص هذه الآية التي لا تقبل التأويل. واعلم أن قبيلة إبليس انقرضت ولم يبق منها غيره فهو أصل الجن والشياطين، كما أن آدم أصل البشر، أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال: قاتل الله أقواما زعموا أن إبليس من الملائكة والله تعالى يقول كان من الجن. وأخرج عنه ابن جرير وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ في العظمة أنه قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين وانه الأصل الجن كما أن آدم أصل البشر فهو في الجن كنوح عليه السلام في الإنس من غير تشبيه، لأن نوحا أبو البشر الثاني بسبب إهلاك من قبله من ذرية آدم، وإبليس أبو الجن الثاني بسبب انقراض الجن قبله من ذرية أبيهم الجان. ومن هذا يعلم أن ما قيل إنه من الملائكة لا يستند إلى دليل صحيح، وهو قيل مخالف لصراحة القرآن، وإن من قال أنه منهم عده من أقربهم إلى الله، وهذا يقدح في عصمة الملائكة الذين لا خلاف في عصمتهم، راجع الآية 158 من الصافات المارة وما ترشدك إليه فقيه ما تريده، ولهذا فإن الاستثناء في هذه الآية منقطع على حد قوله تعالى (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) الآية 58 من الزخرف المارة على العكس في المعنى أي في المستثنى والمستثنى منه، ومثله في قوله تعالى (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) الآية 63 من سورة مريم في ج 1، لأن المستثنى فيها ليس(4/185)
من جنس المستثنى منه. أما إطلاق لفظ الجن على الملائكة في قوله تعالى (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) الآية 158 من سورة الصافات المارة على قول من قال إن المراد بالجنة فيها الملائكة، لأن العرب تقول إن الملائكة بنات الله، لأنه مأخوذ من الاجتنان وهو الستر، ومنه سمي الجنين لاستتاره في بطن أمه، فتدخل الملائكة في هذا اللفظ من هذه الحيثية فقط، وعليه يجوز إطلاق لفظ الجن على كل الملائكة على هذا المعنى، وإلا فالجنّ جنس والملك جنس آخر مخالف، وقد أثبت الله في قوله الآتي أنه له ذرية بنص لا يقبل التأويل ولا يحتمله، وأنت خبير بأن الملائكة لا يتوالدون فلا ذرية لهم، وأنهم خلقوا من نور الله، والجن من ناره بنص القرآن، فلا مشابهة بينهم في أصل الخلقة، تدبر «فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ» بعدم الامتثال تكبرا لزعمه أنه أفضل منه، راجع هذا البحث في الآية 12 من سورة الأعراف في ج 1، «أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ» يا بني آدم «أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي» بعد أن خالف أمري وطرد من رحمتي «وَهُمْ» إبليس وذريته «لَكُمْ عَدُوٌّ» أيها الناس ثابت العداوة مع أبيكم آدم بالنص القطعي، فإذا كنتم إليه ولذريته ظلمتم أنفسكم بدل أن ترحموها، والله تعالى يقول «بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ» المتخذين أعداءهم أولياء «بَدَلًا» 50 من الله تعالى، قيل إن إبليس يوسوس للعبد بترك الصلاة ويوسوس له فيها أيضا ليقطعها عليه، وله من نوع الذرية خمس:
(1) الأعر يحبب للناس الزنى (2) ووتير يجزّعهم على المصائب (3) ومسوط يلقي في قلوبهم الأراجيف (4) وداسم يأكل ويشرب مع من لم يسم الله تعالى (5) وذو بنور الذي يرغب الناس للدخول في الأسواق. وقد أخرج ما بمعناه ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عن مجاهد، وروى مسلم عن عثمان ابن أبي العاص قال: قلت يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها عليّ، قال فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك شيطان يقال له جثرب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثا، قال ففعلت ذلك فأذهبه الله عني. وروى مسلم عن جابر قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا،(4/186)
ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال فيدنيه منه ويقول نعم أنت. قال الأعمش أراه قال فيلتزمه أي يضمه إلى صدره تحيذا لفعله، عليه وعلى ذريته الكافرة اللعنة والغضب. وروى ابن زيد أن الله تعالى قال لإبليس إني لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها، فليس يولد لآدم ولدا إلا ولد معه شيطان يقرن به، ولا علينا أن نعلم كيفية توالده، لأن كثيرا من الأشياء لم يطلع الله عليها خلقه، والقصد وجوب الاعتقاد بحصول الذرية له، سواء أكان ذلك كالبشر أم كالحيوان أو كالطير أو الحوت أو الحشرات وغيرها. قال تعالى «ما أَشْهَدْتُهُمْ» أي إبليس وجنوده وذريتهم «خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ» أي ما أطلعتهم على ذلك، لأني خلقتها قبل خلقهم، فافردوني أيها الناس بالعبادة كما انفردت بالخلق، وإياكم أن تشركوا في ذلك غيري فتظلموا أنفسكم «وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» 51 أعوانا أستعين بهم على خلقهما أو خلق شيء مما فيهما وعليهما فكيف تتخذونهم أولياء من دوني أيها الكفرة «وَ» اذكر يا محمد لقومك حالة أولئك المتخذين شريكا معي «يَوْمَ يَقُولُ» لهم يوم القيامة «نادُوا شُرَكائِيَ» الذين عبدتموهم في الدنيا «الَّذِينَ زَعَمْتُمْ» أنهم شركائي وأنهم يشفعون لكم في الآخرة هذه «فَدَعَوْهُمْ» واستغاثوا بهم هلم انقذونا مما نحن فيه واشفعوا لنا كما وعدتمونا في الدنيا «فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ» لأنهم إن كانوا من الملائكة أو عزيز وعيسى وعلي عليهم السلام أو غيرهم من البشر فإنهم يتبرءون منهم ويستعيذون بالله من عبادتهم ويتضرعون إلى الله بالعفو عنهم من هذه النسبة الباطلة، وإن كانوا من الأصنام فهي حجارة أو خشب أو غيرها من الجماد الذي لا يسمع ولا يتكلم، ثم يحال بينهم وبين ما يعبدون لقوله تعالى «وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ» وبين أوثانهم «مَوْبِقاً» 52 مهلكا، قال ابن عباس هو واد في النار يجتمعون فيه في جهنم «وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا» أيقنوا وتحققوا «أَنَّهُمْ مُواقِعُوها» مدفعون إليها وداخلون فيها وذلك بعد أن أراهم عجز أوثانهم وتبرأ الأولين وإهلاك الآخرين في الموقف بعد الحساب والقضاء «وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً» 53 لأنهم بعد أن أوقعوا فيها أحاطت بهم من(4/187)
كل جانب فلا محيص لهم غير الاحتراق فيها. قال تعالى «وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» ليتعظوا فلم ينجع بهم «وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا» 54 في الباطل، وقيل إن هذه الآية نزلت في النّضر بن الحارث، وقيل في أبي بن خلف، لأنهما أكثر الكفرة جدالا في القرآن، والآية عامة فيهما وفي غيرهما ممن عمل ويعمل عملهما إلى يوم القيامة، وفي كل من يجادل في آيات الله بالباطل. روى البخاري ومسلم عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلا، فقال ألا تصليان؟ فقلت يا رسول الله أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا (أي لما تريده منا) فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئا، ثم سمعته يقول وهو مول يضرب فخذه بيده (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) . وهذا الحديث لا يعني أن الآية نزلت في ذلك، وإنما ذكرها حضرة الرسول بمناسبة ما قاله علي تعجبا من سرعة جوابه وعدم موافقته له على القيام إلى الصلاة، وفيه إيماء إلى عدم قبول قوله، ولهذا ضرب فخذه. قال تعالى «وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ» مما هم عليه «إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ» هلاك الاستئصال «أَوْ» انتظار لأن «يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا» 55 عيانا مقابلا لهم يشاهدونه بأعينهم، وهو جمع قبيل، وإذ ذاك لم يقبل منهم الإيمان، لأن الحالة حالة يأس وبأس، راجع الآية 158 من سورة الأنعام المارة، أي انهم لا يؤمنون بأحد هذين الشيئين، وذلك ليس من شأن العاقل، إذ عليه أن يؤمن بمجرد وضوح الدلائل على الإيمان، وقرىء قبلا بضم القاف والباء، وبكسر القاف وفتح الباء، والمعنى ضروب من أنواع العذاب وبفتحتين مستقبلا، وهو ما يجوز فيه ثلاث لغات كالعمر والقصر والدهر والولد والرغم والشط والسقط والفتك
والشرب والفم والضر والزعم والوجد والقلب والضب والطب والقطب والحرض. قال تعالى «وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» الأمم بعقاب العاصي وثواب الطائع «وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا» أنبياءهم «بِالْباطِلِ» مثل قولهم (ما أنتم إلا بشر مثلنا) وقولهم (لو شاء الله لقلنا مثل هذا) (ولو شاء الله لأنزل ملائكة)(4/188)
(ولولا أنزل هذا القرآن على رجل) الآية، وأشباه هذه الآيات كقولهم ساحر وكاهن وشاعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين واختلاق وافتراء إلى غير ذلك «لِيُدْحِضُوا» يزيلوا ويبطلوا ويمحقوا «بِهِ» بجدالهم هذا «الْحَقَّ» الذي جاءهم من عندنا على أيدي رسلهم «وَاتَّخَذُوا» أولئك الكفرة «آياتِي» التي أنزلتها إليهم بواسطة رسلى «وَما أُنْذِرُوا» به منها وما فيها من التهديد والوعيد والتقريع والتوبيخ والتبكيت «هُزُواً» 56 سخرية بضم الزاي وإسكانها «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ» يريد القرآن خاصة بدليل تذكير الضمير فيما يأتي «فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ» من الكفر والعصيان، أي لا أظلم من هذا أبدا «إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ» أي الذين ذكروا فأعرضوا «أَكِنَّةً» أغطية كثيفة «أَنْ يَفْقَهُوهُ» لئلا يعوه ويفهموه «وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً» لئلا يسمعوه ويعقلوه «وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى» الذي تريده لهم يا سيد الرسل «فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً» 57 لسابق سقائهم وإحقاق الكلمة عليهم، لأن هذه الآية خاصة في أقوام منهم علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون أبدا «وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ» على كفرهم، ولكن من مقتضى رحمته تأخيره، ولذلك جاء الإضراب بعده بقوله «بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ» لتعذيبهم في الدنيا كما لهم موعد لعذابهم في الآخرة لا خلف فيه «لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا» 58 منجى وملجأ قال الأعشى:
وقد أخالس رب الدار غفلته ... وقد يحاذر مني ثم مائيل
ينجو. قال تعالى «وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا» أعاد الضمير لأهلها، والمراد بهم هنا الذين يعلمونهم أكثر أهل مكة وهم قوم نوح فما بعده، لأن القرى لا تهلك إلا بهلاك أهلها، وإلا فما داموا فيها فهي عامرة بهم، وكان سبب إهلاكهم الظلم «وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً» 59 أجلا فاجأناهم به، والمراد به هلاك الاستئصال عقابا لهم على ظلمهم لأن غيره يحصل لكل الأمم، أي وكذلك قومك يا محمد إن لم يؤمنوا فيحل بهم ما حل بهم.(4/189)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
مطلب قصة موسى عليه السلام مع الخضر رضي الله عنه:
قال تعالى «وَ» اذكر لقومك هذه القصة العظيمة أيضا «إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ» يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليه السلام، وهو ابن أخت موسى كما ذكروا وأكبر أصحابه، وخليفته في شريعته بعد هرون عليهم السلام، وهو من عظماء بني إسرائيل وسمي فتى، وهو هنا بمعنى خادم وعبد لقيامه في خدمته ودوام متابعته له وكثرة تعلمه منه، وإلا فمعنى الفتى الشاب الطري السجي الكريم، والفتوة لقب شرف ويأتي بمعنى الحديث في السن، ولهذا يقال لليل والنهار الفتيان، والتلميذ عبد حكمي لأستاذه مهما كان شريفا أو حقيرا. قال شعبة: من كتبت عنه أربعة أحاديث فأنا عبده، ومن علمني حرفا كنت له عبدا. ومقول القول «لا أَبْرَحُ» لا أزال أسير «حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ» قالوا بحر فارس والروم وملتقاهما مما يلي المشرق ولعل المراد بما يقرب من مجمعهما لأنهما لا يجتمعان إلا في البحر المتوسط وهما شعبتان فيه «أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً» 60 أداوم على السير زمنا طويلا، والحقب ثمانون سنة، وذلك أن الله تعالى وعد موسى أن يلقى الخضر هناك، وموسى هذا هو ابن عمران، وما قيل إنه ابن ميشا من أولاد يوسف لا صحة له ولا ثقة بالمنقول عنه وهو كعب الأحبار، لأن الله تعالى لم يذكر في كتابه مسمى بهذا الاسم غير صاحب التوراة، ولو أراد غيره لذكره وعرفه ليتميز عنه، روى البخاري ومسلم عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس إن نوفل البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو بني بني إسرائيل، فقال ابن عباس كذب عدو الله، حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن موسى عليه السلام قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال أنا فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه (أي لم يقل الله أعلم) فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال يا رب فكيف لي به؟
قال فخذ معك حوتا فاجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتا فجعله في مكتل ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون، حتى أتيا الصخرة (بوجد بقرب ملتقى نهر الكلب والبحر الأبيض المتوسط في بيروت صخرة عظيمة(4/190)
يزعمون أنها هي تلك الصخرة، وأن المراد بملتقى البحرين نهر الكلب والبحر الأبيض هناك، وهو قول لم يثبت، وقد ذكرنا غير مرة بأن أشياء كهذه لا يمكن القطع بها، وأن كل ما لم يبينه الله يجب أن نحيل العلم فيه إليه) وضعا رءوسهما فناما، فاضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر، وتيقظ يوشع عند ذاك فرآه، قال تعالى «فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما» أي نسي يوشع أن يخبر موسى بما رآه من أمر الحوت وهو قوله تعالى «فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً» 61 إذ أمسك الله عن الحوت جرية الماء وموجه فصار عليه مثل الطاق، وان موسى لم يسأله عن المكتل الذي فيه الحوت ولهذا نسب الله تعالى النسيان إليهما وبقيا يمشيان بقية يومهما وليلتهما «فَلَمَّا جاوَزا» المكان الذي فقدا فيه الحوت وداوما على السير ألقى الله على موسى الجوع ليتذكر موعد ربه، حتى إذا كان الغد من هذا اليوم «قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً» 62 وذلك لأنه جاوز المحل الذي أمره الله به، أما قبله فلم يحس بتعب لأنه لا يكلف عبده بما لا قدرة له به ولا طاقة له عليه سواء في العمل أو في العبادة، راجع الآية الأخيرة من سورة البقرة في ج 3، فتيقظ إذ ذاك يوشع و «قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ» قال له موسى بلى، قال «فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ» أي نسيت أن أقص عليك خبره، فذكر له شأنه وقال «وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ» لك، قال هذا على سبيل الاعتذار، ثم قال «وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً» 63 أي أن خروجه من المكتل ودخوله البحر وصيرورة البحر عليه طاقا كالسرب كان عجبا، قيل كان في أصل الصخرة عين ماء يقال لها عين الحياة لا يصيب شيء من مائها إلا حيّ، وقد أصاب ذلك الحوت منها شيء، فتحرك وانسل من المكتل إلى البحر، مع أنه كان مطبوخا، ولهذا كان لموسى وفتاه عجبا، لأنه حوت مطبوخ وقد أكلا منه، والأعجب منه أيضا ماء البحر مع شدة موجه، وما يحصل فيه من الجريان يمينا وشمالا بسببه يكون سربا مثل الطاق ويبقى على حاله زمنا، إلا أنه ليس بأعجب من فلق البحر له عليه السلام، وإنما لم يتعجب منه لأن الله وعده به «قالَ»(4/191)
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
موسى لفتاه «ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ» من المكان الذي نطلبه «فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً» 64 حتى وصلا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجّى بثوب وهو المعني بقوله تعالى «فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا» هو الخضر عليه السلام واسمه بليا بن ملكان، وقالوا إن من عرف اسمه واسم أبيه ومات مسلما دخل الجنة، نقله الباجوري في حاشيته على شرح ابن قاسم، ونقل ابن زياد في فتاويه غاية بلوغ المرام عن العلامة أحمد بن زيد الجيش من كتب (علي عليه السلام ولد في 10 رجب سنة 30 من عام الفيل دخل الجنة) والله يرزق من يشاء بغير حساب إذا أراد فعل، ثم وصف ذلك العبد بقوله «آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» 65 وهو الإخبار بالمغيبات التي خصه الله بها، قالوا فلم عليه موسى فقال عليه السلام، وانا بأرضنا السلام، ثم رد عليه وقال من أنت؟ قال موسى، قال موسى بني إسرائيل، قال نعم، قال وما شأنك «قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً» 66 وقد ثبت عن حضرة الرسول أن هذا هو الخضر عليه السلام، روى البخاري عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلّي الله عليه وسلم إنما سمي خضرا لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء (الفروة القطعة من النبات اليابس المجتمع، وتطلق على وجه الأرض أيضا) قالوا وكنيته أبو العباس وكان من أبناء الملوك الأقدمين الذين تزهدوا وتركوا الدنيا، قالوا قال يا موسى أما يكفيك التوراة والوحي وتكليم الله لك، قال إن ربي أرسلني إليك، ثم قال له من أين عرفتني موسى نبي إسرائيل، قال عرّفني الذي أرسلك إليّ ثم «قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» 67 يا موسى لأني على علم علمنيه ربي لا تعرفه «وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً» 68 ولا تقدر أن تعرفه لأنك على علم علمكه الله لا أعلمه أنا وقد أعمل بخلافه لأنك تنظر إلى ظاهر الأمور وأنا إلى باطنها «قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً» استثنى عليه السلام لعدم وثوقه من نفسه بالصبر، ثم قال «وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً» 69 من الأمور ولا أخالفك في شيء تريده لأني جئتك متعلما
«قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ» يتعلق بصفات الألوهية الذي لا يحل السؤال عنه(4/192)
لأن ما أفعله مخالف ظاهره لظاهر الشرع، لأني سأفعله مبدئيا وان أنكرته، وقرىء تسألنّي بفتح اللام وتشديد النون وثبوت الياء فيه وفيما قبله إجماعا، بخلاف ياء (نبغ) لأن منهم من حذفها ومنهم من أثبتها وعليه الوقف والقراءة في المصاحف بتخفيف النون وإسكان اللام «حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» 70 فأبينه لك من تلقاء نفسي، فرضي موسى على هذا الشرط وترافقا «فَانْطَلَقا» يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة، فكلموهما أن يحملوهما فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول، فلم ير موسى إلا الخضر عمد إلى لوح من السفينة، فقلعه، وذلك قوله تعالى «حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها» ثقبها فالتفت إليه موسى وقال له قوم حملونا بغير نول تعمد إلى سفينتهم فتخرقها، وهو قوله تعالى «قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً» 71 كبيرا عظيما يقال امر الأمر إذا كبر، ومنه قول أبي جهل لعنه الله أمر أمر ابن أبي كبشة يعني محمدا صلّى الله عليه وسلم وأبو كبشة زوج مرضعته حليمة، فيكون أباه من الرضاع، ولم ينسبه لأبيه عبد الله استحقارا به حقره الله في ناره «قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» 72 وقد وعدتني بالصبر واشترطته عليك وعدم السؤال فلم توف بالشرط «قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي» تحملني وتغشني «مِنْ أَمْرِي عُسْراً» 73 فلا تشدد وتعسر علي متابعتك واعف عن هفوتي وعاملني باليسر والسهولة، وإنما قال له ذلك لأنه لم ير الماء دخل السفينة من الثقب، ولم يعارضه أهلها بذلك لأنهم يعرفونه لا يعمل شيئا عبثا، قالوا وجاء عصفور فوقع على خرق السفينة فنقر في البحر نقرة، فقال الخضر لموسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، وإنما اعترض عليه موسى لأن فعله مخالف للظاهر، ولا يجوز للأنبياء السكوت على ما يرونه مخالفا لشريعتهم وهم معذورون إذا لم يصبروا لا سيما وأن في عمله ذلك خطر على أهل السفينة الراكبين فيها ومضرة على أصحابها، وكلا الأمرين غير جائز بل ممنوع شرعا بحسب الظاهر، ثم خرجا من السفينة وصارا يمشيان على الساحل، فأبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فأمسكه واقتلع رأسه من جئته بيده فمات حالا،(4/193)
وهو قوله تعالى «فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً» 74 منكرا عظيما لا يتلافى وهو بخلاف خرق السفينة إذ يمكن تلافيه ولأنه قد لا يؤدي إلى الهلاك، وتقرأ نكرا بضم الكاف وسكونها «قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ» أكد إنكاره عليه بأن واللام لقوله «لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» 75 وإنما زاد في جملته هذه (لك) لأنه نقض العهد مرتين، فلما أحس موسى بانفعال الخضر من اعتراضه عليه ثانيا، لأن في هذه الجملة تعنيفا له «قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً» 76 إذا فارقتني لوضوح العذر ولا لوم عليك البتة «فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ» بسقط لشدة ميلانه للانهدام «فَأَقامَهُ» أشار إليه بيده فاعتدل «قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» 77 لأنهم لم يضيفونا ولم يطعمونا فلبسوا بأهل لتعمل لهم ذلك عفوا، قالوا إن هذه القرية (أنطاكية) مدفن الرجل الصالح حبيب النجار من أصحاب عيسى عليه السلام، قال أبي بن كعب: قال النبي صلّى الله عليه وسلم كانت الأولى من موسى نسيانا والثانية شرطا والثالثة عمدا «قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» لأني لا أقدر على مصاحبتك لعدم صبرك على ما ترى مني وعدم علمك نتيجته ولكن «سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» 78 روى البخاري ومسلم عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم رحمة الله علينا وعلى موسى (وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه) لولا أنه عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامه (حياء وإشفاق من الذم واللوم) فقال (إن سألتك) الآية، فلو صبر لرأى العجب. قال تعالى مبينا ما استنكره السيد موسى بقوله «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ» قيل كانوا عشرة خمسة منهم زمنى وخمسة يعملون بها «فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها» حتى لا يأخذها أحد منهم «وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ» قال
سعيد بن جبير: كان ابن عباس يقرأ (وكان أمامهم ملك) وليس بشيء «يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً» 79 لم تتكرر هذه الكلمة بالقرآن(4/194)
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)
أي يأخذها مصادرة لاحتياجه إليها في الحرب وإذا رآها معيبة تركها فكان ما فعلته صلاحا لأهلها إذ يمكنهم إصلاح ما أفسدته منها والانتفاع بها. وفي هذه الآية دليل على أن العامل الذي لا يكفيه عمله يسمى مسكينا ويعطى من الزكاة، قالوا وكان ذلك كافرا اسمه الجلندى، وتوجد في العراق عائلة كريمة تدعى بيت الشاوى من رؤساء عشائر العبيد ينتسبون إلى هذا الملك ولهم مكانة في العراق، وكانت رؤساء العشائر حينما يأتون بغداد يدخلون معرضين رماحهم ويمرون من تحت الطاق العائد لهم إذعانا واحتراما لهم.
مطلب عدم جواز القراءة بما يخالف ما عليه المصاحف والقول في نبوة الخضر وولايته وحياته ومماته:
قال تعالى «وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ» وكان ابن عباس يقرأ (وكان كافرا) وليس بشيء، راجع الآية 6 من الزخرف المارة تعلم أنها تفسير لا قراءة وأن كل ما هو مخالف لرسم المصاحف لا تجوز قراءته «فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً» 80 بعقوقه وسوء صنيعه فيحملهما حبه على اتباعه فيكفران «فَأَرَدْنا» بقتله «أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً» صلاحا وتقى «وَأَقْرَبَ رُحْماً» 81 بهما وعطفا عليهما منه، روى البخاري ومسلم عن عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانه وكفره، ولذلك فإن أبوي الولد لم يعارضا الخضر عليه السلام بشأن قتله لعلمهما أنه لا يفعل شيئا إلا لحكمة وقد جربوه وهذا أقصى حد في الاعتقاد بالأولياء إذ لا يمكن الأحد أن يحذو حذوه، فاعتبروا يا أولي الأبصار، قال تعالى «وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما» روى أبو داود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: كان الكنز ذهبا وفضة- أخرجه الترمذي- «وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً» قالوا اسمه كاشح واسم ولديه أحرم وحريم، قال محمد بن المنكدر: إن الله تعالى يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده وعشيرته وأهل دويرات حوله، فلا يزالون في حفظ الله تعالى ما دام فيهم، قال سعيد بن المسيب: إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي(4/195)
راجع الآية 22 من الطور الآتية تجد هذا البحث، «فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما» إذا كبرا وعقلا ويا أخي موسى إنما أقمت لهم الجدار «رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» بهما حتى يبقى الكنز محفوظا لهما ولا يليق بنا أن نترك هذا لعدم قيام أهل البلدة بضيافتنا. واعلم أن الذي وقع مني كله بأمر الله «وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي» ولا باختياري ورأبي «ذلِكَ» الذي ذكرته لك «تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» 82 واعترضت به علي، هذا وفي قول الخضر عليه السلام عند ذكر العيب (أردت) أضافه إلى نفسه على سبيل الأدب مع ربه، وفي الحقيقة إن ذلك من الله لأنه بأمره فعل ما فعل كما قضاه في الأزل عز وجل، وفي ذكر القتل قال (أردنا) بلفظ الجمع تنبيه على أنه من العارفين بعلمه تعالى، العاملين بأمره فيما يؤول إليه الأمر، وأنه لم يقدم على فعل القتل إلا لحكمة عالية بإلهام من ربه، ولذلك أذعن والداه كما مر آنفا، وقال ثالثا (فَأَرادَ رَبُّكَ) لأن حفظ الأنبياء وصلاح أحوالهم لرعاية حق الآباء ليس إلا لله وحده، ولذلك أضافه إليه. هذا، وقد استدل بعض العلماء بقوله تعالى (ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) إلخ على أن الخضر نبي لأن النبي من لم يفعل بأمره بل بالوحي، والوحي من شأن الأنبياء، وأول هذا المستدل قوله تعالى (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا بأنها النبوة لأن لفظ الرحمة أطلقت في مواضع كثيرة على الرحمة والنبوة والرسالة في القرآن العظيم، وقد أخرج هذا القول ابن ابي حاتم عن ابن عباس، ولذلك مشى عليه جمهور من العلماء على أنه نبي لا رسول، وقال القشيري وجماعة أنه ولي وهو الصحيح، وأجابوا عن قوله تعالى (ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) بأنه إلهام من الله والأولياء ملهمون والإلهام من درجات الأنبياء لأنهم أول ما يرون الرؤيا الصالحة الصادقة، ثم الإلهام، ثم الوحي بواسطة الملك، وعن قوله (آتيناه رحمة) إلخ أنه علم الباطن، وعلى هذا أكثر العارفين وأهل العلم. وكما اختلفوا في نبوته وولايته اختلفوا في حياته ومماته فقال أكثر العلماء أنه حي واتفقت الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة على حياته وذكروا عنه حكايات كثيرة وأجمعوا على رؤيته والاجتماع به ووجوده في المواقع الشريفة كما ذكر الشيخ الأكبر في فتوحاته المكية(4/196)
وأبو طالب المكي في كتبه والحكيم الترمذي في نوادره وغيرهم من المحققين الذين لا يتصور اجتماعهم على الكذب لا سيما وفيهم الإمام النووي. وقال الشيخ عمر بن الصلاح في فتاواه: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين، وقالوا إنه يجتمع بالناس كل سنة بالموسم وانه شرب من عين الحياة وإذ ثبت وجوده بنص القرآن وإجماع المفسرين على أنه هذا العبد الذي أرشد الله رسوله موسى إليه هو الخضر، وقد اكتسب هذا القول درجة التواتر في أقوال الكثيرين فلا يكون عدمه إلا
بدليل على موته، ولا نص فيه في كتاب أو سنة أو إجماع أو نقل عن بعض الثقات، وقد وردت أحاديث كثيرة في حياته ضربنا عنها صفحا لعدم وجود ما يقابلها في مماته من صحة السند وثقة الرواة المشهورين من الرجال. هذا وقد احتج من قال بوفاته دون أن يعين زمانا أو مكانا أو معاصرا له من ملك أو مملوك أو حادثة أو واقعة ما، بأن البخاري سئل عنه وعن الياس عليهما السلام هل هما حيان؟ فقال كيف يكون هذا، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم قبل وفاته بقليل لا يبقى على رأس المائة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد. وما جاء في صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل موته: ما من نفس منفوسة يأتي عليها مئة سنة وهي يومئذ حية. وما قاله بعض الأئمة عند سؤاله عنه أنه قرأ (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) الآية 31 من الأنبياء الآتية، ولا يخفى على ذي الرّوية أن هذه الأحاديث والآية في معرض العام، وما من عام إلا وخصص وما يدرينا لعل الله خصه من ذلك، على أن الآية قد يدخل فيها الخضر لأنه لا بد سيموت، وما قاله ابن تيمية لو كان الخضر حيا لوجب عليه أن يأتي إلى الرسول ويجاهد بين يديه، وقوله صلّى الله عليه وسلم يوم بدر: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، وكانوا ثلاثمائة رجل وثلاثة عشر رجلا، معروفين بأسمائهم وأنسابهم، ولم يكن الخضر معهم، لهذا أصح وأقوى ما جاء في هذا الباب على أنه يجوز أن يكون مخصوصا من عموم ما جاء في ذلك كله كما ذكرنا آنفا، إذ لا عامّ إلا وخصص ولا مطلق إلا وقيد، أو أنه كان يعبد الله تعالى على الماء أو في الهواء لا على الأرض فلا يشتمله قوله صلّى الله عليه وسلم لا تعبد على الأرض، ولا يبعد أنه جاء إلى الرسول وبايعه وجاهد معه إلا أنه(4/197)
لم يره أحد كالملائكة، ولم يخبر الرسول عنه لأمر ما وكم من مؤمن في زمانه صلّى الله عليه وسلم موجودا ولم يتيسر له الوصول إليه والجهاد معه، وهذا أويس القرني من أخيار التابعين لم يتيسر له الوصول إليه والمرافقة له في الجهاد ولا التعليم، وكذا النجاشي رضي الله عنهما، أما الخبر القائل: لو كان الخضر حيا لرآني، فقد قال الحافظ إنه موضوع لا أصل له، ولا مانع من القول إنه كان يأتي الرسول ويتعلم منه خفية، لأنه غير مأمور بالظهور لحكمة إلهية، على أن كثيرا من الأصحاب والتابعين رأوه وصافحوه حتى في الجهاد منهم عبد الله بن المبارك الشائع الصيت دفين هيت رضي الله عنه الذي لا يشك أحد في صدقه. قال تعالى مبينا القسم الثاني مما سألوه عنه «وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ» اعلم أن ما قالوه بأن اسمه مزربان ابن مرزية بن قيلقوس بن يافث بن نوح عليه السلام، وما قالوا بأنه الإسكندر المشهور غير صحيح، وان الله تعالى لم يسمه الإسكندر وإنما سماه ذا القرنين الذي ملك الدنيا إذ قالوا ملكها مؤمنان هذا وسليمان، وكافران نمروذ وبختنصر واختلف في نبوته ونبوة لقمان وعزيز على أقوال لم يترجح أحدها على الآخر عند الأكثر خوفا من إدخال من لم يكن نبيا مع الأنبياء أو إخراج من كان نبيا منهم وهو أمر عظيم لم يقدم عليه الكاملون العارفون، على أنه رجح صاحب بدء الأمالي عدم نبوتهم بقوله:
وذو القرنين لم يعرف نبا ... كذا لقمان فاحذر عن جدال
راجع الآية 20 من سورة لقمان لماره، وللبحث صلة في الآية 260 من سورة البقرة في ج 3 نوضحه فيها إن شاء الله، هذا ومن قال بنبوة ذى القرنين استدل بقوله تعالى (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) الآية الآتية بأن خطاب الله تعالى لا يكون إلا مع الأنبياء، وهو غير وجيه، لأن الله تعالى خاطب مريم في آل عمران، راجع الآية 17 منها في ج 3 وليست نبية بالاتفاق، راجع الآية 57 من سورة مريم في ج 1، وقال في بدء الأمالي:
ولم تكن نبيا قط أنثى ... ولا عبد وشخص ذو افتعال
ومن قال إنه ملك احتج بقول عمر رضي الله عنه حين سمع رجلا يقول لآخر(4/198)
يا ذا القرنين، فقال تسميتم بأسماء الأنبياء فلم ترضوا حتى تسميتم بأسماء الملائكة، لأن الرسول قال: خير الأسماء ما عبد وحمد، وان الرسول كان ينهى عن التسمية ببعض الأسماء مثل فلاح ونافع وشبههما، فساغ لعمر أن ينهى عن ذلك، وهذا لا حجة فيه، لاحتمال علم سيدنا عمر بأن أحد الملائكة اسمه ذو القرنين، فنهى عن ذلك، ولو فرض أن اسمه وافق أسماء الملائكة فلا يفرض أنه ملك، والقصد من قول عمر على فرض صحته عدم رغبته بأن يسمى الناس بغير ما حبذه حضرة الرسول.
مطلب من هو ذو القرنين وسيرته وأعماله والآيات المدنيات:
وأصح الأقوال انه عبد صالح ملكه الله تعالى أرضه والبسه الهيبة وأعطاه العلم والحكمة والشجاعة، وسبب تسميته بذلك طوافه قرني الدنيا شرقها وغربها، وكما اختلف في تسميته ونبوته اختلف في نسبه، فمنهم من قال إنه من حمير ومنهم من قال إنه من الفرس ومنهم من قال إنه من الروم، وأصح الأقوال في نسبه واسمه ومن هو على الحقيقة ما سيأتي في الآية 99 الآتية، فراجعها، وقد ذكرنا في المقدمة أن كل قول يصدر بلفظ قالوا دليل على ضعفه وعدم تحققه. قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين «سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ» من حاله وقصته «ذِكْراً» 83 من أنبائه صحيحا لوروده في الذكر الحكيم القرآن الذي لا أصح منه، ولا يوجد في الكتب القديمة ما هو مفصل مثله لكونه منزلا من الله بلفظه ومعناه.
قال تعالى «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ» وثبتناه فيها وقدرناه على أهلها ومهدنا له سبلها «وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» يحتاجه لإصلاح الدنيا «سَبَباً» 84 بإرشادنا إليه وهدايتنا لأتباعه «فَأَتْبَعَ سَبَباً» 85 أي سلك طريقا «حَتَّى إِذا بَلَغَ» منتهى الغمار مما يلي «مَغْرِبَ الشَّمْسِ» بحيث لا يمكن لأحد إذ ذاك مجاوزة الحد الذي وصل إليه «وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ» ذات طين أسود، أي في مطمح نظره رآها كأنها تغرب في هوة مظلمة كما أن راكب البحر يرى أن الشمس تغيب فيه وتطلع منه، إذ لم ير الساحل وهي في الحقيقة تغيب وراءه وتطلع أمامه، لأن الشمس أكبر من الأرض بأكثر من ثلاثمائة ألف مرة وهي في الفلك الرابع فكيف يمكن دخولها في عين من عيون الأرض، على أن الله تعالى(4/199)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
قادر على أكثر من ذلك، وليس عليه بكثير أن يدخل الجسم الكبير في الأصغر ولا يبعد أن يطوي الأرض لعباده حتى يقطعوا منها ما لا تقطعه الطائرات ولا غيرها، وان الله تعالى لم يخبر أحدا عن حقيقة غروبها في تلك العين، وإنما أخبر عن وجدان ذى القرنين غروبها فيها، لأنه ركب البحر متجها إلى الغرب إلى أن بلغ موضعا لم يتمكن معه من السير فيه، فنظر إلى الشمس عند غروبها فوجدها بنظره كذلك «وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً» 86 أي عند تلك العين في الموضع الذي وقف به سيره «قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ» من لم يسلم منهم «وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً» 87 بأن نأسرهم ونعلمهم الإيمان تدريجيا «قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ» بقي على ظلمه ولم يتب من كفره بل بقي مصرا «فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ» بالقتل الآن «ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ» في الآخرة «فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً» 88 فظيعا متجاوزا الحد «وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى» الجنة في الآخرة والعفو عما اقترفه في الدنيا «وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً» 89 فنعامله باللين والعطف. قال تعالى «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً» سلك طريقا آخر
حَتَّى إِذا بَلَغَ» منتهى العمار مما يلي «مَطْلِعَ الشَّمْسِ» أي منتهى الأرض المعمورة في زمنه التي تطلع عليها الشمس قبل غيرها من جهتها إذ لا يمكن أن يبلغ موضع الطلوع لنفسه «وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً» 90 بحيث لا يوجد جبل ولا شجر يظللهم منها، وان الأرض هناك رخوة جدا لا تحمل البناء، وإنما فيها أسراب يدخلونها عند طلوعها تظلهم منها، حتى إذا زالت وبعدت عنهم خرجوا لمعاشهم الذي هيأه الله لهم هنالك «كَذلِكَ» حكم فيهم كما حكم بالذين وجدهم عند غروبها، ولم نتكلم على هؤلاء وأولئك، كما قيل إن الأولين من قوم صالح، والآخرين من قوم هود، إذ لا دليل يعتمد عليه ولا نقل يوثق به، قال الأصوليون إذا كنت مدعيا فالدليل، وإذا كنت ناقلا فصحة النقل. ولا يوجد دليل قاطع ولا نقل صحيح في ذلك ولذلك نكل علمهم إلى الله القائل «وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً» 91 به وبما وعده وبمن معه وعدته وآلاته وعدد جنده وبما عمل في ذلك وما فعل وقصد(4/200)
ونوى وحدثته به نفسه أو خطر بباله. هذا ولم يقص الله تعالى علينا ما وقع بينه وبين أهل المغرب والمشرق غير تلك المكالمة. قال تعالى «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً» 92 سلك طريقا آخر أيضا «حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ» هما جبلان في ناحية الشمال مرتفعان، قالوا إن الواثق بالله العباسي بعث من يثق به لمعاينتهما فخرجوا من باب الأبواب وشاهدوه وأخبروه بأنهم رأوه بناء من لبن حديد مشدود بالنحاس، إلا أنه حتى الآن لم يطلع عليه أحد، كمدينة إرم التي لم يطلع عليها إلا رجل واحد كما قيل، راجع الآية 8 من سورة الفجر في ج 1، ولا بد أن يحين الوقت للعثور عليهما لا سيما وأن يأجوج ومأجوج من وراء السد، وخروجهما من أمارات الساعة، وهم المعنيون بقوله تعالى «وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا» 93 إلا بجهد شديد، لذلك فهم منهم مرادهم بمشقة وبالإشارة وهو ما قصه الله تعالى بقوله «قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ» يقرآن بالهمزة وبغيره، ولم يأت ذكرهما في القرآن إلا هنا وفي سورة الأنبياء في الآية 66 الآتية «مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» التي هم فيها، إذ يأكلون عشبهم ويحملون كلاهم ويتعدون عليهم «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً» جعلا وأجرة من أموالنا «عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا» 94 يمنعهم من الوصول إلينا لنأمن تجاوزهم على حدودنا، لأن لهم ما بين الجبلين، فلما رأى صحة قولهم «قالَ» لا أريد منكم شيئا وإني لم آخذ على إحقاق الحق أجرا، وإن «ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي» من القوة والغلبة والمال «خَيْرٌ» مما تعطونه لي، وإن من واجبي أن أصونكم وغيركم من التعدي، لا سيما وقد دخلتم في حوزتي، لذلك لا أكلفكم بمال ما ولكن إذا أردتم الاستعجال فيه «فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ» من أبدانكم وأشخاصكم «أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً» 99 جدارا منيعا مرتفعا حصينا يحول دون وصولهم إليكم، قالوا فما هذه القوة التي تريدها منّا والتي تعنيها بقولك من أبداننا؟ قالَ لهم آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ» قطعه وعملة وبنائين وحطبا لأريكم ماذا أفعل، فأحضروا له ما شاء، قالوا وقد حفر الأساس ما بين الجبلين حتى بلغ الماء وجعل فيه الصخر وبناه بلبن الحديد، وجعل بينه الفحم والحطب، وكان(4/201)
بطول فرسخ وعرض خمسين ذراعا وبعلو ذروة الجبلين. قال تعالى «حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ» جانبي الجبلين لأنهما متصادفان، أي متقابلان ومتقاربان في العلو، أعطى الحطب النار و «قالَ انْفُخُوا» عليه بالمنافيخ ففعلوا وسبت النار والفحم تدريجا ولم يزالوا كذلك «حَتَّى إِذا جَعَلَهُ» أي البناء «ناراً» بأن صار كله نار «قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً» 96 نحاسا مذابا فأتوه به فأفرغه على البناء فتداخل فيه حتى صار كأنه قطعة واحدة، قال تعالى «فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ» يعلموا عليه ولا يتسوروه لارتفاعه وملاسته «وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً» 97 لصلابته وسمكه، وكان الجبلان مما يليهم قائمين بصورة مستقيمة كانهما مشقوقان بمنشار لا يتمكنون من الصعود إلى قمتهما، قال ذو القرنين لأولئك القوم الذين هم أمام السد بعد أن طرد أولئك المشكو منهم إلى ما وراءه وعمر عليهم ذلك البناء العظيم «قالَ هذا» السد المنيع الذي سويته لكم «رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي» بكم تفيكم شر أعدائكم الآن «فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي» بخروجهم بعد
«جَعَلَهُ» أي هذا البناء العظيم «دَكَّاءَ» أرضا مستوبة لكم منخفضة من الأرض كأنه لم يكن لأن الله لا يعجزه شيء «وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» 98 واقعا لا مرية فيه «وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ» يوم تم إنشاء السدّ «يَمُوجُ فِي بَعْضٍ» فيبقون كذلك إلى اليوم الذي يأذن فيه الله بخروجهم فيندك إذ ذاك وينفلتون، فتراهم يسعون في الأرض فسادا ويعبثون في البلاد والعباد، ولا يزالون كذلك إلى أن يحين الوقت المقدر لتدميرهم فيهلكوا «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ» بعد ذلك، لأن خروجهم من علامات الساعة الكبرى، فيموت كل الخلق الموجودين على وجه الأرض وفي البحار وغيرها، وتبقى الحال على هذه مدة أربعين سنة، أو إلى ما شاء الله، ثم ينفخ النفخة الثانية فيحيون كلهم الأولون والآخرون ويساقون إلى المحشر المعني بقوله تعالى «فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً» 99 للحساب والجزاء. تدل هذه الآية على أن خروجهم يكون قريبا من قيام الساعة. قال الأخباريون هم قوم من أولاد يافث بن نوح عليه السلام، ومن أولاده الترك والخزر والصقالية، وأولاد حام الحبشة والزنج والنوبة، وأولاد سام العرب والروم والعجم، وان(4/202)
تفسير الموج المذكور في الآية من قبلهم في البشر أولى من تفسيره فيما بينهم، لأن سياق ما قبلها وسياق ما بعدها من الآيات يدل على هذا، تأمل. واعلم أن كل أمة منهما أربعة آلاف أمة لا يموت الواحد منهم حتى ينظر ألفا من صلبه، وهم أصناف مختلفة باللون والطول والعرض والشكل، أقوى من كل حيوان، يأكلون من يموت منهم، وإذا خرجوا أكلوا الحيوانات، وشربوا المياه، وعاثوا في الأرض، ثم يهلكون. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد بيده الشريفة تسعين (وذلك أن تجعل رأس السبابة وسط الإبهام وهي من موضوعات الحساب) . وعنه قال في السد يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يخرقونه قال بعضهم ارجعوا فستحفرونه غدا، قال فيعيده الله كأشدّ ما كان، حتى إذا بلغوا مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس قال الذي عليه ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله تعالى، قال فيرجعون فيجدونه على هيئته حين تركوه، فيخرقونه، فيخرجون على الناس، فيستقون المياه، ونفر منهم الناس لشدة وحشيتهم، ولأنهم يأكلون ولا يشبعون، ويشربون ولا يروون، لا يخلص منهم إنسان ولا حيوان ولا حوت، يفسدون كل ما عثروا عليه، فيختفي الناس منهم ليسلموا من أذاهم، لأنهم لا يتركون شيئا إلا أكلوه أو أفسدوه، حتى إنك لترى الأرض عارية من الشجر والنبات. هذا وقد جاء في بعض القصص أن السدّ هو الموجود الآن المشاهد في ناحية الشمال فيما بين الجبلين في منقطع أراضي الترك، وهذا لعمري غير صحيح، لأنه من مجرد كلس والله أخبرنا بأن هذا السد من حديد ونحاس، وما يقال إن الحديد والنحاس تفتنانهما رطوبة الأرض لا جدال فيه، وإنما الأخذ والرد بالعثور عليه ليس إلا، وان الذي حدا بهم لهذا القول عدم العثور عليه، لأنهم على زعمهم أحاطوا بالمعمور كله فلم يجدوه، على أنهم يعترفون بأنهم لم يكشفوا القطبين الشمالي والجنوبي، وإذا لم يكشفوهما لا يليق بهم أن يقولوا أحطنا بالأرض أو بالمعمور منها، إذ قد يكون فيهما أو وراءهما، ويقول ابن خلدون في مقدمته إن السدّ وسط جبل قوقيا المحيط الكائن في القسم الشرقي من الجزء التاسع في الإقليم السادس، ولهذا فإن القول(4/203)
رجما بالغيب في أشياء كهذه، لا يجدر بالعاقل الخوض فيها، بل عليه أن يكل علمها إلى الله، ومن يعش ير هذا، وجاء في رواية: تتحصن الناس في حصونهم فيرمون بسهام إلى السماء، فترجع مخضبة بالدماء، فيقولون قهرنا من في الأرض، وعلونا من في السماء، فيزدادون قسوة وعتوا، فيبعث الله عليهم نفقا (ذودا يكون في أنوف الإبل) في رقابهم فيهلكون، فو الذي نفسي بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم شكرا، أي يمتلىء أجسادها لحما، يقال شكرت الدابة إذا امتلأ ضرعها، أخرجه الترمذي. وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ليحجنّ البيت، وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج.
يدل هذا الحديث على أن الإسلام يتجدد بعد هلاكهم، والله أعلم.
مطلب أن ذا القرنين ليس اسمه إسكندر وليس بالمقدوني ولا اليوناني ولا الروماني وإنما هو ذو القرنين:
وليعلم أن لفظ إسكندر الذي أطلق على ذي القرنين هذا ليس هو الإسكندر الرومي الذي ملك الفرس والروم والذي يؤرخ الروم بأيامه، لأن هذا الذي نحن بصدده كان على عهد إبراهيم عليه السلام بعد نمرود وقد عاش ألفا وستمئة سنة قبل إسكندر المقدوني بأكثر من ألفي سنة، لأن إسكندر المقدوني ولد قبل المسيح بثلاثمائة وست وخمسين سنة، وولايته قبلها في سنة 236، ووفاته سنة 340، فيكون عمره 33 سنة، وكان وزيره أرسطو طاليس الفيلسوف المشهور الذي حارب دارا وأذلّ ملوك الفرس ووطئ أرضهم، وعمر الإسكندرية وغيرها، وكان كافرا، وقد غلط كثير من العلماء والمفسرين فظنوه هو المذكور في القرآن، وحاشا كلام الله أن يشمل هذا الكافر بما ذكر من الثناء، وليس هو الإسكندر اليوناني الذي ولي الملك بعد أبيه مرزين، واسمه المرزبان المار ذكره أول الآية 84 وإنما هو غيرهما، وهو رجل اسمه ذو القرنين فقط، كما ذكر الله، وهو رجل صالح، نابه طيب، وقد قبض الله له قرناء صالحين، فأطاع الله وأصلح سيرته، وقصد الملوك والجبابرة وقهرهم، ودعا الناس لطاعته على طاعة الله تعالى وتوحيده، قالوا ولما أقبل إلى مكة شرفها الله ونزل بالأبطح قالوا له في هذه البلدة خليل(4/204)
الرحمن، فدخلها ماشيا وقال ما ينبغي لي أن أدخل بلدة فيها خليل الرحمن وأنا راكب، حتى جاء إلى إبراهيم عليه السلام وسلم عليه وعانقه، فهو أول من عانق عند السلام، وسخر الله له السحاب والنور والظلمة فإذا سرى بجيوشه يظله السحاب من فوقه وتحوطه الظلمة ويهديه النور، وكان على مقدمته الخضر عليه السلام، فحظي بعين الحياة، وأخطأها ذو القرنين، وانقادت له البلاد، وإن ما قصّ الله علينا من أمره كاف من عظمته، ومات في مدينة شهرزور ودفن فيها، وقالوا إنه دار في الدنيا مدة خمسمائة سنة، وقال بعضهم إنه مات في بيت المقدس، والله أعلم. وقد ذكرنا آنفا في تفسير الآية 9 المارة أن سبب نزول هذه الآيات بذكر ذي القرنين وأصحاب الكهف هو ما ذكره اليهود أن كفار قريش الذين ذهبوا إلى المدينة لهذه الغاية وعند مجيئهم منها أخبروا قومهم ثم سألوا الرسول عنها، وقد نزلت هذه الآيات بالقصتين المذكورتين، وآية 85 من الإسراء المارة في ج 1 في السؤال عن الروح دفعة واحدة، لأن السؤال عنها دفعة واحدة، ووضعت كل منها في موضعها الآن بأمر من حضرة الرسول ودلالة من الأمين جبريل عليهما السلام بما هو موافق لما عند الله في لوحه وعلمه، كما ذكرناه في المقدمة.
واعلم أن الله تعالى لم يذكر في القرآن العظيم اسم الإسكندر حتى يقال إنه اليوناني أو المقدوني أو الرومي ويؤولون الآية عليه، وإنما سماه ذا القرنين وإن المؤرخين من عند أنفسهم لقبوه بالإسكندر، ولهذا حصل الالتباس بينه وبين الإسكندر المقدوني أو الرومي أو اليوناني ووقع الخطأ بنسبة ما جاء في القرآن إلى أحدهم، والصحيح والله أعلم أنه ليس بأحد هؤلاء الثلاثة وإنما هو ذو القرنين أبو كرب صعب بن جبل الحميري، واسم أمه هيلانه، وكان يتيما في بني حمير كما ذكره الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه سر العالمين وكشف ما في بني الدارين في ص 3 وهو ثقة فيما ينقل ويكتب، كيف لا وقد لقب بحجة الإسلام ورضيه الخاص والعام، يؤيد هذا ما جاء في حاشية بدء الأمالي ص 37 وما ذكره الزيلعي صاحب الكنز بأنه لقي إبراهيم خليل الرحمن وعانقه كما ذكرنا آنفا وقد سئل ابن عباس عن المعانقة فقال أول من عانق إبراهيم خليل الرحمن لما كان بمكة وأقبل إليها ذو القرنين حتى(4/205)
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
صار بالأبطح، قيل له في هذه البلدة إبراهيم خليل الرحمن، فقال ما ينبغي لي أن أركب في بلدة فيها إبراهيم خليل الرحمن، فنزل ومشى إليه فسلم واعتنقه كمامر آنفا، فكان هو أول من عانق وعمره يزيد على الألفي سنة، كما يروى أن قيس ابن ساعدة خطب بسوق عكاظ فقال: يا معشر إياد بن الصعب ذو القرنين ملك الخافقين قد أذل الثقلين وعمر ألفين، ثم كان كلمحة العين، ولهذا فإنه ليس بالإسكندر المقدوني ولا الرومي ولا اليوناني ولا اسمه إسكندر البتة، لأن عمرهم ودينهم وسيرتهم تخالف عمره ودينه وسيرته، وإنما هو ذو القرنين وكل ما نقله المفسرون بأنه يوناني أو مقدوني أو رومي وأن اسمه مرزبه أو غيره لا نصيب له من الصحة لأنهم تناقلوه بعضهم عن بعض دون أن يعرفوا مصدر الناقل الأول، وقد تهاونوا فيه ولم يبعثوا عما يؤيده، هذا والله أعلم.
قال تعالى «وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ» أي بعد النفخة الثانية «لِلْكافِرِينَ عَرْضاً» 100 ليشاهدوها عيانا فتنقطع فرائضهم من رؤيتها، ثم بين هؤلاء الكافرين بقوله جل قوله «الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي» فلا يبصرون طرق الهدى والرشد فيها «وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً» 101 له من رسلي ويعرضون عنهم لئلا يفقهوه وليعلم أن هذه الآيات من قوله تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ) 83 إلى هنا عدها أكثر العلماء من القسم المدني الذين تبعنا أقوالهم ومشينا عليها في تفسيرنا، هذا والصحيح أنها مكيات، إلا أنها لم تنزل مع سورتها لما قدمناه هنا وفي الآية 58 من الإسراء في ج 1، ولعل السهو بعدّها مدنيات جاء من هذه الجهة، لأن الصحيح أن لا مدني في هذه السورة إلا الآية 28 المارة لا آية 38 التي ذكرها الغير. قال تعالى «أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي» الملائكة كما اتخذ اليهود عزيزا والنصارى المسيح «مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ» لهم، كلا لا سبيل إلى زعمهم هذا فأخبرهم يا سيد الرسل بفساد ظنهم، وأنهم سيتبرءون منهم يوم القيامة ويكونوا لهم أعداء بسبب كفرهم «إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا» 102 هو ما يقدم للضيف عند نزوله وبئس ذلك النزل في ذلك اليوم العصيب، وإذا كان أول قراهم جهنم والعياذ بالله فما هو آخره يا ترى؟ لأنهم إذ ذاك يستغيثون ولا(4/206)
يغاثون، لأنهم عن ربهم محجوبون، ولا أعظم عذابا من هذا كما لا أعظم لأهل الجنة من نعيم رؤية الله تعالى، كما سيأتي في الآية 107. «قُلْ» لهم يا أكرم الرسل «هَلْ نُنَبِّئُكُمْ» أيها الكفرة «بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا» 103 في الدنيا والآخرة هم «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» عن طريق الصواب ومحجة السداد وجنحوا إلى ما فيه الهلاك والدمار «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» 104 في عملهم ولا يدرون أنه سبب خسارتهم في الآخرة «أُولئِكَ» الضّال سعيهم الظانون بحسن صنيعهم وهو شيء هم «الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ» ولم يصدقوا رسله «وَ» مع نكران «لِقائِهِ» في الآخرة كما أنكروا كلامه في الدنيا «فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» ومحق ثوابها الذي كانوا يأملونه لأنهم ماتوا على كفرهم وقد كافأهم الله عليها في الدنيا بما أنعم عليهم فيها، ولذلك «فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» 105 إذ لا قيمة لهم ولا قدر ولا مكانة ولا حظ لهم عندنا ولا نصيب في الآخرة، وعدم إقامة وزنهم ازدراء بهم، وهؤلاء الموصوفون بما ذكرهم الخاسرون في الدنيا والآخرة لا كما يقولون إنهم الفقراء والصعاليك الذين شرفوا بالإيمان، لأن هؤلاء هم الناجحون الرابحون الناجون.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال صلّى الله عليه وسلم إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال اقرءوا إن شئتم (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ)
الآية.
وذلك لأن الوزن للأعمال لا الأجساد «ذلِكَ» إشارة إلى حبوط عمالهم وخمسة قدرهم، أي الذين ذلك شأنهم «جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً» 106 زيادة على كفرهم فلم يكتفوا به حتى ضاعفوه بالسخرية بكلام الله وذات رسله وكتبه. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في دنياهم «كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ.» مكافأة لهم على أعمالهم الطيبة في الدنيا «نُزُلًا» في الآخرة أول قراهم عند ربهم وبعده ما هو أعظم وأعظم إذا كان أوله الجنة، وهذه بمقابل الآية 102 بحق الكافرين الذين أول قراهم جهنم وآخره بما هو أفظع وأشنع، وآخر قرى هؤلاء الأبرار رؤية الملك الغفار التي لا تعد جميع الجنان شيئا بالنسبة إليها عند أهل الجنة، والفردوس بالعربية البستان، وكذلك(4/207)
بالرومية والحبشية، راجع الآية 182 من سورة الشعراء في ج 1، ويطلق على ربوة الجنة «خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا» 108 إلى غيرها، وما قيل إن كلمة الفردوس لم تسمع في كلام العرب إلا من حسان بعد الإسلام لقوله:
وإن ثواب الله كل موحد ... جنان من الفردوس فيها يخلد
لا يصح، لأن أمية بن الصلت قبل الإسلام سبقه بذلك بقوله:
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة ... فيها الفراديس ثم القوم والبصل
وقال جرير يمدح خالد بن عبد الله القسري:
وإنا لنرجو أن نرافق رفقة ... يكونون في الفردوس أول وارد
ومن سمع قبل الإسلام من الجاهليين كثير أيضا. وهذه الكلمة مكررة في القرآن في الآية 11 من سورة المؤمنين الآتية فقط، أخرج البخاري ومسلم وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنها تفجر أنهار الجنة. فلو لم تكن العرب تعلم هذه اللفظة لما ذكرهم حضرة الرسول بطلبها، وتفيد هذه الآية أن الجنات غير الفردوس لإضافتها إليه، وهو كذلك، قال أبو حبان إن جنات الفردوس بساتين حول الفردوس، ولهذا يندفع ما يقال إن الآية تفيد أن كل المؤمنين في الفردوس، مع أن درجاتهم متفاوتة، ولا يعارض الحديث السابق ما رواه أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا صليتم علي فاسألوا الله تعالى لي الوسيلة أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون أنا، إذ لا مانع من انقسام الدرجة الواحدة إلى درجات بعضها فوق بعض، وتكون الوسيلة هي أعلى درجات الفردوس التي هي أعلى درجات الجنة، على أن المراد والله أعلم في هذا الحديث علو المكانة لا المكان. قال تعالى «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي» التي هي في علمه والمقدرة في حكمه «وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» 109 مرارا كثيرة لنفد ولم تنفد كلمات الله، وما قيل إن هذه الآية نزلت بالمدينة عند ما قال اليهود إنا أوتينا علم التوراة، فكيف تتلو (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) الآية 85 من الإسراء(4/208)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
في ج 1 لا صحة له، وقد أوضحنا هذه في تفسير هذه الآية فراجعها يظهر لك مكّيتها، والآية المدينة في هذا الصدد هي الآية 27 من سورة لقمان المارة فما بعدها كما بيناه هناك، ولذلك كانت أبلغ من هذه في المعنى لما فيها من لفظ أبلغ في العدد والكمية، وهكذا دائما تكون الآية المتأخرة في النزول أبلغ بحكم التدريج تأمل، أما هذه فمكية، وقد توهم من قال إنها مدنية لما أنه وقع السؤال عنها والبحث فيها في المدينة، وما كل ما جرى البحث فيه بالمدينة مدني، تنبه فقهك الله في أمر دينك ودنياك.
«قُلْ» يا سيد الرسل لقومك إني كما تقولون «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» لا ميزة لي عليكم بالبشرية، ولكن بما خصني الله به من النبوة والرسالة، وما أكرمني به من الوحي الذي «يُوحى إِلَيَّ» من لدنه، وهذا تعليم له عليه الصلاة والسلام لسلوك طريق التواضع في أقواله وأفعاله، ولئلا يزمو على أمته بما منحه الله به، وهذا وشبهه ما يشير إليه صلّى الله عليه وسلم بقوله: أدّبني ربي فأحسن تأدبي. «أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» هو ربي وربكم لا شريك له «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ» في الدار الآخرة، ويقر بأن المصير إليه، ويعتقد ذلك اعتقادا جازما لا مرية فيه «فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً» في دنياه يعضد به إيمانه لينتفع فيه بآخرته «وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» 110 ولا شيئا أبدا، بل يخلص له في قوله وعمله وفعله ونيته. روى البخاري ومسلم عن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سمّع سمع الله به ومن يرائي يرائى به.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الله تعالى يقول أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه.
وفي رواية: وأنا منه بريء، وسبب نزول هذه الآية أن جبذ بن زهير قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إني أعمل العمل لله فإذا اطلع عليه أحد سرّني، فقال عليه السلام إن الله لا يقبل ما شورك فيه. وقيل إنه قال له: لك أجران، أجر في السر وأجر في العلانية. فالرؤية الأولى محمولة على قصد الرياء والسمعة، والثانية على قصد الاقتداء به، فالمقام الأول مقام المبتدئين، والثاني مقام الكاملين.
روى مسلم عن أبي الدرداء قال: قال صلّى الله عليه وسلم من حفظ عشر آيات من أول الكهف(4/209)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
عصم من فتنة الدجال. وفي رواية: من آخرها. فعلى من أراد الحفظ من فتنته- عصمنا الله منها بيقين- فليحفظ عشرا من أولها وعشرا من آخرها عملا بالروايتين.
ويوجد سورة أخرى فقط مختومة بما ختمت به هذه السورة وهي الإخلاص في ج 1.
وليعلم أن كلمة الشرك المزجور عنها تكررت في القرآن في مواضع كثيرة لأنها أعظم شيء مكروه عند الله، ولهذا فإن كل شيء داخل تحت المشيئة بالعفو عنه والمغفرة إلا الشرك، لأنه الكفر الظاهر، وقد شبه به الرياء إذ ورد الرياء هو الشرك الخفي، لعظم وزره عند الله، راجع الآية 33 من سورة الأعراف في ج 2 والآيتين 22/ 79 من الإسراء أيضا، وسنبحث عنه كلما مررنا بما ينم عليه في اللفظ والمعنى كما جعلنا ذلك قبل. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة النحل عدد 20- 70- 16
نزلت بمكة بعد الكهف، عدا الآيات 126 و 127 و 128، وهي مئة وثمان وعشرون آية، والفان وثمنمئة وأربعون كلمة، وسبعة آلاف وسبعمئة وسبعة أحرف.
وتسمى سورة النعم، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا بما ختمت به، ولا يوجد مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «أَتى أَمْرُ اللَّهِ» بقيام الساعة أي يأتي، وجاء بلفظ الماضي لأنه محقق الوقوع، قال الشيخ عبد القاهر:
إن إخبار الله تعالى بالتوقع يقام مقام الإخبار بالواقع، إذ لا خلف فيه فيجري المستقبل مجرى الماضي المحقق وقوعه «فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» أيها الناس فإنه آت لا محالة «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» 1 به غيره، وهذا مما يعد سببا لتلو هذه السورة التي قبلها، إذ ختمها بذم الشرك، وبدأ هذه بتقبيحه أيضا، قال ابن عباس لما نزلت (اقتربت الساعة) المارة في ج 1 قال الكفار إن هذا الرجل يزعم أن القيامة قربت فأمسكوا عما كنتم تعملون حتى ننظر ما هو كائن، فلما رأوا أنه(4/210)
لا ينزل شيء قالوا ما نرى شيئا، فنزل قوله تعالى (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) .
فأشفقوا، فلما امتدت الأيام قالوا يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزل (أتى أمر الله) فوثب النبي صلّى الله عليه وسلم ورفع الناس رءوسهم وظنوا أنها أتت حقيقة، فنزل (فلا تستعجلوه) .
ويطعن في هذا عدم نزول سورة الأنبياء أو شيء منها قبل هذه السورة، تدبر.
واعلم أن هذه الآية لما نزلت على حضرة الرسول قال بعثت أنا والساعة كهاتين، ويشير بإصبعيه بمدهما، أخرجاه في الصحيحين من حديث سهل بن سعد، ورويا في السنن مثله بزيادة كفضل إحداهما على الأخرى وضم السبابة والوسطى. قال تعالى «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ» الوحي سمي روحا لأن فيه حياة القلوب، أو أن الباء بمعنى مع، أي ينزل الملائكة مع الروح وهو جبريل عليه السلام، وهذه الآية تقارب في المعنى الآية 57 من سورة الشورى المارة، وهذا الإنزال «مِنْ أَمْرِهِ» جل أمره «عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» الذين اصطفاهم لرسالته آمرا لهم «أَنْ أَنْذِرُوا» الناس وأخبروهم «أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» 2 لتنالوا رحمتي والعاقبة الحسنة مني أنا، ذلك الإله العظيم الذي «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» 3 به غيره وهو الذي «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ» 4 مظهر الخصام له كأنه لم يخلقه مما يعلم أو كأنه خلق نفسه ونسي ما كان عليه من الضعف اغترارا بما صار إليه. نزلت هذه الآية في أبي بن خلف الجمحي كما نزلت فيه آية (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) الآية 77 من سورة يس المارة إلى قوله (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) في ج 1، وهي عامة في كل مخاصم لله وفي آياته.
قال تعالى «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ» أيها الناس «فِيها دِفْءٌ» من صوفها ووبرها وشعرها تستدفئون به بما تعملون منها من اللباس والخباء للاستظلال وغيرها «وَمَنافِعُ» من درّها وركوبها ونسلها وتحميلها «وَمِنْها تَأْكُلُونَ» 5 من لحمها وسمنها ولبنها واقطها وجبنها وزبدها وهو مما يعتمد عليه غالبا للتقوت، أما أكل الطيور والأسماك فيجري مجرى التفكه، وإنما قدم منفعة اللباس على منفعة الأكل لأنها أكثر وأعظم من منفعة الأكل إذ قد يكون من غيرها من الحيوان(4/211)
«وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ» يقال للرجل جمال بالتخفيف وبالتشديد على التكثير، وجميل وللمرأة جميلة وجملاء قال:
فهي جملاء كبدر طالع ... بذت الخلق جميعا بالجمال
أي أنها زينة وبهاء لصاحبها عدا منافعها «حِينَ تُرِيحُونَ» وقت ما تردونها من المرعى إلى مراجعها «وَحِينَ تَسْرَحُونَ» 6 بها جمال أيضا وقدم الرواح على التسريح لأنها ترجع أجمل مما تغدو فيه تتبختر مشيتها مجتمعة متمتعة من المرعى ملأى بطونها حافلة ضروعها، ويفرح بها عند رجوعها أكثر منه عند ذهابها لأنها تكون خاوية البطون والضروع متفرقة مسرعة يخاف عليها الوحش والضباع والنهب.
قال تعالى «وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ» بدونها «إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» الشق نصف الشيء، وعليه يكون المعنى لم تبلغوا ذلك البلد الذي تريدونه بغيرها إلا بنقصان نصف قوة أنفسكم «إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» 7 بخلقه إذ سخر لهم هذه الأنعام لاستراحتهم «وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ» خلقها لكم أيضا «لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً» تتباهون بها كالأنعام إلا أنها لا تؤكل ولا يستفاد من درها ووبرها، وفيها من المنافع ما لم تكن في تلك عدا الإبل فإنها جامعة للأمرين، ولذلك عجّبهم الله بها، راجع الآية 17 من الغاشية المارة «وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ» 8 أيها الناس من أدوات الركوب والحمل كالعجلات والسيارات والطائرات والسفن البخارية والقطارات والغواصات مما علمتم ومما لا تعلمون أيضا أنواعا وأجناسا نخلقها لكم بعد لمنافعكم والمزينة أيضا، عدا أصناف الحيوانات البرية والبحرية مما تنتفعون به ومالا، وليس المراد من هذه الآية بيان التحليل والتحريم بل تنبيه العباد على نعمه تعالى عليهم.
مطلب جواز أكل لحوم الخيل وتعداد نعم الله على خلقه:
الحكم الشرعي يجوز أكل لحوم الخيل والبغال المتولدة من الخيل، أما المتولدة من الحمر الأهلية فلا، وعليه الشافعي وأحمد وكثير من أهل العلم، وقال مالك وأبو حنيفة ومن نهج نهجهم وهو قول ابن عباس لا يجوز أكل لحوم الخيل، لأن الله تعالى عدّ ما هو للأكل على حدة وما هو للركوب على حدة، ودليل الأكل(4/212)
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)
هو ما أخرجه البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت:
نحرنا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه. وما رويا عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل، وأن القرآن في هذه الآيات تكلم عن الركوب والزينة وسكت عن الأكل فدار الأمر بين التحريم والإباحة فوردت السنة بالإباحة لأكل الخيل وتحريم الحمر الأهلية والبغال منها تبعا لها، لأن الحيوان ينسب إلى أمه، فأخذنا بالسنّة جمعا بين النصين، لأن السنّة مبينة لكتاب الله تعالى وشارحة له، فالأخذ بها جائز، أما ما قيل إنها ناسخة لكتاب الله فلا، راجع بحث الناسخ والمنسوخ في المقدمة وفي الآية 146 من الأنعام المارة، ولبحثه صلة واسعة تأتي إن شاء الله في الآية 106 من البقرة في ج 3. «وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ» الموصل للإيمان به، وهذا على غير الوجوب، إذ لا يجب عليه شيء ولكن بمحض الفضل، وقصده بيان استقامته بالآيات والبراهين، فعليكم أيها الناس اتباعها وسلوكها «وَمِنْها جائِرٌ» معوج مائل عن الاستقامة فلا تسلكوها لأنها مسلك أهل الزيغ والبدع والأهواء والطيش «وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» 9 إلى الطريق الحق، ولكنه لم يشأ ذلك لأمر اقتضته حكمته، ولو كان لما بقي محل لخلق النار ولا معنى للتفاضل «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ» ينبت لكم «شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ» 10 أنعامكم ودوابكم وكل ما له حاجة في الرعي،
وكذلك «يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» كالجوز والبرتقال وأنواع المشمش والإجاص والخوخ والكثرى وغيرها، لأنه تعالى ذكر في كتابه أمهات الأشياء وعبر عن البقية بلفظ الثمرات والفاكهة، والأب فيما يخص الحيوان من جميع أجناس وأصناف النباتات «إِنَّ فِي ذلِكَ» الذي ذكر من أجناس الحيوان وأصناف الثمار وأنواع النبات «لَآيَةً» عظيمة دالة على قدرة القادر ووحدانيته «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» 11 فيها فيعقلون معناها ويفقهون مغزاها «وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» في منافعكم أيها الناس «وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ» لمنافعكم أيضا بصرفها كيف يشاء ويختار «إِنَّ فِي ذلِكَ» التسخير الجاري على نظام بديع(4/213)
لا يتغير على كر الدهور «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» 12 فوائد تسخيرها ويستدلون بها على مراده منها «وَما ذَرَأَ» خلق وبرأ «لَكُمْ فِي الْأَرْضِ» من حيوان ونبات ومعادن ومياه «مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ» وأشكاله وهيئته وكيفيته وكميته وماهيته وطعمه وريحه «إِنَّ فِي ذلِكَ» الاختلاف مع اتحاد الأصل في الغالب وكونها كلها من الماء خلقه ومقرتا «لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ» 13 فيها فيعتبرون ويتعظون ويعترفون بكمال القدرة لله تعالى، وفي هذه الآية دلالة على عقم قول المنجمين إن هذه الكواكب هي نفسها الفعالة المتصرفة في شئون العالم السفلي، لأنه تعالى يقول مسخرة مذللة مقهورة بأمره لمنافع خلقه، وقد أسهبنا البحث بهذا في الآيتين 110/ 112 من سورة الصافات المارة فراجعها وما تشير إليها من المواضع ففيها كفاية. وبعد أن ذكر الله تعالى بعض النعم الموجودة في السماء والأرض أتبعها بما هو في الماء فقال «وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا» مع أنه مالح ليعلم خلقه أنه قادر على إخراج الضد من الضد «وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها» كاللؤلؤ والمرجان واليسر وغيرها «وَتَرَى» أيها الإنسان «الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ» جواري في البحر بسرعة مقبلة ومدبرة بشدة مع أن الريح واحدة والمخر الشق لأن السفينة تشق الماء شقا حالة جريها فيه «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» الربح في تجارتكم والتنقل للاعتبار والزيارة وحمل الأثقال ولتفكروا كيف تبلغ بكم المواقع التي تقصدونها بسيرها «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» 14 هذه النعم وتقوموا بحقها من توحيد الله وطاعته وتمجيده وتعظيمه، لأن الركوب في البحر من أعظم النعم لما فيه من قطع المسافات البعيدة في زمن قصير بالنسبة للسير بالبر ولعدم الاحتياج للحل والترحال والحركة مع الاستراحة والسكون، وما أحسن ما قيل فيه:
وإنا لفي الدنيا كركب سفينة ... نظن وقوفا والزمان بنا يسري
واستدل بهذه الآية على جواز ركوب البحر للتجارة بلا كراهة، وإليه ذهب الكثير، وأخرج عبد الرزاق بن عمر أنه كان يكره ركوب البحر إلا لثلاث:
غاز أو حاج أو معتمر. وجاء في رواية أخرى: لا يركب البحر إلا غاز أو(4/214)
حاج أو معتمر، مصدر بالنهي وممنطق بالحصر. قال تعالى «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» لأنه تعالى لما خلقها خلقها طائفة عائمة، فصارت تمور وتتحرك بالهواء، فأثقلها بالجبال راجع الآية 9 من سورة لقمان والآية 19 من سورة الحجر المارتين والآية 2 من سورة الرعد في ج 3، «وَأَنْهاراً» جعل فيها للشرب والسقي وغيرها «وَسُبُلًا» طرقا وفجاجا تسلكونها بأسفاركم في السهل والجبل «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» 15 إلى المكان الذي تريدونه فلا تضلون قصدكم ولا يصعب عليكم بلوغه «وَعَلاماتٍ»
جعل فيها أيضا لتستدلون بها على المواقع كالجبال والوديان والروابي والأنهار والأشجار والعيون في تنقلاتكم النهارية «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» 16 في الليل كالثريا وسهيل والجدي وبنات نعش والفرقدين والبلدة والقلادة والنثرة والعبور والميزان، فإنها ترشدكم على القبلة والشمال والشرق والغرب تهتدون بها إلى قصدكم بمعرفة الجهات الطالعة منها والسائرة إليها. ولما ذكر الله تعالى من عجائب صنعه وغرائب إبداعه وعظيم حكمته مما هو مخلوق له وكل شيء مخلوق له قال على سبيل الإنكار لتاركي عبادته مع هذه النعم التي غمرهم بها «أَفَمَنْ يَخْلُقُ» أيها الناس مثل هذه المخلوقات العظيمة «كَمَنْ لا يَخْلُقُ» شيئا مثل أوثانكم وتساوون هذا الخلاف الجليل بها مع أنها عاجزة عن حفظ نفسها «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» 17 أن مخلوقاته كلها بما فيها أوثانكم التي لا تخلق ولا ترزق لا تستحق للعبادة، فكيف تعبدونها وتتركون عبادة الحق القادر على كل شيء.
هذا، وقد عبر الله تعالى عن الأوثان بلفظ من الدالة على من يعقل مع أنها جمادات وينبغي أن يعبر عنها بلفظ ما الموضوعة لما لا يعقل لأنهم لما سموها آلهة أجريت مجرى من يعقل على زعمهم، فخاطبهم جل جلاله على قدر عقولهم فيها وفي الآية الآتية بعد «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» يا بني آدم لأنها كثيرة منها ظاهرة ومنها خفية، ومنها ما أنتم متيقظون لها وما أنتم غافلون عنها لا تعرفون قدرها، لأن المعافى الآمن لا يعرف نعمتهما إلا عند طروء الخوف والمرض، والسميع البصير لا يعرف نعمتهما إلا عند فقدهما، وكذلك بقية الأعضاء والمأكولات والمشروبات والملبوسات والمركوبات والأموال والأولاد والنساء والسكن لا يعلم قدرها إلا عند(4/215)
أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
زوالها، وقد أنعم الله نعما كثيرة لا يحصيها إلا هو «إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ» لعباده إذا نسوا نعمه فتيقظوا وتابوا وقاموا بشكرها «رَحِيمٌ» 18 بهم يعفو عما سلف منهم ومن رحمته التجاوز عن قصورهم وتكثير نعمه عليهم وإمهالهم بالعقوبة ليرجعوا إليه «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ» 19 من أقوالكم وأفعالكم «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» وتسمونها آلهة «لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً» مما ذكر أبدا «وَهُمْ يُخْلَقُونَ» 20 بصنعكم وبعمل أيديكم التي هي من خلقنا، ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى دلت على أنها لا تخلق شيئا، وهذه تدل على أنها نفسها مخلوقة ففيها زيادة في المعنى ونادرة أخرى وهي
«أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ» فكيف يكون الميت إلها، ومن شأن الإله أن يكون حيا يحي ويميت مجيبا لمن دعاه «وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» 21 للحساب والجزاء والعقاب وفي هذه الآية دلالة على أن الله تعالى يبعثها يوم القيامة بخلاف سائر الجمادات، والحكمة من بعثها تكذيب عابديها وتبرؤها منهم إذ يجعلها القدير صالحة للكلام إظهارا لبطلان زعمهم فيها من الشفاعة لهم والتقرب إلى الله بعبادتهم. فيا بني آدم «إِلهُكُمْ» الذي يستحق العبادة ويفعل الخير والشر «إِلهٌ واحِدٌ» هو الله لا إله غيره الذي تجدونه غدا في الآخرة ينعم الطائع بالجنة ويعذّب العاصي بالنار «فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ» هذا الإله العظيم جاحدة وحدانيته «وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» 22 عن عبادته خاضعون لعبادة الأوثان مائلون لحبها.
مطلب لا جرم ولفظها وإعرابها وقدم لسان العرب وتبلبل الألسن وذم الكبر:
«لا جَرَمَ» قال البصريون إن لا من لا جرم ردّ لكلام سابق مثل قوله تعالى (لا أُقْسِمُ) وهو هنا إنكار قلوبهم التوحيد واستكبارهم عنه، وجرم فعل ماض بمعنى ثبت وحق ووجب وعلى هذا قوله:
ولقد طعنت أبا عبيدة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
وان مع ما في حيّزها فاعلة أي ثبت وحق علم الله تعالى بسرهم وعلانيتهم وعدم محبته للمستكبرين المشار إليهم في قوله «أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما(4/216)
يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ»
23 عن عبادته والإنابة لطاعته والانقياد لأمره، وعليه يكون المعنى أن من حق العالم بالسرّ والعلانية أن لا ينكر وحدانيته ولا يستكبر عن عبادته، ويجوز أن تكون بمعنى كسب وفاعله يعود على ما قبله والجملة بعدها محلها النصب على أنها مفعولة لها، وبه قال الزجاج، وقيل لا عاملة وجرم اسمها باعتباره مصدرا مبنيا على الفتح وخبرها الجملة في أن واسمها وخبرها، فتكون مثل لا بدّ من التبديد وهو التفريق، أي لا من بطلان دعوة الجحود والاستكبار عن عبادة الله، لأن بطلانها أمر ظاهر مقطوع به. قال الفراء هذا هو أصل لا جرم لكنه كثر استعماله فصار بمعنى حقا. ومن العرب من لفظها مثل لفظ لا بد بضم الجيم وسكون الراء وفتح الميم، لأن فعل وفعل اخوان كرشد ورشد وعدم وعدم ذكره الكشاف، وهذه اللفظة تؤيد القول باسميتها، وقال الخليل إن جرم مع لا مركب تركيب خمسة عشر وبعد تركيبها صار معناها معنى فعل، وعليه فإن ان وما بعدها يعدها في تأويل مصدر فاعل لها، وقالوا إن لا جرم يعني عن القسم، تقول لا جرم لآتينك، وعليه تكون الجملة بعدها جواب القسم. وفي عموم هذه الآية يدخل كل متكبر سواء عن عبادة ائمه أو على خلقه.
روى مسلم عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذرة من كبر، فقال رجل يا رسول الله إن الرجل يحبّ أن يكون نوبه حسنا ونعله حسنا؟ قال إن الله جميل يحب الجمال. أي ان هذا من النظافة وهي مطلوبة وليست من الكبر المذموم، والكبر بطر الحق أي جعل الحق باطلا وغمط الناس حقهم أي احتقارهم فلم توهم شيئا وغمص بمعنى غمط، لأن كلّا بمعنى انتقص وازدرى، والتكبر والكبر والاستكبار ألفاظ متقاربة يجوز استعمال بعضها مقام بعض مع فرق بالمعنى، والمفهوم من عدم الحب البغض، لأن من لا يحبه الله يبغضه.
قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ» المتكبرين «ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ» على نبيكم «قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» 24 كما قالوا في الآية 5 من سورة الفرقان في ج 1، وإنما قالوا وفاهوا بهذا «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ» لم ينقص منها شيء لأن ثواب ما فعلوه من صلة رحم وإقراء ضيف وغيره وما أصابهم من(4/217)
البلاء في الدنيا كافأهم الله عليه فيها من الرزق والأولاد والعافية وغيرها، فلا يكفر الله بها شيئا من أوزارهم لإعطائه لهم بدلها بالدنيا فتبقى أعمالهم السيئة ثابتة عليهم تامة «وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ» أي ويحملون مع أوزارهم بعض أوزار أتباعهم، لأن الرؤساء عليهم وزرهم وشيء من أوزار أتباعهم. أخرج مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا. «بِغَيْرِ عِلْمٍ» أي يضلونهم من حيث لا يعلمون أن طريقهم الذي يدعون إليه ضلالة، وفيه تنبيه على أن كيدهم لا يروج على من له لب «أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ» 25 أي بئس شيئا يزرونه ويرتكبونه من الإثم فعلهم المذكور «قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» من الأمم السابقة بأنبيائها كما مكر قومك بك يا سيد الرسل، وقد قص الله عليه مكر قوم إبراهيم وهود وصالح بأنبيائهم وهم عرب مثل قومك، وبهذا يبطل قول من قال إن أصل لسان الناس السريانية، وان تبلبل الألسن كان بعد نمرود، فإذا كان لهذا القول صحة فيكون قبل عاد وثمود وقبل صالح وهود، لأن قومهما كانوا عربا، ولأن أهل اليمن كانوا عربا، لأن جرهم منهم، وكان قبلهم طسم وجديس يتكلمون بالعربية بما يدل عن أن لسان العرب كان قديما، لأن الله أرسل هودا وصالحا وهما من ذرية نوح عليه السلام قبل إبراهيم وهما عربيان، ولم يرسل للعرب من ذرية إبراهيم غيرهما وشعيب عربي أيضا وأرسل إليهم إسماعيل عليه السلام قبله وقد تعلم العربية من جرهم، ومن ذريته محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين. ومما يدل على قدم لسان العرب قوله تعالى (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) الآية 31 من الأحزاب في ج 3، وهذه الآية عامة في كل ما كر كايد مبطل يحاول إلحاق الضرر بالغير. قال تعالى «فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ» أي جاء أمره باستئصال واقتلاع أساطين بنيانهم وأصوله، لأن القواعد أس البناء «فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ» جاء الظرف تأكيدا لأن الخرور لا يكون إلا من فوق، والأحسن أن يقال يحتمل أنهم عند سقوطه لم يكونوا تحته، فلما قال من فوقهم(4/218)
علم يقينا أنهم تحته فخر عليهم فأهلكوا جميعا «وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» 26 وهم في مأمن منه معتمدون على قوة بنيانهم. قال المفسرون المراد بهذا نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح ببابل المارّ ذكره في الآية 34 من سورة القصص في ج 1 بطول خمسة آلاف ذراع ارتفاعا بالهواء، وعرض ثلاثة آلاف ذراع، فأهب الله تعالى عليه الريح فسقط عليهم وهلكوا، واقتدى به أخوه فرعون إذ أمر وزيره هامان ببناء صرح له راجع الآية 36 من سورة المؤمن المارة، قالوا وقد تبلبلت الألسن من الفزع فتكلم الناس بثلاث وسبعين لغة، وعاش بعد ذلك مدة ثم أهلكه الله ببعوضة على ما هو المشهور نقلا عن ابن عباس ومقاتل وكعب، «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ» فلا يقتصر على عذابهم الدنيوي هذا بل يذلّهم في الآخرة ويهبننهم أيضا «وَيَقُولُ» لهم بمعرض التوبيخ «أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ» تخاصمون المؤمنين على قراءة فتح النون، وعلى كسرها يكون المعنى تخاصمون الحضرة الإلهية «فِيهِمْ» في الدنيا، والمشاقة وجود كل من الخصمين في شق أي طرف غير شق صاحبه، والمعنى هاتوهم ليدفعوا عنكم العذاب كما كنتم تزعمون، فيكتون ويخرسون «قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» أي أنبياؤهم وصلحاؤهم الذين كانوا معهم في الدنيا يدعونهم إلى الإيمان وكانوا يعرضون عنهم، ومقول القول «إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ» 27 وهذا شماتة بهم وزيادة في هوانهم ثم بين هؤلاء الكافرين بقوله «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ» استسلموا وأخبتوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق والاستهزاء، وقالوا معتذرين «ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ» في الدنيا، جحدوا كفرهم وخبثهم من شدة الخوف وعظم الهول
ولما رأوه من الإهانة، فقال لهم الذين أوتوا العلم «بَلى» كنتم تعملون الأسواء كلها في دنياكم فلا تنكروا «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 28 فيحق عليهم القول وتقول لهم الملائكة «فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ» 29 عن اتباع الرسل والإيمان بهم جهنم. وذكر الأبواب في الآية دليل على تفاوت منازل أهل النار في العذاب، وذكر الخلود لزيادة همهم وغمهم وحزنهم بقطع أملهم(4/219)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
من الخلاص «وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا» بعد إنهاء حال الكفرة، وقد أفردوا بالذّكر ليطلعوا على حال الكافرين ومصيرهم فيفرحوا ويتم سرورهم بثمرة أعمالهم التي كان الكفرة يضحكون منها وتقر أعينهم بانتقام الله تعالى لهم منهم فيدخلون الجنة وقد أمنوا على أنفسهم وعرفوا حال أعدائهم «ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ» على رسلكم «قالُوا خَيْراً» نصب على تقدير أنزل فاطبق الجواب على السؤال لأن القول لا ينصب المفرد ورفع أساطير بالآية الأولى 24 على تقدير حذف المبتدأ المقدر وهو هو وأساطير خبره، ولأنهم عدلوا بالجواب عن السؤال ولم يعتقدوا كونه منزلا، فلم يستحسن الوقف على أساطير لعدم تمام الكلام واستحسن الوقف في هذه الآية على (خيرا) لتمام الكلام، ولهذا حسن الابتداء بقوله «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ» لهم من الدنيا لقوله تعالى «وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ» 30 في الآخرة التي هي
«جَنَّاتُ عَدْنٍ» لهم «يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» لتمام النعمة وبهجة النظر «لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ» فيها من كل ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الحسن «يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ» 31 في الآخرة الدائمة وهؤلاء المتقون هم «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ» طاهرين، وهذا بمقابلة (ظالمي أنفسهم) في بيان فريق أهل النار في الآية الأولى «يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ» وبمقابلة قول ملائكة العذاب للكافرين (أدخلوا أبواب جهنم) تقول ملائكة الرحمة «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 32 في دنياكم. واعلم أن ما جاء في هذه الآية وفي قوله تعالى (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها) الآية 73 من سورة الزخرف المارة ونظيرتها الآية 43 من سورة الأعراف في ج 1 والآية 19 من سورة الطور والآية 24 من سورة الحاقة الآتيتين يدل على أن الجنة تكون للشخص بمقابل عمله الحسن.
مطلب التوفيق بين الآيات والحديث بسبب الأعمال وفي آيات الصفات:
وهذه الآيات لا تتنافى مع قوله صلّى الله عليه وسلم: لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته، لأن معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، أما التوفيق للإخلاص فيها وقبولها(4/220)
فيكون برحمة الله وفضله ليس إلا، وعليه فيصح أن يقال لم ندخل الجنة بمجرد العمل، وهذا هو مراده صلّى الله عليه وسلم وهو على حد قول العبد لسيده تفضلتم علي يا سيدي بما لم أكن أهله، فيقول له السيد بل بحسن خدمتك وأدبك. ويصح أن يقال تدخل الجنة بسبب الأعمال برحمة الله وفضله ومنّه، لا بالوجوب كما قال بعضهم، لأن الله لا يجب عليه شيء لأن الكون وما فيه ملكه وتحت سلطانه وله أن يفعل فيه ما يشاء، فلو عذب الطائع وأناب العاصي أيعارضه أحد؟ كلا لا يسأل عما يفعل، قال صاحب الزبد في عدم جواز نسبة الظلم إليه تعالى:
وله أن يؤلم الأطفالا ... ووصفه بالظالم استحالا
لأن الظلم تصرف فى حق الغير فيما لا يحل، والله جل شأنه متصرف في ملكه لأن الكل تحت قبضته، فلو أن أحدا هدم داره أو أحرق متاعه هل لأحد معارضته وهل عليه عقاب ما؟ كلا البتة، فإذا كنا نحن العبيد لنا التصرف المطلق فيما ملكناه الله لأن ملكنا له مجاز، فكيف يعترض أحد على المالك الحقيقي إذا تصرف في ملكه.
راجع الآية 28 من سورة الأعراف في ج 1 والآية 73 من سورة الزخرف المارة ولهذا البحث صلة في الآية 19 من سورة الطور والآية 24 من سورة الحاقة الآتيتين فراجعه تجد ما يسرك إن شاء الله القائلَ لْ يَنْظُرُونَ»
هؤلاء الجاحدون نبوتك يا سيد الرسل المنكرون وحينا إليكِ لَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ»
بقبض أرواحهمَ وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ»
بعذابهم الدنيوي، وهذه الآية من آيات الصفات التي أشرنا إليها غير مرة بأن مذهب السلف الصالح إبقاؤها على ظاهرها ومذهب الخلف وبعض المتكلمين، على تأويلها بما يناسبها، راجع الآية 67 من سورة الزمر المارة وما ترشدك إليهَ ذلِكَ»
مثل فعل هؤلاءَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ»
من الكفر والتكذيبَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ»
بتعذيبهم من أجلهَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
33 بما عملوا من الخبائث «فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا» في دنياهم «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» 34 على الرسل وما جاءوهم به من عندنا جزاء كسبهم هذا بما لا تطيقه أجسامهم «وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا(4/221)
آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ»
وهذا القول منهم على سبيل السخرية والاستهزاء، ولو قالوه اعتقادا جازما لأصابوا المرمى، ويؤذن قولهم أن لا فائدة من بعثة الرسل، لأن المشيئة الله، لو أراد لم يحرم شيئا ولم نعبد شيئا، وهذا أيضا اعتراض منهم على الله جار مجرى العلة في أحكام الله تعالى، وهو باطل لأنه لا يجوز أن يقال لم فعل الله كذا، ولم لم يفعل كذا، لأن أفعال الله لا تقلل، وكان في حكمة الله تعالى وسنته إرسال الرسل ليأمروا عباده بعبادته، وينهوهم عن الإشراك به والتعدي على الغير، وإن الهداية والإضلال أمرهما في الحقيقة إليه، وهذه سنته في عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء لا اعتراض عليه. ولما كانت سنته بإرسال الرسل إلى الكافرين قديمة لا محدثة ولا طارئة ولم يبتدعها ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلم فيهم كان قولهم (لو شاء الله) إلخ جهلا، لاعتقادهم أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثتهم وهو أيضا اعتقاد باطل. قال تعالى «كَذلِكَ» مثل فعلهم هذا «فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» إذ كذبوا الرسل وأحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحله «فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» 35 هذا استفهام تقريري، أي ليس عليهم إلا التبليغ القولي وليس عليهم قسرهم على الإيمان وجبرهم على الهداية وإجبارهم على الرشد، راجع الآية 149 من سورة الأنعام المارة «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا» كما بعثناك في أهل مكة وأمرنا كلا من الرسل أن يقولوا لقومهم «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» مبالغة في الطغيان والطاغية ويطلق على كل من عبد من دون الله حاشا الملائكة وعزيز وعيسى وعلي عليهم السلام وغيرهم من الصالحين لعدم علمهم ورضاهم «فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ» فتاب وأناب واتبع طريقهم الموصل إليه ففاز برضائه «وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ» فلم ينتفعوا بهدى رسولهم لسابق ثقائهم في علم الله وإرادته إضلالهم لسوء طويتهم فهلكوا وخابوا وخسروا الدنيا والآخرة، وهذه الآية كافية للدلالة على أن الله تعالى هو الهادي والمضل دون اعتراض، إذ لا يقع في ملكه إلا ما يريد «فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا» أيها الناس «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» 36 حيث بقيت مساكنهم خاوية بسبب العذاب الذي حل(4/222)
بهم، وفيها تنبيه على أنكم يا أهل مكة إذا أصررتم على الكفر يكون مصيركم مثلهم، قال تعالى «إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ» يا سيد الرسل وتجتهد كل الاجتهاد لا يغير ما هو مدون في أزلنا أبدا «فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ» أبدا ولو أطبق الخلق على إضلال من هداه لن يقدروا أيضا «وَما لَهُمْ» الضالين «مِنْ ناصِرِينَ» 37 يمنعونهم من عذاب الله المقدر لهم ولا يقدر أحد أن يهديهم أيضا، «وَأَقْسَمُوا» هؤلاء الكفرة الضالون «بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ» قال ابن الجوزي أتى رجل مسلم يتقاضى دينه من كافر، فقال فيما قال والذي أرجوه بعد الموت، فقال الكافر أترجو وتزعم هذا والله لا يبعث من يموت. فنزلت هذه الآية ردا عليه وتكذيبا له، وهو قوله «بَلى» يبعث من يموت «وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا» منجزا على طريق عدم جواز الخلف على الله إن الله لا يخلف الميعاد ومن أصدق من الله قيلا «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» 38 كيفية
ذلك، لأنهم يقولون إن هذه البنية إذا بليت وتفرقت أجزاؤها امتنع عودها بعينها، لأن الشيء إذا عدم فقد فني ولم تبق له ذات ولا حقيقة، ولم يعلموا أن الله تعالى الذي بدأ خلقهم قادر على إعادتهم كما كانوا عليه، وهو أهون عليه لأن خلقهم من لا شيء على غير مثال والصعوبة إنما تكون في الابتداع لا في التقليد، فهذه السيارات والطائرات والراد والكهرباء وغيرها بعد أن اخترعت هان على العاملين عملها وكان العقل لا يصدق وجودها لو لم يشاهدها، فالفضل فيها للمبتدع لا للمقلد. واعلم أن الحكمة في إعادة الخلق أحياء في الآخرة «لِيُبَيِّنَ لَهُمُ» الله الذي خلقهم أول مرة «الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ» في الدنيا حقيقة وعيانا «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ» 39 في إنكارهم البعث وتكذيبهم ما أخبرهم به الرسل من وجود الحساب والعقاب والجنة والنار ويتحقق أن الله تعالى إذا أراد شيئا كان لا محالة بدليل قوله «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» 40 حالا بين الكاف والنون، أي يوجد عند وجود هذين الحرفين بل بينهما. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول الله تبارك وتعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له(4/223)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. واعلموا أيها الناس أن خلقكم وبعثكم عندنا كشيء واحد لا يصعب علي شيء من ذلك والإيجاد والإعدام عندنا سواء لا يتخلف شيء عن أمرنا طرفة عين، فانظروا أيها الناس واعلموا أن لا كلمة على الخلاق فيما يخلق ويفني.
قال تعالى «وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا» في الدنيا «لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» عظيمة وحسنى جليلة ونعما جسمية «وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ» في الإحسان إليهم وأعظم أجرا إذا صبروا على ما أصابهم في الدنيا «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» 41 ما أعد الله لهم في الآخرة على صبرهم لزادوا في اجتهادهم على العبادة وفي صبرهم على أذى الكافرين وغيرهم. نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذين هاجروا إلى الحبشة بسبب أذى المشركين إليهم، وفيها دليل على أن الهجرة إذا لم تكن خالصة لوجه الله للتمكن من القيام بأوامره وعبادته كما ينبغي كانت كالانتقال من بلد لآخر للتجارة أو الزيارة لا مزيّة لها ولا شرف فيها ولا ثواب، يدل على هذا قوله صلّى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى إلخ. ثم وصفهم الله بقوله «الَّذِينَ صَبَرُوا» على ظلم المشركين وأذاهم في سبيل الله «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» 42 في أمورهم كلها. واعلم أن الصبر والتوكل مبدأ السلوك إلى الله تعالى ومنتهاه، لأن الصبر قهر النفس وحبسها على أعمال البر واحتمال الأذى من الخلق وعلى الشهوات المباحات وعلى المصائب وعن المحرمات والتوكل انقطاع عن الخلق، فبهذا المنتهى والأول المبتدأ.
مطلب التعويض الثاني بالهجرة وعدم الأخذ بالحديث إذا عارض القرآن:
وهذه الآية الثانية التي يعرض الله تعالى بها لرسوله بالهجرة، والأولى 20 من سورة المؤمن المارة. قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا» يا أهل مكة إن لم ترشدكم عقولكم إلى التصديق بهذا الذي قصصناه عليكم «أَهْلَ الذِّكْرِ» الذين أنزل عليهم قبلكم من اليهود والنصارى،(4/224)
وقولوا لهم هل أرسل الله نبيا إلا رجلا فيما سبق من الأمم إلى الأمم «إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» 43 أمرهم الله أن يسألوا أهل الكتابين لأنهم يعتقدون ذلك لعلمهم بما أنزل الله في كتبهم من هذا. نزلت هذه الآية في كفار مكة القائلين الله أعظم وأجل أن يرسل رجلا إلى الناس ولو أراد لأرسل ملكا. فرد الله عليهم زعمهم واستشهد على بطلانه بأهل الكتابين لأنهم لا يعلمون «بِالْبَيِّناتِ» المعجزات «وَالزُّبُرِ» الكتب المنزلة مثلهم، أي اسألوهم عن هذا كما سألتموهم قبلا عن حقيقة محمد وكلفوكم أن تسألوه عن الروح وأصحاب الكهف وذى القرنين، وقد أجابكم كما ذكروه لكم ومع هذا كله لم تصدقوا نذرعا بقولكم كيف يكون بشرا رسولا، عتوا وعنادا لا غير. قال تعالى «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ» القرآن وسمي ذكرا لأنه موعظة وتنبيه للعاقل يذكره بأمر دينه ودنياه، وإنما أنزلناه عليك يا سيد الرسل «لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» 44 فيه فيؤمنون، والمراد من التبيين في هذه الآية بيان ما أجمل في القرآن من المتشابه، أما الحكم منه فهو مبين مفسّر لا يحتاج إلى التبيين، وقد استدل بعضهم في هذه الآية على أنه متى تعارض الحديث مع القرآن وجب الأخذ بالحديث، لأن الرسول هو المبين للقرآن بنص هذه الآية وبنص قوله (ما ينطق عن الهوى) لأن القرآن مجمل والحديث مبين له، والمبين مقدم على المجمل، ولأن المنزل عليه لا يتكلم في نفسه بل بوحي من ربه. وهذا الاستدلال بغير محله، لأن القرآن منه محكم ومنه متشابه، فالمحكم مبين لا يحتاج إلى البيان ويجب الأخذ بظاهره دون حاجة إلى تأويل أو تفسير أو قياس أو استحسان، سواء أخالف الحديث أم لا، لأن الحديث الذي نراه مخالفا لبعض القرآن لا يعمل به، ولعله موضوع لمعنى لا نعرفه، أو أنه مكذوب على حضرة الرسول، والمتشابه هو المجمل فيطلب بيانه من الحديث وأهل العلم. قال تعالى (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) لا يتبدل حكمها ولا يتغير معناها من بدء الكون إلى آخره (وأخر متشابهات) إلى أن قال (لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) وهم الأنبياء فمن دونهم ممن هو على آثارهم في العلم والعمل، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 7 من آل عمران في ج 3(4/225)
بصورة مسهبة إن شاء الله. واعلم أن القائل بهذا قائل بأن الحديث ينسخ القرآن وهو قول لا وجه له، كيف وقد قال تعالى (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) الآية 66 من سورة يونس المارة، والنسخ بالسنية تبديل فكيف يجوز أن يقال به فضلا عن أن جهابذة الأصوليين لم يعترفوا به، وما قيل بجوازه فهو قيل ضعيف مستنده حديث الترمذي وغيره (لا وصية لوارث) بأنه نسخ آية (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) الآية 186 من سورة البقرة ج 3، مع أن هذه الآية مخصصة بآية المواريث الآتية في سورة النساء كما سيأتي بحثها إن شاء الله، وقد ألمعنا إلى بطلانه في المقدمة في بحث النسخ، وسيأتي توضيحه في الآية 106 من سورة البقرة ج 3 عند قوله تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) إلخ، واعلم أنه لا يجوز بوجه من الوجوه أن يؤخذ بالحديث إذا عارض ظاهر القرآن، وهو دليل على عدم صحته، لأنه لا يتصور أن بصدر من حضرة الرسول قول يخالف ظاهر كلام الله، كيف وهو الذي لا ينطق عن هوى وعليه أنزل القرآن وهو دليله وحجته وبرهانه. قال تعالى «أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا» المنكرات «السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ» كما خسفها بمن قبلهم «أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» 45 كما أهلك من قبلهم فجأة حال غفلتهم من نزول العذاب «أَوْ يَأْخُذَهُمْ» على غرة «فِي تَقَلُّبِهِمْ» في الأرض عند أسفارهم بها ذاهبين أو آئبين «فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ» 46 الله ولا فائتيه ولا قادرين على الهرب منه «أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ» بأن يريهم إهلاك أناس أمامهم فيخافوا من وقوعه بهم أو يحدثه بهم تدريجا فيعذبهم فيهلكوا بين الخوف والعذاب أول بأول بصورة تدريجية حتى يقضى على آخرهم
«فَإِنَّ رَبَّكُمْ» أيها الناس القادر على تسليط أنواع العذاب والهلاك عليكم «لَرَؤُفٌ» كثير الشفقة عليكم «رَحِيمٌ» 47 بكم لا يعجل عقوبتكم بل يمهلكم لترجعوا إليه وتتوبوا مما أذنبتم به إليه.
وفي هذه الآية من التهديد والوعيد ما تنفطر منه القلوب وترتعد منه الفرائض.
والمكر المشار إليه هو أن قريشا لما عجزت عن صد دعوة الرسول صارت تحيك الدسائس لتخلص منه، وصاروا يعقدون الاجتماعات في دار الندوة ويتذاكرون(4/226)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
في كيفية إهلاكه أو إخراجه من بين أظهرهم، فأنزل الله هذه الآية بوعدهم بها بإنزال أصناف العذاب والهلاك إذا هم فعلوا به شيئا، وهذا من مقدمات الأسباب الداعية إلى هجرته صلّى الله عليه وسلم التي قرب أوان إذن الله تعالى له بها. قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ» المراد بهذه الرؤية البصرية لا القلبية، ولذلك وصلت بإلى إذ يراد منها الاعتبار ولا يكون إلا بنفس الجارحة التي يمكن معها النظر إلى نفس الشيء ليتأمل بأحواله ويتفكر فيه فيعتبر ويتعظ «يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ» يقال للظل بالعشي فيء من فاء إذا رجع، وفي الصباح ظل لأنه مما نسخته الشمس والفيء ينسخها. قال حميد بن ثور في هذا:
أبى الله إلا أن سرحة مالك ... على كل أفنان العفاة تروق
فلا الظل في برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشي تذوق
وأراد بالسرحة امرأة على طريق الكناية، أي تنشر ظلاله انتشارا «عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ» 48 صاغرون ذليلون، قال ذو الرمة:
فلم يتق إلا داخر في مخيس ... ومنحجر في غير أرضك في حجر
المخيس السجن «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» 49 عن السجود لعظمته بل يتواضعون ويخشعون ويخضعون لهيبة جلاله «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» 50.
مطلب من أنواع السجود لله وتطاول العرب لاتخاذ الملائكة آلهة:
وهذه الآية شاملة لنوعي السجود، لأنه سجود طاعة وعبادة كسجود الملائكة والآدميين وسجود انقياد وخضوع كسجود الضلال والدواب، وجاء بلفظ ما الموضوعة لما لا يعقل تغليبا لأنه أكثر مما يعقل كتغليب المذكر على المؤنث وجمعها جمع من يعقل، لأنه وصفها بصفته، لأن السجود من شأن من يعقل، وهذه السجدة من عزائم السجود وقد بينا ما يتعلق فيه في الآية 37/ 38 من سورة فصلت المارة فراجعه ترشد لما تريده فيه.
«وَقالَ اللَّهُ» تعالى يا ابن آدم إني نهيتكم كما نهيت(4/227)
آباءكم من قبل على لسان رسلي أن «لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ» الإله الذي يعبد في السماء والأرض هو «إِلهٌ واحِدٌ» فرد صمد لا رب غيره ولا إله سواه ولا يستحق العبادة إلا إياه، وإنما قال واحد لأن الاسم الحامل معنى الإفراد، والتثنية دال على شيئين الجنسية والعدد المخصوص، فإذا أريدت الدلالة على أن المعنى به منها هو العدد شفع بما يؤكده فدل به على القصد إليه والعناية به، ألا ترى أنك لو قلت إنما هو إله ولم تؤكده بواحد لم يحسن، وقيل لك إنك تثبت الإلهية لا الوحدانية، وإذا أريدت الدلالة على الجنسية فلا حاجة للتاكيد كما تقول واحد اثنين، ولهذا البحث صلة في الآية 23 من سورة الأنبياء الآتية عند قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) الآية إن شاء الله، «فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ» 51 لا ترهبوا غيري أبدا، وقد جاء بالالتفات من الغيبة إلى الحضور لأنه أبلغ من الترهيب، والرهب خوف مع حزن واضطراب، قال تعالى «وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً» ثابتا دائما واجبا لازما، قال أبو الأسود الدؤلي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه ... يوما بذم الدهر أجمع واصبا
وقال أمية بن الصلت:
وله الدين واصبا وله الملا ... ك وحمد له على كل حال
ثم خاطب خلقه على طريق الاستفهام بقوله جل قوله «أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ» 52 أيها الناس بعد أن عرفتم ما قصصناه عليكم من كمال عزّته وكبير قدرته وعظيم سلطانه وجليل عفوه «وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ» لا من غيره فيجب عليكم شكر نعمه «ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ» 53 تضجّون بالدعاء وتصيحون بالاستغاثة ليكشفه عنكم، والجوأر رفع الصوت بالاستغاثة قال الأعشى:
يداوم من صلوات المليك طورا سجودا وطورا جؤارا «ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» 54 لأنهم يضيفونه إلى أسباب أخر ولا يعلمون أنه هو مسبب الأسباب فإذا كان الضر(4/228)
من القحط وأنعم الله عليهم بالغيث أضافوه إلى الكواكب وإذا كان مرضا أضافوا الشفاء إلى العقاقير، وإذا كان ريحا أو ولدا أضافوه إلى كسبهم، وما ذلك إلا «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ» من تلك النعم بدل أن يشكروها ويحمدوا المنعم بها عليهم «فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» 55 عاقبة كفركم وجحدكم، وفي العدول من الغيبة إلى الخطاب على قراءة الفعلين بالتاء زيادة في التهديد والوعيد وقرأهما بعض القراء بالياء. ثم شرع جل شأنه يعدّد مساوئهم فقال «وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ» لآلهتهم التي لا يعلمون أحوالها من أنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تحمي ولا تشفع «نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ» من الأنعام راجع الآية 138 من سورة الأنعام المارة تجدها مفصلة هناك، ثم أقسم بذاته الكريمة فقال «تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ» أيها الكفرة «عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ» 56 في الدنيا من هذه الأشياء القبيحة وغيرها، وهذا السؤال يكون حتما يوم القيامة عن عدها آلهة، وتخصيص بعض نعمه إليها وتخظيظها بنصيب منها تشبيها لها بالآلهة «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ» وهم يكرهوهن لأنفسهم وذلك أن فرقا منهم كخزاعة وكناية يزعمون أن الملائكة بنات الله «سُبْحانَهُ» وتنزه وتعالى عن ذلك «وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ» 57 من الذكور، أي كيف ينسبون النوع المحبوب إليهم والمكروه إلى ربهم «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا» من الكآبة والحياء من الناس كأنه جاء بشيء منكر فاحش «وَهُوَ كَظِيمٌ» 58 ممتلىء غضبا وحنقا وحزنا على ما حل به من الغم وعلى زوجته أيضا كما أشرنا إليه في الآية 17 من لزخرف المارة «يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ» يتغيب عنهم ويستتر منهم «مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ» لئلا يرونه فيعيّرونه ثم يتفكر ماذا يصنع بها «أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ» بأن يتركه حيا فيربيه على هوان لنفسه ومذلة لها كأن ذلك المولود من زنى وقد ذكر الضمير باعتبار عوده إلى ما بشر به «أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ» فيدفئه حيا فيئده حتى يموت تحته ويتخلص من عاره وشناره. قال تعالى ذامّا صنيعهم هذا بقوله «أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ» 59 في هذه القسمة وهذا الحياء وهذه السنة وهذا الإباء وهذا الوأد، راجع الآية 8 من سورة التكوير في ج 1 فيما يتعلق بهذا.(4/229)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
قال تعالى «لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ» كراهية الإناث ووأدهن خشية العار أو الفقر «وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى» نزاهته عن ذلك وتعاليه وغناه عن العالمين أجمع، وهذه الجملة لم تكرر في القرآن إلا في الآية 27 من سورة الروم الآتية «وَهُوَ الْعَزِيزُ» المتمتع في كبريائه الغالب، الغير محتاج لأحد من خلقه «الْحَكِيمُ» 60 في إمهال عباده المتطاولين عليه لأمر يعلمه لأنه لا يؤاخذهم على ما يبدر منهم من الظلم والتعدي حالا بل بمهلهم ليتوبوا ويرجعوا عن غيهم
«وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ» مثل هذا وأشباهه «ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ» بل لدمّر كل من على الأرض حالا «وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» لإيمان من يؤمن منهم وإصرار من بصر «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» 61 عنه لحظة، وهذه الآية ونظيرتها في المعنى الآية 45 من سورة فاطر في ج 1 عامة في كل ظالم مخصوصتين في قوله (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) الآية 35 من سورة فاطر المذكورة، لأن في جنس الناس يدخل الأنبياء والصالحون ومن لا يطلق عليهم اسم الظلم، فاتقوا الله أيها الظلمة فلا تحملوا أوزاركم وأوزار غيركم بظلمكم، فقد يهلك بظلمكم وشؤمكم خلق كثير لا دخل لهم في أعمالكم، وقد فعل الله تعالى ذلك في قوم نوح عليه السلام عدا من كان في السفينة وأدخل الدواب التي لا تعقل بالهلاك عقوبة لكم، لأن أكثرها مخلوقة لمنافعكم وأنتم تظلمون أنفسكم وتتجاوزون حقوق الله وتتعدون حدوده. واعلم أن البلاء قد يعم، قال تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الآية 15 من سورة الأنفال في ج 3، قال أبو هريرة: إن الحيارى لتهلك في وكرها بظلم الظالم. وقال ابن مسعود: إن الجعل لتعذب في جحرها بذنب ابن آدم. واعلموا أن الله لو يؤاخذكم بما يقع منكم لا نقطع نسلكم ولم يبق على وجه الأرض أحد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
«وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ» لأنفسهم، وهذا بمقابلة قوله (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) في الآية المارة 57 «وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ» مع ذلك إذ يتمنون «أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى» العاقبة الحسنة عند الله وهي الجنة في الآخرة وهو كذب محض(4/230)
وافتراء على الله، وهذا ردّ لقول الخبيث منهم (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) الآية 50 من سورة فصّلت المارة والآية 36 من سورة الكهف أيضا.
قال تعالى «لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ» في الآخرة لا شيء لهم غيرها «وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ» 62 معجلون إليها، والفرط التقدم إلى الماء قبل القوم ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم أنا فرطكم على الحوض، لأنه صلّى الله عليه وسلم يقف على حوضه الكوثر يوم القيامة ويرد عليه المؤمنون به. قال تعالى «تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ» رسلا كما أرسلناك إلى هذه الأمة «فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» كما زين لقومك أعمالهم القبيحة بالفاء الوسوسة إليهم وقبولها منهم وإلا ففي الحقيقة إن المزين هو الله تعالى، راجع الآية 39 من سورة الحجر المارة والآية 35 المارة من هذه السورة، والذين يتبعون ما يزين لهم الشيطان رغبة به «فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ» في الدنيا التي هم فيها لأن اليوم المعروف معروف في زمان الحال كالآن وصدر بصورة الحال ليستحضر السامع تلك الصورة العجيبة ويتعجب منها، ويسمى مثل هذا حكاية الحال الماضية، وهو استعارة من الحضور الخارجي إلى الحضور الذمني، والمراد به مدة الدنيا، لأنها كلها كالوقت الحاضر بالنسبة للآخرة، وهي شاملة للماضي والآتي وما بينهما «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 63 في الآخرة لكفرهم بالله واتخاذهم أولياء من دونه. قال تعالى «وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ» يا محمد «إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ» من البعث وغيره لا لعة أخرى وهذا معنى الاستثناء المفرغ أي ما أنزلناه إلا لهذه الغاية، وهذه الآية قريبة في المعنى من الآية 39 المارة قبلها، ولقوله تعالى في الآية 44 المارة أيضا وتشمل كل شيء اختلفوا فيه من أمر الدين والدنيا، لأنه داخل ضمنها «وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» 64 به فينتفعون بهديه ورشده أما غير المؤمنين فلن ينتفعوا به وهو عليهم عمى، راجع الآية 44 من سورة فصلت المارة «وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» جدبها ويبسها لأنه موت بحقها «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإحياء بعد الإماتة «لَآيَةً» دالة على البعث للإنسان بعد موته بالنسبة «لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» 65 آيات الله سماع قبول فيعونها ويتدبرونها ويعقلون ما فيها، لأن(4/231)
سماع الأذان وحده لا يكفي للانتفاع بالمسموع، بل لا بدّ من اقترانه بالقبول وإلا عدّ كسماع الموتى، ولهذا قال تعالى بحق الذين يسمعون ولا يعون (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) الآية 22 من سورة فاطر في ج 1.
مطلب جواز تذكير اسم الجمع وشبهه وكيفية هضم الطعام وصيرورة اللبن في الضرع والدم في الكبد والطحال وغيرها:
هذا وبعد أن عدد الله تعالى مساوئهم وذكر الحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب وضرب المثل لصحة البعث طفق يعدد نعمه على خلقه فقال «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ» المار ذكرها بصدر هذه السورة «لَعِبْرَةً» كبيرة وعظة عظيمة إذا تفكر بها، ثم بين هذه العبرة بقوله «نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ» ذكر الضمير وهو مؤنث لأن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع، فكان ضميره ضمير الواحد المذكر بحسب اللفظ وبحسب المعنى جمع، فيكون ضميره ضمير الجمع وهو مؤنث، ولهذا المعنى ذكره هنا وأنثه في سورة المؤمنين في الآية 23 في نظير هذه الآية، والأنعام اسم جمع وكل ما كان كذلك يجوز فيه التذكير والتأنيث والجمع والإفراد من حيث اللفظ والمعنى، كالخيل والإبل والغنم وغيرها من أسماء الأجناس التي لا واحد لها من لفظها، قال الشاعر:
تركنا الخيل والنعم المفدى ... وقلنا للنساء بها أقيمي
وقال الكسائي إنما يفرد ويذكر على تقدير المذكور وذلك كقوله:
فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق
وهذا شائع وفي القرآن سائغ، قال تعالى (إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) الآيتين 54/ 55 من سورة المدثر في ج 1، وقال تعالى (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) الآية 38 من الأنعام المارة، وإنما يكون هذا في التأنيث المجازي تدبر.
«مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ» الفرث في الكرش ما دام فيها، نخرج «لَبَناً خالِصاً» من شوائب الكدورة، ومن مصل الفرث والدم جاريا بسهولة هنيئا مريئا، بدلالة قوله «سائِغاً لِلشَّارِبِينَ» 66 لا غصّة فيه ولا يحتاج للمضغ ولا يثقل على المعدة ولا يحتاج للشرب بعده، وهو غذاء وماء يكفي الكبير والصغير، ذلك تدبير الحكيم(4/232)
القدير الذي هو بكل شيء خبير. أخرج ابن مردويه عن يحيى بن عبد الرحمن ابن أبي لبيبة عن أبيه عن جده قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما شرب أحد لبنا فشرق، إن الله تعالى يقول (لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) وهو كذلك، فإذا وقع الشرق فيه فاعلم أن اللبن مشوب بماء، لأن كلام الرسول لا ينخرم أبدا.
وقرىء سيغا بالتخفيف والتشديد، وهي قراءة جائزة لأن اللفظ يحتملها بلا زيادة ولا نقص لما ذكرنا أن التشديد والتخفيف والمد والإشباع لا يعد نقصا ولا زيادة.
هذا، واعلم أن الحيوان إذا تناول غذاءه ينزل إلى معدته إن كان إنسانا، وإلى كرشه إن كان حيوانا، وإلى أمعائه إن كان من غيرهما فيحصل في الغذاء الهضم الأول، فيجذب بقدرة الله تعالى الصافي إلى الكبد، والكثيف إلى الأمعاء، ثم يحصل الهضم الثاني في الذي انجذب إلى الكبد، فيصير دما مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية، فتجذب بحكمة الحكيم الصفراء إلى المرارة والسوداء إلى الطحال والمائية إلى الكلى، ومنها إلى المثانة، ويذهب الدم في العروق، وهي الأوردة الثابتة في الكبد، فيحصل الهضم الثالث، فيصب الدم من تلك العروق إلى الضرع وهو لحم غددي رخو أبيض، فينقلب بقدرة القادر ذلك الدم لبنا صافيا فيه.
هذا مصير الصافي من الغذاء، ولا يستبعد أحد كيفية الانجذاب المذكور، لأن القوة الجاذبة من أمر الله، والذي وضعها في الحديد يضعها في غيره، والنظر قوة جاذبية الاستفراغ وقس عليها. وأما الكثيف الذي نزل الى الأمعاء فيخرج فضلات، فسبحان اللطيف بخلقه، لأنه لو خرج الغذاء كله أو بقي كله لهلك الحيوان، ولكن الله تعالى يبقي ما يقيم به الوجود من الغذاء للإنسان والحيوان، ويخرج ما بضره، فله الحمد والشكر، ولهذه الحكمة ورد أنه صلّى الله عليه وسلم كان يقول عند خروجه من الخلاء غفر انك ثلاثا، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني. وكان نوح عليه السلام يقول الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى فيّ منفعته وأذهب عني أذاه. والله أعلم.
هذا ولا يقال إن الحالة المارة موجودة في الذكر من الحيوان فلم لا يحصل منه اللبن، لأن أفعال الله لا تعلل، ولعل الله تعالى يصرفه لجهة أخرى في الذكر تزيد في قوته، لأن البشر ليس في طوقه الاطلاع على مكونات الله تعالى، وكيفية(4/233)
تراكيب مخلوقاته، ونتائج ما ركبت لأجله، لأن الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به، فأوجبت أن يكون مزاج الرجل حارا يابسا، والأنثى باردا رطبا، لأن التولد داخل في بدنها فاختصت بالرطوبة لتصير مادة للتولد وسببا لقبول التمدد والاتساع، وإن تلك الرطوبة بعد انفصال الجنين تنصب إلى الضرع فتصير مادة لقلب الدم لبنا، لأجل غذائه كما كانت في الرحم، حتى انك إذا بالغت بحلب الدابة خرج لك بالحليب حمرة تثبت لك أنه كان دما، ولم ينضج منه إلا ما خرج قبل المبالغة في الحلب، ولا يوجد في الرجل شيء من ذلك لعدم الحاجة إليه:
حكم حارت البرية فيها ... وحقيق بأنها تحتار
أما من يقول كيف ينقلب الدم لبنا، فنقول له الذي قلب النطفة البيضاء دما في الرحم قلب الدم الأحمر لبنا أبيض في الضرع، وهذه النطفة مكونة من الدم، ولهذا فإن من يكثر الجماع قد ينزل دما. هذا، وإذا تدبرت بدائع صنع الإله في هذا وغيره وعجائب مكوناته اضطررت للاعتراف بكمال قدرته، وتمام حكمته، وتناهي رحمته بعباده، وغاية رأفته بهم، قسرا، فسبحانه من إله عظيم أوحى إلى حبيبه «وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ» لكم عبرة عظيمة وعظة كبيرة أيها الناس «تَتَّخِذُونَ مِنْهُ» من عصير التمر والعنب ثمر النخيل والكرم «سَكَراً» مشروبا يتفكه به كما قال أبو عبيدة، وخمرا بلغة العرب، وقال ابن عباس مطعوما يتفكه به، قال الأخطل:
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم ... إذا مجرى فيهم المزاء والسكر
والمزاء نوع من الأشربة المسكرة. قيل إنه نقيع التمر والزبيب إذ طبخا وذهب تلثاهما، وما لا يسكر من الأنبذة، لأن الله تعالى قد امتنّ على عباده في هذه الآية به، ولا يقع الامتنان منه إلا بمحلل. وقال ابن عباس: هو الخلّ بلغة الحبشة، واستدل على جواز شرب ما دون السكر من النبيذ صاحب ذلك القيل بهذا التأويل، وعضد استدلاله بما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم: قال حرم الله الخمر بعينها القليل منها والكثير. والسكر بضم السين من كل شراب، أخرجه الدارقطني.(4/234)
والى حل شرب النبيذ إلى ما دون الإسكار، وذهب إبراهيم النخعي وأبو جعفر والطحاوي وسفيان الثوري، وأجازه أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف إذا لم يسكر، أما الخمرة فقليلها وكثيرها حرام، أسكرت أو لم تسكر. قال تعالى «وَرِزْقاً حَسَناً» كالتمر والزبيب والعنب والدبس والأشربة المتخذة منهما التي تشرب آنيّا والخل أيضا.
مطلب في السكر ما هو وما يخرج من النحل من العسل وأقسام الوحي:
هذا وفي وصفه تعالى الرزق الحاصل منهما بالحسن يفيد أن السكر غير حسن، وأن التمييز بين السكر وبين الرزق الحسن في الذكر، عدّه، أي السكر غير حسن، وذلك يدل على التحريم الذي سينزله بعد في القسم المدني، ولهذا عرض على قبح تناوله لعدم وصفه بالحسن ورمز إلى أن السكر وإن كان مباحا إذ ذاك فهو مما يحسن اجتنابه، وهذه أول آية نزلت في الخمر على القول بأن المراد بالسكر الخمر، ولهذا فلا وجه للقول بأن هذه الآية منسوخة، لأنها ذكرت في معرض تعداد نعم الله على عباده، وكان نزولها بزمن مباح فيه شربها، لأن التحريم طرأ بصورة تدريجية، فضلا عن أن السكر يحتمل معاني كثيرة كما مر آنفا، والنسخ يقتضي أن يكون صريحا لشيء صريح لا يحتمل التأويل والتفسير، بخلاف ما هنا، وقد ألمعنا في المقدمة بأن هذه الآية أول آية أنزلت في الخمر مطلقا، ولم ينزل غيرها في مكة، وان الآيات الثلاث في البقرة والنساء والمائدة نزلن في المدينة، وسنوضح هذا البحث في الآيات 220 و 43 و 94 من السور المذكورة على طريق اللف والنشر المرتب فراجعها «إِنَّ فِي ذلِكَ» المذكور من النعم «لَآيَةً» باهرة «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» 67 أن لهذه الأشياء خالقا مدبرا ومبدعا حكيما. قال تعالى «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ» 68 من شجر الكرم ويسقفونه ويبنون من غيره بيوتا للنحل لتقذف فيها العسل رزقا للخلق «ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» ومن أوراقها وأشجارها وتطلق الثمرة على الشجرة «فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ» الذي ألهمك أن تسلكها وتدخلي فيها لإخراج العسل «ذُلُلًا» مسخرة منقادة لأربابها عند إرادتهم نقلها من(4/235)
محل لآخر لتمام الانتفاع بها «يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ» أبيض وأحمر وأصفر وما بينها بحسب السن والفعل والمرعى، فالذي تأكله من ذلك يحيله الله تعالى في بطونها عملا، وفي بطون القرّ حريرا، وفي الغير قذرا، فتفكروا رحمكم الله من غذاء واحد مطعوم وملبوس وسماد، وكذلك شجر الفواكه تسقى بماء واحد وأرض واحدة وتعطي أنمارا مختلفة حلوا وحامضا ومزا وغير ذلك.
راجع الآية 4 من سورة الرعد في ج 3، وفي اختلاف ألوانها عبرة أيضا والمؤثر واحد جلت قدرته، وقد جعل «فِيهِ» أي الشراب الخارج من بطون النحل «شِفاءٌ لِلنَّاسِ» ال فيه للجنس فيصدق على الواحد والمتعدد لأنه شفاء لبعض الأمراض، وقد يضر بعضها وحده، أما إذا مزج بأجزاء أخر ففيه نفع لأكثر الأمراض «إِنَّ فِي ذلِكَ» العسل الخارج من النحل وهو يأكل ما يأكل غيره من الطيور والحيوان «لَآيَةً» عظيمة وعبرة جليلة «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» 69 في عجيب صنع المبدع الأعظم. والمراد بالوحي هنا التسخير، لأن الوحي أصله الإشارة السريعة، فيكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، ويكون بصوت مجرد، فما كان من هذا النوع للأنبياء فهو وحي، وما كان للأولياء فهو إلهام، وما كان للطير والحيوان والجماد فهو تسخير، راجع الآية 51 من سورة الشورى المارة تعلم أقسام الوحي وقد أسهبنا بحثه في المقدمة فراجعها. ومن بدايع الصنع الذي ألهمه الله إلى النحل بناء بيوتها على شكن مسدس من أضلاع متساوية، لا خلل فيها ولا زيادة ولا نقص، والأعظم من ذلك أنها تبدأ بنائه من طرفه لا من وسطه، وهذا مما يعجز عنه البشر غالبا، ومن عجائب القدرة أن لها أميرا نافذ الحكم على أفرادها وهو أكبرها جثة ويسمى يعسوب، ولها على باب كل خليّة بواب لا يمكن غيرها من الدخول، وقد ألهمها الله تعالى الخروج إلى المرعى والرجوع إلى محلها أينما كان لا تضله أبدا، وحتى الآن لم يعرف بوجه حقيقي خروج العسل من فمها أو من دبرها، والآية صالحة لكلا الأمرين، لأن الله تعالى قال (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) فالذي يخرج من الفم أو من الدبر يصدق عليه أنه خارج من البطن، فسبحانه جل كلامه أن يتطرق إليه الخلل كيف وهو تنزيل من حكيم حميد صانه من(4/236)
طرق الباطل عليه. واعلم أن النحل على نوعين أهلي يأوي إلى البيوت لا يستوحش من الناس، ووحشي يأوي للجبال والكهوف والأشجار. قال ابن مسعود: العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور. وفي رواية عنه: عليكم بالشفاءين القرآن والعسل. راجع الآية 82 من سورة الإسراء في ج 1 لتقف على آيات الشفاء كان ابن عمر رضي الله عنهما كلما خرجت به قرحة لطخها بالعسل، وتلا هذه الآية.
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال إن أخي استطلق بطنه، فقال رسول الله اسقه عسلا، فسقاه ثم جاء فقال لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال له ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة فقال اسقه عسلا، فقال لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال رسول الله: صدق الله وكذب بطن أخيك، فسقاه فبرىء. وما قاله بعض الملحدين اعتراضا على هذا الحديث من أن العسل مسهل فكيف يوصف لمن به إسهال، فهو ناشيء عن جهله وحمقه وقلة عقله وعقيدته، لأن الإسهال يحصل من أنواع كثيرة منها التخمة والهيضة وغيرهما، وقد أجمع الأطباء على أن علاج مثلهما يترك إلى الطبيعة أولا، فإن احتاجت إلى معين أعطي شربة تعينه على تنظيف أمعائه، فيحتمل أن ذلك الشخص من هذا القبيل، فكان أمره صلّى الله عليه وسلم له بشرب العسل السهل جاريا على قاعدة الطب والأطباء يخبرون على ذلك، وفيه دليل على حذقه صلّى الله عليه وسلم بالطب دون تعليم من أحد، وفضلا عن هذا فلا يبعد أن حضرة الرسول علم بتعليم الله إياه أن شفاء ذلك الرجل يكون بالعسل فكان شفاؤه به على رغم أنف كل معترض، وهو مما جرّب أيضا، إلا أن من لا يعنقد به لا ينفعه جزاء وفاقا. قال تعالى «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ» يا ابن آدم وجعل للبثكم في الدنيا أجلا لا تتعدونه «ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ» بحلوله أطفالا وصبيانا وشبابا وكهولا وشيوخا، يحسب آجالكم المقدرة عنده، فمنكم من يحتفظ بكمال عقله ورشده إلى وفاته مهما بلغ من العمر «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» الهرم والخوف إذ ينقص منهم القوى ويفسد الحواس ويضعف العقل فيكون حالهم من هذه الحيثية كحال الطفولة، ومن هنا تصور الردّ إلى أرذل العمر وقد بينه الله تعالى بقوله «لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً» أي(4/237)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
يصير كالصبي الذي لا عقل له بسبب نسيانه ما علمه قبلا فيصير بعد العلم جاهلا والقوة ضعيفا والسمن نحيفا ليربكم الله قدرته في أنفسكم، فلا مجال لتأويل آخر لمعنى الأرذل، ولا تتقيد هذه الآية والحالة التي يصير إليها الإنسان بسن أو شخص. ونظير هذه الآية الآية 68 من سورة يس في ج 1 وهي (ومن نعمره ننكه في الخلق) أخرج بن مردويه عن علي كرم الله وجهه أن أرذل العمر خمس وسبعون سنة، وهو يختلف باختلاف الأمزجة والأمكنة، فربّ معمر لم تنقص قواه وغير معمر فسدت جوارحه، والتقيد بالسن مبني على الغالب. روى البخاري ومسلم عن أنس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات. قال:
لا طيب للنفس ما دامت منغّصة ... لذاته بادكار الشيب والهرم
وهذا يعم المؤمن والكافر ولا وجه لتخصيصه بالكافر، لأن ظاهر الآية أو الحديث ينافي ذلك التخصيص لمجيئها على الإطلاق، وقد أوردنا في قوله تعالى (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) الآية من سورة والتين المارة في ج 1 أن الصالح قد لا يخرف، وليس كل صالح نراه هو صالح في الحقيقة، فكم صالح قد يبتليه الله تعالى بأمراض مزمنة لزيادة درجاته في الجنة، وما جاء عن عكرمة أن من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر ليس على إطلاقه لأنا شاهدنا علماء وقراء فلجوا وخرفوا، ورأينا على العكس من يعمر ويموت بكمال عقله بل وقواه وجوارحه، وإن شيخنا الشيخ حسين الأزهري مفتي الفرات ومدرسها عاش 127 سنة ولم يفقد من قواه شيئا وخاصة ذاكرته، تغمده الله برحمته التي يختص بها من يشاء ولم نر أورع منه «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ» بكل شيء قبل خلقه وما يؤول إليه بعد خلقه وبعد موته «قَدِيرٌ» 70 على تبديل الخلق من حال إلى حال
«وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ» فوسعه علي أناس وضيقه على آخرين، وكما فضلوا بالرزق فضلوا بالخلق والخلق والعقل والصحة والحسن والعلم والصوت والمعرفة وغير ذلك فهم منقادون إلى ما قدر لهم في الأزل متفاوتون في كثير من الأشياء بمقتضى الحكمة الإلهية، ولكن «فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ» معطيه ومضيفيه «عَلى ما مَلَكَتْ(4/238)
أَيْمانُهُمْ»
من الإماء والعبيد لأنهم لا يرضون أن يتساووا معهم فيه طلبا للتفاضل الذي هو غريزة في البشير «فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ» من حيث المعيشة لا من حيث الملكية، لأنها خاصة بالأسياد، فإذا كان البشر لا يرضي التساوي مع بعضه، فكيف أنتم يا أهل مكة تساوى أصنامكم مع الله، والملائكة معه في العبادة وهم عباده، وكيف يرضى الله أن تجعلوا عبيده وخلقه شركاء معه «أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» 71 أولئك الكفرة يأكلون رزقه ويعبدون غيره وينكرون نعمه «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ» أيها الناس «مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً» من جنسكم ونوعكم والخطاب يشمل آدم فمن دونه ومن خصصه بآدم نظر إلى أن الله خلق زوجته منه، إلا أن جمع الأنفس والأزواج يأباه، واستدل بعضهم في هذه الآية على عدم جواز نكاح الجن، ولفظ الآية يدل على الجنس، إذ لا يحصل الإنس بغيره، قال تعالى (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) الآية 21 من الروم الآتية، وقال تعالى (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) الآية 188 من البقرة في ج 3، فيبعد أن يكون من غير جنسه لأن الإنس فيها بعد قضاء الحاجة غير متصور، «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً» الحافد لغة المسرع في الخدمة المسارع إلى الطاعة، ومنه قول القانت (وإليك نعى ونحفد) في دعاء القنوت لدى السادة الحنفية، وشرعا على ولد الولد، وإنما خص الحفدة لأنهم قد يكونون أحب إليهم من أولادهم، قال:
ابن ابننا من ابننا نحب ... الابن تشر الحفيد لب
أخرج الطبراني والبيهقي في سننه والبخاري في تاريخه والحكم وصححه عن ابن مسعود أنهم الأختان وأريد بهم على ما قيل أزواج البنات، ويقال لهم أصهار، وأنشدوا لذلك:
ولو أن نفسي طاوعتني لأصبحت ... لها حفد مما يعد كثير
ولكنها نفس عليّ أبية ... عيوني لأصهار اللئام تدور
والأول أولى لأنه الذائع المشهور المتعارف، «وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» مما لذّ وطاب من المأكولات والمشروبات وحسن وزها من اللباس والسكن «أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ» أولئك الكفرة فيقولون إن لله شريكا وأنه لا يبعث(4/239)
من يموت «وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ» التي من جملتها الإيمان به، لأنه من أعظم النعم، وكل نعمة دونه «هُمْ يَكْفُرُونَ» 72 استفهام تعجب من حالهم القبيح «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً» أي لا يملك شيئا من الرزق البتة «وَلا يَسْتَطِيعُونَ» 73 على شيء أصلا من أسباب الرزق وغيره، لأنها جماد محتاجة لمن يتعاهدها «فَلا تَضْرِبُوا» أيها الكفار «لِلَّهِ الْأَمْثالَ» بأن تجعلوا له شريكا تعبدونه على عدّه واعتباره شريكا لله مماثلا له، وهذه الآية على حد قوله تعالى (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) الآية 32 من البقرة في ج 3، «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ» بأنه لا مثيل له ولا شريك «وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» 74 ذلك ولا تعرفون كنه ذاته فلهذا تجاسرتم على ضرب المثل له بما لا يليق بجلاله ولا يناسب عظمة كماله «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ» عاجزا عن كل شيء لا مكاتبا ولا مأذونا، وإنما خصه الله بالمملوكية لا شتراكه هو والحر بالعبودية فميز بينهما في هذا الوصف، والمراد بالشيء هنا النفقة مما رزق، وهذا من المبهم، وهو من بديع الكلام «وَمَنْ» أي رجلا سيدا «رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً» وهو حر قادر على جميع أنواع التصرف بماله وبنفسه وبواسطة غيره «فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ» أي الرزق على الغير «سِرًّا وَجَهْراً» لا يعارضه معارض «هَلْ يَسْتَوُونَ» الأحرار السادة والعبيد المملوكون؟ كلا لا يستوون، ولم يقل يستوبان لإرادة الجمع، ولما نهاهم الله عن ضرب الأمثال لقلة علمهم بها ضرب لنفسه مثلا فقال مثلكم في إشراككم الأوثان بالله الرحمن، كمثل من سوى بين العبد العاجز المملوك والحر السيد القوي الكريم، فكما لا يستويان وكذلك لا يستوي الكافر والمؤمن، مع أنهما في الصورة البشرية سواء، وإن كان لا يجوز التسوية بين هؤلاء عندكم فكيف تسوون بين الخالق الرزاق وبين الأوثان العاجزة عن كل شيء، مع أنه لا يجوز التسوية بينهما في التعظيم والإجلال «الْحَمْدُ لِلَّهِ» المستحق الحمد وحده لا أوثانكم «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» 75 أن الحمد يختصّ بالله ويظنون جهلا أن منه لأوثانهم «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ» أخرس ولادة،(4/240)
إذ ليس كل أبكم أخرس ولا كل أخرس أبكم «لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ» لعجزه عن كل شيء، والمراد بالشيء هنا الأمر بالعدل والاستقامة كما يدل عليه عجز الآيات، وهذا من المبهم «وَهُوَ كَلٌّ» ثقيل «عَلى مَوْلاهُ» سيده الذي يعوله لأنه «أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ» فلا ينجح ولا يفلح، لأنه لا يفهم ولا يفهم، أخبروني أيها العقلاء «هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ» ذو الرأي والرشد يعلم مرادهم ويحثهم على سلوك الطريق السوي «وَهُوَ» في ذاته ينفع العام والخاص و «عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 76 في أقواله وأفعاله وأحواله لا يوجهه لأمر إلا وقد أنهاه بحنكة وحكمة دون أن تزوده بالوصية، وفي مثله يقال أرسل حكيما ولا توصه، فهل يستويان هذا وذاك؟ كلا، وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لنفسه المقدسة ولما يقيض به على عباده من النعم وللأصنام التي هي جماد لا تنطق ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع مع ثقلها على عابديها لاحتياجها للخدمة والحفظ من التعدي «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وحده خاص به علم ما يقع ممن فيهما لا يعلمه أحد من خلقه ويعلم زمن انتهائهما، لا علم لأحد بذلك غيره، «وَما أَمْرُ السَّاعَةِ» التي يقوم بها الناس من قبورهم ويساقون فيها إلى المحشر «إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ» قدر انفتاح الجفن أو طبقه «أَوْ هُوَ أَقْرَبُ» من ذلك لأن التمثيل بلمح البصر بالنسبة للبشر إذ لا يرون أقل منه حتى يمثوا به، أما عند الله فهو أقل لأن لمح البصر يحتاج إلى حركة، والحركة لا بدّ أن تأخذ شيئا من الزمن، وأمر الله لا يحتاج لذلك، لأنه إذا قال لشيء كن كان بين الكاف والنون، تأمل كيفية إحضار عرش بلقيس في الآية 40 من سورة النمل في ج 1، و (أو) هنا مثلها في قوله تعالى (أَوْ يَزِيدُونَ) في الآية 147 من الصافات المارة جريا على
عادة الناس، ولذلك قال (كلمح بالبصر) ولو كان يوجد لفظ يدل على أدنى من ذلك متعارف بينهم للسرعة لقاله، ومثل هذا مثل (أف) الواردة في الآية 23 من الإسراء في ج 1، فلو كان يوجد لفظ متعارف يدل على أدنى منه في مراتب الضجر لذكره «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 77 في كل ما يتصور وهو قادر على إقامة الساعة حالا، ثم صرب مثلا على قدرته فقال(4/241)
«وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً» البتة لأنكم تولدون على حالة أقل من البهائم إدراكا لا تعرفون معه الحجر من الثمر، والقرّ من الحر، والنفع من الضر «وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ» لتعقلوا بها بصورة تدريجية «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» 78 الله الذي منحكم تلك القوى وقدركم فيها على إزالة الجهل الذي ولدتم عليه وقد ركبها فيكم لتستعملوها لما خلقت له أداء لشكرها، وتشكروا المنعم بها عليكم، لا أن تضعوها بغير موضعها وتقابلوها بالكفر، قال تعالى «أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ» الفضاء الواسع ما بينها وبين الأرض، وقد يراد به الهواء وجوف السماء، قالوا إن الطير مهما ارتفع لا يتجاوز اثني عشر ميلا، إذ ينقطع الهواء فإذا تجاوزت هذا القدر لا تستطيع العوم ولا الوقوف، وقد تموت بسبب انقطاع الهواء «ما يُمْسِكُهُنَّ» شيء عند قبض أجنحتهن من الوقوع «إِلَّا اللَّهُ» لأنه في حالة نشر أجنحتهن، يقال إن الهواء يمسكها مع أنه قد لا يوجد هواء، لان الجو كالأرض مختلف أحواله فكما يوجد في الأرض أودية يوجد في الجو خبن لا هواء فيه «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإمساك بدون واسطة «لَآياتٍ» بالغات تدل على كمال القدرة الإلهية «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» 79 بها وإنما خصّ المؤمنين لأنهم أهل الاعتبار والانتفاع بآيات الله وإسنادها لذاته المقدسة «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ» المبنية بالحجر والمدر والخشب وغيره «سَكَناً» تقرون فيه «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً» ومن أشعارها وأوبارها وصوفها خيما وأقبية وأخبية عند ما تريدون التنقل من المرعى والنزهة «تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ» رحيلكم إلى البوادي لرعي أنعامكم «وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ» أيضا في منازلكم إذ لا يهمكم حملها ولا يثقل عليكم نصبها ونقصها «وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها» جعل لكم أيضا «أَثاثاً» من فرش، ولباس، وغرائز لحفظ الألبسة والحبوب، وبسط وزرابي وغيرها مما تحتاجونه لبيوتكم وأنفسكم «وَمَتاعاً» وأشياء أخرى، لأن الأثاث يطلق على جميع حوائج البيت، والمتاع يطلق على ما ينتفع به ويتمتع فيه في البيت خاصة، ومن قال إن المتاع والأثاث شيء واحد فقد جهل هذا الفرق،(4/242)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
والله أعلم بما يقول، فلو كانا بمعنى واحد لما أفردهما أي ان الله تعالى جعل لكم ذلك لنتمتعوا به «إِلى حِينٍ» 80 مدة مقدرة من الزمن
«وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ» من الأشجار والزروع والمغر والوديان والكهوف «ظِلالًا» تستظلون بها من الحر والقر والمطر والخوف «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً» تسكنون بها، إذ جعل فيها مداخل وأسرابا لكم ولأنعامكم وحيوانانكم تتقون بها من الثلج والبرد والهواء الشديد بما يكفي للفقير الذي لا بيت له يلتجأ إليه، أما الغني فعنده الخيام والقساطيط بما يغنيه عن ذلك «وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ» ثيابا وأكسية وقمصانا من القطن والحرير والصوف والوبر لكل بحسبه «تَقِيكُمُ الْحَرَّ» والبرد، واكتفى بذكر أحدهما عن الآخر لدلالته عليه، وإن ما يقي الحر يقي البرد وقدمه بالذكر لأنه الغالب عندهم «وَ» جعل لكم «سَرابِيلَ» أخرى دروعا وجواشن جمع جوشن وهو الصدر في الحديد أو النحاس يلبسه المجاهد على صدره «تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ» هلاككم في الحرب فتمنع وصول قواطع السلاح إلى أجسادكم «كَذلِكَ» مثل ما أتم عليكم نعمة التي بها قواكم «يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ» في أمور دينكم ودنياكم حالا ومستقبلا «لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ» 81 لله وتؤمنون به وتخلصون العبادة إليه وتذرون ما أنتم عليه من الشرك والمعاصي «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك يا سيد الرسل بعد تعداد هذه النعم العظيمة المسبغة عليكم، وقد بلغتهم وأمرتهم ونهيتهم ونصحتهم وقمت بما أمرت به، فلا تبعة عليك «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ» 82 الظاهر فمن أطاعك فثواب طاعته لنفسه، من عصاك فعقاب عصيانه عليها إذ لم تؤمر بقسرهم بعد. وبعد أن عدد الله تعالى هذه النعم العظيمة وأظهر لخلقه عدم تأثرهم مما ذكرهم به قال «يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ» التي غمرهم بها بأنها منه «ثُمَّ يُنْكِرُونَها» قولا وفعلا لأنهم ينسبون كسبها لفعلهم وفعل آبائهم الذين ورثوها عنهم «وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ» 83 بها فلا يستعجلونها لطلب رضائه ولا يعترفون بها أنها منه إلا من لم يبلغ حد التكليف أو من لم تبلغه الدعوة، أو بلغته ولم يفعلها لنقص في عقله فليس عليه شيء، أما من يعرفها أنها من الله وينكرها عنادا فذلك هو الكافر. وبعد ان ذمتهم الله تعالى(4/243)
على عدم تقديرهم تلك النعم، شرع يخوفهم عاقبة أمرهم بذكر أحوال القيامة فقال «وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً» نبيا يشهد لهم وعليهم بما عملوا في دنياهم «ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا» بإدلاء الحجج هناك والمجادلة والعذر كما كانوا في الدنيا «وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» 84 لأن العتاب يطلب لإزالة الوجدة التي في نفس الخصم ليسترضيه، فعدم طلبه ذلك دليل على بقاء غضبه، ولا يمكن استرضاء الرب إلا بالتوبة، ولات هناك توبة، ولو كانت لما بقي للنار من حاجة، لأنهم عند ما يساقون للعذاب ويرون أن في التوبة خلاصا يتوبون كلهم «وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ» وأدخلوا فيه فلا محل لقبول العذر والاسترضاء «فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ» بسبب ذلك «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» 85 لأجله بل يناغتهم ويحيط بهم. فيا سيد الرسل اذكر لقومك هذا ليتذكروا ويتدبروا من الآن «وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ» في الدنيا يوم القيامة في الموقف «قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ» فاسألهم يا رب وخذهم كما أوقعونا في العذاب وانتقم لنا منهم لإغرارهم إيانا بالدنيا بأنهم يشفعون لنا في هذا اليوم، ولما أسمع الله كلام العابدين إلى معبوديهم الذين اشاروا إليهم من الأصنام وغيرها «فَأَلْقَوْا» أجابوهم بصنف حالا دون رؤية وتأمل فرموا وطرحوا «إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ» نبذوه نبذا وهو جملة «إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ» 86 بذلك لأنكم لم تعبدونا ولم تشركونا مع الله بالعبادة ولم نتعهد لكم بالشفاعة، ولا يقال إنها جماد لا تنطق لأن الله الذي بعثها وأعادها في الآخرة خلق فيها قوة النطق لتكذيب عابديها وترد عليهم «وَأَلْقَوْا» العابدون لما سمعوا منها ذلك «إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ» يوم كذبتهم أوثانهم وتبرأت منهم «السَّلَمَ» الاستسلام لحكم الله تعالى إذ أيسوا مما كانوا يرجونه «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» 87 في الدنيا من أنها تشفع لهم، لأن الأوثان بعد أن ردت عليهم بما ذكر الله ولوا عنهم وغابوا لئلا يروهم مرة ثانية كراهية لهم ونفورا منهم «الَّذِينَ كَفَرُوا» بأنفسهم «وَصَدُّوا» غيرهم «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» فمنعوهم عن الإيمان به «زِدْناهُمْ» بسبب صدهم غيرهم «عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ» الذي استحقوه «بِما كانُوا(4/244)
يُفْسِدُونَ»
88 غيرهم مرّ ما فيها في الآية 25 المارة فراجعها «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ» من الأمم السابقة «شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» لأن كل نبي
يبعث بلسان قومه ومن قبيلته غدا لوط عليه السلام فإنه ليس منهم ولكن لما تزوج منهم وقطن معهم عد منهم أو أنه من باب التغليب «وَجِئْنا بِكَ» يا أكرم الرسل «شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ» أمتك من قريش وغيرهم بما كان منهم وجاءت هذه الآية بمعنى التكرار للآية 84 المارة قبلها والتأكيد للآية 36 المارة أيضا تشديدا للتهديد وزيادة في الوعيد ليذكر قومه فيها وينبههم للتيقظ لعاقبتها «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ» من الحدود والأحكام والحلال والحرام والقصص والأخبار «وَهُدىً» من الضلال «وَرَحْمَةً» للناس المخبتين لأوامره ونواهيه وحرمانا للكفرة المفرطين به المهملين ما فيه «وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» 89 خاصة بالجنة «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ» بين الناس وإليهم «وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى» بما يمكن من الصلة إليهم بحسب الطاقة، قال عليه الصلاة والسلام بلوا أرحامكم ولو بالسلام «وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ»
التطاول على الناس ظلما «يَعِظُكُمْ» ربكم أيها الناس بما ينفعكم فى الدنيا والآخرة، فعظوا أنفسكم به وغيركم بالحسنى «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» 90 بها فتحصدون ثمرها.
مطلب أجمع آية في القرآن وما قاله ابن عباس لمن سب عليا وما قاله العباس رضي الله عنهم وفي العهود:
وهذه أجمع آية في القرآن للخير والشر، ولذلك اعتاد الخطباء قراءتها على المنابر يوم الجملة لأنها عظة جامعة للمأثورات والمنهيّات، قالوا إن أول من قرأها على المنبر الإمام العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وهو الذي منع سبب سيدنا علي كرم الله وجهه على المنبر الذي اعتاده من قبله من ملوك الأمويين عليهم ما يستحقونه من الله إذا كان وقع منهم ذلك، فيكون رضي الله عنه قد أبدل الشر بالخير كما أبدل حضرة الرسول الكفر بالإيمان، قال عبد الله بن عباس: مررت بقوم يسبون عليا وكان معي العباس فقال لي خذني إليهم فلما أوقفته عليهم، قال لهم أيكم السابّ لله؟ قالوا لا أحد، قال أيكم الساب لرسول الله؟ قالوا لا أحد، قال أيكم الساب(4/245)
لعلي؟ قالوا أما هذا فقد وقع، فقال إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: من سب عليا فقد سبّني، ومن سبني فقد سبّ الله تعالى، ومن سب الله فقد كفر.
ثم تركهم وأدبرنا، فقال لي كيف رأيتهم حينما سمعوا ما قلت؟ فقلت له يا أبت:
نظروا إليك بأعين محمرة ... نظر الذليل إلى العزيز القاهر
فقال زدني يا بني، فقلت:
زرق الوجوه مصفرة ألوانهم ... نظر التيوس إلى شفار الجازر
فقال زدني، فقلت:
أحياؤهم تنعى على أمواتهم ... ومسبة أمواتهم للغابر
فقال لا فض الله فاك يا بني. الحكم الشرعي: اختلف العلماء رحمهم الله في حكم من سب الصحابي على أقوال أصحها أنه يفسق، والحديث على فرض صحته جار مجرى التهديد. قال بعض أهل العلم: لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لكفت في كونه تبيانا لكل شيء. وقال أهل المعاني ما من شيء يحتاج إليه الناس في أمر دينهم مما يجب أن يؤتى أو يترك إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية.
وقال بعض أهل العلم إن الله تعالى جمع في هذه الآية ثلاثا من المأمورات وثلاثا من المنهيات: ذكر العدل وهو الإنصاف والمساواة في الأقوال والأفعال، وقابله بالفحشاء وهي أقبح شيء من الأقوال والأفعال، وذكر الإحسان وهو أن تعفوا عمن ظلمك، وتحسن لمن أساء إليك، وتصل من قطعك وأرحامك والفقراء والمساكين، وقابله بالمنكر وهو أن تنكر إحسان من أحسن إليك، وتسيء لغيرك، وذكر إيتاء القربى وهو التودد إليهم والشفقة والإنفاق عليهم، وقابله بالبغي وهو التكبر عليهم وظلمهم حقوقهم وقطيعتهم، راجع الآية 32 من الأعراف والآية 36 من الإسراء في ج 1 تجد ما يتعلق بهذا مستوفيا. روى عكرمة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية فقال له يا ابن أخي أعد علي، فأعادها فقال له الوليد والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر. وأخرج البارودي وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير قال: بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلّى الله عليه وسلم، فأراد أن يأتيه، فأتى قومه(4/246)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
فانتدب رجلين، فأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال نحن رسل أكثم يسألك من أنت وما جئت به؟ فقال أنا محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله، ثم تلا عليهم هذه الآية، قالوا ردد علينا هذا القول، فردده عليه الصلاة والسلام عليهم حتى حفظوها، فأتيا أكثم، فأخبراه، فلما سمع الآية قال إني لأراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهي عن مذامها، فكونوا في هذا الأمر رأسا، ولا تكونوا فيه أذنابا، عرض عليهم بكلامه هذا طلبا لأن يكونوا أول أتباعه لئلا يسبقهم أحد فيتقدم عليهم لدى محمد صلّى الله عليه وسلم ودينه. وأخرج الطبراني وأحمد والبخاري في الأدب عن ابن عباس أن هذه الآية صارت سببا لاستقرار الإيمان في قلب عثمان بن مظعون ومحبّته للنبي صلّى الله عليه وسلم.
وأخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالسا إذ شخص بصره، فقال أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع، أي بموضعها هذا من هذه السورة. وهذا يؤذن بأن نزولها كان متأخرا عنها، وهذا مغزى ما ذكرناه في المقدمة، وفي الآية 100 من سورة الكهف المارة.
قال تعالى «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ» أحدا باسم الله تعالى، لأنه من آكد الحقوق، وقدمنا ما يتعلق بالعهود في الآية 34 من سورة الإسراء فراجعها.
الحكم الشرعي: وجوب الوفاء به إذا كان فيه صلاحا، وإلا فلا، قال صلّى الله عليه وسلم:
من خلف يمينا ثم رأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه.
لأن العهد يمين وكفارته كفارة يمين وهذا من العام المخصص بالسنة، قالوا إن هذه الآية نزلت في الذين بايعوا حضرة الرسول في الموسم قبل الهجرة، وسيأتي بيانها إن شاء الله في الآية 10 من سورة الممتحنة والفتح في ج 3، وبعد أن أمر الله تعالى بإيفاء العهد نهى عن النكث فيه فقال «وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها» باسم الله تعالى فتحنثوا، وكيف يليق بكم ذلك «وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا» على الوفاء به وهو الشهيد على كل شيء «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» 91 من الوفاء والبر والنقض والحنث، ثم ضرب الله مثلا لنقض العهد فقال «وَلا تَكُونُوا» أيها المعاهدون المؤكدون عهودكم بالأيمان «كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ» في إبرامه وإحكامه وجملة (من بعد قوة) معترضة بين ما قبلها(4/247)
وقوله تعالى «أَنْكاثاً» طاقات الخبوط المنقوضة بعد الغزل أو القتل «تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا» دغلا وخيانة وخديعة بأن تظهروا الوفاء وتبطنوا النقض، وهذا هو معنى الدخل، لأنه الذي يدخل بالشيء على طريق الإفساد بسبب «أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى» أكثر عددا وأوفر مالا «مِنْ أُمَّةٍ» أخرى وذلك أن الناس في الجاهلية كانوا يحالفون الخلفاء، فإذا وجدوا قوما أقوياء أكثر منهم وأعز نقضوا عهدهم معهم وحالفوا الأكثر عددا والأعز مكانة، فذم الله تعالى صنيعهم هذا وقال «إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ» أي الوفاء بالعهد ويختبركم لينظر أتتمسكون بعهدكم وما وكدتموه بالإيمان من بيعة الرسول أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم فتنقضونه كما كان يفعله من قبلكم «وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» 92 في الدنيا فيثيب المحق ويعاقب المبطل «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» وقطع مادة الاختلاف «وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 93 من خير أو شر ثم كرر ما بمعنى الآية الأولى تأكيدا وتهديدا وإعلاما بعظم نقض العهد فقال «وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ» أيها الناس الحذر الحذر من هذا «فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها» تزلق أقدامكم عن محجة الإسلام والإيمان بعد أن ثبتها الله فيهما بتوفيقكم إليهما وتعرضوا أنفسكم لما تكرهون «وَتَذُوقُوا السُّوءَ» في الدنيا بذم الناس «بِما صَدَدْتُمْ» غيركم «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» لأن من نقض العهد فقد علّم غيره نقضه فكأنه صده عن الوفاء به «وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» 94 في الآخرة جزاء عملكم ذلك، ثم أكد ثالثا فقال «وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ» الذي عاهدتم به رسوله عليه، لأنه هو المقصود في هذا الكون كلّه المطلوب بأن تنقاد له الخلق أجمع ويوقى له بما يريده منهم، لأن هذه المعاهدة هي التي سببت الهجرة إلى المدينة إذ جعلت لهم أصحابا فيها، فكذلك أكد الله تعالى عليها هذه التأكيدات لإيجاب الإيفاء بها، وهكذا كل عهد لعموم لفظ الآية، وإياكم أيها الناس أن تأخذوا لقاء نقضه «ثَمَناً» ثم وصف هذا الثمن بكونه «قَلِيلًا» لأنه مهما كثر فهو قليل بنسبة نقض العهد الذي لا يقابله ثمن لما يترتب عليه من(4/248)
الخزي والعار في الدنيا والعذاب والعقاب في الآخرة، وبالنسبة لما يترتب على الوفاء به من المدح في الدنيا والثواب في الآخرة «إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ» من الأجر العظيم على الوفاء بالعهد «هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» مما تتعجلون أخذه من حطام الدنيا على نقضه «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» 95 ماهية العوضين وعاقبتهما في الدارين، واعلموا أيها الناس أن «ما عِنْدَكُمْ» من متاع الدنيا جميعه «يَنْفَدُ» يفنى فيها لا تأخذون معكم منه شيئا للآخرة إلا وباله «وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ» لكم ثوابه لا يقنى ويصحبكم في الآخرة، لأن من أخذ مالا على نقض العهد فقد فضل ما عنده البالي الذي يحمل ورزه في الآخرة على ما عند الله الباقي أجره المضاعف خيره في الدار الدائمة. روى أبو موسى الأشعري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى «وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا» على ضراء العهد والبر بأيمانهم والمحافظة على وعودهم «أَجْرَهُمْ» بالآخرة «بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» 96 في الدنيا فنعطيهم بمقابلة الأدنى من أعمالهم ما نعطيه بمقابلة الأحسن منها «مَنْ عَمِلَ صالِحاً» في دنياه من وفاء العهد وغيره «مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ» لأن من لا إيمان له لا ثواب له في الآخرة، لأن الله تعالى يكافئه على عمله الصالح في دنياه حتى يلقى الله وليس له عنده شيء من الخير: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً، بعيش رغيد وجاء مديد ومال ولد وصحة وقناعة وأمن مماة حياته مع زوجة صالحة وإخوان صالحين حتى يلقى الله راضيا مرضيا «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ» بالآخرة «بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» 97 وهذا وعد حق من الله الحق، والله لا يخلف وعده. واعلم أن هذه الآيات وإن كانت نزلت في الذين عاهدوا حضرة الرسول أوّل معاهدة عاهدها الناس له فهي عامة في كل عهد حق فيه صلاح، لأن نزولها في الجماعة الذين عاهدوا حضرة الرسول في الموسم في 8 محرم الحرام سنة 52 من ميلاده الشريف الثانية عشرة من البعثة لا يخصصها أو يقيدها بها، بل هي عامة، راجع الآية 113 من آل عمران في ج 3 تجد تفصيل هذه المعاهدة إن شاء الله، وإنما أخرناها عن موقعها هنا لما رأينا أن ذكرها هناك أكثر مناسبة، ومن الله التوفيق.(4/249)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
ثم التفت جل جلاله إلى حبيبه فخاطبه بقوله «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ» أيها الإنسان الكامل «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» 98 وهذا الخطاب شامل لجميع الأمة، وقدمنا في المقدمة ما يتعلق بالاستعاذة فراجعها ففيه كفاية «إِنَّهُ» الشيطان «لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ» ولا قدرة «عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا» لضعف كيده وقوة يقينهم «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» 99 بدفع وساوسه والتغلب عليه «إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ» ويتخذونه وليا من دون الله ويركنون لدسائسه «وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ» بإغوائه ووساوسه وإغرائه «مُشْرِكُونَ» 100 بالله غيره ولما قال المشركون إن محمدا يسخر بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا ما هو إلا مفتر يتقول من تلقاء نفسه، وذلك حينما يسمعون آية لين بعد آية شدة، وهذا هو المراد والله أعلم بهذا التبديل المزعوم من قبلهم مثل ذكر العفو بعد القصاص، وكظم الغيظ بعد الأمر بالمقابلة، والفطر بالسفر بعد الأمر بالصيام وهكذا، ومنه تبديل الكعبة عن بيت المقدس في التوجه بالصلاة أنزل الله
«وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ» لحكمة نراها، وهذا معنى قوله «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ» وهذه جملة اعتراضية فيها توبيخ للكفرة وتنبيه على فساد رأيهم جاءت بين صدر هذه الآية وبين قوله تعالى «قالُوا» كفار قريش يا محمد «إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ» بما تسنده لربك وإنك تقول اختلافا من نفسك، قال تعالى ردا عليهم «بَلْ» هو من عندنا ليس من قبل محمد و «أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» 101 فائدة هذا التبديل وما يترتب عليه من المصالح، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في المقدمة، وله صلة ستأتي في الآية 107 من سورة البقرة ج 3 إن شاء الله.
«قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الكفرة المعترضين علينا رجما بالغيب المتهمين جنابك بالافتراء إن ما نتلوه عليكم «نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ» جبريل عليه السلام وأضيف إلى القدس أي الطهر كإضافة حاتم الجود وطلحة الخير إضافة بيانية، أي الروح المقدس «مِنْ رَبِّكَ» نزل به عليك «بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ» به «الَّذِينَ آمَنُوا» على إيمانهم فيزدادوا يقينا به «وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» 102 وفي هذه الجملة تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغير المسلمين، واعلم أن من قال بعدم(4/250)
وجود النسخ في القرآن كأبي مسلم الأصفهاني وغيره ممن ذكرناه في بحث الناسخ والمنسوخ في المقدمة قال إن هذا التبديل المشار إليه في هذه الآية هو لبعض الأحكام المبينة في التوراة وغيرها من الكتب القديمة، وهو من سنة الله القائل على لسان رسوله عيسى بن مريم (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) الآية 51 من آل عمران الآتية في ج 3 والآية 44 من سورة الزخرف المارة. ومن قال بالنسخ قال هو كتبديل استقبال القبلة بالكعبة وما يضاهي ذلك. قال تعالى «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ» فيما بينهم «إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ» نزلت هذه الآية عند ما قال المشركون بعضهم لبعض إن محمدا يتعلم ما يتلوه علينا من القصص والأخبار من آدمي مثله، وليس هو كما يزعم أنه من عند الله، واختلفوا في الذي يتعلم منه، فمنهم من قال إنه عايش غلام حويطب، ومنهم من قال جبر غلام رومي لعامر الحضرمي، ومنهم من قال إنه بسار، ومنهم من قال إنه سلمان الفارسي أو عداس غلام عتبة بن ربيعة، أو بلعام غلام أيضا، لأنهم كلهم يقرءون، سبب هذه النسبة أنه صلّى الله عليه وسلم كان إذا آذاه المشركون قعد لأحدهم يسمع منه شيئا من القرآن ليستميلهم إلى الإيمان، لأنهم أهل كتاب يعرفون ما جاء في كتبهم مما هو موافق لما جاء في القرآن، وذلك ترويجا للنفس وتسلية لما أهمه من أمر قومه وما يتهمونه به، فكذبهم الله تعالى بقوله «لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ» يميلون عليه ويشيرون «إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ» والأعجمي وإن سكن في البادية والحاضرة العربية يعجز أن يتكلم بفصاحة العرب، فضلا عن بلاغة القرآن الذي عجز عن مباراته فصحاء العرب الذين ينزل بلغتهم، وهؤلاء العبيد ليسوا بعرب ولا فصحاء فيستحيل عليهم التكلم بالعربية الفصيحة «وَهذا» القرآن الذي نتلوه عليك يا سيد الرسل هو «لِسانُ» واضح فصيح بليغ «عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» 103 يستحيل على جميع الناس النطق بمثله وإذا استحال عليهم النطق به فمن باب أولى أن يستحيل عليهم تعليمه أو الإتيان بمثله فثبت بهذا البرهان أن الذي جاء به محمد هو وحي إلهي ليس من نفسه ولا من تعليم الغير. وقال بعض العلماء المراد باللسان هو القرآن نفسه لأنه يطلق على القصيدة والكلمة، قال الشاعر: لسان السوء تهديه إلينا.(4/251)
أي كلام السوء وليس بشيء لمخالفته الظاهر. واعلم يا محمد أن هؤلاء المتقوّلين ضلّال لا يؤمنون بآيات الله و «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ» لفهمها بالدنيا «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 104 في الآخرة، ثم أشار إليهم بأن محمدا لا يفتري الكذب بقوله «إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ» الكفرة «الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ» المنزلة على رسوله «وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ» 105 ومحمد براء ومعصوم مما يتهمونه به.
مطلب في الكفر تضية، والكذب والأخذ بالرخصة تارة وبالعزيمة أخرى، والتعويض للهجرة ثالثا.
واعلم أن الكذب من الكبائر لأنه إيجاد ما لم يوجد، روى البغوي بإسناد الثعلبي عن عبد الله بن جرار قال: قلت يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال قد يكون ذلك، قلت المؤمن يسرق؟ قال قد يكون ذلك، قلت المؤمن بكذب؟ قال لا، قال تعالى (إِنَّما يَفْتَرِي) إلخ. «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ» مختارا طائعا وجب قتله في الدنيا وفي الآخرة هو خالد في جهنم «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ» على كلمة الكفر من شخص يتحقق إيقاع الضرر منه فأجرى كلمه الكفر على لسانه تقية كما تجوز موالاة الكفرة تقية على ما يأتي في الآية 39 من آل عمران في ج 3، لأن التوسل لخلاص النفس بلفظ الكفر ظاهرا «وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» فلا وزر عليه لأنها رخصة من الله تعالى أعتق بها نفسه، وقد تفضل الله تعالى على عباده بها والله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، فإذا قبلها وأخذ بها فلا بأس عليه، وإذا لم يقبلها ولم يأخذ بها وأبى أن يكفر وقتل من أجل إيمانه فقد أخذ بالعزيمة ولا وزر عليه بل يثاب، لأن الأفضل في مثل هذا أن يؤخذ بالعزيمة لا بالرخصة، لاحتمال عدم القتل، لأن بلالا وصهيبا وخبابا وسالما أوذوا بالضرب والحرق بالنار وألبسوا أدراع الحديد ووضعوا بحر الشمس في تلك البلاد الحارة، وقد وضعت عليهم الأحجار الحارة لإجبارهم على الكفر، فصبروا ولم يكفروا بلسانهم، ثم تركوا ولم يقتلوا وفازوا بخير الدارين، أما من أكره على شرب الخمر أو أكل لحم الميتة أو الخنزير ومما هو دون المكفرات كالربى والقمار(4/252)
فليس له أن يأخذ بالعزيمة بل يجب عليه الأخذ بالرخصة، وإذا قتل ولم يأخذ بالرخصة فهو آثم، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك. «وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً» والعياذ بالله بعد أن كفر بلسانه وطابت نفسه به وبقي عليه «فَعَلَيْهِمْ» أي الكافرين وجمع الضمير باعتبار معنى من «غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ» في الدنيا «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» 106 في الآخرة «ذلِكَ» الغضب والعذاب «بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا» وزخارفها وآثروها «عَلَى الْآخِرَةِ» وكفروا بطوعهم واختيارهم «وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» 107 ولا يوفقهم للرشد والإيمان «أُولئِكَ» الذين استحبوا الكفر على الإيمان هم «الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ» فلم يجعلهم ينتفعون بها لأنهم صرفوها إلى غير ما خلقت لها «وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» 108 عن الله وعما يراد بهم المتوغلون في الغفلة الكاملة، لأن الغفلة عن تدبير العواقب هي غاية في الغفلة ونهاية في اللهو «لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ» 109 حقا لأنهم ضيعوا رءوس أموالهم وهي أعمارهم وصرفوها فيما يفضي للخلود بالنار ولله در القائل:
إذا كان رأس المال عمرك فاحترس ... عليه من الإنفاق في غير ما وجب
هذا ولما أخذ المشركون عمارا وأباه ياسرا وأمه سمية وعذبوهم ليرجعوا عن الإيمان بالله فأبي ياسر وسمية فقتلوهما وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام لمرضاة الله، رحمهما الله رحمه واسعة، ووافقهم عمار على ما شاءوا من كلمات الكفر بلسانه بعد أن شاهد قتل أبويه فأخبر محمد صلّى الله عليه وسلم بذلك فقال كلا إن عمارا ممتلىء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فجاء وهو يبكي، فقال ما وراءك؟ قال شرّ، نلت منك يا رسول الله أي أنه تكلم فيه مثل ما أراد الكفرة منه بسبب تعذيبه بعد قتل أبويه، قال كيف وجدت قلبك؟ قال مطمئنا بالإيمان، فجعل يمسح عينيه وقال إن عادوا لك فعد لهم بما قلت، فنزلت هذه الآيات. وهي عامة في كل من هذا شأنه، لأن نزولها فيمن ذكر لا يقيدها، وإن المكره على الكفر ليس بكافر، وقد استثنى المكره بالآية إذ ظهر منه ما شابه ما يظهر من الكافر طوعا.
قال تعالى «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا» فرارا بدينهم إلى ديار غير ديارهم(4/253)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
«مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا» عذبوا وأوذوا من أجل إيمانهم بالله «ثُمَّ جاهَدُوا» أنفسهم على التثبت بإيمانهم «وَصَبَرُوا» على ما نالهم من أذى المشركين ومر الغربة وذلّها «إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها» أي الفتنة التي ألجأتهم إلى الكلام بما ينافي الإسلام تقية، خشية القتل «لَغَفُورٌ» لهم على ما صدر منهم بالنظر لما وقر في قلوبهم «رَحِيمٌ» 110 بهم لا يؤاخذهم على ما وقع منهم حالة الإكراه، وهذه الآية نزلت في عياش بن ربيعة أخي أبى جهل من الرضاع وأبي جندل بن سهل بن عمرو والوليد بن الوليد بن المغيرة وسلمة بن هشام وعبد الله بن أسيد الثقفي، حينما عذبهم المشركون على إيمانهم، فأعطوهم من الكلام القبيح ما أرادوا ليسلموا من شرهم، ثم أعلنوا إيمانهم وهاجروا من مكة، وبعد عودتهم من الهجرة بعد نزول آية السيف في المدينة جاهدوا مع المؤمنين أعداءهم الكفرة، وبما أن الجهاد متأخر عن زمن هجرتهم عبّر الله تعالى عنه بثم المفيدة للتراخي، وهؤلاء الذوات محميون بحماية الله تعالى بدليل قوله (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ) إلخ، ومن كان الله له فلا يبالي من شيء، لأنه وليه وناصره، وهذه الآية الثالثة التي يعرض الله تعالى بها لنبيه في الهجرة ليتريض إليها ويمرن نفسه عليها. وما قيل إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي سرح الذي ارتد بعد إسلامه كما أشرنا إليه في الآية 193 من الأنعام المارة، وأنه عند فتح مكة شرفها الله استجار بعثمان لأنه أخوه لأمه وقبل إسلامه، فقيل ضعيف، لا يكاد يصح، إلا إذا كانت الآية مدنية، والقول بمدنيتها أضعف من القول في نزولها فيه، لأن هذه السورة مكية ولم يستثنى منها إلا الآيات الثلاث الأخيرات على قول الجمهور، لهذا فلا يلتفت إلى غير ما ذكرناه.
قال تعالى واذكر لقومك يا سيد الرسل «يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها» وتدافع وتخاصم عنها، ونفس الشيء عينه وذاته، فالنفس الأولى جملة الإنسان، والثانية عينه وذاته، فكأنه قيل كل إنسان يجادل عن ذاته لا عن غيره مهما كان قريبا له وحبيبا، لأن انشغاله بنفسه في ذلك الوقت العصيب ينسيه قريبه وحبيبه لعظم ما يشاهد ويلاقي من الهول، فيقول الكافر أضلنا كبراؤنا وأطعنا ساداتنا ما كنا مشركين وما حرمنا ولا حللنا من شيء فيتشبثون بكل ما يمكنهم من طرق الدفاع(4/254)
ليتخلصوا مما حل بهم، ولات حين خلاص، وهذه الآية لا تنافي الآية 84 المارة وهي (ثم لا يؤذن للذين كفروا) إلخ، لأن يوم القيامة يوم طويل شديد الهول تختلف فيه أحوال الناس فترى الكفرة مرة لا يؤذن لهم بالكلام، وأخرى يبكون وتارة يجادلون، وطورا يحاورون شركاءهم وأوثانهم «وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ» جزاء «ما عَمِلَتْ» في دنياها لا يغير عقابها كلام ولا جدال «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» 111 شيئا بل يجازون على الخير بأحسن منه وعلى الشر بمثله.
مطلب في ضرب المثل وبيان القوية وعظيم فضل الله على عباده:
«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً» واسعا كافيا يبسر وسهولة «مِنْ كُلِّ مَكانٍ» كقوله تعالى (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) الآية 56 من سورة القصص المارة في ج 1، بدعوة ابراهيم عليه السلام الواردة بالآية 156 من البقرة في ج 3، لأن المراد بالقرية مكة «فَكَفَرَتْ» أهاليها وسكانها «بِأَنْعُمِ اللَّهِ» المترادفة عليها ولم تشكرها وتقدرها «فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ» الإذاقة جارية عند أهل المعاني مجرى الحقيقة لشيوعها فيما يمس الناس من البلايا والشدائد، فيقولون ذاق فلان الضر وأذاقه العذاب، يشبهون ما يدرك الإنسان من أثر الضرر بما يدركه من طعم المرّ قال:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها ... وسيق إلينا عذبها وعذابها
وشبهوا اللباس به لاشتماله على الملابس، ولما كان الواقع عبارة عما يغشى الإنسان فكأنه قال فأذاقهم ما غشيهم من «الْجُوعِ وَالْخَوْفِ» جزاء «بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» 112 لم يقل صنعت لأن المراد أهل القرية كما ذكرنا.
واعلم أن المثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوّره بصورة أوضح منه وهنا بين المشبّه وهو القرية، ولم يذكر المشبّه به لوضوحه عند المخاطبين ولأن ذكر المشبه به غير لازم، لأنه إما أن يراد بها قرية محققة أو مقدرة وحذفه في علم البلاغة في مثل هذا جائز، وذلك أن أهل مكة كانوا في أمن وطمأنينة وخصب عيش، قال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) الآية 60 من سورة العنكبوت الآتية والمراد من(4/255)
قولهم مطمئنة عدم احتياج أهلها للانتقال فقد تدل على ملاك الأمر، إذ قال العقلاء:
(ثلاثة ليس لها نهاية: الأمن والصحة والكفاية) وبعد الإنعام عليهم بهذه الثلاثة أنعم الله عليهم بمحمد صلّى الله عليه وسلم، فكفروا به وكذبوه وآذوه وأرادوا قتله، فأمره الله تعالى بالهجرة عنهم وسلط عليهم بعد هجرته البلاء والشدة والجوع والخوف بسبب تكذيبهم له وإرادة إخراجهم إياه من بلده حينما حاكوا المكر فيه، كماه سيأتي تفصيله في الآية الأخيرة من سورة المطففين في بحث الهجرة. وما قاله الحسن من أن هذه الآية مدنية وأن المراد بالقرية هي المدينة تحذيرا لأهلها مما أصاب أهل مكة قول مخالف لجمهور العلماء والمفسرين يؤيده قوله تعالى «وَلَقَدْ جاءَهُمْ» أي أهل مكة «رَسُولٌ مِنْهُمْ» يعرفون مكانته قبل النبوة «فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ» في الدنيا بالجوع والقتل والأسر والخوف والجلاء «وَهُمْ ظالِمُونَ» 113 أنفسهم وغيرهم بالكفر. قال تعالى «فَكُلُوا» أيها الناس «مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً» وذروا ما تفترون من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغيرها راجع الآية 130 من سورة المائدة في ج 3 في تفسيرها، «وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ» عليكم «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» 114 تخصونه وحده بالعبادة «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ» لأنها كلها تضر بأبدانكم وتختطف صحتكم وتوقعكم في الأمراض القتالة، وقد اكتشف الأطباء في عصرنا هذا وجود دودة قتالة في الخنزير سموها (ترنجيويس) وأجمعوا على أنها لا تموت بالطبخ بل تنتقل لآكل لحمه وتعيش في المعدة وتميت آكلها، ولذا منعوا أكله قبل المعاينة، حتى ان الأمير كيين هجروه بتاتا كما يقال، إلا أنهم قد هجروا الخمر قبلا ثم عادوا إليه، وفضلا عن هذا، فإن أكله يورث الجذام ويقلل الغيرة، ومنه يعلم أن الله تعالى لم يحرم علينا شيئا إلا لمنفعتنا وصيانة وجودنا وعقلنا من الخلل «وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» وفي الآية 4 من سورة المائدة الآتية (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) وهي بمعناها «فَمَنِ اضْطُرَّ» لأكل شيء من ذلك «غَيْرَ باغٍ» على الناس «وَلا عادٍ» على نفسه «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» 115 بهؤلاء المضطرين وسنأتي على تفسير هذه الآية بصورة مفصلة واضحة وبيان مضار هذه(4/256)
المحرمات مع بيان الحكم الشرعي فيها في الآية المذكورة من سورة المائدة ج 3 إن شاء الله، وقدمنا بعض ما يتعلق فيها في الآية 145 من سورة الأنعام المارة فراجعها «وَلا تَقُولُوا» أيها الناس «لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ» من تلقاء أنفسكم لأن التحليل والتحريم من خصائص الله تعالى، وذلك أنهم كانوا يحللون ويحرمون برأيهم وينسبونه إلى الله تعالى، كما تقدم في الآية 138 من سورة الأنعام المارة. يدل على هذا قوله جل قوله «لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ» 116 بل يخيبون ويخسرون، وان متاعهم في هذه الدنيا وما هم عليه «مَتاعٌ قَلِيلٌ» لأن الدنيا مهما طال أمدها فهي قليلة، ولا تطمئن النفس الزكية إليها لتوقع المصائب والفتن والشحناء بين أهلها عداوة وبغضاء من أجل حطامها الزائل، وأشد ما يكون إذا وقع بين الأقارب، وفلما ترى المتصافين فيها لله، قال:
والمرء يخشى من أبيه وأمه ... ويخونه فيها أخوه وحاره
فإذا كان أقرب وأحب الناس إلى الرجل فيها يخافهم ويخشهم فتبا لهم من دار وسحقا لها من إقامة، هذا ما يلاقونه في الدنيا، وأما في الآخرة فيقول الله تعالى «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 117 لا تطيقه قواهم «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ» هو ما تقدم في الآية 146 من الأنعام المارة، «وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» 118 بتحريم أشياء على أنفسهم لم يحرمها الله كلحوم الإبل وغيرها، قال تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) الآية 160 من النساء في ج 3، «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ» كلمة جامعة لكل قبح «بِجَهالَةٍ» غير متدبرين عاقبته ولا معاندين الله فيه عصيانا عليه، وإنما بسبب غلبة شهوتهم الناشئة عن الجهل قال:
وما كانت ذنوبي عن عناد ... ولكن بالشقا حكم القضاء
«ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الذي عملوه من السوء وندموا وتابوا توبة نصوحا، يدل عليه قوله تعالى «وَأَصْلَحُوا» أنفسهم واستقامت أحوالهم «إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها» أي التوبة «لَغَفُورٌ» لما سبق منهم «رَحِيمٌ» 119(4/257)
شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
بهم تشير هذه الآية إلى عظيم فضل الله، وجليل رحمته، وكبر كرمه، وسعة مغفرته، وكثرة لطفه على عباده وعطفه عليهم إذ تكفل لمن هذا شأنه بالعفو، ومن كان الله كفيله فهو تاج رابح، وتقدم ما يتعلق بعظيم فضل الله وعفوه في الآية 160 من الأنعام المارة، وفيها ما يرشدك إلى المواقع المتعلق بها هذا البحث فراجعها. ونظير هذه الآية الآية 17 من سورة النساء في ج 3، «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً» لاجتماع صفات الكمال والخير فيه وتلبسه بالأخلاق الحميدة، وهذه الصفات قد لا توجد في شخص واحد ولهذا سماه الله أمة:
وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
ولأنه كان وحده مؤمنا بالله والناس كلهم كافرون، ومن هذا قوله صلّى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل يبعثه الله أمة وحده. لمفارقته الجاهلية وما كانت عليه من عبادة الأوثان وهي جارية مجرى كلام العرب. يقولون فلان رحمة وفلان نسّابة، إذا كان متناهيا في المعنى الموصوف به «قانِتاً» خاضعا مطيعا «لِلَّهِ» وحده «حَنِيفاً» مائلا عن كل دين إلى دين الإسلام، وهو أول من اختتن وضحى وأقام مناسك الحج «وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» 120 قط لأنه من صفره نشأ على التوحيد فكان مؤمنا بالله مخلصا له وكان في جميع أحواله
«شاكِراً لِأَنْعُمِهِ» كلها التي منها توفيقه للإيمان ونصرته على عدوه بالحجة الدامغة وانجاؤه من النار، ولهذه الخصال الكريمة «اجْتَباهُ» ربه للنبوة وشرفه بالرسالة واصطفاه للخلة «وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 221 في أقواله وأفعاله ووفقه لدين الإسلام وطريقه القويم «وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» بأن جعلنا ذكره فيها دائما مثمرا حسنا عند كل ملة وأمة، فلا تجد قوما إلا ويعرفوه بفضله ويذكرونه بالخير، هكذا كان عليه الصلاة والسلام في الدنيا «وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» 122 للقاء الله ولأعلى مقامات الجنة «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» يا سيد الرسل في هذا القرآن الكريم «أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» 123 لأن ملته ودينه هو الحق وكل محق يدين بدينه، وقيل في هذا:
كل يدين بدين الحق لو فطنوا ... وليس دين لغير الحق مشروع(4/258)
ولا تكرار في هذه الآية، لأن الأولى تتضمن أنها سجيته عليه السلام، وهذه يأمر الله بها حبيبه محمدا بأن يسلك طريقة جده إبراهيم، وفيها ردّ صريح على العرب وغيرهم الحاضرين والسالفين القائلين إنه كان مشركا، لأنها جاءت نافية عنه مادة الشرك منذ نشأته كما أنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا كما زعم اليهود والنصارى، راجع الآية 67 من آل عمران ج 3، ولذلك كان صلّى الله عليه وسلم يتعبد على شريعته ويتدين بدينه الذي ألهمه الله إياه إلى أن كمل الله له شريعته الناسخة لكل الشرائع والموافقة لكل عنصر وعصر إلى آخر الدوران ليقتدي بها وبأمر أمته باتباعها، قال تعالى «إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ» فرض ووجب احترامه وعدم العمل به كسائر الأيام «عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ» مع نبيهم وهم اليهود لأن موسى عليه السلام أمرهم بتعظيم يوم الجمعه وأن يتفرغوا في كل أسبوع يوما للعبادة فيه، فأبوا إلا السبت محتجين بأنه اليوم الذي فرغ الله به من الخلق، وهذا الاختلاف لم يقل به بعضهم دون بعض منهم من أراده، ومنهم من أباه، كلا، بل أنهم كلهم اتفقوا عليه خلافا لنبيهم الذي وافقهم على رغبتهم، لأن الخلاف كان بينهم وبينه، وكذلك عيسى عليه السلام أمرهم بتعظيم يوم الجمعة فأبوا إلا الأحد محتجين بأنه اليوم الذي بدأ فيه الخلق، وهذا الاختلاف من سعادة أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، إذ تفضل الله عليها به فقبلته ولم تختلف على نبيها فيه.
مطلب يوم الجمعة والآيات المدنيات وكيفية الإرشاد والنصح والمجادلة وما يتعلق فيهما:
وسبب تعظيمه أن الله تعالى خلق آدم فيه، وتاب عليه فيه. وأطاف سفينة نوح فيه، وأرساها فيه، وقيل دعوة يونس فيه، ونجاه فيه، وإجابة دعوة زكريا فيه، وكان تمام الخلق فيه، ولأن الفرح والسرور إنما يكونان عند التمام والكمال فلأن يكون التعظيم له أولى من يوم البدء والفراغ: روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: نحن الآخرون أي (في الوجود والزمن) السابقون (في الفضل ودخول الجنة) يوم القيامة بيد أنهم (غير أن الذين) أوتوا الكتاب من قبلنا فاختلفوا فيه وأوتيناه من بعدهم فهذا (إشارة إلى يوم الجمعة) يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه (على نبيهم فلم يقبلوه) فهدانا الله تعالى له(4/259)
فهم لنا تبع فغد لليهود وبعد غد للنصارى. ومن قال إن الاختلاف وقع بينهم أوّل فقال جعل بمعنى وبال، أو قال إن في الكلام حذفا وهو كلمة وبال، أي إنما وبال السبت، أو إنما جعل وبال السبت ولعنته التي مسخوا فيها قردة وخنازير على المختلفين فيه، وتقدمت قصة النسخ في الآية 164 من الأعراف في ج 1، وقال بعضهم إنما فرض عليهم السبت، ولما بعث عيسى نسخ بالأحد، كما أن شريعته عدلت بعض أحكام التوراة، ثم نسخ الأحد بالجمعة، لأن شريعة محمد صلّى الله عليه وسلم ناسخة لكل الشرائع، فكان أفضل الأيام الجمعة، وأفضل الرسل محمد صلى الله عليه وسلم.
«وَإِنَّ رَبَّكَ» يا خاتم الرسل «لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ» وبين غيرهم «يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» 124 من السبت وغيره كتحريم الإبل وحل الخنزير وقليل الخمر والزواج بالمحرمات وغير ذلك مما ابتدعوه، ولم ينزل الله به برهانا، قال تعالى يا سيد الرسل «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ» من بعثت إليهم قاطبة «بِالْحِكْمَةِ» بالحجة المزيلة للشك المزيحة للشبهة بالتؤدة واللين والرفق وإيراد الأدلة الواضحة والبراهين الساطعة والحجج القاطعة لتأييد دعوتك «وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» الرقيقة اللطيفة بخطاب مقنع للخصم مقرون بالعبر المؤثرة والعظة النافعة والأمثلة الظاهرة بقصد نصحهم وطلب خيرهم وإرادة ميلهم إلى كلامك وجنوحهم إلى رشدك وهديك.
وهذه طريقة ثانية لأصول الدعوة إلى الله لأن الحكمة المعرفة بمراتب الأفعال، والموعظة الحسنة مزج الرغبة بالرهبة والإنذار بالبشارة والشدة باللين. والطريقة الثانية هي المبينة بقوله جل قوله «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» من غيرها بأن تناظر معانديهم بالطريقة الحسنة التي هي أحسن طرق المجادلة، وتبدي لهم لين العريكة وخفض الجانب والرفق بالمخاطبة، بلا غلظة ولا فظاظة ولا تعنيف، وتأتي لهم بكل ما يوقظ القلب ويجلو العقل وتنبسط له النفس وينشرح له الفؤاد، بوجه مطلق ملئه البشاشة، كي يكون إرشادك أوقع في قلوبهم، وهديك أنفع في نفوسهم، وكلامك أنفع لصلاحهم، ودلالتك أميل لقلوبهم. واعلم أن هذه الصفات التي يجب أن يتحلى بها العلماء والمتصدرون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنها من سمات من ورثوا عنه العلم الذي هو صفوة خلق الله صلّى الله عليه وسلم، ويجب أن(4/260)
تكون طريقتهم في النصح والهدى على نحو ما ذكرنا مع تحمل الأذى وثقل الثقلاء وعناد المعاندين وشقاق العتاة، وإذا ابتلوا بالمناظرة أن يكون سبيلهم فيها منبثقا عن هذه الأحوال الثلاثة، وذلك بأن يناظروا الطبقة الراقية بالأصل الأول، وغيرهم من أصحاب الفطرة السليمة بالثاني، والمعاندين المتشدقين بالثالث، لينفعوا وينتفعوا، وإذا لم يستعملوا هذه الطرق التي علمها الله لنبيّه صلّى الله عليه وسلم وأمره جلّ أمره بسلوكها وقابلوا الناس بالفظاظة وبالشدة والغلظة والعنف والأنفة والتكبر والتجهيل شامخين بما آتاهم الله من فضله، فيوشك أن يضلوا ويضلوا ويكون عملهم وبالا عليهم في الدنيا والآخرة، لأن المعتبر في دعوة الخلق إلى الخالق استعمال الصناعات الثلاث المذكورة التي هي البرهان والخطابة والجدل من بين الصناعات الخمس المبينة في علم المنطق، وسهل القول المذكور في علم البيان وفصيح اللفظ المشار إليه في علم البديع ليتيسر له ما يريده من النفع التام لما يرضي الملك العلام، وهذا هو الطريق النافع لقبول الإرشاد، لأن الآية تشعر إلى الاقتصار عليها «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» الذين لا تؤثر فيهم الدعوة بطرقها الثلاث لسابق شفائهم «وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» 125 الذين ينتفعون بدعوتك، إلا أن التبليغ للفريقين من واجب الرسل حتى لا تبقى حجة لمعتذر وهو من بعدهم من واجب العلماء، لأنهم ورثة الأنبياء، وهذه الآيات المدنيات الثلاث من هذه السورة كما قاله المفسرون بدليل ما أخرجه النحاس عن طريق مجاهد عن الخبر أنها أي هذه السورة نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أحد، ولهذا عدت مدينة كما عدت الآية 54 من الزخرف المارة مكية مع أنها نزلت في بيت المقدس ليلة الإسراء، لأن العبرة أن جميع ما نزل قبل الهجرة يسمى مكيا وكل ما نزل بعدها يعد مدنيا كما أشرنا إليه في المقدمة في بحث المكي والمدني. قال تعالى «وَإِنْ عاقَبْتُمْ» أحدا أيها الناس على فعل يستوجب العقوبة «فَعاقِبُوا» المسيء «بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ» منه أي كما فعل بكم افعلوا به بلا زيادة ولا نقص إن شئتم «وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ» على الإساءة وعفوتم عن المسيء «لَهُوَ» الصبر والصفح «خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» 126 عليه من المتشفي بالقصاص(4/261)
عند الله تعالى الذي يعظم الأجر للصابر، وعند الناس لما يطرونه من الثناء عليه في وجهه والمدح بغيابه بخلاف التقاصص، إذ لا يقال للمقتص إلا أنه أخذ حقه ولم يعف ولم يصفح ولم يقبل الرجاء بالعفو. هذا ولما مثل المشركون بقتلى أحد بقروا بطن حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وجدعوا انفه وقطعوا مذاكيره وأذانه وأخذت هند بنت عتبة أم معاوية قطعة من كبده ومضغتها لتأكلها تشفيا به فلم تقدر أن تسيغها فأخرجتها وأرسلتها، فتأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ذلك وقال رحمك الله رحمة واسعة ما كنت إلا فعالا للخيرات وصولا للرحم، ثم قال والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك فأنزل الله هذه الآية، فقال صلى الله عليه وسلم بل أصبر وأحتسب، وكفر عن يمينه. وإنما قلت تأثر صلى الله عليه وسلم لأنه بشر يعتريه ما يعتري البشر، وقد بكى على ابنه إبراهيم واغتاظ لابن بتمه، ورأى مرة النساء يبكين في جنازة وقد انتهرهن عمر رضي الله عنه فقال
عليه السلام دعهن يا عمر فإن النفس مصابة والعين دامعة والعهد قريب. هذا وسمى الفعل الأول عقوبة للمزاوجة في الكلام، يعني إن أساء إليكم أحد فقابلوه بإساءته مثلا بمثل، راجع الآية 39 فما بعدها من سورة الشورى المارة تجد ما يتعلق في هذا البحث مستوفيا. وقد أمر الله تعالى برعاية العدل والإنصاف في استيفاء الحقوق في القصاص، لأن الزيادة ظلم تأباه شريعة الله العادل. وما قيل إن هذه الآية منسوحة قول لا يلتفت إليه بل هي محكمة لأنها واردة في تعليم حسن الآداب وكمال الأخلاق والنصفة في استيفاء الحقوق وترك التعدي النهى عنه. ومثل هذه الأمور لا يدخلها النسخ أبدا. قال تعالى يا خاتم الرسل اعمل بهذا «وَاصْبِرْ» على ما أصابك من أذى قومك «وَما صَبْرُكَ» على ما يؤذيك ويحزنك «إِلَّا بِاللَّهِ» بتوفيقه ومعونته لك «وَلا تَحْزَنْ» على ما وقع على عمك فإن له فيها درجات في الجنة عند الله، وكذلك قومك لا تحزن «عَلَيْهِمْ» بسبب ما فعلوه فيه وعدم رعايتك وعن إعراضهم عنك ولا على قتلى أحد كلهم، فإنهم أفضوا إلى رحمة ربهم وعطفه ولا يضرهم ما مثله المشركون بهم لأنه مما يزيد في أجرهم «وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ» هو الشدة التي يتكمش لها الوجه ويكفهر وينقبض فيها الصدر ويضيق بسبب ما وقع(4/262)
من الغم والحزن فيه وقرىء بفتح الضاد وكسرها «مِمَّا يَمْكُرُونَ» 127 بك ويكيدون لك من الدسائس ويحيكونه لك من المصائد، فإنهم لن يصلوا إليك، وإني حافظك منهم، وناصرك عليهم. وفي هذه الآية رمز إلى استتباع أمته له في ذلك كله، لأن كل أمة تقتدي بإمامها وقد خوطب ابن عباس من قبل أحد معزّيه في هذا البيت:
اصبر نكن بك صابرين وإنما ... صبر الرعية عند صبر الراس
خير من العباس أجرك بعده ... والله خير منك للعباس
هذا على إنه يصح أن يقال فيه:
سأصبر حتى يعلم الناس أنني ... صبرت على شيء أمر من الصّبر
«إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا» السيئات واجتنبوا التعدي في القصاص وغيره وراقبوا ربهم في كل أمورهم مع خالقهم وخلقه «وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» 128 لأنفسهم ولغيرهم العافين عن الناس الكاظمين الغيظ ومن كان الله معه فهو آمن في الدنيا والآخرة، قال بعض الكمل: كمال الطريق الموصل إلى الله صدق مع الحق، وخلق مع الخلق، وكمال الإنسان ان يعرف الحق لذاته والخير ليعمل به، فإذا أردت أيها الإنسان العاقل أن يكون الله معك بالعون والفضل والرحمة فكن مع المتقين الصادقين المحسنين ومنهم، فهؤلاء الذين أمرنا الله بمخالطتهم، قال تعالى:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) الآية 152 من سورة التوبة في ج 3، وقال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) الآية 2 من العلاق في ج 3، وقال تعالى (مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الآية 92 من يوسف المارة. واعلم أن ترك الإساءة من الإحسان بل إحسان وزيادة، قيل ترك الإساءة إحسان وإجمال. هذا والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان أجمعين، وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.(4/263)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)
تفسير سورة نوح عدد 21- 71- 77
نزلت بمكة بعد سورة النحل، وهي ثمان وعشرون آية، ومثلها في الآي سورة التحريم فقط، ومئتان وأربع وعشرون كلمة، وتسعة وتسعون حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ» وقلنا له «أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 1 وهو الغرق العام في الدنيا والعذاب الفظيع في الآخرة وهو أخزى وآلم من عذاب الدنيا، وتقدم نسب سيدنا نوح مع قصته وقومه في الآية 37 من سورة هود المارة، «قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ» من الله «نَذِيرٌ مُبِينٌ» 2 لا أخفي عليكم شيئا مما أرسلني به إليكم وأول ما آمركم به هو «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ» 3 فيما أرشدكم إليه فإن فعلتم ما أنصح به إليكم «يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» السابقة التي بينكم وبينه، أما الحقوق التي بينكم فعليكم أن تؤدوها لمستحقيها، لأن الإيمان لا يسقطها، إلا أن تسامحوا بينكم، وإلا فتعاقبوا عليها وتؤاخذوا بها، ولهذا المغزى قال تعالى (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي بعضها ولم يقل ذنوبكم، لما فيه من الشمول بحقوق الناس، على أنه إذا شاء فإنه يرضي خصومكم ويتوب عليكم «وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده لم يطلع أحدا عليه ومن رحمته بكم أن أمهلكم ولم يجعل عقوبتكم كي ترجعوا إليه قبل حلوله «إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ» أبدا عن وقته، لأن العذاب والموت لهما أجلان عند الله لا ينزلهما بعباده إلا بانقضائهما «لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» 4 حقيقة ما أقوله لكم وعاقبته لسارعتم لما آمركم به ولقبلتموه نوا، ولكنكم لستم من أهل العلم لتفقهوا نفع ما جئتكم به، ولا يقال كيف يقول يؤخركم، ثم قال إذا جاء لا يؤخر، لأن الله تعالى قضى في سابق علمه أن قوم نوح إذا آمنوا يعمرون ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكوا قبل ذلك، فقال لهم رسولهم آمنوا يؤخركم إلى وقت سماه لكم تنتهون إليه، وهو الأطول، ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت الأقل(4/264)
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
لأنه بني على سبب وهو معلق على وجوده، وذلك مبرم، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية الثانية من سورة الأنعام المارة فراجعه. ولا شك أنهم لو أطاعوه لعمرهم الله كما عمر أهل السفينة الذي يشير إليه قوله (يؤخركم) ولكنهم لمّا أصروا على كفرهم عجل لهم العذاب «قالَ» نوح عليه السلام على طريق الاعتذار والتقدم بأنه قام بواجبه لحضرة ربه أمام قومه بعد أن رأى نفرتهم عن الإيمان وعدم قبولهم النصح، صار يشكوهم إلى ربه «رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً» 5 دائما مستمرا دائبا في دعوتهم إليك «فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً» 6 مني وإدبارا عني ونفارا من الإيمان بك «وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ» منذ أمرتني حتى الآن «لِتَغْفِرَ لَهُمْ» ذنوبهم في المدة التي أمهلتهم بها «جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ» لئلا يسمعوا دعوتي وتذكيري بك «وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ» لئلا يروني «وَأَصَرُّوا» على كفرهم «وَاسْتَكْبَرُوا» عن الإيمان وأنفوا من الطاعة «اسْتِكْباراً» 7 تعاظما وتطاولا علي وهوانا بي واستخفافا بما جئتهم به من لدنك، حتى انهم كرهوا رؤيتي «ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً» 8 بأعلى صوتي في محافلهم وطرقهم ومجتمعاتهم وحدانا وجماعة «ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ» بدعوتي هذه على ملأ منهم «وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً» 8 فيما بيني وبينهم إذ لم أترك طريقا من طرق الإرشاد والنصح إلا سلكته معهم ودعوتهم به «فَقُلْتُ» في تلك الحالات كلها «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» من كفركم ومن ظلم بعضكم «إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً» 10 عظيم المغفرة كبير العفو لا يؤاخذ على ما سبق، لأن الإيمان به يجبّ ما قبله فإن أجبتم فإنه بمحض كرمه وفيض جوده
«يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً» 11 كثيرا يزيل ما حلّ بكم من الجدب، ومفعال يستوي فيه المذكر والمؤنث، وذلك أنه حبس عنهم الغيث وأعقم أرحام نسائهم مدة أربعين سنة لعدم إجابتهم دعوة نبيهم، ولهذا قال لهم ذلك بإلهام من الله تعالى وثقة به أن يفعل لهم ما يقوله، والمراد بالسماء السحاب أو المطر، قال الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
وقال لهم أيضا «وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ(4/265)
وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً»
12 فيها بأن يعطيكم من الخيرات أكثر مما كنتم عليه قبلا، وقال لهم هذا ليحركهم على الإيمان ويرغبهم بما يحدث عنه، لأنهم كانوا يحبون الأموال والأولاد فأتاهم من حيث تميل إليه نفوسهم وطبعهم، روي عن الربيع بن صبيح أن رجلا أتى الحسن البصري (واعلم أنه كلما أطلق لفظ الحسن فقط فالمراد به هذا) فشكا إليه الجدب، فقال استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، فقال استغفر الله، وشكا إليه آخر قلة النسل فقال استغفر الله، وشكا له آخر قلة ربيع أرضه فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له الربيع أتاك رجال يشكون أمورا متباينة فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فيكون دواء واحد لعلل مختلفة، فقال ما قلت من نفسي إنما اعتبرت قول الله عز وجل حكاية عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه استغفروا ربكم) الآية. ولما رآهم عليه السلام لا يلتفتون إليه ولا يصغون لهديه هددهم بما حكاه الله عنه بقوله «ما لَكُمْ» يا قوم أي شيء جرى لكم وما شأنكم ولم «لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً» 13 فلا تعتقدون عظمته ولا تقدرون هيبته؟ والوقار معنى السكون والحلم، وجاء هنا بمعنى العظمة والجبروت، لأنه يتسبب عنها في الأغلب، وعليه يكون المعنى لماذا لا تأملون لله تعظيما موجبا للإيمان به والطاعة إليه، ومن قال إن رجا بمعنى خاف واستدل بقول الهذلي: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها، غير سديد، لأن الرجاء ضد الخوف في اللغة المتواترة الظاهرة والقول به يوجب ترجيح رواية الآحاد على التواتر، وهو غير جائز لإمكان التوسع بالألفاظ وجعل المثبت منفيا وبالعكس، وهذه الطريقة لا تسلك في الألفاظ القرآنية قطعا.
مطلب أطوار الإنسان رباني عبدة الأوثان وعذاب القبر:
قال تعالى «وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً» 14 من حيث الجنسية كالطير في الضعف والاحتياج عند خروجه من البيضة فلا أضعف ولا أخرج للمداراة منه، وفي الصفة في كمال الخلق، فمنكم العالم والجاهل، والجليل والحقير، والغني والفقير، والكريم والبخيل، والسهل والصعب، والمريض والصحيح، وفي الكيفية في الصور من تمام الخلقة وناقصها، وحسن الخلق وسيئه، وحسن الخلق وقبحه، والدميم والقبيح، وفي ابتداء خلقكم أيضا طورا بعد طور، وتارة بعد تارة، وكرة بعد كرة بصورة(4/266)
تدريجية، من النطفة إلى علقة، إلى مضغة، إلى لحم وعظام، إلى قوام بديع، وبعد تمام خلقكم جعلكم أصنافا مختلفين أيضا في اللون والشكل واللغة والطبع، راجع الآيتين 64/ 67 من سورة المؤمن المارة، والأطوار هي الأحوال المختلفة قال:
فإن أفاق فقد طارت عمايته ... والمرء يخلق طورا بعد أطوار
وفي نقصانه أيضا ضعف في القوى والجوارح إلى أضعف تدريجا إلى حالة الهرم والخرف، فسبحان المبدئ المعيد الفعال لما يريد القائل «أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً» 15 بعضها فوق بعض «وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً» يضيء ليلا «وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً» 16 تضيء نهارا، وإنما سمى الأول نورا والآخر سراجا، لأن نور القمر منعكس عليه من الشمس لاختلاف تشكلاته بالقرب والبعد عنها مع خسوفه بحيلولة الأرض بينه وبينها ونور الشمس، لا بطريق الانعكاس من كوكب آخر، والله أعلم، راجع الآية 9 من سورة القيامة في ج 1 وما ترشدك إليه تجد ما يتعلق بالكسوف والخسوف. «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» 17 بدأ خلق أصلكم آدم عليه السلام من الأرض والناس كلهم من صلبه ولم يأت المصدر من لفظ الفعل ليكون المعنى أنبتكم فنبتم نباتا عجيبا كما هو مشاهد لكم، لأن الإنبات من لفظ الفعل من صفات لله تعالى وصفاته غير محسوسه لنا، فلا نعرف أن ذلك الإنبات إنبات عجيب إلا بإخبار الله تعالى، وهذا المقام مقام الاستدلال على كمال قدرة الله تعالى «ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً» 18 بديعا للحشر والحساب، أي يحييكم بعد إماتتكم بصورة لا يعرفها البشر، لأن الإحياء والإماتة من خصائصه جل شأنه، ثم طفق يعدد عليهم بعض نعمه فقال «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً» 19 لتمكنوا من التقلب فيها كيفما شئتم، وهذه الآية أيضا لا تنافي كروية الأرض لأنها مبسوطة بالنسبة لما نراه منها، وقد تكون بخلافه، وبسبب عظمها لا تظهر كرويتها للناظرين إلا بأدلة، ثم بين علّة البسط فقال «لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا» طرقا «فِجاجاً» 20 واسعة وضيقة ومختلفة، والطرق تكون في السهل والجبل، والفجاج في الجبل فقط، وبعد أن ذكرهم بذلك كله وعدد عليهم نعم ربه وخوفهم عقابه، علم بإعلام الله إياه عدم إيمانهم، راجع(4/267)
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
الاية 36 من سورة هود المارة
«قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا» سفلتهم وفقراءهم «مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً» 21 في الآخرة يعني رؤساءهم وأغنياءهم لأن مالهم وولدهم وإن كانا من جملة المنافع في الدنيا إلا أنهما بسبب الكفر صارا سببا للخسارة في الآخرة، وقرىء وولده بضم الواو لغة بالولد بفتحها ويجوز أن يكون جمعا كالفلك فيصدق على الواحد والمتعدّد، ثم شرع يعدد سيئاتهم فقال «وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً» 22 مبالغة كبير يقرأ بالتخفيف والتشديد، وذلك لأنهم صدّوا الناس عن اتباعه بشتى الوسائل وسلطوا عليه السفهاء والعيد «وَقالُوا» رؤساؤهم وقادتهم لأتباعهم وسوقتهم وفقرائهم وسفلتهم «لا تَذَرُنَّ» لا تتركوا «آلِهَتَكُمْ» وداوموا على عبادتها، ثم أكدوا النهي وصرحوا بأسمائها فقالوا «وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً» 23 كما يقول لكم نوح، فهذه هي آهتكم فتمكوا بها ولا تنظروا إلى ما يقوله لكم، أفردوا هذه الأصنام الخمسة بالذكر مع أنها داخلة في آلهتهم، لأنها عندهم أعظمها، قالوا كانت ودّ بصورة رجل، وسواع بصورة أنثى، ويغوث بصورة أسد، ويعوق بصورة فرس، ونسر بصورة نسر، وكان لكل منها خدم وحشم وجماعة يعظمونها ويرجونها ويخافونها، ومنهم انتقلت عبادة الأوثان لما بعدهم من الخلق. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صارت هذه الأوثان التي كانت تعبد قوم نوح في العرب تعبد، أما ود فكانت لكلب دومة الجندل، وسواع فكانت لهذيل، ويغوث لمراد، ثم صارت لبني غطيف بالجرف عند سبأ، ويعوق لهمدان، ونسر لحمير لآل ذي الكلاع، وهذه غير اللات التي كانت تعبدها ثقيف، والعزّى لسليم، وغطفان وجشم ومناة لخزاعة بقديد، وأساف ونائلة وهبل لأهل مكة، ولذلك سمت العرب أنفسها بعبد يغوث وعبد ودّ وعبد العزّى وغير ذلك (وكبّارا) لغة أهل اليمن، قال قائلهم:
والمرء يلحقه بفتيان الندى ... خلق الكريم وليس بالوضّاء
وقال الآخر:
بيضاء تصطاد القلوب وتسمّي ... بالحسن قلب المسلم القرّاء(4/268)
بتشديد الضاء في الأول والراء في الثاني، قال نوح عليه السلام «وَقَدْ أَضَلُّوا» كبراؤهم «كَثِيراً» من الناس «وَلا تَزِدِ» هذه الأصنام «الظَّالِمِينَ» أنفسهم بعبادتها «إِلَّا ضَلالًا» 24 فوق ضلالهم «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ» العظيمة «أُغْرِقُوا» بسببها «فَأُدْخِلُوا ناراً» عقب إغراقهم بلا فاصلة بدليل العطف بالفاء، وهذه الآية تدل على عذاب القبر قبل البعث ويبعد حمله على عذاب الآخرة لإبطال دلالة الفاء، ولوجوب تفسير ادخلوا بفعل الاستقبال الصرف إلى سيدخلون وهو خلاف الظاهر، وتدل أيضا على أن من مات غرقا أو حرقا أو أكلته السباع أو الطير أو الحوت مثلا، أصابه ما أصاب المقبور من عذاب القبر، قال الضحاك:
كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من آخر، وأنشد ابن الأنباري:
الخلق مجتمع طورا ومفترق ... والحادثات فنون ذات أطوار
لا تعجبن لأضداد إذا اجتمعت ... فالله يجمع بين الماء والنار
«فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً» 25 يخلصونهم من الغرق لا من قادتهم ولا من أوثانهم، وفي الآية تعريض بتفنيد زعمهم بأن آلهتهم تنصرهم وتهكم في اعتقادهم بها وتوبيخ لهم لأن أصنامهم وزعماءهم أغرقوا معهم. وقدمنا ما يتعلق بعذاب القبر في الآية 46 من سورة المؤمن وله صلة في الآية 27 من سورة إبراهيم الآتية.
وبعد أن عدد مساوئهم وتحقق إياسه منهم وقد توغر صدره عليه السلام طيلة عشرة قرون تقريبا وهو يدعوهم إلى الإيمان بالله وترك لأوثان ولم يصغوا له وأصروا على تكذيبهم له وازدادت إهانتهم له، دعا عليهم كما ذكر الله «وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» 26 يدور عليها أو يسكن فيها، وهذه الكلمة لا تستعمل إلا بالنفي العام ولم تكرر في القرآن، يقال ما بالدار ديار أو ديّور، أي ما بها أحد، وأصله ديوارا اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في مثلها. وإشراك غير قومه بالدعاء يثبت عموم بعثته عليه السلام من حيث آخرها كما أشرنا إليه في الآية 73 من سورة يونس المارة، واستدل بعضهم في هذه الآية على عموم الطوفان، على أن لفظ الأرض يطلق على قطعة منها، قال تعالى (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) الآية 103(4/269)
من سورة الإسراء ج 1، إذ المراد بها أرض مصر فقط، وقال تعالى (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ) الآية 71 منها، والمراد بها مكة، لأنه لا قدرة لهم على غيرها، كما أن سلطان مصر لا حكم له على غيرها لقوله تعالى (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الآية 25 من القصص في ج 1 أيضا، إذ لو كان لسلطان مصر سلطان على أرض مدين التي فيها شعيب لما قال هذا الكلام لموسى وفي هذه الآية دليل أيضا على أن البلاء يعم لأن الله تعالى أغرق معهم أطفالهم وحيواناتهم، قال تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الآية 25 من الأنفال في ج 3، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 44 من سورة يونس فراجعه. ثم بين السبب في طلب إهلاكهم جميعا بقوله «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ» يا سيدي على ما هم عليه من الكفر «يُضِلُّوا عِبادَكَ» بسوقهم إلى الضلال، قال ابن عباس:
كان الرجل منهم يأخذ ابنه إلى نوح عليه السلام ويحدره من اتباعه ويقول له إن أبي حذرني اتباعه وها أبي أحذرك منه فاحذره، فأوص ولدك من بعدك بعدم اتباعه، ولهذا قال عليه السلام «وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» 27 عريقا في الكفر، إذ تلقاه عن أبيه كما تلقاه أبوه عن جده، ولشدة إصراره عليه بوصي به ولده من بعده. ثم انه عليه السلام لما رأى دعوته هذه قد أجيبت بإلهام من الله تعالى له وظن أن ذلك ناشىء من عدم قيامه بالدعوة الإلهية كما ينبغي من إدمان الصبر وتحمل الأذى استغفر ربه عز وجل وقال «رَبِّ اغْفِرْ لِي» ما وقع مني من التقصير في خدمتك ودعوة عبادك واستعجالي عليهم بالدعاء، وهذا على الاحتمال وهضما للنفس، وإلا فهو عليه السلام مبرا من التقصير وحاشاه أن يوصف بالاستعجال بعد صبره عليهم ألف سنة تقريبا، ولكن الأنبياء يخافون ربهم بقدر قربهم منه، والعبد كلما قرب من ربه عظمت هيبته في صدره وازداد خوفا منه وبدأ بطلب المغفرة لنفسه أولا، لأنها أولى بالتقديم، وهكذا كان محمدا صلى الله عليه وسلم يبدأ بنفسه بالدعاء ثم يثني بالمتصلين به لأنهم أحق من غيرهم، فقال «وَلِوالِدَيَّ» أبيه لمك بن متوشلح وأمه شمناء بنت انوش، قالوا وكان بينه وبين آدم عليه السلام عشرة آباء كلهم مؤمنون، ثم عمم بدعائه فقال «وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً» قيد بالمؤمن(4/270)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
لإخراج الكافر لأنهم من جملة من دخلوا بيته «وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» عامة فتشتمل دعوته هذه كل مؤمن ومؤمنة من آدم إلى آخر الدوران «وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً» 28 هلاكا ودمارا وخرابا، فاستجاب الله تعالى دعاءه فأغرقهم جميعا على الصورة المارة في قصته في سورة هود المذكورة، أما وقد أجاب الله دعاءه بإهلاك قومه ومن على أرضه في زمنه، فهو أكرم من أن لا يجيب دعاءه بالمغفرة له وللمؤمنين قبله وبعده بمنه وكرمه وعسى أن تكون ممن شملته دعوته بالمغفرة لعموم لفظها بلطفه وعطفه ومنّه. ولا توجد سورة مختومة بما ختمت به، ولم تكرر في القرآن أيضا، ومثل ما بدئت به مر في سورة القدر في ج 1.
هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، آمين.
تفسير سورة ابراهيم عدد 22- 72- 14
نزلت بمكة بعد سورة نوح، عدا الآيتين 28/ 29 فإنهما نزلنا في المدينة، وهي اثنتان وخمسون آية، وثمنمئة وإحدى وستون كلمة، وثلاثة آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفا، ومثلها في عدد الآي الحافة ونون.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «الر» تقدم ما فيه أول سورة يونس لمارة، هذا القرآن العظيم المدون في أنزلنا «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «لِتُخْرِجَ النَّاسَ» بهديه وإرشاده «مِنَ الظُّلُماتِ» الكفر والطغيان والجهالة «إِلَى النُّورِ» الإيمان والطاعة والعلم، تشير هذه الآية إلى أن طرق الإضلال كثيرة، لأنه جمع لفظ الظلمات الداخل فيه جميع أنواعها، وأفرد لفظ النور لأن طريق الإيمان واحد، وهكذا في جميع ما ورد في كتاب الله تعالى يكون النور مفردا والظلمات جمعا، وإنما شبه الكفر بالظلمات لأنها نهاية ما يتحيّر فيها الرجل من طرق الهدى، وشبه الإيمان بالنور لأنه غاية ما ينجلي به طريق الهداية، وهذا الإخراج «بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» وأمره وتوفيقه وتسهيله وتيسيره «إِلى صِراطِ(4/271)
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ»
1 الذي أمر عباده بسلوكه ويجوز في اللفظ العظيم الآتي الجر على أنه صفة لما قبله والرفع على الابتداء «اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا «وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ» به التاركين عبادته «مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ» 2 في الآخرة لا تطيقه أجسامهم، ووصف الكافرين بأنهم «الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ» وآثروها عليها طوعا واختيارا ورضاء «وَيَصُدُّونَ» الناس مع ذلك «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» فيمنعونهم من سلوكها «وَيَبْغُونَها» الطريق الموصلة إلى الله المؤدية لدينه القويم المسببة لدخول الجنة «عِوَجاً» ميلا وزيغا حائدين عن القصد السوي، راجع الآية الأولى من سورة الكهف المارة «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم كانوا «فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ»
3 عن الصواب ناء عن الحق في هذه الدنيا ويوم القيامة في أشد العذاب إذا لم يتوبوا ويرجعوا، قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ» يتكلم بلغتهم، وقرىء بلسن على الجمع، ثم بين العلة في ذلك بقوله «لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» ما يفعلون ويذرون فيفهمهم ويفهموا عنه، ولا يفهم من هذه الآية كون محمدا عربيا وقد أرسل للعرب خاصة لأنه لا يعرف لغة الآخرين ممن على وجه الأرض، لأن الله تعالى آذنه بإرسال رسل من قبله إلى الأطراف يترجمون لهم بألسنتهم ما يتعلق بالإيمان والإسلام، لأن القرآن العظيم أثبت عموم رسالته بالآية 158 من الأعراف المارة في ج 1، لأن لفظ الناس يدخل فيه العربي والأعجمي، فضلا عن الناس كلهم تبعا للعرب، لأن القرآن جاء بلغتهم ليجتمعوا عليه والاجتماع خير من التفرقة، وجاء في تفسير أبو السعود والرازي أن الله تعالى أنزل الكتب كلها عربية ثم ترجمها السيد جبريل على الأنبياء بلغة أقوامهم ليفهموها. هذا وإذا كان الكتاب واحدا بلغة واحدة مع اختلاف الأمم وتباين اللغات كان ذلك أبلغ في اجتهاد المجتهدين في تعليم معانيه وتفهيم فوائده وغوامضه وأسراره وحدوده وأحكامه. وقد ألمعنا إلى عموم الرسالة في الآية 28 من سورة سبأ المارة فراجعها وما ترشدك إليه. وبعد بيان الرسول للمرسل إليهم ذلك «فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ» ممن آثر الضلالة على الهدى «وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» ممن فضّل الهدى على الضلال تبعا لما هو مخلوق(4/272)
له أزلا «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب على أمره الذي لا يكون في ملكه إلا ما يريد «الْحَكِيمُ» فيمن يضل ويهدي بحسب معدنه وجبلته «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا» التسع المار ذكرها في الآية 129 من الأعراف في ج 1، وقلنا له «أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ» بني إسرائيل من بين القبط وأنقذهم «مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» مر تفسيرها آنفا «وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ» التي أوقعها على الأمم السابقة بعد ما ابتلاهم بنعمه وأظهروا للناس كفرها، والمراد من الأيام هنا الوقائع لأن العرب يعبرون عن الحوادث بأيام فيقولون يوم الفجار وذي قار ويوم قضّه وغيرها، قال عمرو بن كلثوم:
وأيام لنا غور طوال ... عصينا الملك فيها ان ندينا
ونظير هذه الآية بالمعنى الآية 14 من سورة الجاثية المارة، «إِنَّ فِي ذلِكَ» التذكير بالوقائع الكائنة على الأمم السالفة «لَآياتٍ» عبر وعظات «لِكُلِّ صَبَّارٍ» على البلاء وعلى الجور والأذى «شَكُورٍ» 5 لنعم الله وعطائه وهما صفة خيرة الخلق من المؤمنين لأن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ» أي اذكر يا خاتم الرسل ما قاله أخوك موسى لبني إسرائيل إذ يعدد نعمه عليهم لتقصها على قومك ومقول القول «اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ» عذا بعد أن خلصهم من رق الفراعنة الملمع إليه في الآية 127 من الأعراف فما بعدها في ج 1، وبعد أن أراهم آيات ربهم في إغراق عدوهم ونجاتهم بآن واحد والآيات التي بعدها كالمن والسلوى والإظلال بالغمام وتفجير الماء وقد كانوا فرعون وآله «يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ» يبغونكم باشده وأشنعه «وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ» يسترقونهم ويستخدمونهم «وَفِي ذلِكُمْ» الحال الذي أجروه معكم «بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» 6 لا أعظم منه، لأن قتل الذكور وإبقاء النسوة للاسترقاق غاية في الذل ونهاية في العار، وقيل في المعنى:
ومن أعظم الرزء فيما أرى ... بقاء البنات وموت البنينا
وهذه الواو التي في ويذبحون يسميها القراء الواو الكبيرة، إذ مر قبلها في(4/273)
الآية 141 من سورة الأعراف ج 1 ويأتي بعدها في الآية 29 من البقرة في ج 3 بلا واو «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ» أعلم ووعد وأوعد «لَئِنْ شَكَرْتُمْ» نعمه التي من جملتها خلاصكم من رق القبط والغرق «لَأَزِيدَنَّكُمْ» نعما فأجعل منكم ملوكا وأنبياء راجع الآية 23 من المائدة في ج 3، «وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ» تلك النعم وجحدتموها «إِنَّ عَذابِي» لمن يكفرها «لَشَدِيدٌ» 7 أشد من عذاب استرقاق القبط وإماتة الرجال وإبقاء النساء منكم «وَقالَ مُوسى» لبني إسرائيل «إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» فضره يعود عليكم وعليهم في الدنيا والآخرة والله لا يعبا بكم «فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ» عن جميع خلقه لا حاجة له في شكرهم «حَمِيدٌ» 8 بذاته وإن لم يحمده خلقه ثم ذكرهم بمن قبلهم فقال «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ» كقوم إبراهيم وموسى وشعيب وغيرهم «لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ» لعدم إحاطة علم البشر بهم لكثرتهم ولأن الله لم يبينهم لنا، قال تعالى (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ) الآية 79 من الفرقان المارة في ج 1 ونظيرتها الآية 79 من سورة المؤمن المارة، ولهذا قال ابن مسعود كذب النسّابون الذين يدعون معرفة الأنساب إلى آدم، والله تعالى نفى معرفة العلم بذلك عن عباده، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم فيمن ينتسب لآدم عليه السلام وفيمن ينتسب من عدنان إلى إسماعيل عليه السلام كذب النسّابون، لأن الله تعالى لم يبين القرون ما بين النّبيين.
مطلب النهي عن الانتساب لما بعد عدنان ومحاورة الكفرة وسؤال الملكين في القبر:
وهذه الآية التي نحن بصددها كافية لسد باب الانتساب إلى ما بعد عدنان لأن الذي لا يعلمه إلا الله يعجز عنه البشر، لذلك يجب علينا أن نحجم عن الانتساب إلى ما بعد عدنان، ولهذا البحث صلة في الآية 111 من سورة المؤمنين الآتية.
قال تعالى «جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» على صدقهم وما جاؤهم به من عند ربهم «فَرَدُّوا» أي الكفرة من أولئك الأمم «أَيْدِيَهُمْ» أوصلوها وأخذوها(4/274)
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
«فِي أَفْواهِهِمْ» أي الرسل لئلا يتكلموا بما أرسلوا به، أو إلى أفواه أنفسهم إشارة لعدم رغبتهم بما يقولون لهم، وهذا كناية عن إسكاتهم تكذيبا لهم، وكثيرا ما يقع هذا بين المخاطبين الآن من أهل القرى والبوادي، إذا لم يرد المخاطب أن يسمع كلام المخاطب فإنه يشير إليه بيده ويضعها على فم نفسه كأنه يقول له ردّ قولك إلى فيك ولا تنطق بما تريد لأني لا أصدقه، وقد يقوم إليه ويضع يده على فيه إذا كان لا يهابه، يدل على هذا المعنى قوله تعالى «وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ» فلا حاجة لبيان «وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ» من الإيمان والتوحيد والبعث «مُرِيبٍ» 9 موقع في التهمة إن لم نجزم جحود ما جئتم به، والريبة قلق وعدم طمأنينة بالأمر، لذلك فلا نميل لأمر نحن في شك منه.
وقيل إنهم أخذوا أيديهم فعضوها بأفواههم تعجبا أو غيظا، وهذا لا يوافق النظم ويأباه السياق «قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي» وجود «اللَّهِ شَكٌّ» استفهام إنكاري، أي أتنكرون وجود الإله «فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وخالق ما فيهما وبينهما الذي «يَدْعُوكُمْ» للإيمان به والتصديق برسله «لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» إذا أجبتم دعوته وصدقتم رسله، والمراد من لفظ من هنا وفي مثلها غفران الذنوب التي هي حق الله فقط، أما حقوق العباد فلا تغفر إلا بإسقاطها من قبل أهلها أو بمشيئه الله القادر على إرضاء خصومهم، راجع الآية الثانية من سورة نوح المارة «وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده لا يقدم ولا يؤخر ولا يبدل، وانه قدّر لكم آجالا تبلغونها إن أنتم آمنتم وصدقتم وآجالا دونها إن أصررتم على كفركم عقوبة لكم، راجع الآية 12 من سورة نوح المارة «قالُوا» لرسلهم «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» ولستم بآلهة ولا ملائكة حتى نتبعكم أ «تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا» من الآلهة «فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» 10 يميّزكم عنا ويثبت أن آلهتنا باطلة وأنكم على الحق
«قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» لسنا بآلهة ولا ملائكة كما ذكرتم «وَلكِنَّ اللَّهَ» الذي خلق ورزق وأحيا وأمات الذي منّ عليكم بالعقل والسمع والبصر والأمن والعافية والولد والجاه والرياسة «يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ»(4/275)
برسالته إلى إرشاد خلقه لدينه رحمة بهم، ولئلا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير «وَما كانَ لَنا» بصفتنا رسل الله «أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ» قوة وبرهان ومعجزة نقسركم بها على اتباعنا والإيمان بنا «إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» لأنا عاجزون مثلكم، ولولا ما خصنا الله به من الوحي لما فضلناكم بشيء، ولولا أن يرسلنا إليكم لما دعوناكم إلى شيء «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» 11 أمثالنا على أن يقدرنا لمجابهة عنادكم وعدائكم «وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ» نحن معاشر الأنبياء، يراجع نظير هذه الآية في المعنى الآية 22 من سورة يس في ج 1، «وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا» التي نسلكها في أمور ديننا الموصل لرضاء الله.
واعلموا أيها الناس أننا عبيد الله ورسله إليكم وقد أمرنا بإنذاركم وإقلاعكم عما أنتم عليه من الكفر وما علينا إلا نصحكم وسنثابر عليه ولو لم تصغوا إلينا «وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا» به من التكذيب والإهانة والاستخفاف، لأنه في سبيل تنفيذنا أمر الله بدعوتكم إلى دينه القويم المؤدي إلى جنات النعيم لا إلى شيء يعود علينا بالنفع المادي ونستمد المعونة منه على ما نريده من إرشادكم «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» 12 أمثالنا فيما هم سائرون فيه. واعلم أن التوكل في الآية الأولى بقصد إحداثه وفي هذه بقصد التثبت عليه، فلا يعد تكرارا «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ» لما رأوهم مثابرين على دعوتهم إلى دينهم دين الله الواحد وأنهم أقسموا على الصبر فيما يلاقونه من أذى في سبيل دعوتهم «لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا» بلادنا وقرانا «أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» كما كنتم قبل ادعائكم النبوة والرسالة، وذلك أنهم كانوا قبل لم يأمروهم بتركها ولم يخالفوهم في شيء مما هم عليه، وإلا فهم نشأوا على التوحيد من حين فصالهم كسائر الأنبياء، وكانوا قبل أمرهم بالدعوة كأنهم منهم «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ» 13 الذين كذبوكم وأمروكم بالعودة إلى دينهم. ونظير هذه الآية الآية 88 من سورة الأعراف المارة في ج 1، «وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ» التي يريدون إخراجكم منها «مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ» الوعيد بإهلاكهم والوعد بإحلالكم محلّهم حق ثابت «لِمَنْ خافَ مَقامِي» الوقوف بين يدي في الآخرة «وَخافَ وَعِيدِ» 14 بالعذاب(4/276)
«وَاسْتَفْتَحُوا» استنصروا أي طلبوا النصر من الله على أعدائهم لما رأوا إصرارهم على الكفر وعلى أذاهم، وقد جرت عادة الله تعالى بنصرة أوليائه عند الضيق بمقتضى عهده المار ذكره في الآية 172 من الصافات والآية 110 من سورة يوسف المارتين فنصروا حالا «وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» 15 لا يميل إلى الحق لتعاظمه في نفسه وخسر، وهذه الآية على حد قوله تعالى (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) الآية 19 من الأنفال والآية 88 من سورة التوبة في ج 3، وقال تعالى (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) الآية 110 من سورة يوسف المارة وجزاء هذا المخالف لرسوله «مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ» يعذب فيها في الآخرة لأنه قادم عليها غير العذاب الذي حل به في الدنيا وقال (من ورائه) لأنها تكون بعد موته لا مناص له منها فهو واردها حتما، قال:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب
وتأتي وراء بمعنى قدام على أنها من الأضداد والمشتركات اللفظية أو المعنوية، فتكون بمعنى القدام والخلف وعلى هذا قوله:
أليس ورائي ان تراخت منيتي ... لزوم العصا تحفى عليها الأصابع
وقوله:
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقوم تميم والغلاة ورائيا
وقول الآخر:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
«وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ» 16 عطف بيان لأن الماء مبهم ففسره بالصديد وهو القيح الذي يسيل من جلود المعذبين فيها «يَتَجَرَّعُهُ» يتكلف بلعه مرة أخرى لشدة العطش واستيلاء الحرارة «وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ» بسهولة بل يغص به لنتنه وكراهيته فيشربه بعد اللّتيا والتي على كره وقسر «وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ» من أطراف جسده حتى من شعره وظفره «وَما هُوَ بِمَيِّتٍ» إذ لا موت فيها «وَمِنْ وَرائِهِ» أي شراب الصديد «عَذابٌ غَلِيظٌ» 17 أشد وأزهق للنفس مما كان فيه من أمامه وخلفه، قال تعالى «مَثَلُ الَّذِينَ(4/277)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ»
المثل يستعار للصفة التي فيها غرابة راجع الآية 112 من سورة النحل المارة، وبيّن ذلك المثل بقوله عز قوله «أَعْمالُهُمْ» التي عملوها في الدنيا من إقراء ضيف أو إغاثة ملهوف أو صلة رحم أو عتق رقبة أو فك الأسير أو غيرها «كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ» فطيّرته ولم تبق له أثرا، هكذا يمثله الله لهم يوم القيامة لتزداد حسرتهم فتراهم «لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ» منها من الثواب لأنها وقعت منهم حال الكفر إذ يشترط لثواب الأعمال أن تكون مع الإيمان بالله وعدم الشرك به «ذلِكَ» حرمانهم من ثواب أعمالهم الطيبة «هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» 18 عن طريق الصواب والخسران الكبير عن حسن المآب، وشبه هذه الآية، الآية 29 من سورة النور في ج 3، قال تعالى «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» لأمر عظيم لا عبثا ولا باطلا «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ» أيها الناس من بينهما فيخسف بكم الأرض أو يطيركم بالهواء فيجعلكم هباء «وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ» 19 غيركم أطوع منكم إليه وأكثر عبادة «وَما ذلِكَ» إذهابكم والإتيان بغيركم «عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» 20 لا ممتنع ولا متعذر لأن القادر لا يصعب عليه شيء فالذي خلق السموات والأرض لا شك قادر على إبادتهما ومن فيهما وإيجاد غيرهم، وهذه الآية مكررة في سورة فاطر ج 1، والأنعام المارة والنساء ج 3، وغيرها ولكن لمناسبة أخرى.
قال تعالى «وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً» من قبورهم بعد النفخة الثانية وسيقوا إلى المحشر وبعد إجراء الحساب ومقابلة العابدين لمعبوديهم من البشر وغيره وعند إجراء المحاورة بينهم «فَقالَ الضُّعَفاءُ» العابدون والأتباع الذين غلبوا على أمرهم في الدنيا لما رأو العذاب «لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا» عليهم في الدنيا من الرؤساء والأغنياء الذين ساقوهم لعبادة غير الله «إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً» في الدنيا مسيرين في خدمتكم وأمركم «فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا» اليوم فتكفونا وتدفعوا عنا وتمنعونا «مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» فترفعونه عنا كما كنتم تعدونا بذلك في الدنيا «قالُوا» لهم لا لأنه «لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ» إلى الإيمان الذي كنا نؤمر به ولا نسمعه، ولكن ضللنا فأضللناكم «سَواءٌ عَلَيْنا» نحن وأنتم في(4/278)
في العذاب سواسية «أَجَزِعْنا» منه «أَمْ صَبَرْنا» عليه «ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ» 21 عنه فلا نجاء ولا مهرب ولا محيد ولا مخلص، من خاص إذا عدل لجهة الفرار، راجع الآية 10 من سورة القيامة المارة في ج 1، ثم ان الفريقين ألقوا اللوم على الشيطان فاستحضره الحق جل وعلا وذكر لنا ما جابههم به وهو «وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ» بين الناس وعرف كل مصيره وصار أهل الجنة للجنة يحمدون الله تعالى على ما صاروا إليه بسبب اتباعهم أوامر ربهم وأهل النار للنار يلومون إبليس ويوبخونه على إغرائه لهم في الدنيا، فيقول لهم «إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ» الناجز فلم تصدقوه «وَوَعَدْتُكُمْ» خداعا بكم وإغواء لكم وعدا كذبا «فَأَخْلَفْتُكُمْ» لأنه لا حقيقة له ولا قدرة لي على إنجازه «وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ» أقهركم به على اتباعي «إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ» دعوة عادية بما أوقعته في قلوبكم من الوسوسة لا بسيفي ولا برمحي ولا بأية معجزة «فَاسْتَجَبْتُمْ لِي» طوعا ورغبة واختيارا عفوا من أنفسكم وتبعا لشهواتكم الخسيسة التي منبتكم بها قولا. والأماني كالآمال لا وثوق بها ولا بوقوعها «فَلا تَلُومُونِي» الآن على ما كنتم به راضين قبلا «وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ» على عدم إصغائكم لدعوة الرسل المؤيدة بالبراهين والآيات وعدم اتعاظكم بمعجزاتهم وركونكم لنصحهم وإرشادهم الحق، فاقطعوا أملكم «ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ» ولا مغيثكم ومنقذكم من العذاب الآن وإن ما وعدتكم به في الدنيا كله زور وبهت لا صحة لشيء منه وإني عاجز الآن عن كل شيء مثلكم «وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ» مما أنا فيه من العذاب «إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ» في عبادة الله حال الدنيا إذ لا يعبد غيره إلا ظالم «إِنَّ الظَّالِمِينَ» أمثالنا في الدنيا «لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 22 في الآخرة وها قد وقعنا به.
هذا آخر قول المغوي للغوات فاعتبروا يا أولي الأبصار واتعظوا يا أولي الألباب من الآن قبل أن يحلّ بكم ما قصه الله علينا، وقد تكررت بين العابدين والمعبودين المحاورة في القرآن كثيرا لمناسبات، ومعان أخرى لا تغني عن بعضها، راجع سورة سبأ المارة وفاطر والأعراف في ج 1 والبقرة والأنفال في ج 3 وغيرها، قال تعالى(4/279)
«وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ» 23 فيما بينهم أنفسهم، وبينهم وبين الملائكة، وبينهم وبين ربهم «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا» وصفه بكونه «كَلِمَةً طَيِّبَةً» هي كلمة الإيمان «كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ» هي النخلة «أَصْلُها ثابِتٌ» في الأرض «وَفَرْعُها» أغصانها المتفرعة من رأسها صاعدة «فِي السَّماءِ 24 تُؤْتِي أُكُلَها» ثمرها «كُلَّ حِينٍ» ووقت وقته الله تعالى لنضجه والثمر ما يدخر ليؤكل إبان نضجه وغيره في كل زمان «بِإِذْنِ رَبِّها» وتيسيره وتكوينه «وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ» اعتبارا وعظة «لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» 25 المعاني المضروبة من أجلها فيتعظوا بها. زوى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال أخبروني عن شجرة تشبه الرجل المسلم لا يتحات ورقها وتؤتي أكلها كل حين. قال، قال ابن عمر فوقع في نفسي أنها النخلة ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولا شيئا قال صلى الله عليه وسلم هي النخلة، قال فلما قمنا قلت لعمر يا أبتاه والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة، فقال ما منعك أن تتكلم؟ فقلت لم أركم تتكلمون فكرهت أن أتكلم وأقول شيئا، فقال عمر لأن تكون قلتها أحبّ إلي من كذا كذا. قال تعالى «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ» هي كلمة الكفر إذ لا أخبث منها أبدا «كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ» هي الحنظل على أصح ما جاء فيها إذا لا أخبث منها عندنا في الدنيا أما في الآخرة فالزقوم والضريع والغسلين أجارنا الله منها «اجْتُثَّتْ» استؤصلت وقطعت ورفعت جئّتها المفروشة «مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ» لأنها «ما لَها مِنْ قَرارٍ» 26 ثابت فيها ولا فرع صاعد في السماء، لأن كل شجرة عادة بقدر ما تتغلغل في الأرض ترتفع في السماء، وهذا هو الذي يثبتها ويقيها من تأثير الهواء وغيره «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ» وهو كلمة التوحيد الحاصل أجرها «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» للذين يتمسكون بها لا يزيغون عن الحق فيمن زاغ ممن سلف كأصحاب الأخدود المتقدم ذكرهم في الآية 4 من سورة البروج في ج 1، ومن رسخ كسلمان ورفقائه المتقدم ذكرهم(4/280)
وكعمار ورفقائه المار ذكرهم في الآيتين 109/ 110 من سورة النحل وفي الآية 24 من سورة الكهف المارتين، الثابتين على الإيمان مع تعذيبهم من أجله وأمثال هؤلاء كما أن الله تعالى ثبتهم في الدنيا «وَفِي الْآخِرَةِ» يثبتهم أيضا وفي أول برزخ من برازخها وهو القبر، وعند سؤال الملكين، وفي المحشر والحساب إلى مواقف القيامة، حتى يدخلهم الجنة التي وعدها لهم. روى البخاري ومسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد إذا وضع في تبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمد، فأما المؤمن فيقول اشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له أنظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا في الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيراهما جميعا، قال قتادة ذكر لنا أنه يفسح له في قبره، ثم يرجع إلى حديث أنس قال:
وأما المنافق وفي رواية وأما الكافر فيقول لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيه، فيقال: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه من الثقلين، لفظ البخاري، ولمسلم بمعناه زاد في رواية: أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون. وأخرج أبو زيد عن أنس والنسائي عن أبي هريرة ما بمعناه، وأخرج الترمذي عن البراء بن عازب، وأبو داود عن عثمان بن عفان بزيادة في ذلك. الحكم الشرعي: سؤال الملكين في القبر لكل إنسان وإنسانة حق ثابت واجب الاعتقاد به، وهو معتقد أهل السنة والجماعة بالإتفاق، قال في بدء الأمالي:
وفي الأجداث عن توحيد ربي ... سيبلى كل شخص بالسؤال
ومثله في الجوهرة، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا فاسق زنديق، راجع ما يتعلق فيه في الآية 26 من سورة المؤمن المارة وله صلة في الآية 53 من سورة الروم الآتية، «وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ» فيزلهم في ذلك كله ويحرمهم مما أعده للمؤمنين «وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ» 27 من الهداية والإضلال فيمن يريده وفاقا لما في أزله لا اعتراض عليه فيما يفعل وهو لا يسأل، وهذا أول الآيتين المدنيتين. قال تعالى «أَلَمْ تَرَ» يا سيد الرسل «إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً» جحودا بدلا من الاعتراف(4/281)
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)
بها والقيام بشكرها «وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ» الذين تابعوهم على ذلك وسببوا لهم ولأنفسهم «دارَ الْبَوارِ» 28 الهلاك والدمار، روى البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ) إلخ قال هم كفّار قريش. وفي رواية كفار مكة أنعم الله عليهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن المنزل عليه ليخرجهم من الظلمات إلى النور فاختاروا الكفر على الإيمان، ولهذا أحلّوا قومهم دار البوار «جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ» 29 هي لهم على اختيارهم ذلك. أخرج البخاري في ناسخه عن الحبر أن هذه السورة مكيّة إلا آيتين منها فإنهما نزلتا بالمدينة وهما (ألم تر) إلخ نزلتا في قتلى بدر من المشركين، والآية عامة لفظا ومعنى، وما خصه بعض المفسرين بكفار قريش بأن الله تعالى أسكنهم حرمه ووسع عليهم بإيلاف الرحلتين وجعلهم قوام بيته فأبدلوا هذه النعمة كفرا به وجحودا بربوبيته، أو أنه من عليهم بالقرآن العظيم فكفروا به وهو لا نعمة تضاهيه ولا خير يوازيه، أو أنهم من عليهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي هو أكبر نعمة وأجل منة وأعظم منحة فلم يؤمنوا به وبدلوه بالكفر لا يخصصها، وكذلك لا يقيدها الحديث الذي أخرجه الحاكم وصححه وابن جرير والطبراني وغيرهم من طرق، عن علي كرم الله وجهه، أنه قال في هؤلاء المبدلين هما الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة، فأما بنو المغيرة بقطع الله دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين. لأن هذا القول صدر منه بعد نزولها في زمن خلافته كما يدل عليه لفظه، وكذلك ما أخرجه البخاري في تاريخه وابن المنذر وغيرهما عن عمر رضي الله عنه في هذا المعنى، ويدل على عمومها ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال هم جبلة بن الأيهم والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم، لأن هذه الحادثة وقعت زمن عمر فلا علاقة لها بسبب نزولها، بل تشمل كل من بدّل النعمة كفرا، وهذا هو الأولى والأوفق، قال تعالى «وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً» أمثالا وأشباها يعبدونها من دونه «لِيُضِلُّوا» أنفسهم وغيرهم «عَنْ سَبِيلِهِ» الحق الذي لا مئيل له ولا شبيه «قُلْ» لأمثال هؤلاء يا سيد الرسل «تَمَتَّعُوا» في هذه الدنيا بشهواتكم الخبيثة أياما قليلة «فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ» 30 في الآخرة وبئس المصير النار،
ويا أكرم الرسل(4/282)
«قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ» المفروضة عليهم «وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ» ما تيسر منه وتسمح به نفوسهم مما خولناهم من النعم في وجوه البر والخير «سِرًّا وَعَلانِيَةً» وليبادروا فيه «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ» عليهم وقد نكّره لهول ما يقع فيه يوم «لا بَيْعٌ فِيهِ» ليبتاع المقصر ويتلافى تقصيره ولا فداء فيه ليفتدي نفسه، يوم لا دية فيه، ولا خلاص من العذاب، وعدم إمكان شراء النفس مما حق عليها بخلاف الدنيا الممكن فيها ذلك «وَلا خِلالٌ» 31 جمع خلة إذ لا ينفع الصاحب صاحبه، ولا قريب قريبه، يوم تنقطع فيه المودة والقرابة:
مطلب في الخلة ونفعها وضرها وعدم إحصاء نعم الله على عباده، وظلم الإنسان نفسه:
هذا وقد نفى الله تعالى في هذه الآية وآية البقرة عدد 256 في ج 3 نفع الخلة، ويراد بها الحاصلة بميل الطبيعة ورعونة النفس، وأثبتها في الآية 66 من الزخرف المارة، لأن المراد بها الخلة الحاصلة بمحبة الله وطاعته، لأنه أثبتها للمتقين وجعل الأولى محض عداء بين المتخالدين لغير الله وعلى سخطه، إذ تكون بلاء خالصا عليهم يوم القيامة، راجع تفسيرها فقيه بحث نفيس جامع مانع نعلم منه أن كل صحبة لغير الله تكون محنة يوم القيامة، قال هرم بن جبان: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبل بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم. وقال كعب: مكتوب في التوراة لا صحبة لأحد في الأرض حتى يكون ابتداؤهما من الله عز وجل ينزلها على أهل السماء ثم على أهل الأرض، وتصديق ذلك في القرآن قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) الآية 99 من سورة مريم في ج 1 فراجعها أيضا ففيها ما تقرّ به الأعين «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ» أيها الناس ولدوابكم «وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ» فتحملكم وأثقالكم إلى مقاصدكم بأقل زمن وأقل كلفة من البر «وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ» 32 تجرونها حيث شئتم للشفة والسقي والنّضارة وغيرها «وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ» مستمرين على عادتهما من الطلوع والغياب بصورة مطّردة وحالة(4/283)
دائمة لمنافعكم أيضا، إذ أودع الله فيهما ما أودع من التأثيرات من نضج الثمار وطعمها ولونها وإخراج النبات وأشياء أخرى مما علمه البشر وما لم يعلمه بعد «وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» 33 لتنتفعوا بكل منهما، راجع الآية 12 من الإسراء في ج 1 تقف على فوائدها التي اطلع عليها البشر، ولهما فوائد أخرى تعلم فيما بعد، لأن الدنيا لم تكمل بعد، لأنها. لا تخرب إلا بعد كمالها، راجع الآية 44 من سورة يونس المارة «وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ» وما لم تسألوه لأنكم لا تعرفون كل النعم التي أنعمها عليكم إلا بعد حدوثها، ومن أين لنا أن نعرف الكثرى والموز والبرتقال والخوخ وغيرها قبل أن نراها، وحتى الآن يوجد ثمار لا نعرفها «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» لأنها كثيرة جدا فلا تطيقوا عدها إجمالا فضلا عن التفصيل «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» 34 أنعم الله ظلام لنفسه ولغيره، وبعد أن ذكر الله تعالى أحوال الكافرين بنعمه وأمر المؤمنين بإقامة مراسم الطاعة شكرا لها لما فيها من تفضيلهم وتكريمهم على الخلق كافة، وبين لهم أن الشكر والطاعة من النعم العظام والمنن الجسام لمن ثابو عليها، حثا للمؤمنين على المداومة عليها، وتقريعا للكافرين والعصاة المخلّين بهما، ختم الآية بقوله (ظلوم كفار) يريد أن جنس الإنسان مجبول على هاتين الخصلتين، على أن الآية 18 من سورة النحل المارة ختمت بقوله (إن الله لغفور رحيم) ليتعظ هذا الظلوم الكفار بهذه النعم ويرتدع عن غيه ويجنح إلى مغفرة ربه ويتوب من كفره. فانظروا رعاكم الله أيجوز عصيان هذا الإله الخالق لهذه الأشياء ومذللها لكم وجاعل منافعها العظيمة لتأمين راحتكم والتوسع عليكم، فاحمدوا هذا الرب الذي يمهل من عصاه وكفر نعمه ليتوب إليه ويرجع عن غيه رحمة به، ويثيب من أطاعه كرامة له وفضلا ليزيد في طاعته، فبعد هذا كله أيجوز عصيانه؟ كلا ثم كلا. وهذه الآية عامة أيضا لأن المراد بالإنسان جنسه لا خصوص أبي جهل وأضرابه كما ذكر بعض المفسرين، على أنه وأمثاله داخلون في معناها دخولا أوليا «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ» أي اذكر يا محمد لقومك قول جدك الكريم «رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً» صيّره وما حوله من الخوف إلى الأمن، وآية البقرة 147 في ج 3 (اللهم اجعل هذا بلدا آمنا)(4/284)
أي اجعل مكة شرفها الله من جملة البلاد الآمنة التي يأمن أهلها فيها على أنفسهم وأموالهم «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» 35 أدخل نفسه عليه السلام مع أنه معصوم من عبادتها لزيادة التثبت وإظهار عجزه لربه وإعلاما بأنه لا يقدر أحد علي حفظ نفسه إلا يحفظ الله تعالى، وفيه تعليم للغير بالتبرّي من الاعتماد على النفس، وقد أجاب الله دعاءه لبنيه من صلبه إذ ثبت أن أحدا منهم لم يعبد صنما ما، وكذلك أولادهم الموجودون في زمانهم. واعلم أن عجز هذه الآية يفيد أن من
لم يتبعه على دينه فليس منه، وهو كذلك، ولكن ينفي ما يرد عليه من أن أهل مكة من نسل إسماعيل عليه السلام ابنه قد عبدوا الأوثان وهذا مردود، لأنهم ليسوا في زمن إسماعيل ولا أولاد إسماعيل أيضا، فلا محل لهذا الإيراد، ولا يرد أيضا ما جاء في الحديث الصحيح (يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة) لأن المراد بالأمن الذي طلبه إبراهيم أمن أهلها وقد كان، قال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) الآية 68 من سورة العنكبوت الآتية أي وهم آمنون، على أنه لو أريد بالأمن عدم خرابها لا يتجه أيضا، لأن الله تعالى قد حفظها من كل من أراد خرابها، أبرهة فمن قبله وحتى الآن محفوظة بحفظ الله، وستبقى كذلك بإذن الله إلى الوقت المقدر لخرابها، إذ لا يبقى لها أهل ولا من يقول الله، وهو من علامات الساعة، فلا تنافي بين الحديث والآية على هذا المعنى أيضا، والأول أولى وأوجه «رَبِّ إِنَّهُنَّ» الأصنام «أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ» وهو يعلم أن المضل في الحقيقة هو الله كما ذكرناه في الآية 112 من الأنعام المارة، لأن هذه الأصنام وإبليس وشياطين الإنس والجن لا تقدر أن تضل من هداه الله، قال تعالى (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) الآية 17 من سورة الكهف، ولا سيما الأصنام لأنها جماد لا تعقل حتى تضل غيرها، إلا أنه لما حصل الإضلال بعبادتها أضيف إليها كما أضيف الغرور والفتنة إلى الدنيا، والنزغ والإغواء والتزيين إلى الشيطان، راجع الآية 39 من سورة الحجر المارة وما ترشدك إليه تقف على ما تريده من هذا البحث مفصلا، ثم خصّص عليه السلام دعاءه العام في صدر هذه الآية بقوله «فَمَنْ تَبِعَنِي(4/285)
فَإِنَّهُ مِنِّي»
على ديني وعقيدتي «وَمَنْ عَصانِي» فيها «فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» 36 به تقدر على هدايته إذا شئت، وليس في هذه الآية جواز الدعاء للكافرين بالمغفرة والرحمة، لأنها جارية مجرى الخبر، أي أن الكافر إذا تاب وأناب فإنك غفور لأمثاله، رحيم بهم، أو أنها على حد استغفاره لأبيه قبل أن يعلمه الله عدم غفران الشرك، لعلمه أنه قادر على أن ينقله من الكفر إلى الإيمان، وعلى هذا قول عيسى بن مريم عليه السلام في الآية 118 من المائدة في ج 3 (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) إلا أن عيسى ختم كلامه بما لا يدل على المغفرة والرحمة، لأن لفظ العزيز يدل على العظمة والغلبة، ولفظ الحكيم يدل على أن ما يفعله الله موافق للواقع، لأن الحكمة تعذيب العاصي وتكريم الطائع، فبين حتام الآيتين بون شاسع في المعنى، وإن استغفار إبراهيم لأبيه وقع منه بعد أن وعده بالإيمان به، راجع الآية 114 من سورة التوبة في ج 3، لهذا فإن من استدل بهذه الآية على جواز مغفرة الشرك فقد مال، إذ لا دليل له لمخالفته صراحة قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية 48 من النساء في ج 3، وهي مكررة فيها راجع الآية 8 من الشعراء في ج 1 فيما يتعلق في هذا البحث، ومنها تعلم أن عدم غفران الشرك قديم لا خاص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي» يريد إسماعيل عليه السلام «بِوادٍ» بين جبلين جبل أبي قبيس وجبل جياد ويسمى وادي مكة «غَيْرِ ذِي زَرْعٍ» لأنه رمال لا تنبت «عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» التعرض له ولما فيه والتهاون به «رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ» أي لم أسكنهم فيه إلا ليعبدوك ويوحدوك لأن القصد إظهار ركون الإسكان مع فقدان لوازمه لمحض التقرب والالتجاء إلى جواره، لأنه بلقع خال من كل ما تقتضيه الحياة، ولهذا قال جل قوله «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» تميل حنانا وشوقا إليه ورغبة فيه «وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ» الموجودة في بلادك الأخرى بأن سخّر لهم الناس بجلبها إليهم من بلادهم، وقد أجاب الله دعاءه، فترى في مكة جميع أصناف اللباس والمأكول والمشروب بكثرة كما قال تعالى (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) الآية 57 من سورة(4/286)
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)
القصص في ج 1، «لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» 37 نعمك ويقولون إن الإتيان بها من جملة آياتك ونعمك عليهم، قال سعيد بن جبير: لو قال الله أفئدة الناس لحجت النصارى واليهود والمجوس، ولكنه قال من الناس يريد المسلمين فقط، لأنه سبق في علمه حرماتهم من زيارته لقوله جل قوله (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) الآية
25 من التوبة في ج 3، «رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ» في كل أمورنا وأحوالنا وأفعالنا ونيّاتنا، لا تفاوت عندك بين السر والعلانية، قال تعالى «وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ» 38 تصديقا لقولهم ذلك، وقد جمع الضمير لأن الدعاء منه ومن ابنه إسماعيل بدليل ما جاء في الآية 138 من البقرة في ج 3، وهو قوله تعالى حكاية عنهم كما هنا (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) وفي تكرير هذا النداء دلالة على أن كثرة التضرع إلى الله تعالى واللجوء إليه وحصر القصد فيه مطلوب. ثم قال إبراهيم وحده «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ» 39 إشارة إلى قوله قبلا (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) الآية 100 من سورة الصافات المارة، فأجاب الله دعاءه فوهب له إسماعيل من هاجر وهو ابن تسع وتسعين سنة، وإسحق من سارة وهو ابن مئة وسبع عشرة سنة، قال تعالى على لسان خليله أيضا «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» اجعل من يقيمها، وذلك أنه علم بإعلام الله إياه أن أناسا يكونون من ذريته لا يقيمونها «رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ» 40 بإثبات الياء ودونها، وقد أجاب الله دعاءه إذ جعل النسوة في ذريته وهم أهل الصلاة
«رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ» إذا تابا وأنابا وأسلما لك، وهذا قبل أن يتبين له أنهما من أصحاب الجحيم، ولأنهما وعداه أن يؤمنا به وبربه. أما استغفاره لنفسه مع علمه أنه معصوم من الذنب فهو بقصد الالتجاء إلى ربه والاتكال عليه، ولما يظن أن ما قاله في جملة (بل فعله كبيرهم) في الآية 63 من الأنبياء الآتية، والآية 89 من سورة الصافّات المارة وهي (إني سقيم) وقوله للجبار عن زوجته هذه أختي يريد بالخلقة والدين- تستوجب الاستغفار، لأنه من الأبرار، وإن حسنات(4/287)
الأبرار سيئات المقرّبين «وَلِلْمُؤْمِنِينَ» جميعهم اغفر يا رب، وهذا تعميم بعد تخصيص لأنه داخل فيهم دخولا أوليا، وفي هذه الآية بشارة عظيمة لجميع المؤمنين لأن الله تعالى أكرم من أن يردّ دعاء خليله، وستظهر ثمرة هذا الغفران «يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» 41 أسند القيام إليه مجازا على حدّ قوله (واسأل القرية) أي أهل الحساب، لأن القيام منهم وهذا مما لا يخالف الظاهر، لأن من المعلوم أن القرية لا تسأل والحساب لا يقوم، لأنه معنى، والقيام للأجسام لا للمعاني، قال تعالى «وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ» حاشا، بل هو مطلع عليهم ومحص أعمالهم، ولكنه تعالى «إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ» للتقاصّ منهم «لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ» 42 لجهة العلو لما يرون من الهول الذي يدهشهم ويحيرهم، وشخوصها بقاؤها مفتوحة لا تطرف حال كونهم «مُهْطِعِينَ» مسرعين بمشيهم إلى جهة الداعي مهرولين وراءه، لا يعرفون ما هو مصيرهم كالنعم حين يسوقها الجزار إلى المذبح، بخلاف حال الدنيا فإن من يشخص منهم بصره يقف مبهوتا لا يقدر على الحركة، وأهل الآخرة على العكس، فإنهم يمشون مسرعين، وهذا من جملة عجائب أحوال أهل ذلك اليوم «مُقْنِعِي» رافعي «رُؤُسِهِمْ» إلى السماء، وهذا أيضا على خلاف عادة أهل الدنيا، لأن من يتوقع منهم شيئا يخافه يطرق رأسه إلى الأرض «لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ» للنظر على أنفسهم بل يبقى شاخصا من شدة الفزع، وسبب رفعها إلى السماء توقع نزول شيء منها عليهم، إذ ينزل العرش الإلهي محمولا على الملائكة ويوضع في الموقف لفصل القضاء بين الناس، وأما الذين يعتريهم الخوف فيكونون هم «وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ» 43 أي قلوبهم خالية فارغة لا تفكر بشيء، ولا تعقل شيئا، أجارنا الله من هول ذلك اليوم. والفؤاد هو الجؤجؤ، قال زهير:
كأن الرحل منها فوق صعل ... من الظلمات جؤجؤه هواء
يريد قلبه. وقول حسان:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... فأنت مجوّف نخب هواء(4/288)
مطلب في الغفلة والقلب والشكوى وفتح لام كي وكسرها والقراءة الواردة فيها وعدم صحة الحكايتين في هذه الآية:
واعلم أن الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقائق الأمور، وسهو يعتريه من قلة التحفظ والتيقظ وهو في حق الله تعالى محال، والمقصود منها عدم معاملة الظالم معاملة الغافل، بل ينتقم منه للمظلوم ويعامله معاملة الرقيب الحفيظ الحسيب العالم بجزئيات ما وقع منه فضلا عن كلياتها، ففي الآية تهديد للظالم وتعزية للمظلوم.
والمراد من توجيه الخطاب لحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم مع أنه يعلم أن ربه ليس بغافل ولا يتصور منه الغفلة فيما يتعلق بربه التثبت على ما كان عليه، كقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) الآية 135 من سورة النساء في ج 3، أي اثبتوا على الإيمان الذي أنتم عليه، وقد يراد به خطاب أمته الغير عارفين بصفات الله، ويكون على حد قوله (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الآية 87 من سورة النمل المارة في ج 1 (وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) الآية 89 منها أيضا، ولا يخفى أن حضرة الرسول عالم بذلك، وظهور الحال على ما قيل يغني عن السؤال، وقيل في هذا المعنى مما هو منسوب للشيخ عمر السهروردي دفين بغداد قدّس سره ونور ضريحه:
ويمنعني الشكوى إلى الناس أنني ... عليل ومن أشكو إليه عليل
ويمنعني الشكوى إلى الله أنه ... عليم بما أشكوه قبل أقول
وسنأتي على بحث إسكان إسماعيل في مكة في الآية المذكورة من سورة البقرة إن شاء الله «وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ» ويحيط بهم «فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم إذ ذاك «رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ» أي ردنا إلى الدنيا وأمهلنا فيها مدة قليلة «نُجِبْ دَعْوَتَكَ» التي أمرت بها «وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ» الذين أرسلتهم فأجابهم ربهم «أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ» حينما كنتم في الدنيا وقلتم فيما بينكم فيها «ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ» 44 من مصيركم الذي دفنتم فيه إذا متم أي تبقون ميتين وأنكرتم النشور والحساب «وَسَكَنْتُمْ» فيها «فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» من الكفرة(4/289)
أمثالكم «وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ» من الإهلاك والتدمير بسبب إنكارهم البعث «وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ» 45 بأفعالهم وبما فعل بهم لتتعظوا وترجعوا عن غيكم، فأبيتم ولم ينجع بكم إرسال الرسل ولا نصحهم وإرشادهم «وَقَدْ مَكَرُوا» الذين سكنوا مساكن الظالمين «مَكْرَهُمْ» مثل الظالمين المذكورين «وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ» ثابت بعلمه الأزلي قبل إحداثه منهم وقبل خلقهم «وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ» 46 إن هنا وصلية أي وإن كان مكرهم في غاية الشدة ونهاية المتابة، فإنه مبطله في الدنيا ومجازيهم عليه في الآخرة. وتكون إن هنا بمعنى ما، أي ما كان مكرهم لإزالة الجبال، لأن اللام فيه مفتوحة وهي لام كي، ولذلك صارت اللام الأخيرة مفتوحة لنصبها بها، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، واللام في لتزول لام التأكيد، أي مكروا ليزيلوا ما هو كالجبال في الثبوت. وقرأ بعضهم بفتح اللام الأولى وضم الثانية على الفاعلية، وتكون فيها إن مخففة من الثقيلة ايضا، واللام للتوكيد. وقرىء بفتح اللامين على لغة من فتح لام كي وهي شاذة. هذا، وما حكي عن علي كرم الله وجهه بأن هذه الآية نزلت في النمروذ لأنه اتخذ أربعة أنسر وشدّ عليهن تابوتا وطرن به إلى السماء ليرى إله إبراهيم عليه السلام، وجعل لحما في خشبات بأعلى التابوت لتراها النسور فتطير إليه لتأكله فتحمل التابوت بسبب ذلك وترتفع به نحو العلو، وبهذه الصورة تمكن من الطيران مع صاحب له، وصار كلما ارتفع سأل صاحبه فيخبره أن السماء كهيأتها والأرض كذلك، ولا زال حتى خبره أن الأرض صارت عبارة عن ظلمة، وصارت الريح بينه وبين الارتفاع، والسماء كهيئتها لم يحس بقرب ما منها، قالوا ونودي أيها الطاغي إلى أين تريد، ثم صار يرمي بقوسه إلى السماء حتى افتتن ورجعت النبل ملطخة بالدم، فلما رأى ذلك قال كفيت رب السماء، فحول الخشبات التي عليها اللحم ونكسها لجهة الأرض، فهبطت النسور لتناوله، ولا زالت تهبط به حتى وصل الأرض بسلامة. قالوا فسمعت الجبال خفيق التابوت والنسور فظنت حدوث أمر في السماء، ففزعت وخافت وكادت تزول عن أماكنها من شدة الهلع فهو حكاية مستبعدة، لا يكاد يصدقها العقل ولا يسلم لها(4/290)
الضمير، ولو قيل إنها نقلت عن ابن جبير والسدّي ومجاهد وأبي عبيدة وغيرهم، كما لا يرتاح الوجدان بتسليم نقلها عن علي كرم الله وجهه، ولا مناسبة بينها وبين هذه الآية، وما هو بالخبر الذي يعتمد عليه، وقال بعضهم إن الفاعل لهذا هو بختنصر. وكذلك ما قيل إن امرأة اتهمها زوجها وكلفها أن تحلف على جبل مشهور لديهم أن من حلف عليه كاذبا مات، وأنها بعد أن اتفقت مع صاحبها بأن ينتظرها بمكان على الطريق وأفقت زوجها على الحلف وذهبت معه، حتى إذا وصلت إلى المحل الذي فيه صاحبها رمت نفسها وأظهرت سوءتها له، فأركها زوجها وذلك الرجل حتى إذا وصلت إلى الجبل حلفت بأنه لم يمسها أحد إلا زوجها وذلك الرجل، مكرا منها، ونزلت من الجبل سالمة، لأن كلمة مسّها أرادت بها الفعل وأظهرت لزوجها أنه اللمس بسبب إركابه لها واطلاعه على سوءتها حين رمت نفسها، قالوا ومنذ ذلك اليوم اندك الجبل بسبب مكرها الذي مكرته على زوجها الذي لا يعلم ما دبرت له، قالوا وإن المرأة من عدنان، فهذه وأمثالها قصص لا عبرة بها، ولا وثوق بصحتها، لهذا فإن الأخذ بها لا يجوز، والأجدر حمل الآية على ما ذكرناه في تفسيرها بصورة عامة يندمج فيها كل كافر ما كر مجترئ على مناوأة الله تعالى ومبارزته، فتكون
الآية من قبيل قوله تعالى (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) الآية 90 من سورة مريم في ج 1.
قال تعالى «فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ» بإعلاء كلمتهم ونصرتهم وإهلاك عدوهم «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» غالب مكر الماكرين «ذُو انتِقامٍ» 47 عظيم من أعدائه المكذبين لأوليائه، واذكر يا سيد الرسل لقومك وغيرهم «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ» المعهودة ذات الجبال والوديان والبحار والأشجار.
والعيون والنبات حتى تظنها أيها الرائي لها غير أرضك التي تعرفها ونشأت عليها في الدنيا لخلوها من جميع ذلك، كما قال تعالى (قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) الآية 107 من سورة طه في ج 1 «وَالسَّماواتُ» ذات الكواكب والشموس والأقمار المعهودة التي عشت تحت ظلها تبدل أيضا بما يبدعه الله تعالى حتى لا تشك بأنها غير السموات الأولى لخلوها مما كان فيها من الثريا والميزان والمجرة وغيرها،(4/291)
روي عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة (هو الطلمه أي الرغيف الثخين العظيم الذي يعملونه فيخبزونه على الملّة وكانت العرب قديما تعمله، ويوجد الآن من عشائر الجبور في الجزيرة آل محمد آمين يعملونه، وان الرغيف منه يكفي الجماعة ويضعون عليه السمن والسكر، ومنه ما يكفي الأربعين وأكثر بارك الله في الكرام) يوم القيامة يتكفأها الجبار بيده، (أي يميلها من يد إلى يد كالرقاقة) كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة.
- أخرجاه في الصحيحين-. وروي عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قوله تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ) إلخ فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟
فقال على الصراط- أخرجه مسلم-. ولا تنافي بين هذه الآية وآية (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) من سورة الزلزلة في ج 1 لإمكان الجمع بينهما، وهو أن الأرض تتبدل صفتها مع بقاء ذاتها، فيضع الله تعالى بها قوة النطق، فتحدث بإذنه تعالى بكل ما وقع عليها، ثم تبدل ذاتها بغيرها، وما ذلك على الله بعزيز، وأنشد بالمعنى:
اما الديار فإنها كديارهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها
ومن هذا القبيل قوله:
وما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت أعلم
«وَبَرَزُوا» الموتى من قبورهم متوجهين «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» 48 ليتمثلوا أمامه بالموقف للحساب «وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ» بعضهم ببعض «فِي الْأَصْفادِ» 49 القيود والسلاسل والأغلال «سَرابِيلُهُمْ» لباسهم «مِنْ قَطِرانٍ» هو ما تدهن به الإبل الجربة مستخرج من شجر مخصوص بإشعال النار تحت وسطه، فيسيل من طرفيه، وأكثر ما يكون شمالي حلب بمنطقة الا كبس وغيرها.
وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن إلا في سورة ص الآية 38 في ج 1، وكلمة سرابيل كذلك لم تكرر إلا في سورة النحل المارة في الآية 80، والقطران يشبه الزفت ورائحته كالنفط، وقد يستخرج من شجر الأبهل والعرعر والتوت أيضا، وقد حذرهم الله تعالى مما يعرفون مبالغة في الاشتعال، وإلا فعنده أشياء لمبالغة(4/292)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
الاحتراق أعظم وأعظم من هذه لا نعرفها أجارنا الله منها. وإذا نظرتم أيها الناس الى هذه المتفجرات التي أحدثت في الحروب واستعملت لإهلاك الناس فدمرت الحرث النسل وهي من عمل البشر فما بالكم بما هو من خلق الله الذي أتقن كل شيء؟
علموا أن هؤلاء الكفرة بعد أن يلبسوا ثياب القطران يزجّون في جهنم «وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ» 50 خص الوجه لأنه أعزّ موضع في ظاهر البدن كالقلب في عنه، ولذلك قال تعالى في سورة الهمزة في ج 1 (تطلع على الأفئدة) وإلا تعلو الرأس برماح كثيرة، وكل ما ذكره الله تعالى إنما هو على قدر ما يعقله سر، وإلّا أفظع وأعظم، وإنما ذكرها كالمثل بالنسبة لما تعرفه كما مثل بالمشكاة، وأين المشكاة من نوره المقدس، وكذلك ما ذكره لنا من وصف؟؟ ونعيمها فهو لا يقاس بما عندنا
«لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ» الدنيا لا يظلمها وينقصها «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» 51 يحاسب الخلق كلهم، واحد محاسبة رجل واحد بالنسبة لنا، وإلا فهو أقل من ذلك «هذا» ؟؟ لما ذكر من قوله فلا تحسبنّ إلى هنا «بَلاغٌ» إخطار وإنذار من الله؟؟ إلى خلقه ليتعظوا به ويتدبروا عاقبة أمرهم فيقلعوا عما هم عليه مما لا يرضاه الله يزيدوا مما يرضاه، وهو كاف للتذكير وللتحذير والتيقظ «لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ» بعدهم ومن معهم فيخوفوهم ويهددوهم «وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ» الإله المعبود، القادر على ذلك كله المحيي الميت هو «إِلهٌ واحِدٌ» لا شريك له ولا شبيه مثيل ولا ند ولا ضد ولا معاون ولا وزير، المنفرد بالأمر بلا ممانع ولا الأرض «وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» 52 الصحيحة والعقول السليمة في هذا؟؟ الإلهي الذي هو عبر وعظات وذكرى ما وراءها وراء ليعظوا بها ويتعظوا، يرشدوا ويرشدوا. واعلم أن هذه الجملة لم تختم بها غير هذه السورة، بما يدل أنها أكبر عظة لمن يتذكر. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه واتباعه أن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.(4/293)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
تفسير سورة الأنبياء عدد 23 و 73- 21
نزلت بمكة بعد سورة إبراهيم. وهي مئة واثنتا عشرة آية، وألف وثمنمئة وثمانية وستون كلمة، وأربعة آلاف وثمنمئة وتسعون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ» على ما عملوه في الدنيا، لأن القرب إما زماني، وإما مكاني، وكونه مكانيا يتعذر هنا. فلزم أن يكون زمانيّا، ولا يقال إنه مرّ عليه ما يقرب من أربعة عشر قرنا ولم يأت لأن يوما عند ربك كألف سنة مما نعدّه، والمراد أن وقت الحساب صار قريبا، ولذلك عبر بالماضي لتحقق وقوعه وقربه وقلة ما بقي بالنسبة لما مضى، لأن كل آت قريب. والبعيد ما وقع ومضى. وقيل في المعنى:
فلا زال ما تهواه أقرب من غد ... ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس
ومناسبة هذه السورة لما قبلها ظاهرة، إذ ما بعد الإنذار بالجزاء إلا الوقوع.
وقد أخبر الله تعالى بقربه ليتيقظ المسيء ويتعظ، ويكثر المحسن ويستزيد من إحسانه، وليكون كل منهما بحالة أدعى للتأهب، وليتنبه الغافل من رقدته، ويتذكر الناس أجمع ويسرعوا بالإقلاع عن المعاصي والإقدام على الطاعات، ولكن مع الأسف لا يتذكرون «وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ» 1 عن الاستعداد لما يراد بهم في ذلك اليوم، لا هون عنه، غارقون في بحر النسيان، وتراهم يا سيد الرسل «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ» إنزاله أي ما يحدث الله تعالى من تنزيل القرآن شيئا فشيئا، ليذكرهم به تدريجا، ويعظهم أولا فأولا ليتشوقوا إليه ويعره ويعقلوه «إِلَّا اسْتَمَعُوهُ» منك «وَهُمْ يَلْعَبُونَ» 2 فيسخرون به ويستهزئون عند سماعه «لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ» عنه ساهية أفئدتهم عن معناه كأنه لم ينزل لخيرهم «وَأَسَرُّوا النَّجْوَى» فيما بينهم بالباطل عند سماعه. وأعلم أن الضمير في أسروا صرف دال على الجمع فقط لأن فاعله «الَّذِينَ» وصلته جملة «ظَلَمُوا» ومن هنا صحت لغة أكلوني البراغيث، ثم بين هذه النّجوى التي بالغوا في إخفائها بينهم بقوله جل قوله «هَلْ هذا» الذي يدعي رسالة الله ويأمركم(4/294)
باتباعه وإبطال دين آبائكم «إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» أيها الناس ليس بملك ولا إله وإنما بسحركم بما أوتي من بلاغة في المعنى وفصاحة في القول «أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ» بمطلق ادعائه الرسالة وتقبلون قوله بمجرد أن قال لكم إن الذي أتلوه عليكم من الله «وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» 3 بأم أعينكم أنه بشر مثلكم وتعقلون ببصائركم أن ما يأتيكم به سحر، قل يا أكمل الرسل لهؤلاء الكفرة الذين يحوكون لك الدسائس فيما بينهم، ويظنون أنا لا نطلعك على حقيقة أمرهم، والقراءة التي عليها المصاحف «قالَ» لهم جوابا لما تناجوا به «رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ» قليله وكثيره، وخفيه وظاهره، من كل ما وقع أو يقع «فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ» فكيف تناجون فيّ ولا يطلعني على نجواكم «وَهُوَ السَّمِيعُ» لكل ما يقع في أرضه وسمائه مهما رق ودق «الْعَلِيمُ» 3 به سره وجهره وما تضمرونه إليّ في أي مكان وزمان كان لا يخفى عليه شيء.
مطلب وصف الكفرة كلام الله والنزل عليه ومعنى اللهو وكلمة لا يفترون:
واعلم يا سيد الرسل أن هؤلاء الكفرة لم يكتفوا بقولهم لك ساحر والقرآن سحر «بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ» أباطيل رآها في نومه، ثم انتقلوا إلى ما هو أفظع فقالوا «بَلِ افْتَراهُ» اختلقه من نفسه، ثم أضربوا فقالوا «بَلْ هُوَ شاعِرٌ» وذلك أن الكفرة تضاربت آراؤهم وتنافت أقوالهم إذ اختلفوا في وصف محمد وما يتلوه عليهم على ثمانية أقوال: 1- منهم من قال إن ما يأتي به من أساطير الأولين وهو ناقل لها، 2- ومنهم من قال يتعلم من الغير ويتلوه عليكم، 3- ومنهم من قال القرآن كهانة ومحمد كاهن، 4- ومنهم من قال إنه سحر وهو ساحر 5- ومنهم من قال إنه شعر وهو شاعر، 6- ومنهم من قال إنه نثر مسجع وهو ألفه، 7- ومنهم من قال اختلقه من نفسه وهو مختلق مبتدع، 8- ومنهم من قال أباطيل نوم يراعا وينسبها إلى الله. قاتلهم الله وعذبهم في أصناف ناره وحرمهم من أنواع جنته، وقد كذبوا كلهم فيما تقولوه ولمّا عرفوا أنهم لم يصيبوا الهدف تحدوه فقالوا «فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ» من لدن ربه تدل على صحة دعواه «كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» 5 بالآيات مثل موسى وعيسى ومن قبلها، ومن هنا يفهم أن ما قاله بعضهم إن المراد(4/295)
بالذكر المحدث في الآية الثانية المارة هو قول الرسول. قول لا قيمة له ولا يستند إلى قول بل المراد ما ذكرناه في تفسيرها لا غير والله أعلم. قال تعالى رادا عليهم قولهم ومجيبا عن نبيه صلّى الله عليه وسلم «ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها» من الأمم السالفة الذين اقترحوا الآيات على أنبيائهم لأنهم كذبوا بها بعد نزولها فأهلكناهم «أَفَهُمْ» قومك هؤلاء العريقون في الكفر إذا أنزلنا عليهم آية «يُؤْمِنُونَ» 6 كلا لا يؤمنون ولو آتيناهم كل آية، وهذا من إطلاق الكل وإرادة الجزء لأن منهم من آمن ومنهم من أصر فالمخبر عنهم بعدم الإيمان هم المصرّون على كفرهم وقال تعالى في معرض الرد عليهم أيضا «وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ» مثلك فكيف يقولون ما هذا إلا بشر مثلكم «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» جمع الضمير للتعظيم وسببه افتضاء المقام لتعظيمه أمام قومه، أي اسأل يا محمد علماء أهل الكتابين الذين سألهم قومك بماذا يختبرونك وقالوا لهم سلوه عن أهل الكهف وذي القرنين والروح، كما تقدم في الآية 9 من سورة الكهف المارة، فقل لمثل هؤلاء هل أرسل الله للأولين ملائكة كما يزعمون فإنهم يجيبونك حتما بأن الله لم يرسل إلى البشر إلا بشرا مثلهم «إِنْ كُنْتُمْ» يا رسولنا «لا تَعْلَمُونَ» 7 ذلك راجع نظيره هذه الآية الآية 47 من سورة النحل المارة بزيادة لفظ من فقط «وَما جَعَلْناهُمْ» أي الرسل قبلك يا حبيبي «جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ» حتى يقولوا (ما لهذا الرسول يأكل الطعام) الآيتين 8/ 20 من الفرقان في ج 1، وجاءت هذه الآية بمعرض الرد لهذا القول لأنهم لا زالوا يترنمون بهذه الأباطيل وينكرون ما تنلوه عليهم بقولهم المجرد إذ لا حجة لهم ولا برهان على إبطاله لذلك تراهم يتمسكون بهذه الأقاويل الفارغة ويكررونها «وَما كانُوا خالِدِينَ» 8 في الدنيا بل يموتون كغيرهم وما أنت إلا مثلهم تموت أيضا فلا محل لا نتقادك بذلك «ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ» بنصرهم وإهلاك أعدائهم في الدنيا أما الأنبياء إخوانك «فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ» من أتباعهم الصادقين «وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ» 9 بالمعاصي والتعدي على الغير هلاك استئصال، قال تعالى «لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً» عظيما جليلا يا معشر قريش على أشرف رجل منكم وهذا سفر خطير «فِيهِ(4/296)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
ذِكْرُكُمْ»
شرفكم بين الأمم وشرعكم الشامل لهم ودينكم الذي تدينون فيه فهو أكبر النعم عليكم إذ جاء بلسانكم فلكم فيه الفخر على غيركم «أَفَلا تَعْقِلُونَ» 10 هذه النعم العظيمة وتعضوا عليها بالنواجذ وتعملوا بكتابكم هذا فتحلّوا حلاله وتحرموا حرامه
«وَكَمْ قَصَمْنا» قصفنا والقصم الكسر مع تفريق الأجزاء وإذهاب التئامها، والمعنى أنا عجلنا عقوبتهم لاشتداد غضبنا عليهم ولم نمهلهم لشدة إصرارهم، وقد جرت سنتنا أن لا نمهل ظالما «مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً» مصرة بل دككناها بما فيها وما عليها «وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ» 11 فأسكناهم فيها بدلهم فتبعوا أثرهم بالفسق والطغيان قال:
ولا تتبع الماضي سؤالك لم مضى ... وعرّج على الباقي وسائله لم بقي
قال تعالى «فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا» عذابنا وشاهدوه بحاسة بصرهم بعد أن أنذرناهم وحذرناهم «إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ» 12، هربا من القرية كي لا يصل إليهم العذاب الذي رأوه أظلهم فقيل لهم «لا تَرْكُضُوا» يا قوم فليس بنافع جري إذا جاء القضاء بالعذاب وقد مر في الآية 13 من سورة ص في ج 1 أن الركض ضرب الأرض بالرجل أي بعقبها وجاء هنا بمعنى الجري على اللغة الدارجة لأن القرآن العظيم جاء فيه من كافة اللغات مما هو أحسنها «وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ» من التنعم بالعيش والترف في اللباس والترفه في السكنى «وَمَساكِنِكُمْ» التي زخرفتموها في الدنيا أي تقول لهم الملائكة ذلك على طريق الاستهزاء والسخرية بهم «لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» 13 من قبل الغير عما جرى بكم من العذاب وعن السبب الذي أوقعكم فيه فتجزون به، قيل نزلت هذه في أهل (حصوه) قرية باليمن كان أهلها عربا حينما قتلوا نبيهم بعد أن كذبوه فسلط الله عليهم بختنصر فقتلهم وسباهم فصاروا يهربون منهم فأدركوهم وقد أخذتهم السيوف ونادى مناد من جو السماء بالثارات الأنبياء، ولما لم يروا بدا اعترفوا و «قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» 14 بتكذيب الرسل وقتلهم ولكن لم ينفعهم الندم بعد نزول العذاب «فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ» أي قولهم يا ويلنا وهم يقتلون ويذبحون متوالية «حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً» كالزرع المحصود(4/297)
«خامِدِينَ» 15 لا حراك بهم، وفي هذه الآية تحذير لأهل مكة وتخويف عظيم وتهديد شديد بأنهم إذا لم يرجعوا عن غيهم يكون مصيرهم مثل مصيرهم، قال تعالى «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما» وما فيهما من العجائب والبدائع «لاعِبِينَ» 16 لأن اللعب يروق ساعة أوله ولا ثبات له وإنما خلقناهما لفوائد كثيرة همها الاستطلاع على قدرتنا والتبصّر في باهر حكمتنا وأرسلنا الأنبياء ليكفروا الخلق فيها وإلا لما كان من حاجة لإرسالهم لو كان خلقها لمجرد اللهو، ثم نزّه ذاته المقدسة فقال «لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً» نلهو به من امرأة أو ولد أو خدم أو جنات أو أموال وأنعام «لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا» في الجنة من الحور والولدان لا من عندكم ولكنا لم نتخذ «إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ» 17 ما تنفوهون به وهذا ممتنع علينا لغنانا عنه واحتياج الكل إلينا، فالولد والزوجة لا يكونان إلا عند الأب والزوج لا يكونان عند غيره، وقال بعض المفسرين ان (إن) هنا نافيه أي (ما كنا فاعلين) وعليه يكون الوقف على (لدنا) لا على (فاعلين) والأول أي اعتبار إن شرطية محذوفة الجواب الدال عليه ما قبلها وهو (لا تخذناه) أولى بسبك العبارة والثاني أبلغ في النفي فقط تأمل، وفي هذه الآية رد وتقريع على من ينسب له تعالى الصاحبة والولد تبرأت ذاته المقدسة عنهما، ولذلك بقول بعض النصارى إن مريم صاحبة لله وعيسى ابنه، واليهود يقولون إن عزيزا ابنه، والعرب تقول الملائكة بناته، تعالى عن ذلك كله علوا كبيرا أي لكنا لنا ممن يفعل ذلك لاستحالته في حقنا، وإنما نفى اللهو جل جلاله عنه لأنه نقص وهو مستحيل في حقه تعالى فتركه واجب منه وهذا ليس من قبيل الوجوب عليه بل القول بالوجوب عنه وهو واجب علينا، ومن أنكر أن اللعب نقص كالكذب فقد كابر، ولا داعي لمن قال إن اللهو يراد به الجماع ويكنّى عنه به وعن المرأة واستشهد بقول امرئ القيس:
الا زعمت بسباسة القوم أنني ... كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي
إذ لا حاجة لقلب الحقيقة إلى المجاز دون صارف. ثم أضرب جلّ اضرابه فقال «بَلْ نَقْذِفُ» نرمي ونطرح «بِالْحَقِّ» القرآن والإيمان به «عَلَى الْباطِلِ»(4/298)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
الكفر والشرك «فَيَدْمَغُهُ» يمحقه ويدمره «فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» مضمحل مدحوض ذاهب لا أثر له، وقال بعض المفسرين المراد بالحق هنا الجد وبالباطل اللهو لأن الآية هذه مسوقة لما قبلها، وهو وجيه لولا الإضراب الموجود لأنه ينافي كونها مسوقة لما قبلها بل يفيد الانتقال عنها لمعنى آخر لأن الاضراب لا يأتي إلا لمغزى غير مغزى ما قبله وهو ما ذكرناه والله أعلم «وَلَكُمُ الْوَيْلُ» أيها الكفرة والهلاك «مِمَّا تَصِفُونَ» 18 الحضرة الإلهية مما لا يليق بها، قال تعالى «وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ» من الملائكة إنما خصهم بالذكر مع أنهم داخلون في معنى من اعتناء بهم، لأنهم لا شغل لهم إلا التقديس والتنزيه لحضرته الكريمة يدل عليه قوله «لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ» 19 لا يعيون ولا يكلّون «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» بلا انقطاع «لا يَفْتُرُونَ» 20 عن تعظيمه وتكبيره وتسبيحه لأنه جار منهم مجرى التنفس من بني آدم فلا يلحقهم فيه سامة ولا تعب بل يتلذذون به ولا يمنعهم عن التكلم بغيره كما لا يمنع ابن آدم النفس عن الكلام فلا يرد عليه قول القائل إن من الملائكة من هو مشغول بتبليغ الرسل ومنهم من هو موكل بلعن الكفرة ومنهم من هو مشغول بتقليب الرياح وغير ذلك.
مطلب برهان التمانع ومعنى فساد السموات والأرض وما يتعلق بهما:
قال تعالى يا أكمل الرسل قل لهؤلاء الذين يزبتون لخلقي عبادة غيري أتتخذوا إلها من السماء كلا إذ لا إله غيري «أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ» من أحجارها وأخشابها ومعادنها لأن الأصنام تعمل منها أو من بعضها ولا إله فيها ولمن فيها غيري وهل ما اتخذوه «هُمْ» أي الآلهة المتخذة من صنع أيديهم «يُنْشِرُونَ» 21 يحيون الموتى مثلي، كلا لا يقدرون على ذلك ولا يستحق العبادة إلا من يقدر على الإحياء والإماتة والإيجاد من العدم إلى الوجود ولا قادر على هذا غيري فأنا المستحق للعبادة وحدي، وأنت يا سيد الرسل قل لهم «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» أي السموات والأرض وإذا فسدتا فسد من فيهما وما بينهما، لأن كل أمر يصدر عن اثنين لم يجر على انتظام بل يفضي إلى المحال، فوجب أن يكون القول بوجود إلهين محالا(4/299)
لأنا لو فرضنا وجود إلهين فلا بد أن يكون كل واحد منهما قادرا على كل المقدورات، ولو كان كذلك لكان كل منهما قادرا على إماتة زيد مثلا وإحيائه فإذا أراد أحدهما إماتته وأراد الآخر إحياءه أي إبقاءه حيا فإما أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدين أو لا يقع واحد منهما وهو محال أيضا لأن المانع من وجود مراد كل منهما مراد الآخر فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك وبالعكس، فلو امتنعا معا لوجدا معا وذلك محال أيضا، أو يقع مراد أحدهما دون الثاني وذلك أيضا محال لأمرين: الأول لو كان كل واحد منهما قادرا على مالا نهاية له امتنع كون أحدهما أقدر من الآخر بل لا بد وأن يستويا بالقدرة، فإذا استويا فيها استحال أن يكون مراد أحدهما أولى بالوقوع من مراد الآخر النّافي له وإلا لزم ترجيح الممكن من غير مرجح، الثاني إذا وقع مراد أحدهما دون الآخر فالذي وقع مراده كان قادرا والذي لم يقع مراده يكون عاجزا والعجز نقص والنقص يستحيل وجوده مع الإله. ولو فرضنا إلهين لكان كل واحد منهما قادرا على جميع المقدورات فيفضي إلى وقوع مقدور واحد من قادرين اثنين مستقلين من وجه واحد وهو محال لأن استناد الفعل إلى الفاعل إنما كان لإمكانه، فإذا كان كل واحد منهما مستقلا بالإيجاد فالفعل لكونه مع هذا يكون واجب الوقوع فيستحيل إسناده إلى هذا لكونه حاصلا منهما جميعا فيلزم استغناؤه عنهما واحتياجه لهما معا وذلك محال، وهذه حجة تامة في مسألة التوحيد. قال تعالى (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) الآية 91 من المؤمنين الآتية، وهذه وحدها كافية للاستدلال على عدم وجود إله غير الله الواحد لمن كان له قلب حي أو ألقى السمع الواعي، وسيأتي تمام البحث في هذه عند تفسير هذه الآية، قال الإمام فخر الدين الرازي: القول بوجود إلهين يفضي الى امتناع وقوع المقدور بواحد منهما، وإذا كان كذلك وجب أن لا يقع البتة وحينئذ يلزم وقوع الفساد قطعا.
أو تقول لو قدرنا وجود إلهين فإما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا على الشيء الواحد فيكون مقدورا لهما ومراد لهما فيلزم وقوعه بهما وهو محال، وإن اختلفا فإما أن يقع المرادان أو لا يقعا أو يقع أحدهما دون الآخر والكل محال، فثبت أن الفساد(4/300)
لازم على كل التقديرات. وأعلم رعاك الله ووفقك لهداه وأرشدك لمرماك إنك إذا وقفت على حقيقة هذه الدلائل عرفت أن جميع ما في هذا العالم العلوي والسفلي من المحدثات، والكائنات دليل على وحدانية الله تعالى عقلا، ولهذا وجبت معرفة الله تعالى بالعقل فضلا عن النقل، فكل من وهيه الله عقلا كاملا ولم يعترف بوجوب وجود الإله الواحد فهو كافر، ولهذا أول بعض المفسرين قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) الآية 15 من الإسراء في ج 1، بأن الرسول هنا معناه العقل ولكنا فئدنا هذا القول في تفسير هذه الآية فراجعها، وذلك لأن الدلائل السمعية على الوحدانية كثيرة في القرآن والسنة غنية عن البيان لأن القرآن كله طافح بها وأقوال المصطفى صائحة فيها، ومن قال إن معنى هذه الآية التي اشتهرت ببرهان التمانع لو كان في السماء والأرض آهة كما يقول عبدة الأوثان لزم فساد العالم لأن تلك الآلهة التي يقولون بها جمادات لا تقدر على تدبير شيء مما في هذا العالم فيلزم فساده غفل عن قوله تعالى (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً) الآية المتقدمة لا الآتية بأنها مسوقة للزجر عن عبادة الأوثان وإن لم تكن لها الألوهية التامة لأن العبادة إنما تليق لمن له ذلك. وبعد هذا الزجر أشار سبحانه إلى أن من له ما ذكر لا يكون إلا واحدا، تنبه، ولهذا نزه نفسه المقدسة بقوله «فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» 22 من الشرك والولد والصاحبة والمثيل وغيرها «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ» في كونه لأنه متفرد فيه «وَهُمْ يُسْئَلُونَ» 23 ما عداه من جميع الكائنات عما يقع منهم وهذا مما لا ريب فيه لأنا نرى بعض ملوك الأرض لا تسأل عما تفعل لأنهم نصوا في دستورهم المطبق على رعاياهم (ذات السلطان مقدسة وغير مسئولة) فكيف بملك الملوك حقيقة في الدنيا والآخرة لا مجارا ولا في الدنيا فقط. قال تعالى «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً» استفهام إنكاري وتوبيخ للمشركين لأنه لمّا أبطل كون آلهة غيره بما مر أنكر عليهم اتخاذهم آلهة غيره فقال (أم اتخذوا) إلخ، وكلفهم الحجة على زعمهم فقال يا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الكفرة «هاتُوا بُرْهانَكُمْ» على وجود إله غير الله وإذا كنتم تحتجون بالكتب القديمة فهو كذب لأن «هذا» القرآن المنزل عليّ فيه «ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ» من أصحابي(4/301)
الموجودين في هذه الدنيا «وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي» من الأمم السالفة ومعاني ما أنزل على إخواني الأنبياء من الكتب والصحف موجودة فيه أيضا، لأنه يحتوي على جميع الكتب السماوية المتعلقة بالتوحيد ولا يوجد فيه ما تزعمون، وها هي ذي الكتب الأخرى التوراة والإنجيل والزبور أنظروها هل تجدون فيها شيئا مما يدل على أن الله اتخذ ولدا أو صاحبة أو كان معه إله آخر؟ كلا لا تجدون شيئا من ذلك البتة «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ» المنزل عليك من عندنا «فَهُمْ» لعدم معرفتهم وجهلهم «مُعْرِضُونَ» 24 عن النظر والاستدلال فيما لهم وعليهم.
قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» 25 وحدي وهذا تقرير لما سبق من آي التوحيد لأن هذه الآية تشير إلى أن الله تعالى أخذ العهد على الأنبياء ولرسل كافة بأنه لا إله في الكون غيره وأن يعبده من فيه وحده، فكل ما يقال بخلاف هذا كذب محض وبهت مفترى، ثم طفق يندّد بصنيعهم الفاسد فقال «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً» أول من قال هذا من العرب خزاعة ثم قلدهم غيرهم «سُبْحانَهُ» تبرأ عن ذلك «بَلْ» هم الملائكة الذين يزعمونهم بنات الله «عِبادٌ مُكْرَمُونَ» 26 عنده لاستغراقهم بعبادته وأدبهم معه «لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ» فيستقدمون به عليه بل يتبعونه ويقنفون أثر كلامه الجليل «وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» 27 لا يخالفونه قيد شعرة ولا أقل منها قولا ولا عملا «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» من الأفعال والأقوال التي وقعت منهم أو لم تقع في الحال أو التي ستقع بعد لا يخفى عليه شيء من أمر غيرهم «وَلا يَشْفَعُونَ» لأحد كما يزعم من عبدهم وكذلك بقية الملائكة وجميع الرسل والأنبياء والأولياء «إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» الله الشفاعة له ورضي عنه وأذن لهم أن يشفعوا لمن يشاء، راجع الآية 55 من البقرة في ج 3 والآية الثانية من سورة يونس المارة والآية 23 من سورة سبأ المارة وما تدلك عليه «وَهُمْ» كغيرهم من العباد العارفين مقام الألوهية الحقة كذلك تراهم «مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ» 28 وجلون دائما لا يأمنون على أنفسهم منه لأن من قرب من الملك وعرف عظمته وبطشه صار أكثر الناس خوفا منه، وجاء في(4/302)
الخبر: الناس هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون هلكى إلا العارفون، والعارفون على خطر عظيم.
ثم شرع يهددهم، يا ويل من أغضب الجبار القائل «وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ» أي الملائكة والأنبياء والأولياء وغيرهم فضلا عن الرعاع والجماد فأي كان من مخلوقاته جزؤ فقال «إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ» وناهيك بها من جزاء شديد «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الفظيع «نَجْزِي الظَّالِمِينَ» 29 الذين وضعوا مقام الإلهية بغير موضعها. قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً» شيئا واحدا ملتصقتين ببعضهما «فَفَتَقْناهُما» عن بعضهما وخللنا الهواء بينهما فجعلنا هيكلا علويا على حدة وهيكلا سفليا، والمراد من السموات طائفتها ولهذا ثني الضمير ولم يجمع ومثل هذا قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) الآية 42 من سورة فاطر في ج 1، وعليه قول الأسود بن يعفر:
إن المنية والحتوف كلاهما ... دون المحارم يرقبان سواري
وقد أفرد الخبر وهو رتقا لأنه مصدر وأصل الرتق الضم والالتحام خلقة كان أو صنعة، ومنه الرتقاء من كانت ملتحمة محل الجماع، وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا البحث في سورة فاطر المذكورة وله صلة في الآية 66 من سورة الحج في ج 3 فراجعهما، «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» من حيوان ونبات إذ يدخل في معنى شيء النبات والشجر لأن الماء سبب حياتهما وحياة كل شيء، وقال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) الآية 45 من سورة النور في ج 3، فيدخل في معنى دابة الإنسان لأن لفظ دابة موضوع لكل ما دب على وجه الأرض، وخرج هذا مخرج الأغلب لأن آدم وحواء وعيسى والملائكة والجن لم يخلقوا من الماء كما ذكرنا ذلك عند ذكر كل منهم «أَفَلا يُؤْمِنُونَ» 30 هؤلاء الكفار بألوهية من يفعل ذلك، وهذه الآية من معجزات القرآن العظيم لأنه لم يكن في مكة ولا في العالم زمن نزول القرآن من يعرف أن الموجودات كانت كتلة واحدة، ثم فتقت فتكونت منها السموات ثم الأرض ثم المخلوقات، ولا من يعلم أن أصل كل الموجودات الماء ولم يعرف أحد شيئا من هذا إلا بالعصور الأخيرة، راجع الآية 7 من سورة(4/303)
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
هود المارة.
قال تعالى «وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ» لأنها كانت تتحرك بالهواء كالسفينة في الماء، فأثقلها الله تعالى بالجبال الثوابت، وفيها إشارة إلى ما يعبّر عنه الجغرافيون بالقشرة الباردة، لأن الرواسي هي الصخور الجامدة في أديم الأرض، راجع الآية 22 من سورة الحجر المارة «وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً» طرقا واسعة بين الجبال «سُبُلًا» تفسير للفجاج أي طرق سهلة «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» 31 بها إلى مقاصدهم من البلاد والقرى والبوادي إذا سلكوها، والفرق بين هذه الآية وقوله تعالى (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً) الآية 20 من سورة نوح المارة، أن هذه للإعلام بأنه جعل فيها طرفا واسعة، وتلك لبيان أنه حين خلقها خلقها على تلك الحالة والصفة، فهو بيان لما أنهم «وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً» من البلى والسقوط والتغير على مدى الدهر المقدر لها، قال تعالى (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) الآية 65 من سورة الحج في ج 3، والآية 42 من سورة فاطر في ج 1، «وَهُمْ» الكفار «عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ» 32 لا يتفكرون بما فيها من الشموس والأقمار والكواكب والنجوم وحركاتها في أفلاكها ومطالعها ومغاربها وترتيبها العجيب الدال على الحكمة الباهرة والنظام البديع المنبئ عن كمال القدرة القاهرة.
مطلب في الأفلاك وما يتعلق بها، وبحث في الشماتة، وما قيل في وزن الأعمال والإخبار بالغيب:
قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله «وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» للضياء ونضج الأثمار ومنافع أخرى كثيرة ألمعنا إليها في الآية 15 من سورة يونس المارة «كُلٌّ» من هؤلاء «فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» 23 يجرون في الهواء بصورة بديعة لا يعتريها الزيغ، راجع الآية 40 من سورة يس في ج 1 والآية 15 من سورة الحجر المارة. على أن العالم الألماني أنشتين اليهودي صاحب النظرية النسبية التي تقوم على معاكسة جميع الافتراضات القديمة في الفلك والحساب يقول: إن كل الحقائق التي أقرها العلم حتى الآن ما هي إلا بالنسبة لفرضيات افترضوها مما خيل لهم أنها حقائق وليست كذلك، وان الأرض يوشك(4/304)
أن لا تكون كروية ولا دائرة حول الشمس، خلافا لما أقره الأكثر على القول بكرويتها، وقال ابن كثير من علماء الإسلام وهو لا ينافي القرآن كما بينا في السورة المارة الذكر، أما القول بدورانها حول الشمس فهو بعيد عن رأي المحققين، وهو يخالف صراحة القرآن لفظا، والله أعلم بالواقع، وما ندري لعل الزمن يظهر مفكرين آخرين يؤيدون نظرية هذا اليهودي، والله تعالى يقول (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) الآية 76 من سورة يوسف المارة. هذا، والفلك هو مدار النجوم الذي يضمها، وهو عرفا كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك، والأفلاك أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة ولا تقبل الخرق والالتئام ولا النموّ ولا الذبول، ولا يعرف كنه أفلاك الله إلا هو أعلمنا بوجودها كما لا يعلم مدى خرابها غيره، وكما أعلمنا بخرابها في قوله جلّ قوله (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) وفي قوله (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) وقوله (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) وآيات أخرى كثيرة تدل على ذلك. قال تعالى «وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ» في الدنيا «أَفَإِنْ مِتَّ» يا سيد الرسل «فَهُمُ الْخالِدُونَ» 34 بعدك؟ كلا، فإنهم ميتون لا يبقى منهم أحد، نزلت هذه الآية حين قال المشركون إنا نتربص بمحمد ريب المنون، فنشمت بموته، فنغى الله تعالى الشماتة عنه في هذه الآية القاضية بعدم تخليد أحد في هذه الدنيا، قال ذو الإصبع العدواني:
إذا ما الدهر جرّ على أناس ... كلا كله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشّامتون كما لقينا
على أنه لا شماتة في الموت، لأنه محتوم على كل أحد، وتكون بغيره من المصائب، وإن كانت مقدرة لأنها على أناس دون آخرين، قال الشافعي رضي الله عنه:
تمنّى أناس أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل الذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها وكأن قد
وإنما قالوا الموت لا شماتة فيه لأنه لا علاقة للعبد فيه، حتى ان المقتول يموت بأجله، وإنما الشماتة التي تقع على الغير بفعل الغير، ومن قال:
من عاش بعد عدوه ... يوما فقد بلغ المنى(4/305)
بالنظر لظاهر الأمر، لأن فيه غياب عدوه عن نظره، فمن هذه الجهة يصدق قوله هذا، ومن قال إن هذه الآية تنفي حياة عيسى والخضر وإدريس والياس وغيرهم، وتثبت موتهم فقد أخطأ، لأن عيسى حي بنص القرآن والأحاديث الصحيحة، والخضر بالأحاديث والتواتر، وأنهما لا بد أن يموتا، راجع الآية 61 من سورة الزخرف في ج 2 وما ترشدك إليه، والآية 57 من سورة مريم المارة في ج 1 تغىء عن رفع إدريس، ووردت أخبار وآثار بحق الياس، راجع الآية 132 المارة من سورة الصافات والآية 85 الآتية، على أنه لا بد من موت الكل بقوله تعالى «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» والذوق مقدمات الموت وآلامه لأنه به ينقطع ذلك، ويفيد سور الكلية العامة موت كل نفس، إلا أنه مخصوص بقوله تعالى (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) الآية 116 من المائدة في ج 3، لأن الله تعالى حي لا يموت ولا يجوز عليه الموت، فكما أنه تعالى لا يشبه شيئا من خلقه فكذلك نفسه الكريمة لا تشبه نفوس خلقه، وبعضهم جعل الخصوص أيضا في الجمادات، لأن لها نفوسا لا تموت، هذا والعام المخصوص حجة فيبقى معمولا به على ظاهره فيما عدا ما أخرج منه، وهذا يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشرية والعقول المفارقة والنفوس الفلكية أنها لا تموت، بل تموت أيضا وتدخل في عموم هذه الآية إذا كان لما قالوه من صحة «وَنَبْلُوكُمْ» نختبركم أيها الناس «بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» ابتلاء فهو مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه، أي لننظر كيف شكركم على ما تحبون وصبركم فيما تكرهون «وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ» 35 فنجازيكم بحسبها «وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا» يا سيد الرسل «إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً» كأبي جهل وجماعته من رءوس الكفر، لأنهم كانوا إذا مرّوا به صلّى الله عليه وسلم يضحكون ويقولون هذا نبي بني عبد مناف ويقول بعضهم لبعض «أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ» أي يذمها، والذكر يطلق على المدح والذم «وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ» 36 أي كيف يستهزئون بك إذ تستهزء بأصنامهم وهم أحق أن يستهزىء بهم، لأنك تعبد الخالق وهم يعبدون ما يخلقون، ونزلت فيهم هذه الآية. قال تعالى «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» العجلة طلب الشيء قبل(4/306)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
أوانه، وهو من مقتضيات الشهوة، فلذلك صارت مذمومة حتى قيل العجلة من الشيطان، والقاعدة الشرعية: من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، قال القائل:
لا تعجلن لأمر أنت طالبه ... فقلما يدرك المطلوب ذو العجل
فذو التأني مصيب في مقاصده ... وذو التعجل لا يخلو من الزلل
فالإنسان لقلة صبره وفرط استعجاله جعل كأنه مخلوق من العجلة، لأنه يكثر منها، والعرب تقول لكثير الكرم خلق من الكرم «سَأُرِيكُمْ آياتِي» التي تطلبونها أيها الناس «فَلا تَسْتَعْجِلُونِ» 37 نزولها وذلك أنهم كانوا يقولون لمحمد صلّى الله عليه وسلم هات ما توعدنا به من العذاب أدع ربك فلينزله علينا، فأجابهم الله بأنه لا بد من إنزاله بكم، ولكن لم يحن بعد أجله القدر له «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 38 في قولكم يا محمد ويكررون هذه المقالة له على طريق السّخرية والاستهزاء بوعده، وهذا هو الاستعجال المذموم الذي أوعدهم الله سوء عاقبته، راجع الآية 48 من سورة يونس المارة. قال تعالى «لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» ما هو ذلك العذاب هو «حِينَ» يحل بهم «لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» 39 إذا حل بهم فلا يقدرون على ردّ شيء منه ولا تأخيره، وجواب لو محذوف تقديره لما كانوا طلبوا ولا استهزأوا ولعلموا أن جهلهم هو الذي أوقعهم في ذلك العذاب وحدا بهم إلى تلك المهالك. قال تعالى «بَلْ تَأْتِيهِمْ» الساعة المقدر فيها نزوله أو الموت «بَغْتَةً» على حين غرة فجأة «فَتَبْهَتُهُمْ» ويهولهم أمرها وتراهم حين تأتيهم حائرين «فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها» عنهم ولا الصبر عليها «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» 40 يمهلون ليتوبوا ويعتذروا كما أنهم لا ينصرون من قبل أحد.
قال تعالى مسليا لحبيبه «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ» كما استهزأ بك قومك «فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» 41 من نزول العذاب فلم يحسوا إلا وقد نزل وأحاط بهم وكذلك قومك يا محمد إذا يقوا مصرين على تكذيبهم وسخريتهم يحيق بهم مثلهم، راجع نظيرة هذه الآية(4/307)
الآية 134 من سورة الأنعام المارة لمناسبة غير هذه المناسبة «قُلْ» يا سيد الرسل لقومك «مَنْ يَكْلَؤُكُمْ» يحرسكم إذا نمتم «بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ» إذا انصرفتم فيه لمعاشكم «مِنَ الرَّحْمنِ» إذا أراد إبقاع عذابه بكم فيهما، وفي التعريض لعذاب الرحمن دون غيره من الأسماء المقدسة والصفات الطاهرة تنبيه على أنه لا حفيظ لهم غيره بمقتضى رحمته وتلقين للجواب ليقولوا رحمتك تحرسنا، ونظير هذه قوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الآية 7 من سورة الانفطار الآتية ليقول كرمك يا رب فإذا وفقوا يقولون هنا وهناك ولكن أنى لهم التوفيق وقد فات وقته إذ يقول الله «بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ» 42 فلا يخطر يبالهم لسابق شقائهم، فيا أكمل الرسل قل لمن يجادلك فيهم «أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا» إذا أردنا بهم شرا؟ كلا، آلهتهم التي يزعمونها «لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ» فهم عن نصر غيرها عجز «وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ» 43 بالنصر والتأييد ليخلفوا وإذا كانوا كذلك فلا محيص لهم من العذاب قال تعالى «بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ» الكفرة «وَآباءَهُمْ» متعناهم أيضا في الدنيا فاغتروا بها ولهوا بنعيمها «حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ» وهم في صحة وأمن وسعة فقست قلوبهم وظنوا أنهم خالدون فيها لا يغلبون عليها لفرط جهلهم أخذوا على غفلة «أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ» التي هي تحت تصرف الكفار فنسلط عليها المؤمنين و «نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها» فنسلبها منهم ونضمها للمؤمنين وهذا من الإخبار بالغيب، لأنه تقدير لما سيجريه الله تعالى لرسوله من النصر والفتوح في غزواته ومن بعده لأصحابه إذ تدخل عساكرهم أراضي المشركين عنوة أو صلحا غالبة ظافرة فنضمها إلى المسلمين فتكون في حوزتهم فإذا فعل بهم هذا «أَفَهُمُ الْغالِبُونَ» 44 أم نحن؟ كلا بل هم المغلوبون، والغلبة لله ولرسوله وللمؤمنين، راجع الآية 8 من سورة المنافقين في ج 3، وهذا الاستفهام إنكاري جوابه النفي، وكيف لا يكونون غالبين وهم حزب الله الذي لا زال غالبا من قبل للرسل وأتباعهم، فلأن يكون الغلب لخاتم الرسل وأتباعه من باب أولى.
ولهذا البحث صلة في الآية 44 من سورة الرعد الآتية ج 3، وقد مرّ له بحث في(4/308)
الآية 8 من سورة المؤمن والآية 75 من الصافات فراجعها. وفي هذه الآية إشارة إلى أن النقص الواقع بطرفي الأرض من جهة قطبيها الشمالي والجنوبي، وهو أيضا من الإخبار بالغيب، إذ لم يكن أحد في عهد نزول القرآن يعلم ذلك، صدق الله العظيم (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية 38 من سورة الأنعام المارة، قيل كان ابن الجوزي يدرس في جامع دمشق في هذه الآية فقال له رجل هل في القرآن ما يدل على أن فأرة حملت عصا بذنبها وتريد أن تدخل جحرها معها؟
قال نعم في قوله تعالى (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً ... وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) الآية 25 من سورة النحل المارة، رحمه الله ما أدق فكره، راجع الآية المذكورة في سورة الأنعام المارة، والآية 23 في سورة الشورى المارتين «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ» المنزل عليّ من ربي لا بما تتفوّهون به من السحر والشعر والكهانة وغيرها من الأمور الثمانية المارة من الآية 5 من هذه السورة «وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ» 45 يخوفون ولكنهم بمعزل عن السماع ولأنهم لا يسمعون مطلقا، وإنما قال بالوحي ليعلمهم أن إنذاره مقتصر على الإخبار الإلهي لا باقتراح الآيات لأنه مزاحم للحكمة التكوينية والتشريعية، ولأن الإيمان برهاني لا عياني. قال تعالى «وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ» شيء قليل وطرف يسير كأدنى شيء «مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» 46 لأقروا على أنفسهم بالظلم حالا فكيف إذا أصابهم معظم العذاب أو صب عليهم كله يا ويل من لم يرجع إلى الله قبل أن لا يقبل منه الرجوع قال تعالى «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ» فنزن بها أعمال الخلق فمن أحاطت حسناته بسيئاته فقد فاز ونجى ومن حاقت سيئاته بحسناته فقد خاب وخسر وإذ ذاك يظهر للكافرين قوله تعالى (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) الآية 107 من سورة الكهف المارة، إذ لا أعمال لهم صالحة، وقرىء القصط بالصاد لأنه قد يحل محل السين كما أن السين نحل محله في الصراط راجع تفسيره في سورة الفاتحة في ج 1، واللام هنا في يوم القيامة بمعنى في، وعليه قول مسكين الدارمي:
أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم ... كما قد مضى من قبل عاد وتبّع(4/309)
«فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً» بذلك الوزن لأن الله تعالى وصفها بالعدل على ما يعرفون أن منها ما يكون في الدنيا مستقيما ومنها ما لا يكون فبين الله تعالى لهم أن موازين الآخرة على العدل والاستقامة فلا يتصور فيها النقص والزيادة اللذان هما من دواعي الظلم «وَإِنْ» وصلية «كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ» لا يظلمه وهذا مبالغة في القلة بحسب عرفنا لأنا لا نرى أقل منها وإلا فالله تعالى يجازي ويثيب على أقل منها مما لا يدركه الطرف ولا يوزن «أَتَيْنا بِها» إلى فاعلها ليعلم أنا واقفون على كل حركاته وسكناته، وإنا نحاسبه عليها مهما كانت «وَكَفى بِنا حاسِبِينَ» 47 عادين محصين ومتقنين أعمالكم عالمين بها حافظيها عليكم فنعفوا عمن نشاء ونعاقب من نشاء إذا شئنا على الفتيل والنقير والقطمير، قال الشبلي وقد رؤي بالمنام بعد مرته رحمه الله ما فعل الله بك فقال:
حاسبونا فدقفوا ... ثم منوا فأعتقوا
هكذا عادة الملوك ... بالمماليك يرفقوا
وفي رواية يشفقوا، وتشير هذه الآية إلى أن الحساب بعد وضع الموازين، أخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق، فينشر له تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مد البصر، ثم يقول أتنكر من هذه شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟
فيقول لا يا رب، فيقول ذالك عذر؟ فيقول لا يا رب، فيقول الله تعالى بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول احضر وزنك، فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت (خفت) تلك السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء.
هذا لأنه قالها بإخلاص وعقيدة راسخة فخبأها الله له، وفي هذا الحديث دلالة على أن صحائف الأعمال نفسها توزن، لا أن الأعمال تنجسد ثم توزن، والله أعلم بحقيقة الحال لأن أفعال الآخرة فوق العقل لا يعرفها إلا من يشاهدها، لهذا يجب الاعتقاد والتسليم للمخبر بها. قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ»(4/310)
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)
التوراة الفاصلة بين الحق والباطل الفارقة بين الهدى والضلال «وَضِياءً» نورا يعرف به طريق الرشد من الغي «وَذِكْراً» يتذكر به ما يحتاجه بنو إسرائيل من أمور دينهم ودنياهم وعظة يتعظون بها وعبرة «لِلْمُتَّقِينَ» 48 الذين يعتبرون بما فيها ويعملون. ثم وصف هؤلاء المتقين الذين يعملون بالفرقان الموصوف بالأوصاف المذكورة بقوله «الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ» من حيث لم يرونه فيعبدونه في خلواتهم إذا غابوا عن أعين الناس ويمتنعون من مخالفته خوفا من أن يراهم لعلمهم أنه مطلع على سرّهم وجهرهم، لأن من عبد الله وعلم أنه يراه أحسن عبادته وخشع فيها وخضع لربه «وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ» 49 خائفون من هولها قبل أن يروها لأنهم آمنوا بها على الغيب تصديقا لرسلهم وكتابهم «وَهذا» القرآن «ذِكْرٌ مُبارَكٌ» عظيم الخير كثير البركات جامع لمنافع الدنيا والآخرة «أَنْزَلْناهُ» عليك يا سيد الرسل كما أنزلنا الكتب على من قبلك عيسى وموسى فمن قبلهم «أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ» 50 يا أهل مكة إنزاله على نبيكم وشمول بركته لكم وخيره فيكم، وهل أنتم جاحدون صحبته، وهذا استفهام على طريق الإنكار والتقريع يضاهي ما جاء في الآية 175 من سورة الأنعام المارة.
قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ» موسى وهارون «وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ» 51 بأنه أهل لما آتيناه لما هو عليه من الكمال والإخلاص لنا، قالوا لما ألقي في النار قال له جبريل عليهما السلام سل ربك ينقذك منها، قال له علمه بحالي يغني عن سؤالي، وقال ألك حاجة؟ قال أما إليك فلا. فهذا كاف على إخلاصه لربه، فاذكر يا محمد لقومك شأنه هذا مع قومه وأهله «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ» 52 أراد عليه السلام ما هذه الأصنام، ولكنه تحقيرا لها وتقريعا لهم بعبادتها، عبر عنها بالتماثيل وهي الصور المصنوعة المشبهة بالمخلوقين من إنسان وحيوان وطير وحوت وغيرها، أي ما بالكم مقبلون عليها ملازمون لها منهمكون في عبادتها «قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ» 53 فعبدناها تقليدا لهم «قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 54 بالعكوف عليها لا يخفى على عاقل وان استنادكم للتقليد(4/311)
عبارة عن هوى متبع وشيطان مطاع وإعجاب بما تصنعون «قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ» أي الصدق لمقابلة قولهم «أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ» 55 الهازئين في قولك لأنا لم نسمع هذا إلا منك «قالَ» يا قوم إن هذه لا تصلح للعبادة وليست برب ينفع ويضر ويحيي ويميت «بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» 56 وجازم بقولي لكم بأنها ليست بآلهة لأنها من عملكم والله خلقكم وما تعملون ولست بهازل ولا من شأني اللعب وأريد لكم ما أريد لنفسي «وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ» التي تخوفوني بها ولأفعلن بها فعلا يكيدكم «بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ» 57 من هنا إلى عيدكم، وذلك أن أباه كلفه، وقيل الملك أراده أن يذهب مع قومه إلى العيد، فسار معه ثم ألقى نفسه بأثناء سيره معهم لشدة تفكره وتأثره من صنيعهم على الأرض وقال إني سقيم، راجع قصته في الآية 89 من سورة الصافات والآية 78 من سورة الأنعام المارتين، فتركه أبوه ومضى إلى عبده فرجع إبراهيم إلى بيت الآلهة فوجدها في بهو عظيم، وبمستقبل بابه صنم كبير إلى جنبه أصغر منه، وهكذا بقية الأصنام، ورأى بين أيديهم طعاما وضعوه لتحل عليه بركتها، فيأكلوه بعد رجوعهم من مراسم العيد والتبرك بالأصنام، فقال لهم على طريق السخرية ألا تأكلون؟ فلم يردوا عليه فقال لهم استهزاء بهم ما لكم لا تنطقون؟ فلم يردوا عليه، فطفق يكسرها حتى أتى على آخرها، ووضع الفأس في عنق كبيرهم الذي لم يتعرض إليه كما حكى الله عنه «فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً» قطعا كبيرة وصغيرة، من الجذ الذي هو القطع، قال الشاعر:
بنو المهلب جذ الله دابرهم ... أمسوا رمادا فلا أصل ولا طرف
«إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ» لعابديها لم يتعرض له، وهذا أولى من عود الضمير لنفس الأصنام، إذ لو كان لها كما مشى عليه بعض المفسرين لقال كبيرها ويؤيده أيضا قوله «لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ» 58 فيسألونه عمن كسرها لأنه بقي صحيحا وآلة التكسير في عنقه، قالوا كانت اثنتين وسبعين صنما منها من ذهب ومنها من فضة ومن نحاس وصفر وحديد وخشب وحجر وطين، فلما رجعوا من عيدهم ودخلوا على البهو رأوا ما هالهم «قالُوا» صائحين بلسان واحد «مَنْ فَعَلَ هذا(4/312)
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ»
59 في جرأته هذه المؤدية لإهلاكه «قالُوا» الذين سمعوا صياحهم وسمعوا قبل قسم إبراهيم على كيدها «سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ» بسوء ويعيبهم ويسخر بهم «يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ» 60
فأوصلوا الخبر إلى النمروذ وملائه فأجمع رأيهم على جلبه واستنطاقه أولا ولهذا «قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ» 61 على اعترافه بذلك لئلا يقول الناس إنه أخذ بغير ذنب وقتل بغير بينة، فأتوا به ثم له «قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ» 62 ولماذا «قالَ» ما فعلت شيئا وقصد غير تكسيرها وما عملت شيئا يسخط الله فيها «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا» ففهموا من كلامه هذا أن الذي كسرها هو الصنم الكبير المشار إليه من قبل إبراهيم، وقد وقف بعضهم على (بل فعله) ، ثم ابتدأ فقرأ (كبيرهم هذا) إلخ يريد بذلك عود الضمير على إبراهيم تخلصا من الكذب، ووقف بعضهم على هذا، وأراد أي هذا قولي فاسألوهم إلخ لأجل التخلص من الكذب أيضا، والحال أن الكذب للمصلحة جائز من النبي وغيره إذا كان هناك محذور كما هنا، فلا حاجة للوقفين اللذين لم يردهما إبراهيم نفسه، أي إنما كسرها كبيرهم بسبب غضبه عليكم، لأنكم تعبدون الصغار معه وتساوونها به وهو أكبر منها، فكرهن ليستقل بعبادتكم. قالوا ما بينتك على هذا؟
قال لا بينة لي سوى وجود آلة التكسير لديه كما شاهدتموها، فإن لم تصدقوني «فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ» 63 أراد بهذا إقامة الحجة عليهم لأنها إذا قدرت على النطق قدرت على الفعل، وإلا فيظهر لهم عجزها. قال تعالى «فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ» لما سمعوا قوله وتفكروا به فلم يكن لهم بد إلا الاعتراف بعجزها «فَقالُوا» أولا لبعضهم «إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ» 64 بعبادتكم ما لا يتكلم، لأن من لم يدفع عن رأسه الفأس كيف يدفع عن عابديه البأس، وقد أجرى الله الحق على لسانهم أثناء المذاكرة فيما بينهم على غياب من إبراهيم بدليل ما حكى تعالى عنهم (فرجعوا إلى أنفسهم) وقد لحقهم الشقاء المبعد عن الحق المهوي بهم إلى الباطل المشار إليه بقوله تعالى «ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ» أي ردّوا إلى تعصبهم وآرائهم الفاسدة عن الفكرة المستقيمة الصالحة في تظليمهم(4/313)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
أنفسهم فقالوا له «لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ» 65 فكيف تكلفنا سؤالهم فلما رأى الحجة اتجهت عليهم «قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ» إن عبدتموه «شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ» 66 إن تركتم عبادتها «أُفٍّ» راجع معناه في الآية 23 من الإسراء في ج 1 «لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» 67 أنها لا تستحق العبادة فتتركونها، ثم طفق يندد بهم وبآلهتهم ويذمها ويحقرها ويسفههم، ولما جابههم بذلك وعرفوا أنه هو الفاعل حكموا عليه بما ذكره الله بقوله «قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» 68 به شيئا يرفع العار عنكم وعن آلهتكم، لأنه طعن فيكم ووصم آلهتكم جهرا ولم يحترم أحدا ولم يقلع عما هو عليه ولم يعتذر، قالوا فقبضوه وحبسوه في حظيرة في قرية كوني، وأمر النمروذ الناس بجمع الحطب مدة ستة أشهر، حتى صار المرضى وذو العاهات والحاجات ينذرون جمع الحطب لإحراقه إذا أجيبت دعواتهم، قاتلهم الله ما أحمقهم، ثم أوقدوا ما جمعوه مدة سبعة أيام حتى صارت الطير في جو السماء تحترق من وهجها، فأخرجوا إبراهيم ليلقوه فيها، فلم يقدروا أن يتقربوا منها ولم يعلموا كيفية إلقائه بوسطها ليتم لهم ما قرروه، قالوا فخرج إبليس على صورة رجل منهم فعلمهم عمل المنجنيق (آلة قاذفة) فعملوه ووضعوه فيه مقيدا مغلولا ورموه في تلك المقذفة من محل عال مشرف على وسط النار، فتداركه الذي ألهمه ما عمل وأنطقه بما قال جلت قدرته بقوله «يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ» 69 فكانت كذلك لأنها لا تحرق إلا بخلق الله الإحراق فيها «وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ» 70 في سعيهم وعدم حصول مرادهم
«وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ» 71 أرض الشام والقدس.
مطلب إلقاء إبراهيم في النار وماذا قال لربه وملائكته وفي مدح الشام:
قالوا لما وضع إبراهيم بالمقذف ليرمى في النار صاحت ملائكة الأرض والسماء، ربنا ائذن لنا في نصرته فليس في الأرض أحد يعبدك غيره، فقال إنه خليلي وأنا إلهه فإن استغاثكم فأغيثوه، قالوا فجاء خازن المياه وقال له إن أردت أخمدت(4/314)
النار، وأتاه خازن الهواء فقال له إن أردت طيّرت النار، فقال لا حاجة لي إليكم، حسبي الله ونعم الوكيل، وقالوا إنه قال حين ألقي بالنار: لا إله إلا أنت لك الحمد ولك الملك لا شريك لك. فاستقبله جبريل فقال له يا إبراهيم ألك حاجة؟
قال أما إليك فلا، قال اسأل ربك، قال حسبي من سؤالي علمه بحالي. روى البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى (وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) قال:
قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي بالنار، وقالها محمد صلّى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) الآية 173 من آل عمران في ج 3. قالوا وصار كل شيء يسعى ليطفي النار على إبراهيم إلا الوزغ فإنه كان ينفخها، وروى البخاري ومسلم عن أم شريك قالت: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر بقتل الأوزاغ. زاد البخاري قال: وكان ينفخ على إبراهيم. قال ابن عباس: لو لم يقل الله تعالى سلاما لمات إبراهيم من بردها. وجاء في الآثار أنه لم تبق نار في الأرض ذلك اليوم إلا أطفئت، ولو لم يقل على إبراهيم لبقيت باردة أبدا، ولم ينتفع بها أحد، قالوا وبقي إبراهيم فيها سبعة أيام ولم يحترق إلا وثاقه، لأنه من أعدائه وفي حرقه خلاصه من التكتيف فكان لمنفعته، وإلا لم يحرق تبعا للباسه. قالوا وأتبع الله له فيها عين ماء عذب، وأنبت على حافتها الورد الأحمر والنرجس، وبعث الله ملكا يظلل عليه ويؤنسه، وأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إباه، وبطنفسة فأجلسه عليها، وصار يؤانسه أيضا، قالوا وأشرف نمروذ من الصرح على إبراهيم فرآه جالسا في روضة وسط النار، فناداه كبير إلهك الذي بلغت قدرته هذا يا إبراهيم أتستطيع أن تخرج؟ قال نعم، قال تخشى إن قمت أن تضرك؟ قال لا، قال إذن فاخرج فإنك آمن وإنا لا نجابهك بشيء بعد أن رأينا فعل إلهك معك، قالوا فخرج، ولما وصل إليه قال من الذي كان معك؟ قال ملك يؤانسني، قال إني مقرب إلى ربك أربعة آلاف بقرة، قال لا يقبلها منك إلا أن تكون على ديني، قال لا أستطيع ترك ملكي ولكن سأذبحها لصنيعه بك، فذبحها وترك إبراهيم وشأنه، قالوا واستجاب لإبراهيم رجلان من قومه حين رأى لطف الله فيه، ثم آمنت به سارة بنت هاران الأكبر عم إبراهيم، وتبعه لوط ابن أخيه، وكان لها أخ ثالث يسمى ناخورا(4/315)
وثلاثتهم أولاد تارخ وهو آزر، فخرجوا من كوني في أرض العراق، وفروا إلى حران بدينهم، ومنها نزل هاران في أرض الجزيرة، ومكث فيها، ثم ذهبوا إلى مصر ثم إلى الشام، وأول ما نزل هاران أرض على سبيل الإقامة أرض بئر السبع من فلسطين، ونزل لوط بالمؤتفكة تبعد عن بئر السبع ثمانية عشر فرسخا فبعثه الله نبيا إلى أهلها وما حولها. أما النمروذ فقد أصر على الكفر فأرسل الله بعرضة فدخلت في منخره إلى دماغه فأهلكته، وفي إهلاكه بهذه الحشرة الصغيرة تقريع لمن يدعي العظمة تجاه ربه عز وجل لأن هذا تعاظم حتى ادعى الإلهية فأهلكه الله بأحقر شيء من خلقه، فاعتبروا يا أولي الأبصار. وسبب تسمية أرض الشام مباركة لأن أكثر الأنبياء خرجوا منها وبعثوا لأهلها ودفنوا فيها. روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب ألا تتحول إلى المدينة فيها مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقبره الشريف؟ فقال كعب إني وجدت في كتاب الله المنزل يا أمير المؤمنين ان الشام كنز الله في أرضه، وبها كنزه من عباده. وأخرج أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ستكون هجرة بعد هجرة (أراد بالهجرة الثانية إلى الشام إذ يرغب بالمقام فيها) فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم. وأخرج الترمذي عن زيد ابن ثبت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم طوبى لأهل الشام، فقلت وما ذاك يا رسول الله؟ قال لأن الملائكة باسطة أجنحتها عليها. وأخرج أيضا عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله أين تأمرني؟ قال هاهنا، ونحى بيده نحو الشام، وقدمنا في الآية 136 من سورة الأعراف ما يتعلق بهذا فراجعه.
قال تعالى «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً» فرق طلبه لأنه قال (رب هب لي من الصالحين) فأعطاه إسحق وأعطى إسحق يعقوب زياده، والنافلة ولد الولد. وهذا بعد أن أعطاه إسماعيل من الجارية هاجر زوجته، وبعد أن وضعه وأمه في مكة المكرمة، وإن ابنه إسحق من زوجته سارة. وقد بينا التاريخ بينهما في الآية 99 من سورة إبراهيم المارة وهو ثماني عشرة سنة «وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ» 72 أنبياء كاملين لاثقين لرسالتنا وإرشاد عبادنا «وَجَعَلْناهُمْ(4/316)
أَئِمَّةً»
قادة «يَهْدُونَ» الناس إلى ديننا «بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ» من كل معروف وعمل صالح وفعل طيب «وَإِقامَ الصَّلاةِ» المحافظة عليها بأوقاتها المعينة لها والمداومة على فعلها «وَإِيتاءَ الزَّكاةِ» لمستحقيها من الفقراء والمساكين وهي أفضل العبادات المالية، كما أن الصلاة أفضل العبادات البدنية، ومنه يعلم أن هذين الفرضين قديمان لم تخل أمة منهما «وَكانُوا» إبراهيم وابنه إسحق وحفيده يعقوب «لَنا عابِدِينَ» 73 لم يعبدوا غيرنا منذ نشأوا «وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً» بين الناس على طريق النبوة بمقتضى شريعته لا على سبيل الملكية، لأنها لم تجمع إلا لداود عليه السلام فمن بعده كما سيأتي في الآية 251 من سورة البقرة ج 3 «وَعِلْماً» به وفقها بأنواعه «وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ» إتيان الذكران والضراط في المجالس والطرقات وقذف المارة بالحصى والتصفير والتصفيق وعقد أيديهم وراءهم تقليدا لفعل إبليس عند طرده من الجنة، والتباهي بعوراتهم من حيث كبرها وصغرها وغيرها من الفواحش «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ» 74 خارجين عن حدود الله متجاوزين عليها «وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا» كسائر أنبيائنا «إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» 75 للدين والدنيا وتقدمت القصة مفصلة في الآية 39 من سورة هود المارة «وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ» إبراهيم ولوط «فَاسْتَجَبْنا لَهُ» دعوته «فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» 76 الذي لحقه من تكذيب قومه وإهانتهم له ومن الغرق الذي أهلك به قومه «وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» فلم يصلوا إليه بسوء قط «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ» منهمكين بالشرور «فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ» 77 لعلمنا أنهم لم يؤمنوا، وتقدمت قصة إهلاكهم في الآية 144 فما بعدها من سورة هود أيضا، «وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ» الذي انطلقت فيه الأغنام فأهلكته وهو معنى قوله «إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ» لبلاد دخلت فيه فأفسدته كله «وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ» 78.(4/317)
مطلب أن الجمع ما فوق الاثنين، وأحكام داود وسليمان، والبساط وسيره وما يتعلق بذلك:
في هذا الجمع دليل المناطقة القائلين أقل الجمع اثنان وعليه اللغات الأجنبية كلها إذ ليس عندهم تثنية بين الجمع والمفرد وعليه قوله تعالى (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) الآية 11 من سورة النساء في ج 3، والمراد أخوان، وقرىء لحكمهما قراءة شاذة، وقيل إن الحكم كما يضاف إلى الحاكم يضاف إلى المتحاكمين فيكون معهما جمعا، تأمل وراجع الآية 116 من الصافات المارة. وخلاصة هذه القصة:
قالوا دخل على داود عليه السلام رجلان، قال أحدهما إن غنم هذا قد دخلت في زرعي ليلا فلم تبق منه شيئا، واعترف الآخر بذلك، فحكم عليه السلام بالغنم كلها لرب الزرع، فلما خرجا قال لهما سليمان: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه بالحكم، فقال غير هذا أوفق وأرفق، فعادا فأخبرا داود، فدعاه وقال له بحق الأبوة والنبوة إلا أخبرتني بالذي هو أولى بهما وأحسن، قال له ادفع لصاحب الحرث، الغنم فينتفع بدرّها ونسلها وصوفها، وأمر صاحبها يزرع لصاحب الحرث مثل حرثه حتى إذا صار كهيئة يوم أكل دفع إلى صاحبه واستعاد صاحب الغنم غنمه، وبهذه الصورة يرتفع الضرر عن الطرفين، ويعود كل لماله كما كان، فقال داود عليه السلام الأمر هو ما قضبت وحكم به، وكان عمر سليمان إذ ذاك إحدى عشرة سنة، ومن ذلك اليوم يقال: الرجوع إلى الحق فضيلة، والاعتراف بالخطأ خير من التمادي في الباطل، والخطأ في البراءة خير من الخطأ بالحكم. والحكم الشرعي في هذا هو أن ما أفسدته الماشية المرسلة من مال الغير نهارا فلا ضمان على ربّها لأن أصحاب الزرع مكلفون يحفظ زرعهم نهارا من المواشي التي تسرح فيه، وإن كان ليلا فعليه الضمان لأن أهل المواشي مكلفون يحفظها ليلا في مراحها لئلا تتسرب إلى مال الغير فتتلفه حال غفلة أهله، يدل على هذا ما رواه حرام بن سعيد بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا (بستانا) لرجل من الأنصار فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل- أخرجه أبو داود مرسلا- وما روى الشيخان من قوله صلّى الله عليه وسلم: جرح(4/318)
العجماء جبار ولم يقيده بليل ولا نهار، وقد أخذ أبو حنيفة بهذا ولم يقض بالضمان أصلا، وأخذ الشافعي بالحديث المشار إليه على التفصيل الذي فيه، وكان حكم داود عليه السلام وابنه بالاجتهاد، ولأنه لو كان بالنص لما جاز لسليمان الاعتراض عليه، ولا لداود الرجوع عنه، وان الله تعالى حمد هذا لصوابه، وأثنى على الآخر باجتهاده. قال الحسن: لولا هذه الآيات لهلك الحكام. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال صلّى الله عليه وسلم إذا حكم الحاكم باجتهاده فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر. وهناك من قال إن حكمهما كان بالنص، إلا أن الآخر نسخ الأول وفيه ما فيه فضلا عن أنه يوجب عدم جواز الاجتهاد للأنبياء، لأن سليمان لم يتنبأ بعد لينزل عليه شرع، يدل عليه قوله تعالى «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» أي قضية الحكم بطريق الإلهام، وإنما ركن داود لحكم سليمان، لأنه رآه موافقا وأرفق من حكمه بحق الطرفين، ولأنه علم حذاقته قبل هذه، وذلك على ما قالوا إن امرأة تبتّلت واستغرقت أوقاتها بالعبادة، وكان لها جاريتان جميلتان، قالت إحداهما للأخرى قد طال علينا البلاء، لأن هذه لا تريد الرجال، وإننا بشر فلو فضحناها لرجمت وخلصنا منها، فصرنا إلى الرجال من بعدها، فأخذنا ماء أبيض ونضحتاه على سوءتها وهي تصلي، وخرجنا إلى داود عليه السلام فقالتا له إنها قد بغت، وكان حد الزنى عنده الرجم، فرفعت إلى داود والماء لأبيض في ثيابها، فسألها فأنكرت، وسألها عن الماء، فقالت لا أدري لعله ماء أبيض أو شيء مفتعل، فأراد رجمها، فقال سليمان ائتوني بنار، فإنه إن كان ماء أبيض اجتمع، وإن كان ماء الرجل تفرق، فأتي بنار فوضعها عليه فاجتمع فدرأ عنها الحد، وهذا من ذكانه عليه السلام وحدة فطنته. ولهذا البحث صلة بعد الآية الآتية. قال تعالى «وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ» يسبحن أيضا ويسرن معه حيث سار وهذا هو تسخيرها «وَكُنَّا فاعِلِينَ» 79 أمثال هذه المعجزات لأنبيائنا ومن شأننا أن نفعل أكثر من ذلك فليس ببدع منا وإن كان بديعا وعجيبا عندكم أيها الناس «وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ» دروع من حديد بدليل قوله «لِتُحْصِنَكُمْ(4/319)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
مِنْ بَأْسِكُمْ»
من أن ينالكم سلاح عدوكم في الحرب «فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ» 80 يا آل داود، وهذا استفهام بمعنى الأمر، أي أديموا الشكر لله على ذلك. واللبوس لغة كل ما يلبس، قال ابن السكّيت:
البس لكل حالة لبوسها ... اما نعيمها واما بوسها
«وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ» سخرناها «عاصِفَةً» شديدة الهبوب ولا يرد هنا ما جاء في قوله (رخاء) في الآية 37 من سورة ص في ج والآية 12 من سورة سبأ المارة لم يذكر فيها الأمران بل ذكر مدة سيرها حين تحمل البساط على الريح اللينة. أما العاصفة فتقطع أكثر مما ذكر هناك، وبما أن الله تعالى سخرها له فتكون على رأيه إن شاء رخاء لينة وإن شاء شديدة عاصفة تقطع السنة بساعة وأقل.
راجع كيفية جلب عرش بلقيس في الآية 38 من سورة النمل في ج 1، فالريح بالنسبة لسيدنا سليمان كالفرس إن شاء أطلقها فغارت وإن شاء أمسكها فسارت، فإذا أراد أن تشتد اشتدت وإذا أراد أن تلين لانت، يدل عليه قوله تعالى «تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها» بالأشجار والأنهار والثمار واعتدال الهواء فضلا عن أنها مهبط الأنبياء ومثواهم «وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ» 81 لأن هذه الأشياء وغيرها تجري بمقتضى حكمتنا وتدبيرنا «وَمِنَ الشَّياطِينِ» سخرنا له «مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ» في البحار لاستخراج الدراري «وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ» الغوص، من البناء الرفيع، والتصوير الجميل، وعمل القدور والجفان العظيمة، والقوارير والصابون وغيرها مما عرف ذلك الزمن وما لم يعرف، «وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ» 82 فلا يزيغون عن أمره ولا يفسدون في الأرض ولا يبدلون ما أمروا به فلا يخالفونه بشيء ما. قالوا نسجت الشياطين لسليمان بساطا ذهبا في إبريسم فرسخا في فرسخ، وكان يوضع له منبر من ذهب وسطه فيقعد عليه وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة، يقعد عليها الأنبياء والعلماء وحولهم الوجهاء والأمراء، وحولهم عامة الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظلّهم الطير بأجنحتها، وترفع الصبا البساط مسيرة شهر صباحا ومثلها مساء، وذلك بمدة ساعة أو ساعة ونصف على الاختلاف في تقدير الفرسخ، لأن الغدو من(4/320)
مطلع الفجر إلى طلوع الشمس، والرواح مثله من اصفرار الشمس إلى غروبها راجع الآية 12 من سورة سبأ المارة. قالوا وكان يسير في الريح الليّنة إلى العراق فيقيل ببلخ وتخلّل بلاد الترك وجاوزها إلى الصين، ثم إلى قرب مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى إلى السند وجاورها الى مكران وكرمان في أرض فارس، وغدا منها فقال في بكسكى، ثم راح الى الشام، وكان مستقره تدمر، وفي ذلك قال النّابغة:
ألا سليمان إذ قال المليك له ... قم في البرية فاصددها عن النفد
وجيّش الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد
قالوا وسبب إعطائه البساط هو غضبه على الخيل التي ألهته عن الصلاة وعقره لها عقوبة لنفسه بحرمانها منها وعقوبة لها لتسببها لفوات صلاة العصر، وكان في شريعته جواز عقوبة المتسبب، فأبدله الله تعالى خيرا منها وهو البساط، قالوا وكان عليه السلام يحب الغزو فلا يمر بناحية إلا غزاها، وأذل أهلها وملكها، وكان يمر ببساطه وعظمته على المزرعة فما يحركها ولا يثير ترابها ولا يؤذي طائرا، راجع الآية 15 فما بعدها من سورة النمل في ج 1، والآية 10 فما بعدها من سورة سبأ المارة، وفي هذا وذاك يبيّن أن وجود الجن وإعمارهم الأرض ثابت بالنص فلا يجوز إنكار وجودهم بوجه من الوجوه، لأنه كفر صريح لمخالفته القرآن، وعدم رؤيتنا لهم في الدنيا يقابله عدم رؤيتهم لنا في الآخرة، راجع الآية 27 من الأعراف في ج 2 وبقية قصة عظمة ملك سليمان مفصلة هناك، وفي أحكام سليمان عليه السلام ما أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك. فتحا كما الى داود عليه السلام فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان فاخبرتاه، فقال ائتوني بسكين أسقه بينكما، فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى، وهذا مما يدل على أن حكمه بالاجتهاد لا بالنص بالقصتين المذكورتين. ونقلوا عنه قصصا أخرى لم نثبتها لعدم التثبت من صحتها، وهناك قصة رابعة نقلها صاحب الإبريز وهي أن امرأة شهد عليها رجلان بأنها مكنت الكلب من وطئها فحكم برجمها، وأن سليمان عليه السلام استشهد(4/321)
الرجلين على الانفراد فاختلف شهادتهما قدرا عنها الحد، ومن ذلك اليوم استحب استشهاد الشهود مفردين وهو الصواب. ومن هنا يعلم أن تمكين الكلاب من النساء قديم، لم تبتدعه بعض عواهر زماننا، وأن آية التبرّج الآتية من سورة الأحزاب 32 في ج 3 تشير الى أن كل ما أحدثه أهل هذا القرن من الخلاعة قديم أيضا، وهذا من معجزات (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية 18 من سورة الأنعام المارة، وليعلم أن أحكام داود عليه السلام في هذه القصص الأربع على فرض صحة الثلاث، لأن الأولى ذكرها الله تعالى فلا قول فيها وكلها موافقة لظاهر الشرع وأحكام سليمان كذلك، وإنما جوزها بحكمه، لأن قضية الحرث صارت كالصلح بينهما لرضائهما بحكمه فيها، وقضية الزنى قبيل ظهور كذب الشهادة إذ يقتضي الحكم بمثلها، أما قضية الولد فإنما قضى بها داود للكبيرة لعدم وجود بينة لدى الصغيرة، وكان الولد بيد الكبيرة فحكم باعتبارها ذات اليد والصغيرة خارجة والحكم الشرعي أن البينة على الخارج والقول لذي اليد كما أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وكان عمل سليمان من قبيل الاختبار، لأنه لما رأى الكبيرة وافقت على قسمه شقين عرف أن لا شفقة لها عليه، فلو كان ابنها لما رضيت بموته، ولو أن الصغيرة وافقت على قسمه لما حكم لها به ولأبقاه لدى الكبيرة باعتبار يدها عليه، ولهذا حكم به للصغيرة حكم موافق للواقع مصدره الحذق والفطنة والاجتهاد، تأمل. قال تعالى «وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ» قائلا رب «أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» 83 والضر كلمة جامعة لأنواع الشر أنظر رعاك الله ما أبدع هذا الدعاء إذ ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغايتها، ولم يصرح بمطلوبه عليه السلام أدبا مع ربه وحياء منه وإيذانا بأن ربه عالم بمراده من دعائه، ولا شك أن الأنبياء موفقون، قال تعالى «فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ» الذين فقدهم «وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ» 84 ليتأسوا به ويعبروا مثله فيثابوا كثوابه ويعتبروا بطلبه ويتفكروا بعطاء الله له زيادة عما خطر بباله.(4/322)
مطلب قصة أيوب عليه السلام ومن تسمى باسمين من الأنبياء عليهم السلام:
ونظير هذه الآية الآية 42 من سورة ص في ج 1 وخلاصة هذه القصة قالوا إن أيوب ابن اموص بن تارخ بن روم بن عيص بن إسحق بن إبراهيم وامه من ولد لوط بن هاران الأصغر أخي ابراهيم عليه السلام. وكان تنبأ وبسطت له الدنيا في أرض البلقاء، من أعمال خوارزم مع أرض الشام كلها، وكان عنده من أصناف النعم والعبيد ما لم يكن لأحد في عصره، وأعطاه الله مع هذا أهلا وأولادا ذكورا ونساء، وكان برا تقيا لربه رحيما بالمساكين والأيتام والأرامل، مكرما للضيفان مبلغا أبناء السبيل بلادهم وهذا مما يوافق شريعتنا راجع الآية 60 من سورة التوبة في ج 3 ومن هنا وجب على الأغنياء إعطاء أبناء السبيل من الزكاة ما يوصلهم إلى بلادهم ولو كانوا أغنياء فيها وعلى الحكومة أيضا أن تعطيهم من بيت المال ما يؤمن وصولهم، وكان شاكرا لأنعم الله مؤديا حقوقه وقد آمن به ثلاثة فقط وكان لهم مال أيضا فحده إبليس على ذلك وصار يخاطب ربه فيقول يا رب لو ابتليت أيوب بنزع ما أعطيته لخرج عن طاعتك، فقال إني قد سلطتك على ماله قالوا وكان إبليس لا يحجب عليه شيء في السموات، ولكنه بعد رفع عيسى عليه السلام حجب من أربع منها وفي مبعث محمد صلّى الله عليه وسلم حجب عن الكل إلا في استراق السمع، وكان يسمع تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب، ولذلك حسده فجمع خيله ورجله ونفخوا على الإبل فأحرقوها ورعاتها، فذهب وقال يا أيوب أتت نار فأحرقت إبلك ورعاتها، فقال إنها مال الله أعارنيها ثم نزعها مني وله الحمد، عريانا خرجت من بطن أمي وأحشر إلى الله كذلك، ثم أكثر عليه من الكلام حتى قال له يقول الناس لو كان إلهك يقدر لمنع ذلك، فلم يرد عليه، فرجع خاسئا ثم فعل بالغنم ورعاتها كذلك، وجاء إليه فقال ما قال أولا ورد عليه كما رد عليه أيضا فرجع خائبا ثم فعل بالزرع والأشجار كذلك، وأخبره فكان ما كان أولا وهكذا حتى لم يبق عنده شيء من المال ولم يره تأثر من شيء أصلا، فقال إبليس يا رب ان أيوب يرى أنك ما متعته بولده فأنت معطيه المال، فهل أنت مسلطني على ولده؟ فقال قد سلطتك، فانقض عدو الله حتى أتى ولده جميعا وهم في قصرهم فزلزله فيهم، فتلفوا عن آخرهم، ثم ذهب إلى أيوب(4/323)
عليه السلام بصورة معلمهم، لأنه كان عليه اللعنة كلما فعل شيئا يذهب الى أيوب بصفة الرجل الذي يناسب ذلك الفعل، ففي تلف الإبل والغنم ذهب بصورة راعيها، وفي تلف الأشجار والزروع والثمار بصورة ساقيها، وهكذا، فقال يا أيوب وهو يبكي ليحرك حزنه لو رأيت كيف نكسوا على رءوسهم وسالت دماؤهم وتقطعت أمعاؤهم لتقطع قلبك ألما عليهم، فقال من هم؟ قال كل أولادك وأخبره خبرهم، وقال قد شقت بطونهم وكسرت رءوسهم وتناثرت أدمغتهم، وكذا وكذا، ولم يزل يصفهم ويقول له بتحرق وتأسف إلى أن رأى التأثر بدا بوجهه عليه السلام طفق يصف له مزاياهم ويعظم فظاعة ما حل بهم حتى رق قلبه عليه السلام، فاغتنم إبليس لعنه الله هذه الفرصة وذهب يعرض لربه جزعه، فتنبه أيوب واستغفر ربه حالا وصعدت توبته قبل أن يبثّ إبليس ما عنده، فخسىء إبليس وذل، ولما رأى ذلك قال يا رب إنما هان عليه المال والولد ما متعته بنفسه فإنك تعبد له ما فقده من مال وولد ونشب فهل أنت مسلطني على جسده، فسلطه الله على جسده عدا لسانه وقلبه وعقله، فانقض زاعما أنه فاز ببغيته، فأتى إليه مسرعا ونفخ في منخريه فاعتراه مرض في جميع جسده ما بين العظم والجلد استدام معه سبع سنين وبضعة أشهر وهو صابر لا يشكو، وتفرقت عنه الناس، وجاء أصحابه المؤمنون وأشاروا عليه بأن يدعو ربه بكشف ضره فأعرض عنهم وأنبهم على ما رأى من ضجرهم، وقال إن الله تعالى عافانا سنين كثيرة ومتعنا بكل نعمه الحاضرة، أفلا نصبر على بلائه بمقدار معافاته على الأقل وأطال عليهم الكلام بخطبة بليغة مؤثرة حتى انفضوا عنه، ولم يبق ممن يراجعه إلا زوجته رحمة بنت افرائيم بن يوسف عليه السلام، وصارت تأتيه بطعامه وشرابه، فلما رأى اللعين خيبة سعيه
ومداومة أيوب على ذكر الله تعالى وحمده وشكره صرخ صرخة فاجتمعت إليه الشياطين من كل جانب وقالوا له ما دهاك قال أعياني هذا الرجل، وحكى لهم قصته معه، فقالوا له هل أتيته من المكان الذي جئت به آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال أصبتم، فذهب إلى زوجته وقال لها أين بعلك ذلك الذي كنت ترين، أين أولادك الذين كنت تباهين، أين مالك الذي كنت تفاخرين؟ قد ذهب عنك كل ذلك وتباعدت عنكم أصدقاؤكم(4/324)
وأنفسكم الناس، فانظري لحالك أين جمالك، أين زخارفك، أين قصورك أين أين؟
فلم يزل يعدد لها ويذكرها عزها الذي كانت فيه حتى صاحت صيحة أظهرت فيها جزعها وضجرها، وقالت له ما العمل؟ قال خذي هذه السخلة وقولي لزوجك يذبحها لي وهو يبرأ مما فيه وتخلصين من هذا الحال ويعود إليك جمالك وعزك وما ذهب منك، فاستمالها الملعون بذلك وأذعنت لقوله ظانة أنه ناصح لها وأنه يرجع لها ما ذكر، فأخذت السخلة منه وذكرت لأيوب ما وقع لها وكلفته أن يذبحها لإبليس لأنه هو الذي نفخ فيك فأصابك ما أصابك، قال لها ويلك أغراك عدو الله أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد والجمال والعز والصحة، أليست هي من الله؟ قالت نعم، قال كم متعنا به، قالت ثمانون سنة، فقال لها كم لك في البلاء، قالت سبع سنين وأشهر، قال لها ويلك ما أنصفت ربك، ألا صبرت على البلاء ثمانين كما كنت في الرخاء والنعم، والله لئن شفاني الله لأجلدنك مئة جلدة، تأمريني أذبح لعدو الله اذهبي، طعامك وشرابك عليّ حرام، فذهبت تبكي، وبقي أيوب صابرا ما شاء الله أن يصبر بلا زاد ولا ماء ولا صديق ولا أحد، فخرّ ساجدا لله تعالى، وقال (ربّ إني مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وبين عليه السلام في دعائه هذا افتقاره إلى ربه فقط إذ لم يقل ارحمني، وإن أكثر أسئلة الأنبياء ربهم على سبيل التعريض لا على طريق الطلب، لأن حياءهم منه يحول دون طلبهم، قال المتنبي في هذا المعنى:
وفي النفس حاجات وفيك فطالة ... سكوتي بيان عندها وخطاب
وذلك أن الأنبياء عليهم السلام تحققوا أن كل شيء كان أو يكون مسبوق بالإرادة، والإرادة مسبوقة بالعلم، والعلم تابع المعلوم فيتعلق به على ما هو عليه، في ثبوته غير المجهول مما يقتضيه استعداده الأزلي، ثم بعد أن خلق الخلق على حسب ذلك كلفهم استخراج سرّ ما سبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والإباء اللذين في استعدادهم الأزلي، ولذلك أرسل الرسل إليهم مبشرين ومنذرين لتتحرك الدواعي فيهم فيهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيى عن بيّنة، ولئلا يكون للناس على الله حجة، فلا يتوجه عليه اعتراض بخلق الكافر، وإنما يتوجه الاعتراض على الكافر(4/325)
بكفره، إذ أنه من توابع استعداده في ثبوته غير المجهول، ويشير إلى هذا قوله تعالى (وَما ظَلَمْناهُمْ) الآية 102 من سورة هود المارة، وقوله صلّى الله عليه وسلم: من وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. وقد أشار الشافعي رحمة الله إلى بعض هذا في قوله:
خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسن
هذا وبما أن الأنبياء واقفون على هذا وقد أرشدوا الخلق إليه، فإذا دعوا لأنفسهم أو على أعدائهم كان من قبيل التعريض لا التصريح، لأنهم عالمون أن الكائن كائن في الأزل، وإن ما لم يكن لا يكون أبدا سواء دعوا أو لم يدعوا، سعوا أو لم يسعوا، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام: علمه بحالي يغني عن سؤالي، راجع الآية 71 المارة، قالوا ولما صعدت دعوته هذه التي هي من إلهام الله وكان قضاء الله الأرلي معلقا على وجودها منه وقد صادقت الزمن المقدر لإنقاذ أيوب مما هو فيه، بعد أن بلغ غايته وطمى نهايته، ناداه مناد من السماء أن ارفع رأسك قد استجيب لك، فاركض الأرض برجلك، فرفسها فنبعت عين ماء فاغتسل منها فشفي مما كان فيه، وعاد عليه جماله أحسن مما كان، وقام صحيحا ورأى أن الله تعالى قد أعطاه مالا وولدا كأحسن ما كان أولا، ومشى وقعد على مكان مشرف، فعنّ لزوجته أن تراه حرصا عليه، فجاءت فلم تر أحدا، فصارت تبكي، فناداها من فوق ما يبكيك يا أمة الله؟ قالت بعلي، قال وهل تعرفينه؟ قالت لا يخفى على أحد وانه في حال صحته أشبه بك، فقال أنا هو، تأمريني أذبح لإبليس، ها إني دعوت الله فردّ علي ما ترين، ثم أمره الله أن يأخذ قبضة من النبات فيها مئة عود فضربها بها تحلة يمينه كما تقدم في الآية 44 من سورة ص المارة في ج 1، ففعل، فرد عليها شبابها. هذا، وما قيل إن أيوب عليه السلام حال مرضه دوّد وألقي على الزبل وغير ذلك من الترهات التي عنها تتحاشى ساحة الأنبياء، فهو كذب لا نصيب له من الصحة، لأن الأنبياء معصومون من العاهات المنفّرة، وإن الذي أصابه هو ما بين الجلد والعظم بحيث لم يظهر عليه ما ينفر الناس عنه، وما قيل من ان النفرة بسبب سلب ما كان عنده من النعم فقد يكون بالنسبة للناس. وما قيل(4/326)
أيضا إن زوجته باعت شعرها وحلف عليها ذلك اليمين هو محض كذب وافتراء وإنما حلف عليها للسبب المار ذكره وهو تكليفه ذبح السخلة لإبليس، وما نقلناه في هذه القصة هو أصح ما ورد فيها ولو لم نعتمد على صحتها، إذ لا اعتماد إلا على ما يأتي في كتاب الله وسنة رسوله. روى البخاري ومسلم عن ابي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينما أيوب يغتسل عريانا خرّ عليه جواد من ذهب فجعل أيوب يحثي في ثوبه، فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال بلى يا رب ولكن لا غنى عن بركتك. هذا واختلف في معنى (وآتيناه أهله) إلخ، فقيل إن الله تعالى أحيى له أهله وأولاده بأعيانهم وزاده مثلهم، وقيل إنه آتاه أهله في الدنيا ومثلهم معهم في الآخرة، وقيل إن الله آتاه مثل أهله وماله وولده وأنعامه وبيوته ومثلها ثانيا والله أعلم. والآية تحتمل المعنيين والله قادر على كل شيء. قال تعالى «وَإِسْماعِيلَ» بن إبراهيم الذي استسلم لربه وانقاد لأمر أبيه ليذبحه تنفيذا لإرادة الله، راجع قصته في الآية 117 من الصافات المارة. أما قصة وضعه في مكة وأمه فستأتي في الآية 123 من سورة البقرة في ج 3، إن شاء الله «وَإِدْرِيسَ» ابن أخوخ، وقد مرت قصته في الآية 57 من سورة مريم في ج، وفيها كيفية رفعه إلى السماء «وَذَا الْكِفْلِ» الحظ والنصيب واسمه الياس وهو أحد الأنبياء الخمس الذين تسموا باسمين بالقرآن العظيم، هذا وإسرائيل ويعقوب، وعيسى والمسيح، ويونس وذو النون، ومحمد وأحمد، عليهم الصلاة والسلام، وهو ابن ياسين بن فنحاص ابن العيران بن هرون أخي موسى بن عمران عليهم الصلاة والسلام، راجع الآية 143 من سورة البقرة ج 3 بشأن ذى الكفل والآيات من 124 إلى 132 من سورة الصافات المارة. قالوا إنه لما كبر اليسع قال إني استخلف رجلا على الناس ليعمل عليهم في حياتي على أن يصوم النهار ويقوم الليل ويقضي ولا يغضب، فقال إلياس أنا فرده أولا، ثم قال مثلها في اليوم الثاني فلم يتعهد بهذه الشروط غيره، فاستخلفه ووفى بعهده ولقبه بذي الكفل لأنه وفى ما تكفل به. وما قيل ليس بنبي ينفيه قوله تعالى «كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ» 85 على ما ابتليناهم به راجع قصته مفصلة في الآيات المذكورة أعلاه من سورة الصافات المارة «وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا(4/327)