وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)
من ولد عاد الأكبر وكانوا بمكة في وقت أهلكت عاد الأولى مع بني عملاق. قال أبو إسحاق: فبقوا بعد عاد الأولى حتّى بغى بعضهم على بعض وقتل بعضهم بعضا. قال:
وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: عاد الآخرة ثمود، واستشهد على ذلك بقول زهير: [الطويل] 440-
كأحمر عاد ثمّ ترضع فتفطم
«1» يريد عاقر الناقة، وجواب ثالث أنه قد يكون شيء له أول ولا أخر له من ذلك نعيم أهل الجنة.
[سورة النجم (53) : آية 51]
وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51)
قال بعض العلماء: أي فلم يبقهم على كفرهم وعصيانهم حتّى أفناهم وأهلكم وهذا القول خطأ لأن الفاء لا يعمل ما بعدها فيما قبلها فلا يجوز أن تنصب ثمودا بأبقى، وأيضا فإن بعد الفاء «ما» وأكثر النحويين لا يجيز أن يعمل ما بعد ما فيما قبلها، والصواب أن ثمودا منصوب على العطف على عاد.
[سورة النجم (53) : آية 52]
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52)
وَقَوْمَ نُوحٍ عطف أيضا. مِنْ قَبْلُ أي من قبل هؤلاء. إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى أي أظلم لأنفسهم من هؤلاء وأطغى وأشدّ تجاوزا للظلم وقد بين ذلك قتادة وقال: كان الرجل منهم يمشي بابنه إلى نوح عليه السلام فيقول: يا بنيّ لا تقبل من هذا، فإنّ أبي مشى بي إليه وأوصاني بما أوصيتك به فوصفهم الله جلّ وعزّ بالظلم والطغيان.
[سورة النجم (53) : آية 53]
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53)
وَالْمُؤْتَفِكَةَ منصوبة بأهوى.
[سورة النجم (53) : آية 54]
فَغَشَّاها ما غَشَّى (54)
الفائدة هي هذا معنى التعظيم أي ما غشّى مما قد ذكر لكم. قال قتادة: غشّاها الصخور أي بعد ما رفعها وقلبها.
__________
(1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 20، ولسان العرب (سكف) ، و (شأم) ، وجمهرة اللغة (1328) ، وأساس البلاغة (شأم) ، وتاج العروس (كشف) ، و (شأم) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 11/ 436، وصدره:
«فتنتج لكم غلمان أشأم كلّهم»(4/189)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)
[سورة النجم (53) : آية 55]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55)
أي قل يا محمد لمن يشك ويجادل بأيّ نعم ربّك تمتري أي تشكّ، وواحد الالاء إلى، ويقال: ألى وإلي وأليّ، أربع لغات قال قتادة: أي فبأي نعم ربك تتمارى المعنى يا أيها الإنسان فبأيّ نعم ربّك تتشكّك لأن المريّة الشكّ.
[سورة النجم (53) : آية 56]
هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56)
هذا نَذِيرٌ مبتدأ وخبره. ومذهب قتادة أن المعنى هذا محمد نذير، وشرحه أنّ المعنى: هذا محمد من المنذرين أي منهم في الجنس والصدق والمشاكلة وإذا كان مثلهم فهو منهم. ومذهب أبي مالك أن المعنى: هذا الذي أنذرتكم به من هلاك الأمم نذير. مِنَ النُّذُرِ الْأُولى قال أبو جعفر: وهذا أولى بنسق الآية لأن قبله أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [الآية: 3] فالتقدير هذا الذي أنذرتكم به من النذر المتقدّمة.
[سورة النجم (53) : آية 57]
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57)
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: «الآزفة» من أسماء القيامة. قال: يقال أزف الشيء إذا قرب، كما قال: [الكامل] 441-
أزف التّرحّل غير أنّ ركابنا ... لمّا نزل برحالنا وكأن قد
«1»
[سورة النجم (53) : آية 58]
لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58)
قيل: معنى «كاشفة» المصدر أي كشفت مثل لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الواقعة: 2] وقال أبو إسحاق: «كاشفة» من يتبيّن متى هي، وقيل «كاشفة» من يكشف ما فيها من الجهد أي لوقعتها كاشف إلّا الله عزّ وجلّ ولا يكشفه إلّا عن المؤمنين، وتكون الهاء للمبالغة.
[سورة النجم (53) : آية 59]
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)
أي من أن أوحى إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم تعجبون.
__________
(1) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 89، والأزهيّة 211، والأغاني 11/ 8، والجنى الداني 146، وخزانة الأدب 7/ 197، والدرر اللوامع 2/ 202، وشرح التصريح 1/ 36، وشرح شواهد المغني 490، وشرح المفصل 8/ 148، ولسان العرب (قدد) ، ومغني اللبيب 171، والمقاصد النحوية 1/ 80، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 56، وأمالي ابن الحاجب 1/ 455، وخزانة الأدب 9/ 8، ورصف المباني 72، وسرّ صناعة الإعراب 334، وشرح الأشموني 1/ 12، وشرح ابن عقيل 18، وشرح قطر الندى 160، وشرح المفصّل 10/ 110، ومغني اللبيب 342، والمقتضب 1/ 42، وهمع الهوامع 1/ 143.(4/190)
وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
[سورة النجم (53) : آية 60]
وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60)
وَتَضْحَكُونَ استهزاء. وَلا لما فيه من الوعيد وذكر العقاب.
[سورة النجم (53) : آية 61]
وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61)
أي لاهون معرضون عن آياته.
[سورة النجم (53) : آية 62]
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
قال أبو إسحاق: المعنى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ ولا تسجدوا للات والعزّى ومناة وَاعْبُدُوا أي واعبدوا الله جلّ وعزّ وحده.(4/191)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
54 شرح إعراب سورة القمر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القمر (54) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ كسرت التاء لالتقاء الساكنين، ووجب أن تكون التاء ساكنة لأنها حرف جاء لمعنى، هذا قول البصريين. فأما قول الكوفيين فإنه لما كانت التاءات أربعا فضمّت تاء المخاطب وفتحت تاء المخاطب المذكّر وكسرت تاء المخاطبة المؤنثة فلم تبق حركة فسكّنت تاء المؤنثة الغائبة. والمعنى: اقتربت الساعة التي تقوم فيها القيامة فاحذروا منها لئلا تأتيكم فجأة وأنتم مقيمون على المعاصي وَانْشَقَّ الْقَمَرُ معطوف على اقتربت معناه المضيء.
[سورة القمر (54) : آية 2]
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا شرط وجوابه. والمعنى أنّهم سألوا آية فأروا القمر منشقّا فرأوا آية تدل على حقيقة أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأن ما جاء به صدق فأعرضوا عن التصديق وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ على إضمار مبتدأ أي هذا سحر مستمر.
[سورة القمر (54) : آية 3]
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أي كذّبوا بحقيقة ما رأوه وتيقّنوه واثروا اتباع أهوائهم في عبادة الأوثان وترك ما أمرهم الله به أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ مبتدأ وخبر. والمعنى: وكلّ أمر من خير أو شرّ مستقرّ قراره ومتناه منتهاه.
[سورة القمر (54) : آية 4]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
أي ولقد جاء هؤلاء المشركين من أخبار الأمم الذين فعلوا كفعلهم فأهلكوا ما فيه منتهى عمّا هم عليه، كما قال مجاهد: مزدجر منتهى. والأصل عند سيبويه «1» مزتجر
__________
(1) انظر الكتاب 4/ 600.(4/192)
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)
بالتاء إلّا أن التاء مهموسة والزاي مجهورة فثقل الجمع بينهما فأبدل من التاء ما هو من مخرجها وهو الدال. قال أبو جعفر: وهذا من أوجز قوله ولطيفه.
[سورة القمر (54) : الآيات 5 الى 6]
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)
حِكْمَةٌ بدل من «ما» والتقدير ولقد جاءهم حكمة بالِغَةٌ أي ليس فيها تقصير، ويجوز أن تكون حكمة مرفوعة على إضمار مبتدأ فَما تُغْنِ النُّذُرُ ويجوز أن تكون «ما» في موضع نصب بتغني. والتقدير: فأيّ شيء تغني النذر عمّن اتّبع هواه وخالف الحقّ، ويجوز أن تكون ما نافية لا موضع لها. وزعم قوم أن الياء حذفت من تغن في السواد لأن «ما» جعلت بمنزلة «لم» . قال أبو جعفر: هذا خطأ قبيح لأن «ما» ليست من حروف الجزم، وهي تقع على الأسماء والأفعال فمحال أن تجزم ومعناهما أيضا مختلف: لأنّ «لم» تجعل المستقبل ماضيا و «ما» تنفي الحال. فأما حذف الياء من «تغن» في السواد فإنه على اللفظ في الإدراج ومثله يوم يدع الداعي إلى شيء نكر «1» تكتب بغير واو على اللفظ في الإدراج. فأما الداعي إذا حذفت منه الياء فالقول فيه أنه بني على نكرته. فأما البيّن فأن يكون هذا كله مكتوبا بغير حذف.
[سورة القمر (54) : الآيات 7 الى 8]
خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
خُشَّعاً «2» منصوب على الحال. أَبْصارُهُمْ مرفوع بفعله هذه قراءة أهل الحرمين، وقرأ أهل الكوفة وأهل البصرة خاشعا أبصارهم وعن ابن مسعود خاشعة أبصارهم فمن قال خاشعا وحّد، لأنه بمنزلة الفعل المتقدم، ومن قال: خاشعة أنّث كتأنيث الجماعة، ومن قال خشّعا جمع لأنه جمع مكسّر فقد خالف الفعل، ولو كان في غير القرآن جاز الرفع على التقديم والتأخير. يَخْرُجُونَ في موضع نصب على الحال أيضا مِنَ الْأَجْداثِ واحدها جدث، ويقال: جدف للقبر، مثل فوم وثوم كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ في موضع نصب على الحال وكذا قوله: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ مبتدأ وخبره.
[سورة القمر (54) : آية 9]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ على تأنيث الجماعة. فَكَذَّبُوا عَبْدَنا يعني نوحا. وَقالُوا مَجْنُونٌ على إضمار مبتدأ وَازْدُجِرَ أي زجر وتهدّد بقولهم: لئن لم تنته لنرجمنّك «3» .
__________
(1) انظر تيسير الداني 166 (قرأ ابن كثير «نكر» بإسكان الكاف والباقون بضمّها) ...
(2) انظر القراءات المختلفة في البحر المحيط 8/ 173، وتيسير الداني 167، ومعاني الفراء 3/ 105، وكتاب السبعة لابن مجاهد 618. [.....]
(3) يشير إلى الآية 116، من سورة الشعراء: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ.(4/193)
فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)
[سورة القمر (54) : آية 10]
فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)
فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ أي بأني قد غلبت وقهرت، وقرأ عيسى بن عمر فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ «1» بكسر الهمزة. قال سيبويه أي قال: إني مغلوب فَانْتَصِرْ أي لي بعقابك إياهم.
[سورة القمر (54) : آية 11]
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11)
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ التقدير: فنصرناه ففتحنا أبواب السماء: لأن ما ظهر من الكلام يدلّ على ما حذف. بِماءٍ مُنْهَمِرٍ أي مندفق. قال سفيان منهمر ينصبّ انصبابا، وقال الشاعر: [الرمل] 442-
راح تمريه الصّبا ثم انتحى ... فيه شؤبوب جنوب منهمر
«2»
[سورة القمر (54) : آية 12]
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً جمع عين في العدد، وقراءة الكوفيين عُيُوناً بكسر العين، والأصل الضمّ فأبدل من الضمة كسرة استثقالا للجمع بين ضمة وياء فَالْتَقَى الْماءُ «3» والتقى لا يكون إلّا الاثنين. المعنى: فالتقى ماء الأرض وماء السماء، وهما جميعا يقال لهما ماء لأنّ ماء اسم للجنس. قال أبو الحسن بن كيسان: الأصل في ماء ماه فأبدلوا من الهاء همزة فإذا جمعوا ردّوه إلى أصله فقالوا: أمواه ومياه، ومويه في التصغير عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ «4» قيل:
أي قدّره الله جلّ وعزّ في اللوح المحفوظ، وقيل: قدر ماء الأرض كماء السّماء.
[سورة القمر (54) : آية 13]
وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13)
وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ أي على سفينة ذات ألواح وَدُسُرٍ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الدّسر المسامير، وكذا قال محمد بن كعب وقتادة وابن زيد، وقال الحسن: الدّسر صدر السفينة، وقال الضحاك: الدّسر طرف السفينة. قال: وأصل هذا من دسره يدسره ويدسره دسرا إذا شدّه ودفعه.
[سورة القمر (54) : آية 14]
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا أي بمرأى منّا ومسمع، وقيل بأمرنا. وأعين جمع في القليل،
__________
(1) انظر مختصر ابن خالويه 147، والبحر المحيط 8/ 175.
(2) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص 145.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 175 (وقرأ علي والحسن ومحمد بن كعب والجحدري «الماءان» ، وقرأ الحسن «الماوان» ) .
(4) انظر البحر المحيط 8/ 176 (وقرأ أبو حيوة «قدّر» بشدّ الدال، والمجهور بتخفيفها) .(4/194)
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18)
ويقال: أعيان، مثل بيت وأبيات. جَزاءً مصدر. لِمَنْ كانَ كُفِرَ في معناه أقوال. قال ابن زيد: «من» بمعنى «ما» ، وتقديره عنده للذي كفر من النعم وجحد. قال: وهذا يمنعه أهل العربية جميعا، ومذهب مجاهد. أن المعنى جزاء لله. قال أبو جعفر: وهذا قول حسن أي عاقبناهم وعرفناهم جزاء لله جلّ وعزّ حين كفروا به وجحدوا وحدانيته فقالوا لا تذرنّ الهتكم ولا تذرنّ ودّا ولا سواعا، وقيل: جزاء لمن كان كفر على لفظ «من» ، ولو كان في غير القرآن لجاز على هذا القول كفروا على المعنى.
[سورة القمر (54) : آية 15]
وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)
وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً قيل: المعنى: ولقد تركنا هذه العقوبة لمن كفر وجحد الأنبياء صلّى الله عليه وسلّم عظة وعبرة، ومذهب قتادة ولقد تركنا السفينة آية. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ هذه قراءة الجماعة وهي صحيحة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كما رواه شعبة وغيره عن ابن إسحاق عن الأسود عن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ بالدال غير معجمة، وقال يعقوب القارئ: قرأ قتادة فهل من مذّكر «1» بالذال معجمة. قال أبو جعفر:
مدّكر أولى لما ذكرنا من الاجتماع في العربية والأصل عند سيبويه «2» مذتكر فاجتمعت الذال وهي مجهورة أصلية والتاء وهي مهموسة زائدة فأبدلوا من التاء حرفا مجهورا من مخرجها فصار مذدكر، فأدغمت الذال في الدال فصار مدّكر، ممن قال مذّكر أدغم الدال في الذال، وليس على هذا كلام العرب إنما يدغمون الأول في الثاني.
[سورة القمر (54) : آية 16]
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16)
أي فكيف كان عقابي لمن كفر بي وعصاني وبإنذاري وتحذيري من الوقوع في مثل ذلك.
[سورة القمر (54) : آية 17]
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ قال ابن زيد: أي بيّنا، وقال مجاهد: هوّنّا، وقيل:
التقدير: ولقد سهّلنا القرآن بتبييننا إياه وتفصيلنا لمن أراد أن يتذكّره فيعتبر به. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يتذكّر ما فيه، وقيل هل من طالب خيرا أو علما فيعان عليه، فهذا قريب من الأول لأن الأول أبين على ظاهر الآية.
[سورة القمر (54) : آية 18]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18)
كَذَّبَتْ عادٌ قال أبو جعفر: في هذا حذف قد عرف معناه أي كذّبت عاد هودا
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 176.
(2) انظر الكتاب 4/ 601.(4/195)
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)
كما كذّبت قريش محمدا صلّى الله عليه وسلّم فليحذروا مثل ما نزل بهم فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ «فكيف» في موضع نصب على خبر كان إلّا أنها مبنية لأن فيها معنى الاستفهام وفتحت لالتقاء الساكنين.
[سورة القمر (54) : آية 19]
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19)
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أهل التفسير يقولون: الصّرصر الباردة، وقال بعض أهل اللغة: إنما يقال لها صرصر إذا كان لها صوت شديد من قولهم صرّ الشيء إذا صوّت، والأصل صرر فأبدل من إحدى الراءات صاد. فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ قال بعض أهل التفسير: النحس الشديد، ولو كان كما قال لكان يوم منونا ولقيل: نحس ولم يضف.
[سورة القمر (54) : آية 20]
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)
تَنْزِعُ النَّاسَ قيل: تنزعهم من الحفر التي كانوا حفروها كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ النخل تذكّر وتؤنّث لغتان جاء بها القرآن وزعم محمد بن جرير «1» أنّ في الكلام حذفا، وأن المعنى تنزع النّاس فتتركهم كأعجاز نخل. قال: فتكون الكاف على هذا في موضع نصب بالفعل المحذوف، وهذا لا يحتاج إلى ما قاله من الحذف. والقول فيه ما قاله أبو إسحاق قال: هو في موضع نصب على الحال أي تنزع الناس أمثال نخل منقعر أي في هذه الحال. قال أبو جعفر: وهذا القول حقيقة الإعراب فإن كان على تساهل المعنى فالمعنى يؤول إلى ما قاله محمد بن جرير. وقد روى محمد بن إسحاق قال: لمّا هاجت الريح قام نفر سبعة من عاد فاصطفوا على باب الشّعب فسدّوا الريح عمّن في الشّعب من العيال، فأقبلت الريح تجيء من تحت واحد واحد ثم تقلعه فتقلبه على رأس فتدقّ عنقه حتّى أهلكت ستّة وبقي واحد يقال له: الخلجان فجاء إلى هود صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
ما هؤلاء الذين أراهم كالبخاتي «2» تحت السحاب قال: هؤلاء الملائكة عليهم السلام قال: إن أسلمت فما لي قال: تسلم قال: أيقيدني ربّك من هؤلاء الذين في السحاب؟
قال: ويلك هل رأيت ملكا يقيد من جنده؟ قال: لو فعل ما رضيت قال: فرجع إلى موضعه، وأنشأ يقول: [الراجز] 443-
لم يبق إلّا الخلجان نفسه ... يا شرّ يوم قد دهاني أمسه
«3» ثم لحقه ما لحق أصحابه فصاروا كما قال جلّ وعزّ: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ.
وقال مجاهد في تشبيههم بأعجاز نخل منقعر: لأنه قد بانت أجسادهم من رؤوسهم
__________
(1) انظر تفسير الطبري 27/ 99.
(2) البخاتي: جمع البختيّة، وهي جمال طوال الأعناق (تاج العروس «بخت» ) .
(3) الشاهد بلا نسبة في تفسير الطبري 27/ 99.(4/196)
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
فصاروا أجساما بلا رؤوس، وقال بعض أهل النظر: التشبيه للحفر التي كانوا فيها قياما صارت الحفر كأنها أعجاز نخل. قال أبو جعفر: وهذا القول قول خطأ، ولو كان كما قال كان كأنّها أو كأنّهن، وأيضا فإنّ الحفر لم يتقدّم لها ذكر فيكنى عنها. وأيضا فالتشبيه بالقوم أولى ولا سيما وهو قول من يحتجّ بقوله.
[سورة القمر (54) : الآيات 21 الى 22]
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) أي فكيف كان عذابي إيّاهم على الكفر وإنذاري إيّاكم أن ينزل بكم ما نزل بهم. قال أبو إسحاق: نذر جمع نذير.
[سورة القمر (54) : آية 23]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) لم يصرف ثمود: لأنه اسم للقبيلة ويجوز صرفه على أنه اسم للحيّ.
[سورة القمر (54) : آية 24]
فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24)
فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ نصبت بشرا بإضمار فعل والمعنى: أنتّبع بشرا منّا واحدا ونحن جماعة؟ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أي في حيرة عن الطريق المستقيم وأخذ على العوج، ولا تعمل إذن إذا لم يكن الكلام معتمدا عليها. وَسُعُرٍ يكون جمع سعير، ويكون مصدرا من قولهم سعر الرجل إذا طاش.
[سورة القمر (54) : آية 25]
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25)
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا استفهام فيه معنى التوقيف. بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ الكوفيون يقولون: «بل» لا تكون إلّا بعد نفي فيحملون مثل هذا على المعنى لأن معنى ألقي عليه الذكر لم يلق عليه.
[سورة القمر (54) : الآيات 26 الى 27]
سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
سَيَعْلَمُونَ غَداً الأصل عند سيبويه غدو حذفت منه الواو. مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ مبتدأ وخبره في موضع نصب بسيعلمون، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة ستعلمون غدا «1» وأبو عبيد يميل إلى القراءة بالياء لأن بعده إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ ولم يقل: لكم. قال أبو جعفر: التقدير لمن قرأ بالياء قال الله جلّ وعزّ: سَيَعْلَمُونَ غَداً، والقول يحذف كثيرا. والأصل إنّا مرسلون حذفت النون تخفيفا وأضيف فتنة
__________
(1) انظر تيسير الداني 167، وكتاب السبعة لابن مجاهد 618، والبحر المحيط 8/ 179.(4/197)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)
لهم. قال أبو إسحاق: فتنة مفعول له، وقال غيره: هو مصدر أي فتناهم بذلك وابتليناهم. وكان ابتلاؤهم في ذلك أنّ الناقة خرجت لهم من صخرة صماء ناقة عظيمة فآمن بعضهم وكانت لعظمها كثيرة الأكل فشكوا ذلك إلى صالح صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: قد أفنت الحشائش والأعشاب ومنعتنا من الماء، فقال: ذروها تأكل في أرض الله ولا تمسّوها بسوء، ترد الماء يوما، وتردون يوما فكانت هذه الفتنة. فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ أي فاصبر على ارتقابك إيّاهم، والأصل واصتبر أبدل من التاء طاء لأن الطاء أشبه بالصاد لأنهما مطبقتان. قال أبو إسحاق: ينطبق الحنك على اللسان بهما، قال أيضا: وهما أيضا مطبقتان في الخطّ.
[سورة القمر (54) : آية 28]
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ أي ذو قسمة مثل قولك: رجل عدل. كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ مبتدأ وخبر. أي تحضر الناقة يوما وهم يوما، وغلّب المذكّر على المؤنّث فقيل بينهم.
[سورة القمر (54) : آية 29]
فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29)
فَنادَوْا صاحِبَهُمْ وهم التسعة الذين انفردوا لعقر الناقة فنادى ثمانية منهم قدارا، فقالوا: هذه الناقة قد أقبلت فَتَعاطى فَعَقَرَ قيل: أي فتعاطى قتلها وحقيقته في اللغة فتناول الناقة فقتلها، من قولهم عطوت إذا تناولت، كما قال: [الطويل] 444-
وتعطو برخص غير شثن كأنّه ... أساريع ظبي أو مساويك إسحل
«1»
[سورة القمر (54) : آية 30]
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30)
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي أي عقابي إيّاهم على عصيانهم أي فاحذروا المعاصي. وَنُذُرِ أي إنذاري إياكم أن ينزل بكم ما نزل بهم.
[سورة القمر (54) : آية 31]
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)
وهذا من التمثيل العجيب لأن الهشم ما يبس من الشجر وتهشّم فصار يحظر به بعد أن كان أخضر ناضرا أي صاروا بعد النعمة رفاتا، وبعد البهجة حطاما كهيئة الشجر. وروي عن ابن عباس «كهشيم المحتظر» أي كالعظام المحترقة. قال أبو جعفر:
وحقيقة هذا القول في اللغة كهشيم قد حظر به وأحرق: وقال ابن زيد: هو الشوك
__________
(1) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 17، وجمهرة اللغة 363، وشرح المفصّل 6/ 92، و 7/ 144، ولسان العرب (سرع) و (سحل) و (ششن) ، و (ظبا) ، والمنصف 3/ 58، وتاج العروس (سحل) ، و (ششن) ، و (ظبا) .(4/198)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37)
تجعله العرب حوالى الغنم مخافة السبع. والتقدير في العربية كهشيم الرجل المحتظر، ومن قرأ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ «1» فتقديره كهشيم الشيء الذي قد احتظر.
[سورة القمر (54) : آية 33]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33)
أي بالآيات التي أنذروا بها.
[سورة القمر (54) : آية 34]
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34)
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً أي حجارة تحصبهم. إِلَّا آلَ لُوطٍ نصب على الاستثناء، وال الرجل كلّ من كان على دينه ومذهبه كما قال جلّ وعزّ لنوح صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود: 46] وهو ابنه وال بمعنى واحد، إلّا أن النحويين يقولون: الأصل في ال أهل، والدليل على ذلك أنّ العرب إذا صغّرت الا قالت: أهيل. نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ قال الفراء «2» : سحر هاهنا يجري لأنه نكرة كقولك: نجّيناهم بليل. قال أبو جعفر: وهذا القول قول جميع النحويين لا نعلم فيه اختلافا إلّا أنه قال بعده شيئا يخالف فيه قال:
فإذا ألقت العرب من سحر الباء لم يجروه فقالوا: فعلت هذا سمر يا هذا. قال أبو جعفر: وقول البصريين أنّ سحر إذا كان نكرة انصرف وإذا كان معرفة لم ينصرف، ودخول الباء وخروجها واحد. والعلّة فيه عند سيبويه «3» أنه معدول عن الألف واللام لأنه يقال: أتيتك أعلى السّحر فلما حذفت الألف واللام وفيه نيتهما اعتلّ فلم ينصرف تقول: سير بزيد سحر يا هذا، غير مصروف. ولا يجوز رفعه لعلّة ليس هذا موضع ذكرها.
[سورة القمر (54) : آية 35]
نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)
نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا قال أبو إسحاق: نصبت نعمة لأنها مفعول لها، قال: ويجوز الرفع بمعنى تلك نعمة من عندنا. كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ الكاف في موضع نصب أي نجزي من شكر جزاء كذلك النجاء.
[سورة القمر (54) : آية 36]
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36)
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا أي التي بطشنا بهم. فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ أي كذّبوا بها شكّا، كما قال قتادة في فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ أي لم يصدّقوا بها.
[سورة القمر (54) : آية 37]
وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37)
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 180، ومعاني الفراء 3/ 108.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 109. [.....]
(3) انظر الكتاب 3/ 314.(4/199)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ «وضيف» بمعنى أضياف لأنه مصدر فلذلك لا تكاد العرب تثنيه ولا تجمعه، وحقيقته في العربية عن ذوي ضيفه. فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ يقال: طمس عينه وعلى عينه إذا فعل بها فعلا يصير بها مثل وجهه لا شقّ فيها ويقال طمست الريح الأعلام إذا سفت عليها التراب فغطّتها به، كما قال: [البسيط] 445-
من كلّ نضّاخة الذّفرى إذا عرقت ... عارضها طامس الأعلام مجهول
«1» فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ أي فقالت لهم الملائكة عليهما السلام: فذوقوا عذاب الله وعقابه ما أنذركم به.
[سورة القمر (54) : الآيات 38 الى 40]
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
قال سفيان: كان مع الفجر صرفت بكرة هاهنا لأنها نكرة، وزعم الفراء «2» أن غدوة وبكرة يجريان ولا يجريان، وزعم أنّ الأكثر في غدوة ترك الصرف، وفي بكرة الصرف. قال أبو جعفر: قول البصريين أنهما لا ينصرفان في المعرفة وينصرفان في النكرة فإن زعم زاعم أنّ الأولى ما قال الفراء لأن بكرة هاهنا مصروف قيل له: هذا لا يلزم لأن بكرة هاهنا نكرة وكذا سحر، والدليل على ذلك أنه لم يقل: أهلكوا في يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا بكرة فتكون معرفة فلما وجب أن تكون نكرة لم يكن فيها ذكر حجّة ولا سيما وفيه الهاء قيل: عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ أي يستقرّ عليهم حتّى أهلكهم.
[سورة القمر (54) : آية 41]
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41)
أي أهل دينه والقائلين بقوله كما مرّ. «قد» إذا وقعت مع الماضي دلّت على التوقّع وإذا كانت مع المستقبل دلّت على التقليل نقول: قد يكرمنا فلان أي ذلك يقلّ منه.
[سورة القمر (54) : آية 42]
كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها في معناه قولان: أحدهما أن المعنى: كذّبوا بآياتنا التي أريناهم إيّاها كلّها والآخر أنه على التكثير، كما حكى سيبويه ما بقي منهم مخبّر. فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ قال قتادة: عزيز في انتقامه، وقال لي غيره: عزيز لا يغلب مقتدر على ما يشاء.
__________
(1) الشاهد لكعب بن زهير في ديوانه ص 9، ولسان العرب (نضخ) ، و (عرض) ، وتاج العروس (نضخ) و (عرض) .
(2) انظر معاني الفراء 3/ 109.(4/200)
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)
[سورة القمر (54) : آية 43]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ مبتدأ وخبره قال: وهذا على التوقيف كما حكى سيبويه:
الشّقاء أحبّ إليك أم السعادة؟ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ أي أكتب لكم أنكم لا تعذّبون.
[سورة القمر (54) : آية 44]
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)
على اللفظ ولو كان على المعنى قيل: منتصرون.
[سورة القمر (54) : آية 45]
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ قال أهل التفسير: ذلك يوم بدر. وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ واحد بمعنى الجمع: كما يقال: كثر الدّرهم.
[سورة القمر (54) : آية 46]
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46)
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ من قال: «بل» لا يكون إلا بعد نفي قال: المعنى: ليس الأمر كما يقولون إنهم لا يبعثون بل الساعة موعدهم. وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ أي من هزيمتهم وتولّيهم.
[سورة القمر (54) : آية 47]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ أي ذهب عن الحق. وَسُعُرٍ أي نار تسعّر.
[سورة القمر (54) : آية 48]
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ وفي قراءة ابن مسعود إلى النار «1» وهذه القراءة على التفسير، كما روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه «يحضر المقتول بين يدي الله جلّ وعزّ فيقول له: فيم قتلت؟ فيقول: فيك، فيقول: كذبت أردت أن يقال: فلان شجاع فقد قيل: فيؤمر به فيسحب على وجهه إلى النار» «2» . ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ أي يقال لهم.
[سورة القمر (54) : آية 49]
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49)
«3» فدلّ بهذا على أنّهم يعذّبون على كفرهم بالقدر. وزعم سيبويه أن نصب «كلّ»
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 110، والبحر المحيط 8/ 181.
(2) أخرجه الترمذي في سننه- الزهد 9/ 225.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 181 (قراءة الجمهور بالنصب، وقرأ أبو السمال وقوم من أهل السنة بالرفع) .(4/201)
وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)
على لغة من قال: زيدا ضربته. وفي نصبه قولان آخران: أما الكوفيون فقالوا: «إنّا» تطلب الفعل والفعل بها أولى من الاسم، والمعنى إنا خلقنا كلّ شيء، قالوا: وليس هذا مثل قولنا: زيدا ضربته: لأنه ليس هاهنا حرف هو بالفعل أولى. ألا ترى أنك تقول: أزيدا ضربته فيكون النصب أولى: لأن هاهنا حرف هو بالفعل أولى والقول الثالث أنه إنما جاز هذا بالنصب وخالف زيد ضربته ليدل ذلك على خلق الأشياء فيكون فيه ردّ على من أنكر خلق الأفعال.
[سورة القمر (54) : آية 50]
وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)
وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ مبتدأ وخبره. وقال علي بن سليمان: المعنى إلّا أمرة واحدة. وزعم الفراء: أنه روي وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ «1» بالنصب كما يقال: ما فلان إلّا ثيابه ودابّته أي إلّا يتعهّد ثيابه ودابته وكما حكى الكسائي: ما فلان إلّا عمّته أي يتعهّد عمّته. كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أي في سرعته.
[سورة القمر (54) : آية 51]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)
فيه قولان: أحدهما أن أشياعهم هم الذين أهلكوا من قبلهم لأنهم كفروا كما كفروا فهل من متّعظ بذلك، وسمّوا أشياعهم لأنهم كذّبوا كما كذّبوا. والقول الآخر أن أشياعهم هم الذين كانوا يعاونونهم على عداوة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين فأهلكوا فهل من متّعظ منكم بذلك. والقول الأول عليه أهل التأويل.
[سورة القمر (54) : آية 52]
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
الهاء في فعلوه تعود على الأشياع في الزبر مكتوب عليهم قد كتبته الحفظة.
[سورة القمر (54) : آية 53]
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
يقال: سطر واستطر إذا كتب سطرا.
[سورة القمر (54) : آية 54]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي الذين اتقوا عقاب الله جلّ وعزّ باجتناب محارمه وأداء فرائضه فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ قال أبو إسحاق: «نهر» بمعنى أنهار. قال أبو جعفر: وأنشد الخليل وسيبويه: [الرجز] 446-
في حلقكم عظم وقد شجينا
«2»
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 111.
(2) الرجز بلا نسبة في الكتاب 1/ 270، ولطفيل في جمهرة اللغة ص (1041) ، والمحتسب 2/ 87، وللمسيب بن زيد مناة في شرح أبيات سيبويه 1/ 212، ولسان العرب (شجا) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب 7/ 559، وشرح المفصّل 6/ 32، ولسان العرب (نهر) وسمع و (أمم) و (مأى) والمقتضب 2/ 172. وقبله:
«لا تنكروا لقتل وقد سبينا» .(4/202)
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
[سورة القمر (54) : آية 55]
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ أي في مجلس حقّ لا لغو فيها ولا باطل. عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ أي يقدر على ما يشاء.(4/203)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)
55 شرح إعراب سورة الرحمن
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)
الرَّحْمنُ (1) رفع بالابتداء وخبره عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) أي من رحمته علّم القرآن فبصّر به رضاه الذي يقرّب منه وسخطه الذي يباعد منه ومن رحمته.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 3 الى 4]
خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
فهو خبر بعد خبر.
[سورة الرحمن (55) : آية 5]
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مبتدأ، وقيل: الخبر محذوف أي يجريان بِحُسْبانٍ وقيل:
الخبر بِحُسْبانٍ.
[سورة الرحمن (55) : آية 6]
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6)
روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: النجم ما تبسّط على الأرض من الزرع يعني البقل ونحوه، قال: والشجر ما كان على ساق. قال أبو جعفر: وهذا أحسن ما قيل في معناه أي يسجد له كل شيء أي ينقاد لله جلّ وعزّ.
[سورة الرحمن (55) : آية 7]
وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7)
وَالسَّماءَ رَفَعَها نصبت بإضمار فعل يعطف ما عمل فيه لفعل على مثله وَوَضَعَ الْمِيزانَ قال الفراء «1» : أي العدل، وقال غيره: هو الميزان الذي يوزن به.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 113.(4/204)
أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)
[سورة الرحمن (55) : الآيات 8 الى 9]
أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) «أن» في موضع نصب، والمعنى: بأن لا تطغوا، وتَطْغَوْا في موضع نصب بأن، ويجوز أن يكون «أن» بمعنى أي فلا يكون لها موضع من الإعراب، ويكون تطغوا في موضع جزم بالنهي. قال أبو جعفر: وهذا أولى لأن بعده وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وقرأ بلال بن أبي بردة وَلا تُخْسِرُوا «1» بفتح التاء. وهي لغة معروفة.
[سورة الرحمن (55) : آية 10]
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10)
نصب الأرض بإضمار فعل.
[سورة الرحمن (55) : آية 11]
فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11)
فِيها فاكِهَةٌ مبتدأ. وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ عطف عليه. الواحد كمّ وهو ما أحاط بها من ليف وسعف وغيرهما.
[سورة الرحمن (55) : آية 12]
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12)
وَالْحَبُّ مرفوع على أنه عطف على فاكهة أي وفيها الحبّ. ذُو الْعَصْفِ نعت له. وَالرَّيْحانُ عطف أيضا. وقراءة الأعمش وحمزة والكسائي. ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ «2» بالخفض بمعنى وذو الريحان.
[سورة الرحمن (55) : آية 13]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: فبأيّ نعم ربّكما. قال أبو جعفر: فإن قيل: إنما تقدّم ذكر الإنسان فكيف وقعت المخاطبة لشيئين؟ ففي هذا غير جواب منها أن الأنام يدخل فيه الجنّ والإنس فخوطبوا على ذلك، وقيل: لمّا قال جلّ وعزّ:
وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ [الحجر: 27] وقد تقدم ذكر الإنسان خوطب الجميع وأجاز الفراء «3» .
أن يكون على مخاطبة الواحد بفعل الاثنين، وحكى ذلك عن العرب.
[سورة الرحمن (55) : آية 14]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14)
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الصّلصال الطين اليابس. فالمعنى على هذا خلق الإنسان من طين يابس يصوّت كما يصوّت الطين الذين قد مسّته النار. وهو الفخار. وقيل: الصلصال المنتن فعلان، من صلّ اللحم إذا أنتن، ويقال أصلّ.
__________
(1) انظر مختصر ابن خالويه 149، والبحر المحيط 8/ 188، وهذه قراءة زيد بن علي أيضا.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 189، وهذه قراءة حمزة والكسائي والأصمعي عن أبي عمرو.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 114.(4/205)
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23)
[سورة الرحمن (55) : الآيات 15 الى 16]
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16)
قيل: المارج مشتقّ من مرج الشيء إذا اختلط، والمارج من بين أصفر وأخضر وأحمر، وكذا لسان النار. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ قال: هو من خالص النار.
[سورة الرحمن (55) : آية 17]
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)
رفع على إضمار مبتدأ يجوز أن يكون بدلا من المضمر الذي في «خلق» ، ويجوز الخفض «1» بمعنى: فبأيّ آلاء ربّكما ربّ المشرقين وربّ المغربين، ويجوز النصب بمعنى أعني.
[سورة الرحمن (55) : آية 18]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18)
ليس بتكرير لأنه إنما أتى بعد نعم أخرى سوى التي تقدّمت.
[سورة الرحمن (55) : آية 19]
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19)
روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: مرج أرسل. واختلف العلماء في معنى البحرين هاهنا فقال الحسن وقتادة: هما بحر الروم وبحر فارس، وقال سعيد بن جبير وابن أبزى: هما بحر السماء وبحر الأرض، وكذا يروى عن ابن عباس إلّا أنه قال: يلتقيان كلّ عام. وقول سعيد بن جبير وابن أبزى يذهب إليه محمد بن جرير لعلّة أوجبت ذلك عنده نذكرها بعد هذا.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 20 الى 21]
بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21)
قال بعض أهل التفسير: لا يبغيان على الناس، وقال بعضهم: لا يبغي أحدهما على الآخر. وظاهر الآية يدل على العموم.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 22 الى 23]
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)
وقراءة يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة يَخْرُجُ «2» والضمّ أبين لأنه إنما يخرج إذا أخرج. وتكلّم العلماء في معنى يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ فمذهب الفراء «3» أنه إنما
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 189 (قرأ الجمهور بالرفع، وأبو حيوة وابن أبي عبلة بالخفض بدلا من «ربّكما» ) .
(2) انظر البحر المحيط 8/ 190 (قرأ الجمهور «الخرج» مبنيا للفاعل، ونافع وأبو عمرو وأهل المدينة مبنيا للمفعول، والجعفي عن أبي عمرو بالياء مضمومة وكسر الراء) . [.....]
(3) انظر معاني الفراء 3/ 115.(4/206)
وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)
يخرج من أحدهما وجعله مجازا. وفي هذا من البعد ما لا خفاء به على ذي فهم أن يكون «منهما» من أحدهما. وقيل: يخرج إنما هو للمستقبل فيقول: إنه يخرج منهما بعد هذا. وقيل: يخرج منهما حقيقة لا مجازا لأنه إنما يخرج من المواضع التي يلتقي فيها الماء الملح والماء العذب. وقول رابع هو الذي اختاره محمد بن جرير وحمله على ذلك التفسير لما كان من تقوم الحجّة بقوله قد قال في قوله جلّ وعزّ: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ أنهما بحر السماء وبحر الأرض، وكان اللؤلؤ والمرجان إنما يوجد في الصّدف إذا وقع المطر عليه، ويدلّك على هذا الحديث عن ابن عباس قال: «إذا مطرت السماء فتحت الصدف أفواهها» .
[سورة الرحمن (55) : الآيات 24 الى 25]
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25)
الجواري في موضع رفع، حذفت الضمة من الياء لثقلها، وحذفه الياء بعيد، ومن حذف الياء قال الكسرة تدلّ عليها، وقد كانت تحذف قبل دخول الألف واللام.
وقراءة الكوفيين غير الكسائي وله الجواري المنشئات «1» يجعلونها فاعلة و «المنشأات» قراءة أهل المدينة وأبي عمرو، وهي أبين. فأما ما روي عن عاصم الجحدري أنه قرأ المنشيّات فغير محفوظ لأنه إن أبدل الهمزة قال: المنشيات وإن خفّفها جعلها بين الألف والهمزة فقال: المنشاءات وهذا المحفوظ من قراءته. كالأعلم في موضع نصب على الحال.
[سورة الرحمن (55) : آية 26]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26)
الضمير يعود على الأرض وضعها أي كلّ من على الأرض يفنى ويهلك.
والأصل: فاني استثقلت الحركة في الياء فسكّنت ثم حذفت لسكونها وسكون التنوين بعدها.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 27 الى 28]
وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28)
ذُو من نعت وجه لأن المعنى ويبقى ربّك، كما تقول: هذا وجه الأرض.
وفي قراءة ابن مسعود ويبقى وجه ربك ذي «2» الجلال والإكرام من نعت ربّك.
[سورة الرحمن (55) : آية 29]
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مذهب قتادة وليس بنصّ قوله يفزع إليه أهل السموات
__________
(1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 620، والبحر المحيط 8/ 191، وتيسير الداني 167 (قرأ حمزة وأبو بكر المنشئات بكسر الشين، والباقون بفتحها) .
(2) وهي قراءة أبيّ أيضا، انظر البحر المحيط 8/ 191.(4/207)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34)
وأهل الأرض في حاجاتهم لا غناء بهم عنه. كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أي في شأنهم وصلاحهم وتدبير أمورهم.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 31 الى 32]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32)
فيه خمس قراءات «1» ذكر أبو عبيد منها اثنتين قد قرأ بكل واحدة منهما خمسة قراء وهما (سنفرغ) و (سيفرغ) فقرأ بالأولى أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو وعاصم، وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي (سيفرغ) ولم يذكر أبو عبيد طلحة، وقرأ عبد الرحمن الأعرج وقتادة (سنفرغ لكم) بفتح النون والراء. وقرأ عيسى بن عمر (سنفرغ) بكسر النون وفتح الراء، وذكر الفراء أنه يقرأ (سيفرغ) بضم الياء وفتح الراء. قال أبو جعفر: القراءتان الأوليان بمعنى واحد. وحكى أبو عبيد أن لغة أهل الحجاز وتهامة فرغ يفرغ وأنّ لغة أهل نجد فرغ يفرغ وأنه لا يعرف أحدا من القراء قرأ بها. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا من قرأ بها. فمن قال: فرغ يفرغ جاء به على الأصل لأن فيها حرفا من حروف الحلق وحروف الحلق الهمزة والعين والغين والحاء والخاء والهاء، وحروف الحلق يأتي منها فعل يفعل كثيرا نحو ذهب يذهب وصنع يصنع، ويأتي ما فيه لغتان نحو صبغ يصبغ ويصبغ ورعف يرعف ويرعف، ويأتي منهما ما لا يكاد يفتح نحو نحت ينحت وإنما يرجع في هذا إلى اللغة.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 33 الى 34]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34)
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نداء مضاف. إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا على مذهب الضّحاك أن المعنى «سنفرغ لكم أيّها الثقلان» فيقال لكم: يا معشر الجن والإنس وذكر أنّ هذا يوم القيامة تنزل ملائكة سبع السموات فيحيطون بأقطار الأرض فيأتي الملك الأعلى جلّ وعزّ. وقرأ الضحاك: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] ثم يؤتى بجهنّم فإذا راها الناس هربوا وقد اصطفّت الملائكة على أقطار الأرض سبعة صفوف. وقرأ الضحاك: يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ [غافر: 32، 33] ، وقرأ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا، وروي عنه أنه قال: إن استطعتم أن تهربوا من الموت وروي عن ابن عباس أن استطعتم أن تعلموا ما في السموات وما في الأرض لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ
__________
(1) انظر القراآت المختلفة في البحر المحيط 8/ 192، وكتاب السبعة لابن مجاهد 620، ومختصر ابن خالويه 149، وتيسير الداني 167، ومعاني الفراء 3/ 116.(4/208)
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35)
قال عكرمة: أي بحجة قال: وكل سلطان في القرآن فهو حجة، وقال قتادة:
بسلطان أي بملكة.
[سورة الرحمن (55) : آية 35]
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35)
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ هذه قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وأبي عمرو وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ ابن كثير وابن أبي إسحاق وهي مروية عن الحسن (شواظ) «1» بكسر الشين. والفراء يذهب إلى أنهما لغتان بمعنى واحد، كما يقال: صوار وصوار. (ونحاس) «2» قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع والكوفيين بالرفع، وقرأ ابن كثير وابن أبي إسحاق وأبو عمرو (ونحاس) «3» بالخفض، وقرأ مجاهد (ونحاس) بكسر النون والسين، وقرأ مسلم بن جندب (ونحس) بغير ألف وبالرفع. قال أبو جعفر: الرفع في و «نحاس» أبين في العربية لأنه لا اشكال فيه يكون معطوفا على «شواظ» ، وإن خفضت عطفته على نار، واحتجت إلى الاحتيال، وذلك أن أكثر أهل التفسير منهم ابن عباس يقولون: الشّواظ اللهب، والنحاس الدخان فإذا خفضت فالتقدير شواظ من نار ومن نحاس. والشواظ لا يكون من النحاس كما أن اللهب لا يكون من الدخان إلا على حيلة واعتذار والذي في ذلك من الحيلة، وهو قول أبي العباس محمد بن يزيد، أنه لمّا كان اللهب والدخان جميعا من النار كان كلّ واحد منهما مشتملا على الآخر، وأنشد للفرزدق: [الطويل] 447-
فبتّ أقدّ الزاد بيني وبينه ... على ضوء نار مرّة ودخان
«4» فعطف ودخان على نار، وليس للدخان ضوء لأن الضوء والدخان من النار وإن عطفت ودخان على ضوء لم تحتج إلى الاحتيال، وأنشد غيره في هذا بعينه: [الرجز] 448-
شراب ألبان وتمر وأقط
«5» وإنما الشروب الألبان ولكنّ الحلق يشتمل على هذه الأشياء، وقال أخر في مثله.
[مجزوء الكامل] 449-
يا ليت زوجك قد غدا ... متقلّدا سيفا ورمحا
«6»
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 117، والبحر المحيط 8/ 193، وتيسير الداني 167.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 193.
(3) انظر مختصر ابن خالويه 149.
(4) الشاهد للفرزدق في ديوانه 329، وفي الحماسة لابن الشجري 208، والمقاصد النحوية 1/ 462.
(5) الرجز بلا نسبة في الإنصاف 2/ 613، ولسان العرب (زجج) ، و (طفل) ، والمقتضب 2/ 51، والكامل للمبرد 289.
(6) مرّ الشاهد رقم (122) .(4/209)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
لأنهما محمولان وقد قال الحسن ومجاهد وقتادة في قوله جلّ وعزّ: وَنُحاسٌ قالوا يذاب النحاس فيصبّ على رؤوسهم. فَلا تَنْتَصِرانِ أي ممن عاقبكما بذلك ولا تستفيدان منه.
[سورة الرحمن (55) : آية 36]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36)
أي: فبأيّ نعم ربّكما الذي جعل الحكم واحدا في المنع من النقود، ولم يخصص بذلك أحدا دون أحد.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 38]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38)
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ وهو يوم القيامة. فَكانَتْ وَرْدَةً قال قتادة: هي اليوم خضراء ويوم القيامة حمراء، وزاد غيره وهي من حديد. كَالدِّهانِ أصح ما قيل فيه، وهو قول مجاهد والضحاك، أنه جمع دهن أي صافية ملساء.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 39 الى 42]
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42)
فَيَوْمَئِذٍ جواب إذا. لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ قول ابن عباس لا يسألون سؤال اختبار، لأنّ الله جلّ وعزّ قد حفظ عليهم أعمالهم، وقول قتادة أنّهم يعرفون بسواد الوجوه وزرق الأعين، ويدلّ على هذا أن بعده يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ والسيما والسيمياء العلامة. فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ يكون بالنواصي في موضع رفع اسم لم يسمّ فاعله ويجوز أن يكون مضمرا.
[سورة الرحمن (55) : آية 43]
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43)
أي يقال لهم: هذه جهنم التي كانوا يكذبون بها في الدنيا.
[سورة الرحمن (55) : آية 44]
يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)
يَطُوفُونَ بَيْنَها أي بين أطباقها. وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ حكى عبد الله بن وهب عن ابن زيد قال: الاني الحاضر. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ قال يقول: قد انتهى حرّه. قال أبو جعفر: وكذا هو في كلام العرب قال النابغة: [الوافر] 450-
وتخضب لحية غدرت وخانت ... بأحمر من نجيع الجوف ان
[سورة الرحمن (55) : آية 45]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)
أي: فبأيّ نعم ربكما التي أنعم بها عليكم فلم يعاقب منكم إلّا المجرمين،(4/210)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)
وجعل لهم سيمياء يعرفون بها حتّى لا يختلط بهم غيرهم.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 47]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47)
رفع بالابتداء وبإضمار فعل بمعنى تجب أو تستقرّ، والتقدير: ولمن خاف مقام ربّه فأدّى فرائضه واجتنب معاصيه خوف المقام الذي يقفه الله تعالى للحساب، ويبيّن هذا قوله: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: 40] ولا يقال لمن اقتحم على المعاصي: خائف، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ قال: وعد الله المؤمنين الذين أدّوا فرائضه الجنة.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 48 الى 49]
ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49)
نعت للجنتين، والجنة عند العرب البستان. قال أبو جعفر: واحد الأفنان فنن على قول من قال: هي الأغصان، ومن قال: هي الألوان ألوان الفاكهة فواحدها وعندهم فن والأول أولى بالصواب لأن أكثر ما يجمع فنّ فنون فيستغنى بجمعه الكثير، كما يقال: شسع وشسوع. ومنه أخذ فلان في فنون من الحديث.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 50 الى 51]
فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51)
أي في خلالهما نهران يجريان.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 52 الى 53]
فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53)
أي من كل نوع من الفاكهة صنفان.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 54 الى 55]
مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55)
نصب مُتَّكِئِينَ على الحال، والعالم فيه من غامض النحو. قال أبو جعفر: ولا أعلم أحدا من النحويين ذكره إلّا شيئا ذكره محمد بن جرير قال: هو محمول على المعنى أي: يتنعمون متكئين، وجعل ما قبله يدلّ على المحذوف. قال أبو جعفر:
ويجوز أن يكون بغير حذف، ويكون راجعا إلى قوله جلّ وعزّ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ كما تقول: لفلان تجارة حاضرا، أي في هذه الحال. ومُتَّكِئِينَ على معنى «من» ولو كان على اللفظ لكان متّكئا. وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ في موضع رفع بالابتداء. دانٍ خبره.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 56 الى 57]
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57)
فِيهِنَّ قال أبو جعفر: قد ذكرنا هذا الضمير وعلى من يعود. وفيه إشكال قد(4/211)
كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69)
بيّناه والتقدير: فيهن حور. قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ، وقراءة طلحة لَمْ يَطْمِثْهُنَّ «1» وهما لغتان معروفتان.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 58 الى 59]
كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59)
أن في موضع خفض بالكاف، والكاف في موضع رفع بالابتداء والخبر محذوف «وهنّ» في موضع نصب اسم «أنّ» ، وشددت لأنها بمنزلة حرفين في المذكّر، الْياقُوتُ خبر، وَالْمَرْجانُ عطل عليه.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 60 الى 61]
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)
مبتدأ وخبره أي على جزاء من أحسن في الدنيا إلّا أن يحسن إليه في الآخرة.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 63]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63)
في معناه قولان: أحدهما ومن دونهما في الدرج. وهذا مذهب ابن عباس، وتأوّل أنّ هاتين الجنتين هما اللتان قال الله جلّ وعزّ فيهما: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] ، والقول الآخر ومن دونهما في الفضل وهذا مذهب ابن زيد، قال: وهم لأصحاب اليمين.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 64 الى 65]
مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65)
قال أبو حاتم: ويجوز في الكلام مدهمّتان لأنه يقال: ادهمّ وادهامّ، ومدهامتان من نعت الجنتين.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 66 الى 67]
فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67)
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس ضَّاخَتانِ
قال: فيّاضتان وقال الضحاك:
ممتلئتان، وقال سعيد بن جبير: نضّاختان بالماء والفاكهة، قال أبو جعفر: والمعروف في اللغة أنهما بالماء.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 68 الى 69]
فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69)
فيها ثلاثة أقوال: منها أنه قيل: إنّ النخل والرمان ليسا من الفاكهة لخروجهما منها في هذه الآية، وقيل هما منها ولكن أعيد إشادة بذكرهما لفضلهما. وقيل: العرب تعيد الشيء بواو العطف اتّساعا لا لتفضيل، والقرآن نزل بلغتهم والدليل على ذلك أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الحج: 18] ثم قال جلّ
__________
(1) انظر تيسير الداني 167، وكتاب السبعة لابن مجاهد 621، والبحر المحيط 8/ 196.(4/212)
فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77)
وعزّ: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وقال جلّ ثناؤه: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: 238] قال أبو جعفر: وهذا بيّن لا لبس فيه.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 70 الى 71]
فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71)
وحكى الفراء «1» : خيّرات وخيرات. فأما البصريون فقالوا: خيرة بمعنى خيّرة فخفّف، كما قيل: ميّت وميت «وفيهن» يعود على الأربع الأجنّة.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 72 الى 73]
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73)
حُورٌ بدل وإن شئت كان نعتا. مَقْصُوراتٌ قال مجاهد: قصرن طرفهنّ وأنفسهنّ على أزواجهن فلا يردن غيرهم، وقال أبو العالية: «مقصورات» محبوسات، وقال الحسن: مقصورات محبوسات لا يطفن في الطرق. قال أبو جعفر: والصواب في هذا أن يقال: إن الله جل وعز وصفهنّ بأنهنّ مقصورات فعمّ فنعمّ كما عمّ جلّ وعزّ فيقول: قصرن طرفهنّ وأنفسهن على أزواجهن فلا يرين غيرهم وهن محبوسات في الخيام ومصونات.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 74 الى 75]
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75)
فدلّ بهذا على أن الجنّ يطئون.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 76 الى 77]
مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77)
مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ فخضر جمع أخضر، ورفرف لفظه لفظ واحد، وقد نعت بجمع لأنه اسم للجمع كما قال: مررت برهط كرام وقوم لئام وكذا: هذه إبل حسان وغنم صغار. وَعَبْقَرِيٍّ مثله غير أنه يجوز أن يكون جمع عبقرية، وقد قرأ عاصم الجحدري متكئين على رفارف خضر وعباقريّ حسان «2» وقد روى بعضهم هذه القراءة عن عاصم الجحدري عن أبي بكرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وإسنادها ليس بالصحيح، وزعم أبو عبيد أنها لو صحّت لكانت وعباقريّ بغير إجراء، وزعم أنه هكذا يجب في العربية. قال أبو جعفر: وهذا غلط بين عند جميع النحويين لأنهم قد أجمعوا جميعا أنه يقال: رجل مدائني بالصرف، وإنما توهّم أنه جمع، وليس في كلام العرب جمع بعد ألفه أربعة أحرف لا اختلاف بينهم أنك لو جمعت عبقرا لقلت عباقر، ويجوز على بعد عباقير، ويجوز عباقرة. فأما عباقريّ في الجمع فمحال والعلّة في امتناع جواز عباقريّ أنه لا يخلو من أن يكون منسوبا إلى عبقر فيقال: عبقريّ أو يكون منسوبا إلى
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 120.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 198، ومختصر ابن خالويه 15.(4/213)
تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
عباقر فيردّ إلى الواحد فيقال أيضا. عبقريّ كما شرط النحويون جميعا في النسب إلى الجمع أنك تنسب إلى واحدة فتقول في النسب إلى المساجد: مسجديّ وإلى العلوم علميّ وإلى الفرائض فرضيّ فإن قال قائل فما يمنع من أن يكون عباقرا اسم موضع ثم ينسب إليها كما يقال: معافريّ؟ قيل له: إن كتاب الله جلّ وعزّ لا يحمل على ما لا يعرف وتترك حجّة الإجماع.
[سورة الرحمن (55) : آية 78]
تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ أي البركة في اسمه جلّ وعزّ والبركة في اللغة بقاء النعمة وثباتها.
فحضهم بهذا على أن يكثروا ذكر اسمه جلّ وعزّ ودعاءه، وأن يذكروه بالإجلال والتعظيم له فقال: ذي الجلل والإكرام «1» أي الجليل الكريم وفي الحديث «ألظّوا بيا ذا الجلال والإكرام» «2» .
__________
(1) قرأ ابن عامر (ذو الجلال) بالواو والباقون بالياء، انظر تيسير الداني 168، والبحر المحيط 8/ 198. [.....]
(2) أخرجه الترمذي (3524) ، وأحمد في المسند 4/ 177، والحاكم في المستدرك 1/ 498، والطبراني في الكبير 5/ 60، والبخاري في التاريخ 3/ 280، وذكره السيوطي في الدرر 6/ 153، والهيثمي في المجمع 10/ 158.(4/214)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)
56 شرح إعراب سورة الواقعة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الواقعة (56) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1)
إِذا في موضع نصب لأنها ظرف زمان، والعامل فيها وقعت لأنها تشبه حروف الشرط، وإنما يعمل فيها ما بعدها. وقد حكى سيبويه «1» : أن من العرب من يجزم بها، قال: وشبهها بحروف الشرط متمكن قوي، وذلك أنها تقلب الماضي إلى المستقبل وتحتاج إلى جواب غير أنه لا يجازى بها إلّا في الشعر. فأما مخالفتها حروف المجازاة فإن ما بعدها يكون محدّدا تقول: أجيئك إذا احمرّ البسر ولا يجوز هاهنا «أن» وكسرت التاء من «وقعت» لالتقاء الساكنين، لأنها حرف فحكمها أن تكون ساكنة، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الواقعة والطامّة والصاخّة «2» ونحو ذلك من أسماء القيامة عظمها الله جلّ وعزّ وحذّرها عباده، وقال غيره: هي الصيحة وهي النفخة الأولى.
[سورة الواقعة (56) : آية 2]
لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2)
اسم ليس وذكّرت كاذبة عند أكثر النحويين لأنها بمعنى الكذب أي ليس لوقعتها كذب. قال الفرّاء «3» : مثل عاقبة وعافية.
[سورة الواقعة (56) : آية 3]
خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3)
خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) على إضمار مبتدأ، والتقدير الواقعة خافضة رافعة، وقرأ اليزيدي خافِضَةٌ رافِعَةٌ «4» بالنصب. وهذه القراءة شاذة متروكة من غير جهة منها أنّ
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 67.
(2) انظر الطبري 27/ 96، وزاد المسير 8/ 130.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 121.
(4) انظر البحر المحيط 8/ 203 (وهي قراءة زيد بن علي وعيسى وأبي حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم والزعفراني أيضا) .(4/215)
إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)
الجماعة الذين تقوم بهم الحجّة على خلافها، ومنها أنّ المعنى على الرفع في قول أهل التفسير والمحقّقين من أهل العربية. فأما أهل التفسير فإن ابن عباس قال: خفضت أناسا ورفعت آخرين فعلى هذا لا يجوز إلّا الرفع: لأن المعنى خفضت قوما كانوا أعزاء في الدنيا إلى النار ورفعت قوما كانوا أذلّاء في الدنيا إلى الجنة، فإذا نصب على الحال اقتضت الحال جواز أن يكون الأمر على غير ذلك كما أنك إذا قلت: جاء زيد مسرعا، فقد كان يجوز أن يجيء على خلاف هذه الحال، وقال عكرمة والضحّاك: خافِضَةٌ رافِعَةٌ خفضت فأسمعت الأدنى، ورفعت فأسمعت الأقصى فصار الناس سواء. قال أبو جعفر: وأما أهل العربية فقد تكلّم منهم جماعة في النصب. فقال محمد بن يزيد:
لا يجوز، وقال الفرّاء «1» : يجوز بمعنى إذا وقعت الواقعة وقعت خافضة رافعة فأضمر وقعت وهو عند غيره من النحويين بعيد قبيح، ولو قلت: إذا جئتك زائرا، تريد إذا جئتك جئتك زائرا. لم يجز هذا الإضمار لأنه لا يعرف معناه، وقد يتوهّم السامع أنه قد بقي من الكلام شيء. وأجاز أبو إسحاق النصب على أن يعمل في الحال «وقعت» ، قد بيّنا فساده على أن كل من أجازه فإنه يحمله على الشذوذ فهذا يكفي في تركه.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 4 الى 5]
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5)
إِذا في موضع نصب. قال أبو إسحاق: المعنى إذا وقعت الواقعة في هذا الوقت، رَجًّا مصدر، وكذا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. (5)
[سورة الواقعة (56) : آية 6]
فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6)
هَباءً خبر كان. مُنْبَثًّا من نعته. وأصحّ ما قيل في معناه ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: الهباء المنبثّ رهج الدواب، وعن ابن عباس هو الغبار، وعنه هو الشرر الذي يطير من النار.
[سورة الواقعة (56) : آية 7]
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7)
عن ابن عباس قال: أصنافا ثلاثة. قال أبو إسحاق: يقال للأصناف التي بعضها مع بعض أزواج واحدها زوج، كما يقال: زوج من الخفاف لأحد الخفّين.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 8 الى 9]
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9)
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ رفع الابتداء. ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مبتدأ وخبره في موضع خبر الأول، وقيل: التقدير ما هم فلذلك صلح أن يكون خبرا عن الأول لمّا عاد عليه ذكره وكذا الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ [القارعة: 1، 2] يظهر الاسم على سبيل التعظيم
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 121.(4/216)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)
والتشديد. وهذا قول حسن لأن إعادة الاسم فيه معنى التعظيم، وكذا فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) قيل: إنما قيل لهم: أصحاب الميمنة لأنّهم أعطوا كتبهم بإيمانهم، وقيل: لأنهم أخذ بهم ذات اليمين. وهذه علامة في القيامة لمن نجا، وقيل:
إن الجنة على يمين الناس يوم القيامة، وعلى هذا وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) لأن اليد اليسرى يقال لها الشّومى.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 10 الى 11]
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)
قال محمد بن سيرين: السابقون الذين صلّوا القبلتين، وأبو إسحاق يذهب إلى أنّ فيه تقديرين في العربية: أحدهما أن يكون السابقون الأول مرفوعا بالابتداء والثاني من صفته، وخبر الابتداء أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) ، ويجوز عنده أن يكون السابقون الأول مرفوعا بالابتداء والسابقون خبره وتقديره والسابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله، قال: أولئك المقربون صفة. قال أبو جعفر: قوله: أولئك صفة غلط عندي لأن ما فيه الألف واللام لا يوصف بالمبهم. لا يجوز عند سيبويه: مررت بالرجل ذلك، ولا مررت بالرجل هذا، على النعت، والعلّة فيه أن المبهم أعرف مما فيه الألف واللام، وإنما ينعت الشيء عند الخليل وسيبويه بما هو دونه في التعريف، ولكن يكون أولئك المقربون بدلا أو خبرا بعد خبر.
[سورة الواقعة (56) : آية 12]
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
من صلة المقرّبين، أو خبر أخر.
[سورة الواقعة (56) : آية 13]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13)
قال أبو إسحاق: المعنى: هم ثلّة من الأولين.
[سورة الواقعة (56) : آية 14]
وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)
عطف عليه.
[سورة الواقعة (56) : آية 15]
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15)
عَلى سُرُرٍ من العرب من يقول: سرر لثقل الضمّة وتكرير الحرف وفي الراء أيضا تكرير. مَوْضُونَةٍ نعت.
[سورة الواقعة (56) : آية 16]
مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16)
قال أبو إسحاق: هما منصوبان على الحال.(4/217)
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)
[سورة الواقعة (56) : آية 17]
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17)
ذكر الفرّاء «1» معناه على سنّ واحد لا يتغيّرون كأنه مشتقّ من الولادة إلّا أنه يقال:
وليد بين الولادة بفتح الواو.
[سورة الواقعة (56) : آية 18]
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)
بِأَكْوابٍ اجتزئ بالجمع القليل عن الكثير. وَأَبارِيقَ لم ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد. وَكَأْسٍ واحد يؤدي عن الجمع، وروى عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ قال: الخمر، وقال الضحّاك: كل كأس في القرآن فهي الخمر، وقال قتادة: من معين من خمر ترى بالعيون.
[سورة الواقعة (56) : آية 19]
لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19)
لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ «2» فنفى عن الخمر ما يلحق من آفاتها من السكر والصداع، وقيل: «يصدّعون عنها» يفرّقون عن قلّى.
[سورة الواقعة (56) : آية 20]
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20)
أي يتخيّرونها وحذفت الهاء لطول الاسم.
[سورة الواقعة (56) : آية 21]
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)
أهل التفسير منهم من يقول: يخلق الله جلّ وعزّ لهم لحما على ما يشتهون من شواء أو طبيخ من جنس الطير، ومنهم من يقول: بل هو لحم طير على الحقيقة. وبهذا جاء الحديث عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما هو إلّا أن تشتهي الطائر في الجنّة وهو يطير فيقع بين يديك مشويّا» «3» .
[سورة الواقعة (56) : الآيات 22 الى 23]
وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)
وَحُورٌ عِينٌ (22) قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وشيبة ونافع، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي وَحُورٌ عِينٌ «4» بالخفض، وحكى سيبويه والفرّاء أنّ في قراءة أبيّ بن كعب وحورا عينا «5» بالنصب، وزعم سيبويه «6» أنّ الرفع محمول على
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 122.
(2) انظر تيسير الداني 168، والبحر المحيط 8/ 205 (قرأ الجمهور «ولا ينزفون» مبنيا للمفعول) .
(3) انظر تفسير القرطبي 17/ 34.
(4) انظر البحر المحيط 8/ 206، وتيسير الداني 168.
(5) انظر معاني الفراء 3/ 124.
(6) انظر الكتاب 1/ 228.(4/218)
المعنى لأن المعنى فيها أكواب وأباريق وكأس من معين وفاكهة ولحم طير وحور أي ولهم حور عين وأنشد «1» : [الكامل] :
451-
بادت وغيّر ايهنّ مع البلى ... إلّا رواكد جمرهنّ هباء
ومشجّج أمّا سوعاء قذاله ... فبدا وغيّر ساره المعزاء
فرفع ومشجّج على المعنى لأن المعنى بها رواكد وبها مشجّج. والقراءة بالرفع اختيار أبي عبيد لأن الحور لا يطاف بهن، واختار الفرّاء «2» الخفض واحتج بأن الفاكهة واللحم أيضا لا يطاف بهما وإنما يطاف بالخمر. وهذا الاحتجاج لا ندري كيف هو إذ كان القراء قد أجمعوا على القراءة بالخفض في قوله جلّ وعزّ: وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) فمن أين له أنه لا يطاف بهذه الأشياء التي ادّعى أنه لا يطاف بها؟ وإنما يسلّم في هذا لحجّة قاطعة أو خبر يجب التسليم له. واختلفوا في قوله جلّ وعزّ: وَحُورٌ عِينٌ (22) كما ذكرت والخفض جائز على أن يحمل على المعنى لأن المعنى ينعمون بهذه الأشياء وينعمون بحور عين، وهذا جائز في العربية كثير. كما قال: [الكامل] 452-
علفتها تبنا وماء باردا ... حتّى شتت همّالة عيناها
«3» فحملت على المعنى، وقال أخر: [مجزوء الكامل] 453-
يا ليت زوجك قد غدا ... متقلّدا سيفا ورمحا
«4» وقال أخر: [الوافر] 454-
إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزجّجن الحواجب والعيونا
«5» والعيون لا تزجّج فحمله على المعنى. فأما «وحورا عينا» فهو أيضا محمول على المعنى لأن معنى الأول يعطون هذا ويعطون حورا، كما قال «6» : [البسيط] 455-
جئني بمثل بني بدر لقومهم ... أو مثل أسرة منظور بن سيّار
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (36) .
(2) انظر معاني الفراء 3/ 124. [.....]
(3) الشاهد لذي الرمة في ديوانه 664، والخزانة 1/ 499، وبلا نسبة في معاني الفراء 1/ 14، وديوان المفضليات 248، واللسان (علف) .
(4) مرّ الشاهد رقم (122) .
(5) الشاهد للراعي النميري في ديوانه 269، والدرر 3/ 158، وشرح شواهد المغني 2/ 775، ولسان العرب (زجج) ، والمقاصد النحوية 3/ 91، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 3/ 212، والإنصاف 2/ 610، وأوضح المسالك 2/ 432، وتذكرة النحاة ص 617، والخصائص 2/ 432، والدرر 6/ 80، وشرح الأشموني 1/ 226، وشرح التصريح 1/ 346، وشرح عمدة الحافظ ص 635.
(6) مرّ الشاهد رقم (135) .(4/219)
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
أو عامر بن طفيل في مركّبه ... أو حارثا يوم نادى القوم يا حار
قال الحسن البصري: الحور الشديدات سواد سواد العين. وهذا أحسن ما قيل في معناهن. والحور البياض، ومنه الحوّاريّ وروي عن مجاهد أنه قال: قيل حور لأن العين تحار فيهن، وقال الضحّاك: العين العظيمات الأعين. قال أبو جعفر: عين جمع عيناء وهو على فعل إلّا أن الفاء كسرت لئلا تنقلب الياء واوا فيشكل بذوات الواو، وقد حكى الفرّاء أن من العرب من يقول: حير عين على الإتباع.
وروي عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ:
كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) قال: «كصفاء الدرّ الذي في الصّدف الذي لا تمسّه الأيدي» «1» .
[سورة الواقعة (56) : آية 24]
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)
قال أبو إسحاق: نصبت جزاء لأنه مفعول له أي لجزاء أعمالهم. قال: ويجوز أن يكون مصدرا لأن معنى يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) يجزيهم ذلك جزاء أعمالهم.
[سورة الواقعة (56) : آية 25]
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25)
اللّغو ما يلغى قيل: معناه لا يسمعون فيها صخبا ولا ضجرا ولا صياحا. فنفى الله عزّ وجلّ عن أهل الجنة كلّ ما يلحق الناس في الدنيا في نعيمهم من الضجر وفي كلّ ما يلحق في طعامهم وشرابهم من الآفات وكل ما يلحقهم من العناء والتعب وفي المأكول والمشروب في هذه السورة. وفي بعض الحديث «من داوم قراءة سورة الواقعة كلّ يوم لم يفتقر أبدا» «2» .
[سورة الواقعة (56) : آية 26]
إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)
قال أبو إسحاق: إِلَّا قِيلًا منصوب بيسمعون أي لا يسمعون إلّا قيلا، وقال غيره: هو منصوب على الاستثناء سَلاماً سَلاماً يكون نعتا لقيل أي إلّا قيلا يسلم فيه من الصياح والصخب وما يؤثم فيه، ويجوز أن يكون منصوبا على المصدر، ويجوز وجه ثالث وهو أن يكون منصوبا بقيل، ويكون معنى قيل أن يقولوا، وأجاز الكسائي والفرّاء الرفع في في سلام بمعنى: سلام عليكم، وأنشد الفرّاء: [الطويل] 456-
فقلنا السّلام فاتّقت من أميرها ... فما كان إلّا ومؤها بالحواجب
«3»
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 206.
(2) انظر الترغيب والترهيب للمنذري 2/ 448.
(3) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (ومأ) و (صفح) و (سلم) ، والتنبيه والإيضاح 1/ 34، والمخصّص 13/ 155، وتهذيب اللغة 15/ 644، وتاج العروس (ومأ) و (صفح) .(4/220)
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36)
[سورة الواقعة (56) : آية 27]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27)
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ في معناه ثلاثة أقوال: منها أنه إنما قيل لهم أصحاب اليمين لأنهم أعطوا كتبهم بأيمانهم، ومنها أنه يؤخذ بهم يوم القيامة ذات اليمين وذلك أمارة من نجا، والقول الثالث أنّهم الذين أقسم الله جلّ وعزّ أن يدخلهم الجنة. ما أَصْحابُ الْيَمِينِ مبتدأ وخبره في موضع خبر الأول، وقول قتادة: إن المعنى: أيّ شيء هو وما أعدّ لهم من الخيرات.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 28 الى 29]
فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)
«مخضود» أصحّ ما قيل فيه أنه خضد شوكه، وقيل: هو مخلوق كذا، والعرب تعرف الطّلح أنه الشجر كثير الشوك. قال أبو إسحاق يجوز أن يكون في الجنة وقد أزيل عنه الشوك. وأهل التفسير يقولون: إن الطلح الموز. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: يجوز أن يكون هذا مما لم ينقله أصحاب الغريب وأسماء النبت كثيرة حتّى إن أهل اللغة يقولون: ما يعاب على من صحّف في أسماء النبت لكثرتها.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 30 الى 31]
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31)
أي لا يتعب في استقائه.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 32 الى 33]
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ نعت. وجاز أن يفرق بين النعت والمنعوت بقولك لا لكثرة تصرّفها وأنها تقع زائدة. قال قتادة: في معنى وَلا مَمْنُوعَةٍ لا يمنع منها شوك ولا بعد.
[سورة الواقعة (56) : آية 34]
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)
أي عالية ومنه بناء رفيع.
[سورة الواقعة (56) : آية 35]
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35)
قال مجاهد: خلقن من زعفران. قال أبو إسحاق: إنشاء من غير ولادة.
[سورة الواقعة (56) : آية 36]
فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36)
مفعول ثان. وقال أبو عبيدة: في الضمير الذي في «أنشأناهنّ» أنّه يعود على «وحور عين» ، وقال الأخفش سعيد: هو ضمير لم يجر له ذكر إلّا أنه قد عرف معناه.(4/221)
عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)
[سورة الواقعة (56) : آية 37]
عُرُباً أَتْراباً (37)
عُرُباً «1» جمع عروب، ولغة تميم ونجد عربا يحذفون الضمة لثقلها. أَتْراباً جمع ترب.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 38 الى 40]
لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
المعنى: إنّا أنشأناهنّ لأصحاب اليمين، وفي الحديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر رحمة الله عليهما أنّهما قالا: أصحاب اليمين أطفال المؤمنين.
وقدّره الفرّاء «2» بمعنى لأصحاب اليمين ثلّة من الأولين وثلّة من الآخرين، وقدّره غيره:
المعنى هم ثلّة من الأولين أي جماعة ممن تقدّم قبل مبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجماعة من أتباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وقال صاحب هذا القول: إنما قيل في الأول ثلّة من الأولين وقليل من الآخرين، وفي الثاني ثلّة من الأولين وثلّة من الآخرين لأن الأول للسابقين إلى اتباع الأنبياء صلّى الله عليه وسلّم والسابقون إلى اتّباعهم قبل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أكثر من السابقين إلى اتباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
يدلّك على صحة هذا أن قوم يونس صلّى الله عليه وسلّم آمنوا، وهم مائة ألف أو يزيدون، والسحرة اتّبعوا موسى صلّى الله عليه وسلّم وهم يروى أكثر من هؤلاء فلهذا قيل: وقليل من الآخرين، والثلة الثانية لأصحاب اليمين وليست للسابقين، وأصحاب اليمين قد يدخل فيهم المسلمون إلى يوم القيامة هذا على هذا القول، وقد ذكرنا غيره. والله جلّ وعزّ أعلم.
[سورة الواقعة (56) : آية 41]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41)
وَأَصْحابُ الشِّمالِ أي الّذين أعطوا كتبهم في شمالهم، وقيل: الذين أخذ بهم ذات الشمال. قال قتادة ما أَصْحابُ الشِّمالِ أي ماذا لهم وما أعدّ لهم.
[سورة الواقعة (56) : آية 42]
فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42)
أي في حسر النار وما يلحق من لهبها، وحكى ابن السكيت في جمع سموم سمام. وقال أبو جعفر: فهذا على حذف الزائد وهو الواو «وحميم» وهو ما يعذّبون به من الماء الحار يجرّعونه ويصبّ على رؤوسهم كما قال جلّ وعزّ: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: 44] .
[سورة الواقعة (56) : آية 43]
وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)
ينصرف في المعرفة والنكرة لأنه ليس في الأفعال يفعول.
[سورة الواقعة (56) : آية 44]
لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44)
لا بارِدٍ أي لا ظلّ له يستر. وَلا كَرِيمٍ لأنه مؤلم وخفضت. لا بارِدٍ على
__________
(1) انظر تيسير الداني 168.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 126.(4/222)
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
النعت ولم تفرق «لا» بين النعت والمنعوت لتصرّفها وَلا كَرِيمٍ عطف عليه، وأجاز النحويون الرفع على إضمار مبتدأ كما قال: [الكامل] 457-
وتريك وجها كالصّحيفة لا ... ظمآن مختلج ولا جهم
«1»
[سورة الواقعة (56) : آية 45]
إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
أي في الدنيا، روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس يقول: منعّمين.
[سورة الواقعة (56) : آية 46]
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)
وَكانُوا يُصِرُّونَ قال ابن زيد: لا يتوبون ولا يستغفرون. والإصرار في اللغة الإقامة على الشيء وترك الإقلاع عنه. عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ قال الفرّاء: يقول الشرك هو الحنث العظيم.
[سورة الواقعة (56) : آية 47]
وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)
وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ تعجّبوا من هذا فلذلك جاء بالاستفهام. قال أبو جعفر: من قال إذا متنا جاء بالهمزة الثانية بين بين فهي متحرّكة كما كانت قبل التخفيف. وهكذا قال محمد بن يزيد، وقال أحمد بن يحيى ثعلب: همزة بين بين لا متحرّكة ولا ساكنة. قال أبو جعفر: فأما كتابها فبالألف لا غير لأنها مبتدأة ثم دخلت عليها ألف الاستفهام. فإذا في موضع نصب على الظرف، ولا يجوز أن يعمل فيه لمبعوثون لأنه خبر «إنّ» فلا يعمل فيما قبله والعامل فيه متنا. ويقال: متنا على لغة من قال: مات يموت وهي فصيحة ومن قال: متنا فهو على لغة من قال: مات يمات مثل خاف يخاف، وقد قيل: هو على فعل يفعل جاء شاذا.
[سورة الواقعة (56) : آية 48]
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)
معطوف على الموضع، ويجوز أن يكون معطوفا على المضمر المرفوع.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 49 الى 50]
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
حكى سيبويه «2» عن العرب سماعا: ادخلوا الأول فالأول. وزعم أنه منصوب على الحال وفيه الألف واللام. وقال ابن كيسان: لا نعلم شيئا يصحّ في كلام
__________
(1) الشاهد للمخبّل السعدي في ديوانه 313، ولسان العرب (ظمأ) و (خلج) ، وتاج العروس (ظمأ) و (خلج) ، وأساس البلاغة (جهم) ، والمفضليات 213، وبلا نسبة في المخصّص 1/ 91.
(2) انظر الكتاب 1/ 466.(4/223)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53)
العرب منصوبا على الحال وفيه الألف واللام إلّا هذا والعلة فيه أنه وقع فرقا بين معنيين لأنك إذا قلت: دخلوا أولا أولا فمعناه دخلوا متفرقين فإذا قلت: دخلوا الأول فالأول فمعناه أعرفهم الأول فالأول، وقال محمد بن يزيد: التعريف إنما وقع بعد فلذلك جيء بالألف واللام زائدتين كسائر الزوائد. وحكى سيبويه عن عيسى بن عمر: أدخلوا الأول فالأول يحمله على المعنى وقد خطأه سيبويه لأنه لا يجوز: ادخلوا الأول فالأول فالأول أي إنما يقال باللام، واحتج غيره لعيسى بن عمر: لأنه محمول على المعنى، كما روي عن أبيّ بن كعب أنه قرأ فبذلك فلتفرحوا [يونس: 58] ، وكان يجب أن ينطق في الأول بفعل لأنه بمنزلة الأفضل، ولكن يردّ ذلك لأن فاءه وعينه من موضع واحد، ولا يوجد في كلام العرب فعل هكذا، وهو في الأسماء قليل. قالوا: كوكب لمعظم الشيء، وقالوا للهو واللعب: ددا وددن ودد، وقالوا للسيف الكليل ددان لا يعرف في الدال غير هذه. وفي الحديث عن عمر رضي الله عنه «حتّى يصير النّاس ببّانا واحدا» «1» أي شيئا واحدا «وبيّة» لقب. لا يعرف غير هذين في كلام العرب في الباء. أما قولهم في الطائر ببّغاء ولسبع ببر فأعجميان ولا يكاد يعرف ذلك في غير هذه الحروف إلا يسيرا إن جاء فقد قالوا لضرب من النبت آء ولا يعرف له نظير فلهذا لم يستعمل في أول فعل. وحكى سيبويه «2» أنّ «أول» يجوز أن يصرف على أنه اسم غير نعت كما يقال: ما ترك أولا ولا اخرا. وحكي ترك الصرف على أنه نعت.
[سورة الواقعة (56) : آية 51]
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ أي الجائرون عن طريق الهدى. الْمُكَذِّبُونَ بالوعيد والبعث.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 52 الى 53]
لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53)
لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا على تأنيث الجماعة، ولو كان منه على تذكير الجميع لجاز. الْبُطُونَ جمع بطن وهو مذكر. فأما قول الشاعر: [الطويل] 458-
فإنّ كلابا هذه عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر
«3» فمؤنث لتأنيث القبيلة محمول على المعنى، ولو ذكر على اللفظ لجاز.
__________
(1) انظر اللسان (بب) .
(2) انظر الكتاب 3/ 217.
(3) الشاهد لرجل من بني كلاب في الكتاب 4/ 43، وللنواح الكلابي في الدرر 6/ 196، والمقاصد النحوية 4/ 484، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 105، وأمالي الزجاجي 118، وخزانة الأدب 7/ 395، والخصائص 2/ 417، وشرح الأشموني 3/ 620، وشرح عمدة الحافظ 520، ولسان العرب (كلب) و (بطن) ، والمقتضب 2/ 148، وهمع الهوامع 2/ 149. [.....](4/224)
فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58)
[سورة الواقعة (56) : آية 54]
فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54)
عَلَيْهِ على الشجر على تذكير الجميع، ويجوز أن يكون على الجمع الأكل.
[سورة الواقعة (56) : آية 55]
فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
هذه قراءة أكثر القراء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والكسائي فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ «1» بفتح الشين، وزعم أبو عبيد أنها لغة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلام هائل. فقال بعض العلماء: قوله لغة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلام هائل لا ينبغي لأحد أن يقوله إلّا بتيقّن والحديث الذي رواه أصحاب الحديث والناقلون له عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقولون فيه: «إنّها أيام أكل وشرب» بضم الشين سواه، أو من قال منهم. ونظير هذا قوله لغة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «الحرب خدعة» «2» وقد سمع خدعة وخدعة. والقول في هذا على قول الخليل وسيبويه أن شربا بفتح الشين مصدر وشربا بضمها اسم للمصدر يستعمل هاهنا أكثر، ويستعمل شرب في جمع شارب، كما قال: [البسيط] 459-
فقلت للشّرب في درنا وقد ثملوا ... شيموا وكيف يشيم الشّارب الثّمل
«3» «والهيم» جمع هيماء وأهيم وهو على فعل كسرت الهاء لأنها لو ضمّت انقلبت الياء واوا. وقد أجاز الفرّاء «4» أن يكون الهيم جمع هائم.
[سورة الواقعة (56) : آية 56]
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
هذا نُزُلُهُمْ أي الذي ينزلهم الله إيّاه يوم القيامة وهو يوم الدّين الذي يجازي الناس فيه بأعمالهم.
[سورة الواقعة (56) : آية 57]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57)
أي نحن خلقناكم ولم تكونوا شيئا فأوجدناكم بشرا فلولا تصدّقون من فعل ذلك أنه يحييكم ويبعثكم.
[سورة الواقعة (56) : آية 58]
أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58)
أَفَرَأَيْتُمْ أي أيّها المكذبون بالبعث والمنكرون لقدرة الله جلّ وعزّ على إحيائهم.
__________
(1) انظر تيسير الداني 168، والبحر المحيط 8/ 209.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (1361) ، وأبو داود في سننه (2636) ، وأحمد في مسنده 1/ 90، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 40، والهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 320.
(3) مرّ الشاهد رقم (314) .
(4) انظر معاني الفراء 3/ 128.(4/225)
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)
ما تُمْنُونَ في أرحام النساء. قال الفرّاء: يقال أمنى ومنى وأمنى أكثر.
[سورة الواقعة (56) : آية 59]
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59)
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أي أنتم تخلقون ذلك المنيّ حتّى تصير فيه الروح أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ.
[سورة الواقعة (56) : آية 60]
نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)
نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ «1» أي فمنكم قريب الأجل وبعيده كل ذلك بقدر. وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي في آجالكم وما يفتات علينا فيها بل هي على ما قدّرنا.
[سورة الواقعة (56) : آية 61]
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61)
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
أحسن ما قيل في معناه نحن قدّرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم أي نجيء بغيركم من جنسكم وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
أحسن ما قيل في معناه وننشئكم في غير هذه الصّور فينشئ الله جلّ وعزّ المؤمنين يوم القيامة في أحسن الصور وإن كانوا في الدنيا قبحاء وينشئ الكافرين والفاسقين في أقبح الصور وإن كانوا في الدنيا نبلاء.
[سورة الواقعة (56) : آية 62]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ «2» أي علمتم أنّا أنشأناكم ولم تكونوا فهلا تذّكّرون فتعلمون أن الذي فعل ذلك لقادر على إحيائكم، والأصل تتذكّرون فأدغمت التاء في الذال.
[سورة الواقعة (56) : آية 63]
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63)
تكون ما مصدرا أي حرثكم، ويجوز أن يكون بمعنى الذي أي أفرأيتم الحرث الذي تحرثون.
[سورة الواقعة (56) : آية 64]
أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)
معنى تزرعونه تجعلون زرعا، ولهذا جاء الحديث عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
قال: «لا تقل زرعت ولكن قل حرثت» ثمّ تلا أبو هريرة أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ.
__________
(1) انظر تيسير الداني 168 (ابن كثير بتخفيف الدال والباقون بتشديدها) .
(2) انظر تيسير الداني 140.(4/226)
لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)
[سورة الواقعة (56) : الآيات 65 الى 66]
لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)
لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً أي متهشّما لا ينتفع به. فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ اختلف العلماء في معناه، فقال الحسن وقتادة: تفكّهون أي تندّمون على ما سلف منكم من المعاصي التي عوقبتم من أجلها بهذا وقال عكرمة: تفكّهون تلاومون أي على ما فاتكم من طاعة الله جلّ وعزّ، وقيل: تفكّهون تنعمون فيكون على التقدير على هذا: أرأيتم ما تحرثون فظلتم به تفكّهون. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال ما قاله مجاهد. قال: تفكّهون تعجّبون أي يعجب بعضكم بعضا مما نزل به وأصله من تفكّه القوم بالحديث إذا عجب بعضهم بعضا منه، ويروى أنها قراءة عبد الله فَظَلْتُمْ «1» بكسر الظاء. والأصل ظللتم كما قال: [الطويل] 460-
ظللت بها أبكي وأبكي إلى الغد
«2» فمن قال: ظلتم حذف اللام المكسورة تخفيفا ومن قال: ظلتم ألقى حركة اللام على الظاء بعد حذفها والأصل تتفكّهون، والمعنى تقولون إِنَّا لَمُغْرَمُونَ قال عكرمة: إنّا لمولع بنا، وقال قتادة: لمعذبون، وقيل: قد غرمنا في زرعنا، وقول قتادة حسن بيّن لأنه معروف في كلام العرب، إنه يقال للعذاب والهلاك: غرام. قال الأعشى: [الخفيف] 461-
إن يعاقب يكن غراما وإن يعط ... جزيلا فإنّه لا يبالي
«3»
[سورة الواقعة (56) : آية 67]
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
أي ليس نحن مغرمين لكنا قد حرمنا وحورفنا.
[سورة الواقعة (56) : آية 68]
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68)
الَّذِي في موضع نصب وتَشْرَبُونَ صلته والتقدير: تشربونه حذفت الهاء لطول الاسم وحسن ذلك لأنه رأس آية.
[سورة الواقعة (56) : آية 69]
أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)
أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ الأصل: أأنتم خفّفت الهمزة الثانية فجيء بها بين بين.
والدليل على أنها متحركة وهي بين بين أن النون بعدها ساكنة والاختيار عند الخليل
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 211.
(2) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه ص 5، وشرح القصائد السبع الطوال لابن الأنباري 132، وصدره:
«لخولة أطلال برقة ثهمد» .
(3) الشاهد للأعشى في ديوانه ص 9.(4/227)
لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)
وسيبويه «1» أن يؤتى بها بين بين لثقل اجتماع الهمزتين. أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ مبتدأ وخبره.
[سورة الواقعة (56) : آية 70]
لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70)
لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً قال الفرّاء: الأجاج الملح الشديد المرارة. فَلَوْلا تَشْكُرُونَ أي فهلّا تشكرون الذي لم نجعله ملحا فلا تنتفعون به في مشرب ولا زرع.
[سورة الواقعة (56) : آية 71]
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)
قال بعض العلماء: أي ترونها بأبصاركم. قال أبو جعفر: وهذا غلط ولو كان كما قال لكان ترون إنما هو من أوريت الزند أوريه إذا قدحته.
[سورة الواقعة (56) : آية 72]
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72)
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أي اخترعتموها وأحدثتموها. أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ وإن شئت جئت بهمزة بين بين أي بين الهمزة والواو، ولهذا قال محمد بن يزيد: لا يجوز أن تكتب إلّا بالواو أي بواوين، وكذا «يستهزئون» ، ومن كتبها بالياء فقد أخطأ عنده، لأن الضمة أقوى الحركات فإذا كانت الهمزة مضمومة متوسّطة لم يكن قبلها حكم، ومن أبدل من الهمزة قال المنشوون والمستهزوون، قال أبو جعفر: وهذه لغة رديئة شاذّة لا توجد إلّا في يسير من الشعر، وسمعت علي بن سليمان يحكي أن الصحيح من قول سيبويه أنه لا يجيز إبدال الهمزة يعني في غير الشعر، قال: لأن أبا زيد قال له: من العرب من يقول قرا بغير همزة فقال له سيبويه: فكيف يقولون في المستقبل فقال: يقرا فقال: هذا إذن خطأ لأنه كان يجب أن يقولوا: يقري حتّى يكون مثل رمى يرمي. قال أبو الحسن: فهذا من سيبويه يدلّ على أنه لا يجيزه.
[سورة الواقعة (56) : آية 73]
نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73)
نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً مفعولان أي ذات تذكرة. وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المقوون المسافرون، وقال ابن زيد: المقوي الجائع. قال أبو جعفر: أصل هذا من أقوت الدّار أي خلت، كما قال عنترة: [الكامل] 462-
حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم
«2» ويقال: أقوى إذا نزل بالقيّ أي الأرض الخالية، وأقوى إذا قوي أصحابه أي خلوا من الضعف.
__________
(1) انظر الكتاب 4/ 31.
(2) الشاهد لعنترة في ديوانه 189، ولسان العرب (شرع) ، وتهذيب اللغة 1/ 424، وتاج العروس (شرع) ، والمقاصد النحوية 3/ 188.(4/228)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)
[سورة الواقعة (56) : آية 74]
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
أي بذكره وأسمائه الحسنى.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 80]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ «1» قول ابن عباس أنه نزول القرآن، واستدلّ الفرّاء «2» على صحة ذلك لأن بعده وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) وقول الحسن أي بمساقط النجوم، وزعم محمد بن جرير أن هذا القول أولى بالصواب لأنه المتعارف من النجوم أنها هي الطالعة إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) أي مصون. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) من نعت الكتاب. تَنْزِيلٌ من نعت القرآن أي ذو تنزيل أي منزّل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.
[سورة الواقعة (56) : آية 81]
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)
أي تلينون الكلام لمن كفر بهذا الكتاب المكنون.
[سورة الواقعة (56) : آية 82]
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ وتجعلون شكركم أنكم تكذّبون «3» وعن ابن عباس وتجعلون شكركم أنكم تكذّبون. قال أبو جعفر:
وهاتان القراءتان على التفسير، ولا يتأوّل على أحد من الصحابة أنه قرأ بخلاف ما في المصحف المجمع عليه، وكذا التفسير. والمعنى على قراءة الجماعة وتجعلون شكر رزقكم ثمّ حذف مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] ، وقد فسر ابن عباس هذا التكذيب كيف كان منهم قال: يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا، وقد سمّى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هذا كفرا، قال أبو إسحاق: ونظيره قول المنجّم إذا طلع نجم كذا ثمّ سافر إنسان كان كذا فهذا التكذيب بإنذار الله جلّ وعزّ.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 84 الى 83]
مخاطبة لمن حضر ميتا: فالتقدير: فلا ترجعونها إن كنتم صادقين، يقال: رجع
__________
(1) انظر تيسير الداني 168 (قرأ حمزة والكسائي «بموقع» بإسكان الواو من غير ألف والباقون بفتح الواو وألف بعدها) .
(2) انظر معاني الفراء 3/ 129.
(3) انظر المحتسب 2/ 310، والبحر المحيط 8/ 214. [.....](4/229)
فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)
ورجعته فعلى هذا قال تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) في أنكم لستم مملوكين مدبّرين.
قال أبو جعفر: هكذا حكى الفرّاء «1» في معنى مَدِينِينَ قال: مملوكين، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس غَيْرَ مَدِينِينَ أي غير محاسبين، وقال الحسن: غير مبعوثين، وقيل: غير مجازين من قوله عزّ وجلّ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4] فأما جواب لولا الثانية ففيه قولان: قال الفرّاء «2» : أجيبتا جميعا بجواب واحد، وقيل: حذف من أحدهما ودلّ عليه الآخر.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 89 الى 88]
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ «3» أي فأما إن كان المتوفّى من المقرّبين إلى رحمة الله جلّ وعزّ فله روح وريحان. قال أبو جعفر: وهذا الموضع مشكل من الإعراب لأن «أما» تحتاج إلى جواب ويسأل لم صار لا يلي «أما» إلّا الاسم وهي تشبه حروف المجازاة؟ وإنما يلي حروف المجازاة الفعل، وهذا أشكل ما فيها. فأما جواب «أما» و «إن» ففيه اختلاف بين النحويين فقول الأخفش والفراء: أنهما أجيبا بجواب واحد وهو الفاء وما بعدها، وأما قول سيبويه فإنّ «إن» لا جواب لها هاهنا، لأنّ بعدها فعلا ماضيا كما تقول: أنا أكرمتك إن جئتني، وقول محمد بن يزيد: إنّ جواب «إن» محذوف لأن بعدها ما يدلّ عليه. قال أبو جعفر: وسمعت أبا إسحاق يسأل عن معنى «أما» فقال: هي للخروج من شيء إلى شيء أي دع ما كنا فيه وخذ في شيء أخر. فأما القول في العلّة لم لا يليها إلا الاسم: فذكر فيه أبو الحسن بن كيسان أن معنى «أما» مهما يكن من شيء فجعلت أما مؤدية عن الفعل، ولا يلي فعل فعلا فوجب أن يليها الاسم. وتقديره أن يكون بعد جوابها فإذا أردت أن إعراب الاسم الذي يليها فاجعل موضعها «مهما» وقدّر الاسم بعد الفاء تقول: أما زيدا فضربت معناه مهما يكن من شيء فضربت زيدا. وروى بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قرأ فَرَوْحٌ بضم الراء، وهكذا قرأ الحسن البصري. قال أبو جعفر:
وهذا الحديث إسناده صالح وبعضهم يقول فيه: عن بديل عن أبي الجوزاء عن عائشة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومعنى الضمّ حياة دائمة. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ قال: مستراح، وقال سعيد بن جبير: الرّوح الفرح، وروى هشيم عن جويبر عن الضحّاك:
فروح قال: استراحة، وروى غيره عن الضحّاك فروح قال: مغفرة ورحمة. قال: والروح عند أهل اللغة الفرح، كما قال سعيد بن جبير والمغفرة والرحمة من الفرح. فأما وريحان ففي معناه ثلاثة أقوال: منها أنه الرزق، ومنها أنه الراحة، ومنها أنه الريحان الذي يشمّ. هذا قول الحسن وقتادة وأبي العالية وأبي الجوزاء، وهو يروى عن عبد الله بن عمر قال: إذا قرب خروج روح المؤمن جاءه الملك بريحان فشمّه فتخرج روحه. قال أبو إسحاق:
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 131.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 131.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 215.(4/230)
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
الأصل في ريحان ريحان والياء الأولى منقلبة من واو. وأصله روحان، أدغمت الواو في الياء ثم خفّفت، كما يقال: ميت إلّا أنه لا يؤتى به على الأصل إلا على بعد لأن فيه ألفا ونونا زائدتين. وَجَنَّةُ نَعِيمٍ أي وله مع ذلك جنّة نعيم.
[سورة الواقعة (56) : آية 90]
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90)
أي ممن أخذ به ذات اليمين إلى الجنة.
[سورة الواقعة (56) : آية 91]
فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91)
فيه أقوال: قال قتادة فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ سلموا من عذاب الله جلّ وعزّ وسلّمت عليهم الملائكة وقيل فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) أي لك منهم سلام أي يسلّمون عليك. وهذا قول نظري لأن المخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فلا يخرج إلى غيره إلّا بدليل قاطع، وقيل فَسَلامٌ لَكَ فمسلّم لك أنك من أصحاب اليمين، وحذفت «أنّ» والمعنى لأنك من أصحاب اليمين. وحذف «أنّ» خطأ في العربية لأن ما بعدها داخل في صلتها وإن كان قائل هذا القول الفرّاء «1» وقد ذهب إليه محمد بن جرير.
[سورة الواقعة (56) : آية 92]
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)
أي الجائرين عن الطريق.
[سورة الواقعة (56) : آية 93]
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93)
فَنُزُلٌ أي عذاب مِنْ حَمِيمٍ وهو الماء الحار.
[سورة الواقعة (56) : آية 94]
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)
أي إحراقه.
[سورة الواقعة (56) : آية 95]
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)
الكوفيون «2» يجيزون إضافة الشيء إلى نفسه ويجعلون هذا منه، وذلك عند البصريين خطأ لأنه يبين الشيء بغيره، والمضاف إليه يبيّن به. قال مجاهد: حقّ اليقين حقّ الخبر اليقين، وقال أبو إسحاق: المعنى أن هذا الذي قصصناه في هذه السورة يقين حقّ اليقين، كما تقول: فلان عالم حقّ العالم، إذا بالغت في التوكيد.
[سورة الواقعة (56) : آية 96]
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
أي فنزّه الله جلّ وعزّ عن كفرهم بأسمائه الحسنى.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 131.
(2) انظر الإنصاف المسألة رقم (1141) .(4/231)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
57 شرح إعراب سورة الحديد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحديد (57) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
سَبَّحَ عظّم ورفّع مشتق من السباحة وهي الارتفاع، والتقدير: ما في السّموات وما في الأرض، وحذفت «ما» على مذهب أبي العباس وهي نكرة لا موصولة لأنه لا يحذف الاسم الموصول، وأنشد النحويون: [الرجز] 463-
لو قلت ما في قومها لم تيثم ... يفصلها في حسب وميسم
«1» فالتقدير: من يفضلها «2» . وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مبتدأ وخبره أي العزيز في انتقامه ممن عصاه الذي لا ينتصر منه من عاقبه من أعدائه الحكيم في تدبّره خلقه الذي لا يدخل في تدبيره خلل.
[سورة الحديد (57) : آية 2]
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رفع بالابتداء. يُحْيِي وَيُمِيتُ في موضع نصب على الحال، ومرفوع لأنه فعل مستقبل. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مبتدأ وخبره.
[سورة الحديد (57) : آية 3]
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ مثله. ولم ينطق من الأول بفعل، وهو على أفعل لأن فاءه وعينه من موضع واحد فاستثقل ذلك والآخر ليس بجار على الفعل لأنه من تأخّر.
__________
(1) الرجز لحكيم بن معيّة في خزانة الأدب 5/ 62، وله أو لحميد الأرقط في الدرر 6/ 19، ولأبي الأسود الحماني في شرح المفصّل 3/ 59، والمقاصد النحوية 4/ 71، ولأبي الأسود الجمالي (وهذا تصحيف) في شرح التصريح 2/ 118، وبلا نسبة في الكتاب 2/ 364، والخصائص 2/ 370، وشرح الأشموني 2/ 400، وشرح عمدة الحافظ 547، وهمع الهوامع 2/ 120.
(2) انظر الكتاب 2/ 364 (يريد: ما في قومها أحد، فحذفوا) .(4/232)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ قيل: معنى الظاهر الذي ظهرت صنعته وحكمته، وقيل العالم بما ظهر وما بطن. ومن أحسن ما قيل فيه أنه من ظهر أي قوي وعلا، فالمعنى الظاهر على كل شيء العالي فوقه فالأشياء دونه. الباطن جميع الأشياء فلا شيء أقرب إلى شيء منه، ومثله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] ويدلّ على هذا أن بعده وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي لا يخفى عليه شيء.
[سورة الحديد (57) : آية 4]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
يكون الَّذِي في موضع رفع على إضمار مبتدأ لأنه أول آية. قال: ويجوز أن يكون نعتا لما تقدم ويجوز أن يكون في موضع نصب على المدح أعني بهذا المدح الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش. يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها يقال: ولج يلج إذا دخل. والأصل يولج حذفت الواو لأنها بين ياء وكسرة. وَهُوَ مَعَكُمْ نصب على الظرف، والعامل فيه المعنى أي وهو شاهد معكم حيث كنتم. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي بما تعملونه من حسن وسيّئ وطاعة ومعصية حتّى يجازيكم عليها.
[سورة الحديد (57) : آية 5]
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي سلطانهما فأمره وحكمه نافذ فيهما وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي إليه مصيركم ليجازيكم بأعمالكم.
[سورة الحديد (57) : آية 6]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أي نقصان الليل في النهار فتكون زيادة وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يدخل نقصان النهار في الليل فتكون زيادة فيه، كما قال عكرمة وإبراهيم هذا في القصر والزيادة ولم يحذف الواو من يولج وهي بين ياء وكسرة لأن الفعل رباعي لا يجوز أن يغير هذا التغيير وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما تخفونه في صدوركم من حسن وسيئ أو تهمّون به في أنفسكم. وفي الحديث «إنّ الدعاء يستجاب بعد قراءة هذه الآيات السّت» «1» .
[سورة الحديد (57) : آية 7]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
أي يخلفون من كان قبلهم، وحضّهم على الإنفاق لأنهم يفنون كما فني الذين من
__________
(1) انظر تفسير القرطبي 17/ 235.(4/233)
وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
قبلهم ويورثون. فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا فالذين مبتدأ أي الذين آمنوا منكم بالله ورسوله. لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ أي ثواب عظيم.
[سورة الحديد (57) : الآيات 8 الى 9]
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9)
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ في موضع نصب على الحال، والمعنى أيّ شيء لكم إن كنتم تاركين الإيمان؟ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ قد أظهر البراهين والحجج. لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ قال الفرّاء «1» : القرّاء جميعا على وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ قال: ولو قرئت وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ لكان صوابا. قال أبو جعفر: هذا كلامه نصا في كتابه وهو غلط، وقد قرأ أبو عمرو وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ «2» غير أن أبا عبيد قال: والقراءة عندنا هي الأولى وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ لأن الأمة عليها ولأن ذكر الله جلّ وعزّ قبل الآية وبعدها. قال أبو جعفر: أما قوله: لأن الأمة عليها، فحجة بيّنة لأن الأمة الجماعة، وأما قوله: لأن ذكر الله عزّ وجلّ اسمه قبل الآية وبعدها، فلا يلزم لأنه قد عرف المعنى. وللعلماء في أخذ الميثاق قولان: أحدهما أنه أخذ الميثاق حين أخرجوا من ظهر أدم صلّى الله عليه وسلّم بأن الله عزّ وجلّ ربّهم لا إله لهم سواه، وهذا مذهب العلماء من أصحاب الحديث منهم مجاهد، والقول الآخر أنه مجاز لما كانت آيات الله جلّ وعزّ بيّنة والدلائل واضحة وحكمته ظاهرة، يشهد بها من راها كان علمه بذلك بمنزلة أخذ الميثاق منه. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قيل:
المعنى إن كنتم عازمين على الإيمان فهذا أوانه لما ظهر لكم من البراهين والدلائل، ويدل على هذا أن بعده هو الذي ينزّل على عبده آيات بيّنات. لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، كما قال مجاهد من الضلالة إلى الهدى.
وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي حين بيّن لكم هداكم.
[سورة الحديد (57) : آية 10]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ «أن» في موضع نصب على المعنى وأي عذر لكم في
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 132.
(2) انظر تيسير الداني 168 (قرأ أبو عمرو «أخذ» بضمّ الهمزة وكسر الخاء و «ميثاقكم» بالرفع، والباقون بفتح الهمزة والخاء والنصب) .(4/234)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
أن لا تنفقوا في سبيل الله وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فحضّهم بهذا على الإنفاق لأنهم يموتون ويخلّفون ما بخلوا به ويورّثونه. لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ اختلف العلماء في معنى هذا الفتح فقال قتادة: الذين أنفقوا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل فتح مكة وقاتلوا، أفضل من الذين أنفقوا من بعد فتح مكة وقاتلوا، وكذا قال زيد بن أسلم، وقال الشّعبي: الذين أنفقوا قبل الحديبية وقاتلوا أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد فتح الحديبية وقاتلوا. قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بالصواب لأن عطاء بن يسار روى عن أبي سعيد الخدري قال: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح الحديبية: «يأتون أقوام تحقرون أعمالكم مع أعمالهم» قلنا: يا رسول الله أمن قريش هم؟ قال: «لا هم أهل اليمن أرقّ أفئدة وألين قلوبا» . قلنا: يا رسول الله أهم خير منا؟
قال «لا لو أنّ لأحدهم جبل ذهب ثم أنفقه ما بلغ مدّ أحدكم ولا نصيفه. هذا فضل ما بعيننا وبين الناس» «1» لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. حكى أبو حاتم وكلّ وعد الله الحسنى»
بالرفع. قال أبو جعفر: وقد أجاز سيبويه مثل هذا على إضمار الهاء، وأنشد: [المتقارب] 464-
فثوب نسيت وثوب أجرّ
«3» وأبو العباس محمد بن يزيد لا يجيز هذا في منثور ولا منظوم إلّا أن يكون يجوز فيه غير ما قدّره سيبويه، وهو أن يكون الفعل نعتا فيكون التقدير: فثمّ ثوب نسيت فعلى هذا لا يجوز في ثوب إلّا الرفع، ولا يجيز زيد ضربت لأنه ليس فيه شيء من هذا فيكون كلّ بمعنى وأولئك كلّ وعد الله فيكون نعتا. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ مبتدأ وخبره أي من إنفاق وبخل حتّى يجازيكم عليه.
[سورة الحديد (57) : آية 11]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
مَنْ في موضع رفع بالابتداء وذَا خبره والَّذِي نعت لذا وفيه قولان آخران: أحدهما أن يكون «ذا» زائدا مع الذي، والقول الآخر أن يكون «ذا» زائدا مع
__________
(1) انظر المعجم المفهرس لونسنك 1/ 487.
(2) انظر تيسير الداني 169.
(3) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 159، والكتاب 1/ 139، والأشباه والنظائر 3/ 110، وخزانة الأدب 1/ 373، وشرح شواهد المغني 2/ 866، والمقاصد النحوية 1/ 545، وبلا نسبة في المحتسب 2/ 124، ومغني اللبيب 2/ 472، وصدره:
«فأقبلت زحفا على الرّكبتين» .(4/235)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
«من» ، وهذا قول الفرّاء «1» ، وزعم أنه رأى في بعض مصاحف عبد الله، «منذا» بوصل النون مع الذال جعلا شيئا واحدا، ولا يجيز البصريون أن تزاد «ذا» مع «من» ويجيزون ذلك مع «ما» ، لأن «ما» مبهمة فذا تجانسها، وعلى هذا قرئ وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: 219] بالنصب، وزيادة «ذا» مع «الذي» أقرب ألا ترى أن «الذي» تصغّر كما تصغّر «ذا» فيقال: اللّذيّا، يقال: ذيّا وقد عورض سيبويه في قوله: الذي بمنزلة العمي فقيل: كيف هذا؟ وإنما يقال في تصغير العمي: العميّ، ويقال في تصغير الذي: اللذيّا، ويقال: اللّذيان والعميان فيوخذ هذا كلّه مختلفا فكيف يكون الذي بمنزلة العمي؟ وهذا لا يلزم منه شيء، وليس هذا موضع شرحه. «قرضا» منصوب على أنه اسم للمصدر كما يقال: أجابه إجابة، ويجوز أن يكون مفعول به كما تقول: أقرضته مالا، «حسنا» من نعت قرض. قيل: معنى الحسن هاهنا الحلال فإن الإقراض أن ينفق محتسبا لله عزّ وجلّ مبتغيا ما عنده فَيُضاعِفَهُ لَهُ قال الفرّاء «2» : جعله عطفا على يقرض. كما تقول: من يجيء فيكرمني ويحسن إليّ، وقال أبو إسحاق: يجوز أن يكون مقطوعا من الأول مستأنفا، ومن قرأ فيضعفه «3» جعله جواب الاستفهام فنصبه بإضمار «أن» عند الخليل، وسيبويه والجرمي ينصبه بالفاء. وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ قيل:
الجنة.
[سورة الحديد (57) : آية 12]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
نصبت يوما على الظرف أي لهم أجر في ذلك اليوم، و «ترى» في موضع خفض بالإضافة «يسعى» في موضع نصب على الحال فأما قوله جلّ وعزّ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ولم يذكر الشمائل فللعلماء فيه ثلاثة أقوال: قال الضحّاك: نورهم هداهم، ومال إلى هذا القول محمد بن جرير قال: لأن المؤمنين نورهم حواليهم من كل جهة فلما خص الله جلّ وعزّ بين أيديهم وبأيمانهم علم أنه ليس بالضياء، والباء بمعنى «في» وقال بعض نحويي البصريين هي بمعنى عن قال أبو جعفر: وقيل النور هاهنا نور كتبهم وإنما يعطون كتبهم بأيمانهم من بين أيديهم فلهذا وقع الخصوص. قال أبو جعفر: وأجلّ ما قيل في هذا ما قاله عبد الله بن مسعود رحمة الله عليه، قال: يعطى المؤمنون أنوار على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نورا مثل الجبل، وأقل ذلك أن يعطى نورا على إبهامه يضيء مرة ويطفأ مرة. بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي يقال لهم، وحذف القول
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 123. [.....]
(2) انظر معاني الفراء 3/ 132.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 219، وتيسير الداني 69.(4/236)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
«بشراكم» في موضع رفع بالابتداء «جنات» خبره، وأجاز الفرّاء: في «جنّات» النصب من جهتين، إحداهما على القطع ويكون اليوم في موضع الخبر وإن كان ظرفا، وأجاز رفع «اليوم» على أنه خبر «بشراكم» ، وأجاز أن يكون «بشراكم» في موضع نصب يعني يبشّرونهم بالبشرى، وأن ينصب «جنات» «بالبشرى» قال أبو جعفر: ولا نعلم أحدا من النحويين ذكر هذا غيره وهو متعسّف لأن جَنَّاتٌ إذا نصبها على القطع، وليست بمعنى الفعل بعد ذلك وإن نصبها بالبشرى، فإن كان نصبها ببشراكم فهو خطأ بين، لأنها داخلة في الصلة فيفرق بين الصلة والموصول باليوم، وليس هو في الصلة، وهذا لا يجوز عند أحد النحويين، وإن نصبت «جنات» بفعل محذوف فهو شيء متعسّف ومع هذا فلم يقرأ به أحد، خالِدِينَ نصب على الحال. ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. قال الفرّاء «1» : وفي قراءة عبد الله ذلك الفوز العظيم ليس فيها «هو» . قال أبو جعفر:
«ذلك» مبتدأ، و «هو» زائدة للتوكيد. الْفَوْزُ الْعَظِيمُ خبر ذلك، ويجوز أن يكون «هو» مبتدأ ثانيا والجملة خبر ذلك.
[سورة الحديد (57) : آية 13]
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13)
نصبت يوما على الظرف أي وذلك الفوز العظيم في ذلك اليوم، ويجوز أن يكون بدلا من اليوم الذي قبله، انْظُرُونا من نظر ينظر بمعنى النظر. وهذه القراءة البيّنة.
وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة. وأنظرونا «2» بفتح الهمزة، وزعم أبو حاتم أن هذا خطأ، قال: وإنما يأتينا هذا من شقّ الكوفة. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: إنما لحن حمزة في هذا لأن الذي لحنه قدّر «أنظرنا» بمعنى أخّرنا وأمهلنا، فلم يجز ذلك هاهنا. وهو عندي يحتمل غير هذا لأنه يقال: أنظرني بمعنى تمهّل عليّ وترفّق، فالمعنى على هذا يصحّ. نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ مجزوم لأنه جواب. قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً أي قال المؤمنون للمنافقين ارجعوا إلى الموضع الذي كنا فيه فاطلبوا ثمّ النور. قال أبو جعفر: وشرح هذا ما روي عن ابن عباس قال: يغشى الناس ظلمة المؤمنين والمنافقين والكافرين، فيبعث الله جلّ وعزّ نورا يهتدي به المؤمنون إلى الجنة فإذا تبعه المؤمنون تبعهم المنافقون، فيضرب الله جلّ وعزّ بينهم بسور باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، فينادي المنافقون المؤمنين انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ فيقول لهم المؤمنون: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ إلى الموضع الذي كنا فيه وفيه الظلمة فجاء النور
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 133.
(2) انظر تيسير الداني 169 (قرأ حمزة «انظرون» بقطع الهمزة وفتحها في الحالين وكسر الظاء والباقون بالألف الموصولة ويبتدئونها بالضمّ وضمّ الظاء) .(4/237)
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
فالتمسوا منه النور. قال أبو جعفر: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسمّ فاعله والباء زائدة، وعلى قول محمد بن يزيد هي متعلقة بالمصدر الذي دلّ عليه الفعل، وضمّت الضاد في «ضرب» للفرق فإن قيل: فلم لا كسرت؟ فالجواب عند بعض النحويين أنها ضمّت كما ضمّ أول الاسم في التصغير وهذا الجواب يحتاج إلى جوابين: أحدهما الجواب لم ضمّ أول الاسم المصغّر؟ ولم ضمّ أول فعل ما لم يسمّ فاعله؟ والجواب أن أول فعل ما لم يسم فاعله ضمّ لأنه لمّا وجب الفرق بينه وبين الفعل الذي سمّي فاعله لم يجز أن يكسر إلا لعلّة أخرى لأن بينه ما سمّي فاعله قد يأتي مكسورا في قول بعضهم: أنت تعلم ونحن نستعين، ويأتي مفتوحا، وهو الباب فلم يبق إلّا الضم، وليس هذا موضع جواب التصغير. لَهُ بابٌ قال كعب الأحبار:
باب الرحمة الذي في بيت المقدس هو الذي ذكره الله جلّ وعزّ. قال قتادة: باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ الجنة وما فيها. وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ النار.
[سورة الحديد (57) : آية 14]
يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)
يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أي نصلّي معكم ونصوم ونوارثكم ونناكحكم، قالُوا بَلى أي قد كنتم معنا كذلك وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ قال مجاهد: بالنفاق. وَتَرَبَّصْتُمْ قال ابن زيد: بالإيمان وَارْتَبْتُمْ قال: شكّوا، وقال غيره: ارتبتم فعلتم فعل المرتابين بوعد الله جلّ وعزّ ووعيده وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ أي خدعتكم أمانيّ أنفسكم فصددتم عن سبيل الله جلّ وعزّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قيل: قضاؤه بمناياكم وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ قال مجاهد وقتادة:
الغرور الشيطان. قال أبو جعفر: فعول في كلام العرب للتكثير، وهو يتعدى عند البصريين. تقول: هذه غرور زيدا. وغفور الذنب، وأنشد سيبويه في تعدّيه إلى مفعول: [الرمل] 465-
ثمّ زادوا أنّهم في قومهم ... غفر ذنبهم غير فجر
«1»
[سورة الحديد (57) : آية 15]
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وقرأ يزيد بن القعقاع تؤخذ «2» بالتاء لأن الفدية مؤنثة،
__________
(1) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه 55، والكتاب 1/ 168، وخزانة الأدب 8/ 188، والدرر 5/ 274، وشرح أبيات سيبويه 1/ 68، وشرح التصريح 2/ 69، وشرح عمدة الحافظ 682، وشرح المفصل 6/ 74، والمقاصد النحوية 3/ 548، ونوادر أبي زيد 10.
(2) انظر تيسير الداني 169، والبحر المحيط 8/ 221.(4/238)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
ومن ذكّرها فلأنها والفداء واحد وهي البدل والعوض وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي لا يؤخذ من الذين كفروا بدل ولا عوض من عذابهم مَأْواكُمُ النَّارُ أي مسكنكم النار مبتدأ وخبره، وكذا هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي وبئس المصير النار ثم حذف هذا.
[سورة الحديد (57) : آية 16]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16)
وعن الحسن أَلَمْ يَأْنِ «1» يقال: أإن يئين وأني يأنى وحان يحين، ونال ينال وأنال ينيل بمعنى واحد و «أن» في موضع رفع بيأن. وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ «ما» في موضع خفض أي ولما نزل، هذه قراءة شيبة ونافع، وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو وابن كثير والكوفيون وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ «2» وعن عبد الله بن مسعود أنه قرأ وما أنزل من الحقّ وأبو عبيد يختار التشديد لأن قبله ذكر الله جلّ وعزّ. قال أبو جعفر: والمعنى واحد لأن الحق لا ينزل حتّى ينزله الله عزّ وجلّ، وليس يقع في هذا اختيار وله جاز أن يقال في مثل هذا اختيار لقيل: الاختيار نزل: لأن قبله لِذِكْرِ اللَّهِ ولم يقل لتذكير الله. وَلا يَكُونُوا «3» كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ يكونوا في موضع نصب معطوف على «تخشع» أي وألا يكونوا، ويجوز أن تكون في موضع جزم. والأول أولى لأنها واو عطف، ولا يقطع ما بعدها ممّا قبلها إلّا بدليل فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ قال مجاهد الدّهر. فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ أي لم تلن ولم تقبل الوعظ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ مبتدأ وخبره ولم يعمّوا بالفسق لأن منهم من قد آمن، ومنهم من لم تبلغه الدعوة، وهو مقيم على ما جاء به نبيه صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الحديد (57) : آية 17]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قيل: فالذي فعل هذا هو الذي يهدي ويسدّد من أراد هدايته ومن ضلّ عن طريق الحقّ. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي بالحجج والبراهين لتكونوا على رجاء من أن تعقلوا ذلك، هذا قول سيبويه. وغيره يقول: «لعلّ» بمعنى «كي» ولو كان كذلك لكان تعقلوا بغير نون.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 222.
(2) انظر تيسير الداني 169 (قرأ نافع وحفص «وما نزل» مخفّفا والباقون مشدّدا) .
(3) انظر البحر المحيط 8/ 222 (بالياء قراءة الجمهور، وبالتاء قراءة أبي حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر وعن شيبة ويعقوب وحمزة) .(4/239)
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
[سورة الحديد (57) : آية 18]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ الأصل المتصدقين ثم أدغمت التاء في الصاد. وفي قراءة أبيّ إنّ المتصدقين «1» وفي قراءة ابن كثير وعاصم إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ «2» أي المؤمنين من التصديق، والأول من الصدقة وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ قيل. الجنة.
[سورة الحديد (57) : آية 19]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ مبتدأ. أُولئِكَ يكون مبتدأ ثانيا، ويجوز أن يكون بدلا من الذين، ولا يكون نعتا لأن المبهم لا يكون نعتا لما فيه الألف واللام لا يجوز مررت بالرجل هذا، على النعت عند أحد علمته، ولو قلت: مررت بزيد هذا على النعت لجاز، وخير الابتداء الصِّدِّيقُونَ قال أبو إسحاق: صدّيق على التكثير أي كثير التصديق، وقال غيره: هذا خطأ لأن فعيلا لا يكون إلا من الثلاثي مثل سكّيت من سكت، وصدّيق للكثير الصّدق. ومن هذا قيل لأبي بكر رضي الله عنه: الصّدّيق، حتّى كان يعرف بذلك في وقت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إنّ الله جلّ وعزّ سمّى أبا بكر صدّيقا» .
وَالشُّهَداءُ على هذا معطوفون على الصديقين يدلّ على صحة ذلك ما رواه بن عجلان عن زيد بن أصمّ عن البرآء عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مؤمنو أمتي شهداء» «3» ثم تلا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ الآية. قال أبو جعفر: فهذا القول أولى من جهة الحديث والعربية لأن الواو واو عطف فسبيل ما بعدها أن يكون داخلا فيما قبلها إلّا أن يمنع مانع من ذلك أن يكون حجّة قاطعة وقد قيل: إن التمام أولئك هم الصديقون وإن الشهداء ابتداء. وهذا يروى عن ابن عباس وهذا اختيار محمد بن جرير وزعم أنه أولى بالصواب لأن المعروف من معنى الشهداء أنه المقتول في سبيل الله جلّ وعزّ ثم استثنى فقال: إلّا أن يراد بالشهداء أنه يشهد لنفسه عند ربّه بالإيمان، قال أبو جعفر: وإذا كان و «الشهداء» مبتدأ فخبره عِنْدَ رَبِّهِمْ ويجوز أن يكون خبره. لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وهذا عطف جملة على جملة والأول على خلاف هذا يكون «والشهداء» معطوفا على الصّدّيقين ويكون لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ للجميع. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا مبتدأ.
أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ مبتدأ وخبره في موضع خبر الأول.
__________
(1) انظر تيسير الداني 169، ومختصر ابن خالويه 152، وكتاب السبعة لابن مجاهد 626.
(2) انظر تيسير الداني 169، ومختصر ابن خالويه 152، وكتاب السبعة لابن مجاهد 626.
(3) انظر تفسير القرطبي 27/ 231.(4/240)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
[سورة الحديد (57) : آية 20]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ «ما» كافة لأنّ عن العمل ولو جعلتها صلة لنصبت الحياة والدنيا من نعتها، لَعِبٌ خبر، والمعنى: مثل لعب أي يفرح الإنسان بحياته فيها كما يفرح باللعب ثم تزول حياته كما يزول لعبه وزينته وما يفاخر به الناس ويباهيهم به من كثرة الأموال والأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ. قال أبو إسحاق: الكاف في موضع رفع على أنها نعت أي وتفاخر مثل غيث قال:
ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر. والكفّار الزرّاع. وإذا أعجب الزراع كان على نهاية من الحسن. قال: ويجوز أن يكونوا الكفار بأعيانهم، لأن الدنيا للكفار أشدّ إعجابا لأنهم لا يؤمنون بالبعث قال: و «يهيج» يبتدئ في الصفرة ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً قال: متحطّما. فضرب الله جلّ وعزّ هذا مثلا للحياة الدنيا وزوالها ثمّ خبر جلّ وعزّ بما في الآخرة فقال: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ قال محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
«لموضع سوط في الجنّة خير من الدنيا وما فيها فاقرؤوا إن شئتم» : وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ «1» .
[سورة الحديد (57) : آية 21]
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي سابقوا بالأعمال التي توجب المغفرة إلى مغفرة من ربكم وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ قال أبو جعفر: قد تكلّم قوم من العلماء في معنى هذا فمنهم من قال: العرض هاهنا السعة ومنهم من قال: هو مثل الليل والنهار إذا ذهبا فالله جلّ وعزّ أعلم أين يذهبان، وأجاب بهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومنهم من قال: هذه هي الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة، والسماء مؤنثة ذكر ذلك الخليل رحمه الله وغيره من النحويين سوى الفرّاء وبذلك جاء القرآن إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: 1] وحكى الفرّاء أنها تؤنّث وتذكّر، وأنشد: [الوافر] 466-
فلو رفع السّماء إليه قوما ... لحقنا بالسّماء مع السّحاب
«2» وهذا البيت لو كان حجّة لحمل على غير هذا، وهو أن يكون يحمل على تذكير
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 3/ 433، والدارمي في سننه 2/ 333، والسيوطي في الدر المنثور 2/ 107، وابن كثير في تفسير 2/ 255.
(2) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (سما) ، والمذكر والمؤنث للأنباري ص 367، والمذكر والمؤنث للفراء ص 102، والمخصص 17/ 22. [.....](4/241)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)
الجميع ذكر محمد بن يزيد: أن سماء تكون جمعا لسماوة وأنشد هو وغيره: [الوافر] 467-
سماوة الهلال حتّى احقوقفا
«1» ويدلّ على صحة هذا قوله جلّ وعزّ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ [البقرة:
29] وإذا كانت السماء واحدة فتأنيثها كتأنيث عناق، وتجمع على ستة أوجه منهن جمعان مسلّمان، وجمعان مكسّران لأقل العدد، وجمعان مكسّران لأكثره، وذلك قولك: سموات وسماءات وأسم وأسمية وسمايا وسميّ وإن شئت كسرت السين من سميّ، وقد جاء فيها أخر في الشّعر كما قال: [الطويل] 468-
سماء الإله فوق سبع سمائيا
«2» فعلى هذا جمع سماء على سماء وفيه من الأشكال والنحو اللطيف غير شيء، فمن ذلك أنه شبه سماء برسالة لأن الهاء في رسالة زائدة. ووزن فعال وفعال واحد، فكان يجب على هذا أن يقول: سمايا فعمل شيئا أخر فجمعها على سماء على الأصل لأن الأصل في خطايا خطاء ثم عمل شيئا ثالثا كان يجب أن يقول: فوق سبع سماء، فأجرى المعتلّ مجرى السالم وجعله بمنزلة ما لا ينصرف من السالم، وزاد الألف للإطلاق. والأرض مؤنّثة، وقد حكي فيها التذكير، كما قال: [المتقارب] 469-
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل ابقالها
«3» قال أبو جعفر: وقد ردّ قوم هذا، ورووا «ولا أرض أبقلت ابقالها» بتخفيف الهمزة. قال ابن كيسان: في قولهم أرضون حركوا هذه الراء لأنهم أرادوا: أرضات فبنوه على ما يجب من الجمع بالألف والتاء، قال: وجمعوه بالواو والنون عوضا من حذف الهاء في واحدة ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ مبتدأ وخبره أي ذلك الفضل من التوفيق والهداية والثواب فضل الله يؤتيه من يشاء أي يؤتيه إياه من خلقه. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مبتدأ وخبره.
[سورة الحديد (57) : آية 22]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (423) .
(2) الشاهد لأمية بن أبي الصلت في ديوانه 70، وخزانة الأدب 1/ 244، وشرح أبيات سيبويه 2/ 304، ولسان العرب (سما) ، وبلا نسبة في الكتاب 3/ 349، والأشباه والنظائر 2/ 337، والخصائص 1/ 211، وما ينصرف وما لا ينصرف 115، والمقتضب 1/ 144، والممتع في التصريف 2/ 513، والمنصف 2/ 66. وصدره:
«له ما رأت عين البصير وفوقه»
(3) مرّ الشاهد رقم (152) .(4/242)
لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
قال قتادة: فِي الْأَرْضِ يعني السنين أي الحرب والقحط. وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ الأوصاب والأمراض إلّا في كتاب. مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها يكون من قبل أن نخلق الأنفس هذا قول ابن عباس والضحّاك والحسن وابن زيد، وقيل: الضمير للأرض، وقيل:
للمصائب والأول أولاها لأن الجلّة قالوا به، وهو أقرب إلى الضمير. وقال بعض العلماء: هذا معنى قضاء الله وقدره أنه كتب كلّ ما يكون ليعلم الملائكة عظيم قدرته جلّ وعزّ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لأنه جلّ وعزّ إنما يقول للشيء: كن فيكون.
[سورة الحديد (57) : الآيات 23 الى 24]
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ أي من أمر الدنيا إذ أعلمكم الله جلّ وعزّ أنه مفروغ منه مكتوب. وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وهو الفرح الذي يؤدي إلى المعصية، وقرأ أبو عمرو ولا تفرحوا بما آتاكم «1» وهو اختيار أبي عبيد، واحتجّ أنه لو أتاكم لكان الأول أفاتكم. قال أبو جعفر: وهذا الاحتجاج مردود عليه من العلماء وأهل النظر لأن كتاب الله عزّ وجلّ لا يحمل على المقاييس، وإنما يحمل بما تؤديه الجماعة فإذا جاء رجل فقاس بعد أن يكون متّبعا، وإنما تؤخذ القراءة كما قلنا أو كما قال نافع بن أبي نعيم: ما قرأت حرفا حتّى يجتمع عليه رجلان من الأئمة أو أكثر. فقد صارت قراءة نافع عن ثلاثة أو أكثر ولا نعلم أحدا قرأ بهذا الذي اختاره أبو عبيد إلّا أبا عمرو، ومع هذا فالذي رغب عنه معروف المعنى صحيح قد علم كلّ ذي لبّ وعلم أن ما فات الإنسان أو أتاه فالله عزّ وجلّ فاته إياه أو أتاه إياه، ولو لم يعلم هذا إلّا من قوله جلّ وعزّ: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها والله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أي في مشيته تكبّرا وتعظّما فخور على الناس بماله ودنياه، وإنما ينبغي أن يتواضع لله جلّ وعزّ ويشكره ويثني عليه.
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ أي بحقوق الله جلّ وعزّ عليهم وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ أي بما يفعلونه من ذلك وفي إعراب الَّذِينَ «2» خمسة أوجه منها ثلاثة للرفع واثنان للنصب.
يكون الَّذِينَ في موضع رفع على إضمار مبتدأ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على الابتداء وخبره محذوف يدلّ عليه الاخبار عن نظائره، والوجه الثالث أن يكون
__________
(1) انظر تيسير الداني 169 (قرأ أبو عمرو «بما أتاكم» بالقصر والباقون بالمدّ) .
(2) انظر البحر المحيط 8/ 224.(4/243)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
مرفوعا بالابتداء ودلّ على خبره ما بعده من الشرط والمجازاة لأنه في معناه. ويجوز أن يكون في موضع نصب على البدل من كلّ أو بمعنى أعني. وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي الغني عن خلقه وعما ينفقونه، الحميد إليهم بإنعامه عليهم. ومن قرأ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ «1» جعل «هو» زائدة فيها معنى التوكيد أو مبتدأ، وما بعدها خبرا، والجملة خبر «إن» .
[سورة الحديد (57) : آية 25]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ أي بالدلائل والحجج وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ أي بالأحكام والشرائع. وَالْمِيزانَ قال ابن زيد، هو الميزان الذي يتعامل الناس به، وقال قتادة: الميزان الحق لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ منصوب بلام كي، وحقيقته أنها بدل من «أن» . وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ أي للناس فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ قال ابن زيد: البأس الشديد السلاح والسيوف يقاتل الناس بها، قال: والمنافع التي يحفر بها الأرضون والجبال. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ معطوف على الهاء. بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أي قويّ على الانتصار ممن بارزه بالمعاداة عزيز في انتقامه منه لأنه لا يمنعه منه مانع.
[سورة الحديد (57) : آية 26]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ إلى قومهما. وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ أي متّبع لطريق الهدى مستبصر. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي خارجون إلى الكفر والمعاصي.
[سورة الحديد (57) : آية 27]
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا أي أتبعنا، ويكون الضمير يعود على الذريّة أو على نوح وإبراهيم عليهما السلام لأن الاثنين جمع وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي أتبعنا.
وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ يروى أنه نزل جملة. وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 224، وتيسير الداني 169، (قرأ ابن عامر ونافع بغير هو، والباقون بزيادة هو) .(4/244)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
ويقال: رأفة وقد رؤف ورأف وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها نصبت رهبانية بإضمار فعل أي فابتدعوا رهبانية أي أحدثوها، وقيل: هو معطوف على الأول. ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ قال ابن زيد: أي ما افترضناها. إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ نصب على الاستثناء الذي ليس من الأول ويجوز أن يكون بدلا من المضمر أي ما كتبناها عليهم إلّا ابتغاء رضوان الله فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها لفظه عام ويراد به الخاص لا نعلم في ذلك اختلافا، ويدلّ على صحته فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وفي الذين لم يرعوها قولان: مذهب الضحّاك وقتادة أنّهم الذين ابتدعوها تهوّد منهم قوم وتنصّروا، وهذا يروى عن أبي أمامة، فأما الذي روي عن ابن عباس فإنهم كانوا من بعد من ابتدعها بأنهم كفار ترهّبوا، وقالوا:
نتبع من كان قبلنا ويدلّ على صحّة هذا حديث ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ قال: «من آمن بي» . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ قال: من جحدني.
[سورة الحديد (57) : آية 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قال الضحّاك: من أهل الكتاب. اتَّقُوا اللَّهَ أي في ترك معاصيه وأداء فرائضه. وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ يعني حظّين، كما روى أبو بردة عن أبيه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، من كان من أهل الكتاب فآمن بالتوراة والإنجيل ثم آمن بالقرآن، ورجل كانت له جارية فأدّبها فأحسن أدبها ثم تزوّجها، وعبد نصح مولاه وأدّى فرض الله جلّ وعزّ عليه» وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ عن ابن عباس قال: القرآن واتباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال مجاهد:
الهدى، قال أبو إسحاق: ويقال إنه النور الذي يكون للمؤمنين يوم القيامة وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي يصفح عنكم ويستر عليكم ذنوبكم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ذو مغفرة ورحمة لا يعذّب من تاب.
[سورة الحديد (57) : آية 29]
لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
لا زائدة للتوكيد ودلّ على هذا ما قبل الكلام وما بعده أي لأن يعلم ويروى عن ابن عباس أنه قرأ لأن يعلم أهل الكتاب وكذا يروى عن عاصم الجحدري وعن ابن مسعود لكي يعلم أهل الكتاب «1» وكذا عن سعيد بن جبير، وهذه قراءات على التفسير لا يقدرون فرفعت الفعل لأن المعنى أنه لا يقدرون يدلّ على هذا أن بعده:
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 227، ومعاني الفراء 3/ 137.(4/245)
وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ، وبعض الكوفيين يقول «لا» بمعنى «ليس» ، والأول قول سيبويه، وروى المعتمر عن أبيه عن ابن عباس قال: اقرءوا بقراءة ابن مسعود ألّا يقدروا «1» بغير نون فهذا على أنه منصوب بأن. قال أبو جعفر: وهذا بعيد في العربية أن تقع أَنَّ معملة بعد يَعْلَمَ وهو من الشواذ، ومن الشواذ أنه روي عن الحسن أنه قرأ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ بالرفع ومجازه ما ذكرناه من أن التقدير فيه أنه وأن الفضل بيد الله أي بيد الله دونهم لأنه كما روي قالوا: الأنبياء منّا فكفروا بعيسى صلّى الله عليه وسلّم وبمحمد فأعلم الله جلّ وعزّ أنّ الفضل بيده يرسل من شاء وينعم على من أراد إلّا أن قتادة قال:
لمّا أنزل الله جلّ وعزّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ حسد اليهود المسلمين فأنزل الله جلّ وعزّ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أي من خلقه وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أي على عباده.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 228.(4/246)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
58 شرح إعراب سورة المجادلة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المجادلة (58) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها قال أبو جعفر بن محمد: إن شئت أدغمت الدال في السين فقلت: قد سمع، لأن مخرج الدال والسين جميعا من طرف اللسان، وإن شئت بيّنت فقلت: قد سمع الله لأن الدال والسين وإن كانتا من طرف اللسان فليستا من موضع واحد لأن الدال والتاء والطاء من موضع واحد، والسين والصاد والزاي من موضع واحد. يسمّين حروف الصفير، وأيضا فإن السين منفصلة من الدال.
وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ أي تشتكي المجادلة إلى الله جلّ وعزّ ما بظهار زوجها وتسأله الفرج. وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما أي تحاور النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمجادلة إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ أي لما يقولانه وغيره. بَصِيرٌ بما يعملانه وغيره.
[سورة المجادلة (58) : آية 2]
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
الَّذِينَ رفع بالابتداء، ويجوز على قول سيبويه أن يكون في موضع نصب ببصير يظّهارون «1» قراءة الحسن وأبي عمرو ونافع، وقرأ أبو جعفر وشيبة ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي يظهرون وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعاصم يَظْهَرُونَ وحكى الكسائي أنّ في حرف أبيّ يتظاهرون حجة لمن قرأ يظهرون لأن التاء مدغمة في الظاء وأصحّ من هذا ما رواه نصر بن علي عن أبيه عن هارون قال: في حرف أبيّ يتظهّرون حجّة لمن قرأ
__________
(1) انظر تيسير الداني 169، والبحر المحيط 8/ 231.(4/247)
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
يظّهرون لأن التاء أدغمت في الظاء أيضا. مّا هنّ أمّهاتهم «1» خبر «ما» شبّهت بليس، وقال الفرّاء: بأمهاتهم فلما حذفت الباء بقي لها أثر فنصب الاسم. إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ مبتدأ وخبر، و «إن» بمعنى «ما» وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ أي ما لا يصحّ. وَزُوراً قال قتادة: أي كذبا ونصبت منكرا وزورا ويقولون لو رفعته لانقلب المعنى وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ أي ذو عفو وصفح عمن تاب. غَفُورٌ له لا يعذّبه بعد التوبة، وقيل هذا لأنهم كانوا يطلّقون في الجاهلية بالظّهار. قال أبو قلابة: كان الرجل في الجاهلية إذا ظاهر من امرأته فهو طلاق بتات فلا يعود إليه أبدا، فأنزل الله عزّ وجلّ هذا.
[سورة المجادلة (58) : آية 3]
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
قال أبو جعفر: اختلف العلماء في معنى العود فقال قوم ممن يقول بالظاهر: لا يجب عليه الكفّارة حتّى يظاهر مرة ثانية، وحكوا ذلك عن بكير بن عبد الله بن الأشجّ، وقال قتادة: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا هو أن يعزم بعد الظّهار على وطئها وغشيانها، وقال بعض الفقهاء: عوده أن يمسكها ولا يطلّقها بعد الظهار فتجب عليه الكفارة، وقال القتبيّ: هو أن يعود لما كان يقال في الجاهلية وقال أبو العالية: لِما قالُوا أي فيما قالوا، وقال الفرّاء «2» : لما قالوا وإلى ما قالوا وفيما قالوا واحد، يريد يرجعون عن قولهم، وقال الأخفش: فيه تقديم وتأخير أي فتحرير رقبة لما قالوا. ومن أبينها قول قتادة أي ثم يعودون إلى ما قالوا من التحريم فيحلّونه. فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أو فعليهم تحرير رقبة، ويجوز عند النحويين البصريين فتحرير رقبة. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا من قبل أن يمسّ الرجل المرأة، ومن قبل أن تمسّ المرأة الرجل، وهذا عام غير أن سفيان كان يقول: له ما دون الجماع.
[سورة المجادلة (58) : آية 4]
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)
مِنْ في موضع رفع بالابتداء أي فمن لم يجد الرقبة والمفعول يحذف إذا عرف المعنى فعليه صيام شهرين، ويجوز صيام شهرين على أن شهرين ظرف، وإن شئت كان
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 231 (قرأ الجمهور بالنصب على لغة الحجاز، والمفضل عند عاصم بالرفع على لغة تميم، وابن مسعود بأمهاتهم بزيادة الباء) .
(2) انظر معاني الفراء 3/ 139.(4/248)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
مفعولا على السعة فإذا قلت: صيام شهرين لم يجز أن يكون ظرفا. وعلى هذا حكى سيبويه فيما يتعدّى إلى مفعولين: [الرجز] 470-
يا سارق اللّيلة أهل الدار
«1» فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً أي فمن لم يستطع الصوم لهرم أو زمانة فعليه إطعام ستين مسكينا، ويجوز تنوين إطعام، وليس هاهنا من قبل أن يتماسّا ولكنه يؤخذ من جهة الإجماع ذلك ليؤمنوا بالله ورسوله. قال أبو إسحاق: أي ذلك التغليظ، وقال غيره: فعلنا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله أي لتصدّقوا بما جاءكم فتؤمنوا. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أي هذه فرائض الله جلّ وعزّ التي حدّها وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ أي لمن كفر بها.
[سورة المجادلة (58) : آية 5]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي يخالفون الله ورسوله ويصيرون في حدّ أعدائه.
كُبِتُوا أي غيظوا، وقال بعض أهل اللغة: أي هلكوا، قال: والأصل كبدوا من قولهم: كبده إذا أصابه بوجع في كبده كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الكاف في موضع نصب لأنّها نعت لمصدر ولهم عذاب مهين.
[سورة المجادلة (58) : آية 6]
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ العامل في يوم «عذاب» ، ولا يجوز عند البصريين أن يكون مبنيا إذا كان بعده فعل مستقبل وإنما يبنى إذا كان بعده ماض أو ما ليس بمعرب فإذا كان هكذا بني، لأنه لما كان يحتاج إلى ما بعده ولا بد له منه أجري مجراه. فأما الكوفيون فيقولون: إنما بني لأنه بمعنى إذا فيبنى لبنائها. جَمِيعاً منصوب على الحال أي يوم يبعثهم الله من قبورهم إلى القيامة في حال اجتماعهم. فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أي فيخبرهم بما أسرّوه وأخفوه وغير ذينك من أعمالهم أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ أي عدّه وأثبته وحفظه ونسيه عاملوه. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي على كل شيء من أعمالهم شاهد عالم به.
__________
(1) الرجز بلا نسبة في الكتاب 1/ 233، وخزانة الأدب 3/ 108 و 4/ 233، والدرر 3/ 98، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 655، وشرح المفصل 2/ 45، والمحتسب 2/ 295، وهمع الهوامع 1/ 203.(4/249)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
[سورة المجادلة (58) : آية 7]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
أي ألم تنظر بعين قلبك فتعلم أن الله جلّ وعزّ يعلم ما في السّموات وما في الأرض لا يخفى عليه شيء من صغيرة ولا كبيرة فكيف يخفى عليه أعمال هؤلاء ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ قال مقاتل بن حيان عن الضحاك قال: هو تعالى فوق عرشه وعلمه معهم. وخفض ثلاثة على البدل من «نجوى» ويجوز أن يكون مخفوضا بإضافة نجوى إليه، ويجوز رفعه على موضع نجوى، ويجوز نصبه على الحال من المضمر الذي في نجوى إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ مبتدأ وخبره، وحكى الفراء «1» أن في حرف عبد الله ولا أربعة إلّا هو خامسهم وحكى أبو حاتم أن في حرف عبد الله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلّا الله رابعهم ولا خمسة إلّا الله سادسهم ولا أقلّ من ذلك ولا أكثر إلّا الله معهم إذا انتجوا. قال أبو جعفر: وهذه القراءة إن صحّت فإنما هي على التفسير لا يجوز أن يقرأ بها إلا على ذلك وقرأ يزيد بن القعقاع ما تكون «2» من نجوى ثلاثة وهذه القراءة وإن كانت مخالفة لحجة الجماعة فهي موافقة للسواد جائزة في العربية لأن نجوى مؤنثة باللفظ و «من» فيها زائدة، كما تقول: ما جاءني من رجل، وما جاءتني من امرأة، والتقدير: ولا يكون من نجوى أربعة إلّا هو خامسهم، وحكى هارون عن عمرو عن الحسن أنه قرأ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ «3» إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ عطفه على الموضع ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ أي ثم ينبئهم بما تناجوا به إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ من نجواهم وسرارهم وغير ذلك من أعمالهم وأعمال عباده.
[سورة المجادلة (58) : آية 8]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
قال مجاهد: هم قوم من اليهود وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة «4» ينتاجون بالإثم والعدوان ويتناجون أبين لأنهم قد أجمعوا على أن قرءوا
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 140.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 233. [.....]
(3) انظر معاني الفراء 3/ 140، والبحر المحيط 8/ 233 (قرأ الجمهور «ولا أكثر» عطفا على لفظ المخفوض، والحسن وابن أبي إسحاق والأعمش وأبو حياة وسلام ويعقوب بالرفع عطفا على موضع نجوى) .
(4) انظر البحر المحيط 8/ 234، وتيسير الداني 169.(4/250)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
إذا تناجيتم فلا تتناجوا إلّا شيئا روي عن ابن مسعود أنه قرأ أيضا وينتجون بالإثم والعدوان وعصيان الرسول وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ. قال أبو جعفر: قد ذكرنا معناه. وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أي هلّا يعاقبنا على ذلك في وقت قولنا حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ مبتدأ وخبره، وحكى النحويون أنه يقال:
حسبك ولا يلفظ له بخبر لأنه قد عرف معناه، وقيل: فيه معنى الأمر لأن معناه اكفف فلما كان الأمر لا يؤتى له بخبر حذف خبر ما هو بمعناه.
[سورة المجادلة (58) : آية 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ فيه ثلاثة أجوبة فلا تتناجوا بتاءين، ولا تناجوا بتاء واحدة ولا تناجوا بإدغام التاء في التاء. فمن جاء به بتاءين، قال: هي كلمة مبتدأ بها وهي منفصلة مما قبلها، ومن جاء به بتاء واحدة حذف لاجتماع التاءين مثل تذكرون وتتذكّرون، ومن أدغم قال: اجتمع حرفان مثلان وقبلهما ألف والحرف المدغم قد يأتي بعد الألف مثل دواب وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ أي بما يقربكم من الله جلّ وعزّ وَالتَّقْوى أي باتّقائه بأداء فرائضه واجتناب ما نهى عنه. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي الذي إليه مصيركم ومجمعكم فيجزيكم بأعمالكم.
[سورة المجادلة (58) : آية 10]
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ أصحّ ما قيل فيه قول قتادة قال: كان المنافقون يتناجون بحضرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيسوء ذلك المسلمين ويكبر عليهم فأنزل الله جلّ وعزّ: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا الآية ويدلّ على صحّة هذا القول ما قبله وما بعده من القرآن. وقال ابن زيد: كان الرجل يناجي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الحاجة ويفعل ذلك ليرى الناس أنه ناجى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيوسوس إبليس للمسلمين فيقول: إنما هذه المناجاة لجموع قد اجتمعت لكم وأمر قد حضر ترادون به فيحزنون لذلك. وفي الآية قول ثالث ذكره محمد بن جرير، قال: حدّثنا محمد بن حميد قال: حدّثنا يحيى بن واضح قال:
حدّثنا يحيى بن داود البجلي قال: سئل عطية العوفي وأنا أسمع عن الرؤيا فقال: الرؤيا على ثلاثة منازل منها ما يوسوس به الشيطان فذلك قول الله جلّ وعزّ: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ومنها ما يحدث الرجل به نفسه فيراه في منامه ومنها أخذ باليد، ويقرأ لِيَحْزُنَ والأول أفصح. وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ قال محمد بن جرير: أي بقضاء الله وقدره، وقيل: بِإِذْنِ اللَّهِ بما أذن الله جلّ وعزّ فيه، وهو غمّهم(4/251)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
بالمؤمنين لأنه جلّ ثناؤه قد أذن في ذلك وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي ليكلوا أمرهم إليه ولا تحزنهم النجوى وما يتسارّ به المنافقون إذا كان الله جلّ وعزّ يحفظهم ويحوطهم.
[سورة المجادلة (58) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
في المجلس «1» وروي عن الحسن وقتادة أنهما قرأ إذا قيل لكم تفاسحوا قال الفراء «2» : مثل تعهدت ضيعتي وتعاهدت، وقال أهل اللغة: تعهّدت أفصح لأنه فعل من واحد، وقال الخليل: لا يقال إلّا تعهّدت لأنه فعل من واحد. وقرأ الحسن وعاصم فِي الْمَجالِسِ وقراءة العامة في المجلس وقال أبو جعفر: واختلف العلماء في معناه فصحّ عن مجاهد أنه قال: هو مجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاصة، وصح عن قتادة أنه قال: كان الناس يتنافسون في مجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يكاد بعضهم يوسع لبعض فأنزل الله جلّ وعزّ يعني هذا، وروي عن قتادة أنه في مجلس الذكر، وقال الحسن «3» ويزيد بن أبي حبيب: هذا في القتال خاصة. قال أبو جعفر: وظاهر الآية للعموم، فعليه يجب أن يحمل ويكون هذا لمجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاصة وللحرب ولمجالس الذكر ولا نعلم قولا رابعا والمعنى يؤدّي عن معنى مجالس، وأيضا فإن الإنسان إذا خوطب أن يوسع مجلسه ومعه جماعة قد أمروا بما أمر به فقد صارت مجالس. يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ جواب الأمر، وفيه معنى المجازاة ومكان فسيح أي واسع. وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا قراءة أبي جعفر ونافع وشيبة وقراءة ابن كثير وأبي عمرو وأهل الكوفة انْشُزُوا فَانْشُزُوا «4» وهما لغتان بمعنى واحد، وأبو عبيد يختار الثانية. ولو جاز أن يقع في هذا اختيار لكان الضم أولى لأنه فعل لا يتعدى مثل قعد يقعد لأن الأكثر في كلام العرب فيما لا يتعدى أي يأتي مضموما وفيما يتعدّى أن يأتي مكسورا مثل ضرب يضرب. وأما المعنى فأصح ما قيل فيه أنه النشوز إلى كل خير من أمر بمعروف ونهي عن منكر أو قتال عدو أو تفرّق عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لئلا يلحقه أذى. يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ قيل: أي يرفعهم في الثواب والكرامة، وقيل: يرفعهم من الارتفاع أي يرفعهم على غيرهم ممن لا يعلم ليبيّن فضلهم وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي يخبره فيجازي عليه.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 235، وتيسير الداني 169 (قرأ عاصم «في المجالس» بألف على الجمع والباقون بغير على ألف على التوحيد) .
(2) انظر معاني الفراء 3/ 141.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 235.
(4) انظر تيسير الداني 169.(4/252)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)
[سورة المجادلة (58) : آية 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كانوا قد آذوا النبي صلّى الله عليه وسلّم بكثرة سرارهم فأراد الله جلّ وعزّ أن يخفّف عنه فأمرهم بهذا فتوقّفوا عن السّرار ثم وسّع عليهم ولم يضيّق. قال مجاهد: لم يعمل أحد بهذه الآية إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه تصدّق بدينار ثم سار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثم نسخت، وقال رحمة الله عليه: بي خفّف عن هذه الأمة. قال لي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما ترى أيتصدّق من سارّ بدينار قلت: لا، قال: فبدرهم قلت: لا، قال: بكم؟ قلت: بحبة من شعير، فقال: إنك لزهيد» «1» ثم نزل التخفيف فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لا يكلّف من لا يجد.
[سورة المجادلة (58) : آية 13]
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)
أصل الإشفاق في اللغة الحذر والخوف ومن هذا لا يحلّ لأحد أن يصف الله جلّ وعزّ بالاشفاق ولا يقول: يا شفيق. قال مجاهد: أأشفقتم أي أشقّ عليكم فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فإذا تاب عليكم لم يؤاخذهم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة أي فافعلوا ما لم يسقط عنكم فرضه وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي فيما أمركم به وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي فيجازيكم عليه.
[سورة المجادلة (58) : آية 14]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي ألم تنظر بعين قلبك فتراهم. ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ الضمير يعود على الذين وهم المنافقون ليسوا من المؤمنين أي من أهل دينهم وملّتهم ولا من الذين غضب الله عليهم وهم اليهود وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ يحلفون أنّهم مؤمنون.
[سورة المجادلة (58) : آية 15]
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15)
ما في موضع رفع أي ساء الشيء الذين يعملونه، وهو غشّهم المؤمنين، ونصحهم الكافرين.
[سورة المجادلة (58) : آية 16]
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16)
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً أي اتخذوا حلفهم للمؤمنين أنّهم منهم حاجزا لدمائهم وأموالهم، وهذا معنى فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لأن سبيل الله جلّ وعزّ في أهل الأوثان أن
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير 12/ 186.(4/253)
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
يقتلوا، وفي أهل الكتاب أن يقتلوا إلّا أن يؤدّوا الجزية فلما أظهر هؤلاء الإيمان وهم كفار صدّوا المؤمنين بما أظهروه عن قتلهم.
[سورة المجادلة (58) : آية 17]
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17)
أي لن تنتفعوا بالأموال فتفتدوا بها، ولن ينفعهم أولادهم فينصروهم ويستنقذوهم مما هم فيه من العذاب. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ويجوز النصب على الحال في غير القرآن.
[سورة المجادلة (58) : آية 18]
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ أي فيحلفون له على الباطل، وهذا دليل بيّن على بطلان قول من قال: إنّ أحدا لا يتكلّم يوم القيامة إلّا بالحق لما يعاين.
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أي على شيء ينفعهم. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ كسرت إنّ لأنها مبتدأة، وسمعت علي بن سليمان يجيز فتحها لأن معنى ألا حقا.
[سورة المجادلة (58) : آية 19]
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ هذا مما جاء على أصله ولو جاء على الإعلال لكان استحاذ، كما يقال: استصاب فلان رأي فلان ولا يقال: استصوب. قال أبو جعفر: إنما جاء على أصله مما يؤخذ سماعا من العرب لا مما يقاس عليه، وقيل: يعلّ الرباعي اتباعا للثلاثي فلما كان يقال: استحوذ عليه إذا غلبه ولا يقال حاذ في هذا المعنى، وإنما يقال: حاذ الإبل إذا جمعها فلمّا لم يكن له ثلاثيّ جاء على أصله.
أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ حزبه أولياؤه وأتباعه وجموعه والخاسر الذي قد خسر في صفقته.
[سورة المجادلة (58) : آية 20]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قال قتادة: يعادونه وقال مجاهد: يشاقون، وقيل:
معناه يخالفون حدود الله جلّ وعزّ فيما أمر به. وحقيقته في العربية يصيرون في حدّ غير حدّه الذي حدّه، والأصل يحاددون فأدغمت الدال في الدال. أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أي ممن يلحقه الذل، وأولئك وما بعد خبر عن الذين.
[سورة المجادلة (58) : آية 21]
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي قيل: أي كتب في اللوح المحفوظ، وجعله(4/254)
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
الفراء «1» مجازا جعل كتب بمعنى «قال» أي الله لأغلبنّ أنا ورسلي أي من حادّنا، «ورسلي» معطوف على المضمر الذي في «لأغلبن» و «أنا» توكيد. قال أبو جعفر: وهذه اللغة الفصيحة، وأجاز النحويون جميعا في الشعر: لأقومنّ وزيد، وأجاز الكوفيون وجماعة من أهل النظر أن يعطف على المضمر المرفوع من غير توكيد لأنه يتّصل وينفصل فخالف المضمر المخفوض إِنَّ «2» اللَّهَ قَوِيٌّ أي ذو قوّة وقدرة على أن كتب فيمن خالفه وخالف رسله عَزِيزٌ في انتقامه لا يقدر أحد أن ينتصر منه.
[سورة المجادلة (58) : آية 22]
لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
أصحّ ما روي في هذا أنه نزل في المنافقين الذين والوا اليهود لأنهم لا يقرّون بالله جلّ وعزّ على ما يجب الإقرار به ولا يؤمنون باليوم الآخر فيخافون العقوبة ويُوادُّونَ في موضع نصب لأنه خبر تجد أو نعت لقوم. وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أي ولو كان الذين حادّوا الله ورسوله آباءهم، جمع أب على الأصل، والأصل فيه أبو والتثنية أيضا على الأصل عند البصريين لا غير، وحكى الكوفيون: جاءني أبان أَوْ أَبْناءَهُمْ جمع ابن على الأصل والأصل فيه: بني الساقط منه ياء، والساقط من أب واو فأما أب فقد دل عليه التثنية وأما ابن فدلّ عليه الاشتقاق.
قال أبو إسحاق: هو مشتقّ من بناه أبوه يبينه. قال أبو جعفر: وقد غلط بعض النحويين فقال: الساقط منه واو لأنه قد سمع البنوة. أَوْ إِخْوانَهُمْ جمع أخ على الأصل، كما تقول: ورل وورلان أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ قيل: هو مجاز، و «في» بمعنى اللام أي كتب لقلوبهم الإيمان، وقد علم أن المعنى كتب لهم، وقيل: هو حقيقة أي كتب في قلوبهم سمة الإيمان ليعلم أنّهم مؤمنون وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ قيل: بنور وهدى وقيل بجبرائيل صلّى الله عليه وسلّم ينصرهم ويؤيّدهم ويوفّقهم وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها على الحال. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أي بطاعتهم في الدنيا. وَرَضُوا عَنْهُ بإدخالهم الجنة. أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أي جنده وجماعته. وتحزّب القوم تجمّعوا أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قيل: أي الذين ظفروا بما أرادوا.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 142.
(2) انظر تيسير الداني 170 (فتحها نافع وابن عامر) .(4/255)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
59 شرح إعراب سورة الحشر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحشر (59) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
أي في انتقامه ممن عصاه. الْحَكِيمُ في تدبيره، وهُوَ مبتدأ والْعَزِيزُ خبره والْحَكِيمُ نعت للعزيز، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا.
[سورة الحشر (59) : آية 2]
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2)
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي بمحمد صلّى الله عليه وسلّم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ من اليهود وهم بنو النضير مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ صرفت أولا لأنه مضاف، ولو كان مفردا كان ترك الصرف فيه أولى على أنه نعت، ومن جعله غير نعت صرفه ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا «أن» في موضع نصب بظننتم، وهي تقوم مع صلتها مقام المفعولين عند النحويين إلّا محمد بن يزيد فإن أبا الحسن حكى لنا عنه أن المفعول الثاني محذوف، وكذا القول في وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا أي لم يظنّوا من قولهم: ما كان هذا في حسباني أي في ظني، ولا يقال: في حسابي لأنه لا معنى له هاهنا، ويجوز أن يكون معنى «لم يحتسبوا» لم يعلموا، وكذا قيل في قول الناس: حسيبه الله أي العالم بخبره والذي يجازيه الله جلّ وعزّ، وقيل معنى قولك: حسيبك الله كافيّ إياك الله. من قولهم: أحسبه الشيء، إذا كفاه، وقيل: حسيبك أي محاسبك مثل شريب بمعنى مشارب، وقيل: حسيبك أي مقتدر عليك، ومنه وكان الله على كل شيء حسيبا.
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ومن قال: في قلوبهم الرّعب جاء به على الأصل «1»
__________
(1) انظر تيسير الداني 170 (قرأ أبو عمرو مشدّدا والباقون مخفّفا) .(4/256)
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ويخرّبون على التكثير، وقد حكى سيبويه أنّ فعّل يكون بمعنى أفعل كما قال: [الطويل] 471-
ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
«1» فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ أي فاتعظوا واستدلّوا على صدق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأن الله جلّ وعزّ ناصره لما يريكم في أعدائه وبصدق ما أخبركم به. واشتقاقه من عبر إلى كذا إذا جاز إليه، والعبرة هي المتجاوزة من العين إلى الخدّ. قال الأصمعي: وقولهم: فلان عبر أي يفعل أفعالا يورث بها أهله العبرة وفي معنى يا أُولِي الْأَبْصارِ قولان:
أحدهما أنه من بصر العين، والآخر أنه من بصر القلب. قال أبو جعفر: وهذا أولى بالصواب، لأن الاعتبار إنما يكون بالقلب، وهو الاتّعاظ والاستدلال بما مرّ. فقد قيل:
إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خبّرهم بهذا أنه يكون فكان على ما وصف فيجب أن تعتبروا بهذا وغيره، كما قال جلّ وعزّ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] فكان كما قال، وقال جلّ ذكره: سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ [المسد: 3] ذلك وقال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة: 95] فلم يتمنه أحد منهم، وكذا وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: 87] فقالوا ذلك، وكذا وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم: 3] كذا قوله صلّى الله عليه وسلّم لعمّار: «تقتلك الفئة الباغية» «2» وقوله عليه السلام لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم كتب: «من محمد رسول الله» فساموه محوها فاستعظم ذلك علي رضي الله عنه فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّك ستسام مثلها» «3» فكان ذلك على ما قال، وكذلك قوله في ذي الثديّة «ومن ينجو من الخوارج» «4» فكان الأمر كما قال، وكذلك قوله في كلاب الحوأب قولا محدّدا، وكذلك قوله في فتح المدينة البيضا وفي فتح مصر، وأوصى بأهلها خيرا فهذا كله مما يعتبر به وقال جلّ وعزّ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] فعصمه حتّى مات على فراشه، وقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور: 55] فاستخلف ممّن خوطب بهذا أربعة أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم، وكان هذا موافقا لقوله صلّى الله عليه «الخلافة بعدي ثلاثون» ومما يعتبر به تمثيلاته التي لا تدفع، منها حديث أبي رزين العقيلي أنه قال: يا رسول الله كيف يحيي
__________
(1) انظر الفهارس العامة.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه- الفتن 70، وأحمد في مسنده 2/ 161، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 189، والطبراني في المعجم الكبير 1/ 300، والمتقي في كنز العمال (23736) .
(3) أخرجه الترمذي في سننه- المناقب 13/ 209.
(4) أخرجه ابن ماجة في سننه باب 12 الحديث (167) ، وأبو داود في سننه، الحديث رقم (4763) . [.....](4/257)
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)
الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ فقال: «يا أبا رزين أما مررت بوادي أهلك محلا ثم مررت به يهتزّ خضرا فكذلك يحيي الله الموتى وكذلك آيته تعالى في خلقه» فهذا التشبيه الباهر الذي لا يلحق، ولذلك قوله في تمثيل الميّت بالنائم وبعثه باليقظة. وهذا أشكل شيء بشيء، فبهذا يعتبر أولو الأبصار.
[سورة الحشر (59) : آية 3]
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3)
حكى أهل اللغة أنه يقال: جلا القوم عن منازلهم وأجليتهم هذا الفصيح، وحكى أحمد بن يحيى ثعلب أجلوا، وحكى غيره جلوا عن منازلهم يجلون، واستعمل فلان على الجالية والجالّة، وقرأ أكثر الناس، وهي اللغة الفصيحة المعروفة من كلام العرب التي نقلتها الجماعة التي تجب بها الحجّة، وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ بكسر الهاء وضم الميم، فمن قرأ بها: أبو جعفر وشيبة ونافع وعبد الله بن عامر وعاصم، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ بضم الهاء والميم وقرأ أبو عمرو بن العلاء عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ بكسر الهاء والميم. قال أبو جعفر: والقراءة الأولى كسرت فيها الهاء لمجاوزتها الياء فاستثقلت ضمة بعد ياء، وأيضا فإن آخر مخرج الهاء عند مخرج الياء وضمّت الميم لأن أصلها الضم فردّت إلى أصلها، وهذه القراءة البينة والقراءة الثانية على الأصل إلّا أن الأعمش والكسائي لا يقرآن عليهم إلّا أن يلقى الميم ساكن، ولا يعرف عن أحد من القراء من جهة صحيحة أنه قرأ عليهم إلا حمزة ثم إنه خالف ذلك فقرأ فيهم ولم يضمّ إلّا في عليهم وإليهم ولديهم إلا ابن كيسان احتجّ له في تخصيصه هذه الثلاثة، فقال: عليهم وإليهم ولديهم ليست الياء فيهنّ ياء محضة، وأصلها الألف، لأنك تقول: على القوم، فلهذا أقرّوها على ضمتها لأن الياء أصلها الألف، والياء في «في» ياء محضة. قال: وسألت أبا العباس لم قرأ الكسائي عليهم بكسر الهاء فلما قال: (عليهم) ضمّها؟ فقال: إنما كسرها اتباعا للياء لأن الكسرة أخت الياء فلما اضطرّ إلى ضمّ الميم لالتقاء الساكنين لأن الضم أصلها كان الأولى أن يتبع الهاء الميم فيضمّها أي لأن أصلها الضم وبعدها مضموم. قال أبو جعفر: وهذا أحسن ما قيل في هذا، فأما قراءة أبي عمرو عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ ففيها حجتان إحداهما أنه كسر الميم لالتقاء الساكنين. وهذه حجة لا معنى لها لأنه إنما يكسر لالتقاء الساكنين ما لم يكن له أصل في الحركة فأما أن تدع الأصل وتجتلب حركة أخرى فغير جائز، والحجة الأخرى صحيحة، وهو إنما كسر الهاء اتباعا للياء لأنه استثقل ضمة بعد ياء، وكذلك أيضا استثقل ضمة بعد كسرة فأبدل منها كسرة اتباعا كما فعل بالهاء فقال عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ أي مع الخزي الذي لحقهم في الدنيا من الجلاء. قال قتادة: الجلاء الخروج من بلد إلى بلد،(4/258)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
وقيل: معنى كتب حتم وهو مجاز، وقيل: كتبه في اللوح المحفوظ.
[سورة الحشر (59) : آية 4]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)
يكون ذلِكَ في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي الأمر ذلك، ويجوز أن يكون في موضع نصب أي فعلنا بهم ذلك، ويجوز أن يكون في موضع رفع أيضا أي ذلك الخزي وعذاب النار لهم بأنهم خالفوا الله ورسوله وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ في موضع جزم بالشرط، وكسرت القاف لالتقاء الساكنين، ويجوز فتحها لثقل التشديد والكسر إلّا أنّ الفتح إذا لم يلقها ساكن أجود مثل مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ [المائدة: 54] وإذا لقيها ساكن كان الكسر أجود، كما قال: [الوافر] 472-
فغضّ الطّرف إنّك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
«1» فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ جواب الشرط أي شديد عقابه لمن حادّه وحادّ رسوله.
[سورة الحشر (59) : آية 5]
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)
في معنى «اللّينة» ثلاثة أقوال عن أهل التأويل: روى سفيان عن داود بن أبي هند عن عكرمة بن عباس قال: اللينة النخل سوى العجوة، وهذا قول سعيد بن جبير وعكرمة والزهري ويزيد بن رومان، وقول مجاهد وعمر بن ميمون: إنه لجميع النخل، وكذا روى ابن وهب عن ابن زيد قال: اللّينة النخل كانت فيها عجوة أو لم تكن، وقال سفيان: هي كرائم النخل. وهذه الأقوال صحيحة لأن الأصمعي حكى مثل القول الأول فيكون لجميع النخل، ويكون ما قطعوا منها مخصوصا فتتفق الأقوال. ولينة مشتقّة عند جماعة من أهل العربية من اللون، وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وفي الجمع ليان كما قال: [المتقارب] 473-
وسالفة كسحوق اللّبا ... ن أضرم فيها الغويّ السّعر
«2» وقال بعضهم: هي مشتقّة من لان يلين، ولو كانت من اللون، قيل في الجميع لو أن. وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ أي وليذلّ من خرج من طاعته جلّ وعزّ.
[سورة الحشر (59) : آية 6]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
هذا عند أهل التفسير في بني النضير لأنه لم يوجف عليهم بخيل ولا جمال،
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (167) .
(2) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 165، ولسان العرب (لبن) ، وجمهرة اللغة 674، وتاج العروس (لون) وبلا نسبة في لسان العرب (سحق) وتهذيب اللغة 4/ 25، والمخصّص 11/ 132.(4/259)
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
وإنما صولحوا على الجلاء فملّك الله تعالى مالهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحكم فيه بما أراد وكان فيه فدك فصحّ عن الصحابة منهم عمر رضي الله عنه أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يأخذ منه ما يكفيه وأهله ويجعل الباقي في السلاح الذي يقاتل به العدوّ وفي الكراع. فلما توفّي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم طالبت فاطمة رضي الله عنها على أنه ميراث فقال لها أبو بكر رضي الله عنه: أنت أعزّ الناس عليّ غير أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» «1» ولكنّي أقرّه على ما كان يفعله فيه، وتابعه أصحابه بالشهادة على أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كذا قال حتّى صار ذلك إجماعا، وعمل به الخلفاء الأربعة لم يغيروا منه شيئا وأجروه مجراه في وقت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأما معنى «لا نورث ما تركنا صدقة» فقد تكلّم فيه العلماء فقال بعضهم: معنى «لا نورث» كمعنى لا أورث كما يقول الرجل الجليل: فعلنا كذا، وقيل: هو لجميع الأنبياء لأنه لم يورث أحد منهم شيئا من المال، وقالوا: معنى خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي [مريم: 5] معناه خفت ألا يعملوا بطاعة الله جلّ وعزّ.
ويدل على هذا وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم: 6] . ومعنى يَرِثُنِي النبوة والشريعة وكذلك وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النمل: 16] ومعنى «ما تركنا صدقة» فيه أقوال: فمن أصحّها أنه بمنزلة الصدقة لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يملك شيئا. وإنما أباحه الله جلّ وعزّ هذا فكان ينفق منه على نفسه ومن يعوله، ويجعل الباقي في سبيل الله. فهذا قول، وقيل:
بل قد كان تصدق بكل ما يملكه، وقيل: «ما» بمعنى الذي أي لا نورث الذي تركناه صدقة وحذفت الهاء لطول الاسم ويقال: «وجف» إذا أسرع، وأوجفه غيره وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ أي كما سلّطه على بني النضير.
[سورة الحشر (59) : آية 7]
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)
في هذه الآية أربعة أقوال: منها أنه الفيء الأول وأنّ ما صولح عليه المسلمون من غير قتال فهذا حكمه، وقيل: بل هذا غير الأول، وهذا حكم ما كان من الجزية ومال الخراج أن يقسم. وهذا قول معمر، وقيل: بل هذا ما قوتل عليه أهل الحرب. وهذا قول يزيد بن رومان. والقول الرابع أن هذا حكم ما أوجف عليه بخيل وركاب، وقوتل عليه فكان هذا حكمه حتّى نسخ بالآية التي في سورة «الأنفال» «2» والصواب أن يكون هذا الحكم مخالفا للأول لأنه قد صحّ عمن تقوم به الحجّة أن الأول في بني النّضير وأنه جعل حكمه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهذا الثاني على خلاف ذلك لأنه فيه
__________
(1) انظر التمهيد لابن عبد البر 8/ 175.
(2) سورة الأنفال، الآية: 1.(4/260)
لِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ويدلّك على هذا حديث عمر مع صحّة إسناده واستقامة طريقته قرئ على أحمد بن شعيب عن عبيد الله بن سعيد ويحيى بن موسى وهارون بن عبد الله قالوا: حدّثنا سفيان عن عمرو عن الزهري عن مالك بن أويس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب فكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، وما بقي جعله في السلاح والكراع عدّة في سبيل الله. فقد دلّ هذا على أن الآية الثانية حكمها خلاف حكم الأولى لأن الأولى تدلّ على هذا إن ذلك شيء للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والآية الثانية، على خلاف ذلك قال الله جلّ وعزّ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ قيل: هذا افتتاح كلام، وكلّ شيء لله: والتقدير فلسبل الله وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وهم بنو هاشم وبنو المطّلب وَالْيَتامى وهم الّذين لم يبلغوا الحلم وقد مات آباؤهم، وَالْمَساكِينِ وهم الذين قد لحقهم ذلّ المسكنة مع الفاقة، وَابْنِ السَّبِيلِ وهم المسافرون في غير معصية المحتاجون كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ الضمير الّذي في يكون يعود على ما أي لا يكون ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى دولة يتداوله الأغنياء فيعملون فيه ما يحبون، فقسمه الله جلّ وعزّ هذا القسم. وقرأ يزيد بن القعقاع كي لا تكون دولة «1» بالرفع وتأنيث «تكون» دولة اسم «تكون» «بين الأغنياء» الخبر، ويجوز أن يكون بمعنى يقع فلا يحتاج إلى خبر مثل إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [البقرة:
282، والنساء: 29] «وأغنياء» جمع غنيّ، وهكذا جمع المعتل وإن كان سالما جمع على فعلاء وفعال نحو كريم وكرماء وكرام، وقد قالت العرب في السالم: نصيب وأنصباء شبه بالمعتل وشبهوا بعض المعتل أيضا بالسالم. حكى الفرّاء «2» : نفي ونفواء بالفاء شبّه بالسالم وقلبت ياؤه واوا. وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا حكى بعض أهل التفسير أنّ هذا في الغنائم واحتجّ بأن الحسن قال: وما أتاكم الرسول من الغنائم فخذوه وما نهاكم عنه من الغلول قال أبو جعفر: فهذا ليس يدلّ على أن الآية فيه خاصة بل الآية عامة. وعلى هذا تأولها أصحاب رسول الله فقال عبد الله بن مسعود:
إن الله لعن الواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمّصة، فقيل له: قد قرأنا القرآن فما رأينا فيه هذا فقال: قد لعنهنّ رسول الله وقال الله وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وعن ابن عباس نحو من هذا في النهي عن الانتباذ في النّقير والمزفّت. وَاتَّقُوا اللَّهَ أي احذروا عقابه في عصيانكم رسوله. إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي شديد عقابه لمن خالف رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 244، وتيسير الداني 170.
(2) انظر المنقوص والممدود 14.(4/261)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
[سورة الحشر (59) : آية 8]
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ قيل: هو بدل ممن قد تقدّم ذكره بإعادة الحرف مثل لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا [سبأ: 32] لمن آمن منهم، وقيل: التقدير كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم لكي يكون للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم أي أخرجهم المشركون. يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً في موضع نصب على الحال، وكذا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ مبتدأ وخبره..
[سورة الحشر (59) : آية 9]
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
الَّذِينَ في موضع خفض أي للذين، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ أي انتقل إليهم وإذا كان الذين في موضع خفض كان يحبّون في موضع نصب على الحال أو مقطوعا مما قبله وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا معطوف عليه، وكذا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ أي فاقة إلى ما اثروا به. وكلّ كوّة أو خلل في حائط فهو خصاصة. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ «1» جزم بالشرط فلذلك حذفت الألف منه، ولا يجوز إثباتها إذا كان شرطا عند البصريين، ويجوز عند الكوفيين وشبّهوه بقول الشاعر:
474-
ألم يأتيك والأنباء تنمي
«2» والفرق بين ذا والأول أن الألف لا تتحرك في حال والياء والواو قد يتحرّكان وهذا فرق بيّن ولكن الكوفيين خلطوا حروف المدّ واللين فجعلوا حكمها حكما واحدا، وتجاوزوا ذلك من ضرورة الشعر إلى أن أجازوه في كتاب الله جلّ وعزّ، وحملوا قراءة حمزة لا تخف دركا ولا تخشى [طه: 77] عليه في أحد أقوالهم. وأهل التفسير على أنّ الشحّ أخذ المال بغير الحقّ، وقد ذكرنا أقوالهم. والمعروف في كلام العرب أن الشّحّ أزيد من البخل، وأنه يقال: شحّ فلان يشحّ إذا اشتدّ بخله ومنع فضل المال، كما قال: [الوافر] 475-
ترى اللّحز الشّحيح إذا أمرّت ... عليه لماله فيها مهينا
«3»
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 246 (قرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «شحّ» بكسر الشين، والجمهور بإسكان الواو وتخفيف القاف، وضمّ الشين) .
(2) مرّ الشاهد رقم (299) .
(3) الشاهد لعمرو بن كلثوم في ديوانه 65، ولسان العرب (سخن) وخزانة الأدب 3/ 178، وشرح ديوان امرئ القيس 320، وشرح القصائد السبع 373، وشرح القصائد العشر 322، وشرح المعلقات السبع 166، وتاج العروس (سخن) ، وبلا نسبة في لسان العرب (لحز) ، ومقاييس اللغة 5/ 237.(4/262)
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)
[سورة الحشر (59) : آية 10]
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)
يكون الَّذِينَ في موضع خفض معطوفا على ما قبله أي والذين، وعلى هذا كلام أهل التفسير والفقهاء، كما قال مالك ليس لمن شتم أصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الفيء نصيب لأن الله تعالى قال: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا الآية، وقال قتادة: لم تؤمروا بسب أصحاب النبيّ وإنما أمرتم بالاستغفار لهم، وقال ابن زيد في معنى قوله وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا لا تورّث قلوبنا غلا لمن كان على دينك. رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ أي بخلقك. رَحِيمٌ لمن تاب منهم.
[سورة الحشر (59) : آية 11]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا حذفت الألف للجزم، والأصل فيه الهمز لأنه من رأى والأصل يرأى يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ «يقولون» في موضع نصب على الحال. وعن ابن عباس الَّذِينَ نافَقُوا عبد الله بن أبيّ وأصحابه وإخوانهم من أهل الكتاب بنو النضير لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ أي من دياركم ومنازلكم لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ من ديارنا. وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً أي لا نطيع من سألنا خذلانكم. وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ كسرت إن لمجيء اللام، وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد أنه أجاز فتحها في خبرها اللام لأن اللام للتوكيد فلا تغيّر هاهنا شيئا.
[سورة الحشر (59) : آية 12]
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12)
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ أي لئن أخرج بنو النضير لا يخرج المنافقون معهم فخبر بالغيب، وكان الأمر على ذلك. وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ فخبّر جلّ وعزّ بما يعلمه فإن قيل: فما وجه رفع لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وظاهره أنه جواب الشرط وأنت تقول: إن أخرجوا لا يخرجوا معهم، ولا يجوز غير ذلك، واللام توكيد فلم رفع الفعل؟ فالجواب عن هذا، وهو قول الخليل وسيبويه رحمهما الله على معناهما أنه قسم. والمعنى والله لا يخرجون معهم إن أخرجوا، كما تقول: والله لا(4/263)
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)
يقومون، ودخلت اللام في الأول لأنه شرط للثاني، وكذا ما بعده، وكذا ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ معطوف عليه، ويجوز أن يكون مقطوعا منه.
[سورة الحشر (59) : آية 13]
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13)
أي في صدور بني النضير من اليهود، ونصبت رهبة على التمييز. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي من أجل أنّهم قوم لا يفقهون قدر عظمة الله جلّ وعزّ فهم يجترءون على معاصيه ولا يتخوّفون عقابه.
[سورة الحشر (59) : آية 14]
لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14)
نصبت جَمِيعاً على الحال، وقرية وقرى عند الفرّاء شاذّ كان يجب أن يكون جمعه قراء مثل غلوة وغلاء. قال أبو جعفر: وأنكر أبو إسحاق هذا وأن يقال شاذّ لما نطق به القرآن، ولكنه مثل ضيعة وضيع جاء بحذف الألف.
وقيل: هو اسم للجميع. أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ وقرأ أبو عمر وابن كثير أو من وراء جدار «1» وحكي عن المكيين أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بفتح الجيم وإسكان الدال، ويجوز جدر على أن الأصل جدر فحذفت الضّمة لثقلها. وجدر لغة بمعنى جدار، وجدار واحد يؤدّي عن جمع إلا أن الجمع أشبه بنسق الآية لأن قبله إِلَّا فِي قُرىً ولم يقل: إلّا في قرية تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً مفعول ثان لتحسب، وليس على الحال. وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى قال قتادة: أهل الباطل مختلفة أهواؤهم مختلفة أعمالهم، وهم مجتمعون على معاداة أهل الحقّ. قال مجاهد: وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى لأن بني النضير يهود والمنافقين ليسوا بيهود. وفي حرف «2» ابن مسعود وقلوبهم أشتّ يكون أفعل بمعنى فاعل أو يحذف منه «من» ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ أي لا يعقلون ما لهم فيه الحظّ مما عليهم فيه النّقص.
[سورة الحشر (59) : آية 15]
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ المعنى مثلهم كمثل الذين من قبلهم حين تمادوا على العصيان فأهلكوا. واختلف أهل التأويل في الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هاهنا فقال ابن عباس:
هم بنو قينقاع، وقال مجاهد هم أهل بدر. والصواب أن يقال في هذا: إنّ الآية عامة
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 247. انظر تيسير الداني 170 (قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الجيم وألف بعد الدال، وأمال أبو عمرو فتحة الدال والباقون «جدر» بضم الجيم والدال) .
(2) انظر البحر المحيط 8/ 248.(4/264)
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
وهؤلاء جميعا ممن كان قبلهم. قَرِيباً نعت لظرف ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي ذاقوا عذاب الله على كفرهم وعصيانهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي في الآخرة.
[سورة الحشر (59) : آية 16]
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16)
الكاف في موضع رفع أي مثل المنافقين في غرورهم بني النضير ومثل بني النضير في قلوبهم منهم كمثل الشيطان. وفي معناه قولان: أحدهما أنه شيطان بعينه غرّ راهبا.
وفي هذا حديث مسند قد ذكرناه، وهكذا روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
والقول الآخر أن يكون الشيطان هاهنا اسما للجنس، وكذا الإنسان، كما روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هي عامّة.
[سورة الحشر (59) : آية 17]
فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)
عاقِبَتَهُما خبر كان وأن وصلتها اسمها. وقرأ الحسن فَكانَ عاقِبَتَهُما بالرفع، جعلها اسم كان، وذكّرها لأن تأنيثها غير حقيقي خالِدَيْنِ فِيها على الحال.
وقد اختلف النحويون في الظرف إذا كرّر فقال سيبويه «1» : هذا باب ما يثنّى فيه المستقرّ توكيدا فعلى قوله نقول: إن زيدا في الدار جالسا فيها وجالس لا يختار أحدهما على صاحبه، وقال غيره: الاختيار النصب لئلا يلغى الظرف مرتين، وقال الفرّاء: «2» إنّ النصب هاهنا هو كلام العرب قال: تقول: هذا أخوك في يده درهم قابضا عليه، والعلّة عنده في وجوب النصب أنه لا يجوز أن يقدّم من أجل الضمير فإن قلت: هذا أخوك في يده درهم قابض على دينار، جاز الرفع والنصب، وأنشد في ما يكون منصوبا:
[الكامل] 476-
والزّعفران على ترائبها ... شرقا به اللّبّات والنّحر
«3» قال أبو جعفر: وهذا التفريق عند سيبويه لا يلزم منه شيء، وقد قال سيبويه: لو كانت التثنية تنصب لنصبت. في قولك: عليك زيد حريص عليك. وهذا من أحسن ما قيل في هذا وأبينه لأنه بيّن أن التكرير لا يعمل شيئا. وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ قيل:
يعني به بني النضير لأن نسق الآية فيهم، وكلّ كافر ظالم.
__________
(1) انظر الكتاب 2/ 123.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 147.
(3) الشاهد للمخبّل السعدي في ديوانه 293، ولسان العرب (شرق) ، وتاج العروس (شرق) ، وبلا نسبة في تاج العروس (ترب) ، ولسان العرب (ترب) ، والمخصص 2/ 20. [.....](4/265)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)
[سورة الحشر (59) : آية 18]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ والأصل ولتنظر حذفت الكسرة لثقلها واتصالها بالواو أي لتنظر نفس ما قدّمت ليوم القيامة من حسن ينجيها أو قبيح يوبقها. والأصل في غد غدو وربما جاء على أصله ثم كرّر توكيدا فقال جلّ وعزّ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ.
[سورة الحشر (59) : آية 19]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19)
يكون نسي بمعنى ترك أي تركوا طاعة الله جلّ وعزّ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ قال سفيان:
أي فأنساهم حظّ أنفسهم. ومن حسن ما قيل فيه أنّ المعنى أنّ الله لما عذّبهم شغلهم عن الفكرة في أهل دينهم أو في خواصهم، كما قال فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 54] .
أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي الخارجون عن طاعة الله جلّ وعزّ.
[سورة الحشر (59) : آية 20]
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)
لا يَسْتَوِي أي لا يعتدل. أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ وفي حرف ابن مسعود ولا أصحاب الجنّة تكون «لا» زائدة للتوكيد. أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ أي الذين ظفروا بما طلبوا.
[سورة الحشر (59) : آية 21]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
مُتَصَدِّعاً نصب على الحال أي فزعا لتعظيمه القرآن. مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ودلّ بهذا على أنه يجب أن يكون من معه القرآن خائفا حذرا معظّما له منزها عمن يخالفه.
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ أي يعرفهم بهذا. لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فينقادون إلى الحق.
[سورة الحشر (59) : آية 22]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22)
هُوَ مبتدأ، ومن العرب من يسكّن الواو فمن أسكنها حذفها هاهنا لالتقاء الساكنين، اسم الله جلّ وعزّ خبر الابتداء، الَّذِي من نعته. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ في الصلة أي الذي لا تصلح الألوهة إلّا له لأن كل شيء له هو خالقه فالألوهة له وحده عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ نعت، ولو كان بالألف واللام في الأول لكان الثاني منصوبا، وجاز الخفض هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ والرحمة من الله جلّ وعزّ التفضل والإحسان إلى من يرحمه.(4/266)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
[سورة الحشر (59) : آية 23]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ومن نصب قال: إلّا إياه وأجاز الكوفيون إلّاه على أن الهاء في موضع نصب، وأنشدوا: [البسيط] 477-
فما نبالي إذا ما كنت جارتنا ... ألّا يجاورنا إلّاك ديّار
«1» قال أبو جعفر: وهذا خطأ عند البصريين لا يقع بعد «إلّا» ضمير منفصل لاختلافه، وأنشد محمد بن يزيد: «ألّا يجاورنا سواك ديّار» الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ نعت والملك مشتقّ من الملك والمالك مشتقّ من الملك، و «القدّوس» مشتقّ من القدس وهو الطهارة كما قال حسان بن ثابت: [الوافر] 478-
وجبريل أمين الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء
«2» قال كعب: روح القدس جبرائيل عليه السلام. قال أبو زيد: القدس الله جلّ وعزّ وكذا القدوس وقال غيره: قيل لجبرائيل صلّى الله عليه وسلّم: روح الله لأنه خلقه من غير ذكر وأنثى ومن هذا قيل لعيسى صلّى الله عليه وسلّم: روح الله جلّ وعزّ لأنه خلقه من غير ذكر، والله القدوس أي مطهّر مما نسبه إليه المشركون. وقرأ أبو الدينار الأعرابي الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ بفتح القاف. قال أبو جعفر: ونظير هذا من كلام العرب جاء مفتوحا نحو سمّور وشبّوط ولم يجيء مضموما إلّا «السّبّوح» و «القدّوس» وقد فتحا السَّلامُ أي ذو السلامة من جميع الآفات. والسلام في كلام العرب يقع على خمسة أوجه: السلام التحيّة، والسلام السّواد من القول قال الله تعالى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: 63] ليس يراد به التحية، والسلام جمع سلامة، والسلام بمعنى السلامة كما تقول: اللّذاذ واللّذاذة، «السلام» اسم الله من هذا أي صاحب السلامة والسلام شجر قوي واحدها سلامة. قال أبو إسحاق: سمّي بذلك لسلامته من الآفات. الْمُؤْمِنُ «3» فيه ثلاثة أقوال: منها أن معناه الذي آمن عباده من جوره، وقيل: المؤمن الذي آمن أولياءه من عذابه، وقال أحمد بن يحيى ثعلب الله جلّ وعزّ: المؤمن لأنه يصدّق عباده
__________
(1) الشاهد بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 129، وأمالي ابن الحاجب 385، وأوضح المسالك 1/ 83، وتخليص الشواهد 100، وخزانة الأدب 5/ 278، والخصائص 1/ 307، والدرر 1/ 176، وشرح الأشموني 1/ 48، وشرح شواهد المغني 844، وشرح ابن عقيل 52، ومغني اللبيب 2/ 441.
(2) الشاهد لحسّان بن ثابت في ديوانه ص 75، ولسان العرب (كفأ) و (جبر) ، وكتاب العين 5/ 414، وتهذيب اللغة 10/ 389، والتنبيه والإيضاح 2/ 96، وتاج العروس (كفأ) ، و (جبر) ، وأساس البلاغة (كفأ) .
(3) انظر البحر المحيط 8/ 249.(4/267)
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
المؤمنين. قال أبو جعفر: ومعنى هذا أن المؤمنين يشهدون على الناس يوم القيامة فيصدّقهم الله جلّ وعزّ الْمُهَيْمِنُ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المهيمن الأمين، وبهذا الإسناد قال: الشهيد، وقال أبو عبيدة: المهيمن الرقيب الحفيظ. قال أبو جعفر: وهذه كلها من صفات الله جلّ وعزّ فالله شاهد أعمال عباده حافظ لها أمين عليها لا يظلمهم ولا يلتهم من أعمالهم شيئا، وحكى لنا علي بن سليمان عن أبي العباس قال: الأصل مؤيمن، وليس في أسماء الله تعالى شيء مصغّر إنما هو مثل مسيطر أبدل من الهمزة هاء، لأن الهاء أخفّ. الْعَزِيزُ أي العزيز في انتقامه المنيع فلا ينتصر منه من عاقبه الْجَبَّارُ فيه أربعة أقوال: قال قتادة: الجبّار الذي يجبر خلقه على ما يشاء، قال أبو جعفر: وهذا خطأ عند أهل العربية، لأنه إنما يجيء من هذا مجبر ولا يجيء فعّال من أفعل، وقيل: «جبّار» من جبر الله خلقه أي نعتهم وكفاهم.
وهذا قول حسن لا طعن فيه، وقيل: جبار من جبرت العظم فجبر أي أقمته بعد ما انكسر فالله تعالى أقام القلوب لتفهّمها دلائله، وقيل: هو من قولهم تجبّر النخل إذا علا وفات اليد كما قال: [الطويل] 479-
أطافت به جيلان عند قطاعه ... وردّت عليه الماء حتّى تجبّرا
«1» فقيل: جبار لأنه لا يدركه أحد الْمُتَكَبِّرُ أي العالي فوق خلقه سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ نصبت سبحان على أنه مصدر مشتقّ من سبّحته أي نزّهته وبرّأته مما يقول المشركون، وهو إذا أفردته يكون معرفة ونكرة فإن جعلته نكرة صرفته فقلت سبحانا وإن جعلته معرفة كما قال: [السريع] 480-
أقول لمّا جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
«2»
[سورة الحشر (59) : آية 24]
هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ معنى خلق الشيء قدره كما قال: [الكامل] 481-
ولأنت تفري ما خلقت وبعض ... القوم يخلق ثم لا يفري
«3»
__________
(1) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 58، وجمهرة اللغة 1044، ومقاييس اللغة 1/ 499، ومجمل اللغة 1/ 457، وبلا نسبة في اللسان (جيل) وتهذيب اللغة 11/ 191، والمخصص 16/ 30.
(2) الشاهد للأعشى في ديوانه 193، والكتاب 1/ 388، وأساس البلاغة (سبح) ، والأشباه والنظائر 2/ 109، وجمهرة اللغة 278، وخزانة الأدب 1/ 185، والخصائص 2/ 435، والدرر 3/ 70، وشرح أبيات سيبويه 1/ 157، وشرح شواهد المغني 2/ 905.
(3) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 94، والكتاب 4/ 299، والدرر 6/ 297، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 471، وشرح أبيات سيبويه 2/ 344، وشرح شواهد الإيضاح 270، وشرح المفصّل 9/ 79، ولسان العرب (خلق) و (فرا) ، والمنصف 2/ 74، وبلا نسبة في شرح شافية ابن الحاجب 2/ 302.(4/268)
إلّا أن محمد بن إبراهيم بن عرفة قال: معنى خلق الله الشيء قدّره مخترعا على غير أصل بلا زيادة ولا نقصان فلهذا ترك استعماله الناس هذا معنى قوله: الْبارِئُ قيل: معنى البارئ الخالق، وهذا فيه تساهل لضعف من يقوله في العربية أو على أن يتساهل فيه لأنه قبله الخالق، وحقيقة هذا أن معنى برأ الله الخلق سوّاهم وعدّلهم ألا ترى اتساق الكلام أن قبله خلق أي قدّر وبعده برى أي عدّل وسوّى وبعده الْمُصَوِّرُ فالصورة بعد هذين، وقد قيل: إن المصور مشتق من صار يصير، ولو كان كذا لكان بالياء، ولكنه مشتق من الصورة وهي المثال. لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. قال أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لله تسعة وتسعون اسما» «1» يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لأنه دالّ على أن له محدثا ومدبّرا لا نظير له فقد صار بهيئته يسبّح لله أي منزّها له عن الأشياء وَهُوَ الْعَزِيزُ أي في انتقامه ممن كفر به الْحَكِيمُ فيما خلقه لأن حكمته لا يرى فيها خلل، وقيل: الحكيم بمعنى الحاكم.
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 314، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 2/ 21، والسيوطي في الدر المنثور 3/ 148، والبيهقي في الأسماء والصفات 15.(4/269)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
60 شرح إعراب سورة الممتحنة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الممتحنة (60) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1)
أي نداء مفرد والَّذِينَ من نعته في موضع رفع، وبعض النحويين يجيز النصب على الموضع وقال بعضهم: «أيّ» اسم ناقص وما بعده صلة له، وهذا خطأ على قول الخليل وسيبويه «1» ، والقول عندهما أنه اسم تام إلا أنه لا بدّ له من النعت مثل «من» و «ما» إذا كانتا نكرتين، وأنشد سيبويه: [الكامل] 482-
فكفى بنا فضلا على من غيرنا ... حبّ النّبيّ محمّد إيّانا
«2» قوله غيرنا نعت لمن لا يفارقه. لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ بمعنى أعدائي فعدوّ يقع للجميع والواحد والمؤنث على لفظ واحد، لأنه غير جار على الفعل، وإن شئت جمعته وأنثته. أَوْلِياءَ مفعول ثان ولم يصرف أولياء لأن في اخره ألفا زائدة وكلّ ما كان في اخره ألف زائدة فهو لا ينصرف في معرفة ولا نكرة نحو عرفاء وشهداء وأصدقاء وأصفياء ومرضى، وتعرف أن الألف زائدة أن نظر فعله فإن وجدت بعد اللام من فعله ألفا فهي زائدة. ألا ترى أن عرفاء فعلاء وأصفياء أفعلاء فبعد اللام ألف، وكذلك مرضى فعلى وما كان من الجمع سوى هذا من الجمع فهو ينصرف نحو غلمان ورجال وأعدال وفلوس وشباب إلّا أن أشياء وحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة لثقل التأنيث فاستثقلوا أن يزيدوا التنوين مع زيادة حرف التأنيث لأنها أريد بها أفعلاء نحو أصدقاء كأنهم أرادوا أشياء، وهو الأصل فثقل لاجتماع الياء والهمزتين فحذفوا إحدى
__________
(1) انظر الكتاب 2/ 190.
(2) مرّ الشاهد رقم (30) .(4/270)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
الهمزتين، وما أشبهها مصروف في المعرفة والنكرة نحو أسماء وأحياء وأفياء ينصرف لأنه أفعال فمن ذلك أعدال وأجمال، وكذلك عدوّ وأعداء مصروف، وكذلك قوله تعالى: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً مصروف لأنه أفعال ليس فيه ألف زائدة: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ مذهب الفراء أن الباء زائدة وأن المعنى تلقون إليهم المودة. قال أبو جعفر: «تلقون» في موضع نصب على الحال، ويكون في موضع نعت لأولياء. قال الفراء «1» : كما تقول: لا تتّخذ رجلا تلقي إليه كلّ ما عندك. وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ عطف على الرسول أي ويخرجونكم أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ في موضع نصب أي لأن تؤمنوا وحقيقته كراهة أن تؤمنوا بالله ربّكم. إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي نصبت جهادا لأنه مفعول من أجله أو على المصدر أي إن كنتم خرجتم مجاهدين في طريقي الذي شرعته وديني الذي أمرت به وابْتِغاءَ مَرْضاتِي عطف تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ مثل تلقون. وَأَنَا أَعْلَمُ قراءة أهل المدينة يثبتون الألف في الإدراج، وقراءة غيرهم وأن أعلم بحذف الألف في الإدراج وهذا هو المعروف في كلام العرب لأن الألف لبيان الحركة فلا تثبت في الإدراج، لأن الحركة قد ثبتت وأَعْلَمُ بمعنى عالم كما يقال: الله أكبر الله أكبر بمعنى كبير، ويجوز أن يكون المعنى وأنا أعلم بكم بما أخفاه بعضكم من بعض وبما أعلنه وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ ومن يلق إليهم بالمودة ويتخذهم أولياء فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي عن قصد طريق الجنة ومحجّتها.
[سورة الممتحنة (60) : آية 2]
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً شرط ومجازاة فلذلك حذفت النون وكذا وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ تمّ الكلام.
[سورة الممتحنة (60) : آية 3]
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ لأن أولادهم وأقرباءهم كانوا بمكة فلذلك تقرّب بعضهم إلى أهل مكّة وأعلمهم الله جلّ وعزّ أنّهم لن ينفعوهم يوم القيامة. يكون العامل في الظرف على هذا لن تنفعكم ويكون يفصل بينكم في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون العامل في الظرف يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ «2» وهذه قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة، وقد عرف أن المعنى يفصل الله جلّ وعزّ بينكم، وقرأ عبد الله بن عامر
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 149.
(2) انظر تيسير الداني 170 (قرأ عامر «يفصل» بفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الصاد مخفّفة، وابن عامر بضمّ الياء وفتح الفاء والصاد مشدّدة، وحمزة والكسائي كذلك إلّا أنهما كسرا الصاد، والباقون بضمّ الياء وإسكان الفاء وفتح الصاد مخفّفة) .(4/271)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
يفصّل على التكثير، وقرأ عاصم يفصل وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي يفصّل بينكم على تكثير يفصل وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ مبتدأ وخبره.
[سورة الممتحنة (60) : آية 4]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وحكى الفراء في جمعها أسى بضمّ في الجمع، وإن كانت الواحدة مكسورة ليفرق بين ذوات الواو وذوات الياء، وعند البصريين أنه يجوز الضم على تشبيه فعلة بفعلة، ويجوز الكسر على الأصل فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ قال عبد الرحمن بن زيد: الَّذِينَ مَعَهُ الأنبياء عليهم السلام قالُوا لِقَوْمِهِمْ أي حين قالوا لقومهم إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ هذه القراءة المعروفة التي قرأ بها الأئمة كما تقول: كريم وكرماء، وأجاز أبو عمرو وعيسى إنا براء منكم «1» وهي لغة معروفة فصيحة كما تقول: كريم وكرام، وأجاز الفراء إنا برآء منكم. قال أبو جعفر: وهذا صحيح في العربية يكون برآء في الواحد والجميع على لفظ واحد، مثل إنني برآء منكم وحقيقته في الجمع أنا ذوو برآء. كما تقول: قوم رضى فهذه ثلاث لغات معروفة وحكى الكوفيون لغة رابعة. وحكي أن أبا جعفر قرأ بها وهو أنا برآء منكم على تقدير براع وهذه لا تجوز عند البصريين لأنه حذف شيء لغير علة. قال أبو جعفر: وما أحسب هذا عن أبي جعفر إلا غلطا لأنه يروى عن عيسى أنه قرأ بتخفيف الهمزة أنّا برأ وأحسب أن أبا جعفر قرأ كذا. وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ معطوف بإعادة حرف الخفض، كما تقول: أخذته منك ومن زيد، ولا يجوز أخذته منك وزيد. ألا ترى كيف السواد فيه ومما، ولو كان على قراءة من قرأ والأرحام [النساء: 1] لكان: وما تعبدون من دون الله بغير من كَفَرْنا بِكُمْ أي أنكرنا كفركم. وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً لأنه تأنيث غير حقيقي أي لا نودكم. حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ استثناء ليس من الأول أي لا تستغفروا للمشركين وتقولوا يتأسّى بإبراهيم صلّى الله عليه وسلّم إذ كان إنما فعل ذلك عن موعدة وعدها إياه قيل: وعده أنه يظهر إسلامه ولم يستغفر له إلا بعد أن أسلم.
وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي ما أقدر أن أدفع عنك عذابه وعقابه. رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا في معناه قولان: أحدهما أن هذا قول إبراهيم ومن معه من الأنبياء، والآخر أن المعنى:
قولوا ربنا عليك توكّلنا أي وكلنا أمورنا كلّها إليك، وقيل: معنى التوكل على الله جلّ وعزّ أن يعبد وحده ولا يعبى ويوثق بوعده لمن أطاعه. وَإِلَيْكَ أَنَبْنا أي رجعنا مما
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 149، والبحر المحيط 8/ 252.(4/272)
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
تكره إلى ما تحبّ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي مصيرنا ومصير الخلق يوم القيامة.
[سورة الممتحنة (60) : آية 5]
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: تقول: لا تسلّطهم علينا فيفتنونا وَاغْفِرْ لَنا ولا يجوز إدغام الراء في اللام لئلا يذهب تكرير الراء. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ في انتقامك ممن انتقمت منه الْحَكِيمُ في تدبير عبادك.
[سورة الممتحنة (60) : آية 6]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ولم يقل: كانت لأن التأنيث غير حقيقي معناه التأسي لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ أي ثوابه وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي نجاته وَمَنْ يَتَوَلَّ جزم بالشرط فلذلك حذفت منه الياء، والجواب فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
[سورة الممتحنة (60) : آية 7]
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
أَنْ يَجْعَلَ ومن العرب من يحذف «أن» بعد «عسى» قال ابن زيد: ففتحت مكة فكانت المودة بإسلامهم وَاللَّهُ قَدِيرٌ أي على أن يجعل بينكم وبينهم مودة. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن اتخذهم أولياء وألقى إليهم بالمودة إذا تاب رحيم به لمن يعذبه بعد التوبة. والرحمة من الله جلّ وعزّ قبول العمل والإثابة عليه.
[سورة الممتحنة (60) : آية 8]
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
قال أبو جعفر: قد ذكرناه. وليس لقول من قال: إنها منسوخة معنى: لأن البرّ في اللغة إنما هو لين الكلام والمواساة، وليس هذا محظورا أن يفعله أحد بكافر. وكذا الإقساط إنما هو العدل والمكافأة بالحسن عن الحسن. ألا ترى أن بعده إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وأن في موضع خفض على البدل من الَّذِينَ ويجوز أن يكون في موضع نصب أي لا ينهاكم كراهة هذا.
[سورة الممتحنة (60) : آية 9]
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
أَنْ تَوَلَّوْهُمْ والأصل تتولّوهم. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ أي ينصرهم ويودّهم فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي الذين جعلوا المودة في غير موضعها. والظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه.(4/273)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
[سورة الممتحنة (60) : آية 10]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ على تذكير الجمع مُهاجِراتٍ نصب على الحال. فَامْتَحِنُوهُنَّ، أي اختبروهن هل خرجن لسبب غير الرغبة في الإسلام اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ أي منكم ثم حذف لعلم السامع فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ مفعول ثان. فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ وذلك لسبب هدنة كانت بينهم. لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ لأنه لا تحلّ مسلمة لكافر بحال. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي له أن ينكحها إذا أسلمت وزوجها كافر، لأنه قد انقطعت العصمة بينهما وذلك بعد انقضاء العدة، وكذا إذا ارتدّ وأتوهم ما أنفقوا، وهو المهر وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وقرأ أبو عمرو ولا تمسكوا «1» يكون بمعناه أو على التكثير، وعن الحسن ولا تمسّكوا «2» والأصل تتمسّكوا حذفت التاء لاجتماع التاءين، وعصم جمع عصمة يقال: أخذت بعصمتها أي بيدها، وهو كناية عن الجماع، والْكَوافِرِ جمع كافرة مخصوص به المؤنث.
وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا وذلك في المهر ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قال الزهري: فقال المسلمون رضينا بحكم الله جلّ وعزّ وأبى الكفار أن يرضوا بحكم الله ويقرّوا أنه من عنده.
[سورة الممتحنة (60) : آية 11]
وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
في معناه قولان، قال الزهري: الكفار هاهنا هم الذين كانت بينهم وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الذمة، وقال مجاهد وقتادة: هم أهل الحرب ممن لا ذمّة له فَعاقَبْتُمْ وقرأ حميد الأعرج وعكرمة فعقّبتم «3» هما عند الفراء بمعنى واحد، مثل «ولا تصاعر» وَلا تُصَعِّرْ [لقمان: 18] وحكي أنّ في حرف عبد الله وإن فاتكم أحد من أزواجكم وإذا كان للناس صلح فيه أحد وشيء، وإذا كان لغير الناس لم يصلح فيه أحد، وعن مجاهد فأعقبتم «4» وكله مأخوذ من العاقبة، والعقبى وهو ما يلي الشيء.
__________
(1) انظر تيسير الداني 170 (قرأ أبو عمرو مشدّدا، والباقون مخفّفا) .
(2) انظر البحر المحيط 8/ 254، والإتحاف 256. [.....]
(3) نظر البحر المحيط 8/ 255.
(4) نظر البحر المحيط 8/ 255.(4/274)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا اختلف العلماء في حكمها فقال الزهري أيعطي الذي ذهبت امرأته إلى الكفار الذين لهم ذمّة مثل صداقها ويؤخذ ممن تزوج امرأة ممن جاءت منهم فتعطاه، وقال مسروق ومجاهد وقتادة: بل يعطى من الغنيمة. قال أبو جعفر:
وهذا التأويل على أن تذهب امرأته إلى أهل الحرب ممن لا ذمّة له. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ أي اتّقوه فيما أمركم به ونهاكم عنه.
[سورة الممتحنة (60) : آية 12]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ في موضع نصب على الحال. عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً أي على ألا يعبدن معه غيره ولا يتّخذن من دونه إلها ويُشْرِكْنَ في موضع نصب بأن، ويجوز أن يكون في موضع رفع بمعنى على أنهنّ، وكذا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ وهذا الفعل كله مبني فلذلك كان رفعه ونصبه وجزمه كله واحدا، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ يقول: لا ينحن، وقال ابن زيد: لا يعصينك في كل ما تأمرهنّ به من الخير فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ولا يجوز إدغام الراء في اللام ويجوز الإخفاء، وهو الصحيح عن أبي عمرو، ويتوهّم من سمعه أنه إدغام.
[سورة الممتحنة (60) : آية 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قال ابن زيد: هم اليهود. قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ «1» مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ قد ذكرناه. فمن أحسن ما قيل فيه، وهو معنى قول ابن زيد، وقد يئسوا من ثوب الآخرة لأنهم كفروا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجحدوا صفته، وهي مكتوبة عندهم، وقد وقفوا عليها، كما يئس الكفار الذين قد ماتوا من ثواب الآخرة أيضا، لأنهم قد كفروا وجحدوا لكفر هؤلاء.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 256 (قرأ ابن أبي الزناد «الكافر» على الإفراد، والجمهور على الجمع) .(4/275)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
61 شرح إعراب سورة الصف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الصف (61) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
قال أبو جعفر: قوله سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي أذعن له وانقاد ما أراد جلّ وعزّ فهذا داخل فيه كل شيء لأن ما عامة في كلام العرب. وَهُوَ الْعَزِيزُ في انتقامه ممن عصاه. الْحَكِيمُ في تدبيره.
[سورة الصف (61) : آية 2]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2)
لِمَ الأصل لما حذف الألف لاتصال الكلمة بما قبلها وأنه استفهام.
[سورة الصف (61) : آية 3]
كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3)
نصبت مَقْتاً على البيان والفاعل مضمر في كبر أي كبر ذلك القول أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ «أن» في موضع رفع بالابتداء أو على إضمار مبتدأ والذي يخرج من هذا ألّا يقول أحد شيئا إلا ما يعتقد أن يفعله، ويقول: إن شاء الله لئلا يخترم دونه.
[سورة الصف (61) : آية 4]
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
والمحبة منه جلّ وعزّ قبول العلم والإثابة عليه. صَفًّا في موضع الحال قيل:
فدلّ بهذا على أن القتال في سبيل الله جلّ وعزّ والإنسان راجلا أفضل منه راكبا.
كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ أي قد أحكم وأتقن فليس فيه شيء يزيد على شيء، وقيل:
مرصوص مبني بالرصاص.
[سورة الصف (61) : آية 5]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ أي واذكر. يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي نداء مضاف وحذفت(4/276)
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)
الياء، لأن النداء موضع حذف. وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ والأصل أنّني فَلَمَّا زاغُوا أي مالوا عن الحقّ. أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ مجازاة على فعلهم، وقيل: أزاغ قلوبهم عن الثواب. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي لا يوفق للصواب من خرج من الإيمان إلى الكفر. روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأبي أمامة أنّ هؤلاء هم الحرورية.
[سورة الصف (61) : آية 6]
وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
أي واذكر هذا. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ منصوب على الحال، وكذا وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وابن كثير، وقراءة ابن محيصن وحمزة والكسائي من بعد اسمه أحمد حذف الياء في الوصل لسكونها وسكون السين بعدها، وهو اختيار أبي عبيد، واحتج في حذفها بأنك إذا ابتدأت قلت:
اسمه فكسرت الهمزة. وهذا من الاحتجاج الذي لا يحصل منه معنى، والقول في هذا عند أهل العربية أن هذه ياء النفس فمن العرب من يفتحها ومنهم من يسكّنها، قد قرئ بهاتين القراءتين، وليس منهما إلّا صواب غير أن الأكثر في ياء النفس إذا كان بعدها ساكن أن تحرّك لئلا تسقط وإذا كان بعدها متحرك أن تسكّن، ويجوز في كلّ واحدة منهما ما جاز في الأخرى. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي فلما جاءهم أحمد بالبيّنات أي بالبراهين والآيات الباهرة قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ «1» .
[سورة الصف (61) : آية 7]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)
أي ومن أشدّ ظلما ممّن قال لمن جاءه بالبيّنات هو ساحر، وهذا سحر مبين أي مبين لمن راه أنه سحر. وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وهو إذا دعي إلى الإسلام قال: هذا سحر مبين، وقراءة طلحة وهو يدّعي إلى الإسلام «2» وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وهم الذين يقولون في البيّنات هذا سحر مبين.
[سورة الصف (61) : آية 8]
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8)
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ أي بقولهم هذا. وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ أي مكمل الإسلام ومعليه. هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ ابن كثير والأعمش وحمزة والكسائي متمّ نوره والأصل التنوين والحذف على التخفيف وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ وحذف المفعول.
__________
(1) انظر تيسير الداني 83، والبحر المحيط 8/ 259.
(2) انظر المحتسب 2/ 321، والبحر المحيط 8/ 259.(4/277)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
[سورة الصف (61) : آية 9]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
قول أبي هريرة في هذا: أنه يكون إذا نزل المسيح صلّى الله عليه وسلّم وصار الدّين كلّه دين الإسلام.
[سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
قال قتادة: فلولا أنه بيّن التجارة لطلبت قال: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وكان أبو الحسن علي بن سليمان يذهب إلى هذا ويقول «تؤمنون» على عطف البيان الذي يشبه البدل، وحكى لنا عن محمد بن يزيد أن معنى «تؤمنون» آمنوا على جهة الإلزام. قال أبو العباس: والدليل على ذلك يَغْفِرْ لَكُمْ جزم لأنه جواب الأمر وعطف عليه وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.
فأما قول الأخفش سعيد: إنّ وَأُخْرى في موضع خفض على أنه معطوف على تجارة فهو يجوز، وأصحّ منه قول الفراء: إنّ «أخرى» في موضع رفع بمعنى ولكم أخرى يدلّ على ذلك نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ بالرفع ولم يخفضا وعلى قول الأخفش الرفع بإضمار مبتدأ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي بالنصر والفتح. والنصر في اللغة المعونة.
[سورة الصف (61) : آية 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ قراءة أهل المدينة وأبي عمرو، وقرأ الكوفيون كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ بالإضافة وهو اختيار أبي عبيد وحجته في ذلك قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ ولم يقولوا: أنصار الله. وهذه الحجة لا تلزم لأنها مختلفان لأن الأول كونوا ممن ينصرون الله فمعنى هذا النكرة فيجب أن يكون أنصارا لله وإن كانت الإضافة فيه تجوز أي كونوا الذين يقال لهم: هذا، والثاني معناه المعرفة. ألا ترى أنك إذا قلت: فلان ناصر لله فمعناه ممن يفعل هذا، وإذا عرفته فمعناه المعروف بهذا، كما قال: [البسيط] 483-
هو الجواد الذي يعطيك نائله ... حينا ويظلم أحيانا فيظّلم
«1»
__________
(1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 152، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 219، والكتاب 4/ 600، وسمط اللئالي ص 467، وشرح أبيات سيبويه 2/ 403، وشرح التصريح 2/ 391، وشرح شواهد الشافية 493، وشرح المفصّل 10/ 47، 149، ولسان العرب (ظلم) ، والمقاصد النحوية 4/ 582، وبلا نسبة في الخصائص 2/ 141، وشرح الأشموني 3/ 873، وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 189، ولسان العرب (ظنن) .(4/278)
فأما قول القتبي معنى مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي مع الله فلا يصحّ ولا يجوز: قمت إلى زيد مع زيد. قال أبو جعفر: وتقديره من يضم نصرته إياي إلى نصرة الله إياي فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ قد بيّناه قال مجاهد: فَأَيَّدْنَا فقوّينا. قال إبراهيم النخعي في معنى فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أيّدهم الله محمد صلّى الله عليه وسلّم وتصديقه إياهم أن عيسى صلّى الله عليه وسلّم كلمة الله.(4/279)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
62 شرح إعراب سورة الجمعة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)
يُسَبِّحُ يكون للمستقبل والحال. الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ نعت. وفيه معنى المدح، ويجوز النصب في غير القرآن بمعنى أعني، ويجوز الرفع على إضمار مبتدأ، ويجوز على غير إضمار ترفعه بالابتداء والذي الخبر، وقد يكون التقدير هو الملك القدوس ويكون الَّذِي نعتا للملك فإذا خفضت كان هُوَ مرفوعا بالابتداء والَّذِي خبره، ويجوز أن يكون «هو» مرفوعا على أنه توكيد لما في الحكيم ويكون «الذي» نعتا للحكيم بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ داخل في الصلة يَتْلُوا عَلَيْهِمْ في موضع نصب أي تاليا عليهم نعت لرسول وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ معنى يزكيهم يدعوهم إلى طاعة الله عزّ وجلّ فإذا أطاعوه فقد تزكّوا وزكّاهم وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ويجوز إدغام اللام في اللام.
[سورة الجمعة (62) : آية 3]
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ في موضع خفض لأنه عطف على الأميين، ويجوز أن يكون في موضع نصب معطوفا على «هم» من يعلّمهم أو على «هم» من يزكيهم، ويجوز أن يكون معطوفا على معنى يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي يعرّفهم بها لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ. قال ابن زيد:
أي لمن يأتي من العرب والعجم إلى يوم القيامة، وقال مجاهد: لمن ردفهم من الناس كلّهم. قال أبو جعفر: هذا أصحّ ما قيل به لأن الآية عامة ولمّا هي «لم» زيدت إليها «ما» توكيدا. قال سيبويه «1» : «لمّا» جواب لمن قال: قد فعل، و «لم» جواب لمن قال:
__________
(1) انظر الكتاب 4/ 135.(4/280)
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)
فعل. قال أبو جعفر: إلّا أن الجازم عند الجميع لم ولذلك حذفت النون. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ومن أسكن الهاء قال: الضمة ثقيلة وقد اتصل الكلام بما قبله.
[سورة الجمعة (62) : آية 4]
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أي ذلك الذي أعطيه هؤلاء تفضل من الله جلّ وعزّ يؤتيه من يشاء. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أي لا يذمّ في صرف من صرفه عنه، لأنه لم يمنعه حقّا له قبله ولا ظلمه بمنعه إياه ولكنه علم أن غيره أولى به منه فصرفه إليه.
[سورة الجمعة (62) : آية 5]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ أي حملوا القيام بها والانتهاء إلى ما فيها. ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها أي لم يفعلوا ذلك كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً «يحمل» في موضع نصب على الحال أي حاملا فإن قيل: فكيف جاز هذا ولا يقال: جاءني غلام هند مسرعة؟ فالجواب أنّ المعنى مثلهم مثل الّذين حملوا التوراة، وزعم الكوفيون أنّ يحمل صلة للحمار، لأنه بمنزلة النكرة وهم يسمون نعت النكرة صلة ثمّ نقضوا هذا فقالوا: المعنى كمثل الحمار حاملا أسفارا. بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي هذا المثل ثم حذف هذا، لأنه قد تقدم ذكره. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ المعنى لا يوفقّهم ولا يرشدهم إذ كان في علمه أنّهم لا يؤمنون، وقيل: لا يهديهم إلى الثواب.
[سورة الجمعة (62) : آية 6]
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6)
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا يقال: هاد يهود إذا تاب وإذا رجع. إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ أي سواكم فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إن كنتم صادقين أنكم أولياء فإنه لا يعذّب أولياءه فتمنّوه لتستريحوا من كرب الدنيا وهمّها وغمّها وتصيروا إلى روح الجنة.
[سورة الجمعة (62) : آية 7]
وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)
وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً فكان حقا كما قال جلّ وعزّ وكفّوا عن ذلك. بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي من الآثام. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أي ذو علم بمن ظلم نفسه فأوبقها وأهلكها بالكفر.(4/281)
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
[سورة الجمعة (62) : آية 8]
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ أي تأبون أن تتمنوه. الَّذِي في موضع نصب نعت للموت. فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ خبر إن وجاز أن تدخل الفاء ولا يجوز: إنّ أخاك فمنطلق لأن في الكلام معنى الجزاء، وأجاز الكوفيون «1» : إنّ ضاربك فظالم لأن في الكلام معنى الجزاء عندهم، وفيه قول أخر ويكون الذي تفرون منه خبر إن الموت هو الذي تفرون منه ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ عطف جملة على جملة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ عطف على تردون.
[سورة الجمعة (62) : آية 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
وقرأ الأعمش الْجُمُعَةِ «2» بإسكان الميم ولغة بني عقيل «من يوم الجمعة» بفتح الميم فمن قرأ الْجُمُعَةِ «3» قدّره تقديرات منها أن يكون الأصل الجمعة ثمّ حذف الضمة لثقلها، ويجوز أن تكون هذه لغة بمعنى تلك، وجواب ثالث يكون مسكنا لأن التجميع فيه فهو يشبه المفعول به كما يقال: رجل هزأة أي يهزأ به ولحنة أي يلحن ومن قال: الْجُمُعَةِ نسب الفعل إليها أي يجمع للناس، كما يقال: رجل لحنة أي يلحّن الناس وقراء أي يقرئ الناس. فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ قال قتادة: أي بقلوبكم وأعمالكم أي امضوا وَذَرُوا الْبَيْعَ ولا يقال في الماضي: وذر. قال سيبويه «4» : استغنوا عنه بترك، وقال غيره: لأن الواو ثقيلة فعدّلوا إلى ترك لأن معناه ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي السعي إلى ذكر الله. قال سعيد بن المسيب: وهي الخطبة خير لكم من البيع والشراء.
قال الضحّاك: إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء، وقال غيره: ظاهر القرآن يدلّ على أن ذلك إذا أذّن المؤذّن والإمام على المنبر. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما فيه منفعتكم ومضرتكم.
[سورة الجمعة (62) : آية 10]
فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
أي صلاة الجمعة. فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ أي أن شئتم يدلّ على ذلك ما قبله، وإن أهل التفسير قالوا: هو إباحة وفي الحديث عن أنس بن مالك مرفوعا فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ قال أبو جعفر: لعيادة مريض أو شهود جنازة أو زيارة أي في الله.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 156.
(2) وهذه قراءة أبي عمرو وزيد بن علي أيضا، وهي لغة تميم، انظر البحر المحيط 8/ 264.
(3) هذه قراءة الجمهور بضم الميم، انظر البحر المحيط 8/ 264.
(4) انظر الكتاب 4/ 226.(4/282)
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
وظاهر الآية يدلّ على إباحة الانتشار في الأرض لطلب رزق في الدنيا أو ثواب في الآخرة. وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي لما عليكم ووفّقكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي تدخلون الجنة فتقيمون فيها، والفلاح البقاء.
[سورة الجمعة (62) : آية 11]
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها اختلف العلماء في اللهو هاهنا، فروى سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: كانت المرأة إذا أنكحت حرّكت لها المزامير فابتدر الناس إليها فأنزل الله جلّ وعزّ هذا. وقال مجاهد: اللهو الطبل. قال أبو جعفر: والقول الأول أولى بالصواب لأن جابرا مشاهد للتنزيل، ومال الفرّاء «1» إلى القول الثاني لأنهم فيما ذكر كانوا إذا وافت تجارة ضربوا لها بطبل، فبدر الناس إليها. وكان الفرّاء يعتمد في كتابه في المعاني على الكلبيّ والكلبي متروك الحديث. فأما قوله جلّ وعزّ انْفَضُّوا إِلَيْها ولم يقل: إليهما فتقديره على قول محمد بن يزيد وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها ثمّ عطف الثاني على الأول فدخل فيما دخل فيه. وزعم الفرّاء «2» أن الاختيار أن يعود الضمير على الثاني، ولو كان كما قال فكان انفضوا إليه، ولكنه يحتجّ في هذا بأن المقصود التجارة. وهذا كله جائز أن يعود على الأول أو على الثاني أو عليهما. قال جلّ وعزّ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
[النساء: 112] فعاد الضمير على الثاني، وقال جلّ وعزّ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما [النساء: 135] فعاد عليهما جميعا وَتَرَكُوكَ قائِماً نصب على الحال أي قائما تخطب. قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ أي ما عنده من الثواب.
وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي فإيّاه فاسألوا وإليه فارغبوا أن يوسّع عليكم.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 157.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 157.(4/283)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)
63 شرح إعراب سورة المنافقين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المنافقون (63) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1)
إِذا في موضع نصب بجاءك إلا أنها غير معربة لتنقّلها وفي اخرها ألف، والألف لا تحرّك، وجواب إذا قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ كسرت «إن» لدخول اللام وانقطع الكلام فصارت إنّ مبتدأة فكسرت وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ وأعيد اسم الله تعالى ظاهرا لأن ذلك أفخم قيل: أكذبهم الله جلّ وعزّ في ضميرهم. ومن أصحّ ما قيل في ذلك أنّهم أخبروا أنّ أنفسهم تعتقد الإيمان وهم كاذبون فأكذبهم الله.
[سورة المنافقون (63) : آية 2]
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2)
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً قال الضّحاك: هو حلفهم بالله أنّهم لمنكم، وقال قتادة: جنّة إنّهم يعصمون به دماءهم وأموالهم، وقرأ الحسن اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ «1» أي تصديقهم سترة يستترون به كما يستتر بالجنّة في الحرب فامتنع من قتلهم وسبي ذراريهم لأنهم أظهروا الإيمان فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يجوز أن يكون المفعول محذوفا أي صدّوا الناس، ويجوز أن يكون الفعل لازما أي أعرضوا عن سبيل الله أي دينه الذي ارتضاه وشريعته التي بعث بها نبيّه صلّى الله عليه وسلّم إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من حلفهم على الكذب ونفاقهم، و «ما» في موضع رفع على قول سيبويه أي ساء الشيء وفي موضع نصب على قول الأخفش أي ساء شيئا يعملون.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 267 (قرأ الجمهور «أيمانهم» بفتح الهمزة، والحسن بكسرها مصدر أمن) . [.....](4/284)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
[سورة المنافقون (63) : آية 3]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3)
ذلِكَ في موضع رفع أي ذلك الحلف والنفاق من أجل أنهم. آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فطبع على قلوبهم، ويجوز إدغام العين في العين، وترك الأدغام أجود لبعد مخرج العين فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ حقّا من باطل ولا صوابا من خطأ لغلبة الهوى عليهم.
[سورة المنافقون (63) : آية 4]
وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وأجاز النحويون جميعا الجزم بإذا وان تجعل بمنزلة حروف المجازاة لأنها لا تقع إلّا على فعل وهي تحتاج إلى جواب وهكذا حروف المجازاة، وأنشد الفرّاء: [الكامل] 484-
واستغن ما أغناك ربّك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتجمّل
«1» وأنشد الآخر: [البسيط] 485-
نارا إذا ما خبت نيرانهم تقد
«2» والاختيار عند الخليل وسيبويه والفرّاء «3» أن لا يجزم بإذا لأن ما بعدها موقت فخالفت حروف المجازاة في هذا، كما قال: [الكامل] 486-
وإذا تكون شديدة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
«4» وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ لأن منطقهم كمنطق أهل الإيمان كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ أي لا يفهمون ولا عندهم فقه ولا علم، فهم كالخشب، وهذه قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وعاصم وحمزة، وقرأ أبو عمرو والأعمش والكسائي خشب «5» بإسكان الشين وإليه يميل أبو عبيد، وزعم أنه لا يعرف فعلة تجمع على فعل بضم الفاء والعين. قال أبو جعفر: وهذا غلط وطعن على ما روته الجماعة وليس يخلو ذلك من إحدى جهتين إمّا أن يكون خشب جمع خشبة كقولهم: ثمرة وثمر فيكون غير ما قال من جمع فعلة على فعل، أو يكون كما قال حذّاق النحويين خشبة وخشاب مثل جفنة وجفان وخشاب
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (103) .
(2) الشاهد لعبد قيس بن خفاف الدرر 3/ 102، وشرح اختيارات المفضّل ص 1558، وشرح شواهد المغني 1/ 271، ولسان العرب (كرب) والمقاصد النحوية 2/ 203، ولحارثة بن بدر الغداني في أمالي المرتضى 1/ 383، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 335، وشرح الأشموني 3/ 583، وشرح عمدة الحافظ 374، ومغني 1/ 93، وهمع الهوامع 1/ 206.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 158.
(4) الشاهد لابن أحمر الكناني في الأزهية ص 185، ولسان العرب (حيس) ، وتاج العروس (حيس) ، وبلا نسبة في شرح المفضل 2/ 110، وكتاب اللامات ص 106، وتاج العروس (حيس) .
(5) انظر تيسير الداني 171.(4/285)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)
وخشب مثل حمار وحمر أيضا فقد سمع أكمة وأكم وأكم وأجمة وأجم. فأما خشب فقد يجوز أن يكون الأصل فيه خشبا حذفت الضمة لثقلها، ويجوز وهو أجود أن يكون مثل أسد وأسد في المذكر. قال سيبويه ومثل خشبة وخشب بدنة وبدن ومثل مذكّرة وثن ووثن قال: وهي قراءة، وأحسب من تأول على سيبويه، وهي قراءة يعني «كأنّهم خشب» لأن قوله: وهي قراءة تضعيف لها ولكنه يريد فيما يقال: «إن تدعون من دونه إلّا وثنا» فهذه قراءة شاذة تروى عن ابن عباس يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ أي لجبنهم وقلة يقينهم وإنهم يبطنون الكفر كلما نزل الوحي فزعوا أن يكونوا قد فضحوا. هُمُ الْعَدُوُّ لأن ألسنتهم معكم وقلوبهم مع الكفار فهم عين لهم وعدو بمعنى أعداء. فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أي عاقبهم فأهلكهم فصاروا بمنزلة من قتل. أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي من أين يصرفون عن الحق بعد ظهور البراهين.
[سورة المنافقون (63) : آية 5]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ هذا على إعمال الفعل الثاني كما تقول:
أقبل يكلمك زيد فإن أعملت الأول قلت أقبل يكلمك إلى زيد، وتعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ يكون للقليل ولوّوا على التكثير. وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ في موضع الحال. وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أي معرضون عن المصير إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليستغفر لهم.
[سورة المنافقون (63) : آية 6]
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6)
سَواءٌ عَلَيْهِمْ رفع بالابتداء: أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ في موضع الخبر، والمعنى الاستغفار وتركه. لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لأنهم كفار وإنّما استغفر لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأن ظاهرهم الإسلام فمعنى استغفاره لهم اللهم اغفر لهم إن كانوا مؤمنين إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ قيل: أي لا يوفّقهم، وقيل: لا يهديهم إلى الثواب والجنّة.
[سورة المنافقون (63) : آية 7]
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7)
يَنْفَضُّوا أي يتفرقوا. قال قتادة: الذي قال هذا عبد الله بن أبيّ، قال: لولا أنكم تنفقون عليهم لتركوه وخلّوا عنه. قال أبو الحسن علي بن سليمان: «هم» كناية عنهم وعن من قال بقوله. قال أبو جعفر: وهذا أحسن من قوله من قال «هم» كناية عن واحد. وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي بيده مفاتيح خزائن السماوات والأرض فلا(4/286)
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)
يعطي أحد أحدا شيئا إلا بإذنه ولا يمنعه إلا بمشيئته. وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ أن ذلك كذا، فلهذا يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضوا.
[سورة المنافقون (63) : آية 8]
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وحكى الكسائي والفرّاء «1» أنه يقرأ لنخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ «2» بالنون وأن ذلك بمعنى لنخرجنّ الأعز منها ذليلا، وحكى الفرّاء: ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، بمعنى ذليلا أيضا وأكثر النحويين لا يجيز أن تكون الحال بالألف واللام غير أن يونس أجاز: مررت به المسكين، وحكى سيبويه «3» : دخلوا الأوّل فالأوّل، وهي أشياء لا يجوز أن يحمل القرآن عليها إلّا أن علي بن سليمان قال: يجوز أن يكون «ليخرجنّ» تعمل عمل لتكونن فيكون خبره معرفة، والأعز والعزيز واحد أي القوي الأمين المنيع كما قال: [الطويل] 487-
إذا ابتدر القوم السّلاح وجدتني ... عزيزا إذا بلّت بقائمة يدي
«4» ويروى «منيعا» والمعنى واحد. وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ أي فكذلك قالوا هذا.
[سورة المنافقون (63) : آية 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9)
أي لا توجب لكم اللهو كأنّه من ألهيته فلهي، كما قال: [الطويل] 488-
ومثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول
«5» وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي المغبونون الرحمة والثواب.
[سورة المنافقون (63) : آية 10]
وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)
وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ قيل: دلّ بهذا على أنه لا يقال رزقه الله جلّ وعزّ إلّا
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 160.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 270.
(3) انظر الكتاب 1/ 466.
(4) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه ص 38، وكتاب العين 8/ 319، وتاج العروس (بلل) وأساس البلاغة (بلل) .
(5) مرّ الشاهد رقم (385) .(4/287)
الحلال مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ جواب وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ عطف على موضع الفاء لا على ما بعد الفاء، وقرأ الحسن وابن محيصن وأبو عمرو وأكون «1» بالنصب عطفا على ما بعد الفاء وقد حكي أنّ ذلك في قراءة أبيّ وابن مسعود كذا وأكون إلّا أنه مخالف للسواد الذي قامت به الحجّة، وقد احتج بعضهم فقال: الواو تحذف من مثل هذا كما يقال: «كلمن» فتكتب بغير واو.
وحكي عن محمد بن يزيد معارضة هذا القول بأن الدليل على أنه ليس بصحيح أنّ كتب المصحف في نظيره على غير ذلك نحو يكون وتكون ونكون كلها بالواو في موضع الرفع والنصب ولا يجوز غير ذلك، وقال غيره: حكم «كلمن» غير هذا لأنه إنما حذف منه الواو لأنهم إنما أرادوا أن يروا أن صورة الواو متصلة فلما تقدّمت في «هوّز» لم تحتج إلى إعادتها وكذلك لم يكتبوها في قولهم «أبجد» فأما في الكلام فلا يجوز من هذا شيء، ولا يحتاج إليه لأن العطف على الموضع موجود في كلام العرب كثير. قال سيبويه: لو لم تكن الفاء لكان مجزوما يعني لأنه جواب الاستفهام الذي فيه معنى التمني، كما قال أنشد غير سيبويه: [الوافر] 489-
فأبلوني بليّتكم لعلّي ... أصالحكم وأستدرج نويّا
«2» وأنشد سيبويه في العطف على الموضع: [الطويل] 490-
فإن لم تجد من دون عدنان والدا ... ودون معدّ فلتزعك العواذل
«3» لأن معنى من دون عدنان دون عدنان، وأنشد: [الوافر] 491-
معاوي إنّنا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا
«4»
__________
(1) انظر تيسير الداني 171، والبحر المحيط 8/ 270.
(2) الشاهد لأبي دؤاد الإيادي في ديوانه 350، والخصائص 1/ 176، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 701، وشرح شواهد المغني 2/ 839، وللهذليّ في مغني اللبيب 2/ 477، وبلا نسبة في لسان العرب (علل) ، ومغني اللبيب 2/ 423.
(3) الشاهد للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 255، والكتاب 1/ 114، وأمالي المرتضى 1/ 171، وخزانة الأدب 2/ 252، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 131، وشرح أبيات سيبويه 1/ 22، وشرح شواهد المغني 1/ 151، والمعاني الكبير (1211) ، والمقاصد النحوية 1/ 8، والمقتضب 4/ 152، وبلا نسبة في رصف المباني ص 82، وشرح التصريح 1/ 288، وشرح شواهد المغني 2/ 866، والمحتسب 2/ 43، ومغني اللبيب 2/ 472.
(4) الشاهد لعقبة أو لعقيبة الأسدي في الكتاب 1/ 113، والإنصاف 1/ 332، وخزانة الأدب 2/ 260، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 131، وسمط اللآلي ص 148، وشرح أبيات سيبويه 300، وشرح شواهد المغني 2/ 870، ولسان العرب (غمز) ، ولعمر بن أبي ربيعة في الأزمنة والأمكنة 2/ 317، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 4/ 313، وأمالي ابن الحاجب ص 160، ورصف المباني 122. [.....](4/288)
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
وكذا قوله: [الكامل] 492-
لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب
«1» وكذا قوله: [السريع] 493-
لا نسب اليوم ولا خلّة ... اتّسع الخرق على الرّاقع
«2» على الموضع وإن جئت به على اللفظ قلت ولا خلّة ومثله من القرآن مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ [الأعراف: 186] على موضع الفاء وبالرفع على ما بعد الفاء، وأصل فأصّدّق فأتصدق أدغمت التاء في الصاد، وحسن ذلك لأنهما في كلمة واحدة ولتقاربهما، وروى الضحّاك عن ابن عباس «فأصّدّق» وأزكّي وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ أحجّ، وقال غيره: أكن من الصالحين أؤدي الفرائض وأجتنب المحارم، والتقدير: وأكن صالحا من الصالحين.
[سورة المنافقون (63) : آية 11]
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها نصب بلن عند سيبويه وعند الخليل الأصل «لا أن» وحكي عنه لا ينتصب فعل إلّا بأن مضمرة أو مظهرة، وردّ سيبويه ذلك بأنه يجوز:
زيدا لن أضرب، ولا يجوز: زيدا يعجبني أن تضرب، لأنه داخل في الصلة فلا يتقدّم.
قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: لا يجوز عندي: زيدا لن أضرب لأن «لن» لا يتصرّف فلا يتقدم عليها ما كان من سبب ما عملت فيه كما لا يجوز: زيدا إنّ عمرا يضرب، وكذا «لم» عنده، وحكيت هذا لأبي إسحاق فأنكره وقال: لم يقل هذا أحد، وزعم أبو عبيدة أن من العرب من يجزم بلن وهذا لا يعرف. يُؤَخِّرَ مهموز لأن أصله من أخّر وتكتب الهمزة واوا وإن كانت مفتوحة لعلتين إحداهما أن قبلها ضمة والضمة أغلب لقوتها، والأخرى أنه لا يجوز أن تكتب ألفا لأن الألف لا ينون قبلها إلا مفتوحا، ومن خفّف الهمزة قلبها واوا فقال: يؤخّر، فإن قيل: لم لا تجعل بين بين؟
فالجواب أنها لو جعلت بين بين نحي بها نحو الألف فكان ذلك خطأ لأن الألف لا
__________
(1) الشاهد لرجل من بني مذحج في الكتاب 2/ 302، ولضمرة بن جابر في خزانة الأدب 2/ 38، وهو لرجل من مذحج أو لضمرة بن ضمرة أو لهمام أخي جساس ابني مرّة في تخليص الشواهد 405، وهو لهنيّ بن أحمر أو لزرافة الباهلي في لسان العرب (حيس) ، ولابن أحمر في المؤتلف والمختلف ص 38، والمقاصد النحوية 2/ 339، ولهمام بن مرّة في الحماسة الشجرية 1/ 256، وبلا نسبة في جواهر الأدب 241، والأشباه والنظائر 4/ 162، وأمالي ابن الحاجب 593، وأوضح المسالك 2/ 16، وصدره:
«هذا لعمركم الصّغار بعينه»
(2) مرّ الشاهد رقم (40) .(4/289)
يكون ما قبلها إلا مفتوحا إِذا جاءَ أَجَلُها على تحقيق الهمزتين، فإن شئت خفّفت، وأبو عمرو يحذف للدلالة لما كانت حركتهما واحدة وكانت الهمزة مستقلة. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي ذو خبرة بعملكم، فهو يحصيه عليكم وليجازيكم عليه. وهذا ترتيب الكلام أن يكون الخافض والمخفوض طرفا لأنهما تبيين فإن تقدم من ذلك شيء فهو ينوى به التأخير ولهذا أجمع النحويون أنه لا يجوز: لبست ألينها من الثياب لأن الخافض والمخفوض متأخران في موضعهما فلا يجوز أن ينوى بهما التقديم، وتصحيح المسألة لبس من الثياب ألينها، فإن قدرت «ما» بمعنى الذي فالهاء محذوفة أي خبير بما تعملونه. حذفت لطول الاسم، وإن قدّرت «ما» بمعنى المصدر لم تحتج إلى حذف أي والله ذو خبرة بعملكم.(4/290)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
64 شرح إعراب سورة التغابن
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التغابن (64) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يكون هذا تمام الكلام، وقد يكون متصلا ويكون له ما في السموات، ويكون لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ في موضع الحال أي سلطانه وأمره وقضاؤه نافذ فيهما. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي ذو قدرة على ما يشاء يخلق ما يشاء ويحيي ويميت ويعزّ ويذلّ لا يعجزه شيء لأنه ذو القدرة التامة.
[سورة التغابن (64) : آية 2]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ إن شئت أدغمت القاف في الكاف فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ أي مصدّق يوقن أنه خالقه وإلهه لا إله له غيره وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي عالم بأعمالكم فلا تخالفوا أمره ونهيه فيسطو بكم.
[سورة التغابن (64) : آية 3]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي بالعدل والإنصاف. وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وعن أبي رزين صَوَّرَكُمْ شبّه فعلة بفعلة كما أنّ فعلة تشبه بفعلة قالوا: كسوة وكسى ورشوة ورشى ولحية ولحى أكثر، وقالوا: قوّة وقوى. قال أبو جعفر وهذا لمجانسة الضمة الكسرة وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي مصير جميعكم فيجازيكم على أفعالكم.
[سورة التغابن (64) : آية 4]
يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ويجوز إدغام الميم في الميم، وكذا وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ والمعنى: ويعلم ما تسرّونه وما تعلنونه بينكم من قول وفعل وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي عالم بضمائر صدوركم وما تنطوي عليه نفوسكم الذي هو أخفى من السرّ.(4/291)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)
[سورة التغابن (64) : آية 5]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ الأصل يأتيكم حذفت الياء للجزم، ومن قال: ألم يأتيك الأصل عنده يأتيك فحذفت الضمة للجزم إلّا أن اللغة الفصيحة الأولى. قال سيبويه: واعلم أن الآخر إذا كان يسكن في الرفع حذف في الجزم. قال أبو جعفر:
وسمعت أبا إسحاق يقول: قرأنا على محمد بن يزيد واعلم أن الآخر إذا كان يسكن في الرفع والجر حذف في الجزم لئلا يكون الجزم بمنزلة الرفع والجر فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي مستهم العقوبة بكفرهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي في الآخرة.
[سورة التغابن (64) : آية 6]
ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
ذلِكَ بِأَنَّهُ الهاء كناية عن الحديث وما بعده مفسّر له خبر عن أنّ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج والبراهين فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فقال: يهدوننا، ولفظ بشر واحد. تكلّم النحويون في نظير هذا فقال بعضهم: يهدوننا على المعنى ويهدينا على اللفظ، وقال المازني: وذكر عللا في مسائل في النحو منها أن النحويين أجازوا أن يقال: جاءني ثلاثة نفر، وثلاثة رهط، وهما اسمان للجميع ولم يجيزوا جاءني ثلاثة قوم ولا ثلاثة بشر، وهما عند بعض النحويين اسمان للجميع فقال المازني: إنما جاز جاءني ثلاثة نفر وثلاثة رهط لأن نفرا ورهطا لأقل العدد فوقع في موقعه. وبشر للعدد الكثير وقوم للقليل والكثير، فلذلك لم يجز فيهما هذا وخالفه محمد بن يزيد في اعتلاله في بشر ووافقه في غير فقال: بشر يكون للواحد والجميع. قال الله جلّ وعزّ:
ما هذا بَشَراً [يوسف: 31] قال: فلذلك لم يجز جاءني ثلاثة بشر فَكَفَرُوا أي جحدوا أنبياء الله جلّ وعزّ وآياته وَتَوَلَّوْا أي أدبروا عن الإيمان وَاسْتَغْنَى اللَّهُ عن إيمانهم وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن جميع خلقه حَمِيدٌ أي محمود عندهم بما يعرفونه من نعمه وتفضّله.
[سورة التغابن (64) : آية 7]
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)
أَنْ وما بعدها تقوم مقام مفعولين قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ من قبوركم ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ أي تخبرون به وتحاسبون عليه وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي سهل لأنه لا يعجزه شيء.
[سورة التغابن (64) : آية 8]
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا أي القرآن. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ مبتدأ وخبره.(4/292)
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)
[سورة التغابن (64) : آية 9]
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ العامل في يوم لتنبّؤنّ والضمير الذي في يجمعكم يعود على اسم الله، ولا يجوز أن يعود على اليوم لو قلت: جئت يوم يوافقك، لم يجز، لا يضاف اليوم إلى فعل يعود عليه منه ضمير لعلّة ليس هذا موضع ذكرها ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ مبتدأ وخبره، ويجوز في غير القرآن نصب يوم على الظرف وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً معطوف، ويجوز رفع ويعمل على أنه في موضع الحال يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ أي نمحو عنه سيّئاته وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نصب على الحال أَبَداً على الظرف ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ مبتدأ وخبره والفوز النجاء.
[سورة التغابن (64) : آية 10]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي بدلائلنا وحججنا وأي كتابنا وَالَّذِينَ رفع بالابتداء أُولئِكَ مبتدأ ثان أَصْحابُ النَّارِ خبر الثاني والجملة خبر الذين خالِدِينَ فِيها على الحال وَبِئْسَ الْمَصِيرُ رفع ببئس المصير مصيرهم إلى النار.
[سورة التغابن (64) : آية 11]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ما هاهنا نفي لا موضع له من الإعراب وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وقراءة عكرمة يَهْدِ قَلْبَهُ «1» بفتح الدال ورفع قلبه على أن الأصل فيه يهدى قلبه أي يسكّن فأبدل من الهمزة ألفا ثمّ حذفها للجزم، كما قال: [الطويل] 494-
سريعا وإلّا يبد بالظّلم يظلم
«2» وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي بما كان وبما هو كائن.
[سورة التغابن (64) : آية 12]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ أي فيما أمركم به ونهاكم عنه الرَّسُولَ عطف فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي أدبرتم واستكبرتم عن طاعته وعصيتموه فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي أن يبلّغ والمحاسبة والعقوبة إلى الله جلّ وعزّ.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 275.
(2) مرّ الشاهد رقم (16) .(4/293)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
[سورة التغابن (64) : آية 13]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا تصلح الألوهية إلّا له وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أمر، والأصل كسر اللام.
[سورة التغابن (64) : آية 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
عَدُوًّا اسم «إنّ» وعدوّ يكون بمعنى أعداء. قيل: أي يأمرونكم بالمعاصي وينهونكم عن الطاعة، وهذا أشد العداوة. فَاحْذَرُوهُمْ أي أن تقبلوا منهم وَإِنْ تَعْفُوا حذفت النون للجزم وَتَصْفَحُوا عطف عليه، وكذا وَتَغْفِرُوا أي إن تعفوا عما سلف منهم، وتصفحوا عن عقوبتهم وتغفروا ذنوبهم من غير ذلك. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن تاب رحيم أي يعذبه بعد التوبة.
[سورة التغابن (64) : آية 15]
إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
َّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
قال قتادة: أي بلاء، روى ابن زيد عن أبيه قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يخطب فرأى الحسن والحسين يعبران فنزل من على المنبر وضمّهما إليه وتلانَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
قال قتادة: اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
أي الجنة.
[سورة التغابن (64) : آية 16]
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «ما» في موضع نصب أي فاتقوا الله قدر ما استطعتم أي قدر استطاعتكم مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وقول قتادة إنّ هذه الآية ناسخة لقوله جلّ وعزّ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [ال عمران: 102] قول لا يصحّ، ولا يقع الناسخ والمنسوخ إلا بالتوقيف أو إقامة الحجة القاطعة، والآيتان متفقتان لأن الله جلّ وعزّ لا يكلف ما لا يستطاع. فمعنى اتقوا الله حقّ تقاته هو فيما استطعتم. وَاسْمَعُوا أي ما تؤمرون به وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ في نصب «خيرا» أربعة أقوال: مذهب سيبويه أن المعنى وأتوا خيرا لأنفسكم، وقيل: المعنى يكن خيرا لأنفسكم والقول الثالث إنفاقا خيرا لأنفسكم، والقول الرابع أن تنصب خيرا بأنفقوا ويكون الخير المال وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وحكى الفراء أنه قرئ ومن يوق شح نفسه «1» بكسر الشين، وهي شاذة.
فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الذين ظفروا بما طلبوا.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 160، والبحر المحيط 8/ 276.(4/294)
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
[سورة التغابن (64) : آية 17]
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي بإنفاقكم في سبيله يُضاعِفْهُ لَكُمْ مجازاة وَيَغْفِرْ لَكُمْ عطف، ويجوز رفعه بقطعه من الأول ونصبه على الصرف وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ أي يشكر من أنفق في سبيله، ومعنى شكره إياه إثابته له وقبوله عمله حَلِيمٌ في ترك العقوبة في الدنيا.
[سورة التغابن (64) : آية 18]
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
يجوز أن يكون الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هو نعت اسم الله جلّ وعزّ، ويكون عالم الغيب خبرا ثانيا أو نعتا إن كان بمعنى المضيّ لأنه يكون معرفة، ويجوز أن يكون كلّه بدلا لأن المعرفة تبدل من النكرة.(4/295)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
65 شرح إعراب سورة الطلاق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الطلاق (65) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ نعت لأيّ فإن همزته فهو مشتقّ من أنبأ أي أخبر، وإن لم تهمز جاز أن يكون من أنبأ وخفّفت الهمزة وفيه شيء لطيف من العربية وذلك أن سبيل الهمزة إذا خففت وقبلها ساكن أن تلقى حركتها على ما قبلها، ولا يجوز ذلك هاهنا. والعلّة فيه أن هذه الياء لا تتحرك بحال فلما لم يجز تحريكها قيل: نبيّ وخطيّة ولو كان على القياس لقيل خطيّة وإن جعلته من نبا ينبو لم يهمز وكانت الياء الأخيرة منقلبة من واو. إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ أي إذا أردتم ذلك وهو مجاز. فأما القول في إِذا طَلَّقْتُمُ وقبله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ فقد ذكرنا فيه أقوالا، وقد قيل: هو مخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمخاطبة الجميع على الإجلال له كما يقال للرجل الجليل: أنتم فعلتم، والمعنى: إذا طلقتم النساء اللاتي دخلتم بهن. فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ فبين الله جلّ وعزّ هذا على لسان نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بأنه الطلاق في الطهر الذي لم يجامعها فيه. وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ قال السدي: أي احفظوها. وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ أي لا تتجاوزوا ما أمركم به لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ ثم استثنى إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ «أن» في موضع نصب واختلف العلماء في هذه الفاحشة ما هي؟ فمن أجمع ما قيل في ذلك أنها معصية الله جلّ وعزّ، فهذا يدخل فيه كل قول لأنها إن زنت أو سرقت فأخرجت لإقامة الحدّ فهو داخل في هذا، وكذلك إن بذؤت أو نشزت. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أي الأشياء التي حدّها من الطّلاق والعدّة وألّا تخرج الزوجة وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ حذفت الألف للجزم فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ قيل: أي منعها مما كان أبيح له. لأنه إذا طلّقها ثلاثا على أي حال كان لم يحلّ له أن يرتجعها حتّى تنكح زوجا غيره فقد ظلم نفسه بهذا الفعل لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً أكثر أهل التفسير على أن المعنى إنه إذا طلّقها واحدة كان أصلح له لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً من محبّته لها.(4/296)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
[سورة الطلاق (65) : آية 2]
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2)
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي قاربن ذلك فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي بما يجب لهن عليكم من النفقة وترك البذاء وغير ذلك أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ بدفع صداقهنّ إليهن وما يجب لهن وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أكثر أهل التفسير على أن هذا في الرجعة، وعن ابن عباس يشهد على الطلاق والرجعة إلّا أنه إن لم يشهد لم يكن عليه شيء وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ أي اشهدوا بالحقّ إذا شهدتم وإذا أديتم الشهادة كما قال السدّي ذلك في الحق.
ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ «ذلكم» مخاطبة لجميع وإخبار عن واحد لأن أخر الكلام لمن تخاطبه وأوله لمن تخبر عنه أو تسأل وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً أهل التفسير على أن المعنى أنه إن اتّقى الله جلّ وعزّ وطلّق واحدة فله مخرج إن أراد أن يتزوّج تزوّج وإن لم يتّق الله جلّ وعزّ وطلّق ثلاثا فلا مخرج له: وهذا قول صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس بالأسانيد التي لا تدفع. روى ابن عليّة عن أيّوب عن عبد الله بن كثير عن مجاهد، قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: يا ابن عباس إني طلّقت امرأتي ثلاثا فأطرق ابن عباس مليّا ثمّ رفع رأسه إلى الرجل فقال:
يأتي أحدكم الحموقة ثمّ يقول: يا ابن عباس طلّقت ثلاثا فحرمت عليك حتّى تنكح زوجا غيرك، ولم يجعل الله لك مخرجا ولو اتقيته لجعل لكم مخرجا ثمّ تلا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي لا تدفع صحته أنه قال رضي الله عنه في الحرام: إنه ثلاث لا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره.
[سورة الطلاق (65) : آية 3]
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ قال قتادة: من حيث يرجو ولا يأمل وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي كافيه. وأحسبني الشيء كفاني. وهذا تمام الكلام ثمّ قال: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قال مسروق: أي بالغ أمره توكّل عليه أم لم يتوكّل أي منفذ قضاؤه. قال هارون القارئ: في عصمة يقرأ «1» إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ وهذا على حذف التنوين تخفيفا، وأجاز الفراء إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ «2» بالرفع بفعله بالغ، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره في موضع خبر «إنّ» قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً أي للطلاق والعدّة منتهى ينتهي إليه.
__________
(1) انظر تيسير الداني 172 (قرأ حفص «بالغ» بغير تنوين و «أمره» بالخفض والباقون بالتنوين ونصب «أمره» ) .
(2) انظر معاني الفراء 3/ 163.(4/297)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
[سورة الطلاق (65) : آية 4]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4)
اللَّائِي في موضع رفع بالابتداء فمن جعل إن ارتبتم متعلقا بقوله: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ فخبر الابتداء عنده فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ ومن جعل التقدير على ما روي أن أبيّ بن كعب قال: يا رسول الله الصغار والكبار اللائي يئسن من المحيض وَأُولاتُ الْأَحْمالِ لم يذكر عدتهن في القرآن، فأنزل الله جلّ وعزّ: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ الآية قال: خبر الابتداء «إن ارتبتم» وما بعده، ويكون المعنى إن لم تعلموا وارتبتم في عدّتهن فحكمهن هذا. وأما قول عكرمة في معنى «إن ارتبتم» انه إن ارتبتم في الدم فلم تدروا أهو دم حيض أم استحاضة؟ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ يقول: قد رد من غير جهة، وذلك أنه لو كان الارتياب بالدم لقيل: إن ارتبتنّ لأن الارتياب بالدم للنساء، وأيضا فإن اليأس في العربية انقطاع الرجاء، والارتياب وجود الرجاء فمحال أن يجتمعا وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ معطوف على الأول وتم الكلام ثمّ قال: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. قال أبو جعفر: في هذا قولان: أحدهما أنه لكل حامل مطلقة مدخول بها أو متوفى عنها زوجها إذا ولدت فقد حلّت وهذا قول أبيّ بن كعب بن مسعود، والقول الثاني أنّ هذا للمطلقات فقط وأنّ المتوفى عنها زوجها إذا ولدت قبل انقضاء الأربعة الأشهر والعشر لم تحلل حتّى تنقضي أربعة أشهر وعشر، وكذا إن انقضت أربعة أشهر ولم تلد لم تحلل حتّى تلد. وهذا قول علي وابن عباس رضي الله عنهما، والقول الأول أولى بظاهر الكلام: لأنه قال جلّ وعزّ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ على العموم فلا يقع خصوص إلّا بتوقيف من الرسول صلّى الله عليه وسلّم أُولاتُ الْأَحْمالِ رفع بالابتداء أَجَلُهُنَّ مبتدأ ثان أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ خبر الثاني والجملة خبر الأول، ويجوز أن يكون أجلهن بدلا من أولات والخبر «أن يضعن حملهنّ» وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً أهل التفسير على أن المعنى من يتّق الله إذا أراد الطلاق فيطلق واحدة كما حدّ له يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً بأن يحلّ له التزوج لا كمن طلق ثلاثا.
[سورة الطلاق (65) : آية 5]
ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5)
ذلِكَ أي ذلك المذكور من أمر الطلاق والحيض والعدد أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ لتأتمروا به وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ أي يخفه بأداء فرائضه واجتناب محارمه يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ أي يمح عن ذنوبه وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً أي يجزل له الثواب. قال أبو جعفر ولا نعلم أحدا قرأ إلا هكذا على خلاف قول: عظّم الله أجرك.(4/298)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8)
[سورة الطلاق (65) : آية 6]
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6)
أَسْكِنُوهُنَّ قيل: هذا الضمير يعود على النساء جمع المدخول بهنّ وقيل على المطلقات أقل من ثلاث وإن المطلقات ثلاثا لا سكن لهن ولا نفقة. وبذلك صحّ الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويستدل على ذلك أيضا بقوله وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فخص الحوامل وحدهن، وأيضا فإنهن إذا طلّقن ثلاثا فهن أجنبيّات فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ شرط ومجازاة. وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ قال سفيان: أي ليحثّ بعضكم بعضا وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ قال السّدي: أي إن قالت المطلقة لا أرضعه لم تكره قال تعالى: فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى.
[سورة الطلاق (65) : آية 7]
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ جاءت لام الأمر مكسورة على بابها وسكنت في فَلْيُنْفِقْ لاتصالها بالفاء ويجوز كسرها أيضا فأجاز الفراء «1» ومن قدر «2» عليه رزقه فلينفق ممّا آتيه الله أي على قدر ما رزقه الله من التضييق وقد روي عن ابن عباس فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ إن كان له ما يبيعه من متاع البيت باعه وأنفقه. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها قال السدي: لا يكلّف الله الفقير نفقة الغني، وقال ابن زيد: لا يكلّف الفقير أن يزكّي ويصدّق سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أي إمّا في الدنيا وإما في الآخرة ليرغب المؤمنون في فعل الخير.
[سورة الطلاق (65) : آية 8]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8)
أي مخفوض بالكاف، وصارت كأيّ بمعنى كم للتكثير، والمعنى: وكم من أهل قرية عتوا عن أمر ربهم ثمّ أقيم المضاف إليه مقام المضاف. وقال ابن زيد: عتوا هاهنا عصوا كفروا. والعتو في اللغة التجاوز في المخالفة والعصيان. وقد روى عمرو بن أبي سلمة عن عمر بن سليمان في قوله جلّ وعزّ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها الآية قال: هؤلاء قوم عذّبوا في الطلاق فَحاسَبْناها أي بالنعم والشكر. حِساباً مصدر. شَدِيداً من نعته. قال ابن زيد: الحساب الشديد: الذي ليس فيه من العفو شيء وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً أي ليس بمعتاد. قال الفراء «3» : فيه للتقديم والتأخير أي عذّبناها عذابا نكرا في الدنيا وحاسبناها حسابا شديدا في الآخرة.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 164.
(2) انظر البحر المحيط 2/ 282 (قرأ الجمهور «قدر» مخفّفا وابن أبي عبلة مشدّد الدال) .
(3) انظر معاني الفراء 3/ 164.(4/299)
فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
[سورة الطلاق (65) : آية 9]
فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9)
فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها قال السدّي: أي عقوبة أمرها. وأمرها الكفر والعصيان وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً أي غبنا لأنهم باعوا نعيم الآخرة بحظّ خسيس من الدنيا باتباع أهوائهم.
[سورة الطلاق (65) : آية 10]
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً وهو عذاب النار. فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ نداء مضاف والَّذِينَ آمَنُوا في موضع نصب على النعت لأولي الألباب. قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً قال السدي: الذكر القرآن والرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم. والتقدير في العربية على هذا ذكرا ذا رسول ثمّ حذف مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] ، ويجوز أن يكون رسول بمعنى رسالة مثل أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
[مريم: 19] فيكون رسولا بدلا من ذكر، ويجوز أن يكون التقدير أرسلنا رسولا فدلّ على الضمر ما تقدّم من الكلام، ويجوز في غير القرآن رفع رسول لأن قوله «ذكرا» رأس آية، والاستئناف بعد مثل هذا أحسن، كما قال جلّ وعزّ: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة: 17، 18] وكذا. إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ [التوبة: 11] فلمّا كملت الآية قال جلّ وعزّ: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ [التوبة: 111، 112] ، وكذا ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [البروج: 16] .
[سورة الطلاق (65) : آية 11]
رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11)
يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ نعت لرسول. لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من الكفر إلى الإيمان وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ جزم بالشرط وَيَعْمَلْ عطف عليه، ويجوز رفعه على أن يكون في موضع الحال. صالِحاً أي بطاعة الله جلّ وعزّ:
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ مجازاة. خالِدِينَ فِيها على الحال أَبَداً ظرف زمان قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً أي وسع عليه في المطعم والمشرب.
[سورة الطلاق (65) : آية 12]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ يكون اسم الله تعالى بدلا أو على إضمار مبتدأ والذي نعت، ويجوز أن يكون «الله خلق سبع سموات» مبتدأ وخبره وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ عطف، وحكى أبو حاتم أن عاصما قرأ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ «1» قطعه من الأول ورفع
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 283، ومختصر ابن خالويه 158.(4/300)
بالابتداء. يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ قيل: الضمير يعود على السموات. والأكثر في كلام العرب أن ما كان بالهاء والنون فهو للعدد القليل، فعلى هذا يكون الضمير يعود على السموات. وعلى قول مجاهد يعود على السّموات والأرض. لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تكون لام كي متعلقة بيتنزّل ويجوز أن تكون متعلقة بخلق أي خلق السموات والأرض لتعلموا كنه قدرته وسلطانه، وإنه لا يتعذّر عليه شيء أراده، ولا يمتنع منه شيء شاءه. وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً أي ولتعلموا مع علمكم بقدرته أنه يعلم جميع ما يفعله خلقه فاحذروا أيّها المخالفون أمره وسطوته لقدرته عليكم وأنه عالم بما تفعلون، وجاز إظهار الاسم ولم يقل: وأنه وقال: وأن الله أفخم، وعلى هذا يتأوّل قول الشاعر: [الخفيف] 495-
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا
«1»
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (70) .(4/301)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
66 شرح إعراب سورة التحريم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التحريم (66) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ هذه «ما» دخلت عليها اللام فحذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر وأنها قد اتصلت باللام. والوقوف عليها في غير القرآن: لمه ويؤتى بالهاء لبيان الحركة وفي القرآن لا يوقف عليها. واختلفوا في الذي حرّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم قال: حرّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أم إبراهيم، وقال: والله لا أمسّك. قال أبو جعفر: فعلى هذا القول إنما وقعت الكفّارة لليمين لا لقوله: أنت عليّ حرام، وكذا قال مسروق والشّعبي، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: من قال في شيء حلال: هو عليّ حرام فعليه كفّارة يمين، وكذا قال قتادة وقال مسروق: إذا قال لامرأته: أنت عليّ حرام فلا شيء عليه من الكفارة ولا الطلاق لأنه كاذب في هذا، وقيل: عليه كفّارة يمين، وتأول صاحب هذا القول الآية وقيل:
هي طالق ثلاثا، إذا كانت مدخولا بها وواحدة إذا لم يدخل بها، وقيل: هي واحدة بائنة وقيل: واحدة غير بائنة. وقد روي عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما كان حرّم على نفسه عسلا. وروى داود بن أبي هند عن الشّعبي عن مسروق عن عائشة قالت: حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والى فعوتب في التحريم وعاتب في الإيلاء. قال أبو جعفر: ولا يعرف في لغة من اللغات أن يقال فيمن جعل الحلال حراما: حالف تَبْتَغِي في موضع نصب على الحال. مَرْضاتَ أَزْواجِكَ هذه تاء التأنيث ولو كانت تاء جمع لكسرت وَاللَّهُ غَفُورٌ أي لخلقه وقد غفر لك رَحِيمٌ لا يعذب من تاب.
[سورة التحريم (66) : آية 2]
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أي بيّنها. وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ مبتدأ وخبره أي يتولاكم بنصره وَهُوَ الْعَلِيمُ بمصالح عباده الْحَكِيمُ في تدبيره.(4/302)
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
[سورة التحريم (66) : آية 3]
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وحذف المفعول أي نبّأت به صاحبتها، وهما عائشة وحفصة لا اختلاف في ذلك، واختلفوا في الذي أسرّه إليها فقيل: هو الذي خبّرها به من شربه العسل عند بعض أزواجه، وقيل: هو ما كان بينه وبين أم إبراهيم، وقيل: هو إخباره إياها بأن أبا بكر الخليفة بعده وقد ذكرناه بإسناده. فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ وحذف المفعول أيضا عرّفها بعضه فقال: قد عرفت كذا بالوحي وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فلم يذكره تكرّما واستحياء، وقراءة الكسائي عرف بعضه «1» وردّها أبو عبيد ردا شنيعا، قال: لو كان كذا لكان عرف بعضه وأنكر بعضا. قال أبو جعفر:
وهذا الردّ لا يلزم، والقراءة معروفة عن جماعة منهم أبو عبد الرحمن السلمي. وقد بيّنّا صحّتها. فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا نبّأ وأنبأ بمعنى واحد فجاء باللغتين جميعا وبعده قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ.
[سورة التحريم (66) : آية 3]
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أي مالت إلى محبة ما كرهه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من تحريمه ما أحلّ له. وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ والأصل تتظاهرا أدغمت التاء في الظاء، وقرأ الكوفيون تظاهرا «2» بحذف التاء، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ أي وليه بالنصرة. وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ واختلفوا في صالح المؤمنين فمن أصحّ ما قيل فيه: إنه لكل صالح من المؤمنين، ولا يخصّ به واحد إلّا بتوقيف، وقد روي أنه يراد به عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وهو كان الداخل في هذه القصة المتكلّم فيها، ونزل القرآن ببعض ما قاله في هذه القصة، وقيل: هو أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وقيل: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد ذكرنا ذلك بإسناده. ومذهب الفرّاء القول الذي بدأنا به قبله واحد يدلّ على جميع، وكذا وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ يكون ظهير يؤدّي عن الجمع وقد ذكرنا فيه غير هذا.
__________
(1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 640، وتيسير الداني 172 ( «عرف» قرأ الكسائي بتخفيف الراء والباقون بتشديدها) .
(2) انظر تيسير الداني 172. [.....](4/303)
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
[سورة التحريم (66) : آية 5]
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)
إِنْ في موضع نصب بعسى، والشرط معترض، وقراءة الكوفيين أن يبدله «1» أزواجا خيرا منكنّ وقيل: خيرا منكن إنهن لو دمن على الذي كان حتّى يحوجنه إلى طلاقهنّ لأبدل خيرا منهن. مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ كله نعت لأزواج. والواحدة زوج ولغة شاذة زوجة. وَأَبْكاراً عطف داخل في النعت أيضا.
[سورة التحريم (66) : آية 6]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً الفعل من هذا وقى يقي عند جميع النحويين والأصل عندهم وقى يوقي ثم اختلفوا في العلّة لحذف الواو، فقال البصريون: حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، وهي ساكنة ولم تحذف في يؤجل، لأن بعدها فتحة والفتحة لا تستثقل، وقال الكوفيون: حذفت الواو للفعل المتعدي وأثبت في اللازم فرقا فقالوا في المتعدّي وعد يعد وفي اللازم وجل يوجل، وعارضوا البصريين بقول العرب وسع يسع فحذفت الواو بعدها فتحة وكذا ولغ يلغ والاحتجاج للبصريين أن الأصل وسع يوسع وحذفت الواو لما تقدّم وفتحت السين لأن فيه حرفا من حروف الحلق، وقال الكوفيون: حذفت الواو لأنه فعل متعدّ، وردّ عليهم البصريون بقول العرب: ورم يرم فهذا لازم قد حذفت منه الواو وكذا يثق فقد انكسر قولهم إنه إنما يحذف من المتعدي. قال أبو جعفر: وهذا ردّ بيّن ولو جاء «قوا» على الأصل لكان ايقيوا. أَنْفُسَكُمْ منصوب بقوا، كما يقال: أكرم نفسك ولا يجوز أكرمك فقول سيبويه: لأنهم استغنوا عنه بقولهم: أكرم نفسك، وقال محمد بن يزيد: لم يجز هذا لأنه لا يكون الشيء فاعلا مفعولا في حال. فأما الكوفيون فخلطوا في هذه فمرة يقولون: لا يجوز كما يقول البصريون، ومرة يحكون عن العرب إجازته حكوا عدمتني، ولا يجيز البصريون من هذا شيئا. وَأَهْلِيكُمْ في موضع نصب معطوف على أنفسكم.
ومن مسائل الفرّاء في «وأهليكم» «2» لم صار مسكنا وهو في موضع النصب؟ فالجواب إن الياء علامة النصب كقولك: رأيت الزيدين وحذفت النون للإضافة وحكى الفرّاء «3» أن من العرب من يقول: أهله في المؤنث «نارا» مفعول ثان وَقُودُهَا النَّاسُ مبتدأ وخبره في موضع نصب نعت للنار وَالْحِجارَةُ عطف على الناس عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ أي غلاظ على العصاة أشدّاء عليهم، وقيل: «شداد» أقوياء لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ مفعولان على حذف الحرف أي فيما أمرهم وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ وحذف المضمر الذي يعود على «ما» وإن جعلتها مصدرا لم تحتج إلى عائد.
__________
(1) انظر تيسير الداني ص 118.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 287.
(3) انظر المذكّر والمؤنث للفراء 108.(4/304)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
[سورة التحريم (66) : آية 7]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ حذفت النون للجزم بالنهي. إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في «إنما» معنى التحقيق والإيجاب.
[سورة التحريم (66) : آية 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
تَوْبَةً مصدر. نَصُوحاً من نعته أي تنصحون لأنفسكم فيها عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وأجاز الفرّاء «1» وَيُدْخِلَكُمْ على الموضع بالجزم لأن عسى في موضع جزم في المعنى لأنها جواب الأمر، وقدّره بمعنى فعسى وعطف «ويدخلكم» على موضع الفاء. قال أبو جعفر: وهذا تعسّف شديد يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ «الذين» في موضع نصب على العطف، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قيل: هذا التمام، والمعنى وَبِأَيْمانِهِمْ يعطون كتبهم، وقد روي معنى هذا عن ابن عباس يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا ظهر التضعيف لمّا سكن الثاني وَاغْفِرْ لَنا ولا يجوز إدغام الراء في اللام لما فيها من التكرير. إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ خبر «إن» و «كلّ» مخفوض حقّه أن يكون في أخر الكلام لأنه تبيين.
[سورة التحريم (66) : آية 9]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
قيل: مجاهدة المنافقين باللسان والانقباض وأنّه كذا يجب أن يستعمل مع أهل المعاصي إذا لم يوصل إلى منعهم منها لأن الانبساط إليهم يجرّئهم على إظهارها فأمر الله جلّ وعزّ بمجاهدتهم بهذا وأصل المجاهدة في اللغة بلوغ الجهد في رضوان الله جلّ وعزّ. وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي هي منزلهم ومسكنهم. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي بئس الذي يصلون إليه النار.
[سورة التحريم (66) : آية 10]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ مفعولان.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 168.(4/305)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فكانت الفائدة في هذا أنه لا ينفع أحدا إيمان أحد ولا طاعة أحد بنسب ولا غيره إذا كان عاصيا الله جلّ وعزّ كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمته صفية: «إني لا أغني عنكم من الله شيئا» «1» وكذا قال لفاطمة رضي الله عنها وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ولم يقل: مع الداخلات لأن المعنى مع القوم الداخلين.
[سورة التحريم (66) : آية 11]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
فلم يضرها كفر فرعون شيئا، والأصل «ربّي» حذفت الياء لأن النداء موضع حذف وإثباتها وفتحها جائز.
[سورة التحريم (66) : آية 12]
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ عطف أي وضرب الله للذين آمنوا مثلا مريم ابْنَتَ من نعتها، وإن شئت على البدل. يقال: ابنة وبنت. الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا الهاء تعود على الفرج. قال أبو جعفر: قد ذكرنا في معناه قولين: أحدهما أنه جيبها، والآخر أنه الفرج بعينه. والحجّة لمن قال: إنه الفرج بعينه «استعمال العرب» أحصنت فرجها على هذا النعت. والحجّة لمن قال: هو جيبها أن معنى «أحصنت فرجها» منعت جيبها حتّى قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
[مريم: 81] ، ومِنْ رُوحِنا فيه قولان: أحدهما من الروح الذي لنا والذي نملكه، كما يقال: بيت الله، والآخر من روحنا من جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم. قال جلّ ثناؤه نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 193] .
وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ «2» من وحّده قال: لأنه مصدر، ومن جمعه جعله على اختلاف الأجناس وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ أي من القوم القانتين، أقيمت الصفة مقام الموصوف.
__________
(1) أخرجه الدارمي في سننه 2/ 305.
(2) انظر تيسير الداني 172.(4/306)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)
67 شرح إعراب سورة الملك
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الملك (67) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
أي يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء ودلّ على هذا الحذف وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
[سورة الملك (67) : آية 2]
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ في موضع رفع على البدل من الذي الأول أو على إضمار مبتدأ، ويجوز النصب بمعنى أعني. لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي مرفوع بالابتداء، وهو اسم تام وأَحْسَنُ خبره، والتقدير: ليبلوكم فينظر أيكم أحسن عملا. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ مبتدأ وخبره.
[سورة الملك (67) : آية 3]
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3)
خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ فيه مثل الذي في الأول، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر وأن يكون نعتا للعزيز. طِباقاً نعت لسبع، ويكون جمع طبقة مثل رحبة ورحاب أو جمع طبق مثل جمل وجمال، ويجوز أن يكون مصدرا مّا ترى في خلق الرّحمن من تفوت قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم، وقراءة يحيى والأعمش وحمزة والكسائي من تفوت «1» وهو اختيار أبي عبيد. ومن أحسن ما قيل فيه قول الفرّاء «2» : إنهما لغتان بمعنى واحد، ولو جاز أن يقال في هذا اختيار لكان الأول أولى لأنه المشهور في الله أن يقال: تفاوت الأمر مثل تباين أي خالف بعضه بعضا فخلق الله جلّ وعزّ غير متباين ولا متفاوت لأنه كلّه دالّ على حكمة لا على عبث وعلى بارئ له فَارْجِعِ الْبَصَرَ
__________
(1) انظر تيسير الداني 172، والبحر المحيط 8/ 292.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 170.(4/307)
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)
وليس قبله فانظر ولكنّ قبله ما يدلّ عليه وهو ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ في موضع نصب.
[سورة الملك (67) : آية 4]
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ بمعنى المصدر أو الظرف ينقلب «1» إليك البصر جواب الأمر. خاسِئاً نصب على الحال. وَهُوَ حَسِيرٌ مبتدأ وخبره في موضع نصب على الحال.
[سورة الملك (67) : آية 5]
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ على لغة من قال مصباح وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ يكون «رجوما» مصدر يرجم، ويجوز أن يكون جمع راجم على قول من قال: النجوم هي التي يرجم بها، والقول الآخر على قول من قال: إنّ النجوم لا تزول من مكانها وإنما يرجم بالشهب وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ أي مع ذلك.
[سورة الملك (67) : آية 6]
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ رفع بالابتداء، وحكى هارون عن أسيد أنه قرأ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ «2» عطفه على الأول. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ربع ببئس.
[سورة الملك (67) : الآيات 7 الى 8]
إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)
إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً أي صوتا مثل الشهيق تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ الأصل تتميز. قال الفرّاء «3» : أي تقطّع. كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ نصب على الظرف بمعنى إذا سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ أي قالوا لهم.
[سورة الملك (67) : آية 9]
قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9)
نَذِيرٌ بمعنى منذر. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ «إن» بمعنى ما.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 293 (قرأ الجمهور «ينقلب» جزما على جواب الأمر، والخوارزمي عن الكسائي برفع الباء أي فينقلب على حذف الفاء أو على أنه موضع حال مقدّرة) .
(2) انظر البحر المحيط 8/ 294.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 170.(4/308)
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)
[سورة الملك (67) : آية 10]
وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10)
فيه قولان: أحدهما لو كان نقبل كما يقال: سمع الله لمن حمده أي قيل «أو نعقل» أي نفكر ونتبين، والقول الآخر أنهم إذا سمعوا لم ينتفعوا بما سمعوا فهم بمنزلة الصم.
[سورة الملك (67) : آية 11]
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ ولم يقل: بذنوبهم لأنه مصدر يؤدّي عن الجنس فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ «1» .
[سورة الملك (67) : آية 12]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
من أحسن ما قيل فيه أن المعنى إن الذين يخشون ربهم إذا غابوا عن أعين الناس لأنه الوقت الذي تكثر فيه المعاصي فإذا خشوا ربهم جلّ وعزّ عند غيبة الناس عنهم فاجتنبوا المعاصي كانوا بحضرة الناس أكثر اجتنابا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ خبر «إنّ» .
[سورة الملك (67) : آية 13]
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13)
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ كسرت الواو لالتقاء الساكنين واختير لها الكسر لأنها أصلية. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بحقيقتها.
[سورة الملك (67) : آية 14]
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ قال أبو جعفر: ربما توهّم الضعيف في العربية أنّ «من» في موضع نصب ولو كان موضعها نصبا لكان: ألا يعلم ما خلق: لأنه راجع إلى بِذاتِ الصُّدُورِ وإنما التقدير ألا يعلم من خلقها سرّها وعلانيتها وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ مبتدأ وخبره.
[سورة الملك (67) : الآيات 15 الى 16]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16)
وكذلك هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا أي سهلة تمشون عليها. يقال: ذلول بيّنة الذلّ، وذليل بيّن الذّل فَامْشُوا فِي مَناكِبِها جمع منكب وهو الناحية وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ حذف منه، ولو كان على قياس نظائره لقيل: أوكلوا كما تقول: أوجروا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ رفع بالابتداء.
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ «2» وحكى الفراء أن لغة بني تميم أن يزيد وألفا بين الألفين.
قال أبو جعفر: يعني يزيدون ألفا لئلا يجمعوا بين همزتين فيقولون: أاأمنتم من في السماء. أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ في موضع نصب على أنها مفعولة. فَإِذا هِيَ تَمُورُ في موضع رفع، ويجوز النصب أي فإذا هي مائرة.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 294، وتيسير الداني 172 (قرأ الكسائي بضمّ الحاء والباقون بإسكانها) .
(2) انظر معاني الفراء 3/ 171، وتيسير الداني 172.(4/309)
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)
[سورة الملك (67) : الآيات 17 الى 18]
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18)
وهو التراب والحصى، ويكون السحاب الذي فيه البرد والصواعق فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ في موضع رفع لأن الاستفهام لا يعمل فيما قبله وحذفت الياء لأنه رأس آية، وكذا وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) .
[سورة الملك (67) : آية 19]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ نصب على الحال. وَيَقْبِضْنَ عطف عليه، ويجوز أن ينون مقطوعا منه ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ لأنه جلّ وعزّ خلق الجو فاستمسكن فيه إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ خبر «إنّ» .
[سورة الملك (67) : آية 20]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20)
أي يدفع عنكم إن أراد بكم سوءا. إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أي ما الكافرون في ظنهم أي عبادتهم غير الله جلّ وعزّ ينفعهم إلا في غرور.
[سورة الملك (67) : آية 21]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ وحذف جواب الشرط لأن الأول يدلّ عليه أي إن أمسك رزقه فهل يرزقكم من تعبدون من دونه بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ والأصل لججوا ثم أدغم.
[سورة الملك (67) : آية 22]
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
من في موضع رفع بالابتداء أهدى خبره أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ عطف عليه.
[سورة الملك (67) : آية 23]
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مبتدأ وخبره وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ ولم يقل:
الأسماع لأن السمع في الأصل مصدر.
[سورة الملك (67) : آية 24]
قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ مثل الأول.
[سورة الملك (67) : آية 25]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25)
مَتى في موضع رفع لأنها خبر الابتداء هذَا على قول سيبويه وعلى قول(4/310)
قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
غيره في موضع نصب لأنه لا يرفع هذا بالابتداء. وأبو العباس يرفعه بمعنى متى يستقرّ هذا الوعد.
[سورة الملك (67) : آية 26]
قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)
قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ رفعت العلم بالابتداء، ولا يجوز النصب عند سيبويه على أن يجعل «ما» زائدة، وكذا وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ.
[سورة الملك (67) : آية 27]
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً يجوز أن تكون الهاء تعود على الوعد سِيئَتْ «1» وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ أصحّ ما قيل فيه أنه تفتعلون من الدعاء ثم أدغم، قال أبو عبيد: تدّعون مشتق من يدعون.
[سورة الملك (67) : آية 28]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28)
أَرَأَيْتُمْ وإن خفّفت همزة أرأيتم جئت بها بين بين والياء ساكنة بحالها فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ «من» في موضع رفع بالابتداء، وهو اسم تام.
[سورة الملك (67) : آية 29]
قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29)
قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا أي خالقكم ورازقكم والفاعل لهذه الأشياء الرحمن فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «2» «من» في موضع رفع بالابتداء والجملة خبره لأنها استفهام، ولا يعمل في الاستفهام ما قبله، ويجوز أن يكون في موضع نصب ويكون بمعنى الذي.
[سورة الملك (67) : آية 30]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً قال الفراء «3» لا يثنّى غور ولا يجمع لأنه مصدر مثل:
رضى وعدل فيقال: ماءان غور. قال أبو جعفر: بابه ألا يثنّى ولا يجمع فإن أردت اختلاف الأجناس ثنّيت وجمعت والتقدير: إن أصبح ماؤكم ذا غور مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] ، وقيل غور بمعنى غائر. فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ يكون فعيلا من معن الماء إذا كثر، ويجوز أن يكون مفعولا ويكون الأصل فيه معيونا مثل مبيع ويكون معناه على هذا الماء يرى بالأعين.
__________
(1) انظر تيسير الداني 102. [.....]
(2) انظر تيسير الداني 173 (قرأ الكسائي «فسيعلمون من هو» بالياء والباقون بالتاء) .
(3) انظر معاني الفراء 3/ 712.(4/311)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)
الجزء الخامس
68 شرح إعراب سورة ن (القلم)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)
ن في هذه الكلمة نيف وثلاثون جوابا منها ستة معان وستّ قراءات في إحداهنّ ستة أجوبة. روى الحكم بن ظهير عن أبيه عن أبي هريرة قال:
الأرضون على نون ونون على الماء والماء على الصخرة والصخرة لها أربعة أركان على كلّ ركن منها ملك قائم في الماء. وروى يزيد عن عكرمة عن ابن عباس قال: المر وحم ون حروف الرحمن مقطّعة. وفي حديث معاوية بن قرّة عن أبيه مرفوعا قال: ن لوح من نور. وقال قتادة: نون الدواة. قال أبو جعفر: فهذه أربعة أقوال، وقيل: التقدير وربّ نون، وقيل: هو تنبيه كما تقدّم في «ألم» . وأما القراءات فهي ستّ كما ذكرنا. قرأ أكثر الناس ن وَالْقَلَمِ «1» ببيان نون، وقرئ بإخفائها، وقرئ بإدغامها بغنّة وبغير غنّة، وروي عن عيسى بن عمر أنه قرأ «ن والقلم» وقرأ ابن إسحاق «نون والقلم» بالخفض. فهذه ستّ قراءات، في المنصوبة منها ستة أجوبة: منها أن تكون منصوبة بوقوع الفعل عليها أي أذكر نون.
ولم تنصرف لأنها اسم للسورة، وجواب ثان أن تكون لم تنصرف لأنها اسم أعجميّ هذان جوابان عن الأخفش سعيد، وقول سيبويه «2» إنها شبّهت بأين وكيف وقول الفراء «3» إنها شبهت بثمّ، وقيل: شبّهت بنون الجميع، وقال أبو حاتم: حذفت منها واو القسم فانتصبت بإضمار فعل، كما تقول: الله لقد كان كذا. قال أبو جعفر:
فهذه ثمانية عشر جوابا. وفي إسكانها قولان فمذهب سيبويه «4» أن حروف المعجم إنما سكّنت لأنها بعض حروف الأسماء فلم يجز إعرابها كما لا يعرب وسط الاسم، وردّ عليه هذا القول بعض الكوفيين فقال: إذا قلت زاي فقد زدت على الحرف ألفا
__________
(1) انظر تيسير الداني ص 148.
(2) انظر الكتاب 3/ 286.
(3) انظر معاني الفراء 1/ 368.
(4) انظر الكتاب 3/ 294.(5/3)
وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)
وياء، وقال أصحّ من هذا قول الفراء «1» قال: لم تعرب حروف المعجم لأنك إنما أردت تعليم الهجاء. قال أبو جعفر: وهذا قول صحيح لأنك إذا أردت تعليم الهجاء لم يجز أن تزيد الإعراب فيزول ذلك عن معنى الهجاء إلا أن تنعت أو تعطف فتعرب. ومن بيّن النون قال: سبيل حروف الهجاء أن يوقف عليها، وأيضا فإن النون بعيدة المخرج من الواو فأشبهت حروف الحلق، ولهذا لم يقرأ أحد بتبيين النون في «كهيعص» لقرب الصاد من النون فأدغمها الكسائي لأنه بنى الكلام على الوصل، ومن أدغم بغنّة أراد ألا يزيل رسم النون، ومن حذف الغنة قال المدغم قد صار حكمه حكم ما أدغم فيه، ومن قرأ «نون والقلم» كسر لالتقاء الساكنين. قال أبو حاتم: أضمر واو القسم. وإن جمعت نون قلت:
نونات على أنه حرف هجاء، فإن جمعته على أنه اسم للحوت قلت في الجمع الكثير:
نينان، وفي القليل: أنوان، ويجوز نونة مثل كوز وكوزة وَالْقَلَمِ خفض بواو القسم، وهو القلم الذي يكتب به غير أن التوقيف جاء أنه القلم الذي كتب به في اللّوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة روى ذلك القاسم بن أبي بزّة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ومعاوية بن قرّة عن أبيه يرفعه وَما يَسْطُرُونَ واو عطف لا واو قسم، وما والفعل مصدر، ويجوز أن يكون بمعنى الذي، وجواب القسم ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ أي ما أنت بما أنعم الله عليك من العقل والفهم إذا كان أعقل أهل زمانه بِمَجْنُونٍ، وهو المستور العقل. ومن هذا جنّ عليه الليل وأجنّه، ومنه قيل: جنين وللقبر جنن وللترس مجنّ. قال عمر بن أبي ربيعة: [الطويل] 496-
وكان مجنّي دون من كنت أتّقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر «2»
وقيل: جنّ لأنهم مستترون عن أعين الناس مسموع من العرب على غير قياس:
أجنّ فهو مجنون، والقياس مجنّ. قال أبو جعفر: وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد أنه كان يذهب إلى القياس في هذا كأنه يقال: مجنون من جنّ.
[سورة القلم (68) : آية 3]
وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)
وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً أي على أداء الرسالة غَيْرَ مَمْنُونٍ قيل: لا يمنّ به عليك وقيل:
غير مقطوع.
__________
(1) انظر معاني الفراء 1/ 368.
(2) الشعر لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ص 100، والكتاب 4/ 45، والأشباه والنظائر 5/ 48، والأغاني 1/ 90، وأمالي الزجاجي 118، والإنصاف 2/ 770، وخزانة الأدب 5/ 320، والخصائص 2/ 417، وشرح التصريح 2/ 271، وشرح شواهد الإيضاح 313 ولسان العرب (شخص) ، والمقاصد النحوية 4/ 483، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 104، وشرح الأشموني 3/ 620، وشرح التصريح 2/ 275، وشرح عمدة الحافظ 519، وعيون الأخبار 2/ 174، والمقتضب 2/ 148، والمقرّب 1/ 307.(5/4)
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
[سورة القلم (68) : آية 4]
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس. قال: على دين. قال أبو جعفر: فيكون هذا مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» «1» أي أحسنهم دينا وطريقة ومذهبا وطاعة. وسئلت عائشة رضي الله عنها ما الخلق العظيم الذي كان عليه؟ قالت: القرآن، وقيل: هو ما كان فيه من البشاشة والسعي في قضاء حاجات الناس وإكرامهم والرفق بهم.
[سورة القلم (68) : الآيات 5 الى 6]
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ أي يوم القيامة. قال محمد بن يزيد: سألت أبا عثمان المازني عن هذا فقال: هذا التمام. وقال الأخفش: المعنى: فستبصر ويبصرون بأيكم الفتنة.
وقال محمد بن يزيد: التقدير: بأيّكم فتنة المفتون. وقال الفراء «2» : الباء بمعنى «في» .
قال أبو جعفر: فهذه أقوال النحويين مجموعة. ونذكر أقوال أهل التأويل. روى سفيان عن خصيف عن مجاهد بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ قال: بأيّكم المجنون. وقال الحسن والضحاك: بأيّكم الجنون، وقول قتادة: أيّكم أولى بالشيطان. فهذه ثلاثة أقوال لأهل التأويل. فقول مجاهد تكون الباء فيه بمعنى «في» كما يقال: فلان بمكة وفي مكة والمعنى عليه فستعلم وسيعلمون في أي الفريقين المجنون الذي لا يتّبع الحقّ أفي فريقك أم في فريقهم. وعلى قول «3» الحسن والضحاك فستعلم وسيعلمون بأيكم الفتنة.
والمفتون بمعنى الفتنة والفتون، كما يقال: ليس له معقول ولا معقود رأي. قال أبو جعفر: وهذا من أحسن ما قيل فيه، وقول قتادة أن الباء زائدة.
[سورة القلم (68) : آية 7]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
أي هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله من كفار قريش. وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ بك وبمن اتّبعك.
[سورة القلم (68) : الآيات 8 الى 9]
فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
معطوف، وليس بجواب ولو كان جوابا حذفت منه النون. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ قال يقول: لو ترخّص لهم فيرخّصون. والمعنى
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه رقم (4682) ، وأحمد في مسنده 2/ 250، وذكره الحاكم في المستدرك 1/ 3، والهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 303، وابن حجر في المطالب العالية (2541) ، وأبو نعيم في الحلية 9/ 248، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3264) .
(2) انظر معاني الفراء 3/ 173.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 303.(5/5)
وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
على هذا: ودّوا لو تلين لهم فلا تنكر عليهم الكفر والمعاصي فيلينون لك وينافقونك ويجترءون على المعاصي، وفي اللين في مثل هذا فساد الدين، وهو مأخوذ من الدّهن شبّه التليّن به.
[سورة القلم (68) : آية 10]
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10)
أي كل معروف بالحلف على الكذب فإذا كان كذلك كان مهينا عند الله جلّ وعزّ وعند المؤمنين. قال مجاهد: مَهِينٍ ضعيف. قال أبو جعفر: يكون مهين فعيل على بابه من هذا القول فيجوز أن يكون بمعنى مهان.
[سورة القلم (68) : آية 11]
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)
هَمَّازٍ من همزه إذا عابه وأصل الهمز الغمز. مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ «مشّاء» ممدود، لأنها ألف بعدها همزة فالألف خفيّة والهمزة لبعد مخرجها تخفى فقوّيت بالمدة وكذا الواو إذا كان ما قبلها مضموما مثل السّوأى، وكذلك الياء إذا كان ما قبلها مكسورا نحو: سيء بهم. هذا في المتصل، فللنحويين فيه ثلاثة أقوال: منهم من قال: لا مدّ فيه إذا كان منفصلا، ومنهم من قال: هو ممدود بمنزلة المتصل، وإلى هذا كان يذهب أبو إسحاق، ومنهم من قال: المدّ في المنفصل أولى منه في المتصل ليبيّن بالمد انفصال الحرف من الآخر نحو قوله جلّ وعزّ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [البقرة: 4] وكذا فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ [يوسف: 96] وفي الواو والياء قُوا أَنْفُسَكُمْ [التحريم: 6] وَفِي أَنْفُسِكُمْ [الذاريات: 21] والقراء من أحوج الناس إلى معرفة هذا. وربما وقع الغلط فيه فكان ذلك لحنا فمن قرأ دائِرَةُ السَّوْءِ [التوبة: 98] لم يجز له أن يمدّ هذا لأن الواو ما قبلها مفتوح، ومن قرأ «دائرة السّوء» مدّ لأن الواو ما قبلها مضموم، وإنما وجب هذا في الواو إذا انضمّ ما قبلها والياء إذا انكسر ما قبلها لأنهما أشبهتا الألف فصارتا حرفي مدّ ولين كالألف فوجب فيهما المد كما كان في الألف ولما انضمّ ما قبل الواو وانكسر ما قبل الياء فصارت الحركة التي قبلهما منهما ضعفتا فقوّيتا بالمدّة ومن قرأ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا [البقرة: 103] لم يجز له أن يمدّ هذا لانفتاح ما قبل الواو، ويقال: إنّ أكثر من يغلط في هذا من القرّاء الذين يقرءون بقراءة حمزة. قال أبو جعفر: من قال: نميم قال: قد نمّ ثلاثة أنمة، ومن قال: نميمة قال: نمائم.
[سورة القلم (68) : آية 12]
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
مَنَّاعٍ نعت وكذا مُعْتَدٍ ولو كانا منصوبين لجاز على النعت لكلّ أي معتد على الناس في معاملاتهم. أَثِيمٍ مخالف لربّه في أمره ونهيه، كما قال قتادة: أثيم بربه.(5/6)
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)
[سورة القلم (68) : آية 13]
عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13)
عُتُلٍّ قال أهل التأويل منهم أبو رزين والشعبي: العتلّ الشديد، وقال الفراء:
أي شديد الخصومة بالباطل، وقال غيره: هو شديد الكفر الجافي وجمعه عتالّ. بَعْدَ ذلِكَ قيل: أي مع ذلك. زَنِيمٍ نعت أيضا.
[سورة القلم (68) : آية 14]
أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14)
أَنْ في موضع نصب أي بأن كان، وقرأ الحسن وأبو جعفر وحمزة «أأن كان ذا مال وبنين» «1» قال أبو جعفر: هذا على التوبيخ أي الآن كان ذا مال وبنين يكفر أو تطيعه.
[سورة القلم (68) : آية 15]
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)
استهزاء وإنكارا.
[سورة القلم (68) : آية 16]
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
قال أبو جعفر: قد ذكرنا فيه أقوالا منها ما رواه معمر عن قتادة قال: على أنفه ومما يذكره أن سعيدا روى عن قتادة سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) قال شين لا يفارقه، وهذا من أحسن ما قيل فيه أي سنبيّن أمره ونشهره حتى يتبيّن ذلك ويكون بمنزلة الموسوم على أنفه على أنه قد روي عن ابن عباس سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ قال: قاتل يوم بدر فضرب بسيف ضربة فكانت سمة له.
[سورة القلم (68) : آية 17]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17)
إِنَّا بَلَوْناهُمْ أي تعبّدناهم بالشكر على النّعم وإعطاء الفقراء حقوقهم التي أوجبناها في أموالهم. كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ. قال ابن عباس: هم أهل كتاب إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها أي ليجذنّها. والجذاذ القطع ومنه صرم فلان فينا وسيف صارم. مُصْبِحِينَ نصب على الحال. وأصبح دخل في الإصباح.
[سورة القلم (68) : آية 18]
وَلا يَسْتَثْنُونَ (18)
ولا يقولون: إن شاء الله فذمّوا بهذا لأن الإنسان إذا قال: لأفعلنّ كذا لم يأمن أن يصرم عن ذلك فيكون كاذبا فعليه أن يقول إن شاء الله.
[سورة القلم (68) : آية 19]
فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19)
قيل: أرسلت عليها نار فأحرقت حروثهم. وَهُمْ نائِمُونَ في موضع الحال.
__________
(1) انظر تيسير الداني 173 (وهذه قراءة أبي بكر أيضا، وقراءة ابن عامر بهمزة ومدّة، وابن زكوان في المدّ، والباقون بهمزة واحدة مفتوحة على الخبر) .(5/7)
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)
[سورة القلم (68) : آية 20]
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
أي كالشيء المصروم المقطوع. وصريم بمعنى مصروم مثل قتيل بمعنى مقتول.
[سورة القلم (68) : آية 21]
فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21)
نصب على الحال.
[سورة القلم (68) : آية 22]
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22)
أَنِ في موضع نصب أي بأن، ويجوز أن يكون لا موضع لها تفسيرا إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ كنتم في موضع جزم بالشرط استغني عن الجواب بما تقدّم لأنه فعل ماض.
[سورة القلم (68) : آية 23]
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23)
في موضع الحال.
[سورة القلم (68) : آية 24]
أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24)
الجواب في أَنْ كما تقدّم وفي قراءة عبد الله بغير «أن» لأن معنى يَتَخافَتُونَ يقولون سرا.
[سورة القلم (68) : آية 25]
وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25)
أصحّ ما قيل في معناه على قصد، كما قال مجاهد: قد أسّسوا ذلك بينهم أي عملوه على قصد وتأسيس ومؤامرة بينهم قادرين عليه عند أنفسهم.
[سورة القلم (68) : آية 26]
فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)
أي قد ضللنا الطريق، وليست هذه جنّتنا لمّا رأوها محترقة.
[سورة القلم (68) : آية 27]
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)
قيل: فقال من يعرفها ويعلم أنهم لم يضلّوا الطريق، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) أي حرمنا ثمارها لما فعلنا.
[سورة القلم (68) : آية 28]
قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28)
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أعدلهم أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ أي هلّا.
[سورة القلم (68) : آية 29]
قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29)(5/8)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)
قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا نصب على المصدر إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي جعلنا الشيء في غير موضعه بمنعنا ما يجب علينا، وكذا الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه.
[سورة القلم (68) : آية 30]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30)
في موضع نصب على الحال.
[سورة القلم (68) : آية 31]
قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31)
قالُوا يا وَيْلَنا نداء مضاف والفائدة فيه أنّ معناه هذا وقت حضور الويل. إِنَّا كُنَّا طاغِينَ أي في مخالفتنا أمر ربّنا وتجاوزنا إياه.
[سورة القلم (68) : آية 32]
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32)
وحكى سيبويه «1» ، أنّ من العرب من يحذف «أن» مع عسى تشبيها بلعل إِلى رَبِّنا راغِبُونَ أي في أن يبدلنا خيرا منها.
[سورة القلم (68) : آية 33]
كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)
كَذلِكَ الْعَذابُ مبتدأ وخبره، وكذا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ وسمّيت آخرة لأنها آخرة بعد أولى وقيل: لتأخرها على الناس لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «لو» لا يليها إلّا الفعل لشبهها بحروف الشرط.
[سورة القلم (68) : آية 34]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)
جَنَّاتِ نصب بإن وعلامة النصب كسرة التاء إلّا أنّ الأخفش كان يقول: هي مبنية غير معربة في موضع النصب.
[سورة القلم (68) : آية 35]
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)
كَالْمُجْرِمِينَ الكاف في موضع نصب مفعول ثان.
[سورة القلم (68) : آية 36]
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)
ما في موضع رفع بالابتداء، وهي اسم تام ولَكُمْ الخبر وكَيْفَ في موضع نصب بتحكمون.
[سورة القلم (68) : آية 37]
أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)
__________
(1) انظر الكتاب 1/ 92.(5/9)
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)
أي هل لكم كتاب جاءكم من عند الله تدرسون فيه.
[سورة القلم (68) : الآيات 38 الى 39]
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39)
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أي لأنفسكم علينا. وكسرت «إن» لمجيء اللام بعدها، وكذا أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي أم لكم أيمان حلفنا لكم بها منتهية إلى يوم القيامة إنّ لكم حكمكم. وفي قراءة الحسن «بالغة» «1» بالنصب. قال الفراء «2» : على المصدر أي حقا، وقال غيره: على الحال من المضمر الذي في علينا.
[سورة القلم (68) : آية 40]
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40)
زَعِيمٌ أي ضمين.
[سورة القلم (68) : آية 41]
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41)
أي شركاء يعينونهم ويشهدون لهم.
[سورة القلم (68) : آية 42]
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ هذه القراءة التي عليها جماعة الحجة وما يروى من غيرها يقع فيه الاضطراب، وكذا أكثر القراءات الخارجة عن الجماعة، وإن وقعت في الأسانيد الصحاح إلا أنها من جهة الآحاد. فمن ذلك ما قرئ على إبراهيم بن موسى عن محمد بن الجهم قال: حدّثنا الفراء قال: حدّثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قرأ «يوم تكشف عن ساق» «3» يريد القيامة والساعة لشدّتها. قال أبو جعفر:
وهذا إسناد مستقيم ثم وقع فيه ما ذكرناه، كما قرئ على أحمد بن محمد بن الحجاج عن أبي عبد الله المخزومي وجماعة من أصحاب سفيان قالوا: حدّثنا سفيان عن عمرو عن ابن عباس أنه قرأ «يوم نكشف عن ساق» بالنون. وروى سفيان الثوري عن سلمة كهيل عن أبي صادق عن ابن مسعود أنه قرأ: «يوم نكشف عن ساق» بالنون. وروى سفيان الثوري عن سلمة أيضا عن أبي الزعراء عن ابن مسعود أنه قرأ «يوم يكشف عن ساق» بفتح الياء وكسر الشين. والذي عليه أهل التفسير أن المعنى يوم يكشف عن شدّة. وذلك معروف في كلام العرب، ويجوز أن يكون المعنى يوم يكشف الناس عن
__________
(1) وهذه قراءة زيد بن علي أيضا، انظر البحر المحيط 8/ 308. [.....]
(2) انظر معاني الفراء 3/ 176.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 309 (قرأ الجمهور «يكشف» بالياء مبنيا للمفعول، وقرأ عبد الله بن أبي عبلة بفتح الياء مبنيا للفاعل، وابن عباس وابن مسعود وابن هرمز بالنون، وابن عباس «يكشف» بفتح الياء مبنيا للفاعل وعنه أيضا بالياء مضمومة) .(5/10)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
سوقهم لشدّة ما هم فيه، ذلك مستعمل في كلام العرب، وساق مؤنّثة تصغّر بالهاء.
وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ قيل: إنما يدعون إلى السجود ليوبّخوا بذلك فيقال لهم:
قد دعيتم إلى السجود الذي ينفعكم في الدنيا فأبيتم فهلمّ فاسجدوا الساعة لأنها ليست دار محنة ولا ينفع فيها السجود فيكون المعنى على هذا وهم لا يستطيعون أن يسجدوا سجودا ينتفعون به، وقيل: بل تجفّ أصلابهم عقوبة فلا يستطيعون السجود.
[سورة القلم (68) : آية 43]
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43)
خاشِعَةً نصب على الحال. أَبْصارُهُمْ رفع بالخشوع، ويجوز رفعهما جميعا على المبتدأ وخبره. تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ في موضع نصب أيضا على الحال، ويجوز قطعه من الأول. وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ أي في الدنيا.
[سورة القلم (68) : آية 44]
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44)
مَنْ في موضع نصب عطف، وإن شئت كان مفعولا معه الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ في معناه قولان: أحدهما سنمتّعهم ونوسع عليهم في الدنيا حتى يتوهموا أن لهم خيرا ويغتروا بما هم فيه من النعمة والسّرور فنأخذهم بغتة كما روى أبو موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله عزّ وجلّ ليمهل الظّالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ:
وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ «1» وقيل: سنستدرجهم من قبورهم إلى النار.
[سورة القلم (68) : آية 45]
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)
وَأُمْلِي لَهُمْ بإسكان الياء والأصل ضمها لأنه فعل مستقبل فحذفت الضمة لثقلها. إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي قوي شديد.
[سورة القلم (68) : آية 46]
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46)
وقراءة نافع بضم الميم الأولى وإسكان الثّانية. قال أبو جعفر: جاء بالأولى على الأصل فاختار هذا لأنها إذا لقيت ألف وصل ضمّت لا غير فأجرى ألف القطع مجراها، وقيل: جاء باللغتين جميعا كما قرأ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا [الشورى: 28] وقرأ: لا تَقْنَطُوا [الزمر: 53] وقل من يحتجّ له من أصحابه أو غيرهم.
[سورة القلم (68) : آية 47]
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
__________
(1) ذكره البغوي في شرح السنة 14/ 358، والبيهقي في الأسماء والصفات 41، والمتقي الهندي في كنز العمال (21398) ، والعجلوني في كشف الخفاء 2/ 65.(5/11)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)
قال أبو جعفر: وهذه الآية من أشكل ما في السورة وتحصيل معناها فيما قيل والله أعلم: أم عندهم اللوح المحفوظ الذي فيه الغيوب كلها فهم يكتبون منه ما يجادلونك به ويدّعون أنهم مع كفرهم بالله جلّ وعزّ وردّهم عليك بعد البراهين خير منك وأنهم على الحقّ.
[سورة القلم (68) : آية 48]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي اصبر على أداء الرسالة واحتمل أذاهم ولا تستعجل لهم العذاب وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ في ما عمله من خروجه عن قومه وغمّه بتأخر العذاب عنهم إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس وَهُوَ مَكْظُومٌ قال:
مغموم. قال أبو جعفر: والمكظوم في كلام العرب الذي قد اغتمّ لا يجد من يتفرّج إليه فقد كظم غيظه أي أخفاه.
[سورة القلم (68) : آية 49]
لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)
لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ وفي قراءة ابن مسعود «لولا أن تداركته» «1» على تأنيث النعمة والتذكير: لأنه تأنيث غير حقيقي وروي عن الأعرج «لولا أن تدّاركه» بتشديد الدال، والأصل تتداركه أدغمت التاء في الدال. لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ في موضع نصب على الحال.
[سورة القلم (68) : آية 50]
فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
قيل: المعنى فوصفه جلّ وعزّ أنه من الصالحين. وقد حكى سيبويه جعل بمعنى وصف، وقيل: فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وفّقه الله تعالى لطاعته حتى صلح.
[سورة القلم (68) : آية 51]
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)
الكوفيون يقولون: إِنْ بمعنى «ما» واللام بمعنى إلّا، والبصريون يقولون:
هي إن المشدّدة لما خفّفت وقع بعدها الفعل ولزمته لام التوكيد ليفرق بين النّفي والإيجاب. وذكر بعض النحويين الكوفيين أن هذا من إصابة العين، واستجهله بعض العلماء وقال: إنما كانوا يقولون: إنّا نصيب بالعين ما نستحسنه ونتعجّب من جودته. وهذا ليس من ذاك إنّما كانوا ينظرون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم نظر الإبغاض والنفور.
فالمعنى على هذا أنهم لحدّة نظرهم إليه يكادون يزيلونه من مكانه. يقال: أزلق
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 311 (قرأ الجمهور «تداركه» ماضيا ولم تلحقه علامة التأنيث، وقرأ عبد الله وابن عباس «تداركته» بتاء التأنيث، وابن هرمز والحسن والأعمش بشدّ الدال) .(5/12)
وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
الحجّام الشّعر وزلّفه إذا حلقه، وقد قرئ لَيُزْلِقُونَكَ «1» من أزلق وزلق أي باللغتين جميعا.
[سورة القلم (68) : آية 52]
وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)
مبتدأ وخبره، والضمير يعود على الذكر المتقدّم.
__________
(1) انظر تيسير الداني 173، والبحر المحيط 8/ 311.(5/13)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)
69 شرح إعراب سورة الحاقة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحاقة (69) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1)
رفع بالابتداء.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 2 الى 3]
مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)
مَا الْحَاقَّةُ (2) مبتدأ وخبره وهما خبر عن الحاقة، وفيه معنى التعظيم. والتقدير:
الحاقة ما هي؟ إلا أن إعادة الاسم أفخم، وكذا وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) .
[سورة الحاقة (69) : آية 4]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4)
عادٌ منوّن لخفته وثَمُودُ لا ينوّن على أنه اسم للقبيلة، وينوّن على أنه اسم للحي. قال قتادة: بالقارعة أي بالساعة. قال غيره: لأنها تقرع قلوب الناس بهجومها عليهم.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 5 الى 6]
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6)
وقال قتادة: بعث الله جلّ وعزّ عليهم صيحة فأهدتهم، وقيل: فأهلكوا بالطغيان، وقيل: بالجماعة الطاغية. قال أبو جعفر: وقول قتادة أصحّها أخبر الله بالمعنى الذي أهلكهم به لا بالسبب الذي أهلكهم من أجله كما أخبر في قصة عاد فقال جلّ ثناؤه:
وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ قال قتادة: أي باردة، وقال غيره: أي شديد الصوت عاتِيَةٍ زائدة على مقدار هبوبها.
[سورة الحاقة (69) : آية 7]
سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7)
وَثَمانِيَةَ أنثت الهاء في ثمانية، وحذفت من سبع فرقا بين المذكر والمؤنّث(5/14)
فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
حُسُوماً أصحّ ما قيل فيه متتابعة لصحّته عن ابن مسعود وابن عباس، «وحسوم» نعت ومن قال: معناه أتباع جعله مصدرا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى في موضع نصب على الحال. كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ قال قتادة: أصول النخل، وقال غيره: كأنهم أسافل النخل قد تأكّلت وخوت وتبدّدت خاوِيَةٍ على تأنيث النخل.
[سورة الحاقة (69) : آية 8]
فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8)
أي من جماعة باقية، وقيل: من بقاء.
[سورة الحاقة (69) : آية 9]
وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)
وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ «1»
قراءة الحسن وأبي رجاء وعاصم الجحدري وأبي عمرو والكسائي، وهو اختيار أبي عبيد، وقراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وابن كثير والأعمش وحمزة وَمَنْ قَبْلَهُ وهما منصوبان على الظرف قال الحسن: «ومن قبله» ومن معه. ورد أبو عبيد على من قرأ «ومن قبله» لأنه قد كان فيهم مؤمنون.
قال أبو جعفر: وهذا لا يلزم لأنه قد عرف المعنى بقوله جلّ وعزّ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ.
[سورة الحاقة (69) : آية 10]
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10)
نعت أي زائدة.
[سورة الحاقة (69) : آية 11]
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11)
مجاز لأن الجارية سفينة نوح صلى الله عليه وسلم، والمخاطبون بهذا إنما حمل أجدادهم فيها فكانوا بمنزلة من حمل معهم.
[سورة الحاقة (69) : آية 12]
لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)
لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً
قال قتادة: بقيت السفينة عظة وآية وتذكرة حتى راها أوائل هذه الأمة. وَتَعِيَها
أي التذكرة، ويروى عن عاصم أنه قرأ «وتعيّها» «2»
وهو لحن لأنه من وعى يعي، وعن طلحة أنه قرأ: «وتعيها» بإسكان العين حذف الكسرة لثقلها، وهو مثل أَرِنِي [البقرة 260 والأعراف: 143] . أُذُنٌ واعِيَةٌ
ويقال: أذن وهي مؤنثة تصغيرها أذينة.
__________
(1) انظر تيسير الداني 173.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 317، وتيسير الداني 173.(5/15)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)
[سورة الحاقة (69) : آية 13]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13)
نَفْخَةٌ واحِدَةٌ لمّا نعت المصدر حسن رفعه، ولو كان غير منعوت كان منصوبا لا غير.
[سورة الحاقة (69) : آية 14]
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14)
لأنهما جمعان، ولو قيل: فدككن أو فدكّت في الكلام لجاز.
[سورة الحاقة (69) : آية 15]
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15)
العامل في الظرف وقعت.
[سورة الحاقة (69) : آية 16]
وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16)
مبتدأ وخبره.
[سورة الحاقة (69) : آية 17]
وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)
وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها أي على أرجاء السماء والرجا الناحية مقصور يكتب بالألف، والرجاء من الأمل ممدود، وَالْمَلَكُ بمعنى الملائكة يدلّك على ذلك وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ روى السديّ عن أبي مالك عن ابن عباس قال: ثمانية صفوف لا يعلم عددهم إلّا الله جلّ وعزّ، وكذا قال الضحاك، وقال ابن إسحاق وابن زيد: ثمانية أملاك وهم اليوم أربعة.
[سورة الحاقة (69) : آية 18]
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18)
على تأنيث اللفظ، وقراءة الكوفيين «يخفى» «1»
لأنه تأنيث غير حقيقي، وقد فصل بينه وبين فعله.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 19 الى 21]
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ.
رفع بالابتداء، وخبره فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ قال بعض أهل اللغة: الأصل هاكم ثم أبدل من الكاف. وروى ابن طلحة عن ابن عباس إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) قال:
أيقنت. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) على النسب أي ذات رضىّ.
__________
(1) انظر تيسير الداني 173، والبحر المحيط 8/ 318 (قرأ الجمهور «لا تخفى» بتاء التأنيث وعلي وابن وثاء وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وغيرهم بالياء) .(5/16)
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)
[سورة الحاقة (69) : آية 22]
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22)
بدل بإعادة الحرف.
[سورة الحاقة (69) : آية 23]
قُطُوفُها دانِيَةٌ (23)
روى شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال: يأكل من فواكهها وهو قائم.
[سورة الحاقة (69) : آية 24]
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24)
وهي أيام الدنيا من «خلا» إذا مضى.
[سورة الحاقة (69) : آية 25]
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25)
ومن العرب من يقول: ليتني فيحذف النون كما يحذفها في «إن» .
[سورة الحاقة (69) : آية 26]
وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26)
بإثبات الهاء في الوقف، وكذا ما لبيان الحركة وإثباتها في الوصل لحن لا يجوز عند أحد من أهل العربية علمته. ومن اتّبع السواد وأراد السلامة من اللّحن وقف عليها فكان مصيبا من الجهتين.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 27 الى 28]
يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28)
يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ اسم كان فيها مضمر، والتاء ليست باسم إنما هي علامة للتأنيث.
ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ «ما» في موضع نصب بأغنى، ويجوز أن تكون نافية لا موضع لها.
[سورة الحاقة (69) : آية 29]
هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29)
«1»
كما تقدّم في حسابيه.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 30 الى 31]
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ويجوز إثبات الواو على الأصل ومن حذفها فلسكون الواو، والهاء ليست بحاجز حصين «2» .
[سورة الحاقة (69) : الآيات 32 الى 34]
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34)
__________
(1) انظر تيسير الداني 174.
(2) الرجز لحميد الأرقط في شرح شواهد الإيضاح 341، والمقاصد النحوية 4/ 504، وشرح التصريح 2/ 286، وبلا نسبة في ديوان الأدب 1/ 118، وإصلاح المنطق ص 310، وأوضح المسالك 4/ 286، وجمهرة اللغة 1314، وخزانة الأدب 1/ 214، والمخصّص 1/ 167، ومقاييس اللغة 1/ 26، وشرح عمدة الحافظ ص 576، والخصائص 2/ 307، ولسان العرب (ذرع) و (فرع) و (رمى) ، وأدب الكاتب 507، والأزهيّة 276، والأشباه والنظائر 5/ 219 وقبله:
«ما لك لا ترمي وأنت أنزع ... أرمي عليها وهي فرع أجمع»(5/17)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
الذراع مؤنثة كما قال:
497- وهي ثلاث أذرع وإصبع «1»
وحكى الفراء «2»
: إن بعض عكل يذكّرها، وقد حكى ذلك غيره. إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) في موضع نصب، ورفع لأنه فعل مستقبل وكذا وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) .
[سورة الحاقة (69) : آية 35]
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35)
قال أبو زيد: الحميم القريب في كلام العرب.
[سورة الحاقة (69) : آية 36]
وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36)
يجوز أن يكون استثناء من الأول.
[سورة الحاقة (69) : آية 37]
لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)
وقراءة موسى بن طلحة إِلَّا الْخاطِؤُنَ على إبدال الهمزة وهي لغة شاذة.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 39]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39)
وَما لا تُبْصِرُونَ (39) «لا» زائدة للتوكيد.
[سورة الحاقة (69) : آية 40]
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)
قيل: هو مجاز لأنه سمعه منه الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 41 الى 42]
وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42)
نصب قَلِيلًا لأنه نعت لمصدر أو لظرف وكذا. وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ.
[سورة الحاقة (69) : آية 43]
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43)
__________
(1) انظر المذكر والمؤنّث للفراء 77.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 321، والمحتسب 2/ 329.(5/18)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
على إضمار مبتدأ.
[سورة الحاقة (69) : آية 44]
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44)
أي من الباطل.
[سورة الحاقة (69) : آية 45]
لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)
في معناه قولان: أحدهما بالقوة، والآخر: أهنّاه كما تقول: خذ بيده فأقمه.
[سورة الحاقة (69) : آية 46]
ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)
فأخبر الله جلّ وعزّ بحكمه في أوليائه ومن يعز عليه ليعتبر غيرهم.
[سورة الحاقة (69) : آية 47]
فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47)
نعت لأحد على المعنى.
[سورة الحاقة (69) : آية 48]
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)
قال قتادة: القرآن.
[سورة الحاقة (69) : آية 49]
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)
اسم «أنّ» .
[سورة الحاقة (69) : آية 50]
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50)
أي يتحسرون يوم القيامة على تركهم الإيمان به.
[سورة الحاقة (69) : آية 51]
وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)
أي محضه وخالصه. والكوفيون يقولون: هذا إضافة الشيء إلى نفسه.
[سورة الحاقة (69) : آية 52]
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
أي نزّهه وبرّئه مما نسب إليه من الأنداد والأولاد والشّبه «العظيم» الذي كلّ شيء صغير دونه.(5/19)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)
70 شرح إعراب سورة سأل سائل (المعارج)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المعارج (70) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1)
سَأَلَ سائِلٌ هذه قراءة أهل الكوفة وأهل البصرة يهمزها جميعا، وقرأ أبو جعفر والأعرج ونافع سَأَلَ سائِلٌ «1»
الأول بغير همز والثاني مهموز، وهذه القراءة لها وجهان: أحدهما أن يكون «سال» من السيل أي انصبّ، والآخر أن يقال: سال بمعنى سأل لا أنه منه لأن هذا ليس بتخفيف الهمز لو كان منه إنما يكون على البدل من الهمز، وذلك بعيد شاذّ. قال أبو جعفر: ورأيت علي بن سليمان يذهب إلى أنه من الهمز، وإنه إنما غلط فيه على نافع وإنه إنما كان يأتي بالهمزة بين بين. قال أبو جعفر:
وهذا تأويل بعيد وتغليط لكل من روى عن نافع، والقول فيه أن سيبويه حكى: سلت أسأل بمعنى سألت فالأصل في سال سول فلما تحركت الواو وتحرك ما قبلها قلبت ألفا، ومثله خفت. وسائل مهموز على أصله إن كان من سأل وإن كان من سال فالأصل في ساول فاعل فقلبت الواو ألفا وقبلها ألف ساكنة ولا يلتقي ساكنان فأبدل من الألف همزة مثل صائم وخائف بِعَذابٍ واقِعٍ.
[سورة المعارج (70) : آية 2]
لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2)
لِلْكافِرينَ قول الفراء «2»
أن التقدير بعذاب للكافرين، ولا يجوز عنده أن يكون للكافرين متعلقا بواقع. قال أبو جعفر: وظاهر القرآن على غير ما قال وأهل التأويل على غير قوله. قال مجاهد: وواقع في الآخرة، وقال الحسن: أنزل الله جلّ وعزّ:
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ فقالوا لمن هو على من يقع؟ فأنزل الله تعالى: لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 326، وتيسير الداني 174.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 183. [.....](5/20)
مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11)
[سورة المعارج (70) : آية 3]
مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3)
قيل: المعارج درج الجنّة، وروى ابن نجيح عن مجاهد قال: السماء.
[سورة المعارج (70) : آية 4]
تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
وفي قراءة عبد الله «يعرج» «1»
على تذكير الجميع. فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قال أبو جعفر: قد ذكرنا فيه أقوالا، وأعلى ما قيل فيه عن ابن عباس أنه قال: هو يوم القيامة، وأن المعنى مقدار محاسبة الله جلّ وعزّ الخلق فيه وإثابته ومعاقبته إياهم مقدار ذلك خمسون ألف سنة لو كان غيره المحاسب، ويدلّ على هذا حديث أبي سعيد الخدري قيل: يا رسول الله ما أطول هذا اليوم فقال: «إنّه على المؤمن أخفّ من صلاة مكتوبة يصلّيها» «2» .
[سورة المعارج (70) : آية 5]
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5)
فَاصْبِرْ على أذاهم. صَبْراً جَمِيلًا لا جزع فيه.
[سورة المعارج (70) : آية 6]
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6)
لأنهم لا يؤمنون به. قيل: الضمير في «إنهم» للكافرين وفي «يرونه» للعذاب.
[سورة المعارج (70) : آية 7]
وَنَراهُ قَرِيباً (7)
لأنه كائن، وكلّ كائن قريب.
[سورة المعارج (70) : آية 8]
يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8)
يكون التقدير: يقع هذا أو يبصرونهم يوم تكون السّماء كالمهل، وأضيف يوم إلى الفعل، لأنه بمعنى المصدر وعطف عليه.
[سورة المعارج (70) : آية 9]
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)
جمع عهنة، ويقال عهون.
[سورة المعارج (70) : الآيات 10 الى 11]
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11)
يُبَصَّرُونَهُمْ في هذا المضمر اختلاف عن العلماء فعن ابن عباس يبصّر الحميم حميمه أي يراه ويعرفه ثم يفرّ منه. فهذا قول، وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد يبصر
__________
(1) انظر تيسير الداني 174، ومعاني الفراء 3/ 184، والبحر المحيط 8/ 327.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 327.(5/21)
وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)
المؤمنون الكافرين وعن ابن زيد يبصّر في النار التابعون للمتبوعين. قال أبو جعفر:
وأولى هذه الأقوال بالصواب القول الأول لأنه قد تقدّم ذكر الحميم فيكون الضمير راجعا عليه أولى من أن يعود على ما لم يجر له ذكر يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ
بنيت «يومئذ» »
لمّا أضيفت إلى غير معرب، وإن شئت خفضتها بالإضافة فقرأت مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ.
[سورة المعارج (70) : الآيات 12 الى 13]
وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13)
وَفَصِيلَتِهِ والجمع فصائل وفصل وفصلان.
[سورة المعارج (70) : آية 14]
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
أي ثم ينجيه الافتداء لأن يَفْتَدِي يدلّ على الافتداء.
[سورة المعارج (70) : الآيات 15 الى 16]
كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16)
كَلَّا تمام حسن إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى بين النحويين في هذا اختلاف تكون لظى في موضع نصب على البدل من قولك «ها» ونزّاعة خبر «إنّ» ، وقيل: لَظى في موضع رفع على خبر «إن» ونَزَّاعَةً خبر ثان أو بدل على إضمار مبتدأ، وقيل: إنّ «ها» كناية عن القصة ولَظى نَزَّاعَةً مبتدأ وخبره وهما خبر عن «إنّ» وأجاز أبو عبيد نَزَّاعَةً «2»
بالنصب، وحكى أنه لم يقرأ به. قال أبو جعفر: وأبو العباس محمد بن يزيد لا يجيز النصب في هذا لأنه لا يجوز أن يكون إلا نزاعة للشوى، وليس كذا سبيل الحال.
[سورة المعارج (70) : آية 17]
تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)
مجاز لأنه يروى أن خزنتها ينادون: ائتونا بمن أدبر وتولّى عن طاعة الله، وروى سعيد عن قتادة: تدعو من أدبر عن طاعة الله وتولّى عن كتابه وحقّه.
[سورة المعارج (70) : آية 18]
وَجَمَعَ فَأَوْعى (18)
أي جعل المال في وعاء ولم يؤدّ منه الحقوق. ويقال: وعيت العلم وأوعيت المتاع.
[سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 21]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21)
__________
(1) انظر تيسير الداني 174 (قرأ نافع والكسائي بفتح الميم والباقون بخفضها) .
(2) انظر تيسير الداني 174، والبحر المحيط 8/ 328.(5/22)
إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)
خُلِقَ في موضع خبر «إنّ» ونصبت هَلُوعاً على الحال المقدّرة والهلوع فيما حكاه أهل اللغة الذي يستعمل في حال الفقر ما لا ينبغي أن يستعمله من الجزع وقلة التأسّي وفي الغنى ما لا ينبغي أن يستعمله من منع الحقّ الواجب وقلة الشكر. وقد بين هذا بقوله: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ونصبت جَزُوعاً ومَنُوعاً على النعت لهلوع، ويجوز أن يكون التقدير صار كذا.
[سورة المعارج (70) : آية 22]
إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22)
نصب على الاستثناء.
[سورة المعارج (70) : آية 23]
الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23)
نعت.
[سورة المعارج (70) : آية 24]
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)
عطف عليه روى سعيد بأن قتادة قال: الصدقة المفروضة، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس: وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ قال: يقول سوى الصدقة يصل بها رحما ويقوّي بها ضعيفا أو يحمل بها كلّا أو يعين بها محروما.
[سورة المعارج (70) : آية 25]
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)
قال أبو جعفر: صح عن ابن عباس قال: المحروم المحارف، وعن قتادة السائل الذي يسأل بكفّه، والمحروم المتعفّف أي الذي لا يسأل، ولكل عليك حقّ يا ابن آدم، وعن ابن زيد «المحروم» الذي احترق زرعه.
[سورة المعارج (70) : الآيات 26 الى 34]
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)
فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34)
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ في موضع نصب كله معطوف على نعت المصلين وكذا وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ وكذا وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ قال أبو جعفر وقراءة أبي عبد الرحمن والحسن بِشَهاداتِهِمْ «1»
قال أبو جعفر: شهادة مصدر فذلك قرأها جماعة على التوحيد، ويجوز أن يكون واحدا يدل على جمع، وكذا وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ.
__________
(1) انظر تيسير الداني 174.(5/23)
أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)
[سورة المعارج (70) : آية 35]
أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
مبتدأ وخبره.
[سورة المعارج (70) : آية 36]
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36)
نصب على الحال وكذا عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ جمع عزة جمع بالواو والنون وفيه علامة التأنيث عوضا مما حذف منه، وفيه لغة أخرى يقال: مررت بقوم عزين، يجعل الإعراب في النون.
[سورة المعارج (70) : آية 38]
أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)
وقراءة الحسن وطلحة أَنْ يُدْخَلَ «1»
بفتح الياء وضم الخاء. قال أبو جعفر:
والآية مشكلة. فمما قيل فيها إن المعنى فما للذين كفروا قبلك مسرعين بالتكذيب لك، وقيل: بالاستماع منك ليعيبوك عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ أي متفرّقين في أديانهم وهم مخالفون للإسلام أيطمع كل امرئ منهم أن يثاب على هذا فيدخل الجنة، وقيل:
أيطمع كلّ امرئ منهم أن ينجو من العذاب على هذا الفعل لأن معنى يدخل الجنة ينجو من العذاب.
[سورة المعارج (70) : آية 39]
كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
كَلَّا ردّ عليهم إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ذكّرهم مهانتهم وأنهم إنما خلقوا من نطفة فكيف يستحقّون الثواب إذا لم يعملوا عملا صالحا، كما قال قتادة: خلقت من قذر يا ابن آدم فاتّق الله جلّ وعزّ.
[سورة المعارج (70) : آية 40]
فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40)
فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ. قال أبو ظبيان عن ابن عباس: للشمس كلّ يوم مشرق ومغرب لم يكونا لها بالأمس فذلك قوله جلّ وعزّ: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ولا زائدة للتوكيد لا نعلم في ذلك اختلافا فإنما اختلفوا في «لا أقسم» لأنه أول السورة فكرهوا أن يقولوا: زائد في أول السورة وقد أجمع النحويون أنه لا تزاد «لا» و «ما» في أول الكلام فكان الكلام في هذا أشدّ، وجواب القسم: إِنَّا لَقادِرُونَ.
[سورة المعارج (70) : آية 41]
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)
أي ليس يعجزوننا ولا يفوتوننا لأن من فاته الشيء ولم يلحقه فقد سبقه.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 186، والبحر المحيط 8/ 330.(5/24)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
[سورة المعارج (70) : آية 42]
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا جواب، وفيه معنى الشرط وفي موضع آخر ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام: 91] لأن هذا ليس بجواب، وزعم الأخفش سعيد أن الفرق بينهما أنه إذا كان بالنون فهم في تلك الحال وإذا لم يكن بالنون فهو للمستقبل يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ.
[سورة المعارج (70) : آية 43]
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)
يَوْمَ يَخْرُجُونَ بدل منه. مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً نصب على الحال. كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ وقراءة الحسن إِلى نُصُبٍ «1»
وكذا يروى عن زيد بن ثابت وأبي العالية: أي إلى غايات يستبقون، وقال الحسن: كانوا يجتمعون غدوة فيجلسون فإذا طلعت الشمس تبادروا إلى أنصابهم. فقال الأعرج: إلى نصب إلى علم. قال أبو جعفر: وتقديره في العربية إلى علم قد نصب نصبا.
[سورة المعارج (70) : آية 44]
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ أي ذليلة خاضعة لما نزل بهم ونصب خاشعة بترهقهم أو بيخرجون تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي تغشاهم ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ «2»
قيل: الذي كانوا مشركو قريش يوعدون به فلا يصدّقون ذلك.
__________
(1) انظر تيسير الداني 174 (قرأ ابن عامر وحفص بضم النون والصاد والباقون بفتح النون وإسكان الصاد) .
(2) انظر البحر المحيط 8/ 330 (قرأ الجمهور «ذلة» منوّنا، و «ذلك اليوم» برفع الميم مبتدأ وخبره، وقرأ عبد الرحمن بن خلاد عن داود بن سالم عن يعقوب والحسن بن عبد الرحمن عن التمار «ذلة» بغير تنوين مضافا إلى «ذلك» ، واليوم بخفض الميم) .(5/25)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)
71 شرح إعراب سورة نوح عليه السّلام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة نوح (71) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1)
إِنَّا الأصل إنّنا حذفت النون تخفيفا أَرْسَلْنا سكّنت اللام في الأصل لاجتماع الحركات وأنه مبنيّ نُوحاً اسم أعجمي انصرف لأنه على ثلاثة أحرف. إِلى قَوْمِهِ اسم للجمع، وقيل: قوم جمع قائم مثل تاجر وتجر أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ «أن» بمعنى التبيين تقول: أي أنذر قومك، ويجوز أن يكون في موضع نصب، ويكون المعنى بأن أنذر قومك مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ خفضت قبل بمن وأعربتها لأنها مضافة إلى «أن» .
[سورة نوح (71) : الآيات 2 الى 3]
قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ يكون أن أيضا بمعنى «أي» ، ويكون بمعنى نذير بأن اعبدوا الله وصلتها اعبدوا وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ عطف عليه.
[سورة نوح (71) : آية 4]
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ جزم لأنه جواب الأمر وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى عطف عليه إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لم يجزم بلو الفعل المستقبل لمخالفتها حروف الشرط في أنها لا تردّ الماضي إلى المستقبل.
[سورة نوح (71) : آية 5]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5)
على الظرف.
[سورة نوح (71) : آية 6]
فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6)
مفعول ثان.(5/26)
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)
[سورة نوح (71) : الآيات 7 الى 8]
وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8)
وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ منصوب على الظرف و «ما» متصلة مع «كل» إذا كانت بمعنى إذا، والجواب جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ الواحدة إصبع مؤنثة ويقال: إصبع.
وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا عطف عليه قال الفراء «1»
: أَصَرُّوا سكتوا على الكفر.
وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً مصدر فيه معنى التوكيد، وكذا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ويجوز أن يكون التقدير: ذا جهار.
[سورة نوح (71) : آية 9]
ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)
إِسْراراً مصدر أيضا فيه معنى التوكيد.
[سورة نوح (71) : آية 10]
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ أي استدعوا منه المغفرة. إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً أي ستّارا على عقوبات الذنوب لمن تاب.
[سورة نوح (71) : آية 11]
يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11)
يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ جواب الأمر. مِدْراراً نصب على الحال من السماء، ومفعال للمؤنّث بغير هاء لأنه جار على الفعل يقال: امرأة مذكار ومئناث بغير هاء.
[سورة نوح (71) : آية 12]
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12)
يروى أنهم قيل لهم هذا لأنهم كانوا شديدي المحبة للمال.
[سورة نوح (71) : آية 13]
ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13)
قد ذكرناه.
[سورة نوح (71) : آية 14]
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)
أكثر أهل التفسير على أن الأطوار خلقكم نطفة ثم علقة ثم مضغة، وقيل:
اختلاف المناظر لأنك ترى الخلق فتميّز بينهم في الصور والكلام، ولا بدّ من فرق وإن اشتبهوا. وذلك دالّ على مدبر وصانع.
[سورة نوح (71) : آية 15]
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15)
طِباقاً مصدر، ويجوز أن يكون نعتا لسبع، وأجاز الفراء «2»
الخفض في غير القرآن.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 188.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 188.(5/27)
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)
[سورة نوح (71) : آية 16]
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16)
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً قال أبو جعفر: أجلّ ما روي فيه قول عبد الله بن عمرو:
إنّ وجه القمر إلى السموات فهو فيهن على الحقيقة وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً مفعولان ...
[سورة نوح (71) : آية 17]
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17)
ومصدر أنبت إنبات إلّا أن التقدير فنبتهم نباتا قيل: هذا لأن آدم صلّى الله عليه وسلّم خلق من طين، وقيل: النطفة مخلوقة من تراب.
[سورة نوح (71) : آية 18]
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18)
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها بالإقبار وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً إلى البعث.
[سورة نوح (71) : آية 19]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)
ويجوز بصاد لأن بعدها طاء.
[سورة نوح (71) : آية 20]
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20)
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس سُبُلًا فِجاجاً قال: طرقا مختلفة.
[سورة نوح (71) : آية 21]
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21)
وقرأ الكوفيون وأبو عمرو وَوَلَدُهُ «1»
ويجوز والده مثل «أقّتت» وروى شبل عن مجاهد قال: ولده زوجه وأهله وروى خارجة عن أبي عمرو بن العلاء قال: ولده عشيرته وقومه. قال أبو جعفر: أما أهل اللغة سوى هذه الرواية عن أبي عمرو فيقولون: ولد وولد مثل بخل وبخل وفلك وفلك، ويجوز عندهم أن يكون ولد جمع ولد وثن ووثن.
[سورة نوح (71) : آية 22]
وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22)
وكُبَّاراً «2»
هي قراءة بمعنى واحد.
[سورة نوح (71) : آية 23]
وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23)
وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً. هذه قراءة أهل المدينة، وقرأ الكوفيون
__________
(1) انظر تيسير الداني 174، والبحر المحيط 8/ 334.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 189، والبحر المحيط 8/ 325 (قرأ الجمهور بتشديد الباء وهو بناء فيه مبالغة، وقرأ عيسى وابن محيصن وأبو السمال بتخفيف الباء، وقرأ زيد بن علي وابن محيصن «كبارا» بكسر الكاف وفتح الباء) .(5/28)
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)
وأبو عمرو وَدًّا بفتح الواو وهو اختيار أبي عبيد واحتجّ بقولهم عبد ودّ وأن الصنم اسمه ودّ. قال أبو جعفر: وهذا من الاحتجاجات الشاذة، والمتعارف عكس ما قال إنما يقال: عبد ودّ فإن كان من جهة التعارف فهو هذا، وإن كان من جهة الأشبه فالأشبه أن يسمّى بودّ مشتقّ من الوداد، وهو السهولة واللين، ومنه وددت الرجل أحببته ووددته إذا بررته، ووددت أن ذلك الشيء لي أي تمنيت بسهولة وتسميتهم الصنم ودّا من هذا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً لم ينصرف يغوث ويعوق لشبههما الفعل المستقبل، وقرأ الأعمش «ولا يغوث ويعوق» بالصرف، وفي حرف عبد الله فيما روى وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً قال أبو جعفر: هذا عند الخليل وسيبويه لحن وهو أيضا مخالف للسواد الأعظم وزعم الفراء «1»
: أنّ ذلك يجوز صرفه لكثرته أو كأنه نكرة، وهذا ما لا يحصل لأنه ليس إذا كثر الشيء صرف فيه ما لا ينصرف على أنه لا معنى لقوله:
لكثرته في اسم صنم، ولا معنى لأن يكون نكرة ما كان مخصوصا مثل هذا. وقد زاد الكسائي على هذا فقال: العرب تصرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل منك. قال محمد بن يزيد: هذا خطأ لأنهم قد صرفوا خيرا منك وشرّا منك ومعها منك.
[سورة نوح (71) : آية 24]
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24)
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً ويجوز في غير القرآن وقد أضللن وقد أضلّت وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا قيل: المعنى: لا توفقهم، وقيل: إلا ضلالا عن الثواب وطريق الجنة.
[سورة نوح (71) : آية 25]
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25)
«ما» زائدة للتوكيد، ولا يجوز عند البصريين غير ذلك، والكوفيون يقولون:
صلة ثم يرجعون في بعض المواضع إلى الحقّ وهذا منها زعم الفراء «2»
أن «ما» هاهنا تفيد لأن المعنى من أجل خطيئاتهم أغرقوا واحتجّ بأنّ «ما» تدل على المجازاة، وذكر حيثما تكن أكن، وذكر كيف وأين هذا في كتابه «في معاني القرآن» ومذهبه في هذا حسن لولا ما فيه من التخطيط. ذكر حيثما وهي لا يجازى بها إلّا ومعها «ما» وذكر «كيف» وهي لا يجازى بها البتة، وذكر «أين» وهي يجازى بها مع «ما» وبغير «ما» ، فجمع بين ثلاثة أشياء مختلفة.
[سورة نوح (71) : آية 26]
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26)
أي أحدا وهو من دار يدور أي أحدا يدور، وقيل: ديّار صاحب دار.
[سورة نوح (71) : آية 27]
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27)
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 189.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 189. [.....](5/29)
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ شرط يُضِلُّوا عِبادَكَ مجازاة وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً عطف عليه.
[سورة نوح (71) : آية 28]
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ بفتح الياء لأنها ياء النفس لا يجوز كسرها وهي نظيرة بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم: 22] وكذا قراءة من قرأ «ولوالدي» «1»
ومن قرأ «ولوالدي» جاز أن يسكن الياء وأن يفتحها. وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ عطف بإعادة الحرف وَالْمُؤْمِناتِ عطف بغير إعادة الحرف وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً قال الفراء «2»
: إلّا ضلالا، وأولى منه قول مجاهد: إلّا هلاكا، مشتق من التّبر وتبرت الشيء وتبرته كسرته.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 337.
(2) انظر معاني الفراء 1/ 190.(5/30)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)
72 شرح إعراب سورة الجنّ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الجن (72) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1)
قرأ جويّة بن عائذ الأسدي «قل أحي إليّ» «1»
قال أبو جعفر: هذا على لغة من قال: وحى يحي. قال العجاج: [الرجز] 498- وحى لها القرار فاستقرّت «2»
والأصل: وحي إليّ فأبدل من الواو همزة مثل أُقِّتَتْ «أنه» في موضع رفع اسم ما لم يسمّ فاعله. والنفر ثلاثة وأكثر. فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً كسرت «إن» لأنها بعد القول فهي مبتدأة. ومعنى عجب عجيب في اللغة على ما ذكره محمد بن يزيد أنه الشيء يقلّ ولا يكاد يوجد مثله.
[سورة الجن (72) : آية 2]
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2)
«لن» تدلّ على المستقبل، والأصل فيهما عند الخليل «3»
: لا أن، وزعم أبو عبيدة أنه قد يجزم بها.
[سورة الجن (72) : آية 3]
وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3)
وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا هذه قراءة المدنيين «4»
في السورة كلّها إلّا في قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ وفي وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الآية: 18] وفي وأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ [الآية: 16] . وقد زعم بعض أهل اللغة قراءة المدنيين لا يجوز غيرها، وطعن على من قرأ بالفتح لأنه توهم أنه معطوف على أَنَّهُ اسْتَمَعَ. قال أبو جعفر: وذلك غلط لأنه
__________
(1) انظر البحر المحيط 8: 339، معاني الفراء 3/ 190.
(2) مرّ الشاهر رقم (398) .
(3) انظر الكتاب 3/ 3.
(4) انظر تيسير الداني 175، والبحر المحيط 8/ 341.(5/31)
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
قد قرأ بالفتح من تقوم الحجة بقراءته. روى الأعمش عن إبراهيم بن علقمة أنه قرأ و «أن» في السورة كلها. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي بالفتح في السورة كلها إلى قوله: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي [الواقعة: 20] فلمّا أشكل عليه هذا عدل إلى قراءة أهل المدينة لأنها بينة واضحة. والقول في الفتح أنه معطوف على المعنى، والتقدير فآمنّا به وآمنّا أنه تعالى جدّ ربنا فإنه في موضع نصب. وأحسن ما روي في معنى «جدّ ربّنا» قول ابن عباس: إنه الغنى والعظمة والرفعة، وأصل الجدّ في اللّغة الارتفاع. من ذلك الجدّ أبو الأب. ومنه الجدّ الحظ وباللغة الفارسية البخت. ويقال:
إنّ الجنّ قصدوا إلى هذا وأنهم أرادوا الرفعة والحظ أي ارتفع ربنا عن أن ينسب إلى الضعف الذي في خلقه من اتّخاذ المرأة وطلب الولد والشهوة. يدلّ على هذا أن بعده مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً وقد زعم بعض الفقهاء أنه يكره أن تقول: وتعالى جدّك، واحتجّ بأن هذا إخبار عن الجنّ. وذلك غلط لأنه قد صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك ولم يذمّ الله الجنّ على هذا القول. وروي عن عكرمة: «وأنه تعالى جدّا ربّنا» .
[سورة الجن (72) : آية 4]
وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)
السّفه رقة الحلم، وثوب سفيه أي رقيق، وفتح أن أيضا حملا على المعنى أي صدّقنا وشهدنا. والشطط البعد، كما قال: [الكامل] 499- شطّت مزار العاشقين فأصبحت «1»
[سورة الجن (72) : آية 5]
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5)
لاستعظامهم ذلك، والظنّ هاهنا الشك.
[سورة الجن (72) : آية 6]
وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6)
اسم كان وخبرها يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً مفعول ثان.
[سورة الجن (72) : آية 7]
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7)
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ وإن فتحت أن حملته أيضا على المعنى أي علمنا أنهم ظنوا كما ظننتم أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً «أن» وما بعدها في موضع المفعولين لظننتم إن أعملته وإن أعملت الأول نويت بها التقدّم.
__________
(1) الشاهد لعنترة في ديوانه 109، ولسان العرب (زأر) و (زور) و (شطط) ، وتاج العروس (زور) و (شطط) و (ركل) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 3/ 42. وعجزه:
عسرا عليّ طلابها ابنة مخرم»(5/32)
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14)
[سورة الجن (72) : آية 8]
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8)
إن عدّيت وجدنا إلى مفعولين فملئت في موضع المفعول الثاني وإن عديتهما إلى واحد أضمرت «قد» . قال أبو جعفر: والأول أولى وشهب في الكثير، وفي القليل أشهبة.
[سورة الجن (72) : آية 9]
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ لم ينصرف لأنه لا نظير له في الواحد وهو نهاية الجمع. فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً شرط ومجازاة.
[سورة الجن (72) : آية 10]
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)
أحسن ما قيل فيه إن المعنى: لا ندري أشرّا أراد الله بمن في الأرض حين منعنا الاستماع من السماء أم أراد بهم ربهم أن يرسل إليهم رسولا فيرشدهم هذا مذهب ابن زيد، وكانت هذه من علامات نبوته صلّى الله عليه وسلّم أنه شدّد على الشياطين في استماعهم من السماء ورموا بالشهب.
[سورة الجن (72) : آية 11]
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11)
لمّا سكنت النون من «من» استغنيت عن زيادة نون أخرى فإذا قلت: منّي فالاسم الياء وزدت النون لئلا تكسر نون «من» كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً الواحدة طريقة ويقال: طريق وطريقة، وفلان على طريقة فلان: وفلان طريقة القوم أي رئيسهم والقوم طريقة أيضا، وإن شئت جمعت.
[سورة الجن (72) : آية 12]
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ الظن هاهنا يقين. وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً مصدر في موضع الحال.
[سورة الجن (72) : آية 13]
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13)
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ على تذكير الهدى، وهي اللغة الفصيحة. وقد تؤنث فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً وقراءة يحيى بن وثاب والأعمش فَلا يَخافُ «1»
على النهي.
[سورة الجن (72) : آية 14]
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14)
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ قسط إذا جار، هذا الأصل ثم يزاد عليه الألف فيقال: أقسط إذا أزال القسوط أي عدل.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 344.(5/33)
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
[سورة الجن (72) : آية 16]
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16)
وقراءة يحيى بن وثاب والأعمش وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا بضم الواو لالتقاء الساكنين ولأن الضمة تشبه الواو إلا أن سيبويه «1»
لا يجيز إلا الكسر في الواو الأصلية فرقا بينها وبين الزائد لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً حكى أبو عبيدة «2» سقيته وأسقيته لغة، وأما الأصمعي فقال: سقيته لفيه وأسقيته جعلت له شربا. قال أبو جعفر: وعلى ما قال الأصمعي اللغة الفصيحة، منها لأسقيناهم أي أدمنا لهم ذلك، غير أن أبا عبيدة أنشد للبيد وهو غير مدافع عن الفصاحة: [الوافر] 500-
سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هلال «3»
فسئل الأصمعي عن هذا البيت فقال: هو عندي معمول ولا يكون مطبوع يأتي للغتين في بيت واحد.
[سورة الجن (72) : آية 17]
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17)
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ حكى أبو زيد وأبو عبيدة: فتنته وأفتنته. قال أبو زيد: لغة بني تميم أفتنته. قال الأصمعي: فتنه يفتنه فهو فاتن وفتان قال الله جلّ وعزّ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ [الصافات: 162] قال: ولا يقال: أفتنه وأنكر هذه اللغة ولم يعرفها، فأنشدهم: [الطويل] 501-
لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت ... سعيدا فأمسى قد قلا كلّ مسلم «4»
قال أبو جعفر: وهذا شعر قديم، غير أن الأصمعي قال: لا بأس هذا قد سمعناه من مخنّث فلا يلتفت إليه، وإن كان قد قيل قديما. قال أبو جعفر: قد حكى الجلّة من أهل اللغة ممن يرجع إلى قوله في الصدق فتنه وأفتنه غير أن سيبويه فرّق بينهما فذهب إلى أن المعتدي أفتن، وأن معنى فتنه جعل فيه فتنة، كما تقول: كحلّه. وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً وقرأ مسلم بن جندب نَسْلُكُهُ «5» بضم النون. قال أبو جعفر: سلكه وأسلكه لغتان عند كثير من أهل اللغة، وقال الأصمعي: سلكه بغير
__________
(1) انظر الكتاب 4/ 268.
(2) انظر مجاز القرآن 1/ 349.
(3) مرّ الشاهد رقم/ 239) .
(4) الشاهد لأعشى همدان في لسان العرب (فتن) والمخصّص 4/ 62، وتاج العروس (فتن) ، ولابن قيس الرقيات في الخصائص 3/ 315، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في لسان العرب (فتن) ، وتهذيب اللغة 14/ 289، وجمهرة اللغة 406، ومقاييس اللغة 4/ 473، وديوان الأدب 2/ 334، وكتاب العين 8/ 128.
(5) انظر تيسير الداني 175 (قرأ الكوفيون بالياء والباقون بالنون) .(5/34)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
ألف. قال الله جلّ وعزّ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: 42] وكما قال الشاعر:
[البسيط] 502-
أمّا سلكت سبيلا كنت سالكها ... فاذهب فلا يبعدنك الله منتشر «1»
وسلك وسلكته مثل رجع ورجعته وأسلكته لغة معروفة أنشد أبو عبيدة وغيره لعبد مناف بن ربع: [البسيط] 503-
حتّى إذا أسلكوهم في قتائدة ... شلّا كما تطرد الجمّالة الشّردا «2»
ولم يطعن الأصمعي في هذا البيت غير أنه قال: أسلكه حمله على أن يسلك، وزعم أبو عبيدة أن الجواب محذوف وخولف في هذا، وقيل: الجواب شلّوا وشلّا يقوم مقامه.
[سورة الجن (72) : آية 18]
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18)
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ «أنّ» في موضع نصب بمعنى ولأن وعلى قول بعضهم في موضع رفع عطفا على قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ. فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً نهي لجماعة وحذفت منه النون للجزم.
[سورة الجن (72) : آية 19]
وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19)
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس «لبدا» أعوانا، وقال مجاهد: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) لبدا جماعات ومالا لبدا كثيرا. قال أبو جعفر: وهذا قول بيّن وإن كان هذا قد قرئ لِبَداً «3» فهو بعيد، والمعنى على الجماعة الأعلى الكثرة كما قال مجاهد: من تلبد الشيء على الشيء إذا تجمّع عليه ولصق به وعليه لبدة أي شعر وما أشبهه كما قال: [الطويل] 504-
لدى أسد شاكي السّلاح مقاذف ... له لبد أظفاره لم تقلّم «4»
__________
(1) الشاهد لأعشى باهلة في الأصمعيات 93، والخزانة 1/ 97. [.....]
(2) الشاهد لعبد مناف بن ربع الهذليّ في الأزهيّة 203، والإنصاف 2/ 461، وجمهرة اللغة 854، وخزانة الأدب 7/ 39، والدرر 3/ 104، وشرح أشعار الهذليين 2/ 675، وشرح شواهد الإيضاح ص 431، ولسان العرب (شرد) و (قتد) ، و (سلك) ، و (إذا) ، ومراتب النحويين ص 85، ولابن أحمر في ملحق ديوانه 179، ولسان العرب (حمر) ، وبلا نسبة في أدب الكاتب 434، والأشباه والنظائر 5/ 25، وجمهرة اللغة 390، والصاحبي في فقه اللغة 139، وهمع الهوامع 1/ 207.
(3) انظر تيسير الداني 175، والبحر المحيط 8/ 346.
(4) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 24، ولسان العرب (قذف) و (مكن) ، وتهذيب اللغة 9/ 76، وجمهرة اللغة 974، وتاج العروس (قذف) .(5/35)
قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)
[سورة الجن (72) : آية 20]
قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20)
ويقرأ قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي «1» والقراءة يقال متّسقة ويقال منقطعة، والمعنيان صحيحان أي قل لهم فقال: إنما أدعو ربي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً نسق ويجوز أن يكون مستأنفا.
[سورة الجن (72) : آية 21]
قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21)
أي لا أملك أن أضرّكم في دينكم ولا دنياكم إلا أن أرشدكم كرها أي إلّا أن أبلغكم، وفيه قول آخر يكون نصبا على إضمار فعل، ويكون مصدرا أي: قل إني لن يجيرني من الله أحد إلا أن أبلغ رسالته فيكون «أن» منفصلة من لا. والمعنى: إلّا بلاغا ما أتاني من الله ورسالاته. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً شرط ومجازاة، وهو في كلام العرب عام لكل من عصى الله جلّ وعزّ إلّا من استثني بآية من القرآن أو توقيف من الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو بإجماع من المسلمين، والذي جاء مستثنى منه من تاب وآمن ومن عمل صغيرة واجتنب الكبائر وسائر ذلك داخلون في الآية إلّا ما صحّ عن النبي من خروج الموحّدين من النار.
[سورة الجن (72) : آية 22]
قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22)
لَنْ تجعل الفعل مستقبلا لا غير وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي ملجأ ألجأ إليه وأميل. واللحد في القبر من هذا لأنه مائل ناحية منه، ويمال الميت إليه.
[سورة الجن (72) : آية 23]
إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23)
إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ نصب على الاستثناء، والمعنى فيه إذا كان استثناء.
[سورة الجن (72) : آية 24]
حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24)
إذا ظرف ولا تعرب لشبهها بالحروف بتنقّلها وأن فيها معنى المجازاة، وجوابها فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً «من» في موضع رفع لأنها استفهام، ولا يعمل في الاستفهام ما قبله هذا الوجه وإن جعلتها بمعنى الذي كانت في موضع نصب وأضمرت مبتدأ وكان أَضْعَفُ خبره وَأَقَلُّ عطف عليه عَدَداً نصب على البيان.
[سورة الجن (72) : آية 25]
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25)
أَدْرِي في موضع رفع حذفت الضمة منه، ومن نصبه فقد لحن لحنا لا يجوز أَمْ يَجْعَلُ لَهُ عطف عليه.
__________
(1) انظر تيسير الداني 175.(5/36)
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
[سورة الجن (72) : آية 26]
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26)
عالِمُ الْغَيْبِ نعت فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً.
[سورة الجن (72) : آية 27]
إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27)
إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ في موضع نصب على الاستثناء من أحد لأن أحدا بمعنى جماعة فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً بمعنى جماعة أي ذوي رصد من الملائكة يحفظونه ويحفظون ما ينزل من الوحي لا يغيّر ولا يسترق.
[سورة الجن (72) : آية 28]
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ قد ذكرناه وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ عطف جملة لأن الذي قبله مستقبل وهو ماض وكذا وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً.(5/37)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
73 شرح إعراب سورة المزّمّل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المزمل (73) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)
الأصل المتزمّل أدغمت التاء في الزاي، وفي معناه ثلاثة أقوال. فمذهب الزهري أنه تزمّل من فزع أصابه أول ما رأى الملك، ومذهب قتادة أنه تزمّل متأهّبا للصلاة، تأوّلا على قتادة وليس بنصّ قوله، ومذهب عكرمة أن المعنى: يا أيها المتزمّل النبوة والرسالة مجازا وتأوّلا على عكرمة، ونصّ قوله: قد زمّلت هذا الأمر فقم به. قال أبو جعفر: والبيّن قول الزهري. قال إبراهيم النخعيّ: كان متزمّلا في قطيفة.
[سورة المزمل (73) : الآيات 2 الى 3]
قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3)
كسرت الميم لالتقاء الساكنين ولم تردد الواو لأن الحركة ليست بلازمة. في معنى قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ثلاثة أقوال: إنّ هذا ليس بفرض. يدلّ على ذلك أن بعده نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا وليس كذلك تكون الفروض، والقول الثاني إنه منسوخ، نسخه آخر السورة وهذا قول ابن عباس، والقول الثالث إنه كان فرضا فالمخاطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يقل عزّ وجلّ قوموا، «نصفه» منصوب على إضمار فعل أي قسم نصفه، أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ضمّت الواو لالتقاء الساكنين وإن شئت كسرت على الأصل.
[سورة المزمل (73) : آية 4]
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ تخيير وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا حقيقته في كلام العرب تلبّث في قراءته وافصل الحرف من الحرف الذي بعده، ولا تستعجل فيدخل بعض الحروف في بعض.
مشتقّ من الرتل. قال الأصمعي: وفي الأسنان الرتل وهو أن يكون بين الأسنان الفرج، لا يركب بعضها بعضا، يقال ثغر رتل. قال أبو جعفر: وهذا قول صحيح بيّن، وقيل: هو من الرّتل الذي هو الضعف واللين. فالمعنى: ليّن القراءة ولا تستعجل بالانكماش.(5/38)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)
[سورة المزمل (73) : آية 5]
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5)
في معناه قولان: قال عروة: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أوحي إليه وهو على ناقته ثقل عليها حتى تضع جرانها، وقيل: لما فيه من الفرائض والمنع من الشهوات كما قال قتادة: ثقله في الميزان كثقله على الإنسان في الدنيا.
[سورة المزمل (73) : آية 6]
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6)
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ من نشأ إذا ابتدأ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً «1» كذا يقرأ أكثر القراء، وهذا نصب على البيان. ووطأ مصدر واطأ مواطأة ووطاء وَأَقْوَمُ قِيلًا بيان أيضا.
[سورة المزمل (73) : آية 7]
إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7)
وعن يحيى بن يعمر أنه قرأ «سبخا» «2» بخاء معجمة أي راحة ونوما. وفي الحديث «لا تسبّخي عنه» أي لا تخفّفي.
[سورة المزمل (73) : آية 8]
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8)
تبتيل مصدر بتّل لأن المعنى واحد، وقد تبتّل تبتّلا.
[سورة المزمل (73) : آية 9]
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ بالرفع والكوفيون يقرءون «رب المشرق والمغرب» «3» بالخفض. والرفع حسن لأنه أول الآية بمعنى هو ربّ المشرق ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ولو كان خبره فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا لكان النصب أولى به.
[سورة المزمل (73) : آية 10]
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10)
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي مما يؤذيك. وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا وهو الهجر في ذات الله جلّ وعزّ، كما قال: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام: 68] .
[سورة المزمل (73) : آية 11]
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11)
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ. عطف على النون والياء، ويجوز أن يكون مفعولا معه أُولِي النَّعْمَةِ كتبت بزيادة واو بعد الألف فرقا بين أولي وإلى وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا نعت لمصدر أو ظرف.
__________
(1) انظر تيسير الداني 175.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 355 (وهذه قراءة عكرمة وابن أبي عبلة أيضا) .
(3) انظر تيسير الداني 175، والبحر المحيط 8/ 355.(5/39)
وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
[سورة المزمل (73) : آية 13]
وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13)
إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا اسم «إنّ» الواحد نكل وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) نسق كلّه، والمعنى عندنا هذا.
[سورة المزمل (73) : آية 14]
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)
قال الفراء «1» : هلت التراب إذا حرّكت أسفله فسقط أعلاه، وقال أبو عبيد: يقال لكلّ شيء أرسلته، إرسالا من رمل أو تراب أو طعام أو نحوه: قد هلته أهيله هيلا إذا أرسلته فهو مهيل. قال أبو جعفر: الأصل مهيول فاعلّ فألقيت حركة الياء على الهاء فالتقى ساكنان، واختلف النحويون بعد هذا فقال الخليل وسيبويه «2» : حذفت الواو لالتقاء الساكنين لأنها زائدة وكسرت الهاء لمجاورتها الياء فقيل: مهيل، وزعم الكسائي والفراء والأخفش أن هذا خطأ والحجة لهم أن الواو جاءت لمعنى فلا تحذف ولكن حذفت الياء فكان يلزمهم على هذا أن يقولوا: مهول فاحتجّوا بأن الهاء كسرت لمجاورتها الياء فلمّا حذفت الياء انقلبت الواو ياء لمجاورتها الكسرة. قال أبو جعفر:
وهذا باب التصريف وغامض النحو، وقد أجمعوا جميعا على أنه يجوز مهيول ومبيوع ومكيول ومغيوم.
قال أبو زيد: هي لغة لتميم، وقال علقمة بن عبدة: [البسيط] 505- يوم رذاذ عليه الدّجن مغيوم «3» فهذا جائز في ذوات الياء، ولا يجيزه البصريون في ذوات الواو، ولا يجوز عندهم خاتم مصووغ ولا كلام مقوول، لثقل هذا لأنه قد اجتمعت واوان وضمة، وهم يستثقلون الواحدة ويفرّون منها. قال جلّ وعزّ: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ [المرسلات: 11] كذا في المصحف المجتمع عليه. قال الشاعر: [الرجز] 506- لكلّ دهر قد لبست أثؤبا «4»
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 198.
(2) انظر الكتاب 4/ 491.
(3) الشاهد لعلقمة بن عبدة في ديوانه 59، وجمهرة اللغة 963، وخزانة الأدب 11/ 295، والخصائص 1/ 261، وشرح المفصّل 10/ 78، والمقتضب 1/ 101، والممتع في التصريف 2/ 460، والمنصف 1/ 286، وبلا نسبة في شرح الأشموني 3/ 866.
(4) الرجز لمعروف بن عبد الرّحمن في شرح أبيات سيبويه 2/ 390، ولسان العرب (ثوب) ، وله أو لحميد بن ثور في شرح التصريح 2/ 301 والمقاصد النحوية 4/ 522، وبلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب 2/ 804، والكتاب 4/ 65، وشرح الأشموني 3/ 672، ولسان العرب (ملح) ، ومجالس ثعلب 439، والمقتضب 1/ 29، والممتع في التصريف 1/ 336، والمنصف 1/ 284.(5/40)
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)
فأبدل من الواو همزة، وأجاز النحويون رمل مهول وثوب مبوع ينوه على بوع الثوب فأبدل من الياء واو لضمة ما قبلها، وأنشد الفراء: [الطويل] 507-
ألم تر أنّ الملك قد شون وجهه ... ونبع بلاد الله قد صار عوسجا «1»
يريد «شين» ، وأنشد الكسائي والفراء: [الطويل] 508-
ويأوي إلى زغب مساكين دونهم ... فلا لا تخطّاه الرّكاب مهوب «2»
واللغة العالية التي جاء بها القرآن. قال عائذ بن محصن بن ثعلبة:
[الوافر] 509-
فأبقى باطلي والحدّ منها ... كدكّان الدّرابنة المطين «3»
[سورة المزمل (73) : آية 15]
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15)
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا النون والألف الثانية في موضع رفع والأولى في موضع نصب واتّفق المكنيان لأنهما غير معربين شاهِداً عَلَيْكُمْ نعت لرسول. كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا الكاف في موضع نصب.
[سورة المزمل (73) : الآيات 16 الى 17]
فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17)
فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ رسول الأول نكرة لأنه لم يتقدّم ذكره والثاني معرفة لأنه قد تقدّم ذكره ولهذا يكتب في أول الكتب «سلام عليك» وفي آخرها «والسّلام» ، ولهذا اختار بعض العلماء في التسليمة الأولى من الصلاة: سلام عليكم، وفي الثانية: السّلام عليكم وذلك المختار في كلام العرب فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا نعت لأخذ. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس «وبيلا» أي شديدا. قال أبو جعفر: يقال كلأ مستوبل أي لا يستمرأ. قال الفراء «4» : وفي قراءة ابن مسعود: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً قال أبو جعفر: وهذه القراءة على التفسير، وفي يجعل ضمير يعود على اليوم،
__________
(1) البيت غير موجود في معاني الفراء، ولم أجده في المصادر التي بين يديّ.
(2) الشاهد لحميد بن ثور في ديوانه ص 54، ولسان العرب (هيب) و (فلا) ، والتنبيه والإيضاح 1/ 153، وبلا نسبة في تاج العروس (هيب) و (فلا) .
(3) الشاهد للمثقّب العبدي في ديوانه 200، ولسان العرب (دكك) ، و (دربن) و (طين) ، وجمهرة اللغة 1324، وتاج العروس (دكك) و (دربن) ، و (طين) ، وشرح اختيارات المفضّل ص 1264، ومقاييس اللغة 2/ 258، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 14/ 247، ومجمل اللغة 2/ 282، والمخصص 14/ 42، وجمهرة اللغة 680. [.....]
(4) انظر معاني الفراء 3/ 198.(5/41)
السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
ويجوز أن يكون الضمير يعود على اسم الله ويكون في الكلام حذف أي يجعل الولدان فيه شيبا.
[سورة المزمل (73) : آية 18]
السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18)
السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ولم يقل: منفطرة والسماء مؤنثة في هذا ثلاثة أقوال: قال الخليل رحمه الله: وهو كما تقول معضّل يريد على النسب، وقيل: حمل التذكير على معنى السقف، والقول الثالث قول الفراء «1» إن السماء تؤنث وتذكّر فجاء هذا على التذكير، وأنشد: [الوافر] 510-
فلو رفع السّماء إليه قوما ... لحقنا بالنّجوم مع السحاب «2»
كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا أي ليس لوعده خلف، وقد وعد بكون هذه الأشياء في القيامة.
[سورة المزمل (73) : آية 19]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ أي هذه الأشياء التي تكون في القيامة عظة وقال قتادة: يعني القرآن. فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا قال: أي بطاعتهم.
[سورة المزمل (73) : آية 20]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ عطف على ثلثي الليل، وهي قراءة الحسن وأبي عمرو وأبي جعفر وشيبة ونافع، وقرأ عاصم والأعمش وحمزة والكسائي نِصْفَهُ وَثُلُثَهُ «3» عطفا على أدنى، وقرأ ابن كثير وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ حذف الضمة لثقلها واختار أبو عبيد الخفض واحتجّ أن بعده عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ قال: فكيف يقومون نصفه؟ قال أبو جعفر:
القراءتان قد قرأ بهما الجماعة، وتقدير الخفض ويا قوم أدنى من نصفه وأدنى من ثلثه.
وتقدير النصب أدنى من ثلثي الليل وذلك أكثر من النصف مرة وتقوم نصفه مرة وتقوم ثلثه مرة والاحتجاج بعلم أن لن تحصوه لا معنى له لأنه لم يخبر أنّهم قالوا: قمنا نصفه
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 199.
(2) مرّ الشاهد رقم 466.
(3) انظر تيسير الداني 175، والبحر المحيط 8/ 358.(5/42)
وإنما أخبر بحقيقة ما يعلمه، وقد عكس الفراء «1» قوله فاختار النصب لأن المعنى عنده عليه أولى لأنه يستبعد وأقلّ من نصفه: لأنه إنما يبين القليل عنده لا أقلّ القليل، ولو كان كما قال لكان نصفه بغير واو حتى يكون تبيينا لأدنى، والسلامة من هذا عند أهل الدين إذا صحّت القراءتان عن الجماعة أن لا يقال إحداهما أجود من الأخرى لأنهما جميعا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيأثم من قال ذلك. وكان رؤساء الصحابة رحمهم الله ينكرون مثل هذا وقد أجاز الفراء «2» . إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ نصب «ثلثه» عطفا على «أدنى» وخفض نِصْفَهُ عطفا على ثُلُثَيِ اللَّيْلِ واحتجّ بالحديث:
انتهت صلاة النبي إلى ثلث الليل «3» وهذا أيضا مما يكره أن تعارض به قراءة الجماعة بما لم يقرأ به وبحديث إن صح لم تكن فيه حجّة وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ احتجّ بعض العلماء بهذا واستدل على أن صلاة الليل ليست بفرض. قال: ولو كانت فرضا لقاموا كلّهم. وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي يقدّر ساعاتهما وأوقاتهما عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ قال الحسن وسعيد بن جبير: أن لن تطيقوه، وقال الفراء: أن لن تحفظوه فَتابَ عَلَيْكُمْ رجع لكم إلى ما هو أسهل عليكم. والتوبة في اللغة الرجوع فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى والتقدير عند سيبويه أنّثه وذكّر سيكون لأنه تأنيث غير حقيقي وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عطف على «مرضى» وكذا وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ فلهذا استحبّ جماعة من العلماء من العلماء قيام الليل، ولو كان أدنى شيء والحديث فيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مؤكد. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال ابن زيد: النوافل سوى الزكاة. وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً أي مما أنفقتم ونصبت «خيرا» لأنه خبر «تجدوه» وهُوَ زائدة للفصل وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ أي من ذنوبكم وتقصيركم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ أي على سائر عقوبة من تاب رَحِيمٌ به لا يعذّبه بعد التّوبة.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 199.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 199.
(3) انظر تفسير الطبري 19/ 33.(5/43)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)
74 شرح إعراب سورة المدّثّر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المدثر (74) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)
الأصل المتدثر أدغمت التاء في الدال لأنها من موضع واحد. قال إبراهيم النخعي: كان متدثّرا بقطيفة. وقال عكرمة: أي دثّرت هذا الأمر فقم به.
[سورة المدثر (74) : آية 2]
قُمْ فَأَنْذِرْ (2)
قال قتادة: أي أنذر عذاب الله وقائعه بالأمم. قال أبو جعفر: فالتقدير على قول قتادة فأنذرهم بهذه الأشياء ثم حذف هذا للدلالة.
[سورة المدثر (74) : آية 3]
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)
أي عظّمه بعبادته وحده، وهو نصب بكبّر.
[سورة المدثر (74) : الآيات 4 الى 5]
وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) نصب بطهّر وَالرُّجْزَ نصب ب فاهجر ولو كانت في الأفعال الهاء لكان النصب أولى أيضا لأن الأمر بالفعل أولى.
[سورة المدثر (74) : آية 6]
وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)
وَلا تَمْنُنْ جزم بالنهي، وأظهرت التضعيف لسكون الثاني ولو كان في الكلام لجاز لا تمنّ بفتح النون وكسرها وضمها، وروى حصيف عن مجاهد قال: لا تَمْنُنْ لا تضعف، قال أبو جعفر: ويكون مأخوذا من المنين وهو الضعيف، ويكون التقدير ولا تضعف أن تستكثر من الخير فحذفت «أن» ورفع الفعل، وقال ابن زيد: ولا تمنن على الناس بتأدية الرسالة لتستكثر منهم. قال أبو جعفر: وأولى ما قيل في المعنى والله جلّ وعزّ أعلم- ولا تَمْنُنْ بطاعتك وتأديتك الرسالة تَسْتَكْثِرُ ذلك، وهذا معنى(5/44)
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)
قول الحسن «1» . قال أبو جعفر: فقلنا: هذا أولى لأنه أشبه بسياق الكلام لأن في الكلام تحذيرا وأمرا بالصبر والجدّ في الطاعة.
[سورة المدثر (74) : آية 7]
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
أي على طاعته.
[سورة المدثر (74) : آية 8]
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)
اسم ما لم يسمّ فاعله على قول سيبويه: في الناقور، وعلى قول أبي العباس مضمر دل عليه الفعل.
[سورة المدثر (74) : الآيات 9 الى 10]
فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
فَذلِكَ مبتدأ يَوْمَئِذٍ يكون بدلا منه وفتح لأنه مبني كما قرئ مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ [المعارج: 11] ، ويجوز أن يكون منصوبا بمعنى أعني، يَوْمٌ خبر الابتداء عَسِيرٌ من نعته وكذا غَيْرُ يَسِيرٍ.
[سورة المدثر (74) : آية 11]
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11)
مَنْ في موضع نصب على أنها مفعول معه أو عطف على النون والياء وَحِيداً نصب على الحال.
[سورة المدثر (74) : آية 12]
وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12)
لَهُ في موضع المفعول الثاني.
[سورة المدثر (74) : آية 13]
وَبَنِينَ شُهُوداً (13)
لما تحرّكت حذفت ألف الوصل، وعلى هذا قالوا: في النسب بنويّ وأجاز سيبويه «2» : «ابنيّ» ، ومنعه بعض الكوفيين.
[سورة المدثر (74) : آية 14]
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14)
مصدر مؤكّد.
[سورة المدثر (74) : الآيات 15 الى 16]
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16)
كَلَّا ردّ لطعمه وردع له إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً بمعنى معاند.
[سورة المدثر (74) : آية 17]
سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17)
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 364.
(2) انظر الكتاب 3/ 395.(5/45)
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28)
روى عطية عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يكلّف صعود عقبة إذا جعل يده عليها ذابت وإذا جعل رجله عليها ذابت» «1» .
[سورة المدثر (74) : الآيات 18 الى 19]
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) أي فكّر في ردّ آيات الله جلّ وعزّ، وقد رجع مرة بعد مرة ينظر هل يقدر أن يردّها وهو الوليد بن المغيرة بلا اختلاف. قال قتادة: زعموا أنه فكر فيما جاء به النبي فقال: والله ما هو بشعر، وإن له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وما هو عندي إلا سحر. فأنزل الله تعالى: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) قال أبو جعفر: قول الفراء قتل بمعنى لعن. قال أبو جعفر: هذا يجب على كلام العرب أن يكون قتل بمعنى أهلك لأن المقتول مهلك.
[سورة المدثر (74) : الآيات 21 الى 22]
ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22)
أي قبض بين عينيه وقطّب لمّا عسر عليه الردّ على النبي صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة المدثر (74) : آية 23]
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23)
ثُمَّ أَدْبَرَ عن الحق وَاسْتَكْبَرَ فأخبر الله بجهله أنه تكبّر أن يصدّق بآيات الله ورسوله بعد أن يتهيأ له ردّ ما جاء به، ولم يتكبّر أن يسجد لحجارة لا تنفع ولا تضر.
[سورة المدثر (74) : الآيات 24 الى 25]
فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) لما لم يجد حجّة كفر ثم قال إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) فزاد في جهله ما لم يخف لأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قد تحدّاهم وهم عرب مثله على أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا عن ذلك، ولو كان قول البشر لساغ لهم ما ساغ له.
[سورة المدثر (74) : آية 26]
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)
قيل: لم ينصرف لأنها اسم لمؤنث، وقيل: إنها اسم أعجمي والأول الصّواب لأن الأعجمي إذا كان على ثلاثة أحرف انصرف وإن كان متحرّك الأوسط، وأيضا فإنه اسم عربيّ مشتقّ يقال: سقرته الشمس إذا أحرقته، والسّاقور حديدة تحمى ويكوى بها الحمار.
[سورة المدثر (74) : آية 27]
وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27)
الجملة في موضع نصب بإدراك إلّا أن الاستفهام لا يعلم فيه ما قبله.
[سورة المدثر (74) : آية 28]
لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28)
يقال: لم حذفت الواو من «تذر» ؟ وإنما تحذف في «يذر» ؟ فإن قيل: أصله يفعل
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 366.(5/46)
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32)
قيل: فتح وليس فيه حرف من حروف الحلق؟ فالجواب قاله ابن كيسان: لمّا كان يذر بمعنى يدع في أنه لا ينطق منه بماضي ومعناهما واحد اتبعوه إياه.
[سورة المدثر (74) : آية 29]
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)
على إضمار مبتدأ أي هي لوّاحة للبشر أي للخلق، ويجوز أن يكون جمع بشرة.
[سورة المدثر (74) : آية 30]
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
في موضع رفع بالابتداء إلا أنه فتح لأن واو العطف حذفت منه فحرّك بحركتها، وقيل: ثقل فأعطي أخفّ الحركات لأنهما اسمان في الأصل واختلف النحويون في النسب إليهما فمذهب سيبويه «1» وجماعة من النحويين أنك إذا نسبت إليهما حذفت الثاني ونسبت إلى الأول فقلت: تسعيّ، وأحدي إلى أحد عشر وبعلي في النسب إلى بعلبكّ، والقول الآخر أن النسب إليهما جميعا لا غير وأنه يقال تسعة عشريّ وبعلبكيّ وردّ أبو العباس أحمد بن يحيى القول الأول وقال: هما اسمان يؤدّيان عن معنى فإذا أسقطت الثاني ذهب معناه ولم يجز إلا النسب إليهما جميعا، واحتجّ بما أجمع عليه النحويون من قولهم: هذا حبّ رمانيّ وجحر ضبيّ فأضاف إلى الثاني ولم يحذف، وكذا هذا أبو عمريّ. قال أحمد بن يحيى: فهذا في النسب أوكد. يعني هذا تسعة عشريّ ومعدي كربيّ وبعلبكيّ. وأجاز الفراء «2» : جاءني أحد عشر بإسكان العين، وكذا ثلاثة عشر إلى تسعة عشر، ولا يجيز هذا في اثني عشر لئلا يجمع بين ساكنين، ولا يجيزه في المؤنّث لئلا يجمع بين ساكنين. قال أبو جعفر: والذي قاله لا يبعد قد روي عن أبي جعفر أنه قرأ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ «3» .
[سورة المدثر (74) : الآيات 31 الى 32]
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32)
أَصْحابَ جمع صاحب على حذف الزائد لأن أفعالا ليس بجمع فاعل بغير حذف، وأفعال جمع ثمانية أمثلة ليس منها فاعل ولا فعل وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي شدّة وتعبدا ليكفروا فيعلموا أن الله قادر على تقوية هؤلاء الملائكة وتأييدهم لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لام كي وأصلها أنها لام الخفض لأن المعنى: لاستيقان الذين
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 412.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 203.
(3) انظر المحتسب 2/ 338، والبحر المحيط 8/ 368.(5/47)
وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36)
أوتوا الكتاب وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً عطف على الأول، وكذا وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ثم أعيدت اللّام، ولو لم يؤت بها لجاز في وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا «ما» في موضع نصب بأراد، وهي وذا بمنزلة شيء واحد فإن جعلت «ذا» بمعنى الذي فما في موضع رفع بالابتداء وذا خبره وما بعده صلة له كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ الكاف في موضع نصب نعت لمصدر. وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ رفع بيعلم، ولا يجوز النصب على الاستثناء، وكذا وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ قال مجاهد: أي وما النار إلا ذكرى للبشر، وذكر محمد بن جرير أن التمام كَلَّا على أن المعنى ليس القول على ما قال المشرك لأصحابه المشركين أنا أكفيكم أمر خزنة النار وَالْقَمَرِ قسم أي وربّ القمر.
[سورة المدثر (74) : الآيات 33 الى 34]
وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34)
«1» قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وأبي جعفر وشيبة وابن كثير وأبي عمرو وعاصم، وقرأ الحسن وابن محيصن وحمزة ونافع وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ. قال أبو جعفر: الصحيح أن دبر وأدبر بمعنى واحد. على هذا كلام أهل التفسير وأكثر أهل اللغة. و «إذا» للمستقبل و «إذ» للماضي. وأما قول أبي عبيد أنه يختار «إذا دبر» لأن بعده وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ لأن الله تعالى يقسم بما شاء ولا يتحكّم في ذلك بأن يكونا جميعا مستقبلين أو ماضيين.
[سورة المدثر (74) : آية 35]
إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)
أن إن النار لإحدى الأمور العظام قال أبو رزين: «إنها» أي إن جهنّم والْكُبَرِ بالألف واللام لا يجوز حذفهما عند أحد من النحويين، ولم يجيء في كلام العرب شيء من هذا بغير الألف واللام إلّا أخر، ولذلك منعت من الصرف.
[سورة المدثر (74) : آية 36]
نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36)
قال الحسن: ليس نذير أدهى من النار أو معنى هذا. قال أبو رزين: يقول الله تعالى أنا نذير للبشر، وقال ابن زيد: محمد صلّى الله عليه وسلّم نذير للبشر. قال أبو جعفر: فهذه أقوال أهل التأويل وقد يستخرج الأقراب منها. وفي نصب نذير سبعة أقوال: يكون حالا من المضمر في «أنا» ، ويجوز أن يكون حالا من إحدى الكبر. وهذان القولان مستخرجان من قول الحسن لأنه جعل النار هي المنذرة، ويجوز أن يكون التقدير: وما يعلم جنود ربّك إلا هو نذيرا للبشر، ويجوز أن يكون التقدير: صيّرها الله جلّ وعزّ
__________
(1) انظر تيسير الداني 176، وكتاب السبعة لابن مجاهد 659، والبحر المحيط 8/ 369. [.....](5/48)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
كذلك نذيرا للبشر، وهذان القولان مستخرجان من قول أبي رزين وقال الكسائي: أي قم نذيرا. وهذا يرجع إلى قول ابن زيد. ويجوز أن يكون نذير بمعنى إنذار كما قال:
«فكيف كان نذير» «1» ويكون التقدير: وما جعلنا أصحاب النار إلّا ملائكة إنذارا. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: يكون التقدير: أعني نذيرا. قال أبو جعفر: وحذف الياء من نذير إذا كان للنار بمعنى النسب.
[سورة المدثر (74) : آية 37]
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
بدل بإعادة اللام، ولو كان بغير اللام لجاز.
[سورة المدثر (74) : آية 38]
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)
رَهِينَةٌ محمول على المعنى، ولو كان على اللفظ كان رهين.
[سورة المدثر (74) : الآيات 39 الى 42]
إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
نصب على الاستثناء وقد صحّ عن رجلين من أصحاب النبي أنه يراد بأصحاب اليمين هاهنا الملائكة والأطفال، ويدلّ على هذا أن بعده يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ فهذا كلام من لم يعمل خطيئة، وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال سمعت ابن الزبير يقرأ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ يا فلان ما سلكك في سقر وهذه القراءة على التفسير، والإسناد بها صحيح.
[سورة المدثر (74) : الآيات 42 الى 44]
ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ حذفت النون لكثرة الاستعمال ولو جيء بها لكان جيدا في غير القرآن، وقال محمد بن يزيد: أشبهت النون التي تحذف في الجزم في قولنا:
يقومان ويقومون، وقال أحمد بن يحيى ثعلب: أخطأ، ولو كان كما قال لحذفت في قولنا: لم يصن زيد نفسه.
[سورة المدثر (74) : الآيات 45 الى 47]
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47)
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ جيء بالكاف مضمومة ليدلّ ذلك على أنها من ذوات الواو فنقل فعل إلى فعل، وكذا وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ أي إلى أن و «أن» مضمرة بعد «حتى» .
[سورة المدثر (74) : آية 48]
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
أي ليس يشفع فيهم الشافعون ودلّ بهذا على أن الشفاعة تنفع غيرهم.
__________
(1) هذه ليست آية وإنما الآية فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك: 17] .(5/49)
فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
[سورة المدثر (74) : آية 49]
فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)
منصوب على الحال.
[سورة المدثر (74) : آية 50]
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)
قراءة أهل المدينة والحسن، وقراءة ابن كثير وعاصم والأعمش وحمزة وأبي عمرو مُسْتَنْفِرَةٌ «1» وعن الكسائي القراءتان جميعا. قال أبو جعفر: «مستنفرة» في هذا أبين أي مذعورة ومستنفرة مشكل لأن أكثر ما يستعمل استفعل إذا استدعى الفعل، كما تقول: استسقى إذا استدعى أن يسقى والحمر لا تستدعي هذا، ولكن مجاز القراءة أن يكون استنفر بمعنى نفر فيكون المعنى نافرة.
[سورة المدثر (74) : آية 51]
فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
فعولة من القسر. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا ما قال أهل التفسير فيها.
[سورة المدثر (74) : آية 52]
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52)
أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً على تأنيث الجماعة ووحّد لأنه أكثر في العدد.
[سورة المدثر (74) : آية 53]
كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53)
لا يجوز إلا الإدغام لأن الأول ساكن.
[سورة المدثر (74) : آية 55]
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55)
أي إنّ القرآن.
[سورة المدثر (74) : آية 56]
وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
«وما تذكرون» قراءة نافع على تحويل المخاطبة، وأكثر الناس يقرأ وَما يَذْكُرُونَ ليكون مردودا على ما تقدّم وما تشاؤون إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ على حذف المفعول لعلم السامع هُوَ أَهْلُ التَّقْوى مبتدأ وخبره وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ أعيدت «أهل» للتوكيد والتفخيم، ولو لم تعد لجاز.
__________
(1) انظر تيسير الداني 176، والبحر المحيط 8/ 74.(5/50)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)
75 شرح إعراب سورة القيامة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القيامة (75) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1)
كذا يقرأ أكثر القراء، وعن الحسن والأعرج «لأقسم بيوم القيامة» «1» على أنها لام قسم لا ألف فيها قال أبو جعفر: وهذا لحن عند الخليل وسيبويه وإنما يقال بالنون:
لأقومن والقراءة الأولى فيها أقوال منها أنّ «لا» زائدة للتوكيد مثل ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: 12] وهذا القول عند الفراء «2» خطأ من جهتين: إحداهما أن «لا» إذا كانت زائدة لم يبتدأ بها، والأخرى أنه أن «لا» إنما تزاد في النفي، كما قال: [البسيط] 511-
ما كان يرضى رسول الله فعلهما ... والطيّبان أبو بكر ولا عمر «3»
أي أبو بكر وعمر و «لا» زائدة. قال أبو جعفر: أما قوله إنّ «لا» لا تزاد في أول الكلام فكما قال، لا اختلاف فيه لأن ذلك يشكل ولكنه قد عورض فيما قال، كما سمعت علي بن سليمان يقول، إن هذا القول صحيح. يعني قول من قال إن «لا» زائدة قال:
وليس قوله بأنها في أول الكلام مما يردّ هذا القول لأن القرآن كلّه بمنزلة سورة واحدة، وعلى هذا نظمه ورصفه وتأليفه. وقد صحّ عن ابن عباس: أن الله جلّ وعزّ أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في شهر رمضان ثم نزل متفرّقا من السماء، وإنما يردّ هذا الحديث أهل البدع. قال أبو جعفر: وأما قول الفراء إنّ «لا» لا تزاد إلا في النفي فمخالف فيه. حكى ذلك من يوثق بعلمه من البصريين منهم أبو عبيدة «4» . وأنشد: [الرجز] 512- في بئر لا حور سرى وما شعر «5»
__________
(1) انظر تيسير الداني 176، والمحتسب 2/ 341.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 207.
(3) الشاهد لجرير في ديوانه 263، والكامل 125، وبلا نسبة في رصف المباني 273 ولسان العرب (لا) .
(4) انظر مجاز القرآن 1/ 25.
(5) الرجز للعجاج في ديوانه 20، والأزهيّة 154، والأشباه والنظائر 2/ 164، وخزانة الأدب 4/ 51، وشرح المفصل 8/ 136 وتاج العروس (حور) و (لا) ، وتهذيب اللغة 5/ 228، وبلا نسبة في لسان العرب (حور) و (غير) ، وخزانة الأدب 11/ 224، والخصائص 2/ 477، وجمهرة اللغة 525، ومجمل اللغة 2/ 120.(5/51)
وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)
قال: يريد في بئر حور أي هلكة فزاد «لا» في الإيجاب، وخالفه الفراء في هذا فجعل «لا» نفيا هاهنا أي في بئر لا ترد شيئا وزعم الفراء «1» أن «لا» من قوله «لا أقسم» ردّ لكلامهم كما تقول: لا والله ما أفعل فالوقوف عنده لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) مستأنف.
[سورة القيامة (75) : آية 2]
وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)
لا اختلاف في هذا أن الألف فيه بعد «لا» فقول الحسن أنّ «لا» نافية وقد بيّنا قول غيره.
[سورة القيامة (75) : آية 3]
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3)
وقراءة الكوفيين أَيَحْسَبُ والماضي حسب بلا اختلاف فالقياس في المستقبل يحسب إلا أنه روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم الكسر «2» .
[سورة القيامة (75) : آية 4]
بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)
قادِرِينَ في موضع نصب، وفي نصبه أقوال: منها أنه قيل: التقدير: بلى نقدر فلمّا حوّل نقدر إلى قادرين نصب كما قال الفرزدق: [الطويل] 513-
على حلفة لا أشتم الدّهر مسلما ... ولا خارجا من فيّ زور كلام «3»
بمعنى ولا يخرج فلما حوّل يخرج إلى خارج نصبه. وهذا خطأ لأن لكلّ إعرابه تقول: جاءني زيد يضحك، وجاءني زيد ضاحكا، ومررت برجل يضحك، وبرجل ضاحك، «ولا خارجا» معطوف على موضع «لا أشتم» قال أبو جعفر: هذا أصحّ ما قيل فيه، وقيل التقدير: بلى نقوى على ذلك قادرين، هذا قول الفراء «4» وقال سيبويه: أي بلى نجمعها قادرين. وقول الفراء مستخرج من هذا، وبنان جمع بنانة. ومن حسن ما قيل فيه قول ابن عباس: نحن نقدر أن نجعل بنانه شيئا واحدا كخفّ البعير وحافر
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 207.
(2) انظر إعراب الآية 88- النمل.
(3) الشاهد للفرزدق في ديوانه 212، والكتاب 1/ 411، وأمالي المرتضى 1/ 63، وتذكرة النحاة 85، وخزانة الأدب 1/ 223 وشرح أبيات سيبويه 1/ 170، وشرح المفصل 2/ 59، ولسان العرب (خرج) والمحتسب 1/ 57، والمقتضب 4/ 313 وبلا نسبة في شرح شافية ابن الحاجب 1/ 177 ولسان العرب (رتج) ، والمقتضب 3/ 269.
(4) انظر معاني الفراء 3/ 208.(5/52)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)
الحمار فلا يقدر يأكل بها كالبهائم فتفضّل الله جلّ وعزّ عليه وفضّله، وقال الحسن: كنا نقدّر أن نجعل أصابعه قدرا واحدا ولا يكون لها حسن ولا يكاد ينتفع بها.
[سورة القيامة (75) : آية 5]
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5)
هذه لام كي وقولهم لام «إنّ» لا معنى له، ولكن يريد يدلّ على الإرادة أي إرادته ليفجر أمامه.
[سورة القيامة (75) : آية 6]
يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6)
التقدير أي وقت يوم القيامة، وفتحت النون من إيان لالتقاء الساكنين.
[سورة القيامة (75) : الآيات 7 الى 8]
فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)
فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) قراءة أبي عمرو وعاصم وشيبة وحمزة والكسائي، وقرأ نصر بن عاصم وابن أبي إسحاق وأبو جعفر ونافع فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ «1» بفتح الراء ومعنى الكسر بيّن أي حار وفزع من الموت ومن أمر القيامة وبرق ولمع. قال الحسن وقتادة: وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) ذهب ضوءه.
[سورة القيامة (75) : آية 9]
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
يقال: الشّمس مؤنثة بلا اختلاف فكيف لم يقل، وجمعت ففي هذا أجوبة منها أن التقدير وجمع بين الشمس والقمر فحمل التذكير على بين، وقيل: لما كان وجمع الشمس لا يتمّ به الكلام حتى يقال: والقمر وكان القمر مذكّرا كان المعنى جمعا فوجب أن يذكر فعلهما في التقديم كما يكون في التأخير. وأولى ما قيل فيه قول الكسائي، قال: المعنى: وجمع النوران أي الضياءان وفي موضع آخر: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي [الأنعام: 78] وأما محمد بن يزيد فيقول: هذا كلّه تأنيث غير حقيقي لأنه لم يؤنّث للفرق بين شيء وشيء فلك تذكيره لأنه بمعنى شخص وشيء.
[سورة القيامة (75) : آية 10]
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)
فهذا مصدر بلا اختلاف أي أين الفرار؟ وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال:
سمعت ابن عباس يقرأ أَيْنَ الْمَفَرُّ «2» قال أبو جعفر: هذا إسناد مستقيم، وهو عند البصريين اسم للمكان وزعم الفراء «3» : إنه يجيز في المصدر الكسر.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 209، وتيسير الداني 176.
(2) انظر مختصر ابن خالويه 16، والبحر المحيط 8/ 377.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 210. [.....](5/53)
كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)
[سورة القيامة (75) : آية 11]
كَلاَّ لا وَزَرَ (11)
وهو الملجأ فقيل: وزير مشتقّ من هذا لأن صاحبه قد سلم إليه أموره فلجأ إليه واعتمد عليه، وقيل: لأن أوزار ما يتقلّده صاحبه بيده والأوزار ما كان من الذهب والفضة وغيرهما.
[سورة القيامة (75) : آية 12]
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)
قال قتادة: المنتهى.
[سورة القيامة (75) : آية 13]
يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)
من أحسن ما قيل فيه قول قتادة قال: بما قدّم من طاعة الله جلّ وعزّ وأخّر من حقّه ينبأ به كلّه، وقد روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس بما قدّم من خير أو شرّ بعده.
[سورة القيامة (75) : آية 14]
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
مشكل الإعراب والمعنى، فقول ابن عباس سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه شاهدة عليه. قال أبو جعفر: فعلى هذا القول الْإِنْسانُ
مرفوع بالابتداء وبَصِيرَةٌ
ابتداء ثان و «على نفسه» خبر الثاني والجملة خبر الأول. وشرحه بل الإنسان على نفسه من نفسه رقباء تحفظه وتشهد عليه فهذا قول وقول سعيد بن جبير وقتادة: إن الإنسان هو البصيرة. قال سعيد بن جبير: الإنسان والله بصيرة على نفسه، وقال قتادة: تراه والله عارفا بذنب غيره وعيبه متغافلا عن نفسه فعلى هذا القول «الإنسان» مرفوع بالابتداء و «بصيرة» خبره فإن قيل: لم دخلت الهاء والإنسان مذكّر؟ ففيه جوابان أحدهما أن الهاء للمبالغة كما يقال: رجل راوية وعلّامة وقيل: دخلت الهاء لأن المعنى بل الإنسان حجّة على نفسه.
[سورة القيامة (75) : آية 15]
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)
جمع على غير قياس عند سيبويه «1» لأن عذرا ليس جمعه معاذير وإنما معاذير جمع معذار.
[سورة القيامة (75) : الآيات 16 الى 17]
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)
إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
(17) فيضمن الله جلّ وعزّ جمعه فبهذا كفّر الفقهاء من زعم أنه قد بقي منه شيء لأنه ردّ على ظاهر التنزيل، وسئل سفيان بن عيينة كيف غيّرت التوراة والإنجيل وهما من عند الله؟ فقال: إن الله جلّ وعزّ وكل حفظهما إليهم فقال جل ثناؤه بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ [المائدة: 44] ولم يكل حفظ القرآن إلى أحد
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 250.(5/54)
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)
فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] وما حفظه لم يغيّر.
[سورة القيامة (75) : آية 18]
فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)
اختلف العلماء في معنى هذا. فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: فإذا أنزلناه فاستمع له، وقال قتادة: أي فاتبع حلاله وحرامه. ومن حسن ما قيل فيه ما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس فَإِذا قَرَأْناهُ
قال: يقول: فإذا بيّناه فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
قال:
يقول: فاعمل بما فيه.
[سورة القيامة (75) : آية 19]
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19)
قال قتادة: بيان الحلال من الحرام عن ابن عباس بَيانَهُ بلسانك.
[سورة القيامة (75) : آية 20]
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20)
أي الحال العاجلة أو الدنيا العاجلة.
[سورة القيامة (75) : آية 21]
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)
لأنها بعد الأولى.
[سورة القيامة (75) : الآيات 22 الى 23]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23)
وُجُوهٌ رفع بالابتداء ناضِرَةٌ نعت لها وناظِرَةٌ خبر الابتداء، ويجوز أن يكون «ناضرة» خبر «وجوه» وناظِرَةٌ خبرا ثانيا، ويجوز أن يكون ناضرة نعتا لناظرة أو لوجوه ويقال: أجوه وهو جمع للكثير وللقليل أوجه وفي ناظِرَةٌ ثلاثة أقوال: منها أن المعنى منتظرة ومنها أن المعنى إلى ثواب ربّها، ومنها أنها تنظر إلى الله جلّ وعزّ.
قال: ويعرف الصواب في هذه الأجوبة من العربية فلذلك وغيره أخّرنا شرحه لنذكره في الإعراب. قال أبو جعفر: أما قول من قال: معناه منتظرة فخطأ. سمعت علي بن سليمان يقول: نظرت إليه بمعنى انتظرته وإنما يقال: نظرته وهو قول إبراهيم بن محمد بن عرفة وغيره ممن يوثق بعلمه وأما من قال: إن المعنى إلى ثواب ربّها فخطأ أيضا على قول النحويين الرؤساء لأنه لا يجوز عندهم ولا عند أحد علمته نظرت زيدا أي نظرت ثوابه. ونحن نذكر الاحتجاج في ذلك من قول الأئمة والعلماء وأهل اللغة إذا كان أصلا من أصول السنة، ونذكر ما عارض به أهل الأهواء ونبدأ بالأحاديث الصحيحة عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا كان المبين عن الله جلّ وعزّ. كما قرئ على أحمد بن شعيب بن علي عن إسحاق بن راهويه ثنا بقيّة بن الوليد ثنا بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن عمرو بن الأسود أن قتادة بن أبي أمية حدثهم عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إني حدّثتكم عن المسيح الدجّال حتى خفت ألّا تعقلوه إنه قصير أفحج جعد أعور مطموس العين اليسرى ليست بناتئة ولا جحرا فإن التبس عليكم فاعلموا أن ربكم(5/55)
ليس بأعور إنكم لن تروا ربّكم جلّ ثناؤه حتى تموتوا» «1» . قال أحمد بن شعيب: ثنا محمد بن بشار قال: ثنا أبو عبد الصمد ثنا أبو عمران الجوني عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس الأشعري عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «جنّتان من فضّة آنيتهما وما فيهما، وجنّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم جلّ ثناؤه إلّا رداء الكبرياء على وجهه في جنّة عدن» «2» . وقرئ على أبي القاسم عبد الله بن محمد البغويّ عن هدبة بن خالد عن حمّاد بن سلمة عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنّة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيّض وجوهنا ويدخلنا الجنّة ويجرنا من النار فيكشف لهم عن الحجاب، فينظرون إلى الله عزّ وجلّ فما شيء أعطوه أحبّ إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة» «3» . قال أبو القاسم وحدّثني جدّي قال: ثنا يزيد بن هارون إن حماد بن سلمة بإسناده مثله. قال أبو القاسم وحدّثني هارون بن عبد الله، قال: سمعت يزيد يعني ابن هارون لما حدّث بهذا الحديث قال: من كذّب بهذا الحديث فهو زنديق أو كافر. قال أبو القاسم: حدثنا عبد الله بن عمر وأبو عبد الرّحمن الكوفي عن حسين بن علي الجعفي عن زائدة ثنا بيان البجليّ عن قيس بن أبي حازم قال: حدثنا جرير قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
«إنّكم ترون ربّكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته» «4» يعني القمر. قال حسين الجعفي: على رغم أنف جهيم والمريسي. قال أبو القاسم: وحدّثنا أحمد بن إبراهيم العبدي وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حدّثنا عبد الله بن إدريس ثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدريّ قال: قلنا يا رسول الله أنرى ربّنا جلّ ثناؤه قال:
«أتضارون في رؤية الشمس في الظهيرة في غير سحاب؟» قلنا لا. قال: أفتضارّون في رؤية القمر ليلة البدر في غير سحاب؟» قلنا: لا قال: «فإنكم لا تضارّون في رؤيته كما لا تضارّون في رؤيتهما» . قال أبو القاسم: وحدّثت عن أحمد بن حنبل عن يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش. قال: قال الأعمش: لا تضارّون يعني لا تمارون. قال أبو القاسم: وحدّثنا هدبة بن خالد ثنا وهيب بن خالد ثنا مصعب بن محمد عن أبي صالح السمّان عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله أكلنا يرى ربه جل ذكره يوم القيامة؟ قال:
__________
(1) انظر تيسير الداني 176 (قرأ الكوفيون ونافع «تحبون» و «تذرون» بالتاء والباقون بالياء) .
(2) انظر حلية الأولياء 5/ 157، ومشكاة المصابيح (5485) .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 6/ 181، ومسلم في صحيحه، الإيمان 296، وابن ماجة في سننه 186، والحديث في إتحاف السادة المتقين 10/ 524، وتفسير ابن كثير 4/ 115.
(4) أخرجه الترمذي في سننه 11/ 269.(5/56)
«أكلّكم يرى الشّمس نصف النهار وليس في السماء سحابة؟» قالوا نعم. قال: «أفكلكم يرى القمر ليلة البدر وليس في السماء سحابة؟» قالوا: نعم. قال: «فو الذي نفسي بيده لترونّ ربكم جلّ وعزّ يوم القيامة لا تضارّون في رؤيته كما لا تضارون في رؤيتهما» قال أبو القاسم: وحدّثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا أبو أسامة: ثنا الأعمش أخبرني خيثمة بن عبد الرّحمن عن عديّ بن حاتم الطائي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أحد منكم إلّا سيكلّمه ربه جلّ وعزّ ليس بينه وبينه ترجمان ولا حاجب يحجبه فينظر أيمن منه فلا يرى إلّا شيئا قدمه ثم ينظر أشأم منه فلا يرى إلّا شيئا قدمه ثم ينظر أمامه فلا يرى شيئا إلّا النار فاتقوا النار ولو بشقّ تمرة» «1» لم يقل في هذا الحديث عن الأعمش: ولا حاجب يحجبه، إلا أبو أسامة وحده. ومن ذلك ما حدّثناه أحمد بن علي بن سهيل ثنا زهير يعني ابن حرب ثنا إسماعيل عن هشام الدستوائي عن قتادة عن صفوان بن محرّر قال:
قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول: «يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه جلّ وعزّ حتى يضع عليه كنفه فيقرّره بذنوبه فيقول: هل تعرف فيقول: ربّ أعرف قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم- قال فيعطى صحيفة حسابه وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله» «2» . قال أبو جعفر: وهذا الباب عن أنس وعن أبي رزين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه عن الصحابة رضي الله عنهم منهم أبو بكر الصديق وحذيفة عن التابعين إلا إنّا كرهنا الإطالة إذ كان ما ذكرناه من الحديث كفاية. وقد حدّثنا عبد الله بن أحمد بن عبد السّلام سمعت محمد بن يحيى النيسابوري يقول:
السّنّة عندنا وهو قول أئمتنا مالك بن أنس وأبي عبد الرّحمن بن عمر، والأوزاعي وسفيان بن سعيد الثوري وسفيان بن عيينة الهلالي وأحمد بن حنبل وعليه عهدنا أهل العلم أنّ الله جلّ وعزّ يرى في الآخرة بالأبصار يراه أهل الجنة، فأما سواهم من بني آدم فلا قال: والحجة في ذلك أحاديث مأثورة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قيل له: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة وذكر الحديث. قال محمد بن يحيى: وإن الإيمان بهذه الأحاديث المأثورة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رؤية الربّ في القيامة والقدر والشفاعة وعذاب القبر والحوض والميزان والدّجال والرجم ونزول الربّ تبارك وتعالى في كلّ ليلة بعد النصف أو الثلث الباقي والحساب والنار والجنة أنّهما مخلوقتان غير فانيتين، وأنه ليس أحد سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان يترجم له ونحوها من الأحاديث،
__________
(1) ذكره ابن كثير في تفسيره 8/ 305. وابن أبي عاصم في السنة 1/ 196، والبغوي في شرح السنة 2/ 224، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 10/ 553.
(2) أخرجه الترمذي في صفة القيامة 9/ 252، وابن ماجة باب 13 حديث 185.(5/57)
والتصديق بها لازم للعباد أن يؤمنوا بها وإن لم تبلغه عقولهم ولم يعرفوا تفسيرها فعليهم الإيمان بها والتسليم بلا كيف ولا تنفير ولا قياس لأن أفعال الله لا تشبّه بأفعال العباد.
قال أبو جعفر: فهذا كلام العلماء في كل عصر المعروفين بالسّنة حتى انتهى ذلك إلى أبو جعفر محمد بن جرير، فذكر كلام من أنكر الرؤية واحتجاجه وتمويهه وردّ ذلك عليه وبيّنه ونحن نذكر كلامه «1» نصا إذ كان قد بلغ فيه المراد إن شاء الله فذكر اعتراضهم بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الأنعام: 103] فأما قوله جلّ وعزّ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي [الأعراف: 143] فمما لا يحتاج إلى حجّة لأن فيه دليلا على النظر إذ كان موسى صلّى الله عليه وسلّم مع محلّه لا يجوز أن يسأل ما لا يكون فدلّ على أن هذا جائز أن يكون، وكان الوقت الذي سأله في الدنيا، فالجواب أنه لا يراه في الدنيا أحد واحتجّ في تمويههم بقوله عزّ وجلّ لا تدركه الأبصار بقول عطية العوفي في قول الله جلّ وعزّ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ قال: هم ينظرون إلى الله عزّ وجلّ لا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره يحيط بهم فذلك قوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ قال: واعتلّ قائلو هذه المقالة بقوله جلّ وعزّ: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ [يونس: 90] والغرق غير موصوف بأنه رآه قالوا: فمعنى «لا تدركه الأبصار» من معنى لا تراه بعيدا لأن الشيء قد يدرك الشيء ولا يراه مثل «حتّى إذا أدركه الغرق» فكذا قد يرى الشيء الشيء ولا يدركه ومثله: قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61] وقد كان أصحاب فرعون رأوهم ولم يدركوهم وقد قال جلّ ثناؤه لا تَخافُ دَرَكاً [طه: 77] فإذا كان الشيء قد يرى الشيء لا يدركه ويدركه ولا يراه علم أنّ «لا تدركه الأبصار» من معنى لا تراه الأبصار بمعزل، وأن معنى ذلك لا تحيط به الأبصار لأن الإحاطة به غير جائزة. والمؤمنون وأهل الجنة يرون ربهم جلّ وعزّ ولا تدركه أبصارهم بمعنى لا تحيط به إذ كان غير جائز أن يكون يوصف الله بأن شيئا يحيط به ونظير جواز وصفه بأنه يرى ولا يدرك جواز وصفه بأنه يعلم ولا يحاط به. قال تبارك وتعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ [البقرة: 255] ومعنى العلم هنا المعلوم فلم يكن في نفيه عن خلقه أن يحيطوا بشيء من علمه إلا بما شاء نفي عن أن يعلموه وإنما هو نفي الإحاطة به، كذا ليس في نفي إدراك الله جلّ وعزّ البصر في رؤيته له نفي رؤيته له فكما جاز أن يعلم الخلق شيئا ولا يحيطون به علما كذا جاز أن يروا ربهم بأبصارهم ولا تدركه أبصارهم إذ كان معنى الرؤية غير معنى الإدراك، ومعنى الإدراك غير معنى الرؤية لأن معنى الإدراك الإحاطة كما قال ابن عباس: لا تحيط به الأبصار وهو يحيط بها. فإن قيل: وما أنكرتم أن يكون معنى «لا تدركه الأبصار» لا
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه باب 13 الحديث 183.(5/58)
تراه؟ قلنا له: أنكرنا ذلك لأن الله أخبر في كتابه أن وجوها في القيامة إلى الله سبحانه ناظرة، وأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم سيرون ربهم جلّ وعزّ يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر وكما يرون الشمس ليس دونها سحابة. فكتاب الله يصدّق بعضه بعضا، فعلم أن معنى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ غير معنى إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. قال: وقيل المعنى لا تدركه أبصار الخلق في الدنيا وتدركه في الآخرة فجعلوا هذا مخصوصا. قال «1» : وقيل:
المعنى لا تدركه أبصار الظالمين في الدنيا والآخرة وتدركه أبصار المؤمنين، وقيل: «لا تدركه الأبصار» بالنهاية والإحاطة. فأما الرؤية فنعم، وقيل: لا تدركه الأبصار كإدراكه الخلق، لأن أبصارهم ضعيفة، وقال آخرون: الآية على العموم ولن يدرك الله جلّ ثناؤه بصر أحد في الدنيا والآخرة، ولكن الله جلّ وعزّ يحدث لأوليائه يوم القيامة حاسة سادسة سوى حواسهم الخمس فيرونه بها. والصواب من القول في ذلك عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم سترون ربكم فالمؤمنون يرونه والكافرون عند يومئذ محجوبون» «2» . ولأهل هذه المقالة أشياء يلبسون بها فمنهم من يدفع الحديث مكابرة وطعنا على أهل الإسلام، ومنهم من يأتي بأشياء نكره ذكرها. قال محمد بن جرير: وإنما ذكرنا هذا ليعرف من نظر نعني فيه أنهم لا يرجعون من قولهم إلّا إلى ما لبّس عليهم الشيطان مما يسهل على أهل الحق البيان عن فساده، ولا يرجعون في قولهم إلى آية من التنزيل، ولا رواية عن الرسول صحيحة ولا سقيمة، فهم في الظلماء يخبطون وفي العمياء يترددون نعوذ بالله من الحيرة والضلالة. قال أبو جعفر: فأما شرح «تضارون» واختلاف الرواية فيه فنمليه. فيه ثمانية أوجه: يروى «تضارون» بالتخفيف و «تضامون» مخففا، ويجوز تضامّون وتضامّون بضم التاء وتشديد الميم والراء، ويجوز تضامّون على أن الأصل تتضامّون حذفت التاء كما قال جلّ وعزّ وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103] ، ويجوز تضّامّون تدغم التاء في الضاد، ويجوز تضارّون على حذف التاء، ويجوز تضّارّون على إدغام التاء في الضاد والذي رواه المتقنون مخفّف تضامون وتضارون. سمعت أبا إسحاق يقول: معناه لا ينالكم ضيم ولا ضير في رؤيته أي ترونه حتى تستووا في الرؤية فلا يضيم بعضكم بعضا، ولا يضير بعضكم بعضا وقال أهل اللغة قولين آخرين قالوا: لا تضارّون بتشديد الراء، ولا تضامّون بتشديد الميم مع ضم التاء، وقال بعضهم: بفتح التاء وتشديد الراء والميم على معنى تتضامّون وتتضارّون، ومعنى هذا أنه لا يضار بعضكم بعضا أي لا يخالف بعضكم بعضا في ذلك. يقال ضاررت فلانا أضارّه مضارّة وضرارا إذا خالفته. ومعنى لا تضامّون في رؤيته أنه لا يضمّ بعضكم إلى بعض فيقول واحد للآخر أرنيه كما يفعلون عند النظر إلى الهلال.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 7/ 299.
(2) انظر تفسير الطبري 7/ 302.(5/59)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)
قال أبو جعفر: الذي ذكرناه من تفسير الأعمش أن معناه لا تضارّون يوجب أن تكون روايته لا تضارّون والأصل لا تضارون ثم أدغمت الراء في الراء، ومن قال معناه لا تضارّون فالأصل عنده لا تضارون ثم أدغم، وهذا كله من ضارّه إذا خالفه كما حكاه أبو إسحاق وخالفه وما رآه واحد. ويقال: نضر وجهه نضرا ونضارة ونضرة ونضره الله ينضره وأنضره ينضره من الإشراق والنعمة وحسن العيش والغنى.
[سورة القيامة (75) : آية 24]
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24)
مبتدأ وخبره.
[سورة القيامة (75) : آية 25]
تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)
ولا يجوز رفع يفعل وجاز في وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ [المائدة: 71] لأن «لا» عوض، والفاقرة الداهية والأمر العظيم.
[سورة القيامة (75) : الآيات 26 الى 27]
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27)
كَلَّا تكون بمعنى حقا، وتكون مبتدأ على هذا هاهنا. وزعم محمد بن جرير «1» أن التمام هنا «كلا» وأن المعنى ليس الأمر كما يقول المشركون من أنهم لا يجازون على شركهم ومعصيتهم إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ يكون العامل في إذا «باسرة» أو «بلغت» فإذا كان العامل فيها «بلغت» كان الجواب فيما بعد وحذفت الياء من مَنْ راقٍ
«2» لسكونها وسكون التنوين وأثبتت في التراقي لأنه لا تنوين فيه.
[سورة القيامة (75) : آية 30]
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)
في موضع جواب إذا.
[سورة القيامة (75) : الآيات 31 الى 32]
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32)
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى لا هاهنا نفي، وليست بعاطفة، ولا يجوز عند النحويين:
ضربت زيدا لا ضربت عمرا، والعلّة في ذلك أنه كره أن يشبه الثاني الدعاء. وفي الآية المعنى لم يصدّق ولم يصلّ يدل على هذا وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى.
[سورة القيامة (75) : آية 33]
ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)
أي ذهب معرضا عن طاعة الله جلّ وعزّ متهاونا بالموعظة ويَتَمَطَّى في موضع نصب على الحال.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 29/ 162.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 381.(5/60)
أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
[سورة القيامة (75) : الآيات 34 الى 35]
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)
يقال لمن وقع في هلكة أو قاربها.
[سورة القيامة (75) : آية 36]
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36)
في موضع نصب أيضا على الحال، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أن معنى «أن يترك سدّى» يقول مهملا.
[سورة القيامة (75) : آية 37]
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37)
على تذكير المني، وهو أقرب إليه و «تمنى» «1» للنطفة.
[سورة القيامة (75) : آية 38]
ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)
أي فخلقه الله جلّ وعزّ فسوّاه بشرا ناطقا سميعا بصيرا.
[سورة القيامة (75) : آية 39]
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39)
قيل: المعنى فجعل من الإنسان أولادا ذكورا وإناثا، الذكر والأنثى على البدل من الزوجين.
[سورة القيامة (75) : آية 40]
أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)
فدلّ جلّ وعزّ دلالة بيّنة أنّ إحياءه إيّاه بعد الموت ليس بأكثر من خلقه إياه من نطفة ثم سوّاه إنسانا إلى أن ولد له، وأجاز الفراء «2» عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بقلب حركة الياء الأولى على الحاء ويدغم الياء في الياء. وهذا خطأ عند الخليل وسيبويه «3» والعلّة في ذلك، وهو معنى كلام أبي إسحاق أنك إذا قلت: «يحيي» لم يجز الإدغام بإجماع النحويين لئلا يلتقي ساكنان فإذا قلت: أن يحيي لم يجز الإدغام أيضا لأن الياء وإن كانت قد تحركت فحركتها عارضة وأيضا فكيف يجوز أن يكون حرف واحد يدغم في موضع لعامل دخل عليه غير ملازم، ولا يجوز أن يدغم وهو في موضع رفع، والرفع الأصل.
__________
(1) انظر تيسير الداني 176.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 213. [.....]
(3) انظر الكتاب 4/ 540.(5/61)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
76 شرح إعراب سورة هل أتى [الإنسان]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)
الإنسان الأول عند أهل التفسير يراد به آدم عليه السّلام، وقد يجوز أن يراد به الجنس والثاني للجنس لا غير. والنطفة عند العرب الماء القليل في وعاء أَمْشاجٍ من نعت نطفة على غير حذف، في قول من قال: الأمشاج العروق التي تكون في النطفة كما تقول: الإنسان أعضاء مجموعة، ومن قال: الأمشاج ماء الرجل وماء المرأة فهو على هذا أيضا سماها جميعا نطفة، وهما يختلطان ويخلق الإنسان منهما. ومن قال:
الأمشاج العلقة والمضغة فالتقدير عنده من نطفة ذات أمشاج. وواحدتهما مشيج مثل شريف وأشراف، ويقال: مشج مثل عدل وأعدال نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً قال الفراء:
هو على التقديم والتأخير، والمعنى عنده جعلنا الإنسان سميعا بصيرا لنبتليه أي لنختبره. وقال من خالفه في هذا: هو خطأ من غير جهة فمنها أنه لا يكون مع الفاء تقديم ولا تأخير لأنها تدلّ على أن الثاني بعد الأول، ومنها أن الإنسان إنما يبتلى أي يختبر ويؤمر وينهى إذا كان سوي العقل كان سميعا بصيرا ولم يكن كذلك، ومنها أن سياق الكلام يدلّ على غير ما قال: وليس في الكلام لام كي، وإنما سياق الكلام تعديد الله جلّ وعزّ نعمه علينا ودلالته إيّانا على نعمه.
[سورة الإنسان (76) : آية 3]
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)
منصوبان على الحال أي إنّا خلقنا الإنسان شاكرا أو كفورا. ومعنى إمّا أو وإن كانت تجيء في أول الكلام ليدلّ على المعنى ويدلك على ذلك قول أهل التفسير أن المعنى إنّا هديناه السبيل إما شقيّا وإما سعيدا والشقاء والسعادة بفرع منهما وهو في بطن أمه وهكذا خبّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: هي حال مقدرة، وأجاز الفراء «1» أن يكون «ما»
__________
(1) انظر معاني الفراء 1/ 389.(5/62)
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)
هاهنا زائدة وتكون «أن» للشرط والمجازاة على أن يكون المعنى إنّا هديناه السبيل إن شكر أو كفر. قال أبو جعفر: وهذا القول ظاهره خطأ لأن «إن» التي للشرط لا تقع على الأسماء وليس في الآية إما شكر إنما فيها إما شاكرا وإما كفورا. فهذان اسمان، ولا يجازى بالأسماء عند أحد من النحويين.
[سورة الإنسان (76) : آية 4]
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4)
هذه قراءة أبي عمرو وحمزة بغير تنوين إلّا أن الصحيح عن حمزة أنه كان يقف «سلاسلا» «1» بالألف اتباعا للسواد لأنها في مصاحف أهل المدينة وأهل الكوفة بالألف، وقراءة أهل المدينة وأهل الكوفة غير حمزة «إنّا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا» والحجّة لأبي عمرو وحمزة أن «سلاسل» لا ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد، وهو نهاية الجمع فثقل فمنع الصرف، والوقوف عليه بالألف والحجة فيه أن الرؤاسي والكسائي حكيا عن العرب الوقوف على ما لا ينصرف بالألف لبيان الفتحة فقد صحّت هذه القراءة من كلام العرب. والحجّة لمن لوّن ما حكاه الكسائي وغيره من الكوفيين أن العرب تصرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل منك. فهذه حجة وحجة أخرى أن بعض أهل النظر يقول: كل ما يجوز في الشعر فهو جائز في الكلام لأن الشعر أصل كلام العرب فكيف نتحكّم في كلامها ونجعل الشعر خارجا عنه؟ وحجة ثالثة أنه لما كان إلى جانبه جمع ينصرف فأتبع الأول الثاني.
[سورة الإنسان (76) : آية 5]
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5)
واحد الأبرار برّ ربّما غلط الضعيف في العربية فقال: هو جمع فعل شبّه بفعل وذلك غلط. إنما هو جمع فعل يقال: بررت والدي فأنا بارّ وبرّ فبرّ فعل مثل حذرت فأنا حذر، وفعل وأفعال قياس صحيح. وقيل: إنما سمّوا أبرارا لأنهم برّوا الله جلّ وعزّ بطاعته في أداء فرائضه واجتناب محارمه. وقيل: معنى كانَ مِزاجُها كافُوراً في طيب ريحها.
[سورة الإنسان (76) : آية 6]
عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6)
عَيْناً في نصبها غير وجه أني سمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: نظرت في نصبها فلم يصحّ لي فيه إلا أنها منصوبة بمعنى أعني، وكذا الثانية فهذا وجه، ووجه ثان أن يكون بمعنى الحال من المضمر في مزاجها، ووجه رابع يكون مفعولا بها، والتقدير يشربون عينا يشرب بها عباد الله كان مزاجها كافورا. وفي
__________
(1) انظر تيسير الداني 176، والبحر المحيط 8/ 387.(5/63)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)
يشرب بها وجهان: قال الفراء «1» : يشرب بها ويشربها واحد. قال أبو جعفر: وأحسن من هذا أن يكون المعنى يروى بها. وقد ذكرته يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً مصدر. ويروى أن أحدهم إذا أراد أن ينفجر له الماء شق ذلك الموضع بعود يجري فيه الماء.
[سورة الإنسان (76) : آية 7]
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ وهو كل ما وجب على الإنسان أن يفعله نذره أو لم ينذره، قال جلّ وعزّ: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج: 29] . قال عنترة: [الكامل] 514-
الشّاتمي عرضي ولم أشتمهما ... والنّاذرين إذا لم القهما دمي «2»
وقول الفراء «3» : كان فيه إضمار «كان» أي كانوا يوفون بالنذر في الدنيا، وكذا يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً.
[سورة الإنسان (76) : آية 8]
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8)
اختلف العلماء في الأسير هاهنا، فقال بعضهم: هو من أهل الحرب لأنه لم يكن في ذلك الوقت أسير إلّا منهم، وقال بعضهم: هو لأهل الحرب وللمسلمين، وهذا أولى بعموم الآية فلا يقع فيها خصوص إلا بدليل قاطع فيكون لمن كان في ذلك الوقت ولمن بعد، كما كان يُوفُونَ بِالنَّذْرِ.
[سورة الإنسان (76) : آية 9]
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9)
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أي يقولون لا نريد منكم جزاء ولا شكورا يكون جمع شكر، ويكون مصدرا.
[سورة الإنسان (76) : آية 10]
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)
قال الفراء: القمطرير والقماطر الشديد وأنشد: [الطويل] 515-
بني عمّنا هل تذكرون بلاءنا ... عليكم إذا ما كان يوم قماطر «4» «5»
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 215.
(2) الشاهد لعنترة في ديوانه 222، والأغاني 9/ 212، وشرح التصريح 2/ 69، والشعر والشعراء 1/ 259، والمقاصد النحوية 3/ 551، وبلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 225، وشرح الأشموني 2/ 309.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 216.
(4) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (قمطر) ، وتاج العروس (قمطر) ، وديوان الأدب 2/ 57، ومعاني الفراء 3/ 216، وتفسير الطبري 29/ 21.
(5) انظر البحر المحيط 8/ 388.(5/64)
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15)
[سورة الإنسان (76) : آية 11]
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11)
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ نعت لذلك وإن شئت كان بدل. وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً قال الحسن: النضرة في الوجه، والسرور في القلب.
[سورة الإنسان (76) : آية 12]
وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12)
قال قتادة: بما صبروا عن المعاصي. فهذا أصحّ قول يقال لمن صبر عن المعاصي صابر مطلقا فإن أردت لغير المعاصي قلت صابر على كذا.
[سورة الإنسان (76) : آية 13]
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13)
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ قال الفراء: نصب. مُتَّكِئِينَ على القطع وهو عند البصريين منصوب على الحال من التاء والميم، والعامل فيه جزاء ولا يجوز أن يعمل فيه صبروا لأن مُتَّكِئِينَ إنما هو في الجنة، والصبر في الدنيا، ويجوز أن يكون منصوبا على أنه نعت لجنة، ولذلك حسن لأنه قد عاد الضمير عليها لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً القول فيه كالقول في «متكئين» ، ويكون معناه غير رائعين.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 14 الى 15]
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15)
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها فيه ستة أوجه يجوز أن يكون معطوفا على جَنَّةً أقيمت الصفة مقام الموصوف أي وجزاهم جنّة دانية عليهم ظلالها، ويجوز أن يكون معطوفا على متكئين، ويجوز أن يكون معطوفا على لا يرون لأن معناه غير رائين ويجوز أن يكون منصوبا على المدح مثل وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء: 162] وإن كان نكرة فهو يشبه المعرفة فهذه أربعة أوجه. وفي قراءة ابن مسعود «ودانيا عليهم ظلالها» «1» على تذكير الجمع، وفي قراءة أبيّ «ودان عليهم ظلالها» «دان» في موضع رفع أصله داني استثقلت الحركة في الياء فحذفت الضمة، وحذفت الياء لسكونها وسكون التنوين، ولم تستثقل الحركة في ودانيا لخفة الفتحة ظِلالُها مرفوع بالدنو من قول من نصب الأول، ومن قال: «ودان ظلالها» عنده مرفوع بالابتداء، ودان خبره. كما تقول: مررت بزيد جالس أبوه أي أبوه جالس. وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا عطف جملة على جملة فذلك صلح أن يأتي بالماضي وقبله اسم الفاعل، وبعده وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ أهل التفسير منهم مجاهد: يقولون: الكوب الكوز الذي لا عروة له إلا قتادة فإنه قال: هو
__________
(1) انظر تيسير الداني 177.(5/65)
قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)
القدح كانَتْ قَوارِيرَا «1» قراءة أبي عمرو الثاني بغير ألف وفرق بينهما لجهتين: أحداهما أنه كذا في مصاحف أهل البصرة، والثانية أن الأولى رأس آية فحسن إثبات الألف فيها.
فأما حمزة فقرأ «كانت قوارير قوارير من فضّة» لأنهما لا ينصرفان فهذا شيء بيّن لولا مخالفة السواد، وقرأ المدنيون فيهما جميعا، والذي يحتجّ به لهم لا يوجد إلا من قول الكوفيين وهو أن الكسائي والفراء أجازا صرف ما لا ينصرف إلّا أفعل منك واحتجّ الفراء بكثرة ذلك في الشعر.
[سورة الإنسان (76) : آية 16]
قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16)
قَدَّرُوها تَقْدِيراً عن الشّعبي وقتادة وابن أبزى وعبد الله بن عبيد بن عمير أنهم قرءوا قَدَّرُوها «2» أي قدّروا عليها أي على قدر ربّهم لا يزيد ذلك ولا ينقص.
[سورة الإنسان (76) : آية 17]
وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17)
وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً قال أبو الحسن بن كيسان: لا يقال للقدح: كأس حتّى تكون فيه الخمر وكذا لا يقال: مائدة للخوان حتى يكون عليه طعام، وكذا الظعينة كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا أي كالزّنجبيل في لذعه وكانوا يستطيبون ذلك فخوطبوا على ما يعرفون.
[سورة الإنسان (76) : آية 18]
عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18)
عَيْناً قد تقدّم ما يغني عن الكلام في نصبها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا فعلليل من السّلاسة، ومن قال: هو اسم العين صرف ما لا يجب أن ينصرف.
[سورة الإنسان (76) : آية 19]
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي بما يحتاجون إليه. إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً أهل التفسير على أن المعنى في هذا التشبيه لكثرتهم وحسنهم، وقال عبد الله بن عمر: ما أحد من أهل الجنة إلّا له إلف غلام كلّ غلام على عمل ليس عليه صاحبه.
[سورة الإنسان (76) : آية 20]
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20)
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ لأهل العربية فيه ثلاثة أقوال: فأكثر البصريين يقول: «ثمّ» ظرف، ولم تعدّ رأيت كما تقول: ظننت في الدار فلا تعدّى ظننت على قول سيبويه «3» ، وقال الأخفش، وهو أحد قولي الفراء «4» : «ثمّ» مفعول بها أي فإذا نظرت ثمّ وقول آخر
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 217، والبحر المحيط 8/ 389.
(2) انظر الكتاب 1/ 180.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 218.
(4) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 13، والطبري في تفسيره 19/ 120، وابن كثير في تفسيره 8/ 305.(5/66)
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)
للفراء قال: التقدير: وإذا رأيت ما ثمّ وحذف «ما» . قال أبو جعفر: «وثمّ» عند جميع النحويين مبنيّ غير معرب لتنقّله وحذف «ما» خطأ عند البصريين لأنه يحذف الموصول ويبقى الصلة فكأنه جاء ببعض الاسم رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً جواب «إذا» ، ويبيّن لك معنى هذا كما حدّثنا أحمد بن علي بن سهل قال: حدّثنا زهير يعني ابن حرب ثنا محمد بن حازم ثنا عبد الملك بن أبجر عن ثوير بن أبي فاختة عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«إن أدنى أهل الجنّة منزلة لينظر في ملكه ألفي عام ينظر أزواجه وسرره وخدمه وإنّ أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله جلّ وعزّ في كل يوم مرتين» «1» .
[سورة الإنسان (76) : آية 21]
عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21)
عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ مبتدأ وخبره، والأصل عاليهم حذفت الضمة لثقلها. وهذه قراءة بيّنة، وهي قراءة أبي جعفر ونافع ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة، وقرأ أبو عبد الرّحمن والحسن وأبو عمرو والكسائي وابن كثير وعاصم عالِيَهُمْ بالنصب على أنه ظرف، ومثّله الفراء «2» بقوله: زيد داخل الدار. قال أبو جعفر: أما عاليهم فبيّن أنه منصوب على الظرف، وفي معناه قولان: أحدهما أن الخضرة تعلو ثياب أهل الجنة، والقول الآخر أن هذه النبات الخضر فوق حجالهم لا عليهم وأما زيد داخل الدار فلا يجوز عند جماعة من النحويين كما لا يقال: زيد الدار، ولكن لو قلت: زيد خارج الدار جاز، وروى عبد الوارث عن حميد عن مجاهد أنه قرأ «عليهم ثياب سندس» قال أبو جعفر: وهذا لا يحتاج إلى تفسير، وفي قراءة ابن مسعود «عاليتهم ثياب سندس» «3» على تأنيث الجماعة، وقرأ الحسن ونافع «ثياب سندس خضر وإستبرق» «4» وقرأ الأعمش وحمزة «ثياب سندس خضر وإستبرق» بخفضهما، وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر «ثياب سندس خضر وإستبرق» برفع «خضر» وخفض «إستبرق» ، وقرأ ابن كثير وعاصم «ثياب سندس خضر وإستبرق» قرأ ابن محيصن «وإستبرق» بوصل الألف وبغير تنوين. قال أبو جعفر: القراءة الأولى حسنة متّصل الرفع بعضه ببعض فخضر نعت للثياب وإستبرق معطوف عليها:
وانصرف لأنه نكرة وقطعت الألف لأنه اسم ولو سمّيت رجلا باستكبر لقلت:
جاءني استكبر. هذا قول الخليل وسيبويه والقراءة الثانية على أن من قرأ بها نعت سندسا بخضر. وفي ذلك بعد لأنه إنّما يقال: هذا سندس أخضر كما يقال. هذا حرير أخضر إلا أن ذلك جائز لأنه جنس والجنس يؤدّي عن الجميع كقولك:
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 219. [.....]
(2) انظر معاني الفراء 3/ 219.
(3) انظر تيسير الداني 177، والبحر المحيط 8/ 391.
(4) انظر معاني الفراء 3/ 219.(5/67)
إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)
سندس وسندسات واحد، وعطف وإستبرق على سندس أي وثياب وإستبرق، والقراءة الثالثة حسنة أيضا جعله خُضْرٌ نعتا للثياب، وهو الوجه البين الحسن، وخفض إستبرق نسقا على سندس أيضا. والقراءة الرابعة خفض فيها خضر على أنها نعت لسندس كما مر ورفع وإستبرق لأنه عطف على ثياب، وقراءة ابن محيصن عند كل من ذكر القراءات ممن علمناه من أهل العربية لحن لأنه منع إستبرق من الصرف وهو نكرة، ولا يخلو منعه إياه من إحدى وجهين: إما أن يكون منعه من الصرف لأنه أعجمي، وإما أن يكون ذلك لأنه على وزن الفعل، والعجمي وما كان على وزن الفعل ينصرفان في النكرة، وأيضا فإنه وصل الألف، وذلك خطأ عند الخليل وسيبويه لما ذكرنا ونصب «إستبرق» وإن كان هذا يتهيّأ أن يحتال في نصبه فهذا ما فيه مما قد ذكر بعضه. قال أبو جعفر: ولو احتيل فيه فقيل: هو فعل ماض أي وبرق هذا الجمع لكان ذلك عندي شيئا يجوز وإن كنت لا أعلم أحدا ذكره. وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وقد طعن في هذا بعض الملحدين. إما لجهله باللغة وإما لقصده الكفر اجتراء على الله عزّ وجلّ وأخذ شيء من حطام الدنيا وذلك أن الجنة لا بيع فيها ولا شراء ولا معنى لطعنه لقلة قيمة الفضة، ولأن هذا لا يحسن للرجال فجهل معنى التفسير لأن في التفسير أن هذا يكون لأزواجهن، ولو كان لهم ما دفع حسنه، وقد طعن في الإستبرق ولم يدر معناه أو داره وتعمّد الكفر. والإستبرق عنه العرب ما كان متينا وغلظ في نفسه لا غلظ خيوطه.
قال أبو جعفر: فقد ذكرنا أن هذا الإستبرق يكون فوق حجالهم وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً أي طاهرا من الأقذار والأدناس والأوساخ.
[سورة الإنسان (76) : آية 22]
إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)
إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً ويجوز رفع جزاء على خبر «إنّ» وتكون «كان» ملغاة وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً خبر «كان» ولو كان مرفوعا جاز أن يكون اسم كان فيها مضمرا ولا تغلى إذا كانت مبتدأة لأن الكلام مبنيّ عليها.
[سورة الإنسان (76) : آية 23]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ يكون «نحن» في موضع نصب صفة لاسم إنّ، ويجوز أن تكون فاصلة لا موضع لها، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر «نزّلنا» تَنْزِيلًا مصدر جيء به للتوكيد.
[سورة الإنسان (76) : آية 24]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي اصبر على أذاهم، وكان السبب في نزول هذا على ما ذكر قتادة أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمدا صلّى الله عليه وسلّم لأطأنّ عنقه وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً قال(5/68)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)
الفراء «1» «أو» بمنزلة «لا» أي لا تطع من أثم ولا كفر. قال أبو جعفر: و «أو» تكون في الاستفهام والمجازاة والنفي بمنزلة «لا» . قال أبو جعفر: ويجوز أن يكون المعنى لا تطيعنّ من أثم وكفر بوجه فتكون قريبة المعنى من الواو. قال أبو جعفر: فالقول الأول صواب على قول سيبويه، والثاني خطأ لا يكون «أو» بمعنى الواو لأنك إذا قلت: لا تكلّم زيدا أو عمرا، فمعناه لا تكلّم واحدا منهما ولا تكلّمهما إن اجتمعا وليس كذا الواو إذا قلت: لا تكلّم المأمور واحدا منهما لم يكن عاصيا أمره، «أو» إذا كلّم واحدا منهما كان عاصيا أمره وكذا الآية لا يجوز أن يطاع الآثم ولا الكفور.
[سورة الإنسان (76) : آية 25]
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25)
بُكْرَةً يكون معرفة فلا ينصرف ويكون نكرة فينصرف. فهي هاهنا نكرة فلذلك صرفت لأن بعدها وَأَصِيلًا وهو نكرة ولا تكون معرفة إلا أن تدخل فيه الألف واللام.
[سورة الإنسان (76) : آية 26]
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ التقدير فاسجد له من الليل وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا قيل: هو منسوخ بزوال فرض صلاة الليل، وقيل: هو على الندب وقيل: هو خاص للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الإنسان (76) : آية 27]
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي يحبون خير الدنيا. وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا قال سفيان: يعني الآخرة. قال أبو جعفر: وقيل: وراء بمعنى قدّام ومن يمنع من الأضداد يجيز هذا لأن وراء مشتقّ من توارى فهو يقع لما بين يديك وما خلفك. وقيل:
التقدير: ويذرون وراءهم عمل يوم ثقيل. أي لا يعملون للآخرة.
[سورة الإنسان (76) : آية 28]
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ عن أبي هريرة قال: المفاصل. وقال ابن زيد:
القوة، وقيل: هو موضع الحديث. ومن أحسن ما قيل فيه قول ابن عباس ومجاهد وقتادة قالوا: أسرهم خلقهم. قال أبو جعفر: يكون من قولهم: ما أحسن أسر هذا الرجل أي خلقه ومن هذا أخذه بأسره أي بجملته وخلقته لم يبق منه شيئا وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا قال ابن زيد يعني بني آدم الذين خالفوا طاعة الله جلّ وعزّ وأمثالهم من بني آدم أيضا.
__________
(1) قرأ الكوفيون ونافع بالتاء والباقون بالياء، انظر تيسير الداني 177.(5/69)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
[سورة الإنسان (76) : آية 29]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29)
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ قيل: أي هذه الأمثال والقصص فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي فمن شاء اتّخذ إلى رضاء ربه طريقا بطاعة الله عزّ وجلّ والانتهاء عن معاصيه.
[سورة الإنسان (76) : آية 30]
وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30)
وَما تَشاؤُنَ «1» اتّخاذ السبيل إلا بأن يشاء الله ذلك لأن المشيئة إليه، وحذفت الباء فصارت «أن» في موضع نصب ومن النحويين من يقول: هي في موضع خفض.
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً أي بما يشاء أن يتّخذ إلى رضاه طريقا حَكِيماً في تدبيره، لا يقدر أحد أن يخرج عنه.
[سورة الإنسان (76) : آية 31]
يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)
يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي بأن يوفّقه للتوبة فيتوب فيدخل الجنة. وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً نصب الظالمين عند سيبويه بإضمار فعل يفسره ما بعده أي ويعذّب الظالمين. وأما الكوفيون فقالوا: نصبت لأن الواو ظرف للفعل أي ظرف لأعدّ. قال أبو جعفر: وهذا يحتاج إلى أن يبيّن ما الناصب، وقد زاد الفراء «2» في هذا إشكالا فقال:
يجوز رفعه وهو مثل وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [الشعراء: 224] . قال أبو جعفر:
وهذا لا يشبه من ذلك شيئا إلا على بعد. لأن قبل هذا فعلا فاختير فيه النصب ليضمر فعلا ناصبا فيعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل، والشعراء ليس يليهم فعل، وإنما يليهم مبتدأ وخبره. قال جلّ وعزّ:
وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ [الشعراء: 223] وهاهنا يدخل من يشاء في رحمته ويجوز الرفع على أن يقطعه من الأول. قال أبو حاتم حدثني الأصمعي. قال: سمعت من يقرأ:
«والظّالمون أعدّ لهم عذابا أليما» بالرفع، وفي قراءة عبد الله «وللظّالمين أعدّ لهم عذابا أليما» «3» بتكرير اللام.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 220.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 220، والبحر المحيط 8/ 393.
(3) مرّ الشاهد رقم (51) .(5/70)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5)
77 شرح إعراب سورة المرسلات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3)
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) قال أبو جعفر: قد ذكرنا في هذه الآيات أقوالا، ونزيد ذلك شرحا وبيانا. قرئ على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى ثنا وكيع عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن أبي العبيدين عن ابن مسعود في قول الله عزّ وجلّ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) قال: الرياح فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) قال: الريح وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) قال: الريح. قال أبو جعفر: وقد روي عن ابن مسعود أنه قال الْمُرْسَلاتِ الملائكة: والقول بأنها الرياح قول ابن عباس وأبي صالح ومجاهد وقتادة وفَالْعاصِفاتِ الرياح وذلك عن ثلاثة من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم وَالنَّاشِراتِ قد روي عن ابن مسعود أنها الملائكة والرواية الأولى أنها الريح قول ابن عباس، وعن أبي صالح أن النَّاشِراتِ المطر.
[سورة المرسلات (77) : آية 4]
فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
عن ابن مسعود وابن عباس أنها الملائكة، وروى سعيد عن قتادة فَالْفارِقاتِ فَرْقاً قال القرآن فرّق بين الحقّ والباطل، والتقدير على هذا: فالآيات الفارقات.
[سورة المرسلات (77) : آية 5]
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5)
عن ابن مسعود وابن عباس قالا: الملائكة. قال قتادة: الملائكة تلقي الذّكر إلى الأنبياء عليهم السّلام، وعن أبي صالح في بعض هذه، قال الأنبياء. قال أبو جعفر: قد ذكرنا أن الصفة في هذا أقيمت مقام الموصوف فلهذا وقع الاختلاف فإذا كان التقدير:
وربّ المرسلات فالمعنى واحد والقسم بالله جلّ وعزّ، وإذا زدنا هذا شرحا قلنا قد ذكرنا ما قيل إنها الرياح وأنها الملائكة وأنها الرسل عليهم السّلام ولم نجد حجّة قاطعة تحكم لأحد هذه الأقوال فوجب أن يردّ إلى عموم الظاهر فيكون عاما لهذه الأشياء(5/71)
عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)
كلها. عُرْفاً منصوب على الحال إذا كان معناه متتابعة وإذا كان معناه والملائكة المرسلات بالعرف أي بأمر الله جلّ وعزّ وطاعته وكتبه، فالتقدير بالعرف فحذف الباء فتعدّى الفعل، كما أنشد سيبويه: [البسيط] 516-
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب «1»
عَصْفاً ونَشْراً وفَرْقاً مصادر تفيد التوكيد فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً مفعول به.
[سورة المرسلات (77) : آية 6]
عُذْراً أَوْ نُذْراً (6)
قراءة أبي عمرو والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ أهل الحرمين وابن عامر وعاصم عُذْراً بإسكان الذال «أو نذرا» بضم الذال، ويروى عن زيد بن ثابت والحسن «عذرا أو نذرا» «2» بضم الذالين فإسكانهما جميعا على أنهما مصدران كما تقول: شكرته شكرا، ويجوز أن يكون الأصل فيهما الضمّ فحذفت الضمة استثقالا لها، وضمهما جميعا على أنهما جمع عذير ونذير، ويجوز أن يكونا مصدرين مثل شغلته شغلا. وعذير بمعنى اعذار كما قال: [الوافر] 517-
أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد «3»
أي إعذارك وكما قال: [الهزج] 518-
نذير الحيّ من عدوان ... كانوا حيّة الأرض «4»
قال أبو جعفر: هكذا ينشد هذان البيتان بالنصب، وأنشد سيبويه: [الطويل] 519-
عذيرك من مولى إذا نمت لم ينم ... يقول الخنا أو تعتريك زنابره «5»
أي عذيرك من هذا.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 222، والبحر المحيط 8/ 396، وتيسير الداني 177.
(2) الشاهد لعمرو بن معدي كرب في ديوانه 107، والكتاب 1/ 332، والأغاني 10/ 26، وحماسة البحتري 74، والحماسة الشجرية 1/ 40، وخزانة الأدب 6/ 361، والدرر 3/ 8، وسمط اللآلي 63، وشرح أبيات سيبويه 1/ 295، وعجزه لعلي بن أبي طالب في لسان العرب (عذر) ، وبلا نسبة في شرح المفصّل 2/ 26، وهمع الهوامع 1/ 169.
(3) الشاهد لذي الإصبع العدواني في ديوانه 46، والاشتقاق 269، والأغاني 3/ 85، وأمالي الزجاجي 1/ 221، والحيوان 4/ 233، وخزانة الأدب 5/ 286، وشرح أبيات سيبويه 1/ 298، والشعر والشعراء 2/ 712، ولسان العرب (عذر) و (جيا) ، والمقاصد النحوية 4/ 364، وبلا نسبة في الكتاب 1/ 303، ولسان العرب (عدا) ، وأمالي المرتضى 1/ 250.
(4) الشاهد بلا نسبة في الكتاب 1/ 374، وشرح الشواهد للشنتمري 1/ 158.
(5) انظر الكتاب 3/ 119.(5/72)
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)
[سورة المرسلات (77) : آية 7]
إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7)
أي من البعث والحساب والمجازاة. وهذا جواب القسم و «ما» هاهنا بمعنى الذي مفصولة من «إنّ» ، ولا يجوز أن تكون هاهنا فاصلة و «لا» زائدة ألا ترى أن في خبرها اللام المؤكدة لخبر إنّ وحذفت الهاء لطول الاسم، والتقدير أن الذي توعدونه لواقع من الحساب والثواب والعقاب.
[سورة المرسلات (77) : آية 8]
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)
رفعت النجوم بإضمار فعل مثل هذا لأن إذا هاهنا بمنزلة حروف المجازاة فإن قال قائل: قد قال سيبويه «1» في قول الله جلّ وعزّ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم: 36] «إذا» جواب بمنزلة الفاء، وإنما صارت جوابا بمنزلة الفاء لأنها لا يبتدأ بها كما لا يبتدأ بالفاء. فقد ابتدئ بها هاهنا، وأنت تقول: إذا قمت قمت مبتدأ. قال أبو جعفر: فلم أعلم أحدا غلط سيبويه في هذا، والحجة له أنّ «إذا» كانت للمفاجأة لم يبتدأ بها نحو قوله: إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ وإذا كانت بمعنى المجازاة ابتدئ بها ولكن قد عوض سيبويه بأن الفاء تدخل عليها فكيف تكون عوضا منها؟
فالجواب أنها إنما تدخل توكيدا، وجواب فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وقيل الفاء محذوفة، وقيل الجواب محذوف.
[سورة المرسلات (77) : آية 11]
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ «2» بهمزة وتشديد القاف، وقرأ عيسى بن عمر النحوي وخالد بن إلياس أُقِّتَتْ بهمزة وتخفيف القاف، وقرأ أبو عمرو «وقّتت» بواو وتشديد القاف، وقرأ الحسن وأبو جعفر «وقتت» بواو وتخفيف القاف. قال أبو جعفر: الأصل فيها الواو لأنه مشتق من الوقت قال جلّ وعزّ: كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [النساء: 103] فهذا من وقتت مخففة إلّا أن الواو تستثقل فيها الضمة فتبدل فيها همزة، وقد ذكر سيبويه اللغتين وقّتت وأقّتت فلم يقدّم إحداهما على الأخرى فإذا كانتا فصيحتين فالأولى اتباع السواد.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 12 الى 13]
لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)
لِيَوْمِ الْفَصْلِ قيل: حذف الفعل الذي تتعلق به اللام والتمام لأي يوم أجّلت ثم أضمر فعل أجلت ليوم الفصل، وقيل: ليوم الفصل بدل وأعدت اللام مثل لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وقيل: اللام بمعنى إلى.
__________
(1) انظر القراءات المختلفة في تيسير الداني 177، والبحر المحيط 8/ 396، ومعاني الفراء 3/ 222.
(2) انظر البحر المحيط: 8/ 397. [.....](5/73)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)
[سورة المرسلات (77) : آية 14]
وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
«ما» الأولى والثانية في موضع رفع بالابتداء.
[سورة المرسلات (77) : آية 15]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
أي الذين يكذبون بيوم القيامة وما فيه.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 17]
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17)
وقرأ الأعرج أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ «1» جزم نُتْبِعُهُمُ لأنه عطف على نهلك قال أبو جعفر: هذا لحن، وقال أبو حاتم: هذا لحن، وذكر إسماعيل أنه لا يجوز. قال أبو جعفر: «ثم» من حروف العطف وإنما معناه من جهة المعنى وهو في المعنى غير مستحيل لأنه قد قيل في معنى أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ أنهم قوم نوح وعاد وثمود، وأن الآخرين قوم إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم وأصحاب مدين وفرعون. قال أبو جعفر: فعلى هذا تصحّ القراءة بالجزم.
[سورة المرسلات (77) : آية 18]
كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18)
أي كذلك سنتي فيمن أقام على الإجرام أن أهلكه بإجرامه.
[سورة المرسلات (77) : آية 19]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
أي لمن كذّب بما أخبر الله جلّ وعزّ وبقدرته على ما يشاء.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 20 الى 23]
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23)
ويجوز إدغام القاف في الكاف وعن ابن عباس «مهين» ضعيف. وقرأ أبو عمرو وعاصم والأعمش وحمزة فَقَدَرْنا «2» مخفّفة، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع والكسائي فَقَدَرْنا مشددة والأشبه التخفيف لأن بعده فَنِعْمَ الْقادِرُونَ وليس بعده المقدّرون على أن القراءة بالتشديد حسنة لأنه قد حكي أنهما لغتان بمعنى واحد. يقال: قدر وقدره. وقد قال: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ [الواقعة: 60] ولا ينكر أن تأتي لغتان بمعنى واحد في موضع واحد، قال: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق: 17] وقال الشاعر: [البسيط] 520-
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلّا الشّيب والصّلعا «3»
__________
(1) انظر تيسير الداني 177.
(2) مرّ الشاهد رقم (218) .
(3) انظر مختصر ابن خالويه 167.(5/74)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)
وقد قيل: معنى فقدرنا النطفة والعلقة والمضغة، وقال الضحاك: فقدرنا فملكنا.
فَنِعْمَ الْقادِرُونَ رفع بنعم، والتقدير: فنعم القادرون نحن.
[سورة المرسلات (77) : آية 24]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
بقدرة الله جلّ وعزّ على هذه الأشياء وغيرها.
[سورة المرسلات (77) : آية 25]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25)
يقال: كفته إذا جمعه وأحرزه فالأرض تجمع الناس على ظهرها أحياء وفي بطنها أمواتا. واشتقاق هذا من الكفتة وهي وعاء الشيء وكذا الكفتة.
[سورة المرسلات (77) : آية 26]
أَحْياءً وَأَمْواتاً (26)
نصب على الحال أي نكفتهم في هذه الحال، ويجوز أن يكون منصوبا بوقوع الفعل عليه أي تكفت الأحياء والأموات.
[سورة المرسلات (77) : آية 27]
وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27)
وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يقول جبالا مشرفات، قال: وماءً فُراتاً عذبا وروى عنه عكرمة «ماء فراتا» سيحان وجيحان والفرات والنيل، قال: وكل ماء عذب في الدنيا فمن هذه الأنهار الأربعة.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 28 الى 29]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) أي يقال لهم، وزعم يعقوب الحضرمي أن بعض القراء قرأ «انطلقوا» بفتح اللام على أنه فعل ماضي، وأما الأول فلم يختلف فيها.
[سورة المرسلات (77) : آية 31]
لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)
لا ظَلِيلٍ نعت لظلّ أي غير ظليل من الحرّ ولا يقي لهب النار.
[سورة المرسلات (77) : آية 32]
إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)
إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ لغة أهل الحجاز كما قال: [الوافر] 521-
وتوقد ناركم شررا ويرفع ... لكم في كلّ مجمعة لواء «1»
__________
(1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 85، ولسان العرب (جمع) ، وتاج العروس (جمع) ، وديوان المفضليات 56.(5/75)
ولغة بني تميم شرار، كَالْقَصْرِ «1» يقرأ على ثلاثة أوجه فقراءة العامة كَالْقَصْرِ، وعن ابن عباس وجماعة من أصحابه كَالْقَصْرِ بفتح الصاد، وعن سعيد بن جبير روايتان في إحداهما كَالْقَصْرِ والأخرى كَالْقَصْرِ كما قرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن إسحاق قال نصر بن علي قال: ثنا يزيد بن زريع ثنا يونس عن الحسن أنها ترمي بشرر كَالْقَصْرِ بكسر القاف. قال نصر: وحدّثنا أبي ثنا يونس عن الحسن بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ قال: أصول النخل. قال أبو جعفر: والقصر بفتح القاف وإسكان الصاد في معناه قولان. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كَالْقَصْرِ قال: يقول: كالقصر العظيم وكذا قال محمد بن كعب هو القصر من القصور. وقال أبو عبيد عن حجاج عن هارون قال: القصر الخشب الجزل مثل جمرة وجمر وتمر وتمر. قال أبو جعفر: وأصحّ من هذا عن الحسن كما قرئ على إبراهيم ابن موسى عن إسماعيل عن نصر قال: ثنا يزيد ثنا يونس عن الحسن قال: «كالقصر» واحد القصور. قال أبو جعفر: فهذا قول بيّن والعرب تشبه الناقة والجمل بالقصر كما قال: [البسيط] 522-
كأنها برج روميّ يشيّده ... بان بجصّ وآجرّ وأحجار «2»
فأما القصر فقال مجاهد وقتادة: هو أصول النخل، وروى عبد الرّحمن بن عابس عن ابن عباس قال: القصر الخشبة تكون ثلاثة أذرع أو أكثر ودون ذلك. قال أبو جعفر: وهذا أصح ما قيل فيه ومنه قيل: قصّار لأنه يعمل بمثل هذا الخشب، والقصر بهذا المعنى يكون جمع قصرة وقد سمع من العرب حاجة وحوج، ويجوز أن يكون جمع قصرة وقد سمع حلقة وحلق فقال: الشرر جماعة والقصر واحد فكيف شبهت به؟
الجواب أن يكون واحدا يدلّ على جمع أو جمع قصرة أو يراد به الفعل أي كعظيم القصر وتكلم الفراء «3» في أن الأولى أن يقرأ «كالقصر» بإسكان الصاد لأن الآيات على هذا. ألا ترى أن بعده «صفر» ، واحتجّ بقراءة القراء: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ [القمر: 6] بضم الكاف لأن الآيات كذا، وفي موضع آخر فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً [الطلاق: 8] بإسكان الكاف فقال: فقد أجمع القراء على تحريك الأولى وإسكان الثانية قال أبو جعفر: وهذا غلط قبيح قد قرأ عبد الله بن كثير يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ
بإسكان الكاف. وهذا الذي جاء به من اتفاق الآيات لا يستتب ولا ينقاس.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 398.
(2) الشاهد للأخطل التغلبي في ديوانه 76، وتفسير الطبري 19/ 30.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 224.(5/76)
كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41)
[سورة المرسلات (77) : آية 33]
كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33)
قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش بن عيسى وطلحة وحمزة والكسائي «كأنه جماله صفر» «1» وعن ابن عباس «جمالات صفر» «2» بضم الجيم فالقراءة الأولى تكون جمع جمال أو جمالة وجمالة جمع جمل كحجر وحجارة، وجمالات يجوز أن يكون بمعنى جمال كما يقال: رخل ورخال وظئر وظؤار والتاء لتأنيث الجماعة إلا أن أهل التفسير يقولون: هي حبال السفن منهم ابن عباس وسعيد بن جبير إلّا أن علي بن أبي طلحة روى عن ابن عباس، قال: قطع النحاس ويجوز أن يكون مشتقا من الشيء المجمل.
[سورة المرسلات (77) : آية 35]
هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35)
مبتدأ وخبره، وزعم الفراء «3» أن القراء اجتمعت على رفع يوم. قال أبو جعفر:
وهذا قريب مما تقدّم. روي عن الأعرج والأعمش أنهما قرءا هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ بالنصب وفي نصبه قولان: أحدهما أنه ظرف أي هذا الذي ذكرنا في هذا اليوم، والقول الآخر ذكره الفراء يكون «يوم» مبنيا. وهذا خطأ عند الخليل وسيبويه «4» لا تبنى الظروف عندهما مع الفعل المستقبل لأنه معرب وإنما يبنى مع الماضي، كما قال: [الطويل] 523- على حين عاتبت المشيب على الصّبا «5»
[سورة المرسلات (77) : آية 36]
وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)
عطف، وزعم الفراء «6» أنه اختير فيه الرفع لتتفق الآيات.
[سورة المرسلات (77) : آية 38]
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)
مبتدأ وخبره جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ نسق على الكاف والميم.
[سورة المرسلات (77) : آية 39]
فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)
حذفت الياء لأن النون صارت عوضا منها لأنها مكسورة وهو رأس آية.
[سورة المرسلات (77) : آية 41]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41)
ومن كسر العين كره الضمة مع الياء.
__________
(1) انظر تيسير الداني 177.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 398، ومعاني الفراء 3/ 225.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 225.
(4) انظر الكتاب 3/ 136.
(5) مرّ الشاهد رقم (129) .
(6) انظر معاني الفراء 3/ 226.(5/77)
وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
[سورة المرسلات (77) : آية 42]
وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42)
الأصل يشتهونه حذفت الهاء الاسم.
[سورة المرسلات (77) : آية 43]
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
أي يقال لهم هذا.
[سورة المرسلات (77) : آية 44]
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44)
الكاف في موضع نصب أي جزاء كذلك.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 45 الى 46]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46)
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا متصل بما يليه أي قيل للمكذبين كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا أي وقتا قليلا وتمتعا قليلا.
[سورة المرسلات (77) : آية 48]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48)
قال الفراء: وإذا قيل لهم صلّوا، وقال غيره: كان الركوع أشدّ الأشياء على العرب حتى أسلم بعضهم وامتنع من أن يركع.
[سورة المرسلات (77) : آية 50]
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
وقعت الباء قبل أي والاستفهام له صدر الكلام لأن حروف الخفض مع ما بعدها بمنزلة شيء واحد. ألا ترى أن قولك: نظرت إلى زيد، ونظرت زيدا بمعنى واحد؟(5/78)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)
78 شرح إعراب سورة عمّ يتساءلون (النبأ)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النبإ (78) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1)
الأصل «عن ما» حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر لأن المعنى: عن أي شيء يتساءلون، وحكى الفراء: أن المعنى لأي شيء يتساءلون. قال أبو جعفر: و «عن» بمعنى اللام لا يعرف والتقدير: يتساءلون عن النبأ العظيم، وحذف لدلالة الكلام.
[سورة النبإ (78) : آية 3]
الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)
في موضع خفض.
[سورة النبإ (78) : آية 4]
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4)
كَلَّا قيل: هو التمام أي ليس الأمر على ما زعم المشركون من إنكار البعث.
«ستعلمون» «1» تهديد لهم على قراءة الحسن التقدير قل لهم: ستعلمون. «ثم كلا ستعلمون» يعلمون معطوف عليه وقراءة العامة بالياء.
[سورة النبإ (78) : آية 6]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6)
يكون واحدا، ويكون جمع مهده.
[سورة النبإ (78) : آية 7]
وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7)
معطوف عليه جمع وتد ومن أدغم قال ودّ. ولا يجوز الإدغام في الجميع لأن الألف قد فصلت بين الحرفين.
[سورة النبإ (78) : آية 8]
وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8)
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 227. [.....](5/79)
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15)
نصب على الحال أي أصنافا أي ذكورا وإناثا وقصارا وطوالا فنبههم جلّ وعزّ على قدرته.
[سورة النبإ (78) : الآيات 9 الى 10]
وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10)
وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) مفعولان وكذا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) أي يغشيكم ويغطيكم كالثياب أي فعلنا هذا لتناموا فيه وتسكنوا كما قال قتادة: لباسا سكنا.
[سورة النبإ (78) : آية 11]
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11)
أي ذا معاش أي جعلناه مضيئا ليعيشوا فيه ويتصرّفوا كما قال مجاهد: معاشا تتصرفون فيه وتبتغون من فضل الله جلّ وعزّ.
[سورة النبإ (78) : آية 12]
وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12)
حذفت الهاء لأن اللغة الفصيحة تأنيث السماء شِداداً جمع شديدة ولا تجمع على فعلاء استثقالا للتضعيف.
[سورة النبإ (78) : آية 13]
وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13)
وَجَعَلْنا سِراجاً روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس وَهَّاجاً أي مضيئا.
[سورة النبإ (78) : آية 14]
وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14)
وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ قال أبو جعفر: قد ذكرنا قولين لأهل التفسير: أن المعصرات الرياح والسحاب وأولاهما أن يكون السحاب لقوله جلّ وعزّ: الْمُعْصِراتِ ولم يقل: بالمعصرات، وكما قرئ على أحمد بن شعيب عن الحسين بن حريث قال:
حدّثني علي بن الحسين عن أبيه قال: حدّثني الأعمش عن المنهال عن قيس بن السكن عن ابن مسعود قال: يرسل الله سبحانه الرياح فتأخذ الماء فتجريه في السحاب فتدر كما تدرّ اللّقحة. وروي عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس ماءً ثَجَّاجاً قال يقول: منصبّا، وقال ابن يزيد: ثجّاجا كثيرا. قال أبو جعفر: القول الأول المعروف في كلام العرب يقال: ثجّ الماء ثجوجا إذا انصبّ وثجّه فلان ثجا إذ صبّه صبّا متتابعا. وفي الحديث «أفضل الحجّ العجّ والثجّ» «1» فالعجّ رفع الصوت بالتلبية، والثجّ صبّ دماء الهدي.
[سورة النبإ (78) : آية 15]
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15)
__________
(1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 224، وابن حجر في المطالب العالية 1200، وابن كثير في تفسيره 8/ 327، والزيلعي في نصب الراية 3/ 33، وابن حجر في تلخيص الحبير 2/ 239، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 4/ 388، والمتقي الهندي في كنز العمال (11883) .(5/80)
وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24)
فالحبّ كلّ ما كان قشر والنبات الحشيش والكلأ ونحوهما.
[سورة النبإ (78) : آية 16]
وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16)
وَجَنَّاتٍ أي ثمر جنات. أَلْفافاً قال أبو جعفر: قد ذكرنا قول من قال: هو جمع لفّ وقول من قال: هو جمع الجمع أراد أنه يقال لفّاء وألفّ مثل حمراء وأحمر ثم تقول: ألف كما يقال: حمر ثم يجمع لفّا ألفافا كما تقول: خفّ وأخفاف والقول الأول أولى بالصواب لأن أهل التفسير قالوا: وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) أي جميعا، لا نعلم بينهم اختلافا في ذلك فهذا جمع لفّ، ويقال: لفيف بمعناه، ونخلة لفّاء معناه غليظة فلهذا قلنا الأول أولى بالصواب.
[سورة النبإ (78) : آية 17]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17)
خبر كانَ ولو كان في غير القرآن جاز الرفع على إلغاء كان.
[سورة النبإ (78) : آية 18]
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بدل. فَتَأْتُونَ أَفْواجاً على الحال، ويقال: فوج وفوجة.
[سورة النبإ (78) : الآيات 19 الى 20]
وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20)
وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) في معناه قولان: قيل: معناه انشقّت فكانت طرقا، وقيل: تقطّعت فكانت قطعا كالأبواب ثم حذفت الكاف، كما تقول: رأيت فلانا أسدا أي كالأسد، وكذا وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) .
[سورة النبإ (78) : آية 21]
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21)
أي ترصد من عصى الله سبحانه وترك طاعته. وقال الحسن: لا يدخل أحد الجنة حتى يرد النار ومرصاد في العربية من رصدت فأنا راصد ومرصاد على التكثير. وقال «كانت» ولم يقل مرصادة لأنه غير جار على الفعل فصار على النّسب.
[سورة النبإ (78) : آية 22]
لِلطَّاغِينَ مَآباً (22)
أي مرجعهم إليها. وآب يؤوب رجع كما قال: [مخلّع البسيط] 524-
وكلّ ذي غيبة يئوب ... وغائب الموت لا يؤوب «1»
[سورة النبإ (78) : الآيات 23 الى 24]
لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24)
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (379) .(5/81)
لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) هذه قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وأبي عمرو وعاصم والكسائي، وقرأ علقمة ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة «لبثين» «1» بغير ألف. وقد اعترض في هذه القراءة فقيل: هي لحن لا يجوز: هو حذر زيدا، وإن كان سيبويه قد أجازه وأنشد: [الكامل] 525-
حذر أمورا لا تضير وآمن ... ما ليس منجيه من الأقدار «2»
وأنشد الفراء: [الكامل] 526-
أو مسحل عمل عضادة سمحج ... بسراته ندب لها وكلوم «3»
إلّا أن سيبويه أنشده «أو مسحل شنج» ، وقال قوم: هو لحن لأنه إنما يقال:
حذر، وكذا باب فعل لمن كان في خلقته الحذر، فأما اللّابث فليس من ذلك في شيء.
قال أبو جعفر: أما القول الأول فغلط ولا يشبه هذا قولك: حذر زيدا لأن أحقابا ظرف وما لا يتعدّى يتعدى إلى الظرف، وأما الثاني فهو يلزم إلّا أنه يجوز على بعد.
والقراءة بلابثين بيّنة حسنة. فأما حجة من احتجّ بلبثين بما رواه شعبة عن أبي إسحاق قال: في قراءة عبد الله «لبثين» فلا حجة فيه لأن أبا إسحاق لم يلق عبد الله، ولو كان إسناده متصلا كانت فيه حجة، وهذه الأشياء تؤخذ من قراءة عبد الله بما لا تقوم به حجة من إسناد منقطع أو من صحف قد يكتب لابثين بغير ألف فيتوهّم قارئه أنه «لبثين» . وفي هذه الآية إشكال لقوله جلّ وعزّ: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً وهم لا يخرجون منها. فمن أحسن ما قيل فيها أن قتادة قال: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً لا انقطاع لها فعلى هذا التقدير يكون الجمع وحقبة حقب، وأحقاب جمع الجمع كما قال: [الطويل] 527-
وكنّا كندماني جذيمة حقبة ... من الدّهر حتّى قيل لن يتصدّعا «4»
ويجوز أن يكون أحقاب جمع حقب وقد ذكرنا ما قال أهل التفسير في معناه.
فأما أهل اللغة فقولهم إن الحقب والحقبة يقعان للقليل من الدهر والكثير. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: سألنا أبا العباس محمد بن يزيد عن قول الله جلّ وعزّ: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً فقال: ما معنى هذا التحديد؟ ونحن إذا حددنا الشيء فقلنا: أنا أقيم عندك يوما، كان في قوة الكلام أنك لا تقيم بعد اليوم ثم لم يجبنا عنها مذ نيف وثلاثون سنة ونظرت فيها فوقع لي أنه يعني به الموحدون العصاة ثم نظرت فإذا
__________
(1) انظر تيسير الداني 177.
(2) مرّ الشاهد رقم (120) .
(3) الشاهد للبيد في ديوانه 125، وخزانة الأدب 8/ 169 وشرح أبيات سيبويه 1/ 24، وشرح المفصل 6/ 72، ولسان العرب (عضد) ، و (عمل) ، والمقاصد النحوية 3/ 513، وبلا نسبة في الكتاب 1/ 167.
(4) الشاهد لمتمم بن نويرة في ديوانه 111، وتاج العروس (حبر) و (صدع) ، وديوان المفضليات 535، والكامل (1237) .(5/82)
إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)
بعده أنهم كانوا لا يرجون حسابا فعلمت أن ذلك ليس هو الجواب قال: فالجواب عندي أن المعنى لابثين في الأرض أحقابا، فعاد الضمير على الأرض لأنه قد تقدم ذكرها والضمير في لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً يعود على النار لأنه قد تقدّم أيضا ذكرها.
قال: ولم أعرف لأبي العباس فيها جوابا. قال أبو جعفر: فسألت أبا إسحاق عنها فقال: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول: المعنى لابثين فيها أحقابا هذه صفتها أي يعذبون بهذا العذاب في هذه الأحقاب لا يذوقون فيها إلا الحميم والغسّاق ويعذبون بعد هذا العذاب بأصناف من العذاب غير هذا. وهذا جواب نظري بيّن، وهو قول ابن كيسان يكون «لا يذوقون» من نعت الأحقاب، واختلف العلماء في قوله جلّ وعزّ: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً فقيل أي لا يذوقون فيها بردا يبرد عنهم السعير، وقيل: نوما كما قال الشاعر: [الكامل] 528-
بردت مراشفها عليّ فصدّني ... عنها وعن قبلاتها البرد «1»
أي النوم والنعاس وقد يكون البرد الهدو والثبات، كما قال الشاعر: [الرجز] 529- اليوم يوم بارد سمومه «2» وقد يكون البرد ما ليس فيه شدة كما روي «الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة» «3» وهي التي ليس فيها حرّ السلاح. ويقال: بردت حرّه كما قال: [الطويل] 530-
وعطّل قلوصي في الرّكاب فإنّها ... ستبرد أكبادا وتبكي بواكيا «4»
وأصحّ هذا الأقوال القول الأول لأن البرد ليس باسم من أسماء النوم وإنما يحتال فيه فيقال للنوم: برد لأنه يهدي العطش، والواجب أن يحمل تفسير كتاب الله جلّ وعزّ على الظاهر والمعروف من المعاني إلّا أن يقع دليل على غير ذلك.
[سورة النبإ (78) : آية 25]
إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25)
قال أبو رزين وإبراهيم: الغسّاق ما يسيل من صديد، وقال عبد الله بن بردة:
__________
(1) الشاهد بلا نسبة في جمهرة اللغة 295، والاشتقاق ص 478 والأزمنة والأمكنة 2/ 15، وهو في ديوان امرئ القيس 231.
(2) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (برد) وتاج العروس (سمم) ، وتهذيب اللغة 12/ 320، وجمهرة اللغة 294، مقاييس اللغة 1/ 243، ومجمل اللغة 1/ 260، المخصص 17/ 23. وبعده:
«من جزع اليوم فلا تلومه»
(3) انظر اللسان (برد) .
(4) الشاهد لمالك بن الريب في ديوانه ص 47، ولسان العرب (برد) ، والتنبيه والإيضاح 2/ 9، وبلا نسبة في جمهرة اللغة 295، ومقاييس اللغة 1/ 242، ومجمل اللغة 1/ 260، وأساس البلاغة (برد) و (قود) .(5/83)
جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)
الغساق المنتن، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: الغساق الزمهرير. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة لأنه يكون ما يسيل من جلودهم منتنا شديد البرد وسمعت علي بن سليمان يقول: غساق بالتشديد أولى، لأنه يقال: غسقت عينه أي دمعت، فغساق مثل سيّال تكثير غاسق، وقال غيره: من هذا قيل لليل: غاسق، لتغطيته وهجومه كما يهجم السيل، وقيل الحميم مستثنى من الشراب، والغسّاق مستثنى من البرد.
[سورة النبإ (78) : آية 26]
جَزاءً وِفاقاً (26)
جَزاءً مصدر دلّ على فعله ما قبله. وِفاقاً من نعته.
[سورة النبإ (78) : آية 27]
إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27)
قيل: يرجون بمعنى يخافون لأن من رجا شيئا يلحقه خوف من فواته فغلب إحدى الخيفتين كما قال: [الطويل] 531-
إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوب عوامل «1»
وقيل: الرجاء هاهنا على بابه أي لا يرجون ثواب الحساب.
[سورة النبإ (78) : آية 28]
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28)
مصدر، وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً «2» بتخفيف الأول والثاني، وهي رواية شاذّة ولكنه قد صحّ عن الكسائي أنه قرأ الثانية بالتخفيف كما قال: [مجزوء الكامل] 532-
فصدقتهم وكذّبتهم ... والمرء ينفعه كذابه «3»
وكذّاب التشديد على قول بعض الكوفيين لغة يمنية وهذا ما لا يحصل منه كثير فائدة ولكن قول سيبويه «4» أنه مصدر كذّب على الحقيقة وأن كان الكلام يكذّب تكذيبا كثيرا. وفيه من النحو ما يدق من المجيء بهذه التاء في تكذيب وليس لها في الفعل أصل ويقال: ما الدليل على أن الأصل كذّاب؟ ونحن نشرحه على مذهب سيبويه إن شاء الله. سبيل الفعل إذا كان رباعيا أن يزاد على ماضيه ألف في المصدر فتقول: أكرم
__________
(1) الشاهد لأبي ذؤيب الهذليّ في ديوان الهذليين 1/ 143، وشرح أشعار الهذليين 1/ 144، واللسان (رجا) .
(2) انظر معاني الفراء 3/ 229.
(3) الشاهد للأعشى في شرح شواهد الإيضاح 606، ولسان العرب (صدق) ، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في شرح المفصل 6/ 44.
(4) انظر الكتاب 4/ 193. [.....](5/84)
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)
إكراما وانطلق انطلاقا فهذا قياس مستتب وكذا كذّب كذّابا وتكلم كلاما ثم إنهم قالوا كذب تكذيبا فقال سيبويه: أبدلوا من العين الزائدة تاء وقلبوا الألف ياء فغيّروا أوله كما غيّروا آخره. قال أبو جعفر: فأما تكلّم تكلما فجاؤوا بالماضي ولم يزيدوا ألفا لكثرة حروفه وضموا اللام قال سيبويه: لأنه ليس في الأسماء تفعل.
[سورة النبإ (78) : الآيات 29 الى 30]
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30)
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ نصب كلّ بإضمار فعل ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل كما قال «1» : [مخلع البسيط] 533-
أصبحت لا أحمل السّلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
والذّئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرّياح والمطرا
ويجوز الرفع بالابتداء والكوفيون يقولون: بالعائد عليه. كِتاباً مصدر فمن النحويين من يقول: العامل فيه مضمر أي كتبناه كتابا أي كتبنا عدده ومبلغه ومقداره فلا يغيب عنا منه شيء كتابا. وقيل: العامل فيه «أحصيناه» لأن أحصيناه وكتبناه واحد. قال الحسن: سألت أبا بردة عن أشد آية في القرآن على أهل النار فقال: تلا رسول الله فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً (30) فقال: أهلك القوم بمعصيتهم لله جلّ وعزّ، وقال عبد الله ابن عمر: ولم ينزل على أهل النار أشدّ من قوله: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً (30) .
[سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 32]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32)
حَدائِقَ بدل من «مفاز» والمفاز الظفر بما يحبّه الإنسان. قال ابن عباس:
الحدائق الشجر الملتفّ، وقال الضحاك: الذي عليه الحيطان. قال أبو جعفر: وكذلك هو في اللغة وقد حدق بالقوم كما قال: [الخفيف] 534- وقد حدقت بي المنيّة «2»
[سورة النبإ (78) : آية 33]
وَكَواعِبَ أَتْراباً (33)
معطوف الواحدة كاعب وكواعب للجمع والمؤنث.
[سورة النبإ (78) : آية 34]
وَكَأْساً دِهاقاً (34)
أي ممتلئة. مشتقّ من دهقه إذا تابع عليه الشدّة.
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (113) .
(2) الشاهد مقطع من بيت للأخطل التغلبي في ديوانه 83، واللسان (حدق) ، وتمامه:
«المنعمون بنو حرب وقد حدقت ... بي المنيّة واستبطأت أنصاري»(5/85)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)
[سورة النبإ (78) : آية 35]
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35)
وقرأ الكسائي «كذابا» «1» وهي خارجة من قراءة الجماعة يجوز أن يكون مصدرا من كاذب كذابا ويجوز أن يكون مصدرا من كذب كما تقول: صام صياما، وهذا أشبه أي لا يسمعون فيها باطلا يلغى ولا كذبا.
[سورة النبإ (78) : آية 36]
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36)
جَزاءً مصدر، وكذا عَطاءً حِساباً من نعته أي عطاء كافيا كما قال:
[الطويل] 535-
ونغني وليد الحيّ إن كان جائعا ... ونحسبه إن كان ليس بجائع «2»
وقال مجاهد: حسابا بأعمالهم.
[سورة النبإ (78) : آية 37]
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37)
«3» قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وأبي عمرو، وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق، وعاصم بخفضهما جميعا، وقرأ ابن محيصن ويحيى بن وثاب وحمزة بخفض الأول ورفع الثاني، وهو اختيار أبي عبيد لقرب الأول وبعد الثاني، وخالفه قوم من النحويين قالوا ليس بعده مما يوجب الرفع لأنه لم يفرق بينهما ما يوجب هذا فرفعهما جميعا على أن يكون الأول مرفوعا بالابتداء والثاني نعت له والخبر لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً، ويجوز أن يكون الأول مرفوعا بإضمار هو، ومن خفض الاثنين جعلهما نعتا أو بدلا من الاسم المخفوض، ومن خفض الأول ورفع الثاني جعل الثاني مبتدأ أو أضمر مبتدأ.
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الروح ملك عظيم الخلق، وروى عنه غيره قال: الروح أرواح الناس تقوم مع الملائكة في ما بين النفختين من قبل أن ترد إلى الأبدان. وقال الشعبي والضحاك: الروح جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم، وقال الحسن وقتادة: الروح بنو آدم، وقال ابن زيد: الروح القرآن، وقال مجاهد: الروح على صور بني آدم وليسوا منهم. قال أبو جعفر: لا دليل فعلمه يدلّ على أصحّ هذه الأقوال يكون
__________
(1) انظر تيسير الداني 178، والبحر المحيط 8/ 406.
(2) الشاهد لامرأة من بني قشير في التنبيه والإيضاح 1/ 63، ومقاييس اللغة 2/ 60، وتاج العروس (حسب) ولسان العرب (حسب) ، وبلا نسبة في لسان العرب (قفا) ، ومجمل اللغة 2/ 64، والمخصص 14/ 57، وأساس البلاغة (قفو) وتاج العروس (قفا) .
(3) انظر تيسير الداني 178.(5/86)
ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
قاطعا من توقيف من الرسول أو دلالة بينة، وهو شيء لا يضرّ الجهل به ولو قال قائل:
هذه الأشياء التي ذكرها العلماء ليست بمتناقضة ويجوز أن يكون هذا كلها لها لما عنّف. وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا نصب على الحال، وكذا لا يَتَكَلَّمُونَ في موضع نصب.
إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ يكون «من» في موضع رفع على البدل من الواو، وفي موضع نصب على الاستثناء أي إلا من أذن له الرّحمن في الكلام وَقالَ صَواباً من الحق وتأوّل عكرمة المعنى على غير هذا. قال أبو جعفر: وقال صوابا في الدنيا أي قال: لا إله إلا الله.
[سورة النبإ (78) : آية 39]
ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39)
ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ نعت لليوم أي ذو الحقّ. فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً أي نجاء مآب أي عملا صالحا في الدنيا.
[سورة النبإ (78) : آية 40]
إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)
َّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
نعت لعذاب أو لظرف أي وقتا قريباوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
الجملة في موضع خفض أي يوم نظره يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
خبر كنت، وأجاز بعض النحويين: ليتني قائما. قال: لأن «كان» تنثر بعد ليت فحذفت.(5/87)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)
79 شرح إعراب سورة النازعات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النازعات (79) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1)
وَالنَّازِعاتِ خفض بواو القسم، وقيل التقدير وربّ النازعات، وروى شعبة عن سليمان عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله و «النازعات» قال: الملائكة وروى شعبة عن السّدّي عن أبي صالح عن ابن عباس والنَّازِعاتِ قال: ينزع نفسه فصار التقدير والملائكة النازعات غَرْقاً مصدر. قال سعيد بن جبير: تنزع نفوسهم ثم تغرق ثم تحرق ثم يلقى بها في النار. والتقدير ورب النازعات والمعنى: فتغرق النفوس فتغرق غرقا، وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] .
[سورة النازعات (79) : آية 2]
وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2)
وَالنَّاشِطاتِ معطوف على النازعات أي الجاذبات الأرواح بسرعة يقال: نشطه إذا جذبه بسرعة إلا أن الفراء «1» حكى نشطه إذا ربطه، وأنشطه حلّه وحكي عن العرب:
كأنما أنشط من عقال وخولف في هذا واستشهد مخالفه بقوله: [الرجز] 536- أضحت همومي تنشط المناشطا «2»
[سورة النازعات (79) : آية 3]
وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3)
معطوف أي: والملائكة السابحات أي السريعات، وقال عطاء: السَّابِحاتِ السفن سَبْحاً مصدر.
[سورة النازعات (79) : آية 4]
فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 230.
(2) الشاهد لهيمان بن قحافة في تفسير الطبري 30/ 29، واللسان (نشط) ، وتمامه:
«أمست همومي تنشط المناشطا ... الشام بي طورا وطورا واسطا»(5/88)
فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10)
فَالسَّابِقاتِ معطوف أي: والملائكة السابقات الشياطين بالوحي، وقال عطاء:
السابقات الخيل سَبْقاً مصدر.
[سورة النازعات (79) : آية 5]
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5)
فَالْمُدَبِّراتِ عطف أي والملائكة. قال: ولا اختلاف بين أهل العلم في هذا أنه يراد به الملائكة وهو مجاز لأن الله جلّ وعزّ هو المدبر الأشياء. قال: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ [السجدة: 5] فلما كانت الملائكة صلوات الله عليهم ينزلون بالوحي والأحكام وتصريف الأمطار قيل لهم مدبرات على المجاز. قال الفراء «1» : كما قال فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ [البقرة: 97] فنسب التنزيل إلى جبرائيل عليه السّلام والله الذي نزله، وكذا نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 193] . أَمْراً منصوب على المصدر، ويجوز أن يكون التقدير فالمدبّرات بأمر من الله حذفت الباء فتعدى الفعل، وأنشد سيبويه: [البسيط] 537-
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب «2»
فأما جواب القسم ففيه أربعة أقوال أصحها وأحسنها أنه محذوف دلّ عليه دلالة واضحة، والمعنى والنازعات لتبعثنّ فقالوا: أنبعث إذا كنا عظاما نخرة فقولهم: أَإِذا كُنَّا يدلّ على ذلك المحذوف، وقيل: الجواب إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) وهذا بعيد لأنه قد تباعد ما بينهما، وقيل حذفت اللام فقط. والتقدير: ليوم ترجف الراجفة وهذا أيضا أبعد من ذاك لأن اللام ليست مما يحذف لأنها تقع على أكثر الأشياء فلا يعلم من أين حذفت ولو جاز حذفها لجاز والله زيد منطلق، بمعنى اللام. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس الرَّاجِفَةُ النفخة الأولى، والرَّادِفَةُ الثانية روى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بينهما أربعون.
[سورة النازعات (79) : آية 8]
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8)
مبتدأ وخبر. قال عطاء: واجفة متحركة، وقال غيره: خائفة.
[سورة النازعات (79) : آية 9]
أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)
مبتدأ وخبره أنهم أذلاء لفضيحتهم يوم القيامة من معاصيهم وتم الكلام.
[سورة النازعات (79) : آية 10]
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10)
يَقُولُونَ أي في الدنيا. أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ روى ابن أبي طلحة عن ابن
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 230.
(2) مرّ الشاهد رقم (51) .(5/89)
أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)
عباس فِي الْحافِرَةِ قال: يقول في الحياة، وقال ابن زيد: في النار، وقال مجاهد:
في الأرض والتقدير على قول مجاهد في الأرض المحفورة أي في القبر مثل مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطارق: 6] أي مدفوق، وحقيقته في العربية من ماء ذي دفق وعلى قول ابن عباس فِي الْحافِرَةِ نحيا كما حيينا أو لا مرة.
[سورة النازعات (79) : آية 11]
أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11)
صحيحة عن ابن عباس رواها ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس وصحيحة عن ابن الزبير ومروية عن عمر، وابن مسعود، فهؤلاء أربعة من الصحابة وهي مع هذا قراءة ابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي. وهي أشبه برءوس الآيات التي قبلها وبعدها. وقراءة نَخِرَةً «1» أهل الحرمين والحسن وأبو عمرو فالقراءتان حسنتان لأن الجماعة نقلتهما.
[سورة النازعات (79) : آية 12]
قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12)
قيل: المعنى رجعة وردة وجعلوها خاسرة لأنهم وعدوا فيها بالنار.
[سورة النازعات (79) : الآيات 13 الى 14]
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) قال سفيان: الساهرة أرض بالشام، وقال سعيد عن قتادة:
الساهرة جهنم، قال أبو جعفر: والساهرة في كلام العرب الأرض الواسعة المخوفة التي يسهر فيها للخوف، وزعم أبو حاتم: أن التقدير فإذا هم بالسّاهرة والنّازعات. وهذا غلط بيّن، لأن الفاء لا يبتدأ بها والنازعات أول السورة وهذا القول الرابع في جواب القسم.
[سورة النازعات (79) : آية 15]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15)
تكون هَلْ بمعنى «قد» وقد حكى ذلك أهل اللغة وقد تكون على بابها.
[سورة النازعات (79) : آية 16]
إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16)
طُوىً بالتنوين وضم الطاء قراءة ابن عامر والكسائي، وقراءة أهل المدينة وأبي عمرو بغير تنوين وبضم الطاء، وقراءة الحسن طُوىً «2» بكسر الطاء والتنوين ومعناه عنده بالوادي الذي قدّس مرتين ونودي فيه. والقراءة بضم الطاء والتنوين على أنه اسم للوادي وليس بمعدول إنما هو مثل قولك: حطم فلذلك صرف، ومن لم يصرفه جعله كعمر معدولا إلا أن الفراء «3» ينكر ذلك لأنه زعم أنه لا يعرف في كلام العرب اسما من
__________
(1) انظر تيسير الداني 178.
(2) انظر تيسير الداني 122، والبحر المحيط 8/ 413.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 233.(5/90)
فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)
ذوات الياء والواو معدولا من فاعل إلى فعل. قال أبو جعفر: يجوز أن يكون ترك الصرف على أنه اسم للبقعة فيكون على غير ما تأول، وقد قرأ به غير منوّن من تقوم الحجة بقوله.
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) من قال في المستقبل: يطغى قال: طغيت وهو الطغيان ومن قال: يطغو قال: طغوت.
[سورة النازعات (79) : آية 18]
فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18)
قراءة أهل المدينة وقراءة أبي عمرو تَزَكَّى «1» بتخفيف الزاي، والمعنى والتقدير في العربية واحد. لأن أصل تزكى تتزكى فحذفت التاء. ومن قال: تزّكّى أدغمها. ولا يعرف التفريق بينهما. قال ابن زيد: «تزكّى» تسلم، قال: وكلّ تزكية في القرآن إسلام.
[سورة النازعات (79) : آية 19]
وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ عطف وكذا فَتَخْشى أي فتخشى عقابه بترك معاصيه.
[سورة النازعات (79) : آية 20]
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20)
مما لا يجوز حذف الألف واللام منه ولا يؤتى به نكرة.
[سورة النازعات (79) : آية 21]
فَكَذَّبَ وَعَصى (21)
معنى الفاء أنها تدلّ على أن الثاني بعد الأول. والواو للاجتماع. هذا أصلها.
[سورة النازعات (79) : آية 22]
ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22)
في موضع الحال.
[سورة النازعات (79) : الآيات 23 الى 24]
فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَحَشَرَ وحذف المفعول أي وحشر قومه ما قال ابن زيد: جمع قومه فَنادى فيهم فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) .
[سورة النازعات (79) : آية 25]
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25)
قال الفراء: أي فأخذه الله أخذا نكالا للآخرة والأولى.
[سورة النازعات (79) : آية 26]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)
أي يخشى عقاب الله كما نزل بغيره لما عصى؟
[سورة النازعات (79) : آية 27]
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ أي لم تنكرون البعث وخلق السماء أشد من بعثكم.
[سورة النازعات (79) : آية 28]
رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28)
أي سقفا للأرض.
__________
(1) انظر تيسير الداني 178، والبحر المحيط 8/ 413.(5/91)
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35)
[سورة النازعات (79) : آية 29]
وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29)
وَأَغْطَشَ لَيْلَها إضافة مجاز لأن معنى اللّيل ذهاب الشمس فلمّا كانت تغيب في السماء قيل ليلها كما يقال: سرج الدّابة، وكذا وَأَخْرَجَ ضُحاها.
[سورة النازعات (79) : آية 30]
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30)
وَالْأَرْضَ منصوب بإضمار فعل أي ودحا الأرض، وزعم الفراء «1» : أن النصب والرفع جائزان وأنه مثل وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس: 39] يعني في الرفع والنصب.
قال أبو جعفر: بينهما فرق. لأن قوله: الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ الرفع فيه حسن لأن تقديره وآية لهم القمر. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) الرفع فيها بعد لأن قبلها ما عمل فيه الفعل ولا يتعلق بشيء مرفوع فهذا فرق بيّن ولا نعلم أحدا قرأ «والأرض» بالرفع «والقمر» بالرفع قرأ به الأئمة. وفي الآية إشكال لأنه قال تعالى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصّلت: 9] وبعده ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فدلّ على خلق السماء كان بعد خلق الأرض وهاهنا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) فمن أصحّ ما قيل في هذا وأحسنه ما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: خلق الله جلّ وعزّ الأرض قبل السماء فقدّر فيها أقواتها، ولم يدحها، ثم خلق السماء ثم دحا الأرض بعدها، وقال مجاهد والسديّ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أي مع ذلك دحاها، كما قال جلّ وعزّ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [القلم: 13] قال أبو جعفر: القول الأول أولى أن يكون الشيء على بابه. ومعنى الدّحو في اللغة البسط، يقال: دحوت أدحو ودحيت أدحي ومن الثاني سمي دحية.
[سورة النازعات (79) : آية 32]
وَالْجِبالَ أَرْساها (32)
على إضمار فعل أيضا.
[سورة النازعات (79) : آية 33]
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33)
قال الفراء «2» أي خلق ذلك منفعة لكم ومتعة قال: ويجوز الرفع مثل مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمران: 197] .
[سورة النازعات (79) : آية 34]
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34)
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: القيامة عظم الله أمرها وحذّر منه. قال أبو جعفر: العرب إذا عظّمت الشيء وصفته بالطامة.
[سورة النازعات (79) : آية 35]
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35)
أي إذا قرأ كتابه ورأى محلّه تذكّر عمله.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 233. [.....]
(2) انظر معاني الفراء 3/ 223.(5/92)
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
[سورة النازعات (79) : آية 36]
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36)
أنّث الجحيم لمعنى النار، وهو نعت لها هاهنا.
[سورة النازعات (79) : الآيات 37 الى 39]
فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39)
مَنْ في موضع رفع بالابتداء وخبره فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) والتقدير عند الكوفيين فهي مأواه، والألف بدل من الضمير والتقدير عند البصريين هي المأوى له.
[سورة النازعات (79) : آية 40]
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40)
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي مقام الحساب على معاصيه. وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى وهو الميل إلى ما لا يحسن.
[سورة النازعات (79) : آية 41]
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)
كالذي تقدّم.
[سورة النازعات (79) : آية 42]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42)
قال الفراء «1» : يقال إنما الإرساء للسفينة والجبال وما أشبههن فكيف وصفت الساعة بالإرساء؟ فالجواب أنها كالسفينة إذا جرت ثم رست ورسوها قيامها وليس كقيام القائم على رجله ونحوه ولكن كما تقول: قام العدل، وقام الحقّ أي ظهر وثبت.
[سورة النازعات (79) : آية 43]
فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43)
أي ليس إليك ذكرها لأنك لم تعرف وقتها. والأصل «في ما» حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر فإنّ قبل ما حرفا خافضا، والوقوف عليه فيمه لا يجوز غيره لئلا تذهب الألف وحركة الميم، والصواب أن لا يوقف عليه لئلا يخالف السواد في زيادة الهاء أو يلحن إن وقف عليه بغير الهاء.
[سورة النازعات (79) : آية 44]
إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44)
في موضع رفع بالابتداء أي منتهى علمها.
[سورة النازعات (79) : آية 45]
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45)
وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وطلحة مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها «2» بالتنوين وهو الأصل وإنما يحذف تخفيفا.
[سورة النازعات (79) : آية 46]
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)
أي زال عنهم ما كانوا فيه فلم يفكروا في ما مضى وقلّ عندهم، وكان في هذا معنى التنبيه لمن اغتر بالدنيا وسلامته فيها في أنه سيتركها عن قليل ويذهب عنه ما كان يجد فيها من اللّذة والسرور فكأنه لم يلبث فيها إلا عشيّة أو ضحاها.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 234.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 416.(5/93)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)
80 شرح إعراب سورة عبس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة عبس (80) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)
ويقال في التكثير: عبّس.
[سورة عبس (80) : آية 2]
أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2)
أَنْ في موضع نصب أي لأن، ومن النحويين من يقول:
موضعها خفض على إضمار اللام، ومنهم من يقول: «أن» بمعنى «إذ» .
[سورة عبس (80) : آية 3]
وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)
والأصل يتزكّى أدغمت التاء في الزاي.
[سورة عبس (80) : آية 4]
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)
الأصل يتذكر أدغمت التاء في الذال لقربها منها فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى وزعم الفراء «1» أنه يجوز النصب ولم يقرأ به. قال أبو جعفر: الرواية معروفة عن عاصم أنه قرأ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى «2» بالنصب، والكوفيون يقولون: هو جواب لعلّ ولا يعرف البصريون جواب لعلّ بالنصب، وقد حكوا هم والكوفيون وإيجاب النصب وهو الأمر والنهي والنفي والتمني والاستفهام، وزاد الكوفيون الدعاء، ولم يذكروا جواب لعل مع هذه الأجوبة. وسألت عنها أبا الحسن علي بن سليمان فقال: ما أعرف للنصب وجها وإن كان عاصم مع جلالته قد قرأ به إلا أن «أو» يجوز أن تنصب ما بعدها كما قال: [الطويل] 538-
فقلت له لا تبك عينك إنّما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا «3»
فقد يجوز أن يعطفه على ما ينتصب بعد «أو» .
[سورة عبس (80) : الآيات 5 الى 6]
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى قراءة المدنيين، والأصل تتصدّى ثم أدغم، وقراءة الكوفيين وأبي عمرو تَصَدَّى «4» بحذف التاء لئلا يجمع بين تاءين.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 235.
(2) انظر تيسير الداني 178.
(3) مرّ الشاهد رقم (148) .
(4) انظر البحر المحيط 8/ 419، وتيسير الداني 178.(5/94)
وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
[سورة عبس (80) : آية 7]
وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7)
والأصل يتزكّى.
[سورة عبس (80) : آية 8]
وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8)
في موضع نصب على الحال وكذا
[سورة عبس (80) : آية 9]
وَهُوَ يَخْشى (9)
ويجوز أن تكون الجملة خبرا آخر.
[سورة عبس (80) : آية 10]
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
والأصل تتلهّى أي تتشاغل وفعل هذا صلّى الله عليه وسلّم طلبا منه لإسلام المشرك.
[سورة عبس (80) : آية 11]
كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11)
خبر «إنّ» .
[سورة عبس (80) : آية 12]
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12)
لأنه تأنيث غير حقيقي.
[سورة عبس (80) : الآيات 13 الى 15]
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)
قيل: يعني به اللوح المحفوظ. هذا على تفسير ابن عباس لأن سعيد بن جبير روي عنه في معنى بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) أنهم الملائكة. وروى عنه علي بن أبي طلحة أنهم الكتبة، وقال قتادة: هم القراء. والصحيح القول الأول، ومعروف في كلام العرب أنه يقال: سفر الرجل بين القوم إذا ترسّل بينهم بالصلح. والملائكة سفرة لأنهم رسل الله تعالى إلى أنبيائه صلوات الله عليهم، وهم أيضا كتبة يكتبون أفعال العباد. فهذا كله غير متناقض إلّا أن وهب بن منبّه قال: السّفرة الكرام البررة أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم. وبررة جمع بار، وأبرار جمع بر.
[سورة عبس (80) : آية 17]
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17)
قال مجاهد: إذا قال الله تعالى: قتل الإنسان أو فعل به فهو الكافر. ومعنى قتل أهلك لأن المقتول مهلك، وقيل: قتل لعن ما أكفره الأولى أن تكون «ما» استفهاما أي ما الذي أكفره مع ظهور آيات الله جلّ وعزّ وانعامه عليه، وقيل هو تعجب.
[سورة عبس (80) : الآيات 18 الى 20]
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)
مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ أي وإنما خلق من قذر، وإنما ينبل بطاعة الله. وأولى ما قيل في معنى ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) قول عبد الله بن الزبير رحمه الله أنّه يسّره أي سهل عليه حتى خرج من الرحم، والتقدير في العربية: ثم للسبيل وحذف اللام لأنه ممّا يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف.
[سورة عبس (80) : آية 21]
ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
أي صيّره ذا قبر أي أن نقبر، وأما الدافن فيقال له: قابر كما قال: [السريع](5/95)
ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)
539-
لو أسندت ميتا إلى نحرها ... عاش ولم يتنقل إلى قابر»
[سورة عبس (80) : آية 22]
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22)
أي أحياه، والتقدير: إذا شاء أنشره. يقال أنشره الله فنشر فهو منشر وناشر كما قال: [السريع] 540-
حتّى يقول النّاس ممّا رأوا ... يا عجبا للميّت النّاشر «2»
[سورة عبس (80) : آية 23]
كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23)
من النحويين من يجعل «كلّا» تماما في جميع القرآن أي كلا ليس الأمر كما يقول الكافر قد قضيت ما عليّ، ومن النحويين من يجعلها في جميع القرآن مبتدأة، ومنهم من يفصلها وهذا يمرّ في التمام مشروحا إن شاء الله.
[سورة عبس (80) : الآيات 24 الى 26]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)
تمام على قراءة المدنيين وأبي عمرو وعلى قراءة الكوفيين ليس بتمام لأنهم يقرءون أَنَّا «3» بمعنى لأنّا، ولا يجوز أن يكون بدلا من طعام على ما تأوّله أبو عبيد لأن وجوه البدل قد بينها النحويون ولا يدخل فيها هذا.
ومعنى صَبًّا وشَقًّا التوكيد، وكذا هذه المصادر.
[سورة عبس (80) : الآيات 27 الى 31]
فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31)
وعن ابن عباس أنه قال بين يدي عمر: نبات الأرض السبعة فقال له ما أفهم ما تقول، فقال فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) أي ملتفة وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) أي مرعى الأنعام. قال عمر: هكذا فتكلّموا كما تكلّم هذا الفتى وروى عنه ابن أبي طلحة الأب ما لأن من الثمار.
[سورة عبس (80) : آية 32]
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)
نصب على المصدر.
[سورة عبس (80) : آية 33]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال القيامة، وقال عكرمة النفخة الأولى، وقال الحسن: يصيخ لها كلّ شيء أي يصمت لها كلّ شيء.
__________
(1) الشاهد للأعشى في ديوانه 189، ومقاييس اللغة 5/ 47 والبحر المحيط 8/ 420، وتفسير الطبري 30/ 56، والخزانة 2/ 110.
(2) مرّ الشاهد رقم (58) .
(3) انظر تيسير الداني 178.(5/96)
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
[سورة عبس (80) : الآيات 34 الى 36]
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)
قيل: يفرون لما بينهم من المطالبة فيخافون ذلك، وقيل: يفرّون لأن بعضهم يستحي من بعض فيكره أن يرى ما ينزل به من الفضيحة.
[سورة عبس (80) : آية 37]
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
أي يشغله عن غيره.
[سورة عبس (80) : آية 38]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ رفع بالابتداء وإن كان نكرة للفائدة التي فيه، والخبر مُسْفِرَةٌ.
[سورة عبس (80) : آية 39]
ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)
نعت. قال ابن زيد: القترة «1» ما علا من الغبار، ويروى أنه إذا قيل للبهائم: كوني ترابا صار ذلك التراب غبرة في وجوه الكفار.
[سورة عبس (80) : آية 42]
أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
تكون هم فاصلة أو مبتدأة والْفَجَرَةُ خبر والجملة خبر أولئك.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 421 (قرأ الجمهور «قترة» بفتح التاء وابن أبي عبلة بإسكانها) .(5/97)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)
81 شرح إعراب سورة إذا الشمس كورت (التكوير)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التكوير (81) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)
رفعت الشّمس بإضمار فعل مثل الثاني لأن إِذَا بمنزلة حروف المجازاة لا يليها إلا الفعل مظهرا أو مضمرا. وعن أبيّ بن كعب كُوِّرَتْ ذهب ضوءها، وعن ابن عباس أظلمت. قال أبو جعفر: يقال: كوّر الشيء وكبّر الشيء إذا لفّ ورمي به، وفي الحديث «نعوذ بك من الحور بعد الكون» «1» أي من الرجوع بعد أن كان أمرنا ملتئما، ويروى «بعد الكور» .
[سورة التكوير (81) : آية 2]
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)
رفعت النجوم بإضمار فعل أيضا. قال أبيّ: انْكَدَرَتْ تناثرت، وقال ابن عباس: بعثرت.
[سورة التكوير (81) : آية 3]
وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3)
بإضمار فعل أيضا.
[سورة التكوير (81) : آية 4]
وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
«2» عُطِّلَتْ قال: أي أهملت. قال الأصمعي: العشراء النّاقة إذا أتى عليها من حملها عشرة أشهر، وقال أبو عبيدة: الناقة إذا أتى عليها من حملها ستة أشهر إلى أن تضع وبعد ذلك وهم يتفقدونها وتعزّ عليهم.
[سورة التكوير (81) : آية 5]
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)
فيه قولان: أحدهما حشرت يوم القيامة ليعوّضها الله مما لحقها من الألم في الدنيا وقال قتادة: حشرت جمعت.
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه الباب 20 الحديث رقم (3888) ، والدارمي في سننه 2/ 87، والترمذي، الدعاء 1/ 526.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 423 (قرأ الجمهور بتشديد الطاء، ومضر عن اليزيدي بتخفيفها) .(5/98)
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)
[سورة التكوير (81) : آية 6]
وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6)
وقرأ أبو عمرو سُجِّرَتْ «1» مخففا واحتجّ بالبحر المسجور وخالفه جماعة من أهل العلم من أهل اللغة قالوا: البحر المسجور واحد، والبحار جمع الجمع أولى بالتكثير والتشديد قالوا: والبحر المسجور بحر هذه صفته، وليس هذا مثل وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا معناه ومعروف في اللغة أن يقال: سجرت الشيء ملأته كما قال: [الكامل] 541-
فتوسّطا عرض السّريّ وصدّعا ... مسجورة متجاورا قلّامها «2»
وقال: [المتقارب] 542-
إذا شاء طالع مسجورة ... يرى حولها النّبع والسّاسما «3»
أي مملوءة، وقيل: هذه بحار في جهنم إذا كان يوم القيامة. سجّرت أي ملئت بأنواع العذاب إلّا أن أبا العالية قال: إذا الشمس كوّرت إلى ستّ منها يراها الناس قبل أن تقوم القيامة وستّ في الآخرة بعد قيام القيامة، قال: وحدثني أبيّ بن كعب قال:
بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينا هم على ذلك تناثرت النجوم، وبيناهم على ذلك إذ وقعت الجبال وتزلزلت الأرض وهربت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن وعطلت العشار أي أهملها أهلها، واختلطت الوحوش بالناس فذلك حشرها، وقالت الجن للإنس نحن نعرف لكم الخبر فمضوا إلى البحار فوجدوها قد سعّرت نيرانا ثم تصدّعت الأرض إلى الأرض السفلى إلى السماء العليا ثم أرسلت عليهم الريح فأماتتهم.
[سورة التكوير (81) : الآيات 7 الى 8]
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8)
أي قرّبت الصالح مع الصالح هذا معنى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) يقال: وأدها يئدها وأدا فهو وائد وهي موءودة إذا دفنها حية وألقى عليها التراب. واشتقاقه من وأده إذا أثقله قال هارون القارئ في حرف أبيّ وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ «4» قال أبو عبيد: هذا أبين معنى. قال أبو جعفر: خولف في هذا
__________
(1) انظر تيسير الداني 179. [.....]
(2) الشاهد للبيد في ديوانه 307، ولسان العرب (سجر) و (عرض) و (صدع) ، و (قلم) ، وتهذيب اللغة 9/ 181، وجمهرة اللغة 747، وتاج العروس (عرض) و (صدع) ، وكتاب العين 1/ 276، ومقاييس اللغة 4/ 275، ومجمل اللغة 3/ 470، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 457.
(3) الشاهد للنمر بن تولب في ديوانه 380، ولسان العرب (سمسم) ، وتاج العروس (سمسم) وبلا نسبة في جهرة اللغة 457، والمخصّص 10/ 37.
(4) انظر البحر المحيط 8/ 424، ومعاني الفراء 3/ 240.(5/99)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)
لأنها قراءة شاذّة مخالفة للمصحف مشكلة. لأنه يجوز أن يكون التقدير سألت ربها جلّ وعزّ، وسألت قاتلها. فهذا معنى مستغلق فكيف يكون بيّنا وفي معنى سئلت قولان:
أحدهما أن المعنى طلب منها من قتلها توبيخا له فقيل لها: من قتلك؟ والمعنى الآخر أنها سئلت فقيل لها لم قتلت بغير ذنب توبيخا لقاتلها؟ كما يقال لعيسى صلّى الله عليه وسلّم: أأنت قلت للناس اتّخذوني وأمي إلهين من دون الله. وزعم الفراء «1» أن مثل هذا قوله: [الكامل] 543-
الشّاتمي عرضي ولم أشتمهما ... والناذرين إذا لم القهما دمي «2»
ليس المعنى أنهما إذا لقياه فعلا هذا، وإنما المعنى والنادرين يقولان إذا لقيناه قتلناه، وصحّ عن ابن عباس أنه استدلّ بهذه الآية على أن الأطفال كلّهم في الجنة قال:
لأن الله جلّ وعزّ قد انتصر لهم ممن ظلمهم. قال صلّى الله عليه وسلّم: «الله أعلم بما كانوا عاملين» .
[سورة التكوير (81) : آية 10]
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)
كذا قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم «3» ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي نُشِرَتْ والحجة لهم صُحُفاً مُنَشَّرَةً [المدثر: 52] وهذا ليس من الحجج الموجبة لترك ما قرأ به من تقوم بقراءته الحجّة لأن نشرت يقع للقليل والكثير عند النحويين والقراءتان صحيحتان.
[سورة التكوير (81) : آية 11]
وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11)
وقال الفراء: نزعت وطويت قال: وكذا قشطت كما تقول: كافور وقافور.
[سورة التكوير (81) : آية 12]
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)
قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وقراءة أبي عمرو والكوفيين سُعِّرَتْ «4» ويحتجّ لهم بأن الجحيم واحد ويحتج عليهم بأن الجحيم وإن كان واحدا فالتكثير أولى به لكثرة سعّرت. قال أحمد بن عبيد يقال: جحمت النار أي أكثرت وقودها، وقال الفراء:
جحمت الجمر جعلت بعضه على بعض ورجل جاحم بخيل ضنين.
[سورة التكوير (81) : الآيات 13 الى 14]
وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)
بإضمار فعل كالثاني، وجواب «إذا» عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) قيل: معناه ما وجدته حاضرا كما تقول: أحمدت فلانا أي أصبته محمودا قال قتادة: ما أحضرت من عمل.
[سورة التكوير (81) : آية 15]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)
«لا» زائدة للتوكيد أي فأقسم بالخنس وفي معنى الخنس ثلاثة أقوال قد مر منها ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنها النجوم الخمسة، وروى سعيد عن سماك
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 240.
(2) مرّ الشاهد رقم (514) .
(3) انظر البحر المحيط 8/ 425.
(4) انظر تيسير الداني 179 (قرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الجيم والباقون بتشديدها) .(5/100)
الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
قال: سمعت خالد بن عرعرة يقول: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول:
«الخنّس» النجوم تخنس بالنهار وتكنس بالليل. فظاهر هذا القول عام لجميع النجوم، وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة وبكر بن عبد الله المزني وعبد الرّحمن بن زيد. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: الخنّس الظباء، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك وقال جابر بن زيد وإبراهيم النخعي: الخنس بقر الوحش. قال أبو جعفر: إذا كان التقدير:
فأقسم بربّ الخنس، فالمعنى واحد إلا أن القول الأول أجلها وأعرفها، وإنما يقال لبقر الوحش والظباء خنّس الواحد أخنس وخنساء كما قال: [الكامل] 544-
خنساء ضيّعت الغرير فلم ترم ... عرض الشّقائق طرفها ويغامها «1»
وواحد الخنس خانس والجمع خنس وخناس.
[سورة التكوير (81) : آية 16]
الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16)
«الجواري» في موضع خفض حذفت الكسرة من الياء لثقلها فإن كان بغير ألف ولام حذفت الياء لسكونها وسكون التنوين إذ كان جمع جارية وكذا إن سمّيت به على قول الخليل وسيبويه «2» ، وأما الكوفيون ويونس فيقولون إذا سمّيت رجلا بجوار لم تصرفها في النصب والخفض فقلت: رأيت بواري ومررت بجواري، وقيل في الرفع هؤلاء جواري بإسكان الياء. قال الخليل: هذا خطأ لأنه كان يجب أن يقال على هذا:
هذا جواري فأعلم بضم الياء، قال: ولا يكون أثقل من فواعل إذا سميت به. قال سيبويه «3» : سألت الخليل عن امرأة تسمى بقاض فقال: هي مجراة في الرفع والخفض، تقول: مررت بقاض وهذه قاض. قال أبو جعفر: وقول يونس والكوفيين: مررت بقاضي وهذا قاضي فاعلم الْكُنَّسِ جمع كانس ويقال: كنّاس.
[سورة التكوير (81) : الآيات 17 الى 18]
وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18)
وَاللَّيْلِ عطف على «الخنس» ، وليست الواو واو قسم إِذا عَسْعَسَ قال الفرّاء:
أجمع المفسرون على أنه إذا أقبل، وهذا غلط. روى مجاهد عن ابن عباس «إذا عسعس» إذا أدبر. قال الضحّاك إِذا تَنَفَّسَ إذا أضاء وأقبل.
[سورة التكوير (81) : آية 19]
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
جواب القسم، وأجاز الكسائي «أنه» بالفتح أي أقسم أنه وتابعه على ذلك محمد بن يزيد النحويّ.
__________
(1) الشاهد للبيد في ديوانه 308، ولسان العرب (بغم) ، وتاج العروس (خنس) و (شفق) و (بغم) ومقاييس اللغة 3/ 172، والمخصّص 8/ 41، وبلا نسبة في كتاب العين 4/ 199.
(2) انظر الكتاب 3/ 344.
(3) انظر الكتاب 3/ 344.(5/101)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
[سورة التكوير (81) : آية 20]
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)
ذِي قُوَّةٍ نعت لرسول أي ذي قوة على أمر الله جلّ وعزّ وطاعته عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ نعت أيضا أي ذي منزلة رفيعة.
[سورة التكوير (81) : آية 21]
مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)
مُطاعٍ ثَمَّ أي مطاع في السموات أَمِينٍ على وحي الله جلّ وعزّ ورسالاته فهذا التمام.
[سورة التكوير (81) : آية 22]
وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)
أي ليس خطابه ولا بيانه ولا فعله فعل مجنون.
[سورة التكوير (81) : آية 23]
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)
والهاء تعود على الرسول وهو جبريل صلّى الله عليه وسلّم كما قرئ على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى عن يزيد بن هارون ثنا داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين الله تعالى يقول: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) فقالت أنا أول من سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ذاك جبريل صلّى الله عليه وسلّم لم أره على صورته التي خلق عليها إلا مرتين قد هبط من السماء قد سدّ عظم خلقه ما بين السماء والأرض» «1» .
[سورة التكوير (81) : آية 24]
وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع ويحيى والأعمش وحمزة، ويقال: إنها في حرف أبيّ بن كعب كذلك وقرأ ثلاثة من الصحابة «بظنين» «2» كما قرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل عن علي بن عبد الله المديني عن سفيان عن عمرو، قال: سمعت ابن عباس يقرأ «بظنين» بالظاء، وروى شعبة عن مغيرة عن مجاهد قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقرأ بظنين بالظاء، وقال عروة سمعت عائشة تقرأ بالظاء. وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي، ولا اختلاف بين أهل التفسير واللغة أن معنى «بظنين» بمتّهم و «بضنين» ببخيل فالقراءتان صحيحتان قد رواهما الجماعة إلّا أنه في السواد بالضاد، وعدل أبو عمرو والكسائي وهما نحويا القراءة إلى القراءة. «بظنين» لأنه يقال: فلان ظنين على كذا أيّ متّهم عليه، وظنين بكذا وإن كانت حروف الخفض يسهل فيها مثل هذا، وعدل أبو عبيد أيضا إليها لأنه ذكر أنه جواب لأنهم كذّبوه. وهذا الّذي احتجّ به لا نعلم أحدا من أهل العلم يعرفه ولا يرى أنه جواب، ولا هو عندهم
__________
(1) مرّ في إعراب الآيات 11- 13 من سورة النجم.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 426، وتيسير الداني 179.(5/102)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
إلا مبتدأ وخبر، وقد قلنا: إن القراءتين صحيحتان ومجاز «ضنين» أنّ من العلماء من يضن بعلمه، وفي الحديث «من كتم علما لجمه الله بلجام من نار» «1» فأخبر الله عن نبيه صلّى الله عليه وسلّم أنه ليس بضنين بشيء من أمر الدين، وأنه لا يخصّ به أحدا دون أحد على خلاف ما يقول قوم أنه خصّ الإمام بما لم يلقه إلى غيره.
[سورة التكوير (81) : آية 25]
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25)
لو حذفت الباء لنصبت لشبه «ما» بليس.
[سورة التكوير (81) : آية 26]
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)
ذكر الفرّاء «2» أن المعنى فإلى أين تذهبون وحذفت «إلى» كما يقال: ذهبت الشام وذهبت إلى الشام، وانطلقت إلى السوق وانطلقت السّوق، وخرجت الشام وإلى الشام، وحكى الكسائي: انطلق به الغور، والتقدير عنده: إلى الغور فحذفت «إلى» فجعل الكوفيون هذه الأفعال الثلاثة انطلق وذهب وخرج يجوز معها حذف إلى، وقاسوا على ما سمعوا من ذلك زعموا. فأما سيبويه فحكى منها واحدا ولا يجيز غيره وهو ذهبت الشام، ولا يجيز ذهبت مصر، وعلى هذا قول البصريين لا يقيسون من هذا شيئا.
وروى أبو العباس على هذا شيئا فزعم أن قولهم: ذهبت الشام ومعناه الإبهام أي ذهبت شامة الكعبة، غير أن هذا إنما يرجع فيه إلى قول من حكى ذلك عن العرب ولم يحكه سيبويه إلا على أنه الشام بعينها.
[سورة التكوير (81) : آية 27]
إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27)
أي ما في القرآن إلا عظة وتذكرة للعالمين.
[سورة التكوير (81) : آية 28]
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)
لِمَنْ بدل من العالمين على إعادة اللام، ولو كان بغير لام لجاز. قال مجاهد:
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) أي أن يتبع الحق.
[سورة التكوير (81) : آية 29]
وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
وَما تَشاؤُنَ في معناه قولان أحدهما وما تشاؤون أن تستقيموا أي تتّبعوا الحقّ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ والقول الآخر أنه منهم أي ما تشاؤون يشاء من الطاعة والمعصية إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ذلك منكم، ولو لم يشأ لحال بينكم وبينه.
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه باب 24 الحديث (261) والدارمي في سننه 1/ 73، وأبو داود في سننه الحديث (3658) .
(2) انظر معاني الفراء 3/ 243. [.....](5/103)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
82 شرح إعراب سورة انفطرت (الانفطار)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3)
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) لتأنيث السماء على اللغة الفصيحة، وقد حكى الفرّاء «1» فيها التذكير، فمن أنثها صغرها سميّة وإن كانت رباعية في الأصل لأنه قد حذف منها حرف، والسماء مرفوعة بإضمار فعل، وكذا وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وكذا وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) ولا يجوز أن تكون مرفوعة بالفعل الآخر إلا على شيء حكاه لنا علي بن سليمان عن أحمد بن يحيى ثعلب، قال: زيد قام مرفوع بفعله ينوى به التأخير قيل:
معنى وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) فجر بعضها إلى بعض لاضطراب الأرض بزوال الجبال والزلازل فاختلط بعض البحار ببعض.
[سورة الانفطار (82) : آية 4]
وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يقول بحثرت وتأوّله الفرّاء على أنّ الأرض بحثرت فألقت ما فيها من الكنوز والموتى، واحتجّ الحديث «تلقي الأرض أفلاذ كبدها» «2» . قال أبو جعفر: وهذا غلط وليس في القرآن وإذا الأرض وفيه خصوص القبور «وتلقي أفلا كبدها» لا اختلاف بين أهل العلم أنه في آخر الزمان وليس هو يوم القيامة.
[سورة الانفطار (82) : آية 5]
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
تمام الكلام، وهو جواب «إذا» وفي معناه قولان: قال ابن زيد ما قدمت ما عملت وما أخّرت تركت وضيّعت وأخرت مما أمرت بتقديمه من أمر الله جلّ وعزّ، والقول الآخر أن معنى ما أخّرت ما سنّت من سنّة فعمل بها بعدها. قال أبو جعفر: هذا عن ابن عباس، وهو أولى، وبه يقول أصحاب الحديث، وينكره بعض أهل الأهواء.
__________
(1) انظر معاني الفراء 1/ 128.
(2) انظر أمالي المرتضى 1/ 95.(5/104)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)
والدليل على صحته أن الإنسان إذا ضيع ما أمر به وأخره كان ذلك مما قدم من الشرّ لا مما أخّره.
[سورة الانفطار (82) : آية 6]
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
ما في موضع رفع بالابتداء، وهو اسم تام والكاف في موضع نصب بغرّ.
[سورة الانفطار (82) : آية 7]
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)
قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة وأهل الشام، وقرأ الكوفيون فَعَدَلَكَ «1» مخففا، واستبعدها الفرّاء وإن كانت قراءة أصحابه لأنه إنما يقال: عدلته إلى كذا وصرفته إليه، ولا يكاد يقال: عدّلته في كذا ولا صرّفته. قال أبو جعفر فيه: وهذا غلط لأن الكلام تام عند «فعدلك» و «في» متعلقة بركّبك لا بعدلك فيكون كما قال. ومعنى عدلك في اللغة خلقك معتدلا لا يزيد رجل على رجل، وكذا سائر خلقك. وقد يكون عدّلك تكثير عدلك فيكونان بمعنى واحد كما قال ابن الزبعرى: [الرمل] 545- وعدلنا مثل بدر فاعتدل «2» أي قتلنا منهم مثل من قتلوا منا، وقد قيل: عدلك أمالك إلى ما شاء من حسن وقبيح وقبح وصحة وسقم.
[سورة الانفطار (82) : آية 8]
فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8)
ما زائدة قال مجاهد: في صورة أب أو أمّ أو عمّ أو خال.
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10)
[سورة الانفطار (82) : آية 9]
كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
وحكى الفرّاء «3» عن بعض أهل المدينة «بل يكذبون» وردّها لأن بعدها
[سورة الانفطار (82) : آية 10]
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10)
قال أبو جعفر: ولا أعرف ما حكاه عن بعض أهل المدينة، ولا أعلم أحدا رواه غيره.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 11 الى 12]
كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12)
كِراماً كاتِبِينَ (11) نعت لحافظين وكذا يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) .
[سورة الانفطار (82) : آية 13]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)
__________
(1) انظر تيسير الداني 179، والبحر المحيط 8/ 428.
(2) الشاهد عجز بيت لعبد الله بن الزبعرى في ديوانه 93، وبلا نسبة في لسان العرب (عدل) ، وتهذيب اللغة 2/ 211، وتاج العروس (عدل) . وصدره:
«ليت أشياخي ببدر شهدوا»
(3) انظر معاني الفراء 3/ 244.(5/105)
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
أي الذين برّوا بطاعة الله واجتناب معاصيه، وقال الحسن: الأبرار الذين لا يؤذون الذرّ.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 14 الى 15]
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15)
على تأنيث النار وإن كان الجحيم مذكرا.
[سورة الانفطار (82) : آية 16]
وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16)
قال الفرّاء «1» : أي إذا أدخلوها فليسوا بخارجين منها. قال قتادة: يوم يدان الناس بأعمالهم.
[سورة الانفطار (82) : آية 17]
وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17)
قيل: ليس هذا تكريرا. والمعنى: وما أدراك ما في يوم الدين من العذاب والنكال للفجار ثم ما أدراك ما في يوم الدين من النعيم للأبرار.
[سورة الانفطار (82) : آية 19]
يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وابن كثير وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي وقال الفرّاء «2» : «في كتابه في المعاني» اجتمع القرّاء على نصب «يوم لا تملك» . قال أبو جعفر. وهذا غلط. قرأ أبو عمرو وعبد الله بن أبي إسحاق وعبد الرّحمن الأعرج وهو أحد أستاذي نافع يَوْمَ لا تَمْلِكُ «3» بالرفع فمن رفع فتقديره هو يَوْمَ لا تَمْلِكُ، ويجوز أن يكون بدلا مما قبله ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ومن نصب فتقديره: الدين يوم لا تملك ومثله وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ [القارعة: 3، 4] أي القارعة يوم يكون الناس، ويجوز أن يكون التقدير: يصلونها يوم الدين يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً فهذان قولان الأول أولاهما، وللفرّاء قول ثالث أجاز أن يكون «يوم» في موضع رفع فبناه كما قال: [الطويل] 546- على حين عاتبت المشيب على الصّبا «4» قال أبو جعفر: وهذا غلط لا يجوز أن يبنى الظروف عند الخليل وسيبويه مع شيء معرب والفعل المستقبل معرب فأما الكسائي فأجاز ذلك في الشعر على الاضطرار ولا يحمل كتاب الله جلّ وعزّ على مثل هذا، ولكن تبنى ظروف الزمان مع الفعل الماضي كما مرّ في البيت لأن ظروف الزمان منقضية غير ثابتة فلك أن تبنيها مع ما
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 244.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 244.
(3) انظر تيسير الداني 179.
(4) مرّ الشاهد رقم (129) .(5/106)
بعدها إذا كان غير معرب، وأن تعربها على أصلها نحو قول الله جلّ وعزّ وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ [هود: 66] بإعراب يوم، وإن شئت وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ وعلى هذا تبنى يوم مع «إذ» في موضع الرفع والخفض والنصب على الفتح، وكذا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ.(5/107)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
83 شرح إعراب سورة المطففين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المطففين (83) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
رفعت ويلا بالابتداء «للمطففين» خبره أي تأنيب، ويجوز النصب في غير القرآن لأن ويلا بمعنى المصدر، وكان الاختيار الرفع لأنه لا ينطق منه بفعل إلا شيئا شاذا أنشده محمد بن الوليد وهو: [الهزج] 547-
فما وال ولا واح ... ولا واس أبو هند «1»
فإن كان مشتقا من فعل فالاختيار النصب عند النحويين نحو: بؤسا له، وإن لم يأت بالخبر في الأول نصبت فقلت: ويله وويحه.
[سورة المطففين (83) : آية 2]
الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)
الَّذِينَ في موضع خفض نعت للمطففين أو نصب على الذمّ وهو أولى بالآية وربما توهّم الضعيف في العربية أن معنى اكتلت عليه واكتلت منه واحد وتقديرهما مختلف فمعنى اكتلت عليه أخذت ما عليه، ومعنى اكتلت منه استوفيت منه.
[سورة المطففين (83) : آية 3]
وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
اختلف النحويون في موضع الهاء والميم فقال جلتهم أبو عمرو بن العلاء والكسائي والأخفش وغيرهم: موضع الهاء والميم موضع نصب، وهو مذهب سيبويه قياسا على قوله: كلتك وصدتك ولا يجيز وهبتك لأنه يشكل فإن قلت: وهبتك دينارا جاز. وقال عيسى بن عمر: الهاء والميم في موضع رفع، وعبرّ عنه أبو حاتم بأن المعنى عنده: هم إذا كالوا أو وزنوا يخسرون لأن عيسى قال: الوقف «وإذا كالوا» ثم تبتدئ «هم أو وزنوا» ، وعبرّ غيره: أن «هم» توكيد كما تقول: قاموا هم. قال أبو
__________
(1) الشاهد بلا نسبة في شرح التصريح 1/ 330، والممتع في التصريف 2/ 567، والمنصف 2/ 198 وشرح مشكلات الحماسة 312.(5/108)
أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
جعفر: والصواب أن الهاء والميم في موضع نصب لأنه في السواد بغير ألف، ونسق الكلام يدل على ذلك لأن قبله إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ فيجب أن يكون بعده وإذا كالوا لهم، وحذفت اللام كما قال، أنشده أبو زيد: [الكامل] 548-
ولقد جنيتك أكموءا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر «1»
وحرف الخفض يحذف فيما يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف كما قال:
[البسيط] 549-
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب «2»
وقال آخر: [الطويل] 550-
نبّيت عبد الله بالجوّ أصبحت ... كراما مواليها لئيما صميمها «3»
وقال الآخر: [البسيط] 551-
أستغفر الله ذنبا لست محصيه ... ربّ العباد إليه الوجه والعمل «4»
[سورة المطففين (83) : آية 4]
أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
أنّ وما عملت فيه في موضع المفعولين.
[سورة المطففين (83) : الآيات 5 الى 6]
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6)
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) في نصبه أقوال: يكون التقدير: لمبعوثون يوم يقوم النّاس لربّ العالمين، وقال الأخفش سعيد هو مثل قولك: الآن وجعله الفرّاء «5» مبنيا.
قال أبو جعفر: وذلك غلط أن يبنى مع الفعل المستقبل، ويجوز في العربية خفضه على البدل، ورفعه بإضمار مبتدأ فهذا ما فيه من الإعراب. وقرئ على بكر بن سهل عن عبد الله بن يوسف عن عيسى بن يونس عن ابن عون عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في
__________
(1) الشاهد بلا نسبة في الاشتقاق ص 402، والإنصاف 1/ 319، وأوضح المسالك 1/ 180، وتخليص الشواهد 167، وجمهرة اللغة 331، والخصائص 3/ 58، ورصف المباني ص 78، وسرّ صناعة الإعراب 366، وشرح الأشموني 1/ 85، وشرح التصريح 1/ 151، وشرح شواهد المغني 1/ 166 وشرح ابن عقيل 96، ولسان العرب (جوت) و (حجر) و (سور) و (وبر) و (جحش) ، والمحتسب 2/ 224 ومغني اللبيب 1/ 52، والمقاصد النحوية 1/ 498 والمقتضب 4/ 28، والمنصف 3/ 134.
(2) مرّ الشاهد رقم (51) .
(3) مرّ الشاهد رقم (321) .
(4) الشاهد بلا نسبة في أدب الكاتب 524، والكتاب 1/ 71، والأشباه والنظائر 4/ 16، وأوضح المسالك 2/ 283، وتخليص الشواهد 405 وخزانة الأدب 3/ 111، والدرر 5/ 186، وشرح أبيات سيبويه 1/ 420، وشرح التصريح 1/ 394 وشرح المفصّل 7/ 63، والصاحبي في فقه اللغة 181، ولسان العرب (غفر) ، والمقاصد النحوية 3/ 226، والمقتضب 2/ 321، وهمع الهوامع 2/ 82. [.....]
(5) انظر معاني الفراء 3/ 246.(5/109)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
قول الله تعالى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) قال: «يقومون في رشحهم إلى أنصاف آذانهم» «1» قال أبو جعفر: فهذا حديث مجمل صحيح الإسناد، وروى عقبة بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مشروحا قال: «تدنو الشمس يوم القيامة من الأرض فمن الناس من يغرق إلى كعبيه ومنهم من يغرق إلى أنصاف ساقيه ومنهم من يغرق إلى منكبيه ومنهم من يغرق إلى عنقه ومنهم من يغرق إلى نصف فمه ملجما به ومنهم يشتمله الغرق» .
[سورة المطففين (83) : آية 7]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)
من قال: إنّ كَلَّا تمام في كل القرآن، قال: المعنى ليس الأمر كما يذهب إليه الكافرون من أنهم لا يبعثون ولا يعذّبون، وتكلم العلماء في معنى سجّين فقال أبو هريرة: سِجِّينٍ جبّ في جهنم مفتوح، وقال سعيد بن جبير: «سجين» تحت حد إبليس، وقيل «سجين» من السجل والنون مبدلة من اللام أي في ما كتب عليهم، وقال أبو عبيدة: في سجين في حبس فقيل من السجن، وقال بعض النحويين: «سجين» الصخرة التي تحت الأرض السفلى، وزعم أن هذا يروى وأنه صفة لأنه لو كان اسما للصخرة لم ينصرف، قال: ويجوز أن تجعله اسما للحجر فتصرفه. قال أبو جعفر:
وأولى ما قيل في سجين، ما صحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما قرئ على أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان عن ابن فضيل وأبي معاوية عن الأعمش عن المنهال عن زاذان عن البراء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ العبد الكافر أو الفاجر إذا مات صعد بروحه إلى السّماء الدنيا فيقول الله جلّ وعزّ اكتبوا كتابه في سِجِّينٍ «2» قال:
وهي الأرض السفلى.
[سورة المطففين (83) : آية 8]
وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8)
على التعظيم، وهو مبتدأ وخبره.
[سورة المطففين (83) : آية 9]
كِتابٌ مَرْقُومٌ (9)
إضمار مبتدأ أي هو كتاب مرقوم.
[سورة المطففين (83) : الآيات 10 الى 11]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
نعت للمكذبين ويجوز النصب على ما مرّ.
[سورة المطففين (83) : آية 12]
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
قال الحسن بن واقد: أي معتد في قوله أثيم عند ربّه.
[سورة المطففين (83) : آية 13]
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
__________
(1) انظر تفسير الطبري 30/ 92.
(2) انظر تفسير القرطبي 17/ 255.(5/110)
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)
على إضمار مبتدأ.
[سورة المطففين (83) : آية 14]
كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)
بإدغام اللام في الراء وترك الإمالة قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وأبي عمرو، وقرأ الأعمش وعاصم وحمزة والكسائي بإدغام غير أنهم أمالوا، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق بَلْ رانَ «1» بغير إدغام. قال أبو جعفر: والإدغام في هذا أولى لقرب اللام من الراء وترك الإمالة أولى لأنه لا ياء فيه ولا كسرة، وإنما الإمالة محمولة على المعنى لأنه من ران يرين مشتق من الرّين كما قرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل عن عارم قال: سألت الأصمعي عن حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم «إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله عزّ وجلّ مائة مرة» «2» فقال: التوقي في الكلام في حديث رسول الله كالتوقي في القرآن ولكن العرب تسمي الغيم إذا كان دون الغيم رقيقا الغين والرّين. قال أبو جعفر: فهذا الإعراب والاشتقاق فأما المعنى فقال فيه مجاهد: للقلب أصابع فإذا أذنب عبد انقبض منها إصبع ثم إن أذنب انقبضت منها أخرى حتى تنقبض كلّها، ويطبع على قلبه فلا ينفع فيه موعظة. قال أبو جعفر: وأولى ما قيل في هذا ما صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم كما قرئ على أحمد بن شعيب عن قتيبة عن الليث عن محمد بن عجلان عن القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي قال: «إذا أخطأ العبد خطيئة وكت في قلبه وكتة يعني سوداء فإن نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتّى يعلو قلبه فذلك الرين الذي ذكره جلّ وعزّ كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) «3» .
[سورة المطففين (83) : آية 15]
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)
في معناه قولان: أحدهما أنه دلّ بهذا على أنّ المؤمنين لا يحجبون عن النظر إليه جلّ وعزّ. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا ما قاله مالك بن أنس في ذلك وسئل الشافعي رحمه الله عن النظر إلى الله جلّ وعزّ يوم القيامة فقال: يدل عليه كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) والقول الآخر أنّ التقدير: عن كرامة ربّهم مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:
82] . قال أبو جعفر: وهذا خطأ على مذهب النحويين منهم الخليل وسيبويه، ولا يجوز عندهما ولا عند غيرهما من النحويين: جاءني زيد، بمعنى جاءني غلامه وجاءتني كرامته.
[سورة المطففين (83) : آية 16]
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16)
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ لأنه للمستقبل فمن حذف النون تخفيفا قال: لصالو الجحيم بالخفض على الإضافة ومن حذفها لالتقاء الساكنين نصب.
__________
(1) انظر تيسير الداني 179.
(2) انظر إتحاف السادة المتقين 8/ 517.
(3) انظر مستدرك الحاكم 1/ 5، وتفسيري الطبري 30/ 62، وكنز العمال (1288) .(5/111)
ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)
[سورة المطففين (83) : آية 17]
ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
اسم ما لم يسمّ فاعله على قول سيبويه «1» في الجملة وكذا قال في ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ [يوسف: 35] في موضع الفاعل. وهذا عند أبي العباس خطأ لأن الجملة لا تقوم مقام الفاعل ولكن الفعل دلّ على المصدر، وقام المصدر مقام الفاعل.
[سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 19]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19)
وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) فيه خمسة أقوال وفي إعرابه قولان فأكثر أهل التفسير منهم كعب ومجاهد وزيد بن أسلم يقولون: علّيّون السماء السابعة، وحكى الفرّاء «2» إنه السماء الدنيا، وقال قتادة: قائمة العرش اليمنى، وقال الضحّاك: علّيّون سدرة المنتهى وقيل: علّيّون الملائكة. قال أبو جعفر. القول الأول عليه الجماعة فأما الإعراب فالقولان اللذان فيه أحدهما أن عليين أشبه عشرين وما أشبهها لأنه لا واحد له، وإنما هو بمعنى من علوّ إلى علو فأعرب كإعراب عشرين. قال أبو جعفر: فهذا قول موافق لتأويل الذين قالوا علّيّون السماء السابعة، والقول الآخر أن عليين صفة للملائكة فلذلك جمع بالواو والنون.
[سورة المطففين (83) : آية 20]
كِتابٌ مَرْقُومٌ (20)
أي ذلك الكتاب كتاب أي مكتوب وفسّر ذلك الضحّاك قال: إذا خرج روح المؤمن أخذه الملك فصعد به إلى السماء الدنيا فتبعه الملائكة المقربون ثم كذلك من سماء إلى سماء حتى ينتهي به إلى السماء السابعة إلى سدرة المنتهى فيوافيهم كتاب من الله جلّ وعزّ مختوم فيه أمان من الله لفلان ابن فلان من عذاب النار يوم القيامة وبالفوز بالجنة. قال ابن زيد: المقربون الملائكة.
[سورة المطففين (83) : آية 22]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
قيل: سمّوا أبرارا لكثرة ما يأتونه من الصدق لأن الصدق يقال له برّ.
[سورة المطففين (83) : الآيات 23 الى 24]
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) أي إلى ما لهم من القصور والحور وغير ذلك. قال أبو جعفر: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) وأجاز الفرّاء «3» يعرف لأنه تأنيث غير حقيقي.
[سورة المطففين (83) : آية 25]
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 124.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 247.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 248.(5/112)
خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
مِنْ رَحِيقٍ في موضع نصب على خبر ما لم يسمّ فاعله على غير قول الأخفش.
[سورة المطففين (83) : آية 26]
خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26)
خِتامُهُ مِسْكٌ مبتدأ وخبره. هذه قراءة أكثر الناس. وقرأ الكسائي رواه عنه أبو عبيد «خاتمه مسك» «1» وزعم أن هذه القراءة قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وذكر إسماعيل بن إسحاق أنه لم يجد أحدا يعرف هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقرئ على إبراهيم بن موسى عن محمد بن الجهم عن يحيى بن زياد عن محمد بن الفضل عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرّحمن السلميّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ «خاتمه مسك» «2» قال أبو جعفر: ختامه بمعنى واحد إلا أن ختاما مصدر وخاتم اسم الفاعل، وأكثر كلام العرب في الناس وما أشبههم هو خاتمهم كما قال جلّ وعزّ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] ، وكذا خاتم وفي غير الناس ختام كما قال: [الكامل] 552-
أغلي السّباء بكلّ أدكن عاتق ... أو جونة قدحت وفضّ ختامها «3»
وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ أي فليحرص وليطلب. وأصل هذا من نفست عليه بالشيء أي أردت أن يكون لي دونه، واشتقاقه من النّفس أي الذي تفرح به النفس وتميل إليه.
[سورة المطففين (83) : الآيات 27 الى 28]
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) في نصب عين خمسة أقوال: قول الأخفش إنها منصوبة بيسقون، وقال محمد بن يزيد حكاه لنا علي بن سليمان: لا يصحّ لي أن تكون منصوبة إلّا بمعنى أعني، وقال الفرّاء «4» : أي من تسنيم عين ثم نوّنت فتنصب مثل أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ [البلد: 14] والقول الرابع «تسنيم عينا» ، والقول الخامس أن يكون تسنيم اسما للماء معرفة وعين نكرة فنصب لذلك. قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بالصواب لأنه صحيح على قول أهل التأويل، كما قرأ محمد بن جعفر عن حفص بن يوسف بن موسى ثنا سلمة ثنا نهشل عن الضحّاك قال:
«تسنيم» عين تتسنّم من أعلى الجنة ليس في الجنة عين أشرف منها. قال أبو جعفر:
__________
(1) انظر تيسير الداني 179، ومعاني الفراء 3/ 248.
(2) انظر تيسير الداني 179، ومعاني الفراء 3/ 248.
(3) الشاهد للبيد بن ربيعة في ديوانه 314، وأسرار العربية 303، وخزانة الأدب 3/ 105، وسرّ صناعة الإعراب 632، وشرح المفصّل 8/ 92 ولسان العرب (قدح) و (عتق) ، و (دكن) ، والمعاني الكبير 1/ 452، والمقاصد النحوية 4/ 125، وأساس البلاغة (سبأ) ، وكتاب العين 7/ 315، وبلا نسبة في جمهرة اللغة 402، ورصف المباني ص 411.
(4) انظر معاني الفراء 3/ 249.(5/113)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
وقول مجاهد أيضا يدلّ على هذا قال: تسنيم علو وكذا الاشتقاق يقال: تسنّمت الماء أتسنّمه تسنيما إذا أجريته من موضع عال، وقبر مسنم أي مرتفع، ومن هذا سنام البعير فإن قال قائل فلم انصرف تسنيم وهو معرفة اسم للمؤنث؟ قيل: تقديره أنه اسم لمذكّر للماء الجاري من ذلك الموضع العالي ومعنى عينا جاريا فقد صارت في موضع الحال.
[سورة المطففين (83) : آية 29]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أي اكتسبوا الإثم. يقال: جرم وأجرم إذا اكتسب إلا أنّ الأكثر في اكتساب الإثم أجرم وفي غيره جرم. الَّذِينَ اسم إنّ أَجْرَمُوا صلته كانُوا خارج من الصلة لأنه خبر «إن» أي كانوا في الدنيا مِنَ الَّذِينَ صدقوا بتوحيد الله يَضْحَكُونَ استهزءوا بهم ويروى أن أبا جهل وأصحابه ضحكوا واستهزءوا بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابه.
[سورة المطففين (83) : آية 30]
وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30)
استهزءوا بهم.
[سورة المطففين (83) : آية 31]
وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)
«1» وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس فاكهين يقول معجبين. قال أبو جعفر: أي معجبين بما يفعلون مسرورين به، وقال ابن زيد: فاكهين ناعمين، وزعم الفرّاء «2» أن فاكهين بمعنى واحد وحكى أبو عبيد أن أبا زيد الأنصاري حكى عن العرب أن الفكه الضحوك الطيب النفس. قال محمد بن يزيد: كان الأصمعي يرفع بأبي زيد في اللغة ويذكر محلّه وتقدّمه ويذكر صدقه وأمانته قال: وكان خلف بن حيان أبو محرز على جلالته يحضر حلقته.
[سورة المطففين (83) : آية 32]
وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32)
هذا قول الكفار في الدنيا أي لضالّون عن طريق الصواب.
[سورة المطففين (83) : آية 33]
وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33)
أي لم يرسلوا ليحفظوا عليهم أعمالهم وإنما أمروا بطاعة الله تعالى.
[سورة المطففين (83) : الآيات 34 الى 36]
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) وذلك بعد دخولهم الجنة. قال ابن عباس: يفتح لهم أبواب إلى النار فينظرون إلى الذين كانوا يسخرون في الدنيا
__________
(1) انظر تيسير الداني 179، والبحر المحيط 8/ 435. [.....]
(2) انظر معاني الفراء 3/ 249.(5/114)
ويضحكون بهم فإذا رأوهم في النار سرّوا بانتقام الله تعالى من أعدائه وضحكوا بهم إذ ذاك عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) إليهم. وقال غيره: على الأرائك ينظرون إلى قصورهم وأزواجهم، ويقول بعضهم لبعض هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وقيل هَلْ مبتدأة منقطعة مما قبلها أي هل جزي الكفار بأعمالهم، وما في موضع نصب على هذا المعنى.(5/115)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)
84 شرح إعراب سورة انشقت (الانشقاق)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الانشقاق (84) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1)
إِذَا في موضع نصب وقد ذكرنا قول النحويين في جواب «إذا» ، وقد قيل:
المعنى: اذكروا إذا السّماء انشقّت، فعلى هذا لا تحتاج إلى جواب أي اذكر خبر ذلك الوقت.
[سورة الانشقاق (84) : آية 2]
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2)
قال سعيد بن جبير: حقّ لها أن تأذن. قال أبو جعفر: حقيقة هذا أن المعنى حقّق الله جلّ وعزّ عليها فانقادت إلى أمره وانشقت أي تصدّعت فصارت أبوابا.
[سورة الانشقاق (84) : آية 3]
وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)
رفعت الأرض بإضمار فعل يفسره الثاني.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 4 الى 5]
وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5)
وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) معطوف على الأول، وكذا وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) .
[سورة الانشقاق (84) : آية 6]
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6)
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ نعت لأي، والأخفش يقول صلة لأنه لا بدّ منه إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً مصدر فيه معنى التوكيد فَمُلاقِيهِ في موضع رفع والأصل ضمّ الياء فحذفت الضمة لثقلها. فهذا قول، وقيل: حذفت لأن الياء هاهنا حرف مد ولين فأشبهت الألف فحذفت منه الضمة والكسرة، ومن العرب من يحذف منها الفتحة فيجريها مجرى الألف فلا يحركها بحال.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 7 الى 8]
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8)
فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) أي يثاب بحسناته ويتجاوز عن سيئاته.
[سورة الانشقاق (84) : آية 9]
وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)(5/116)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
نصب على الحال.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 10 الى 11]
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11)
فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) مفعول به أي يقول يا ثبوراه. قال سيبويه: في نظير هذا أي احضر فهذا من إبانك.
[سورة الانشقاق (84) : آية 12]
وَيَصْلى سَعِيراً (12)
«1» من صلي يصلى ويصلى من صلاه يصليه إذا أحرقه، وكذا أصلاه.
[سورة الانشقاق (84) : آية 13]
إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13)
خبر كان، ويبعد أن يكون منصوبا على الحال إلّا أنه جائز كما نقول: زيد في أهله ضاحكا.
[سورة الانشقاق (84) : آية 14]
إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
أَنْ وما بعدها تقوم مقام المفعولين، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أَنْ لَنْ يَحُورَ قال: يقول: أن لن يبعث، وقال مجاهد: أن لن يرجع إلينا. يقال: حار يحور إذا رجع وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «اللهمّ إني أعوذ بك من الحور بعد الكور» «2» قيل:
معناه أعوذ بك من الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان، وقيل أعوذ بك من النقصان بعد الزيادة.
[سورة الانشقاق (84) : آية 15]
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15)
أي بلى ليحورنّ وليبعثنّ أنّ ربه كان به بصيرا بعمله وبما يصير إليه لأنه كان يرتكب المعاصي مجترئا عليها إذ كان عنده أنه لا يبعث.
[سورة الانشقاق (84) : آية 16]
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)
الباء هي الأصل في القسم، وتبدل منها الواو.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 17 الى 18]
وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)
وَاللَّيْلِ واو عطف لا واو قسم وَما وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) كلّه معطوف.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 19 الى 20]
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) مفتوحة الباء صحيحة عن ابن عباس كما قرئ على
__________
(1) انظر تيسير الداني 179 (قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو «ويصلى» بفتح الياء وإسكان الصاد مخفّفا والباقون بضمّ الياء وفتح الصاد وتشديد اللام) .
(2) انظر تفسير الطبري 30/ 75، والقرطبي 19/ 273.(5/117)
فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
إبراهيم بن موسى عن إسماعيل عن علي بن عبد الله عن سفيان عن عمرو عن ابن عباس أنه قرأ لَتَرْكَبُنَّ «1» بفتح الباء، وهي قراءة عبد الله بن مسعود والشعبي ومجاهد والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ المدنيون لَتَرْكَبُنَّ بضم الباء، وهي قراءة الحسن وأبي عمرو، وقال الفرّاء: وقرئت «ليركبنّ» قال أبو جعفر: القراءة الأولى مخاطبة للواحد وبني الفعل مع النون على الفتح لخفّته، وأكثر أهل التفسير يقول: المخاطبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ومنهم من يقول المخاطبة لجميع الناس، والمعنى: يا أيّها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا. لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) أي حالا بعد حال، وقيل: سماء بعد سماء إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم. والكادح العامل وقد كدح لأهله إذا اكتسب لهم، وأنشد سيبويه: [الطويل] 553-
وما الدّهر إلّا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح «2»
و «لتركبنّ» بضم الباء مخاطبة للجماعة والضمة تدلّ على الواو المحذوفة، وليركبن إخبار عن جماعة لأن بعده
[سورة الانشقاق (84) : آية 20]
فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)
وقبله ذكر من يؤتى كتابه بيمينه، ومن يؤتاه كتابه من وراء ظهره: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) في موضع نصب على الحال.
[سورة الانشقاق (84) : آية 21]
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21)
أهل التفسير على أن المعنى لا يخضعون ولا يذلّون بالانتهاء إلى طاعة الله جلّ وعزّ.
[سورة الانشقاق (84) : آية 22]
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22)
بالخروج من حديث إلى حديث يقع بعد الإيجاب والنفي عند البصريين.
[سورة الانشقاق (84) : آية 23]
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23)
من أوعى الشيء إذا جمعه، ووعى حفظه.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 24 الى 25]
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
الصَّالِحاتِ الَّذِينَ في موضع نصب استثناء من الهاء والميم، ويجوز أن يكون استثناء ليس من الأول، كما روى عكرمة عن ابن عباس إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، قال الشيخ الكبير إذا كبر وضعف وقد كان يعمل شيئا من الخير وقت قوته كتب له مثل أجر ما كان يعمل قال: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي لا يمنّ به عليهم.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 440، ومعاني الفراء 3/ 251.
(2) مرّ الشاهد رقم (52) .(5/118)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)
85 شرح إعراب سورة البروج
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البروج (85) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1)
وَالسَّماءِ خفض بواو القسم ذاتِ الْبُرُوجِ نعت للسماء، واختلف النحويون في جواب القسم فمنهم من قال: هو محذوف، ومنهم من قال: التقدير لقتل أصحاب الأخدود وحذفت اللام، ومنهم من قال: الجواب إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) ، وقال أبو حاتم: التقدير قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج. قال أبو جعفر: وهذا غلط بيّن وقد أجمع النحويون على أنه لا يجوز والله قام زيد بمعنى قام زيد والله وأصل هذا في العربية أنّ القسم إذا ابتدئ به لم يجز أن يلغى ولا ينوى به التأخير، وإذا توسّط أو تأخّر جاز أن يلغى، وفيها جواب خامس أن يكون التقدير وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الآية: 10] وما اعترض بينهما معطوف وتوطئة للقسم قال محمد بن يزيد: واعلم أن القسم قد يؤكد بما يصدّق الخبر قبل ذكر المقسم عليه ثم يذكر ما يقع عليه القسم فمن ذلك وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) ثم ذكر قصّة أصحاب الأخدود، وإنما وقع القسم على قوله إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) .
[سورة البروج (85) : الآيات 2 الى 3]
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) واو عطف لا واو قسم، وكذا وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قال أبو جعفر: قد ذكرنا معناه، وقد قيل: لا يخلو الناس يوم القيامة من شاهد ومشهود فالمعنى وربّ الناس.
[سورة البروج (85) : الآيات 4 الى 5]
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5)
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) خفض على بدل الاشتمال. وفيه تقديران: أحدهما نارها والألف واللام عوض من المضمر، والآخر النار التي فيها، وهذا بدل الاشتمال. وفي معنى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) قولان: أحدهما أنهم المؤمنون قتلهم الكفار، والآخر أنهم الكفار، ويكون معنى قتلوا أو لعنوا أو أهلكوا. وأجاز «النحويون» قتل أصحاب(5/119)
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
الأخدود النار ذات الوقود، بالرفع كما قرأه أبو عبد الرّحمن السلمي وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الأنعام: 137] . قال أبو جعفر: وهذا باب من النحو دقيق قد ذكره سيبويه وذلك أنه يجوز: ضرب زيد عمرو لأنك إذا قلت:
ضرب زيد، دل على أنه له ضاربا، والتقدير ضربه عمرو، وكذا قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) قتلتهم النار، وأنشد سيبويه: [الطويل] 554-
ليبك يزيد ضارع لخصومة ... وأشعث ممّن طوّحته الطّوائح «1»
أي يبكيه ضارع. قال الأخفش: الوقود بالفتح الحطب، والوقود بالضم الفعل:
يريد المصدر أي الإيقاد.
[سورة البروج (85) : آية 6]
إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6)
قال قتادة: المؤمنون، وهذا على أحد التّأويلين.
[سورة البروج (85) : آية 7]
وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)
أي ليس هم بغيب.
[سورة البروج (85) : آية 8]
وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)
وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ ويقال: نقموا أي وما وجدوا عليهم في شيء إلا في إيمانهم بالله العزيز الحميد بانتقامه الْحَمِيدِ أي المحمود عند عباده بأفعاله الجميلة.
[سورة البروج (85) : آية 9]
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ نعت فيه معنى المدح في موضع خفض، ويجوز أن يكون في موضع نصب على المدح، ورفع على إضمار مبتدأ. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي قد شهد على فعلهم وفعل غيرهم وعلمه ليجازيهم عليه.
[سورة البروج (85) : آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ قال قتادة: أحرقوهم ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا أي من فعلهم ذلك فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ قال محمد بن إسحاق احترقوا في الدنيا، وكذا قال أبو العالية ولهم عذاب جهنم في الآخرة.
[سورة البروج (85) : آية 11]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي أمروا بتوحيد الله سبحانه. وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ انتهوا إلى أمر الله ونهيه. لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهي أنهار الماء وأنهار الخمر واللبن والعسل ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ أي الظفر بما طلبوا.
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (132) .(5/120)
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
[سورة البروج (85) : آية 12]
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)
أي كما بطش بأصحاب الأخدود تحذيرا منه عقابه.
[سورة البروج (85) : الآيات 13 الى 14]
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) في معناه قولان قال ابن زيد: يبتدئ خلق الخلق ثم يعيدهم يوم القيامة، وعن ابن عباس يبدئ العذاب في الدنيا ثم يعيده عليهم في الآخرة. قال أبو جعفر: وهذا أشبه بالمعنى لأن سياق القصة أنهم أحرقوا في الدنيا ولهم عذاب جهنم فإن قيل: كيف يوافق هذا الحديث من عوقب في الدنيا فإن الله أكرم من أن يعيد عليه العقوبة؟ فالجواب عن هذا أنه ينقص من عقوبته يوم القيامة بمقدار ما لحقه في الدنيا لا أنّ الكلّ يزال عنه يوم القيامة، ويدلّ على ذلك الجواب المروي عن ابن عباس أن بعده وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) مبتدأ وخبره.
[سورة البروج (85) : آية 15]
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)
«1» بالرفع قراءة أبي جعفر ونافع وابن كثير وأبي عمرو وعاصم، وقرأ يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ بالخفض فبعض النحويين يستبعد الخفض لأن المجيد معروف من صفات الله جلّ وعزّ فلا يجوز الجواب في كتاب الله بل على مذهب سيبويه «2» لا يجوز في كلام ولا شعر وإنما هو غلط في قولهم: هذا جحر ضبّ خرب، ونظيره في الغلط الإقواء، ولكن القراءة بالخفض جائزة على غير الجوار على أن يكون التقدير إنّ بطش ربك الْمَجِيدُ نعت.
[سورة البروج (85) : آية 16]
فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16)
يكون خبرا بعد خبر كما حكى سيبويه «3» : هذا حلو حامض، ويجوز أن يكون مرفوعا على إضمار مبتدأ ولا يكون نعتا لأنه نكرة: ولكن يجوز أن يكون بدلا أيضا.
[سورة البروج (85) : آية 17]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17)
أي الذين تجنّدوا على عصيان الله جلّ وعزّ والردّ على رسله.
[سورة البروج (85) : آية 18]
فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)
بدل.
[سورة البروج (85) : آية 19]
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)
مبتدأ وخبره، وكذا
[سورة البروج (85) : آية 20]
وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20)
وكذا
[سورة البروج (85) : الآيات 21 الى 22]
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
__________
(1) انظر تيسير الداني 179.
(2) انظر الكتاب 1/ 500.
(3) انظر الكتاب 1/ 500.(5/121)
بالخفض قراءة أبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو وعاصم ويحيى وحمزة والكسائي، وهو المعروف في الحديث والروايات إنه اللوح المحفوظ أي المحفوظ من أن يزاد فيه أو ينقص منه مما رسمه الله فيه، وقرأ نافع وابن محيصن فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «1» بالرفع على أنه نعت لقرآن أي بل هو قرآن مجيد محفوظ من أن يغير ويزاد فيه أو ينقص منه قد حفظه الله جلّ وعزّ من هذه الأشياء. فقد صحّت القراءة أيضا بالرفع ولهذا قال كثير من العلماء: من زعم أن القرآن قد بقي شيء منه فهو رادّ على الله كافر بذلك، والنص الذي لا اختلاف فيه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] فنظير هذا «محفوظ» بالرفع.
__________
(1) انظر تيسير الداني 179، والبحر المحيط 8/ 446.(5/122)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)
86 شرح إعراب سورة الطارق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الطارق (86) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1)
وَالسَّماءِ خفض بواو القسم. وَالطَّارِقِ عطف عليها من قولهم طرق طروقا إذا أتى ليلا.
[سورة الطارق (86) : الآيات 2 الى 3]
وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)
النَّجْمُ بمعنى هو النجم الثاقب، ويجوز أن يكون الثَّاقِبُ نعتا للطارق، وأصحّ ما قيل في معنى الثاقب ما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس الثاقب قال:
يقول: المضيء، وحكى الفراء: ثقب أي ارتفع وأنه زحل، قيل له: الثاقب لارتفاعه، وقال غيره: لطلوعه من المشرق كأنه يثقب موضعه.
[سورة الطارق (86) : آية 4]
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا «1» عَلَيْها حافِظٌ قراءة أبي عمرو ونافع والكسائي، وقرأ أبو جعفر والحسن إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) قال أبو جعفر: القراءة الأولى بيّنة في العربية تكون ما زائدة و «إن» مخففة من الثقيلة هذا مذهب سيبويه، وهو جواب القسم، والقراءة الثانية تكون «لمّا» بمعنى إلا عليها. قال أبو جعفر: حكى سيبويه «2» ، أقسمت عليك لمّا فعلت، بمعنى ألا فعلت.
[سورة الطارق (86) : آية 5]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5)
من نظر القلب والأصل فلينظر حذفت الكسرة لثقلها وجزم الفعل بلام الأمر وكسرت الراء لالتقاء الساكنين. مِمَّ خُلِقَ الأصل مما حذفت الألف لأنها استفهام، وتم الكلام.
__________
(1) انظر تيسير الداني 180، والبحر المحيط 8/ 448.
(2) انظر الكتاب 3/ 122.(5/123)
خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)
[سورة الطارق (86) : آية 6]
خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6)
قال أبو جعفر: قول الكسائي والفراء أن معنى دافق مدفوق قال: وأهل الحجاز أفعل الناس لهذا يأتون بفاعل بمعنى مفعول إذا كان نعتا مثل «ماء دافق» وسرّ كاتم أي مكتوم. قال أبو جعفر: فاعل بمعنى مفعول فيه بطلان البيان، ولا يصح ولا ينقاس، ولو جاز هذا لجاز ضارب بمعنى مضروب، والقول عند البصريين أنه على النسب، كما قال: [الطويل] 555- كليني لهم يا أميمة ناصب «1» وكما قال: [الطويل] 556-
وليس بذي سيف فيقتلني به ... وليس بذي رمح وليس بنبّال «2»
[سورة الطارق (86) : آية 7]
يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7)
وقرأ عيسى مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وحكى الأصمعي: الصّلب بمعنى الصلب.
وَالتَّرائِبِ جمع تربية، ويقال: تريب واختلف العلماء في معناه فمن أصح ما قيل فيه ما رواه عطيّة عن ابن عباس قال: الترائب موضع القلادة، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الترائب بين ثدي المرأة، وقال سعيد بن جبير: الترائب الأضلاع إلى أسفل الصلب وقال مجاهد: ما بين المنكبين والصدر، وقال الضحاك: الترائب اليدان والرجلان والعينان، وقال قتادة: الترائب نحو الصلب وروى الليث بن سعد عن معمر بن أبي حبيبة قال: الترائب غضارة القلب ومنه يكون الولد، قال أبو جعفر: هذه الأقوال ليست بمتناقضة لأنه يروى أن الماء يخرج من البدن كلّه حتى من كل شعره إلا أن القول الأول مستعمل في كلام العرب كما قال: [الوافر] 557-
ومن ذهب يلوح على تريب ... كلون العاج ليس بذي غضون «3»
وكما قال: [الطويل] 558-
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسّجنجل «4»
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (226) .
(2) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 33، وشرح أبيات سيبويه 3/ 221، والكتاب 3/ 422، وشرح شواهد المغني 1/ 341، وشرح المفصّل 6/ 14، ولسان العرب (نبل) ، والمقاصد النحوية 4/ 540، وبلا نسبة في شرح الأشموني 3/ 745، ومغني اللبيب 1/ 111، والمقتضب 3/ 162. [.....]
(3) الشاهد للمثقب العبد في شعره ص 32، وديوان المفضليات 579، وتفسير الطبري 30/ 145.
(4) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 15، ولسان العرب (سجل) ، وتهذيب اللغة 5/ 377، وتاج العروس (ترب) و (فيض) ، و (هفف) ، و (سجل) وبلا نسبة في لسان العرب (ترب) و (هفف) وديوان الأدب 2/ 86.(5/124)
إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
وزعم الفراء «1» أن معنى بين الصلب والترائب من الصلب والترائب لا يجعل بين زائدة ولكن كما يقول: فلان هالك بين هذين.
[سورة الطارق (86) : آية 8]
إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8)
اختلف العلماء في هذا الضمير. فمن أصحّ ما قيل فيه قول قتادة قال: على بعثه وإعادته فالضمير على هذا للإنسان. قال أبو جعفر: وقرئ على إبراهيم بن موسى عن محمد بن الجهم عن يحيى بن زياد عن مندل بن علي عن ليث عن مجاهد إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ قال على ردّ الماء في الإحليل. وهو مذهب ابن زيد قال على رجعه لقادر على حبسه حتى لا يخرج. هذان قولان، وعن الضحاك كمعناهما، وعنه قول ثالث: على رجعه لقادر قال: على رجعه بعد الكبر إلى الشباب وبعد الشباب إلى الصبا وبعد الصبا إلى النطفة. قال أبو جعفر: والقول الأول أبينهما واختاره محمد بن جرير غير أنه احتجّ بحجة لتقويته هي خطأ في العربية. زعم أن قوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ من صلة رجعه يقدره أنه على رجعه يوم تبلى السرائر لقادر. قال أبو جعفر:
وهذا غلط، ولو كان كذا لدخل في صلته رجعه ولفرقت بين الصلة والموصول بخبر «إن» ، وذلك غير جائز ولكن يعمل في «يوم» ناصر.
[سورة الطارق (86) : الآيات 9 الى 10]
يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10)
أي تختبر وتظهر. قيل: يعني الصلاة والصيام وغسل الجنابة.
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ قال قتادة: من قوة تمنعه من الله عزّ وجلّ: وَلا ناصِرٍ ينصره منه، وقال الثوري: مِنْ قُوَّةٍ من عشيرة وَلا ناصِرٍ حليف.
[سورة الطارق (86) : آية 11]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11)
قال أبو جعفر: أهل التفسير على أنه المطر لأنه يرجع كل عام إلا ابن زيد فإنه قال: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ شمسها وقمرها ونجومها. وجمع رجع رجعان سماع من العرب على غير قياس، ولو قيس لقيل أرجع ورجوع.
[سورة الطارق (86) : آية 12]
وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12)
لأنها تصدع بالنبات.
[سورة الطارق (86) : الآيات 13 الى 14]
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
جواب القسم الثاني أي ذو فصل وكذا وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) .
[سورة الطارق (86) : آية 15]
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15)
أي للنبي صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين.
[سورة الطارق (86) : آية 16]
وَأَكِيدُ كَيْداً (16)
أمهلهم.
[سورة الطارق (86) : آية 17]
فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)
نعت لمصدر أي إمهالا رويدا. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس «رويدا» قال: يقول: قريبا، وقال الحسن: قليلا.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 255.(5/125)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)
87 شرح إعراب سورة سبّح (الأعلى)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأعلى (87) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)
قال الفراء «1» : سبّح اسم ربك وسبّح باسم ربّك كلّ صواب. قال أبو جعفر: إن كان قدّر هذا على حذف الباء فلا يجوز: مررت زيدا، وإن كان قدّره مما يتعدّى بحرف وغير حرف فالمعنى واحد فليس كذلك لأن معنى سبّح باسم ربّك ليكن تسبيحك باسم ربّك وقد تكلّم العلماء في معنى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى بأجوبة كلّها مخالف لمعنى ما فيه الباء. فمنهم من قال: معناه نزّه اسم ربك الأعلى وعظّمه عن أن تنسبه إلى ما نسبه إليه المشركون لأنه الأعلى أي القاهر لكلّ شيء أي العالي عليه، ومنهم من قال: أي لا تقل العزّى لأنها مشتقّة من العزيز، ولا اللات لأنهم اشتقوا من قولهم الله، ومنهم من قال: معنى سبّح اسم ربّك أي اذكر اسم ربك وأنت معظم له خاشع متذلّل ومنهم من قال معناه سبح اسم ربّك في صلاتك متخشعا مشغولا بها. قال أبو جعفر: والجواب الأول أبينها كما قرئ على محمد بن جعفر عن يوسف بن موسى عن وكيع ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) قال: سبحان ربي الأعلى.
الْأَعْلَى في موضع خفض نعت لربك أو لاسم، والأولى أن يكون نعتا لما عليه.
[سورة الأعلى (87) : آية 2]
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)
الَّذِي خَلَقَ في موضع جرّ نعت للأعلى وإن شئت لربك، وجاز أن ينعت النعت، لأنه المنعوت في المعنى وعلى هذا جاز: يا يزيد الكريم ذو الجمّة. ومعنى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى الذي خلق الخلق فعدّل خلقه فصار كلّه حسنا في المفعول.
وَالَّذِي قَدَّرَ «2» أي قدر صورهم وأرزاقهم وأعمالهم فَهَدى قيل: فبيّن لهم،
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 256.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 453 (وقرأ الكسائي «قدر» مخفّف الدال من القدرة) .(5/126)
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)
وقيل: المعنى: فهدى وأضل، وقيل: فهداهم إلى مصالحهم.
[سورة الأعلى (87) : آية 4]
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)
في موضع خفض عطف والمرعى ما تأكله البهائم.
[سورة الأعلى (87) : آية 5]
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5)
مفعولان وفيه قولان: أحدهما والذي أخرج المرعى أحوى أي أخضر يضرب إلى السواد فجعله غثاء، والقول الآخر والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أسود. وهذا أولى بالصواب، وإنما يقع التقديم والتأخير إذا لم يصحّ المعنى على غيره ولا سيما وقد روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس فجعله غثاء أحوى يقول: هشيما متغيّرا.
[سورة الأعلى (87) : آية 6]
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6)
فيه قولان أحدهما فلا تترك، والآخر أن يكون من النسيان. فهذا أولى لأن عليه أهل التأويل. قال مجاهد: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في نفسه لئلا ينسى، وقال عبد الله بن وهب: حدّثني مالك بن أنس في قوله سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى قال: تحفظ «إلّا ما شاء الله» والمعنى في القولين جميعا فليس تنسى، وهو خبر وليس بنهي، ولا يجوز عند أكبر أهل اللغة أن ينهى إنسان عن أن ينسى لأن النسيان ليس إليه.
[سورة الأعلى (87) : آية 7]
إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7)
إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ في موضع نصب على الاستثناء، وفي معناه أقوال فعلى الجواب الأول لست تترك شيئا مما أمرك الله به إلا ما شاء الله جلّ وعزّ أن ننسخه فيأمرك بتركه فتتركه، وقيل: فلست تنسى إلا ما شاء الله أن تنساه ولا يشاء الله أن تنسى منه شيئا.
وهذا قول الفراء وشبهه بقوله خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ [هود: 107] وقيل المعنى فلست تنسى إلا ما شاء الله مما يلحق الآدميين، وقيل: لست تنسى إلا ما شاء الله أن يرفعه ويرفع تلاوته فهذه أربعة أجوبة، وجواب خامس أن يكون المعنى فجعله غثاء أحوى إلا ما شاء الله والله أعلم بما أراده. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ أي ما ظهر وعلن وَما يَخْفى ما كتم وما ستر أي فلا تعملوا بمعاصيه فإنه يعلم ما ظهر وما بطن.
[سورة الأعلى (87) : آية 8]
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8)
أي للحال اليسرى.
[سورة الأعلى (87) : آية 9]
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9)
فيه قولان أحدهما فذكّر في كل حال إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع مثل سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] والجواب الآخر أن الذكرى تنفع بكلّ حال فيكون المعنى كما تقول: فذكّر إن كنت تفعل ما أمرت به.(5/127)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18)
[سورة الأعلى (87) : آية 10]
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10)
قال الحسين بن واقد: هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال:
[سورة الأعلى (87) : آية 11]
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)
قال: عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف.
[سورة الأعلى (87) : آية 12]
الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12)
قال: جهنم، وقال الفراء: السفلى من أطباق النار.
[سورة الأعلى (87) : آية 13]
ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13)
في معناه أقوال: قيل: نفوس أهل النار في حلوقهم لا تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواضعها من أجسادهم فيحيوا، وقيل: لا يموتون فيستريحوا ولا يحيون حياة ينتفعون بها، وقيل: هو من قول العرب إذا كان في شدة شديدة ليس بحيّ ولا ميت كما قال: [الخفيف] 559-
ليس من مات فاستراح بميت ... إنّما الميت ميّت الأحياء «1»
[سورة الأعلى (87) : آية 14]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)
في معناه قولان: روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: من تزكّى من الشرك أي تطهر، وقال الحسن «2» : من تزكى من كان عمله زاكيا والقول الآخر عن قتادة قال:
من تزكّى أدّى زكاة ماله.
[سورة الأعلى (87) : آية 15]
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال وحده قال: فَصَلَّى يقول: فصلى الصلوات الخمس، وقال غيره صلّى هاهنا دعا، والصواب عند محمد بن جرير أن يكون المعنى صلّى فذكر اسم ربّه في صلاته بالتحميد والتمجيد. قال أبو جعفر: وهذا غلط على قول أهل العربية لأنه جعل ما قبل الفاء بعدها، وهذا عكس ما قاله النحويون، والصواب قول ابن عباس.
[سورة الأعلى (87) : آية 16]
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16)
وإن شئت أدغمت اللام في التاء، وفي قراءة أبيّ «بل أنتم تؤثرون الحياة الدنيا» «3» وهذه قراءة على التفسير وقرأ أبو عمرو «بل يؤثرون» بالياء على أنه مردود على الأشقى.
[سورة الأعلى (87) : آية 17]
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17)
مبتدأ وخبره.
[سورة الأعلى (87) : آية 18]
إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18)
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (352) .
(2) انظر البحر المحيط 8/ 454.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 257، والبحر المحيط 8/ 455.(5/128)
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
في معناه ثلاثة أقوال: أحدها أن قوله جلّ وعزّ والآخرة خير وأبقى في الصحف الأولى، وهذا كأنه مذهب قتادة، وقيل الفلاح لمن تزكى وذكر اسم ربه فصلى في الصحف الأولى، والقول الثالث أنه يعني به السورة كما قرئ على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى عن وكيع عن شريك عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سبّح اسم ربّك الأعلى من صحف إبراهيم وموسى والله أعلم بما أراد إلا أن قول قتادة حسن لأنه لما يليه، وسبيل الشيء أن يكون لما يليه إلّا أن تأتي حجة قاطعة تغير ذلك.
[سورة الأعلى (87) : آية 19]
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
على البدل والصحيفة الكتاب.(5/129)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)
88 شرح إعراب سورة الغاشية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الغاشية (88) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1)
أهل التفسير على أن معنى حديث وخبر واحد، ودلّ هذا على أن معنى حدثنا وأخبرنا واحد، ويدلّ على هذا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها [الزلزلة: 4] لأن معنى تحدّث وتخبّر واحد. ولأهل التأويل في الغاشية قولان: روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الغاشية من أسماء يوم القيامة، وقال سعيد بن جبير: الغاشية النار. قال أبو جعفر: والقولان متقاربان لأن القيامة تغشى الناس بأهوالها والنار في القيامة تغشى الناس بما فيها.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 2 الى 3]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) مبتدأ وخبره. قال قتادة: خاشعة في النار يعني ذليلة.
واختلف أهل التأويل في قوله جلّ وعزّ: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) فمنهم من قال: عاملة ناصبة في الدنيا، وهذا يتأول لأنه قول عمر رضي الله عنه وتقديره في العربية وجوه يومئذ خاشعة وتمّ الكلام ثم قال: عاملة أي هي في الدنيا «عاملة ناصبة» ، ويجوز أن يكون التقدير: وجوه عاملة ناصبة يومئذ خاشعة أي يوم القيامة خاشِعَةٌ خبر الابتداء، وجاز أن يبدأ بنكرة لأن المعنى للكفار وإن كان الخبر جرى عن الوجوه، وقال عكرمة:
عاملة في الدنيا بمعاصي الله جلّ وعزّ ناصبة في النار. التقدير على هذا أن يكون التمام عاملة. وقول الحسن وقتادة إن هذه الوجوه في القيامة خاشعة عاملة ناصبة وإنها لما لم تعمل في الدنيا أعملها الله في النار وأنصبها. فعلى هذا يكون عاملة ناصبة من نعت خاشعة أو يكون خبرا، وهو جواب حسن لأنه لا يحتاج فيه إلى إضمار ولا تقديم ولا تأخير.
[سورة الغاشية (88) : آية 4]
تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)(5/130)
تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)
قراءة الجماعة إلا أبا عمرو فإنه قرأ تَصْلى «1» لا نعلم غيره قرأ به واحتجّ بتسقى والمعنيان واحد لأنها تصلى فتصلي.
[سورة الغاشية (88) : آية 5]
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)
قال عطاء: قد انتهى حرّها، وقال ابن زيد: آنية حاضرة. قال أبو جعفر.
والمعروف القول الأول وآنية هاهنا مخالفة للتقدير لقوله: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ [الإنسان: 15] وإن كان اللفظ بها واحدا لأن بآنية الألف الثانية فيها بدل من الهمزة والألف في غير الآنية زائدة، ووزنها فاعلة ووزن تلك أفعلة.
[سورة الغاشية (88) : آية 6]
لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6)
اختلف أهل التأويل في تفسير الضريع فروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال:
الضريع شجر من نار، وقال ابن زيد: الضريع الشوك من النار. وهو عند العرب شوك يابس لا ورق فيه وعن عكرمة الضريع الحجارة. وعن الحسن قولان: أحدهما الضريع الزقوم، والآخر أن الضريع الذي يضرع ويذلّ من أكله لمرارته وخشونته. قال أبو جعفر: وهذا القول جامع للأقوال كلها وقد قال عطاء: الضريع الشبرق. قال أبو جعفر: وهذا القول الذي حكاه أهل اللغة. الشبرق: شجر كثير الشوك تعافه الإبل.
[سورة الغاشية (88) : آية 7]
لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
أي لا يشبع.
[سورة الغاشية (88) : آية 8]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8)
مبتدأ وخبره، وجاء بغير واو ولو كان بالواو كان عطف جملة على جملة.
[سورة الغاشية (88) : آية 9]
لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9)
قال أبو جعفر: يكون التقدير: بثواب عملها راضية يجوز النصب في راضية.
[سورة الغاشية (88) : آية 10]
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10)
أي بستان رفيع.
[سورة الغاشية (88) : آية 11]
لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11)
قال أبو جعفر: فيها أربع قراءات «2» إحداها شاذة وأربعة أقوال أحدها شاذ. قرأ
__________
(1) انظر تيسير الداني 180، والبحر المحيط 8/ 457.
(2) انظر تيسير الداني 180، والبحر المحيط 8/ 458.(5/131)
فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)
ابن كثير ونافع لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً بالتاء ورفع لاغية وقرأ ابن محيصن «لا يسمع فيها لاغية» بالياء والرفع وقرأ أبو جعفر وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً بفتح التاء، والقراءة الشاذة لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً بمعنى لا تسمع الوجوه فيها والمراد أصحابها، وقد تقدم ذكر الوجوه والقراءة الأولى أجمعها للمعاني، والقراءة الثانية بالتذكير لأن لاغية ولغوا واحد، والقراءة الثالثة لا تسمع الوجوه والأقوال الأربعة منها عن ابن عباس لاغية أذى وباطل، وقال مجاهد: لاغية شتم، وقال قتادة لاغية باطل وتأثم، وقال أبو جعفر: وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعاني أي كله لغو باطل، وقيل: لاغية على المجاز: قال الأخفش سعيد: كما قال الحطيئة: [مجزوء الكامل] 560-
وغررتني وزعمت أنّ ... ك لابن بالصّيف تامر «1»
وقال الفراء «2» لاغية أي حالفا بكذب. قال أبو جعفر: وهذا القول شاذ لأنه خارج عن قول أهل التفسير ولا يطلق لأحد أن يخرج عن جملتهم في ما قالوه وإن كان قوله محتملا.
[سورة الغاشية (88) : آية 12]
فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12)
العين مؤنّثة، وقد حكى تذكيرها، كما قال: [البسيط] 561- والعين بالإثمد الحاريّ مكحول «3» ولا يعرف الأصمعي في العين إلا التأنيث. قال أبو جعفر: وهو الصحيح، وفي هذا البيت قولان: قال محمد بن يزيد: ما لم يكن فيه علامة التأنيث وكان غير حقيقي التأنيث فلك تذكيره نحو: هذا نار وذاك دار، وأما الأصمعي فقال: مكحول للحاجب لأنه قد تقدّم ذكره.
[سورة الغاشية (88) : آية 13]
فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)
أي لينظروا إلى الله من فوق سريره إلى ما خوّله الله جلّ وعزّ من نعمه.
__________
(1) الشاهد للحطيئة في ديوانه 33، والكتاب 3/ 420، وأدب الكاتب 327، والخصائص 3/ 282، وشرح أبيات سيبويه 2/ 230، وشرح المفصّل 6/ 13، ولسان العرب (لبن) ، وبلا نسبة في رصف المباني ص 72، والصاحبي في فقه اللغة 181.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 257.
(3) الشاهد لطفيل الغنويّ في ديوانه ص 55، والكتاب 2/ 43، وشرح أبيات سيبويه 1/ 187، وشرح شواهد الإيضاح 342، ولسان العرب (صرخد) ، وبلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب 2/ 669، وشرح المفصّل 1/ 18، ولسان العرب (هجج) ، وصدره:
«إذ هي أحوى من الرّبعيّ حاجبه»(5/132)
وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
[سورة الغاشية (88) : آية 14]
وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
قيل: على جوانب العين مملوءة.
[سورة الغاشية (88) : آية 15]
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)
أي بعضها إلى جنب بعض.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 16 الى 17]
وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) الواحد زريبة. قال الفراء «1» : هي الطنافس التي لها خمل، قال: مبثوثة كثيرة. أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) في معناها قولان: أحدهما أنها السحاب والصحيح أنها الجمال وذلك المعروف في كلام العرب. قال قتادة: لمّا نعت الله نعيم الجنة عجب أهل الضلالة من ذلك فأنزل الله جلّ وعزّ: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وكانت الإبل من عيش العرب ومرجوّهم. قال أبو جعفر:
المعنى: أفلا يفكرون فيعلموا أن من خلق هذه الأشياء قادر على خلق ما يريد.
[سورة الغاشية (88) : آية 18]
وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)
أي كيف رفعت فوقهم بغير عمد يرونها ليستدلّوا على عظيم قدرته.
[سورة الغاشية (88) : آية 19]
وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)
أي أقيمت منتصبة لا تسقط.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 20 الى 21]
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)
قال قتادة: بسطت.
فَذَكِّرْ وحذف المفعول لعلم السامع أي فذكّر عبادي حججي وآياتي إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ أي ليس عليك إلا التذكير.
[سورة الغاشية (88) : آية 22]
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
«2» قال ابن زيد: أي لست تردّهم إلى الإيمان، وعن ابن عباس بمسيطر بجبار ...
قال أبو جعفر: أصله السين مشتق من السطر لأن معنى السطر هو الّذي لا يخرج عن الشيء قد منع من ذلك. ويقال: تسيطر إذا تسلّط وتبدل من السين صاد لأن بعدها طاء، وقيل: إنها منسوخة بقوله جلّ وعزّ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] ، وقيل: ليست منسوخة لأنهم إذا أظهروا الإسلام تركوا على جملتهم ولم يتسلّط عليهم كما قرئ على أحمد بن شعيب عن عمرو بن منصور عن أبي نعيم عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّها وحسابهم على الله» ثم تلا إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) بمسيطر» «3» .
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 258. [.....]
(2) انظر تيسير الداني 180.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 1/ 13، ومسلم في الإيمان 32، 33، والنسائي في سننه 7/ 77، والترمذي في سننه (2606) ، وأحمد في مسنده 1/ 11، 19.(5/133)
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
[سورة الغاشية (88) : آية 23]
إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23)
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى في موضع نصب استثناء ليس من الأول أي لكن من تولى وأعرض عن ذكر الله وَكَفَرَ يعذّبه الله ويجوز أن يكون في موضع نصب استثناء من المفعول المحذوف أي فذكر عبادي إلا من تولّى وكفر كما تقول: عظ الناس إلا من تولّى عنك ولم يقبل منك، ويجوز أن يكون استثناء بمعنى أنت مذكّر الناس إلا من تولّى، وقول رابع أن يكون من في موضع خفض على البدل من الهاء والميم في عليهم.
[سورة الغاشية (88) : آية 24]
فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24)
وهو عذاب جهنّم.
[سورة الغاشية (88) : آية 25]
إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25)
وقرأ أبو جعفر إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ بالتشديد، وقيل: هو لحن لأنه من آب يئوب فلو كان مشددا كان إوّابهم وكان يكون إيوابهم كما يقال: ديوان الأصل دوّان فالدليل على ذلك قولهم في الجمع دواوين.
[سورة الغاشية (88) : آية 26]
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)
أي حسابهم على كفرهم ليجازيهم على ذلك.(5/134)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)
89 شرح إعراب سورة الفجر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفجر (89) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1)
خفض بواو القسم وعن ابن عباس في معناه ثلاثة أقوال: منها أنه فجر السنة المحرّم، وإنه النهار، وأنه صلاة الفجر، وأما مسروق فقال: هو فجركم هذا، قال:
واختلف العلماء في الفجر فأهل الكوفة يقولون: هو البياض، وأهل المدينة يقولون:
هو الحمرة، وقد حكي عن العرب: ثوب مشفق ومشفّق أي مصبوغ بالحمرة.
وَلَيالٍ عطف والأصل فيها ليالي ولو جاء على الأصل لقلت: وليالي يا هذا، لا ينصرف كما قال الشاعر: [الرجز] 562- قد عجبت منّي ومن يعيليا «1» فكره أن يختلف المعتلّ فجيء بالتنوين بعد أن حذفت الياء عوضا منها، وقيل:
من الحركة عَشْرٍ نعت لليال.
[سورة الفجر (89) : آية 3]
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)
قراءة «2» أبي جعفر وشيبة ونافع وابن كثير وأبي عمرو وعاصم، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قال أبو جعفر: هو اختيار أبي عبيد واحتجّ بأشياء منها أنه الأكثر في عادة الناس وأنّ المحدّثين كذا يقولونه. قال أبو جعفر:
لو قال قائل: الأكثر في عادة الناس الفتح لكان أشبه وإن كان له حجة في كليهما ولا في
__________
(1) الرجز للفرزدق في الدرر 1/ 102، وشرح التصريح 2/ 228، وبلا نسبة في الكتاب 3/ 348، والخصائص 1/ 6، وشرح الأشموني 2/ 541، ولسان العرب (علا) و (قلا) ، وما ينصرف وما لا ينصرف ص 114، والمقتضب 1/ 142، والممتع في التصريف 2/ 557، والمنصف 2/ 68، وهمع الهوامع 1/ 36.
(2) انظر تيسير الداني 180، والبحر المحيط 8/ 463.(5/135)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
قول المحدثين لأن المحدث لا يضبط مثل هذا، ولا يحتاج إلى ضبطه. ولو قال قائل:
إنّ الفتح أولى لأن قبله والشفع وهو مفتوح لكان قد قال قولا يشبه الاحتجاجات، ولكنهما لغتان حسنتان كما قرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن إسحاق قال:
قرأت على أبي عثمان المازني وأبي إسحاق الزيادي عن الأصمعي قال: كل فرد وتر أهل الحجاز يفتحون الوتر ويكسرون الوتر من الذّحل، ومن تحتهم من قيس وتميم يسوّون بينهما. قال أبو جعفر: وقد بيّن الأصمعي أنهما لغتان وفي حديث عمر وابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «الذي تفوته صلاة العصر كأنّما وتر أهله وماله» «1» يجوز أن يكون مشتقا من الوتر وهو الذحل فيكون المعنى فكأنما سلب أهله وماله بما فاته من الفضل بأن فاتته صلاة. يقال: وتره يتره وترا وترة إذا سلبه، والاسم الوتر، ويجوز أن يكون مشتقا من الوتر أي الفرد فيكون المعنى كأنما نقص أهله وماله أي بقي فردا. وخص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة العصر بهذا في ما قيل لأنها كانت وقت أشغالهم ومبايعاتهم فكان حضورها يصعب عليهم وقال: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: 238] الصحيح أنها صلاة العصر وذلك موافق للحديث.
[سورة الفجر (89) : آية 4]
وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
والأصل يسري حذفت الياء في الخط لأنها رأس آية، ومن أثبتها في الإدراج جاء بها على الأصل وحذفت في الوقف اتّباعا للمصحف الذي لا يحلّ خلافه، وحسن ذلك لأن كل ما يوقف عليه يسقط إعرابه ومن حسن ما قيل في معنى يسري أنه إذا أقبل عند إدبار النهار.
[سورة الفجر (89) : آية 5]
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
قيل: أي مقنع. ومن حسن ما قيل فيه أن المعنى هل في ذلك مما يقسم به أهل العقل تعظيما لما أقيم به وتوكيدا لما أقسم عليه، واستدلّ بعض العلماء بهذا وبتعظيمه على أن المعنى وربّ الفجر لأن أهل العقل والإيمان لا يقيمون إلا بالله جلّ وعزّ، وقد حظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول أحد والكعبة بل خبر عن الله جلّ وعزّ كما روى عمر وابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» «2» قال عمر فما حلفت بها ذاكرا ولا آثرا. وفي حديث آخر «من حلف بغير الله فقد أشرك» «3» وفي آخر «فقد كفر» . قال أبو جعفر: قوله فما حلفت بها كناية عن
__________
(1) مرّ تخريجه في إعراب الآية 35- محمد.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 8/ 33، ومسلم في الإيمان 1، 3، والترمذي في سننه (1534) ، وأحمد في مسنده 1/ 18.
(3) مرّ تخريجه في إعراب الآية 4- الأحقاف.(5/136)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)
اليمين ولم يتقدّم لها ذكر لعلم السامع، وقوله ذاكرا أي قائلا كما يقال: ذكر لي فلان كذا، ولا آثرا أي مخبرا ومعنى «من حلف بغير الله فقد أشرك» فعل فعل المشركين. وكذا فقد كفر. فهذا قول، وقيل: فقد أشرك فقد جعل لله شريكا في التعظيم، وقيل: معنى «فقد كفر» فقد غطّى وستر أمر الله لأنه أمر أن لا يحلف إلّا بالله.
[سورة الفجر (89) : الآيات 6 الى 7]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) «1» صرف عادا جعله اسما للحقّ، وقراءة الضحاك بِعادٍ بغير صرف جعله اسما للقبيلة، وفي قراءة الحسن بِعادٍ إِرَمَ أضاف عاد إلى إِرَمَ ولم يصرف إرم. وهذه الآية مشكلة على كثير من أهل العربية يقول كثير من الناس إنّ إرم اسم موضع فكيف يكون نعتا لعاد أو بدلا منه؟ ويقال: كيف صرف عاد ولم يصرف إرم؟ فقد زعم محمد بن كعب القرطبيّ أن إرم الإسكندرية، وقال المقبريّ: إرم دمشق وكذا قال مالك بن أنس بلغني أنها دمشق رواه عنه ابن وهب، وقال مجاهد: إرم القديمة، وقد روي عنه غير هذا، وعن ابن عباس إرم الهالك، وعن قتادة إرم القبيلة. قال أبو جعفر: والكلام في هذا من جهة العربية أن أبين ما فيه قول قتادة: إن ارم قبيل من عاد فأما أن يكون إرم الإسكندرية أو دمشق فبعيد لقول الله تعالى: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ [الأحقاف: 21] والحقف ما التوى من الرمل، وليس كذا دمشق ولا الإسكندرية. وقد قيل إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ مدينة عظيمة موجودة في هذا الوقت فإن صحّ هذا فتلخيصه في النحو أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ صاحبة إرم مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] ذاتِ الْعِمادِ نعت لعاد على معنى القبيلة أو لأرم وكذا.
[سورة الفجر (89) : آية 8]
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8)
وفي قراءة ابن الزبير الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ أي لم يخلق ربّك مثل عاد في البلدان على عظم أجسادهم وقوتهم فلم يغن ذلك عنهم شيئا لمّا خالفوا أمر الله جلّ وعزّ فأهلكهم.
«وثمود» في موضع خفض، والتقدير وبثمود لم ينصرف لأنه اسم للقبيلة، ومن صرفه جعله اسما للحي، ومن خفضه بغير تنوين حذف التنوين لالتقاء الساكنين «الذين» في موضع خفض على النعت، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى أعني، وفي موضع رفع بمعنى هم الذين جابوا الصخر بالوادي. وجابوا من ذوات الواو جاب
__________
(1) انظر القراءات في البحر المحيط 8/ 464، والمحتسب 2/ 359، والإتحاف 270.(5/137)
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)
الشيء يجوبه إذا قطعه ودخل فيه، وحذفت الياء من الواو لأنه رأس آية والكسرة تدل عليها.
وَفِرْعَوْنَ في موضع خفض، والمعنى وبفرعون، ولم ينصرف لأنه اسم أعجمي ذِي الْأَوْتادِ من نعته وعن ابن عباس ذِي الْأَوْتادِ ذي الجنود. قال أبو جعفر: قد ذكرنا فيه غير هذا أي ذي الجنود الكثيرة المحتاجة لضرب الأوتاد في أسفارها.
الَّذِينَ طَغَوْا أي تجاوزوا أمر الله جلّ وعزّ في البلاد أي الذين كانوا فيه.
[سورة الفجر (89) : آية 12]
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12)
على تأنيث الجماعة يكون جمع بلد، والتذكير جائز يراد به الجمع أو الواحد.
[سورة الفجر (89) : آية 13]
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13)
ويجوز بالصاد لأن بعد السين طاء.
[سورة الفجر (89) : آية 14]
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
من أحسن ما قيل فيه إنه مجاز أي يرصد أعمال العباد أي لا يفوته شيء، وقال سفيان: المرصاد القنطرة الثالثة من جهنم.
[سورة الفجر (89) : آية 15]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ أي اختبره فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ في معنى هذا وما بعده قولان: أحدهما وهو قول قتادة أن الإنسان إذا أنعم الله عليه ووسع قال: أكرمني ربّي بهذا فإذا ضيق عليه رزقه قال: أهانني فزجر الله الإنسان عن هذا وعرفه أنه ليس التوسيع عليه من إكرامه ولا التضييق عليه من إهانته. قال قتادة: وإنما إكرامه إياه بطاعته وإهانته إليه بمعصيته، والقول الآخر إن الإنسان إذا واسع الله عليه حمد الله جلّ وعزّ فإذا ضيّق عليه لم يحمده فزجره الله، لأنه يجب أن يحمده في الحالين، والزجر في قوله: كَلَّا ويدلّ على صحة الجواب الأول ما بعد الآية بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وما بعده أي فبهذا الإهانة وبضدّه الكرامة.
[سورة الفجر (89) : آية 18]
وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18)
«1» حذف المفعول لعلم السامع أي ولا تحضّون الناس، ومن قرأ تَحَاضُّونَ قدّره بمعنى تتحاضون، حذفت إحدى التائين كما قال وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103] .
__________
(1) انظر تيسير الداني 180، والبحر المحيط 8/ 466.(5/138)
وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25)
[سورة الفجر (89) : آية 19]
وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19)
التاء مبدلة من الواو لأنها أقرب الزوائد إليها أَكْلًا مصدر لَمًّا من نعته.
قال الفراء «1» : شديدا.
[سورة الفجر (89) : الآيات 20 الى 21]
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)
قال: كثيرا. قال أبو جعفر كَلَّا تماما في كلّ القرآن قال: المعنى: لا ينبغي أن يكونوا هكذا وانزجروا عن هذا الفعل. إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا عن ابن عباس أي حرّكت وهو مصدر مؤكّد، وكذا الذي بعده.
[سورة الفجر (89) : آية 22]
وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)
وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا يعني الملائكة صَفًّا صَفًّا مصدر في موضع الحال.
[سورة الفجر (89) : آية 23]
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23)
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ في موضع اسم ما لم يسمّ فاعله، ويجوز أن يكون الاسم المصدر يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ويجوز إدغام التاء في الذال وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى قال الضحاك التوبة، وقيل: المعنى من أيّ جهة له منفعة الذّكرى.
يَقُولُ يا لَيْتَنِي ومن العرب من يقول: ليتي يشبّهه بأنّي. قال الضحاك: قَدَّمْتُ لِحَياتِي في الآخرة. قال الحسن: علم أنّ ثمّ حياة لا نفاذ لها.
[سورة الفجر (89) : آية 25]
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25)
هذه قراءة أبي عبد الرّحمن السلمي والحسن وأبي جعفر وشيبة ونافع وابن كثير وأبي عمرو وعاصم والأعمش وحمزة. وهي القراءة التي قامت بها الحجة من جهة الإجماع وقرأ الكسائي فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ «2» قال:
وهذا اختيار أبي عبيد، واحتج بحجتين واهيتين إحداهما الحديث زعم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قال أبو جعفر: والحديث لا يصحّ سنده حدّثناه محمد بن الوليد عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد قال: ثنا هشام وعبّاد بن عبّاد عن خالد عن أبي قلابة عمن أقرأه النبي صلّى الله عليه وسلّم فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ. وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ بفتح الذال والثاء. قال أبو جعفر: وهذا الحديث بيّن لأنه إذا وقع في الحديث مجهول لم يحتجّ به في غير القرآن فكيف في كتاب الله ومعارضته الجماعة الذين قراءتهم عن النبي؟ وحجته الأخرى
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 262.
(2) انظر تيسير الداني 180.(5/139)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)
أنه قد علم المسلمون أنه ليس أحد يوم القيامة يعذّب إلا الله فكيف يكون لا يعذّب أحد عذابه، هذه حجّته. قال أبو جعفر: وأغفل ما قاله العلماء في تأويل الآية لأنهم قالوا، منهم الحسن: لا يعذّب أحد في الدنيا بمثل عذاب الله يوم القيامة. وتأوّل أبو عبيد معنى لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ لا يعذّب عذاب الكافر أحد. وخولف أيضا في هذا التأويل، وممن خالفه الفراء «1» ذهب إلى أن المعنى: لا يعذّب أحد في الدنيا مثل عذاب الله في الآخرة، وفيه قول ثالث أنه يراد به رجل بعينه.
[سورة الفجر (89) : آية 27]
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)
ويجوز يا أيّها لإبهام أيّ النَّفْسُ نعت لأيّ والْمُطْمَئِنَّةُ نعت للنفس فإن جعلتها نعتا لأي جاز نصبها، لأن قد تمّ الكلام كما تقول: يا زيد الكريم أقبل.
والمعنى المطمئنة بوعد الله جلّ وعزّ ووعيده.
[سورة الفجر (89) : آية 28]
ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)
ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ في معناه قولان قال سعيد بن جبير: إلى جسدك فالمعنى على هذا أن النفس خوطبت. قال الضحاك: إلى الله فالمعنى على هذا أن المخاطبة للإنسان وإليه يذهب الفراء، وإلى أنّ المعنى أنّ الملائكة تقول لهم إذا أعطوا كتبهم بأيمانهم هذا أي ارجعي إلى ثواب ربك.
فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) أي في عبادي الصالحين أي كوني معهم. قال الفراء «2» :
وقرأ ابن عباس وحده «فادخلي في عبدي» «3» . قال أبو جعفر: وهذا غلط: أعني قوله وحده، هذه قراءة مجاهد وعكرمة وأبي جعفر والضحاك. وتقديرها في العربية على معنى الجنس أي لتدخل كلّ روح في عبد وقيل: هو واحد يدلّ على جمع وعلامة الجزم في ادخلي عند الكوفيين حذف النون، والبصريون يقولون: ليس بمعرب لأنه غير مضارع ولا عامل معه فيجزمه، وزعم الفراء أن العامل فيه اللام وهي محذوفة.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 262.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 263.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 467. [.....](5/140)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)
90 شرح إعراب سورة البلد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البلد (90) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1)
في لا ثلاثة أقوال: قال الأخفش: تكون صلة فهذا قول، وقيل: هي بمعنى ألا ذكره أيضا الأخفش، والقول الثالث قول أهل التأويل، روى الحسن «1» عن مجاهد قال: «لا» ردّ لكلامهم ثم ابتدأ أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ. قال أبو جعفر: في قوله جلّ وعزّ الْبَلَدِ ثلاثة أقوال: يكون نعتا لهذا، ويكون بدلا، وأولاها الثالث أن يكون عطف البيان والنحويون يذكرون عطف البيان على جملته وما علمت أن أحدا بيّنه والفرق بينه وبين البدل إلا ابن كيسان، قال: الفرق بينهما أن معنى البدل أن تقدّر الثاني في موضع الأول وكأنك لم تذكر الأول، ومعنى عطف البيان أن يكون تقدر أنك إن ذكرت الاسم الأول لم يعرف إلا بالثاني وإن ذكرت الثاني لم يعرف إلا بالأول فجئت مبينا للأول قائما له مقام النعت والتوكيد. قال: وبيان هذا في النداء يا أخانا زيد أقبل على البدل كأنك رفعت الأول وقلت: يا زيد: فإن أردت عطف البيان قلت: يا أخانا زيدا أقبل.
[سورة البلد (90) : آية 2]
وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2)
قال الأخفش: حلّ وحلال وحرم وحرام.
[سورة البلد (90) : آية 3]
وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3)
وَوالِدٍ واو عطف لا واو قسم، وكذا وَما وَلَدَ وقال أبو عمران الجوني:
وَوالِدٍ إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم وولده، وروي عن ابن عباس الوالد الذي ولد، وَما وَلَدَ ولده.
قال أبو جعفر: وهذا على أنه عام وكأنه أبين ما يقال: ويكون التقدير ووالد وولادته حتى يكون «ما» للمصدر.
__________
(1) انظر الطبري 30/ 195.(5/141)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
[سورة البلد (90) : آية 4]
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
قال أبو جعفر: قد ذكرناه، ومن أبين ما قيل في معناه قول عطاء قال: في كبد في مكابدة للأمور. قال الحسن: يكابد السرّاء والضرّاء، وليس أحد يكابد الأمور ما يكابد ابن آدم، وقال سعيد بن أبي الحسن: يكابد أمر الدنيا وأمر الآخرة وقال مجاهد: يكون نطفة وعلقة ولا يزال في مكابدة. فهذه الأقوال ترجع إلى معنى واحد، وهو أبين ما قيل فيها أي يكابد الأمور ويعالجها. فهذا الظاهر من كلام العرب في معنى كبد. قال ذو الإصبع العدواني: [البسيط] 563-
لي ابن عمّ لو أنّ النّاس في كبد ... لظلّ محتجرا بالنّبل يرميني «1»
وقال لبيد: [المنسرح] 564- قمنا وقام الخصوم في كبدي «2»
[سورة البلد (90) : آية 5]
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)
قيل يعني بهذا الكافر أي أيحسب أن لن يقدر الله عليه فيعاقبه فخبر جلّ ثناؤه بجهله.
[سورة البلد (90) : آية 6]
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6)
قيل: يدافع بهذا عن فعل الخيرات، وقيل: قال هذا تندّما، ويدلّ على هذا الجواب ما بعده. قال أبو جعفر: يكون لبد جمع لبدة، وقد يكون واحدا مثل حطم، وروي عن أبي جعفر أنه قرأ لبدا جمع لا بد، وعن مجاهد أنه قال قرأ لبدا جمع لبود، ولا نعلم اختلافا في معناه أنه الكثير.
[سورة البلد (90) : آية 7]
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
والأصل يرأه قلبت حركة الهمزة على الراء فانفتحت وسقطت الهمزة. قال أبو جعفر: وما علمت أحدا من النحويين تكلّم في علّة الهمزة لم تسقط إذا ألقيت حركتها على ما قبلها إلّا علي بن سليمان، سألته عنه قال: لمّا سقطت حركة الهمزة وسكنت وكانت الراء قبلها ساكنة فحرّكت حركة عارضة فكان حكمها حكم الساكن وبعدها ساكن فحذف ما بعدها وهو الهمزة.
__________
(1) الشاهد في ديوان المفضليات 326، والمقاصد النحوية 3/ 288.
(2) الشاهد للبيد في ديوانه 160، وتذكرة النحاة ص 118، والخصائص 3/ 318، ولسان العرب (كبد) ، وبلا نسبة في الخصائص 2/ 205 ولسان العرب (عدل) ، وصدره:
«يا عين هلّا بكيت أربد إذ»(5/142)
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13)
[سورة البلد (90) : الآيات 8 الى 9]
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9)
اللّسان يذكّر ويؤنّث فمن ذكره جمعه ألسنة، ومن أنّثه قال: ألسن. قال: وفي تصغيره لسيّن بتشديد الياء ولسينة بتخفيفها. والأصل في شفة شفهة، والدليل على ذلك جمعها وتصغيرها واشتقاق الفعل منها.
[سورة البلد (90) : آية 10]
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)
مفعول ثان حذفت منه إلى على قول البصريين، وكذا أنشد سيبويه: [الكامل] 565- كما عسل الطّريق الثّعلب «1» عنده أنه حذف منه الحرف، وعند الكوفيين أنه ظرف مثل أمام وقدام.
[سورة البلد (90) : آية 11]
فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)
يقال: سبيل «لا» في مثل هذا أن تأتي متكررة مثل فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة: 31] ، وأن سيبويه قد أجاز إفرادها، وأنشد: [مجزوء الكامل] 566-
من صدّ عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح «2»
وخالفه محمد بن يزيد وجعل هذا اضطرارا. فأما الآية ففيها معنى التكرير لأنه جلّ وعزّ قد بيّن معنى العقبة بما هو مكرّر. قال قتادة: النار عقبة دون الجنة.
[سورة البلد (90) : الآيات 12 الى 13]
وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13)
التقدير اقتحام العقبة أن يفكّ رقبة كما روى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من أعتق رقبة أعتق الله سبحانه بكل عضو منها عضوا منه من النار» «3» قال أبو هريرة: حتّى ذكره بذكره، وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو عمرو وابن كثير والكسائي فَكُّ «4» رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ثم تكلّم النحويون في هذا فاختار الفرّاء «5» هذه القراءة واحتج بأن بعده ثم كانّ أي فلمّا عطف بكان وهي فعل ماض على الأول وجب أن يكون «فكّ» ليعطف فعلا ماضيا على فعل ماض، واختار الأخفش وأبو حاتم وأبو عبيد القراءة الأخرى. قال أبو جعفر: الديانة تحظر الطعن على القراءة التي قرأ بها الجماعة، ولا يجوز أن تكون مأخوذة إلا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد قال عليه السّلام: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» «6» فهما قراءتان حسنتان لا
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (145) .
(2) مرّ الشاهد رقم (3) .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 8/ 181، والترمذي في سننه 1541، والبغوي في شرح السنة 9/ 351، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق 5/ 202.
(4) انظر تيسير الداني 181.
(5) انظر معاني الفراء 3/ 265.
(6) أخرجه الترمذي في سننه- القراءات 11/ 60 وأبو داود الحديث رقم (1475) .(5/143)
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
يجوز أن تقدّم إحداهما على الأخرى. فأما اعتراض الفرّاء «1» بكان وبالنسق على الأول فلا يلزم لأنه لا يجوز أن يكون معطوفا على المعنى: لأن المعنى فعل هذا، وقد نقض هو قوله بأن أجاز القراءة الأخرى على إضمار «أن» ، وأنشد: [الطويل] 567-
ألا أيّهذا اللّائمي أحضر الوغى ... وأن أشهد اللّذّات هل أنت مخلدي «2»
يريد أن أحضر، ولو كان الأمر كما قال لنصب أحضر. وإضمار «أن» لا يجوز إلا بعوض لأنها بعض اسم. واعترض أبو عبيد فقال: الاختيار «فكّ رقبة» لأنه يتبين للعقبة، وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال كلّ ما قال جلّ وعزّ وما أدراك فقد بيّنه، وما قال فيه وما يدريك فلم يبيّنه. قال أبو جعفر: فهذا غلط قد قال الله عزّ وجلّ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ [القارعة: 3] وقال تعالى ذكره: ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: 3] وليس بعد هذا يتبين. وروي عن الحسن وأبي رجاء أنهما قرءا «وأطعم في يوم ذا مسغبة» «3» قال الفرّاء «4» وإن كان لم يذكر من قرأ «ذا مسغبة» هو صفة ليتيم أي يتيما ذا مسغبة. قال أبو جعفر: والغلط في هذا بين جدا لأنه لا يجوز أن تتقدّم الصفة قبل الموصوف، ولست أدري كيف وقع هذا له حتى ذكره في كتاب «المعاني» ؟ ولكن يكون «ذا مسغبة» منصوبا بأطعم ويتيما بدلا منه.
[سورة البلد (90) : آية 17]
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أي ثبت على الإيمان، وقيل: ثم للإخبار وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أعيد الفعل والباء توكيدا.
[سورة البلد (90) : آية 18]
أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18)
أي يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وبأهل النار ذات الشمال إلى النار.
[سورة البلد (90) : آية 20]
عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
«5» من أخذه من أصد فسبيله أن يهمز، ومن أخذه من أوصد لم يجز همزه.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 265.
(2) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه 32، والكتاب 3/ 115، والإنصاف 2/ 560، وخزانة الأدب 1/ 119، والدرر 1/ 74، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 285، وشرح شواهد المغني 2/ 800، ولسان العرب (أنن) و (دنا) ، والمقاصد النحوية 4/ 402، والمقتضب 2/ 85، وبلا نسبة في خزانة الأدب 1/ 463، والدرر 3/ 33، ورصف المباني 113، وشرح ابن عقيل ص 597، وشرح المفصل 2/ 7 ومجالس ثعلب 383، ومغني اللبيب 2/ 383.
(3) انظر الإتحاف 271.
(4) انظر معاني الفراء 3/ 265.
(5) انظر تيسير الداني 181. [.....](5/144)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6)
91 شرح إعراب سورة الشمس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشمس (91) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1)
المعروف في اللغة أن الضحى أول طلوع الشمس إذا أشرقت وإن كان مجاهد قد قال: الضحى النهار، وهو قول الفرّاء «1» .
[سورة الشمس (91) : آية 2]
وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2)
المعروف في اللغة أن تلاها تبعها، وإن كان الفرّاء «2» قد حكى تلاها أخذ منها، يذهب إلى أن القمر أخذ من ضوء الشمس.
[سورة الشمس (91) : آية 3]
وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3)
وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها (3) الظاهر من معناه والبيّن إذا جلّى الشّمس أي إذا أظهرها وأبداها لأن الشمس لا تكون إلّا فيه وإن كان الفرّاء قد قال: والنهار إذا جلّى الظلمة.
هو قول بعيد لأن الظلمة لم يتقدّم لها ذكر.
[سورة الشمس (91) : آية 4]
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
يعود الضمير على الشمس أيضا.
[سورة الشمس (91) : الآيات 5 الى 6]
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6)
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) ما في موضع خفض أي وبنائها، وكذا وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) . روى إسماعيل عن أبي خالد عن أبي صالح طحاها بسطها، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس طحاها قسمها.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 266.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 266.(5/145)
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)
[سورة الشمس (91) : آية 7]
وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7)
أي تسويتها. قال أبو جعفر: ومن قال: المعنى الذي سواها أراد الله جلّ وعزّ، ولو كان كما قال لكان ومن.
[سورة الشمس (91) : آية 8]
فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8)
مفعولان.
[سورة الشمس (91) : آية 9]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9)
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قد أفلح من زكّى الله نفسه.
[سورة الشمس (91) : آية 10]
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10)
فأضلّها، وقال قتادة: قد أفلح من زكى نفسه بالعمل الصالح. قال أبو جعفر: في هذا شيء من النحو غامض لم يذكره الفرّاء وإن كان قد ذكر القولين في المعنى، وذلك أنه إذا كان الضمير يعود على الله جلّ وعزّ لم يعد على من من صلته شيء إلّا على حيلة بعيدة، وذلك أنك إذا قدّرت قد أفلح الإنسان الذي زكّى النفس لم يعد على الذي شي من صلته، وإن قدّرته قد أفلح الإنسان الذي زكّى الله نفسه لم يجز أن يكنّى عن النفس، لأنه لا يعود على النفس شيء، ولو قدّرت «من» للنفس كان بعيدا لأن من لا تكاد تقع في مثل هذا، والحيلة التي يجوز عليه أن يحمل على المعنى أن تؤنّث «من» بمعنى النفس أو يكون المعنى قد أفلحت الفرقة التي زكاها الله فيكون «من» للجميع ومعنى زكاها الله طهّرها بالتوفيق لطاعته، وزكّى فلان ماله، في اشتقاقه قولان: أحدهما أنه من زكا الزرع إذا زاد ونما أي كثر ماله بإخراجه الزكاة والقول الآخر بيّن حسن يكون زكى ماله طهّره وخلّصه بإخراج سهمان المساكين منه. ومنه: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً [الكهف: 74] أي طاهرة مخلصة من الذنوب، ومنه عبد زكي أي طاهر «وقد خاب» أي لم يظفر بما يريد من دسى نفسه الله أي خذلها فارتكبت المعاصي. وعلى القول الآخر من دسّى نفسه أي سترها لركوب المعصية. فاشتقاقه من دسّ ودسس فأبدل، من أحد السينين ياء كما قال: [الطويل] 568- رأت رجلا أيما إذا الشّمس عارضت «1» يريد أما.
[سورة الشمس (91) : آية 11]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11)
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (11) .(5/146)
إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)
الطّغوى الطغيان واحد إلا أن عطاء الخراساني روى عن ابن عباس قال: بطغواها بعذابها، والطّغوى اسم العذاب. قال أبو جعفر: وهذا يصحّ على حذف أي بعذاب طغواها مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] .
[سورة الشمس (91) : آية 12]
إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12)
حكى الفرّاء أنهما اثنان، وأنشد: [الطويل] 569-
ألا بكّر النّاعي بخيري بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسّيّد الصّمد «1»
يريد أنه جعل خبر الاثنين، وشبهه بقولهم: هذان أفضل الناس، وهذان خير الناس. قال أبو جعفر: هذا الذي حكاه خلاف ما قال الله جلّ وعزّ، وقاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقاله أهل التأويل قال الله: أشقاها. فخبّر عن واحد فحكي أنهما اثنان وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: انتدب لها رجل، ولم يقل رجلان، وقال أهل التأويل انتدب لها قدار بن سالف. قال أبو جعفر: وله نظير أو أعظم منه في سورة الرّحمن.
[سورة الشمس (91) : آية 13]
فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13)
أي احذروا ناقة الله. قال الفرّاء «2» : ولو قرأ قارئ «ناقة الله» بالرفع أي هذه ناقة الله لجاز. قال أبو جعفر: ولا يجوز الابتداع في القراءات.
[سورة الشمس (91) : آية 14]
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14)
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها قال الفرّاء: أراد فعقروها فكذبوه. وهذا خطأ في الفاء لأنها تدلّ على أن ثانيا بعد الأول، وهذا عكس اللغة، ومع هذا فليست ثم حال يضطر إليه لأنهم كذّبوا صالحا بأن قال لهم: إن عقرتموها انتقم الله منكم فكذبوه في ما قال فعقروها، وقد قيل: «فكذبوه» كلام تام ثم عطف عليه فعقروها. قال أبو جعفر: وفي هذا من المشكل أن يقال: قد كانوا آمنوا وصدقوا، وجعلوا للناقة يوما ولهم يوما في الشرب فزعم الفرّاء «3» إن الجواب عن هذا أنهم أقروا به ولم يؤمنوا. وهذا القول الذي قاله مما لا يجب أن يجترأ عليه إلا برواية لأنه مغيّب، والرواية بخلافه. روى سعيد عن قتادة قال: توقّف أحيمر ثمود عن عقر الناقة حتى اجتمعوا كلّهم معه على تكذيب صالح صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم فلهذا عمّم الله بالعذاب فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ قال الفرّاء «4» : أي أرجف، وقال غيره: أي عذّبهم، فَسَوَّاها قال أبو جعفر:
__________
(1) الشاهد لسبرة بن عمرو الأسدي في التنبيه والإيضاح 2/ 119، وجمهرة اللغة 657، وسمط اللآلي 933، وبلا نسبة في لسان العرب (صمد) و (خير) ، والمخصّص 12/ 301، وديوان الأدب 1/ 209 وتهذيب اللغة 12/ 150، وإصلاح المنطق 49، وأمالي القالي 2/ 288.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 268.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 269.
(4) انظر معاني الفراء 3/ 269.(5/147)
وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
سألت علي بن سليمان عن هذا الضمير فقال: يعود على الدمدمة التي دلّ عليها دمدم، وقال غيره: أي سوّى بينهم في العقوبة فأهلكهم جميعا.
[سورة الشمس (91) : آية 15]
وَلا يَخافُ عُقْباها (15)
هكذا قرأ أهل البصرة وأهل الكوفة وقرأ أهل الحجاز «1» وَلا يَخافُ عُقْباها، وزعم الفرّاء «2» أن الواو أجود. وهذا عظيم من القول أن يقال في ما قرأت به الجماعة ووقع للسواد المنقول عن الصحابة الذين أخذوه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أجود أو خير.
والقراءتان جميعا نقلهما الجماعة عن الجماعة، فهما بمنزلة آيتين لأن معناهما مختلف.
قال أبو جعفر: سمعت إبراهيم بن محمد نفطويه يقول: من قرأ بالفاء فالمعنى لله لا غير، وهذا كما قال، وعليه أهل التأويل وهو صحيح عن ابن عباس قال إبراهيم بن محمد: ومن قرأ بالواو ذهب إلى أن المعنى للعاقر أي انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها أي وهذه حاله. والذي قال حسن غير أنه لا يجوز أن يكون بالواو لله جلّ وعزّ الذي قاله بيّن والله أعلم بما أراد.
__________
(1) انظر تيسير الداني 181 (قرأ نافع وابن عامر بالفاء والباقون بالواو) .
(2) انظر معاني الفراء 3/ 270.(5/148)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)
92 شرح إعراب سورة الليل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الليل (92) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1)
حذف المفعول كما يقال: ضرب زيد، ولا يجيء بالمضروب إمّا لمعرفة السامع وإمّا أن تريد أن تبهم عليه. قيل: المعنى والليل إذا يغشى كل شيء بظلمته فيصير له كالغشاء، وليس كذا النهار، وعلى هذا قول الذبياني: [الطويل] 570-
فإنّك كاللّيل الّذي هو مدركي ... وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع «1»
[سورة الليل (92) : آية 2]
وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2)
خفض على العطف وليست بواو قسم.
[سورة الليل (92) : آية 3]
وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3)
ما مصدر أي وخلقه الذكر والأنثى، قيل «ما» بمعنى الذي، وأجاز الفرّاء:
وما خلق الذكر والأنثى بمعنى والذي خلق الذكر والأنثى. قال أبو جعفر: وجه بعيد أن تكون «ما» بمعنى «من» وأيضا لا نعرف أحدا قرأ به، ولكن روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «والنّهار إذا تجلّى وما خلق الذكر والأنثى» وهو عطف.
[سورة الليل (92) : آية 4]
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
جواب القسم. قال محمد بن كعب: سعيكم عملكم.
[سورة الليل (92) : الآيات 5 الى 6]
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6)
مَنْ في موضع رفع بالابتداء عند البصريين، وعند الكوفيين بالهاء العائدة
__________
(1) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 38، ولسان العرب (طور) و (نأى) ، وكتاب العين 8/ 393، وتاج العروس (نأى) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 5/ 378، ومجمل اللغة 4/ 368.(5/149)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)
عليه. قال الحسين بن واقد: فأما من أعطى زكاته واتّقى ربّه. ومن أحسن ما قيل في معنى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ما قرئ على محمد بن جعفر بن حفص بن راشد عن يوسف بن موسى عن ابن عليّة قال: أخبرنا داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى قال: بالحلف فهذا إسناد مستقيم، ومعنى ملائم لسياق الكلام.
[سورة الليل (92) : آية 7]
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7)
قال جويبر عن الضحّاك قال: للجنة.
[سورة الليل (92) : آية 8]
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8)
على ذلك القول بخل بزكاته واستغنى عن ثواب ربه جلّ وعزّ.
[سورة الليل (92) : آية 10]
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10)
قال الضحّاك: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) قال: النار، فإن قيل: التيسير إنما يكون للخير فكيف جاء للعسر؟ فالجواب أنه مثل فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21] أي اجعل ما يا قوم لهم مقام البشارة وأنشد سيبويه: [الوافر] 571- تحيّة بينهم ضرب وجيع «1» هذا قول البصريين، وقول الفرّاء إنه إذا اجتمع خير وشرّ فوقع للخير تبشير جاز أن يقع للشرّ مثله.
[سورة الليل (92) : آية 11]
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11)
ما في موضع نصب بيغني أي وأيّ شيء يدفع عنه ماله إذا سقط في النار، وذهب مجاهد إذا هلك وإنما يقال في الهلاك. ردى يردي وتردّى إذا سقط وردؤ الرجل يردؤ رداءة وهو رديء مردئ.
[سورة الليل (92) : آية 12]
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12)
لام توكيد دخلت على الهدى فحذف الألف لئلا يشبه «لا» التي للنفي ولاتصال اللام بما بعدها.
[سورة الليل (92) : آية 13]
وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13)
وكذا وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13)
[سورة الليل (92) : آية 14]
فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14)
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (405) .(5/150)
لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
فعل مستقبل الأصل تتلظّى وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير أنه قرأ «تتلظّى» «1» وبعض الحفّاظ يروي عن ابن عيينة بهذا الإسناد إدغام التاء في التاء. قال أبو جعفر: ويجب أن يحرّك التنوين لالتقاء الساكنين. قال مجاهد: تلظّى توهج.
[سورة الليل (92) : الآيات 15 الى 16]
لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (15) فيه قولان: قال أبو عبيدة الْأَشْقَى بمعنى الشقي، وقال الفرّاء «2» : الأشقى الشقيّ في علم الله سبحانه، فالقول الآخر: فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلّا أشقى أهل النار، وأشقى أهل النار الكفار. ودلّ بهذا على أن غير الكفار يدخلون النار بذنوبهم. قال الفرّاء: الَّذِي كَذَّبَ أي قصّر أخذه من قول العرب: حمل فلان على فلان فما.
[سورة الليل (92) : الآيات 17 الى 18]
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18)
أي يتطهّر من الذنوب.
[سورة الليل (92) : آية 19]
وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19)
أي ليس يتصدّق ليكافئ إنسانا على نعمة أنعم بها عليه. وفي معناه قول آخر ذكره الفرّاء يكون للمستقبل أي ليس يتصدّق ليكافأ على صدقته. على أنّ الفراء «3» جعله من المقلوب بمعنى وما له عند أحد نعمة تجزى، وأنشد: [الطويل] 572-
وقد خفت حتّى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل «4»
وتأوّله بمعنى حتى ما تزيد مخافة وعل على مخافتي. قال أبو جعفر: لا يجوز أن يحمل كتاب الله على القلب والاضطرارات البعيدة.
[سورة الليل (92) : الآيات 20 الى 21]
إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) منصوب لأنه استثناء ليس من الأول لم يذكر البصريون غير هذا. وأجاز الفرّاء «5» أن يكون التقدير: ما ينفق إلا ابتغاء وجه ربّه، وأجاز
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 272، والبحر المحيط 8/ 478.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 272.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 272. [.....]
(4) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 144، وأما لي المرتضى 1/ 202، ومعجم ما استعجم 1026، وبلا نسبة في أما لي المرتضى 1/ 216، والإنصاف 1/ 372، ولسان العرب (خوف) ، ومجالس ثعلب ص 618 والمقتضب 3/ 231.
(5) انظر معاني الفراء 3/ 273.(5/151)
إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ «1» بالرفع لأن المعنى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربّه. قال أبو جعفر: ولم يقرأ بهذا، وهو أيضا بعيد وإن كان النحويون قد أجازوه، كما قال: [الرجز] 573-
وبلدة ليس بها أنيس ... إلّا اليعافير وإلّا العيس «2»
وأنشد بعضهم للنابغة «3» : [البسيط] 574-
وقفت فيها أصيلا كي أسائلها ... عيّت جوابا وما بالرّبع من أحد
إلّا أواريّ لأيا ما أبيّنها ... والنّؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
والرفع في هذا مثل وما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وهذا مجاز أي إلّا طلب رضوانه. وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) أي بالثواب.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 479.
(2) مرّ الشاهد رقم (110) .
(3) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 14، 15، والكتاب 2/ 332، وخزانة الأدب 4/ 122 والدرر 1/ 274، وجمهرة اللغة 934، وشرح أبيات سيبويه 2/ 54، والصاحبي في فقه اللغة 215، وشرح شواهد الإيضاح 191، والمقاصد النحوية 4/ 315، والمحتسب 1/ 251، والمقتضب 4/ 414، وبلا نسبة في رصف المباني 452، وشرح الأشموني 2/ 493، وشرح التصريح 1/ 140، ولسان العرب (سند) ، وشرح المفصل 8/ 129.(5/152)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)
93 شرح إعراب سورة الضحى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2)
قال الفرّاء «1» وَالضُّحى (1) النهار كلّه. قال أبو جعفر: والمعروف عند العرب ما رواه أبو روق عن الضحّاك قال: الضّحى ضحى النهار. قال أبو جعفر: قال محمد بن يزيد: والضّحى يكتب بالألف لا غير، لأنه من ضحا يضحو. قال أبو جعفر: وقول الكوفيين إنه بالياء لضمّ أوله، وهذا قول لا يصحّ في معقول ولا قياس لأنه إن كتب على اللفظ فلفظه الألف، وإن كتب على المعنى فهو راجع إلى الواو وعلى أنه قد حدثنا علي بن سليمان قال: سمعت محمد بن يزيد يقول لا يجوز أن يكتب شيء من ذوات الياء مثل رمى وقضى إلّا بالألف، والعلة في ذلك بيّنة من جهة المعقول والقياس واللغة لأنا قد عقلنا أن الكتابة إنما هي نقل ما في اللفظ كما أن اللفظ نقل ما في القلب فإذا قلنا رمى فليس في اللفظ إلّا الألف. فإن قيل: أصلها الياء فكتبها بالياء قيل: هذا خطأ من غير جهة فمنها أنه لو وجب أن تكتب على أصلها لوجب أن تكتب غزا بالواو لأن أصلها الواو، وأيضا فقد أجمعوا على أن كتبوا رماه بالألف والألف منقلبة من ياء. وهذه مناقضة، وأيضا فإن في هذا بابا من الإشكال لأنه يجوز أن يقال: رمي ثم نقضوا هذا كلّه فكتبوا ذوات الواو بالياء نحو ضحىّ وكسىّ جمع كسوة. قال أبو إسحاق: وهذا معنى كلامه، وما أعظم هذا الخطأ يعني قولهم:
يكتب ذوات الياء بالياء وذوات الواو بالألف، فلا هم اتّبعوا اللفظ كما يجب في الخط، ولا هم اتبعوا المصحف فقد كتب في المصحف ما زكي بالياء. قال أبو إسحاق:
وأعظم من خطأهم في الخطّ خطؤهم في التثنية لأنهم يثنّون ربا ربيان، وهذا مخالف على كتاب الله جلّ وعزّ قال: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم: 39] أي فجاء القرآن بالواو وجاءوهم بالياء. قال أبو جعفر: وسمعت
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 273.(5/153)
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)
علي بن سليمان يقول: قلت لأبي العباس محمد بن يزيد لمّا احتجّ بهذه الحجج التي لا تدفع: ما هذا الذي قد وقع للكتّاب وأنس به الخاصّ والعامّ من كتب ذوات الياء بالياء حتى صار التعارف عليه فقال: الأصل في هذا أن أبا الحسن الأخفش كان رجلا محتالا لشيء يأخذه، فقال لأبي الحسن الكسائي: قد استغنى من نحتاج إليه من النحو فنحتاج أن نجتمع على شيء نضطرهم إليه فاتّفقا على هذا وأحدثاه، ولم يكن قبلهما، وشاع في الناس لتمكن الكسائي من السلطان. ولعلّ بعض من لا يحصّل يتوهّم أنّ هذا مذهب سيبويه لأنه أشكل عليه شيء من كلامه في مثله قوله الياء في مثل سكرى وإنما أراد سيبويه أنها تثنّى بالياء، وليس من كلام سيبويه الاعتلال في الخطوط. قال أبو جعفر: ثم رجعنا إلى الإمالة فحمزة يميل ما كان من ذوات الياء ويفخم ما كان من ذوات الواو، والكسائي يميل الكل وأبو عمرو بن العلاء يتبع بعض الكلام بعضا فإن كانت السورة فيها ذوات الياء وذوات الواو أمال الكل، والمدنيون يتوسطون فلا يميلون كلّ الميل ولا يفخمون كل التفخيم. قال أبو جعفر: وليس في هذه المذاهب خطأ لأن ذوات الواو في الأفعال جائز إمالتها لأنها ترجع إلى الياء فيجوز «والضحى» وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ممالا، وإن كان يقال: سجا يسجو لأنه يرجع إلى الياء في قولك: سجيت.
[سورة الضحى (93) : آية 3]
ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3)
قال الضحّاك: وما قلاك. قال أبو جعفر: العرب تحذف من الثاني لدلالة الأولى. يقال: أعطيتك وأكرمت، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس ما ودّعك ربّك وما قلى قال: يقول: ما تركك وما أبغضك وحكى أبو عبيدة «1» : ودعك مخفّفا، ومنع سيبويه «2» أن يقال: ودع، قال: استغنوا عنه بترك. قال أبو جعفر: والعلّة عند غيره أن العرب تستثقل الواو في أول الكلمة لثقلها يدلّ على ذلك أنها لا توجد زائدة في أوّل الكلام، وتوجد أختها الياء نحو يعملة ويربوع، وأنك إذا صغّرت واصلا قلت: أو يصل لا غير، وفي الجمع أواصل، ويقال: قلاه يقلّيه إذا أبغضه، ويقال أيضا: يقلاه.
[سورة الضحى (93) : آية 4]
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)
الأصل أخير ثم خفّف لكثرة الاستعمال.
[سورة الضحى (93) : آية 5]
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5)
__________
(1) انظر مجاز القرآن 2/ 302، والبحر المحيط 8/ 480.
(2) انظر الكتاب 1/ 50.(5/154)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
وفي حرف عبد الله «وسيعطيك» «1» وهما واحد عند سيبويه، وقال الفرّاء:
حذفت الواو والفاء كما قالوا: أيش عندها وكما قالوا: لاب لشانئك، ولاب لك، يريدون: لا أب لشانئك ولا أب لك. قال أبو جعفر: حذف المفعول الثاني، كما تقول: أعطيت زيدا، ولا تبيّن العطية.
[سورة الضحى (93) : الآيات 6 الى 7]
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) مفعول لا يجد. ويجد في كلام العرب تنقسم أقساما منها أن يكون بمعنى يرى وتعلم وكذا وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) .
[سورة الضحى (93) : آية 8]
وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8)
وقد عال يعيل عيلة إذا افتقر وأعال يعيل إذا كثر عياله لا نعلم بين أهل اللغة فيه اختلافا.
[سورة الضحى (93) : الآيات 9 الى 10]
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10)
فَأَمَّا الْيَتِيمَ نصب بتقهر، ولو كان تقهره بالهاء لكان الاختيار النصب أيضا لأنه نهي، وكذا وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10)
[سورة الضحى (93) : آية 11]
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
قيل أي بلّغ أي أظهرها واحمد الله عزّ وجلّ عليها فإن ذلك من الشكر.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 247.(5/155)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)
94 شرح إعراب سورة ألم نشرح (الشرح)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشرح (94) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
نَشْرَحْ جزم بلم، وعلامة الجزم حذف الضمة. من النحويين من يقول: «ألم» من حروف الجزم، وذلك خطأ لأن الألف للاستفهام. والمعنى على الإيجاب لأن ألف الاستفهام هاهنا يؤدي عن معنى التقرير والتوقيف فيصير النفي إيجابا والإيجاب نفيا.
قال الفرّاء: أي ألم نلن لك قلبك، وقال الحسين بن واقد: ألم نوسّع لك صدرك. قال أبو جعفر: وهذا قول بيّن، ومنه يقال: فلان ضيّق الصدر، وصدره واسع وقد شرح الله صدور الأنبياء صلوات الله عليهم والمؤمنين ثوابا على أعمالهم الحسنة فصاروا يقبلون الحق ولا تضيق له صدورهم. ومن هذا الحديث المستقيم الإسناد، رواه يونس عن الزهري عن أنس عن أبي ذرّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ثم أتى بطست مملوءة حكمة وإيمانا فأقرّه في صدري ثم عرج بي إلى السّماء» «1» لَكَ الكاف في موضع جر باللام، وفتحت اللام على أصلها. ومن النحويين من يقول: أصلها الكسر ولكن فتحت في قولهم له لئلا يجمع بين كسرة وضمّة ثم أتبع «لك» له، وإن لم يكن فيه تلك العلّة صَدْرَكَ منصوب بنشرح. وقال العلماء: الصدر محل القرآن والعلم، واستدلّوا في ذلك بقول الله عزّ وجلّ بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت: 49] .
[سورة الشرح (94) : آية 2]
وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)
قال الحسن: وزره ذنبه في الجاهلية. يقال: وزر يزر وزرا والمفعول موزور، وفي الحديث «ارجعن موزورات غير مأجورات» «2» ومن أهل الحديث
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 1/ 97، ومسلم في الإيمان 263، وأحمد في مسنده 5/ 122، والهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 65، والمتّقي في كنز العمال 31839، وابن كثير في تفسيره 5/ 15.
(2) أخرجه ابن ماجة في سننه 1578، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 77، والبغوي في شرح السنة 5/ 465، والمتقي في كنز العمال 42581، والمنذري في الترهيب والترغيب 4/ 359.(5/156)
الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)
من يقول: «مأزورات» فإن صح نقله فهو اتباع.
[سورة الشرح (94) : آية 3]
الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)
أهل التفسير يقولون: أثقله فإن قال قائل: كيف وصف هذا الوزر بالثقل وهو مغفور غير مطالب به؟ فالجواب أن سبيل الأنبياء صلوات الله عليهم والصالحين إذا ذكروا ذنوبهم أن يشتدّ غمّهم وبكاؤهم، فلهذا وصف ذنوبهم بالثقل. قال أبو جعفر:
وهذا الجواب عن سؤال السائل: لم يغتمّ الصالحون إذا ذكروا ذنوبهم التي قد تابوا منها وقد علموا أن المغفرة بعد التوبة واجبة؟ وفي هذا جواب آخر وهو أنهم يخافون أن يكونوا قد بقي عليهم شيء يلزمهم من تمام التوبة.
[سورة الشرح (94) : آية 4]
وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
بيان هذا في الحديث المسند عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: قال لي جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم: «إن ربّي وربّك عزّ وجلّ يقول لك كيف رفعت ذكرك؟ قال قلت الله أعلم، قال إذا ذكرت معي» «1» .
[سورة الشرح (94) : الآيات 5 الى 6]
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)
وقرأ عيسى بن عمر بضمّ السين فيهما. قيل: المعنى أن نعم الله تعالى، وهي اليسر أكثر من الشدائد، وهي العسر، وقيل: خوطب النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه سيظفر فذلك الظفر، وهو اليسر بالمشركين الذين لحقت منهم الشدة.
[سورة الشرح (94) : آية 7]
فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)
قال أبو جعفر: وقد ذكرنا ما قيل في التكرير وما قيل في معنى فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) «2» ومن أحسن ما قيل فيه، وهو جامع لجميع الأقوال، أنه ينبغي إذا فرغ الإنسان من شغله أن ينتصب لله جلّ وعزّ وأن يرغب إليه وأن لا يشتغل بما يلهيه عن ذكر الله سبحانه فهذا أدب الله عزّ وجلّ. وقد قال عبد الله بن مسعود: ما يعجبني الإنسان أراه فارغا لا يشتغل بأمر الدنيا، ولا بأمر الآخرة.
__________
(1) انظر تفسير القرطبي 2/ 106.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 484 (قرأ الجمهور بفتح الراء، وأبو السمال بكسرها) .(5/157)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)
95 شرح إعراب سورة التين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التين (95) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)
أدغمت اللام في التاء والزاي لقربها منهما، ولا يجوز الإظهار مع لام التعريف لكثرتها في الكلام، ويجوز في غيرها وإن كانت هذه اللام قد قيل: إنها مع ما هي هاهنا اسم علم. قال محمد بن كعب: «التين» مسجد أصحاب الكهف، والزيتون «مسجد إيليا» فإن أصلها التعريف ثم وقعت التسمية وكذا قول من قال: التين دمشق، والزيتون بيت المقدس، وقول من قال: هما مسجدان أحدهما الذي كلّم الله عزّ وجلّ عليه موسى صلّى الله عليه وسلّم. فأما داود بن أبي هند فروى عن عكرمة وعن ابن عباس قال: التين تينكم هذا، والزيتون زيتونكم، قال أبو جعفر: وهذه الأقوال إذا حصّلت آلت إلى معنى واحد لأن القسم إنما هو بربّ العالمين جلّ وعزّ فالتقدير: وربّ التين والزيتون.
[سورة التين (95) : آية 2]
وَطُورِ سِينِينَ (2)
قيل: هو طور سينا بلغات، وقيل: غير هذا مما ذكرناه «1» .
[سورة التين (95) : آية 3]
وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)
وهذه اللغة الفصيحة. والاسم منه ذا عند البصريين، وها للتنبيه، وعند الكوفيين الاسم الذال. ولم يعرب لأنه اسم غير متمكّن ينتقل فأشبه الحروف لأنه غير ثابت على مسمّى فوجب أن لا يعرب، وقال بعض النحويين: لأن في آخره ألفا والألف لا يتحرك. قال الفرّاء: ولو حرّكت صارت همزة، وقال الخليل رحمه الله: الألف حرف هوائي فمحال أن يحرك لأنه بمنزلة الحركة ولا تحرك الحركة. قال أبو جعفر: و «ذا» اسم ظاهر يدلّ على ذلك كسر اللام معه. وقد قال بعض النحويين- جوابا لمن سأل لم
__________
(1) انظر إعراب الآية 130- الصافات. [.....](5/158)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)
حرّكت المضمرات ولم تحرّك المبهمة؟: إن المضمرات في مواضع الأسماء المعربة وكانت لها مزيّة فحرّكت. قال أبو جعفر: وسمعت أبا بكر بن شقير يحكي هذا، وهو جواب حسن محصّل فأما الفرّاء فخلط الجميع فقال: من قال: هو زيد، بإسكان الواو قال: هذا زيد، ومن قال: هو زيد، قال: هذا أي زيد، ومن قال: هو زيد، بتشديد الواو قال هذاه زيد. قال أبو جعفر: وبيان التخطيط في هذا بيّن لأن قولك: هو بإسكان الواو لغة شاذة، وقولك: هذا لغة بها جاء القرآن فكيف تحاذي إحداهما الأخرى إلا أن يتجازيا من جهة أخرى على قوله وذلك أن قولك: هو، الاسم منه عنده الهاء، والاسم من هذا الذال، وهذا قوله بلا اختلاف عنه. ومن التخليط أن قولك هذّاه الهاء عنده فيه لبيان الحركة وقد أثبتها في الوصل. وزعم الفرّاء: أن الدليل على أن الاسم الذال في هذا قول العرب في التثنية هذان فأسقطوا الألف. وهذا لا يلزم لأن الألف إنما سقطت في التثنية لالتقاء الساكنين ولم يجز قلبها فيقال: هذيان ولا هذوان لأنه لا يعلم أنها منقلبة من ياء، ولا واو فتقلب إلى إحداهما فلم يبق إلا الحذف. الْبَلَدِ الْأَمِينِ نعت وإن شئت بدل، وإن شئت عطف البيان. وزعم الفرّاء «1» إن الأمين بمعنى الآمن، وأنشد: [الطويل] 575-
ألم تعلمي يا أسم ويحك أنّني ... حلفت يمينا لا أخون أميني «2»
قال أبو جعفر: وخولف الفرّاء في هذا فقيل: أمين بمعنى مأمون في الآية والبيت جميعا.
[سورة التين (95) : آية 4]
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
تكلّم العلماء في معناه فعن ابن عباس قال: خلق كل شيء منكبّا إلّا الإنسان وقال عكرمة فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ الشباب والقوة والجلد، وقال مجاهد والنخعي فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ في أحسن صورة. وهذا أحسن ما قيل فيه لأن التقدير في العربية: في تقويم أحسن تقويم أقيم مقام المنعوت أي في تقويم أعدل تقويم وصورة.
[سورة التين (95) : آية 5]
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5)
فيه اختلاف أيضا. فعن ابن عباس إلى أرذل العمر، وعن عكرمة إلى النار، وزعم محمد بن جرير: إن الصّواب إلى أرذل العمر أي إلى الهرم، ويكون هذا لخاص من الناس، واستدل على صواب هذا إن الله جلّ وعزّ إنما عدد ما شاهدوه من قدرته من
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 276.
(2) الشاهد بلا نسبة في مقاييس اللغة 1/ 134، وتاج العروس (أمن) ، ومعاني الفراء 3/ 276، وتفسير الطبري 30/ 241.(5/159)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)
خروج الإنسان من الشباب إلى الهرم ولا يعدّد عليهم ما لا يقرون به من دخول النار.
وقال غيره: هذا لا يلزم لأن حجج الله ظاهرة، وقد ظهرت آيات نبيه صلّى الله عليه وسلّم فوجب أن يكون كل ما أخبر به بمنزلة المعاين.
[سورة التين (95) : آية 6]
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)
من قال: المعنى إلى أسفل سافلين إلى النار جعل الَّذِينَ آمَنُوا في موضع نصب استثناء من الهاء التي في رددناه لأنها بمعنى جمع، ومن قال إلى أسفل سافلين: إلى أرذل العمر جعل «الذين» استثناء ليس من الأول، وقيل في الكلام حذف الاستثناء منه.
والتقدير ثم رددناه إلى الهرم والخرف حتى صار لا يقدر على عبادة الله جلّ وعزّ وأداء فرائضه، ولا يكتب له شيء لهم مثل ما كانوا يعملون. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قال يقول غير منقوص.
[سورة التين (95) : آية 7]
فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)
تكلّم النحويون في هذه الكلمة وفي بيانها واختلاف حركتها وتنوينها وغير تنوينها ببضعة عشر جوابا: فمن ذلك أن النحويين مجمعون على أن قبل وبعد إذا كانا غايتين فأصلهما إلا يعربا، وأجابوا في علّة ذلك بأجوبة فمن أصحّها أن سبيل تعريف الأسماء أن تكون الألف واللام أو بالإضافة إلى معرفة فلمّا كانتا قد عرّفتا بغير تعريف الأسماء وجب بناؤهما، وقال علي بن سليمان: لمّا كانتا متعلّقتين بما بعدهما، وقيل: لما لم يتصرّفا بوجوه الإعراب ولم يتمكّنا وجب لهما البناء، فهذه ثلاثة أجوبة فإن قيل: لم وجبت لهما الحركة؟ فالجواب أن سيبويه «1» قال: وأما المتمكن الذي جعل في موضع بمنزلة غير المتمكّن فقولهم: ابدأ بهذا أوّل، ويا حكم أقبل، وشرح هذا أن أول وقبل وبعد لما وجب ألا يعربن في موضع وقد كنّ يعربن في غيره كره أن يخلين من حركة فضممن فإن قيل: فلم لا فتحن أو كسرن؟ في هذا السؤال خمسة أجوبة منها أن الظروف يدخلها النصب والخفض إذا لم تعتلّ فلا يدخلها الرفع فلما اعتلّت ضمّت لأن الضمة من جنس الرفع الذي لا يدخلها في حال سلامتها، وقيل: لمّا أشبهت المنادى المفرد أعطيت حركته، وقيل: لما كانت غاية أعطيت غاية الحركات، فهذه ثلاثة أجوبة في الضم للبصريين لا نعلم لهم غيرها، والجوابان الآخران للكوفيين: قال الفرّاء «2» : لما تضمّنت قبل وبعد معنيين ضمّتا. قال أبو جعفر: وشرح هذا أنهما تضمّنتا معناهما في أنفسهما ومعنى ما بعدهما فأعطيتا أثقل الحركات، وقال هشام: لم يجز أن يفتحا فيكونا كأنهما مضافتان إلى ما بعدهما ولا يكسران فيكونا كالمضاف إلى
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 319.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 321.(5/160)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
المخاطب فلم يبق إلّا الضم. قال أبو جعفر: فهذه تسعة أجوبة، وأجاز الفرّاء آتيك بعد يا هذا، بالضم والتنوين وأنشد: [الطويل] 576-
ونحن قتلنا الأزد أزد شنوءة ... فما شربوا بعد على لذّة خمرا «1»
قال أبو جعفر: وهذا خارج عما جاء به القرآن وكلام العرب والمعقول لا حجّة له في البيت إن كان يعرف قائله لأنه بغير تنوين جائز عند أهل العلم بالعروض، كما أنشدوا: [الطويل] 577-
شاقتك أحداج سليمى بعاقل ... فعيناك للبين تجودان بالدّمع «2»
وأجاز أيضا رأيتك بعدا يا هذا. قال أبو جعفر: فهذا نظير. ذلك أن يكون أراد النكرة وأجاز هشام رأيتك بعد يا هذا، جعله منصوبا وأضمر المضاف إليه فكأنه زعم أن قد نطق به لما كان في النية، وزعم الفراء والأخفش: أنّ المعنى فمن يكذبك بعد بالدين. قال أبو جعفر: وهذا لا يعرج عليه، ولا تقع «ما» بمعنى «من» إلا في شذوذ، والمعنى هاهنا صحيح أي فما يحملك يا أيّها المكذب فأيّ شيء يحملك على التكذيب بعد ظهور البراهين والدلائل بالدين الذي جاء بخبره من أظهر البراهين.
[سورة التين (95) : آية 8]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
أي في تدبيره وصنعه لا يدخل دينك فساد ولا تفاوت، وليس كذا غيره.
__________
(1) الشاهد بلا نسبة في إصلاح المنطق 146، وأوضح المسالك 3/ 158، وخزانة الأدب 6/ 501، والدرر 3/ 109، وشرح الأشموني 2/ 322، وشرح التصريح 2/ 50، وشرح شذور الذهب 137، ولسان العرب (بعد) و (خفا) والمقاصد النحوية 3/ 436، وهمع الهوامع 1/ 209، ومعاني الفراء 2/ 321.
وفي رواية «الأسد أسد خفيّة» .
(2) لم أعثر عليه في المراجع التي بين يديّ.(5/161)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
96 شرح إعراب سورة القلم (العلق)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العلق (96) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ في موضع جزم على قول الكوفيين. والعامل فيه عند الفرّاء لام محذوفة، وعلامة الجزم حذف الضمة. وهو عند البصريين غير معرب لأنه لا يضارع الأسماء فيعرب، وحكى أبو زيد والكسائي «أقر» «1» على بدل الهمزة فيصير كقولك:
اخش، ومثل هذا قول زهير: [الطويل] 578- وإن لا يبد بالظّلم يظلم «2» وقد قيل: إن على هذا قراءة الجماعة أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة: 61] وأنه مأخوذ من الدناءة. الَّذِي خَلَقَ في موضع خفض نعت لربك أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ أو في موضع نصب بمعنى أعني.
[سورة العلق (96) : آية 2]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
الإنسان بمعنى جماعة فلذلك قال: علّق وهو جمع علقة.
[سورة العلق (96) : آية 3]
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)
وحذف المفعول أي اقرأ ما أنزل إليك وربك الأكرم لا يخليك من الثواب على قراءتك.
[سورة العلق (96) : آية 4]
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
نعت للذي الأول.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 488، والإتحاف 272.
(2) مرّ الشاهد رقم (16) .(5/162)
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17)
[سورة العلق (96) : الآيات 5 الى 6]
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) مفعولان. ومن قال: إن كَلَّا تمام في جميع القرآن قال: المعنى ليس يجب أن يدعوا التفكّر فيما بيّنه الله من خلقكم مما يدلّ على وحدانيته، وأنه لا شبه له. إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى جاء على فعل يفعل لأنّ فيه الغين.
[سورة العلق (96) : آية 7]
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7)
«1» فجاء المفعول متصلا، ولم يستعمل رأى نفسه، لأنه من أخوات ظننت.
[سورة العلق (96) : آية 8]
إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8)
في موضع نصب ولم يتبيّن فيه الإعراب لأن في آخره ألفا.
[سورة العلق (96) : الآيات 9 الى 12]
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) وحذف الجواب لعلم السامع، وكذا أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) .
[سورة العلق (96) : آية 13]
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)
أي مع منعه من الصلاة إن كذّب الله ورسوله وتولّى عن طاعته.
[سورة العلق (96) : الآيات 14 الى 16]
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16)
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) أي يراه ويعلم فعله فيعاقبه عليه ومن قال كَلَّا التمام قال:
المعنى: ليس الأمر على ما قدره من أنه يتهيّأ له أن يمنعه من الصلاة لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ حذفت الياء للجزم، ومن أثبتها في غير القرآن قدّرها متحركة لَنَسْفَعاً «2» الوقف عليه بالألف فرقا بينه وبين النون الثقيلة ولأنه بمنزلة قولك: رأيت زيدا، كما قال: [الطويل] 579- ولا تحمد الشّيطان والله فاحمدا «3» بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) .
على البدل. والفراء «4» على التكرير، وأجاز ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ لأنها نكرة بعد معرفة.
[سورة العلق (96) : آية 17]
فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17)
__________
(1) انظر تيسير الداني 181 (قرأ قنبل بقصر الهمزة والباقون بمدّها) .
(2) انظر البحر المحيط 8/ 490.
(3) مرّ الشاهد رقم (173) .
(4) انظر معاني الفراء 3/ 279، والبحر المحيط 8/ 491.(5/163)
سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه اتّساعا أي أهل ناديه.
[سورة العلق (96) : آية 18]
سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18)
كتب بغير واو على الإدراج، ولا يجوز الوقف عليه.
[سورة العلق (96) : آية 19]
كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
كَلَّا لا تُطِعْهُ أي في ما ينهاك عنه من الضلالة وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ إلى الله جلّ وعزّ بطاعته فإنه يعظّمك ويمنع منك. وفي الحديث «أقرب ما يكون العبد من الله تعالى إذا كان ساجدا فأكثروا من الدعاء في السجود فإنه قمن أن يستجاب لكم» «1» .
__________
(1) ذكره البغوي في شرح السنة 3/ 151، والمتقي الهندي في كنز العمال (3328) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء 2/ 690.(5/164)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)
97 شرح إعراب سورة ليلة القدر (القدر)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القدر (97) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)
إِنَّا أصله إنّنا فحذفت النون لاجتماع النونات ولأنها زائدة أَنْزَلْناهُ النون والألف في موضع رفع بالفعل، وأسكنت اللام لاتصالها بالمضمر المرفوع اتباعا لما تتوالى فيه الحركات والهاء في موضع نصب، وحذفت الواو بعدها لسكونها وسكون الألف، وإن الهاء ليست بحاجز حصين لخفائها وبعدها، وقيل: لاجتماع حرفي مدّ ولين فحذف أحدهما، والهاء كناية عن القرآن، وإن كان لم يتقدم له ذكر في هذه السورة، وأكثر النحويين يقولون: لأنه قد عرف المعنى، كما قال: [الطويل] 580- ألا ليتني أفديك منها وأفتدي «1» ومن العلماء من يقول: جازت الكناية في أول السورة لأن القرآن كلّه بمنزلة سورة واحدة لأنه أنزل جملة إلى السماء الدنيا وسنذكر هذا بإسناده، وقول ثالث بيّن حسن وهو: إنّا أنزلناه يدلّ على الإنزال والمنزل، كما حكى النحويون «2» : من كذب كان شرّا له، لأن كذب يدلّ على الكذب، وأخفيت ليلة القدر على الناس إلّا ما جاء في الحديث من أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان فقيل: إنما أخفيت لفضل العمل فيها لئلا يدع الناس العمل في غيرها والاجتهاد ويتّكلوا على فضل العمل فيها، وقيل: لأنها مختلفة تكون في سنة لثلاث وعشرين ثم يكون في غيرها. وأما الحديث في تنزيل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر فصحيح غير مدفوع عند أهل السّنّة وإنّما يدفعه قول من أهل الأهواء كما قرئ على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى قال: حدثنا جرير عن منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في
__________
(1) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه 29، والدرر 2/ 269، وبلا نسبة في الإنصاف 1/ 96 وصدره:
«على مثلها أمضي إذا قال صاحبي» [.....]
(2) انظر الكتاب 2/ 412.(5/165)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا فكان بموقع النجوم، وكان الله ينزله على رسوله بعضه في إثر بعض فقالوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32] . فأما تسميتها بليلة القدر ففيه قولان: أحدهما أنها ليلة الجلالة والتعظيم من قولهم: لفلان القدر، والقول الآخر، وهو الذي عليه العلماء المتقدمون، أنّها سمّيت ليلة القدر لأنها تقدّر فيها آجال العباد وأرزاقهم كما قال قتادة: يقدّر في ليلة القدر ما يكون إلى السنة الأخرى من الآجال والأرزاق.
[سورة القدر (97) : آية 2]
وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)
ما في موضع رفع بالابتداء وأَدْراكَ فعل ماض في موضع الخبر والكاف في موضع نصب ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ مبتدأ وخبره، فيه معنى التعظيم.
[سورة القدر (97) : آية 3]
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
مبتدأ وخبره أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
هذا البين، وإن كان قد روي عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنه قال: هي ألف شهر وليت فيها بنو أمية. قال: وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أريهم على المنابر فهاله ذلك فأحصيت ولايتهم بعد ذلك فكانت كذلك. فهذا حديث مرويّ ليس في ظاهر التلاوة ما يدلّ عليه والله أعلم.
[سورة القدر (97) : الآيات 4 الى 5]
تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ الأصل تتنزّل فحذفت التاء لاجتماع تاءين، وقال أهل التفسير: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بأمر ربهم مِنْ كُلِّ أَمْرٍ هذا تمام الكلام عند النحويين منهم الفراء، والمعنى على قولهم: تنزّل الملائكة والروح فيها بأمر ربهم أي ينزلون بأمر الله الذي فيه الآجال والأرزاق إلى السماء الدنيا من كلّ أمر أي من كلّ أمر فيه الرزق والأجل والحجّ لمن يحجّ وغير ذلك، وحكى أبو عبيد أنه روي عن ابن عباس وعكرمة أنهما قرءا «من كلّ امرى» «1» قال إسماعيل بن إسحاق: لم يذكر أبو عبيد إسناده ولعلّه ضعيف. قال أبو جعفر: إسناده ضعيف بغير لعلّ: رواها الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد لا يعرّج عليه، وهو مخالف للمصحف الذي تقوم به الحجّة فمن جاء به هكذا قال التمام: من كل امرئ سلام، كما قال الشعبي من كل امرئ من الملائكة سلام على المؤمنين والمؤمنات، وقيل: المعنى من كل أمر مخيف سلام أي سلامة، وعلى قراءة الجماعة سَلامٌ مرفوع على خبر هي كما تقول: قائم زيد أي هي
__________
(1) انظر البحر المحيط 2/ 368، والبحر المحيط 8/ 493.(5/166)
سلام أي دار سلامة أي ذات سلامة، كما قرئ على محمد بن حفص عن يوسف بن موسى قال حدّثنا جرير عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى «سلام هي» قال: لا تعمل فيها الشياطين، ولا يجوز فيها السّحر ولا يحدث فيها شيء إلى الفجر قال يوسف وحدّثنا تميم بن زياد قال: حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية «سلام هي» قال: خير كلّها إلى مطلع الفجر، وروى الضحّاك عن ابن عباس قال تصفد فيها مردة الشّياطين، وتقبل فيها التوبة فهذه أقوال المتقدمين من أهل التفسير، وقال بعد المتأخرين: معنى «سلام هي» إنما يقضى فيها الخير من الأرزاق والحجّ والشرّ يقضى في غيرها يذهب إلى أن ليلة النصف من شعبان قد جاء فيها حديث من تقدير الأشياء فهذه أقوال المتقدمين والمتأخرين والله أعلم بما أراد.
حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ «1» بفتح اللام قراءة العامة، وقال الفراء «2» : وقرأ يحيى بن وثّاب وحده حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ. قال أبو جعفر: وهي قراءة أبي رجاء العطارديّ. وأحسن ما قيل في هذا قول سيبويه «3» قال: وقد كسروا المصدر قالوا: أتيتك عند مطلع الشمس أي عند طلوع الشمس. هذه لغة بني تميم، وأما أهل الحجاز فيقولون: مطلع والمطلع المكان.
قال أبو جعفر: شرح هذا أنه ما كان على فعل يفعل فالباب فيه أن يكون المصدر منه واسم المكان مفعلا بالفتح، وكان يجب أن يكون اسم المكان منه بالضم إلا أنه ليس في كلام العرب مفعل فلم يكن بدّ من تحويله إلى الفتحة أو الكسرة فكانت الفتحة أولى لأنها أخفّ والدليل على ما قلناه أنه ما كان على فعل يفعل فالمصدر منه مفعل بالفتح، اسم المكان والزمان بالكسر قالوا: جلس مجلسا وهو في مجلسك، وفي الزمان أتت الناقة على مضربها بالكسر فهذا يبيّن لك أن الأصل مطلع في المكان ثم حوّل إلى الفتح ثم سمع من العرب أشياء تؤخذ سماعا بغير قياس قالوا: مطلع للمكان الذي تطلع فيه الشمس، وقال بعضهم: مطلع للمصدر والفتح أولى لأن الفتح في المصدر قد كان لفعل يفعل فكيف يكون في فعل يفعل وأيضا فإنّ قراءة الجماعة الذين تقوم بهم الحجة «حتّى مطلع» هذا في قوّته في العربية وشذوذ الكسر وخروجه من القياس. قال أبو حاتم: وفي حرف أبيّ «سلام هي إلى مطلع الفجر» قال أبو جعفر:
وهذه القراءة على التفسير، ولا يجوز لأحد أن يقرأ بها لمخالفتها السواد الأعظم.
__________
(1) انظر تيسير الداني 182، ومعاني الفراء 3/ 280.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 280.
(3) انظر الكتاب 4/ 205.(5/167)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)
98 شرح إعراب سورة لم يكن (البيّنة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البينة (98) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)
يَكُنِ في موضع جزم بلم، وعلامة الجزم فيه حذف الضمة من النون وحذفت الواو لالتقاء الساكنين. فإن قيل: قد تحرّكت النون فلم لأردت الواو؟ فالجواب أنها حركة عارضة، غير ثابتة فكأنها لم يكن ولا تعرّج على قول من قال: حذفت الواو والضمة للجزم، ولا يجوز عند الخليل وسيبويه والكسائي والفراء. حذف النون على لغة من قال:
لم يك زيد جالسا لأنها قد تحرّكت وأجاز غيرهم حذفها كما قال: [الطويل] 581- ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل «1» وَالْمُشْرِكِينَ عطف على أهل، ولو كان عطفا على الذين لكان مرفوعا مُنْفَكِّينَ خبر يكن في معناه قولان: قال عطاء: منفكين بارحين، وبرح وزال في منهاج واحد.
وقال غيره: «منفكّين» متفرّقين. قال أبو جعفر: معنى القول الأول: لم يكن الكفار زائلين عما هم عليه حتى يجيئهم الرسول فيبيّن لهم ضلالتهم، ومعنى القول الثاني: لم يكن الكفار متفرّقين إلا من بعد أن جاءهم الرسول لأنهم فارقوا ما عندهم من صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم فكفروا بعد البيان. وهذا القول في العربية أولى لأن منفكّين لو كان بمعنى زائلين لاحتاج إلى خبر ولكن يكون من انفكّ الشيء من الشيء أي فارقه، كما قال ذو الرمّة: [الطويل] 582-
قلائص ما تنفكّ إلّا مناخة ... على الخسف أو يرمي بها بلدا قفرا «2»
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (55) .
(2) الشاهد لذي الرمة في ديوانه 173، والكتاب 3/ 52، وتخليص الشواهد 270، وخزانة الأدب 9/ 247، وشرح شواهد المغني 1/ 219، ولسان العرب (فكك) ، والمحتسب 1/ 329، وهمع الهوامع 1/ 120، وبلا نسبة في أسرار العربية ص 142، والأشباه والنظائر 5/ 173، والجنى الداني 521، وشرح الأشموني 1/ 121، ومغني اللبيب 1/ 73 وهمع الهوامع 1/ 230.(5/168)
رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)
وزعم الأصمعي أن ذا الرمة أخطأ في هذا. قال أبو جعفر: تأول الأصمعي «ما تنفكّ» ما تزال، والصواب ما قال المازني قال: أخطأ الأصمعيّ وما تنفكّ كلام تامّ ثم قال: إلّا مناخة على الاستثناء المنقطع حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ.
[سورة البينة (98) : آية 2]
رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2)
رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ على البدل، ويجوز أن يكون بمعنى هي رسول من الله. قال الأخفش سعيد: وفي حرف أبيّ «رسولا من الله» «1» على الحال. قال الضحاك:
الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً قال: القرآن.
[سورة البينة (98) : آية 3]
فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)
قال ابن زيد: مستقيمة معتدلة.
[سورة البينة (98) : آية 4]
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
يدلّ على أن الجواب الثاني في منفكين.
[سورة البينة (98) : آية 5]
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ من القراء من يقول: هذه لام أن أي إلّا أن يعبدوا الله وأصل هذا للفراء. فأما البصريون فهي عندهم لام كي أي أمروا بهذا كي يعبدوا الله مخلصين له الدين حُنَفاءَ على الحال. قال قتادة: الحنفيّة الختان وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمّات والمناسك. قال الضحاك: الحجّ. قال أبو جعفر: أصل هذا أن الحنف الميل: فقيل: حنيف للمائل إلى الإسلام ميلا لا خلل فيه ولا رجوع وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ وهذا دليل قاطع على أن الإسلام قول وعمل. قال جل وعز: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: 19] ويبيّن أن إقام الصّلاة وإيتاء الزكاة دين القيّمة. قال الفراء «2» : وفي حرف ابن مسعود «الدين القيّمة» وزعم أنه إضافة الشيء إلى نفسه، وذلك محال عند البصريين لأنك إنما تضيف الشيء إلى ما تبيّنه به فتضمه إليه فمحال أن تبيّنه بنفسه أو تضمه إلى نفسه فالتقدير عندهم دين الجماعة القيمة، وقيل: دين الملّة القيمة، ولهذا وقع التأنيث.
[سورة البينة (98) : الآيات 6 الى 7]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 495، ومعاني الفراء 3/ 282.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 282.(5/169)
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
وَالْمُشْرِكِينَ في موضع خفض عطف على أهل، ويجوز النصب عطفا على الذين فِي نارِ جَهَنَّمَ في موضع الخبر خالِدِينَ فِيها على الحال أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ خبر بعد خبر، ويجوز أن تكون الجملة خبر «إن» مثل إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) بغير همز قراءة الجماعة، وهو المعروف من كلام العرب، وقرأها نافع بالهمز. أخذها من برأ الله الخلق، ومن لم يهمزها أخذها من البرا، وهو التراب وترك الهمز، وهو الأصل عنده، والبريّة الخلق كما قرئ على أحمد بن شعيب بن علي عن أبي كريب ثنا عبد الله بن إدريس سمعت المختار بن فلفل سمعت أنس بن مالك يقول: قال رجل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا خير البريّة فقال: «ذلك إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم» «1» . قال أبو جعفر: ولا معنى لاحتجاج من احتجّ بأن الأنبياء صلوات الله عليهم والمؤمنين أفضل من الملائكة صلوات الله عليهم بهذه الآية لأن الملائكة من الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
[سورة البينة (98) : آية 8]
جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ مبتدأ وخبره. قال ابن مسعود: جَنَّاتُ عَدْنٍ بطنان الجنة أي وسطها. قال أبو جعفر: يقال: عدن بالمكان إذا أقام به خالِدِينَ فِيها حال أَبَداً ظرف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ من ذوات الواو انقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها. والرضى بالألف والتثنية بالواو ورضوان، ولا معنى لحكاية من حكى رضيان.
ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ قيل: أي لمن اتّقى الله في الدنيا في سرّه وعلانيته فأدّى فرائضه واجتنب معاصيه.
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه الحديث رقم (4672) .(5/170)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)
99 شرح إعراب سورة إذا زلزلت (الزلزلة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الزلزلة (99) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1)
إِذا في موضع نصب ظرف زمان، والعامل فيها زلزلت زِلْزالَها مصدر كما قال: أكرمتك كرامتك والمعنى كرامة، وكذا المعنى زلزلت زلزالا. وحسنت الإضافة لتتفق الآيات. والكسائي والفراء «1» يذهبان إلى أن الزلزال مصدر والزلزال اسم وأنه يقال: وسوسة وسواسا، والوسواس الاسم. وقرأ عاصم الجحدري وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً [الأحزاب: 11] بالفتح، وقرأ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها «2» .
[سورة الزلزلة (99) : آية 2]
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2)
جمع ثقل والثقل في الأذن.
[سورة الزلزلة (99) : آية 3]
وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3)
ما في موضع رفع بالابتداء، وهو اسم تام.
[سورة الزلزلة (99) : آية 4]
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)
قال أبو جعفر: لأن معنى تحدّث وتخبّر واحد. ودل هذا على أن معنى حدّثنا وأخبرنا واحد.
[سورة الزلزلة (99) : آية 5]
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5)
ويقال: وحى له وإليه فيهما.
[سورة الزلزلة (99) : آية 6]
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6)
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً نصب على الحال. قال الفراء «3» : اجتمع القراء على لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ «4» قال أبو جعفر: حكى أبو حاتم أن عبّاد بن كثير قال: بلغني أنّ
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 283.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 496.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 248.
(4) انظر البحر المحيط 8/ 498. [.....](5/171)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ «1» . قال أبو جعفر: في الكلام تقديم وتأخير عند النحويين أي يومئذ تحدّث أخبارها ليروا أعمالهم.
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 7 الى 8]
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
فَمَنْ في موضع رفع بالابتداء، وهو اسم تام. ويعمل جزم بالشرط وخَيْراً منصوب على البيان أو بدل من مثقال «يره» جواب الشرط حذف الألف منه للجزم، وكذا وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) فدلّ ظاهر الكلام على أنّ كلّ من عمل شيئا رآه من مؤمن وكافر، وأنّ الكافر يجازى على عمله الحسن في الدنيا من دفع مكروه، وكذا الأحاديث على هذا. أن الكافر يجازى على حسن عمله في الدنيا، ولا يكون له في الآخرة خير، وأن المؤمن على الضدّ من ذلك نصيبه المصائب في الدنيا وأجره موفّر عليه في الآخرة.
__________
(1) انظر تيسير الداني 182 ( «يره» قرأ هشام بإسكان الهاء والباقون بصلتها) .(5/172)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)
100 شرح إعراب سورة العاديات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5)
وَالْعادِياتِ خفض بواو القسم. وللعلماء في معناها قولان: روى مجاهد وعكرمة عن ابن عباس أنها الخيل، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنها الإبل وكذا قال ابن مسعود، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس سألني رجل عن وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فقلت: هي الخيل، فمضى إلى علي بن أبي طالب فأخبره فبعث لي فأحضرني فقال لي: أتتكلّم في كتاب الله بغير علم؟ والله إن أول غزوة كانت لبدر، وما كان معنا إلّا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود إنّما العاديات من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منّى. ونظير هذا ما حدّثناه البهلول بن إسحاق بن البهلول بن حسان ثنا إسماعيل بن أبي أويس ثنا كثير بن عبد الله المزنيّ قال: كنت عند محمد بن كعب القرظيّ فجاءه رجل فقال: يا أبا حمزة إني رجل صرورة لم أحجج قطّ فعلّمني مما علّمك الله سبحانه. قال: أتقرأ القرآن؟ قال: نعم. قال: فاستفتح فاقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ خمس آيات وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) أتدري ما هذا؟ قال: لا. قال: «والعاديات ضبحا» الرفع من عرفة فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) إلى المزدلفة فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) لا تغير حتى تصبح فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) يوم منى. قال أبو جعفر: اختلف العلماء في معنى فَالْمُورِياتِ قَدْحاً فمذهب علي بن أبي طالب وابن مسعود أنها الإبل، وروى مجاهد وعكرمة عن ابن عباس قال: الناس يورون النار ليراها غيرهم، وروى غيرهما عن ابن عباس الخيل، وقال قتادة: الخيل تشعل الحرب، وقال عكرمة: الموريات الألسن. قال أبو جعفر: ولا دليل يدلّ على تخصيص شيء من هذه الأقوال فالصواب أن يقال ذلك لكل من أورى على أن المعنى واحد إذا كان التقدير: وربّ العاديات ونصبت ضَبْحاً لأنه مصدر في موضع الحال. وعن ابن عباس الضّبح نفخها(5/173)
إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
بمشافرها. ونصبت قَدْحاً على المصدر لأن معنى «فالموريات» فالقادحات «فالمغيرات» عن ابن عباس أنها الخيل وعن ابن مسعود أنها الإبل «ضبحا» ظرف زمان فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) قال الفراء: الهاء كناية عن الوادي، ولم يتقدّم له ذكر لأنه قد عرف المعنى، وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس: النقع الغبار. وسطن ووسّطن وتوسّطن واحد. وعن ابن عباس فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) من العدو. عن ابن مسعود «جمعا» المزدلفة.
[سورة العاديات (100) : آية 6]
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)
أهل التفسير على أن معناه لكفور أي كفور لنعمه. قال الحسن: يتسخّط على ربه جلّ وعزّ ويلومه فيما يلحقه من المصائب، وينسى النعم.
[سورة العاديات (100) : آية 7]
وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7)
وَإِنَّهُ أي وإنه ربه عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ.
[سورة العاديات (100) : آية 8]
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
وَإِنَّهُ أي وإن الإنسان لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ في معناه أقوال: قيل: لشديد القوى، وقول الفراء «1» : أن المعنى أن الإنسان للخير لشديد الحب فالتقدير عنده إنه لحبّ الخير لشديد الحب ثم حذف ما بعد شديد، والقول الثالث سمعت علي بن سليمان يقول كما تقول: أنا أكرم فلانا لك أي من أجلك أي وإنه من أجل حبّ الخير أي المال لشديد أي لبخيل.
[سورة العاديات (100) : آية 9]
أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9)
لا يجوز أن يعمل في «إذا» «يعلم» ، ولا «لخبير» ، ولكن العامل فيها عند محمد بن يزيد «بعثر» ، وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
[سورة العاديات (100) : آية 10]
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10)
يقول أبرز.
[سورة العاديات (100) : آية 11]
إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
كسرت «إنّ» من أجل اللام. حكى علي بن سليمان عن محمد بن يزيد أنه يجوز فتحها مع اللام لأنها زائدة، دخولها كخروجها إلّا أنها أفادت التوكيد.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 285.(5/174)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)
101 شرح إعراب سورة القارعة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القارعة (101) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (1)
مرفوعة بالابتداء والخبر في الجملة وقيل: هي مرفوعة بإضمار فعل والتقدير:
ستأتي القارعة. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس: الْقارِعَةُ من أسماء القيامة عظّم الله وحذّر منه.
[سورة القارعة (101) : آية 3]
وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3)
قال أبو جعفر: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) تعظيم لها ونصب يَوْمَ: ستأتي على قول من أضمره، ومن لم يضمره فالتقدير عنده: القارعة.
[سورة القارعة (101) : الآيات 4 الى 5]
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) الكاف في موضع نصب خبر يكون، وكذا: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) وفي قراءة عبد الله (كالصوف) والعهن جمع عهنة.
[سورة القارعة (101) : آية 6]
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6)
مَنْ في موضع رفع بالابتداء والجملة الخبر. قال الفراء «1» : موازينه أي وزنه.
[سورة القارعة (101) : آية 7]
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7)
قال مجاهد: يرضى بها. قال أبو جعفر: التقدير في العربية: ذات رضى على النسب.
[سورة القارعة (101) : الآيات 8 الى 9]
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)
قول الأخفش: إن معنى أمّه مستقرّه، وهاوية نار وأنشد: [الطويل]
__________
(1) انظر معاني الفرّاء 3/ 287.(5/175)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
583-
هوت أمّه ما يبعث الصّبح غاديا ... وماذا يؤدّي اللّيل حين يؤوب «1»
وقال غيره: «فأمّه هاوية» أصله هاو أي هالك لأن أمّ الشيء أصله ومعظمه ومنه قيل للحمد: أمّ القرآن، ومنه قول الشاعر: [الوافر] 584-
لأمّ الأرض ويل ما أجنّت ... غداة أضرّ بالحسن السّبيل «2»
[سورة القارعة (101) : آية 10]
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10)
جيء بالهاء لأن من العرب من يقول: هي بإسكان الياء فتثبت الهاء على لغة من حرّكها ليفرق بينها وبين لغة من أسكن فإن وصلت لم يجز إثبات الهاء لأن الحركة قد ثبتت، والصواب أن يوقف عليه يتّبع السواد ولا يلحن، وسمعت علي بن سليمان يقول: من قال: أصل وأريد الوقوف فقد أخطأ لأنه يلزمه أن لا يعرب الأسماء في الأدراج ويريد الوقوف. قال أبو جعفر: وهذا حجّة بيّنة صحيحة.
[سورة القارعة (101) : آية 11]
نارٌ حامِيَةٌ (11)
بإضمار مبتدأ.
__________
(1) الشاهد لكعب بن سعد الغنويّ في الأصمعيات ص 95، ولسان العرب (أمم) و (هوا) ، وتهذيب اللغة 15/ 602، وجمهرة اللغة 229، والأصمعيات 95، وسمط اللآلي ص 773، وجمهرة أشعار العرب 703، وتاج العروس (أم) و (هوى) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 6/ 492، والمخصّص 12/ 182، ولسان العرب (هبل) .
(2) الشاهد لعبد الله بن عنمة الضبيّ في لسان العرب (ضرر) و (حسن) ، والتنبيه والإيضاح 2/ 153، وتهذيب اللغة 4/ 316، وجمهرة اللغة 535، ولعنمة بن عبد الله الضبيّ في تاج العروس (حسن) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة 122، ومقاييس اللغة 2/ 58، ومجمل اللغة 2/ 62، وأساس البلاغة (سلف) .(5/176)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)
102 شرح إعراب سورة التكاثر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2)
أصوب ما قيل في معناه أنّ المعنى: ألهاكم التكاثر عن طاعة الله جلّ وعزّ إلى أن صرتم إلى المقابر فدفنتم، ودلّت هذه الآية على عذاب القبر لا بعدها كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) أي إذا صرتم إلى المقابر. وروي عن زرّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نزل في عذاب القبر ألهاكم التكاثر، وقرأ إلى كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) قال الفراء:
واحد المقابر مقبرة ومقبرة وبعض أهل الحجاز يقول: مقبرة، وقد سمعت مشرقة ومشرقة ومشرقة.
[سورة التكاثر (102) : الآيات 3 الى 4]
كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) تكرير عند الفراء. وأحسن منه ما قاله الضحاك قال:
الأولى للكفار، وذهب إلى أن الثانية للعصاة من المؤمنين.
[سورة التكاثر (102) : الآيات 5 الى 6]
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) مصدر، وحذف جواب لو. والتقدير: لو تعلمون أنكم ترون الجحيم لمّا تكاثرتم في الدنيا بالأموال وغيرها. قال الكسائي: جواب لَوْ في أول السورة أي لو تعلمون علم اليقين ما ألهاكم التكاثر. وقرأ الكسائي لَتَرَوُنَّ «1» بضمّ التاء. حكاه أبو عبيد عنه، وقرئ على إبراهيم بن موسى عن محمد بن الجهم عن أبي عبد الرّحمن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه قرأ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها «2» الأولى بضمّ التاء والثانية بفتحها. قال أبو جعفر:
والأولى عند الفرّاء «3» وأبي عبيد فتحها، لأن التكرير يكون متفقا. قال أبو جعفر:
والأحسن ألا يكون تكريرا، ويكون المعنى لترونّ الجحيم في موقف القيامة.
__________
(1) انظر تيسير الداني 182.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 506.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 288.(5/177)
ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
[سورة التكاثر (102) : آية 7]
ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7)
ثُمَّ لَتَرَوُنَّها إذا دخلتم النار عَيْنَ الْيَقِينِ مصدر لأن المعنى لتعايننّها عيانا.
[سورة التكاثر (102) : آية 8]
ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
قيل: أي عن النعيم الذي يشغل عن طاعة الله جلّ وعزّ. وظاهر الكلام يدلّ على أنه عام، وأنّ الإنسان مسؤول عن كل نعيم تنعّم به في الدنيا من أين اكتسبه؟ وما قصد به؟ وهل فعل ما غيره أولى منه؟ ويسند الظاهر للأحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه كما قرئ على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى قال: حدّثنا هشام بن عبد الملك قال: حدّثنا حمّاد بن سلمة قال: حدّثنا عمّار بن أبي عمّار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: جاءني النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأخرجنا أو قدمنا إليه رطبا أو بسرا وماء فقال: «هذا من النّعيم الذي تسألون عنه» «1» . وحدّثنا علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال: حدّثنا داود بن مهران عن داود بن عبد الرّحمن عن محمد بن عيثم عن ابن عباس ثم لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال: الأمن والصحّة.
__________
(1) أخرجه النسائي في سننه الوصايا ب 4، وأحمد في مسنده 3/ 338، وموارد الظمآن للهيثمي (2531) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 1/ 120، والهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 317.(5/178)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
103 شرح إعراب سورة العصر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العصر (103) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1)
التقدير: وربّ العصر، ويدخل فيه كلّ ما يسمى بالعصر لأنه لم يقع اختصاص تقوم به حجة فالعصر الدهر، والعصر العشي، والعصر الملجأ.
[سورة العصر (103) : آية 2]
إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
الإنسان بمعنى الناس، والخسر دخول النار. فهو أكبر الخسران.
[سورة العصر (103) : آية 3]
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
الَّذِينَ في موضع استثناء من موجب آمَنُوا صلته، وكذا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ لأنه معطوف.(5/179)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)
104 شرح إعراب سورة الهمزة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الهمزة (104) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)
وَيْلٌ رفع بالابتداء ويجوز نصبه لأنه بمعنى المصدر كما يجوز قبوحا له منصوب إلّا أن الرفع في «ويل» أحسن لأنه غير مأخوذ من فعل والنصب في قبوح أجود لأنه مأخوذ من فعل. وفي نصب «ويل» قول آخر، يكون التقدير قولوا الزم الله ويلا لكل همزة، وهذا مذهب سيبويه «1» . قال مجاهد: ليست هذه خاصّا لأحد. قال أبو جعفر: وهذا قول صحيح في العربية لأن سبيل كل أن تكون غير خاصة. قال أبو العالية: «الهمزة» الذي يعيب الناس في وجوههم، واللّمزة الذي يعيبهم من ورائهم.
وسمعت علي بن سليمان يستحسن هذا القول. وقال ابن زيد: الهمزة الذي يهمز الناس ويضربهم بيده، واللّمز الذي يلمزهم ويعيبهم بلسانه.
[سورة الهمزة (104) : آية 2]
الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2)
الَّذِي في موضع رفع بمعنى هو الذي، ويجوز النصب بمعنى أعني الذي، ويجوز الخفض على البدل من كلّ. قرأ أبو جعفر ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي «جمع» «2» بالتشديد. وقرأ الحسن وابن كثير وعاصم وأبو عمرو وشيبة ونافع جَمَعَ. قال أبو جعفر: «جمع» بالتخفيف يكون للقليل والكثير، وجمّع لا يكون إلا للكثير. وروي عن الحسن وَعَدَّدَهُ بالتخفيف، وهي قراءة شاذة إن كان يريد عدّه ثم أظهر التضعيف كما قال: [البسيط] 585- إنّي أجود لأقوام وإن ضننوا «3»
__________
(1) انظر الكتاب 1/ 396.
(2) انظر تيسير الداني 182، والبحر المحيط 8/ 510.
(3) مرّ الشاهد رقم (176) .(5/180)
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
وهو بعيد، وإنما يجوز في الشعر وإن كان يريد جمع مالا وجمع عدده على أنه مفعول أي أحصى عدده فهو جائز.
[سورة الهمزة (104) : الآيات 3 الى 4]
يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) يقال: هي لغة النبي صلّى الله عليه وسلّم بكسر السين جاء على فعل يفعل، وله نظائر يسيرة قد ذكرناها. «أنّ» وما عملت فيه في موضع المفعولين، والمعروف من قراءة الحسن «لينبذانّ في الحطمة» «1» بعينه وماله، وقد روي عنه (لينبذنّ) بضم الذال. فقيل لا يجوز لأنه إنما تقدّم ذكر اثنين، وقيل: هو للهمزة واللمزة والذي جمع مالا.
[سورة الهمزة (104) : آية 5]
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)
قال الفراء: اسم للنار، ولو كانت بغير ألف ولام لم تنصرف. قال أبو جعفر:
يقال: حطمه إذا كسّره كما قال: [الرجز] 586- قد لفّها اللّيل بسوّاق حطم «2» ورجل حطم أي أكول.
[سورة الهمزة (104) : الآيات 6 الى 7]
نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)
نارُ اللَّهِ أي هي نار الله «الموقدة» نعت للنار، وكذا الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) اطّلعت على فلان وطلعت أي بلغت وواحد الأفئدة فؤاد.
[سورة الهمزة (104) : آية 8]
إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8)
خبر «إن» يقال: آصدت أوصد فمن قال: أوصدت قال: موصدة فلم يهمز، ومن قال: آصدت قال: مؤصدة، وجاز أن يخفّف الهمزة فيقول: موصدة واللغتان حسنتان كثيرتان، وكذا أكّدت ووكدت وهو التأكيد والتوكيد، وكذا أرّخت وورّخت وهو التأريخ والتوريخ، وأكفت وأوكفت وهو الاكاف والوكاف.
[سورة الهمزة (104) : آية 9]
فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
فِي عَمَدٍ هكذا روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود وزيد بن
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 510، ومختصر ابن خالويه 179، ومعاني الفراء 3/ 290.
(2) الشاهد لرشيد بن رميض في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 355، والأغاني 15/ 199، وللأغلب العجلي في الحماسة الشجرية 1/ 144، وللحطم القيسي في الكتاب 3/ 246، وشرح المفصّل 1/ 62، وله أو لأبي زغيبة الأنصاري في شرح أبيات سيبويه 2/ 286، وله أو لأبي زغبة الخزرجي أو لرشيد بن رميض في لسان العرب (حطم) ، وبلا نسبة في أساس البلاغة (حطم) وجمهرة اللغة 830، وسمط اللآلي 59، وشرح المفصّل 6/ 112. [.....](5/181)
ثابت وهي قراءة عاصم ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ المدنيون وأبو عمرو فِي عَمَدٍ «1» وإذا جاء الشيء على هذا الاجتماع حظر في الديانة أن يقال:
إحداهما أولى من الأخرى. وأجود ما قيل هكذا أنزل كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف» «2» ولكن تلخّص القراءات من العربية فيقال: عمود وعمد فهكذا فعول وفعيل وفعال يجمعن على فعل نحو كتاب وكتب ورغيف ورغف، وقد قالوا: أديم وأدم، وهذا كعمود وعمد اسم للجميع لا جمع على الحقيقة وكذا أفيق وأفق وإهاب وأهب ونعيم ونعم، وقال: خادم وخدم فأما معنى «في عمد» فقد تكلّم فيه أهل التفسير وأهل العربية. قال عطاء الخراساني يعني عمدا من نار ممددة عليهم، وقال ابن زيد: فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ أي هم مغلّلون بعمد من حديد قد احترقت فصارت نارا، وقيل: توصد عليهم الأبواب أي تطبق ويقام عليها عمد من حديد ليكون ذلك أشدّ ليأسهم من الخروج، وقيل «في عمد» أي بين عمد، كما تقول: فلان في القوم أي بينهم، وقيل مع عمد، كما قال: [الطويل] 587-
وهل ينعمن من كان آخر عهده ... ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال «3»
أي مع، وسمعت علي بن سليمان يقول: «في» على بابها أي ثلاثين شهرا داخلة في ثلاثة أحوال. قال أبو جعفر ومن أجلّ ما يروى في الآية ما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أتدرون كيف أبواب النار؟ قلنا: مثل أبوابنا هذه فقال: لا، إنّ بعضها فوق بعض «ممدّدة» بالخفض نعت لعمد، وبالرفع نعت لموصدة أو خبر بعد خبر.
__________
(1) انظر تيسير الداني 182، والبحر المحيط 8/ 510 ومعاني الفراء 3/ 290.
(2) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 232، والهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 150، وابن كثير في تفسيره 2/ 9، والهيثمي في موارد الظمآن (1779) .
(3) مرّ الشاهد رقم (396) .(5/182)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
105 شرح إعراب سورة الفيل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفيل (105) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1)
حذفت الألف من ترى للجزم، والأصل الهمزة فألقيت حركة الهمزة على الراء فحذفت الهمزة «كيف» في موضع نصب بفعل، وهي غير معربة لأنها في معنى الحروف وإن كانت اسما، وفتحت الفاء لالتقاء الساكنين.
[سورة الفيل (105) : آية 2]
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)
أي في تضليل عما أرادوه.
[سورة الفيل (105) : آية 3]
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3)
من أحسن ما روي فيه عن المتقدمين ما حدّثناه علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال: حدثنا عفّان قال: حدّثنا حماد عن عاصم عن زرّ عن عبد الله طَيْراً أَبابِيلَ قال: فرقا. وقرئ على محمد بن جعفر عن يوسف بن موسى قال: حدّثنا شهاب عن إبراهيم عن حميد عن أبي خالد عن أبي صالح «طيرا أبابيل» قال: جمعا بعد جمع. قال أبو جعفر: ومعروف في كلام العرب جاءوا أبابيل أي جماعة بعد جماعة عظيمة كثيرة بعد جماعة. مشتق من أبل عليه إذا كثر وجمع ومنه سمّيت الإبل لعظم خلقها، وقد قيل: إنّ معنى أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية: 17] أنها السحاب لعظمها وإن كان القتبي ردّ هذا التفسير بغير حجّة تثبت. وأصح ما قيل في واحد الأبابيل ما قاله محمد بن يزيد قال: واحدها ابّيل كسكّين وسكاكين.
[سورة الفيل (105) : آية 4]
تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
جمعه سجاجيل.
[سورة الفيل (105) : آية 5]
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
الكاف في موضع نصب مفعول ثان أي مأكول ما فيه، وهو قشر الحنطة، ويجوز أن يكون بمعنى مأكول للبهائم.(5/183)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)
106 شرح إعراب سورة لإيلاف (قريش)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2)
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) مذهب الأخفش أن المعنى فعل بهم ذلك ليؤلف قريشا.
وهذا القول الخطأ فيه بين، ولو كان كما قال لكانت لإيلاف بعض آيات «الم تر» وفي إجماع المسلمين على الفصل بينهما ما يدلّ على غير ما قال، وأيضا فلو كان كما قال لم يكن آخر السورة تماما، وهذا غير موجود في شيء من السور، وقيل في الكلام حذف والمعنى أعجبوا لإيلاف قريش. رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ. وتركهم عبادة رب هذا البيت وهذا أعني الحذف مذهب الفراء «1» ، ويحتجّ له بأن العرب تقول: لله أبوك فيكون في اللام معنى التعجب وأصبح من هذين القولين، وهو قول الخليل بن أحمد، أن المعنى لأن يؤلف الله قريشا إيلافا.
[سورة قريش (106) : آية 3]
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3)
أي لهذا فليعبدوه. قال أبو جعفر: فهذا لا حذف فيه وهو من حسن النحو ودقيقه، وإن كان أصحاب كتب المعاني قد أغفلوه. «إلفهم» مخفوض على البدل كما تقول: عجبت من إحسانك إحسانك إلى زيد، فأبدلت الثاني من الأول، وزدت في الفائدة للبيان وروي عن يزيد بن القعقاع أنه قرأ «إلفهم» «2» وروي عنه «إلافهم» وهما مصدران من ألف يألف على فعل وفعال ففعل مثل قولهم: حلم حلما وعلم علما وسخر سخرا، وفعال مثل لقيته لقاء وصمت صياما وكتبت كتابا، أجاز الفراء «3» لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ على المصدر. قال أبو جعفر: ويجوز النصب أيضا في إلفهم وإيلافهم بمعنى يألفون إلفا. رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ منصوبة بإيلاف وأجاز الفراء إيلافهم
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 293.
(2) انظر تيسير الداني 182، ومختصر ابن خالويه 180.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 293.(5/184)
الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
رحلة الشتاء والصّيف. قال أبو جعفر: يكون هذا على البدل، وتقديره: إيلافهم إيلاف رحلة الشتاء والصيف.
ْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
(3) وإن شئت كسرت اللام على الأصل.
[سورة قريش (106) : آية 4]
الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
الَّذِي في موضع نصب نعت لربّ، ويجوز أن يكون في موضع رفع أي هو الذي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ صلة الذي وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ داخل في الصلة.(5/185)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)
107 شرح إعراب سورة أرأيت (الماعون)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الماعون (107) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
هذه القراءة البيّنة، ويجوز أن تأتي الهمزة بين بين فتقول: أرأيت ويجوز أريت بحذف الهمزة، وعن عبد الله بن مسعود أَرَأَيْتَكَ «1» والكاف زائدة للخطاب وهمزة بين بين متحركة بوزنها مخففة، كذا قال سيبويه، فأما قول من قال: هي لا ساكنة ولا متحركة فمحال لأنها إذا لم تكن ساكنة فهي متحرّكة وإذا لم تكن متحرّكة فهي ساكنة فيجب على قوله أن تكون ساكنة متحرّكة. والدليل على أنها متحركة قوله: [البسيط] 588-
أأن رأت رجلا أعشى أضرّ به ... ريب المنون ودهر مفند خبل «2»
فلو قلت: أأن لكان الوزن واحدا. وهمزة بين بين كثيرا ما يغلط فيها، وهي من أصعب ما في النحو، ومن دليل ما قلنا قوله عزّ وجلّ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ [البقرة:
6] فلو كانت همزة بين بين ساكنة لاجتمع ساكنان، وكذا أرأيت الياء ساكنة وهمزة بين بين متحركة، ومن أسكنها وكسر الياء فقد جاء بما لا يجوز وما لا وجه له ولا تقدير في العربية، ويجوز أن يكون «أرأيت» من رؤية العين فلا يكون في الكلام حذف وأن يكون من رؤية القلب فيكون التقدير: أرأيت الذي يكذّب بالدين بعد ما ظهر له من البراهين أليس مستحقا عذاب الله.
[سورة الماعون (107) : آية 2]
فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
وقرأ أبو رجاء يَدُعُّ الْيَتِيمَ مخفّفة أي يتركه.
[سورة الماعون (107) : آية 3]
وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3)
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 517، ومعاني الفراء 3/ 294.
(2) الشاهد للأعشى في ديوانه 105، والكتاب 3/ 176، وجمهرة اللغة 872، وشرح أبيات سيبويه 2/ 75، وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 45، وشرح شواهد الإيضاح ص 262، وشرح شواهد الشافية 332، ولسان العرب (قبل) و (منن) ، وبلا نسبة في شرح المفصّل 3/ 83، والمقتضب 1/ 155.(5/186)
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
قال الفراء: أي لا يحافظ على طعام المسكين ولا يأمر به.
[سورة الماعون (107) : الآيات 4 الى 5]
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5)
قال أبو العالية: هو الّذي يسجد ويقول هكذا وهكذا أو التفت عن يمينه وشماله.
قال أبو جعفر: وأولى من هذا القول، لعلوّ من قال به ولصحّته في العربية، ما حدثناه علي بن الحسين عن الحسين عن الحسن بن محمد قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن طلحة بن مصرّف عن مصعب بن سعد عن سعد بن مالك قال له رجل: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) أهو حديث النفس في الصلاة؟ قال: كلّنا نجد ذلك، ولكنه يضيّعها لوقتها. وفي غير رواية طلحة بن مصرف أن سعدا قال: سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الذين هم عن صلاتهم ساهون قال: الذين يؤخّرونها عن وقتها.
[سورة الماعون (107) : آية 6]
الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6)
أي لا يصلّون خوفا من عقاب ولا رجاء لثواب، ولكن لينظرهم المسلمون فلا يسفكون دماءهم وهم المنافقون.
[سورة الماعون (107) : آية 7]
وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
قد تكلّم العلماء في معناه كما قرئ على إبراهيم بن موسى عن محمد بن الجهم عن الفراء «1» حدّثني قيس بن الربيع عن السدّي عن عبد خير عن علي رضي الله عنه، قال: الماعون الزكاة، ويروى هذا عن ابن عمر وابن عباس باختلاف، وعن ابن عباس:
الماعون ما يتعاطاه الناس، وحكى الفراء عن بعض العرب الماعون الماء، وأنشد:
[الوافر] 589- يمجّ صبيره الماعون صبّا «2» صبيره: سحابه. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال ترجع إلى أصل واحد، وإنما هو الظن بالشيء اليسير الذي يجب ألّا يضنّ به مشتقّ من المعن، وهو الشيء القليل. والله أعلم.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 259.
(2) الشاهد بلا نسبة في معاني الفراء 3/ 295، وتفسير الطبري 30/ 214.(5/187)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
108 شرح إعراب سورة الكوثر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الكوثر (108) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1)
النون والألف الأوليان في موضع نصب اسم إن والأخريان في موضع رفع والْكَوْثَرَ مفعول ثان وهي في اللغة فوعل من الكثرة وقد اختلف العلماء في معناه فعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه الحوض ولما قال سعيد بن جبير: الكوثر الخير الكثير قيل له فقد قيل: إنه الحوض فقال: الحوض من الخير الكثير، وقال الحسن وقتادة: الكوثر القرآن، وقرئ على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى ثنا عبيد الله بن موسى ثنا شعبة عن عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة قال: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» (1) قال: النبوة والقرآن.
[سورة الكوثر (108) : آية 2]
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
اختلف العلماء في معناها فمن أجلّ ذلك ما حدّثنا محمد بن أحمد بن جعفر قال: ثنا أبو بكر بن شيبة ثنا وكيع عن يزيد بن أبي زيادة بن أبي الجعد عن عاصم الجحدري عن عقبة بن ظهير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قول الله جلّ وعزّ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة. قال أبو جعفر: وقد اختلف عنه في ذلك فروي عنه أنه قال: يضع اليمين على الساعد الأيسر على صدره، وعنه وعن أبي هريرة يجعلهما تحت السرّة وهذا مذهب الكوفيين، ويحتجّ للقول الأول أنه أشبه بالآية لأن معنى وانحر أي اجعل يدك نحو نحرك، وقد روى سفيان لشعبة عن عاصم بن كليب عن ابنه عن وائل بن حجر. قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم اجعل يدك نحو نحرك، وقد روى سفيان وشعبة عن عاصم بن أنس عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على اليسرى في الصلاة. قال أبو جعفر: فعلى هذا القول فصلّ لربك أي الصلوات كلّها وانحر اجعل يدك نحو نحوك فهذا قول وعن أبي جعفر محمد بن علي وَانْحَرْ ارفع يدك نحو نحرك إذا كبّرت للإحرام، وقال الضحاك: وَانْحَرْ واسأل، وقول رابع «وانحر»(5/188)
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
واستقبل القبلة بنحرك كما حكي عن العرب هما يتناحران أي يتقاتلان. قال أبو جعفر:
وليس هذا قول أحد من المتقدمين، وقول خامس عن أنس بن مالك قال: كان النبي ينحر ثم يصلّي حتى نزلت فصلّ لربك وانحر فصار يصلّي ثم ينحر، وقول سادس عليه أكثر التابعين، قال الحسن وعطاء أي صلّ العيد وانحر البدن. قال أبو جعفر: وهذا قول مجاهد وسعيد بن جبير، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه وبعض أهل النظر يميل إليه لأنه ظاهر المعنى أي انحر البدن، ولا تذبحها، وبعض الفقهاء يردّه لأن صلاة العيد ليست بفرض عند أحد من المسلمين، الضحية ليست بواجبة عنه أكثر العلماء كما روي أن أبا بكر وعمر كانا لا يضحيّان مخافة أن يتوهّم الناس أنّها واجبة، وكذا ابن عباس قال: ما ضحّيت إلا بلحم اشتريته، وفي الآية قول سابع، وهو أبينها، وهو مذهب محمد بن كعب قال: أخلص صلاتك لله وانحر له وحده. وهو قول حسن لأن الله جل وعز عرفه ما أكرمه به وأعطاه إياه فأمره أن يشكره على ذلك لئلا يفعل كما يفعل المشركون وأن تكون صلاته خالصة لله وحده ويكون نحره قاصدا به ما عنده الله جلّ وعزّ لا كما يفعل الكفار.
[سورة الكوثر (108) : آية 3]
إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
إِنَّ شانِئَكَ قال ابن عباس: عدوك أبا جهل، وقيل العاصي بن وائل هُوَ الْأَبْتَرُ أي المنقطع الذّكر من الخير لا أحد يا قوم بدينه، ولا يذكره بخير. فكان هذا من علامات نبوته صلّى الله عليه وسلّم أنه خبر بما لم يقع فكان كما أخبر به، وقد قيل: لما أنزل الله إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) لم يولد له بعد ذلك، والأول أصحّ، وأصله من بتره أي قطعه.(5/189)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
109 شرح إعراب سورة الكافرين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الكافرون (109) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1)
قُلْ في موضع جزم عند الفراء على حذف اللام، وسمعت علي بن سليمان يقول: لو كان كما قال لكان بالتاء. وهو عند البصريين غير معرب يا أَيُّهَا «يا» حرف نداء وضممت أيا لأنه منادى مفرد قد مرت العلة فيه الْكافِرُونَ نعت لأي أو عطف البيان. قال محمد بن يزيد: ليس في هذا تكرير وإنما جهل من قال: إنه مكرّر اللغة، والمعنى قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1)
[سورة الكافرون (109) : الآيات 2 الى 5]
لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5)
لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) في هذا الوقت، وكذا وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) انقضى هذا، ثم قال وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) فيما استقبل وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) مثله، وكان في هذا دلالة على نبوته صلّى الله عليه وسلّم لأن كل من خاطبه بهذا المخاطبة ثم لم يسلم منهم أحد، وكذا الذين خاطبهم بقولهم سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 6] . أَنْتُمْ عابِدُونَ مبتدأ وخبر، وكذا أَنا عابِدٌ على حذف الواو، ومعناها ولم تنصب «لا» كما تنصب «ما» لأن «ما» أدخل في شبه ليس فنصبت كما نصبت ليس.
[سورة الكافرون (109) : آية 6]
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
لَكُمْ دِينُكُمْ مبتدأ، وكذا وَلِيَ دِينِ «1» وحذفت الياء من ديني لأنه رأس آية فحسن الحذف لتتفق الآيات، ومن فتح الياء في قوله «ولي» قال: هي اسم فكرهت أن أخلّ به، ومن أسكنها قال: قد اعتمدت على ما قبلها في موضع نصب.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 523 (قرأ سلام «ديني» بالياء وصلا ووقفا، وحذفها القرّاء السبعة) .(5/190)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
110 شرح إعراب سورة إذا جاء نصر الله (النصر)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النصر (110) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)
إِذا ظرف زمان نصب بجاء نَصْرُ اللَّهِ رفع بجاء ويجمع على أنصار، والقياس أنصر وَالْفَتْحُ عطف عليه.
[سورة النصر (110) : آية 2]
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2)
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ «يدخلون» في موضع نصب على الحال أو على خبر رأيت أَفْواجاً نصب على الحال جمع فوج، والقياس فوج أفوج استثقل الحركة في الواو فشبّهوا فعلا بفعل.
[سورة النصر (110) : آية 3]
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي اجعل تسبيحك بالحمد وَاسْتَغْفِرْهُ وكان يقول صلّى الله عليه وسلّم: «إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرّة» «1» إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً خبر كان، والجملة خبر إنّ وكانت في هذه السورة دلالة على نبوّته صلّى الله عليه وسلّم لأنها نزلت قبل الفتح، قال ابن عباس: فعرف أنه إذا كان الفتح فعددنا أجله صلّى الله عليه وسلّم. قال قتادة: نزلت سورة الفتح إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ بالمدينة.
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 397، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 52، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 5/ 75.(5/191)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
111 شرح إعراب سورة تبّت (المسد)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المسد (111) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
في «تبّ» الأولى قولان: أحدهما أنه دعاء، والآخر أنه خبر. وفي إسكان التاء قولان: أحدهما أنها لما كانت حرفا وجب لها السكون، والآخر أنه لم تبق لها حركة فأمسكت يَدا فيه قولان: أحدهما أنه مجاز أي تبّ، والآخر أنه على الحقيقة كما يروى أن أبا لهب أراد أن يرمي النبي صلّى الله عليه وسلّم فمنعه الله جلّ وعزّ من ذلك، وأنزل تبّت يدا أبي لهب، أي خسرت يدا أبي لهب، فيه قولان: أحدهما أن علامة الخفض الياء، والقول الآخر أنه معرب من جهتين هذا قول الكوفيين وَتَبَّ فيه قولان: أحدهما أن فيه قد مضمرة كما روي عن ابن مسعود أنه قرأ «تبّت يدا أبي لهب «1» وقد تب» ، والقول الآخر أنه خبر وأن «قد» لا تضمر لأنها حرف معنى.
[سورة المسد (111) : آية 2]
ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2)
ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ في «ما» قولان أحدهما أنها في موضع نصب بأغنى، والقول الآخر أنها لا موضع لها من الإعراب وأنها نافية. وَما كَسَبَ فيه قولان: أحدهما أنه يراد به ولده هذا قول ابن عباس، والقول الآخر ما كسبه من شيء.
[سورة المسد (111) : آية 3]
سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3)
فيه قولان: أحدهما أن الوقوف عليه ذاه بالهاء لأن تأنيث الأسماء بالهاء، والآخر أن الوقوف ذات لأنه لا ينفصل مما بعده في المعنى.
[سورة المسد (111) : آية 4]
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
وَامْرَأَتُهُ فيه قولان: أحدهما أنها مرفوعة لأنها معطوفة على المضمر الذي في سيصلى، وحسن العطف على المضمر لطول الكلام والقول الآخر أنها مرفوعة بالابتداء
__________
(1) انظر تيسير الداني 183 (قرأ ابن كثير «لهب» بإسكان الهاء والباقون بفتحها) .(5/192)
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
حَمَّالَةَ الْحَطَبِ «1» بالرفع فيه قولان أحدهما أنه نعت لامرأته والآخر أنه خبر الابتداء. وفي نعتها هذا قولان، وهي أم جمل أخت أبي سفيان بن حرب أحد القولين أنها نعتت بهذا تخسيسا لها عقوبة لإيذائها النبي صلّى الله عليه وسلّم، والقول الآخر أن يكون له زوجات غيرها فنعتت بهذا للفرق بينها وبينهنّ وفي موضع الجملة قولان: أحدهما أنها في موضع الحال، والتقدير ما أغنى عنه ماله وما كسب وامرأته حمالة الحطب، والقول الآخر أنها خبر «ما» في موضع الحال، ومن قرأ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ «2» ففي قراءته قولان: أحدهما أنه منصوب على الحال لأنه يجوز أن تدخل فيه الألف واللام فلما حذفتهما نصب على الحال، والقول الآخر أنه منصوب على الذمّ أي أعني حمالة الحطب كما قال: [الرجز] 590- نحن بني ضبّة أصحاب الجمل «3» وقال رؤبة: [الرجز] 591- أنا ابن سعد أكرم السّعدينا «4»
[سورة المسد (111) : آية 5]
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
فِي جِيدِها فيه قولان: أحدهما أنه خبر بعد خبر عن «وامرأته» ، والقول الآخر أن يكون خبرا منقطعا من الأول حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ فيه قولان أحدهما أنه يراد به السلسلة التي تكون في عنقها في النار، والآخر أنه الحبل الذي كانت تحمل به الحطب.
__________
(1) انظر تيسير الداني 183، والبحر المحيط 8/ 527. [.....]
(2) انظر تيسير الداني 183، والبحر المحيط 8/ 527.
(3) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (ندس) و (جمل) و (قحل) وجمهرة اللغة 269، وتاج العروس (بجل) و (جمل) والكامل للمبرد 99.
(4) الرجز لرؤبة في ملحق ديوانه 191، والكتاب 2/ 155، وشرح المفصّل 1/ 47، وبلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب 460، وشرح المفصّل 1/ 46، والمقتضب 2/ 223.(5/193)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)
112 شرح إعراب سورة قل هو الله أحد (الإخلاص)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الإخلاص (112) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)
هُوَ في موضع رفع بالابتداء كناية عن الحديث على قول أكثر البصريين والكسائي أي الحديث الذي هو الحق الله أحد.
[سورة الإخلاص (112) : آية 2]
اللَّهُ الصَّمَدُ (2)
فيه ست تقديرات «1» : أحسنها أن يكون قولك اللَّهُ رفعا بالابتداء الصَّمَدُ نعته وما بعده خبره، والقول الثاني أن يكون الصمد الخبر، والقول الثالث أن يكون على إضمار مبتدأ، والرابع أن يكون خبرا بعد خبر، والخامس أن يكون بدلا من أحد، والسادس أن يكون بدلا من قولك الله الأول فإن قيل: ما معنى التكرير؟ فالجواب أن فيه التعظيم هكذا كلام العرب كما قال: [الخفيف] 592-
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا «2»
فعظّم أمر الموت لما كرره ولم يضمره، ومثله وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المزمل: 20] فلا يجيز الفراء أن يكون كناية عن الحديث إلا أن يكون قبلها شيء. وهذا تحكّم على اللغة، وقال الله جلّ وعزّ يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النمل: 9] وإنّي الابتداء وإنّ إنما تدخل على المبتدأ بإجماع، وأيضا فإن «هو» إن لم يكن كناية عن الحديث فهي مبتدأة في أول السورة فإن قال القائل: فعلام تعود؟ فحجّته الحديث أن اليهود سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصف لهم ربّه جلّ وعزّ وينسبه فأنزل الله جلّ وعزّ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. قال أبو جعفر: وقد أمليت هذا الحديث ليعرف على ما سمعته، وفيه أشياء منها أنه من حديث جرير عن الضحاك لم يسمع عن ابن عباس، وقال أحمد بن شعيب جويبر بن سعيد خراساني يروي عن الضحاك متروك الحديث، وفيه إسماعيل بن زياد ضعيف، وذكرناه على ما فيه ليعرف وفيه البعلبكي
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 529.
(2) مرّ الشاهد رقم (70) .(5/194)
على ما قال الشيخ والأجود البعلي، وهذا جائز عند الكوفيين وقد بيّنّا في قوله جلّ وعزّ: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 30] والأخفش سعيد قوله كقول الفراء في أنه كناية عن مفرد «الله» خبر قال الأخفش «أحد» بدل من «الله» . قرأ نصر بن عاصم وعبد الله بن أبي إسحاق أَحَدٌ اللَّهُ بغير تنوين، وكذا يروى عن أبان بن عثمان حذفوا التنوين لالتقاء الساكنين، وأنشد سيبويه: [المتقارب] 593- ولا ذاكر الله إلّا قليلا «1» وأنشد الفراء «2» : [الخفيف] 594-
كيف نومي على الفراش ولمّا ... تشمل الشّام غارة شعواء
تذهل الشّيخ عن بنيه وتلوي ... عن خدام العقلة العذراء
يريد عن خدام العقيلة فحذف التنوين لالتقاء الساكنين كما قرءوا أَحَدٌ اللَّهُ والأجود تحريك التّنوين لالتقاء الساكنين، لأنه علامة فحذفه قبيح، وقراءة الجماعة أولى. وفي «أحد» ثلاثة أقوال منها: أن يكون أحد بمعنى وحد، ووحد بمعنى واحد، كما قال: [البسيط] 595-
كأنّ رحلي وقد زال النّهار بنا ... يوم الجليل على مستأنس وحد «3»
فأبدل من الواو همزة. والقول الثاني أن يكون الأصل واحدا أبدل من الواو همزة، وحذفت الهمزة لئلا يلتقي همزتان، والقول الثالث أن أحدا بمعنى أوّل كما تقول: اليوم الأحد، واليوم الأول مسموع من العرب، وقال بعض أهل النظر في أحد من الفائدة ما ليس في واحد لأنك إذا قلت: فلان لا يا قوم له واحد، جاز أن يا قوم له اثنان وأكثر فإذا قلت. فلان لا يا قوم له أحد، تضمن معنى واحد وأكثر. قال أبو جعفر:
وهذا غلط لا اختلاف بين النحويين أن أحدا إذا كان كذا لم يقع إلا في النفي كما قال:
[البسيط] 596-
وقفت فيها أصيلا كي أسائلها ... عيّت جوابا وما بالرّبع من أحد «4»
فإذا كان بمعنى واحد وقع في الإيجاب تقول: ما مرّ بنا أحد، أي واحد فكذا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.
__________
(1) مرّ الشاهد رقم 73.
(2) الشعر لعبيد الله بن قيس الرقيّات في ديوانه 95، وتاج العروس (شمل) و (شعى) ، ولسان العرب (شمل) و (خدم) و (شعا) ، ومقاييس اللغة 3/ 190، ومجمل اللغة 3/ 161، وأساس البلاغة (شعو) ، والشعر والشعراء 546، وسمط اللآلي 1/ 294.
(3) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 31، والخصائص 3/ 262، والخزانة 1/ 521.
(4) مرّ الشاهد رقم (574) .(5/195)
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
[سورة الإخلاص (112) : آية 3]
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)
ثبتت الواو في الثاني، وحذفت في الأول لأنها في الأول وقعت بين ياء وكسرة، وفي الثاني وقعت بين ياء وفتحة.
[سورة الإخلاص (112) : آية 4]
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)
وقراءة حمزة «كفوا» وزعم هارون القارئ أن سليمان بن علي الهاشمي قرأ «ولم يكن له كفئا أحد» «1» والمعنى واحد، كما قال: [البسيط] 597-
لا تقذفنّي بركن لا كفاء له ... وإن تأثّفك الأعداء بالرّفد «2»
وكذا كفيّ وجمعها أكفية فإذا قلت: كفوءا وكفء فجمعها أكفاء. يقال: فلان يمنع بناته إلا من الأكفاء فيجوز أن يكون كفو وكفء لغتين بمعنى واحد، ويجوز أن يكون كفء مخففا من كفؤ كما يقال: رسل وكتب «كفوا» خبر يكن و «أحد» اسم يكن. هذا قول أكثر النحويين على أن محمد بن يزيد غلّط سيبويه في اختياره أن يكون الظرف خبرا إذا قدّم لأنه يختار: إنّ في الدار زيدا جالسا، فخطّأه بالآية لأنه لو كان «له» الخبر لم ينصب «كفوا» على أنه خبر يكن على أن سيبويه قد أجاز أن يقدّم الظرف ولا يكون خبرا، وأنشد: [الرجز] 598- ما دام فيهنّ فصيل حيّا «3» والقصيدة منصوبة، وفي نصب كفو قول آخر ما علمت أن أحدا من النحويين ذكره وهو أن يكون منصوبا على أنه نعت نكرة متقدّم فنصب على الحال كما تقول:
جاءني مسرعا رجل، وكما قال: [مجزوء الوافر] 599- لميّة موحشا طلل «4» ولكن ذكر الفراء أنه يقال: ما كان ثمّ أحد نظير لزيد، فإن قدّمت قلت: ما كان ثمّ نظيرا لزيد أحد، ولم يذكر العلّة التي أوجبت هذا.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 530، وتيسير الداني 183.
(2) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 26، ولسان العرب (أثف) ، و (ركن) ، ومقاييس اللغة 1/ 57، وجمهرة اللغة 1036، وتهذيب اللغة 10/ 190 وتاج العروس (أثف) ومجمل اللغة 1/ 167، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 173، والمنصف 1/ 193، وبلا نسبة في شرح شواهد الإيضاح 612.
(3) مرّ الشاهد رقم (276) .
(4) الشاهد لكثير عزّة في ديوانه 506 والكتاب 2/ 120، وخزانة الأدب 2/ 211 وشرح التصريح 1/ 375، وشرح شواهد المغني 1/ 249، ولسان العرب (وحش) ، والمقاصد النحوية 3/ 163، وبلا نسبة في أسرار العربية 147، وأوضح المسالك 2/ 310، وتمامه:
«لعزّة موحشا طلل ... يلوح كأنّه خلل»(5/196)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
113 شرح إعراب سورة الفلق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفلق (113) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)
قد اختلف العلماء في معناه فقال جابر بن عبد الله: هو الصبح، وقال أبو عبد الرّحمن الحبليّ هي جهنّم، وقيل: هو الخلق وقيل: هو واد في جهنم. قال أبو جعفر:
وإذا وقع الاختلاف وجب أن يرجع إلى اللسان الذي نزل به القرآن، والعرب تقول: هو أبين من فلق الصبح وفرقه، يعنون الفجر.
[سورة الفلق (113) : آية 2]
مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2)
تكون ما مصدرا فلا تحتاج إلى عائد، ويجوز أن تكون بمعنى الذي فتكون الهاء العائدة عليه محذوفة.
[سورة الفلق (113) : آية 3]
وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3)
تكلّم العلماء في معنى الغاسق فعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه القمر وقد ذكرناه بإسناده. وروى عقيل عن الزهري قال: الغاسق إذا وقب الشمس إذا غربت. قال أبو جعفر: وأكثر أهل التفسير أن الغاسق الليل، ومنهم من قال: الكواكب فإذا رجع إلى اللغة عرف منها أنه يقال: غسق إذا أظلم فاتّفقت الأقوال لأن الشمس إذا غربت دخل الليل، والقمر بالليل يكون، والكواكب لا يكاد يطلع إلّا ليلا. فصار المعنى ومن شرّ الليل إذا دخل بظلمته فغطّى كل شيء. يقال: وقب إذا دخل، وقول قتادة: وقب ذهب لا يعرف.
[سورة الفلق (113) : آية 4]
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
جمع نفّاثة وفي المكسّر نوافث يقال: أنّهنّ نساء سواحر كنّ في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بالاستعاذة منهن لأنهنّ يوهمن أنهنّ ينفعن أو يضررن فربّما لحق الإنسان في دينه ما يأثم به. فأما السحر فباطل.(5/197)
وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
[سورة الفلق (113) : آية 5]
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)
قال ابن زيد: هم اليهود، وقال غيره: هو لبيد بن أعصم وبناته هنّ السواحر.
قال أبو جعفر: أولى ما قيل في هذا قول قتادة قال: هو لكلّ من.... «1» ...
__________
(1) موضع النقط بياض في الأصل. [.....](5/198)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
114 شرح إعراب سورة الناس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الناس (114) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)
الأصل عند سيبويه أناس والألف واللام بدل من الهمزة.
[سورة الناس (114) : آية 2]
مَلِكِ النَّاسِ (2)
نعت يقال: ملك بيّن الملك، ومالك بيّن الملك والملك.
[سورة الناس (114) : آية 3]
إِلهِ النَّاسِ (3)
نعت أو بدل.
[سورة الناس (114) : آية 4]
مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)
مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ هو الذي يوسوس الصدور كما قال الأعشى: [البسيط] 600-
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت ... كما استعان بريح عشرق زجل «1»
الْخَنَّاسِ عن ابن عباس روايتان إحداهما أنه يوسوس ويجثم على صدر الإنسان فإذا ذكر الله جلّ وعزّ يخنس، والرواية الأخرى أنه يوسوس فإذا أطيع انخنس، القولان متفقان.
[سورة الناس (114) : آية 5]
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)
في موضع خفض على النعت ويجوز الرفع على إضمار مبتدأ.
[سورة الناس (114) : آية 6]
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
__________
(1) الشاهد للأعشى في ديوانه 105، ولسان العرب (وسس) ، و (عشرق) ، و (زجل) ، وتهذيب اللغة 3/ 277، وتاج العروس (وسس) و (عشرق) و (زجل) ، وإعراب ثلاثين سورة لابن خالويه 239.(5/199)
يقال: جنّيّ وجنّ وجنّة الهاء لتأنيث الجماعة، مثل حجار وحجارة. قال أبو جعفر: وسألت علي بن سلمان عن قوله عزّ وجلّ وَالنَّاسِ فكيف يعطفون على الْجِنَّةِ وهم لا يوسوسون؟ فقال: هم معطوفون على الوسواس، والتقدير: قل أعوذ بربّ الناس من شرّ الوسواس والناس. والذي قال حسن لأن التقديم والتأخير في الواو جائز حسن كثير كما قال: [الطويل] 601-
جمعت وفحشا غيبة ونميمة ... ثلاث خصال لست عنها بمرعوي «1»
وقال حسّان «2» : [الطويل] 602-
وما زال في الإسلام من آل هاشم ... دعائم غرّ ما ترام ومفخر
وهم جبل الإسلام والنّاس حولهم ... رضام إلى طود يروق ويقهر
بهاليل منهم جعفر وابن أمّه ... عليّ ومنهم أحمد المتخيّر
فبدأ اللفظ بجعفر ثم جاء بعده بعليّ ثم جاء بعده بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو المقدم على الحقيقة.
صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين وسلم تسليما كثيرا تم كتاب شرح إعراب القرآن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلّم تسليما حسبنا الله وكفى ونعم الوكيل.
__________
(1) الشاهد ليزيد بن الحكم بن العاص في أمالي القالي 1/ 67، والخزانة 1/ 495، والمقاصد النحوية 3/ 86.(5/200)