المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «محمّد» (ص) «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «محمد» (ص) بعد سورة «الحديد» ، ونزلت سورة «الحديد» بعد سورة «الزّلزلة» ، ونزلت سورة «الزلزلة» بعد سورة «النساء» ، وكان نزول سورة «النساء» بين صلح الحديبية وغزوة تبوك، فيكون نزول سورة «محمد» (ص) في هذا التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في الآية 2 منها وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ، وتبلغ آياتها ثمانيا وثلاثين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة تحريض المؤمنين على قتال الكافرين ووعدهم بالنصر عليهم، وهذا القتال هو عذاب الدنيا الذي أوعد الكفار به في السور السابقة ولهذا جاء ترتيبها في الذكر بعدها، لتدلّ على صدق ما أوعدهم الله به.
التحريض على القتال الآيات [1- 38]
قال الله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) فمهّد عزّ وجلّ للتحريض على القتال ببيان وجه استحقاق الكفّار له، وذكر أنّهم كفروا
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(8/175)
وصدّوا عن سبيله فأضلّ أعمالهم، وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد (ص) غفر ما كان من شركهم وأصلح بالهم، لأنّ الكفار اتّبعوا الباطل والمؤمنين اتّبعوا الحق من ربّهم ثم أمر جلّ وعلا بقتال الكفّار حتّى يثخنوهم بالقتل والجراح، فإذا أثخنوهم شدّوا وثاقهم بالأسر، وهم مخيّرون بعد هذا في إطلاقهم بفداء أو من غير فداء ثم وعد الذين يقتلون منهم في سبيله حسن الأجر في الآخرة، والذين يبقون منهم بالنصر على أعدائهم وأوعد الكفّار بالهزيمة والهلاك وضياع الأعمال، ثم مضى السياق في هذا الترغيب والترهيب إلى أن انتقل منه إلى الحديث عن المنافقين فألحقهم بأولئك الكفّار، وذكر أنّ الله سبحانه طبع على قلوبهم فاتّبعوا أهواءهم ولم يجاوز إسلامهم حناجرهم، وأن الذين أخلصوا في إيمانهم زادهم الله هدى الى هداهم، وأن هؤلاء المنافقين لا يتوقع منهم الإيمان إلّا أن تأتيهم الساعة بغتة، وها هي ذي قد قربت وجاءت علاماتها، ولكنّ التوبة عندها لا تنفع صاحبها. ثم ذكر السياق، أن الله عزّ وجلّ أمر النبي (ص) أن يستمر هو والمؤمنون على الإخلاص في توحيده، لأنه يعلم متقلّبهم ومثواهم، حتّى لا يكونوا كهؤلاء المنافقين في مخالفة باطنهم لظاهرهم.
ثم أخذ السياق في ذم هؤلاء المنافقين على تقاعسهم عن القتال في سبيل الله جبنا وخوفا، وذكر أنهم إن تولّوا عن القتال في سبيله سبحانه فإنهم يعودون إلى ما كانوا عليه من الفساد في الأرض، فيغير بعضهم على بعض، ويقابل ذوو الأرحام بعضهم بعضا، كما كان بين الأوس والخزرج ثم ذكر تعالى أنّه أصمّهم وأعماهم فلا يتدبّرون ذلك، بل يتّبعون ما يسوّله الشيطان لهم، وما وعدوا به أهل مكة من الكفّ عن قتالهم ثم توعّدهم جل جلاله، بقوله وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) [الآية 30] .
ثم ختمت السورة بمثل ما بدئت به من التحريض على القتال، فذكر تعالى أنه سيبلوهم به ليعلم المجاهدين والصابرين منهم، ووعدهم بأنه لن يمكّن أعداءهم من أن يضرّوهم ثمّ نهاهم أن يهنوا في القتال ويدعوا إلى السّلم وهم الأعلون، وقد وعدهم(8/176)
بالنصر وحسن الأجر وهوّن عليهم أمر الدنيا التي يعوق حبّها عن القتال والإنفاق في سبيله سبحانه، إلى أن قال: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) .(8/177)
البحث الثالث أسرار ترتيب سورة «محمّد» (ص) «1»
لا يخفى وجه ارتباط أوّلها بقوله تعالى في آخر الأحقاف:
فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) واتصال هذا القول وتلاحمه، بحيث إنه لو أسقطت البسملة منه، لكان متّصلا اتّصالا واحدا لا تنافر فيه، كالآية الواحدة، آخذا بعضه بعنق بعض «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.
(2) . أول سورة «محمّد» (ص) : الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وسورة «القتال» مع هذا متمّمة لموضوع سورة «الأحقاف» قبلها: ف «الأحقاف» فيها الحديث عن إعراض الكافرين في مختلف العصور، وفيها دعوتهم الى الإيمان بالتي هي أحسن وقد استنفدت السورة وسائل الإقناع العقلي، وأثبتت عتوّ أهل الكفر وجحودهم فكانت سورة «القتال» بما فيها من جهاد، وقواعد الحرب، وتشريعاته متّفقة تماما مع نسخ وسائل الدعوة السلمية، بآية السيف.(8/179)
المبحث الرابع مكنونات سورة «محمّد» (ص) «1»
1- يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ (38) [الآية 38] .
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنّ رسول الله (ص) تلا هذه الآية:
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) .
فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء؟ فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي، ثم قال: «هذا وقومه، ولو كان الدّين عند الثريّا لتناوله الرجال من الفرس» «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . أخرج البخاري في «صحيحه» (4897) في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كنا جلوسا عند النبي (ص) فأنزلت عليه سورة الجمعة وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [الجمعة/ 3] قال: قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا- وفينا سلمان الفارسي (رض) ، وضع رسول الله (ص) يده على سلمان- ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال- أو رجل- من هؤلاء» .
وفي رواية لمسلم: «لو كان الدين عند الثريا لذهب رجال من أبناء فارس حتى يتناولوه» .
وقد أطنب أبو نعيم في أول «تاريخ أصبهان» في تخريج طرق هذا الحديث.(8/181)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «محمّد» (ص) «1»
1- وقال تعالى: الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ، ومدّ لهم في الآمال والأماني، يعني أن الشيطان يغويهم.
وقرئ: (وأملي لهم) على البناء للمفعول، أي: أمهلوا ومدّ في عمرهم.
2- وقال تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) .
وقوله تعالى: فِي لَحْنِ الْقَوْلِ.
أي: في نحوه وأسلوبه، وقيل:
واللّحن أن تميل الكلام إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك، كالتعريض والتورية، كقول الشاعر:
ولقد لحنت لكم لكيما تفقهوا واللّحن يعرفه ذوو الألباب 3- وقال تعالى: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) .
وهو من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ أو حميم.
وحقيقته: أفردته من قريبه أو ماله، من الوتر وهو الفرد، فشبّه إضاعة عمل العامل، وتعطيل ثوابه بوتر الواتر، وهو من فصيح الكلام.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(8/183)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «محمّد» (ص) «1»
قال تعالى: فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) [الآية 18] أي: فإنّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة.
وقال سبحانه: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [الآية 22] فإنّ الأوّل للمجازاة، وأوقعت عَسَيْتُمْ على أَنْ تُفْسِدُوا لأنه اسم، ولا يكون أن تعمل فيه (عسيتم) ولا «عسيت» إلّا وفيه «أن» لا تقول «عسيتم الفعل» كما أنّ قولك «لو أنّ زيدا جاء كان خيرا له» فقولك «2» «أنّ زيدا جاء» اسم، وأنت لا تقول: «لو ذاك» لأنه لا تقع الأسماء كلّها في كل موضع ولا تقع الأفعال كلها على كل الأسماء، ألا ترى أنهم يقولون «يدع» ولا يقولون «ودع» ويقولون «يذر» ولا يقولون «وذر» .
وقال تعالى: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) أي: في أعمالكم، كما تقول: «دخلت البيت» وأنت تريد «في البيت» .
وقال تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ [الآية 38] بجعل التنبيه في موضعين للتوكيد، وكان التنبيه الذي في «هؤلاء» تنبيها لازما.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . عبارة المؤلف غير منسقة. وكان ينبغي لها أن تكون: كما أن قولك «أنّ زيدا جاء» في قولك «لو أنّ زيدا جاء كان خيرا له» اسم.(8/185)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «محمّد» (ص) «1»
إن قيل: لم قال الله تعالى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) ولم يسبق ضرب مثل؟
قلنا: معناه كذلك يبيّن الله للناس أمثال حسنات المؤمنين وسيئات الكافرين، وقيل أراد به أنه جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفّار، واتّباع الحق مثلا لعمل المؤمنين، أو أنه جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفّار، وتكفير السيئات مثلا لفوز المؤمنين.
فإن قيل: لم قال تعالى في حق الشهداء بعد ما قتلوا في سبيل الله:
سَيَهْدِيهِمْ [الآية 5] والهداية إنما تكون قبل الموت لا بعده؟
قلنا: معناه سيهديهم إلى محاجّة منكر ونكير. وقيل سيهديهم يوم القيامة إلى طريق الجنة.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى:
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ [الآية 15] . إلى قوله تعالى: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ [الآية 15] ؟
قلنا: قال الفرّاء: معناه أمن كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار.
وقال غيره تقديره: مثل الجنة الموصوفة كمثل جزاء من هو خالد في النار، فحذف منه ذلك إيجازا واختصارا.
فإن قيل: لم قال تبارك وتعالى
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(8/187)
للنبي (ص) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ (19) [الآية 19] وهو عالم بذلك قبل أن يوحى إليه، وبعد الوحي؟
قلنا: معناه اثبت على ذلك العلم، وقال الزّجّاج: الخطاب له (ص) ، والمراد أمّته كما ذكرنا في أوّل سورة الأحزاب.(8/188)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «محمّد» (ص) «1»
1- في قوله سبحانه: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها [الآية 4] استعارة. والمراد بالأوزار هاهنا الأثقال، وهي آلة الحرب وعتادها من الدروع والمغافر والرّماح والمناصل وما يجري هذا المجرى: لأنّ جميع ذلك ثقل على حامله، وشاقّ على مستعمله. وعلى هذا قول الأعشى:
وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالا وخيلا ذكورا
ومن نسج داوود موضونة «2» ... تساق مع الحيّ عيرا فعيرا
والمراد بذلك في الظاهر الحرب وفي المعنى أهل الحرب، لأنهم الذين يصح وصفهم بحمل الأثقال ووضعها، ولبس الأسلحة ونزعها.
2- وفي قوله سبحانه: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) استعارة: لأن العزم لا يوصف بحقيقته إلّا الإنسان المميّز الذي يوطّن النفس على فعل الأمر قبل وقته عقدا بالمشيئة على فعله، فيصحّ أن يسمّى عازما عليه، وإنما قال تعالى: عَزَمَ الْأَمْرُ مجازا أي قويت العزائم على فعله، فصار كالعازم في نفسه. وقال بعضهم معنى عزم الأمر أي جدّ الأمر، ومنه قول النابغة الذّبياني:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . من وضن: الدرع المقاربة النسج، أو المنسوجة بالجواهر. [.....](8/189)
حيّاك ودّ فإنا لا يحلّ لنا لهو النساء لأنّ الدّين قد عزما أي استحكم وجدّ وقوي واشتدّ.
3- وفي قوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) استعارة. والمراد أن قلوبهم كالأبواب المقفلة لا تنفتح لوعظ واعظ، ولا يلج فيها عذل عاذل. وفي لغة العرب أن يقول القائل، إذا وصف نفسه بضيق الصدر وتشعّب الفكر: قلبي مقفل، وصدري ضيّق. وإذا وصف غيره بضدّ هذه الصفات، قال: انفتح قلبه وانفسح صدره وقد يجوز أن يكون المعنى أنّ أسماعهم لا تعي قولا ولا تسمع عذلا وإنما شبّهت الأسماع بالأقفال على القلوب لأنها أبواب عليها. فإذا عرضت على الأسماع كانت كالأقفال الموثقة والأبواب المغلقة.
4- وفي قوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) ، استعارة: ومعناها مأخوذ من الوتر، وهو ما ينقصه الإنسان من مال أو دم وما أشبههما ظلما، فيكسبه ذلك عداوة لفاعله وإرصادا بالمكروه لمستعمليه، فكأنّه تعالى قال: «ولن ينقصكم ثواب أعمالكم، أو لن يظلمكم في الجزاء على أعمالكم فيكون بمنزلة من أودعكم ترة وأطلبكم طائلة» . وقال الأخفش عن قوله تعالى وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) : أي في أعمالكم، كما نقول دخلت البيت، والمراد دخلت في البيت.(8/190)
سورة الفتح(8/191)
المبحث الأول أهداف سورة «الفتح» «1»
سورة «الفتح» سورة مدنية، نزلت في الطريق بين مكة والمدينة عند الانصراف من الحديبية، وآياتها 29 آية، نزلت بعد سورة الجمعة.
ونلمح، في بداية السورة، فضل الله تعالى على النبي (ص) وصحبه، وآثار نعمائه، جلّ وعلا، على المسلمين.
وقد سبقتها، في ترتيب المصحف، سورة «محمد» التي وصفت ظلم المشركين والمنافقين، وحرّضت المسلمين على الجهاد، وحذرتهم من الخنوع والبعد عن طاعة الله.
وقد نزلت سورة «محمد» في الفترة الأولى من حياة المسلمين بالمدينة. أما سورة «الفتح» ، فقد نزلت في العام السادس من الهجرة، وكان عود المسلمين قد اشتد، وقوتهم قد زادت، وظهر أثر ذلك في بيعة الرضوان التي تمت تحت الشجرة على التضحية والفداء.
صلح الحديبية
رأى رسول الله (ص) في منامه ذات ليلة أنّه دخل المسجد الحرام في أصحابه، آمنين محلّقين رؤوسهم ومقصرين لا يخافون عدوّا، فاستبشر بذلك وأخبر أصحابه، فاستبشروا وفرحوا واستعدّوا لزيارة البيت الحرام معتمرين. «وفي ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة، خرج النبي (ص) معتمرا لا يريد حربا، واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(8/193)
معه، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدّوه عن البيت. وتخلّف كثير من الأعراب عن مرافقته ظنا أن الحرب لا بدّ واقعة بينه وبين قريش، فخرج رسول الله بمن معه من المهاجرين والأنصار، ومن لحق بهم من العرب، وساق معه الهدي سبعين بدنة. وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلموا أنه إنّما خرج زائرا للبيت ومعظّما له» .
واستخلف رسول الله على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وأخذ معه من نسائه أمّ سلمة، وسار معه ألف وخمسمائة من المسلمين معتمرين، وسيوفهم مغمدة في قربها، فلمّا أصبحوا على مسيرة مرحلتين من مكة لقي النبي (ص) بشر بن سفيان فأنبأه نبأ قريش قائلا:
«يا رسول الله، هذه قريش علمت بمسيرك فخرجوا عازمين على طول الإقامة وقد نزلوا بذي طوى يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدا» .
فقال رسول الله (ص) : «يا ويح قريش، قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر الناس، فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله دخلوا في الإسلام وافرين؟
والله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به، حتى يظهره الله أو تنفرد مني هذه السالفة» .
وكان النبي (ص) حريصا على أن يتجنب الحرب مع قريش لأنه خرج متنسّكا معظّما للبيت لا للحرب.
وأرسلت قريش مندوبين عنها فأعلمهم النبي أنه لم يأت محاربا، وإنما جاء معتمرا معظما للبيت.
وأرسل النبي (ص) عثمان بن عفان الى أهل مكة ليخبرهم بمقصد المسلمين فقال لهم: إنّا لم نأت لقتل أحد، وإنّا جئنا زوّارا لهذا البيت، معظّمين لحرمته. ولا نريد إلّا العمرة، فأبت قريش أن يدخل النبي وصحبه مكة، وأذنت قريش لعثمان أن يطوف بالبيت فقال: «لا أطوف ورسول الله ممنوع» ، فاحتبست قريش عثمان، فشاع عند المسلمين أن عثمان قد قتل، فقال (ص) حينما سمع ذلك: «لا نبرح حتّى نناجزهم الحرب» .
بيعة الرضوان
دعا النبي الناس للبيعة على القتال فبايعوه على الموت، تحت شجرة(8/194)
هناك سميت «شجرة الرّضوان» . وقد بارك الله هذه البيعة، وأعلن رضاه عن أهلها فقال سبحانه: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الآية 18] .
شروط الصلح
علمت قريش بخبر هذه البيعة، فاشتدّ خوفها، وقويت رغبتها في الصلح، وأرسلت سهيل بن عمرو ليفاوض المسلمين بشأن الصلح، وتوصل الطرفان الى معاهدة مشتركة سميت بصلح الحديبية وأهم شروط هذا الصلح ما يأتي:
1- وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنين.
2- من جاء الى محمد من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشا من المسلمين لا يلزمون بردّه.
3- من أراد أن يدخل في حلف محمد دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في حلف قريش دخل فيه.
4- أن يرجع النبي من غير عمرة هذا العام، ثم يأتي في العام المقبل فيدخل مكة بأصحابه، ويقيموا بها ثلاثة أيام، ليس معهم من السلاح إلّا السيف في القراب.
وقد كان هذا الصلح مثار اعتراض من بعض كبار المسلمين، لأنهم جاءوا للطواف بالبيت فمنعوا من ذلك، وهم في حال قوة واستعداد لمحاربة قريش.
كما أنّ شروط الصلح أثارت غضب المسلمين، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ألست برسول الله؟ فقال بلى، قال عمر: ألسنا على الحق وعدوّنا على الباطل؟ قال: بلى، قال فعلام نعطي الدّنيّة في ديننا إذن؟ فقال رسول الله (ص) : «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيّعني» .
ولكن أبا بكر كان أكثر الناس وثوقا بما اختاره النبي، وبأن الحكمة والخيرة في اختياره.
ثم وقّع الطرفان على الصلح. وبعد ذلك توافدت قبيلة خزاعة فدخلت في عهد رسول الله وتوافدت قبيلة بكر فدخلت في حلف قريش. وقد كان لهذا الصلح أكبر الأثر في سير الدعوة الإسلامية. فقد اعترفت قريش بالمسلمين، كما سمحت لهم بدخول مكة في العام القادم. ولما دخلوا مكة، شاهدهم أهلها، وسمعوا لقولهم، ورأوا عبادتهم، فتفتّحت قلوبهم(8/195)
للإسلام، وقد فتحت مكة بعد عمرة القضاء بسنة واحدة. إذ كان صلح الحديبية سنة 6 هـ وعمرة القضاء سنة 7 هـ، وفتح مكة سنة 8 هـ. كما أن هذا الصلح يسّر للمسلمين نشر الدعوة، وشرح الفكرة، ودعوة الناس الى الإسلام، ومكاتبة الرسل والملوك.
الأحداث وسورة «الفتح»
نزلت سورة «الفتح» في أعقاب صلح الحديبية، فباركت السورة هذا الصلح وجعلته فتحا مبينا وبشرت النبي (ص) بالمغفرة والنصر وإتمام النعمة. وقد فرح النبي الكريم بهذه السورة فرحا شديدا (انظر الآيات 1- 3) .
واشتملت السورة على بيان فضل الله سبحانه على المسلمين حين أنزل السكينة والأمان والرضا في قلوبهم، كما اعترفت السورة للمؤمنين بزيادة الإيمان ورسوخه، وبشّرتهم بالمغفرة والثواب.
وتوعّدت السورة المنافقين والكفار بالعذاب والنكال (انظر الآيات 4- 6) . ثم نوّهت ببيعة الرضوان واعتبارها بيعة الله، وربط قلوب المؤمنين مباشرة بربهم من هذا الطريق بهذا الرباط المتصل مباشرة بالله الحي الباقي الذي لا يموت [الآية 10] .
وبمناسبة البيعة والنكث، التفت السياق الى الأعراب الذين تخلّفوا عن الخروج، ليفضح معاذيرهم، ويكشف ما جال في خاطرهم من سوء الظن بالله، ومن توقع السوء للرسول ومن معه، والتفت السياق، أيضا، إلى توجيه الله تعالى الرسول (ص) الى ما ينبغي أن يكون موقفه منهم في المستقبل، وذلك بأسلوب يوحي بقوة المسلمين وضعف المخلّفين كما يوحي بأن هناك غنائم وفتوحا قريبة يسيل لها لعاب المخلّفين المتباطئين [انظر الآيات 11- 17] .
الله يبارك بيعة الرضوان
كان الربع الثاني من سورة الفتح تمجيدا لهؤلاء الصفوة من الرجال، وتسجيلا لرضوان الله عليهم حين بايعوا رسول الله (ص) تحت الشجرة، والله عز وجل حاضر هذه البيعة وشاهدها وموثقها، ويده فوق أيديهم فيها، تلك المجموعة التي حظيت بتلك اللحظة القدسية وذلك التبليغ الالهي: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ(8/196)
تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً
(18) .
تلك المجموعة التي سمعت رسول الله (ص) يقول لها عند البيعة. «أنتم اليوم خير أهل الأرض» .
تبدأ الآيات [18- 29] بحديث من الله سبحانه وتعالى الى رسول الله (ص) عن هؤلاء الصّفوة الذين بايعوا تحت الشجرة، ثم بحديث مع هؤلاء الصفوة يبشّرهم بما أعدّ لهم من مغانم كثيرة وفتوح، وبما أحاطهم به من رعاية وحماية في هذه الرحلة وفيما سيتلوها، ويندد بأعدائهم الذين كفروا تنديدا شديدا، ويكشف لهم عن حكمته في اختيار الصلح والمهادنة في هذا العام، ويؤكد لهم صدق الرؤيا التي رآها رسول الله (ص) عن دخول المسجد الحرام، وأن المسلمين سيدخلونه آمنين لا يخافون، وأن دينه سيظهر على الدين كله في الأرض بأسرها.
ظهور الإسلام
لقد صدقت رؤيا رسول الله (ص) ، وتحقّق وعد الله للمسلمين بدخول المسجد الحرام آمنين، ثم كان الفتح في العام الذي يليه، وظهر دين الله في مكة، ثم ظهر في الجزيرة كلها بعد ذلك، ثم تحقق وعد الله وبشراه الأخيرة حيث يقول: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) .
فلقد ظهر دين الحق، لا في الجزيرة وحدها، بل ظهر في المعمور من الأرض كلها، قبل مضي نصف قرن من الزمان. ظهر في إمبراطورية كسرى كلها، وفي قسم كبير من إمبراطورية قيصر، وظهر في الهند وفي الصين، ثم في جنوب آسيا في الملايو وغيرها، وفي جزر الهند الشرقية (أندونيسيا) ... وكان هذا هو معظم المعمور من الأرض في القرن السادس ومنتصف القرن السابع الميلادي.
وما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله، حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الأرض التي فتحها، وبخاصة في أوروبا وجزر البحر الأبيض، وانحسار قوة أهله في الأرض كلها بالقياس الى القوى التي ظهرت في الشرق والغرب في هذا الزمان.
أجل، ما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله من حيث هو دين، فهو الدين القوي بذاته، القوي بطبيعته،(8/197)
الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله، لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة، ومع نواميس الوجود الاصلية، ولما فيه من تلبية بسيطة عميقة لحاجات العقل والروح، وحاجات العمران والتقدم، وحاجات البيئات المتنوعة من ساكني الاكواخ الى ناطحات السحاب وما من صاحب دين غير الإسلام، ينظر في الإسلام نظرة مجرّدة من التعصب والهوى من غير أن يقر باستقامة هذا الدين وقوته الكامنة، وقدرته على قيادة البشرية قيادة رشيدة، وتلبية حاجاتها النامية المتطورة في يسر واستقامة.
وصف الصحابة
في ختام سورة الفتح نجد صورة مشرقة للنبي الكريم وصحبه الأبرار، فهم أقوياء في الحق، أشدّاء على الكفار، رحماء بينهم وهم في الباطن أقوياء في العقيدة، يملأ صدورهم اليقين فتراهم ركّعا سجّدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا.
وقد ظهر نور الإيمان عليهم في سمتهم وسحنتهم وسماتهم. سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية. هذه الصورة الوضيئة ثابتة لهم في لوحة القدر، فقد وردت صفتهم في التوراة التي أنزلها الله سبحانه، على موسى (ع) .
أما صفتهم في الإنجيل فهي صورة زرع نام قوي، يخرج فروعه بجواره، وهذه الفروع تشدّ أزره، وتساعده حتى يصبح الزرع ضخما مستقيما قويّا سويّا، يبعث في النفوس البهجة والإعجاب.
قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) .
مقاصد السورة الاجمالية
قال الفيروزآبادي: معظم مقصود سورة «الفتح» ما يأتي:
«وعد الله الرسول (ص) بالفتح والغفران، وإنزال السكينة على أهل الايمان، وإيعاد المنافقين بعذاب(8/198)
الجحيم ووعد المؤمنين بنعيم الجنان، والثناء على سيّد المرسلين، وذكر العهد وبيعة الرضوان، وذكر ما للمنافقين من الخذلان، وبيان عذر المعذورين، والمنّة على الصحابة بالنصر، وصدق رؤيا سيد المرسلين، وتمثيل حال النبي والصحابة بالزرع والزرّاع في البهجة والنضارة وحسن الشأن» .
روى مسلم عن أنس عن ابن عبّاس رضي الله عنه، قال: «لما نزلت سورة «الفتح» قال رسول الله (ص) لقد أنزل عليّ سورة هي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها» .(8/199)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الفتح» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «الفتح» بعد سورة «الجمعة» ، وكان نزولها في الطريق عند الانصراف من الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، فتكون من السور التي نزلت فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أولها: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) وتبلغ آياتها تسعا وعشرين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة التنويه بشأن صلح الحديبية، لأنّ قريشا سعت إليه بعد بيعة الرضوان، فظهر ضعفها وخضوعها بعد إبائها، وبدأ تخاذلها بعد بيعة المسلمين على الموت، وهذا كان فتحا مبينا للمسلمين، وتمهيدا لفتح مكة بعد ذلك في السنة الثامنة من الهجرة وبهذا وفي الله بوعده بنصرهم في السورة السابقة.
التنويه بصلح الحديبية الآيات [1- 29]
قال الله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) فجعل صلح الحديبية فتحا مبينا للنبي (ص) ، وقيل إنه يقصد بذلك فتح مكة، لأن هذا الصلح كان تمهيدا لفتحها ثم ذكر سبحانه أنه هو
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(8/201)
الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين حينما أبت قريش عليهم أن يدخلوا مكة ليؤدّوا عمرتهم، فلم يهنوا أو لم يرتدّوا على أعقابهم، بل وقفوا ينتظرون ما يكون بعد تبادل الرسل بينهم وبين قريش، وقد وعدهم على هذا بما وعدهم، وأوعد المنافقين الذين تخلفوا عنهم وظنّوا أنهم لن يرجعوا إليهم، ثم مدح الذين بايعوا الرسول (ص) على الموت تحت شجرة الرّضوان حينما أشيع أن قريشا قتلت عثمان بن عفان، وكان النبي (ص) قد أرسله إليها، وذكر أن الذين بايعوه على ذلك إنما بايعوه ويد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بعهده فسيؤتيه أجرا عظيما. ثم ذكر أن أولئك المتخلّفين من المنافقين سيعتذرون بأنهم اشتغلوا بأموالهم وأهليهم، وذكر أنهم كاذبون في اعتذارهم، وأوعدهم على ذلك بما أوعدهم، ثم ذكر جلّ وعلا أنهم سيطلبون من النبي (ص) بعد أن رأوا ظهور أمره أن ينطلقوا معه إلى القتال طمعا في الغنائم، وأمره ألّا يمكّنهم من الانطلاق معه، وأن يبيّن لهم أن القتال طمعا في الغنائم ليس طريقا لقبول توبتهم، وإنما طريق ذلك أنهم سيدعون إلى قتال قوم أولي بأس شديد- ولعلهم يهود خيبر- فإن يطيعوا أمر الله، سبحانه، في قتالهم يؤتهم أجرا حسنا، وإن يتولوا كما تولّوا من قبل يعذبهم عذابا أليما، واستثنى منهم صاحب العذر من الأعمى والأعرج والمريض، ثم عاد السّياق إلى أولئك الذين بايعوا تحت الشجرة فذكر أن الله جلّ جلاله رضي عنهم، وأنه سيثيبهم فتحا قريبا هو فتح خيبر، وهذا إلى مغانم كثيرة يأخذونها بعدها، وقد عجّل لهم فتح خيبر بعد أن كفّ أيدي قريش عنهم بذلك الصلح، وهناك غنيمة أخرى لم يقدروا عليها هذه المدة وهي مكة، وقد أحاط بها بفتح ما حولها ثم ذكر أنه لو لم يعقد هذا الصلح وقاتلتهم قريش لانتصروا عليها، كما هي سنّته في نصر أوليائه على أعدائه، ولكنه أراد ذلك الصلح وكفّ الفريقين عن القتال من بعد أن أظهر المؤمنين عليهم، لأنّ مكة كانت لا يزال بها فريق من المسلمين لم يهاجروا إلى المدينة، فلو دخلها المسلمون عنوة لأصابوهم مع المشركين، ولهذا اقتضت إرادته ذلك، لتكتمل هجرة من بقي بمكة من المسلمين ولو تميزوا فيها من المشركين(8/202)
لما كفّ المسلمين عنهم، ولعذّبهم عذابا أليما.
ثم عاد السياق إلى ذكر فضله تعالى عليهم في ذلك الصلح، فأمرهم أن يذكروا إحسانه إليهم إذ ثارت حميّة الجاهلية في قلوب قريش وصدّوهم عن عمرتهم، فأنزل سكينته عليهم فلم يغضبوا ولم ينهزموا بل صبروا، وكانوا أحق بهذا من أولئك الذين ثارت فيهم حميّة الجاهلية ثم ذكر أنه حقق بذلك الصلح رؤيا النبي (ص) أنهم دخلوا المسجد الحرام محلّقين رؤوسهم ومقصّرين، لأنهم اتّفقوا فيه على أن يرجع المسلمون هذا العام ويعتمروا في العام المقبل. فعلم، سبحانه، من ذلك الصلح ما لم يعلموا، وجعل من دونه فتحا قريبا (فتح خيبر) وإنما يفعل ذلك لأنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) .(8/203)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الفتح» «1»
لا يخفى وجه حسن وضعها هنا، لأن الفتح بمعنى النصر، مرتّب على القتال، وقد ورد في الحديث: أنها مبينة لما يفعل بالرسول (ص) وبالمؤمنين، بعد إيهامه في قوله تعالى في الأحقاف: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ «2» [الأحقاف/ 9] فكانت متصلة بسورة الأحقاف من هذه الجملة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.
(2) . هو قول ابن عبّاس رواه عنه علي بن طلحة. ولذا قال عكرمة والحسن وقتادة: إنّ آية «الأحقاف» منسوخة بآية «الفتح» : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ [الآية 2] . قالوا: ولمّا نزلت قال رجل من المسلمين: فما هو فاعل بنا؟ فنزل: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ [الآية 5] انظر تفسير ابن كثير: 7/ 260.(8/205)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الفتح» «1»
1- سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ [الآية 11] قال مجاهد: هم: جهينة ومزينة.
أخرجه ابن أبي حاتم «2» .
وأخرج عن مقاتل: أنهم خمس قبائل.
2- سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الآية 16] .
قال ابن عباس: هم فارس.
وقال سعيد بن جبير: أهل هوازن «3» وقال الضّحّاك: ثقيف.
وقال جويبر: مسيلمة وأصحابه.
أخرجها كلّها ابن أبي حاتم «4» .
3- لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الآية 18] .
أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي: أنه سئل كم كان أهل الشجرة عند بيعة الرّضوان؟ قال: كانوا ألفا وخمسمائة
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . والطبري 26/ 49.
(3) . وأخرجه الطبري أيضا في «تفسيره» 26/ 52.
(4) . قال أبو جعفر بن جرير الطبري في «تفسيره» 26/ 52: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال إنّ الله تعالى أخبر عن هؤلاء المخلّفين من الأعراب أنهم سيدعون إلى قتال قوم أولي بأس في القتال ونجدة في الحروب، ولم يوضح لنا الدليل من خبر لا عقل على أن المعنيّ بذلك هوازن لا بنو حنيفة ولا فارس ولا الروم ولا أعيانهم، وجائز أن يكون عني بذلك بعض هذه الأجناس، وجائز أن يكون عني بهم غيرهم، ولا قول فيه أصح من أن يقال كما قال الله جلّ ثناؤه إنهم سيدعون إلى قوم أولي بأس شديد» .(8/207)
وخمسا وعشرين.
وأخرج البخاري عن أبي الزبير قال:
قلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: كنّا زهاء ألف وخمسمائة.
وأخرج مسلم «1» عن معقل بن يسار:
أنهم كانوا ألفا وأربعمائة.
وأخرج الشيخان «2» عن ابن أبي أوفى قال: كنّا يوم الشجرة ألفا وثلاثمائة.
وأخرج ابن أبي حاتم من حديث سلمة بن الأكوع: أن الشجرة سمرة «3» .
4- وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) .
قال ابن أبي ليلى: فتح خيبر «4» وقال السّدّي: مكة.
أخرجهما ابن أبي حاتم.
5- وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها [الآية 21] .
قال ابن أبي ليلى: فارس، والروم.
أخرجه ابن أبي حاتم «5» .
6- وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [الآية 24] .
نزلت في ثمانين من أهل مكة، هبطوا على النبي (ص) من التّنعيم «6» ليقتلوه. أخرجه التّرمذي «7» من حديث أنس.
__________
(1) . انظر «صحيح مسلم» كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام رقم (1858) .
(2) . البخاري (4155) في المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم (1857) في الإمارة باب: استحباب مبايعة الإمام.
وقد جمع الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» 7/ 440 بين الروايات بأن مع الزائد زيادة لم يطلع عليها غيره، والزيادة من الثقة مقبولة، أو أن الزيادة قد تكون من الأتباع الذين لحقوا بعد، كالخدم والنساء والصبيان الذين لم يبلغوا الحلم.
(3) . سمرة: نوع من الطّلح، صغار الورق، قصار الشوك.
(4) . وأخرجه الطبري 26/ 55.
(5) . والطبري 26/ 57.
(6) . التّنعيم: موضع بمكة في الجبل، وهو بين مكة وسرف، على فرسخين من مكة [.....]
(7) . برقم (3260) في التفسير، وأخرجه أيضا: مسلم في «صحيحه» في الجهاد والسّير (122) .(8/208)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الفتح» «1»
قال تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ [الآية 9] أي: تقوّوه بالنّصرة.
أقول: وهذا ما لا نعرفه في العربية المعاصرة.
وفي عامية العراقيين التعزير ضرب من التأنيب.
2- وقال تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الآية 25] .
وقوله سبحانه: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ أي: محبوسا عن أن يباع.
أقول: وهذا معنى لا نعرفه وهو من كلم القرآن، وكلّه فرائد.
3- وقال تعالى: أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الآية 25] .
أي: يصيبكم ما تكرهون، ويشقّ عليكم.
والمعرّة بهذا المعنى أي: المصيبة، وما يعتريكم من نازلة أو داهية شيء غير «المعرّة» في العربية المعاصرة التي تعني السوء والقبح.
4- وقال تعالى: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) .
والمراد بقوله تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا، لو تفرّقوا وتميّز بعضهم من بعض: من زاله يزيله.
وقرئ: (لو تزايلوا) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(8/209)
5- وقال تعالى: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ [الآية 29] .
وقوله سبحانه: شَطْأَهُ أي:
فراخه. ويقال أشطأ الزرع إذا فرّخ.
وقوله عزّ وجل: فَآزَرَهُ من المؤازرة وهي المعاونة.(8/210)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الفتح» «1»
قال تعالى: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً [الآية 25] على وصدّوا وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً كراهية أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ.
وقال تعالى: أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ [الآية 29] يريد «أفعله» من «الإزارة» .
وقال تعالى: أَنْ تَطَؤُهُمْ [الآية 25] على البدل «لولا رجال أن تطئوهم» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.(8/211)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الفتح» «1»
إن قيل: لم جعل فتح مكة علة للمغفرة، فقال تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ؟
قلنا: لم يجعله علة للمغفرة بل لاجتماع ما وعده من الأمور الأربعة، وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز. وقبل الفتح لم يكن إتمام النعمة والنصر العزيز حاصلا، وإن كان الباقي حاصلا. ويجوز أن يكون فتح مكة سببا للمغفرة من حيث هو جهاد للعدو.
فإن قيل: قوله تعالى: ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الآية 2] إن كان المراد بما تأخّر ذنبا يتأخّر وجوده عن الخطاب بهذه الآية فهو معدوم عند نزولها، فكيف يغفر الذنب المعدوم، وإن كان المراد به ذنبا وجد قبل نزولها فهو متقدم فلم سماه متأخرا؟
قلنا: المراد بما تقدم قصة مارية، وبما تأخر قصة امرأة زيد. وقيل المراد بما تقدم ما وجد منه، وبما تأخّر ما لم يوجد منه على معنى أنه موعود بمغفرته على تقدير وجوده، أو على طريق المبالغة كقولهم: فلان يضرب من يلقاه ومن لا يلقاه بمعنى يضرب كل أحد، فكذا هنا معناه ليغفر لك الله كل ذنب:
فالحاصل أن الذنب المتأخّر متقدّم على نزول الآية، وإن كان متأخّرا بالنسبة إلى شيء آخر قبله، أو متأخّرا عن نزولها وهو موعود بمغفرته، أو على طريق المبالغة كما بيّنا.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(8/213)
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى:
وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وهو مهديّ إلى الصراط المستقيم، ومهديّة به أمته أيضا.
قلنا: معناه ويزيدك هدى وقيل ويثبّتك على الهدى، وقيل معناه ويهديك صراطا مستقيما في كل أمر تحاوله.
فإن قيل: كيف يقال إن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، وقد قال الله تعالى: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الآية 4] قلنا: الإيمان الذي يقال إنه لا يقبل الزيادة والنقصان هو الإقرار بوجود الله تعالى، كما أن إلهيته سبحانه، لا تقبل الزيادة والنقصان فأما الإيمان بمعنى الأمن أو اليقين أو التصديق فإنّه يقبلهما وهو في الآية بمعنى التصديق، لأنهم بسبب السكينة التي هي الطمأنينة وبرد اليقين كلما نزلت فريضة وشريعة صدّقوا بها فازدادوا تصديقا مع تصديقهم.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَأَهْلَها [الآية 26] بعد قوله جلّ وعلا وَكانُوا أَحَقَّ بِها [الآية 26] ؟
قلنا الضمير في «بها» لكلمة التوحيد، وفي «أهلها» للتقوى فلا تكرار.
فإن قيل: ما وجه تعليق الدخول بمشيئة الله تعالى في أخباره سبحانه وتعالى، حتّى قال: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ [الآية 27] .
قلنا: فيه وجوه: أحدها أن «إن» بمعنى إذ، كما في قوله تعالى: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (78) [البقرة] . الثاني: أنه استثناء من الله تعالى فيما يعلم تعليما لعباده أن يستثنوا فيما لا يعلمون. الثالث: أنه على سبيل الحكاية لرؤيا النبي (ص) فإنه رأى أن قائلا يقول له لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الآية 27] .
الرابع: أن الاستثناء متعلق بقوله تعالى آمِنِينَ [الآية 27] . فأما الدخول فليس فيه تعليق.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: لا تَخافُونَ [الآية 27] بعد قوله سبحانه: آمِنِينَ [الآية 27] ؟
قلنا: معناه آمنين في حال الدّخول، لا تخافون عدوكم أن يخرجكم منه في المستقبل.(8/214)
فإن قيل: قوله تعالى: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الآية 29] تعليل لأي شيء؟
قلنا: لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وقوّتهم، كأنه قال: إنما كثّرهم وقوّاهم ليغيظ بهم الكفار.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) ، وكل أصحاب النبي (ص) موصوفون بالإيمان والعمل الصالح وبغيرهما من الصفات الحميدة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، فما معنى التبعيض هنا؟
قلنا: «من» هنا لبيان الجنس لا للتبعيض، كما في قوله تعالى:
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج/ 30] .(8/215)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الفتح» «1»
1- في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الآية 10] . استعارة، واليد هاهنا تعرف على وجوه: أحدها أن يكون المعنى عقد البيعة فوق عقدهم. وقيل المراد قوّة الله تعالى في نصرة نبيه (ص) فوق قوّة نصرتهم. وقيل اليد هاهنا بمعنى السلطان والقدرة كما يقول القائل فلان تحت يد فلان أي تحت سلطانه وأمره. فيكون المعنى أنّ سلطان الله تعالى في هذا الأمر فوق سلطانهم، وأمره فوق أمرهم. وقيل في ذلك وجه آخر، وهو أن العادة جارية في المبايعات والمعاقدات أن تقع الصفقة بالأيدي من البائع والمشتري.
ومن هناك قالوا صفقة رابحة وصفقة خاسرة، فقيل: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ذهابا إلى هذا المعنى، كأنه سبحانه قال: فالذي أعطاكم الله، في هذه المبايعة، أعلى ممّا أعطيتم وأجلّ وأربح وأفضل.
2- وفي قوله تعالى: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ [الآية 29] استعارة لأنه شبّه أصحاب النبي (ص) في تضافرهم وتآزرهم واشتدادهم وأضدادهم «2» بالزرع الملتفّ المتكاثف الذي يقوّى بعضه ببعض ويستند بعضه إلى بعض.
وشطأ الزّرع خرجت أفرخه التي تنبت الى أصوله. ويقال شطأه ممدود،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . كذا في النسخة، ونظنّ أن الأصل واحتشادهم.(8/217)
ويقال: قد أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا أفرخ. ومعنى آزره أي صار فراخ الزرع له أزرا وقوّة ودعاما ومسكة. وقيل:
شطأه سنبله فيكون المراد هو آزره حب السّنبل بعضه لبعض، حتى تشتد كل حبة بأختها. والتأويلان متقاربان وقوله تعالى: فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ، أي قوي وغلظ واستقام على نصبه، كما يا قوم القائم على ساقه، ويعتمد على قدمه وهذه استعارة أخرى.(8/218)
سورة الحجرات(8/219)
المبحث الأول أهداف سورة «الحجرات» «1»
الآداب العامة
هذه سورة الآداب العامة ومكارم الأخلاق والتهذيب والتأديب، سورة هذّبت وجدان المسلمين، وحركت فيهم دوافع الخير والمعروف، وحاربت نوازع السخرية والاستهزاء بالآخرين، وحثّت على إزالة أسباب الخصام والبغضاء، وحرصت على تأليف القلوب وإشاعة المحبة والمودّة بين الناس، ولذلك نهت عن ظن السوء بالمسلم المخلص، وعن تتبّع العورات المستورة، وعن الغيبة واللّمز والتّنابز بالألقاب. وبيّنت أنّ النّاس جميعا عند الله سواء، كلهم لآدم، وآدم من تراب فهم يتفاضلون عنده، سبحانه، بالتقوى، ويدركون ثوابه بالعمل الصالح.
منهج الحياة
سورة «الحجرات» يمكن أن تكون دائرة معارف شاملة لتربية الفرد وتهذيب الجماعة، فهي تقدّم منهجا للحياة السليمة، ونظاما تربويّا ناجحا لمواطن صالح مؤمن بربه، يحترم دينه ويؤدّي شعائره.
جاء في كتاب «ظلال القرآن» ما يأتي:
«هذه سورة جليلة ضخمة، تتضمن حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة، ومن حقائق الوجود
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(8/221)
والانسانية، حقائق تفتح للقلب وللعقل آفاقا عالية، وآمادا بعيدة، وتثير في النفس والذهن خواطر عميقة ومعاني كبيرة، وتشمل، من مناهج التكوين والتنظيم، وقواعد التربية والتهذيب، ومبادئ التشريع والتوجيه، ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها مئات المرات.
«وهي تبرز أمام النظر أمرين عظيمين للتدبير والتفكير. وأول ما يبرز للنظر، عند مطالعة السورة: أنها تستقل بوضع معالم كاملة لعالم رفيع كريم نظيف سليم، متضمّنة القواعد والأصول والمبادئ والمناهج التي يا قوم عليها هذا العالم، والتي تكفل قيامه أولا وصيانته أخيرا، عالم يصدر عن الله، ويتجه الى الله، ويليق أن ينتسب الى الله، عالم نقي القلب نظيف المشاعر، عفّ اللسان، وقبل ذلك عفّ السريرة، عالم له أدب مع الله وأدب مع رسوله، وأدب مع نفسه، وأدب مع غيره، أدب في هواجس ضميره، وفي حركات جوارحه، وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظمة لأوضاعه، وله نظمه التي تكفل صيانته، وهي شرائع ونظم تقوم على ذلك الأدب، وتنبثق منه، وتتّسق معه. فيتوافى باطن هذا العالم وظاهره، وتتلاقى شرائعه ومشاعره، وتتوازن دوافعه وزواجره، وتتناسق أحاسيسه وخطاه وهو يتجه ويتحرك الى الله. ومن ثمّ لا يوكل قيام هذا العالم الرفيع الكريم النظيف السليم وصيانته، لمجرد أدب الضمير ونظافة الشعور، ولا يوكل كذلك لمجرد التشريع والتنظيم، بل يلتقي هذا بذاك في انسجام وتناسق، كذلك لا يوكل لشعور الفرد وجهده، كما لا يترك لنظم الدولة وإجراءاتها، بل يلتقي فيه الأفراد بالدولة، والدولة بالافراد، وتتلاقى واجباتهما ونشاطهما في تعاون واتّساق» «1» .
معاني السورة
اشتملت السورة على طائفة كريمة من المعاني الإسلامية والآداب الدينية، فقد أمرت المسلمين ألا يصدروا في أحكامهم إلّا عن طاعة الله والتزام أوامره، ويجب ألا يسبقوا أحكام الله، وأن يجعلوا اختيارهم وذوقهم الديني تابعا لهدى الله.
__________
(1) . في ظلال القرآن، للاستاذ سيد قطب 26/ 125.(8/222)
وهي تأمرهم بالتزام الأدب أمام النبي الكريم، وبحسن المعاملة وخفض الصوت عند خطاب الرسول الأمين، لأنه هو خاتم المرسلين، وهو الذي بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، وربّى المسلمين تربية إلهية، حتى صاروا خير أمة أخرجت للناس [الآيات 2- 5] .
وتأمر السورة المسلمين أن يتثبّتوا في أحكامهم، وألا يصدّقوا أخبار الفاسقين وإشاعات المغرضين وأراجيف المرجفين، فالرسول معهم، وهدى القرآن والسنّة بين أيديهم، وحقائق الإيمان وأحكامه واضحة أمامهم، وقد حبّب الله إليهم الإيمان وحجب عنهم الكفر والعصيان فلله الفضل والمنّة، وهو العليم بعباده الحكيم في أفعاله [الآيات 6- 8] .
والمؤمنون أمّة واحدة، ربّهم واحد وقبلتهم واحدة، وكتابهم واحد، ودينهم يا قوم على التسامح والتعاون والتناصح. فإذا حدث خلاف بين طائفتين، أو قتال ونزاع، فمن الواجب أن نحاول الصلح بينهما وإذا أصرّت إحدى الطائفتين على البغي والعدوان فمن الواجب أن نقف في وجه المعتدي حتى يفيء الى الحق، وعلينا أن نؤكّد مفاهيم الحق والعدل، وأن نحثّ على الإصلاح ورأب الصّدع، حفاظا على وحدة الأمة، وجمع شمل المسلمين [الآيات 9- 10] .
وتأمر الآيات بالبعد عن السخرية والاستهزاء بالآخرين، فالإنسان إنسان بمخبره وإنسانيته لا بمظهره وتعاليه.
وهناك قيم حقيقية لمقادير الناس، هي حسن صلتهم بالله ورضى الله عنهم.
فقد يسخر الغني من الفقير، والقوي من الضعيف، وقد تسخر الجميلة من القبيحة، والشابة من العجوز، والمعتدلة من المشوّهة. ولكن هذه وأمثالها من قيم الأرض ليست المقياس. فميزان الله يرفع ويخفض بغير هذه الموازين، وربّ أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّه. وتحرّم الآيات كذلك اللمز والسخرية بالآخرين، والتنابز بالألقاب التي يكرهها أصحابها ويحسّون فيها مهانة وعيبا. فشتّان ما بين آداب الإيمان، وما بين الفسوق والعصيان، وظلم الآخرين [الآية 11] .
وتستمر الآيات فتنهى عن ظنّ السوء، وعن تتبّع عورات الناس حتّى يعيش الناس آمنين على بيوتهم وأسرارهم، وحتّى تصان حقوقهم(8/223)
وحرّيّاتهم، وتنهى عن الغيبة وتحذّر منها، وتبيّن أنّ الناس جميعا خلقوا من أصل واحد، ثم تفرعت بهم الشعوب والقبائل، والعلاقة بين الناس أساسها التعارف على الخير، وأكرم الناس عند الله أكثرهم تقوى وطاعة لأمره والتزاما بهديه [الآيات 12- 13] .
الإيمان قول وعمل
وفي ختام السورة نجد لوحة هادفة، ترسم معالم الايمان.
فالمؤمن الحق من آمن بالله ورسوله، ولم يتطرق الشك الى قلبه، وأتبع ذلك بالجهاد والعمل على نصرة الإسلام، وسار في طريق العقيدة السليمة والتزم بآدابها وهديها.
ونجد صورة نابية للأعراب الذين افتخروا بالإيمان، وتظاهروا به رياء وسمعة، وجاءوا في تيه وخيلاء يمنّون على النبي أنّهم دخلوا في الإسلام، وهي صورة كريهة فيها الرياء والسمعة والمنة، مع أن الله هو العليم بنفوسهم والبصير بخباياهم، وهو صاحب الفضل والمنّة عليهم إن كانوا صادقين.
إن المؤمنين الصادقين هم الذين آمنوا بالله ربّا، واختاروا الإسلام دينا، وصدّقوا بمحمد (ص) نبيّا ورسولا، وجمعوا بين صدق اليقين وأدب السلوك [الآيات 14- 18] .
وفي الحديث الشريف: «ليس الإيمان بالتمنّي ولكن ما وقر في القلب وصدق في العمل» .
الهدف الاجمالي للسورة
قال الفيروزآبادي: معظم مقصود سورة الحجرات ما يأتي:
«المحافظة على أمر الحق تعالى، ومراعاة حرمة الأكابر، والتّؤدة في الأمور، واجتناب التهوّر، والنجدة في إغاثة المظلوم، والاحتراز عن السخرية بالخلق والحذر عن التجسّس والغيبة وترك الفخر بالأحساب والأنساب، والتحاشي عن المنّة على الله بالطاعة» .
«وقد تكرّر خطاب المؤمنين في السورة خمس مرات، بقوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا والمخاطبون هم المؤمنون في الآيات [1 و 2 و 6 و 11 و 12] والمخاطب به أمر ونهي، وفي الآية [13] يا أَيُّهَا النَّاسُ والمخاطب به المؤمنون والكافرون حيث قال سبحانه: إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الآية 13] والنّاس كلّهم في ذلك شرع سواء» .(8/224)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحجرات» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «الحجرات» بعد سورة «المجادلة» ، ونزلت سورة «المجادلة» بعد سورة «المنافقون» ، ونزلت سورة «المنافقون» في غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة من الهجرة، فيكون نزول سورة «الحجرات» فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وتبلغ آياتها ثماني عشرة آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إرشاد المؤمنين إلى بعض الآداب في حق الله والرسول، إلى آداب أخرى ذكرت فيها مع هذه الآداب. وقد حصل من المؤمنين في صلح الحديبية أن اعترضوا على بعض ما جاء فيه، وأنهم لم يبادروا الى امتثال أمر النبي (ص) لهم أن يحلقوا أو ينحروا ليتحلّلوا من عمرتهم، فجاءت سورة الحجرات عقب سورة «الفتح» التي ذكر فيها ذلك الصلح إرشادا للمؤمنين إلى تلك الآداب، حتى لا يعودوا الى ما وقع منهم من الاعتراض على النبي (ص) ، ومن عدم المبادرة الى امتثال أمره.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(8/225)
أدب المؤمنين مع الله ورسوله الآيات [1- 5]
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) فذكر من أدب المؤمنين مع الله ورسوله ألّا يتقدموا عليهما بالرأي، وألّا يرفعوا أصواتهم فوق صوت الرسول (ص) ، وألّا يجهروا له بالخطاب كجهر بعضهم لبعض، وألّا ينادوه من وراء الحجرات كما ناداه بعض جفاة الأعراب: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) .
أدب المؤمنين في سماع الأخبار الآيات [6- 8]
ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) ، فذكر من أدب المؤمنين في سماع الأخبار أن يتثبّتوا في تصديق أخبار الفسّاق، فلا يسمعوا لكلّ ما يلقى إليهم كما سمعوا لما ألقي إليهم، في ذلك الصلح، ولو أن الرسول سمع إليهم في هذا وفي غيره من أمورهم، لوقعوا في العنت. ولكن الله حبّب إليهم الإيمان، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، فلم يجعلوا لهم رأيا مع رأيه فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) .
ترغيب المؤمنين في الصلح الآيات [9- 18]
ثم قال تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الآية 9] ، فرغّب المؤمنين في الصلح لئلّا يأبوه كما أبوه في الحديبية، وأمرهم أن يصلحوا بين كلّ طائفتين تقتتلان من المؤمنين، وأن يقاتلوا من يأبى منهما الصلح حتى يرضى به، فإذا رضي به وجب أن يصلح بينهما بالعدل، ثم نهاهم عمّا يوجب الخصام بينهم من سخرية بعضهم ببعض، ومن عيب بعضهم الآخر في غيبته، وهو اللّمز، ومن تسمية بعضهم بعضا بما يحطّ منه، وهو النّبز، ومن سوء ظنّ بعضهم ببعض، إلى غير هذا ممّا يوجب الخصام بينهم ثم ذكر، جلّ وعلا، أنه خلقهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا لا ليتناكروا ويتخاصموا، وأنّ أكرمهم(8/226)
عنده هو الذي يمتثل أوامره ويجتنب نواهيه، لا من يتعالى على غيره بنسب أو نحوه فيخاصمه ولا يصالحه.
ثم ختمت السورة بالكلام على الأعراب الذين يكتفون من الإسلام بالاسم، ولا يأخذون بشيء من آدابه، بل يمضون على ما كانوا عليه في جاهليتهم من الجفوة والتخاصم والتناكر، فأنكر، سبحانه، عليهم ما يدّعون من الإيمان، وذكر أنهم لم يحصل لهم إلا إسلام لا يتجاوز النطق باللسان، ثم أخذ السّياق في هذا الى أن ذكر أنهم يمنّون على النبي (ص) بإسلامهم، وأجاب عن هذا بأن الله سبحانه هو الذي يمنّ عليهم بهدايتهم للإيمان إن كانوا صادقين إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
.(8/227)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الحجرات» «1»
لا يخفى تآخي هاتين السورتين (الفتح والحجرات) مع ما قبلهما، لكونهما مدنيتين، ومشتملتين على أحكام. فتلك فيها قتال الكفّار، وهذه فيها قتال البغاة «2» . وتلك ختمت بالذين آمنوا، وهذه افتتحت بالذين آمنوا «3» وتلك تضمنت تشريفا له (ص) ، خصوصا مطلعها، وهذه أيضا في مطلعها أنواع من التشريف له (ص) «4» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.
(2) . قتال الكفّار في «الفتح» معروف، لأنها في فتح مكة، وقتال البغاة في «الحجرات» جاء في قوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [الآية 9] .
(3) . ختام الفتح: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) وافتتاح الحجرات: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
(4) . تشريفه (ص) في «الفتح» في قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [الآية 2] .
وتشريفه في مطلع الحجرات: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الآية الأولى] ، إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [الآية 3] ، إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) .(8/229)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الحجرات» «1»
1- إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ [الآية 4] .
نزلت في ناس من الأعراب منهم:
الأقرع بن حابس. أخرجه أحمد وغيره.
2- إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ [الآية 6] .
نزلت في الوليد بن عقبة.
أخرجه أحمد وغيره من حديث الحارث بن ضرار الخزاعي.
3- قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا [الآية 14] .
هم بنو أسد. أخرجه سعيد بن منصور عن سعيد بن جبير.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. [.....](8/231)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحجرات» «1»
1- قال تعالى: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) .
والقسط: العدل، والفعل أقسط، والهمزة للسلب، وهذا يعني: أن الفعل «قسط» بمعنى جار ظلم.
2- وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ [الآية 11] .
أقول: دلت كلمة قَوْمٌ في الآية على الرجال بدلالة قوله تعالى: وَلا نِساءٌ وهذا مثل قول زهير:
وما أدري ولست إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(8/233)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحجرات» «1»
قال تعالى: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ [الآية 2] أي: مخافة أن تحبط أعمالكم وقد يقال: «اسمك الحائط أن يميل» .
وقال إِنَّ أَكْرَمَكُمْ [الآية 13] بالكسر ابتداء ولم يحمل الكلام على لِتَعارَفُوا [الآية 13] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.(8/235)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحجرات» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الآية 1] ، والمراد به نهيهم أن يتقدّموا على رسول الله (ص) بقول أو فعل، لا أن يقدّموا غيرهم.
قلنا: «قدّم» هنا لازم بمعنى «تقدّم» ، كما في قولهم: بيّن وتبيّن، وفكّر وتفكّر، ووقّف وتوقّف، ومنه قول الشاعر:
إذا نحن سرنا سارت الناس خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا
أي توقفوا، وقيل معناه: لا تقدّموا فعلا قبل أمر رسول الله (ص) .
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ [الآية 2] بعد قوله سبحانه: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الآية 2] .
قلنا: فائدته تحريم الجهر في مخاطبته (ص) باسمه نحو قولهم يا محمد، ويا أحمد، فهو أمر لهم بتوقيره وتعظيمه (ص) في المخاطبة.
وأن يقولوا يا رسول الله، ويا نبي الله، ونحو ذلك، ونظيره قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور/ 63] .
فإن قيل: لم قال تعالى: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ [الآية 2] أي مخافة أن تحبط
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(8/237)
أعمالكم مع أن الأعمال إنّما تحبط بالكفر لا بغيره من المعاصي، ورفع الصوت في مجلس النبي (ص) ليس بكفر وقد روي أن الآية نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لمّا رفعا صوتيهما بين يدي رسول الله (ص) وأنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان جهوريّ الصّوت، فربما تأذّى رسول الله (ص) بصوته؟
قلنا: معناه لا تستخفّوا به، فإن الاستخفاف به ربّما أدى خطأه الى عمده، وعمده كفر يحبط العمل. وقيل حبوط العمل مجاز عن نقصان المنزلة وانحطاط المرتبة.
فإن قيل: ما وجه الارتباط والتعلق بين قوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ [الآية 7] وبين ما قبله؟
قلنا: معناه فاتركوا عبادة الجاهلية، فإن الله تعالى لم يترككم عليها، ولكن الله حبّب إليكم الإيمان. وقيل معناه فتثبّتوا في الأمور كما يليق بالإيمان، فإن الله حبّب إليكم الإيمان.
فإن قيل: إن كان الفسوق والعصيان بمعنى واحد، فما فائدة الجمع بينهما، وإن كان العصيان أعم من الفسوق فذكره مغن عن ذكر الفسوق لدخوله فيه فما فائدة الجمع بينهما؟
قلنا: قال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد بالفسوق هنا الكذب، وبالعصيان بقية المعاصي، وإنما أفرد الكذب بالذكر لأنه سبب نزول الآية.
فإن قيل: كيف يقال إن الإيمان والإسلام بمعنى واحد، والله سبحانه وتعالى يقول: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الآية 14] .
قلنا: المنفي هنا الإيمان بالقلب بدليل قوله تعالى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الآية 14] يعني لم تصدّقوا بقلوبكم وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الآية 14] أي استسلمنا وانقدنا خوف السيف ولا شكّ في الفرق بين الإيمان والإسلام بهذا التفسير، والذي يدّعي اتحادهما لا يريد به أنهما حيث استعملا كانا بمعنى واحد، بل يريد به أن أحد معاني الإيمان هو الإسلام.
فإن قيل: كيف يقال إن العمل ليس(8/238)
من الإيمان، والله تعالى يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا [الآية 15] ؟
قلنا: معناه إنما المؤمنون إيمانا كاملا، كما في قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر/ 28] ، وقوله (ص) «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» ، وقولهم:
الرجل من يصبر على الشدائد. ويردّ على هذا الجواب أن المنفي في أول الآية عن الإعراب نفس الإيمان الكامل، فلا يناسب أن يكون المثبت بعد ذلك الإيمان الكامل بل نفس الإيمان.(8/239)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحجرات» «1»
1- في قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) استعارة. وقد قرئ «لا تقدّموا» بفتح التاء والدال، والمعنيان واحد، والمراد بذلك لا تسبقوا أمر الله ورسوله بفعل ما لم يأمرا به ويندبا اليه. وقال أبو عبيدة: العرب تقول فلان تقدّم بين يدي الإمام أي تعجّل بالأمر والنهي دونه، وذلك مضادّ لما وصف الله به ملائكته، إذ يقول:
لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) [الأنبياء] . ومن قرأ تُقَدِّمُوا بضم التاء فإنما يريد به لا تقدّموا كلامكم بالحكم في الأمر قبل كلام الله سبحانه وكلام رسوله (ص) ، أي قبل الوحي النازل منه، وقبل أداء رسوله إليكم ما أوحي به وأمر بتبليغه.
2- وفي قوله سبحانه: وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الآية 12] ، استعارة ومبناها على أصل معروف في كلام العرب، وهو تسميتهم المغتاب بآكل لحوم الناس، حتى قال شاعرهم «2» :
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا وقال حسان بن ثابت في مرثية ابنة له «3» :
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . هو المقنّع الكندي.
(3) . المعروف أن هذا البيت من قصيدة له في مدح عائشة.(8/240)
حصان رزان لا تزنّ بزنية «1» وتصبح غرثى من لحوم الغوافل أي تمسك عن غيبة النساء الغافلات عن غيبتها، فتكون بإمساكها عن الغيبة التي يسمى فاعلها آكل لحم صاحبه، كأنها غرثى أي جائعة لم تطعم شيئا، لأنّ الغيبة، لمّا سمّيت أكلا وقرما «2» حسن أن يسمّى تركها جوعا وغرثا.
ومعنى فَكَرِهْتُمُوهُ أي عافته أنفسكم، فكرهتموه، وهذا محذوف مقدّر في الكلام دلالة. وقال بعضهم تلخيص هذا المعنى أن من دعي إلى أكل لحم أخيه ميتا فعافته نفسه وكرهه من جهة طبعه، فإنه ينبغي له، إذا دعي إلى غيبة أخيه، أن تعاف ذلك نفسه من جهة عقله، لأنه يجب أن يكره هذا عقلا كما كره الأوّل طبعا لأنّ داعي العقل أحقّ بالاتّباع من داعي الطبع، إذ كان داعي الطبع أعمى جاهلا وداعي العقل بصيرا عالما، فكلاهما في صفة الناصح، إلّا أنّ نصح العقل سليم مأمون، ونصح الطبع ظنين مدخول.
__________
(1) . وردت في بعض الأصول لفظة «بريبة» محل بزينة.
(2) . القرم: شدّة الشّهوة إلى اللحم. ابن منظور: اللسان، مادة قرم. [وفي الأصل: من قرم: أكل أكلا ضعيفا، وذلك في أوّل ما يأكل] . وهذا الشرح للمحقّق، وهو ليس دقيقا.(8/241)
سورة ق(8/243)
المبحث الأول أهداف سورة «ق» «1»
سورة «ق» سورة مكية آياتها 45 آية، نزلت بعد سورة «المرسلات» .
سورة الخطبة
كان (ص) يخطب خطبة الجمعة بسورة «ق» حتى قالت النساء: ما حفظنا سورة «ق» إلّا من خطبة النبي (ص) بها وهي سورة تحمل أصول التوحيد وتلفت النظر الى دلائل القدرة في خلق السماء والأرض وآثار الله الملموسة في إنزال المطر وإنبات النبات، وترشد الى سنن الله في إهلاك الظالمين، واستحقاق الوعيد للمكذّبين، وتجول بالإنسان داخل نفسه، وتستعرض مشاهد القيامة وجزاء المتّقين في الجنّة، وجزاء العصاة في النار.
وقد سلكت السورة في عرض معانيها أسلوبا رائعا أخّاذا، له سيطرته على النفس والحسّ، وطريقته الفذّة في هزّ أوتار القلوب.
جاء في «ظلال القرآن»
«سورة ق سورة رهيبة، شديدة الوقع بحقائقها، شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري وصورها وظلالها وجرس فواصلها، تأخذ على النفس أقطارها، وتلاحقها في خطراتها وحركاتها، وتتعقّبها في سرّها وجهرها وفي باطنها وظاهرها تتعقّبها برقابة الله التي
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(8/245)
لا تدعها لحظة واحدة من المولد إلى الممات، إلى البعث، إلى الحشر، إلى الحساب وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة، تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقا كاملا شاملا، فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبدا، ولا تغفل من أمره دقيقا ولا جليلا، ولا تفارقه كثيرا ولا قليلا. كلّ نفس معدود، وكلّ هاجسة معلومة، وكلّ لفظ مكتوب، وكلّ حركة محسوبة.
والرقابة الكاملة الرهيبة مضروبة في وساوس القلب، كما هي مضروبة على حركة الجوارح. ولا حجاب ولا ستار دون هذه الرقابة النافذة، المطّلعة على السرّ والنّجوى اطّلاعها على العمل والحركة، في كلّ وقت، وفي كلّ حال.
وكلّ هذه حقائق معلومة، ولكنها تعرض في الأسلوب الذي يبديها وكأنها جديدة، تروع الحس روعة المفاجأة، وتهزّ النفس هزا، وترجّها رجّا وتثير فيها رعشة الخوف، وروعة الإعجاب، ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر المهول الرهيب.
وذلك كلّه الى صور الحياة، وصور الموت، وصور البلى، وصور البعث وصور الحشر، وإلى إرهاص الساعة في النفس، وتوقّعها في الحسّ، وإلى الحقائق الكونية المتجلّية في السماء والأرض، وفي الماء والنبات وفي التمر والطلع» : تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) .
فواتح السور
تبدأ سورة «ق» بهذا الحرف المنفرد: «ق» .
وقد بدأت بعض سور القرآن بهذه الأحرف المقطّعة، فمنها ما بدأ بحرف واحد مثل هذه السورة ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) [ص] ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) [القلم] .
ومنها ما بدأ بحرفين مثل طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) [طه] ومثل يس، حم.
ومنها ما بدأ بثلاثة أحرف مثل: الر، الم، طسم.
ومنها ما بدأ بأربعة أحرف مثل:
المص، المر.
ومنها ما بدأ بخمسة أحرف مثل:
كهيعص، حم عسق.(8/246)
معاني هذه الفواتح:
هناك رأيان في معنى هذه الفواتح:
الرأي الأول: أنّها ممّا استأثر الله تعالى بعلمه، ولذلك نجد في تفسير الجلالين، وهو تفسير مختصر، (ق) الله أعلم بمراده به.
الرأي الثاني: أنّ لها معنى، وقد ذهبوا في معناها مذاهب شتى:
1. فمنهم من قال: هي أسماء للسور التي بدأت بها.
2. ومنهم من قال: هي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته.
روي عن الضحاك في معنى الر: أنا الله أرفع.
3. ومنهم من قال: هي قسم.
4. ومنهم من قال: هي حروف للتنبيه، كالجرس الذي يقرع فينبّه التلاميذ لدخول المدرسة.
5. ومنهم من قال: هي حروف للتحدّي وبيان إعجاز القرآن.
6. وقيل إن هذه الأحرف قد اشتملت على المعاني جميعها، التي ذكرها العلماء في تفسيرها. فهي أسماء للسور، وهي إشارة الى أسماء الله تعالى وصفاته، وهي للقسم، وهي أدوات للتنبيه، وهي حروف للتحدّي والإعجاز، وهي أيضا مما استأثر الله بعلمه.
معاني سورة «ق»
هذه سورة مكية عنيت بسوق الحجج والأدلة على قدرة الله سبحانه، على تأكيد البعث والجزاء.
وقد بدأت السورة بمواجهة المشركين، وعرض أفكارهم، وعجبهم أن يكون الرسول بشرا مثلهم كما أنهم أنكروا البعث والحشر بعد الموت، واستدلّوا بدليل ساذج، هو تفسخ الأجسام وصيرورتها ترابا.
والقرآن يوضح قدرة الله تعالى وعلمه الشامل بما تأكله الأرض من أجسامهم، فهم لا يذهبون ضياعا إذا ماتوا وكانوا ترابا أما إعادة الحياة الى هذا التراب فقد حدثت من قبل، وهي تحدث من حولهم في عمليات الإحياء المتجددة التي لا تنتهي [الآيات 1- 5] .
ويلفت القرآن نظر الناس الى آثار قدرة الله سبحانه، فالسماء سقف مرفوع والأرض بساط تحفظه(8/247)
الجبال، وتجري فيه الأنهار، وينمو فيه صنوف النبات والمطر ينزل فيبعث البركة والنماء، وينبت الحب والنخيل والأعناب، ويبعث الحياة في الزرع والأرض وبمثل هذه القدرة العالية يحيي الله الموتى ويبعثهم من قبورهم، بعد جمع ما تفرّق من أجزائهم الأصلية [الآيات 6- 11] . ويلفت القرآن النظر الى عبرة التاريخ، ويذكّر الناس بما أصاب قوم نوح من الغرق، وما أصاب المكذّبين من الوعيد والهلاك، ومنهم أصحاب الرّسّ (والرّسّ هي البئر) وأصحاب الرّسّ بقية من ثمود، كانت لهم بئر فكذبوا نبيّهم ودسّوه في البئر وأصحاب الأيكة: وهم قوم شعيب (ع) ، والأيكة: الغيضة، وهي الشجر الملتفّ الكثيف.
وقوم تبّع، وتبّع لقب لملوك حمير باليمن.
إنّ هؤلاء الأقوام أنكروا الرسالة الإلهية، وكذّبوا رسل الله إليهم، فاستحقّوا عذاب السماء، وهذا العذاب يصيب كلّ مكذّب بالله وأنبيائه [الآيات 12- 15] .
رقابة الله جلّ وعلا
خلق الله الإنسان بيده، ونفخ فيه من روحه، وصانع الآلة أدرى بتركيبها وأسرارها، فهو سبحانه عليم بخفايا الصدور، مطّلع على هواجس النفوس، قريب من عباده لا يغيب عنهم أينما كانوا، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة وهناك ملائكة تسجّل أعمال العباد وتفوض حقيقة المراد منها الى الله تعالى. ولقد عرفنا نحن البشر وسائل للتسجيل، تسجل الحركة والنبرة، كالأشرطة الناطقة وأشرطة السينما والتلفزيون، فليس ببعيد على الله أن يجعل من ملائكته شهود عيان، يحصون على الإنسان أقواله وأفعاله، بالحق والعدل: كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) [الانفطار] .
مشاهد القيامة
تحدّثت السورة عن البعث والحشر، ولفت الأنظار إلى آثار الله سبحانه في الآفاق، وإلى سننه جلّ وعلا في التاريخ، والى عجيب صنعه في حنايا البشرية. ومن إعجاز القرآن: أنه ينتقل بالمشاهد من الماضي إلى الحاضر، ويلوّن في أسلوب العرض، ويعرّض(8/248)
النفس الانسانية لمختلف المؤثّرات، رغبة الهداية والإصلاح. قال تعالى: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) [طه] .
وقد عرضت سورة «ق» لمشاهد القيامة، وفي مقدّمتها حضور سكرة الموت فجأة، بلا مقدّمات، والموت طالب لا يملّ الطّلب، ولا يبطئ الخطى، ولا يخلف الميعاد: ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) أي تهرب وتفزع، والآن تعلم أنه حق لا مهرب منه ولا مفرّ. وتنتقل الآيات من سكرة الموت الى وهلة الحشر وهول الحساب، وهي مشاهد تزلزل الكبرياء الجامح، وتحارب الغرور والطغيان، وتدعو للتّقى والإيمان. فملك الموت ينفخ في الصور، فيقوم الناس من القبور ويهرع الجميع الى الحساب، وتأتي كلّ نفس ومعها سائق يسوقها، وشاهد يشهد عليها، وقد يكونان هما الملكين الكاتبين الحافظين لها في الدنيا، وقد يكونان غيرهما والأول أرجح. عندئذ يتيقّن المنكر، ويرى البعث والحشر والجزاء مشاهد أمامه ينظر إليها ببصر حديد نافذ، لا يحجبه حجاب من الغفلة أو التهاون. [الآيات 19- 22] .
ويشتدّ غضب الجبّار على العصاة المعاندين، فيأمر الله الملكين السائق والشهيد أن يلقيا في النار كلّ كفّار عنيد، منّاع للخير متجاوز للحدود، شاكّ في الدّين، قد جعل مع الله إلها آخر، فاستحقّ العذاب الشديد.
ويشتدّ الخصام بين الشيطان وأتباعه من العصاة، يحاول كلّ أن يتنصّل من تبعة جرائمه، وينتهي الحوار بين المجرمين بظهور جهنّم تتلمّظ غيظا على من عصا الله، ويلقى فيها العصاة، ولكنها تزداد نهما وشوقا لعقاب المخالفين، وتقول في كظّة «1» الأكول النّهم، كما ورد في التنزيل: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) .
وعلى الضفّة الأخرى من هذا الهول، مشهد آخر وديع أليف رضيّ جميل. إنه مشهد الجنّة تقرب من المتّقين، حتّى تتراءى لهم من قريب، مع الترحيب والتكريم [الآيات 31- 35] .
__________
(1) . الكظّة: البطنة.(8/249)
ختام السورة
في الآيات الأخيرة من السورة [38- 45] ، نجد ختاما مؤكّدا للمعاني السابقة، متدثّرا إيقاعا سريعا، فيه لمسة التاريخ ومصارع الغابرين، وفيه لمسة المكمون المفتوح، وفيه لمسة البعث والحشر في مشهد جديد، ومع هذه اللمسات التوجيه الموحي للمشاعر والقلوب. فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وطلوع الشمس وغروبها، ومشهد الليل الذي يعقب الغروب، كلّها ظواهر مرتبطة بالسموات والأرض والقرآن يرجع إليها التسبيح والحمد والسجود، ويضم إليها الصبر والأمل في الله القويّ القادر، فعليك يا محمّد أن تبلّغ القرآن للناس، علّهم يتّعظون أو يخافون: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) وفي ذلك تسلية للرسول (ص) ، وتثبيت لفؤاده، وتهديد ووعيد للعصاة والكافرين.
أهداف السورة إجمالا
قال الفيروزآبادي: مقصود سورة «ق» :
إثبات النبوة للرسول (ص) وبيان حجّة التوحيد والإخبار عن إهلاك القرون الماضية وعلم الحق تعالى بضمائر الخلق وأسرارهم وذكر الملائكة الموكلين بالخلق المشرفين على أقوالهم وذكر بعث القيامة، وذلّ العصاة يومئذ ومناظرة المنكرين بعضهم بعضا في ذلك اليوم وتغيّظ الجحيم على أهله، وتشرّف الجنّة بأهلها والخبر عن تخليق السماء والأرض، وذكر نداء إسرافيل (ع) بنفخه الصور، وتكليف الرسول (ص) أن يعظ الخلق بالقرآن المجيد.(8/250)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «ق» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «ق» بعد سورة المرسلات، ونزلت سورة المرسلات بعد تسع آيات من سورة النجم، ونزلت سورة النجم بعد الهجرة الأولى للحبشة، وكانت هذه الهجرة في السنة السابعة من البعثة فيكون نزول سورة «ق» في ذلك التاريخ أيضا، وتكون من السور التي نزلت فيما بين الهجرة الى الحبشة والإسراء. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لابتدائها بالقسم به، وتبلغ آياتها خمسا وأربعين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إنذار المشركين بعذاب الدنيا والآخرة، وإثبات ذلك بالدليل مرّة وبالترهيب أخرى وهو يعود بهذا إلى سياق السور السابقة لسور «محمد» و «الفتح» و «الحجرات» . وقد ذكرت هذه السور الثلاث في مواضعها للمناسبات السابقة فلما انتهى منها عاد السياق الى ما كان عليه قبلها، وللفصل بينها، بذلك، فائدته في تنويع الأسلوب، وتجديد نشاط السامع.
إثبات الإنذار بالعذاب الآيات [1- 38]
قال الله تعالى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) فأقسم على أن النبي (ص) بعث لينذرهم
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(8/251)
بعذابه، وذكر أنهم عجبوا أن يجيئهم منذر منهم، وأن يبعثوا لذلك بعد أن يصيروا ترابا وتتفرّق أجزاؤهم، وأجاب سبحانه عن هذا بأنه يعلم ما تفرّق من أجزائهم في الأرض فيقدر على جمعها، وكذلك يعلم أعمالهم، ويحفظها في كتاب عنده ليحاسبهم عليها، ثم أخذ السياق بعد هذا في ذكر آيات الله جلّ جلاله في السماء والأرض، ليعلموا أن من يقدر عليها يقدر على بعثهم وعذابهم وانتقل منه الى ترهيبهم بذكر ما حصل لمن كذّب قبلهم من قوم نوح وأصحاب الرّسّ وغيرهم. ثم عاد السياق الى أخذهم بالدليل، فذكر أنه، سبحانه، لم يعي بالخلق الأول حتى يعيا عن إعادته وبيّن الخلق الأول بأن الله جلّت قدرته هو الذي خلق الإنسان، ويعلم ما توسوس به نفسه، فلم يتركه سدّى بل وكّل به ملكين يحفظان كل ما يلفظ به فإذا مات وبعث وجد أقواله وأفعاله محفوظة في كتابهما، وألقي في جهنّم على ما كان منه من كفر ومنع للخير وغيرهما ثم ذكر السياق بعد هذا ما أعده سبحانه لمن خشيه وآمن به، جمعا بين الترهيب والترغيب ثم ذكّرهم في إطار الترهيب، بمن أهلكه الله قبلهم ممن كان أشدّ منهم بطشا، ليعلموا أنه تعالى قادر على إهلاكهم وبعثهم بعد موتهم والى ذكر خلقه السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام من غير أن يمسّه لغوب، ليستدلوا به على قدرته على ذلك أيضا ثم ختمت السورة بأمر النبي (ص) بالصبر على تكذيبهم له في ذلك، وأن يستعين على هذا بالتسبيح بحمد ربّه قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، ومن الليل وأدبار السجود ثم أمره أن يستمع يوم ينادي المنادي بما يكذّبونه فيه من بعثهم، إيذانا بأنه قريب منهم، ومضى السياق في هذا الى قوله تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) .(8/252)
المبحث الثالث مكنونات سورة «ق» «1»
1- يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ [الآية 41] .
هو إسرافيل (ع) . أخرجه ابن عساكر عن يزيد بن جابر.
2- مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) .
قال قتادة: كنّا نحدّث: أنه ينادي من بيت المقدس من الصّخرة. أخرجه ابن أبي حاتم «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . والطبري في «تفسيره» 26/ 114.(8/253)
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «ق» «1»
1- قال تعالى: فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) .
قوله تعالى: مَرِيجٍ (5) أي:
مضطرب، يقال: مرج الخاتم في إصبعه وجرج.
2- وقال تعالى: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) .
أقول: «النخل» : اسم جمع، يكون جمعا مؤنّثا، مراعاة لمعناه، كما في هذه الآية بدلالة «باسقات» .
وقد يكون مفردا مؤنثا، كما في قوله تعالى:
وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) [الرحمن] .
وقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) [الحاقة] .
كما يكون مفردا مذكّرا في قوله سبحانه:
كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) [القمر] .
أقول: وليس لنا أن نقول شيئا في ترجّح هذه الكلمة بين الإفراد تأنيثا وتذكيرا، وبين الجمع، إلا اعتبار الناحية التاريخية، [التي أباحت اللغة فيها، مثل هذا الترجّح] .
3- وقال تعالى: وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) .
أي: هذا شيء لديّ، وفي ملكي مهيّأ.
4- وقال تعالى:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....](8/255)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) .
وقوله تعالى: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي:
أصغى.
أقول: وإلقاء السمع، بمعنى الإصغاء، لا نعرفه في العربية المعاصرة، فقد نقول:
أرهف السمع مثلا.(8/256)
المبحث الخامس
المعاني اللغوية في سورة «ق» «1» قال تعالى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) قسم على قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [الآية 4] .
وقال سبحانه: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) لم يذكر «انه رجع» وذلك، والله أعلم، لأنه كان على جواب كأنه قيل لهم: إنّكم ترجعون.
فقالوا: «أإذا كنا ترابا ذلك رجع بعيد» .
وقال تعالى: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ [الآية 15] تقول: لبست عليه لبسا.
وقال سبحانه: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) بذكر أحدهما والاستغناء عن الآخر. فلم يقل: «عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد» . ومثل ذلك في قوله جل شأنه فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً [النساء/ 4] ، وقوله سبحانه يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر/ 67] بالاستغناء بالواحد عن الجمع.
وقال سبحانه: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) أي: أملك به، وأقرب إليه في المقدرة عليه.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.(8/257)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «ق» «1»
إن قيل: أين جواب القسم في قوله تعالى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) ؟
قلنا: فيه وجوه: أحدها أنه مضمر تقديره: إنهم مبعوثون بعد الموت.
الثاني: أنّه قوله تعالى: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [الآية 4] واللام محذوفة لطول الكلام والتقدير: لقد علمنا كما في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) [الشمس] .
الثالث: أنه قوله تعالى: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ [الآية 18] .
فإن قيل: لم قال تعالى: وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وقد أراد به الحبّ الحصيد، فأضاف الشيء إلى نفسه والإضافة تقتضي المغايرة بين المضاف والمضاف إليه؟
قلنا: معناه وحبّ الزرع الحصيد، أو النبات الحصيد. الثاني: أن إضافة الشيء الى نفسه جائزة عند اختلاف اللفظين، كما في قوله تعالى حَقُّ الْيَقِينِ (95) [الواقعة] . وحَبْلِ الْوَرِيدِ (16) ، ووَعْدَ الصِّدْقِ [الأحقاف/ 16] .
فإن قيل: لم قال تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ولم يقل قعيدان، وهو وصف للملكين اللذين سبق ذكرهما بقوله تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ [الآية 17] ؟
قلنا: معناه عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، إلا أنه حذف أحدهما لدلالة المذكور عليه، كما قال الشاعر:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(8/259)
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
وقال آخر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل الطويّ رماني
الثاني: أنّ فعيلا يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، قال الله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) [التحريم] . وقيل إنّما لم يقل قعيدان، رعاية لفواصل السورة.
فإن قيل: لم قال تعالى: أَلْقِيا [الآية 24] والخطاب لواحد، وهو مالك خازن النار؟
قلنا: فيه وجوه: أحدها: ما قاله المبرّد أن تثنية الفاعل أقيمت مقام تثنية الفعل للتأكيد باتحادهما حكما، كأنه قال ألق ألق، ونظيره قول امرئ القيس:
قفا نبك: أي قف قف. الثاني: أن العرب كثيرا ما يرافق الرجل منهم اثنان، فكثر على ألسنتهم خطاب الاثنين فقالوا: خليليّ وصاحبيّ، وقفا، واسمدا، وعوجا ونحو ذلك قال الفراء: سمعت ذلك من العرب كثيرا، قال وأنشدني بعضهم:
فقلت لصاحبي لا تحبسانا ... بنزع أصوله واجتزّ شيحا
فقال لا تحبسانا والخطاب لواحد، بدليل قوله لصاحبي قال: وأنشدني أبو ثور:
فإن تزجراني يا ابن عفّان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضا ممنّعا
وقال امرؤ القيس:
خليلىّ مرّا بي على أمّ جندب ... نقضّي لبانات الفؤاد المعذّب
ثم قال:
ألم تر أني كلّما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب
الثالث: أنه أمر للملكين، اللذين سبق ذكرهما، بقوله تعالى: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) .
فإن قيل: لم قال تعالى: غَيْرَ بَعِيدٍ (31) ولم يقل غير بعيدة، وهو وصف للجنة؟
قلنا: لأنه على زنة المصادر كالزّبير والصّليل، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكّر والمؤنث، أو على حذف الموصوف: أي مكانا غير بعيد،(8/260)
وكلا الجوابين للزمخشري، رحمه الله تعالى.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: غَيْرَ بَعِيدٍ (31) بعد قوله سبحانه: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ [الآية 31] بمعنى قربت؟
قلنا: فائدته التأكيد، كقولهم: هو قريب غير بعيد، وعزيز غير ذليل.
فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [الآية 37] وكل إنسان له قلب، بل كل حيوان؟
قلنا: المراد بالقلب هنا العقل، كذا قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
قال ابن قتيبة: لمّا كان القلب موضعا للعقل كنّي به عنه. الثاني: أنّ المراد لمن كان له قلب واع لأن من لا يعي قلبه، فكأنه لا قلب له ويؤيد ذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها [الأعراف/ 179] .(8/261)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «ق» «1»
قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) . أراد سبحانه أنه يعلم غيب الإنسان ووساوس إضماره، ونجيّ أسراره. فكأنه، باستبطانه ذلك منه، أقرب إليه من وريده. لأن العالم بخفايا قلبه، أقرب إليه من عروقه وعصبه.
وليس القرب هاهنا من جهة المسافة والمساحة، ولكن من جهة العلم والإحاطة.
وفي قوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) استعارة. والمراد بسكرة الموت هاهنا:
الكرب الذي يتغشّى المحتضر عند الموت، فيفقد له تمييزه، ويفارق معه معقوله. فشبّه تعالى ذلك بالسّكرة من الشراب، إلا أنّ هذه السّكرة مؤلمة.
وقوله تعالى: بِالْحَقِّ يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون جاءت بالحقّ من أمر الآخرة، حتى عرفه الإنسان اضطرارا، ورآه جهارا. والآخر أن يكون المراد بِالْحَقِّ هاهنا أي بالموت، الذي هو الحقّ.
وفي قوله سبحانه: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) استعارة، والمراد بها ما يراه الإنسان عند زوال التكليف عنه، من أعلام السّاعة، وأشراط القيامة، فتزول عنه اعتراضات الشكوك، ومشتبهات الأمور، يصدّق بما كذّب، ويقرّ بما جحد، ويكون كأنّه قد نفذ
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(8/263)
بصره بعد وقوف، وأحدّ بعد كلال ونبوّ. فهذا معنى قوله سبحانه: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) .
وفي قوله تعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) استعارة:
لأن الخطاب للنار والجواب منها، في الحقيقة لا يصحان. وإنما المراد- والله أعلم- أنها في ما ظهر من امتلائها، وبان من اغتصاصها بأهلها، بمنزلة الناطقة بأنه لا مزيد فيها، ولا سعة عندها. وذلك كقول الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلا رويدا قد ملأت بطني
ولم يكن هناك قول من الحوض على الحقيقة، ولكن المعنى أن ما ظهر من امتلائه في تلك الحال، جار مجرى القول منه فأقام تعالى الأمر المدرك بالعين، مقام القول المسموع بالأذن.
وقيل: المعنى أنّا نقول لخزنة جهنّم هذا القول، ويكون الجواب منهم على حدّ الخطاب. ويكون ذلك من قبيل:
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف/ 82] بإسقاط المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.
وذلك كقولهم: يا خيل الله اركبي.
والمراد يا رجال الله اركبي.
وعلى القول الأول، يكون مخرج هذا القول لجهنّم على طريق التقرير، لاستخراج الجواب بظاهر الحال، لا على طريق الاستفهام والاستعلام. إذ كان الله سبحانه قد علم امتلاءها قبل أن يظهر ذلك فيها. وإنما قال سبحانه هذا الكلام ليعلم الخلائق صحّة وعده، إذ يقول تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) [هود] . والوجه في قوله تعالى في الحكاية عن جهنم:
هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) بمعنى لا من مزيد فيّ. وليس ذلك على طريق طلب الزيادة، وهذا معروف في الكلام.
ومثله قوله (ص) : «وهل ترك عقيل لنا من دار؟» «1» ، أي ما ترك لنا دارا.
وفي قوله سبحانه وتعالى:
__________
(1) . قاله عليه الصلاة والسلام حين فتح مكة. فقد مضى الزبير بن العوام برايته حتّى ركّزها عند قبة رسول الله، وكان معه أم سلمة وميمونة رضي الله عنهما، وقيل: يا رسول الله! ألا تنزل منزلك من الشعب؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل منزلا؟ وكان عقيل بن أبي طالب قد باع منزل رسول الله (ص) ومنزل إخوته. والرجال والنساء بمكّة.
فقيل: يا رسول الله! فانزل في بعض بيوت مكة في غير منازلك، فقال: لا أدخل البيوت! فلم يزل مضطربا بالحجون [وهو جبل بمكّة] لم يدخل بيتا، وكان يأتي المسجد من الحجون لكلّ صلاة. انظر الخبر في «إمتاع الأسماع» للمقريزي المؤرخ، ج 1 ص 381.(8/264)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) استعارة مضى نظير لها في ما تقدّم. والمعنى أنه بالغ في الإصغاء الى الذّكرى، وأشهدها قلبه فكان كالملقي إليها سمعه، دنوّا من سماعها، وميلا الى قائلها.
والمراد بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [الآية 37] أي عقل ولبّ. ويعبّر عنهما بالقلب، لأنهما يكونان بالقلب. أو يكون المعنى: لمن كان به قلب ينتفع به.
لأنّ من القلوب مالا ينتفع به، إذا كان مائلا إلى الغيّ، ومنصرفا عن الرّشد.(8/265)
الفهرس
سورة «غافر» المبحث الأول أهداف سورة «غافر» 3 روح السورة 3 موضوعات السورة 4 الفصل الأول: صفات الله 4 الفصل الثاني: رجل مؤمن يجاهد بالكلمة 5 الفصل الثالث: الترغيب والترهيب 6 الفصل الرابع: نهاية الظالمين 7 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «غافر» 9 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 9 الغرض منها وترتيبها 9 التمهيد بالترهيب والترغيب 9 الأمر بإخلاص العبادة 10 ختم السورة بالترهيب والترغيب 10(8/267)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «غافر» 13 المبحث الرابع مكنونات سورة «غافر» 15 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «غافر» 17 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «غافر» 19 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «غافر» 23 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «غافر» 27
سورة «فصلت»
المبحث الأول أهداف سورة «فصّلت» 31 روح السورة 31 موضوعا السورة 32 الموضوع الأول 32 الموضوع الثاني 32 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «فصّلت» 35 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 35(8/268)
الغرض منها وترتيبها 35 بيان الغرض من نزول القرآن 35 شرف الغرض الذي تدعو اليه 36 المبحث الثالث مكنونات سورة «فصّلت» 39 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «فصّلت» 41 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «فصّلت» 43 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «فصّلت» 47 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «فصّلت» 49
سورة «الشورى»
المبحث الأول أهداف سورة «الشورى» 55 روح السورة 55 موضوع السورة 56 الفصل الأول: وحدة أهداف الرسالات 56 الفصل الثاني: صفات الجماعة المسلمة 58 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الشورى» 61(8/269)
تاريخ نزولها ووجه تسميتها 61 الغرض منها وترتيبها 61 اتفاق الرّسل على شرع الإسلام 61 المبحث الثالث مكنونات سورة «الشورى» 65 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الشورى» 67 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الشورى» 69 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الشورى» 71 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الشورى» 75
سورة «الزخرف»
المبحث الأول أهداف سورة «الزخرف» 79 أفكار السورة 79 فصول السورة 80 1- شبهات الكافرين 80 2- مناقشة ومحاجة 81 3- من أساطير المشركين 82(8/270)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الزخرف» 85 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 85 الغرض منها وترتيبها 85 التمهيد لتنزيه الله سبحانه عن الأولاد 85 إبطال بنوة الملائكة 86 إبطال بنوة عيسى 87 المبحث الثالث مكنونات سورة «الزخرف» 89 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الزخرف» 91 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الزخرف» 93 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الزخرف» 97 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الزخرف» 101
سورة «الدخان»
المبحث الأول أهداف سورة «الدخان» 105 أفكار السورة 105 فضل السورة 105(8/271)
سياق السورة 106 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الدخان» 109 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 109 الغرض منها وترتيبها 109 إنزال يوم العذاب 109 المبحث الثالث مكنونات سورة «الدخان» 111 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الدخان» 113 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الدخان» 115 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الدخان» 117 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الدخان» 119
سورة «الجاثية»
المبحث الأول أهداف سورة «الجاثية» 123 الغرض من السورة 123 سمات السورة 124 منهج السورة 124(8/272)
درسان في السورة 125 شبهات الكفر وأدلة الإيمان 125 عناد الكافرين وعقابهم يوم الدين 126 مشاهد القيامة 127 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الجاثية» 129 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 129 الغرض منها وترتيبها 129 إثبات وجود الله تعالى 129 الرد على الدهرية 130 المبحث الثالث لغة التنزيل في سورة «الجاثية» 133 المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «الجاثية» 135 المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «الجاثية» 137 المبحث السادس المعاني المجازية في سورة «الجاثية» 139
سورة «الأحقاف»
المبحث الأول أهداف سورة «الأحقاف» 143 سورة الإيمان والتوحيد 143(8/273)
أربعة مقاطع 144 1- نقاش المشركين 144 2- الفطرة السليمة والفطرة السقيمة 145 3- قصة عاد 147 4- إيمان الجن 149 مقصود السورة اجمالا 150 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأحقاف» 151 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 151 الغرض منها وترتيبها 151 إنذار الكفار بالعذاب 151 المبحث الثالث مكنونات سورة «الأحقاف» 155 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الأحقاف» 161 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الأحقاف» 163 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الأحقاف» 165(8/274)
سورة «محمد» (ص)
المبحث الأول أهداف سورة «محمد» (ص) 169 1- التحريض على قتال المشركين 169 2- خصال المنافقين 171 3- حديث عن المشركين والمؤمنين 173 مقصود السورة اجمالا 174 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «محمد» (ص) 175 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 175 الغرض منها وترتيبها 175 التحريض على القتال 175 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «محمد» (ص) 179 المبحث الرابع مكنونات سورة «محمد» (ص) 181 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «محمد» (ص) 183 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «محمد» (ص) 185 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «محمد» (ص) 187(8/275)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «محمد» (ص) 189
سورة «الفتح»
المبحث الأول أهداف سورة «الفتح» 193 صلح الحديبية 193 بيعة الرضوان 194 شروط الصلح 195 الأحداث وسورة «الفتح» 196 الله يبارك بيعة الرضوان 196 ظهور الإسلام 197 وصف الصحابة 198 مقاصد السورة الاجمالية 198 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الفتح» 201 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 201 الغرض منها وترتيبها 201 التنويه بصلح الحديبية 201 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الفتح» 205 المبحث الرابع مكنونات سورة «الفتح» 207(8/276)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الفتح» 209 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الفتح» 211 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الفتح» 213 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الفتح» 217
سورة «الحجرات»
المبحث الأول أهداف سورة «الحجرات» 221 الآداب العامة 221 منهج الحياة 221 معاني السورة 222 الإيمان قول وعمل 224 الهدف الاجمالي للسورة 224 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحجرات» 22 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 225 الغرض منها وترتيبها 225 أدب المؤمنين مع الله ورسوله 226 أدب المؤمنين في سماع الأخبار 226 ترغيب المؤمنين في الصلح 226(8/277)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «ص» 229 المبحث الرابع مكنونات سورة «الحجرات» 231 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحجرات» 233 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحجرات» 235 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحجرات» 237 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحجرات» 240
سورة «ق»
المبحث الأول أهداف سورة «ق» 245 سورة الخطبة 245 جاء في «ظلال القرآن» 245 فواتح السور 246 معاني سورة «ق» 247 رقابة الله جلّ وعلا 248 مشاهد القيامة 248 ختام السورة 250(8/278)
أهداف السورة إجمالا 250 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «ق» 251 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 251 الغرض منها وترتيبها 251 إثبات الإنذار بالعذاب 251 المبحث الثالث مكنونات سورة «ق» 253 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «ق» 255 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «ق» 257 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «ق» 259 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «ق» 263(8/279)
الجزء التاسع
سورة الذّاريات (51)(9/1)
المبحث الأول أهداف سورة «الذّاريات» «1»
سورة مكّيّة وآياتها ستّون آية، نزلت بعد سورة الأحقاف.
معاني السورة
بدأت السورة بهذا القسم:
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وهي كلمات غير مطروقة وغير متداولة، وقد سئل الإمام علي كرّم الله وجهه، عن معنى قوله تعالى:
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فقال رضي الله عنه: هي الريح، فسئل عن فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فقال: هي السحاب، فسئل عن فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فقال: هي السفن، فسئل عن فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) فقال: هي الملائكة.
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) هي الريح التي تذرو التراب وغيره، فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) أي السحب الحاملة للمطر، والوقر الحمل الثقيل، فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) أي السفن الجارية في البحر جريا سهلا، فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) أي الملائكة التي تقسم وتوزع أمور الله من الأمطار والأرزاق وغيرها.
لقد أقسم الله، جلّ جلاله، بالريح وبالسحب وبالسفن وبالملائكة، وفي هذا القسم ما يوحي بأن الرزق بيد الله، فهو الذي يسوق السحاب، وهو الذي يسخر الريح للسفن، وهو الذي جعل الملائكة أصنافا تقسم الأمور، فالخلق
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(9/3)
البديع المنظم وراءه قوة عليا مبدعة، هي قوّته سبحانه الذي وعد الناس أن يجازيهم بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوءا، ووعده واقع لا محالة.
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) الحبك بضمتين جمع حبيكة وهي الطريق ومدار الكواكب. والمراد الطرائق التي هي مسير الأجرام السماوية من نجوم وكواكب، يقسم الله عزّ وعلا بالسماء المتّسقة المحكمة الترتيب، بما فيها من نجوم وكواكب تسلك طريقها مسرعة في مجراتها العظيمة بنظام دقيق وإبداع شامل، على أن المشركين يخوضون في حديث باطل وقول متناقض مضطرب، فصنع الله محكم، وعمل الكافرين باطل مضطرب، فتراهم حينا يقولون عن النبي (ص) إنّه شاعر، وتارة يقولون: ساحر، ومرة ثالثة يقولون: مجنون. وهذا دليل على التخبط وفساد الرأي.
وقد رسمت السورة صورة الكافرين يذوقون عذاب جهنم ويقال لهم: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) .
أي تعرضوا لعذاب النار وقد كنتم تستعجلون مجيئه، استهزاء بأمره واستبعادا لوقوعه.
وعلى الضفّة الاخرى، وفي الصفحة المقابلة، يرتسم مشهد آخر لفريق آخر، فريق مستيقن بالآخرة، مستيقظ للعمل الصالح، فريق المتقين الذين أدّوا حقوق الله سبحانه بالصلاة وقيام الليل، وأدّوا حقوق الناس بالزكاة والصدقة.
آيات الله في الأرض والسماء
تشير الآية 20 الى آثار قدرة الله في خلق الأرض، فيقول سبحانه: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) . وإذا تأمّلنا مضمون هذه الآية، وجدنا أنّ هذا الكوكب الذي نعيش عليه معرض هائل لآيات الله وعجائب صنعته، هذه الأرض تكاد تنفرد باستعدادها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته، ولو اختلّت خصيصة واحدة من خصائص الأرض الكبيرة جدا لتعذر وجود هذا النوع من الحياة عليها. ولو تغيّر حجمها صغرا أو كبرا، لو تغيّر وضعها من الشمس قربا أو بعدا، لو تغيّر حجم الشمس ودرجة حرارتها، لو تغير ميل الأرض على محورها هنا أو هنا، لو(9/4)
تغيّرت حركتها حول نفسها أو حول الشمس سرعة أو بطئا، لو تغيّر حجم القمر أو بعده عنها، لو تغيّرت نسبة الماء الى اليابس فيها زيادة أو نقصا ... لو ... لو ... لو، الى آلاف الموافقات العجيبة المعروفة والمجهولة التي تتحكم في صلاحيتها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته، أليست هذه آية، أو آيات معروضة في هذا المعرض الالهي؟
«وتنوع مشاهد هذه الأرض ومناظرها، حيثما امتدّ الطرف، وحيثما تنقلت القدم، وعجائب هذه المشاهد التي لا تنفد: من واد وجبل، ووهاد وبطاح، وبحار وبحيرات، وأنهار وغدران، وقطع متجاورات، وجنّات وأعناب، وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان ... وكل مشهد من هذه المشاهد تتناوله يد الإبداع والتغيير الدائبة التي لا تفتر عن الإبداع والتغيير» .
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) خلق الله الإنسان، ونفخ فيه من روحه، وشق له السمع والبصر وزوّده بالحواس المتعددة، ووسائل الإدراك المختلفة.
«وحيثما وقف الإنسان يتأمّل عجائب نفسه، التقى أسرارا تدهش وتحيّر:
تكوين أعضائه وتوزيعها، وظائفها وطريقة أدائها لهذه الوظائف، عملية الهضم والامتصاص، عملية التنفّس والاحتراق، دورة الدم في القلب والعروق، الجهاز العصبي وتركيبه وإدارته للجسم، الغدد وإفرازها وعلاقتها بنمو الجسد وانتظامه، تناسق هذه الأجهزة كلّها وتعاونها وتجاوبها الكامل الدقيق، وكل من هذه تنطوي تحتها عجائب وفي كل عضو وكل جزء من عضو خارقة تحيّر الألباب» .
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) .
فبيد الله الخلق والرزق والهدى والضلال، وأرزاق السماء تشمل الأرزاق المادية والمعنوية.
وفي السماء أسباب أقواتكم، فالظواهر الفلكية، وجريان الشموس والكواكب وتوابعها، واختلاف الليل والنهار، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وبثّ فيها من كل دابة، وتصريف الرياح، والسحاب المسخّر بين السماء والأرض، كل هذه الظواهر ذلّلها الله لخدمة الإنسان، فليس الرزق موقوفا(9/5)
على شيء يتعلق بالأرض وحدها، بل الأمر كله لله تعالى، يقبض ويبسط وإليه المآب.
ثم يعقب الله سبحانه بالقسم: بحق رب الأرض والسماء إن هذا الأمر لحق مثل نطقكم، فهل تشكّون في أنكم تنطقون؟.
قصة ابراهيم
يشتمل القطاع الثاني من سورة «الذاريات» على الإشارة الى قصص إبراهيم ولوط وموسى (ع) ، وعاد قوم هود (ع) ، وثمود قوم صالح (ع) ، ثم آية عن قوم نوح (ع) . وهذا القصص مرتبط بما قبله، ومرتبط بما بعده في سياق السورة.
وإبراهيم (ع) أبو البشر اتخذه الله سبحانه، خليلا، وأرسل اليه ملائكة مكرّمين، فأكرم الخليل وفادتهم، وقرّب لهم عجلا سمينا، ودعاهم للأكل منه، ولكنّهم أمسكوا عن الطعام، فخاف منهم إبراهيم. فلما أحسّوا خوفه أخبروه بأنهم ملائكة من السماء أرسلهم الله إليه، ثم بشروه بغلام حليم.
وأقبلت زوجته، وقد استولى عليها هول المفاجأة، فضربت وجهها بأطراف أصابعها، وصاحت متعجّبة من الحمل، وهي عجوز عقيم، فأخبرتها الملائكة بأنه لا وجه للعجب، كذلك أمر الله، وهو الحكيم في أعماله العليم بعباده.
قصة لوط
واتّجهت الملائكة بعد ذلك الى لوط (ع) ، فلما رآهم لوط أنكرهم وضاق بهم ذرعا، فقالت له الملائكة:
يا لوط إنا رسل ربّك، جئنا لإنقاذك ومن معك من المؤمنين، فأسر بأهلك في ظلام الليل، ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك، فقد حقت عليها كلمة العذاب مثل هؤلاء الظالمين.
ولم تجد الملائكة في قرى قوم لوط غير أهل بيت واحد من المسلمين: هو لوط وابنتاه.
ولما خرج لوط وابنتاه، جعل الله ديارهم عاليها سافلها، وساق إليهم عاصفة رعدية أمطرتهم بحجارة مسمومة، استأصلت شأفتهم وتركتهم أثرا بعد عين، وجعلهم الله عظة وعبرة للمعتبرين.(9/6)
إشارات الى قصص الأنبياء
أشارت الآيات [38- 46] الى العبرة والعظة من قصة موسى (ع) ، ومن قصص غيره من الأنبياء في لمحة عاجلة.
لقد أرسل الله موسى ومعه سلطان الهيبة وجلال النبوة، إلى فرعون وملئه، فأعرض فرعون عن موسى واتهمه بالسحر والجنون، فأغرق الله فرعون وجنده في البحر وألبسه ثوب الخزي والندم.
وآية أخرى في عاد قوم نبي الله هود (ع) ، حينما كذبوا نبيهم فأرسل الله، جلّ جلاله، عليهم ريحا عاتية تحمل العذاب والدمار.
وآية ثالثة في ثمود أمهلهم الله ثلاثة أيام، ثم أرسل عليهم صاعقة فأصبحوا هالكين.
والحجارة التي أرسلت على قوم لوط (ع) ، والريح التي ارسالات على عاد، والصاعقة التي أرسلت على ثمود، كلها قوى كونية مدبرة بأمر الله سبحانه، مسخّرة بمشيئته ونواميسه، يسلطها على من يشاء في إطار تلك النواميس فتؤدّي دورها الذي يكلّفها الله، كأيّ جند من جند الله.
آية رابعة في قوم نوح (ع) ، فقد أهلكوا وأغرقوا لفسوقهم وكفرهم وخروجهم عن طاعة الله عزّ وعلا.
وللتنبيه الى بدائع صنعه إيقاظا للعاطفة الدينية، عاد السياق فذكر أنّ الله تعالى رفع السماء ووسّعها، وخلق الأرض ومهّدها، وأعدّها لما عليها من الكائنات ومن كل شيء في هذه الأرض، ذكرا وأنثى ليكون ذلك وسيلة للعظة والاعتبار.
ثم يحث القرآن الناس على أن يتخلّصوا من آثار المادّة والهوى والشيطان، فرارا بدينهم، وطمعا في رحمة خالقهم، وأن يلجئوا إلى حماه وفضله: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) .
وتكشف الآيات عن طبيعة المعاندين في جميع العصور، فقد كذّبوا الرسل واتّهموهم بالجنون أو السحر، كأنّما وصى السابق منهم اللاحق، وكأن الكفر في طبيعته ملّة واحدة، والرسالات كلها فكرة واحدة، فمن كذّب برسول واحد فكأنّما كذّب برسل الله أجمعين.(9/7)
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) .
هذه السورة تربط القلب البشري بالله، سبحانه، وترشده الى عظيم صنعه، وفي ختام السورة يؤكد الله، جلّ جلاله هذا المعنى فيبيّن أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعرفوه ويوحّدوه ويؤمنوا به، فهو سبحانه وتعالى غنيّ بذاته، وهم في حاجة وافتقار اليه.
إن معنى العبادة هو الخلافة في الأرض، وهو غاية الوجود الإنساني، وهو أوسع من مجرد الشعائر وأشمل.
وتتمثل حقيقة العبادة في أمرين رئيسيّين:
الأول: هو استقرار معنى العبودية لله تعالى في النفس، أي استقرار الشعور بأنه ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود، إلا رب واحد والكل له عبيد.
والثاني: هو التوجه الى الله عزّ وجلّ، بكل حركة في الضمير، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة.
بهذا وذلك يتحقّق معنى العبادة، ويصبح العمل كالشعائر والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله كلها عبادة وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها، وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه.
والمؤمن الحق هو الحريص على أداء واجباته ومرضاة ربه، وهو لا يعني نفسه بأداء الواجبات تحقيقا لمعنى العبادة في الأداء، أما الغايات فموكولة لله يأتي بها وفي قدره الذي يريده.
إن الله تعالى لم يخلق الجن والإنس ليستعين بهم، لجلب منفعة لذاته أو دفع مضرة، وما يريد الله منهم أن يرزقوا أحدا من خلقه أو يطعموه. إنّ الله سبحانه وتعالى هو الكفيل برزقهم، والمتفضّل عليهم بما يقوم بمعيشتهم، وهو سبحانه ذو القدرة والقوة، وهو الغالب على أمره فلا يعجزه شيء.
وفي ضوء هذه الحقيقة ينذر الذين ظلموا، فلم يؤمنوا بأن لهم نصيبا من العذاب مثل نصيب من سبقهم من الظالمين، فالله يمهل ولا يهمل، وتختتم السورة بهذا الإنذار الأخير:
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ(9/8)
فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ
(60) .
المعنى الاجمالي للسورة
قال الفيروزآبادي: «معظم مقصود سورة الذاريات ما يأتي: «القسم بأن البعث والقيامة حق، والإشارة إلى عذاب أهل الضلالة، وثواب أرباب الهداية، وحجّة الوحدانية، وكرامة إبراهيم في باب الضيافة، وهلاك قوم لوط وفرعون وقومه لمخالفتهم أمر الله، وتدمير عاد وثمود وقوم نوح وخسرانهم، وخلق السماوات والأرض للنفع والإفادة، وزوجية المخلوقات للدلالة على قدرة الخالق، وتخليق الخلق لأجل العبادة واستحقاق المنكرين للعذاب والعقوبة» .(9/9)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الذاريات» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «الذاريات» بعد سورة «الأحقاف» ، ونزلت سورة «الأحقاف» بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «الذاريات» في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أولها:
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) وتبلغ آياتها ستين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إنذار المشركين بعذاب الدنيا والاخرة، وقد أخذوا فيها بالدليل، ومرّة بالترهيب، كما أخذوا بذلك في السورة السابقة، ولهذا جمع بينهما في الذكر، وجاء ترتيب هذه السورة بعد سابقتها.
إثبات الإنذار بالعذاب الآيات [1- 60]
قال الله تعالى: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) فأقسم بهذا على أن ما يوعدون به من العذاب إن لم يؤمنوا به لصادق ثم أقسم، جلّ وعلا، بالسماء ذات الحبك على أن قولهم في إنكاره مختلف تناقضه أفعالهم، لأنهم كانوا يربطون الركائب عند قبور الأكابر ليركبوها عند حشرهم، ثم أوعدهم على هذا بما أوعدهم به ثم ذكر أنهم يسألون عن
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(9/11)
يومه استعجالا له واستهزاء به، وأجاب بأنه يكون يوم يفتنون على النار ويقال لهم: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) . ثم ذكر ما يكون للمتقين فيه من جنات وعيون، ليجمع بهذا بين طريق الترهيب وطريق الترغيب، ثم انتقل السّياق من هذا إلى الاستدلال بآياته، سبحانه، في الأرض وفي أنفسهم وفي السماء لإثبات قدرته على بعثهم وعذابهم، وختمه بالقسم كما بدأ به: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) .
ثم أخذ السياق بعد هذا في ذكر ما فعله الله جلّ جلاله بالمكذّبين قبلهم ترهيبا لهم بهم، فذكر من ذلك خبر قوم لوط بعد أن مهد له بذكر أخبار الملائكة الذين أرسلوا بهلاكهم مع إبراهيم، ثم ذكر بعد ذلك خبر موسى وفرعون، وخبر عاد وما أهلكوا به من الريح العقيم، وخبر ثمود وما أخذوا به من الصاعقة، وخبر قوم نوح من قبلهم وهو معلوم.
ثم عاد السياق إلى إثبات قدرته عزّ وجلّ على ذلك، بالسماء التي بناها وأوسعها، والأرض التي فرشها ومهّدها، إلى غير هذا من آثار قدرته، ثم أمرهم أن يفرّوا إليه سبحانه من عذابه، وألا يجعلوا معه آلهة أخرى لا تدفع عنهم منه شيئا، ثم ذكر أنهم يسلكون في تكذيب ذلك طريق المكذّبين قبلهم، فيزعمون أن من ينذرهم به ساحر أو مجنون، وذكر السياق أمر الله تعالى نبيّه (ص) أن يعرض عنهم لأنه لا لوم عليه بعد أن بلّغهم إنذارهم، وأن يكتفي بالتذكير لأن فيه الكفاية للمؤمنين، ثم ذكر تعالى أنه لم يخلق الجن والإنس عبثا، وإنما خلقهم لعبادته وتوحيده، وهو غنيّ عنهم لا يحتاج الى شيء منهم، فإذا أشركوا به فإن لهم ذنوبا من العذاب مثل ذنوب من سبقهم من أولئك المكذبين: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) .(9/12)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الذاريات» «1»
أقول: لما ختمت «ق» بذكر البعث، واشتملت على ذكر الجزاء، والجنة والنار، وغير ذلك من أحوال القيامة، افتتحت هذه السورة بالإقسام على إنّ ما توعدون من ذلك لصادق، وإن الدين، وهو الجزاء، لواقع.
ونظير ذلك: افتتاح «المرسلات» بذلك، بعد ذكر الوعد والوعيد والجزاء في سورة «الإنسان» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.(9/13)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الذاريات» «1»
1- ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الآية 24] .
قال عثمان بن محصن: كانوا أربعة من الملائكة: جبريل، وميكائيل وإسرافيل، وروفائيل، أخرجه ابن أبي حاتم.
2- وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) .
قال مجاهد: هو إسماعيل. أخرجه ابن أبي حاتم «2» .
وقال الكرماني بعد حكايته: أجمع المفسّرون على أنه إسحاق، إلا مجاهدا فإنه قال هو إسماعيل.
3- فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) .
قال مجاهد: لوط وابنتاه.
وقال قتادة: وأهل بيته.
وقال سعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر.
أخرجه ابن أبي حاتم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . والطبري في «تفسيره» 26: 129.(9/15)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الذاريات» «1»
1- قال تعالى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) .
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) دعاء عليهم كقوله جلّ وعلا: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) [عبس] .
والخراصون: الكذّابون المقدّرون ما لا يصحّ، وهم أصحاب القول المختلف.
أقول: وأصل الخرص الحزر، كخرص النخل، وهو تقدير ما عليه من حمل. ولما كان الخرص حزرا وتقديرا، فقد يتعرّضون إلى الكذب، إمّا عن قصد وإمّا عن غير قصد.
أقول: والخرص ممّا لا تعرفه الفصيحة المعاصرة، ولكننا نعرفه في الدارجة العراقية الجنوبية.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(9/17)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الذاريات» «1»
قال تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) واحدها «الحباك» .
وقال تعالى: يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) أي:
متى يوم الدّين، فقيل لهم: يوم هم على النار يفتنون. لأن ذلك اليوم يوم طويل فيه الحساب، وفيه فتنتهم على النار.
وقال تعالى: ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ [الآية 59] أي سجلا «2» من العذاب.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . السّجل: الدّلو العظيمة.(9/19)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الذاريات» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) و «الصادق» وصف القائل لا وصف الوعد؟
قلنا: قيل «صادق» بمعنى «مصدوق» كقوله تعالى: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) [الحاقة] وقوله: ماءٍ دافِقٍ (6) [الطارق] وقيل معناه «لصدق» ، فإن المصدر قد جاء على وزن اسم الفاعل كقولهم:
قمت قائما، وقولهم: لحقت بهم اللائمة: أي اللوم.
فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) والمتقون لا يكونون في الجنة في العيون؟
قلنا: معناه أنهم في الجنات، والعيون الكثيرة محدّقة بهم من كل ناحية، وهم في مجموعها لا في كل عين. ونظيره قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) [القمر] لأنه بمعنى أنهار، إلا أنه- والله أعلم- عدل عنها رعاية للفواصل.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) ، أي في قرى قوم لوط (ع) ، وقرى قوم لوط ليست موجودة، فكيف توجد فيها العلامة؟
قلنا: الضمير في قوله تعالى فِيها عائد إلى تلك الناحية والبقعة لا إلى مدائن قوم لوط. الثاني: عائد إليها، ولكن «في» بمعنى «من» كما في قوله تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً [النحل: 84] ، وقوله تعالى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها [النساء: 5] . ويؤيد هذا الوجه
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئله القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، ومكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(9/21)
مجيئه مصرحا به في سورة العنكبوت بلفظ «من» في قوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) [العنكبوت] ثم قيل: الآية آثار منازلهم الخربة وقيل هي الحجارة التي أبقاها الله تعالى حتى أدركها أوائل هذه الأمة. وقيل هي الماء الأسود الذي يخرج من الأرض.
فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الآية 49] ، أي صنفين، مع أن العرش والكرسي والقلم واللوح لم يخلق منها إلا واحد؟
قلنا قيل: معناه ومن كل حيوان خلقنا ذكرا أو أنثى. وقيل معناه: ومن كل شيء تشاهدونه خلقنا صنفين كالليل والنهار، والصيف والشتاء، والنور والظلمة، والخير والشر، والحياة والموت، والبحر والبر، والسماء والأرض، والشمس والقمر ونحو ذلك.
فإن قيل: لم قال تعالى هنا: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الآية 50] ، وقال سبحانه، في موضع آخر: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28] ؟
قلنا: معنى قوله تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أي الجأوا إليه بالتوبة، وقيل معناه: ففرّوا من عقوبته إلى رحمته ومعنى قوله سبحانه: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي يخوفكم عذاب نفسه أو عقاب نفسه. وقال الزجّاج: معنى «نفسه» «إياه» ، كأنه قال سبحانه وتعالى: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52] أي إياه، فظهر أنه لا تناقض بين الآيتين.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) وإذا قلنا، خلقهم للعبادة كان مريدا لها منهم، فكيف أرادها منهم ولم توجد منهم؟
قلنا: فيه وجوه: أحدها أنه عام أريد به الخاص وهم المؤمنون، بدليل خروج البعض منه، بقوله تعالى:
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الأعراف: 179] ومن خلق لجهنم لا يكون مخلوقا للعبادة.
الثاني: أنه على عمومه، والمراد بالعبادة التوحيد، وقد وحّده الكل يوم أخذ الميثاق، وهذا الجواب يختص بالإنس، لأنّ أخذ الميثاق مخصوص بهم في الآية. وقيل معناه: إلا ليكونوا عبيدا لي. وقيل معناه: إلا ليذلّوا ويخضعوا وينقادوا لما قضيته وقدّرته(9/22)
عليهم، فلا يخرج عنه أحد منهم.
وقيل معناه إلّا ليعبدوني إن اختاروا العبادة لا قسرا وإلجاء. وقيل إلا ليعبدوني العبادة المرادة في قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً [الرعد: 15] والعموم ثابت في الوجوه الخمسة.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) بعد قوله سبحانه: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ؟
قلنا: معناه ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ لأنفسهم، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) :
أي أن يطعموا عبيدي، وإنما أضاف الإطعام إلى ذاته المقدسة لأن الخلق عياله وعبيده، ومن أطعم عيال غيره فكأنه أطعمه، ويؤيّده ما جاء في الحديث الصحيح «إن الله عز وجلّ يقول يوم القيامة: يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني» أي استطعمك عبدي فلم تطعمه.(9/23)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الذاريات» «1»
في قوله سبحانه في صفة حجارة القذف: مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) استعارة. والمسوّمة: المعلمة. وأصل ذلك مستعمل في تسويم الخيل للحرب. أي تعليمها بعلامات تتميّز بها من خيل العدو شبّهت هذه الحجارة بها لأنها معلّمة بعلامات تدلّ على مكروه المصابين، وضرر المعاقبين، كما كانت الخيل المسوّمة تدل على ذلك في لقاء الأعداء. وإرسال هذه للعراك كإرسال تلك للهلاك.
وقيل: إن التسويم في تلك الحجارة هو أن تجعل نكتة سوداء في الحجر الأبيض، أو نكتة بيضاء في الحجر الأسود.
وقيل: كان عليها أمثال الطوابيع والخواتيم. وقد تكلمنا على نظير هذه الاستعارة في «هود» .
والمراد بقوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكَ أي خلقها سبحانه كذلك من غير أن يفعلها فاعل، أو يجعلها جاعل. فلأجل هذه الحال وجب أن يجعل لها تعالى هذا الاختصاص بقوله: عِنْدَ رَبِّكَ. وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك أنها مسوّمة في سلطان الله تعالى وملكوته.
وفي موضع العقاب المعدّ للمذنبين من خلقه.
وفي قوله تعالى: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) .
وقد قيل: إن المراد بها أنه أعرض بجنوده الذين هم كالركن له، والحجارة دونه. وقد يسمّى أعوان المرء وأنصاره
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....](9/25)
أركانه واعتماده «1» ، إذ كان بهم يصول، وإليهم يؤول.
وقيل أيضا معنى ذلك فتولّى «2» وسلطانه، فإن ذلك كالركن له والمانع منه. ونظيره قوله سبحانه حاكيا عن لوط (ع) : قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) [هود] ، أي إلى عزّ دافع، وسلطان قامع.
وفي قوله سبحانه: وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) استعارة. ومعنى العقيم هاهنا التي لا تحمل القطار، ولا تلقح الأشجار، ولا تعود بخير، ولا تنكشف عن عواقب نفع. فهي كالمرأة التي لا يرجى ولدها، ولا ينمى عددها.
__________
(1) . هكذا بالأصل. ولعلها «وأعماده» .
(2) . بياض بالأصل.(9/26)
سورة الطّور (52)(9/27)
المبحث الأول أهداف سورة «الطور» «1»
سورة الطور سورة مكية وآياتها 49 آية، نزلت بعد سورة السجدة.
القسم في صدر السورة
وَالطُّورِ (1) : الجبل فيه شجر، والأرجح أنّ المقصود به هو الطور المعروف في القرآن، وهو الجبل الذي تلقّى موسى (ع) عنده كلام الله جلّ جلاله. قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) [مريم] .
وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) : الأقرب أن يكون كتاب موسى (ع) الذي كتب له في الألواح المناسبة بينه وبين الطور.
وقيل هو اللوح المحفوظ تمشيا مع ما بعده، البيت المعمور والسقف المرفوع، ولا يمتنع أن يكون هذا هو المقصود.
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) : قد يكون هو الكعبة فهي عامرة بالطواف حولها في جميع الأوقات.
وقيل هو بيت في السماء حيال الكعبة يدخله كلّ يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه بل يدخل غيرهم في اليوم التالي.
وذلك يرمز الى كثرة الملائكة وهم خلق مكرّمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(9/29)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) : هو السماء.
وقد نسب ذلك الى سفيان الثوري عن الإمام علي رضي الله عنه، قال تعالى: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) [الأنبياء] .
وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) : المملوء، وهو أنسب شيء يذكر مع السماء، في انفساحه وامتلائه وامتداده.
وقد يكون معنى المسجور: المتّقد، كما في قوله تعالى في سورة أخرى:
وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) [التكوير] أي توقّدت نيرانا عند نهاية الحياة، وذلك يمهّد لجواب القسم، وهو: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) .
وقد سمع عمر رضي الله عنه هذه الآية ذات ليلة فتأثّر بها واشتدّ خوفه وعاد الى بيته مريضا، ومكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه.
وعمر رضي الله عنه سمع السورة قبل ذلك وقرأها وصلى بها، فقد كان رسول الله (ص) يصلي بها المغرب، ولكنها في تلك الليلة صادفت من عمر قلبا مكشوفا، وحسّا مفتوحا، فنفذت إليه.
يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) .
ومشهد السماء الثابتة المبنية بقوّة وهي تضطرب وتتقلّب كما يضطرب الموج في البحر من هنا إلى هناك بلا قوام، ومشهد الجبال الراسية الصلبة تسير خفيفة رقيقة لا ثبات لها ولا استقرار أمر مذهل مزلزل، من شأنه أن يذهل الإنسان.
وفي آيات أخرى ذكر القرآن أن السماء تنشقّ على غلظها وتتعلق الملائكة بأطرافها، كما ذكر اضطراب الكون وسائر الموجودات يوم القيامة.
إن قلوب أهل مكة التي جحدت الاخرة، وأنكرت البعث والجزاء، تحتاج الى حملة عنيفة يقسم الله، جلّت قدرته، فيها بمقدّسات في الأرض والسماء بعضها مكشوف ومعلوم، وبعضها مغيّب مجهول، على وقوع العذاب يوم القيامة وسط مشهد هائل ترتج له الأرض والسماء: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) [ابراهيم] .
وفي وسط هذا المشهد المفزع نرى(9/30)
ونسمع ما يزلزل ويرعب من ويل وهول وتقريع وتفزيع.
إن المجرمين يساقون سوقا إلى جهنّم ويدفعون في ظهورهم دفعا، حتّى إذ أوصل بهم الدفع الى حافة النار قيل لهم هذه هي النار، فهل هي سحر كما زعمتم أن القرآن سحر وأن محمّدا ساحر، أم أنها الحق الهائل الرهيب؟
أم أنتم لا تبصرون النار كما كنتم لا تبصرون الحقّ في القرآن؟.
نعيم الجنة
من شأن القرآن أن يقابل بين عذاب الكافرين ونعيم المتّقين، وفي الآيات [17- 28] نجد حديثا عن ألوان التكريم التي يتمتع بها المتقون. فهم في الجنات يتمتّعون بألوان اللذائذ الحسية والمعنوية، وقد ألحق الله الذرية بالإباء إذا اشتركوا معهم في الإيمان وقصروا عنهم في العبادة والطاعة.
أدلة القدرة
في الجزء الأخير من السورة، نجد أن الآيات لها وقع خاص. ورنين يأخذ على النفس البشرية كلّ أنحائها، ويجبه المنكرين بالعديد من الحجج، ويستفهم منهم بطريقة لاذعة ساخرة لا يملك أيّ منصف معها غير التسليم.
والآيات تبدأ بتوجيه الخطاب إلى رسول الله أن يبلغ الدعوة، فهو أمين على وحي السماء، بعيد عن الاتهام بالكذب والجنون. وتسرد الآيات اتّهام الكفّار له بأنّه شاعر أو متقوّل ادّعى القرآن من عند نفسه، ونسبه الى الله، فتطلب منهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن إن كانوا صادقين في دعواهم.
وأمامهم أدلّة القدرة، فهل خلقوا من غير خالق؟ أم خلقوا أنفسهم؟ وإذا انتفى لم يبق الا احتمال ثالث وهو أنهم خلق الله.
ويتوالى هذا الاستفهام الإنكاري يقرّعهم بالحجة بعد الحجة، وبالدليل تلو الدليل.
فهذه السماء العالية من خلقها؟ هل هم خلقوها؟
وهل تطلب منهم يا محمد أجرا على تبليغ الرسالة؟
وهل يملكون أمر الغيب؟ وأمر(9/31)
الغيب لا يطلع عليه إلّا الله سبحانه وتعالى.
وهل لهم إله يتولاهم غير الله؟ تنزه الله عن شركهم.
وعند ما وصل جحودهم وعنادهم إلى هذا الحد من الغلوّ في الباطل، أمر الله، جلّ وعلا، رسوله (ص) أن يعرض عنهم ويتركهم حتّى يلاقوا مصيرهم، وفي هذا اليوم لا ينفعهم كيدهم ولا تنجيهم مؤامراتهم.(9/32)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الطور» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «الطور» بعد سورة «السجدة» ، ونزلت سورة «السجدة» بعد «الإسراء» وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «الطور» في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أولها: وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) وتبلغ آياتها تسعا وأربعين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة الإنذار بعذاب الدنيا والاخرة، وبهذا تشارك السورتين السابقتين في الغرض المقصود منهما، وهذا هو وجه ذكرها بعدهما.
إثبات الإنذار بالعذاب الآيات [1- 49]
قال الله تعالى: وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ، فأقسم بهذا على وقوع ذلك العذاب، وذكر أنه يوم تمور السماء وتسير الجبال، وحينئذ يكون الهلاك للمكذّبين به، ويصلون النار بما كانوا يعملون ثم ذكر ما أعد فيه للمتقين من جنات ونعيم، ليجمع بهذا بين طريق الترهيب وطريق الترغيب، قد أطال في هذا
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(9/33)
الطريق، إلى أن ذكر مما يقوله المتقون في سبب نعيمهم: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) .
ثم انتقل السياق من هذا الى أمر النبي (ص) بأن يستمر على تذكيره بما أنزل عليه من ذلك الإنذار، لأنه حق ليس بقول كاهن ولا مجنون ولا شاعر كما يزعمون، ولأنهم لا ينكرون عن عقل، وإنما هم قوم طاغون ثم أمرهم، جلّ وعلا، على سبيل الإلزام، أن يأتوا بمثله إن كانوا صادقين في ما يفترونه عليه، ليظهر عجزهم ويبطل ما زعموه من أنه كاهن أو مجنون أو شاعر. ثم سلك طريقا آخر في إلزامهم فذكر أنهم لم يخلقوا من غير شيء، بلى لا بد لهم من خالق، وأنهم لا يملكون شيئا من أمر هذا الخلق حتّى يقطعوا بنفي الحساب والعقاب، وأنهم لم ينزل عليهم بذلك نبأ من السماء، فألزمهم بأنّ لهم خالقا هو الذي يتصرف في أمورهم، ولا يملكون أن يمنعوا ما يريده من حسابهم على أعمالهم وذكر سبحانه أنه لا شريك له في ذلك من الملائكة الذين يزعمون أنهم بناته ثم انتقل السياق الى إلزامهم بطريق آخر فذكر تعالى أن النبي (ص) لا يسألهم على إنذاره أجرا حتى يتهم فيه أو يثقلهم به، وأنهم لا علم عندهم بالغيب حتى يقطعوا بأنه لا حساب عليهم، وأنه لم يبق بعد هذا إلّا أن يريدوا الكيد والعذاب لأنفسهم لقيام هذه الإلزامات عليهم، أو يكون لهم إله غير الله يدفع العذاب عنهم سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) .
ثم ختمت السورة ببيان فرط طغيانهم وعنادهم في تكذيب ما أنذروا به، فذكر عزّ وجلّ أنهم لو نزّل عليهم كسف من السماء لعذابهم لقالوا: هذا سحاب تراكم بعضه على بعض ليمطرنا، وأمر النبي (ص) أن يتركهم في هذا الطغيان والعناد حتّى يلاقوا ما ينكرون. ثم ذكر أن لهم عذابا دون عذاب الاخرة بتسليط المسلمين عليهم. وأمر النبي (ص) بالصبر الى أن يفي بهذا الوعد، فقال وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) .(9/34)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الطور» «1»
أقول: وجه وضعها بعد «الذاريات» :
تشابههما في المطلع والمقطع، فإنّ في مطلع كلّ منهما صفة حال المتّقين بقوله تعالى في الآيات 15- 17 من سورة الذاريات: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ، الآيات. وفي مقطع كل منهما صفة حال الكفّار، بقوله في تلك: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الذاريات:
60] . وفي هذه: فَالَّذِينَ كَفَرُوا [الآية 42] «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . ومن المناسبة بين الطور والذاريات أنه تعالى ذكر تكذيب الكافرين، وردّ عليهم بإيجاز في الذاريات بقوله سبحانه: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) وما بعدها. ثم فصّل ذلك في الطور من قوله جل وعلا: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) الى آخر السورة.(9/35)
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الطور» «1»
1- قال تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) .
والمعنى: يوم يدفعون إلى النار دفعا.
وقرئ: «يدعون» من الدعاء.
أقول: ليس في العربية المعاصرة الفعل المضاعف «دع يدع» .
2- وقال تعالى: أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) .
المصيطر بالصاد، أي: الغالب.
وقرئ بالسين.
أقول: غلبت السين على المسيطر في العربية ولكن لغة التنزيل في القراءة المثبتة الغالبة جاءت بالصاد، وتعاقب السين والصاد معروف. ومثل هذا السراط والصراط، والكلمة بالسين في اللغة المعاصرة، وقد رسمت السين في القرآن تحت الصاد.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.(9/37)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الطور» »
قال تعالى: وْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً فَوَيْلٌ
(10) دخلت الفاء لأنه في معنى: إذا كان كذا وكذا فأشبه المجازاة، لأن المجازاة يكون خبرها بالفاء.
وقال: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) لأنك تقول: «تربّصت زيدا» أي:
تربصت به «2» » .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . في الجامع 17: 72. وقال الأخفش: نتربص به الى ريب المنون فحذف حرف الجر كما تقول قصدت زيدا وقصدت الى زيد.(9/39)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الطور» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) مع أن الحور العين في الجنة مملوكات ملك يمين لا ملك نكاح؟
قلنا: معناه قرنّاهم بهن من قولهم زوّجت إبلي: أي قرنت بعضها إلى بعض، وليس من التزويج الذي هو عقد النكاح، ويؤيّده أن ذلك لا يعدّى بالباء بل بنفسه كما قال تعالى:
زَوَّجْناكَها [الأحزاب: 37] ويقال زوّجه امرأة ولا يقال بامرأة.
فإن قيل: لم قال الله تعالى في وصف أهل الجنة كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) أي مرهون في النار بعمله؟
قلنا: قال الزمخشري: كأن نفس كل عبد ترهن عند الله تعالى بالعمل الصالح الذي هو مطالب به، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه، فإن عمل صالحا فك الرهن عنها، وخلصت، وإلا أوبقت. وقال غيره: هذه جملة من صفات أهل النار وقعت معترضة في صفات أهل الجنة ويؤيّده ما روي عن مقاتل، أنه قال: معناه: كل امرئ كافر بما عمل من الكفر مرتهن في النار، والمؤمن لا يكون مرتهنا، لقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) [المدّثّر] .
فإن قيل: لم قال تعالى في حقّ النبي (ص) : فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) ، وكل
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(9/40)
واحد غيره كذلك لا يكون كاهنا ولا مجنونا بنعمة الله تعالى؟
قلنا: معناه فما أنت بحمد الله وإنعامه عليك، بالصدق والنبوة، بكاهن ولا مجنون كما يقول الكفار.
وقيل الباء هنا بمعنى «مع» ، كما في قوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] . وقوله تعالى:
فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 52] ويقال: أكلت الخبز بالتمر: أي معه.
فإن قيل: ما معنى الجمع في قوله تعالى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الآية 48] ؟
قلنا: معناه التفخيم والتعظيم، والمراد بحيث نراك ونحفظك ونظيره في معنى العين قوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) [طه: 39] ونظيره في الجمع للتفخيم والتعظيم قوله تعالى:
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا [القمر: 14] وقوله تعالى:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: 71] .(9/42)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الطور» «1»
في قوله تعالى: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) استعارة، أي إن كانوا حكماء عقلاء كما يدّعون، فكيف تحملهم أحلامهم وعقولهم على أن يرموا رسول الله (ص) بالسّحر والجنون، وقد علموا بعده عنهما، ومباينته لهما؟
وهذا القول منهم سفه وكذب، وهاتان الصفتان منافيتان لأوصاف الحلماء، ومذاهب الحكماء.
ومخرج قوله سبحانه: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا مخرج التبكيت لهم، والإزراء عليهم. ونظير هذا الكلام قوله سبحانه حاكيا عن قوم شعيب (ع) :
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا [هود: 87] أي دينك وما جئت به من شريعتك التي فيها الصلوات وغيرها من العبادات، تحملك على أمرنا بترك ما يعبد آباؤنا.
وقد مضى الكلام على ذلك في موضعه.
وفي قوله سبحانه وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) وقد قرئ: (وأدبار النجوم) بفتح الهمزة استعارة على القراءتين جميعا.
فمن قرأ بفتح الهمزة كان معناه:
وأعقاب النجوم. أي أواخرها إذا انصرفت. كما يقال: جاء فلان في أعقاب القوم. أي في أواخرهم. وتلك صفة تخصّ الحيوان المتصرّف الذي
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرخ.(9/43)
يوصف بالمجيء والذّهاب، والإقبال والإدبار. ولكنها استعملت في النجوم على طريق الاتساع. فأمّا قراءة من قرأ: وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) بالكسر، وهي القراءة المثبتة في المصحف الشريف، فمعناه قريب من المعنى الأول. فكأنه سبحانه وصفها بالإدبار بعد الإقبال. والمراد بذلك الأفول بعد الطلوع، والهبوط بعد الصعود.(9/44)
سورة النّجم (53)(9/45)
المبحث الأول أهداف سورة «النجم» «1»
سورة «النجم» سورة مكية وآياتها 62 آية، نزلت بعد سورة «الإخلاص» .
1- تكريم الرسول
في مطلع السورة نعيش لحظات مع قلب النبي محمد (ص) ، مكشوفة عنه الحجب، مزاحة عنه الأستار، يتلقى من الملأ الأعلى، يسمع ويرى ويحفظ ما وعى، وهي لحظات خصّ بها ذلك القلب المصفّى، حينما عرج به في رحاب الملأ الأعلى.
أقسم الله، جلّ وعلا، بالثريا إذا سقطت عند الفجر، أن محمدا راشد غير ضال، مهتد غير غاو، مخلص غير مغرض، مبلّغ عن الحق بالحق غير واهم، لا مفتر ولا مبتدع، ولا ناطق عن الهوى في ما يبلّغكم من الرسالة، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) وهو يبلّغكم ما يوحى إليه صادقا أمينا.
وقد رأى النبي (ص) جبريل (ع) مرتين على صورته التي خلق عليها، الأولى عند غار حراء، وكان ذلك في مبدأ الوحي حينما رآه النبي يسدّ الأفق بخلقه الهائل، ثم دنا منه فتدلى نازلا مقتربا إليه فكان أقرب ما يكون منه على قاب قوسين أو أدنى، وهو تعبير عن منتهى القرب، فأوحى إلى عبد الله ما أوحى، بهذا الإجمال والتفخيم والتهويل.
والثانية، كانت ليلة الإسراء والمعراج، فقد دنا منه جبريل وهو على هيئته التي خلقه الله بها مرة أخرى
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(9/47)
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) أي شجرة ينتهي إليها علم الخلائق، أو انتهت إليها صحبة جبريل (ع) لرسول الله (ص) حيث وقف جبريل وصعد محمد (ص) درجة أخرى أقرب الى عرش ربه.
2- أوهام المشركين
تتحدث الآيات [19- 28] عن آلهة المشركين المدّعاة، اللات والعزى ومناة، وعن أوهامهم، عن الملائكة وأساطيرهم حول بنوتها لله، واعتمادهم في هذا كلّه على الظن الذي لا يغني من الحق شيئا، في حين أن الرسول (ص) يدعوهم الى ما دعاهم إليه عن تثبّت وروية ويقين.
3- الإعراض عن الملحدين
أما المقطع الثالث من السورة، فيشمل الآيات [29- 32] ، ويوجه الخطاب إلى الرسول (ص) أن يعرض عنهم، وأن يهمل شأنهم، وأن يدع أمرهم لله، الذي يعلم المسيء والمحسن، ويجزي المهدي والضال، ويملك أمر السماوات والأرض وأمر الدنيا والاخرة، ويحاسب بالعدل فلا يظلم أحدا، ويتجاوز عن الذنوب التي لا يصرّ عليها فاعلوها هو الخبير بالنيات والطوايا، لأنه خالق البشر المطّلع على حقيقتهم في أطوار حياتهم جميعا.
4- الصغائر من الذنوب
الصغائر هي ما دون الفاحشة، وهي القبلة واللمسة والمباشرة والنظرة وغيرها فإذا التقى الختانان، وتوارت الحشفة، فقد وجب الغسل، وهذه هي الفاحشة.
روى البخاري ومسلم أن رسول الله (ص) قال: «إن الله تعالى إذا كتب على ابن آدم حظّه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» .
وروى ابن جرير أن ابن مسعود قال:
زنا العين النظر، وزنا الشفتين التقبيل، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين المشي، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه، فإن تقدّم بفرجه كان زانيا وإلّا فهو اللّمم، وكذا قال مسروق والشعبي.
ويرى فريق من العلماء أن اللّمم هو الإلمام بالذنوب ثم التوبة منها،(9/48)
فصاحب اللمم يقع في الكبائر أو يرتكب الآثام غير مصر عليها، ثم يندم ويتوب من قريب.
قال ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أراه رفعه» في الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [الآية 32] . قال اللّمّة من الزنا ثم يتوب ولا يعود، واللّمّة من السرقة ثم يتوب ولا يعود، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود. قال فذلك الإلمام.
وروى ذلك موقوفا على الحسن.
وهذا التفسير يفتح باب التوبة أمام الجميع حتى مرتكب الكبيرة لا ييأس، فإذا صدق في توبته، وأخلص في نيته، وأكد عزمه على التوبة النصوح، فإنّ أمامه رحمة الله الواسعة التي يشمل بها التائبين، ويستأنس لذلك بما في الآية من المغفرة:
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32) .
والآية كما نرى تفتح باب الرجاء، وتدل الناس على عظيم فضل الله. فهو سبحانه خلقهم، وهو أعلم بهم.
وحينما يذنبون لا يغلق باب الرحمة في وجوههم بل يفتح أبواب القبول للتائبين، ويغفر للمستغفرين، قال تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) [الزمر] .
وفي الصحيح أن رسول الله (ص) قال: «ينزل ربّنا كلّ ليلة إلى سماء الدنيا حينما يبقى ثلث الليل الأخير فينادي: يا عبادي هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه، هل من طالب حاجة فأقضيها له حتى يطلع الفجر» . [والنزول هاهنا ليس النزول المعهود، وهو بكيفيّة لا يعلمها إلّا الله جلّ جلاله] .
5- حقائق العقيدة
وفي الآيات الأخيرة من السورة [33- 62] تعود الفواصل القصيرة والتنغيم الكامل في أسلوب بسيط، وإيقاع يسير، وتقرّر الآيات الحقائق الأساسية للعقيدة كما هي ثابتة منذ إبراهيم عليه السلام صاحب الحنيفية الأولى، وتعرّف البشر بخالقهم، فاثاره واضحة(9/49)
أمام الناس، فهو الخالق الرازق صاحب الطّول والإنعام، ومنه المبدأ وإليه المنتهى. وهو الذي أهلك المكذبين من عاد وثمود وقوم نوح، ولكنكم يا أهل مكة تضحكون وتسخرون، وتسترسلون في غيكم وعنادكم، وأولى بكم أن تسجدوا لله سبحانه، وأن تعبدوه وأن تقبلوا على دينه، مقرّين لله عزّ وجل بالعبودية ولمحمد (ص) بالرسالة.(9/50)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النجم» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «النجم» بعد سورة «الإخلاص» ، وكان نزولها بعد الهجرة الأولى للحبشة، وكانت هذه الهجرة في السنة السابعة من البعثة. فلمّا نزلت هذه السورة أشيع كذبا أنه نزل فيها بعد قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) تلك الغرانيق العلى، وإنّ شفاعتهن لترتجى وأن قريشا أسلمت حين آمن النبي (ص) بشفاعة آلهتها في تلك الشائعة المفتراة، فرجع مهاجرو الحبشة حين أشيع ذلك بينهم، فرأوا أن قريشا لا تزال على كفرها، وبهذا تكون سورة النجم من السور التي نزلت فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أوّلها: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) وتبلغ آياتها اثنتين وستين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إثبات أن ما جاء به النبي (ص) من وحي الملائكة، وهذا يقتضي أن الملائكة عباد الله من وظيفتهم الوحي وغيره، فلهذا انتقل الكلام في هذه السورة من هذا الغرض الى إبطال بنوّتهم لله تعالى ولا شك في أن هذا الغرض يتصل بما جاء في السورة السابقة من زعمهم الباطل أن الرسول (ص) كاهن أو مجنون أو شاعر.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(9/51)
نزول جبريل بالدعوة
الآيات [1- 62] قال الله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) .
فأقسم بهذا على أن النبي (ص) ما ضلّ وما ينطق عن الهوى، كما هو شأن الكاهن والمجنون والشاعر وإنما ينطق عن الوحي الذي ينزله عليه الملك جبريل ثم ذكر أن جبريل تارة ينزل إليه من السماء بالوحي، وتارة يصعد هو إليه بالسماء فيتلقاه منه، ويرى في ذلك ما يرى من آيات ربه الكبرى.
ثم انتقل السياق من هذا إلى إبطال ما يزعمونه من أن هذه الملائكة بنات الله، وكانوا يتخذون لها أصناما يعبدونها من اللات والعزّى ومناة، فذكر ما يتخذونه من هذه الأصنام الثلاثة، وأبطل أن يكون له منها بنات، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. وهم لا يرضون لأنفسهم إلا البنين، وذكر أن هذه مزاعم يقلّدون فيها آباءهم ولا دلهم عليها، ثم أبطل ما يتمنونه من شفاعتها لهم، وذكر جلّ وعلا أن كم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا بعد إذنه ورضاه.
ثم عاد السياق إلى تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى من غير علم، فذكر أمر الله تعالى النبي (ص) أن يعرض عمّن يتولى بعد هذا عنه، لأنهم لا يريدون الحق وإنما يريدون الحياة الدنيا. ثم ذكر جل جلاله أن له ما في السماوات والأرض ليجزي المحسن والمسيء بعمله، فلا تنفع هناك شفاعة شفيع له.
وذكر سبحانه أن المحسنين هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلّا اللمم، وأنه سيكون معهم واسع المغفرة ثم ذكر الذي تولى من المشركين واعتمد على ما يزعمه من شفاعة الملائكة له، فرد عليه بأنه لا علم عنده بذلك من الغيب، وبما ورد في صحف موسى وإبراهيم: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) ، إلى غير هذا مما نقله عن هذه الصحف ثم ذكر أن ما يوحى إلى النبي (ص) نذير من تلك النّذر التي أنزلت قبله، وأن ما ينذر به قد قربت ساعته، وأنكر عليهم أن يعجبوا ويضحكوا ممّا ينذرهم به، ولا يبكوا وهم سامدون: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [الآية 62] .(9/52)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النجم» «1»
أقول: وجه وضعها بعد «الطور» :
أنها شديدة المناسبة لها، فإن «الطور» ختمت بقوله تعالى: وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) . وافتتحت هذه بقوله سبحانه: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) .
ووجه آخر: أن «الطور» ذكر فيها ذرية المؤمنين، وأنهم تبع لآبائهم «2» ، وهذه فيها ذكر ذرية اليهود «3» في قوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ [الآية 32] .
ولما قال هناك في المؤمنين: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور: 21] . أي: ما نقصنا الآباء بما أعطينا البنين، مع نفعهم بما عمل آباؤهم. قال هنا في صفة الكفّار أو بني الكفّار: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) خلاف ما ذكر في المؤمنين الصّغار.
وهذا وجه بيّن بديع في المناسبة، من وادي التضاد.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. [.....]
(2) . وذلك في قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: 21] .
(3) . بل فيها ذكر لذرية كل كافر حين استخرج الله ذرية آدم من صلبه وقسمهم فريقين: فريقا للجنة، وفريقا للسعير.
انظر (تفسير ابن كثير: 7: 437) .(9/53)
المبحث الرابع مكنونات سورة «النجم» «1»
1- وَالنَّجْمِ [الآية 1] .
قال مجاهد: الثريّا.
وقال السّدّي: الزّهرة.
أخرجهما ابن أبي حاتم.
وقيل: هو زحل.
وقيل: هو محمد (ص) .
حكاهما الكرماني.
2- عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) .
قال الربيع، والسّدّي: هو جبريل.
أخرجه ابن أبي حاتم.
3- فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ
[الآية 10] .
قال ابن عبّاس: هو محمد (ص) .
وقال الحسن: هو جبريل «2» .
أخرجهما ابن أبي حاتم «3» .
4- أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) .
قال السّدّي: هو العاصي بن وائل.
وقال مجاهد: الوليد بن المغيرة «4» .
أخرجهما ابن أبي حاتم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطباع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . قال ابن كثير في «تفسيره» 4: 249 «معناه فأوحى جبريل إلى عبد الله محمّد ما أوحى، أو فأوحى الله إلى عبده محمد بواسطة جبريل، وكلا المعنيين صحيح» .
(3) . انظر «تفسير الطبري» 27: 26.
(4) . أخرجه أيضا الطبري في «تفسيره» 27: 42.(9/55)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «النجم» «1»
1- وقال تعالى: وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) .
سامدون، أي: شامخون مبرطمون «2» .
وقيل: لاهون ولاعبون.
أقول: وهذا من الكلم الذي لم يتّضح للمفسرين، واختلافهم البعيد في فهمه دليل على ذلك.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . برطم الرّجل: أدلى شفتيه من الغضب.(9/57)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «النجم» «1»
قال تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) جماعة «القوّة» وبعض العرب يقول:
«حبوة» و «حبى» فينبغي لهؤلاء أن يقولوا: «القوى» ، بكسر القاف، في هذا القياس. ويقول بعض العرب «رشوة» و «رشا» ، ويقول بعضهم «رشوة» و «رشا» . وبعض العرب يقول:
«صور» ، و «صور» والجيدة «صور» وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر:
64] .
وقال تعالى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) فقوله تعالى: أَلَّا تَزِرُ بدل من قوله سبحانه بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) أي: بأن لا تزر.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرخ.(9/59)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «النجم» «1»
إن قيل: الضلال والغواية واحدة، فما الحكمة في قوله تعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) .
قلنا: قيل إن بينهما فرقا لأنّ الضلال ضدّ الهدى، والغيّ ضدّ الرّشد، وهما مختلفان مع تقاربهما. وقيل معناه: ما ضلّ في قوله ولا غوى في فعله، ولو ثبت اتحاد معناهما، لكان من باب التأكيد باللفظ المخالف، مع اتّحاد المعنى.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) أدخل كلمة الشك، والشّكّ محال على الله تعالى؟
قلنا: «أو» هنا للتخيير لا للشّكّ، كأنّه قال سبحانه وتعالى: إن شئتم قدّروا ذلك القرب بقاب قوسين، وإن شئتم قدّروه بأدنى منهما. وقيل معناه:
بل أدنى. وقيل هو خطاب لهم بما هو معهود بينهم. وقيل هو تشكيك لهم لئلّا يعلموا قدر ذلك القرب، ونظيره قوله تعالى وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) [الصافات] والكلام فيهما واحد.
فإن قيل: قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) .
من رؤية القلب لا من رؤية البصر، فأين مفعولها الثاني؟
قلنا: هو محذوف تقديره:
أفرأيتموها بنات الله وأنداده، فإنهم كانوا يزعمون أن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله عز وجل.
فإن قيل: لم قال الله تعالى: الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20)
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(9/61)
فوصف الثالثة بالأخرى، والعرب إنما تصف بالأخرى الثانية لا الثالثة، فظاهر اللفظ يقتضي أن يكون قد سبق ثالثة أولى، ثم لحقتها الثالثة الأخرى فتكون ثالثتان؟
قلنا: الأخرى نعت للعزّى تقديره:
أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة لأنها ثالثة الصنمين في الذكر، وإنما أخّر الأخرى رعاية للفواصل، كما قال سبحانه: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) [طه] ولم يقل أخر رعاية للفواصل.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) ، أي لا يقوم مقام العلم، مع أنه يقوم مقام العلم في صورة القياس؟
قلنا: المراد به هنا الظّن الحاصل من اتّباع الهوى دون الظّنّ الحاصل من النظر والاستدلال ويؤيده قوله تعالى قبل هذا: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ [الآية 23] .
فإن قيل: لم قال تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) وقد صح في الأخبار وصول ثواب الصدقة والقراءة والحج وغيرها الى الميت؟
قلنا: فيه وجوه: أحدها ما قاله ابن عبّاس رضي الله عنهما أنها منسوخة بقوله تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: 21] ، معناه أنه أدخل الأبناء الجنّة بصلاح الآباء، قالوا وهذا لا يصح لأنّ الآيتين خبر، ولا نسخ في الخبر. الثاني: أن ذلك مخصوص بقوم إبراهيم وموسى (ع) ، وهو حكاية ما في صحفهم، فأمّا هذه الأمّة فلها ما سعت وما سعى لها.
الثالث أنه على ظاهره، ولكن دعاء ولده وصديقه وقراءتهما وصدقتهما عنه من سعيه أيضا، بواسطة اكتسابه للقرابة أو الصداقة أو المحبّة من الناس، بسبب التقوى والعمل الصالح.
فإن قيل: لم قال تعالى بعد تعديد النقم: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) والآلاء هي النعم؟
قلنا: إنما قال سبحانه بعد تعديد النعم والنقم نعم، لما فيها من الزجر والمواعظ، فمعناه: فبأيّ نعم ربّك الدالّة على وحدانيته تشكّ يا وليد بن المغيرة.(9/62)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «النجم» «1»
في قوله سبحانه: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (1) استعارة. والمراد، والله أعلم، أنّ ما اعتقده القلب من صحة ذلك المنظر الذي نظره، والأمر الذي باشره، لم يكن عن تخيّل وتوهّم، بل عن يقين وتأمّل. فلم يكن بمنزلة الكاذب من طريق تعمد الكذب، ولا من طريق الشكوك والشّبه.
وفي قوله سبحانه: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) استعارة. وهي قريبة المعنى من الاستعارة الأولى. والمراد، والله أعلم، أن البصر لم يمل عن جهة المبصر إلى غيره ميلا يدخل عليه به الاشتباه، حتّى يشكّ فيما رآه. ولا طغى، أي لم يجاوز المبصر ويرتفع عنه، فيكون مخطئا لإدراكه، متجاوزا لمحاذاته.
فكأنّ تلخيص المعنى: أنّ البصر لم يقصّر عن المرئي فيقع دونه، ولم يزد عليه فيقع وراءه، بل وافق موضعه، ولم يجاوز موقعه. وأصل الطّغيان طلب العلوّ والارتفاع، من طريق الظلم والعدوان، وهو في صفة البصر خارج «2» على المجاز والاتساع.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . أي سائر على طريق المجاز والاتساع في التعبير.(9/63)
سورة القمر (54)(9/65)
المبحث الأول أهداف سورة «القمر» «1»
سورة «القمر» سورة مكية، آياتها 55 آية، نزلت بعد سورة «الطارق» .
انشقاق القمر
يصف مطلع السورة حادثا فذّا هو انشقاق القمر بقدرة الله تعالى معجزة لرسول الله (ص) .
وقد وردت روايات متواترة، من طرق شتّى، عن وقوع انشقاق القمر في مكّة قبل الهجرة.
جاءت هذه الروايات في البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد، وغيرها من كتب الثّقات.
وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: انشقّ القمر على عهد رسول الله (ص) فقالت قريش هذا سحر ابن أبي كبشة، قال: فقالوا:
انظروا ما يأتيكم من السّفار فإنّ محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلّهم، قال: فجاء السّفار فقالوا ذلك.
وهذه الروايات، مع غيرها، تتفق على انشقاق القمر بمكّة.
كما ثبت أنّ أهل مكة قابلوا هذه الآية بالعناد، وادّعوا أن محمدا (ص) سحر أهل مكة حتى يشاهدوا القمر منشقّا ثم اتّفقوا على أن يسألوا عن الحادث المسافرين القادمين إلى مكّة، وقد شهد المسافرون بأنهم شاهدوا القمر نصفين في ذلك اليوم، فادّعى
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(9/67)
أهل مكة أن محمّدا (ص) سحر الناس جميعا.
قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) .
ويرى بعض المفسّرين أنّ الآية تخبر عن الأحداث الكونية المقبلة، فعند قيام الساعة ستنشق الأرض والسماوات كما قال سبحانه إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) [الانشقاق] . كما ينشق القمر وينفصل بعضه عن بعض، وتتناثر النجوم، وتبدّل الأرض غير الأرض والسماوات غير السماوات.
سياق السورة وافكارها
في الآيات [1- 8] وصف لجحود الكافرين، وعدم إيمانهم بالقرآن، وانصرافهم عنه إلى الهوى والبهتان.
وفي الآيات تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين بيوم الجزاء، فهم يخرجون من قبورهم خاشعين من الذل، في حالة سيئة من الرعب والهول، فيسرعون الخطى ليوم الحشر كأنهم جراد منتشر، وقد أسقط في أيديهم، فيقول الكافرون هذا يوم صعب عسر.
خمس حلقات من مصارع المكذبين
الآيات [9- 42] تشتمل على عرض سريع لمصارع قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط، وفرعون وملئه، وكلّها موضوعات سبقت في سور مكّية ولكنها تعرض في هذه السورة عرضا خاصّا، يحيلها جديدة كلّ الجدّة، فهي تعرض عنيفة عاصفة، وحاسمة قاصمة يفيض منها الهول، ويتناثر حولها الرعب ويظللها الدمار والفزع.
وأخصّ ما يميزها في سياق السورة، أنّ كلّا منها يمثل حلقة عذاب رهيبة سريعة لاهثة مكروبة، يشهدها المكذّبون، وكأنّما يشهدون أنفسهم فيها، ويحسّون إيقاعات سياطها فإذا انتهت الحلقة وبدءوا يستردّون أنفاسهم اللاهثة المكروبة، عاجلتهم حلقة جديدة أشدّ هولا ورعبا، حتّى تنتهي الحلقات الخمس في هذا الجو المفزع الخانق.
1- قوم نوح
[الآيات 9- 17] ونلمح في الآيات مشهد المكذّبين،(9/68)
يتهمون نوحا (ع) بالجنون، ونوح يظهر لله ضعفه ويدعوه أن ينتصر له، وتستجيب السماء فينهمر المطر وتنفجر عيون الأرض، ويلتقي ماء السماء بماء الأرض، ثم يغرق الكافرون، وينجي الله نوحا ومن آمن معه، ويطرح القرآن سؤالا لإيقاظ القلوب الى هول العذاب وصدق النذير: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) ؟
وهذا القرآن سهل التناول، ميسّر الإدراك، فيه جاذبية الصدق والبساطة وموافقة الفطرة، لا تفنى عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد، وكلّما تدبّره القلب عاد منه بزاد جديد، وكلّما صحبته النفس زادت له ألفة، وبها أنسا: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) ؟ هذا هو التعقيب الذي يتكرّر بعد كل مصرع من مصارع السابقين.
2- عاد قوم هود
[الآيات 18- 22] أرسل الله عليهم ريحا عاتية، تدمّر كلّ شيء بإذن ربّها، وقد سلسلوا أنفسهم بالسلاسل حتّى لا تعصف بهم الريح، وشقّوا لأجسامهم شقوقا داخل الأرض، وتركوا رؤسهم خارجها، فكانت الريح تكسر رؤوسهم وتتركهم كالنخيل التي قطعت رؤوسها، وتركت أعجازها وجذورها.
3- ثمود قوم صالح
[الآيات 23- 32] وقد أرسل إليهم نبي الله صالح ومعه الناقة، وأخبرهم بأن الماء قسمة بينهم وبينها، فللناقة يوم ولهم يوم، لها شرب ولهم شرب يوم معلوم.
وكان اليوم الذي ترد فيه ثمود البئر، لا تأتي الناقة اليه ولا تشرب منه، ولكنها تسقيهم لبنا وفي اليوم التالي تحضر شربها وحدها. ومع وضوح هذه الآية، فإنّ ثمود ملّت هذه القسمة، وحرّضوا شقيّا من الأشقياء على قتل الناقة، فلما قتلها استحقّوا عقاب الله، وأرسل الله عليهم صيحة واحدة فكانوا كفتات الحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لغنمه.
4- قوم لوط
[الآيات 33- 40] اشتهر قوم لوط، عليه السلام، بالشذوذ الجنسي، حيث استغنى(9/69)
الرجال بالرجال، وهو انتكاس للفطرة وشرود في الرذيلة، ولقد حذرهم لوط مغبة فعلتهم، فكذبوه وجادلوا بالباطل، وجاءت الملائكة الى نبي الله لوط في صورة رجال عليهم مسحة الجمال والجلال، فرغب قوم لوط ان يفعلوا فعلتهم الشنعاء في الملائكة، وراودوه عن ضيفه ليفعلوا بهم اللّواط، فاستحقوا عقوبة السماء، وأرسل الله عليهم حاصبا أي ريحا تحمل الحجارة ليذوقوا العذاب.
5- ثم تعرض حلقة قصيرة عن فرعون وعناده وجحوده، وعقاب الله له حيث أخذه أخذ عزيز مقتدر.
وفي الآيات الأخيرة من السورة [43- 55] تعقيب على هلاك السابقين، وتوجيه لأهل مكة بأنهم لن يكونوا أحسن حالا ممن سبقهم ثم إنّ السّاعة تنتظرهم وهي أدهى وأمرّ من كلّ عذاب شاهدوه فيما سبق، أو سمعوا وصفه فيما مرّ، من الطوفان الذي أصاب قوم نوح، الى الريح الصرصر مع عاد، الى الصاعقة مع ثمود، الى الحاصب مع قوم لوط، الى إغراق فرعون.
5- حكمة الخالق
وتشير الآيات الى حكمة الله العالية وهذه الحكمة تظهر في خلق الكون، وفي خلق السماء والأرض، وفي خلق الإنسان، وفي خلق الطيور والحيوانات، وفي سائر خلق الله يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) [النور] .
إنّ قدرة الله تعالى وراء طرف الخيط البعيد لكل حادث، ولكلّ نشأة ولكلّ مصير، ووراء كل نقطة وكل خطوة وكل تبديل أو تغيير، إنّه قدر الله سبحانه، النافذ الشامل الدقيق العميق.
وأحيانا تخفى الحكمة على العباد، فيستعجلون أمرا، والله لا يعجّل لعجلة العباد فالواجب أن يرضى المؤمن بالقضاء والقدر، وأن يحني رأسه أمام حكمة الله ومشيئته.
ثم يعرض الختام مشهد المجرمين يسحبون في النار على وجوههم ليذوقوا العذاب. ويعرض مشهد المتقين في نعيم الجنة، ورضوان الله العلي القدير.(9/70)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القمر» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «القمر» بعد سورة «الطارق» ، ونزلت سورة «الطارق» بعد سورة «البلد» ، ونزلت سورة «البلد» بعد سورة «ق» ، وكان نزول سورة «ق» فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة «القمر» في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أولها: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وتبلغ آياتها خمسا وخمسين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة: بيان اقتراب الساعة التي أنذر المشركون بها، وقد جاء في آخر سورة «النجم» ، أن ساعتهم قد أزفت، فجاءت هذه السورة بعدها في هذا الغرض تأكيدا له، ورجوعا إلى سياق سورة «الذاريات» وسورة «ق» من الإنذار بالعذاب، وقد جاءت سورة «النجم» بعد سورة «الذاريات» ، للمناسبة المذكورة فيها فلما انتهت مناسبتها عاد السياق الى أصله قبلها.
اقتراب ساعة العذاب الآيات [1- 55]
قال الله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) فذكر سبحانه أن ساعة عذابهم قد اقتربت، وأنهم مع
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....](9/71)
هذا مستمرون في إعراضهم وزعمهم أن ما ينذرون به سحر لا حقيقة له، وأنهم يتبعون في تكذيبهم بذلك أهواءهم، وسيعلمون أنه أمر مستقر، ولقد جاءهم في القرآن من أنباء من قبلهم ما فيه مزدجر وحكمة لهم ثم أمر النبي (ص) أن يتولى عنهم لأنهم لا يتبعون إلا أهواءهم، وأخذ السياق في تهديدهم بذلك اليوم الذي اقترب أجله، وانتقل هذا السياق من تهديدهم بهذا الى تهديدهم بما حصل لمن كذّب قبلهم، ففصّل في هذا ما أجمل في قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) .
وذكر السياق ما حصل لقوم نوح، وما حصل لعاد، وما حصل لثمود، وما حصل لقوم لوط، وما حصل لآل فرعون، ثم ذكر أنهم ليسوا خيرا من أولئك المكذّبين قبلهم حتى يبقي الله عليهم، وأنه سبحانه سيهزم جمعهم ويهلكهم ثم يذيقهم عند قيام الساعة ما هو أدهى وأمرّ، وقد فصّل ما يحصل لهم فيها، ما يحصل فيها للمتقين، ليجمع بهذا بين الترهيب والترغيب، فقال سبحانه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) .(9/72)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «القمر» «1»
أقول: لا يخفى ما في توالي هاتين السورتين من حسن التناسق في التسمية، لما بين «النجم» و «القمر» من الملابسة. ونظيره توالي «الشمس» و «الليل» و «الضحى» ، وقبلها سورة «الفجر» .
ووجه آخر: أن هذه السورة بعد «النجم» «كالأعراف» بعد «الأنعام» ، و «كالصافات» بعد «يس» : إنّها تفصيل لأحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم في قوله، تعالى، هناك: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) [النجم] «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . جاء تفصيل ذلك على الترتيب، وزيد عليه، في سورة القمر، من قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا [الآية 9] ، إلى قوله سبحانه فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) .(9/73)
المبحث الرابع مكنونات سورة «القمر» «1»
1- يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ [الآية 6] .
هو إسرافيل.
2- فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) .
قال زرّ بن حبيش: يوم الأربعاء.
أخرجه ابن أبي حاتم «2» .
3- فَنادَوْا صاحِبَهُمْ [الآية 29] .
هو قدار بن سالف، ويلقّب بالأحمير.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . لم تصح الأحاديث الواردة في ذم يوم الأربعاء مطلقا.(9/75)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «القمر» «1»
1- قال تعالى: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) .
أقول: ولولا خط المصحف لكان الرسم: فما تغني النذر، بالياء في «تغني» . وخطّ المصحف في حذف الياء هذه كان لغرض صوتي، هو أن المد الطويل الذي تحققه الياء يحدث ضربا من الثّقل، عند وصل الفعل بالفاعل «النذر» . فكأن اتصال الكسرة بضمة النون هو اتصال منسجم، لا يتحقّق لو رسمت الياء، فاقتضت ما تستحق من المدّ.
2- وقال تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) .
في قوله تعالى: يَدْعُ الدَّاعِ، وحذفت الواو من الفعل، والياء من الاسم لقصر المدّ الذي يقتضيه إحسان وصل الكلمة بالكلمة التي تتلوها، إحسانا في الأداء لا يتوفّر مع وجود أصوات المدّ.
وقوله تعالى: نُكُرٍ، أي:
منكر، وهو من باب الوصف بالمصدر.
3- وقال تعالى: بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [الآية 25] .
والأشر: البطر المتكبر.
أقول: وفي لغة المعاصرين يقال:
مفترس أشر، أو طمّاع أشر أي: شديد الشراهة والإقبال على الافتراس والقتل والفتك.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(9/77)
4- وقال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) .
وقوله تعالى: كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ، أي: الذي يعمل الحظيرة وما يحتظر به ييبس بطول الزمان، وتتوطّأه البهائم، فيتحطّم ويتهشم.(9/78)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «القمر» «1»
قال: خُشَّعاً [الآية 7] بالنصب على الحال، أي يخرجون من الأجداث خشعا. وقرأ بعضهم (خاشعا) لأنها صفة مقدّمة فأجراها مجرى الفعل نظيرها: خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ [القلم: 43] [والمعارج: 44] .
وقال تعالى: فِي يَوْمِ نَحْسٍ [الآية 19] قرئت: (يوم نحس) على الصفة.
وقال سبحانه: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [الآية 24] بنصب البشر لما وقع عليه حرف الاستفهام، وقد أسقط الفعل على شيء من سببه.
وقال تعالى: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) بجعل المس يذاق في جواز الكلام، ويقال: «كيف وجدت طعم الضرب» ؟ وهذا مجاز.
وأما نصب «كلّ» ، ففي لغة من قال:
«عبد الله ضربته» وهو في كلام العرب كثير. وقد رفعت «كلّ» في لغة من رفع، ورفعت على وجه آخر.
وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بجعل دبر واحد للجماعة في اللفظ. ومثل ذلك قوله جل جلاله:
لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [ابراهيم: 43] .
وقال تعالى: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) بجعل الخبر واحدا على الكل.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(9/79)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «القمر» «1»
إن قيل: ما الحكمة في إعادة التكذيب في قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا [الآية 9] لماذا لم يقل عزّ من قائل: كذبت قبلهم قوم نوح عبدنا؟
قلنا: معناه كذّبوا تكذيبا بعد تكذيب. وقيل إن التكذيب الأول منهم بالتوحيد، والثاني بالرسالة. وقيل التكذيب الأول منهم لله تعالى، والثاني لرسوله (ص) .
فإن قيل: لم قال تعالى في وصف ماء الأرض والسماء: فَالْتَقَى الْماءُ [الآية 12] ولم يقل فالتقى الماءان؟
قلنا: أراد به جنس المياه.
فإن قيل: الجزاء إنما يكون للكافر لا للمكفور، فلم قال تعالى: جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) ؟
قلنا: جزاء مفعول له فمعناه: ففتحنا أبواب السماء وما بعده ممّا كان يسبّب إغراقهم جزاء لله تعالى لأنه مكفور به، فحذف الجار وأوصل الفعل بنفسه، كقوله تعالى وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: 155] والجزاء يضاف إلى الفاعل وإلى المفعول كسائر المصادر.
الثاني: أنه نوح (ع) إما لأنه مكفور به بحذف الجار، كما مر من الكفر الذي هو ضد الإيمان، أو لأنّ كلّ نبيّ نعمة منّ الله بها على قومه، ومنه قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) [الأنبياء] . وقال رجل للرشيد: الحمد لله عليك، فقال ما
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(9/81)
معنى هذا: فقال أنت نعمة حمدت الله عليها، فكأنه قال: جزاء لهذه النعمة المكفورة وكفران النعمة يتعدّى بنفسه، قال الله تعالى: وَلا تَكْفُرُونِ (152) [البقرة] . الثالث: أن «من» بمعنى «ما» ، فمعناه: جزاء لما كان كفر من نعم الله تعالى على العموم. وقرأ قتادة كفر بالفتح: أي جزاء للكافرين.
فإن قيل: لم قال الله تعالى: أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) أي منقلع، ولم يقل منقعرة؟
قلنا: إنّما ذكر الصفة لأنّ الموصوف، وهو النخل، مذكّر اللفظ ليس فيه علامة تأنيث، فاعتبر اللفظ وفي موضع آخر اعتبر المعنى، وهو كونه جمعا، فقال سبحانه: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) [الحاقة] ونظيرهما قوله تعالى: لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) [الواقعة] وقال أبو عبيدة:
النخل يذكّر ويؤنّث، فجمع القرآن اللّغتين. وقيل إنّما ذكر رعاية للفواصل.(9/82)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «القمر» «1»
في قوله تعالى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) استعارة والمراد، والله أعلم، بتفتيح أبواب السماء تسهيل سبل الأمطار حتى لا يحبسها حابس، ولا يلفتها لافت.
ومفهوم ذلك إزالة العوائق عن مجاري العيون من السماء، حتى تصير بمنزلة حبيس فتح عنه باب، أو معقول أطلق عنه عقال. وقوله تعالى: فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) أي اختلط ماء الأمطار المنهمرة، بماء العيون المتفجرة، فالتقى ماءاهما على ما قدره الله سبحانه، من غير زيادة ولا نقصان.
وهذا من أفصح الكلام، وأوقع العبارات عن هذه الحال.
وفي قوله سبحانه: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) ولفظ إلقاء الذّكر مستعار: والمراد به أن القرآن لعظم شأنه، وصعوبة أدائه، كالعبء الثقيل الذي يشقّ على من حمله، وألقي عليه ثقله.
وكذلك قال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) [المزمّل] . وكذلك قول القائل: «ألقيت على فلان سؤالا، وألقيت عليه حسابا» أي سألته عمّا يستكدّ له هاجسه، ويستعمل به خاطره.
وفي قوله سبحانه: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46)
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(9/83)
استعارة، لأن المرارة لا يوصف بها إلا المذوقات والمتطعّمات ولكنّ الساعة لما كانت مكروهة عند مستحقّي العقاب، حسن وصفها بما يوصف به الشيء المكروه المذاق.
ومن عادة من يلاقي ما يكرهه، ويرى ما لا يحبّه، أن يحدث ذلك تهيّجا في وجهه، يدلّ على نفور جأشه، وشدّة استيحاشه، فكذلك هؤلاء إذا شاهدوا أمارات العذاب، ونوازل العقاب، ظهر في وجوههم ما يستدلّ به على فظاعة الحال عندهم، وبلوغ مكروهها من قلوبهم، فكانوا كلائك «1» المضغة المقرة «2» ، وذائق الكأس الصّبرة، في فرط التقطيب، وشدة التهيج. وشاهد ذلك قوله سبحانه:
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) [المؤمنون] .
__________
(1) . اللائك: اسم فاعل من لاك يلوك أي مضغ.
(2) . المقرة على وزن فرحة: المرّة الطعم يقال: مقر الشيء مقرّا إذا صار مرّا.(9/84)
سورة الرّحمن (55)(9/85)
المبحث الأول أهداف سورة «الرحمن» «1»
سورة «الرحمن» سورة مدنية وآياتها 78 آية، نزلت بعد سورة «الرعد» .
وتتميز سورة «الرحمن» بجرسها، وقصر آياتها، وتعاقب الآيات:
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) . فنسمع هذا الرنين الأخّاذ، والإيقاع الصاعد الذاهب الى بعيد، والنعم المتعدّدة بتعليم القرآن، وخلق الإنسان، وتعليم البيان.. وكلّ هذه النعم مصدرها رحمة الرحيم الرحمن، صاحب الفضل والإنعام فإذا استرسلنا في قراءة السورة رأينا حشدا من مظاهر النعم، وآلاء الله الباهرة الظاهرة، في جميل صنعه، وإبداع خلقه، وفي فيض نعمائه، وفي تدبيره للوجود وما فيه، وتوجيه الخلائق كلّها الى وجهه الكريم ...
وسورة «الرحمن» ، إشهاد عام للوجود كلّه على الثّقلين: الإنس والجن، إشهاد في ساحة الوجود، على مشهد من كلّ موجود، مع تحدّ للجن والإنس إن كانا يملكان التكذيب بآلاء الله، تحديا يتكرّر عقب بيان كلّ نعمة من نعمه، التي يعدّدها ويفصّلها، ويجعل الكون كلّه معرضا لها، وساحة الاخرة كذلك.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) .
تكررت هذه الآية في السورة إحدى وثلاثين مرة، لتذكّر الإنس والجن، بنعم الله الجزيلة عليهم، بأسلوب معجز يتحدّى بلغاء العرب ولا شك
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(9/87)
في أنّ هذه النعم الضافية، التي أسبغها ربهم عليهم، تستحق من العباد الشكر والايمان، لا الكفر والطغيان.
والآلاء جمع «ألى» ، أو «إلى» وهي النعمة، أي نعم الله عليكم وافرة، ترونها أمامكم، وخلفكم، وفوقكم، وتحتكم، فبأيّ هذه النعم تكذّبان؟
والخطاب هنا للجنّ والانس، لتذكيرهما بالإفضال المتلاحقة من الله تعالى، ولا يستطيعان أن يكذّبا، أو يجحدا، أيّ نعمة من هذه النعم.
روي أنّ رسول الله (ص) خرج على أصحابه، فقرأ عليهم سورة «الرحمن» ، من أوّلها إلى آخرها، فسكتوا، فقال النبي (ص) : لقد قرأتها على الجنّ، فكانوا أحسن ردّا منكم، كنت كلما أتيت على قوله تعالى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) قالوا: لا بشيء من نعمك ربّنا نكذّب، فلك الحمد.
كما روي أن قيس بن عاصم المنقري، جاء الى رسول الله (ص) فقال له: يا محمد، اتل عليّ شيئا ممّا أنزل عليك، فتلا عليه سورة «الرحمن» ، فقال: أعدها فأعادها (ص) فقال: والله إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وأسفله مغدق، وأعلاه مسفر، وما يقول هذا بشر، وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله وأنك رسول الله.
المعنى الإجمالي للسورة
المنّة على الخلق بتعليم القرآن، وتلقين البيان، ولفت أنظارهم إلى صحائف الوجود الناطقة بآلاء الله:
الشمس، والقمر، والنجم، والشجر، والسماء المرفوعة، والميزان الموضوع، وما فيها من فاكهة، ونخل، وحبّ، وريحان، والجن والإنس، والمشرقان، والمغربان، والبحران بينهما برزخ لا يبغيان، وما يخرج منهما، وما يجري فيهما.
فإذا تمّ عرض هذه الصحائف الكبار، عرض مشهد فنائها جميعا، مشهد الفناء المطلق للخلائق، في ظل الوجود المطلق لوجه الله الكريم الباقي، الذي إليه تتوجّه الخلائق جميعا، ليتصرف في أمرها بما يشاء، قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) .
وفي ظل الفناء المطلق للإنسان، والبقاء المطلق للرحمن، يجيء التهديد المروّع، والتحدّي الكوني للجن والإنس، ومن ثمّ يعرض السياق مشهد(9/88)
النهاية، مشهد القيامة، يعرض في صورة كونية، يرتسم فيها مشهد السماء حمراء سائلة، ومشهد العذاب للمجرمين، ثم يعرض ألوان الثواب للمتقين، ويصف الجنة وما فيها من نعيم مقيم أعدّه الله للمتقين، ويبين أن منازل الجنات مختلفة، ونعيمها متفاوت، والجزاء على قدر العمل.
كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) .
قال المفسّرون: شؤون يبديها لا شؤون يبتديها «1» ، فهو سبحانه صاحب التدبير، الذي لا يشغله شأن عن شأن، ولا يندّ عن علمه ظاهر، ولا خاف والخلق كلهم يسألونه، فهو سبحانه مناط السؤال، وغيره لا يسأل، وهو معقد الرجاء ومظنة الجواب.
وهذا الوجود، الذي لا تعرف له حدود، كله منوط بقدره، متعلّق بمشيئته، وهو سبحانه قائم بتدبيره.
هذا التدبير الذي يتبع ما ينبت، وما يسقط من ورقة، وما يكمن من حبة في ظلمات الأرض، وكل رطب وكل يابس، يتبع الأسماك في بحارها، والديدان في مساربها، والوحوش في أوكارها، والطيور في أعشاشها، وكل بيضة وكل فرخ، وكل خلية في جسم حي.
تفسير النسفي للاية
في تفسير قوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) ، قال النسفي: كل من في السماوات والأرض مفتقرون إليه، فيسأله أهل السماوات ما يتعلّق بدينهم، وأهل الأرض ما يتعلق بدينهم ودنياهم.
وكل وقت وحين، يحدث أمورا ويجدّد أحوالا كما روي أنه عليه السلام تلاها، فقيل له وما ذلك الشأن؟ فقال: من شأن أن يغفر ذنبا ويفرّج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين. وعن ابن عيينة: الدهر عند الله يومان، أحدهما اليوم الذي هو مدة الدنيا، فشأنه فيه الأمر، والنهي، والإحياء، والإماتة، والإعطاء، والمنع واليوم الاخر، هو القيامة، فشأنه فيه الجزاء، والحساب.
وقيل نزلت في اليهود حينما قالوا:
__________
(1) . تفسير النسفي 4: 159، والمعنى يظهرها امام أعين الناس ولا يبتكرها اليوم بل يقضي بوقوعها، ومن أصول الإيمان أن نؤمن بالقضاء والقدر. والقضاء ما وقع أمام الناس والقدر ما قدّر الله وقوعه في الأزل.(9/89)
إنّ الله لا يقضي يوم السبت شأنا.
وسأل بعض الملوك وزيره عن الآية، فاستمهله الى الغد، وذهب كئيبا يفكّر فيها فقال غلام له أسود: يا مولاي أخبرني ما أصابك، فأخبره، فقال الغلام أنا أفسرها للملك فأعلمه، فقال أيها الملك: شأن الله أنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحيّ من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيما ويسقم سليما، ويبتلي معافى ويعافي مبتلى، ويعزّ ذليلا، ويذلّ عزيزا، ويغني فقيرا. فقال الملك: أحسنت، وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة، فقال: يا مولاي هذا من شأن الله. وقيل سوق المقادير إلى المواقيت. وقيل إن عبد الله بن طاهر دعا الحسين بن الفضل، وقال له أشكلت علي آيات دعوتك لتكشفها لي: قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) وقد صح أن القلم جفّ، بما هو كائن الى يوم القيامة. فقال الحسين: كل يوم هو في شأن، فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها «1» أي يظهرها لعباده في واقع الناس، على وفق ما قدّره في الأزل، من إحياء وإماتة، وإعزاز وإذلال، وإغناء وإعدام، وإجابة داع، وإعطاء سائل، وغير ذلك «2» فالناس يسألونه سبحانه بصفة مستمرّة، وهو سبحانه مجيب الدعاء، بيده الخلق والأمر، يغيّر ولا يتغيّر، يجير ولا يجار عليه، يقبض ويبسط ويخفض ويرفع، وهو بكل شيء عليم.
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) .
__________
(1) . تفسير النسفي 4: 159.
(2) . تفسير الجلالين ص 494. [.....](9/90)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الرحمن» «1»
تاريخ نزولها وتسميتها
نزلت سورة «الرحمن» بعد سورة «الرعد» ، ونزلت سورة «الرعد» ، فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك، فيكون نزول سورة «الرحمن» في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لافتتاحها به في قوله تعالى: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ 99 (2) وتبلغ آياتها ثماني وسبعين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة، الدعوة إلى الله تعالى، بطريق الترغيب، وذلك بتعداد نعمه على عباده، وقد أخذ المشركون في السورة السابقة، بطريق الإنذار والترهيب، فأخذوا في هذه السورة بطريق الترغيب، تفنّنا في السياق، وتجديدا لنشاط السامع، على أنها لم تخل مع هذا من الأخذ بالترهيب أيضا.
تعداد نعم الله على عباده الآيات [1- 78]
قال الله تعالى: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) فذكر سبحانه نعمته على عباده بإنزال القرآن لهدايتهم، وبخلقهم وتعليمهم البيان، وبخلق الشمس والقمر بحسبان، وبخلق النجم والشجر، وبرفع السماء ووضع الميزان، وبوضع الأرض وما فيها، من فاكهة ونخل وحبّ وريحان ثم ذكر سبحانه أنه خلق الإنسان من
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرخ.(9/91)
صلصال، والجانّ من نار، وأنه ربّ المشرقين والمغربين، وأنه مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان، ويخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، وتجري فيهما السفن كالأعلام ثم ختم السياق بقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) ليبين أن الإنسان يتمتّع بذلك الى أجل، فلا يصح أن يغتر به وينسى ربّه ثمّ عدّد سبحانه نعمه، فذكر أنه يسأله من في السماوات والأرض، ما يحتاج إليه في دينه ودنياه كل يوم، وأنه سيفرغ لهم ويحاسبهم على جحد هذه النعم، فلا يمكنهم أن يفلتوا من حسابه وأنه سيرسل عليهم شواظا من نار ونحاس، فلا يمنعهم منهما أحد، وأن ذلك سيكون إذا انشقت السماء فكانت وردة كالدّهان ثم ذكر سبحانه ما يكون من حسابهم وعقابهم في ذلك اليوم وأعقبه جلّ شأنه بذكر ما أعدّه لمن خاف مقامه فلم يجحد ما أنعم به عليه، ومضى السياق في تفصيل هذا إلى أن ختمه بقوله تعالى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78) .(9/92)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الرحمن» «1»
أقول: لمّا قال سبحانه وتعالى في آخر القمر: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) . ثم وصف حال المجرمين في سقر، وحال المتّقين في جنّات ونهر، فصل هذا الإجمال في هذه السورة أتمّ تفصيل، على الترتيب الوارد في الإجمال.
فبدأ بوصف مرارة الساعة، والإشارة الى إدهائها، ثم وصف النار وأهلها «2» ، والجنّة وأهلها «3» ، ولذا قال فيهم: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) . وذلك هو عين التقوى «4» .
ولم يقل: لمن آمن وأطاع، أو نحوه، لتتوافق الألفاظ في التفصيل والمفصّل.
وعرف بذلك، أنّ هذه السورة بأسرها، شرح لآخر السورة التي قبلها، فلله الحمد، على ما ألهم وفهّم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . وصف النار وأهلها جاء في قوله تعالى في سورة الرحمن: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) إلى يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) .
(3) . وصف الجنة وأهلها جاء في قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) الى آخر السورة.
(4) . التقوى هي: خوفه عزّ وجلّ. وبذلك يتفق التفصيل هنا مع الإجمال في قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) .(9/93)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الرحمن» «1»
1- وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) .
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب، وعطاء: أنها نزلت في أبي بكر «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . وسبب ذلك جاء في رواية عطاء، التي أخرجها عنه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، في كتاب «العظمة» : أن أبا بكر، ذكر، ذات يوم، القيامة والموازين، والجنة والنار، فقال: وددت أني كنت خضراء من هذه الخضر، تأتي عليّ بهيمة تأكلني، وأني لم أخلق. فنزلت: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) . انظر «الباب النقول في أسباب النزول» للسيوطي ص 716 (بهامش تفسير الجلالين)
.(9/95)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الرحمن» «1»
1- وقال تعالى: يهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ
(66) . قوله تعالى:
َّاخَتانِ
(66) ، أي: فوّارتان بالماء.
أقول: والنّضخ والنّضح واحد، إلّا أنّ الأوّل أكثر وهذه من فوائد الإبدال الصوتي في العربية، ومثل هذا الهدير والهديل.
2- وقال تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) .
«الرفرف» : ضرب من البسط، وقيل الوسائد، وقيل: كلّ ثوب عريض رفرف. وقرئ «رفارف خضر» وقرئ: (وعباقري حسان) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(9/97)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الرحمن» «1»
قال تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) أي: بحساب. وأضمر الخبر. أظن، والله أعلم، كأنّه أراد يجريان بحساب «2» .
وقال تعالى: ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وواحدها «الكمّ» .
وقال سبحانه: ذَواتا أَفْنانٍ (48) وواحدها: «الفنن» «3» .
وقال جلّ شأنه: مُدْهامَّتانِ (64) تقول «ازورّ» و «ازوارّ» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نقله في زاد المسير 8: 106.
(3) . في الهامش: «الفنن» جمعها «الأفنان» ثم «الأفانين» وهي «الأغصان» .(9/99)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الرحمن» «1»
إن قيل: أيّ مناسبة بين رفع السماء ووضع الميزان حتى قرن بينهما؟
قلنا: لما صدّرت هذه السورة بتعديد نعمه سبحانه على عبيده، ذكر سبحانه من جملتها وضع الميزان الذي به نظام العالم وقوامه، ولا سيّما أن المراد بالميزان العدل في قول الأكثرين، والقرآن في قول، وكل ما تعرف به المقادير في قول، كالمكيال والميزان والذراع المعروف، ونحوها.
فإن قيل: قوله تعالى: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) أي لا تجاوزوا فيه العدل، مغن عمّا بعده من الجملتين، فما الحكمة في ورودهما؟
قلنا: المراد بالطغيان فيه أخذ الزائد، وبالإخسار فيه إعطاء الناقص، وأمر بالتوسط الذي هو إقامة الوزن بالقسط، ونهى عن الطرفين المذمومين.
فإن قيل: لم قال تعالى هنا:
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وهو الطين اليابس الذي لم يطبخ لكن له صلصلة: أي صوت إذا نقر وقال تعالى في موضع آخر:
مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:
26 و 28] وقال تعالى: مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) [الصّافات] وقال تعالى: مِنْ تُرابٍ [الروم: 20] ؟
قلنا: الآيات كلها متفقة في المعنى.
لأنّه تعالى خلق الإنسان من تراب، ثمّ جعله طينا، ثمّ حمأ مسنونا، ثم صلصالا.
فإن قيل: لم قال تعالى:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(9/101)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فكرر ذكر الرب، ولم يكرره في سورة المعارج، بل أفرده فقال تعالى فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج: 40] وكذا في سورة المزمّل: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) ؟
قلنا: إنما ذكر الرب تأكيدا، فكان التأكيد بهذا الموضع أليق منه بذينك الموضعين، لأنه موضع الامتنان وتعديد النعم، ولأنّ الخطاب فيه مع جنسين وهما الإنس والجن.
فإن قيل: بعض الجمل المذكورة في هذه السورة، ليست من النعم، كقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وقوله تعالى: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فكيف حسن الامتنان بعدها بقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) ؟
قلنا: من جملة الآلاء دفع البلاء وتأخير العقاب، فإبقاء من هو مخلوق للفناء نعمة. وتأخير العقاب عن العصاة أيضا نعمة، فلهذا امتنّ علينا بذلك.
فإن قيل: لم قال تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) والله تعالى لا يشغله شيء؟
قلنا: قال الزجّاج: الفراغ في اللغة على ضربين أحدهما الفراغ من شغل، والاخر القصد للشيء والإقبال عليه، وهو تهديد ووعيد، ومنه قولهم:
سأتفرّغ لفلان: أي سأجعله قصدي، فمعنى الآية سنقصد لعقابكم، وعذابكم، وحسابكم.
فإن قيل: لم وعد سبحانه الخائف جنّتين فقط؟
قلنا: لأن الخطاب للثّقلين، فكأنّه قيل لكلّ خائفين من الثقلين جنتان، جنة للخائف الإنسي، وجنة للخائف الجنّي. وقيل المراد به أن لكل خائف جنتين، جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصي. وقيل جنة يثاب بها، وجنة يتفضّل بها عليه زيادة، لقوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] أي الجنة وزيادة.
فإن قيل: لم قال تعالى: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ [الآية 56] ولم يقل سبحانه فيهما، والضمير للجنتين؟
قلنا: الضمير لمجموع الآلاء المعدودة: من الجنتين، والعينين، والفاكهة، وغيرها، مما سبق ذكره.
وقيل: هو للجنتين، وإنّما جمع لاشتمال الجنتين على قصور ومنازل.(9/102)
وقيل: الضمير للمنازل والقصور، التي دل عليها ذكر الجنتين. وقيل: الضمير لمجموع الجنان، التي دل عليها ذكر الجنتين. وقيل: الضمير عائد الى الفرش، لأنها اقرب، وعلى هذا القول «في» بمعنى على، كما في قوله تعالى أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ [الطور:
38] .
فإن قيل: لم قال الله تعالى لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) أي لم يفتضّهن، ونساء الدنيا لا يفتضّهن الجان، فما الحكمة في تخصيص الحور بذلك؟
قلنا: معناه أن تلك القاصرات الطرف إنسيّات للإنس وجنّيات للجنّ، فلم يطمث الإنسيات إنسي، ولا الجنيات جني وهذه الآية دليل على أن الجنّ يواقعون كما يواقع الإنس.
وقيل فيها دليل، على أن الجني يغشى الإنسيّة في الدنيا.(9/103)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الرحمن» «1»
في قوله تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) ، استعارة: فالنجم هاهنا ما نجم من النبات. أي طلع وظهر.
والمراد بسجود النبات والشجر، والله أعلم، ما يظهر عليها من آثار صنعة الصانع الحكيم، والمقدّر العليم، بالتنقّل من حال الإطلاع، الى حال الإيناع، ومن حال الإيراق الى حال الإثمار، غير ممتنعة على المصرّف، ولا آبية على المدبّر.
وفي قوله سبحانه: وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) ، نلاحظ أن لفظ الميزان هاهنا مستعار، على أحد التأويلين. وهو أن يكون معناه العدل الذي تستقيم به الأمور، ويعتدل عليه الجمهور. وشاهد ذلك قوله تعالى:
وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الإسراء: 35] أي بالعدل في الأمور.
وروي عن مجاهد «2» أنه قال:
القسطاس: العدل بالرومية. ويقال:
قسطاس، وقسطاس. بالضم والكسر، كقرطاس وقرطاس.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . هو من المفسرين الأوّلين للقرآن الكريم، والمشهور أنه أول من دوّن في التفسير. وتفسيره غير موجود. ولعل الموجود هو تفسير ابن عبّاس رواه مجاهد. وذكر ابن عطية في «مقدمته» أن صدر المفسرين، والمؤيد فيهم، هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويتلوه عبد الله بن عبّاس، ويتلوه مجاهد وسيعد بن جبير وغيرهما، ويذكر ابن عطية أن مجاهدا قرأ على ابن عبّاس، قراءة تفهّم ووقوف، عند كل آية. وذكر جرجي زيدان، أن مجاهدا توفي سنة 104 هـ. انظر «تاريخ آداب اللغة العربية» ج 1 ص 205، و «مقدّمتان في علوم القرآن» بتحقيق المستشرق أرثر جفري، ونشر مكتبة الخانجي. [.....](9/105)
وفي قوله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) استعارة. والمراد: أنه سبحانه أرسل البحرين طاميين، وأمارهما مائعين، وهما يلتقيان بالمقاربة، لا بالممازجة، فبينهما حاجز يمنعهما من الانحراف، ويصدّهما عن الاختلاط.
ومعنى قوله تعالى: لا يَبْغِيانِ (20) أي لا يغلب أحدهما على الاخر، فيقلبه إلى صفته، لا الملح على العذب، ولا العذب على الملح. وكنى تعالى بلفظ البغي، عن غلبة أحدهما على صاحبه. لأن الباغي، في الشاهد، اسم لمن تغلّب من طريق الظلم بالقوة والبسطة، والتطاول والسطوة.
وقد مضى الكلام على مثل هذه الاستعارة في ما تقدّم. إلّا أن فيها هاهنا زيادة، أوجبت إعادة ذكرها.
وفي قوله سبحانه: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) استعارة. وقد تقدّم الكلام على نظيرها. والمراد:
وتبقى ذات ربّك وحقيقته. ولو كان محمولا على ظاهره، لكان فاسدا مستحيلا، على قولنا وقول المخالفين.
لأنه لا أحد يقول من المشبّهة والمجسّمة، الذين يثبتون لله سبحانه أبعاضا مؤلّفة، وأعضاء مصرّفة، إنّ وجه الله سبحانه يبقى، وسائره يبطل ويفنى. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
ومن الدليل على أن المراد بوجه الله هاهنا، ذات الله، قوله سبحانه: ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) ألا ترى أنه سبحانه، لمّا قال في خاتمة هذه السورة: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ قال: ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78) ولم يقل (ذو) لأن اسم الله غير الله، ووجه الله هو الله، وهذا واضح البيان، وقد مضى الكلام على هذا المعنى فيما تقدم.
وفي قوله سبحانه: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) استعارة. وقد كان والدي الطاهر الأوحد، ذو المناقب، أبو أحمد الحسين «1» ، ابن موسى
__________
(1) . كان نقيب الأشراف في بغداد، وهو والد الشريفين: الرضي، والمرتضى، وقد تعرّض للقبض عليه من قبل عضد الدولة بن بويه سنة 369 هـ ثم أطلقه ابنه شرف الدولة ابن بويه، وعزل عن النقابة سنة 384 هـ ثم أعيد إليها سنة 394 هـ وأضيف إليه الحج والمظالم، فلم يزل على ذلك، الى أن توفي ضريرا سنة 400 هـ، فرثاه ولداه كما رثاه أبو العلاء المعري، ومهيار الديلمي، وجماعة من الشعراء.(9/106)
الموسوي، رضي الله عنه وأرضاه، سألني عن هذه الآية في عرض كلام جرّ ذكرها، فأجبته في الحال بأعرف الأجوبة المقولة فيها. وهو أن يكون المراد بذلك: سنعمد لعقابكم، ونأخذ في جزائكم، على مساوئ أعمالكم، وأنشدته بيت جرير كاشفا عن حقيقة هذا المعنى.
وهو قوله:
ألان وقد فرغت الى نمير ... فهذا حين صرت لها عذابا
فقال: فرغت إلى نمير، كما يقول:
عمدت إليها. فأعلمنا أن معنى فرغت هاهنا معنى عمدت وقصدت. ولو كان يريد الفراغ من الشغل لقال: فرغت لها، ولم يقل فرغت إليها.
وقال بعضهم: إنما قال سبحانه:
سَنَفْرُغُ لَكُمْ (31) ولم يقل: سنعمد.
لأنه أراد أي سنفعل فعل من يتفرغ للعمل من غير تجميع «1» فيه، ولا اشتغال بغيره عنه، ولأنه لما كان الذي يعمد الى الشيء ربّما قصّر فيه لشغله معه بغيره، وكان الفارغ له، في الغالب، هو المتوفّر عليه دون غيره، دللنا بذلك على المبالغة في الوعيد، من الجهة التي هي أعرف عندنا، ليقع الزجر بأبلغ الألفاظ، وأدلّ الكلام على معنى الإبعاد.
وقال بعضهم: أصل الاستعارة موضوع على مستعار منه ومستعار له، فالمستعار منه أصل، وهو أقوى.
والمستعار له فرع، وهو أضعف. وهذا مطّرد في سائر الاستعارات، فإذا تقرر ذلك كان قوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) من هذا القبيل.
فالمستعار منه هاهنا ما يجوز فيه الشغل، وهو أفعال العباد، والمستعار له مالا يجوز فيه الشغل، وهو أفعال الله تعالى. والمعنى الجامع لهما الوعيد، إلّا أن الوعيد بقول القائل:
سأتفرّغ لعقوبتك، أقوى من الوعيد بقوله: سأعاقبك. من قبل أنه كأنما قال: سأتجرّد لمعاقبتك، كأنه يريد استفراغ قوّته في العقوبة له.
ثم جاء القرآن على مطرح كلام العرب، لأن معناه أسبق الى النفس، وأظهر للعقل، والمراد به تغليظ الوعيد، والمبالغة في التحذير. ومثل
__________
(1) . التمجيع: الممازحة والمماجنة في العمل، وعدم أخذه مأخذه الجد.(9/107)
ذلك قوله تعالى في المدّثّر: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) فالمستعار منه هاهنا ما يجوز فيه المنع، وهو أفعال العباد، والمستعار له مالا يجوز فيه المنع، وهو أفعال القديم سبحانه كما قلنا أولا والمعنى الجامع لهما: التخويف والتهديد.
والتهديد بقول القائل: «ذرني وفلانا» ، إذا أراد المبالغة في وعيده، أقوى من قوله: خوّف فلانا من عقوبتي، وحذّره من سطوتي. وهذا بيّن بحمد الله تعالى.
وقد يجوز أن يكون لذلك وجه آخر، وهو أن يكون معنى قوله تعالى:
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أي سنفرّغ لكم ملائكتنا الموكّلين بالعذاب، والمعدين لعقاب أهل النار. ونظير ذلك قوله تعالى:
وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) [الفجر] أي جاء ملائكة ربّك. ويكون تقدير الكلام: وجاء ملائكة ربّك وهم صفّا صفّا. كما تقول: أقبل القوم وهم زحفا زحفا. والملك هاهنا لفظ الجنس، وإنما أعيد ذكر الملك ليدل على المحذوف الذي هو اسم الملائكة، لأنه ما كان يسوّغ أن يقول:
وجاء ربك وهم صفّا صفّا، ويريد الملائكة على التقدير الذي قدّرناه، لأنّ الكلام كان يكون ملبسا، والنظام مختلا مضطربا.
وقد يجوز أيضا أن يكون المعنى:
وجاء أمر ربك، والملك صفّا صفّا.
كلا القولين جائز.
وقرأ «1» حمزة والكسائي: (سيفرغ لكم) ، بالياء وفتحها.
__________
(1) . انظر القرطبي ج 17 ص 169.(9/108)
سورة الواقعة (56)(9/109)
المبحث الأول أهداف سورة «الواقعة» «1»
سورة «الواقعة» سورة مكية آياتها 96 آية، نزلت بعد سورة «طه» .
ثلاثة أصناف
عند قيام القيامة يرتفع شأن المؤمنين، وينخفض قدر المكذّبين، وينقسم الناس الى ثلاثة اقسام:
أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والسّابقون المقرّبون.
وقد فصّلت الآيات [10- 26] ما أعدّ للسابقين في جنات النعيم، فهم عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) ، مشبكة بالمعادن الثمينة، مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) في راحة وخلوّ بال من الهموم والمشاغل، ولهم في الجنة ما يشتهون، من المتعة والنعيم والحور العين، وحياتهم كلّها سلام: تسلّم عليهم الملائكة، ويسلّم بعضهم على بعض، ويبلغهم السلام من الرحمن.
أصحاب اليمين
تصف الآيات [27- 40] ما أعدّ لأصحاب اليمين، فهم في سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) والسّدر شجر النبق الشائك، ولكنه هنا مخضود شوكه ومنزوع، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) والطّلح شجر الموز، منضود معدّ للتداول، بلا كدّ ولا مشقة.
يتمتع أصحاب اليمين بألوان البهجة وصنوف التكريم، فهم في حدائق من شجر نبق لا شوك فيه، وشجر موز منتظم الثمر، وفي ظل منبسط، وماء
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(9/111)
يجري بين أيديهم كما يشاءون، ولديهم فاكهة كثيرة الكمّ والأنواع، لا تنقطع عنهم ولا يمنعون من تناولها، وقد أعدّ لهم في الجنة أسرّة عالية طاهرة، عليها زوجات طاهرات، قد خلقن خلقا جديدا يتّسم بالكمال والجمال، وأنشئن إنشاء جديدا من غير ولادة، وهنّ أبكار لم يمسسن عُرُباً [الآية 37] متحبّبات إلى أزواجهنّ أَتْراباً (37) كلهن في سن واحدة، في ريعان الشباب، وطراوة الصّبا.
أصحاب الشمال
تصف الآيات [41- 57] ما أعدّ لأصحاب الشمال، فهم في سَمُومٍ (42) وهو هواء ساخن ينفذ الى المسام، ويشوي الأجسام، وَحَمِيمٍ (42) وهو ماء متناه في الحرارة، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) ظل من دخان أسود ساخن، لا بارد كسائر الظلال، ولا كريم ينتفع به، لأنهم كفروا بالله، وانغمسوا في الشهوات، وأنكروا البعث والجزاء.
آيات القدرة الالهية
تعرض الآيات [58- 74] آثار القدرة الإلهية المبدعة، وتحرّك قلوب المشاهدين، لينظروا في أصل خلقتهم، وفي زرعهم الذي تزاوله أيديهم، وفي الماء الذي يشربون، وفي النار التي يوقدون.
وهي طريقة فذة للقرآن الكريم، حين يلفت الإنسان الى أبسط مظاهر الحياة ومشاهدها، ليبني له أضخم عقيدة دينية، وأوسع تصوّر كوني. هذه المشاهدات التي تدخل في تجارب كلّ انسان، في النسل، في الزرع، في الماء، في النار فأيّ انسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه؟
من هذه المشاهدات البسيطة الساذجة، ينشئ القرآن العقيدة، لأنه يخاطب كل إنسان في بيئته.
وهذه المشاهدات البسيطة هي بذاتها أضخم الحقائق الكونية وأعظم الأسرار الربّانية:
نشأة الحياة الإنسانية ... وهي سر الأسرار.
نشأة الحياة النباتية معجزة كذلك، الماء أصل الحياة، النار ... المعجزة التي صنعت الحضارة الانسانية.(9/112)
أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) .
«إنّ دور البشر في أمر هذا الخلق لا يزيد على أن يودع الرجل ما يمني رحم امرأة، ثم ينقطع عمله وعملها، وتأخذ يد القدرة في العمل وحدها في هذا الماء المهين، تعمل وحدها في خلقه، وتنميته، وبناء هيكله، ونفخ الروح فيه، ومنذ اللحظة الأولى، وفي كل لحظة تالية، تتحقّق المعجزة، وتقع الخارقة التي لا يصنعها إلّا الله، والتي لا يدري البشر كنهها وطبيعتها، كما لا يعرفون كيف تقع، بله أن يشاركوا فيها» «1» .
الزرع والماء والنار
يتابع القرآن الكريم طرقاته على القلب البشري ليتأمّل، ويخاطب النفوس الإنسانية، ليرشدها الى مواطن القدرة فيما بين يديها.
فهذا الزرع الذي ينبت ويؤتي ثماره، ما دورهم فيه؟ إنهم يحرثون، ويلقون الحب والبذور التي صنعها الله.. ثم تسير الحبة في طريقها للنمو، سير العاقل، العارف الخبير بمراحل الطريق، الذي لا يخطئ ولا يضل.
إنّ يد القدرة هي التي تتولّى خطاها على طول الطريق، فإذا الحبة عود أخضر ناضر، وإذا النواة نخلة كاملة سامقة مثمرة.
ويتابع القرآن لمساته لاستثارة التفكير والتأمّل، فيناقش المخاطبين:
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) .
أي أخبروني أيّها المنكرون الجاحدون عن الماء العذب الذي تشربونه، هل فكّرتم وتدبّرتم من الذي صعّده من البحار والمحيطات، وجعله بخارا، ثمّ سحابا متراكما، ثمّ صيّره ماء عذبا فراتا.
ولو شاء الله سبحانه لجعل ذلك الماء ملحا مرّا، لا يحيي الزرع ولا الضّرع، ولا يستساغ لمرارته، فهلا تشكرون ربّكم على إنزال المطر، عذبا زلالا سائغا، لشرابكم أنتم وأنعامكم وزرعكم.
ثم يذكّر هم بنعمة النار التي يوقدونها: من الذي أنبت شجرتها
__________
(1) . في ظلال القرآن 27: 139.(9/113)
الخضراء من الأرض، وأودع في الشجرة العناصر الأوّلية القابلة للاشتعال لقد جعل الله، سبحانه، النار في الدنيا تذكرة للناس بنار الاخرة وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) أي للمسافرين فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) أي نزّه الله، سبحانه، وأنسب إليه، جلّ جلاله، العظمة والقدرة والخلق والإبداع، فهو الإله العلي القدير.
مواقع النجوم
في الآيات [75- 80] نلمس سموّ القرآن وطهارته، وعلوّ شأنه ومنزلته.
وقد مهّدت الآيات ببيان آثار القدرة، في خلق النجوم، وتحديد أماكنها، وتنظيم سيرها، بحيث لا يصطدم نجم باخر. قال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) .
«ويقول الفلكيون، إنّ من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدّة بلايين نجم، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة، وما لا يرى إلّا بالمجاهر والأجهزة، وما يمكن أن تحسّ به الأجهزة دون أن تراه هذه كلّها تسبح في الفلك الغامض، ولا يوجد أيّ احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم، من مجال نجم آخر، أو يصطدم بكوكب آخر، إلّا كما يحتمل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسط باخر في المحيط الهادي يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة، وهو احتمال بعيد وبعيد جدا ان لم يكن مستحيلا» «1» .
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) .
وليس قول كاهن، كما تدّعون، ولا قول مجنون، ولا مفتر على الله من أساطير الأولين، ولا تنزّلت به الشياطين الى آخر هذه الأقاويل. إنما هو قرآن كريم، كريم بمصدره، وكريم بذاته، وكريم باتجاهاته، كريم على الله، كريم على الملائكة، كريم على المؤمنين.
لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) من دنس الشّرك والنفاق، ودنس الفواحش، أي لا تصل أنوار القرآن وبركاته وهدايته، إلّا إلى القلوب الطاهرة.
__________
(1) . عبد الرزاق نوفل الله والعلم الحديث، ص 33.(9/114)
وروي عن علي رضي الله عنه، وابن مسعود، ومالك، والشافعي، أنّ المعنى: لا يمسّه من كان على جنابة، أو حدث، أو حيض.
وروي عن ابن عبّاس، والشّعبي، وجماعة، منهم أبو حنيفة، أن المصحف، أو بعضه، يجوز للمحدث مسّه، وبخاصة للدرس والتعليم «1» .
نهاية الحياة
في الآيات [83- 96] نجد الإيقاع الأخير في السورة لحظة الموت، اللمسة التي ترتجف لها الأوصال، واللحظة التي تنهي كلّ جدال، واللحظة التي يقف فيها الحي بين نهاية طريق وبداية طريق، حيث لا يملك الرجوع ولا يملك النّكوص: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) .
وإننا لنكاد نسمع صوت الحشرجة، ونبصر تقبّض الملامح، ونحسّ الكرب والضيق، من خلال قوله تعالى:
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) ، كما نكاد نبصر نظرة العجز، وذهول اليأس، في ملامح الحاضرين، من خلال قوله تعالى: وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) .
هنا، في هذه اللحظة، وقد فرغت الروح من أمر الدنيا، وخلّفت وراءها الأرض وما فيها وهي تستقبل عالما لا عهد لها به، ولا تملك من أمره شيئا، إلّا ما ادّخرت من عمل، وما كسبت من خير أو شر.
فإن كان الميت المحتضر من السابقين في الإيمان، فروحه ترى علائم النعيم الذي ينتظرها: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) ، وهم دون المقرّبين السّابقين في المنزلة والدرجة، فإنّ الملائكة تبلّغه السلام من الله، ومن الملائكة ومن أقرانه أصحاب اليمين، وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فنزله عند ذلك، الحميم الساخن، والماء الحار، وعذاب الجحيم.
ثم تختم السورة في إيقاع عميق رزين، يفيد أن ما قصّه الله سبحانه في هذه السورة، حقّ ثابت، ويقين صادق لا شكّ فيه.
__________
(1) . انظر المنتقى للشوكاني.(9/115)
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) .
الأفكار العامة للسورة
قال الفيروزآبادي: معظم مقصود السورة: ظهور واقعة القيامة، وأصناف الخلق، بالإضافة الى العذاب والعقوبة، وبيان حال السّابقين بالطّاعة، وبيان حال قوم يكونون متوسّطين بين أهل الطّاعة، وأهل المعصية، ويذكر حال أصحاب الشمال، والغرقى في بحر الهلاك، وبرهان البعث من ابتداء الخلقة، ودليل الحشر والنشر من الحرث والزرع، وحديث الماء والنار، وما ضمنهما من النعمة والمنّة، ومن المصحف وقراءته في حالة الطهارة، وحال المتوفّى في ساعة السّكرة، وذكر قوم بالبشارة، وقوم بالخسارة، والشهادة للحق سبحانه بالكبرياء والعظمة «1» بقوله سبحانه: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) ، وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) ، أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) .
بدئ بذكر خلق الإنسان، ثم بما لا غنى له عنه، وهو الحبّ الذي منه قوته وقوّته، ثم الماء الذي منه سوغه وعجنه، ثمّ النّار التي بها نضجه وصلاحه «2» .
فضل السورة
عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: «من قرأ سورة الواقعة في كلّ ليلة، لم تصبه فاقة أبدا» «3» .
__________
(1) . بصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي 1: 451.
(2) . المصدر نفسه، الموضع نفسه.
(3) . في شهاب البيضاوي: «هذا ليس بموضوع وقد رواه البيهقي وغيره» .(9/116)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الواقعة» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «الواقعة» بعد سورة «طه» ، ونزلت سورة «طه» فيما بين الهجرة الى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة «الواقعة» في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) وتبلغ آياتها ستّا وتسعين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة: تفصيل جزاء المؤمنين والكافرين في يوم القيامة، فهي من باب الدعوة بطريق الترغيب والترهيب، وبهذا تكون مناسبة للسّور التي ذكرت قبلها في هذا الغرض وهذا إلى أن سورة الرحمن قد اشتملت على تعداد النعم، ومطالبة الإنسان بالشكر عليها، ومنعه من جحدها، فجاءت سورة الواقعة بعدها، لبيان جزاء الشاكرين للنعم، والجاحدين لها.
تفصيل الجزاء الأخروي الآيات [1- 96]
قال الله تعالى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) فذكر سبحانه أنه إذا قامت القيامة لا يكذّبها أحد، وأنّها تخفض قوما وترفع آخرين. ثم ذكر تعالى أنها إذا وقعت، ترجّ الأرض
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(9/117)
رجّا، وتبسّ الجبال بسّا، ويكون الناس ثلاثة أصناف: أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، والسّابقون من أصحاب الميمنة، لأنّ أصحاب الميمنة على درجات، والسّابقون أعلاهم، وهم جماعة كثيرة من المهاجرين والأنصار وجماعة قليلة من التّابعين، ومن بعدهم ثم ذكر جلّ شأنه ما أعد لهم من الجزاء، وذكر بعده جزاء أصحاب اليمين ممّن لم يصل الى درجة السابقين، وذكر بعد جزائهم جزاء أصحاب الشمال، وأن سببه أنه أترفهم بنعمه، فكفروا به، وأنكروا أن يبعثهم بعد أن يصيروا ترابا وعظاما.
وأجاب سبحانه عن هذه بأنه لا بدّ من جمعهم بعد موتهم، ولا بدّ من عقابهم على كفرهم، بالأكل من شجر الزّقّوم، إلى غير هذا مما أعدّه لهم، ثم ذكر من آياته ما يدل على قدرته على بعثهم، فذكر أنه خلقهم من تلك النّطف التي لا يمكنهم أن يزعموا أنهم الخالقون لها، وأنّه قدّر بينهم الموت، وليس بمسبوق عاجز عن إعادتهم في ما لا يعلمون من الأوصاف والأخلاق ثم ذكر جلّ وعلا أنه هو الذي يخرج نبات ما يحرثون، وأنه هو الذي ينزل من المزن الماء الذي يشربون، وأنه هو الذي أنشأ الشجرة التي يقدحون النار منها، وقد جعلها تذكرة لنار يوم القيامة، ومتاعا لمن يوقدها: نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) .
ثم أمر النبي (ص) أن يقوم بتسبيحه ليخالف طريق أولئك الكافرين، وأقسم لهم بمواقع النجوم، أن ما ينزله عليهم في ذلك قرآن كريم، يراد به خيرهم، ثم وبّخهم على تكذيبهم له، فيما حدّثهم به من تفصيل الجزاء الأخروي وذكر أنه لو صح ما يزعمون، من أنه لا جزاء بعد الموت، لأمكنهم أن يرجعوا أرواحهم إلى أبدانهم وقت خروجها، ليعوّقوا الجزاء الذي ينتظرهم وإذا لم يكن هذا في إمكانهم، فلا بد من ذلك الجزاء، ليلقى كل شخص ما يستحقه على عمله. فإن كان من المقربين (السّابقين) ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وإن كان من أصحاب اليمين (غير السابقين) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وإن كان من المكذّبين الضّالّين فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) .(9/118)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الواقعة» «1»
أقول: هذه السورة متاخية مع سورة الرحمن، في أن كلّا منهما في وصف القيامة، والجنة والنار. وانظر الى اتصال قوله تعالى هنا: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) بقوله سبحانه هناك: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ [الرحمن: 37] . ولهذا اقتصر في «الرحمن» على ذكر انشقاق السماء، وفي «الواقعة» على ذكر رجّ الأرض «2» . فكأن السورتين، لتلازمهما واتحادهما، سورة واحدة.
ولهذا عكس الترتيب: فذكر في أول هذه السورة ما ذكر في آخر تلك، وفي آخر هذه ما في أول تلك، كما أشرت إليه في سورة آل عمران مع سورة البقرة.
فافتتحت «الرحمن» بذكر القرآن، ثم ذكر الشمس والقمر، ثمّ ذكر النبات، ثمّ خلق الإنسان، والجان من مارج من نار، ثمّ صفة القيامة، ثم صفة النّار، ثم صفة الجنة.
وابتدئت هذه بذكر القيامة ثمّ صفة الجنة، ثمّ صفة النار، ثمّ خلق الإنسان، ثمّ النبات، ثمّ الماء، ثمّ النار، ثمّ النّجوم، ولم تذكر في «الرحمن» ، كما لم تذكر هنا الشمس والقمر، ثم ذكر القرآن.
فكانت هذه السورة كالمقابلة لتلك.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . وذلك في قوله تعالى: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) .(9/119)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الواقعة» «1»
1- وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) .
قال محمّد بن كعب: هم الأنبياء.
زاد مجاهد: وأتباعهم.
وقال ابن عبّاس: يوشع بن نون سبق إلى موسى، ومؤمن آل ياسين سبق إلى عيسى، وعلي بن أبي طالب سبق إلى النبي (ص) .
أخرج ذلك ابن أبي حاتم «2» .
2- وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
(61) .
قال بعضهم: في حواصل طير سود تكون ببرهوت «3» كأنها الزّرازير «4» ، أخرجه ابن أبي حاتم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. [.....]
(2) . وروى الطبري 27: 99 عن ابن سيرين: أنهم الذين صلّوا للقبلتين. وعن عثمان بن أبي سودة: أنهم أوّلهم رواحا الى المساجد، وأسرعهم خفوفا في سبيل الله.
(3) . برهوت: واد أو بئر بحضر موت. «القاموس المحيط» .
(4) . الزرازير: جمع زرزور، وهو نوع من العصافير.(9/121)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الواقعة» «1»
1- قال تعالى: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) .
وقوله تعالى: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها، أي: لا يأخذهم من شربها صداع، وقيل: لا يتفرّقون عنها.
ووَ لا يُنْزِفُونَ (19) ، أي: لا يسكرون.
2- وقال تعالى: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) .
وقوله تعالى: تَفَكَّهُونَ (65) ، أي:
تعجبون.
وعن الحسن: تندمون على تعبكم فيه، وإنفاقكم عليه، أو على ما اقترفتم من المعاصي، التي أصبتم بذلك من أجلها.
وقرئ (يتفكّهون) ، أي: يتندّمون.
3- وقال تعالى: نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) .
وقوله تعالى: لِلْمُقْوِينَ (73) أي:
الذين ينزلون القواء وهي القفر.
وقيل: الذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام.
ويقال: أقويت من أيام، أي: لم آكل شيئا.
4- وقال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) .
والمعنى فأقسم، و «لا» زائدة: وهي كقوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد: 29] . والزيادة للتوكيد.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(9/123)
5- وقال تعالى: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) .
أي: متهاونون به، كمن يدهن في الأمر، أي: يلين جانبه، ولا يتصلّب فيه، تهاونا به.
6- وقال تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) .
أي: بلغت النفس، وإضمار الفاعل هو لمعرفته واشتهاره.(9/124)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الواقعة» «1»
قال تعالى: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) . فقوله تعالى: ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وقوله جلّ وعلا: ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) هو الخبر. تقول العرب: «زيد وما زيد» تريد «زيد شديد» .
وقال تعالى: إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً (26) إن شئت نصبت السلام بالقيل، وإن شئت جعلت السلام عطفا على القيل، كأنه تفسير له، وإن شئت جعلت الفعل يعمل في السلام، تريد «لا تسمع إلّا قيلا الخير» ، تريد: إلّا أنّهم يقولون الخير، والسلام هو الخير.
وقال تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) على المدح، بنصبه على الحال، كأنّ السّياق: «لهم هذا متّكئين» .
وقال تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) بإضمارهنّ من غير أن يذكرن قبل ذاك «2» . وأمّا (الأتراب) فواحدهنّ «الترب» وللمؤنّث: «التربة» هي «تربي» وهي «تربتي» مثل «شبه» و «أشباه» و «الترب» و «التربة» جائزة في المؤنث، ويجمع: ب «الأتراب» ، كما تقول «حيّة» و «أحياء» ، إذا عنيت المرأة و «ميتة» و «أموات» .
وقال تعالى:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نقله في المشكل 2: 712 وإعراب القرآن 3: 1227.(9/125)
فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) ، أي: من الشجرة:
فَشارِبُونَ عَلَيْهِ [الآية 54] لأنّ «الشجر» يؤنّث ويذكّر. والتأنيث حمل على «الشجرة» ، لأن «الشجرة» قد تدل على الجميع، تقول العرب: «نبتت قبلنا شجرة مرّة وبقلة رديّة» وهم يعنون الجميع.
قال تعالى: فَشارِبُونَ شُرْبَ [الآية 55] و (شرب) «1» مثل «الضّعف» و «الضّعف» .
وقال تعالى: وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) أي للمسافرين في الأرض القيّ «2» .
تقول: «أقوى الشيء» إذا ذهب كلّ ما فيه.
وقال تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) ثم قال سبحانه: فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) أي: غير مجزيّين مقهورين، ترجعون تلك النفس، وأنتم ترون كيف تخرج عند ذلك: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) أنّكم تمتنعون من الموت. ثم أخبرهم سبحانه فقال: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ أي: فله روح وريحان» وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) أي: فيقال له: «سلام لك» .
وقال تعالى: حَقُّ الْيَقِينِ (95) بإضافة «حق» الى «اليقين» كما في قوله تعالى دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) [البيّنة] أي:
ذلك دين الملّة القيّمة، وذلك حقّ الأمر اليقين. وأما «هذا رجل السوء» فلا يكون فيه: هذا الرجل السوء. كما يكون في «الحقّ اليقين» لأن «السّوء» ليس ب «الرّجل» و «اليقين هو الحق» .
__________
(1) . نسبها في معاني القرآن 3: 128 الى ابن جريج، وفي الطبري 37: 195 إلى بعض قرّاء مكة والبصرة والشام وفي السبعة 623 إلى ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر والكسائي، وفي الكشف 2: 305، والتيسير 207، والجامع 17: 214، إلى غير نافع وحمزة وعاصم.
في معاني القرآن 3: 128 إلى سائر القراء، وفي الطبري 27: 195 إلى عامة قرّاء المدينة والكوفة، وفي السبعة 623، والكشف 2: 205، والتيسير 207، والجامع 17: 214، والبحر 210، إلى نافع وعاصم وحمزة.
(2) . الأرض القيّ: الأرض المستوية الملساء.(9/126)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الواقعة» «1»
إن قيل: ما الحكمة من التكرار في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) ؟
قلنا، فيه وجهان: أحدهما أنه تأكيد مقابل لما سبقه من التأكيد في قوله تعالى: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) . كأنه قال تعالى:
والسابقون هم المعروف حالهم، المشهور وصفهم. ونظيره قول أبي النجم: «أنا أبو النّجم وشعري شعري» . الثاني: أنّ معناه: والسابقون إلى طاعة الله، هم السابقون إلى جنته وكرامته، ثم قيل المراد بهم السابقون إلى الإيمان من كلّ أمّة، وقيل الذين صلّوا إلى القبلتين، وقيل أهل القرآن، وقيل السابقون الى المساجد، وقيل السابقون الى الخروج في سبيل الله، وقيل هم الأنبياء صلوات الله عليهم، فهذه خمسة أقوال.
فإن قيل: لم قال تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) ، مع أن التخليد ليس صفة مخصوصة بالولدان في الجنة، بل كلّ أهل الجنة مخلّدون فيها، لا يشيبون ولا يهرمون، بل يبقى كلّ واحد أبدا على صفته التي دخل الجنة عليها؟
قلنا: معناه أنّهم لا يتحوّلون عن شكل الولدان. وقيل مقرّطون. وقيل مسوّرون، ولا إشكال على هذين القولين.
فإن قيل: لم قال تعالى: لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54)
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئله القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(9/127)
بتأنيث ضمير الشجر ثم تذكيره؟
قلنا: قد سبق جوابه في سورة القمر.
فإن قيل: لم قال تعالى: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أي فهلا تصدّقون، مع أنهم مصدّقون أنه خلقهم، بدليل قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:
87] ؟
قلنا: هم، وإن كانوا مصدّقين بألسنتهم، إلا أنهم لمّا كان مذهبهم على خلاف ما يقتضيه التصديق، فكأنهم مكذّبون به. الثاني: أنه تخصيص على التصديق بالبعث بعد الموت، بالاستدلال بالخلق الأول، فكأنه تعالى قال: هو الذي خلقكم أوّلا باعترافكم، فلا يمتنع عليه أن يعيدكم ثانيا، فهلا تصدّقون بذلك؟
فإن قيل: لم قال تعالى في الزرع:
لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً [الآية 65] ، «باللام» وقال تعالى في الماء: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً [الآية 70] بغير لام؟
قلنا: الأصل، لغة، أن تذكر اللام في الموضعين، إذ لا بد منها في جواب «لو» ، إلّا أنها حذفت في الثاني اختصارا، وهي مؤدّية لدلالة الأولى عليها. الثاني: أن أصل هذه اللام للتأكيد، فذكرت مع المطعوم دون المشروب، لأنّ المطعوم مقدّم وجودا ورتبة، لأنه إنما يحتاج إلى الماء تبعا له، ولهذا قدّمت آية المطعوم على آية المشروب فلما كان الوعيد بفقد المطعوم أشدّ وأصعب، أكّدت تلك الجملة مبالغة في التهديد.
فإن قيل: التسبيح: التنزيه عن السوء، فما معنى بِاسْمِ في قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) لم لم يقل تعالى:
«فسبح ربك العظيم» ؟
قلنا: فيه وجوه: أحدها: أنّ الباء زائدة، والاسم بمعنى الذات، فصار المعنى ما قلتم. الثاني: أنّ الاسم بمعنى الذّكر، فمعناه فسبح بذكر ربك.
الثالث: أن الذّكر فيه مضمر، فمعناه فأحدث التسبيح بذكر اسم ربك.
الرابع: قال الضّحّاك: معناه فصلّ باسم ربك: أي افتتح الصلاة بالتكبير.
فإن قيل: إذا كان القرآن صفة من صفات الله تعالى، قديمة قائمة بذاته المقدّسة، فلم قال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ(9/128)
كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78)
أي اللوح المحفوظ، أو المصحف على اختلاف القولين؟
قلنا: معناه مكتوب في كتاب مكنون، ولا يلزم، من كتابة القرآن في الكتاب، أن يكون القرآن حالا في الكتاب، كما لو كتب إنسان على كفه:
«ألف دينار» ، لا يلزم منه وجود ألف دينار في كفّه، وكذا لو كتب في كفّه العرش أو الكرسي، وكذا وكذا، قال تعالى في صفة النبي (ص) : يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: 157] . الثاني: أن القرآن لو كان حالّا في المصحف، فإما أن يكون جميعه حالّا في مصحف واحد، أو في كلّ مصحف، أو في بعضه ولا سبيل إلى الأول، لأن المصاحف كلّها سواء في الحكم في كتابته فيها، ولأنّ البعض ليس أولى بذلك من البعض ولا سبيل إلى الثاني، وإلّا يلزم تعدّد القرآن، وإنّه متّحد ولا سبيل الى الثالث، لأنّه كلّه مكتوب في كلّ مصحف، ولأنّ هذا المصحف ليس أولى بهذا البعض من ذلك المصحف وكذا الباقي، فثبت أنه ليس حالا في شيء منها، بل هو كلام الله تعالى، وكلامه صفة قديمة قائمة به سبحانه لا تفارقه.
فإن قيل: فإذا لم تفارقه، فلم سمّاه تعالى منزلا وتنزيلا، وقال سبحانه نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) [الشعراء] ونظائره كثيرة، وإذا فارقه، وباينه، يكون مخلوقا، لأنّ كل مباين له فهو غيره، وكلّ ما هو غيره هو مخلوق؟
قلنا: معنى إنزاله أنه، سبحانه وتعالى، علّمه لجبريل فحفظه، وأمره أن يعلّمه للنبي (ص) ويأمره أن يعلّمه لأمّته، مع أنه لم يزل، ولا يزال، صفة الله تعالى، قائمة به لا تفارقه.(9/129)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الواقعة» «1»
في قوله تعالى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) استعارة. والمراد أنها إذا وقعت لم ترجع عن وقوعها، ولم تعدل عن طريقها، كما يقولون: قد صدق فلان الحملة ولم يكذب. أي ولم يرجع على عقبه، ويقف عن وجهة عزمه جبنا وضعفا، أو وجلا وخوفا.
وكاذبة هاهنا مصدر، كقولك: عافاه الله عافية، فيكون كذب كذبا وكاذبة.
وتلخيص المعنى: ليس لوقعتها كذب ولا خلف. وقيل أيضا: ليس لها قضيّة كاذبة، لإخبار الله سبحانه بها، وقيام الدلائل عليها، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه..
وذلك في كلامهم أظهر من أن يتعاطى بيانه.
وقيل أيضا: ليس لها نفس كاذبة في الخبر عنها، والإعلام بوقوعها.
والمعنيان واحد.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(9/131)
سورة الحديد (57)(9/133)
المبحث الأول أهداف سورة «الحديد» «1»
سورة «الحديد» سورة مدنية آياتها 29 آية، نزلت بعد سورة «الزّلزلة» .
مطلع السورة
بدأت السورة ببيان قدرة الله العلي القدير، فهو الخالق الرازق مالك الملك، ذو الجلال والإكرام. وهو سبحانه أول بلا ابتداء، وآخر بلا انتهاء، وظاهر في كلّ ما تراه العين من سماء وأرض وجبال وبحار، وباطن فلا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار.
وهو خالق الكون كلّه، القائم على حفظه، المهيمن على جميع أمره، المطّلع على خفايا النفوس، المحاسب على القليل والكثير، المجازي على الفتيل والقطمير.
«ولما كان مدار السورة على تحقيق الإيمان في القلب، وما ينبثق عن هذه الحقيقة من خشوع وتقوى، ومن خلوص وتجرّد، ومن بذل وتضحية، فقد سارت في إقرار هذه الحقيقة في النفوس على نسق مؤثّر، أشبه ما يكون بنسق السور المكّية، حافل بالمؤثرات، ذات الإيقاع الاسر، للقلب والحس والمشاعر.
«وكان مطلعها خاصة مجموعة إيقاعات بالغة التأثير، تواجه القلب البشري بمجموعة من صفات الله سبحانه، فيها تعريف به مع الإيحاء الاسر بالخلوص له، نتيجة للشعور بحقيقة الألوهية المتفرّدة، وسيطرتها المطلقة على الوجود، ورجعة كل شيء
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(9/135)
إليها في نهاية المطاف، مع نفاذ علمها إلى خبايا القلوب وذوات الصدور» «1» .
أدلة التوحيد
الآيات الأولى من السورة [1- 6] يمكن أن تكون عناصر لأدلة التوحيد وصفات الله العلي القدير. فكل شيء في الكون يتّجه إليه وحده سبحانه بالعبادة، ويعلن خضوعه وانقياده لقدرة الله، فالسماء مرفوعة، والأرض مبسوطة، والبحار جارية، والهواء مسخّر، والشمس مسيّرة، والقمر باهر، والكوكب زاهر، وكلّ شيء في مداره يسير، معلنا قدرة القدير، مسبّحا بلسان الحال، مظهرا لله العبادة والخضوع.
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) .
والقلب يهتزّ عند قراءة هذه الآيات وما بعدها، يهتزّ من جلال القدرة الإلهية، المؤثّرة المبدعة لكل شيء، المحيطة بكلّ شيء، المهيمنة على كلّ شيء، العلمية بكلّ شيء.
يهتزّ إجلالا للخالق، القادر، العليم، الخبير، المطّلع على خفايا الصدور يهتزّ القلب حين يجول في الوجود كله، فلا يجد إلا الله، ولا يرى إلا الله، ولا يحسّ غير الله، ولا يعلم له مهربا من قدرته، ولا مخبأ من علمه، ولا مرجعا إلّا إليه، ولا متوجّها إلّا لوجهه الكريم.
تثبيت الايمان
الآيات [7- 11] دعوة الى صدق الإيمان وتأكيده، وحث على الإنفاق في سبيل الله.
وظاهر من سياق السورة، أنّها كانت تعالج حالة في المجتمع المدني في فترة تمتد من العام الرابع الهجري، الى ما بعد فتح مكة فإلى جانب المهاجرين والأنصار، الذين ضربوا أروع الأمثال في تحقيق الإيمان، وفي البذل والتضحية بأرواحهم وأموالهم في إخلاص قادر، وتجرّد كامل. إلى جانب هذه الفئة الممتازة الفذّة، كانت
__________
(1) . في ظلال القرآن 27: 151.(9/136)
هناك في الجماعة الاسلامية فئة أخرى، يصعب عليها البذل في سبيل الله، وتشقّ عليها تكاليف العقيدة في النفس والمال، وتزدهيها قيم الحياة الدنيا وزينتها، فلا تستطيع الخلاص من دعوتها وإغرائها.
وهؤلاء بصفة خاصة، نجد هذه الآيات تدعوهم إلى الإيمان وتحثّهم عليه، وتهتف بهم تلك الهتافات الموحية، لتخلّص أرواحهم من الإغراء، والخلود الى الأرض، وترفعها إلى مستوى الإيمان الحقّ، فيخاطبهم القرآن الكريم بقوله جلّ وعلا: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) .
مشاهد الاخرة
تعرض الآيات [12- 15] صورة وضيئة للمؤمنين والمؤمنات يوم القيامة يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الآية 12] . والمشهد هنا جديد بين المشاهد القرآنية. إنه مشهد عجب. هؤلاء هم المؤمنون والمؤمنات نراهم، ولكننا نرى بين أيديهم وبأيمانهم إشعاعا لطيفا هادئا.
ذلك نورهم يشعّ منهم، ويفيض بين أيديهم. فهذه الشخوص الإنسانية قد أشرقت وأضاءت، وأشعّت نورا يمتدّ منها فيرى أمامها ويرى عن يمينها. إنّه النور الذي أخرجها الله إليه، وبه، من الظلمات، والذي أشرق في أرواحها فغلت طينتها، أو لعلّه نور الأعمال الصالحة التي عملتها في الدنيا، ثم تبشّرهم ملائكة الرحمن بجنّات تجري من تحتها الأنهار ينعمون فيها بالخلود والفوز العظيم.
ولكنّ المشهد لا ينتهي عند هذا المنظر الطريف اللطيف. إنّ هناك المنافقين والمنافقات، في حيرة وضلال، في مهانة وإهمال، وهم يتعلّقون بأذيال المؤمنين والمؤمنات، ويقولون لهم: أنظروا إلينا لنقتبس من نوركم فيجيب المؤمنون إن النور، هنا، هو نور العمل الصالح، الذي عمل في الدنيا، فالدنيا عمل ولا حساب، والاخرة حساب ولا عمل، والجزاء الحقّ هنا من جنس العمل، ولذلك يحال بين المؤمنين والكافرين، ويذهب المؤمنون الى الرحمة(9/137)
والرضوان، ويذهب المنافقون إلى عذاب النار وبئس المصير.
القلوب الخاشعة
الربع الثاني من سورة الحديد يشتمل على الآيات [16- 29] وفيها دعوة المؤمنين، إلى أن تكون قلوبهم خاشعة قانتة، تهتزّ لآيات الله وما نزل من الحق، وتستجيب لنداء السماء، وتؤثر الاخرة على الدنيا، والباقية على الفانية.
ومضمون الآيات، كما نرى، امتداد لموضوع السورة الرئيسي: تحقيق الإيمان في النفس، حتّى ينبثق عنها البذل الخالص في سبيل الله.
ويستهل هذا الرّبع برنّة عتاب من الله سبحانه للمؤمنين، الذين لم يصلوا إلى المرتبة السامية في الإيمان، وتلويح لهم بما كان من أهل الكتاب قبلهم من قسوة في القلوب وفسق في الأعمال، وتحذير من هذا المال الذي انتهى اليه أهل الكتاب بطول الأمد عليهم، مع إطماعهم في عون الله الذي يحيي القلوب كما يحيي الأرض بعد موتها، قال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الآية: 16] .
وتتبع هذه الدعوة الى الخشوع والتقوى، دعوة تالية إلى إقراض الله قرضا حسنا، مع بيان ما أعدّه الله لمن يقرضونه في الدنيا من العوض المضاعف والأجر الكريم [انظر الآيتين] [18 و 19] .
والآية 20 رسم رائع، وميزان عادل، يضع قيم الدنيا كلّها في كفّة، وقيم الاخرة في كفّة، حيث تبدو قيم الأرض لعبا، خفيفة الوزن، وترجّح كفة الاخرة، ويبدو فيها الجدّ الذي يستحقّ الاهتمام.
ومن ثمّ تهتف الآية 21 بهم ليسابقوا إلى قيم الأخرى، في جنّة عرضها كعرض السماء والأرض أعدّت للمتّقين.
والآيتان [22- 23] كلام مفيد في الايمان بالقضاء والقدر وبيان أن الأجل بيد الله جلّ جلاله، الذي خلق النفوس، وكتب أجلها ورزقها، حتّى لا نكثر الأسى على ما فاتنا، ولا نكثر الفرح بما جاءنا، فالقلب الموصول بالله، ثابت في المحن، راض في المنح.(9/138)
وتعرض الآيات [25- 27] طرفا من تاريخ دعوة الله في الأرض، تبدو فيه وحدة المنهج واستقامة الطريق، وأن الذي يحيد عنه في كل عهد هم الفاسقون.
وفي الآية الأخيرة من السورة، هتاف ودعوة للمؤمنين لتقوى الله، وصدق الإيمان برسوله، وبذلك يعطيهم الله نصيبين من رحمته ويجعل لهم نورا يمشون به ويغفر لهم، فضل الله ليس وقفا على أهل الكتاب كما يزعمون، إنّما هو بيد الله، سبحانه، يؤتيه من يشاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) .
وهكذا تبدو السورة من أولها الى آخرها مترابطة الحلقات، في خط واحد ثابت، تتوالى إيقاعاتها على القلوب، منوّعة ومتشابهة، فيها من التكرار القدر اللازم، لتعميق أثر الإيقاع في القلب، وطرقه وهو ساخن، وتلوين هذه المؤثّرات أمام المخاطبين: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) .
«وبعد فهذه السورة نموذج من النماذج القرآنية الواضحة، في خطاب القلوب البشرية، واستجاشتها بأسلوب عميق التأثير وهي في بدئها وسياقها وختامها، وفي طريقة تناولها للموضوع وسيرها فيه جولة بعد جولة، هي في هذا درس بديع للدعاة، يعلّمهم كيف يخاطبون الناس، وكيف يوقظون الفطرة، وكيف يستحيون القلوب» «1» .
قال الفيروزآبادي: «معظم مقصود السورة: الإشارة إلى تسبيح جملة المخلوقين والمخلوقات، في الأرض والسماوات، وتنزيه الحقّ في الذات والصفات، وأمر المؤمنين بإنفاق النفقات والصدقات، وذكر حيرة المنافقين والمنافقات في ساحة القيامة، وبيان خسّة الدنيا وعزّ الجنّات، وتسلية الخلق عند هجوم النكبات والمصيبات» «2» في قوله تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) .
__________
(1) . في ظلال القرآن 27: 180.
(2) . بصائر ذوي التمييز للكتاب العزيز للفيروزآبادي 1: 453. [.....](9/139)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحديد» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «الحديد» بعد سورة «الزّلزلة» ، ونزلت سورة «الزلزلة» بعد سورة «النساء» ، وكان نزول سورة «النساء» فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك، فيكون نزول سورة «الحديد» في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في الآية 25 منها: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وتبلغ آياتها تسعا وعشرين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله، والإنفاق في سبيله وقد ذكرت هذه السورة بعد السورة السابقة، لأنّها ختمت بأمر النبي (ص) بتسبيح ربّه العظيم، فجاءت هذه السورة بعدها، وأوّلها في بيان أنّ كل ما في السماوات والأرض يسبّح بحمده.
الدعوة إلى الإيمان والإنفاق في سبيله الآيات [1- 29]
قال الله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) فذكر، سبحانه، أن كل ذلك يسبّح بحمده، وأنّ له ملكه، وأنّه يحيي ويميت، إلى غير هذا ممّا يوجب
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(9/141)
الإيمان به جلّ شأنه وبرسوله محمد (ص) . وذكر أن رسوله إنما يدعوهم ليؤمنوا به، وقد أخذ ميثاقهم بهذا منذ خلقهم، وأنه جاءهم بكتاب ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ثم دعاهم إلى الإنفاق في سبيله، وفضّل من أنفق وقاتل قبل الفتح، على من أنفق وقاتل بعده، ووعد من ينفق في سبيله بأن يضاعفه له يوم القيامة، ويكون لهم فيها نور يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ويقول المنافقون والمنافقات ممّن لم ينفقوا في سبيله للذين آمنوا أو أنفقوا انظروا لنقتبس من نوركم، فيقال لهم: ارجعوا وراءكم، ويحال بينهم وبينهم إلى غير هذا من التحاور الذي يجري بينهم في ذلك اليوم ثم ذكر تعالى أنه حان للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل، فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، ثمّ ذكر من آياته جلّ وعلا أنّه يحيي الأرض بعد موتها، لتخشع قلوبهم له، ورغّبهم في الإيمان به وبرسله، بأنّ الذين آمنوا به سبحانه، وبرسله، هم الصّديقون والشهداء، ولهم أجرهم ونورهم، والذين كفروا وكذّبوا بآياته هم أصحاب الجحيم، ثمّ هوّن لهم أمر الحياة الدنيا فذكر عزّ وجلّ أنها لعب ولهو إلى غير هذا مما هوّن به أمرها، وأمرهم أن يسابقوا إلى ما هو أعظم منها من نيل مغفرته وجنّته ثم ذكر أنّ ما يصيبهم في الأرض من قحط ونحوه، وفي أنفسهم من شرّ أو خير، فبقضائه وقدره. فلا يصحّ أن يحزنوا على ما فاتهم أو يفرحوا بما آتاهم، ليهوّن عليهم الإنفاق والجهاد في سبيله، ويحذّرهم من البخل والأمر به، ثم أشارت الآيات إلى أنّ ما يأمرهم به تعالى من ذلك، هو الذي أرسل به رسله بالبيّنات، وأنزل معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط، وأنزل الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس، وليعلم من ينصره ورسله بالجهاد به في سبيله وذكر سبحانه من أولئك الرسل نوحا وإبراهيم (ع) وأنه جعل في ذرّيتهما النبوّة والكتاب، ثمّ قفّى على آثارهم برسله، وقفى بعدهم بعيسى ابن مريم (ع) ، فأخذ بهدايتهم قليل من أتباعهم، وفسق كثير منهم ثم أمر هذه الأمّة أن تؤمن بالله ورسوله، الذي جاء(9/142)
مصدّقا لأولئك الرسل، وذكر أنه يعطيهم نصيبين من رحمته بإيمانهم برسالتهم ورسالة أهل الكتاب قبلهم ثم رغّبهم في ذلك بأنهم ينالون به فضلا، يرى أهل الكتاب أنّه خاص بهم، فقال تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) .(9/143)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الحديد» «1»
قال بعضهم: وجه اتصالها بسورة «الواقعة» : أنها قدّمت بذكر التسبيح، وتلك ختمت بالأمر به.
قلت: وتمامه: أنّ أوّل «الحديد» واقع العلة للأمر به، وكأنه سبحانه قال: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) [الواقعة] لأنه سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية: 1] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.(9/145)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الحديد» «1»
1- فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ [الآية 13] .
قال مجاهد: هو الحجاب الذي في سورة الأعراف «2» .
وقال قتادة: حائط بين الجنّة والنّار.
أخرجهما ابن أبي حاتم «3» .
2- الْغَرُورُ (14) .
هو الشيطان.
3- وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [الآية 27] .
قال ابن حزم: وهو النبي (ص) أخرجه ابن أبي حاتم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . المذكور في قوله تعالى: وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ [الأعراف: 46] .
(3) . والطبري 27: 129.(9/147)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحديد» «1»
1- قال تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الآية 13] .
أقول: وقوله تعالى: انْظُرُونا أي:
انتظرونا.
وهذا يعني أن الثلاثي «نظر» يعني انتظر ومنه قوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة:
280] .
وقولهم:
إن غدا لناظره قريب.
2- وقال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ [الآية 16] .
وقوله تعالى: يَأْنِ من أنى الأمر يأني إذا جاء إناه، أي: وقته.
وهذا بمعنى مقلوبه «آن» ، أي «حان» ، وهذا القلب في الأفعال قد ورد في جملة مواد منها: رأى وراء، وعثا وعاث.
3- وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الآية 28] .
وقوله تعالى: كِفْلَيْنِ أي نصيبين من رحمته لإيمانكم بمحمد (ص) وإيمانكم بمن قبله.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(9/149)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحديد» «1»
قال تعالى: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الآية 12] . يريد، والله أعلم، عن أيمانهم كما قال سبحانه:
يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى: 45] أي «بطرف» .
وقال تعالى: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الآية 13] من «نظرته» أي «أنظره» ومعناه: أنتظره.
وقال تعالى: إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها [الآية 22] . يريد، والله أعلم، «إلّا هو في كتاب» فجاز فيها الإضمار. وقد تقول: «عندي هذا ليس إلّا» تريد: ليس إلّا هو.
وقال تعالى: بِسُورٍ لَهُ بابٌ [الآية 13] معناه: والله أعلم، «وضرب بينهم سور» .
وقال تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) بالاستغناء بالأخبار التي في القرآن، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرعد: 31] ولم يكن في ذا الموضع خبر، والله أعلم بما ينزل هو، كما أنزل، وكما أراد ان يكون.
وقال تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ [الآية 29] . يقول، والله أعلم: لأن يعلم.
وقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الآية 11] وليس هذا مثل
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(9/151)
الاستقراض من الحاجة، ولكنّه مثل قول العرب: «لي عندك قرض صدق» و «قرض سوء» إذا فعل به خيرا او شرّا. قال الشاعر:
[من الطويل وهو الشاهد التاسع والستون بعد المائتين] :
سأجزي سلامان بن مفرج قرضهم ... بما قدّمت أيديهم وأزلت(9/152)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحديد» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [الآية 8] ثم قال سبحانه:
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) ؟
قلنا: معناه إن كنتم مؤمنين بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، فإن شريعتهما تقتضي الإيمان بمحمد (ص) . الثاني: إن كنتم مؤمنين بالميثاق الذي أخذه عليكم يوم أخرجكم من ظهر آدم (ع) . الثالث:
أن معناه: أيّ عذر لكم في ترك الإيمان، والرسول يدعوكم إليه، ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج، وقد ركّب الله تعالى فيكم العقول، ونصب لكم الأدلّة، ومكّنكم من النظر وأزاح عللكم، فما لكم لا تؤمنون إن كنتم مؤمنين بموجب مّا، فإن هذا الموجب لا مزيد عليه.
فإن قيل: لم قال تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ [الآية 10] ، ولم يذكر مع من لا يستوي، والاستواء لا يكون إلا بذكر اثنين، كقوله تعالى: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ [المائدة: 100] ولا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الحشر:
20] ؟
قلنا: هو محذوف تقديره: ومن أنفق وقاتل من بعد الفتح، وإنما حذف لدلالة ما بعده عليه.
فإن قيل: كيف يقال إن أعلى الدرجات بعد درجة الأنبياء درجة الصّدّيقين، والله تعالى قد حكم لكلّ مؤمن بكونه صدّيقا، بقوله تعالى:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئله القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(9/153)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الآية 19] ؟
قلنا: قال ابن مسعود ومجاهد: كلّ مؤمن صدّيق. الثاني: أنّ الصّدّيق هو الكثير الصدق، وهو الذي كلّ أقواله وأفعاله وأحواله صدق، فعلى هذا يكون المراد به بعض المؤمنين لا كلّهم. وقد روي عن الضّحّاك أنّها نزلت في ثمانية نفر، سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام وهم أبو بكر، وعثمان، وعلي، وحمزة بن عبد المطلب، وطلحة، والزبير، وسعد، وزيد وألحق بهم عمر، رضي الله عنهم فصاروا تسعة.
فإن قيل: لم ذكر سبحانه هؤلاء المذكورين بكونهم شهداء، ومنهم من لم يقتل؟
قلنا: معناه أنّ لهم أجر الشهداء.
الثاني: أنه جمع بمعنى شاهد، فمعناه أنهم شاهدوه عند ربّهم على أنفسهم بالإيمان. الثالث أنه مبتدأ منقطع عمّا قبله لا معطوف عليه معناه: والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم.
فإن قيل: لم قال تعالى: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الآية 21] والمسابقة من المفاعلة التي لا تكون إلا بين اثنين كقولك: سابق زيد عمرا؟
قلنا: قيل معناه سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم في الميدان ويؤيّد هذا القول مجيئه بلفظ المسارعة في سورة آل عمران «1» . وقيل سابقوا ملك الموت، قبل أن يقطعكم بالموت، عن الأعمال التي توصلكم إلى الجنة وقيل سابقوا إبليس، قبل أن يصدّكم بغروره وخداعه عن ذلك.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الآية 21] . وقال تعالى في سورة آل عمران وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران: 133] فكيف يكون عرضها كعرض السماء الواحدة، وكعرض السماوات السبع؟
قلنا المراد بالسّماء جنس السماوات لا سماء واحدة، كما أن المراد بالأرض في الآيتين جنس الأرضين، فصار التشبيه في الآيتين بعرض السماوات السبع، والأرضين السبع.
فإن قيل: لم قال تعالى:
__________
(1) . إشارة إلى الآية الكريمة وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران: 133] .(9/154)
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [الآية 23] ولا أحد يملك نفسه عند مضرة تناله أن لا يحزن، ولا عند منفعة تناله أن لا يفرح، وليرجع كل واحد منا في ذلك إلى نفسه؟
قلنا: ليس المراد بذلك الحزن والفرح اللذين لا ينفك عنهما الإنسان بطبعه قسرا وقهرا بل المراد به الحزن المخرج لصاحبه، إلى الذهول عن الصبر والتسليم لأمر الله تعالى، ورجاء ثواب الصابرين، والفرح الطاغي الملهي عن الشكر، نعوذ بالله منهما.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ [الآية 25] والميزان لم ينزل من السماء؟
قلنا قيل المراد بالميزان هنا العدل.
وقيل العقل. وقيل السلسلة التي أنزلها الله تعالى، على داود (ع) . وقيل هو الميزان المعروف، أنزله جبريل (ع) فدفعه إلى نوح (ع) وقال له: مر قومك يزنوا به.
فإن قيل: لم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ [الآية 28] ، مع أن المؤمنين مؤمنون برسوله (ص) ؟
قلنا: معناه يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام، آمنوا بمحمد (ص) فيكون خطابا لليهود والنصارى خاصة، وعليه الأكثرون.
وقيل معناه: يا أيها الذين آمنوا، يوم الميثاق اتّقوا الله، وآمنوا برسوله اليوم.
وقيل معناه: يا أيها الذين آمنوا بالله في العلانية باللسان، اتّقوا الله وآمنوا برسوله في السر بتصديق القلب.(9/155)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحديد» «1»
في قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) استعارة عليه سبحانه، كإطلاقنا لذلك على غيره، لأنه سبحانه لا يأتي بالكلام المستعار، المجاز عليه، ولكن لأن ذلك اللفظ أبعد في البلاغة منزعا، وأبهر في الفصاحة مطلعا.
والواحد منّا، في الأكثر، إنما يستعير أغلاق الكلام، ويعدل عن الحقائق إلى المجازات، لأن طرق القول ربما ضاق بعضها عليه فخالف إلى «2» ... بقية الكلام وربما استعصى بعضها على فكره فعدل إلى المطاوعة.
معنى قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ أي الذي لم يزل قبل الأشياء كلها، لا عن انتهاء مدة، وَالْآخِرُ أي الذي لا يزال بعد الأشياء كلّها لا إلى انتهاء غاية.
وَالظَّاهِرُ المتجلّي للعقول بأدلّته، وَالْباطِنُ أي الذي لا تدركه أبصار بريّته.
وقال بعضهم: قد يجوز أن يكون معنى الظاهر هاهنا أي العالم بالأشياء كلها. من قولهم: ظهرت على أمر فلان أي علمته. ويكون الظاهر مخصوصا بما كان في الوجود والجهر، ويكون الباطن مخصوصا بما كان في العدم والسر.
وتلخيص معنى الظاهر والباطن، أنه
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . هنا لفظة غير واضحة.(9/157)
العالم بما ظهر وما بطن، بما استسرّ وما علن.
وفي قوله سبحانه: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 10] استعارة على ما تقدم في كلامنا من نظير ذلك.
والمعنى: أن الخلائق إذا فنوا وانقرضوا، خلّوا ما كانوا يسكنونه، وزالت أيديهم عما كانوا يملكونه «1» إلّا الله سبحانه، وصار تعالى كأنه قد ورث عنهم ما تركوه «2» ... خلفوه. لأنه الباقي بعد فنائهم، والدائم بعد انقضائهم.
وفي قوله سبحانه: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الآية 12] استعارة على أحد التأويلين.
وفي قوله سبحانه: مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) استعارة. ومعنى مولاكم: أي أملك بكم، وأولى بأخذكم. وهذا بمعنى المولى من طريق الرّق، لا المولى من جهة العتق. فكأنّ النار، نعوذ بالله منها، تملكهم رقّا، ولا تحرّرهم عتقا.
وفي قوله سبحانه: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) استعارة. ومعنى: بيد الله، أي ملك الله وقدرته، يبسطه إذا شاء على حسب المصالح والمفاسد، والمغاوي والمراشد. وقد مضى الكلام على نظائرها.
__________
(1) . هنا ألفاظ ممحوّة.
(2) . هنا بضعة أسطر مبتورة الأطراف غير واضحة المعالم
..(9/158)
سورة المجادلة (58)(9/159)
المبحث الأول أهداف سورة «المجادلة» «1»
سورة «المجادلة» سورة مدنية وآياتها 22 آية نزلت بعد سورة «المنافقون» .
تربية إلهية
سورة «المجادلة» ، حافلة بآداب التربية، وتهذيب السلوك، وتحذير المسلمين من مكايد المنافقين.
لقد نزلت هذه السورة بعد سورة «المنافقون» ، وكانت الجماعة الإسلامية في المدينة لا تزال في دور الإعداد والتكوين، وكان المسلمون يتألّفون من المهاجرين والأنصار وقد انضمّ إليهم، من لم يتلقّ من التربية الإسلامية القدر الكافي، ومن لم يتنفس في الجو الإسلامي فترة طويلة، كما دخل في الإسلام جماعة من المنافقين، حرصوا على الاستفادة المادية وأخذوا يتربّصون بالمسلمين الدوائر، ويعرضون ولاءهم على المعسكرات المناوئة للمسلمين، وهي معسكرات المشركين واليهود.
وقد اقتضت تربية النفوس وإعدادها للدور الكبير المقدر لها في الأرض، جهودا ضخمة وصبرا طويلا، وعلاجا بطيئا في صغار الأمور وكبارها.
ونحن نشهد في هذه السورة، وفي هذا الجزء كلّه، طرفا من تلك الجهود الضخمة وطرفا من الأسلوب القرآني كذلك في بناء تلك النفوس، وفي علاج الأحداث والعادات والنّزوات كما نشهد جانبا من الصراع الطويل، بين الإسلام وخصومه المختلفين، من مشركين ويهود ومنافقين.
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. [.....](9/161)
«ونشهد في سورة المجادلة، بصفة خاصة، صورة موحية من رعاية الله جلّ جلاله للجماعة الناشئة، وهو يصنعها على عينه، ويربيها بمنهجه، ويشعرها برعايته، ويبني في ضميرها الشعور الحي بوجوده سبحانه معها، في أخصّ خصائصها، وأصغر شؤونها، وأخفى طواياها، وحراسته لها من كيد أعدائها، خفيّة وظاهرة، وأخذها في حماه وكنفه، وضمّها الى لوائه وظلّه، وتربية أخلاقها وعاداتها وتقاليدها تربية تليق بالجماعة التي تنضوي إلى كنف الله، وتنتسب إليه، وترفع لواءه في الأرض» «1» .
قصة المجادلة
سمّيت سورة «المجادلة» بهذا الاسم لاشتمالها على قصة المرأة المجادلة، وقد افتتح الله بها السورة حيث قال سبحانه: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) .
وقد روى الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في كتاب الطلاق من سننه، عن خولة بنت ثعلبة قالت: فيّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة، قالت: كنت عنده، وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، قالت:
فدخل عليّ يوما، فراجعته بشيء فغضب فقال، أنت عليّ كظهر أمي.
وكان الرجل، في الجاهلية، إذا قال ذلك لامرأته حرّمت عليه وكان ذلك أول ظهار في الإسلام، فندم أوس لساعته ثم دعاها لنفسه (طلب ملامستها) فأبت وقالت: والذي نفسي بيده لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله، فأتت الى رسول الله (ص) فقالت: يا رسول الله إنّ أوسا تزوّجني وأنا شابة غنية ذات أهل ومال، حتى إذا أكل مالي، وأفنى شبابي، وتفرّق أهلي، وكبرت سنّي ظاهر منّي، وقد ندم فهل من شيء تجمعني به وإياه تفتيني به؟ فقال صلوات الله وسلامه عليه: حرّمت عليه، أوما أراك الّا حرمت عليه.
فأعادت الكرّة، والرسول عليه الصلاة والسلام يعيد عليها الجواب نفسه، حتى قالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، قد طالت له صحبتي،
__________
(1) . في ظلال القرآن، بقلم سيّد قطب 28: 8.(9/162)
ونثرت له بطني، وإنّ له صبية صغارا، ان ضممتهم إليّ جاعوا، وإن ضممتهم إليه ضاعوا وجعلت ترفع رأسها الى السماء، وتستغيث وتتضرّع، وتشكو الى الله، فنزلت الآيات الأربع من صدر سورة المجادلة. فقال رسول الله (ص) يا خولة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنا، ثم تلا عليها الآيات. وقال لها (ص) مريه فليعتق رقبة، قالت يا رسول الله ليس عنده ما يعتق، قال فليصم شهرين متتابعين قالت والله إنه لشيخ ماله من صيام، قال: فليطعم ستين مسكينا وسقا «1» من تمر، قالت: والله يا رسول الله ما ذاك عنده، فقال رسول الله (ص) : «فإنّا سنعينه بعرق من تمر» . قالت: يا رسول الله وأنا سأعينه بعرق آخر. قال الرسول: «قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدّقي به عنه ثم استوصي بابن عمك خيرا» ، قالت: ففعلت.
تلك قصة الظّهار، وهي تشير الى رعاية السماء لهذه الجماعة المؤمنة، ونزول الوحي يجيب عن أسئلتها ويحلّ مشاكلها، ويربّي نفوسها، ويهذّب أخلاقها، ويأخذ بيدها إلى الصراط القويم. وقد تضمّنت الآيات، إحاطة السميع البصير بكل صغيرة وكبيرة، واطّلاعه على جميع الأعمال وبينت أن المسارعة إلى ألفاظ الظّهار والطلاق منكر وزور وأنّ الزوجة غير الأم، فالأم حملت وأرضعت، وقد حرّم الله تعالى على الإنسان الزواج بأمه.
والزوجة أحلّ الله زواجها.
ثم رسم القرآن الكريم طريق الحل لمن بدرت منه بادرة بالظّهار، فقال لامرأته أنت عليّ كظهر أمي، ثم أراد أن يرجع عن ذلك، وأن يراجع زوجته فعليه أن يكفّر عن هذا الذنب، بتحرير رقبة فإن لم يجد، فبصوم ستين يوما، فإن لم يستطع، فعليه إطعام ستين مسكينا وفي ذلك نوع من التهذيب والتأديب، حتّى يضبط الناس أعصابهم ويحفظوا ألسنتهم في ساعة الغضب والتهوّر.
أهداف السورة
تبدأ السورة بهذه البداية الكريمة، وهي سماع الله العليّ القدير، شكوى امرأة فقيرة مغمورة، وقد استمع إليها
__________
(1) . الوسق (بفتح الواو، وكسرها) : مكيلة معروفة.(9/163)
جلّ جلاله من فوق سبع سماوات، وكان صوتها ضعيفا، لا يكاد يسمعه من يجلس بجوارها.
وفي البخاري والنسائي عن عائشة (رض) قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله (ص) في جانب البيت ما أسمع ما تقول. فأنزل الله عزّ وجل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [الآية 1] الى آخر الآيات الأربع من صدر السورة.
وفي [الآيتين 5- 6] توكيد أنّ الذين يحادّون الله ورسوله، وهم أعداء الجماعة المسلمة التي تعيش في كنف الله، مكتوب عليهم الكبت والقهر في الأرض، والعذاب المهين في الاخرة، مأخوذون بما عملوا، أحصاه الله عليهم، ونسوه هم وهم فاعلوه:
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) .
و [الآية 7] تؤكّد سعة علم الله سبحانه، وإحاطته بما في السماوات والأرض، واطّلاعه على السّر والنّجوى، ورقابته لكلّ صغير وكبير، ثمّ محاسبة الجميع بما قدّموا يوم القيامة والآية تخرج هذه المعاني في صورة عميقة التأثير، تترك القلوب وجلة، ترتعش مرّة وتأنس مرّة، وهي مأخوذة بمحضر الله الجليل: هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) .
وفي [الآيات 8- 10] يشهّر القرآن بموقف المنافقين، الذين يبيّتون الكيد والدّسّ للمؤمنين، ويهدّدهم بأنّ أمرهم مكشوف وأن عين الله مطّلعة عليهم ونجواهم بالإثم والعدوان، ومعصية الرسول مسجّلة، وسيحاسبون عليها، ويلقون جزاءهم، في جهنم وبئس المصير.
ثم تستطرد الآيات الى تربية المسلمين، وتهذيب نفوسهم بهذا الخصوص، فتنهاهم عن الحديث الخافت المحتوي على الإثم والعدوان، ومعصية الرسول (ص) وذلك يؤكد أنه كان بين جماعة المسلمين قوم لم يترسّخ الإيمان في قلوبهم، وكانوا يقلّدون المنافقين، في التّناجي بالهمز واللّمز، والإثم والمعصية، وكان القرآن الكريم يواكب هؤلاء جميعا، فيكشف المنافقين، ويرشد المسلمين وينزل الهدى والرحمة أجمعين.
و [الآيات 11- 13] استطراد في(9/164)
تربية المسلمين، وتعليمهم أدب السماحة والطاعة، في مجلس الرسول (ص) ومجالس العلم والذكر، وهو أدب رفيع قدّمه القرآن الكريم من عشرات القرون، ليحثّ الناس على التعاون، والتكافل، والسلوك المهذّب: إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا. كما تحثّ الآيات على توفير العلم، وترسّم أدب السؤال والحديث، مع رسول الله (ص) وتحثّ على الجد والتوقير في هذا الأمر.
ويبدأ الربع الثاني في السورة بالآية 14، وقد تحدثت مع ما بعدها عن المنافقين، الذين يتولّون اليهود ويتامرون معهم، ويدارون تأمرهم بالكذب والحلف للرسول وللمؤمنين.
وهم في الاخرة كذلك حلّافون كذّابون، يتقون بالحلف والكذب، ما يواجههم من عذاب الله، كما كانوا يتقون بهما في الدنيا، ما يواجههم من غضب رسول الله، والمؤمنين، مع توكيد أن الذين يحادّون الله ورسوله، كتب الله عليهم أنّهم في الأذلّين، وأنهم هم الأخسرون، وأن الله ورسوله هم الغالبون.
وفي ختام السورة نجد صورة كريمة للمؤمن، الذي يستعلي بإيمانه، ويجعل الإيمان هو النسب وهو الحياة، وهو العقيدة الغالية التي تصله بالمؤمنين والمسلمين، وتحجب مودّته عن أعداء الله، ولو كانوا أقرب الناس إليه.
وكذلك كان المهاجرون والأنصار، الذين ضحّوا بكلّ شيء في سبيل العقيدة، فكتب الله في قلوبهم الإيمان، وأيّدهم بروح منه، وجعلهم قدوة لكل فئة مخلصة، ولكلّ مسلم مخلص، فمودّة المسلم، وحبه، وإخلاصه، وتعاونه، لا تكون إلّا للمسلمين الصادقين ثم هو في الوقت نفسه يحجب مودّته عن الخائنين، وإن كانوا أقاربه، أو أصهاره، أو عشيرته.
ومن سمات هذا الدّين، أن تحبّ لله وأن تكره لله: أن تحبّ المتّقين، وتصل المؤمنين، وتتعاون مع الهداة الصالحين، وأن تحجب مودّتك عن الفاسقين، لأنك بهذا تنفّذ أمر الله عزّ وجلّ، وتهجر من عصى الله سبحانه فمن أحبّ من أحبّ الله، فكأنما يحبّ الله.
المقصد الإجمالي للسورة
قال الفيروزآبادي: «معظم مقصود(9/165)
سورة المجادلة هو بيان حكم الظّهار وذكر النّجوى والسّرار، والأمر بالتوسّع في المجالس، وبيان فضل أهل العلم، والشكاية من المنافقين، والفرق بين حزب الرحمن وحزب الشيطان» «3» والحكم على الأول بالفلاح، وعلى الثاني بالخسران. قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) .
__________
(3) . بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز 1: 456.(9/166)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المجادلة» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «المجادلة» بعد سورة «المنافقون» ، ونزلت سورة «المنافقون» بعد غزوة بني المصطلق، في السنة الخامسة من الهجرة فيكون نزول سورة «المجادلة» ، فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها [الآية 1] وتبلغ آياتها اثنتين وعشرين آية.
الغرض منها وترتيبها
نزلت هذه السورة في خولة بنت ثعلبة، امرأة أوس بن الصامت وكان قد ظاهر منها بقوله، أنت عليّ كظهر أمي، وكان الظّهار من أشدّ طلاق الجاهلية، لأنّه في التحريم أوكد، فأتت النبي (ص) فقالت له: إنّ أوسا تزوّجني وأنا شابّة مرغوب فيّ، فلمّا خلا سنّي وكثر ولدي جعلني كأمّه، وإنّ لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا.
فروى بعضهم أن النبي (ص) قال لها:
ما عندي في أمرك شيء. وروى بعضهم أنه قال لها: حرّمت عليه.
فقالت له: يا رسول الله، فاقتي ووجدي. فأنزل الله هذه السورة في تحريم الظّهار، وبيان حكمه، وأوعد، جلّ جلاله، من يخالف ذلك أشدّ وعيد وقد ناسب هذا السياق الكلام
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(9/167)
على المنافقين، الذين يحادّون الله ورسوله، لتحذيرهم من مخالفة ما جاء في الظّهار وغيره من الأحكام، ولتوبيخهم على ما يتناجون به فيما بينهم، من الإثم والعدوان، ومعصية النبي (ص) وبهذا تشارك هذه السورة سورة «الحديد» ، في معالجتها أحوال أولئك المنافقين، ويكون ذكرها بعدها لهذه المناسبة.
بيان حكم الظهار الآيات [1- 22]
قال الله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) ، فذكر أحكام الظّهار وختمها، بقوله تعالى: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) ثم أوعد، جلّ وعلا، الذين يحادّون في هذا ونحوه من المنافقين، بأنّه سبحانه سيخذلهم كما خذل أمثالهم من قبلهم، ولهم بعد هذا عذاب مهين، يوم يبعثهم فينبّئهم بما يكيدون به للإسلام في سرّهم، لأنه يعلم ما في السماوات والأرض، ولا يخفى عليه شيء مما يتناجى به الناس فيما بينهم.
ثم ذكر عزّ وجلّ أنه نبأهم عمّا يفعلونه في نجواهم، فعادوا إليها، وتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية النبي (ص) ، فأعاد نهيهم عن هذه النّجوى الآثمة، وأمرهم أن يتناجوا بالبرّ والتقوى، وأن يتأدّبوا في مجالسهم مع النبي (ص) فإذا قيل لهم تفسّحوا فيها فسحوا، وإذا قيل لهم انشزوا منها نشزوا ثمّ أمرهم سبحانه، إذا أرادوا مناجاة النبي (ص) بشيء، أن يقدّموا بين يدي نجواه صدقة تطهّر قلوبهم، فلا يناجونه إلّا بما فيه خير ومصلحة لهم، فإذا لم يجدوا ما يتصدّقون به لفقرهم، فإنه سبحانه يعفو عنهم، وإذا أشفقوا أن يتصدّقوا حرصا على مالهم وتاب عليهم فلم يكلّفهم بذلك، فليحافظوا على ما وجب عليهم من الصلاة والزكاة ونحوهما، ولا يفرّطوا فيها كما فرّطوا في تلك الصدقة ثم وبّخ أولئك المنافقين على موالاتهم لليهود الذين يؤلّبونهم على إخوانهم، وهم أجانب لا يريدون بهم خيرا وذكر أنهم يوالونهم في السّر ويحلفون كذبا أنهم لا يوالونهم، وأوعدهم على ذلك بما أوعدهم به إلى أن ختم السورة(9/168)
بتحذير المؤمنين منهم فقال تعالى:
لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) .(9/169)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المجادلة» «1»
أقول: لما كان في مطلع «الحديد» ذكر صفاته الجليلة، ومنها: الظاهر والباطن، وقوله سبحانه في [الآية 4] منها: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ، افتتح هذه بذكر أنه سبحانه سمع قول المجادلة التي شكت الى الرسول (ص) ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها، حين نزلت:
«سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي ناحية البيت لا أعرف ما تقول» «2» .
وذكر بعد ذلك قوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [الآية 7] . وهو تفصيل لقوله تعالى:
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد: 4] .
وبذلك تعرف الحكمة في الفصل بها بين «الحديد» و «الحشر» ، مع تأخيهما في الافتتاح ب «سبح» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . أخرجه البخاري في التوحيد: 9: 144 وابن ماجة في المقدمة: 1: 67 والإمام أحمد في المسند: 6: 46 وابن جرير في التفسير: 28: 5، 6.(9/171)
المبحث الرابع مكنونات سورة «المجادلة» «1»
1- قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ [الآية 1] هي خولة بنت ثعلبة.
2- فِي زَوْجِها [الآية 1] هو أوس بن الصّامت. كما في «المستدرك «2» » عن عائشة.
وعند ابن أبي حاتم عن أبي العالية:
خولة بنت دليج «3» .
3- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى [الآية 8] .
هم اليهود. نهاهم النبي (ص) عمّا كانوا يفعلون في تناجيهم، «أي تحدّثهم» سرّا ناظرين إلى المؤمنين ليوقعوا في قلوبهم الريبة.
4- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً [الآية 14] .
قال السّدّيّ: بلغنا أنها نزلت في عبد الله بن نبتل من المنافقين. أخرجه ابن أبي حاتم.
5- لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ [الآية 22] .
أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن عبد العزيز، عن عمر بن الخطاب
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . 2: 481 للحاكم وصحّحه، وأقرّه الذهبي. ووقع في رواية قتادة عند الطبري 28: 3: «خويلة» . وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» 13: 374: «وهذا يحمل على أن اسمها كان ربما صغّر» .
(3) . قاله الحافظ في «فتح الباري» 13: 374.(9/173)
قال: لو كان أبو عبيدة حيّا لاستخلفته «1» .
قال سعيد: وفيه أنزلت هذه الآية، حينما قتل أباه.
وأخرج عن ابن شوذب قال: نزلت في أبي عبيدة بن الجراح، حينما قتل أباه يوم بدر.
وقال ابن عسكر: روى ابن فطيس، عن ابن عبّاس، أنّ الآية عنى بها جماعة من الصحابة.
فقوله تعالى: وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ [الآية 22] يريد أبا عبيدة، لأنه قتل أباه يوم أحد. أَوْ أَبْناءَهُمْ [الآية 22] يريد أبا بكر، لأنه دعى ابنه للبراز يوم بدر، فأمره رسول الله (ص) أن يقعد. أَوْ إِخْوانَهُمْ [الآية 22] يريد مصعب بن عمير، لأنه قتل أخاه أبا عزيز يوم أحد. أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [الآية 22] يريد عليّا ونحوه ممن قتلوا عشائرهم.
__________
(1) . قال ذلك عمر، حينما جعل الأمر شورى بعده، في أولئك الستة رضي الله عنهم، كما في «تفسير ابن كثير» 4:
329.(9/174)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المجادلة» «1»
1- قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الآية 5] .
وقوله تعالى: يُحَادُّونَ أي:
يعادون ويشاقّون.
أقول: الفعل «حادّ» على «فاعل» والإدغام واجب جرت عليه العربية، فأما قوله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ [النساء: 115] ، فقد فكّ الإدغام فيه لحاجة صوتية يقتضيها حسن الأداء «2» ، والله أعلم. وأما قوله تعالى: كُبِتُوا فمعناه: أخزوا وأهلكوا.
أقول: هذا معنى «الكبت» في لغة التنزيل، ولا أدري كيف أدرك المعاصرون من أصحاب علم النفس هذه المادة، فصنعوا منها مصطلحا، هو «الكبت» بمعنى أن الإنسان يكظم ويخفي من الأفكار والمعضلات والهموم، ما يدفعه إلى سلوك خاص أو تصرّف مشين.
والذي أراه في هذه الحال أن يلجأ إلى كلمة أخرى، هي «الزّمّ» التي تفي بمعنى الإخفاء والكظم ...
2- وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [الآية 8] .
أقول: «النّجوى» هي المسارّة، وتكون في الخير والشر، والمراد بها في الآية «النجوى» التي هي الإثم والكفر، ويدلّنا على ذلك الفعل في الآية الكريمة: وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . على أنه ورد قوله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) [الحشر] .(9/175)
وإذا جئنا إلى الآية اللاحقة وجدنا قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى [الآية 9] .
3- وقال تعالى: وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [الآية 11] .
وقوله تعالى: انْشُزُوا أي:
انهضوا.
أقول: كأنّ الفعل قد أخذ من «النّشز» ، وهو ما ارتفع من الأرض، والناهض من مكانه كأنه يرتفع.
وعلى هذا قرئ قوله تعالى: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) [الملك] ، بزاي معجمة.
كما جاء قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها [البقرة:
259] .
4- وقال تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ [الآية 13] .
وقوله تعالى: بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ استعارة ممّن له يدان.
والمعنى: قبل نجواكم، كقول عمر:
من أفضل ما أوتيت العرب الشعر، يقدّمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم، ويستنزل به اللئيم. يريد: قبل حاجته.(9/176)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المجادلة» «1»
قال تعالى: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ [الآية 2] خفيفة، ومن ثقّل جعلها من «تظهّر» ثم أدغم التاء في الظاء.
وقوله تعالى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [الآية 3] المعنى: «فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا، فمن لم يجد فإطعام ستين مسكينا، ثمّ يعودون لما قالوا «2» : «أن لا نفعله» «فيفعلونه» هذا الظّهار، يقول «هي عليّ كظهر أمّي» وما أشبه هذا من الكلام، فإذا أعتق رقبة أو أطعم ستين مسكينا، عاد لهذا الذي قد قال: «إنّه عليّ حرام» ففعله «3» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . تسلسل الكلام في القرآن الكريم هو وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الآية 3] فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً
[.....]
(3) . نقله في المشكل 2: 721، والجامع 17: 282.(9/177)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المجادلة» «1»
إن قيل: لأي معنى خص الله تعالى الثلاثة والخمسة بالذكر في النّجوى دون غيرهما من الأعداد في قوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ [الآية 7] ؟
قلنا: لأنّ قوما من المنافقين، تخلّفوا للتّناجي على هذين العددين مغايظة للمؤمنين، فنزلت الآية على صفة حالهم، تعريضا بهم، وتسميعا لهم وزيد فيها ما يتناول كلّ متناجيين غير تينك الطائفتين، وهو قوله تعالى: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ [الآية 7] .
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) ؟
قلنا: فائدته الإخبار عن المنافقين أنّهم يحلفون على أنهم ما سبّوا رسول الله (ص) وأصحابه، مع اليهود، كاذبين متعمدين للكذب، فهي اليمين الغموس «2» ، فكان ذلك نهاية في بيان ذمّهم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.
(2) . اليمين الغموس: اليمين الكاذبة تغمس صاحبها في الإثم. يقال: غموس، وغموص.(9/179)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المجادلة» «1»
يقول تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا [الآية 7] .
ظاهر هذا الكلام: محمول على المجاز والاتساع لأنّ المراد به إحاطته تعالى بعلم نجوى المتناجين، ومعاريض المتخافتين فكأنّه سبحانه يعلم جميع ذلك، سامع للحوار، وشاهد للسّرار.
ولو حمل هذا الكلام على ظاهره لتناقض. ألا ترى أنه تعالى لو كان رابعا لثلاثة في مكان على معنى قول المخالفين، استحال أن يكون سادسا لخمسة في غير ذلك المكان إلّا بعد أن يفارق المكان الأوّل، ويصير إلى المكان الثاني فينتقل كما تنتقل الأجسام، ويجوز عليه الزوال، والمقام، تنزّه سبحانه عن هذا السياق، وهذا واضح بحمد الله وتوفيقه.
وفي قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [الآية 12] استعارة. وقد مضت لها نظائر كثيرة.
والمراد بقوله تعالى: بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ أي أمام نجواكم، وذلك كقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف: 57] أي مطرقة أمام الغيث الوارد، ومبشّرة بالخير الوافد.
وفي قوله سبحانه: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الآية 16]
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(9/181)
استعارة. والكلام وارد في شأن المنافقين.
والمراد أنهم جعلوا إظهار الإيمان الذي يبطنون ضدّه جنّة، يعتصمون بها ويستلئمون «1» فيها تعوّذا بظاهر الإسلام الذي يسع من دخل فيه، ويعيذ من تعوّذ به.
وفي قوله سبحانه: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) .
استعارة. والمراد بالكتابة هاهنا الحكم والقضاء. وإنّما كنى تعالى عن ذلك بالكتابة، مبالغة في وصف ذلك الحكم بالثبات، وأنّ بقاءه كبقاء المكتوبات.
وفي قوله سبحانه: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [الآية 22] استعارتان، إحداهما قوله تعالى: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ، ومعناه أنه ثبّته في قلوبهم، وقرّره في ضمائرهم، فصار كالكتابة الباقية، والرّقوم الثابتة، على ما أشرنا إليه من الكلام على الاستعارة المتقدّمة. وذلك كقول القائل: هو أبقى من النقش في الحجر، ومن النقش في الزّبر.
والاستعارة الأخرى قوله تعالى:
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ولذلك وجهان: إمّا أن يكون المراد بالروح هاهنا القرآن، لأنه حياة في الأديان، كما أنّ الروح حياة في الأبدان. وقال سبحانه: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] والمراد القرآن.
والوجه الاخر أن يكون الروح هاهنا معنى النّصر والغلبة والإظهار للدّولة.
وقد يعبّر عن ذلك بالريح. والرّوح والريح يرجعان إلى معنى واحد. وقال سبحانه: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46] أي دولتكم واستظهاركم.
__________
(1) . يستلئم: أي يلبس الدرع.(9/182)
سورة الحشر 59(9/183)
المبحث الأول أهداف سورة «الحشر» «1»
سورة الحشر سورة مدنية، آياتها 24 آية، نزلت بعد سورة البيّنة.
نزلت هذه السورة في بداية السنة الرابعة من الهجرة، بعد غزوة أحد، وقبل غزوة الأحزاب، وهي تحكي قصّة غزوة بني النضير، ولكنّها، على طريقة القرآن الكريم، تحكي أحداث الغزوة، وما صاحب هذه الأحداث وتربّي النفوس وتؤكد على معالم الإيمان، وبذلك يكون القصص هادفا، ورواية الأحداث وسيلة عملية لتقويمها، ومعرفة حكم الله فيها، واستنباط العظة والعبرة منها.
والقرآن الكريم فيه القصة، وفيه أحداث التاريخ، وفيه العظة والعبرة، وفيه الحكم والتشريع، وفيه التهذيب والتربية، وقد استطاع أن يمزج ذلك كلّه بطريقته الخاصة، ليصل به إلى قلب المؤمن، وليسهم في بناء الفرد الصالح والأسرة الصالحة، والمجتمع الصالح والأمة الصالحة.
قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:
110] .
غزوة بني النضير
قدم رسول الله (ص) المدينة ومعه رسالته الهادية، وقد آمن به جمع من المهاجرين والأنصار، ثم عقد معاهدات مع يهود المدينة على حرّية الأديان، وعلى المعايشة السلمية في
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(9/185)
المدينة، وعلى ألّا يكون اليهود لا عليه ولا له.
«وكان يهود بنو النضير حلفاء الخزرج، وبينهم وبين المسلمين عهود خاصة يأمن بها كل منهم الاخرة» لكنّ بني النضير لم يوفوا بهذه العهود، حسدا منهم وبغيا، فقد ذهب رسول الله (ص) في عشرة من أصحابه الى محلة بني النضير، يطلب منهم المشاركة في أداء دية قتيلين، بحكم ما بينه وبينهم من عهود، فاستقبله اليهود بالبشر والتّرحاب، ووعدوا بأداء ما عليهم بينما كانوا يدبّرون أمرا لاغتيال رسول الله (ص) ومن معه، وكان (ص) ، جالسا إلى جدار من بيوتهم، فقال بعضهم لبعض: إنّكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فهل من رجل منكم يعلو هذا البيت فيلقي صخرة عليه فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب: أنا لذلك، فصعد ليلقي صخرة على رسول الله (ص) ، فاطّلع (ص) على قصدهم، فقام كأنّما ليقضي أمرا فلما غاب استبطأه من معه، فخرجوا من المحلّة يسألون عنه، فعلموا أنه دخل المدينة.
وأمر رسول الله (ص) ، بالتهيؤ لحرب بني النّضير، لظهور الخيانة منهم، ونقض عهد الأمان الذي بينه وبينهم، وكان قد سبق هذا إقذاع كعب بن الأشرف، من بني النضير، في هجاء رسول الله (ص) وما قيل من أنّ كعبا ورهطا من بني النضير، اتصلوا بكفار قريش اتصال تامر وتحالف وكيد، ممّا جعل رسول الله (ص) يأذن لمحمد ابن مسلمة في قتل كعب بن الأشرف، فقتله. فلما كان التبييت للغدر برسول الله (ص) في محلة بني النضير، لم يبق مفر من نبذ عهدهم.
ثم أرسل النبي (ص) إليهم، محمد بن مسلمة ليقول لهم اخرجوا من بلادي فقد هممتم بالغدر.
وتجهز الرسول (ص) لقتال بني النضير، وحاصر محلّتهم، وأمهلهم ثلاثة أيام، وقيل عشرة، ليفارقوا المدينة، على أن يأخذوا أموالهم، ويقيموا وكلاء عنهم على بساتينهم ومزارعهم.
وتهيّأ بنو النضير للرحيل ولكنّ المنافقين في المدينة، أرسلوا إليهم يحرّضونهم على الرفض والمقاومة، وقالوا لهم لا تخرجوا من دياركم، وتمنّعوا في حصونكم ونحن معكم إن(9/186)
قوتلتم قاتلنا معكم وان أخرجتم خرجنا معكم وقد حكى القرآن عمل المنافقين وشهّر بنفاقهم وكذبهم، قال تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) .
وقد طمع اليهود في معونة المنافقين ومؤازرتهم، فتحصّنوا في حصونهم، وتأخروا عن الجلاء، وظنوا أنّهم مانعتهم حصونهم من الله، فحاصرهم (ص) وضيّق عليهم الخناق، ثم أمر بقطع نخيلهم ليكون ذلك أدعى الى تسليمهم، ثم قذف الله الرعب في قلوب اليهود، ولم يجدوا معونة من المنافقين، ويئسوا من صدق وعودهم، فسألوا رسول الله (ص) أن يجليهم ويكف عن دمائهم، وأنّ ما لهم ممّا حملت الإبل من أموالهم إلّا آلة الحرب. فأجابهم النبي (ص) إلى طلبهم، وصار اليهود يخرّبون بيوتهم بأيديهم، كي لا يسكنها المسلمون.
ولمّا سار اليهود، نزل بعضهم بخيبر، ومن أكابرهم حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق.
ومنهم من سار الى أذرعات بالشام، وقد أسلم منهم اثنان: يامين بن عمرو، وأبو سعد بن وهب.
وكانت أموال بني النضير فيئا خالصا لله وللرسول، ولم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فقسّمها رسول الله (ص) بين المهاجرين خاصة، دون الأنصار، عدا رجلين من الأنصار فقيرين، هما سهل بن حنيف، وأبو دجانة سماك بن خرشة وكان المهاجرون قد تركوا بلادهم وأموالهم، وهاجروا فرارا بدينهم الى المدينة وقد استقبلهم الأنصار، بالبشر والتّرحاب، والمعونة الصادقة، والإيثار الكريم.
فلما فاتت الفرصة، وزّع النبي (ص) الفيء على المهاجرين خاصة لتحسين أحوالهم المادّية، ولكي لا يكون المال متداولا بين الأغنياء وحدهم.
قال تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ(9/187)
وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(6) .
تسلسل أفكار السور
1- وصفت سورة الحشر حصار بني النضير، وعناية الله بالمؤمنين، وانتهاء الحصار بجلاء اليهود وانتصار المؤمنين. [الآيات 1- 4] .
2- تحدّثت عن قطع المسلمين للنخيل، وبيّنت أنّ ذلك كان بأمر الله سبحانه، ليذلّ به اليهود، ويخزي الفاسقين. [الآية 5] .
3- ذكرت حكم الفيء والغنائم، التي غنمها المسلمون من بني النضير، وبينت أنّها توزع على المهاجرين لسدّ حاجتهم، ولا يعطى الأنصار منها شيئا، لأنها ليست غنيمة حرب، استخدم فيها الكر والفر وركوب الإبل والخيل، ولكنّها غنيمة حصار محدود، انتهى بتسليم اليهود، بعد أن ألقى الله سبحانه الرعب في قلوبهم. [الآيتان 6- 7] .
4- باركت السورة كفاح المجاهدين، وخروجهم من مكة إلى المدينة، حفاظا على الدين وفداء للعقيدة، كما باركت كرم الأنصار وأريحيّتهم، ووصفتهم بالسماحة والإيثار، والمحبة للبذل والعطاء.
كما باركت الأجيال اللاحقة، التي ولدت في محاضن الدعوة، وكانت ثمرة كريمة، لتربط المهاجرين والأنصار [الآيات 8- 10] .
5- حملت السورة على المنافقين، وكشفت نفاقهم وكيدهم واتهمتهم بالجبن والصّغار. [الآيات 11- 13] .
6- بينت أن اللقاء بين المنافقين وأهل الكتاب، لقاء في الظاهر فقط، وبينهم من العداوة والإحن ما يظهر في الشدائد: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الآية 14] .
7- أشارت إلى قصة الشيطان مع عابد قيل إنّه يسمى برصيصا، أغراه الشيطان بارتكاب الفاحشة، ثم استدرجه الى الكفر، ثم تولى عنه وخذله، ومثله كمثل المنافقين، زيّنوا لليهود المقاومة، والتحصّن، ضد المسلمين، ثم خذلوهم. [الآية 16] .
8- في الجزء الأخير، تلتفت السورة الى المؤمنين، فتأمرهم بالتقوى(9/188)
والعمل الصالح، وتبيّن فضل القرآن الكريم وأثره في هداية القلوب.
[الآيات 18- 21] .
تختم السورة بذكر أسماء الله الحسنى، فهو سبحانه مالك الملك، الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ تقدّست أسماؤه، وتنزهت عن النقص السَّلامُ الذي يشمل عباده بالأمان والطمأنينة ويمنحهم السلامة والراحة، الْمُؤْمِنُ واهب الأمن وواهب الايمان، الْمُهَيْمِنُ الرقيب على كل شيء الْعَزِيزُ الغالب، الْجَبَّارُ القاهر، الْمُتَكَبِّرُ البليغ الكبرياء والعظمة، الْخالِقُ الْبارِئُ الموجد، الْمُصَوِّرُ خالق الصور للكائنات.
ومن معناها إعطاء الملامح المتميزة، والسمات التي تمنح لكل شيء شخصيته الخاصة، لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى الدالة على الصفات العالية، والكمال المطلق، فهو سبحانه متصف بكل كمال، ومنزّه عن كل نقص.
المقصد الإجمالي للسورة
قال الفيروزآبادي: معظم مقصود سورة الحشر هو:
الخبر عن جلاء بني النضير، وقسم الغنائم، وتفصيل حال المهاجرين والأنصار، والشكاية من المنافقين في واقعة بني قريظة وذكر برصيصا «1» والنظر الى العواقب وتأثير نزول القرآن الكريم وذكر أسماء الحق تعالى وصفاته وبيان أن جميع المخلوقات تدل على عظمته وكماله وتنزيهه، في قوله سبحانه: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) .
النظام الاقتصادي في الإسلام
أشارت الآية السابعة، من سورة الحشر، إلى الحكمة من توزيع الفيء على المهاجرين وحدهم، دون الأغنياء من أهل المدينة، بقوله تعالى: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ أي كي
__________
(1) . حمل بعضهم عليه الآية 16 من سورة الحشر، حيث استدرجه الشيطان إلى المعصية ثم الى الشرك ثم تخلى عنه، وذلك أن الشيطان ذهب الى بنت فخنقها حتى مرضت. ثم أفهم أهلها أن شفاءها عند ذلك العابد، فتركها أهلها عنده في صومعته ليرقيها، فلما شفيت وسوس له الشيطان حتى ارتكب معها الفحشاء، فلما انكشف أمره، أخذ ليصلب، فطلب منه الشيطان أن يسجد له، حتى ينجو من الصلب، فسجد للشيطان، ثم مات كافرا.(9/189)
لا يكون الفيء، أي الغنيمة، متداولا بين الأغنياء دون الفقراء. وهذه قاعدة هامة، من قواعد النظام الاقتصادي في الإسلام.
وقد احترم الإسلام الملكية الفردية، لأنها حافز طبيعي للعمل والإنتاج، ولكنّه قلّم أظفار هذه الملكية، وحارب جبروت المال وطغيانه، بما يأتي:
1- فرض الإسلام الزكاة، وجعلها نسبة متفاوتة حسب التعب في كسب المال. فزكاة المال نسبتها 2: 21 في المائة، وكذلك زكاة التجارة 2: 21 في المائة من رأس المال، وزكاة الزراعة 5 في المائة، أو 10 في المائة. وقريب منها زكاة الماشية، وزكاة الرّكاز، وهو المال، أو البترول، أو المعادن والكنوز التي توجد في باطن الأرض، نسبتها 20 في المائة.
وهكذا، كلما كان عمل العبد أظهر، كانت نسبة الزكاة أقل وكلّما كان عمل القدرة الإلهية أظهر كانت نسبة الزكاة أكثر، فكانت النسبة 20 في المائة في الرّكاز و 2: 21 في المائة في التجارة ... إلخ.
2- حرّم الإسلام الرّبا والاحتكار، وهما الوسيلتان الرئيستان، لجعل المال دولة بين الأغنياء، أي يتداوله الأغنياء، ولا يصل إليه الفقراء.
3- جعل للإمام الحقّ في أن يأخذ فضول أموال الأغنياء، فيردّها على الفقراء وأن يفرض الضرائب في أموال الأغنياء، عند خلوّ بيت المال.
4- جعل هناك صدقات موسمية مثل صدقة الفطر، والأضحية والهدف في الحج، والكفّارات مثل كفّارة اليمين، والظّهار والفطر في رمضان، وكلّها تنتهي الى إطعام المساكين أو كسوتهم والتوسعة عليهم.
5- حث الإسلام على الصدقة والترحم والتكافل، والمودة والتعاطف بين الناس وبذلك نجد أن النظام الاقتصادي في الإسلام نظام متميز، ليس فيه مساوئ الرأسمالية أو الشيوعية، بل فيه محاسنهما مع التجرّد من عيوبهما، وذلك نظام العليم الخبير، البصير بالنفوس الذي أعطى الإنسان حقّ التملك، ثم جعله موظّفا في ماله، يجب عليه أن ينفق، وأن(9/190)
يتصدّق عن طواعية، ورغبة في الثواب العاجل والآجل، قال تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد: 7] وقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ
(261) [البقرة] .(9/191)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحشر» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الحشر بعد سورة البيّنة ونزلت سورة البيّنة فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك فيكون نزول سورة الحشر في ذلك التاريخ أيضا والحقّ أنها من السّور التي نزلت فيما بين غزوة بدر وصلح الحديبية، لأنها نزلت في غزوة بني النّضير، وكانت هذه الغزوة في السنة الرابعة من الهجرة.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في [الآية 2] منها هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ وتبلغ آياتها أربعا وعشرين آية.
الغرض منها وترتيبها
نزلت هذه السورة، في غزوة بني النضير من يهود المدينة وكانوا قد نقضوا عهدهم مع النبي (ص) فأمرهم أن يخرجوا من المدينة فأبوا، وبعث إليهم عبد الله بن أبيّ رئيس المنافقين ألّا يخرجوا، فإن قاتلهم المسلمون كانوا معهم عليهم، وإن أخرجوهم خرجوا معهم فحاصرهم المسلمون، حتى رضوا أن يخرجوا من المدينة، على أنّ لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلّا آلة الحرب، ولم يفعل المنافقون شيئا مما وعدوهم به، وبهذا يظهر وجه ذكر هذه السورة بعد سورة المجادلة، لأن الكلام فيهما يتناول ما كان من موالاة المنافقين لليهود.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(9/193)
الكلام على غزوة بني النضير الآيات [1- 4]
قال الله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) ، فذكر تسبيح ما في السماوات وما في الأرض له، وأنه سبحانه عزيز حكيم ومهّد بهذا لما أراده من بيان فضله على المسلمين في هذه الغزوة فذكر جلّ شأنه، أنه هو الذي أخرج بني النضير من ديارهم لأول الحشر، الذي سيكون بإخراج اليهود جميعهم من جزيرة العرب وكان المسلمون لا يظنّون أن يخرجوا، وكانوا هم يظنون أنّ حصونهم تمنعهم من الله، فقذف في قلوبهم الرعب حتى رضوا بالخروج ولولا هذا لعذّبوا في الدنيا بالقتل، ولهم في الاخرة عذاب النار ثم ذكر سبحانه أنّ ما قطعه المسلمون من أشجارهم قبل الصلح، وما تركوه منها كان بإذنه، وكان في أنفسهم شيء ممّا قطعوه منها، ولعلّهم ندموا على قطعها بعد أن صار ما بقي منها لهم ثم ذكر تعالى أنّ ما أفاءه عليهم من أموالهم لم يكن بقتال وأنّ حكم ما أفاءه عليهم بغير قتال أن يكون سهم منه لله والرسول، ينفق في عمارة المساجد ونحوها، وسهم لذوي القربى، وهم بنو هاشم وبنو المطّلب، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل، فلا يأخذ لأغنياء منه شيئا، وإنّما يأخذه فقراء المهاجرين، الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم تعويضا لهم وقد أثنى سبحانه عليهم في هجرتهم وتضحيتهم بأموالهم، وأثنى بعدهم على الأنصار الذين آووهم في دار هجرتهم، وطابت نفوسهم بتوزيع أموال بني النّضير عليهم وأثنى بعد الفريقين على من يجيء بعدهم، ويسلك سبيلهم، في ما كان من تضحية وإيثار وتحابّ ثم ذكر ما كان من قول المنافقين لبني النضير لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ [الآية 11] وذكر سبحانه أنهم كاذبون في وعدهم لهم، فلئن أخرجوا لا يخرجون معهم، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم، ولئن نصروهم ليولّنّ الأدبار جميعا لأنهم يرهبون المسلمين أشد من رهبتهم من الله، فلا يقاتلونهم إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر لأنهم ضعاف بسبب عداوة بعضهم لبعض، فيحسبهم من ينظر إليهم أنهم على وفاق، ولكنّ قلوبهم مختلفة(9/194)
متفرّقة فمثلهم في ذلك كمثل أهل بدر من قبلهم، حينما ذاقوا وبال أمرهم، ولم يغن بعضهم عن بعض شيئا، وكمثل الشيطان حينما يغوي الإنسان على الكفر، ثم يتبرأ منه:
فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) .
ثم أمر، سبحانه، المؤمنين بتقواه، وأن ينظر كل واحد منهم ما قدّمه لغده ونهاهم أن يكونوا كأولئك المنافقين واليهود، والذين نسوه فأنساهم أنفسهم. ثم يمضي السياق بعد ذلك إلى تعظيم شأن القرآن الذي ينزل بمثل هذه الآيات والمواعظ.
فذكر تعالى أنه لو أنزله على جبل لتصدّع من خشية منزله، وأتبع ذلك بشرح عظمته، جلّت قدرته، فذكر من صفاته ما ذكر، إلى أن ختمها بقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) .(9/195)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الحشر» «1»
آخر سورة المجادلة نزل فيمن قتل أقرباؤه من الصحابة يوم بدر «2» ، وأوّل الحشر نزل في غزوة بني النضير «3» وهي عقبها، وذلك نوع من المناسبة والربط.
وفي آخر المجادلة: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [الآية 21] . وفي أول هذه: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الآية 2] .
وفي آخر المجادلة، الآية 22، ذكر من حادّ الله ورسوله «4» ، وفي أول هذه ذكر من شاقّ الله ورسوله «5» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . وهو قوله تعالى من الآية 22: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ.
وقيل هم: أبو عبيدة قتل أباه يوم بدر، وأبو بكر همّ بقتل ولده عبد الرحمن، ومصعب بن عمير قتل أخاه عبيدا، وعمر قتل قريبا له، وحمزة وعلي وعبيدة بن الحارث قتلوا عقبة وشيبة والوليد بن عتبة (طبقات ابن سعد: 3:
1: 300) .
(3) . وذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [الآية 2] .
وأخرج البخاري في التفسير: 6: 183، ومسلم في التفسير: 8: 245 عن ابن عباس، أنّ أول الحشر أنزلت في بني النضير.
(4) . وذلك قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
(5) . وذلك قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الآية 4] .(9/197)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الحشر» «1»
1- أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الآية 2] .
هم بنو النّضير «2» .
2- لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [الآية 2] .
قال ابن عبّاس: هو الشّام. أخرجه ابن أبي حاتم «3» .
3- مِنْ أَهْلِ الْقُرى [الآية 7] .
قال مقاتل: يعني قريظة والنّضير وخيبر. أخرجه ابن أبي حاتم.
4- إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ [الآية 16] .
هو برصيصا العابد. ذكره ابن كثير «4» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. [.....]
(2) . أخرجه البخاري (4882) في التفسير عن ابن عبّاس موقوفا.
(3) . والطبري في «تفسيره» 28: 19، عن عدد من الرواة.
(4) . في «تفسيره» 4: 341.(9/199)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحشر» «1»
1- قال تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ [الآية 6] .
أقول: الإيجاف من الوجيف وهو السير السريع.
ومعنى قوله تعالى: فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ، أي ما أوجفتم على تحصيله وغنمه، خيلا ولا ركابا، ولا تعبتم في القتال عليه، وإنّما مشيتم على أرجلكم.
والمعنى: أن ما خوّل الله رسوله من أموال بني النّضير، لم تحصّلوه بالقتال والغلبة، ولكن سلّطه الله عليهم، وعلى ما في أيديهم، كما كان يسلّط رسله على أعدائهم.
2- وقال تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الآية 9] .
أقول: الخصاصة الخلّة، وأصلها خصاص البيت، أي: فروجه. وهذه الخلّة، أي: الفرجة استعيرت للحاجة أو الفقر، فكأن صاحبها به مثل هذا النقص..
3- وقال تعالى: وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الآية 14] أي متفرقة.
أقول: كأنّ قوله تعالى: شَتَّى جمع شتيت، وقد أنسي المفرد فاستعملت الكلمة استعمال المفرد صفة.
ونظير هذا كلمة «فوضى» أقول:
لعلها في الأصل فضّى جمع فضيض!
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(9/201)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحشر» «1»
قال تعالى: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ [الآية 2] أي: «فجاءهم أمر الله» ، وقال بعضهم أي: آتاهم العذاب، لأنك تقول: «أتاه» و «آتاه» كما تقول:
«ذهب» و «أذهبته» .
وقال تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ [الآية 5] وهي من «اللّون» في الجماعة، وواحدته «لينة» ، وهو ضرب من النخل، ولكن لمّا انكسر ما قبلها انقلبت الى الياء.
وقال تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ [الآية 6] تقول: «فاء عليّ كذا وكذا» و «أفاءه الله» كما تقول: «جاء» و «أجاءه الله» وهو مثل «ذهب» وأذهبته» .
وقال تعالى: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً [الآية 7] و «الدّولة» في هذا المعنى أن يكون ذلك المال مرّة لهذا، ومرّة لهذا، وتقول: «كانت لنا عليهم الدّولة» . وأمّا انتصابها، فعلى تقدير «كي لا يكون الفيء دولة» و «كي لا تكون دولة» أي: «لا تكون الغنيمة دولة» ويزعمون أنّ «الدولة» أيضا في المال، لغة للعرب، ولا تكاد تعرف «الدولة في المال» .
وقال تعالى: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا [الآية 9] أي: ممّا أعطوا.
وقال تعالى: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ [الآية 12] برفع الاخر لأنه معتمد لليمين، لأن هذه اللام التي في أول الكلام، إنّما تكون لليمين كقول
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(9/203)
الشاعر «1» [من الطويل، وهو الشاهد السبعون بعد المائتين] :
لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ... وأمكنني منها إذن لا أقيلها
وقال تعالى: أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها [الآية 17] بنصب «خالدين» على الحال و (في النار) خبر. ولو كان في الكلام «إنّهما في النار» كان الرفع في «خالدين» جائزا. وليس قولهم: إذا جئت ب «فيها» مرتين فهو نصب «بشيء» إنّما «فيها» توكيد جئت بها، أو لم تجئ بها، فهو سواء. ألا ترى أنّ العرب كثيرا ما تجعله حالا إذا كان «فيها» التوكيد، وما أشبهه. وهو في القرآن منصوب في غير مكان. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها [البيّنة: 6] .
__________
(1) . هو كثير بن عبد الرحمن ديوانه 305، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 412، والخزانة 3: 580.(9/204)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحشر» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الآية 9] .
والإيمان ليس مكانا يتبوأ، لأن معنى التّبوّء اتخاذ المكان منزلا؟
قلنا: فيه إضمار تقديره: وأخلصوا الإيمان، كقول الشاعر:
علفتها تبنا وماء باردا
أي وسقيتها ماء باردا. ثانيا: أنه على ظاهره بغير إضمار ولكنه مجاز، فمعناه أنهم جعلوا الإيمان مستقرّا وموطنا، لتمكّنهم منه واستقامتهم عليه، كما جعلوا دار الهجرة كذلك، وهي المدينة.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ [الآية 12] بعد الإخبار بأنهم لا ينصرونهم، وحرف الشرط إنّما يدخل على ما يحتمل وجوده وعدمه.
قلنا: معناه: ولئن نصروهم على الفرض والتقدير، كقوله تعالى للنبي (ص) : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزّمر: 65] وقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء:
22] والله تعالى، كما يعلم ما يكون قبل كونه، فهو يعلم ما لا يكون، أن لو كان كيف يكون.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى للمؤمنين: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ [الآية 13] ، أي في صدور المنافقين أو اليهود، على اختلاف القولين، وظاهره: لأنتم أشدّ خوفا من الله، فإن كان «من» متعلّقا
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(9/205)
بأشدّ، لزم ثبوت الخوف لله تعالى، كما تقول: زيد أشدّ خوفا في الدار من عمرو. وذلك محال، وإن كان «من الله» متعلّقا بالخوف فأين الذي فضل عليه المخاطبون وأيضا فإن الآية تقتضي إثبات زيادة الخوف للمؤمنين، وليس المراد ذلك باتفاق المفسرين؟
قلنا: «رهبة» مصدر رهب، مبنيّ لما لم يسمّ فاعله فكأنه قيل أشدّ مرهوبية، يعني أنكم في صدورهم أهيب من الله فيها، كذا فسّره ابن عباس رضي الله عنهما، تقول زيد أشدّ ضربا في الدار من عمرو، يعني مضروبية.
فإن قيل: كيف يستقيم التفضيل بأشدّية الرهبة، مع أنهم كانوا لا يرهبون الله، لأنهم لو رهبوه لتركوا النفاق والكفر؟
قلنا معناه أنّ رهبتهم في السر منكم أشدّ من رهبتهم من الله التي يظهرونها لكم وكانوا يظهرون للمؤمنين رهبة شديدة من الله تعالى.
فإن قيل: لم ورد في التنزيل على لسان إبليس: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ [الآية 16] .
وهو لا يخاف الله تعالى، لأنه لو خافه لما خالفه، ثم أضلّ عبيده؟
قلنا: قد سبق هذا السؤال وجوابه في سورة الأنفال.
فإن قيل ما الحكمة في تنكير النفس والغد، في قوله تعالى: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الآية 18] ؟
قلنا: أما تنكير النفس، فلاستقلال الأنفس النواظر فيما قدّمت للاخرة، كأنه تعالى قال: ولتنظر نفس واحدة في ذلك، وأين تلك النفس. وأمّا تنكير الغد فلعظمته، وإبهام أمره، كأنه قال لغد لا يعرف كنهه لعظمه.
فإن قيل: لم قال تعالى، لِغَدٍ وأراد به يوم القيامة، والغد عبارة عن يوم بينه وبيننا ليلة واحدة؟
قلنا: الغد له مفهومان: أحدهما ما ذكرتم. والثاني مطلق الزمان المستقبل ومنه قول الشاعر:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنّني عن علم ما في غد عمي
وأراد به مطلق الزمان المستقبل، كما أراد بالأمس مطلق الزمان الماضي، فصار لكل واحد منهما مفهومان ويؤيّده أيضا قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ(9/206)
تَغْنَ بِالْأَمْسِ
[يونس: 24] وقيل إنما أطلق على يوم القيامة اسم الغد، تقريبا له، كقوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر: 1] وقوله تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل: 77] وكأنه تعالى قال: إن يوم القيامة لقربه يشبه ما ليس بينكم وبينه إلا ليلة واحدة، ولهذا روي عن النبي (ص) أنه قال «اعمل لليلة صبيحتها يوم القيامة» قالوا أراد بتلك الليلة ليلة الموت.
فإن قيل: ما الفرق بين الخالق والبارئ، حتى عطف تعالى أحدهما على الاخر؟
قلنا: الخالق هو المقدّر لما يوجده، والبارئ هو المميّز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة. وقيل الخالق المبدئ، والبارئ المعيد.(9/207)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحشر» «1»
في قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الآية 9] . استعارة:
لأن تبوّأ الدار هو استيطانها والتمكّن فيها، ولا يصحّ حمل ذلك على حقيقته في الإيمان. فلا بدّ إذن من حمله على المجاز والاتساع.
فيكون المعنى أنهم استقرّوا في الإيمان، كاستقرارهم في الأوطان.
وهذا من صميم البلاغة، ولباب الفصاحة. وقد زاد اللفظ المستعار هاهنا معنى الكلام رونقا. ألا ترى كم بين قولنا: استقرّوا في الإيمان، وبين قولنا: تبوّءوا الإيمان.
وأنا أقول، أبدا، إن الألفاظ خدم للمعاني، لأنها تعمل في تحسين معارضها، وتنميق مطالعها.
وقوله سبحانه: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الآية 21] هو على سبيل المجاز. والمعنى أن الجبل لو كان ممّا يعي القرآن، ويعرف البيان لخشع من سماعه، ولتصدّع من عظم شأنه، على غلظ أجرامه، وخشونة أكنافه.
فالإنسان أحقّ بذلك منه، إذ كان واعيا لقوارعه، عالما بصوادعه.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(9/209)
سورة الممتحنة (60)(9/211)
المبحث الأول أهداف سورة «الممتحنة» «1»
سورة الممتحنة سورة مدنية آياتها 13 آية، نزلت بعد سورة الأحزاب.
قصة نزول السورة
هاجر الرسول (ص) الى المدينة، واستطاع أن يؤلّف بين المهاجرين والأنصار، وأن يضع أسس الدعوة الإسلامية، وأن يصنع أمّة تميّزت بالأخلاق الكريمة، والصفات الحميدة. وقد وقف كفار مكّة في وجه الدعوة الإسلامية، ووقعت عدة معارك بين المسلمين والمشركين منها: بدر وأحد والخندق والأحزاب والحديبية.
ثمّ توقّفت هذه المعارك بعد صلح الحديبية، وكان من أهم نصوص الصلح: وضع الحرب بين الفريقين عشر سنين، وأنّ من أراد أن يدخل في حلف محمد دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في حلف قريش دخل فيه.
وعلى أثر ذلك دخلت قبيلة خزاعة في حلف رسول الله (ص) ودخلت قبيلة بكر في حلف قريش.
ثمّ إنّ قريشا نقضت العهد بمساعدتها قبيلة بكر حليفتها على قتال خزاعة حليفة النبي حتّى قتلوا منهم عشرين رجلا، وقد لجأت خزاعة الى الحرم لتحتمي به، ولكنّ ذلك لم يمنع رجال بكر من متابعتها، فاستنصرت خزاعة برسول الله (ص) ، وذهب رجال منهم إلى المدينة فأخبروا رسول الله بما كان
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(9/213)
من غدر بكر بهم ومعاونة قريش عليهم، وأنشد عمرو بن سالم، بين يديه:
يا ربّ إنى ناشد محمّدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
إنّ قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكّدا
هم بيّتونا بالوتير هجّدا ... وقتلونا ركّعا وسجّدا
فانصر هداك الله نصرا أيّدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا
فقال له رسول الله (ص) نصرت يا عمرو بن سالم.
وأخذ رسول الله يتجهّز لفتح مكّة، وطوى الأخبار عن الجيش كي لا يشيع الأمر فتعلم قريش فتستعدّ للحرب، والرسول الأمين لا يريد أن يقيم حربا بمكّة، بل يريد انقياد أهلها مع عدم المساس بهم، فدعا الله قائلا: «اللهمّ خذ العيون والأخبار عن قريش حتّى نبغتها في بلادها» .
حاطب يفشي السر
كان حاطب من كبار المسلمين، وقد شهد مع النبي غزوة بدر مخلصا في جهادها، ولكنّ في النفس الانسانية جوانب ضعف تطغى في بعض الأحيان عليها، وتهوي بها من المنازل العالية الى الحضيض. لقد كتب حاطب كتابا إلى قريش، يخبرهم فيه بعزم المسلمين على فتح مكّة، واستأجر امرأة من مزينة تسمّى سارة، وجعل لها عشرة دنانير مكافأة، وأمرها ان تتلطّف وتحتال حتّى توصل كتابه الى قريش، فأخذت المرأة الكتاب فأخفته، وسلكت طريقها الى مكة. ثم أخبر الله رسوله بما صنع حاطب، فأرسل النبيّ علي بن أبي طالب والزبير بن العوام في إثر المرأة، فأدركاها في الطريق، واستخرجا منها الكتاب، فأحضراه الى رسول الله (ص) فدعا رسول الله (ص) حاطبا، فأطلعه على الكتاب، ثم قال له: ما حملك على هذا؟ فقال حاطب:
يا رسول الله لا تعجل عليّ، فو الله إنّي لمؤمن بالله ورسوله، ما غيّرت ولا بدّلت، ولكنّي كنت امّرأ ليس لي في القوم من أهل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم ولم أفعل ذلك ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإيمان.
ورأى النبيّ صدق لهجة حاطب، وحسن نيّته في ما أقدم عليه من ذلك(9/214)
الذنب، فقال لمن حوله: أما إنّه قد صدقكم في ما أخبركم به. ونظر النبيّ إلى ماضي الرجل في الجهاد، وحسن بلائه في الذود عن حرمات الإسلام، فرغب في العفو عنه.
أمّا عمر بن الخطاب، فقد كبرت عليه هذه الخيانة، فنظر إلى حاطب وقال له: قاتلك الله، ترى رسول الله يخفي الأمر، وتكتب أنت إلى قريش؟
يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق.
فتبسّم رسول الله، من حماسة عمر، وقال: وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطّلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.
وفي هذه الحادثة أنزل الله صدر سورة الممتحنة يحذّر المؤمنين من أن يوالوا عدوّهم، أو يطلعوه على بعض أسرارهم مهما يكن السبب الذي يدفع الى ذلك، فإنّ العدوّ عدو حيثما كان، وموادّة العدوّ خيانة ليس بعدها خيانة.
قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الآية 1] .
فكرة السورة
تسير السورة مع النفس الإنسانية، تحاول جاهدة أن تربي المسلمين تربية خاصة، عمادها الولاء للدعوة وحدها، والمودة لله، والمحبة لله، والتجمع على دعوة الله.
على هذا المعنى قامت الدعوة الإسلامية، وظهر الإيثار والأخوّة بين المهاجرين والأنصار.
ومن شعائر هذا الدين بغض الفاسقين والملحدين في دين الله، وقد انتهزت السورة فرصة ضعف حاطب، فجعلت ذلك وسيلة عملية لتهذيب النفوس، ورسم المثل الأعلى للمسلم.
وقد عالجت السورة مشكلة الأواصر القريبة، والعصبيات الصغيرة، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة، ليخرج المسلم من الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني.
«لقد كان القرآن بهذا الأسلوب في التربية ينشئ في هذه النفوس صورة جديدة، وقيما جديدة، وموازين جديدة، وفكرة جديدة عن الكون والحياة والإنسان ووظيفة المؤمنين في الأرض، وغاية الوجود الانساني.(9/215)
«وكان كأنما يجمع هذه النباتات الصغيرة الجديدة في كنف الله، ليعلمهم الله، ويبصّرهم بحقيقة وجودهم وغايته، وليفتح أعينهم على ما يحيط بهم من عداوات ومكر وكيد، وليشعرهم أنّهم رجاله وحزبه، وأنه يريد بهم أمرا ويحقّق بهم قدرا، ومن ثمّ فهم يوسمون بسمته، ويحملون شارته، ويعرفون بهذه الشارة وتلك السمة بين الأقوام جميعا، في الدنيا والاخرة وإذن فليكونوا خالصين له، منقطعين لولايته، متجرّدين من كل وشيجة غير وشيجته في عالم الشعور وعالم السلوك» .
تسلسل أفكار السورة
سورة الممتحنة من أولها الى آخرها تنظم علاقة المسلمين بالمشركين، وتدعو إلى تقوية أواصر المودة بين المسلمين، وحفظ هذه الوشائج قوية متينة بين المؤمنين، وتبيّن أنّ عداوة الكافرين للمسلمين أصيلة قديمة، فقد أخرجهم كفّار مكّة من ديارهم وأهلهم وأموالهم [الآية 1] وإذا انتصر المشركون عليهم عاملوهم معاملة الأعداء، رجاء أن يعودوا بهم من الإيمان إلى الكفر، وحينئذ لا تنفعهم أرحامهم ولا أولادهم ولا تنجيهم من عقاب الله [الآيتان 1- 3] .
ثم ترسم السورة قدوة حسنة بإبراهيم الخليل ومن معه من المؤمنين، حينما آمنوا بالله وأخلصوا له النية، وتجردوا من كل عاطفة نحو قومهم المشركين.
وأعلنوا براءتهم من الشرك وأهله، وقد استغفر إبراهيم لأبيه، فلما تأكّد لإبراهيم إصرار أبيه على الشرك تبرّأ منه.
ذلك ركب الإيمان، وطريق المؤمنين في تاريخ البشرية يتّسم بالتضحية والفداء، والاستعلاء على رغبات النفس في صلة الأقارب من المشركين فالمودّة لله وللمؤمنين [الآيات 4- 6] .
ولعل الله أن يهدي هؤلاء المشركين فيدخلوا في دين الله، وبذلك تتحوّل العداوة إلى مودّة، وقد فتحت مكّة بعد ذلك، وعاد الجميع إخوة متحابّين [الآية 7] .
وقد أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق، فهو نبي الهدى والسلام والإسلام في طبيعته دين سلام، فاسمه مشتقّ من السلام والله، تقدّست(9/216)
أسماؤه، اسمه السلام والإسلام لا يمنع من موالاة الكفار، والبرّ بهم، وتحرّي العدل في معاملتهم، ما داموا لم يقاتلونا في الدين.
ولكنّ الإسلام ينهى أشدّ النهي عن موالاة الكفّار المقاتلين أو الذين يستعدون لقتال المسلمين، ويرى كشف خطط المسلمين لهم خيانة للعقيدة وللأمة الاسلامية.
«وهذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة كلها الى إبراز قيمة العقيدة، وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون فمن وقف معهم تحتها فهو منهم، ومن قاتلهم فيها فهو عدوهم، ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم، ودعوتهم، ولم يصدّ الناس عنها، ولم يحل بينهم وبين سماعها، ولم يفتن المؤمنين بها، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البرّ به والقسط معه» [الآيتان 8- 9] .
وكان صلح الحديبية ينص على أنّ من جاء مسلما بدون إذن وليّه يردّه المسلمون إلى أهل مكّة، ومن جاء إلى مكّة مشركا لا يردّونه.
ثمّ أسلمت نساء من أهل مكّة وجاء أزواجهنّ يطلبونهنّ، فنزلت هذه الآيات تؤيّد أنّ المرأة لا يصح أن تردّ إلى زوجها الكافر لأنها لا تحل له بعد أن آمنت بالله وبقي الزوج على الشرك، وكانت المرأة تمتحن، أي تحلف بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماسا للدنيا، وبالله ما خرجت إلّا حبّا لله ورسوله، فإذا حلفت، كان لنا الظاهر والله أعلم بالسرائر. عندئذ تعيش في المجتمع المسلم. فإن تزوجت أعاد زوجها المسلم إلى الزوج المشرك ما أنفقه عليها، وكذلك إذا ذهبت زوجة مسلمة الى المشركين مرتدّة، فإذا تزوّجت يردّ المشركون للمسلم المهر الذي دفعه لها [الآيات 10- 11] .
ثمّ بيّن الله سبحانه لرسوله (ص) كيف يبايع النساء على الإيمان وقواعده الأساسية، وهي التوحيد، وعدم الشرك بالله إطلاقا، وعدم اقتراف المحرمات وهي السرقة، والزنا، وقتل الأولاد، والإتيان ببهتان يفترينه، ثم طاعة الرسول في كل ما يأمر به، أي امتثال المأمورات واجتناب المحرمات [الآية 12] .
وفي ختام السورة تجد آية تجمع(9/217)
الهدف الكبير فتنهى عن موالاة من غضب الله عليهم من اليهود والمشركين [الآية 13] .
مقصود السورة إجمالا
قال الفيروزآبادي: معظم مقصود السورة: النهي عن موالاة الخارجين عن ملّة الإسلام، والاقتداء بالسلف الصالح في طريق الطاعة والعبادة، وانتظار المودّة بعد العداوة، وامتحان المدّعين بمطالبة الحقيقة، وأمر الرسول بكيفية البيعة مع أهل الستر والعفّة، والتجنّب من أهل الزيغ والضلالة، في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) .(9/218)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الممتحنة» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الممتحنة بعد سورة الأحزاب، وكان نزولها بعد صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، فتكون من السّور التي نزلت فيما بين هذا الصلح وغزوة تبوك.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في [الآية 10] منها:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ وتبلغ آياتها ثلاث عشرة آية.
الغرض منها وترتيبها
يقصد من هذه السورة نهي المؤمنين عن موالاة المشركين بعد نهيهم عن موالاة اليهود، وكان المسلمون قد عقدوا مع قريش هدنة في صلح الحديبية لمدة أربع سنين، فنزلت هذه السورة بعد هذا الصلح ليفهمه المسلمون على حقيقته، لأنّه لم يقض على ما بين الفريقين من عداء، وإنّما كان اتّفاقا على وضع الحرب بينهم هذه المدّة، ولا شكّ في أنّ هذه السورة تشبه سورة الحشر في نهي المؤمنين عن موالاة غيرهم، وهذا هو وجه المناسبة بينهما.
النهي عن موالاة المشركين الآيات [1- 13]
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الآية 1]
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(9/219)
، فنهاهم عن موالاة المشركين الذين أخرجوهم من ديارهم، ووبّخ من يسرّ إليهم بالمودة من المنافقين، وذكر أنهم إن يلتقوا بهم يكونوا لهم أعداء ويؤذوهم بالفعل والقول، وهدّدهم إذا راعوا في ذلك ما بينهم من قرابة بأنها لن تنفعهم يوم القيامة، بل يفصل فيها بينهم، ولا ينتفع بعضهم بقرابة بعض، ثمّ أخبرهم، جلّ وعلا، بما كان من إبراهيم والذين معه إذ تبرّأوا من قومهم وعادوهم، ليكون لهم قدوة حسنة فيهم ثم ذكر أنهم إذا عادوهم ترجى مودّتهم بإسلامهم، لأنّ العداوة قد تكون سببا في المودّة، ثم ذكر، سبحانه، أنه لا ينهاهم عن موالاة الذين لم يقاتلوهم في الدّين، ولم يخرجوهم من ديارهم، وإنّما ينهاهم عن موالاة الذين فعلوا ذلك معهم. وكان في صلح الحديبية أن يردّ النبي (ص) على قريش من يهاجر إليه منهم، فجاءته سبيعة بنت الحارث مسلمة، وهو لا يزال بالحديبية، فأقبل زوجها يطلب ردّها إليه على ما جاء في الصلح بينهم، وكذلك فعل غيرها من النساء، فجاء أهلهن يطلبون ردّهن، فأجابهم النبي (ص) بأن هذا الشرط في الرجال دون النساء، وذكر الله تعالى في ذلك أنه إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات فليمتحنوهنّ، فإن علموهنّ مؤمنات لا يرجعوهنّ إلى الكفّار، لأنّهنّ محرّمات عليهم، وهم محرّمون عليهنّ وأحلّ للمسلمين أن ينكحوهنّ إذا دفعوا لهنّ مهورهنّ، إلى غير هذا ممّا ذكره في أمرهنّ ثمّ أمر النبي (ص) إذا جاءه المؤمنات مهاجرات يبايعنه، ألّا يشركن، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان من نميمة أو نحوها، ولا يعصينه في معروف أن يبايعهنّ ويستغفر لهنّ الله، إنّ الله غفور رحيم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) .(9/220)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الممتحنة» «1»
أقول: لمّا كانت سورة الحشر في المعاهدين من أهل الكتاب، عقّبت بهذه لاشتمالها على ذكر المعاهدين من المشركين، لأنها نزلت في صلح الحديبية «2» .
ولمّا ذكر، سبحانه، في سورة الحشر، موالاة المؤمنين بعضهم بعضا، ثمّ موالاة الذين من أهل الكتاب، افتتح هذه السورة بنهي المؤمنين عن اتّخاذ الكفّار أولياء، لئلا يشابهوا المنافقين في ذلك وكرّر ذلك وبسطه، إلى أن ختم به، فكانت في غاية الاتّصال ولذلك، كان الفصل بها بين الحشر والصف، مع تأخيهما في الافتتاح ب سَبَّحَ.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، لمّا أخبر المشركين بعزم النبي (ص) على فتح مكّة بعد أن نقض المشركون صلح الحديبية. (البخاري في التفسير: 6: 185، 186، والتّرمذي في التفسير: 9: 198. 202 بتحفة الأحوذي ومسند الإمام أحمد: 1: 79، 80) .(9/221)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الممتحنة» «1»
1- وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ [الآية 1] .
نزلت في حاطب بن أبي بلتعة.
2- عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [الآية 7] .
قال ابن شهاب: نزلت في جماعة، منهم أبو سفيان. أخرجه ابن أبي حاتم.
3- لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ [الآية 8] .
نزلت في قتيلة أمّ أسماء بنت أبي بكر، كما في «المستدرك» .
4- إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ [الآية 10] .
أخرج الطبراني عن عبد الله: أنّها نزلت في أمّ كلثوم بنت عقبة ابن أبي معيط.
وأخرج ابن أبي حاتم عن يزيد ابن أبي حبيب: أنّه بلغه أنّها نزلت في أميمة بنت بشر، امرأة أبي حسّان بن الدحداحة.
وعن مقاتل: أنّها نزلت في سعيدة، امرأة صيفي بن الراهب.
5- وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ [الآية 11] .
قال الحسن: نزلت في أمّ الحكم بنت أبي سفيان، ارتدّت فتزوّجها رجل ثقفي، ولم ترتدّ امرأة من قريش غيرها، فأسلمت مع ثقيف، حينما أسلموا، أخرجه ابن أبي حاتم.
6- لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الآية 13] .
قال ابن مسعود: هم اليهود والنّصارى. أخرجه ابن أبي حاتم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.(9/223)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الممتحنة» «1»
1- وقال تعالى: إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ [الآية 4] .
أقول برآء مثل شركاء، جمع بريء، واجتماع الهمزتين مع المد يجعلها ثقيلة، ومن أجل ذلك قرئت «براء» بالضم، و «براء» بالكسر.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....](9/225)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الممتحنة» «1»
قال تعالى: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ [الآية 4] .
استثناء خارج من أول الكلام.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(9/227)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الممتحنة» «1»
إن قيل: ممّ استثني قوله تعالى:
إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ [الآية 4] ؟
قلنا: من قوله تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ [الآية 4] .
لأنه سبحانه أراد بالأسوة الحسنة قوله الذي حكاه عنه وعن أتباعه وأشياعه، ليقتدوا به ويتخذوه سنّة يستنّون بها واستثنى سبحانه استغفاره لأبيه، لأنه كان عن موعدة وعدها إيّاه.
فإن قيل: فإن كان استغفاره لأبيه، أو وعده لأبيه بالاستغفار مستثنى من الأسوة، فكيف عطف عليه قوله وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الآية 4] وهو لا يصح استثناؤه ألا ترى إلى قوله تعالى: فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الفتح: 11] ؟
قلنا: المقصود بالاستثناء هو الجملة الأولى فقط، وما بعدها ذكر لأنه من تمام كلام إبراهيم صلوات الله عليه، لا بقصد الاستثناء كأنه قال: أنا أستغفر لك، وما في طاقتي إلّا الاستغفار.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الآية 12] ، ومعلوم أن النبي (ص) لا يأمر إلّا بمعروف، فلماذا لم يقتصر على قوله تعالى وَلا يَعْصِينَكَ؟
قلنا: الحكمة فيه سرعة تبادر الأفهام إلى قبح المعصية منهنّ لو وقعت، من غير توقّف الفهم على المقدّمة التي أوردتم في السؤال.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(9/229)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الممتحنة» «1»
في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الآية 1] . استعارة على أحد التأويلين، وهو أن يكون المعنى:
تلقون إليهم بالمودة ليتمسّكوا بها منكم. كما يقول القائل: ألقيت إلى فلان بالحبل ليتعلّق به، وسواء أقال:
ألقيت بالحبل، أم ألقيت الحبل.
وكذلك لو قال: ألقيت إلى فلان بالمودة، أو ألقيت إليه المودّة. وكذلك قولهم: رميت إليه بما في نفسي، وما في نفسي، بمعنى واحد.
وقال الكسائي: تقول العرب: ألقه من يدك، وألق به من يدك، واطرحه من يدك، واطرح به من يدك، كلام عربي صحيح. وقد قيل: إن في الكلام مفعولا محذوفا، فكأنه تعالى قال:
تلقون إليهم أسرار النبي (ص) بالمودة التي بينكم. وهذه الآية نزلت في قوم من المسلمين، كانوا يخالّون قوما من المنافقين، فيتسقّطونهم أسرار النبي (ص) ، استزلالا لهم، واستغمارا لعقولهم.
وفي قوله سبحانه: وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ [الآية 2] استعارة.
لأنّ بسط الألسن على الحقيقة لا يتأتّى كما يتأتّى بسط الأيدي وإنّما المراد إظهار الكلام السيّئ فيهم بعد زمّ الألسن عنهم، فيكون الكلام كالشيء الذي بسط بعد انطوائه، وأظهر بعد إخفائه.
وقد يجوز أيضا أن يكون تعالى إنّما
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(9/231)
حمل بسط الألسن على بسط الأيدي، ليتوافق الكلام، ويتزاوج النظام لأنّ الأيدي والألسن مشتركة في المعنى المشار إليه: فللأيدي الأفعال، وللألسن الأقوال وتلك ضررها بالإيقاع، وهذه ضررها بالسّماع.
وقوله سبحانه: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الآية 10] وقرأ أبو عمرو وحده (تمسّكوا) بالتشديد، وقرأ بقية السبعة تُمْسِكُوا بالتخفيف. وهذه استعارة.
والمراد بها: لا تقيموا على نكاح المشركات، وخلاط الكافرات، فكنى سبحانه عن العلائق التي بين النساء والأزواج بالعصم، وهي هاهنا بمعنى الحبال، لأنّها تصل بعضهم ببعض، وتربط بعضهم إلى بعض. وإنما سميت الحبال عصما، لأنها تعصم المتعلق بها والمستمسك بقوّتها. قال الشاعر:
وآخذ من كل حيّ عصما أي حبالا. وهي بمعنى العهود في هذا الشعر.
وقال أبو عبيدة: العصمة: الحبل والسّبب وقال غيره: العصم: العقد.
فكأنه تعالى قال: ولا تمسّكوا بعقد الكوافر، أي بعقود نكاحهن. وأبو حنيفة يستشهد بهذه الآية على أنه لا عدّة في الحربيّة إذا خرجت إلى دار الإسلام مسلمة، وبانت من زوجها بتخليفها له في دار الحرب كافرا.
ويقول: إنّ في الاعتداد منه تمسّكا بعصمة الكافر التي وقع النهي عن التمسّك بها. ويذهب أنّ الكوافر هاهنا جمع فرقة كافرة، كما أن الخوارج جمع فرقة خارجة، ليصح حمل الكوافر على الذكور الإناث.
ويكون قوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا خطابا للنبي (ص) والمؤمنين.
والمعنى: ولا تأمروا النساء بالاعتداد من الكفّار، فتكونوا كأنكم قد أمرتموهنّ بالتمسّك بعصمهم.
وقال أبو يوسف «1» ، ومحمد «2» يجب عليها العدّة.
__________
(1) . أبو يوسف هو يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الكوفي، صاحب الإمام أبي حنيفة النعمان. تولّى القضاء ببغداد أيام المهدي والهادي والرشيد وهو أول من لقّب بقاضي القضاة في الإسلام، وأول من وضع الكتاب في الفقه الحنفي. توفي سنة 182 هـ.
(2) . محمد هو محمد بن الحسن بن واقد الشيباني، كان إماما في الفقه والأصول، وهو صاحب أبي حنيفة وناشر علمه ومذهبه. وتولّى القضاء في زمن الرشيد، ثم صحبه إلى خراسان، فمات في الريّ سنة 189 هـ.(9/232)
سورة الصّف 61(9/233)
المبحث الأول أهداف سورة «الصف» «1»
سورة الصف سورة مدنية، آياتها 14 آية، نزلت بعد سورة التغابن.
وهي سورة تدعو الى وحدة الصف، وتماسك الأمة، وتحثّ على الجهاد، وتنفّر من الرياء، وتبيّن أنّ الإسلام كلمة الله الأخيرة الى الأرض، وأنّ رسالات السماء كانت دعوة هادفة لبناء الإنسان والدعوة إلى الخير والعدل، وقد أرسل الله سبحانه موسى (ع) بالتوراة، فلما انحرف اليهود عن تعاليم السماء، أرسل الله عيسى (ع) مجدّدا لناموس التوراة، ومبشّرا برسالة محمد (ص) .
وقد كانت رسالة محمد (ص) بالهدى ودين الحق، متممة للرسالات السابقة، مشتملة على مبادئ الحق واليسر والعدل والمساواة، وقد كره المشركون انتصار النور والخير، فحاولوا مقاومة هذه الدعوة وإطفاء نورها، ولكنّ الله أيّد الإسلام، حتّى طوى ممالك الفرس والروم، وعمّ المشارق والمغارب.
وقد حاولت الصليبيّة الحاقدة اجتياح بلاد الإسلام في فترات متعددة، من بينها الحرب الصليبية التي انتهت بهزيمة المعتدين وانتصار المسلمين، ووجّهت الصليبيّة ضرباتها للمسلمين في الأندلس، وحاولت تصفية الإسلام أيّام الدولة العثمانية، وأطلقت على تركيا اسم «الرجل المريض» ، والبلاد التي تحت يدها «تركة الرجل المريض» . فلمّا قام كمال أتاتورك،
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(9/235)
وأعلن إلغاء الخلافة الإسلامية، كبّر له الغرب وهلّل، وتراجعت الجيوش الغربية من أمام تركيا، وجعلوا من أتاتورك بطلا عملاقا لقضائه على الخلافة الإسلامية.
وفي هذه الأيام، تقوى الحركة الإسلامية في تركيا، وتمتلئ المساجد والمدارس الإسلامية بالباحثين، وتشتد سواعد الحزب الإسلامي هناك، ويأبى الله إلّا أن يتمّ نوره ولو كره المشركون.
سبب نزول السورة
جمهور المفسرين على أن صدر هذه السورة نزل حينما اشتاق المسلمون إلى معرفة أحب الأعمال إلى الله، فأنزل الله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) . فلمّا أخبرهم الله بأن أفضل الأعمال بعد الإيمان هو الجهاد في سبيل الله، كره الجهاد قوم، وشقّ عليهم أمره، فقال الله سبحانه وتعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) .
هدفان للسورة لسورة الصف هدفان رئيسان:
الهدف الأول: الدعوة إلى الجهاد والحثّ عليه، والتحذير من كراهيته، والفرار منه، وبيان ثوابه وفضله، وأنّه تجارة رابحة. وتبع ذلك ترسيخ العقيدة، ووجوب اتفاق الظاهر مع الباطن، ووجوب الطاعة للقائد، وتماسك الأمّة، وترابط بنيانها حتّى تصبح صفّا واحدا، محكم الأساس، قويّ الوشيجة والرّباط، كأنّه بنيان مرصوص.
فالآيات الأربع الأولى: دعوة الجهاد، والتحذير من الخوف والجبن، وبيان أن العقيدة السليمة تستتبع التضحية والفداء، حتّى يصبح جيش الإسلام قويّ البنيان، متلاحم الصفوف.
والآيات [10- 12] صورة رائعة لفضل الجهاد وثوابه، فهو أربح تجارة، وأفضل سبيل للمغفرة ودخول الجنة، وهو باب النصر والفتح، والبشرى للمؤمنين بالسيادة والعزّة.
والهدف الثاني: بيان وحدة الرسالات. فالرسالات الإلهية كلّها(9/236)
دعوة إلى التوحيد، وثورة على الباطل، وإصلاح للضمير، وإرساء لمعالم الفضيلة، ومحاربة للرذيلة. وقد دعا الرسل جميعا إلى توحيد الله، وتكفّل كلّ رسول بإرشاد قومه وهدايتهم، ونصحهم الى ما فيه الخير، وتحذيرهم من الانحراف والشر.
وفي سورة الصف نجد الآية الخامسة تبيّن رسالة موسى (ع) لقومه، وتذكر عنت اليهود، وإيذاءهم لموسى، وتجريحهم له، وانصرافهم عن روحانيّة الدعوة إلى مادّية المال.
وفي الآية السادسة، نجد عيسى (عليه السلام) يجدّد أمر الناموس، ويصيح باليهود صيحات ضارعة، ويعظهم ويدعوهم للإيمان، ويحثّهم على الصدقة، والعناية بالروح، وتقديم الخير لوجه الله.
والمسيح يبشّر برسالة أحمد خاتم المرسلين. فالرسالات كلّها حلقات متتابعة في تاريخ الهداية والإصلاح، والإسلام كان ختام هذه الرسالات وآخرها، والمهيمن عليها فقد حفظ تاريخها في القرآن، ودعا إلى الإيمان بالملائكة والكتاب والرسل. قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) [البقرة] .
وروى البخاري في صحيحه أن رسول الله (ص) قال: «إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا فأتمّها وأكملها إلّا موضع لبنة، فجعل الناس يقولون لو وضعت هذه اللبنة، فأنا هذه اللبنة وأنا خاتم الرسل» .
وقال تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) [البقرة] .
وفي آخر آية من السورة دعوة للمسلمين أن ينصروا دين الله، كما نصر الحواريون دين عيسى، أيّام كان دينه توحيدا خالصا والعاقبة دائما للمتقين.
والعبرة المستفادة من هذه الدعوة:
استنهاض همّة المؤمنين بالدين الأخير، الأمناء على منهج الله في الأرض، ورثة العقيدة والرسالة الإلهية، المختارين لهذه المهمّة الكبرى(9/237)
استنهاض همتهم لنصرة الله، ونصرة دينه، ونصرة رسالته وشريعته: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ [الآية 14] .
المقصد الاجمالي للسورة
قال الفيروزآبادي: معظم مقصود سورة الصف هو:
«عتاب الذين يقولون ولا يعلمون بمقتضى ما يقولون، وتشريف صفوف الغزاة والمصلّين، والتنبيه إلى جفاء بني إسرائيل، وإظهار دين المصطفى على سائر الأديان، وبيان التجارة الرابحة مع الرحمن الرحيم، والبشارة بنصر أهل الإيمان على الكفر والخذلان» .(9/238)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الصف» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الصفّ بعد سورة التّغابن، ونزلت سورة التغابن بعد سورة التحريم، ونزلت سورة التحريم بعد سورة الحجرات، ونزلت سورة الحجرات فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك، فيكون نزول سورة الصف في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) . وتبلغ آياتها أربع عشرة آية.
الغرض منها وترتيبها
غرض هذه السورة الحثّ على الجهاد في سبيل الله، وتوبيخ المنافقين على تقاعسهم عنه، وقد كان هذا ناشئا من موالاتهم للمشركين، فكانوا يكرهون قتالهم لأنّهم يبطنون الشرك مثلهم، فالسياق فيها مع المنافقين كالسياق في السورة التي قبلها، ولهذا ذكرت بعدها.
الحث على الجهاد الآيات [1- 14]
قال الله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) ، فذكر تسبيح كل شيء له ليسبّحه أولئك المنافقون ويؤمنوا به ثمّ وبخهم على أنهم يظهرون خلاف ما يبطنون، فيقولون ما لا يفعلون،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(9/239)
ويتقاعسون عن الجهاد مع المسلمين.
وذكر جلّ وعلا أنه يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفّا، فيثبتون في قتالهم ولا يتقهقرون. ثمّ حذرهم عاقبة زيفهم، أن يزيغ قلوبهم فيصيروا إلى الكفر الصريح، كما أزاغ قلوب قوم موسى حينما زاغوا وآذوه، ثم رغّبهم في الإيمان بتبشير عيسى بالنبي الذي يدعوهم إليهم: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الآية 6] . ثم ذكر سبحانه أنهم يريدون إطفاء نوره، وأنه سيتمّ نوره ويظهر دينه على الدين كله ثم دلّهم على ما ينجيهم في أخراهم، وهو أن يصدقوا في إيمانهم، ويجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم، ليغفر لهم ذنوبهم في أخراهم وينيلهم نصرا قريبا في دنياهم، وهو فتح مكة ثم أمرهم أن يكونوا أنصارا لله مخلصين كحواريي عيسى حينما قال لهم: من أنصاري إلى الله؟ فقالوا: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14) .(9/240)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الصف» «1»
أقول: في سورة الممتحنة ذكر، سبحانه، الجهاد في سبيل الله، وبسطه في هذه السورة أبلغ بسط.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.(9/241)
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الصف» «1»
وقال تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) .
كأنّ أصله: «يريدون أن يطفئوا نور الله» كما جاء في سورة براءة، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(9/243)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الصف» «1»
قال تعالى: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ [الآية 3] أي: كبر مقتكم مقتا، ثم قال:
أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) أي:
قولكم.
وقال: وَأُخْرى تُحِبُّونَها [الآية 13] أي: وتجارة أخرى
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(9/245)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الصف» «1»
إن قيل: ما فائدة (قد) في قوله تعالى: وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الآية 5] .
قلنا: فائدتها التأكيد، كأنه قال:
وتعلمون علما يقينا لا شبهة لكم فيه.
هذا جواب الزمخشري: وقال غيره:
فائدتها التكثير، لأن (قد) مع الفعل المضارع تارة تأتي للتقليل كقولهم: إن الكذوب قد يصدق، وتارة تأتي للتكثير كقول الشاعر:
قد أعسف النّازح المجهود معسفة ... في ظلّ أخضر يدعو هامة البوم
وإنما يتمدّح بما يكثر وجوده منه، لا بما يقلّ.
فإن قيل: لم قال عيسى (ع) كما ورد في التنزيل: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الآية 6] ولم يقل محمّد، ومحمّد أشهر أسماء النبي (ص) ؟
قلنا: إنّما قال أحمد، لأنّه مذكور في الإنجيل بعبارة تفسيرها أحمد لا محمّد وإنما كان كذلك، لأنّ اسمه في السماء أحمد وفي الأرض محمد، فنزل في الإنجيل اسمه السماوي.
وقيل إن أحمد أبلغ في معنى الحمد من محمّد، من جهة كونه مبنيّا على صيغة التفضيل. وقيل محمّد أبلغ من جهة كونه على صيغة التكثير.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) ولم يقل
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(9/247)
سبحانه هذه، والمشار إليه البيّنات، وهي مؤنثة؟
قلنا: معناه هذا الذي جئت به، فالإشارة إلى المأتيّ به.
فإن قيل: ما وجه صحّة التشبيه، وظاهره تشبيه كونهم أنصار الله، بقول عيسى عليه السلام كما ورد في التنزيل: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [الآية 14] .
قلنا: التشبيه محمول على المعنى، تقديره: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصارا لعيسى (ع) حينما قال لهم من أنصاري إلى الله.(9/248)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الصف» «1»
في قوله سبحانه: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الآية 5] استعارة. وكنّا أغفلنا الكلام على نظيرها في آل عمران. وهو قوله تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا [الآية 8] لأنّ ذلك أدخل في باب الكلام على الآي المتشابهة، وأبعد من الكلام على الألفاظ المستعارة. إلّا أنّنا رأينا الإشارة إلى هذا المعنى هاهنا، لأنّه ممّا يجوز أن يجري في مضمار كتابنا هذا، فنقول:
إنّ المراد بقوله تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا أي لا تحمّلنا من التكاليف ما لا طاقة لنا به، فتزيغ قلوبنا، أي تميل عن طاعتك، وتعدل عن طريق مرضاتك، فتصادفها زائغة، أو يحكم عليها الزّيغ عند كونها زائغة.
وقد يجوز أن يكون المراد بذلك:
أي أدم لنا ألطافك وعصمك لتدوم قلوبنا على الاستقامة، ولا تزيغ عن مناهج الطاعة. وحسن أن يقال: لا تزغ قلوبنا بمعنى الرّغبة في إدامة الألطاف، لمّا كان إعدام تلك الألطاف في الأكثر يكون عنه زيغ القلوب، ومواقعة الذنوب.
وأما قوله تعالى في هذه السورة:
فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، فهو أوضح فيما يذهب إليه من الأول، لأنه، سبحانه، لمّا زاغوا عن الحقّ، حكم عليهم بالزّيغ عنه، وحكمه بذلك أن يأمر أولياءه بذمّهم ولعنهم والبراءة منهم، عقوبة لهم على ذميم فعلهم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(9/249)
وقد يجوز أن يكون معنى ذلك أنّهم لمّا زاغوا عن الحقّ خذلهم وأبعدهم وخلّاهم واختيارهم، وأضاف، سبحانه، الفعل إلى نفسه من طريق الاتّساع، لمّا كان وقوع الزّيغ منهم مقابلا لأمره لهم باتّباع الحقّ، وسلوك الطريق النهج. كما قال تعالى:
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي [المؤمنون: 110] أي وقع نسيانكم لذكري، في مقابلة أمر أولئك العباد النّاصحين لكم بأن تسلكوا الطريق الأسلم، وتتّبعوا الدين الأقوم.(9/250)
سورة الجمعة 62(9/251)
المبحث الأول أهداف سورة «الجمعة» «1»
سورة الجمعة سورة مدنية، وآياتها 11 آية. نزلت بعد سورة يوسف.
وقد عنيت السورة بتربية المسلمين وجمعهم على الحق والإيمان، ودعوتهم إلى المحافظة على صلاة الجمعة، والامتناع عن الانشغال بغيرها من اللهو أو البيع، وقد مهّدت لذلك ببيان أنّ كلّ شيء يسبّح بحمد الله سبحانه. وقد منّ الله، جل جلاله، على العرب بإرسال نبيّ الهدى والرّحمة ليرشدهم إلى الخير، ويأخذ بأيديهم إلى الطهارة والفضيلة. وقارنت السورة بين المسلمين واليهود، وعيّرت اليهود بإهمالهم تعاليم التوراة وإعراضهم عنها، وشبّهتهم بالحمار يحمل كتب العلم ولا يفيد منها، وهو تشبيه رائع معناه أن التوراة بشّرت بنبيّ الله محمد (ص) ، ودعت أهلها إلى الإيمان به، لكنهم لم ينتفعوا بهداية التوراة، فحرموا أنفسهم الانتفاع بأبلغ نافع، مع قرب هذا الانتفاع منهم.
تسلسل أفكار السورة
بدأت السورة بمطلع رائع، يقرر حقيقة التسبيح المستمرّ يصدر عن كلّ ما في الوجود، بقوله تعالى يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) .
جاء في تفسير النسفي: «التسبيح إمّا أن يكون تسبيح خلقة، يعني إذا نظرت الى كلّ شيء دلّتك خلقته على وحدانيّة الله، سبحانه، وتنزيهه عن الأشباه أو
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(9/253)
تسبيح معرفة بأن يجعل الله بلطفه في كلّ شيء ما يعرف به الله تعالى وينزّهه ألا ترى إلى قوله تعالى:
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44] أو تسبيح ضرورة، بأن يجري الله التسبيح على كلّ جوهر من غير معرفته بذلك» .
وبيّنت السورة أن الله قد اختار العرب ليرسل فيهم نبيّ آخر الزمان، ليطهّرهم ويعلّمهم القرآن والأحكام الشرعية، وحسن تقدير الأمور بعد أن كانوا في الجاهلية في ضلال وكفر وانحلال [الآية 2] .
وقد وصف جعفر بن أبي طالب ضلال الجاهلية للنجاشي ملك الحبشة، فقال:
«أيّها الملك، كنّا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويّ منا الضعيف.
فكنّا على ذلك، حتّى بعث الله إلينا رسولا لنوحّده ولنعبده، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الامانة، وصلة الرّحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء.. ونهانا عن الفواحش وقول الزّور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصيام» .
لقد اختار الله الجزيرة العربية، لتحمل رسالة الإصلاح، وليمتدّ هذا النور الهادي إلى ممالك الفرس والروم، حيث كانت هذه البلاد العريقة قد انغمست في الترف والانحلال ...
«وبين مظاهر الفساد الشامل، ولد الرجل الذي وحّد العالم جميعه، وقد كان اليهود يزعمون أنّهم شعب الله المختار، وأنّهم هم أولياؤه من دون الناس، فبيّنت الآيات أنّهم لم يعودوا صالحين لحمل رسالة السماء فقد أخلدوا إلى الدنيا وكرهوا الموت، لأنهم لم يقدّموا عملا صالحا، بل قدّموا الدّسّ والخداع والوقيعة: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ مطّلع عليهم، وسيجزيهم على عملهم [الآيات 5- 8] .
والمقطع الأخير من السورة يتحدّث عن صلاة الجمعة، وهي فريضة أسبوعية يتلاقى المسلمون فيها لتعلّم أمور دينهم، وتنظيم حياتهم، وتفقّد(9/254)
شؤونهم. وهي وسيلة للعبادة والطاعة، وصفاء النفس، وطهارة الروح.
والإسلام دين ودنيا، عقيدة وسلوك، شرائع وآداب، علم وعمل، عبادة وسيادة.
فإذا انتهت صلاة الجمعة خرج المسلم باحثا عن رزقه، نشيطا في عمله فعبادة الله تكون في المسجد بالصلاة، وتكون خارج المسجد بالتجارة والزراعة وطلب القوت من حلال.
وفي الحديث الصحيح: «إنّ لربّك عليك حقّا، وإنّ لبدنك عليك حقّا، وإنّ لزوجك عليك حقّا، فأعط كلّ ذي حقّ حقّه» .
وكان عراك بن مالك، إذا صلى الجمعة، انصرف فوقف على باب المسجد، فقال: «اللهمّ إنّي أحببت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين» .(9/255)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الجمعة» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الجمعة بعد سورة الصفّ، ونزلت سورة الصف فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك، فيكون نزول سورة الجمعة في ذلك التاريخ أيضا وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في الآية التاسعة منها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ. وتبلغ آياتها إحدى عشرة آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة الحثّ على العمل بالعلم، وتوبيخ من لا يعمل بعلمه من المنافقين واليهود، ولهذا- والله أعلم- جعلت هذه السورة بعد سورة الصفّ، لأنّها توافقها وتوافق السور التي قبلها في هذا السياق.
الحث على العمل بالعلم الآيات [1- 11]
قال الله تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) ، فذكر سبحانه تسبيح ذلك له، وأنه بعث في الأمّيّين رسولا يعلّمهم ويزكّيهم، ليجمعوا بهذا بين العلم والعمل به. ثمّ ذمّ اليهود الذين يعلمون التوراة ولا يعملون بها، فجعل مثلهم في حملها وعدم الانتفاع بها، كمثل الحمار يحمل أسفارا ثمّ ذكر، جلّ وعلا، ما يتّكلون عليه في ترك العمل، وهو زعمهم أنهم أولياؤه من
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....](9/257)
دون الناس، فلا يؤاخذهم كما يؤاخذ غيرهم، فأمرهم إن كانوا صادقين في هذا أن يتمنّوا الموت ليثبتوا ما يزعمونه من حسن عاقبتهم وذكر أنّهم لا يتمنّونه أبدا لخوفهم من أعمالهم، وأنّه لا بدّ من هذا الموت الذي يفرّون منه لينبئهم بما كانوا يعملون ثم أمر المنافقين ومن يتباطأ مثلهم عن العمل، أن يسعوا إلى صلاة الجمعة عند النداء لها، وأن يتركوا عند سماعهم نداءها ما يتعاطونه من البيع، فإذا أدّوها خرجوا إلى ما كانوا عليه من أعمال الدنيا ثمّ ذمّ ما كان يحصل منهم من الخروج قبل أدائها، عند حضور تجارة أو نحوها، فقال تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) .(9/258)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الجمعة» «1»
أقول: ظهر لي في وجه اتّصالها بما قبلها: أنه تعالى لمّا ذكر في سورة الصفّ حال موسى (ع) مع قومه، وأذاهم له، ناعيا عليهم ذلك «2» ذكر في هذه السورة حال الرّسول (ص) ، وفضل أمّته، تشريفا لهم، ليظهر فضل ما بين الأمّتين، ولذا لم يعرض فيها لذكر اليهود.
وأيضا لمّا ذكر، سبحانه، هناك حكاية عن قول عيسى (ع) : وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:
6] . قال هنا: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) . إشارة إلى أنه (ص) هو الذي بشّر به عيسى (ع) . وهذا وجه حسن في الربط.
وأيضا، لما ختم سبحانه تلك السورة بالأمر بالجهاد، وسمّاه تجارة، ختم هذه بالأمر بالجمعة، وأخبر أنها خير من التجارة الدنيوية.
وأيضا: فتلك سورة الصفّ، والصفوف تشرع في موضعين: القتال، والصلاة، فناسب تعقيب سورة صف القتال بسورة صلاة تستلزم الصف ضرورة، وهي الجمعة، لأنّ الجماعة شرط فيها، دون سائر الصلوات.
فهذه وجوه أربعة فتح الله بها.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . وذلك في قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي [الصف: 5] . وذكر في الصف عن بني إسرائيل: أنهم كذّبوا عيسى، وكذبوا على الله، وأرادوا يطفئوا نور الله وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ، في الآيات [6- 9] .
ثم ذكر هنا تعليل هذا التكذيب بالغباء، وأبطل حجتهم في أنّهم شعب الله المختار [الآيات 5- 7] .(9/259)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الجمعة» «1»
1- وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) .
أخرج البخاري عن أبي هريرة مرفوعا: أنهم قوم سلمان «2» .
وأخرج أبن أبي حاتم عن مجاهد، قال: هم الأعاجم «3» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . الفارسي رضي الله عنه، والحديث في «صحيح البخاري» (4897) في التفسير.
(3) . الأثر في «تفسير الطبري» 28: 62، وذكر أبو جعفر الطبري رحمه الله قولا آخر عن مجاهد وابن زيد: أن المعنيّ بذلك جميع من دخل في الإسلام من بعد النبي (ص) ، كائنا من كان إلى يوم القيامة وهذا القول هو الراجح عند الطبري، لأن الله تعالى لم يخصص منهم نوعا دون نوع، فكلّ لاحق بهم، أي من الصحابة، فهو من الآخرين الذين لم يكونوا في عداد الأولين، الذين كان رسول الله (ص) يتلو عليهم آيات الله جلّ جلاله.(9/261)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الجمعة» «1»
قال تعالى: أَسْفاراً [الآية 5] واحدها «السّفر» .
وقال بعض النحويين لا يكون ل «الأسفار» واحد كنحو «أبابيل» و «أساطير» ، ونحو قول العرب: «ثوب أكباش» وهو الرديء الغزل، و «ثوب مزق» للمتمزّق.
وقال تعالى: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الآية 9] أي والله أعلم، من صلاة يوم الجمعة..
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(9/263)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الجمعة» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الآية 9] والسعي: العدو والعدو إلى صلاة الجمعة، وإلى كل صلاة، مكروه؟
قلنا: المراد بالسعي القصد. وقال الحسن: ليس هو السعي على الأقدام، ولكنه على النيّات والقلوب، ويؤيّد قول الحسن قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) [النجم] ، وقول الداعي في دعاء القنوت: وإليك نسعى ونحفد «2» ، وليس المراد به العدو والإسراع بالقدم.
فإن قيل: لم قال تعالى: انْفَضُّوا إِلَيْها [الآية 11] . والمذكور شيئان اللهو والتجارة؟
قلنا: قد سبق جواب هذا في سورة التوبة في قوله تعالى: وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 34] والذي يؤيّده هنا ما قاله الزّجّاج معناه: «وإذا رأوا تجارة انفضّوا إليها» «أو لهوا انفضّوا إليه» ، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه.
وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه (إليهما) بضمير التثنية، وعليه فلا حذف.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.
(2) . حفد: خفّ في العمل، وأسرع.(9/265)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الجمعة» «1»
في قوله سبحانه: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) استعارة. والمراد: ولا يتمنّون الموت أبدا، خوفا مما فرط منهم من الأعمال السيئة، والقبائح المجترحة. ونسب تعالى تلك الأفعال إلى الأيدي، لغلبة الأيدي على الأعمال، وإن كان فيها ما يعمل بالقلب واللسان.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(9/267)
سورة المنافقون 63(9/269)
المبحث الأول أهداف سورة «المنافقون» «1»
سورة «المنافقون» سورة مدنيّة، آياتها 11 آية نزلت بعد سورة الحج.
النفاق هو إظهار الإسلام أمام المسلمين، وإضمار غير الإسلام.
والنفق بفتحتين سرب في الأرض يكون له مخرج من موضع آخر، ونافق اليربوع إذا أتى النّافقاء، أي دخل من مكان وخرج من مكان، ومنه قيل «نافق الرجل» إذا دخل في الإسلام أمام المسلمين، ودخل في عداوة الإسلام أمام غير المسلمين.
والنفاق قسمان: القسم الأول: نفاق العقيدة، وهو إظهار الإيمان وإخفاء الكفر.
والقسم الثاني: نفاق العمل، وهو الرياء والسمعة والتظاهر وإبراز الأمور على غير حقيقتها.
النفاق في المدينة
لم يظهر النفاق في مكّة، لأن المسلمين كانوا مستضعفين، وكان أهل مكة يعلنون لهم العداء، ويجابهونهم بالإيذاء. ثمّ هاجر النبيّ (ص) إلى المدينة، والتفّ حوله الأنصار والمهاجرون، وقويت شوكته بوحدة المسلمين وتماسكهم، وظلّ الإسلام يتفوّق يوما بعد يوم، ويدخل فيه وجوه أهل المدينة من رجال الأوس والخزرج ووجهائهم وأهل العصبية فيهم عندئذ رأى بعض المنافقين أن يدخلوا في
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(9/271)
الإسلام مجاملة لأهله، وأن يبيّتوا الكيد والخداع للمسلمين.
وقد قبل النبي (ص) من الناس ظواهرهم، وترك بواطنهم الى الله.
ولكن الأحداث كانت تعرّف المسلمين بهؤلاء المنافقين، فإذا وقع المسلمون في شدة أو انهزموا في معركة، تجرّأ هؤلاء المنافقون على تجريحهم والتشهير بهم جهارا نهارا. وإذا أنعم الله على المؤمنين بالنصر، اختبأ المنافقون في جحورهم، وغيّروا طريقتهم، وانتقلوا من باب المواجهة إلى الكيد والدّسّ في الخفاء.
وكان اليهود في المدينة يكوّنون جبهة قوية، وقد ساندوا المنافقين وشجّعوهم، وكوّن الطرفان جبهة متّحدة لمناوأة الإسلام والمسلمين.
وكان عبد الله بن أبيّ بن سلول زعيم المنافقين بالمدينة، وكان من وجهاء الأنصار، وكان قومه ينظمون له الخرز ليتوّجوه ملكا عليهم. فلمّا جاء الإسلام للمدينة، وتعاظمت قوّة المسلمين يوما بعد آخر، وأصبح النبيّ الأمين صاحب الكلمة النافذة، والأمر المطاع، اشتدّ حقد عبد الله بن أبيّ لضياع الملك من بين يديه، وكوّن جبهة للنفاق تشيع السوء والفتنة، وتدبّر الكيد والأذى للمسلمين.
وشاء الله، سبحانه، أن يمتحن المسلمين بوجود اليهود في المدينة، وبوجود المنافقين فترة طويلة صاحبت نشوء الدعوة بالمدينة. ولم يشأ الله، جل جلاله، أن يعرّف النبي (ص) بأسمائهم إلّا في آخر حياته، وقد أخفى النبي (ص) أسماءهم عن الناس، وأعلم واحدا فقط من الصحابة بها، هو النعمان بن مقرن، ليظلّ أمرهم مستورا.
وكان بعضهم ينكشف أمره من سلوكه وفعله، وقوله، وقسمات وجهه، وتعبيراتها. قال تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) [محمد] .
قصة نزول السورة
في كثير من كتب التفسير والسيرة:
أن هذه السورة نزلت في أعقاب غزوة بني المصطلق، وقد انتصر فيها المسلمون، وغنموا غنائم كثيرة، وقد وقعت في شعبان من السنة الخامسة للهجرة (ديسمبر 626 م) . وبعد(9/272)
المعركة ازدحم على الماء رجلان أحدهما أجير لعمر بن الخطاب، وهو «جهجاه بن سعيد» ، والثاني حليف بني عون بن الخزرج، وهو سنان الجهني وتضاربا. فقال جهجاه يا للمهاجرين، وقال سنان يا للأنصار، فاجتمع عليهما المتسرعون من المهاجرين والأنصار حتى كادوا يقتتلون، وأوشكت أن تقوم الفتنة بين المهاجرين والأنصار. فلمّا سمع رسول الله (ص) الصراخ، خرج مسرعا يقول: «ما بال دعوى الجاهلية» ؟ فأخبروه الخبر، فصاح غاضبا: «دعوا هذه الكلمة، فإنّها فتنة» وأدرك الفريقين، فهدّأ من ثورتهما، وكلّم المضروب حتّى أسقط حقّه وبذلك سكنت الفتنة، وتصافي الفريقان.
ولكن عبد الله بن أبيّ عزّ عليه أن تنطفئ هذه الشرارة قبل أن تحدث حريقا بين المسلمين، وأن تموت هذه الفتنة قبل أن تذهب بما في صفوف المسلمين من وحدة وائتلاف، فأخذ يهيّج من معه من الأنصار، ويثير ضغينتهم ضدّ المهاجرين، وجعل يقول في أصحابه:
«والله ما رأيت كاليوم مذلّة. لقد نافرونا وكاثرونا في بلدنا، وأنكروا منّتنا، والله ما عدنا وجلايب قريش هذه إلّا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك.. «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ» يقصد بالأعز نفسه، وبالأذلّ رسول الله (ص) .
ثم أقبل ابن أبيّ على من حضره من قومه يلومهم ويعنّفهم فقال: «هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم في بلادكم، وأنزلتموهم منازلكم، وآسيتموهم في أموالكم حتّى استغنوا.
أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير بلادكم. ثمّ لم ترضوا ما فعلتم حتّى جعلتم أنفسكم أغراضا للمنايا، فقتلتم دونهم، فأيتمتم أولادكم وقللتم وكثروا، فلا تنفقوا على من حوله حتّى ينفضّوا» .
وكان في القوم زيد بن أرقم، وهو يومئذ غلام لم يبلغ الحلم، أو قد بلغ حديثا، فنقل كلام ابن أبيّ إلى الرسول (ص) ، فتغيّر وجه رسول الله (ص) ، وتأثّر من معه من المهاجرين والأنصار، وشاع في الجيش ما قاله ابن أبيّ، حتّى ما كان للناس حديث غيره، وقال عمر للنبيّ (ص) :
يا رسول الله مر بلالا فليقتله، وهنا(9/273)
ظهر النبيّ (ص) - كدأبه- بمظهر القائد المحنّك والحكيم البعيد النظر، إذ التفت إلى عمر وقال: «فكيف إذا تحدّث النّاس أنّ محمّدا يقتل أصحابه» ؟ ولكنه قدّر في الوقت نفسه أنه إذا لم يتّخذ خطة حازمة فقد يستفحل الأمر. لذلك أمر أن يؤذّن في الناس بالرحيل، في ساعة لم يكن يرتحل فيها المسلمون.
وترامى الى ابن أبيّ ما بلغ النبيّ (ص) عنه، فأسرع الى حضرته ينفي ما نسب إليه ويحلف بالله ما قاله ولا تكلّم به، ولم يغيّر ذلك من قرار النبيّ بالرحيل.
قال ابن اسحق: «فلمّا استقلّ رسول الله (ص) وسار، لقيه أسيد بن الحضير، فحيّاه بتحية النبوّة وسلم عليه، ثمّ قال: يا نبيّ الله، والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها. فقال رسول الله (ص) : أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال: وأيّ صاحب يا رسول الله؟ قال: عبد الله بن أبيّ. قال وما قال؟ قال: زعم أنه إن رجع المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ. قال أسيد: فأنت يا رسول الله، والله، تخرجه منها إن شئت، هو، والله، الذليل وأنت العزيز، في عزّ من الرحمن ومنعة المسلمين. قال أسيد:
يا رسول الله ارفق به، فو الله لقد جاءنا الله بك، وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.
ثمّ مشى رسول الله (ص) بالناس يومهم ذاك حتّى أمسى، وليلتهم حتّى أصبح، وصدر يومهم ذاك حتّى آذتهم الشمس ثمّ نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياما. وإنّما فعل ذلك رسول الله ليشغل الناس عن كلام عبد الله بن أبيّ.
ونزلت سورة (المنافقون) في ابن أبيّ، ومن كان على مثل أمره. ولمّا نزلت السورة قال رسول الله (ص) : يا غلام، إنّ الله قد صدّقك وكذّب المنافقين.
ولما ظهر كذب عبد الله بن أبيّ، قيل له: قد نزلت فيك آي شداد، فاذهب الى رسول الله يستغفر لك، فلوى رأسه وقال: أمرتموني أن أؤمن فأمنت، وأمرتموني أن أزكّي مالي فزكّيت، وما بقي إلّا أن أسجد لمحمد، فنزل فيه قوله تعالى:(9/274)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) .
وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبيّ ما كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله، إنّه قد بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه فإن كنت لا بدّ فاعلا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني، وإنّي أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل رجلا مؤمنا بكافر، فأدخل النار فقال رسول الله (ص) بل نترفّق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا.
مع السورة
وصفت الآيات الأربع الأولى من السورة رياء المنافقين، وكشفت خداعهم: إنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ويسارعون بالشهادة لله سبحانه بالوحدانية ولمحمد (ص) بالرسالة، وهم كاذبون في هذه الشهادة، لأنّها لا تطابق عقيدتهم، ولا توافق ما يضمرونه في قلوبهم [الآية 1] . وكانوا يحلفون بالله كذبا، ويتحصّنون بهذا الإيمان، وبئست أفعال الرجال، الكذب والأيمان الفاجرة [الآية 2] .
لقد تكرّر نفاقهم، وطبع الله على قلوبهم، فلا ينفذ إليهم الهدى والإيمان [الآية 3] .
وكان فيهم أقوام صباح الوجوه، أشدّاء البنية، فصحاء الألسنة فإذا تكلّموا أعجبوا السّامع بكلامهم المعسول، ولكنّ واقعهم لا يوافق ظاهرهم وإن عداوتهم ضاربة، فاحذرهم واتّق جانبهم في حياتك «1» ، فإنهم سيلقون مصيرهم المحتوم بالهلاك والنكال [الآية 4] .
وتشير الآيات [4- 8] إلى ما حدث من عبد الله بن أبيّ بن سلول، في أعقاب غزوة بني المصطلق، وقد مرّت قصتها.
ولمّا انكشف أمره، دعاه الناس ليستغفر له الرسول الأمين، فأعرض ولوى وجهه، خوفا من مواجهة الرسول بالحقيقة. [الآية 5] .
__________
(1) . الخطاب موجه إلى الرسول محمد، عليه الصلاة والسلام.(9/275)
وكان ابن أبيّ قد طلب من بعض الأنصار أن يمسكوا نفقتهم ومساعدتهم عن المهاجرين، حتّى ينفضّوا عن النبيّ الكريم، فذكر القرآن أنّ خزائن الله عامرة، وخيره لا ينفد، وهو الرزّاق ذو القوّة المتين [الآية 7] .
وكان ابن أبيّ يبيّت كيدا مع أتباعه، ويتوعّد بأن يخرج النبيّ من المدينة ذليلا فبيّن الله سبحانه أنّ العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين بالإيمان، وبمساعدة الرحمن، وبعون الله القويّ المتين ولكنّ المنافقين لا يفقهون هذه المعاني الكريمة [الآية 8] .
أمّا المقطع الأخير في السورة، ويشمل الآيات [9- 11] ، فإنّه يتوجّه إلى المؤمنين بالنداء ألّا تشغلهم أموالهم ولا أولادهم عن تذكّر ربهم، والقيام بحقّه، جلّ وعلا، ومرضاته، وتأمرهم بالصدقة والزكاة وعمل الخير، فالله باعث الرزق، وله الحمد في الأولى والاخرة. فأنفق أيّها الإنسان وأنت صحيح ولا تمهل، حتّى إذا بلغت الروح الحلقوم تمنيت العودة للدنيا، لإخراج الصدقة وعمل الصالحات ولكن الأجل إذا جاء لا يتأخّر لحظة، بل يساق الإنسان الى الخبير العليم، جزاء ما قدّم.
وهكذا تختم السورة بهذه الدعوة إلى الإخلاص لله سبحانه، وامتثال أوامره، فهو، جلّت قدرته، مطّلع وشاهد، وهو الحكيم العادل.
المعنى الاجمالي للسورة
قال الفيروزآبادي: معظم مقصود السورة: تقريع المنافقين وتبكيتهم، وبيان ذلّهم وكذبهم، وذكر تشريف المؤمنين وتبجيلهم، وبيان عزّهم وشرفهم، والنهي عن نسيان ذكر الحقّ تعالى، والغفلة عنه، والإخبار عن ندامة الكفّار بعد الموت، وبيان أنه لا تأخير ولا إمهال بعد حلول الأجل، في قوله تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) .(9/276)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المنافقون» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «المنافقون» بعد سورة الحجّ، وكان نزولها بعد غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة من الهجرة، فتكون من السّور التي نزلت فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [الآية 1] وتبلغ آياتها إحدى عشرة آية.
الغرض منها وترتيبها
نزلت هذه السورة، فيما كان من مؤامرة المنافقين على المهاجرين، في رجوعهم من غزوة بني المصطلق وذلك أنهم تأمروا على إخراجهم من المدينة بعد رجوعهم إليها، وكان زيد بن أرقم قد حضر مؤامرتهم فأخبر النبيّ (ص) بها. فلمّا بلغهم ذلك ذهبوا إليه، فأنكروها على عادتهم، فنزلت هذه السورة لفضح مؤامرتهم، وتصديق زيد بن أرقم. ولا شك في أنّ سياقها، في هذا، سياق سورة الجمعة والسور المذكورة قبلها، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعد سورة الجمعة.
مؤامرة المنافقين على المهاجرين الآيات [1- 11]
قال الله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1)
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(9/277)
فكذّبهم في ذلك ثمّ ذكر سبحانه أنهم يتخذون هذه الأيمان الكاذبة وقاية لهم ثمّ ذكر أنّ من يراهم تعجبه أجسامهم، فإذا خبرهم وجدهم كالخشب المسنّدة في عدم العقل، وهم جبناء يحسبون كلّ صيحة عليهم ثم ذكر ما كان من مؤامرتهم حينما نهوا من حضرهم من الأنصار أن ينفقوا على المهاجرين حتّى ينفضّوا من المدينة، واتّفقوا على أنّهم إذا رجعوا إليها يخرجونهم منها ثمّ نهى المؤمنين أن تلهيهم أموالهم وأولادهم كما ألهت أولئك المنافقين، وأن ينفقوا ممّا رزقهم، سبحانه، ولا يسمعوا لهم، حتّى لا يأتي أحدهم الموت فيتمنّى لو يتأخّر أجله، ليتدارك ما فاته من الصدقة: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) .(9/278)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المنافقون» «1»
أقول: وجه اتّصالها بما قبلها: أنّ سورة الجمعة ذكر فيها المؤمنون، وهذه ذكر فيها أضدادهم، وهم المنافقون. ولهذا أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة: أنّ رسول الله (ص) كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة، يحرّض بها المؤمنين، وبسورة «المنافقون» يفزّع بها المنافقين.
وتمام المناسبة: أنّ السورة التي بعدها فيها ذكر المشركين والسورة التي قبل الجمعة فيها ذكر أهل الكتاب من اليهود والنصارى «2» والتي قبلها، وهي الممتحنة فيها ذكر المعاهدين من المشركين «3» والتي قبلها، وهي الحشر فيها ذكر المعاهدين من أهل الكتاب «4» ، فإنّها نزلت في بني النضير، حين نبذوا العهد وقوتلوا.
وبذلك اتّضحت المناسبة في ترتيب هذه السور الستّ هكذا، لاشتمالها على أصناف الأمم، وفي الفصل بين المسبّحات بغيرها «5» لأنّ إيلاء سورة المعاهدين من أهل الكتاب بسورة المعاهدين من المشركين أنسب من
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . وذلك في قوله تعالى من «التغابن» أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ [الآية 5] الى وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) . [.....]
(3) . وذلك في الآيات [5، 6، 7، 8، 9، 10] .
(4) . وذلك في الآيتين [8، 9] .
(5) . يعني الفصل بين الحشر، وأولها: سبّح. والتغابن وأولها: يسبّح، بالممتحنة والصف والجمعة والمنافقون.(9/279)
غيره. وإيلاء سورة المؤمنين بسورة المنافقين أنسب من غيره.
فظهر بذلك أن الفصل بين المسبّحات التي هي نظائر لحكمة دقيقة من لدن حكيم خبير، فلله الحمد على ما فهّم وألهم.
هذا وقد ورد عن ابن عباس في ترتيب النزول: أنّ سورة «التغابن» نزلت عقب الجمعة «1» ، وتقدّم نزول سورة «المنافقون» فما فصل بينهما إلّا لحكمة، والله أعلم.
__________
(1) . الإتقان: 1: 97 وهو عن جابر بن زيد أيضا. وجابر أحد علماء التابعين بالقرآن.(9/280)
المبحث الرابع مكنونات سورة «المنافقون» «1»
1- لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [الآية 7] .
وأيضا:
2- لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [الآية 8] .
قيل نزلت هاتان الآيتان حكاية على لسان عبد الله بن أبيّ بن سلول. كما أخرجه البخاري «2» وغيره، عن زيد بن أرقم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . انظر «صحيح البخاري» كتاب التفسير، سورة «المنافقون» باب قوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ والأبواب السبعة التي بعده.(9/281)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «المنافقون» «1»
قال تعالى: خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [الآية 4] ويقرأ بعضهم «الخشب» .
وقال تعالى: لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ [الآية 5] لأن كلام العرب إذا كان في السّخريّ أو في التكثير قيل (لوّى لسانه) و «رأسه» . وخفّف بعضهم، واحتج بقول الله عز وجل: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ [النساء: 46] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(9/283)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «المنافقون» «1»
إن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى:
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [الآية 1] ؟
قلنا: لو قال تعالى: قالوا نشهد إنك لرسول الله، والله يشهد إنهم لكاذبون، لكان يوهم أنّ قولهم هذا كذب، وليس المراد أن شهادتهم هذه كذب، بل المراد أنهم كاذبون في غير هذه الشهادة. وقال أكثر المفسّرين: إنه تكذيب لهم في هذه الشهادة، لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا، ولم يعتقدوا أنه رسول الله بقلوبهم، فسمّاهم كاذبين لذلك، فعلى هذا يكون ذلك تأكيدا.
فإن قيل: المنافقون ما برحوا على الكفر، فلم قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [الآية 3] ؟
قلنا: معناه ذلك الكذب الذي حكم عليهم به، أو ذلك الإخبار عنهم بأنّهم ساء ما كانوا يعملون، بسبب أنهم آمنوا بألسنتهم ثُمَّ كَفَرُوا [الآية 3] بقلوبهم فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ [الآية 3] كما قال تعالى في وصفهم: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) [البقرة] الثاني: أن المراد به أهل الرّدّة منهم.
فإن قيل: لم قال تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ [الآية 4] ولم يقل هي العدو؟
قلنا: عَلَيْهِمْ هو ثاني مفعولي يحسبون تقديره: يحسبون كل صيحة واقعة عليهم أي: لجبنهم وهلعهم،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(9/285)
فالوقف على قوله تعالى عَلَيْهِمْ وقوله سبحانه: هُمُ الْعَدُوُّ ابتداء كلام. وقيل إن المفعول الثاني هو قوله تعالى هُمُ الْعَدُوُّ ولكن تقديره:
يحسبون أهل كل صيحة عليهم هم العدو، الأول أظهر بدليل عدم نصب العدوّ.(9/286)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «المنافقون» «1»
في قوله تعالى: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) استعارة. والمراد بخزائن السماوات والأرض مواضع أرزاق العباد، من مدارّ السحاب، ومخارج الأعشاب، وما يجري مجرى ذلك من الأرفاق.
وقال بعضهم: المراد بالخزائن، هاهنا، مقدورات الله سبحانه، لأنّ فيها كلّ ما يشاء إخراجه من مصالح العباد.
ومنافع البلاد. وقد مضى الكلام على هذا المعنى فيما تقدّم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(9/287)
الفهرس
سورة «الذاريات»
المبحث الأول أهداف سورة «الذاريات» 3 معاني السورة 3 آيات الله في الأرض والسماء 4 قصة ابراهيم 6 قصة لوط 6 إشارات الى قصص الأنبياء 7 المعنى الاجمالي للسورة 9 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الذاريات» 11 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 11 الغرض منها وترتيبها 11 إثبات الإنذار بالعذاب 11 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الذاريات» 13 المبحث الرابع مكنونات سورة «الذاريات» 15(9/289)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الذاريات» 17 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الذاريات» 19 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الذاريات» 21 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الذاريات» 25.
سورة «الطور»
المبحث الأول أهداف سورة «الطور» 29 القسم في صدر السورة 29 نعيم الجنة 31 أدلة القدرة 31 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الطور» 33 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 33 الغرض منها وترتيبها 33 إثبات الإنذار بالعذاب 33 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الطور» 35 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الطور» 37(9/290)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الطور» 39 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الطور» 41 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الطور» 43.
سورة «النجم»
المبحث الأول أهداف سورة «النجم» 47 1- تكريم الرسول 47 2- أوهام المشركين 48 3- الإعراض عن الملحدين 48 4- الصغائر من الذنوب 48 5- حقائق العقيدة 49 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النجم» 51 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 51 الغرض منها وترتيبها 51 نزول جبريل بالدعوة 52 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النجم» 53 المبحث الرابع مكنونات سورة «النجم» 55(9/291)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «النجم» 57 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «النجم» 59 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «النجم» 61 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «النجم» 63.
سورة «القمر»
المبحث الأول أهداف سورة «القمر» 67 انشقاق القمر 67 سياق السورة وافكارها 68 خمس حلقات من مصارع المكذبين 68 1- قوم نوح 68 2- عاد قوم هود 69 3- ثمود قوم صالح 69 4- قوم لوط 69 5- حكمة الخالق 70 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القمر» 71 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 71 الغرض منها وترتيبها 71 اقتراب ساعة العذاب 71(9/292)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «القمر» 73 المبحث الرابع مكنونات سورة «القمر» 75 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «القمر» 77 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «القمر» 79 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «القمر» 81 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «القمر» 83.
سورة «الرحمن»
المبحث الأول أهداف سورة «الرحمن» 87 المعنى الإجمالي للسورة 88 تفسير النسفي للاية 89 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الرحمن» 91 تاريخ نزولها وتسميتها 91 الغرض منها وترتيبها 91 تعداد نعم الله على عباده 91(9/293)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الرحمن» 93 المبحث الرابع مكنونات سورة «الرحمن» 95 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الرحمن» 97 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الرحمن» 99 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الرحمن» 101 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الرحمن» 105.
سورة «الواقعة»
المبحث الأول أهداف سورة «الواقعة» 111 ثلاثة أصناف 111 أصحاب اليمين 111 أصحاب الشمال 112 آيات القدرة الالهية 112 الزرع والماء والنار 113 مواقع النجوم 114 نهاية الحياة 115 الأفكار العامة للسورة 116(9/294)
فضل السورة 116 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الواقعة» 117 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 117 الغرض منها وترتيبها 117 تفصيل الجزاء الأخروي 117 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الواقعة» 119 المبحث الرابع مكنونات سورة «الواقعة» 121 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الواقعة» 123 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الواقعة» 125 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الواقعة» 127 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الواقعة» 131.
سورة «الحديد»
المبحث الأول أهداف سورة «الحديد» 135 مطلع السورة 135 أدلة التوحيد 136(9/295)
تثبيت الايمان 136 مشاهد الاخرة 137 القلوب الخاشعة 138 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحديد» 141 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 141 الغرض منها وترتيبها 141 الدعوة إلى الإيمان والإنفاق في سبيله 141 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الحديد» 145 المبحث الرابع مكنونات سورة «الحديد» 147 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحديد» 149 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحديد» 151 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحديد» 153 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحديد» 157.
سورة «المجادلة»
المبحث الأول أهداف سورة «المجادلة» 161(9/296)
تربية إلهية 161 قصة المجادلة 162 أهداف السورة 163 المقصد الإجمالي للسورة 165 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المجادلة» 167 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 167 الغرض منها وترتيبها 167 بيان حكم الظهار 168 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المجادلة» 171 المبحث الرابع مكنونات سورة «المجادلة» 173 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المجادلة» 175 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المجادلة» 177 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المجادلة» 179 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المجادلة» 181.
سورة «الحشر»
المبحث الأول أهداف سورة «الحشر» 185(9/297)
غزوة بني النضير 185 تسلسل أفكار السور 188 المقصد الإجمالي للسورة 189 النظام الاقتصادي في الإسلام 189 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحشر» 193 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 193 الغرض منها وترتيبها 193 الكلام على غزوة بني النضير 194 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الحشر» : 197 المبحث الرابع مكنونات سورة «الحشر» 199 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحشر» 201 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحشر» 203 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحشر» 205 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحشر» 209.
سورة «الممتحنة»
المبحث الأول أهداف سورة «الممتحنة» 213(9/298)
قصة نزول السورة 213 حاطب يفشي السر 214 فكرة السورة 215 تسلسل أفكار السورة 216 مقصود السورة إجمالا 218 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الممتحنة» 219 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 219 الغرض منها وترتيبها 219 النهي عن موالاة المشركين 219 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الممتحنة» 221 المبحث الرابع مكنونات سورة «الممتحنة» 223 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الممتحنة» 225 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الممتحنة» 227 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الممتحنة» 229 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الممتحنة» 231.(9/299)
سورة «الصف»
المبحث الأول أهداف سورة «الصف» : 235 سبب نزول السورة: 236 هدفان للسورة: 236 لسورة الصف هدفان رئيسان: 236 المقصد الإجمالي للسورة 238 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الصف» 239 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 239 الغرض منها وترتيبها 239 الحث على الجهاد 239 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الصف» 241 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الصف» 243 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الصف» 245 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الصف» 247 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الصف» 249.(9/300)
سورة «الجمعة»
المبحث الأول أهداف سورة «الجمعة» 253 تسلسل أفكار السورة 253 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الجمعة» 257 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 257 الغرض منها وترتيبها 257 الحث على العمل بالعلم 257 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الجمعة» 259 المبحث الرابع مكنونات سورة «الجمعة» 261 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الجمعة» 263 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الجمعة» 265 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الجمعة» 267.
سورة «المنافقون»
المبحث الأول أهداف سورة «المنافقون» 271(9/301)
النفاق في المدينة 271 قصة نزول السورة 272 مع السورة 275 المعنى الاجمالي للسورة 276 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المنافقون» 277 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 277 الغرض منها وترتيبها 277 مؤامرة المنافقين على المهاجرين 277 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المنافقون» 279 المبحث الرابع مكنونات سورة «المنافقون» 281 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «المنافقون» 283 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «المنافقون» 285 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «المنافقون» 287.(9/302)
الجزء العاشر
توضيح
ينبغي لنا الإشارة إلى أنّ بعض المباحث التي كانت مطردة في المجلدات السابقة ستغيب عن هذا المجلد وما سيليه من مجلدات. ومردّ ذلك إلى أنّ طبيعة السور القرآنية الكريمة التي غابت عنها تلك المباحث، لا تستجيب لدواعي بعض العناوين فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنّ سورة قرآنية كريمة، لا تشتمل على معان لغوية غامضة، أو لا يكتنفها شيء من التغاير في الفهم والتحليل، لا تحتاج إلى مبحث «المعاني اللغوية» . وكذلك، فإن سورة قرآنية كريمة لا يتضمّن نصّها مجازا، لا تستجيب، وفاقا لنمط بيانها، إلى مبحث «المعاني المجازية» ... وقس على ذلك.
وغنيّ عن القول أنّ أصحاب المصادر والمراجع التي ارتكزت عليها هذه الموسوعة هم أهل معرفة ودراية، بل هم أهل الاختصاص في هذا الشأن ولم يتركوا هذه المباحث سهوا أو نشدانا لراحة، أو تخفيفا من عناء. وما كان لهم أن يغفلوها لو أنهم وجدوا ما يقتضيها ناهيك من أنّ بعض المباحث قد استوفت أغراضها في آيات متشابهات من سور تضمنتها المجلدات السابقة.
فصار الكلام عليها، في هذا المجلد وما يليه، من قبيل التكرار.(10/1)
سورة التغابن 64(10/2)
المبحث الأول أهداف سورة «التغابن» «1»
سورة التغابن سورة مدنية، آياتها 18 آية، نزلت بعد سورة التحريم.
والتغابن بمعنى الغبن، لأن أهل الجنّة يغبنون أهل النار، ويأخذون أماكنهم في الجنّة. أي ينتصر أهل الجنّة في ذلك اليوم، لأنهم نالوا حقّهم مضاعفا.
وقال جار الله الزمخشري: التغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة، وهو أن يغبن بعضهم بعضا، لنزول السّعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء في منازل السّعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء كما ورد في الحديث:
«ما من عبد يدخل الجنّة إلّا ويرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النار إلّا ويرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة» .
قال النيسابوري: «يجوز أن يفسّر التغابن بأخذ المظلوم حسنات الظالم، وحمل الظالم خطايا المظلوم وإن صحّ مجيء التغابن بمعنى الغبن، فذلك واضح في حقّ كل مقصّر صرف شيئا من استعداده الفطريّ في غير ما أعطي لأجله» .
وقال الشيخ مخلوف: «يوم التغابن يظهر فيه غبن الكافر بتركه الإيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان» .
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(10/3)
مع السورة
[في الآيات 1- 4] ، نجد آيات تذكر جلال الخالق المبدع، وتصور قدرة الله القدير.
1- فهو سبحانه مالك الملك، وصاحب الفضل والنّعم، وهو القادر القاهر المتّصف بصفات الجلال والكمال، وقدرة الله لا حدود لها فهي محيطة بكلّ شيء، مهيمنة على كلّ شيء، مدبّرة لكلّ شيء، حافظة لكلّ شيء، لا يفتر عنها شيء، سواء في ذلك الكبير والصغير والجليل والحقير.
والمؤمن يدرك آثار هذه القدرة، ويشعر بجلال الله وعظمته، وعلمه ووقايته، وقهره وجبروته، ورحمته وفضله، وقربه منه في كلّ حال.
2- وقد خلق الله الإنسان ومنحه الإرادة والاختيار، وميّزه بذلك من جميع الموجودات، وأرسل اليه الرسل وأنزل إليه الكتاب ليساعده على الإيمان. ومن الناس من يهديه الله للإيمان، ومنهم من يختار الكفر والجحود.
3- وقد أبدع الله خلق السماء فرفعها، وزيّنها بالنّجوم، وخلق الأرض، وأودع فيها الأقوات والأرزاق، والجبال والبحار والأنهار وخلق الإنسان في أبدع صورة وأحسن تركيبه، حيث يجتمع فيه الجمال الى الكمال، ويتفاوت الجمال بين شكل وشكل، ولكنّ الله، جلّ جلاله، متّع الجميع بكل ما يحتاجون إليه من الآلات الجسديّة، ومن المواهب المعنويّة، ومن الخصائص التي يتفوّق بها الإنسان على سائر الأحياء.
4- وقد أحاط علم الله، سبحانه، بالسماء والأرض والسر والعلن، والمؤمن يحسّ، من الله تعالى، إحاطة علمه به، ويشعر أنّه مكشوف كلّه لعين الله، فليس له سر يخفى عليه، وليست له نيّة غائرة في الضمير لا يراها، وهو العليم بذات الصدور.
وبهذه المعاني يستقرّ الإيمان في القلب، ويستقرّ تعظيم الله، سبحانه، والشعور بجلاله ورقابته.
أمّا الآيتان 5 و 6، فتذكّران بما أصاب مكذّبي الرّسل من الهلاك والدّمار. لقد جاءتهم الرّسل بالآيات الواضحة، فاستكثروا أن يكون النبيّ إنسانا من البشر، وأعرضوا عن الهدى(10/4)
فأعرض الله عنهم، وهو سبحانه غني عن عباده، محمود على نعمائه.
و [الآيات 7- 13] تستعرض شبهة الكافرين في البعث وإنكارهم له، وتردّ عليهم بأنّ البعث حقيقة مؤكدة، ويتبع البعث الحساب والجزاء. والإيمان بالله ورسوله سبيل النجاة والهداية، فسيجمع الله المؤمنين والكفّار في يوم التغابن.
والتغابن تفاعل من الغبن، وهو تصوير لما يقع من فوز المؤمنين بالنعيم، وحرمان الكافرين من كلّ شيء منه، ثمّ صيرورتهم الى الجحيم فهما نصيبان متباعدان، وكأنّما كان هناك سباق للفوز بكلّ شيء، ليغبن كلّ فريق مسابقه، ففاز فيه المؤمنون، وهزم فيه الكافرون.
إنّ من آمن وعمل صالحا له جزاؤه في جنّة الخلد والفوز العظيم، ومن كفر بالله وكذّب بآياته، له عقابه وخلوده في النار وبئس المصير.
وإنّ من أصول الإيمان أن تؤمن بالقضاء والقدر وأن ترى الله خالق كلّ شيء، وأن تفوّض إليه الأمر، وأن تحني رأسك إجلالا لعظمته، وتسليما لقضائه وقدره.
وطاعة الله وطاعة الرسول طريق الفلاح، والإعراض عن طاعتهما نذير بالعقاب، وليس هناك في الكون إلّا إله واحد، يتوكّل عليه المؤمن، ويتيقّن بوجوده، ويوحّده ويعظّمه، وذلك أساس العقيدة الإسلامية: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) .
روابط الأسرة
تتّجه الآيات الأخيرة من السورة لبناء المجتمع، وتهذيب العاطفة، وتوجيه العلاقات الأسرية الوجهة السليمة.
فالآيات الأولى من السورة شبيهة بالآيات المكّيّة في بناء العقيدة، وتأكيد معنى الألوهيّة، وبيان صفات الله وكمالاته أمّا الآيات الأخيرة من السورة فتتّجه لبناء مجتمع سليم.
وفي تفسير مقاتل وابن جرير الطبري: أنّ الآية 14 نزلت في قوم كانوا أرادوا الإسلام والهجرة، فثبّطهم عن ذلك أزواجهم وأولادهم. وروى ابن جرير، عن عكرمة، أنّ رجلا سأل ابن عباس عن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [الآية(10/5)
14] ، قال: هؤلاء رجال أسلموا فأرادوا أن يأتوا رسول الله (ص) بالمدينة، فلمّا أتوا رسول الله (ص) ورأوا الناس قد فقهوا في الدين، همّوا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى هذه الآية، وفيها:
وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) .
فينبغي ألا تشغل المكلّف زوجته ولا أولاده عن طاعة الله، وأن تكون أسرته لمرضاة ربّه، معينة على الصلاح والإصلاح. إنّ الله يمتحن الإنسان بالمال والولد، فالمؤمن يتّخذ ماله وسيلة لمرضاة ربّه ويجعل من ولده أثرا صالحا وعند الله الأجر الأكبر لمن أحسن استخدام ماله وولده في طريق الخير والإحسان.
روى الإمام أحمد: أنّ رسول الله (ص) كان يخطب، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله (ص) عن المنبر فحملهما، ووضعهما بين يديه ثم قال: صدق الله ورسوله نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
[الآية 15] .
«نظرت إلى هذين الصبيّين يمشيان ويعثران حتّى قطعت حديثي ورفعتهما» .
وفي الأثر: الولد مجبنة مبخلة، أي يجعل والده جبانا وبخيلا، رغبة من الأب في توفير الحماية والمال لولده.
والإسلام يهذّب الغرائز، وينمّي الفطرة ويوجّهها الوجهة السليمة، فيأمر بالاعتدال في حبّ المال والولد، ويحذّر من الافتتان بهما، وإذا طلبت الزوجة أو الأولاد، ما يغضب الله فحذار من طاعتهما، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وكلّ ما قد ترى تفنى بشاشته يبقى الإله ويفنى الأهل والولد وفي آخر السورة دعوة إلى تقوى الله قدر الطاقة والاستطاعة، وحثّ على الصدقة والإحسان، وتحذير من البخل والشّحّ: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الآية 17] . وإن تقدموا صدقة للفقراء، وعملا صالحا في مرضاة الله، فإنّ الله يضاعف الثواب لكم إلى سبعمائة ضعف، ويصفح عن سيئاتكم، ويشكر لكم أعمالكم، وهو سبحانه شكور حليم. فالله صاحب الفضل والنّعم يطلب من عبده فضل ما أعطاه، ثم يشكر لعبده ويعامله بالحلم والعفو عن التقصير ما أجمل الله وما أعظم حلمه، وما أوسع رحمته وفضله!(10/6)
وفي الآية الأخيرة تظهر صفات الجلال والكمال، فهو سبحانه عالِمُ الْغَيْبِ أي ما لا تراه العباد ويغيب عن أبصارهم. وَالشَّهادَةِ ما يشاهدونه فيرونه بأبصارهم. فكلّ شيء مكشوف لعلمه، خاضع لسلطانه، مدبّر بحكمته وهو العزيز الغالب، الحكيم في تدبير خلقه وصرفه إيّاهم فيما يصلحهم.
المعنى الإجمالي للسورة
قال الفيروزآبادي: معظم مقصود سورة التغابن: بيان تسبيح المخلوقات، والحكمة في تخليق الخالق، والشكاية من القرون الماضية، وإنكار الكفّار البعث والقيامة، وبيان الثواب والعقاب، والإخبار عن عداوة الأهل والأولاد، والأمر بالتّقوى حسب الاستطاعة، وتضعيف ثواب المتّقين، والخبر عن اطّلاع الحقّ على علم الغيب في قوله سبحانه: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) .(10/7)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التغابن» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة التّغابن بعد سورة التحريم، ونزلت سورة التحريم بعد سورة الحجرات، ونزلت سورة الحجرات فيما بين صلح الحديبية وغزوة بدر، فيكون نزول سورة التغابن في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في [الآية 9] منها: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وتبلغ آياتها ثماني عشرة آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إنذار الكافرين، من المنافقين وغيرهم، بعذاب الدنيا والاخرة، ليدعوهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإنفاق في سبيله ولا شكّ في أنّ هذا الغرض قريب من الأغراض المقصودة من سورة «المنافقون» والسور السابقة عليها، وهذا هو وجه المناسبة في ذكر هذه السورة بعدها.
الإنذار بعذاب الدنيا والاخرة الآيات [1- 18]
قال الله تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) فذكر، سبحانه، تسبيح كلّ شيء له واختصاصه بالملك والحمد، وأنه خلقنا فمنّا كافر ومنّا مؤمن، وهو بصير
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/9)
بما نعمله وأنّه، جلّ جلاله، خلق السماوات والأرض بالحقّ، ولم يخلقهما عبثا وأنّه صوّرنا فأحسن صورنا وإليه مصيرنا وأنه يعلم ما نسرّ وما نعلن فيحاسبنا عليهما ثم ذكر ما أنزله من عذاب الدنيا بالكافرين السابقين وما أعدّه لهم من عذاب الاخرة، ليكون في هذا نذير لهم وذكر أنّهم يزعمون أنّهم لن يبعثوا، وردّ عليهم بأنّهم سيبعثون وسينبّأون بعملهم ثم أمرهم أن يؤمنوا به وبرسوله وحذّرهم اليوم الذي يجمعهم فيه وهو يوم التغابن، لأنّ أهل الحقّ يغبنون فيه أهل الباطل وذكر أن من يؤمن به ويعمل صالحا يكفّر عنه سيّئاته ويدخله جنّاته، ومن يكفر به يعذبه بناره، وكل هذا بإذنه وتقديره ثمّ أمرهم، بعد هذا، أن يطيعوه ويطيعوا رسوله، فإن أعرضوا عن طاعتهما فقد بلّغوا ما أمروا به، وليس على النبي (ص) إلّا أن يبلّغهم، ثمّ يتوكل بعد هذا عليه، سبحانه، هو ومن آمن به لينصرهم عليهم ثم ذكر لهم أنّ من أزواجهم وأولادهم عدوّا لهم، وحذّرهم أن يؤثروهم على دينهم ثمّ أمرهم أن يتقوه ما استطاعوا، وينفقوا في سبيله من أموالهم. ووعدهم بأن يضاعف لهم ما ينفقونه ويغفر لهم، لأنّه شكور حليم: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) .(10/10)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التغابن» «1»
أقول: لمّا وقع في آخر سورة «المنافقون» : وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [الآية 10] .
عقّب بسورة التغابن، لأنه قيل في معناه: إن الإنسان يأتي يوم القيامة، وقد جمع مالا، ولم يعمل به خيرا، فأخذه وارثه بسهولة، من غير مشقّة في جمعه، فأنفقه في وجوه الخير، فالجامع محاسب معذّب مع تعبه في جمعه، والوارث منعّم مثاب، مع سهولة وصوله إليه، وذلك هو التغابن.
فارتباطه باخر السورة المذكورة في غاية الوضوح. ولهذا قيل هنا:
وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) .
وأيضا ففي آخر «المنافقون» : لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الآية 9] . وفي هذه: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
[الآية 15] .
وهذه الجملة كالتعليل لتلك الجملة، ولذا ذكرت على ترتيبها «2» .
وقال بعضهم: لمّا كانت سورة «المنافقون» رأس ثلاث وستين سورة، أشير فيها إلى وفاة النبي (ص) بقوله تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها [الآية 11] . فإنّه مات على رأس ثلاث وستين سنة، وعقّبها بالتغابن، ليظهر التغابن في فقده (ص) «3» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . يعني الأموال أوّلا، والأولاد ثانيا، وفي كلتا السورتين.
(3) . أورد السيوطي هذا القول في الإتقان: 4: 30 غير معزو كما هو هاهنا، كدليل على أنه ما من شيء إلّا ويمكن استخراجه من القرآن. [.....](10/11)
المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «التغابن» «1»
قال تعالى: فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا [الآية 6] بالجمع لأن «البشر» في المعنى جماعة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(10/13)
المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «التغابن» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [الآية 2] فقدّم الكافر في الذكر؟
قلنا: الواو لا تعني رتبة ولا تقتضي ترتيبا، كما قال تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) [هود] ، وقال تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ [الحشر: 20] ، وقال سبحانه: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر:
32] ، وقال تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) [الشورى] . وقد ذكرنا في الآية الأخيرة معنى آخر في موضعها.
فإن قيل: قوله تعالى: وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ [الآية 6] يوهم وجود التولّي والاستغناء معا بعد مجيء رسلهم إليهم، والله تعالى لم يزل غنيا؟
قلنا: معناه: وظهر استغناء الله تعالى عن إيمانهم وعبادتهم حيث لم يلجئهم إلى الإيمان، ولم يضطرّهم إليه مع قدرته تعالى على ذلك.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [الآية 11] مع أنّ الهداية سابقة على الإيمان، لأنّه لولا سبق الهداية لما وجد الإيمان؟
قلنا: ليس المراد «يهد» قلبه للإيمان، بل المراد به «يهد» قلبه لليقين عند نزول المصائب، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. الثاني «يهد» قلبه للرّضا والتسليم عند نزول المصائب. الثالث
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/15)
«يهد» قلبه للاسترجاع عند نزول المصائب، وهو أن يقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) [البقرة] . الرابع «يهد» قلبه: أي يجعله ممّن إذا ابتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر.
والخامس: «يهد» قلبه لاتّباع السّنّة إذا صحّ إيمانه، وقرئ (يهدأ) بفتح الدال وبالهمز، من الهدوّ، وهو السّكون، فمعناه: ومن يؤمن بالله إيمانا خالصا يسكن قلبه، ويطمئن عند نزول المصائب والمحن، ولا يجزع ويقلق.(10/16)
المبحث السادس المعاني المجازية في سورة «التغابن» «1»
في قوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا [الآية 8] استعارة.
والمراد بالنور هاهنا القرآن. وإنّما سمّي نورا لأنّ به يهتدى في ظلم الكفر والضلال، كما يهتدى بالنور الساطع، والشهاب اللامع. وضياء القرآن أشرف من ضياء الأنوار، لأن القرآن يعشو إليه القلب، والنور يعشو إليه الطّرف.
وقوله سبحانه: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ [الآية 9] . فذكر التغابن هاهنا مجاز، والمراد به، والله أعلم، تشبيه المؤمنين والكافرين بالمتعاقدين والمتبايعين فكأنّ المؤمنين ابتاعوا دار الثواب، وكأنّ الكافرين اعتاضوا منها دار العقاب، فتفاوتوا في الصّفقة، وتغابنوا في البيعة، فكان الربح مع المؤمنين، والخسران مع الكافرين.
ويشبه ذلك قوله تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الصفّ] .
وليس في السورة التي يذكر فيها «الطلاق» «2» شيء من الغرض الذي نقصده في هذا الكتاب.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . يرى المؤلّف أن سورة الطلاق ليس فيها شيء من مجازات القرآن.(10/17)
سورة الطّلاق 65(10/19)
المبحث الأول أهداف سورة «الطلاق» «1»
سورة الطلاق سورة مدنية وآياتها 12 آية، نزلت بعد سورة الإنسان.
العناية بالأسرة
عني الإسلام بنظام الأسرة، ودعا إلى تدعيم روابط المحبة والمودّة بين الزوجين، وجعل الألفة بينهما آية من آيات الله قال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: 21] .
وقد حفل القرآن الكريم بشأن العلاقات الزوجية والعائلية، فحرص على سلامة الأسرة وتأكيد مودة الأبناء للآباء، ورعاية الآباء للأبناء، ثمّ حثّ الزوج على إحسان معاملة زوجته، والتسامح معها، والصفح عن بعض هفواتها، وعدم التسرع في طلاقها.
فلعلّ البغيض يصبح حبيبا، ولعلّ الله أن يرزق الزوجين ثمرة تقوّي الروابط المشتركة بينهما. قال تعالى:
وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) [النساء] .
«إنّ الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها، وإنّما ينظّمها ويطهّرها، ويرفعها عن المستوي الحيواني، ويرقّيها حتّى تصبح هي المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية ويقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية، التي تجعل من التقاء جسدين،
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(10/21)
التقاء نفسين وقلبين وروحين وبتعبير شامل التقاء إنسانين، تربط بينهما حياة مشتركة، وآمال مشتركة، وآلام مشتركة، ومستقبل مشترك، يلتقي في الذّرّيّة المرتقبة، ويتقابل في الجيل الجديد، الذي ينشأ في العشّ المشترك، الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان» .
وقد حظيت تشريعات الأسرة بعناية القرآن والسّنّة، والفقه الإسلامي والدراسات الإسلامية.
وندرك، من روح الدين الإسلامي ومن تشريعاته، رغبته في استقرار الأسرة، واستمرار الرابطة الزوجية.
«وقد أحاط الإسلام رابطة الزوجية بكل الضمانات التي تكفل استقرارها واستمرارها، وفي سبيل هذه الغاية يرفعها إلى مرتبة الطاعات، ويعين على قيامها بمال الدولة للفقراء والفقيرات، ويفرض الآداب التي تمنع التبرّج والفتنة، كي تستقرّ العواطف ولا تلتفّ القلوب على هتاف المتبرّجة ويفرض حد الزنا واحد القذف، ويجعل للبيوت حرمتها بالاستئذان عليها، والاستئذان بين أهلها في داخلها» .
وفي كتب الصّحاح حشد رائع من الأحاديث النبوية الشريفة تتضمن التوصية بالنساء، وإحسان معاملتهن، وتطييب خواطرهنّ وتجعل طاعة المرأة لزوجها فريضة، ومحافظتها على بيته وسرّه وأولاده حقّا واجبا، ورعايتها لما تحت يدها أمانة وتحثّ الزوجين على تقوية الروابط بينهما، والتعاون من أجل وحدة الهدف واستبقاء الحياة الزوجية، وتربية الأبناء والذّرّيّة، فيقول النبي (ص) : «استوصوا بالنساء خيرا» . ويقول عليه الصلاة والسلام:
«كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته.
الرجل راع وهو مسؤول عن رعيّته، والمرأة في بيت زوجها راع وهي مسؤولة عن رعيّتها.. وكلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته» .
الطلاق
نزل القرآن الكريم من عند العليم الخبير، البصير بالنفوس وطبائعها، والعواطف وجموحها، والغرائز وتكوينها فقد تصاب سفينة الحياة الزوجية ببعض الصّدمات والاضطرابات، وعندئذ يوصي القرآن الرجل بالتريّث والترقّب، وعدم اتّباع الهوى ونزوات الغضب.(10/22)
فإذا اشتد الخلاف بين الزوجين، وكثر النزاع بينهما، فلا مانع من التّفاهم بالمعروف على نقاط الخلاف، ودراسة أسباب النزاع، ليتعرّف كلّ طرف على ما يؤلمه من الطرف الاخر، وهذه المعرفة يمكن أن تكون وسيلة عملية إلى أن يتجنّب كلّ طرف ما يؤلم شريك حياته، أو يخفف من هذه الآلام وهذا نوع من استدامة العشرة أو تحمل المسيرة.
فإذا لم يجد التفاهم الشخصيّ بين الزوجين، وتفاقمت الأمور وتحوّلت إلى النّفور والنشوز، والرّغبة في الإعراض والفرار، فليس الطلاق أوّل خاطر يهدي اليه الإسلام، بل لا بدّ من محاولة يقوم بها الآخرون، وتوفيق يحاوله أهل الخبرة والتجربة، أو أهل العلم والمعرفة بشئون الحياة الزوجية، أو بعض الأقارب المحنّكين. قال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) [النساء] .
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء: 128] .
وفي نصوص القرآن والسنة والآثار ما يحضّ على استبقاء الحياة الزوجية، والقناعة والرّضا، وعدم التطلّع إلى الآخرين.
قال تعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ [الحجر: 88] .
ويقول النبي (ص) «إن الله لا يحبّ الذوّاقين ولا الذوّاقات، فإذا تزوّجتم فلا تطلّقوا» .
وجاء رجل إلى سيّدنا عمر رضي الله عنه، يريد أن يطلّق زوجته، فسأله عمر عن السبب، فقال الرجل إنّي لا أحبّها، فقال له عمر: أو كلّ البيوت تبنى على الحبّ؟ فأين التذمّم وأين الوفاء؟ أي إنك أعطيت زوجتك أملا وعهدا صادقا، وذمّة بأن تكون لك، فاتق الله في هذا العهد، وهذه الذمة، وهذا الأمل فلا تهدم بيتك بيدك، ولا تخيّب آمالا تعلّقت بك.
وقد سمّى الله الزواج ميثاقا غليظا، ثمّ حثّ على حسن العشرة، أو على الفراق بالمعروف، والإحسان إلى الزوجة ومكارمتها، وترك بعض الأموال والمهر تطييبا لخاطرها، وتعويضا لها عمّا أصابها من أضرار.(10/23)
قال تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) [النساء] .
مع السورة
ممّا شرعه الله تعالى للحدّ من الطلاق، أنه سبحانه لم يبح الطلاق في كل وقت، بل أمر بالصبر والتريث والانتظار فقد يكون الرجل واقعا تحت تأثير غضب جامح، أو نزوة عارضة.
كما أنّ المرأة إنسان مرهف الإحساس في حاجة إلى التلطّف وحسن المعاملة. ويتمثّل ذلك فيما يأتي:
1- ينبغي أن يكون الطلاق في طهر لم تجامع فيه المرأة حتّى تستقبل عدّتها بدون تطويل عليها.
2- ينبغي أن تقيم المرأة في بيت الزوجية، فهو بيتها ما دامت على ذمّة الزوج، ولا يجوز خروجها منه إلّا في حالة الضرورة، بأن يترتّب على بقائها في البيت نزاع لا يطاق، أو إساءة لأهل الزوج، أو ارتكاب لذنوب كبيرة.
3- أباح الله للزوج مراجعة زوجته في فترة العدّة، ولعلّ في بقائها في بيت زوجها ما يجعله يعدل عن الطلاق ثمّ إنّ القلوب بيد الله تعالى، وهو سبحانه مقلّب القلوب. قال تعالى: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) .
4- إذا أتمّت المرأة عدّتها فيجب أن يمسكها الزوج بالمعروف، أو يفارقها بالمعروف ولا بدّ من الإشهاد على الطلاق أو الرّجعة، حتّى تكون الحياة بين الزوجين ناصعة نزيهة.
5- حثّ القرآن على التّقوى ومراقبة الله تعالى، وإدراك أنّ الرزق بيده سبحانه والمال رزق، والتوفيق رزق، وينبغي أن يكون المؤمن متوكلّا على الله في كلّ حال فهو مقدّر الأمور وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) فلكلّ حياة ولكلّ أمر قدر، وكلّ شيء مقدّر بمقداره، وبزمانه وبمكانه وبملابساته، وبنتائجه وأسبابه، وليس شيء مصادفة، وليس شيء جزافا في هذا الكون كلّه، وفي نفس الإنسان وحياته.(10/24)
6- لقد بيّن القرآن في سورة البقرة عدّة المطلّقة، بأنها ثلاث حيضات، فإذا حاضت المرأة ثلاث مرات تأكّدت من خلوّ رحمها من الحمل، ويباح لها الزواج بعد مدة العدة. قال تعالى:
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] وفي الآية الرابعة من سورة الطلاق بيان عدة المرأة التي لا تحيض، إمّا لصغر سنّها أو لكبر سنّها فالمرأة قبل البلوغ لا تحيض، وبعد سن الخمسين سنة لا ينزل عليها الحيض.
ومثل هذه المرأة عدّتها ثلاثة أشهر، أمّا المرأة الحامل فعدّتها وضع الحمل.
وتتخلّل آيات الطلاق دعوة الى تقوى الله، وبيان أنّ هذه الأحكام من عند الله، ومن يتّق الله ويطع أوامره ويحسن معاملة الطرف الاخر، فله أجر عظيم، وثواب كبير.
7- وتفيد الآيتان 6 و 7 أنّ الزوجة في فترة العدة لا تزال على ذمة الزوج، ولذلك يجب أن تسكن في سكن مناسب لحالة الزوج، ولا يصحّ أن يحتال الزوج لينزل ضررا بزوجته ومهما طالت فترة الحمل فيجب على الزوج أن يساهم في نفقة الحامل حتّى تضع حملها، وفي فترة الرضاعة يجب على الزوج أن يساهم في نفقة الرضاعة، ودفع أجرتها للأم، وهذه النفقة تقدّر بحال الزوج ويساره أو إعساره.
وبذلك وضع القرآن أصولا يلتزمها كلّ إنسان، فالفقير ينفق حسب حالته، والغني ينفق ممّا أعطاه الله، والأرزاق بيد الله فهو سبحانه الميسّر، وهو الرزّاق ذو القوّة المتين، قال تعالى:
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) .
8- وقد عالجت السورة كل أنواع الكيد والحيل في إصابة الشريك بالأذى عند إنهاء الحياة الزوجية، بقوله تعالى وَلا تُضآرُّوهُنَّ وهذا القول يشمل كل أنواع العنت التي لا يحصرها نصّ قانوني مهما اتّسع وفي الحديث الشريف: «لا ضرر ولا ضرار» ، وهو أصل عامّ ينهى المؤمن عن ضرر الناس، فضلا عن إضراره بمن كانت زوجة له.(10/25)
وتفيد السورة أنّ الرزق بيد الله، وأنّ الأمل في وجه الله وبذلك تنتهي الحياة الزوجية بالأدب الجميل الرفيع، وبالأمل في استئناف حياة أفضل وأيسر سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) .
وفي ختام سورة الطلاق تعرض السورة عددا من المؤثرات العاطفية تظهر فيها قدرة الله وجلاله، فإن تغلّب شريك على شريكه الاخر، أو استطاع أن يظلمه، فليتذكر قدرة الله وعقابه للظالمين.
لا تظلمنّ إذا ما كنت مقتدرا ... الظّلم شيمته يفضي إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه ... يدعو عليك وعين الله لم تنم
[فالآيات 8- 12] وإن كانت في غير موضوع الطلاق، إلّا أنّها تعزف على نغمة مؤثّرة، وتهتف بالقلوب حتّى ترقّ، وبالأفئدة حتّى ترعى جلال الله فالله تعالى أخذ القرى واحدة بعد أخرى، عند ما كذّبت برسلها وقد ساق القرآن هذه العبرة في مصير الذين عتوا عن أمر ربّهم ورسله، فلم يسمعوا ولم يستجيبوا، لتذكّر الناس بالمصير البائس الذي ينتظر من لا يتّقي ولا يطيع، كما تذكّرهم بنعمة الله على الناس في إرسال الرسل، وإنزال التشريع لهداية البشر، وإخراجهم من الظلمات الى النور.
10- والآية الاخيرة في السورة تشير إلى قدرة الله العالية الذي خلق السماوات السبع والأرضين السبع، وهو العليم بما يناسب كلّ المخلوقات والموجودات في السماء والأرض. ثمّ إنّ هذه الأحكام موكولة الى الضمائر، واليقين الجازم بسعة علم الله، واطّلاعه على جميع أفعال العباد.
وهكذا تختتم السورة بما يدعو القلوب إلى الإخبات والإنابة فسبحان الحكيم العليم، الذي أحسن كلّ شيء خلقه، وهو الخبير بما يناسب عباده، والمطّلع على خفايا القلوب، وهو عليم بذات الصدور.
المعنى الإجمالي للسورة
قال الفيروزآبادي: معظم مقصود سورة الطلاق ما يأتي: بيان طلاق السّنّة، وأحكام العدّة، والتوكّل على الله في الأمور، وبيان نفقة النساء حال الحمل والرضاعة، وبيان عقوبة المعتدين وعذابهم، وأنّ التكليف على(10/26)
قدر الطاقة، وللصالحين الثواب والكرامة، وبيان إحاطة العلم والقدرة في قوله تعالى:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) .(10/27)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الطلاق» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الطلاق بعد سورة الإنسان. ونزلت سورة الإنسان بعد سورة الرحمن، ونزلت سورة الرحمن فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك.
فيكون نزول سورة الطلاق في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الآية 1] وتبلغ آياتها اثنتي عشرة آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السّورة بيان أحكام الطلاق والعدّة، وكان المشركون يأخذون في ذلك بشرائع جائرة في حقّ النّساء، فنزلت هذه السّورة بإنصافهنّ في طلاقهنّ وعدّتهنّ، وتحذير المشركين من الإصرار على شرائعهم الجائرة في هذا وغيره وبهذا يكون سياق هذه السّورة قريبا من سياق السّور السّابقة، وتظهر المناسبة في ذكرها بعد سورة التغابن.
حكم الطلاق والعدة الآيات [1- 12]
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/29)
فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فذكر سبحانه أحكام الطلاق والعدّة في سبع آيات من هذه السّورة وذكر، جلّ جلاله، في خلالها من الوعيد على مخالفتها ما ذكر، ثمّ ختم ذلك بذكر ما حصل للقرى السابقة حينما عتت عن أمر ربها من شدّة الحساب، ونكر العذاب، وخسر العاقبة، ليحذّرهم مخالفة ما ذكره من الأوامر والأحكام وليتّقي هذا، أولو الألباب من المؤمنين ثم ذكر تعالى أنه قد أنزل إليهم، بهذا، ما فيه شرف لهم، لأنه يخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم، وأنّ من يؤمن به، ويعمل صالحا يدخله جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، قد أحسن الله له رزقا: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) .(10/30)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الطلاق» «1»
أقول: لمّا وقع في سورة التغابن:
إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ [الآية 14] ، وكانت عداوة الأزواج تفضي إلى الطلاق، وعداوة الأولاد قد تفضي إلى القسوة، وترك الإنفاق عليهم، عقّب ذلك بسورة فيها ذكر أحكام الطلاق، والإنفاق على الأولاد والمطلّقات بسببهم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.(10/31)
المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «الطلاق» «1»
قال تعالى: قَدْراً (3) وقرأ بعضهم (قدرا) وهما لغتان.
وقال تعالى: مِنْ وُجْدِكُمْ [الآية 6] و «الوجد» : المقدرة ومن العرب من يكسر في هذا المعنى فأما «الوجد» إذا فتحت الواو فهو «الحبّ» . وهو في المعنى، والله أعلم، «أسكنوهنّ من حيث سكنتم ممّا تقدرون عليه» .
وقال تعالى: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الآية 12] بجعل (الأرض) جماعة، كما تقول: «هلك الشاة والبعير» وأنت تعني جميع الشاء وجميع الإبل.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(10/33)
المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «الطلاق» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الآية 1] أفرد الخطاب أولا، ثمّ جمعه ثانيا؟
قلنا: أفرد سبحانه النبيّ (ص) أولا بالخطاب، لأنه إمام أمّته وقدوتهم، إظهارا لتقدّمه ورئاسته، وأنه وحده في حكم كلّهم، وسادّ مسدّ جميعهم.
الثاني: أن معناه: يا أيّها النبي قل لأمّتك إذا طلّقتم النساء.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. ونحن نرى كثيرا من الأتقياء مضيّقا عليهم رزقهم؟
قلنا معناه: يجعل له مخلّصا من هموم الدنيا والاخرة. وعن النبيّ (ص) أنّه قال: مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة. وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: ينجيه من كلّ كرب في الدنيا والاخرة. والصحيح أنّ هذه الآية عامّة، وأنّ الله يجعل لكلّ متّق مخرجا من كلّ ما يضيق على من لا يتّقي، ولذا قال النبيّ (ص) «إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ [الآية 2] . وجعل يقرأها ويعيدها» وأمّا تضييق رزق الأتقياء، فهو مع ضيقه وقلّته، يأتيهم من حيث لا يأملون ولا يرجون وتقليله لطف بهم ورحمة، ليتوفّر حظّهم في الاخرة ويخفّ حسابهم، ولتقلّ عوائقهم عن الاشتغال بمولاهم، ولا يشغلهم الرخاء والسّعة عمّا خلقوا له من الطاعة
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/35)
والعبادة، ولهذا اختار الأنبياء والأولياء والصّدّيقون الفقر على الغنى.
فإن قيل لم قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الآية 3] ، أي من يتق به فيما نابه كفاه الله شرّ ما أهمّه، وقد رأينا كثيرا من الناس يتوكّلون على الله في بعض أمورهم وحوائجهم، ولا يكفون همّها؟
قلنا: محال أنّه يتوكل على الله حقّ التوكّل ولا يكفيه همّه، بل ربما قلق وضجر واستبطأ قضاء حاجته بقلبه أو بلسانه أيضا، ففسد توكّله وإليه الإشارة بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ [الآية 3] أي نافذ حكمه، يبلغ ما يريده ولا يفوته مراد، ولا يعجزه مطلوب، وبقوله تعالى: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) أي جعل لكل شيء، من الفقر والغنى، والمرض والصحة، والشدة والرخاء، ونحو ذلك، أجلا، ومنتهى ينتهي إليه لا يتقدّم عنه ولا يتأخّر.
فإن قيل: قوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ [الآية 4] ، علّقه بشكّنا مع أنّ عدّتهنّ ذلك سواء أوجد شكّنا أم لا؟
قلنا: المراد بالشّكّ الجهل بمقدار عدة الآيسة والصغيرة، وإنما علّق به لأنّه، لمّا نزل بيان عدّة ذوات الأقراء في سورة البقرة، قال بعض الصحابة رضي الله عنهم: قد بقي الكبار والصغار لا ندري كم عدّتهنّ، فنزلت هذه الآية على هذا السبب، فلذلك جاءت مقيّدة بالشّكّ والجهل.
فإن قيل: إذا كانت المطلّقة طلاقا بائنا تجب لها النفقة عند بعض العلماء، فما الحكمة في قوله تعالى:
وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ [الآية 6] ؟
قلنا: الحكمة فيه، أن لا يتوهّم أنه إذا طالت مدّة الحمل بعد الطلاق حتّى مضت مدّة عدّة الحائل، سقطت النفقة فنفى سبحانه هذا الوهم، بقوله: حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الآية 6] .
فإن قيل: لم قال هنا: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) ، وقال تعالى في موضع آخر: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) [الشرح] فكيف التوفيق بينهما؟
قلنا: المراد بقوله تعالى «مع» بعده لأنّ الضّدّين لا يجتمعان.
فإن قيل: لم قال تعالى:(10/36)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فنسب العتوّ إليها، وقال تعالى فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها بلفظ الماضي، مع أنّ الحساب والعذاب المرتّبين على العتوّ، إنّما هما في الاخرة لا في الدنيا؟
قلنا: معناه عتا أهلها، وإنّما جيء به على لفظ الماضي تحقيقا له وتقريرا، لأنّ المنتظر من وعد الله تعالى ووعيده آت لا محالة، وما هو كائن فكأنّه قد حصل، ونظيره قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ [الأعراف: 50] وما أشبهه.(10/37)
سورة التّحريم 66(10/39)
المبحث الأول أهداف سورة «التحريم» «1»
سورة التحريم سورة مدنية، آياتها 12 آية، نزلت بعد سورة الحجرات.
شاء الله، سبحانه، أن يكون الرسول بشرا به قوّة الإنسان، وتجارب الإنسان، ومحاولات الإنسان، وضعف الإنسان، لتكون سيرة هذا الرسول الإنسان نموذجا عمليا للمحاولة الناجحة، يراها ويتأثّر بها من يريد القدرة الميسّرة العملية الواقعية، التي لا تعيش في هالات، ولا في خيالات.
وهذه السورة فيها عتاب للرسول الأمين على تحريمه ما أحل الله له، ولو كتم النبيّ (ص) من أمر القرآن شيئا لكتم هذا العتاب.
إن هذا القرآن كتاب الحياة بكلّ ما فيها، وقد شاء الله أن يواكب الوحي حياة الرسول الأمين، فيبارك الخطوات الناجحة، ويقوّم ما يحتاج الى تقويم، وبذلك تكون القدوة في متناول الناس، قال تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) .
لقد عاتب القرآن رسول الله في قبوله الفداء من أسرى بدر، وفي إذنه للمخلّفين بالقعود عن الجهاد، وفي إعراضه عن الأعمى الذي ألحّ في السؤال، وفي تحريمه ما أحلّ الله له.
كما عرض القرآن جوانب القوّة والجهاد والتربية والسلوك للنبيّ الأمين، وجعل حياته الخاصة والعامة كتابا مفتوحا لأمّته وللبشريّة كلّها، تقرأ فيه صورة العقيدة، وترى فيه تطبيقاتها
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(10/41)
الواقعية، ومن ثمّ لا يجعل فيها سرّا مخبوءا ولا سترا مطويّا، بل يعرض جوانب كثيرة منها في القرآن، ويكشف منها ما يطوى عادة عن الناس في حياة الإنسان العاديّ، حتّى مواضع الضعف البشريّ، الذي لا حيلة فيه لبشر، بل إنّ الإنسان ليكاد يلمح القصد في كشف هذه المواضع في حياة الرسول (ص) للناس.
إن حياة الرسول ملك للدعوة، وهي الصورة المنظورة الممكنة التطبيق من العقيدة، وقد جاء ليعرضها للناس في شخصه وفي حياته، كما يعرضها بقوله وفعله، ولهذا خلق، ولهذا جاء، لتكون السّنّة هي ما أثر عن الرسول (ص) من قول أو فعل أو تقرير، وليكون هو النموذج العمليّ الملموس في دنيا الناس، يتعرّض للأحزان، ويموت ابنه، ويصاب في غزوة أحد، وتنتشر الإشاعات عن زوجته عائشة، ويعيب المنافقون عليه بعض الأمور، لتكون الصورة كاملة للإنسان بكلّ ما فيه، وليكون الوحي بعد ذلك فيصلا، ودليلا هاديا في ما ينبغي سلوكه في هذه الحياة.
قصة التحريم
تزوّج النبيّ (ص) تسع نساء لحكم إلهية، ولتكون هذه الزوجات مبلّغات لشئوون الوحي في ما يخصّ النساء.
وقد قضى النبيّ صدر حياته مع خديجة، وكان عمره، عند زواجه منها، 25 سنة وعمرها أربعين، وقد ماتت قبل الهجرة بثلاث سنوات، ولم يتزوّج غيرها في حياتها، وكان وفيا لذكراها، وقد ماتت خديجة وعمره خمسون عاما.
ثم تزوّج النبيّ عائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر وأمّ سلمة، وقد مات زوجها شهيدا فضم النبي إليه عيالها من أبي سلمة وتزوجها وزينب بنت جحش زوج مولاه ومتبنّاه زيد، ليكون ذلك تشريعا للناس في إباحة زواج الإنسان من زوجة ابنه المتبنّى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) [الأحزاب] .
ولمّا تزوّج النبيّ جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق، أعتق الصحابة أقاربها وأسلم أهلها، وكانت أيمن(10/42)
امرأة على قومها ثمّ تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت مهاجرة إلى الحبشة، ثمّ ارتدّ زوجها وتنصّر، فخطبها النبيّ، وجاءت من الحبشة إلى المدينة ثمّ تزوّج، إثر فتح خيبر صفيّة بنت حيي بن أخطب زعيم بني النضير وكانت آخر زوجاته ميمونة بنت الحارث بن حزن، وهي خالة خالد بن الوليد وعبد الله بن عبّاس.
وكانت لكل زوجة من أزواجه (ص) قصة وسبب في زواجه منها، ولم يكن معظمهنّ شابّات، ولا ممن يرغب فيهنّ الرجال لجمال، وكلّ نسائه قد سبق لهن الزواج ما عدا عائشة، فقد كانت البكر الوحيدة بين نسائه.
وقد أنجب النبيّ (ص) جميع أبنائه من خديجة، فقد رزق منها صبيّين وأربع بنات، وقد مات الصبيان في صدر حياته، وبقيت البنات الى ما بعد الرسالة ثم ماتت ثلاث من بناته في حياته، وهن: رقيّة وزينب وأمّ كلثوم، وعاشت فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر بعد وفاة أبيها (ص) .
ولم ينجب عليه الصلاة والسلام من زوجة أخرى غير خديجة. وكان المقوقس ملك مصر قد أهدى إليه جاريتين هما مارية وسيرين، فتسرّى بمارية، وأهدى سيرين إلى حسّان بن ثابت. ولما كانت مارية جارية، لم يكن لها بيت بجوار المسجد، فكان بيتها في عوالي المدينة، في المحلّ الذي يقال له الآن مشربة أمّ إبراهيم، وقد رزق النبي منها بمولود ذكر سمّاه إبراهيم تيمّنا بإبراهيم الخليل (ع) .
وقد ماتت خديجة والنبيّ في الخمسين، ولم يرزق بمولود من نسائه جميعا طوال عشر سنوات، ثمّ رزق إبراهيم وقد تخطّى إلى الستّين، ففاضت نفسه بالمسرّة، وامتلأ قلبه الإنساني الكبير أنسا وغبطة، وارتفعت مارية بهذا الميلاد في عينيه الى مكانة سمت بها عن مقام مواليه إلى مقام أزواجه، وزادت عنده حظوة وقربا.
كان طبيعيا أن يدسّ ذلك، في نفوس سائر زوجاته، غيرة تزايدت أضعافا بأنها أمّ إبراهيم، وبأنهنّ جميعا لا ولد لهنّ، وكان النبيّ (ص) يتردّد كل يوم على إبراهيم، ويحمله بين يديه، ويفرح لابتسامته البريئة، ويسرّ بنموّه وجماله.
وكانت المرأة في الجاهلية تسام(10/43)
الخسف صغيرة، وتمسك على الذّل كبيرة، فلمّا جاء الإسلام حرّم وأد البنات، وسما بالمرأة إلى منزلة عالية، ووصّى النبي بالنساء خيرا، وعامل نساءه معاملة حسنة، وجعل لنسائه من المكانة ما لم يكن معروفا قط عند العرب.
قالت عائشة رضي اللَّه عنها: «كان النبي، إذا خلا بنسائه، ألين الناس، وأكرم الناس، ضحاكا بسّاما» .
تحريم مارية
حدث أن جاءت مارية القبطية من عوالي المدينة إلى رسول الله، وكانت حفصة في زيارة لبيت أبيها، فدخلت مارية في حجرة حفصة، وأقامت بها وقتا مع النبي (ص) ، وعادت حفصة فوجدت مارية في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها وهي أشدّ ما تكون غيرة، وجعلت كلّما طال بها الانتظار تزداد الغيرة بها شدّة، فلمّا خرجت مارية ودخلت حفصة قالت يا نبيّ الله «لقد جئت إليّ شيئا ما جئت إلى أحد من أزواجك بمثله، في يومي وفي دوري وعلى فراشي» .
قال: «ألا ترضين أن أحرّمها فلا أقربها» قالت: بلى، فحرّمها وقال: «لا تذكري ذلك لأحد» فذكرته لعائشة، فأظهره الله عزّ وجلّ، فأنزل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ [الآية 1] ، فبلغنا أن النبيّ (ص) كفّر يمينه وأصاب جاريته.
تحريم العسل
روى البخاري عن عائشة قالت كان النبي (ص) ، يشرب عسلا عند زينب بنت جحش، ويمكث عندها فتواطأت أنا وحفصة على أيّتنا دخل عليها، فلتقل له: أكلت مغافير «1» ؟ إني أجد منك ريح مغافير، قال: «لا، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش، فلن أعود له وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدا» .. فهذا هو ما حرّمه على نفسه وهو حلال له، وقد نزل بشأنه: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [الآية 1] .
ويبدو أنّ التي حدّثها الرسول (ص)
__________
(1) . المغافير: صمغ حلو الطعم، كريه الرائحة.(10/44)
هذا الحديث وأمرها بستره، قالته لزميلتها، ثم اطلع الله رسوله على حديثهما.
قال ابن جرير الطبري: «والصواب من القول في ذلك أن يقال: كان الذي حرمه النبيّ (ص) على نفسه شيئا كان الله قد أحلّه له، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته، وجائز أن يكون كان شرابا من الأشربة، وجائز أن يكون كان غير ذلك غير أنّه أيّ ذلك كان، فإنّه كان تحريم شيء كان له حلالا، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه» .
النبيّ (ص) يهجر نساءه
كان من جراء هذا الحادث، وهو تحريم مارية أو تحريم العسل، وما كشف عنه من مكايدات في بيت الرسول (ص) ، أن غضب النبي، فالى من نسائه لا يقربهن شهرا، وهمّ بتطليقهنّ، ثمّ نزلت هذه السورة وقد هدأ غضبه (ص) فعاد إلى نسائه.
روى الإمام أحمد في مسنده، والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي، أن ابن عبّاس سأل عمر عن المرأتين اللتين قال الله تعالى لهما: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [الآية 4] فقال عمر: هما عائشة وحفصة، ثم قال عمر: كنّا معشر قريش قوما نغلب النساء فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، قال عمر: فبينما أنا في أمر، إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا كذا، فقلت لها: ومالك أنت، ولم هاهنا وما تكلّفك في أمر أريده؟ فقالت لي: عجبا لك يا ابن الخطّاب؟ ما تريد أن تراجع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله (ص) حتّى يظل يومه غضبان، وإن أزواج رسول الله (ص) ليراجعنه، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل قال: فانطلقت، فدخلت على حفصة، فقلت أتراجعين رسول الله (ص) حتّى يظلّ يومه غضبان؟
فقالت حفصة: والله إنّا لنراجعه، فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله، يا بنيّة لا يغرّنك هذه التي أحذّرك عقوبة حسنها وحب رسول الله (ص) إيّاها. واعتزل رسول الله (ص) نساءه شهرا، منقطعا عنهنّ في مشربة منعزلة، واستأذن عمر على رسول الله (ص) ثلاث مرّات حتّى أذن له، قال عمر: فدخلت، فسلّمت على رسول الله (ص) ، فإذا هو متّكئ على رمل حصير قد أثّر في جنبه، فقلت:(10/45)
أطلّقت يا رسول الله نساءك، فرفع رأسه إليّ وقال: لا، فقلت: الله أكبر، ولو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، فغضبت علي امرأتي يوما، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني فقالت:
ما تنكر أن أراجعك؟ فو الله إن أزواج النبي (ص) ليراجعنه، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت؟ فتبسّم رسول الله (ص) ، فقلت يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت: لا يغرّنك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحبّ إلى رسول الله (ص) منك، فتبسّم أخرى، فقلت: استأنس يا رسول الله؟ قال: نعم فجلست، فرفعت رأسي في البيت فو الله ما رأيت في البيت شيئا يردّ البصر إلّا هيبة مقامه، فقلت ادع الله يا رسول الله أن يوسّع على أمّتك فقد وسّع على فارس والروم، وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسا وقال: أفي شكّ أنت يا ابن الخطّاب؟ أولئك قوم عجّلت لهم طيّباتهم في الحياة الدنيا. فقلت استغفر لي يا رسول الله. وكان أقسم ألا يدخل عليهنّ شهرا، من شدّة موجدته عليهنّ.
اصطفاء الرسول (ص)
يقول تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) [الحج] .
لقد اصطفى الله سبحانه محمدا (ص) ليبلّغ الرسالة الأخيرة للناس، واختاره إنسانا تتمثّل فيه العقيدة الإسلامية بكلّ خصائصها، وتتجسّم فيه بكل حقيقتها «ويكون هو بذاته وبحياته الترجمة الصحيحة الكاملة لطبيعتها واتجاهها، إنسانا قد اكتملت طاقاته الإنسانية كلّها، ضليع التكوين الجسدي، قويّ البنية، سليم البناء، صحيح الحواسّ، يقظ الحس، يتذوّق المحسوسات تذوقا كاملا سليما، وهو في الوقت ذاته حيّ العاطفة والطبع، سليم الحساسية، يتذوق الجمال، منفتح للتلقّي، والاستجابة، وهو في الوقت ذاته كبير العقل، واسع الفكر، فسيح الأفق، قويّ الارادة، يملك نفسه ولا تملكه ثمّ هو، بعد ذلك كلّه، النبيّ الذي تشرق روحه بالنور الكلّيّ، والذي(10/46)
تطيق روحه الإسراء والمعراج، والذي ينادى من السماء، والذي يرى نور ربّه، والذي تتصل حقيقته بحقيقة كلّ شيء في الوجود من وراء الأشكال والظواهر، فيسلم عليه الحصى والحجر، ويحنّ له الجذع، ويرتجف به جبل أحد ثمّ تتوازن في شخصيته هذه الطاقات كلّها، فإذا هي التوازن المقابل لتوازن العقيدة التي اختير لها» .
مع السورة
1: حرّم النبي (ص) مارية القبطية على نفسه، أو حرم العسل على نفسه، مرضاة لزوجاته وتنزّل وحي السماء، يفيد أنّ ما أحلّه الله لا ينبغي أن يحرّمه الإنسان.
2: أباح الله للإنسان إذا حرّم حلالا أو أقسم على يمين ورأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ثم يكفّر عن يمينه.
3: أخبر النبي (ص) حفصة بتحريم مارية، وأنّ أبا بكر وعمر يليان أمر هذه الأمة من بعده، وأمرها أن تكتم ذلك، ولكنّها لم تكتمه، وأخبرت به عائشة، وعلم النبيّ بذلك، فلام حفصة على إفشاء سرّه، وأخبرها أنّه لم يعلم هذا السر من عائشة، ولكن من العليم الخبير.
4: أدّبت السورة عائشة وحفصة، وبيّنت أنّ التامر وإفشاء السر مؤلم للنبي، ومقلق لهذا القلب الكبير وهذا أمر يستحقّ التوبة والإنابة ثمّ بيّنت أنّ إيلام النبيّ أمر كريه، وسيرتدّ الكيد على صاحبه، لأنّ النبيّ معه قوة غالبة يكفي أنّ معه الله والملائكة وصالح المؤمنين.
5: هدّد الله نساء النبيّ بالطلاق، وبأن يعوّضه الله منهنّ بنساءهنّ المثل العليا في القنوت والعبادة والتوبة والجمال وقد أثمر هذا التهديد ثمرته، فعادت نساؤه إلى الطاعة والخضوع، واستأنف النبيّ حياته متفرّغا لرسالته، وتبليغ دعوته ومرضاة ربّه، قرير العين في بيته ومع أسرته.
والآيات ترسم صورة من الحياة البيتية لهذا الرجل الذي كان ينهض بإنشاء أمّة، وإقامة دولة، على غير مثال معروف، وعلى غير نسق مسبوق، أمة تنهض بحمل أمانة العقيدة الإلهية في صورتها الأخيرة، وتنشئ في الأرض مجتمعا ربّانيّا في صورة واقعية يتأسّى بها الناس.(10/47)
وفي ظلال هذا الحادث، تهيب الآيات 6- 9: بالذين آمنوا ليؤدّوا واجبهم في بيوتهم، من التربية والتوجيه والتذكير، فيقوا أنفسهم وأهليهم النار، ويرسم لهم مشهدا من مشاهدها، وحال الكفار عندها.
ثمّ تجدّد الدعوة إلى التوبة النصوح، وتصور لهم الجنّة التي تنتظر التائبين ثمّ تدعو النبي (ص) إلى جهاد الكفار والمنافقين وحماية المجتمع الإسلامي من الداخل والخارج.
فالآيات الأولى [1- 5] : دعوة لتوبة نساء النبيّ وحماية بيته ونفسه.
والآيات التالية [6- 9] : دعوة لتوبة المؤمنين ومحافظتهم على تربية أولادهم وبناتهم، لأنّ الأسرة هي قوام المجتمع.
ثمّ تجيء الجولة الثالثة والأخيرة، وكأنّها التكملة المباشرة لتهديد عائشة وحفصة، فقد تحدّثت الآيات [10- 12] عن امرأة نوح (ع) وامرأة لوط (ع) ، كمثل للكفر في بيت مؤمن، وهو تهديد مستتر لكلّ زوجة تخون زوجها وتخون رسالته ودعوته، فلن ينجيها من العذاب أنّ أقرب الناس إليها نبيّ رسول، أو داعية كريم، ولا يضرّ المرأة المؤمنة أن يكون أقرب الناس إليها طاغية جبّارا، أو ملكا متسلّطا معتدّا وقد ذكرت امرأة فرعون كمثل للإيمان في بيت كافر، وجعلت السورة في ختامها نموذجا رفيعا للمرأة المؤمنة، يتمثّل في آسية (ع) امرأة فرعون التي استعلت على المال والملك والجاه والسلطان، ورغبت في ما عند الله.
ويتمثّل في مريم ابنة عمران (ع) ، المتطهّرة المؤمنة القانتة المصدقة بكلمات ربّها وكتبه.
وبذلك نجد المرأة في ركب الإيمان، ويتحدّث القرآن عنها كنموذج للخير يتمثّل في أمّ موسى (ع) ، وفي أم عيسى (ع) ، وفي بلقيس التي أسلمت لله رب العالمين، وفي امرأة فرعون التي زهدت في ملك فرعون، ورغبت في ثواب الله ربّ العالمين.
المعنى الإجمالي للسورة
قال الفيروزآبادي: معظم مقصود سورة التحريم ما يأتي:
عتاب الرسول (ص) في التحريم والتحليل، قبل ورود وحي سماويّ، وتعيير الأزواج الطّاهرات على إيذائه(10/48)
وإظهار سرّه، والأمر بالتحرّز والتجنّب من جهنّم، والأمر بالتوبة النصوح، والوعد بإتمام النور في القيامة، والأمر بجهاد الكفار بطريق السياسة، ومع المنافقين بالبرهان والحجّة، وبيان أن القرابة غير نافعة بدون الإيمان والمعرفة، وأنّ قرب المفسدين لا يضرّ مع وجود الصدق والإخلاص، والخبر عن صدق إيمان امرأة فرعون، وتصديق مريم بقوله تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) .(10/49)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التحريم» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة التحريم بعد سورة الحجرات، ونزلت سورة الحجرات فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك، فيكون نزول سورة التحريم في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [الآية 1] ، وتبلغ آياتها اثنتي عشرة آية.
الغرض منها وترتيبها
نزلت هذه السورة في ما كان من عائشة وحفصة حين شرب النبي (ص) عسلا عند زينب بنت جحش، فتواطأتا وقالتا له: إنّا نشمّ منك ريح المغافير.
وهو جمع مغفر، أو مغفر، أو مغفور، أو مغفار، أو مغفير، وهو شيء ينضحه الثّمام «2» يشبه العسل، وريحه كريهة منكرة. فلمّا سمع منهما ذلك حرّم العسل على نفسه، فنزلت هذه السورة لعتابه على تحريم ما أحلّ الله له، وتهديد نسائه بطلاقهنّ إن لم يتبن عن هذه الغيرة فيما بينهنّ والمناسبة بين هذه السورة وسورة الطلاق أنّها في شأن النساء أيضا.
قصة التحريم الآيات [1- 12]
قال الله تعالى:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.
(2) . الثّمام: نبت عشبيّ برّيّ وزراعي. واحدته ثمامة.(10/51)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) ، فعاتب النبي (ص) على تحريم العسل الذي أحلّه له ابتغاء مرضاة أزواجه، وذكر، سبحانه، أنه شرع لهم أن يتحلّلوا من أيمانهم بالكفّارة، ليتحلّل النبيّ (ص) من يمينه ويعود إلى شرب العسل وكان النبيّ (ص) قد أسرّ إلى حفصة بتحريمه لئلّا يحرّمه أصحابه على أنفسهم اقتداء به، فأخبرت به عائشة، وأطلعه الله على إفشائها سرّه ثم ذكر، جلّ وعلا، لهما أنهما إن يتوبا ممّا فعلا كان خيرا لهما لأنّ قلوبهما مالت عن الحق بما فعلا، وأنهما إن يستمرّا على تظاهرهما على النبي (ص) ، فإنه، جلّ شأنه، هو مولاه وجبريل والمؤمنون والملائكة، وعسى، إن طلقهنّ، أن يبدله أزواجا خيرا منهن ثم انتقل السياق منهنّ إلى المؤمنين عامّة، فأمرهم أن يقوا أنفسهم وأهليهم من مثل هذا نارا وقودها الناس والحجارة، وذكر سبحانه أنه يقال لوقودها من الكفّار: لا تعتذروا اليوم، إنما تجزون ما كنتم تعملون ثم أمرهم أن يتوبوا إليه تعالى توبة نصوحا ليكفّر عنهم سيئاتهم ويدخلهم جناته، ويجعل لهم نورا يسعى بين أيديهم وأيمانهم، فيقولوا ربّنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا، إنّك على كل شيء قدير.
ثم أمر النبي (ص) بمجاهدة الكفّار والمنافقين لئلّا تشغله تلك الأمور من نسائه عنها، وضرب مثلا لنسائه امرأة نوح وامرأة لوط حين خانتا زوجيهما، فلم يغنيا عنهما من الله شيئا، ليحذرن هذا المصير إذا اخترن أن يتظاهرن على النبي (ص) . وضرب لهنّ مثلا آخر في الترغيب بعد الترهيب، اثنتين من المؤمنات السابقات: إحداهما، امرأة فرعون حينما طلبت منه، جلّ جلاله، أن يبني لها بيتا في الجنّة وينجيها من فرعون وقومه والثانية، مريم ابنة عمران، وقد ختمت السورة بها فقال تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) .(10/52)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التحريم» «1»
أقول: هذه السورة متاخية مع التي قبلها بالافتتاح بخطاب النبي (ص) ، وتلك مشتملة على طلاق النساء، وهذه على تحريم الإيلاء. وبينهما من المناسبة ما لا يخفى.
ولمّا كانت تلك في خصام نساء الأمّة، ذكر في هذه خصومة نساء النبي (ص) إعظاما لمنصبهنّ أن يذكرن مع سائر النسوة، فأفردن بسورة خاصة، ولهذا ختمت بذكر امرأتين في الجنة: آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. [.....](10/53)
المبحث الرابع مكنونات سورة «التحريم» «1»
1- لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [الآية 1] .
هي سرّيّته مارية. كما أخرجه الحاكم، والنّسائي من حديث أنس، والبزّاز من حديث ابن عبّاس، والطبراني من حديث أبي هريرة، والضّياء في «المختارة» من حديث عمر «2» .
2- وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ [الآية 3] .
هي حفصة.
3- حَدِيثاً [الآية 3] .
هو تحريم مارية. كما في الأحاديث المذكورة.
4- عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ [الآية 3] .
قال مجاهد: الذي عرّف أمر مارية،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . النّسائي 7: 71 في عشرة النساء، و «المستدرك» للحاكم 2: 493 وفيهما أنها نزلت في أمة كانت له: والبزاز (2275) وفيه أنها سرّيّته ورجاله رجال الصحيح، غير بشر بن آدم الأصغر، وهو ثقة.
وتعيين أنها مارية، جاء في رواية الطبراني في «المعجم الأوسط» من طريق موسى بن جعفر بن أبي كثير عن عمه، قال الذهبي: مجهول، وخبره ساقط. كما في «مجمع الزوائد» 7/. 127
وأخرج البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: أنها نزلت في شأن تحريمه على نفسه شرب العسل من عند زوجته زينب بنت جحش رضي الله عنها.
قال ابن كثير: «والصحيح أن ذلك كان في تحريمه العسل، كما قال البخاري عند هذه الآية» وقال ابن حجر في «فتح الباري» 8: 657: «فيحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين معا» .(10/55)
وأعرض عن قوله: «إنّ أباك وأباها يليان الناس بعدي» «1» مخافة أن يفشو.
أخرجه ابن أبي حاتم.
5- إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ [الآية 4] .
6- وَإِنْ تَظاهَرا [الآية 4] .
هما عائشة وحفصة، كما في «الصحيح» «2» عن عمر، لمّا سأله ابن عبّاس عنهما.
7- وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ [الآية 4] .
قال النبيّ (ص) : «أبو بكر وعمر» أخرجه الطبراني في «الأوسط» من حديث ابن مسعود «3» ، وأخرجه أيضا عن ابن عمر وابن عبّاس موقوفا، وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن الضّحّاك وغيره.
وأخرج عن سعيد بن جبير، قال:
نزلت في عمر خاصّة.
8- امْرَأَتَ نُوحٍ [الآية 10] .
والعة.
9- وَامْرَأَتَ لُوطٍ [الآية 10] .
والهة.
__________
(1) . نحو هذا الحديث أخرجه الطبراني وفي إسناده نظر. قاله ابن كثير في «تفسيره» 4/. 390
(2) . البخاري (4914) في التفسير. وانظر ما قاله السيوطي، في أول هذا الكتاب، في فصل «مقدمة فيها فوائد» .
(3) . وفي سنده عبد الرحيم بن زيد العمي، وهو متروك، كما في «مجمع الزوائد» 7/. 127 ولم ينصّ الهيثمي فيه على أنه في «الأوسط» .(10/56)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «التحريم» «1»
1- وقال تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً [الآية 3] .
أقول: ودلّت (بعض) على الواحد، وهي نظير قوله تعالى:
وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ [الشعراء] .
2- وقال تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [الآية 4] .
الخطاب إلى الاثنين، والفاعل جمع، وهذا شيء عرفناه في لغة التنزيل، اقتضته حكمة وبلاغة.
3- وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [الآية 8] .
وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازي، والنصح صفة التائبين، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم، فيأتوا بها على طريقها متداركة للفرطات، ماحية للسيئات.
أقول: وهذا أسلوب من أساليب البلاغة العربية في الصفات والموصوفات.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(10/57)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «التحريم» «1»
قال: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [الآية 4] بجعل الفاعل جماعة، لأنهما اثنان من اثنين.
وقال: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ [الآية 12] وامْرَأَتَ فِرْعَوْنَ [الآية 11] على:
«وضرب الله امرأة فرعون ومريم مثلا» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(10/59)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «التحريم» «1»
إن قيل: قوله تعالى: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ [الآية 4] ، إن كان المراد به الفرد فأيّ فرد هو، وأيضا فإنه لا يناسب مقابلة الملائكة الذين هم جمع وإن كان المراد به الجمع، فلماذا لم يكتب في المصحف بالواو؟
قلنا: هو فرد أريد به الجمع كقولك: لا يفعل هذا الفعل الصالح من الناس، تريد به الجنس كقولك: لا يفعله من صلح منهم، وقوله تعالى:
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) [المعارج] ، وقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) [العصر] ، وقوله تعالى:
وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها [الحاقة: 17] ، وقوله تعالى: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر: 67] ونظائره كثيرة. الثاني أنه يجوز أن يكون جمعا، ولكنه كتب في المصحف بغير واو على اللفظ، كما جاءت ألفاظ كثيرة في المصحف على اللفظ دون اصطلاح الخط.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) ولم يقل ظهراء، وهو خبر عن الجمع، وهم الملائكة؟
قلنا: هو فرد وضع موضع الجمع كما سبق. الثاني: اسم على وزن المصدر كالزميل والدبيب والصليل، فيستوي فيه الإفراد والتثنية والجمع.
الثالث: أن فعيلا يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، بدليل قوله تعالى:
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) [ق] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/61)
فإن قيل: قوله تعالى بعد ذلك تعظيم للملائكة ومظاهرتهم، وقد تقدّمت نصرة الله تعالى وجبريل وصالح المؤمنين، ونصرة الله سبحانه أعظم؟
قلنا: مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله تعالى، فكأنّه فضل نصرته بهم على سائر وجوه نصرته لفضلهم وشرفهم، ولا شكّ أنّ نصرته بجميع الملائكة أعظم من نصرته بجبريل وحده، أو بصالح المؤمنين.
فإن قيل: كيف قال تعالى: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ [الآية 5] إلى آخر الآية، فأثبت الخيريّة لهنّ باتصافهنّ بهذه الصفات، وإنّما تثبت لهن الخيريّة بهذه الصفات لو لم تكن تلك الصفات ثابتة في نساء النبي (ص) وهي ثابتة فيهن؟
قلنا: المراد به «خيرا» منكن في حفظ قلبه ومتابعة رضاه، مع اتصافهن بهذه الصفات المشتركة بينكنّ، وبينهنّ.
فإن قيل: لم أخليت الصفات كلها عن الواو، وأثبتت بين الثيبات والأبكار؟
قلنا: لأنهما صفتان متضادتان لا تجتمعان فيهن اجتماع سائر الصفات، فلم يكن بد من الواو، ومن جعلها واو الثمانية فقد سها، لأن واو الثمانية لا يفسد الكلام بحذفها بخلاف هذه.
فإن قيل: هذه الصفات إنما ذكرت في معرض المدح، وأي مدح في كونهن ثيّبات؟
قلنا التثييب مدح من وجه، فإن الثّيب أقبل للميل بالنقل، وأكثر تجربة وعقلا، والبكارة مدح من وجه، فإنها أطهر وأطيب وأكثر مراغبة وملاعبة.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) ، بعد قوله سبحانه: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ؟
قلنا: قيل: المراد بالأمر الأول الأمر بالعبادات والطاعات، وبالأمر الثاني الأمر بتعذيب أهل النار، وقيل هو تأكيد.
فإن قيل: لم قال تعالى: تَوْبَةً نَصُوحاً [الآية 8] ولم يقل توبة نصوحة؟
قلنا: لأن «فعولا» من أوزان المبالغة الذي يستوي في لفظه الذكور والإناث كقولهم: امرأة صبور وشكور ونحوهما.(10/62)
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: مِنْ عِبادِنا [الآية 10] بعد قوله تعالى: كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ [الآية 10] .
قلنا: مدحهما والثناء عليهما بإضافتهما إليه إضافة التشريف والتخصيص، كما في قوله تعالى:
وَعِبادُ الرَّحْمنِ [الفرقان: 63] وقوله تعالى: فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) [الفجر] وهو مبالغة في المعنى المقصود، وهو أن الإنسان لا ينفعه إلا صلاح نفسه لا صلاح غيره، وإن كان ذلك الغير في أعلى مراتب الصلاح والقرب من الله تعالى.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) ولم يقل سبحانه من القانتات؟
قلنا: معناه كانت من القوم القانتين:
أي المطيعين لله تعالى، يعني رهطها وأهلها، فكأنه تعالى قال: وكانت من بنات الصالحين. وقيل إن الله تعالى لمّا تقبلها في النذر وأعطاها مرتبة الذكور الذين كان لا يصلح النذر إلّا بهم، عاملها معاملة الذكور، في بعض الخطاب إشارة إلى ذلك، وقال تعالى:
وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) [آل عمران] وقال تعالى: وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) ، أو رعاية للفواصل.(10/63)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «التحريم» «1»
في قوله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [الآية 4] استعارة ومعنى صغت قلوبكما: أي مالت وانحرفت.
قال النضر بن شميل «2» : يقال قد صغوت إليه وصغيت، وصغيت، وأصغيت إليه، وهو الكلام. ولم تمل قلوبهما على الحقيقة، وإنما اعتقد قلباهما خلاف الاستقامة في إطاعة النبي (ص) ، فحسن أن يوصف بميل القلبين من هذا الوجه. وذلك كقول القائل: قد مال إلى فلان قلبي: إذا أحبّه. وقد نفر عن فلان قلبي إذا أبغضه. والقلب في الأمرين جميعا بحاله، لم يخرج عن نياطه، ولم يزل عن مناطه.
وإنما قال سبحانه: قلوبكما، والخطاب مع امرأتين، لأن كل شيئين من شيئين تجوز العبارة عنهما بلفظ الجمع في عادة العرب. قال الراجز «3» :
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . هو النضر بن شميل بن خرشة التميمي المازني وكان عالما بأيام العرب وراوية للحديث واللغة. اتصل بالخليفة المأمون العباسي فأكرمه وقربه إليه. توفي بمرو سنة 203 هـ.
(3) . لم يذكر القرطبي اسم هذا الراجز. وقد نسبه محقق «الجامع لأحكام القرآن» للشاعر الخطام المجاشعي، ونبّه على ذلك في هامش الجزء الخامس ص 73 ولم يذكر ابن مطرف الكناني في «القرطين» اسم الشاعر واكتفى بقوله: أنشدني بعضهم وكذلك فعل العلامة محب الدين في «شرح شواهد الكشاف» ص 318.
والخطام اسمه بشر، كما كتب ذلك بخطه عبد القادر البغدادي، على هامش «المؤتلف والمختلف» للامدي ص 112 وهو شاعر إسلامي اشتهر بالرجز.
والقذف (بفتحتين وبضمتين) : البعيد من الأرض. والمرت (بفتح الميم وسكون الراء) : الأرض لا ماء فيها ولا نبات. والظهر: ما ارتفع من الأرض.(10/65)
ومهمهين قذفين مرتين ... ظهراهما مثل ظهور التّرسين
وقال الله سبحانه في موضع آخر:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] وإنما أراد سبحانه قطع يمين السارق، ويمين السارقة. وذلك مشهور في اللغة.
وفي قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [الآية 8] استعارة. لأن «نصوحا» من أسماء المبالغة. يقال: رجل نصوح. إذا كان كثير النصح لمن يستنصحه. وذلك غير متأتّ في صفة التوبة على الحقيقة.
فنقول: إن المراد بذلك، والله أعلم، أنّ التوبة لمّا كانت بالغة غاية الاجتهاد في تلافي ذلك الذّنب، كانت كأنها بالغة غاية الاجتهاد في نصح صاحبها، ودلالته على طريق النجاة بها. فحسن أن تسمّى «نصوحا» من هذا الوجه.
وقال بعضهم: النّصوح: هي التوبة التي يناصح الإنسان فيها نفسه، ويبذل مجهوده في إخلاص الندم، والعزم على ترك معاودة الذنب. وقرأ أبو بكر بن عياش «1» عن عاصم «2» : (نصوحا) بضم النون. على المصدر. وقرأ بقية السبعة (نصوحا) بفتح النون على صفة التوبة.
وفي قوله سبحانه: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما [الآية 10] استعارة: لأن وصف المرأة بأنها تحت الرجل ليس يراد به حقيقة الفوق والتّحت، وإنما المراد أنّ منزلة المرأة منخفضة عن منزلة الرجل، لقيامه عليها، وغلبته على أمرها. كما قال سبحانه:
__________
(1) . أبو بكر بن عياش. واسمه شعبة، هو إمام في اللغة والقراآت، وكان راوي عاصم، وإماما من أئمة السّنة توفي سنة 193 هـ. له ترجمة موجزة في «الأعلام» ، و «النشر» ، و «القراآت واللهجات» لعبد الوهاب حمودة، و «الفهرست» لابن النديم.
(2) . هو عاصم بن أبي النجود الكوفي الأسدي أحد القراء السبعة، كان ثقة في القراآت. وله اشتغال بحديث الرسول (ص) . توفي سنة 127 هـ وقد روى عنه أبو بكر بن عياش. وله ترجمة في «تهذيب التهذيب» و «الوفيات» و «الأعلام» للزركلي، و «القراآت واللهجات «لعبد الوهاب حمودة.(10/66)
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ [النساء: 34] . وكما يقول القائل: فلان الجندي تحت يدي فلان الأمير. إذا كان من شحنة عمله، أو متصرّفا على أمره. وكما يقول الاخر:
لا آخذ رزقي من تحت يدي فلان. إذا كان هو الذي يلي إطلاق رزقه، وتوفية مستحقّه، وذلك مشهور في كلامهم.(10/67)
سورة الملك 67(10/69)
المبحث الأول أهداف سورة «الملك» «1»
سورة الملك سورة مكية، آياتها 30 آية، نزلت بعد سورة الطور.
لها من اسمها أكبر نصيب. إنها سورة تعرض بركات الله في هذه الدنيا، وقدرته العالية، وحكمته السامية: فهو الخالق الرزاق المهيمن، المدبّر الحكيم المبدع الذي أبدع كل شيء خلقه.
وتلفت السورة نظر الإنسان الى خلق الأرض، وخلق السماء والطير والرزق، والسمع والأبصار، والموت والحياة، والزرع والثمار، والماء والهواء والفضاء.
وتحثّ القلب على التفكير والتأمّل، والنظر في ملكوت السماوات والأرض، وتهيج فيه البحث والاستنباط ليصل بنفسه الى التعرف على قدرة الله وجلاله، وسابغ فضله على الناس أجمعين.
مطلع السورة
مطلع السورة مطلع جامع يهزّ القلب هزّا، وينبّه إلى بركات الله ونعمه وقدرته.
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) .
وعن حقيقة الملك والقدرة، تتفرّع مختلف الصور التي عرضتها السورة، ومختلف الحركات المغيبة والظاهرة، التي نبّهت القلوب إليها.
«فمن الملك ومن القدرة كان خلق
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. [.....](10/71)
الموت والحياة، وكان الابتلاء بهما، وكان خلق السماوات وتزيينها بالمصابيح، وجعلها رجوما للشياطين، وكان إعداد جهنّم بوصفها وهيئتها وخزنتها، وكان العلم بالسّرّ والجهر، وكان جعل الأرض ذلولا للبشر، وكان الخسف والحاصب والنكير على المكذّبين، وكان إمساك الطير في السماء، وكان القهر والاستعلاء، وكان الرزق كما يشاء، وكان الإنشاء، وهبة السمع والأبصار والأفئدة، وكان الخلق في الأرض والحشر، وكان الاختصاص بعلم الاخرة، وكان عذاب الكافرين، وكان الماء الذي به الحياة فكل حقائق السورة وموضوعاتها مستمدة من ذلك المطلع ومدلوله الشامل الكبير» «1» .
مع آيات السورة
[الآية 1] : تبدأ السورة بتمجيد الله سبحانه، بقوله: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ فهو جلّ جلاله كثير البركة تفيض بركته على عباده، وهو المالك المهيمن على الخلق، وهو القادر قدرة مطلقة بلا حدود ولا قيود، يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد، وهو على كلّ شيء قدير.
[الآية 2] : ومن آثار قدرته، سبحانه، أنه خلق الموت السابق على الحياة واللاحق بها، والحياة التي تشمل الحياة الأولى والحياة الاخرة، ليمتحن الإنسان بالوجود والاختيار والعقل والكسب، حتّى يعمل في الحياة الأولى ليرى جزاء عمله في الحياة الاخرة.
[الآية 3] : يوجّه القرآن النظر إلى خلق السماوات السبع، ويذكر أنها طبقات على أبعاد متفاوتة، وليس في خلقها خلل ولا اضطراب، وانظر إليها بعينيك فهل تستطيع أن تجد بها نقصا أو عيبا؟
[الآية 4] : تأمّل كثيرا في هذا الكون وشاهد عجائبه، فلن تجد فيه إلّا الإبداع والتنسيق، والضبط والإحكام.
[الآية 5] : لقد رفع الله السماء الدنيا، وخلق فيها الكواكب والنجوم زينة للسماء، وهداية للمسافرين، وهذه النجوم منها الباهر الزاهر والخافت، والمفرد والمجتمع ولكلّ نجم مكان ومسار وطريق خاص، وهذه النجوم منها شهب تنزّل على الشياطين الذين
__________
(1) . في ظلال القرآن 29: 184.(10/72)
يحاولون استراق السمع، والتنصّت على كلام الملائكة، فيرجمون بالشهب التي تقتلهم أو تخبلهم.
[الآية 6] : ومن كفر بالله فإنه يستحقّ عذاب جهنّم، وبئس هذا المصير.
[الآية 7] : إن جهنّم تتميّز غيظا ممّن عصى الله، وتغلي وتفور حنقا على الكفّار.
[الآية 8] : كلّما ألقي جماعة من الكفّار في النار، سألهم خزنة جهنّم:
ألم يأتكم رسول ينذركم هول هذا اليوم؟
[الآية 9] : ويجيب الكفّار بأن الرسول قد جاءنا، ولكن العمى أضلّنا فكذّبنا بالرسول، وقلنا ما أنزل الله من وحي ولا رسالة، واتّهمنا الرسول بالضلال والكذب.
[الآية 10] : ولو حكّمنا عقلنا وسمعنا، لاهتدينا إلى الحقّ وآمنّا، وحفظنا أنفسنا من هذا الهلاك ومن هذا العذاب.
[الآية 11] : لقد جاء هذا الاعتراف بالذنب متأخّرا في غير وقته، فسحقا وعذابا لأصحاب جهنّم، حيث لا يؤمنون إلّا بعد فوات الأوان.
[الآية 12] : إنّ المؤمن يحسّ رقابة الله عليه، ويخشى عقابه وإن لم يره بعينه، أو يخشى ربّه وهو في خفية عن الأعين غائبا عن الناس. وله مغفرة لذنبه وأجر كبير جزاء عمله.
[الآية 13] : ما يفعله العبد مكشوف ظاهر أمام الله، وسيّان أجهرتم بأقوالكم، أم أسررتم بها، فالله مطلع عليها.
[الآية 14] : ألا يعلم الخالق الأشياء التي خلقها؟ وهو سبحانه عالم بخفيّات الأمور ودقائقها، وهو اللطيف الخبير.
[الآية 15] : ثم ينتقل بهم السياق من ذوات أنفسهم إلى الأرض التي خلقها الله لهم وذلّلها، وأودعها أسباب الحياة.
فهذه الأرض تدور حول نفسها بسرعة ألف ميل في الساعة، ثم تدور حول الشمس بسرعة حوالى خمسة وستين ألف ميل في الساعة.
ومع هذه السرعة يبقى الإنسان على ظهرها آمنا مستريحا مطمئنّا.
وقد جعل الله الهواء المحيط بالأرض محتويا للعناصر التي تحتاج إليها الحياة بالنسب الدقيقة اللازمة،(10/73)
فنسبة الأكسجين 21 في المائة، ونسبة الأزوت أو النتروجين 78 في المائة، والبقيّة من ثاني أكسيد الكربون وعناصر أخرى. وهذه النسب هي اللّازمة لقيام الحياة على الأرض.
وحجم الأرض وحجم الشمس وحجم القمر، وبعد الأرض عن الشمس والقمر، ذلك كلّه بنسب لازمة لاستمرار الحياة على ظهر الأرض.
إن الحيوان يتنشّق الهواء فيمتصّ الأكسجين ويلفظ ثاني أكسيد الكربون، والنباتات تمتصّ ثاني أكسيد الكربون، وبكيمياء سحرية يغذّي النبات نفسه، ويلفظ الأكسجين الذي نتنفّسه، وبدونه تنتهي الحياة بعد خمس دقائق ولو كانت هذه المقايضة غير موجودة، فإن الحياة الحيوانية أو النباتية كانت تستنفد في النهاية كل الأكسجين، أو كل ثاني أكسيد الكربون تقريبا. ومتى انقلب التوازن تماما ذوى النبات، أو مات الإنسان.
والأرزاق المخبوءة في جوف الأرض، من معادن جامدة وسائلة، كلّها ترجع الى طبيعة تكوين الأرض والأحوال التي لابستها، والله يتفضّل على الإنسان بتسخير الأرض والنبات والفضاء والهواء له: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الآية 15] وإلى الله النشور والرجوع في يوم الحساب.
[الآيتان 16 و 17] : هذه الأرض الذّلول التي يأمن الإنسان عليها ويهدأ ويستريح، تتحوّل، إذا أراد الله، إلى دابّة جامحة فيها الزلازل والبراكين، كما يمكن أن ينزل الله الصواعق والعواصف الجامحة التي تعصف بالإنسان، وتدمّره: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ [الرعد: 13] .
[الآية 18] : ولقد كذّب الكفّار السابقون رسلهم، فعاقبهم الله أشدّ العقاب: لقد غرق قوم نوح، وأهلكت ثمود بصاعقة، وأهلكت عاد بريح عاتية، وأهلك فرعون وقومه بالغرق في بحر القلزم (البحر الأحمر) .
إنّ الإنسان قويّ بالقدر الذي وهبه الله من القوة، ولكنّ هذا الكون الهائل زمامه في يد خالقه، ونواميسه من صنعه، وما يصيب الإنسان منها مقدّر مرسوم: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) [القمر] .
[الآية 19] : فليتأمل الإنسان أسراب الطير ترتفع وتنخفض، وتبسط أجنحتها(10/74)
وتقبضها، في حركة ممتعة تدعو الى التأمّل والتدبّر، فقدرة الله ممسكة بهذا الطائر، في قبضه وبسطه، والله سبحانه ييسّر له أمره، ويهيّئ وينسّق ويعطي القدرة، ويرعى كلّ شيء في كلّ لحظة، رعاية الخبير البصير.
[الآية 20] : من هذا الذي يحميكم من بطش الله وغضبه؟ من هذا الذي يدفع عنكم بأس الرحمن إلّا الرحمن؟
إنّ الكافر في غرور، يظنّ أنه آمن بعيد عن بطش الله به، وما هو ببعيد.
[الآية 21] : من يرزق البشر إن أمسك الله الماء؟ أو أمسك الهواء، أو أمسك الحياة عنهم؟ إنّ بعض النفوس تعرض عن الله في طغيان وتبجّح ونفور، مع أنها تعيش عالة على الله في حياتها ورزقها.
[الآية 22] : ترسم الآية مشهد جماعة يمشون على وجوههم لا هدف لهم ولا طريق، ومشهد جماعة أخرى تسير مرتفعة الهامات، مستقيمة الخطوات في طريق مستقيم لهدف مرسوم. ثم تستفهم أيّهما أهدى؟
[الآية 23] : لقد خلق الله الناس، وجعل لهم السمع ليسمعوا، والأبصار ليبصروا، والأفئدة ليتفكّروا في جليل قدرة الله ولكنّ الإنسان قلّما يفكّر في شكر نعمة الله عليه، وامتثال أمره واجتناب نواهيه، والاعتراف له بالفضل والمنّة.
«ويذكر العلم أنّ حاسة السمع تبدأ بالأذن الخارجية، والصوت ينتقل منها إلى طبلة الأذن، ثم ينتقل إلى التّيه داخل الأذن والتيه يشتمل على أربعة آلاف قوس صغيرة، متّصلة بعصب السمع في الرأس. وفي الأذن مائة ألف خليّة سمعية، وتنتهي الأعصاب بأهداب دقيقة، دقة وعظمة تحيّر الألباب.
«ومركز حاسّة الإبصار العين، التي تحتوي على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء، وهي أطراف أعصاب الإبصار، وتتكوّن العين من الصلبة والقرنية والمشيمة والشبكية، وذلك بخلاف العدد الهائل من الأعصاب والأوعية» «1» .
فأمّا الأفئدة، فهي هذه الخاصّيّة التي صار بها الإنسان إنسانا، وهي قوّة
__________
(1) . الله والعلم الحديث، للأستاذ عبد الرزاق نوفل، ص 57.(10/75)
الإدراك والتمييز، والمعرفة التي استخلف بها الإنسان في هذا الملك العريض.
[الآية 24] : إنّ ربكم هو الذي برأكم في الأرض، وبعثكم في أرجائها على اختلاف ألسنتكم وألوانكم، وأشكالكم وصوركم، وكما بدأكم يعيدكم، وإليه تحشرون وترجعون.
[الآية 25] : ويسألون سؤال الشاك المستريب، عن يوم الجزاء والحساب.
[الآية 26] : قل علم هذا اليوم عند الله، وما عليّ إلّا البلاغ والبيان أما العلم فعند صاحب العلم، والواحد بلا شريك.
[الآية 27] : ولو أذن الله لرأى البشر يوم الحساب واقعا لا محالة، وعند هذه المفاجأة ورؤية الحساب والجزاء، سيظهر الحزن والاستياء عليهم، وتؤنّبهم الملائكة، وتقول لهم: هذا هو اليوم الذي كنتم تستعجلون وقوعه والآية جرت على طريقة القرآن في عرض ما سيكون حاضرا مشاهدا، بمفاجأة شعورية تصويرية، توقف المكذّب والشاكّ وجها لوجه مع مشهد حاضر، لما يكذّب به أو يشكّ فيه.
[الآية 28] : روي أن كفّار مكّة كانوا يتربّصون بالنبيّ (ص) أن يهلك فيستريحوا منه ومن دعوته، فقال لهم القرآن: سواء أهلك النبيّ (ص) حسب أمانيّهم، أو رحمه الله ومن معه، فلن يغيّر ذلك من وضعهم، لأنّ عذابا أليما ينتظرهم، ولن تجيرهم الأصنام، ولن يجيرهم من الرحمن إلّا الإيمان.
[الآية 29] : إنّ المؤمنين في قربى مع الرحمن، فهم يؤمنون به ويتوكّلون عليه، وهم موصولون بالله منتسبون إليه، وسيتبيّن للكافرين من الضّالّ ومن المهتدي، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والاخرة.
[الآية 30] : أخبروني إن ذهب ماؤكم في الأرض، ولم تصل إليه الدّلاء، من يأتيكم بماء جار نابع فائض متدفق، تشربونه عذبا زلالا.
وهكذا تختم السورة بهذه اللمسة القريبة من القلب، تذكرة بفضل الله الذي أجرى المياه، ولو شاء لحرم الإنسان مصدر الحياة، ولا ينقذ الإنسان من الله إلّا الله قال تعالى:
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات: 50] .(10/76)
المعنى الإجمالي للسورة
قال الفيروزآبادي: معظم مقصود السورة:
بيان استحقاق الله تعالى الملك، وخلق الحياة والموت للتجربة والاختبار، والنظر إلى السماوات للعبرة، واشتعال النجوم والكواكب للزينة، وما أعدّ للمنكرين من العذاب والعقوبة، وما وعد به المتّقون من الثواب والكرامة، وتأخير العذاب عن المستحقّين بالفضل والرّحمة، وحفظ الطيور في الهواء بكمال القدرة، واتّصال الرزق إلى الخليقة بالنّوال والمنّة، وبيان حال أهل الضّلالة والهداية، وتعجّل الكفّار بمجيء يوم القيامة، وتهديد المشركين بزوال النعمة، بقوله جلّ وعلا: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) .
أسماء السورة
لسورة «تبارك» في القرآن والسنن سبعة أسماء:
«سورة «الملك» لمفتتحها، «والمنجية» لأنّها تنجي قارئها من العذاب. و «المانعة» ، لأنها تمنع قارئها من عذاب القبر. «والدافعة» لأنها تدفع بلاء الدنيا وعذاب الاخرة عن قارئها.
و «الشافعة» لأنها تشفع في القيامة لقارئها، «والمجادلة» لأنها تجادل منكرا ونكيرا، فتناظرهما كي لا يؤذيا قارئها، والسابع: «المخلّصة» ، لأنها تخاصم زبانية جهنم، لئلا يكون لهم يد على قارئها» «1» .
وفي شأن السورة قال رسول الله (ص) «إن سورة من كتاب الله ما هي إلّا ثلاثون آية، شفعت لرجل فأخرجته من النار وأدخلته الجنّة، وهي سورة «تبارك» «2» .
__________
(1) . بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروزآبادي 1: 473.
(2) . رواه أبو داود والترمذي وحسّنه غيرهما، انظر الترغيب والترهيب.(10/77)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الملك» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الملك بعد سورة الطّور، ونزلت سورة الطور بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة الملك في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) .
وتبلغ آياتها ثلاثين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى، وقد جمع فيها بين دعوتهم بالدليل ودعوتهم بالترهيب والترغيب، فاتّصل سياقها بما ختمت به سورة التحريم من ترهيب المخالفين وترغيبهم وهذا هو وجه المناسبة بين السورتين.
الدعوة الى الإيمان بالله تعالى الآيات [1- 30]
قال الله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) فذكر أنّ الملك بيده وحده، وأنه على كل شيء قدير، وأنه خلق الموت والحياة ليبلونا: أيّنا أحسن عملا، وأنه خلق سبع سماوات طباقا لا تفاوت في خلقها ولا فطور، وأنه زيّن السماء الدنيا بمصابيح من الكواكب وجعلها رجوما بالغيب لشياطين الإنس، وأعدّ لهم خاصّة عذاب السعير، وأعدّ
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/79)
للكافرين عامّة عذاب جهنم وبئس المصير. وقد فصّل السياق من هولها ما فصّل ثمّ ذكر، سبحانه، أن الذين يخشونه لهم مغفرة وأجر كبير، ليجمع بهذا بين الترهيب والترغيب ثمّ هدّدهم بأنّه يعلم سرّهم وجهرهم، فيحاسبهم على كلّ أعمالهم واستدلّ على علمه بخلقه لهم، وأنه لطيف خبير وذكر، على سبيل التهديد أيضا، أنّه مهّد لهم الأرض وهيّأ لهم فيها أسباب الرزق، فإذا أصرّوا على كفرهم فإنهم لا يأمنون أن يخسفها بهم، أو يرسل حاصبا من الريح فيهلكهم ثمّ أكّد ذلك التخويف بالمثال والدليل، وذكر المثال في ما فعله بمن أصرّ على الكفر قبلهم، وذكر الدليل في إمساكه الطير فوقهم ثم ذكر أنه، إن أراد عذابهم، فإنه لا ينجيهم منه ما يملكون من قوّة وجند، وإن أمسك رزقه فإنه لا يرزقهم ما يتّخذون من آلهة ثم ذكر أنهم يعلمون ذلك ولكنهم يلجّون في عتوّ ونفور وأيد ما ذكره من وضوح أمرهم بتمثيل حالهم بمن يمشي مليّا على وجهه، وتمثيل حال المؤمنين بمن يمشي سويّا على صراط مستقيم، ثم عاد السياق إلى ذكر الدليل، فذكر أنه، جلّ شأنه، هو الذي أنشأهم وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وأنه هو الذي ذرأهم في الأرض وإليه يحشرون.
ثم ذكر أنهم يقولون على سبيل الاستهزاء متى هذا الوعد بالعذاب؟
وأمر النبي (ص) أن يجيبهم بأنّ علمه عنده، وليس عليه إلّا أن ينذرهم به، وبأنّهم حينما يرونه قريبا منهم تساء وجوههم، ويقال لهم توبيخا: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) أي تطلبون ثمّ أمره أن يخبرهم بأنه، إن مات هو ومن معه أو تأخّر أجلهم، فإنه لا بد من عذابهم، ولا أحد يجيرهم منه ثمّ ختم السورة بأمره أن يذكر لهم أنه آمن به هو ومن معه وتوكّلوا عليه وأنّهم سيعلمون من هو في ضلال مبين: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) .(10/80)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الملك» «1»
أقول: ظهر لي بعد الجهد: أنه، لمّا ذكر في آخر التحريم، امرأتي نوح ولوط الكافرتين، وامرأة فرعون المؤمنة، افتتحت هذه السورة بقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الآية 2] ، مرادا بهما الكفر والإيمان في أحد الأقوال، للإشارة إلى أن الجميع بخلقه وقدرته، ولهذا كفرت امرأتا نوح ولوط، ولم ينفعهما اتصالهما بهذين النبيّين الكريمين، وآمنت امرأة فرعون، ولم يضرّها اتصالها بهذا الجبّار العنيد، لما سبق في كلّ من القضاء والقدر.
ووجه آخر: وهو أن «تبارك» متصل بقوله في آخر الطلاق: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الآية 12] .
فزاد ذلك بسطا في هذه الآية: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) إلى قوله سبحانه: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ. [الآية 5] وإنّما فصلت بسورة التحريم لأنّها كالتتمة لسورة الطلاق.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.(10/81)
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الملك» «1»
1- قال تعالى: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الآية 8] .
والكلام على النار، فكأنها كالمغتاظة على أهلها لشدة غليانها بهم.
وقوله تعالى: تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ، أي: تتقطّع. ويقولون: فلان يتميّز غيظا ويتقصّف غضبا.
أقول: وأصل الميز التمييز بين الأشياء، ومزت الشيء أميزه: عزلته وفرزته.
وفي التنزيل: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 179] .
وامتاز القوم إذا تميّز بعضهم من بعض.
أقول: وقد كنت تكلمت على قوله تعالى: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) [يس] : أي تميّزوا وانفردوا عن المؤمنين.
كما تكلّمنا على الفعل في العربية المعاصرة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(10/83)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الملك» «1»
قال تعالى: طِباقاً [الآية 3] وواحدها «الطبق» .
وقال: خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) تقول: «خسأته» ف «خسأ» فهو خاسئ.
وقال تعالى: إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ [الآية 19] بالجمع لأنّ «الطير» جماعة مثل قولك «صاحب» و «صحب» و «شاهد» و «شهد» و «راكب» و «ركب» .
وقال تعالى: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) لأنهم كانوا يقولون، كما ورد في التنزيل: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: 16] وائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ [العنكبوت: 29] حينما رأوا العذاب.
وقال تعالى: ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) أي: غائرا، ولكنه وصف بالمصدر، ومنها قولنا: «ليلة غمّ» أي: ليلة «غامّة» .
وقال تعالى: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أي: إنكاري.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(10/85)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الملك» «1»
إن قيل: ما الحكمة في تقديم الموت على الحياة في قوله تعالى:
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الآية 2] .
قلنا: إنما قدّم سبحانه الموت لأنه هو المخلوق أوّلا. قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: أراد به خلق الموت في الدنيا، والحياة في الاخرة ولو سلّم أنّ المراد به الحياة في الدنيا، فالموت سابق عليها، لقوله تعالى:
وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة: 28] .
فإن قيل: لم قال تعالى: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الآية 3] ، مع أنّ في خلقه سبحانه تفاوتا عظيما، فإنّ الأضداد كلّها من خلقه عزّ وجلّ، وهي متفاوتة، والسماوات أيضا متفاوتة في الصغر والكبر والارتفاع والانخفاض، وغير ذلك؟
قلنا: المراد بالتفاوت هنا الخلل والعيب والنقصان في مخلوقه تعالى، ويؤيّده قوله تعالى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) أي: من شقوق وصدوع في السماء. فإن قيل: لم قال تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [الآية 16] والله سبحانه وتعالى ليس في السماء ولا في غير السماء، بل هو سبحانه منزّه عن كل مكان؟
قلنا: من ملكوته في السماء، لأنها مسكن ملائكته ومحل عرشه وكرسيّه واللوح المحفوظ، ومنها تنزّل أقضيته وكتبه وأوامره ونواهيه.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/87)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الملك» «1»
في قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) استعارة. وقد مضت لها نظائرها فيما تقدّم. والمراد بذكر اليد هاهنا استيلاء الملك وتدبير الأمر. يقال: هذه الدار في يد فلان أي في ملكه. وهذا الأمر في يد فلان أي هو المدبّر له.
فمعنى بِيَدِهِ الْمُلْكُ أي: هو مالك الملك، ومدبّر الأمر.
وقوله سبحانه: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) هو من الاستعارات المشهورة.
والمراد بها، والله أعلم، أي: كرّر أيّها الناظر بصرك إلى السماء مفكّرا في عجائبها، ومستنبطا غوامض تركيبها، يرجع إليك بصرك بعيدا ممّا طلبه، ذليلا بفوت ما قدّره.
والخاسئ في قول قوم: البعيد. من قولهم: خسأت الكلب. إذا أبعدته.
وفي قول قوم هو الذليل. يقال رجل خاس أي ذليل، وقد خسي أي خضع وذلّ. والحسير: البعير المعيى، الذي قد بلغ السير مجهوده، واعتصر عوده.
فتلخيص المعنى أنّ البصر يرجع بعد سروحه في طلب مراده، وإبعاده في غايات مرامه، كالّا، معيى، بعيدا من إدراك بغيته، خائبا من نيل طلبته.
وفي قوله سبحانه، في صفة نار جهنّم، نعوذ بالله منها: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ، استعارتان، إحداهما:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(10/89)
قوله تعالى: سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) والشهيق: الصوت الخارج من الجوف عند تضايق القلب من الحزن الشديد، والكمد الطويل، وهو صوت مكروه السماع. فكأنه سبحانه وصف النار بأنّ لها أصواتا مقطّعة تهول من سمعها، ويصعق من قرب منها.
والاستعارة الأخرى قوله سبحانه:
تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ من قولهم:
تغيّظت القدر: إذا اشتدّ غليانها، ثمّ صارت الصفة به مخصوصة بالإنسان المغضب. فكأنه سبحانه وصف النار، نعوذ بالله منها، بصفة المغيظ الغضبان، الذي من شأنه إذا بلغ ذلك الحدّ أن يبالغ في الانتقام، ويتجاوز الغايات في الإيقاع والإيلام.
وقد جرت عادتهم في صفة الإنسان الشديد الغيظ بأن يقولوا: يكاد فلان يتميّز غيظا، أي تكاد أعصابه المتلاحمة تتزايل، وأخلاطه المتجاورة تتنافى وتتباعد، من شدة اهتياج غيظه، واحتدام طبعه. فأجرى سبحانه هذه الصفة، التي هي أبلغ صفات الغضبان، على نار جهنّم لمّا وصفها بالغيظ، ليكون التمثيل في أقصى منازله، وأعلى مراتبه.
وفي قوله سبحانه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها [الآية 15] استعارة: لأنّ (الذّلول) من صفة الحيوان المركوب. يقال: بعير ذلول، وفرس ذلول: إذا أمكن من ظهره، وتصرّف على مراده راكبه.
وضدّ ذلك وصفهم للمركوب المانع ظهره، والممتنع على راكبه بالصّعب والمصعب.
والمعنى: أنه سبحانه جعل الأرض للناس كالمركوب الذلول، ممكنة من الاستقرار عليها، والتصرّف فيها، طائعة غير مانعة، ومذعنة غير مدافعة.
والمراد بقوله تعالى: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها، أي في ظهورها وأعاليها، وأعلى كلّ شيء منكب له.
وقال بعضهم: معنى ذلك أنه سبحانه، لمّا أصابنا في بعض الأحيان بالرّجفان والزلازل التي لا قرار معها على وجه الأرض، وخلق الجبال الخشن الملامس، الصعبة المسالك، لتكون للأرض ثقلا وللخلق معقلا، أعلمنا سبحانه أنه، لولا ما أنعم به علينا من تسكين الأرض وتوطئتها، ونفي الحزونة والوعوث عن أكثرها(10/90)
حتى أمكنت من التصرّف على ظهرها، لما كان عليها مثبت قدم، ولا مسرح نعم. وقد استقصينا الكلام على ذلك في كتابنا الكبير.
وفي قوله سبحانه: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) استعارة، المراد بها صفة من يخبط في الضلال، وينحرف عن طريق الرّشاد. لأنّهم يصفون من تلك حاله بأنّه ماش على وجهه. فيقولون:
فلان يمشي على وجهه، ويمضي على وجهه، إذا كان كذلك.
وإنّما شبّهوه بالماشي على وجهه، لأنّه لا ينتفع بمواقع بصره، إذ كان البصر في الوجه. وإذا كان الوجه مكبوبا على الأرض كان الإنسان كالأعمى الذي لا يسلك جددا، ولا يقصد سددا.
ومن الدليل على أن قوله تعالى:
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ هو من الكنايات عن عمى البصر، قوله تعالى في مقابل ذلك: أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا:
لأن السّويّ ضدّ المنقوص في خلقه، والمبتلى في بعض كرائم جسمه.(10/91)
سورة القلم 68(10/93)
المبحث الأول أهداف سورة «القلم» «1»
سورة القلم سورة مكّيّة، وآياتها 52 آية، نزلت بعد سورة العلق. وتشير الروايات الى أنها من أوائل السور نزولا. ونلمح، من سياق السورة، أنها نزلت بعد الجهر بالدعوة الإسلامية في مكّة، حيث تعرّض النبي الأمين للاتهام بالجنون، فنزلت السورة تنفي عنه هذه التهمة، وتصف مكارم أخلاقه، وتتهدّد المكذّبين وتتوعدهم، وتذكر قصة أصحاب الجنة الذين منعوا زكاة الثمار والفاكهة، فأهلك الله جنّتهم، وكذلك يهلك كلّ كافر معاند. وتوجهت السورة الى أهل مكة بهذا الاستفهام الإنكاري: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ؟ هل يستوي المستقيم والفاجر؟ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) ؟ هل تطلب منهم أجرا كبيرا على تبليغ الرسالة؟ إنهم يستطيعون أداءه ولذلك يتثاقلون عن اتّباعك. ثم تذكر السورة طرفا من قصة يونس (ع) من باب التسلية والاعتبار.
وتختم السورة ببيان حقد الكافرين وحسدهم، حتّى إن عيونهم ينبعث منها شرار الحسد والغيظ، ويتّهمون النبيّ (ص) بالجنون، وما يحمل إليهم إلّا الذكر والهداية للعالمين.
مع آيات السورة
[الآية الأولى] أقسم الله، سبحانه، بالقلم والدواة والكتابة، ليدل على عظيم شأنها في نشر الرسالات والدعوات والعلم والمعرفة، وكانت
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(10/95)
أول آية من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) [العلق] .
[الآيتان 2 و 3] نفى القرآن عن النبي (ص) الاتّهام الكاذب بالجنون، ثم أثبت أنّ له أجرا كاملا غير منقوص على تبليغ الرسالة.
[الآية 4] ومدحه الله، عزّ وجلّ، بحسن الخلق، فقال سبحانه وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) . لقد كان خلقه القرآن، وكان جامعا للصفات الكريمة، والقدوة الحسنة، فقد اتّصف بالفصاحة والشجاعة والكرم والحلم، والأدب والعفّة والنزاهة والأمانة، والصدق والرحمة والتسامح واللّين وحسن المعاملة.
وكان حسن الصورة، معتدل القوام، جيّاش العواطف، قويّا في دين الله، حريصا على تبليغ الرّسالة، قائدا ومعلما ومربّيا وموجها، أمينا على وحي السماء.
وكانت عظمة أخلاقه في أنّه تمثّل القرآن سلوكا وهديا وتطبيقا، فكان قرآنا متحرّكا، يجد فيه الصحابة القدوة العملية، والتطبيق الأمين للوحي، فيقتدون بخلقه وعمله وهديه وسلوكه.
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) [الأحزاب] .
[الآيتان 5 و 6] فسيكشف الغد عن حقيقة النبيّ وحقيقة مكذّبيه، ويثبت:
أيّهم الممتحن بما هو فيه، وأيّهم الضالّ في ما يدّعيه، وستبصر ويبصرون غلبة الإسلام، واستيلاءك عليهم بالقتل والأسر، وهيبتك في أعين الناس أجمعين، وصيرورتهم أذلّاء صاغرين.
[الآية 7] إنّ ربك هو الذي أوحى إليك، فهو يعلم أنك المهتدي والمكذّب بك ضالّ عن طريق الهدى وسيجازى كلّ إنسان بحسب ما يستحقّ.
[الآيتان 8 و 9] وقد ساوم الكفار النبيّ، وعرضوا عليه أن يعبدوا إلهه يوما، وأن يعبد آلهتهم يوما، فيصيب كلّ واحد بحظّه من إله الاخر، فنزل قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) [الكافرون] .
وفي كتب السيرة أنّ الكفّار حرّضوا أبا طالب على أن يكف عنهم محمّدا، وأن ينهاه عن عيب آلهتهم، فقال(10/96)
النبي (ص) لعمّه: والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه.
وقد نزل الوحي ينهاه عن طاعة المكذّبين، وينهاه عن قبول المساومة أو الحل الوسط، فإمّا إيمان أو لا إيمان: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) :
الإدهان هو اللين والمصانعة، أي ودّ المشركون لو تلين لهم في دينك بالركون إلى آلهتهم، وتتخلّى عن مهاجمتها، حتّى يتركوا خصامك وجدالك.
[الآيات 10- 13] نزلت هذه الآيات في الوليد بن المغيرة، وقيل في الأخنس بن شريق، وكلاهما كان ممّن خاصموا رسول الله (ص) ولجّوا في حربه. والآيات تصفه بتسع صفات كلّها ذميم:
1- فهو حلّاف، كثير الحلف.
2- مهين، لا يحترم نفسه ولا يحترم الناس قوله.
3- وهو همّاز، يهمز الناس ويعيبهم بالقول والإشارة.
4- وهو مشّاء بنميم، يمشي بين الناس بالنميمة والفتنة والفساد.
5- وهو منّاع للخير، بخيل ممسك وكان يمنع الناس من الإيمان، ويهدّد من يحسّ منه الاستعداد للإيمان.
6- وهو معتد، متجاوز للحقّ والعدل ثم هو معتد على النبيّ (ص) وعلى المسلمين.
7- وهو أثيم، كثير الآثام، لا يبالي بما ارتكب ولا بما اجترح.
8- عتلّ بعد ذلك، جامع للصفات المذمومة، وهو فظّ غليظ جاف.
9- زنيم، أي لصيق في قومه متّهم في نسبه، أو معروف بالشرور والآثام.
[الآيات 14- 16] تذكر هذه الآيات موقفه من دين الله، وجحوده بنعمة الله عليه فلأنّه صاحب مال وولد، إذا تلي عليه القرآن استهزأ بآياته، وسخر من الرسول (ص) وهذه وحدها تعدل كلّ ما مرّ من وصف ذميم، سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) ، أي سنجعل له سمة وعلامة على أنفه والمراد أنّا سنبيّن أمره بيانا واضحا حتّى لا يخفى على أحد، أو سنذلّه في الدنيا غاية الإذلال، ونجعله ممقوتا مذموما مشهورا بالشّرّ.(10/97)
[الآيات 17- 33] : هذه الآيات تتناول قصّة أصحاب الجنة، وهم قوم ورثوا عن أبيهم بستانا جميلا مثمرا يانعا، وكان أبوهم يخرج زكاة البستان، ويوزع مقدارا منه على الفقراء والمساكين، ولكنهم خالفوا أباهم ومنعوا حقّ الفقراء والمساكين، فعاقبهم الله بهلاك البستان، وكذلك يعاقب الكافرين يوم القيامة. وقد عرضتها الآيات عرضا رائعا يمثل خطوات القصة، وضعف تدبير الإنسان أمام تدبير الله الواحد الدّيّان، فلنسر مع الآيات.
[الآيتان 17- 18] : لقد استقرّ رأي أصحاب الجنّة أن يقطعوا ثمرها عند الصباح، دون أن يستثنوا منه شيئا للمساكين، وأقسموا على هذا، وعقدوا النيّة عليه.
[الآيتان 19 و 20] : فطرق تلك الجنة طارق من أمر الله ليلا، وهم نيام فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) أي كالبستان الذي صرمت ثماره أي قطعت، كأنّها مقطوعة الثمار، فقد ذهب الطائف الذي طاف عليها بثمرها كله.
[الآيات 21- 24] : فنادى بعضهم بعضا في الصباح، وانطلقوا يتحدّثون في خفوت، زيادة في إحكام التدبير، ويوصي بعضهم بعضا أن يحتجزوا الثمر كله، ويحرموا منه المساكين.
[الآية 25] : وغدوا مصمّمين على حرد «1» المساكين ومنعهم وحرمانهم، قادرين عند أنفسهم على المنع وحجب منفعتها عن المساكين.
[الآيتان 26 و 27] : فلمّا شاهدوا بستانهم ورأوه محترقا أنكروه، وشكّوا فيه وقالوا: أبستاننا هذا أم نحن ضالون طريقه ثمّ تيقّنوا أنّه بستانهم، وقد حاق بهم الحرمان والندم.
[الآيات 28 32] : وبعد أن حدث ما حدث، ألقى كلّ منهم تبعة ما وقع على غيره، وتشاحنوا، ثمّ تركوا التلاوم، واعترفوا بالخطيئة أمام العاقبة الرديئة، عسى أن يغفر الله لهم، ويعوّضهم من الجنّة الضائعة.
[الآية 33] : هكذا يكون عذاب من خالف أمر الله، وبخل بما آتاه، وأنعم به عليه، ومنع حقّ البائس الفقير وفي الاخرة عذاب أكبر من هذا العذاب،
__________
(1) . الحرد: المنع.(10/98)
لكلّ جاحد بنعمة الله، ولكلّ مكذّب بالدّين والإيمان.
فليعلم ذلك المشركون وأهل مكة، وليحذروا عاقبة كفرهم وعنادهم.
والقصة مسوقة لغاية معيّنة هي بيان عاقبة الجحود ومنع حقّ الله. إنّها عاقبة سيّئة في الدنيا وفي الاخرة وفي القصة تهديد للكافرين، وعظة للمؤمنين.
[الآية 34] : وفي مقابل ما أعدّ للكافرين، بيان بالنعيم الذي أعد للمتّقين.
[الآيات 35- 47] : وعند هاتين الخاتمتين يدخل القرآن معهم في جدل لا تعقيد فيه ولا تركيب، ويتحدّاهم، ويحرجهم بالسؤال تلو السؤال، عن أمور ليس لها إلّا جواب واحد تصعب فيه المغالطة ويهدّدهم في الاخرة بمشهد رهيب، وفي الدنيا بحرب من العزيز الجبّار القويّ الشديد.
[الآيات 48- 50] : توجّه الآيات النبي الكريم إلى الصبر على تكاليف الرسالة، والصبر على الأذى والتكذيب وتذكر له تجربة أخ له من قبل ضاق صدره بتكذيب قومه، وهو يونس (ع) .
قصة يونس
أرسل الله يونس بن متى (ع) الى أهل قرية نينوى بجوار مدينة الموصل بالعراق، فاستبطأ إيمانهم وشقّ عليه تلكّؤهم، وضاق صدره بتكذيبهم، فهجرهم مغاضبا لهم. وقاده الغضب الى شاطئ البحر، حيث ركب سفينة مع آخرين فلمّا كانوا في وسط اللجة ثقلت السفينة، وتعرّضت للغرق، فأقرعوا بين الركاب للتخفّف من واحد منهم، لتخفّ السفينة، فكانت القرعة على يونس: فألقوه في اليم، فابتلعه الحوت، عندئذ نادى يونس وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) مملوء غيظا، لوقوعه في كرب شديد، في ظلمات البحر، وفي بطن الحوت، وفي وسط اللجة، نادى ربه قائلا: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) [الأنبياء] ، فتداركته نعمة من ربّه، فنبذه الحوت على الشاطئ مريضا سقيما، ثمّ يسّر الله له الأمور، واصطفاه وأوحى إليه، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا به وجعله الله من الصّالحين، حيث ردّ إليه الوحي، وشفّعه في نفسه وقومه.
[الآيات 50- 52] : وفي ختام(10/99)
السورة نجد مشهدا للكافرين، وهم يتلقّون الدّعوة من الرسول الكريم، في غيظ عنيف، وحسد عميق، ينسكب في نظرات مسمومة قاتلة، يوجّهونها إليه. قال جار الله الزمخشري: قوله تعالى وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) ، يعني أنّهم، من شدّة تخوّفهم، ونظرهم إليك سرّا، بعيون العداوة والبغضاء، يكادون يزلّون قدمك، أو يهلكونك، من قولهم: نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني، أو يكاد يأكلني، أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله.
وعن الحسن: دواء الإصابة بالعين أن تقرأ هذه الآية. وقد كان الكفار يريدون إصابة النبي (ص) بعيونهم وحسدهم، فعصمه الله تعالى وأنزل عليه الآية.
وقد صح في الحديث من عدة طرق: «إنّ العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر» .
وروى الإمام أحمد عن أبي ذر مرفوعا: «إن العين لتولع بالرجل بإذن الله حتى يصعد حالقا «1» ثمّ يتردّى منه» .
وممّا يحفظ المؤمن من الحسد خمسة أشياء، هي:
1- قراءة قل أعوذ بربّ الفلق، وقل أعوذ بربّ النّاس.
2- إخراج صدقة.
3- أن نقول: (لا اله الا الله وحده لا شريك له) ثم نقرأ قوله تعالى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) عشر مرات بعد صلاة المغرب، وعشر مرات بعد صلاة الصبح.
4- قراءة قوله تعالى: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) .
5- وأهم شيء في الوقاية من الحسد: الثقة الكاملة والاعتقاد اليقيني بأن الله هو النّافع الضّارّ، وأنّ أحدا لن ينفعك إلّا بإذن الله، ولن يضرّك إلّا بمشيئة الله.
المعنى الإجمالي للسورة
بيان محاسن الأخلاق النبوية، وسوء
__________
(1) . الحالق: الجبل المرتفع.(10/100)
أخلاق بعض الكفّار، وعذاب مانعي الزكاة، وضرب المثل بقصة أصحاب الجنة، وتقريع المجرمين وتوبيخهم، وإقامة الحجّة عليهم، وتهديد المشركين المكذّبين بالقرآن.
وأمر الرسول (ص) بالصبر، والإشارة إلى حال يونس (ع) في قلّة الصبر.
وقصد الكفار رسول الله (ص) ليصيبوه بالعين في قوله تعالى: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) .
أسماء السورة: للسورة اسمان:
سورة ن، وسورة القلم والاسم الثاني أشهر من الأول.(10/101)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القلم» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة القلم بعد سورة العلق، وكانت سورة العلق أوّل ما نزل من القرآن، فيكون نزول سورة القلم فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) وتبلغ آياتها اثنتين وخمسين آية.
الغرض منها وترتيبها
لمّا نزل جبريل على النبي (ص) بغار حراء، رجع إلى خديجة متغيّر الوجه، فقالت له: ما لك؟ فذكر لها نزول جبريل عليه، فذهبت به إلى ابن عمّها ورقة بن نوفل، وكان نصرانيا فسأل النبي (ص) عما حصل له فأخبره، فقال له: والله لئن بقيت على دعوتك لأنصرنّك نصرا عزيزا. ووقعت تلك الواقعة في ألسنة قريش فقالوا إنه لمجنون فنزلت هذه السورة لتثبيته، وإنذارهم بالعذاب على كفرهم، وبهذا تشارك السورة السابقة في غرض الإنذار، ويظهر وجه المناسبة في ذكرها بعدها.
تثبيت النبي (ص) الآيات [1- 52]
قال الله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) فأقسم، جلّ وعلا، بهذا
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعالي الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....](10/103)
على أنّ النبيّ (ص) غير مجنون كما يزعمون، وأن له أجرا غير ممنون، وأنه على خلق عظيم ثمّ ذكر له أنّه سيبصر ويبصرون من هو المجنون وأنه، سبحانه، هو الذي يعلم الضالّ والمهتدي. ونهاه أن يطيع منهم كل همّاز مشّاء بالنّميمة منّاع للخير، إلى غير هذا ممّا ذكره من صفاتهم ومنها أن أحدهم يعطيه الله المال والبنين فيقابل هذا بتكذيب آياته أنفة وحمية ثمّ ذكر أنه سيصيبه بما يذهب بأنفته وحميته سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) وأنه يختبرهم بأموالهم وبنيهم كما اختبر أصحاب الجنّة حين أقسموا ليجنونها في الصّباح، ولم يقولوا إن شاء الله، فأصابها بآفة أتت على أثمارها. وقد ذهبوا إليها في الصباح، وهم يتنادون ألّا يدخلنّها مساكين عليهم فلما رأوها اعترفوا بضلالهم، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) ، ثمّ ذكر، سبحانه، أنّ عذاب أولئك المشركين في الدنيا سيكون كعذاب أصحاب هذه الجنّة، ولهم عذاب في الاخرة أكبر من عذاب الدنيا وأنّ للمتّقين عنده جنات النعيم. وأنكر أن يسوي في هذا بين المسلمين والمجرمين، وأنكر عليهم أن يحكموا بأنّهم في هذا مثلهم وذكر أنّه لا علم عندهم ولا أيمان تثبت هذا الحكم وأنه إذا أمكن شركاءهم أن يضمنوا لهم هذا، فليأتوا بهم يوم يكشف عن ساق، ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون، وقد كانوا يدعون إليه وهم سالمون فيأبون.
ثم ختمت السورة بأمر الله تعالى النبي (ص) أن يتركه هو ومن يكذب بما أنزل عليه وذكر له أنه سيملي لهم ليأخذهم بعذابه. ثمّ أمره أن يصبر لحكمه ولا يضيق به كما ضاق يونس (ع) حينما التقمه الحوت، لأنّه لولا أنّه تداركه بنعمته لأخرجه من بطنه وهو مذموم، ولكنه اجتباه وجعله من الصالحين. ثمّ ذكر أن أولئك المشركين إنّما يحملهم أشدّ العداوة عند سماع القرآن على قولهم إنه لمجنون وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) .(10/104)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «القلم» «1»
أقول: لمّا ذكر سبحانه في آخر «تبارك» التهديد بتغوير الماء «2» ، استظهر عليه في هذه السورة بإذهاب ثمر أصحاب البستان في ليلة يطاف عليه فيها، وهم نائمون، فأصبحوا لم يجدوا له أثرا، حتّى ظنوا أنّهم ضلّوا الطريق «3» . وإذا كان هذا في الثمار وهي أجرام كثيفة، فالماء الذي هو لطيف رقيق أقرب إلى الإذهاب، ولهذا قال سبحانه: وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) . وقال هناك: إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً [الآية 30] ، إشارة إلى أنه يسري عليه، في ليلة، كما سرى على الثمرة، في ليلة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . ورد في قوله تعالى من سورة «الملك» : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) . وتغوير الماء:
جفافه.
(3) . جاء هذا في سورة القلم بقوله تعالى: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ [الآية 17] إلى إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) .(10/105)
المبحث الرابع مكنونات سورة «القلم» «1»
1- وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) .
قال السّدّي: نزلت في الأخنس بن شريق.
وقال مجاهد: في الأسود بن عبد يغوث. أخرجهما ابن أبي حاتم.
وقيل: في الوليد بن المغيرة. حكاه الكرماني.
2- أَصْحابَ الْجَنَّةِ [الآية 17] .
كانت بصروان قرية باليمن بينها وبين صنعاء ستة أميال. أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.
3- أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ [الآية 22] .
قال مجاهد: كان عنبا. أخرجه ابن أبي حاتم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(10/107)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «القلم» «1»
1- وقال تعالى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) .
العتلّ: الغليظ الجافي، وهو من:
عتله إذا قاده بعنف وغلظة.
والزّنيم: الدعيّ، قال حسان:
وأنت زنيم نيط في آل هاشم كما ... نيط خلف الراكب القدح الفرد
المقصود بالعتلّ والزنيم وبنعوت أخرى في الآيات السابقات، هو الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان موسرا، وكان له عشرة بنين، فكان يقول لهم:
من أسلم منعته رفدي.
أقول: ولا نعرف «العتلّ» في العربية المعاصرة، ولكننا نعرف الزنيم في اللغة السائرة، وهي من ألفاظ السّبّ والشتم لدى العامّة، والزنيم عندهم الفاسد الساقط المروءة، وقد يكون ابن زنى.
2- وقال تعالى: فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) .
وقوله تعالى: كَالصَّرِيمِ، أي:
كالمصروم، وقيل: الصريم الليل، أي: احترقت واسودّت. وقيل النهار، أي: يبست وذهبت خضرتها.
أقول: والصريم ضرب من النبات ذو شوك، يعرفه أهل الزرع في العراق.
3- وقال تعالى: فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) ، أي: يتسارّون فيما بينهم.
4- وقال تعالى: وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(10/109)
والحرد: المنع: وقرئ (على حرد) بفتحتين، أي: على غيظ وغضب.
5- وقال تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) .
أقول: في الآية إشارة إلى مثل يضرب في شدّة الأمر، وصعوبة الخطب، ويتمثّل في الكشف عن الساق والإبداء عن الخدام، (جمع خدمة وهي الخلخال) . وأصله في الروع والهزيمة، وتشمير المخدّرات عن سوقهن في الهرب وإبداء خدامهن، قال حاتم:
أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها ... وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا
والمراد بقوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ: يوم يشتدّ الأمر ويتفاقم.
6- وقال تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) .
واستدرجه إلى كذا إذا استنزله إليه درجة فدرجة، حتّى يورّطه فيه.
وقوله تعالى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) أي: من الجهة التي لا يشعرون منها أنّه استدراج، وهو الإنعام عليهم.
وقوله جلّ وعلا: وَأُمْلِي لَهُمْ أي:
أمهلهم.
7- وقال تعالى: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) .
المغرم: الغرامة، أي: لم تطلب منهم على الهداية والتعليم أجرا، فيثقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم، فيثبّطهم ذلك عن الإيمان.(10/110)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «القلم» «1»
قال تعالى: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) أي «أيّكم المفتون» .
وقال: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الآية 51] وهذه «إن» التي تكون للإيجاب، وهي في معنى الثقيلة، إلّا أنّها ليست بثقيلة، لأنك إذا قلت: «إن كان عبد الله لظريفا» فمعناه «إن عبد الله لظريف قبل اليوم» ف «إن» تدخل في هذا المعنى، وهي خفيفة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(10/111)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «القلم» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) أي ولا يقولون إن شاء الله، فسمّى الشرط استثناء؟
قلنا: إنّما سماه استثناء لأنه في معناه، فإنّ معنى قولك «لأخرجن إن شاء الله» ، و «لا أخرج إلّا أن يشاء الله» قول واحد. وقال عكرمة: المراد به حقيقة الاستثناء: أي أنهم لا يستثنون حقّ المساكين، والجمهور على الأول.
فإن قيل: لم سمّى أوسطهم الاستثناء تسبيحا، فقال كما ورد في التنزيل أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) ، أي لولا تستثنون؟
قلنا: إنّما سماه تسبيحا لاشتراكهما في معنى التعظيم، لأنّ الاستثناء تفويض إليه، وإقرار، بأنه لا يقدر أحد أن يفعل فعلا إلّا بمشيئته سبحانه والتسبيح تنزيه عن السوء. الثاني: أنه كان استثناؤهم قول «سبحان الله» .
الثالث: أن معناه لولا تنزّهون أنفسكم وأموالكم عن حق الفقراء.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ [الآية 43] ، ولا تكليف في الدار الاخرة؟
قلنا: لا يدعون إليه تكليفا وتعبّدا، ولكن توبيخا وتعنيفا على تركه في الدنيا.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ، وهم إنّما كانوا يدعون إلى الصلاة. فإن المراد بالآية دعاؤهم إلى الجماعات بأذان المؤذن حينما يقول: حيّ على الصلاة؟
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/113)
قلنا: عبّر سبحانه عن الصلاة بالسجود لأنه من أركانها، بل هو أعظم الأركان وغايتها، كما عبّر عنها بالركوع وبالقرآن.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَهُمْ سالِمُونَ (43) ، أي صحيحون، مع أنّ الصحة ليست شرطا لوجوب الصلاة؟
قلنا: وجوب الخروج إلى الصلاة بالجماعة مشروط بالصحة، وهو المراد.(10/114)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «القلم» «1»
في قوله سبحانه: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) استعارة. والمراد بها الكناية عن هول الأمر وشدّته، وعظم الخطب وفظاعته: لأنّ من عادة الناس أن يشمّروا عن سوقهم عند الأمور الصّعبة، التي يحتاج فيها إلى المعاركة، ويفزع عندها إلى الدّفاع والممانعة. فيكون تشمير الذيول عند ذلك أمكن للقراع، وأصدق للمصاع.
وقد جاء في أشعارهم ذكر ذلك في غير موضع. قال قيس «2» بن زهير بن جذيمة العبسي:
فإن شمّرت لك عن ساقها فويها ربيع فلا تسأم «3» وقال الاخر «4» :
قد شمّرت عن ساقها فشدّوا وجدّت الحرب بكم فجدّوا وفي قوله سبحانه:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . قيس بن زهير هو صاحب الفرسين: داحس والغبراء بسببهما قامت الحرب بين عبس وذبيان ودامت أربعين سنة.
وتجد أخباره في «اللسان» و «أيام العرب» و «الشعر والشعراء» و «شعراء النصرانية» وغيرها.
(3) . هكذا بالأصل. وفي «شعراء النصرانية» ص 927 يروى هكذا:
فإن شمرت لك عن ساقها ... فويها ربيع ولم يسأموا
(4) . هو رويشد بن رميض العنبري المعروف بشريح بن ضبيعة، كما في هامش «العقد الفريد» ج 4 ص 120 طبع لجنة التأليف والترجمة. وفي «شرح ديوان الحماسة» للمرزوقي، بتحقيق أحمد أمين وعبد السلام هارون أن اسمه رشيد بن رميض، لا رويشد. ويرجّح الأستاذ هارون أنه العنزي، لا العنبري، نسبة إلى بني عنزة، ص 354.(10/115)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) استعارة. ولها نظائر في القرآن.
منها قوله تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) [المزّمّل] وقوله سبحانه: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) [المدّثّر] . ومعنى ذلك أن الكلام خرج على مذهب للعرب معروف، وغرض مقصود. يقول قائلهم لمخاطبه إذا أراد تغليظ الوعيد لغيره: ذرني وفلانا فستعلم ما أنزله به. فالمراد إذن بهذا الخطاب النبي (ص) . فكأنه تعالى قال له: ذر عقابي وهؤلاء المكذّبين. أي اترك مسألتي في التخفيف عنهم، والإبقاء عليهم. لأنّ الله سبحانه لا يجوز عليه المنع، فيصحّ معنى قوله تعالى لنبيّه (ص) : ذرني وكذا، لأنه المالك لا ينازع، والقادر لا يدافع.
وفي قوله تعالى: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) استعارة. والمراد بالإزلاق هاهنا: إزلال القدم حتّى لا يستقر على الأرض. وذلك خارج على طريقة للعرب معروفة. يقول القائل منهم: نظر إليّ فلان نظرا يكاد يصرعني به. وذلك لا يكون إلا نظر المقت والإبغاض، وعند النزاع والخصام. وقال الشاعر:
يتقارضون إذا التقوا في موقف نظرا يزيل مواقف الأقدام وقد أنكر بعض العلماء أن يكون المراد بقوله تعالى: لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ [الآية 51] الإصابة بالعين، لأنّ هذا من نظر السخط والعداوة، وذلك من نظر الاستحسان والمحبّة.(10/116)
سورة الحاقّة 69(10/117)
المبحث الأول أهداف سورة «الحاقّة» «1»
سورة الحاقّة سورة مكّيّة، آياتها 52 آية، نزلت بعد سورة الملك.
هي نموذج للسورة المكّيّة، التي تستولي على القلوب، بأهوالها ومشاهدها، وأفكارها المتتابعة، وفواصلها القصيرة.
في بداية السّورة نلحظ هذه الرهبة من اسمها، الحاقّة، لأنّ وقوعها حقّ يقينيّ ثمّ تصف مصارع المكذبين، من ثمود الى عاد الى فرعون ثمّ تنتقل الى مشاهد القيامة وأهوالها وصورها، وتنوّع الناس إلى فريقين، فريق يأخذ كتابه باليمين، وفريق يأخذ كتابه بالشّمال ويلقى كل فريق ما يستحق.
وفي المقطع الأخير من السورة، تؤكّد الآيات صدق رسول الله، وتنفي عنه تهم المشركين، وتثبت أنّ القرآن حقّ يقين، من عند رب العالمين.
مع آيات السورة
[الآيات 1- 3] : الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) .
القيامة ومشاهدها وأحداثها تشغل معظم هذه السورة، ومن ثمّ تبدأ السورة باسم من أسماء القيامة:
(الحاقّة) : أي الساعة الواجبة الوقوع، الثابتة المجيء، وهي آتية لا ريب فيها، من «حقّ يحق» ، بالكسر، أي «وجب» .
وهذا المطلع يوحي بقدرة القدير، وضعف الإنسان فهو لن يترك سدى، بل أمامه يوم كلّه حقّ وعدل.
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(10/119)
والألفاظ في السورة توحي بهذا المعنى وتؤكده:
الْحَاقَّةُ ثم يتبعها باستفهام حافل بالاستهوال والاستعظام مَا الْحَاقَّةُ ما هي؟ أيّ شيء هي؟ أي حقّها أن يستفهم عنها لعظمها، وهذا أسلوب من الكلام يفيد التفخيم والمبالغة في الغرض الذي يساق له.
وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) أيّ شيء أعلمك ما هي، فهي خارجة عن دائرة علم المخلوقات، لعظم شأنها، ومدى هولها وشدّتها ثم يسكت الأسلوب فلا يجيب عن هذا السؤال لتذهب النفس في هوله وشدته كل مذهب.
ومن أسماء القيامة الحاقة، والقارعة لأنّها تقرع القلوب بأهوالها.
[الآيتان 4- 5] : تصف ما أصاب ثمود من العذاب وثمود كانت تسكن الحجر في شمالي الحجاز، بين الحجاز والشام، وقد كذبوا نبيّهم، فأرسل الله عليهم صيحة أهلكتهم وسمّيت الصيحة هنا طاغية، لأنّها جاوزت الحدّ في الشّدّة وسمّيت، في سور أخرى، بالصاعقة وبالرجفة والزّلزلة وهي صفات للصيحة تبيّن أثرها فيمن نزلت بهم.
[الآيات 6- 8] : تصف قصّة هلاك عاد، وقد كذبوا رسولهم، فأرسل الله عليهم ريحا باردة عاتية، استمرّت سبع ليال وثمانية أيام، حُسُوماً متتابعة، حتى هلك القوم أجمعون وقد كانوا يسكنون بالأحقاف، في جنوب الجزيرة بين اليمن وحضرموت، وكانوا أشدّاء بطّاشين جبّارين وكان الجزاء من جنس العمل.
[الآيتان 9- 10] : تصفان مجيء فرعون ومن تقدّمه من الأمم التي كفرت بآيات الله، كقوم نوح وعاد وثمود، والقرى التي ائتفكت بأهلها، أي انقلبت بهم، وهي قرى قوم لوط.
فقد عصى هؤلاء رسل الله، الذين أرسلوا إليهم، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
[الآيتان 11- 12] : ترسمان مشهد الطوفان والسفينة الجارية، وتشيران بهذا المشهد إلى مصرع قوم نوح حينما كذّبوا، وتمتنّان على البشر بنجاة أصولهم التي انبثقوا منها. والمشهور أن الناس كلهم من سلائل نوح وذريته.
[الآيات 13- 18] : تصف أهوال القيامة وأحداثها، فإسرافيل ينفخ في الصور، وتسوّى الأرض والجبال،(10/120)
وتدكّ كالكرة فيستوي عاليها بأسفلها عندئذ نزلت النازلة، وجاءت القيامة.
وقد انفرط عقد الكون المنظور، واختلّت روابطه وضوابطه التي تمسك به، فترى السماء مشقّقة واهية مسترخية، ساقطة القوة بعد ما كانت محكمة. والسماء مسكن الملائكة، فإذا انشقت تعلّق الملائكة بجوانبها وأطرافها، والعرش فوقهم يحمله ثمانية: ثمانية أملاك، أو ثمانية صفوف منهم، أو ثمانية أصناف، أو طبقات من طبقاتهم، أو ثمانية مما يعلم الله، ولا ندري نحن من هم ولا ما هم.
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فالكلّ مكشوف، مكشوف الجسد، مكشوف النفس، مكشوف الضمير، مكشوف المصير.
ألا إنه لأمر عصيب، وقوف الإنسان عريان الجسد، عريان النفس، عريان المشاعر، عريان التاريخ، عريان العمل، ما ظهر منه وما استتر، أمام تلك الحشود الهائلة من خلق الله من الإنس والجن والملائكة، وتحت جلال الله وعرشه المرفوع فوق الجميع.
[الآيات 19- 24] : تصف مشهد المؤمن الناجي، وهو ينطلق في فرحة غامرة بين الجموع الحاشدة، وتملأ الفرحة جوانحه فيهتف: اقرءوا كتابي فأنا من الناجين، لقد أيقنت بالجزاء والحساب. فيعيش حياة ناعمة، في جنّة عالية، ثمارها قريبة التناول، ويقول لهم ربّهم جل ثناؤه: كلوا وتمتّعوا جزاء عملكم السابق، وطاعتكم لربكم.
[الآيات 25- 29] : تصف حسرة المشرك، وبؤسه ويأسه، فهو يتمنّى أنّه لم يأت للموقف، ولم يؤت كتابه، ولم يدر ما حسابه، كما يتمنّى أن لو كانت هذه القارعة هي القاضية، التي تنهي وجوده أصلا، فلا يعود بعدها شيئا.
ثمّ يتحسّر أن لا شيء نافعه مما كان يعتز به أو يجمعه، فلا المال أغنى أو نفع، ولا السلطان بقي أو دفع، والرّنّة الحزينة الحسيرة المديدة في طرف الفاصلة الساكنة، وفي ياء العلة بعد المد بالألف، في تحزّن وتحسّر، تشعر بالحسرة والأسى والحزن العميق.
[في الآيات 30- 32] : يقال لملائكة العذاب خذوه إلى جهنّم، فيبتدره سبعون ألف ملك، كلّهم يبادر إلى جعل الغلّ في عنقه، ويتقدّم(10/121)
ليصطلي نار الجحيم ويشوى بها، ويدخل في سلسلة طولها سبعون ذراعا تلفّ على جميع جسمه وذراع واحد من سلاسل النار تكفيه، ولكن الآية تكشف عن شدة العذاب وهوله، حفظنا الله من عذاب النار.
[الآيتان 33- 34] : تذكّران أسباب العذاب والسعير، فقد خلا قلب هذا الكافر من الإيمان بالله، كما خلا قلبه من الرحمة بالعباد، ومن العطف على المساكين، ومن الحثّ على إطعامهم والبرّ بهم.
[الآيات 35- 37] : تخبرنا أنّ الكافر لا يجد له صديقا ولا حميما يؤنسه، ولا يأكل الا غسالة أهل جهنم من القيح والصديد، وهو طعام لا يأكله إلّا المذنبون، المتصفون بالخطيئة، فليتّق الله كلّ غنيّ في ماله، وليعلم أنّ للمساكين والأرامل والشيوخ والأطفال حقا في هذا المال، وسيترك المال لورثته ويسأل هو عن زكاته.
[الآيات 38- 43] : تبيّن لنا أنّ الوجود أضخم بكثير ممّا يرى البشر، والكون مملوء بعقول فعّالة غير عقولنا.
«إنّ الإنسان قد يكون جهازا، ولكن من الذي يدير هذا الجهاز؟ لأنه بدون أن يدار لا فائدة منه، والعلم لا يعلل من يتولى إدارته، وكذلك لا يزعم أنه مادي. لقد بلغنا من التقدم درجة تكفي لأن نوقن بأن الله سبحانه قد منح الإنسان قبسا من نوره» «1» .
والآيات تقسم بما تشاهدون من المخلوقات وبما غاب عنكم. وقال عطاء: ما تبصرون من آثار القدرة، وما لا تبصرون من أسرار القدرة.
إن القرآن كلام الله ومنهج الله وشريعة الله، وليس قول شاعر ولا قول كاهن انّما هو قول رسول أرسل به من عند الله، فحمله الى عباد الله بأمانة وإخلاص في تبليغ الرسالة.
في [الآيات 44- 46] : أن قدرة الله قدرة بالغة، ولو تقوّل محمّد بعض الأقاويل، لعاجلناه بالعقوبة، وأزهقنا روحه، فكان كمن قطع وتينه. وهذا تصوير للهلاك بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه، إذ يأخذه السيّاف بيمينه، ويكفحه بالسيف ويضرب عنقه.
__________
(1) . أ. كريسى موريسون. رئيس أكاديمية العلوم في نيويورك. في كتابه المترجم. بعنوان «العلم يدعو الى الايمان» .(10/122)
[في الآية 47] : أنّ أحدا لا يمنعنا من عقوبة محمد، والتنكيل به إذا افترى علينا.
[الآيات 48- 52] : تخبرنا أنّ القرآن يذكّر القلوب التّقيّة فتتذكّر أنّ الحقيقة، التي جاء بها، كامنة فيها فهو يثيرها ويذكّرها فتتذكّر أما المطموسة قلوبهم فهم يكذّبون بهذا القرآن، والقرآن حجة على الكافرين في الدنيا، وحسرة عليهم إذا رأوا عذاب الاخرة.
وهذا القرآن عميق في الحقّ، عميق في اليقين، تنزيل من ربّ العالمين، فعلينا أن نعظّم الله، وأن ننزّهه ونجلّه، ونعترف له بالقدرة والعظمة فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) .
المعنى الإجمالي للسورة
الخبر عن صعوبة القيامة، وهلاك الأمم المكذّبة لرسلها، وذكر نفخة الصور، وانشقاق السماوات، وحال السّعداء والأشقياء في وقت قراءة الكتاب، وذلّ الكفار مقهورين في أيدي الزبانية، وإثبات أن القرآن العظيم وحي من عند الله سبحانه، وليس بقول شاعر ولا كافر، والأمر بتسبيح الركوع «1» في قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) .
__________
(1) . أنظر بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز. للفيروزآبادي. [.....](10/123)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحاقّة» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الحاقّة بعد سورة الملك، ونزلت سورة الملك بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة الحاقة في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) وتبلغ آياتها اثنتين وخمسين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إثبات يوم القيامة، وبيان ما فيه من ثواب وعقاب. وبهذا يكون سياقها في سياق الإنذار الذي جاء في السورة السابقة، وهذا هو وجه المناسبة بين السورتين.
إثبات يوم القيامة الآيات [1- 52]
قال الله تعالى: الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) والحاقّة الساعة الثابتة التي لا ريب فيها. وقد ذكر، سبحانه، أن ثمود وعادا كذّبا بها فأهلكا بما أهلكا به، وأنّ فرعون ومن قبله والمؤتفكات (قوم لوط) كذّبوا بها فأخذوا أخذة رابية وأنه، جلّ وعلا، نجّى من آمن بها من قوم نوح حينما طغى الماء، فحملهم في الجارية، وأغرق من كذّب بها، ليجعلها تذكرة لنا وتعيها آذاننا، فإذا جاء يومها بأهواله
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/125)
من النّفخ في الصّور وغيره، يعرض الناس على ربّهم: فأمّا من أوتي كتابه بيمينه، فينال ما ذكره من الثواب، وأمّا من أوتي كتابه بشماله، فينال ما ذكره من العقاب ثم أقسم عزّ وجلّ، بما يبصرون وما لا يبصرون من خلقه، أنّ ذلك قول رسول كريم، لا يشكّ في صدقه، وليس بقول شاعر ولا كاهن يغلب الكذب فيه. ثم ذكر سبحانه أنه لو تقوّله الرسول (ص) عليه لأخذ بيمينه وقطع عنقه، ولم يمكّن أحدا أن يحجزه عنه ثم ذكر تعالى أن القرآن تذكرة للمتّقين، وأنه يعلم تكذيبهم له فيعاقبهم به ويجعله حسرة عليهم، وأنّه لحقّ اليقين: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) .(10/126)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الحاقّة» «1»
أقول: لمّا وقع في سورة «ن» ، أي «القلم» ، ذكر يوم القيامة مجملا في قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [الآية 42] ، شرح ذلك في هذه السورة بناء على هذا اليوم، وشأنه العظيم «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . وذلك من أول السورة الى قوله: لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ (37) .(10/127)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الحاقّة» «1»
1- وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ [الآية 7] .
قال الرّبيع بن أنس: كان أوّلها الجمعة. أخرجه ابن أبي حاتم.
2- وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ [الآية 17] .
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: لم يسمّ من حملة العرش إلّا إسرافيل. قال: وميكائيل ليس من حملة العرش.
وأخرج عن أبي الزاهرية قال: أنبئت أنّ لبنان أحد حملة العرش الثمانية يوم القيامة.
وذكر يحيى بن سلّام، قال: بلغني أن روفيل من حملة العرش.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(10/129)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحاقّة» «1»
1- قال تعالى: وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها [الآية 17] .
أقول والأرجاء جمع رجا، وهو الجانب.
ولا نعرف من هذا إلا الجمع، أمّا المفرد فغير معروف في الاستعمال.
ونظير «الأرجاء» هذه «آناء» في قوله تعالى:
وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ [طه: 130] .
والإناء جمع إنى.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(10/131)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحاقّة» «1»
قال تعالى: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
(12) لأنك تقول: «وعت ذاك أذني» ، و «وعاه سمعي» ، و «أوعيت الزاد» ، و «أوعيت المتاع» كما قال الشاعر «2» [من البسيط، وهو الشاهد الحادي والسبعون بعد المائتين] :
الخير يبقي وإن طال الزّمان به «3» ... والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد
وقال تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) : فالفعل وقع على النفخة إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع.
وقال تعالى: وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها [الآية 17] وواحدها «الرّجا» وهو مقصور.
وقال تعالى: إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) جعل، والله أعلم، من «الغسل» وزيد الياء والنون، بمنزلة «عفرين» و «كفرين» .
وقال تعالى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) على المعنى، لأنّ معنى (أحد) معنى جماعة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . هو عبيد بن الأبرص. ديوانه. 49 واللسان «وعي» .
(3) . من الديوان واللسان والصحاح «وعي» .(10/133)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحاقّة» «1»
قيل: لم قال تعالى: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ [الآية 6] ، ولم يقل «صرصرة» ، كما قال تعالى: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) (عاتية) وهو صفة لمؤنث، لأنها الشديدة الصوت أو الشديدة البرد؟
قلنا: لأنّ الصرصر وصف مخصوص بالرّيح لا يوصف به غيرها، فأشبه باب حائض وطامث وحامل، بخلاف عاتية فإنّ غير الريح من الأسماء المؤنّثة يوصف به.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى [الآية 7] أي في تلك الليالي والأيّام، والنبي (ص) ما رآهم ولا يراهم فيها؟
قلنا: «فيها» ظرف، لقوله تعالى (صرعى) ، لا لقوله تعالى (فترى) ، والرؤية هنا من رؤية العلم والاعتبار، فصار المعنى فتعلمهم صرعى في تلك الليالي والأيام، بإعلامنا حتّى كأنّك تشاهدهم.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) إلى قوله سبحانه: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) والمراد بها هنا النفخة الأولى، وهي نفخة الصّعق، بدليل ما ذكر بعدها من فساد العالم العلويّ والسفليّ والعرض إنّما يكون بعد النفخة الثانية، وبين النفختين من الزمان ما شاء الله تعالى، فلم قال سبحانه:
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ [الآية 18] .
قلنا: وضع اليوم موضع الوقت
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/135)
الواسع الذي يقع فيه النفختان وما بعدهما.
فإن قيل: لم قال تعالى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) ؟
قلنا: معناه تيقّنت، والظّنّ يطلق بمعنى اليقين، كما في قوله تعالى:
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) [البقرة] .
فإن قيل: لم قال تعالى في وصف أهل النار: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) . وقال سبحانه في موضع آخر: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) [الغاشية] ، وفي موضع آخر إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) [الدخان] ، وفي موضع آخر: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) [الواقعة] ، وفي موضع آخر: أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة: 174] ؟
قلنا: معناه إلّا من غسلين وما أشبهه، أو وضع الغسلين موضع كل طعام مؤذ كريه. الثاني: أنّ العذاب ألوان والمعذّبون طبقات فمنهم أكلة الزّقّوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضّريع، لكل باب منهم جزء مقسوم.
فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) يعني أن القرآن قول جبريل (ع) ، مع أنه قول الله تعالى لا قول جبريل؟
قلنا: معناه عند الأكثرين أن المراد به النبي (ص) ، والمعنى أنه يقوله ويتكلم به، على وجه الرسالة من عند الله، لا من تلقاء نفسه، كما تزعمون.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) أخبر عن الفرد بالجمع؟
قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في آخر سورة البقرة.(10/136)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحاقّة» «1»
في قوله تعالى: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) استعارة.
والمراد بالصّرصر الباردة. وهو مأخوذ من الصّرّ. والعاتية: الشديدة الهبوب التي ترد بغير ترتيب، مشبّهة بالرجل العاتي، وهو المتمرّد الذي لا يبالي على ما أقدم، ولا في ما ولج ووقع.
وفي قوله سبحانه: فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) استعارة: المراد بالرّابية هاهنا: العالية القاهرة. من قولهم: ربا الشيء إذا زاد. والرّبا مأخوذ من هذا.
فكأنّ تلك الأخذة كانت قاهرة لهم، وغالبة عليهم.
وفي قوله سبحانه: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) استعارة.
والمراد بها قريب من المراد بالاستعارتين الأوليين، وهو تشبيه للماء في طموّ أمواجه، وارتفاع أثباجه «2» بحال الرجل الطاغي، الذي علا متجبرا وشمخ متكبرا.
وقال بعضهم: معنى طغى الماء أي كثر على خزّانه، فلم يضبطوا مقدار ما خرج منه كثرة، لأن للماء خزنة، وللرياح خزنة من الملائكة عليهم السلام، يخرجون منهما على قدر ما يراه الله سبحانه من مصالح العباد، ومنافع البلاد، على ما وردت به الآثار.
وفي قوله تعالى: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) ، استعارة. وكان الوجه أن
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . الأثباج: جمع مفردة ثبج، وهو وسط الشيء الرّابي.(10/137)
يقال في عيشة مرضيّة. ولكن المعنى خرج على مخرج قولهم: شعر شاعر، وليل ساهر. إذا شعر في ذلك الشعر وسهر في ذلك الليل، فكأنهما وصفا بما يكون فيهما، لا بما يكون منهما.
فبان أنّ تلك العيشة، لما كانت بحيث يرضي الإنسان فيها حاله جاز أن توصف هي بالرضا. فيقال راضية.
على المعنى الذي أشرنا إليه. وعلى ذلك قول أوس بن حجر: «2» جدلت على ليلة ساهرة بصحراء شرج إلى ناظره «3» وصف الليلة بصفة الساهر فيها، وظاهر الصفة أنها لها.
وقال بعضهم: إنّما قال تعالى:
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) لأنها في معنى ذات رضى، كما قيل: لابن وتامر. أي ذو لبن وتمر.
وكما قالوا لذي الدّرع: دارع، ولذي النّبل: نابل، ولصاحب الفرس: فارس. وإنما جاءوا به على النّسب، ولم يجيئوا به على الفعل. وعلى ذلك قول النابغة الذبياني «4» :
كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب أي: ذي نصب. قال فكأن العيشة أعطيت من النعيم حتّى رضيت، فحسن أن يقال: راضية، لأنّها بمنزلة الطالب للرضا، كما أنّ الشهوة بمنزلة الطالب المشتهى.
وفي قوله سبحانه: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) استعارة على أحد التأويلات، وهو أن يكون المراد باليمين هاهنا القوّة والقدرة. فيكون المعنى: أنه لو فعل ما نكره فعله لانتقمنا منه عن قدرة، وعاقبناه عن قوّة.
وقد يجوز أن تكون اليمين هاهنا
__________
(2) . هو أوس بن حجر بن مالك التميمي، كان شاعر تميم في الجاهلية، وعمّر طويلا، ولم يدرك الإسلام وفي شعره رقة وحكمة. وهو صاحب الأبيات المشهورة التي أولها:
أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا
(3) . البيت في «الأغاني» ج 11 ص. 72 وفي مخطوطتنا هذه «حدلت» بالحاء المهملة، وفي أصول «الأغاني» خذلت بالخاء والذال المعجمتين. وجدلت: صرعت. وشرج، وناظرة: اسما مكان بأرض بني أسد.
(4) . هو أشهر من أن نعرّف به هنا، وهو من شعراء الجاهلية المقدّمين، وأخباره مع النعمان بن المنذر واعتذاراته له معروفة متعالمة. [.....](10/138)
راجعة على النبي (ص) فيكون المعنى:
لو فعل ذلك لسلبناه قدرته، وانتزعنا منه قوّته. ويكون ذلك كقوله سبحانه:
تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] أي تنبت الدّهن على بعض التأويلات. وكقول الشاعر «5» :
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج أي نرجو الفرج.
__________
(5) . هو النابغة الجعدي، كما في «معجم ياقوت» و «تاج العروس» وقد نقل ذلك عنهما محقق «معجم ما استعجم» للبكري ص 1029، والبيت كاملا هو:
نحن بنو جعدة أرباب الفلج ... نضرب بالبيض ونرجو بالفرج
والفلج بفتحتين: اسم مكان لبني جعدة، من قيس، ببلاد نجد.(10/139)
سورة المعارج 70(10/141)
المبحث الأول أهداف سورة «المعارج» «1»
سورة المعارج سورة مكية، آياتها 44 آية، نزلت بعد سورة الحاقّة.
تبدأ السورة بمطلع متميّز، وهو سؤال طرحه أحد الكافرين عن يوم القيامة، سؤال تهكّم او استعجال لهذا اليوم.
وفي الإجابة عن هذا السؤال، وصفت السورة يوم القيامة وألوان الهوان النفسي والحسّي الذي يصيب الكافرين فيه، ثم وصفت هلع الإنسان وجزعه، واستثنت المؤمنين الموصولين بالله تعالى، فهم في يقين ثابت، وأدب كريم.
تنوع أساليب القرآن
سورة المعارج جولة من جولات المعركة الطويلة الشّاقّة، التي خاضها القرآن في داخل النفس البشرية، وخلال دروبها ومنحنياتها، ورواسبها وركامها، وهي أضخم وأشقّ من المعارك الحربية.
لقد سلك القرآن الكريم كل سبيل، ليصل الى نفوس المشركين ويقنع الجاحدين، ويثبّت المؤمنين وقد لوّن القرآن في طرق الهداية والدعوة، ومواجهة النفوس الجامحة.
«فتارة يواجهها بما يشبه الطوفان الغامر، من الدلائل الموحية والمؤثّرات الجارفة وتارة يواجهها بما يشبه السياط اللاذعة وتارة يواجهها بما يشبه المناجاة الحبيبة، والمسارّة الودود، التي تهفو لها المشاعر وتأنس
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(10/143)
بها القلوب وتارة يواجهها بالهول المرعب، والصرخة المفزعة، التي تفتح الأعين على الخطر الداهم القريب وتارة يواجهها بالحقيقة في بساطة ونصاعة وتارة يواجهها بالأمل والرجاء، الذي يهتف لها ويناجيها وتارة يتخيّل مساربها ودروبها ومنحنياتها، فيلقي عليها الأضواء الكاشفة.. ومئات اللمسات والمؤثّرات، يطلع عليها قارئ القرآن الكريم» «1» ، وهو يتابع تلك المعركة الطويلة، التي قادها القرآن على عادات الجاهلية وركامها حتى انتصر عليها.
وسورة المعارج لون من ألوان البيان القرآني، في تقرير حقيقة الاخرة، وما فيها من جزاء، وموازين هذا الجزاء، وإقرار هذه الحقيقة في النفوس. وتكاد تكون لونا من ألوان السياط اللاذعة، والأضواء الكاشفة، التي ساقها القرآن الكريم لتفتح عيون المشركين على ما هم فيه من ضلال، وما ينتظرهم من حساب وعقاب.
مع آيات السورة
[الآيات 1- 5] : يسأل المشركون «2» رسول الله (ص) سؤال استهزاء عن العذاب الذي يخوّفهم به ويجيب الله سبحانه، بأنه واقع لا شك في وقوعه، ولا يستطيع أحد دفعه وهذا العذاب من الله ذي الدرجات العلى. ويأمر الله تعالى نبيه (ص) بالصبر الجميل الهادئ.
[الآيات 6- 14] : كان الكفّار ينكرون حقيقة الاخرة، ويرونها بعيدة الوقوع، وقد لقيت منهم معارضة نفسية عميقة، وكانوا يتلقّونها ببالغ العجب والدهشة والاستغراب.
وقد بيّنت الآيات أن ذلك اليوم قريب الوقوع، وكل آت قريب، ثم رسمت مشاهد هذا اليوم، في مجال الكون وأغوار النفس، وهي مشاهد توحي بالهول الشديد، في الكون وفي النفس. وفي يوم القيامة تكون السماء (كالمهل) والمهل: ذوب المعادن الكدر، أي كدرديّ «3» الزيت. وتكون
__________
(1) . في ظلال القرآن 29: 96 بتصرف.
(2) . رواية عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن الذي سأل هو النضر بن الحارث، وفي رواية أخرى عنه قال: ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله وهو واقع بهم.
(3) . درديّ الزيت وغيره: ما يبقى في أسفله.(10/144)
الجبال (كالعهن) : أي كالصوف الواهن المنتفش. ويتمنّى الكافر في ذلك اليوم لو يفتدى من العذاب ببنيه، وزوجته وأخيه، وقبيلته وجميع من في الأرض. وهي صورة للهول الشديد الذي يصيب الكافر فيتمنّى النجاة ولو قدّم أعز الناس إليه. ومن كان يفتديهم بنفسه في الحياة.
[الآيات 15- 18] : تردع هذه الآيات هذا الكافر، عن تلك الأماني المستحيلة، في الافتداء بالبنين والعشيرة. وتبيّن للكافر أنّ ما أمامه هو النار، تتلظّى وتتحرّق، وتنزع الجلود عن الوجوه والرؤوس نزعا وهي غول مفزعة تنادي من أعرض عن الحق، وحرص على المال، وبخل به ليدخل فيها.
[الآيات 19- 21] : جبل الإنسان على الهلع فهو قليل الصبر، شديد الحرص، يجزع إذا نزل به الضرّ والألم، فلا يتصوّر أن هناك فرجا ومن ثم يأكله الجزع، ويمزّقه الهلع، كما يغلبه الحرص والبخل عند وجود المال والعافية.
[الآيات 22- 35] : تستثني هذه الآيات المصلّين، فإنّهم يحافظون على صلاتهم، فتمنحهم الصلاة الثبات والاستقرار، وتراهم صابرين في البأساء، شاكرين في النعماء، يخرجون زكاة أموالهم، ويتصدّقون على الفقراء، ويصدّقون بيوم الجزاء، ويخافون غضب الله وعقابه، ويتّسمون بالاستقامة والعفة، وحفظ الفروج عن الحرام، والتمتّع بالحلال من الزوجة وملك اليمين، وأداء الشهادة بالحق والعدل، والمحافظة على الصلاة في أوقاتها، وأداء سننها وآدابها وخشوعها تلك الصفات هي صفات هذا الفريق المؤمن، الذي يستحق الجنّة والتكريم، ويتمتّع بالنعيم الحسّي، والنعيم الروحي: أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) .
[الآيتان 36- 37] : تعرض هاتان الآيتان مشهدا من مشاهد الدعوة في مكة، والمشركون يسرعون الخطى، الى المكان الذي يكون فيه الرسول (ص) يتلو القرآن الكريم ثم يتفرّقون حواليه جماعات وفئات، لا ليسمعوا ويهتدوا، ولكن ليستطلعوا ثم يتفرقوا، يدبرون الكيد والردّ على ما سمعوا.
[الآية 38] : أيطمعون في دخول(10/145)
الجنة، وهم على هذه الحال من الإعراض والتكذيب؟.
[الآيات 39- 41] : لقد خلقوا من ماء مهين، وهم يعلمون أصل خلقتهم والله سبحانه قادر على أن يخلق خيرا منهم، وهم لا يسبقونه ولا يفوتونه، ولا يهربون من مصيرهم المحتوم.
ثم تتجه الآيتان 42 و 43 في الختام، الى وعيدهم وتهديدهم بيوم الجزاء، يوم يخرجون من القبور مسرعين، كأنّما هم ذاهبون الى نصب يعبدونه، وهم يُوفِضُونَ أي يسرعون.
وترسم الآية الأخيرة [الآية 44] سماتهم، وتلمح صورة ذليلة عانية، في ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون به، فيستريبون فيه ويشكّون.
مجمل ما تضمنته السورة
«بيان جزاء الكافر في استعجال العذاب، وطول القيامة وهولها، وشغل الخلائق في ذلك اليوم المهيب، وتصوير النفس البشرية في السرّاء والضرّاء، وبيان محافظة المؤمنين على خصال الخير، وطمع الكفار في غير مطمع، وذلّ الكافرين يوم القيامة» «4» في قوله تعالى: خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44) .
__________
(4) . بصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي 1: 480، بتصرف.(10/146)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المعارج» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة المعارج بعد سورة الحاقّة، ونزلت سورة الحاقّة بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة المعارج في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى: مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) وتبلغ آياتها أربعا وأربعين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة، بيان قرب العذاب الذي أنذر به الكافرون، وبهذا يكون سياقها في سياق الإنذار المذكور في السّور السابقة وهذا هو وجه ذكر هذه السورة بعدها.
بيان قرب العذاب الآيات [1- 44]
قال الله تعالى: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) ، فذكر سبحانه، أنهم يسألون تعجيل عذاب واقع بهم، توبيخا على سؤالهم ثم أمر النبي (ص) أن يصبر على استهزائهم بذلك السؤال، وذكر سبحانه أنهم يرون هذا العذاب بعيدا وأنه يراه قريبا، يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) ، إلى غير هذا مما ذكره من أحواله ثم ذكر أن الإنسان خلق هلوعا، فلا يقوى على ما أمره به من الصبر إلا قليل منهم، وهم
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/147)
المصلّون الذين هم على صلاتهم دائمون، إلى غير هذا ممّا ذكره من صفاتهم، وقد ختمها تعالى بقوله:
أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) . ثم وبّخ الكافرين على إقبالهم مسرعين نحو النبيّ (ص) يسألونه ذلك السؤال على سبيل الاستهزاء كأنّ كلّ واحد منهم، يطمع أن يدخل جنة نعيم، ولا يكون جزاؤه ذلك العذاب ثم ردعهم عن ذلك الطمع الكاذب، وذكر سبحانه أنه خلقهم من نطفة لا حياة فيها، فهو قادر على بعثهم وعذابهم، وعلى أن يبدّل خيرا منهم ثم أمر النبي (ص) أن يتركهم في لهوهم حتى يأتي ما يوعدون به، فيخرجوا من أجداثهم يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44) .(10/148)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المعارج» «1»
أقول: هذه السورة كالتتمّة لسورة الحاقّة، في بقية وصف يوم القيامة والنار «2» .
وقال ابن عباس: إنّها نزلت عقب سورة الحاقّة «3» وذلك أيضا من وجوه المناسبة في الوضع.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . وذلك من أول السورة الى قوله تعالى: وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) .
(3) . الإتقان: 1: 97.(10/149)
المبحث الرابع مكنونات سورة «المعارج» «1»
1- سَأَلَ سائِلٌ [الآية 1] .
قال ابن عباس: هو النّضر بن الحارث. أخرجه ابن أبي حاتم وقيل: هو محمد (ص) .
وقيل: نوح (ع) . حكاهما الكرماني.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.(10/151)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المعارج» «1»
1- وقال تعالى: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) .
قوله تعالى: مُهْطِعِينَ (36) ، أي:
مسرعين نحوك، مادّي أعناقهم إليك، مقبلين بأبصارهم عليك.
2- وقال تعالى: عِزِينَ (37) .
وقوله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) ، أي فرقا شتّى جمع عزة، وأصلها عزوة كأنّ كلّ فرقة، تعتزى إلى غير من تعتزي إليه الأخرى.
أقول: وهذا الجمع ممّا ألحق بجمع المذكر السالم، ولهذه الألفاظ الملحقة بهذا الجمع كالسنين والثبين والمئين وغيرها دلالة تاريخية، وهي أنّ هذا الجمع كان عامّا لا يتصل بالعلم المذكر العاقل ولا صفته.
3- وقال تعالى: كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ.
وقوله تعالى: يُوفِضُونَ (43) أي:
يسرعون إلى الداعي، مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصابهم.
أقول: والفعل «أوفض» من الأفعال التي نجهلها في العربية المعاصرة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(10/153)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المعارج» «1»
قال تعالى: كَلَّا إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) بالنصب على البدل من الهاء «2» وخبر «إن» (نزّاعة) «3» وان شئت جعلت (لظى) رفعا على خبر (إنّ) ورفعت (نزّاعة) على الابتداء.
وقال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) . ثم قال سبحانه: إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) فجعل (الإنسان) جميعا، ويدلّك على ذلك أنّ السّياق قد استثنى منه جميعا.
وقال تعالى: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) كما تقول «ما لك قائما» وواحدة «العزين» العزة. مثل «ثبة» و «ثبين» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . في السبعة 650 نسبت الى عاصم وزاد في الجامع 18: 334 إلى ابن أبي عبلة وأبي حياة والزعفراني وابن مقسم واليزيدي في اختياره. [.....]
(3) . في الطبري 29: 75 أنها إجماع قرّاء الأمصار وفي السبعة 651 إلى غير عاصم وإلى أبي بكر عن عاصم في رواية وفي الكشف 2: 335، والتيسير 214 إلى غير حفص وفي الجامع 18: 287 إلى أبي جعفر وشيبة ونافع وعاصم في رواية أبي بكر والأعمش وأبي عمرو وحمزة والكسائي وفي البحر الى 8: 334 الجمهور.(10/155)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المعارج» «1»
لم قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) ويفسّره ما بعده، والإنسان في حال خلقه ما كان موصوفا بهذه الصفات؟
قلنا: «هلوعا» حال مقدّرة. فالمعنى مقدرا فيه الهلع كما في قوله تعالى:
مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ [الفتح: 27] وهم ليسوا محلّقين حال الدخول.
فإن قيل: لم قال تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) ، ثم قال تعالى في موضع آخر من القرآن الكريم:
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) [المؤمنون] فهل بينهما فرق؟
قلنا: المراد بالدوام المواظبة والملازمة أبدا. وقيل: المراد به سكونهم فيها بحيث لا يلتفتون يمينا ولا شمالا واختاره الزجّاج وقال:
اشتقاقه من الدائم بمعنى الساكن، كما جاء في الحديث «أنه (ص) نهى عن البول في الماء الدائم» قلت: وقوله تعالى عَلى ينفي هذا المعنى فإنه لا يقال: هو على صلاته ساكن، بل يقال: هو في صلاته ساكن. والمراد بالمحافظة عليها أداؤها على أكمل وجوهها، جامعة لجملة سننها وآدابها، فالدوام يرجع إلى الصلاة نفسها والمحافظة على أحوالها.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/157)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المعارج» «1»
في قوله تعالى: كَلَّا إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) استعارة. والمراد بدعائها من أدبر وتولّى، والله أعلم، أنّه لما استحقها بإدباره عن الحق، صارت كأنها تدعوه إليها، وتسوقه نحوها. وعلى ذلك قول ذي الرمّة «2» في صفة الثور:
غدا بوهبين مجتازا لمرتعه بذي الفوارس تدعو أنفه الرّبب والرّبب جمع ربّة، وهي نبت من نبات الصيف.
يقول لما وجد رائحة الرّبب، مضى نحوها، فكأنها دعته إلى أكلها. وقد يجوز أيضا، أن يكون المراد بذلك أنّها لا يفوتها ذاهب، ولا يعجزها هارب.
فكأنها تدعو الهارب منها فيجيبها مدّا له بأسبابها، وردّا له إلى عذابها.
وقال بعض المفسّرين: إنّه تخرج عنق من النار فتتناول الكافر حتّى تقحمه فيها، فكأنها بذلك الفعل داعية إلى دخولها.
وقد يجوز أن يكون المراد أنّها تدعو من أدبر عن الحق. بمعنى أنّها تخوّفه، بفظاعة الخبر عنها، وتغليظ الوعيد بها، فكأنها تستعطفه الى الرشد، وتستصرفه عن الغيّ. وحكي عن المبرّد أنه قال: تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . هو أبو الحارث غيلان بن عاقبة. شاعر فحل اشتهر بالتشبيب وبكاء الأطلال، ذاهبا مذهب الجاهليين. توفي بأصبهان سنة 117 هـ.(10/159)
أي تعذّبه. وحكي عن الخليل: أنّ أعرابيا قال لآخر: دعاك الله. أي عذّبك الله. وقال ثعلب:
معنى دعاك الله. أي أماتك الله. فعلى هذا القول دخل الكلام في باب الحقيقة، ويخرج عن حيز الاستعارة.(10/160)
سورة نوح 71(10/161)
المبحث الأول أهداف سورة «نوح» «1»
سورة نوح سورة مكية، آياتها 28، نزلت بعد سورة النحل.
فكرة السورة
السورة قصة نبيّ من أولي العزم من الرسل، أرسله الله تعالى إلى قومه ليدعوهم إلى الإيمان، فقاوموا دعوته، وأنكروا رسالته، فلفت نوح (ع) نظرهم إلى التأمّل في خلق السماء والشمس والقمر، والأرض والنبات وسائر المخلوقات، ولكنّهم صمّوا آذانهم عن سماع الحق، وحجبوا عيونهم عن النظر في الأدلّة الواضحة والحجّة الدامغة، فاستحقّوا عقاب الله وأغرقوا بالطوفان في الدنيا، ولهم في الاخرة عذاب شديد.
أهداف الرسالات
السورة نموذج حيّ لمعاناة الرسل مع قومهم، وجهادهم في سبيل الدعوة، لقد مكث نوح (ع) مع قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما، وما آمن معه إلّا قليل ولقد كان عناد قومه سببا في هلاكهم. وكأن الله سبحانه أراد أن يحذّر أهل مكة من العناد، وأن يذكّرهم بمن أهلك من الكافرين قال تعالى:
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) [الإسراء] .
يعني لقد أهلك الله قوم نوح، وأهلك من بعده عددا كبيرا كعاد وثمود وفرعون وكان هلاكهم جزاء عادلا، وعقابا مناسبا، لقوم يعلم الله إصرارهم
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(10/163)
على الكفر، وبعدهم عن قبول الحق.
لقد صبر الرسل، وصابروا، من أجل إبلاغ الدعوة إلى قومهم، وحملوا كلمة الله ناصعة نقية واضحة سليمة، وعرضوها أمام العيون والقلوب لتبصر وترى آثار قدرة الله وعظيم خلقه، وليكون إيمانها عن بيّنة ويقين، ولئلا يحتجّ إنسان يوم القيامة بأن الرسالة لم تبلغه قال تعالى:
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:
165] .
ومن هؤلاء الرسل، خمسة كانوا أكثر معاناة مع قومهم، وهم سيدنا نوح، وسيدنا ابراهيم، وسيدنا موسى، وسيدنا عيسى، وسيدنا محمد عليهم الصلاة والسلام.
وقد كان جهادهم مع قومهم، آية في تحمّل البلاء والصبر على الإيذاء والعناد، قال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35] .
لقد صبر نوح (ع) دهرا طويلا على قومه، وألقي ابراهيم (ع) في النار، وأوذي موسى (ع) أبلغ الأذى فصبر، وحاول اليهود الإيقاع بالمسيح (ع) والإغراء بقتله فرفعه الله تعالى اليه، وكان خاتم الرسل محمد (ص) يتحمّل صنوف الأذى وألوان الاضطهاد في مكّة، ويتحمل نفاق المنافقين وكيد اليهود في المدينة. ولكنّ العاقبة كانت للمتقين. لقد أدّى الرسل واجبهم، وبلّغوا رسالتهم، ونجّاهم الله مع المؤمنين، ثم عاقب الجاحدين.
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) [الصافات] .
مع آيات السورة
[الآيات 1- 4] : أرسل الله نوحا (ع) ، ليدعو قومه إلى عبادة الله سبحانه وطاعته، وقد بلّغ نوح دعوة ربه إلى قومه، ولخّص دعوته في ثلاث كلمات: اعبدوا الله وحده واتقوه وآمنوا به عن يقين وأطيعوا رسولكم فيما يأمركم به، وينهاكم عنه.
وبهذا الإيمان تستحقّون مغفرة الله لكم، والبركة في أعماركم، ولا شكّ أنّ للطاعات مدخلا في راحة البال واستقرار العيش، وهدوء النفس، وهذا بلا ريب، يطيل هناءة العمر، ويجعله مباركا حافلا بالأعمال النافعة.(10/164)
[الآيات 5- 9] : تعبّر الآيات عن جهود نبيّ كريم، في دعوة قومه إلى الإيمان، فهو يؤدّي رسالته، وينهض بدعوة قومه ويناجي ربّه قائلا ما معناه:
لقد دعوت قومي إلى عبادتك والإيمان بك في الليل والنهار، وانتهزت كلّ فرصة مناسبة، لدعوتهم وإرشادهم ولكنّهم لم يستجيبوا لدعوة الله، وقابلوها بالجحود والعناد، وأغلقوا في وجه الدعوة قلوبهم، وسدّوا منافذ العلم إلى نفوسهم، فجعلوا أصابعهم في آذانهم، ليمنعوها من السمع، وغطّوا عيونهم بثيابهم ليمنعوها من الإبصار واستمروا في عنادهم وكفرهم.
وقد لوّن نوح (ع) في أساليب الدعوة، فدعاهم علنا في أماكن التجمّع فلم يستجيبوا، فدعا كل فرد على حدة، وحاول استمالة الأشخاص واقناعهم، فلم يلق قبولا.
[الآيات 10- 12] : وقد دعاهم إلى التوبة والإنابة، وطلب المغفرة من الله فإذا صدقوا في توبتهم غمرهم الله بالنعم، وأنزل عليهم المطر، ورزقهم الأموال والذّريّة، والبساتين النضرة والمياه الجارية.
[الآيات 13- 20] : لم لا تعظّمون الله وهو خالق الأوّلين والآخرين في أطوار وجودهم، وجميع ما في الكون يدلّ على الله؟ فالسماوات السبع المتطابقة بعضها فوق بعض، والشمس والقمر، وخلق الإنسان ونموّه كما ينمو النبات، ثم عودته إلى الأرض بعد الموت، والأرض الممهّدة، المهيّأة للانتفاع بما في باطنها من كنوز ومعادن، وما في ظاهرها من زراعة وصناعة وتجارة، هذه المخلوقات كلّها تدلّ على الإله الخالق.
[الآيات 21- 25] : في هذا المقطع نسمع آلام نبيّ كريم، قدم لقومه مختلف الحجج والبراهين، ولكنّ قومه قابلوا دعوته بالتكذيب والعصيان، واتّبعوا الخاسرين الهالكين، والزعماء المضللين، وبيّتوا أمرهم بالكيد لنوح ودعوته، وتواصوا بالبقاء على كفرهم ومألوفهم وعبادة أصنامهم، وخصّوا بالذكر الأصنام الخمس الكبار وهي:
ودّ، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، وهي أصنام كان قوم نوح يعبدونها، ثم عبدتها العرب. وهنا ضاق نوح بقومه، وضلالهم الكثير، فدعا الله أن يزيدهم ضلالا جزاء(10/165)
عنادهم: لقد ارتكبوا كثيرا من الأخطاء، ولذلك أغرقهم الله بالطوفان، ثم أدخلوا في عذاب القبر، وعذاب النار، ولم يجدوا أحدا ينصرهم وينقذهم من عذاب الله.
وهكذا يكون جزاء كلّ كافر معاند، أن يحلّ به بطش الله القويّ الغالب: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) [الفجر] .
[الآيتان 26- 27] : وفي آخر السورة زفرات نبي مكلوم مكث ألف سنة، ثم قوبل بالجحود، فسأل ربّه أن يهلك جميع الكافرين، وألّا يترك منهم أحدا، وليس ذلك حبّا في الانتقام، ولكن رغبة في نظافة الأرض منهم، لأنّ بقاءهم كفّارا، يخشى منه أن يفتنوا المؤمنين، ويضلّوهم بالرغبة أو الرهبة ولا يخرج من أصلاب هؤلاء الكافرين إلّا فاجر كافر، فالإناء ينضح بما فيه.
[الآية 28] : وفي آخر آية تبتّل نبي كريم بدعاء نديّ رضيّ، يطلب فيه مغفرة الله له ولوالديه، ولمن دخل في دعوته وآمن به، ولسائر المؤمنين والمؤمنات أمّا الظالمون فلا يستحقّون الهداية، التي أعرضوا عنها، بل يستحقون أن يزيدهم الله ضلالا إلى ضلالهم فمن أعرض عن الله سبحانه، سلب عنه تعالى الهدى والتوفيق، وتركه يتخبط في دياجير الظلام: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67] .
المعنى الإجمالي للسورة
الهدف الرئيس للسورة، بيان دعوة نوح (ع) وحرصه على إيمان قومه، وقد حوت هذه الدعوة ما يأتي:
(أ) طلب تركهم للذنوب، وأنهم إذا فعلوا ذلك، أكثر الله لهم المال والبنين.
(ب) النظر في خلق السماوات والأرض، والأنهار والبحار.
(ج) النظر في خلق الإنسان، وأنه سبحانه يخلق في الأرض كما يخلق النبات، وأنّ الأرض مسخّرة له، يتصرّف فيها، جلت قدرته، كما يشاء.
وبيّنت السورة، كفر قوم نوح وعنادهم، وعقابهم في الدنيا والاخرة.(10/166)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «نوح» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة نوح بعد سورة النحل، ونزلت سورة النحل بعد الإسراء وقبيل الهجرة فيكون نزول سورة نوح، في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) وتبلغ آياتها ثماني وعشرين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة: إنذار المشركين بما حصل لقوم نوح (ع) حينما عصوه. وبهذا تكون موافقة للسّور المذكورة قبلها في سياق الإنذار، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها.
قصة نوح الآيات [1- 28]
قال الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) ، فذكر تعالى أنه أرسل نوحا (ع) إلى قومه، لينذرهم قبل أن يعذّبهم على كفرهم وأن نوحا (ع) دعاهم إلى عبادة الله جل جلاله، ليغفر لهم ذنوبهم وكان كلّما دعاهم أصرّوا واستكبروا وأنه كان يكرر الدعوة، ويقيم لهم الأدلة على ألوهيّة الله
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعالي الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/167)
سبحانه، إلى أن يئس نوح (ع) منهم ودعا ربه أن يهلكهم لأنه إن تركهم، يضلّوا عباده، ولا يلدوا إلا فاجرا كافرا. رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً (28) .(10/168)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «نوح» «1»
أقول: أكثر ما ظهر في وجه اتصالها بما قبلها، بعد طول الفكر، أنه سبحانه لمّا قال في (سأل) : إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ [المعارج] . عقّبه بقصة قوم نوح (ع) المشتملة على إبادتهم عن آخرهم، بحيث لم يبق منهم ديّار، وبدّل خيرا منهم، فوقع الاستدلال لما ختم به تبارك.
هذا مع تاخي مطلع السورتين في ذكر العذاب التي يوعد به الكافرين «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . العذاب في مطلع سأل من أول السورة: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) [المعارج] وفي سورة نوح: أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) .(10/169)
المبحث الرابع مكنونات سورة «نوح» «1»
1- اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ [الآية 28] .
قال سعيد بن جبير: يعني والده وجدّه. أخرجه أبن أبي حاتم.
واسم أبيه: لمك بوزن ضرب.
وجدّه متّوشلخ، بفتح الميم وتشديد المثناة الفوقية المضمومة، بعدها واو ساكنة، وفتح الشين المعجمة واللام، بعدها خاء معجمة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.(10/171)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «نوح» «1»
1- قال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) .
وقرئ بالتخفيف أيضا، والكبار أكبر من الكبير، والكبّار أكبر من الكبار.
كقولهم طوال وطوّال.
أقول: ولا نعرف هذه الأبنية في العربية بالتخفيف والتثقيل.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(10/173)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «نوح» «1»
قال تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) ، أي: لا تخافون لله عظمة.
و «الرجاء» هاهنا خوف، و «الوقار» عظمة. وقال الشاعر «2» [من الطويل وهو الشاهد الثاني والسبعون بعد المائتين] :
إذا لسعته النّحل «3» لم يرج لسعها ... وحالفها في بيت نوب عواسل «4»
وقال تعالى: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) ، طورا علقة وطورا مضغة.
وقال تعالى: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [الآية 16] وإنّما هو، والله أعلم، على كلام العرب، وإنما القمر في السماء الدنيا، فيما ذكر كما تقول «أتيت بني تميم» وإنما أتيت بعضهم «5» .
وقال تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) . بجعل «النّبات» المصدر، والمصدر «الإنبات» لأن هذا يدل على المعنى.
وقال تعالى: سُبُلًا فِجاجاً (20) .
واحدها «الفجّ» وهو الطريق.
وقال سبحانه: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ [الآية 24] ، لأن هذا حكاية من قول نوح (ع) دعاء عليهم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . هو أبو ذؤيب الهذلي. ديوان الهذليين 1: 143 والصحاح واللسان ومختار الصحاح «رجا» .
(3) . في الديوان: الدبر بدل النحل.
(4) . البيت في معاني القرآن 1: 286 و 2: 265. والنّوب: النّحل. [.....]
(5) . نقله في زاد المسير 8: 371، والجامع 18: 304.(10/175)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «نوح» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الآية 4] فإن كان المراد به تأخيرهم عن الأجل المقدّر لهم في الأزل، فهو محال لقوله تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها [المنافقون: 11] وقوله تعالى:
إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ [الآية 4] .
وإن كان المراد به تأخيرهم إلى مجيء الأجل المقدّر لهم في الأزل، فما فائدة تخصيصهم بهذا، وهم وغيرهم في ذلك سواء، على تقدير وجود الإيمان منهم، وعدم وجوده؟
قلنا: معناه ويؤخّركم عن العذاب، إلى منتهى آجالكم، على تقدير الإيمان، فلا يعذّبكم في الدنيا، كما عذّب غيركم من الأمم الكافرة فيها.
الثاني: أنّه، سبحانه، قضى أنهم إن آمنوا عمّرهم ألف سنة، وإن لم يؤمنوا أهلكهم بالعذاب لتمام خمسمائة سنة، فقيل لهم: آمنوا يؤخركم إلى هذا الأجل.
فإن قيل: لم أمرهم بالاستغفار، والاستغفار إنما يصح من المؤمن دون الكافر؟
قلنا: معناه: استغفروا ربّكم من الشرك، بالتوحيد.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) . والحيوان ضد النبات، فكيف ينطلق على الحيوان أنه نبات؟
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/177)
قلنا. هو استعارة، للإنشاء والإخراج من الأرض، بواسطة آدم (ع) .
فإن قيل: لم دعا نوح (ع) على قومه بقوله، كما ورد في التنزيل: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا، مع أنه أرسل ليهديهم ويرشدهم؟
قلنا: إنما دعا عليهم بذلك، بعد ما أعلمه الله تعالى أنهم لا يؤمنون.
فإن قيل: لم قال نوح، كما ورد في التنزيل: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً (27) وصفهم بالفجور والكفر في حال ولادتهم وهم أطفال وكيف علم أنهم لا يلدون إلا فاجرا كفارا؟
قلنا: إنّهم لا يلدون إلا من يفجر ويكفر إذا بلغ، وإنما علم ذلك بإعلام الله تعالى أو وصفهم بما يؤولون إليه من الفجور والكفر، وعلم ذلك بإعلام الله إياه.(10/178)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «نوح» «1»
في قوله سبحانه: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) استعارة، لأنّ الوقار، هاهنا، وضع الحلم مجازا يقال: رجل وقور، بمعنى حليم.
فأما حقيقة الوقار الذي هو الرزانة والثّقل، فلا يجوز أن يوصف بها القديم سبحانه، لأنها من صفات الأجسام، وإنما يجوز وصفه تعالى بالوقار، على معنى الحلم كما ذكرنا.
والمعنى أنه يؤخّر عقاب المذنبين مع الاستحقاق، إمهالا للتوبة، وإنظارا للفيئة والرجعة. لأنّ الحليم في الشاهد، اسم لمن يترك الانتقام عن قدرة، ولا يسمى غير القادر إذا ترك الانتقام حليما، للعلّة الّتي ذكرناها.
وقوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) هاهنا أي لا تخافون. فكأنه سبحانه قال: ما لكم لا تخافون الله حلما؟ وإنما أخّر عقوبتكم، إمهالا لكم، وإيجابا للحجة عليكم. وإلّا فعقابه من ورائكم، وانتقامه قريب منكم.
وقد جاء في شعر العرب لفظ الرجاء، والمراد به الخوف. ولا يرد ذلك إلا وفي الكلام حرف نفي. لا يقال: فلان يرجو فلانا بمعنى يخافه، بل يقال: فلان لا يرجو فلانا. أي لا يخافه. وقال الهذلي أبو ذؤيب «2» :
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . أبو ذؤيب الهذلي: تقدمت الإشارة إليه والترجمة له في الحديث عن مجازات سورة الزمر.(10/179)
إذا لسعته الدّبر «2» لم يرج لسعها وحالفها في بيت نوب عواسل «3» أراد لم يخف لسعها.
وقال الاخر «4» :
لا ترتجي حين تلاقي الذائدا أخمسة لاقت معا أو واحدا أي لا تخاف. وقال بعض العلماء:
إنما كنوا عن الخوف بالرجاء في هذه المواضع، لأن الراجي لا يستيقن، فمعه طرف من المخافة. وقال بعضهم: الوقار هاهنا بمعنى العظمة، وسعة المقدرة. وأصل الوقار: ثبوت ما به يكون الشيء عظيما، من الحلم والعلم، اللذين يؤمن معهما الخرق والجهل.
ومن ذلك قول القائل: وقد وقر قول فلان في قلبي. أي ثبت واستقر، أو خدش وأثر.
وفي قوله سبحانه: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) استعارة، لأن حقيقة الإنبات إنما تجري على ما تطلعه من نباتها، وتخرجه عند ازدراعها. ولمّا كان سبحانه، يخرج البريّة من مضايق الأحشاء، إلى مفاسح الهواء، ويدرجهم من الصّغر إلى الكبر، وينقلهم من الهيئات والصور كل ذلك على وجه الأرض، فقد قال: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) .
وقال بعضهم، قد يجوز أن يكون المراد بذلك، خلق آدم عليه السلام من الطين، وهو أصل الخليقة. فإذا خلقه سبحانه من طين الأرض، كان نسله مخلوقين منها، لرجوعهم إلى الأصل المخلوق من طينها. فحسن أن يقول سبحانه: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) أي استخرجكم من طين الأرض. و «نباتا» هاهنا، مصدر وقع مخالفا لما يوجبه بناء فعله وكان الوجه أن يكون: إنباتا. لأنّه في الظاهر مصدر أنبتكم. وقد قيل إنّ هناك فعلا محذوفا جرى المصدر عليه، فكأنه
__________
(2) . الدبر: جماعة النحل والواحدة دبرة.
(3) . نقل ديوان الهذليين 1: 1431 معاني القرآن 1: 286 و 2: 265.
(4) . لم ينسب في «أساس البلاغة» لقائله. وروي في الأساس هكذا:
لا ترتجي حين تلاقي الذائدا ... أسبعة لاقت معا أم واحدا.(10/180)
تعالى قال: والله أنبتكم من الأرض فنبتم نباتا. لأن أنبت يدل على نبت، من جهة أنه مضمّن به.
وفي قوله سبحانه: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً (20) استعارة. والمراد بالبساط هاهنا: المكان الواسع المستوي. مشبّه بالبساط، وهو النمط الذي يمدّ على الاستواء، فيجلس عليه.
وقال الأصمعي «5» : وبنو تميم خاصة يقولون بساط، بفتح الباء. وقال الشاعر «6» :
ودون يد الحجّاج من أن ينالني بساط لأيدي الناعجات «7» عريض وتصيير الأرض بساطا، كتصييرها فراشا ومهادا.
وهذه الألفاظ الثلاثة ترجع إلى معنى واحد.
__________
(5) . هو أبو سعيد عبد الملك بن قريب، الراوية المشهور، وأحد علماء اللغة الأثبات. ونسب إلى جده «أصمع» وكان يتلقى الأخبار مشافهة من البوادي، ويتحف بها الخلفاء، فيكافأ عليها بأجزل الهبات. قال فيه الأخفش: ما رأينا أحدا أعلم بالشعر من الأصمعي. وقد انفرد برواية قصائد جمعها المستشرق الألمانى وليم أهلورت، وتوفي بالبصرة سنة 216.
(6) . هو العديل بن الفرج، ولقبه العباب: والعباب اسم كلب له، فلقّب باسم كلبه. وكان هجا الحجاج بن يوسف، فطلبه، فهرب منه إلى قيصر ملك الروم، فقال أبياتا منها هذا البيت وأخباره في «الشعر والشعراء» ص 375، و «الأغاني» ج 20، و «الخزانة» ج 2.
(7) . في «الشعر والشعراء «اليعملات» والناعجات هي النياق البيض. واليعملات: جمع يعملة، وهي الناقة المطبوعة على العمل.(10/181)
سورة الجنّ 72(10/183)
المبحث الأول أهداف سورة «الجنّ» «1»
سورة الجن سورة مكية، آياتها 28 آية، نزلت بعد سورة الأعراف.
وهي سورة تصحّح كثيرا من المعلومات الخاطئة لأهل الجاهلية عن الجن، فقد كانوا يزعمون أن محمّدا (ص) ، يتلقّى من الجن ما يقوله لهم عنها، فتجيء الشهادة من الجن أنفسهم بهذه القضايا التي يجحدونها ويجادلون فيها، وبتكذيب دعواهم في استمداد محمّد (ص) من الجن شيئا.
والجن لم يعلموا بهذا القرآن إلّا حينما سمعوه من محمّد (ص) ، فهالهم وراعهم ومسّهم منه ما يدهش ويذهل، فانطلقوا يحدّثون عن هذا الحدث العظيم، الذي شغل السماء والأرض، والإنس والجن والملائكة والكواكب، وترك آثاره ونتائجه في الكون كلّه، وهي شهادة لها قيمتها في النفس البشريّة حتما.
أوهام عن الجن
كان العرب يبالغون في أهمّية الجن، ويعتقدون أنّ لهم سلطانا في الأرض، فكان الواحد منهم، إذا أمسى بواد أو قعر، لجأ إلى الاستعاذة بعظيم الجن الحاكم لما نزل فيه من الأرض، فقال أعوذ بسيّد هذا الوادي من سفهاء قومه، ثم بات آمنا.
كذلك كانوا يعتقدون أنّ الجنّ تعلم الغيب، وتخبر به الكهّان، فينبئون بما يتنبّأون وفيهم من عبد الجنّ، وجعل بينهم وبين الله نسبا وزعم أن له
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(10/185)
سبحانه وتعالى زوجة منهم، تلد له الملائكة. وهكذا نجد كثيرا من الأوهام والأساطير، تغمر قلوب الناس ومشاعرهم، وتصوّراتهم عن الجن في القديم، ولا تزال هذه الأوهام، تسود بعض البيئات إلى يومنا هذا.
ونجد في الصف الاخر، منكرين لوجود الجنّ أصلا، يصفون أيّ حديث عن هذا الخلق المغيّب، بأنه حديث خرافة ...
وبين الإغراق في الوهم، والإغراق في الإنكار، يقرّر الإسلام حقيقة الجن، ويصحّح التصوّرات العامة عنهم، ويحرّر القلوب من خوفها، وخضوعها لسلطانهم الموهوم.
الجن في القرآن
تحدث القرآن الكريم عن الجن في عدد من السور، وعالج الأخطاء الشائعة عن الجن، وأثبت الحقيقة المتعلقة بالجن، وقدّم للإنسان صورة واضحة دقيقة متحرّرة من الوهم والخرافة، ومن التعسّف في الإنكار الجامح فالجنّ عالم نؤمن به، وبخصائصه، كما وردت في القرآن الكريم ولا يظهرون للعين، ولا يراهم الإنسان بحاسّة البصر.
والجنّ منهم الضّالّون المضلّون، ومنهم السذّج الأبرياء، الذين ينخدعون، ومنهم المستقيمون على الطريق القويم والمنهج السليم. وليس للجن معرفة بالغيب، وليس لهم قوة ولا حيلة مع قوة الله، وليس بينهم وبين الله صهر ولا نسب. وقد كان إبليس من الجن، ثم فسق عن أمر ربه، وتمحّض بالشرّ والفساد والإغراء. وقد خلق الجن من النار، كما خلق الإنسان من الطين. وقد سخّرت الجن لسليمان (ع) ، فمنهم من كان يبني له المساجد والمنازل والأبنية المختلفة، ومنهم من كان يغوص في البحر يستخرج له اللؤلؤ والياقوت والأحجار الكريمة، وسلّطه الله على المردة والخارجين على القانون، فكان يقيّدهم في السلاسل والأغلال، ويسخّرهم في الأعمال، ويرهقهم بألوان العذاب.
وقد جعل الله سبحانه السيطرة على الجن منحة خاصة لسليمان (ع) ، فقد سأل ربه ملكا لا يتهيّأ لأحد من بعده،(10/186)
فأعطاه الله ملك الريح والجن والشياطين والمردة:
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) [ص] .
«إن الكون من حولنا حافل بالأسرار، عامر بالأرواح، حاشد بالقوى، وهذه السورة من القرآن، كغيرها من السّور، تمنحنا جوانب من الحقائق في هذا الوجود، تعين على بناء تصور حقيقي صحيح للوجود، وما فيه من قوى وأرواح وحيوات تعجّ من حولنا، وتتفاعل مع حياتنا. وهذا التصوّر هو الذي يميّز المسلم، ويقف به وسطا بين الوهم والخرافة، وبين الادّعاء والتطاول، ومصدره هو القرآن والسنة، وإليهما يحاكم المسلم كلّ تصوّر آخر، وكلّ قول، وكلّ تفسير» «1» .
استماع الجن للقرآن
في كتب السنّة، ما يفيد أن الجن قد استمعت للقرآن عرضا دون قصد، فأسلمت وآمنت، وانطلقت تدعو قومها إلى الإسلام.
وفي روايات أخرى، أن النبي (ص) انطلق متعمّدا ليبلّغ دعوته إلى الجن.
وقد افتقده أصحابه ذات ليلة، فاشتدّ بهم القلق، وباتوا بشرّ ليلة بات بها قوم فلمّا أصبحوا جاءهم النبي (ص) من قبل حراء فقال: «أتاني داعي الجنّ فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن» .
والروايتان السابقتان واردتان في الصحيح إحداهما عن ابن عبّاس، يقول: إنّ النبي (ص) لم يعرف بحضور النفر من الجن، والرواية الثانية عن ابن مسعود، تقول إنهم استدعوه (ص) ، ويوفّق البيهقي بين الروايتين، بأنهما حادثان لا حادث واحد.
وفي رواية ثالثة لابن إسحاق: أنّ الجن استمعت إلى النبي (ص) ، ليلة عودته من الطائف قبل الهجرة.
ولعلّ الجنّ قد استمعت للنبي (ص)
__________
(1) . في ظلال القرآن 29: 151.(10/187)
غير مرة، وكان في استماع الجن للنبي (ص) ، بمكّة قبل الهجرة، تطييبا لخاطره، وتصديقا لدعوته، وتحقيقا للحق بشأن الجن، وتصحيحا لمفاهيم الجاهلية عن الجن، وترشيدا للمسلمين ليكون إيمانهم عن بينة. وقد ساقت سورة الجنّ كثيرا من الحقائق عن الألوهيّة والعقيدة والوحدانية، وإخلاص العبادة لله سبحانه فهي سورة الجنّ، ولكنها توجيه وإرشاد وتعليم للخلق أجمعين.
أسماء السورة
نلاحظ أنّ السورة في القرآن، تسمّى بأغرب شيء فيها، أو أهمّ شيء فيها، فسورة البقرة اشتملت على قصة قتيل ضرب بقطعة من البقرة، فردّت إليه الحياة. وسورة آل عمران اشتملت على قصة مريم ابنة عمران، وسورة النساء اشتملت على ذكر أحكام النساء.
وسورة المائدة اشتملت على قصة المائدة التي نزلت من السماء استجابة لدعاء عيسى (ع) .
كما سمى الله سبحانه سور كتابه الكريم، بأسماء تبعث على النظر والاعتبار، وتوجب التفكير، فسمى بالأنعام وبالحشرات كالنمل والنحل والعنكبوت، وبما هو ألطف من ذلك كالنور كما سمى ببعض الأنبياء، كيوسف ويونس وهود عليهم السلام وببعض الأخلاق كالتوبة وببعض الكواكب العلوية كالشمس والقمر والنجم وببعض الأوقات كالليل والفجر والضحى وببعض المعادن كالحديد وببعض الأماكن كالبلد وببعض النبات كالتين وكل ذلك مما نراه.
وهنا، سمّى هذه السورة بعالم لا نراه، وهو عالم الجن، وهو عالم لم يعرف في الإسلام إلّا من طريق الوحي، وليس للعقل دليل عليه فالمؤمن يؤمن بالغيب، ويؤمن بالملائكة وبالجن، على نحو ما ورد في القرآن.
وسمّيت السورة سورة الجن، لأنّها تحدّثت عنهم، وبدأت بذكرهم، فقالت: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) .
مع آيات السورة
[الآيتان 1- 2] : تطالعنا السورة، بأنّ الجنّ فوجئت باستماع القرآن(10/188)
الكريم، فقالوا لقومهم إنّا سمعنا كتابا بديعا يهدي إلى الحق، وإلى الطريق المستقيم، فصدّقنا به، ولن نعود إلى ما كنّا عليه من الإشراك بالله.
[الآية 3] : ثم نزّهوا ربّهم عن الزوجة والولد، فقالوا: علا ملك ربنا وسلطانه، أن يكون ضعيفا ضعف خلقه، الذين تضطرّهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة، أو ملامسة يكون منها الولد وكانت العرب تزعم أن الملائكة بنات الله، جاءته من صهر مع الجن فجاءت الجنّ، تكذّب هذه الخرافة الأسطورية، في تسبيح لله وتنزيه.
[الآية 4] : وأنّ الجهّال من الجن، كانوا يقولون قولا شططا بعيدا عن الصواب، بنسبة الولد والصاحبة إليه تعالى.
[الآية 5] : وأنّهم، كانوا يستعظمون أن يجرأ أحد على الكذب على الله فلمّا قال لهم سفهاؤهم: إن لله صاحبة وولدا، صدّقوهم، لأنهم لم يتصوّروا أنهم يكذبون على الله.
[الآية 6] : وأنّ رجالا من الإنس، كانوا يستعيذون في القفر برجال من الجن، فزادوا الجنّ بذلك طغيانا وغيّا وأنّهم لما استعاذوا بالجن خوفا منهم، ولم يستعيذوا بالله، استذّلوهم واجترءوا عليهم.
[الآية 7] : ظنّت الطائفة الظالمة من الجن، أنّ الله لن يبعث رسولا إلى خلقه، يدعوهم إلى توحيده، والإيمان برسله، واليوم الاخر.
أو ظنّوا أن لن يبعث الله أحدا بعد الموت، وهذا الظنّ مخالف للاعتقاد في حكمة الله وكماله. وهؤلاء النفر من الجنّ المؤمن، يصحّحون لقومهم ظنّهم والقرآن، في حكايته عنهم، يصحّح للمشركين أوهامهم.
[الآيتان 8- 9] : كان الجن يحاولون الاتصال بالملإ الأعلى، واستراق شيء ممّا يدور فيه بين الملائكة، عن شؤون الخلائق في الأرض، ثم يوحون بما التقطوه لأوليائهم من الكهان والعرّافين، الذين يستغلّون الكثير من الحق، فيمزجونه بالكثير من الباطل، ويروّجونه بين جماهير الناس.
وبعد رسالة النبي محمد (ص)(10/189)
حاول الجن استراق السمع من السماء، فلم يتمكّنوا، لأنّ الحراسة شدّدت على السماء، ومن حاول استراق السمع ومعرفة الغيب، رجم بالشهب فقتلته، أو خبلته.
[الآية 10] : إن الجن لا تعلم شيئا عن الغيب المقدّر للبشر، ولا يدرون الحكمة من حراسة السماء بالشهب، ولا ماذا قدّر الله لعباده في الأرض، أعذابا أراد الله أن ينزله بهم، أم أراد بهم ربهم الهدى، بأن يبعث منهم رسولا مرشدا، يهديهم إلى الحق، والى طريق مستقيم.
[الآية 11] : من الجن الصالح والطالح، ومنهم المسلم والجائر، فهم مثلهم مثل الإنسان في طبيعته، لديهم استعداد للخير والشرّ، إلّا من تمحّض منهم للشر، وهو إبليس وقبيله.
[الآية 12] : إن الله قادر علينا حيث كنا، فلا نفوته هربا فهم يقررون ضعف المخلوق أمام الخالق، ويشعرون بسلطان الله القاهر الغالب.
[الآية 13] : لمّا سمعنا القرآن صدّقنا به، وأقررنا بأنه من عند الله. ومن يصدق بالله وبما أنزله على رسله، فلا يخاف نقصا من حسناته، ولا هوانا ولا جورا لأنّ المؤمن في حماية الله وعونه ورعايته، وسينال جزاءه وافرا كاملا.
[الآية 14] : من الجن فريق مؤمن، أطاع الله واستقام على الهدى، وفريق قاسط جائر مائل عن الصواب. وقد وصل الفريق المؤمن إلى الصواب، حينما اختار الإسلام، وحرص على الرشد والاهتداء.
[الآية 15] : أمّا الجائرون عن سنن الإسلام، فشأنهم أن يكونوا حطبا لجهنّم، تتلظّى بهم وتزداد اشتعالا، كما تتلظّى النار بالحطب.
[الآية 16] : يلتفت القرآن في الخطاب، وينتقل من الحديث على لسان الجن، إلى مخاطبة الرسول (ص) والخلق أجمعين فيقول ما معناه:
لو استقام الإنس والجن على ملّة الإسلام، لوسّعنا عليهم أرزاقهم، ولبسطنا لهم خيرات الحياة.
[الآية 17] : وهذه النعم للاختبار والابتلاء، فمن شكر النعمة وأحسن(10/190)
التصرّف فيها استحق بقاءها ومن أعرض عن منهج الله، دخل في العذاب الشاقّ الذي يعلوه، ويغلبه ولا يطيق له حملا.
[الآية 18] : إنّ السجود، أو مواضع السجود، وهي المساجد، لا تكون إلا لله فهناك يكون التوحيد الخالص، ويتوارى كلّ ظلّ لأيّ كائن، ولكل قيمة، ولكل اعتبار وينفرد الجو للعبودية الخالصة لله.
[الآية 19] : لمّا قام محمد (ص) يعبد الله، كاد الجن يكونون جماعات بعضها فوق بعض، تعجّبا مما شاهدوا من عبادته، وسمعوا من قراءته، واقتداء أصحابه، قياما وركوعا وسجودا. وأخذوا ودهشوا من جلال ما سمعوا، وروعة ما شاهدوا وهو دليل على انشغال السماء والأرض والملائكة والجنّ بهذا الوحي، وعلى الجد الذي يتضمّنه: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) [الطارق] .
[الآية 20] : قل يا محمّد للناس:
إنما أعبد الله وحده، ولا أشرك بعبادته صنما، ولا وثنا، ولا مخلوقا.
[الآية 21] : قل إني لا أملك لكم نفعا ولا ضرّا فالله وحده هو الذي يملك الضرّ، ويملك الخير.
[الآيتان 22- 23] : إنّي لا أجد ملجأ أو حماية من دون الله، إلّا أن أبلّغ هذا الأمر، وأؤدّي هذه الأمانة فهذا الأمر ليس أمري، وليس لي فيه إلّا التبليغ، ولا مفرّ لي من هذا التبليغ والرسالة ليست تطوّعا، وإنّما هي تكليف صارم جازم، لا مفرّ من أدائه، فالله من ورائه يقول سبحانه:
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [المائدة:
67] .
ومن يكذّب برسالات الله، فإن له نارا يصلاها، خالدا فيها إلى غير نهاية.
[الآية 24] : وإذا كان المشركون، يركنون إلى القوة والعدد، ويقيسون قوّتهم بقوة محمد (ص) والمؤمنين القلائل الذين معه فسيعلمون حينما يرون ما يوعدون: أيّ الفريقين هو الضعيف المخذول، والقليل المهزول.
[الآية 25] : ويتجرّد الرسول (ص) وينفض يده من أمر الغيب، فالعذاب(10/191)
الذي يتوعّد به الكافرين ليس له فيه يد، ولا يعلم له موعدا، ولا يدري:
أقريب هو أم بعيد، يجعل الله له أمدا ممتدّا، سواء عذاب الدنيا أو عذاب الاخرة، فكلّه غيب في علم الله.
[الآية 26] : والله سبحانه هو المختصّ بالغيب، دون العالمين.
[الآية 27] : والرسل الذين يرتضيهم الله لتبليغ دعوته، يطلعهم على جانب من غيبه، هو هذا الوحي: موضوعه وطريقته والملائكة الذين يحملونه، ومصدره، وحفظه في اللوح المحفوظ ... إلى آخر ما يتعلّق بموضوع رسالتهم، ممّا كان في ضمير الغيب، لا يعلمه أحد منهم.
وفي الوقت عينه، يحيط هؤلاء الرسل الكرام، بالأرصاد والحراس من الحفظة، للحفظ وللرقابة، يحمونه من وسوسة النفس وتمنّياتها ومن الضعف البشري في أمر الرسالة، ومن النسيان أو الانحراف، ومن سائر ما يعترض البشر من النقص والضعف.
والخلاصة: أنّه يدخل حفظة من الملائكة، يحفظون قوى الرسول الظاهرة والباطنة، من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم.
[الآية 28] : وهذه الحراسة الشديدة ليظهر الله للناس، أجمعين، أن الملائكة قد أبلغوا رسالات ربهم، غير مشوبة بتخليط من الجن أو من الجنون. وهو، سبحانه، محيط علما بجميع أحوال أولئك الوسائط، وهو، سبحانه، قد أحصى كل شيء عددا، فلا تقتصر إحاطته على ما لدى الرسل، بل يحيط بكل شيء إحصاء وعدّا، وهو أدق أنواع الإحاطة والعلم.
وبهذا الإيقاع الهائل الرهيب، تختم السورة التي بدئت بروعة الجن من سماع القرآن، وختمت بإحاطة الله الشاملة لمن يؤدون رسالته، وحمايته سبحانه لمن يبلغون دعوته وقد وسع علمه تعالى السماوات والأرض، وكل ما في الوجود.
المقصد الإجمالي للسورة
اشتملت سورة الجن على مقصدين:
1- حكاية أقوال صدرت عن الجن حينما سمعوا القرآن، كوصفهم له بأنه كتاب يهدي إلى الرشد، وأن الله(10/192)
سبحانه تنزّه عن الصاحبة والولد، وأنهم ما كانوا يظنون أنّ أحدا يكذب على الله، وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون في القفر برجال من الجن، وأن الجن طلبوا خبر العالم العلوي فمنعوا، وأنهم لا يدرون ماذا يحل بالأرض من هذا المنع، وأن الجن منهم الأبرار ومنهم الفجار، ومنهم مسلمون وجائرون عادلون عن الحق.
2- ما أمر النبي (ص) بتبليغه إلى الخلق، ككونه لا يشرك بربه أحدا، وأنه لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا، وأنّه لا يمنعه أحد من الله إن عصاه، وأنه (ص) لا يدري متى يكون وقت تعذيبهم، فالعلم لله وحده.(10/193)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الجن» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الجنّ بعد سورة الأعراف، وكان نزولها في رجوع النبي (ص) من الطائف وكان قد سافر إليها، ليدعو أهلها في السنة العاشرة من البعثة، فيكون نزول سورة الجن، فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) وتبلغ آياتها ثماني وعشرين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة: ذكر قصة إيمان الجن، لما فيها من العظة والإنذار للمشركين وكذلك كان الغرض من ذكر قصة نوح (ع) في السورة السابقة، وهذا هو وجه المناسبة في ذكر هذه السورة بعدها.
قصة إيمان بعض الجن الآيات [1- 28]
قال الله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) ، فذكر قصة إيمان بعض الجن في خمس عشرة آية منها ثم ذكر سبحانه أنه لو استقام المشركون على طريقة الإيمان، كما استقام من آمن من الجن لأسقاهم ماء غدقا وأن من يكفر به يسلكه عذابا صعدا
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/195)
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وأن النبي (ص) ، لمّا قام يدعوه تظاهروا عليه، وقد أمره أن يخبرهم بأنه إنما يدعو إلى ربّه ويقوم بما يجب له عليه، وهو لا يملك شيئا من كفرهم أو إيمانهم وبأنه لن يجيره منه، إلّا أن يبلّغهم ما أرسله به إليهم ثم ذكر أن من يعصيه سبحانه ويعصي رسوله، يخلّده في نار جهنم فإذا رأوا ما يوعدون منها، يعلمون أنهم أضعف ناصرا وأقل عددا. ثم أمره أن يخبرهم، بأنه لا يدري متى يكون ما يوعدون به من ذلك، لأنه من علم الغيب الذي اختص به الله سبحانه، ولا يطلع عليه الا من يرتضيه من رسله، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) .(10/196)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الجن» «1»
أقول: قد فكرت مدة في وجه اتصالها بما قبلها، فلم يظهر لي سوى أنه قال تعالى في سورة نوح:
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) . وقال في هذه السورة: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) . وهذا وجه بيّن في الارتباط «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. [.....]
(2) . ومن المناسبة بين السورتين: أنه تعالى ذكر في نوح: قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً (21) ومضى في بيان كفرهم وضلالهم، حتّى دعا عليهم نوح: ثم بيّن في أوّل الجن: أنهم كالإنس في الإيمان والكفر، وأن لكفّار الجن اتصالا بكفّار الإنس، فقال تعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) . وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) . وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ [الآية 14] . فكانت هذه السورة لبيان الصلة بين الجن والإنس، وبيان المقارنة بينهما.(10/197)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الجن» «1»
1- سَفِيهُنا [الآية 4] .
قال مجاهد: هو إبليس. أخرجه ابن أبي حاتم «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . والطبري في «تفسيره» 29: 67.(10/199)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الجن» «1»
1- وقال تعالى: كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) .
أي: ذوي مذاهب مختلفة، والقدد جمع قدّة من القدّ، كالقطعة من «قطع» .
أقول: والوصف ب قِدَداً (11) ، أريد به البيان والتوكيد.
2- وقال تعالى: وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) .
أقول: الهرب معروف، وهو مصدر هرب يهرب.
غير أن العربية المعاصرة عرفت «الهروب» ، الذي لم يؤثر في نص قديم.
3- وقال تعالى: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) .
أقول: وقوله تعالى يَسْلُكْهُ عَذاباً أي: يدخله، وسلكه وأسلكه.
وأصل الفعل يتعدى إلى مفعول واحد، فلمّا تضمّن معنى «يدخل» تجاوزه إلى المفعول الثاني.
وأصل الفعل: من قولنا سلك الخيط في الإبرة.
4- وقال تعالى: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) .
والقاسطون هم الكافرون الجائرون عن طريق الحق.
والقسط هو العدل، والفعل أقسط بمعنى عدل، وقسط بمعنى جار وظلم. وهذا من غرائب الأفعال في الدلالة بين المجرّد والمزيد.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(10/201)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الجن» «1»
قال تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ [الآية 1] . فتحت ألف (أنه) لاعتبار الاسميّة.
وقال تعالى: وَشُهُباً [الآية 8] وواحدها: الشّهاب.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(10/203)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الجن» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) ولم يقل سبحانه رسول الله أو نبي الله، والمراد به النبي محمّد (ص) ؟
قلنا: لأنه (ص) ، لم يكن في ذلك المقام مرسلا إليهم، بل اتفق مرورهم به وجوازهم عليه فلو قال تعالى رسول الله، أو نبي الله، لأوهم ذلك قصد أداء الرسالة إليهم.
فإن قيل: لم قال تعالى: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) مع أن الأمد اسم للغاية، والغاية تكون زمانا قريبا وزمانا بعيدا، ويؤيده قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) [آل عمران] ؟
قلنا: أراد بالقريب الحال، وبالمجعول له الأمد المؤجّل، سواء أكان الأجل قريبا أم بعيدا.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/205)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الجن» «1»
في قوله سبحانه: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) استعارة. والمراد بذلك، والله أعلم، كنا ضروبا مختلفة، وأجناسا مفترقة.
والطرائق: جمع طريقة. وهي، في هذا الموضع، المذهب والنحلة.
والقدد: جمع قدّة، وهي القطعة من الشيء المقدود طولا، مثل فلذة وفلذ، وقربة وقرب. وقد غلب على ما كان من القطع طولا لفظ القدّ، وعلى ما كان من القطع عرضا لفظ القطّ. فكأنه سبحانه شبّه اختلافهم في الأحوال، وافتراقهم في الآراء بالسّيور المقدودة، التي تتفرّق عن أصلها، وتتشعّب بعد ائتلافها.
وفي قوله سبحانه: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
(15) استعارة.
والمراد أنّ نار جهنّم، ونعوذ بالله منها، يستدام وقودها بهم، كما يستدام وقود النار بالحطب، لأنّ كلّ نار لا بدّ لها من حشاش يحشّها، ووقود يمدّها.
وفي قوله سبحانه: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) استعارة. واللّبد هاهنا، كناية عن الجماعات المتكاثرة، التي تظاهرت من الكفّار على النبي (ص) ، أي اجتمعوا عليه متألّبين، وركبوه مترادفين.
فكانوا كلبد الشّعر، وهي طرائقه وقطعه التي يركب بعضها بعضا.
وواحدتها لبدة. ومنه قيل: لبدة الأسد، وهي الشعر المتراكب على مناكبه. وذلك أبلغ ما شبّهت به
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(10/207)
الجموع المتعاظلة، والأحزاب المتآلفة.
وقال بعض أهل التأويل: المراد بذلك أن النبي (ص) ، لمّا صلّى الصبح ببطن نخلة منصرفا من حنين، وقد حضره الوفد من الجن، وخبرهم مشهور، كادوا يركبون منكبه، ويطئون أثوابه، لمّا سمعوا قراءته، استحسانا لها، وارتياحا إليها، وتعجّبا منها.
روي عن ابن عباس في هذا المعنى، وهو أغرب الأقوال، أنّ هذا الكلام من صلة كلام الجن لقومهم، لما رجعوا إليهم فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً كما ورد في التنزيل وذلك أن النبي (ص) ، لما قام ببطن نخلة يصلي بأصحابه، عجب الجن الحاضرون من طواعيتهم له، في الركوع والسجود والقيام والقعود فلما رجعوا إلى قومهم، قالوا في جملة ما قصّوه عليهم: وأنّه لما قام عبد الله يدعوه، أي يصلي له، كادوا يكونون عليه لبدا.
أي كاد أصحابه يركبونه تزاحما عليه، وتدانيا إليه، واحتذاء لمثاله، واستماعا لمقاله.(10/208)
سورة المزّمّل 73(10/209)
المبحث الأول أهداف سورة «المزّمّل» «1»
سورة المزّمّل سورة مكية، آياتها 20 آية، نزلت بعد سورة القلم.
إنها تحمل النداء الإلهيّ، للنبيّ الكريم، بقيام الليل، وقد جعله الله فريضة في حقّه، نافلة في حق أمته، قال تعالى:
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) [الإسراء] .
وفي كتب السنّة، ما يفيد أن السورة من أوائل ما نزل من القرآن الكريم فقد كان (ص) يعيش بين قومه في الجاهلية، ثم حبّب الله اليه الخلوة، ليتأمّل في ملكوت السماوات والأرض، وليعدّ الله هذه النفس الطيّبة لتحمّل أعباء الرسالة. ثم فجأه الوحي وهو في غار حراء، قال له جبريل:
اقرأ، قال النبي (ص) ما أنا بقارئ، ثلاث مرات، فقال جبريل، كما ورد في التنزيل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق] .
وقد عاد النبي (ص) إلى خديجة رضي الله عنها وأخبرها الخبر، فقالت له: «أبشر يا ابن عمّ واثبت، فو الذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأمة» .
ثم فتر الوحي مدة عن النبي (ص) ، إلى أن كان بالجبل مرة أخرى، فنظر فإذا جبريل، فأدركته منه رجفة، حتى جثا وهوى إلى الأرض وانطلق إلى
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(10/211)
أهله وهو يرتجف ويقول: «زمّلوني، دثّروني» ففعلوا، وظل يرتجف ممّا به من الرّوع، وإذا جبريل يناديه، كما ورد في التنزيل: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) .
وسورة «المزّمّل» تعرض صفحة من تاريخ الدعوة الإسلامية. إنّها تنادي النبيّ الكريم، وتأمره بقيام الليل، والصلاة وترتيل القرآن، والذكر والخاشع المتبتّل، والاتكال على الله وحده، والصبر على الأذى، والهجر الجميل للمكذّبين، والتخلية بينهم وبين الجبّار القهّار.
وتنتهي السورة بلمسة الرفق والرحمة، والتخفيف والتيسير، والتوجيه للطاعات والقربات، والتلويح برحمة الله ومغفرته: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) .
والسورة 2 مثّل صفحة من جهاد النبي الكريم، وآله وصحبه الأبرار في سبيل الدعوة إلى الله سبحانه، وحشد جميع الطاقات من أجل هذه الدعوة. فقد قام النبي (ص) في مكة والمدينة، داعيا إلى الله صابرا محتسبا، مهاجرا، مجاهدا، مربّيا، ناشرا لدعوة الله بكل ما يملك، منذ خاطبه تعالى بالقرآن:
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) .
وكان قيام الليل هو الزاد الروحيّ، والتعبئة الإلهية لهذا القلب الكريم، حتى يصدع بالدّعوة، ويتحمّل في سبيلها كل بلاء، وليصبر ويصابر، وليحتسب كل جهد في سبيل الله:
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا (10) .
مع آيات السورة
[الآيات 1- 4] : أمر الله تعالى رسوله الأكرم أن يقوم، من الليل، ثلثه أو نصفه أو ثلثيه فهو مخيّر في ذلك، وأن يقرأ القرآن الكريم على مهل وتؤدة، مع حضور القلب، لتدبّر معانيه، وفهم مقاصده.
[الآية 5] : والقرآن الكريم يسّره الله تعالى للقراءة، ولكنه ثقيل في ميزان الحق، ثقيل بأثره في القلوب، ثقيل بقيمته الراجحة، ومعانيه الراقية وما فيه من تكاليف وأعباء.
[الآية 6] : إنّ قيام الليل هو أكبر موافقة بين القلب واللسان، وأعدل قولا.
[الآية 7] : وفي النهار متّسع لشئوون المعاش، ولك فيه تصرف في مهام أمورك، واشتغال بمشاغلك.(10/212)
[الآيتان 8- 9] : واتّجه إلى الله بالعبادة وحضور القلب، واذكره، وتضرّع إليه، في إنابة وطاعة وإخلاص سبحانه، ربّ الكون كلّه والتوكّل عليه هو التوكل الواجب في هذا الوجود.
[الآية 10] : واصبر على ما يقولون في حقّك وحقّ ربك، واهجرهم هجرا جميلا، بأن تجانبهم وتغضي عن زلّاتهم ولا تعاتبهم.
[الآية 11] : ثم توعّد المشركين وتهدّدهم، وقال لنبيه: اترك عقابهم لي وحدي، فأنا كفيل بهم، هؤلاء الذين تنعّموا في نعمائي، أمهلهم وقتا قليلا، وسترى ما يحلّ بهم.
[الآية 12] : إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا أي قيودا ثقيلة توضع في أرجلهم، كلّما أرادوا أن يرتفعوا جذبتهم إلى أسفل، ثم هناك الجحيم.
[الآية 13] : والطعام ذو الغصّة، الذي يمزّق الحلوق والعذاب الأليم، جزاء مناسب لمن كفر بنعمة الله.
[الآية 14] : ويمتد الهول في يوم القيامة إلى الأرض، فتضطرب وتهتزّ وإلى الجبال فتتمزّق أجزاؤها، وتصير كالصوف المنفوش، أو كومة الرمل المهيلة، بعد أن كانت حجارة صمّاء متماسكة.
[الآيتان 15- 16] : ويلتفت القرآن الكريم إلى أهل مكة فيخاطبهم، ويهزّ قلوبهم هزّا، ويخلعها خلعا بعد مشهد الأرض والجبال، وهي ترتجف وتنهار، فيحذّرهم ممّا أصاب فرعون الجبّار، وقد أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ومضمون القول: لقد أرسلنا إلى فرعون رسولا، فعصاه، فأخذناه أخذا وبيلا وأرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم، فاحذروا أن تعصوه، فيصيبكم مثل ما أصاب فرعون.
[الآيتان 17- 18] : وهبوا أنكم لا تؤخذون في الدنيا، كما أخذ فرعون فكيف تتّقون عذاب يوم القيامة وهو هول يشيّب الولدان، وتنشق السماء من شدّته وكان وعد الله ثابتا مؤكّدا لا خلف فيه، وهو سبحانه فعّال لما يريد.
[الآية 19] : وأمام هول الاخرة يقول لهم ما معناه: إن هذه الآيات تذكرة وعبرة، فمن شاء اعتبر بها، واتّخذ طريقا إلى الله وهو آمن سالم، قبل مجيء هذا الهول العصيب.(10/213)
وفي الآية الأخيرة من السورة، نجد لمسة التخفيف النديّة، ودعوة التيسير الإلهي فقد لبّى النبيّ (ص) الدعوة إلى قيام الليل، ولبّى المسلمون الدعوة، وتجافت جنوبهم عن المضاجع، وقاموا الليل حتّى تورّمت أقدامهم من طول القيام وقد أشار القرآن الكريم إلى أنّ الله، سبحانه، يعلم أنّ الرسول (ص) يقوم الليل وأنّه سبحانه يرى تقلّبه (ص) في الساجدين وأنّه سبحانه يعلم أنكم لن تحصوا ساعات الليل إحصاء تاما، فإذا زدتم على المفروض ثقل ذلك عليكم وكلفتم ما ليس بفرض وإن نقصتم شقّ هذا عليكم، فتاب عليكم ورجع بكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى يسر وطلب إليكم أن تصلّوا ما تيسّر من الليل، على قدر طاقتكم.
وإن لهذا التخفيف حكمة أخرى، وهي أنه سبحانه علم أن سيكون منكم مرضى، وآخرون يسيحون في الأرض، يطلبون من فضل الله بالتجارة أو العلم، وآخرون يقاتلون في سبيل الله، فقد علم الله تعالى أن سيأذن لكم في الانتصار ممّن ظلمكم بالقتال، فصلّوا ما تيسّر لكم من صلاة الليل، بدون تقيّد بقدر محدّد، وأقيموا الصلاة المفروضة، وآتوا الزكاة الواجبة، وتصدّقوا بعد ذلك قرضا لله، يبق لكم خيره، ويردّه الله إليكم أضعافا مضاعفة. وما تقدّموا لأنفسكم من صدقة، أو عمل صالح في الدنيا، تجدوا ثوابه عند الله يوم القيامة، خيرا ممّا أوتيتم في دار الدنيا، وأعظم منه أجرا واتّجهوا إلى الله مستغفرين، إن الله غفور رحيم.
إنّها لمسة الرحمة والتخفيف، بعد عام من الدعوة إلى القيام وقد خفّف الله سبحانه عن المسلمين فجعل قيام الليل لهم تطوّعا لا فريضة.
أمّا رسول الله (ص) فقد مضى على نهجه مع ربّه، لا يقلّ قيامه عن ثلث الليل، يناجي ربّه ويستمدّ منه العون والتوفيق، في أداء رسالته. وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) [هود] .
خلاصة أحكام السورة
أمر الله عز وجل رسوله (ص) بما يأتي:
1- قيام ثلث الليل أو نصفه أو ثلثيه.(10/214)
2- قراءة القرآن بتؤدة وتمهّل.
3- ذكر ربه ليلا ونهارا، بالتحميد والتسبيح والصلاة.
4- التوكّل على الله سبحانه، والاعتماد عليه.
5- الصبر على ما يقول الكفّار فيه، من أنّه ساحر أو شاعر وأن يهجرهم هجرا جميلا بمجانبتهم ومداراتهم وأن يكل أمرهم إلى ربّهم فهو الذي يكافئهم، وسيرى عاقبة أمرهم.
6- التخفيف من صلاة الليل، بعد أن شقّ ذلك عليهم لأعذار كثيرة والاكتفاء بما تيسّر من صلاة الليل ففي الصلاة المفروضة غنية للأمّة، مع إيتاء الزكاة ودوام الاستغفار.(10/215)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المزّمّل» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة المزمّل بعد سورة القلم، وكان نزول سورة القلم فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة المزمّل في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) وتبلغ آياتها عشرين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة تهيئة النبي (ص) للدعوة، وقد اقتضى هذا أمره بالصبر عليهم وإنذاره لهم. وقد ناسبت، بهذا الإنذار، سياق السورة السابقة في إنذارها، ولهذا ذكرت بعدها.
تهيئة النبي (ص) للدعوة الآيات [1- 20]
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) فأمره بقيام الليل، وترتيل القرآن ليستعين بهذا على ما سيلقي إليه من القول الثقيل، والتكليف الشاق وينشئ نفسا أشدّ موافقة لدعوته وأقوم قيلا ثم أمره سبحانه أن يداوم على ذكره، ويصبر على ما يقولون في حقه، وأن يتركه، ومن أبطرتهم النعمة منهم، فإنّه سيمهلهم ثمّ يذيقهم من عذابه أنكالا وجحيما وسيهلكهم،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/217)
كما أهلك فرعون حينما عصى رسوله، فأخذه أخذا وبيلا وهذه عظة لهم، ليدركوا أنفسهم قبل أن يحيق العذاب بهم ثم خفّف عليه وعلى أتباعه ما فرضه من قيام معظم الليل، ومداومة ترتيل القرآن، فكلّفهم من هذا بما يطيقون، ووعدهم عليه عظيم الأجر فقال سبحانه: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) .(10/218)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المزّمّل» «1»
أقول: لا يخفى وجه اتّصال أوّلها:
قُمِ اللَّيْلَ [الآية 2] . بقوله تعالى في آخر تلك: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: 19] . وبقوله سبحانه: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الجن: 18] «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . من المناسبة أنه تعالى لمّا قال في نهاية الجن: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن] . افتتح المزمّل بذكر بداية إرسال النبي (ص) ، وما كلّف به من شعائر العبودية والعبادة والدعوة.
وذلك لأنّ النبيّ (ص) بعث بين يدي الساعة، كما جاء في السنّة وقد قال تعالى في الجن: إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ [الآية 25] . فكأنه قال: هذه المزمّل علم من أعلامها، فهو الذي اصطفاه سبحانه، ليظهره على غيبه، وأنه بين يدي الساعة.(10/219)
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «المزّمّل» «1»
1- وقال تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) .
وقوله تعالى: ناشِئَةَ اللَّيْلِ هي النفس، التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة، أي: تنهض وترتفع.
أقول: ودلالة ناشِئَةَ اللَّيْلِ على النفس، من باب الصّفة التي حلّت محل الموصوف، فصارت نفسه.
2- وقال تعالى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (7) ، أي: تصرّفا وتقلّبا في مهمّاتك وشواغلك، ولا تفرغ إلّا بالليل، فعليك بمناجاة الله سبحانه، التي تقتضي فراغ البال وانتفاء الشواغل.
3- وقال تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) .
أقول: كان ينبغي، لو كان الكلام في غير القرآن، أن يكون المصدر «تبتّلا» ، ولكن عدل عنه إلى غيره، بسبب من مراعاة تناسب الفواصل.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(10/221)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «المزّمّل» «1»
قال تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) والأصل: المتزمّل، ولكن أدغمت التاء في الزاي والْمُدَّثِّرُ مثلها.
وقوله تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) فقال السائل عن هذا: قد قال تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) فلم قال، سبحانه:
نِصْفَهُ؟ إنّما المعنى «أو نصفه أو زد عليه» لأن ما يكون في معنى تكلم به العرب بغير: «أو» ، تقول: «أعطه درهما درهمين ثلاثة» تريد: «أو درهمين أو ثلاثة» «2» .
وقال تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) ومصدر تبتّل «التبتّل» كما قال سبحانه أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) [نوح] ، وقال الشاعر [من الوافر وهو الشاهد الثالث والأربعون بعد المائتين] :
وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبّعه اتّباعا
وقال [من الرجز وهو الشاهد الثاني والأربعون بعد المائتين] :
يجري عليها أيّما إجراء
وذلك أنّها إنّما جرت لأنّها أجريت.
وقال تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ [الآية 9]
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نقله في إعراب القرآن المنسوب للزجّاج 2: 705 والجامع 19: 35. [.....](10/223)
بالرفع على الابتداء «1» والجرّ على البدل «2» .
وقال تعالى: مَهِيلًا (14) تقول:
«هلته» ف «هو مهيل» .
وقال تعالى: كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) بجعل يَجْعَلُ الْوِلْدانَ من صفة اليوم، من غير إضافة، لعلّة الإضمار.
وقال تعالى: أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ [الآية 20] «3» وقد قرئت بالجر «4» وهو كثير، وليس المعنى عليه، فيما بلغنا، لأنّ ذلك يكون على «أدنى من نصفه» ، و «أدنى من ثلثه» وكان الذي افترض الثلث، أو أكثر من الثلث، لأنه قرأ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) . وأمّا الذي قرأ بالجرّ، فقراءته جائزة، على أن يكون ذلك، والله أعلم، أي أنكم لم تؤدّوا ما افترض عليكم، فقمتم أدنى من ثلثي الليل، ومن نصفه ومن ثلثه.
وقال تعالى: تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً [الآية 20] ف «هو» و «أنتم» و «أنتما» وأشباه ذلك صفات للأسماء مضمرة كما وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) [الزّخرف] . وأمّا من قرأ:
(تجدوه عند الله خير) «5» فقد جعلها اسما مبتدأ كما تقول «رأيت عبد الله أبوه خير منه»
__________
(1) . في معاني القرآن 2: 198 نسبت إلى أهل الحجاز وفي الجامع 19: 45 إلى أهل الحرمين، وابن محيصن، ومجاهد، وأبي عمرو، وابن إسحاق، وحفص وفي السبعة 658 إلى ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وحفص، عن عاصم وفي التيسير 216 إلى غير من أخذ بالأخرى.
(2) . في معاني القرآن 3: 198 إلى عاصم، والأعمش وفي الجامع 19: 45 إلى غير من أخذ بالأخرى وفي السبعة 658 إلى عاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر، وحمزة، والكسائي وفي التيسير 216 إلى أبي بكر، وابن عامر، وحمزة، والكسائي.
(3) . القراءة بالنصب في معاني القرآن 3: 199، نسبت إلى عاصم والأعمش وفي الطبري 29: 140 إلى بعض قرّاء مكة، وعامة قراء الكوفة وفي السبعة 657 إلى غير نافع، وأبي عمرو، وابن عامر، وفي البحر 8: 366 إلى زيد بن علي، وإلى السبعة عدا العربيين، ونافع وفي الكشف 2: 345، والتيسير 216، والجامع 19: 52، إلى ابن كثير والكوفيين.
(4) . في معاني القرآن 3: 199 إلى أهل المدينة، والحسن البصري وفي الطبري 29: 139 إلى عامة قرّاء المدينة والبصرة وفي السبعة 657 إلى نافع، وأبي عمرو، وابن عامر وفي الكشف 2: 345، والتيسير 216، إلى غير الكوفيين وابن كثير وفي البحر 8: 366 إلى العربيين ونافع وفي الجامع 19: 52 إلى العامة، واختارها أبو عبيد وأبو حاتم.
(5) . القراءة بالرفع هي في الشواذ 164 إلى أبي السمال وفي البحر 8: 367 زاد ابن السميفع. أمّا القراءة بالنصب فنسبت في البحر 8: 367 إلى الجمهور.(10/224)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «المزّمّل» «1»
إن قيل: ما معنى وصف القرآن بالثّقل في قوله تعالى إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) ؟
قلنا: فيه وجوه: أحدها أنه كان يثقل نزول الوحي على النبي (ص) ، حتّى يعرق عرقا شديدا في اليوم الشاتي.
الثاني: أن العمل بما فيه من التكاليف، ثقيل شاق. الثالث: ثقيل في الميزان يوم القيامة. الرابع: أنّه ثقيل على المنافقين. الخامس: أنه كلام له وزن ورجحان، كما يقال للرجل العاقل:
رزين راجح. السادس: أنه ليس بسفساف، لأن السفساف من الكلام يكون خفيفا.
فإن قيل: لم قال تعالى السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [الآية 18] ولم يقل سبحانه منفطرة به، والسماء مؤنثة؟
قلنا: هو على النسبة: أي ذات انفطار. وقيل ذكّرت السماء على معنى السقف. وقيل معناه السماء شيء منفطر به. وقيل السماء تذكر وتؤنث.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ [الآية 20] ولم يقل تعالى أن لن تحصوهما:
أي لن تعرفوا تحقيق مقادير ساعات الليل والنهار؟
قلنا: الضمير عائد إلى مصدر، يقدّر معناه: لن تحصوا تقديرهما.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/225)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «المزّمّل» «1»
في قوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) استعارة: لأن القرآن كلام، وهو عرض من الأعراض، والثقل والخفّة من صفات الأجسام، والمراد بها صفة القرآن بعظم القدر، ورجاحة الفضل، كما يقول القائل:
فلان رصين رزين. وفلان راجح ركين، إذا أراد صفته بالفضل الراجح، والقدر الوازن.
وفي قوله سبحانه في إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) وقرئ:
(وطاء) «2» استعارة. والمراد بناشئة الليل هاهنا، ما ينشأ فعله، أي يبتدأ به من عمل الليل، كالتهجّد في أثنائه، والتلاوة في آنائه.
من قرأ وطئا بالقصر فالمعنى فيه أن قيام الليل أشد وطأ عليك أي أصعب وأشق، كما يقول القائل: هذا الأمر شديد الوطأة علي. إذا وصف بلوغه منه وصعوبته عليه ومع أن عمل الليل أشد كلفة ومشقة فهو أقوم صلاة وقراءة، للمعنى الذي قدمنا ذكره.
ومن جعل «وطاء» هاهنا اسما لما يستوطأ ويفترش، كالمهاد وما يجري مجراه، فقد ذهب إلى أن عمل الليل أوعث مقاما، وأصعب مراما.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . قرأ أبو العالية، وأبو عمرو، ومجاهد، وابن أبي إسحاق، وحميد، وابن عامر، والمغيرة، وأبو حياة «وطاء» بالمد وقرأ الباقون وَطْئاً بفتح الواو، وسكون الطاء، على وزن بحر انظر «القرطبي» ج 19 ص 39.
[والقراءة المثبتة في المصحف الشريف، هي قراءة القصر] .(10/227)
وعندهم، أنّ كل ما ينشأ بالليل من قراءة، أو تهجّد، أو طروق، أو ترحّل أشقّ على فاعله، وأصعب على مستعمله، لأنّ الليل موحش هائل، ومخوف محاذر. فكل ما وقع فيه مما أومأنا إليه، كان كالنسيب له، والشبيه به.
وفي قوله سبحانه: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (7) استعارة. والمراد بها المضطرب الواسع، والمجال الفاسح.
وذلك مأخوذ من السباحة في الماء، وهي الاضطراب في غمراته، والتقلّب في جهاته. فكأنه سبحانه قال: إن لك في النهار متصرّفا ومتّسعا، ومذهبا منفسحا، تقضي فيه أوطارك، وتبلغ آرابك.
وفي قوله سبحانه: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) استعارة. والمراد بها: أن الولدان الذين هم الأطفال، لو جاز أن يشيبوا لرائع خطب، أو طارق كرب، لشابوا في ذلك اليوم لعظيم أهواله، وفظاعة أحواله. وذلك كقول القائل: قد لقيت، من هذا الأمر، ما تشيب منه النواصي، كناية عن فظيع ما لاقى، وعظيم ما قاسى.(10/228)
سورة المدّثّر 74(10/229)
المبحث الأول أهداف سورة «المدّثّر» «1»
سورة المدّثّر سورة مكية، آياتها 56 آية، نزلت بعد سورة المزّمّل.
وينطبق على سورة المدّثّر، من ناحية سبب نزولها، ووقت نزولها، ما ينطبق على سورة المزّمّل فهناك روايات بأنها هي أول ما نزل بعد سورة العلق، ورواية أخرى بأنها نزلت بعد الجهر بالدعوة، وإيذاء المشركين للنبي (ص) .
ويمكن التوفيق بين هذه الروايات، بأنّ صدر سورة المدّثّر أول ما نزل من القرآن الكريم بعد سورة العلق، وهو من أوّل السورة إلى قوله تعالى:
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) .
وأنّ الآيات التالية قد نزلت بعد الجهر بالدعوة، وربما كانت تعني شخصا معينا هو الوليد بن المغيرة «2» .
وأيّا مّا كان السبب والمناسبة، فقد تضمّنت السورة في مطلعها ذلك النداء العلويّ، بانتداب النبي (ص) لهذا الأمر الجلل، وانتزاعه من النوم والتدثّر والدفء، إلى الجهاد والكفاح والمشقة [الآيات من 1- 7] .
ثم تضمّنت بعد هذا تهديدا ووعيدا للمكذّبين بالآخرة، وبحرب الله المباشرة، كما تضمّنت ذلك سورة المزّمّل سواء بسواء، [الآيات من 8- 17] .
وتعيّن سورة المدثر أحد المكذّبين بصفته، وترسم مشهدا من مشاهد كيده، على نحو ما ورد في سورة
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.
(2) . في ظلال القرآن 29: 180(10/231)
القلم، وربما كان الشخص المعني هنا وهناك واحدا، وقد قيل إنّه الوليد بن المغيرة [الآيات 18- 30] .
ثمّ تتحدّث السورة عن عالم الغيب، ووصف سقر، والملائكة القائمين عليها، وعددهم وامتحان الله لعباده بذلك العدد، وذلك في آية واحدة طويلة هي الآية 31.
ثمّ تتحدث عن مشاهد الكون، وأدلّتها على وجود الله [الآيات 32- 37] .
كما تعرض مقام المجرمين، ومقام أصحاب اليمين، حيث يعترف المكذّبون اعترافا طويلا، بأسباب استحقاقهم للارتهان، والقيد في يوم الجزاء والحساب، يعقب عليه بكلمة الفصل في أمرهم، الذي لا تنفعهم فيه شفاعة شافع [الآيات 38- 48] .
وفي ظلّ هذا المشهد المخزي، والاعتراف المهين، يفضي السّياق إلى استنكارا موقف المكذبين من الدعوة إلى التذكرة والنجاة من هذا المصير، ويرسم لهم مشهدا ساخرا، يثير الضحك والزراية، من نفارهم الحيواني الشّموس [الآيات 49- 51] .
ويكشف السّياق عن حقيقة الغرور، الذي يساورهم فيمنعهم من الاستجابة لصوت المذكّر الناصح، ويبيّن أنّه الحسد للنبي (ص) ، والرغبة في أن يؤتى كل منهم الرسالة، والسبب الاخر هو قلّة التقوى [الآيتان 52- 53] .
وفي الختام يجيء التقرير الجازم الذي لا مجاملة فيه، وردّ الأمر كلّه إلى مشيئة الله سبحانه وقدره [الآيات 54- 56] .
وهكذا تمثّل السورة حلقة من حلقات الكفاح النفسي، الذي واجه به القرآن الجاهلية وتصوّراتها، في قلوب قريش، كما كافح العناد والكيد، والإعراض الناشئ عن العمد والقصد، بشتّى الأساليب. والمشابهات كثيرة بين اتجاهات هذه السورة، واتجاهات سورة المزّمّل، وسورة القلم، ممّا يدل على أنها جميعا نزلت متقاربة، لمواجهة حالات متشابهة.
وسورة المدّثّر قصيرة الآيات، سريعة الجريان، منوّعة الفواصل والقوافي، يتّئد إيقاعها أحيانا، ويجري لاهثا أحيانا، وبخاصّة عند تصوير مشهد هذا المكذّب، وهو يفكّر ويقدّر ويعبس(10/232)
ويبسر.. وتصوير مشهد سقر، لا تبقي ولا تذر، لوّاحة للبشر.
مع آيات السورة
[الآيات 1- 7] : بدأت السورة بنداء النبي الكريم (ص) ليقوم بأمر جليل هو إنذار البشرية، وتخليصها من الشرّ في الدنيا، ومن النار في الاخرة.
ثم يوجه الله سبحانه رسوله الأكرم في خاصة نفسه، بأن يكبّر ربه وحده، فهو سبحانه الكبير المتعالي، وهو القوي المتين، وهو على كل شيء قدير. ويوجّهه إلى التطهير بأنواعه، ويشمل طهارة الثوب، وطهارة البدن، وطهارة القلب، ليكون أهلا للتلقي عن الملأ الأعلى، ويوجهه إلى هجران الشرك، وموجبات العذاب والتحرّز، والتطهر من مس هذا الدّنس.
ويوجهه إلى إنكار ذاته، وعدم المن بما يقدمه من الجهد أو استكثاره أو استعظامه، فكلّ ما يقدّمه الإنسان من خير هو بتوفيق الله وعونه، وذلك يستحق الشكر لله لا المنّ والاستكثار.
ويوجهه سبحانه أخيرا إلى الصبر على الطاعة، والصبر على الأذى والتكذيب، وعدم الجزع من أذى المخالفين.
[الآيات 8- 30] : حينما ينفخ إسرافيل في الصّور، يواجه الكافرين يوم عسير، لا يسر فيه ولا هوادة، بل يجدون الحساب السريع والجزاء العادل والعقاب الرادع.
وقد روى ابن جرير الطبري أنّ الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة، حينما فكّر في تهمة يلصقها بالنبي (ص) ثم ادّعى أن النبي (ص) ساحر وقد كان الوليد يسمّى الوحيد، لأنه وحيد في قومه، فماله كثير، فيه الزرع والضّرع والتجارة، وله عشرة أبناء يشهدون المحافل والمجامع، أسلم منهم ثلاثة:
خالد وهشام وعمارة، وقد بسط الله له الرزق، وطال عمره مع الجاه العريض والرياسة في قومه، وكان يسمّى ريحانة قريش.
ويتّجه السياق إلى تهديد هذا المشرك، فيقول تعالى ما معناه: خلّ بيني وبين هذا المشرك، الذي أخرجته من بطن أمه وحيدا، لا مال له ولا ولد، ثمّ بسطت له الرزق والجاه العريض، فكفر بأنعم الله عليه.
لقد أعطيته المال الكثير، ورزقته بنين(10/233)
من حوله حاضرين شهودا، فهو منهم في أنس وعزوة، ومهّدت له الحياة ويسّرتها له تيسيرا ثمّ هو يطمع في مزيد من الثراء والجاه. كلا لن نزيده من نعمنا، بل سنذهب عنه كلّ ما أنعمنا به عليه، لأنّه كان معاندا ومعارضا لآيات القرآن الكريم سأكلّفه ما لا يطيق من كربة وضيق، كأنما يصعد في السماء، أو يصعد الجبال الوعرة الشاقة.
إنّه فكّر وتروّى: ماذا يقول في القرآن، وبماذا يصفه حينما سئل عن ذلك، ثمّ لعن كيف قدّر، ثم نظر إلى قومه في جدّ مصطنع، وقطّب وجهه عابسا، وقبض ملامح وجهه باسرا ليستجمع فكره، فقال: ما هذا القرآن إلّا سحر، ينقله محمّد عن السحرة، كمسيلمة وأهل بابل، وليس هذا من كلام الله، وإنّما هو من كلام البشر.
سأدخله سقر، وماذا تعلم عنها، إنّها شيء أعظم وأهول من الإدراك، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) فهي تكنس كنسا، وتبلغ بلعا وتمحو محوا، فلا يقف لها شيء، ولا يبقى وراءها شيء، ولا يفضل منها شيء، وهي لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) تلوّح الجلد فتحرقه وتغيّر لونه، على النار تسعة عشر، لا ندري:
أأفراد من الملائكة الغلاظ الشداد هم، أم صفوف، أم أنواع من الملائكة وصنوف.
[الآية 31] : ولم نجعل المدّبرين لأمر النار إلّا ملائكة، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم.
وما جعلنا عددهم تسعة عشر إلّا امتحانا للذين كفروا، وليستيقن الذين أوتوا الكتاب بصحّة القرآن، لأنهم يرون أن ما يجيء فيه موافق لما في كتبهم. ويزداد الذين آمنوا ايمانا، وذلك بتصديق أهل الكتاب له.
وتستشعر قلوب المؤمنين بحكمة الله في هذا العدد، وتقديره الدقيق في الخلق. وتثبت هذه الحقيقة في قلوب أهل الكتاب، وقلوب المؤمنين، فلا يرتابون بعدها فيما يأتيهم من عند الله.
وليقول الذين في قلوبهم مرض النفاق، والكافرون: ماذا أراد الله بهذا العدد المستغرب استغراب المثل؟
كذلك يضلّ الله من يشاء من المنافقين والمشركين، لسوء استعدادهم، ويهدي من يشاء من المؤمنين، لتزكية نفوسهم، وتوجيه استعدادهم للخير، وما يعلم جموع(10/234)
خلق الله إلّا هو. وإنّ خزنة النار، وإن كانوا تسعة عشر، فإن لهم من الأعوان والجنود من الملائكة، ما لا يعلمه إلّا الله سبحانه، وما هذه السورة إلّا تذكرة للبشر.
[الآيات 32- 38] : كلا وحقّ القمر، والليل إذا تولّى، والصبح إذا تجلّى، إنّ الاخرة وما فيها، أو سقر والجنود التي عليها، هي إحدى الأمور الكبيرة العجيبة، المنذرة للبشر، بما وراءهم من الخطر ولكلّ نفس أن تختار طريقها، وأن تتقدم في سبيل الخير أو تتخلّف عنه.
[الآيات 39- 48] : تعرض هذه الآيات مقام أصحاب اليمين، فهم في جنّات يسأل بعضهم بعضا عن المجرمين.
ويقال لهم: أيّها المجرمون ما الذي أدخلكم في جهنّم؟ فيعترفون اعترافا طويلا مفصّلا، يتناول الجرائر الكثيرة التي انتهت بالمجرمين إلى سقر.
قالوا دخلنا جهنّم، لأننا لم نك من المؤمنين، ولم نك نطعم المساكين، وكنّا نخوض في الباطل مع الخائضين، وكنّا نكذّب بيوم الجزاء والحساب، حتّى جاءنا الموت الذي يقطع كلّ شكّ، وينهي كلّ ريب، فما تنفعهم بعد ذلك شفاعة الشافعين، لأنه يكون قد انقضى وقت الإمهال.
[الآيات 49- 56] : فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) : إذا كان الحال في الاخرة سيكون كما وصفنا في الآيات السابقة، فما بالهم معرضين عن القرآن؟ كأنهم، في هربهم من سماع كلام الله ونفورهم منه، حمير نافرة، فرّت من أسد تطلب النجاة من بطشه.
تلك هيئتهم الظاهرة.
ثمّ يرسم القرآن نفوسهم من الداخل، وما يعتلج فيها من المشاعر فيبين أنّ الحسد هو الذي منعهم من الإيمان، بل يرغب كل منهم أن يكون في منزلة الرسول (ص) ، وأن يؤتى صحفا تنشر على الناس وتعلن، وإنّما حملهم على ذلك أنّهم لا يصدّقون بالآخرة، ولا يخافون أهوالها، وأن هذا القرآن تذكرة تنبّه وتذكّر، فمن أراد الانتفاع بالقرآن قرأه وانتفع به.
وما يهتدون إلّا بمشيئة الله، هو سبحانه أهل بأن يتّقى عذابه، وترجّى مغفرته، وهو سبحانه صاحب المغفرة يتفضّل بها على عباده وفق مشيئته.(10/235)
مقاصد السورة إجمالا
أمر النبي (ص) بدعوة الخلق إلى الإيمان، وتقرير صعوبة القيامة على أهل الكفر والعصيان، وتهديد الوليد بن المغيرة الذي منحه الله مالا وفيرا، وعشرة من البنين، وبسط له في العيش لكنّه قابل هذه النعم بالجحود والعناد.
وذكر (جل شأنه) كيف استهزأ الوليد برسول الله (ص) ، وكيف اتّهمه بالسحر، فأنذره تعالى بسقر ثمّ وصفها ووصف زبانية الجحيم، وعذاب أهل النار ثم ذكر تعالى الأبرار ونعيمهم، والمجرمين وصفاتهم، وهي البعد عن الصلاة والإيمان، والبخل بالمال، والخوض في إيذاء المؤمنين. لقد سلبوا هداية السماء، ففروا من سماع القرآن، فرار حمر الوحش إذا رأت أسدا. وحرمت قلوبهم بركة التقوى. والله تعالى هو الجدير بأن يتقيه العباد، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة.(10/236)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المدّثّر» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة المدّثّر بعد سورة المزّمّل وكان الوحي قد انقطع بعد بدء نزوله مدّة، لم يتفق المؤرّخون عليها وأرجح أقوالهم أنها كانت أربعين يوما. وقد نزلت سورة المدّثّر بعد انقضاء هذه المدة. فيكون نزولها، فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وتبلغ آياتها ستا وخمسين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة: استنهاض النبي (ص) للدعوة، وقد اقتضى هذا أيضا إنذار المشركين بما ينتظرهم من العذاب، إذا لم يجيبوا ما يدعون إليه فكانت في هذا مثل السورة السابقة، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها.
استنهاض النبي (ص) للدعوة الآيات [1- 56]
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) فأمره أن ينهض للقيام بإنذارهم، ويكبّره، ويطهّر ثيابه، ويهجر الرجز، والمنّ على من يحسن
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/237)
إليه، ويصبر لما أمره بتبليغه. ثم ذكر سبحانه أنه إذا نقر في الناقور، كان يوم عسير عليهم وأمره أن يتركه ومن خلقه وحيدا، وجعل له مالا ممدودا وذكر أنه سيرهقه صعودا، لأنه زعم أن ما ينذر به سحر يؤثر وقد فصّل ما فصل في وعيده، إلى أن قال تعالى فيما أوعده به من سقر: وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) ثم أنكر أن تكون لهم ذكرى، فأقسم بالقمر وما ذكر معه، أنها لهم إحدى الكبر، من دركات جهنم السبع، وأنها نذير للبشر فمن شاء أن يتقدّم إلى الخير فليتقدّم، ومن شاء أن يتأخّر عنه فليتأخّر فكل نفس مأخوذة بما كسبت إلا أصحاب اليمين، فهم في جنّات يتساءلون عمّا سلك المجرمين في سقر فيجيبونهم بأنهم لم يكونوا من المصلّين، إلى غير هذا مما يذكرونه من أفعالهم ثم أنكر عليهم (سبحانه) أن يعرضوا بعد هذا عن التذكرة، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) . وذكر أن كل واحد منهم يريد أن تنزل عليه صحيفة من السماء، تأمره باتّباع ما يدعى إليه ثم ردعهم عن هذه الإرادة، وذكر سبحانه أن عدم خوفهم من الاخرة هو السبب في إعراضهم عن الإيمان به، وردعهم أيضا عن هذا الإعراض، وذكر أنه تذكرة بليغة كافية فمن شاء ذكّره بها:
وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) .(10/238)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المدّثّر» «1»
أقول: هذه السورة متاخية مع السورة التي قبلها في الافتتاح بخطاب النبي (ص) ، وصدر كليهما نازل في قصة واحدة. وقد ذكر عن ابن عباس في ترتيب نزول السّور: أن المدّثّر نزلت عقب المزّمّل. أخرجه ابن الضريس. وأخرجه غيره عن جابر بن زيد «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . وفيها كذلك زيادة: إعلام بالساعة وأهوالها في قوله تعالى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) إلى فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) .(10/239)
المبحث الرابع مكنونات سورة «المدّثّر» «1»
1- ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) .
أخرج الحاكم»
عن ابن عبّاس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة.
2- وَبَنِينَ شُهُوداً (13) .
قال أبو مالك، وسعيد بن جبير:
كانوا ثلاثة عشر ابنا. أخرجه ابن أبي حاتم «3» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]
(2) . في «المستدرك» 2: 506 قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه» ، وأقرّه الذهبي.
والأثر أيضا في «تفسير الطبري» 29/. 96
(3) . وأخرج الطبري في «تفسيره» 29: 97 عن مجاهد، أنهم كانوا عشرة.(10/241)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المدّثّر» «1»
1- وقال تعالى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) .
أقول: وقوله تعالى: نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) بيان عن حلول يوم القيامة.
(الناقور) : ما ينفخ فيه من أسماء الأدوات، وكثير من هذه الأسماء جاء على «فاعول» .
2- وقال تعالى: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) .
أي: سأغشيه عقبة شاقّة المصعد.
أقول: وبناء فعول للأسماء معروف في العربية، فمنه الصّعود والهبوط والحدور وغير ذلك.
3- وقال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) .
أقول: وقد جاء قوله أيضا: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) [الطور] .
وهذا يعني: أن «فعيل» بمعنى «مفعول» لا يستوي فيه المذكر والمؤنث دائما، فقد تلحقه الهاء، والآيتان شاهدان على ذلك. وليس من ذهب إلى أن «رهين» في الآيتين اسم وليس صفة بحجة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(10/243)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المدّثّر» «1»
قرأ بعضهم قوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) بالجزم «2» على أنّها جواب النهي. والقراءة المثبتة في المصحف بالرفع، أي: ولا تمنن مستكثرا وهو أجود المعنيين.
قال تعالى: كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) أي: معاندا.
وقال سبحانه: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) .
و «دبر» في معنى «أدبر» . يقولون: «قبّح الله ما قبل منه وما دبر» «3» وقالوا «عام قابل» ، ولم يقولوا «مقبل» .
وقال تعالى: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) . فانتصب نَذِيراً لأنه خبر ل إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) ، أي لأنه خبر للمعرفة، وقد حسن عليه السكوت، فصار حالا، وهي «النذير» كما تقول «إنّه لعبد الله قائما» ، وقال بعضهم إنّما هو: «قم نذيرا فأنذر» .
وقال تعالى: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) أي: إنّ القرآن تذكرة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . في الشواذ 164، والمحتسب 2: 337، إلى الحسن، وزاد في الجامع 19: 69 و 67 ابن مسعود. أما في البحر 8: 372، فابدل، بابن مسعود، ابن أبي عبلة.
(3) . في مجاز القرآن 2: 275 و 276، جاء بأمثلة، تدل على قوله: بتساوي الفعلين المزيد والمجرد في المعنى.
ورآهما الفراء في معاني القرآن 3: 204، لغتين.(10/245)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المدّثّر» «1»
إن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى:
غَيْرُ يَسِيرٍ (10) بعد قوله سبحانه:
فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ.
قلنا: قيل معناه: أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا، كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا. وقيل إنه تأكيد.
فإن قيل: ما فائدة التكرار في قوله تعالى: لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) ومعناهما واحد؟
قلنا: معناه لا تبقي للكفّار لحما، ولا تذر لهم عظما. وقيل معناه لا تبقيهم أحياء، ولا تذرهم أمواتا.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ [الآية 31] وما سبق من وصفهم، بالاستيقان وازدياد الإيمان، دلّ على انتفاء الارتياب والجمل كلّها متعلّقة بعدد خزنة النار.
والمعنى يستيقن الذين أوتوا الكتاب أن ما جاء به محمّد (ص) حق، حيث أخبر عن عدد خزنة النار بمثل ما في التوراة، ويزداد الذين آمنوا من أهل الكتاب إيمانا بالنبي (ص) والقرآن، حيث وجدوا ما أخبرهم به مطابقا لما في كتابهم؟
قلنا فائدته التأكيد، والتعريض أيضا بحال من عداهم من الشاكّين، وهم الكفّار والمنافقون فمعناه: ولا يرتاب هؤلاء كما ارتاب أولئك.
فإن قيل: لم قال تعالى: ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا [الآية 31] يعني حصر
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/247)
عدد الخزنة في تسعة عشر، وذلك ليس بمثل.
قلنا: هو استعارة، من المثل المضروب، ممّا وقع غريبا وبديعا في الكلام، استغرابا منهم لهذا العدد، واستبداعا له والمعنى: أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب، وأيّ حكمة قصد في جعل الخزنة تسعة عشر لا عشرين. الثاني: أنّ المثل هنا بمعنى الصفة، كما في قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد: 35] ماذا أراد الله بهذا العدد، صفة للخزنة.
فإن قيل: لم طابق قوله تعالى: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) ، وهو سؤال للمجرمين، قوله تعالى: يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) وهو سؤال عنهم، وإنما المطابق: يسألون المجرمين أو يتساءلون عن المجرمين ما سلكهم في سقر: أي يسأل أهل الجنة بعضهم بعضا عن أهل النار؟
قلنا. قوله تعالى: ما سَلَكَكُمْ [الآية 42] ليس بيانا للتساؤل عنهم، وإنما هو حكاية قول المسؤولين عن المجرمين فالمسؤولون من أهل الجنّة ألقوا إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين وذلك أنّ المؤمنين إذا أخرجهم الله تعالى من النار، بعد ما عذّبهم بقدر ذنوبهم، وأدخلهم الجنّة، يسألهم بعض أصحاب اليمين عن حال المجرمين، وسبب تخليدهم، فيقول المسؤولون: قلنا لهم: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) وهؤلاء المؤمنون بعد إخراجهم من النار وإدخالهم الجنّة، صاروا من أصحاب اليمين. وقيل المراد بأصحاب اليمين، الملائكة عليهم السلام. وقيل الأطفال، لأنهم لا يرتهنون بذنوب، إذ لا ذنوب لهم.(10/248)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المدّثّر» «1»
في قوله سبحانه: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) استعارة على بعض التأويلات: وهو أن تكون الثياب هاهنا كناية عن النفس، أو عن الأفعال والأعمال الراجعة إلى النفس. قال الشاعر «2» :
ألا أبلغ أبا حفص رسولا فدى لك من أخي ثقة إزاري قيل: أراد فدى لك نفسي. وكذلك قول الفرزدق:
سكّنت جروتها «3» وقلت لها اصبري ... وشددت في ضيق المقام إزاري
أي شددت نفسي، وذمرت قلبي.
والإزار والثياب يتقارب معناهما.
وعلى هذا فسّروا قول امرئ القيس:
فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل «4»
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . هو بقيلة الأكبر الأشجعي، وكنيته أبو المنهال. شاعر إسلامي. وله خبر مع عمر بن الخطاب (رض) ، بشأن رجل كان واليا على مدينتهم اسمه جعدة بن عبد الله، وكان له شأن غير مرضي مع النساء. فأرسل الشاعر بقيلة أبياتا إلى عمر يستعديه على هذا الوالي. والقصة كاملة في «لسان العرب» . وذكر ابن مطرف الكناني في «القرطين» الأبيات في ص 80 ج 2، ولم ينسبها لقائلها، واكتفى بقوله: روي في بعض الحديث، أن رجلا كتب إلى عمر بن الخطاب. وفي مادة أزد في «لسان العرب» أن اسمه نفيلة، والتصويب عن «المؤتلف والمختلف» ص 62، حيث ورد في باب الباء لا النون.
(3) . في ديوان الفرزدق ص 322.
فضربت جروتها وقلت لها اصبري ... وشددت في ضيق المقام إزاري
وضرب الجروة: كناية عن العزم والتصميم على الأمر.
(4) . البيت بكماله هو:
وإن تك قد ساءتك منّي خليقة ... فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل(10/249)
أي نفسي من نفسك، أو قلبي من قلبك.
ويقولون: فلان طاهر الثياب، أي طاهر النفس، أو طاهر الأفعال. فكأنّه سبحانه قال: ونفسك فطهّر، أو أفعالك فطهّر.
وقد يجوز أن يكون للثياب هاهنا معنى آخر، وهو أن الله سبحانه سمّى الأزواج لباسا، فقال تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [البقرة: 187] واللّباس والثّياب بمعنى واحد. فكأنّه سبحانه أمره أن يستطهر النساء. أي يختارهن طاهرات من دنس الكفر، ودرن العيب، لأنهن مظانّ الاستيلاد، ومضامّ الأولاد.
وفي قوله سبحانه: وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) استعارة، والمراد بها انكشاف الصبح بعد استتاره، ووضوحه بعد التباسه، تشبيها بالرجل المسفر الذي قد حطّ لثامه، فظهرت مجالي وجهه، ومعالم صورته.(10/250)
سورة القيامة 75(10/251)
المبحث الأول أهداف سورة «القيامة» «1»
سورة القيامة سورة مكية، آياتها 40 آية، نزلت بعد سورة القارعة.
هي سورة تتحدث عن القيامة، وعن النفس اللوّامة وتحشد على القلب البشري، من الحقائق والمؤثّرات، والصور والمشاهد، ما لا قبل له بمواجهته ولا التفلّت منه.
ومن تلك الحقائق الكبيرة، التي تحشدها السورة في مواجهة القلب البشري، حقيقة الموت القاسية الرهيبة، التي تواجه كلّ حي، وتتكرّر كلّ لحظة، ويواجهها الكبار والصغار، والأغنياء والفقراء والأقوياء والضعاف، ويقف الجميع منها موقفا واحدا، هو الاستسلام والخضوع لقدرة العلي القدير إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) .
ومن تلك الحقائق، التي تعرضها السورة، حقيقة النشأة الأولى وأن من خلق الإنسان، من نطفة، قادر على أن يعيده مرة أخرى أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) .
ومن المشاهد المؤثرة، في السورة، مشهد القيامة، وقد وقف الجميع للحساب، وزاغت الأبصار، واشتدّ الهول، ولقي كل إنسان جزاءه: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) ...
إلخ.
ومن هذه المشاهد: مشهد المؤمنين المطمئنين إلى ربّهم، المتطلعين إلى وجهه الكريم، ومشهد الآخرين المقطوعي الصلة بالله:
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(10/253)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) .
وهكذا يشعر القلب، وهو يواجه هذه السورة، أنه محاصر لا يستطيع الهروب، مأخوذ بعمله لا يستطيع الإفلات، لا ملجأ له من الله ولا عاصم. وهكذا تعالج السورة عناد المشركين وإصرارهم، وتشعر الإنسان بالجدّ الصارم الجازم، في شأن القيامة، وشأن النفس، وشأن الحياة المقدّرة بحساب دقيق. وقد لوّنت السورة وزاوجت بين حقائق الاخرة، وحقائق الخلق والإبداع، ومشاهد الموت والحساب، وتكفّل الله بشأن القرآن وحفظه. وتلك خصيصة من خصائص الأسلوب القرآني، حيث يخاطب القلب البشري بشتّى الأساليب والمؤثّرات والحقائق والمشاهد، ممّا يأخذ عليه كل طريق، ويقوده إلى الإذعان والتسليم.
مع آيات السورة
[الآيتان 1- 2] : يقسم الله تعالى بيوم القيامة وعظمة هوله، وبالنفس التي تلوم صاحبها على الخير والشر، وتندم على ما فات يقسم أن البعث حق.
[الآيتان 3- 4] : يردّ سبحانه على بعض المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث، وقد كانت المشكلة الشعورية عند المشركين، صعوبة تصورهم لجمع العظام البالية، الذاهبة في التراب، المتفرّقة في الثرى، وإعادة بعث الإنسان حيا.
والنّص يؤكّد عملية جمع العظام، بما هو أرقى من مجرد جمعها، وهو تسوية البنان، وتركيبه في موضعه كما كان وهي كناية عن إعادة التكوين البشري بأدق ما فيه، حتّى يتمثل الإنسان بشرا سويّا، لا ينقصه حتّى تسوية أصابعه، وما حملت من خاصّيّات مميزة.
[الآيتان 5- 6] : لا يجهل ابن آدم أنّ ربه قادر على أن يجمع عظامه، ولكنه يريد أن يداوم على فجوره، ولا يتخلى عنه ومن ثم فهو يستبعد وقوع البعث، ويستبعد مجيء القيامة.
[الآيات 7- 9] : ذكر سبحانه، من علامات يوم القيامة، أمورا ثلاثة:(10/254)
1- فالبصر يخطف ويتقلّب سريعا سريعا، تقلّب البرق وخطفه.
2- والقمر يخسف ويطمس نوره.
3- والشمس تقترن بالقمر بعد افتراق، ويختل نظامها الفلكي المعهود، حيث ينفرط ذلك النظام الكوني الدقيق.
[الآيات 10- 12] : يتساءل الإنسان المرعوب، أين المفرّ من جهنّم؟ وهل من ملجأ منها؟
لا ملجأ ولا وقاية ولا مفر من قهر الله وأخذه فالرجعة إليه والمستقرّ عنده، لا مستقر عند سواه.
قال السّدّيّ: كانوا إذا فزعوا في الدّنيا تحصّنوا بالجبال، فقال الله لهم لا وزر يعصمكم مني.
[الآية 13] : يخبر الإنسان حين العرض والحساب بجميع أعماله قديمها وحديثها، أوّلها وآخرها، صغيرها وكبيرها.
وفي الحديث: «سبع يجري أجرها للعبد بعد موته وهو في قبره: من علّم علما، أو أجرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس ظلّا، أو بنى مسجدا، أو ورّق مصحفا، أو ترك وليّا يستغفر له بعد موته» .
[الآيتان 14- 15] : بل الإنسان على نفسه بصيرة، بل الإنسان حجة بيّنة على نفسه، وفي ذلك اليوم تنطق جوارحه بما فعل فسمعه وبصره ويداه ورجلاه، وجميع أعضائه تشهد عليه، ويتضح الحق، ولو جاء بالأعذار كلها.
[الآية 16] : تكفّل الله بالقرآن، وحيا وحفظا وجمعا وبيانا، وليس للرسول (ص) من أمره إلّا حمله وتبليغه.
وقد كان الرسول الأمين شديد اللهفة والحرص على استيعاب القرآن وحفظه، ممّا كان يدعوه إلى متابعة جبريل (ع) في التلاوة آية آية، وكلمة كلمة.
فلمّا نزلت هذه الآية، كان رسول الله (ص) إذا أتاه جبريل، أطرق وسكت، فإذا ذهب قرأه كما أمره الله.
[الآيات 17- 19] : إن علينا جمعه في صدرك الشريف، وقراءته على لسانك، فلن تنساه أبدا، بل نحن سنجمعه في صدور المؤمنين، ونحفظ قراءته. فإذا تلاه عليك الملك فاستمع(10/2551)
له، ثم اقرأه كما أقرأك ثم إنّا بعد حفظه وتلاوته، نبينه لك ونلهمك معناه.
[الآيتان 20- 21] : إنكم يا بني آدم خلقتم من عجل وطبعتم عليه، فتعجلون في كلّ شيء ومن ثمّ تحبون العاجلة، وتذرون الاخرة.
[الآيتان 22- 23] : في ذلك اليوم، يوم القيامة، ستكون هناك وجوه حسنة ناعمة، تنظر إلى جلال الله، وتتمتّع برضوانه، وهي متعة دونها كل متعة.
إن روح الإنسان لتستمتاع أحيانا بلمحة من جمال الإبداع الإلهي في الكون أو النفس، تراها في الليلة القمراء، أو الليل الساجي، أو الفجر الوليد، أو الظل المديد، أو البحر العباب، أو الصحراء المنسابة، أو الروض البهيج، أو الطلعة البهية، أو القلب النبيل، أو الإيمان الواثق، أو الصبر الجميل ... إلى آخر مطالع الجمال في هذا الوجود، فتغمرها النشوة، وتفيض بها السعادة. فكيف بها وهي تنظر إلى جمال ذات الله؟
وتستمتع بهذه السعادة الغامرة، التي لا يحيط بها وصف، ولا يتصوّر حقيقتها إدراك؟
[الآيتان 24- 25] : ووجوه الفجّار تكون يوم القيامة عابسة كالحة، مستيقنة أنّها ستصاب بداهية عظيمة تقصم ظهرها وتهلكها.
[الآيات 26- 30] : تعرض الآيات مشهد الاحتضار، حينما تبلغ الروح أعالي الصدر، وتشرف النفس على الموت، ويقول أهل المحتضر: من يرقيه للشفاء ممّا نزل به؟ والتمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا وأيقن المحتضر أنّ ما نزل به نذير الفراق من الدنيا والمال والأهل والولد. وبطلت كل حيلة، وعجزت كل وسيلة، والتوت ساقه بساقه فلا يقدر على تحريكهما. ويتبيّن الطريق الواحد، الذي يساق إليه كلّ حي في نهاية المطاف: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) .
إن المشهد يكاد يتحرّك وينطق، وكل آية ترسم حركة، إنه مشهد الموت الذي ينتهي إليه كلّ حي، الموت الذي يصرع الجبابرة، بالسهولة نفسها التي يصرع بها الأقزام، ويقهر المتسلّطين، كما يقهر المستضعفين، الموت الذي لا حيلة للبشر فيه، وهم مع هذا لا يتدبرون القوة القاهرة التي تجريه.(10/256)
[الآيات 31- 33] : ورد أن هذه الآيات تعني شخصا معيّنا بالذات، قيل هو أبو جهل: (عمرو بن هشام) ، وكان يجيء أحيانا إلى رسول الله (ص) ، يسمع منه القرآن، ثم يذهب عنه فلا يؤمن ولا يطيع، ولا يتأدّب ولا يخشى. ويؤذي رسول الله (ص) بالقول، ويصدّ عن سبيل الله ثم يذهب مختالا بما فعل، فخورا بما ارتكب من الشر، كأنه لم يفعل شيئا يذكر، و (يتمطّى) أي يمط في ظهره ويتعاجب تعاجبا ثقيلا كريها.
وكم من أبي جهل في تاريخ الدعوة إلى الله، يسمع ويعرض، ويتفنّن في الصّدّ عن سبيل الله، والأذى للدعاة.
[الآيتان 34- 35] : ويل لك مرة بعد أخرى، وأهلكك الله هلاكا أقرب لك من كلّ شر وهلاك وهو تعبير اصطلاحي يتضمن التهديد والوعيد، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) ، أي يتكرر هذا الدعاء عليك مرة أخرى.
روى قتادة «أن النبي (ص) أخذ بيد أبي جهل، فقال: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) ، فقال عدو الله:
أتوعدني يا محمّد، والله لا تستطيع أنت وربّك شيئا، وإنّي لأعزّ من مشى بين جبليها» . فأخذه الله يوم بدر بيد المؤمنين.
[الآية 36] : أيحسب الكافر أن يترك مهملا، لا يؤمر ولا ينهى ولا يبعث ولا يجازى؟ لقد كانت الحياة في نظر القوم حركة لا علّة لها ولا هدف ولا غاية: أرحام تدفع، وقبور تبلع، وبين هاتين لهو ولعب، وزينة وتفاخر فلفتت الآية نظر الإنسان إلى التقدير والتدبير في حياته وأنّه لا بدّ من البعث والجزاء، ليتميّز الصالح من الطالح، والمؤمن من الكافر ثمّ يأتي ما بعدها بالدلائل الواقعية على هذا القول.
[الآيات 37- 39] : فما هذا الإنسان؟ مم خلق؟ وكيف كان؟
ألم يك نطفة صغيرة من الماء من منيّ يراق؟ ألم تتحول هذه النطفة إلى علقة ذات وضع خاص في الرحم، تعلق بجدرانه لتعيش وتستمدّ الغذاء؟
فمن ذا الذي ألهمها هذه الحركة؟ ومن ذا الذي وجّهها هذا الاتجاه؟
ثم من ذا الذي خلقها بعد ذلك الحين جنينا معتدلا منسق الأعضاء؟
مؤلّفا جسمه من ملايين الملايين من الخلايا الحيّة، وهو في الأصل خليّة(10/257)
واحدة مع بويضة؟
ومن ذا الذي قاد هذه الخلية، وهي خليقة صغيرة ضعيفة، لا عقل لها ولا مدارك ولا تجارب؟
ثمّ في النهاية: من ذا الذي جعل من الخلية الواحدة الذّكر والأنثى؟.
إنّه لا مفر من الإحساس باليد اللطيفة المدبّرة، التي قادت النطفة المراقة في طريقها الطويل، حتى انتهت بها إلى ذلك المصير: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) .
[الآية 40] : وفي ختام السورة يجيء هذا الاستفهام القوي الحاسم: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) ؟: أي أليس الذي أنشأ هذا الخلق السويّ، من هذه النطفة المراقة، بقادر على أن يعيده كما بدأه؟
أليس الفعّال، للتدبير والتقدير والنشأة الأولى، بقادر على البعث والإحياء مرة أخرى؟.
قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:
27] .
وإذا سمع المؤمن هذه الآية الأخيرة من سورة القيامة فليقل: بلى قادر.
أخرج الإمام أحمد وأبو داود والحاكم، وصحّحه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص) من قرأ منكم: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وانتهى إلى آخرها: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) ، فليقل بلى، وأنا على ذلكم من الشاهدين. ومن قرأ: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) ، فانتهى إلى آخرها:
أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) ، فليقل بلى، ومن قرأ المرسلات فبلغ:
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ، فليقل آمنا بالله» .
مقصود السورة
بيان هول القيامة، وهيبتها، وبيان إثبات البعث وتأثير القيامة في أعيان العالم، حيث يزوغ البصر، ويظلم القمر، وتتكدّر الشمس، ويفزع الإنسان ويقول أين المفر؟
وفي ذلك اليوم سينال كل إنسان جزاء عمله.
وبيّنت السورة آداب سماع الوحي، والوعد باللقاء والرؤية وبيّنت هول الاحتضار، وقدرة الله تعالى على البدء والإعادة، وبعث الموتى وحسابهم وجزائهم، في قوله سبحانه: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) .(10/258)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القيامة» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة القيامة بعد سبع سور من سورة النجم، وكان نزول سورة النجم فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة القيامة في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) . وتبلغ آياتها أربعين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إثبات البعث وما يكون فيه من حساب وثواب وعقاب. وبهذا يكون سياقها في الإنذار والترهيب والترغيب أيضا، ويكون ذكرها مناسبا للسورة المذكورة قبلها.
إثبات البعث الآيات [1- 40]
قال الله تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) ، فذكر سبحانه أنه لا يقسم بهذا على بعثهم لأنه أظهر من أن يحتاج إلى قسم، وأنكر ما يستبعدون من جمع العظام بعد تفريقها ثم ذكر جلّ وعلا، أنه قادر على جمع العظام وتسوية البنان كما كان قبل الموت وأبطل ما يريدونه من مضيهم في فجورهم ثم ذكر، جلّت قدرته، أنهم يسألون مستبعدين: أيّان يوم القيامة؟
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/259)
وأجاب عن هذا بأنه إذا جاءت علامات هذا اليوم يتمنّون أن يفرّوا منه ولا مفرّ، وبأنه لا بد من مصيرهم إليه، لينبئ كل واحد بما قدّم وأخّر وتبصر كل نفس عملها في كتابها، فلا تقبل معذرة عنه. ثم ذكر، سبحانه، ما يكون من نهي الإنسان عن التعجل في قراءة كتابه قبل أن تجمع فيه أعماله وأمره أن ينتظر حتى يقرأ عليه، ثم يتبعه بالإقرار به. وذكر أن هذا التعجّل ناشئ من حبهم العاجلة ونسيانهم الاخرة وأنه، بعد عرض الأعمال، تكون وجوه أصحاب الحسنات ناضرة، وتكون وجوه أصحاب السّيئات باسرة.
ثم ختم السورة بأنه لا بدّ، بعد موتهم، من أن يساقوا إليه وليس معهم صدقة ولا صلاة، ولكن تكذيب وإعراض وكبر وذكر، جلّ وعلا، أن من هذا شأنه أولى له فأولى، ثم أولى له فأولى، وأنه يحسب أن يترك من غير بعث وحساب، وقد كان نطفة ثم علقة، فخلقه فسوّاه، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) .(10/260)
المبحث الثالث مكنونات سورة «القيامة» «1»
1- فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) .
قال مجاهد، وغيره: نزلت في أبي جهل. أخرجه ابن أبي حاتم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....](10/261)
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «القيامة» «1»
1- قال تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
(17) .
والمراد: «قراءته» .
2- وقال تعالى: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) .
والفاعل مضمر يراد به النفس، ولم تذكر للعلم بها، وهي نظير قوله تعالى:
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) [الواقعة] .
3- وقال تعالى: ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) .
وقوله تعالى: يَتَمَطَّى (33) ، أي:
يتبختر، وأصله: يتمطّط أي يتمدّد، لأن المتبختر يمدّ خطاه، وقيل: هو من المطا، أي: الظهر لأنه يلويه.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(10/263)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «القيامة» «1»
قال تعالى: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) أي: على أن نجمع بنانه.
أي: بلى نجمعها قادرين. وواحد «البنان» : بنانة.
وقال: أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) أي: أين الفرار. وقال الشاعر [من المديد وهو الشاهد الثالث والسبعون بعد المائتين] :
يا لبكر أنشروا لي كليبا ... يا لبكر أين أين الفرار؟
لأنّ كلّ مصدر يبنى هذا البناء فإنما يجعل «مفعلا» . وإذا أراد المكان قال (المفرّ) : وقد قرئت (أين المفرّ) لأنّ كلّ ما كان فعله على «يفعل» كان «المفعل» منه مكسورا نحو «المضرب» ، إذا أردت المكان الذي يضرب فيه.
قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) أي: حسنة: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) يعني، والله أعلم، بالنظر إلى الله إلى ما يأتيهم من نعمه ورزقه. وقد تقول:
«والله ما أنظر إلّا إلى الله وإليك» أي:
أنتظر ما عند الله وما عندك.
وقال تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
(14) فجعله هو البصيرة كما تقول للرجل: «أنت حجّة على نفسك» .
وقال تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) أي: فلم يصدّق ولم يصلّ. كما تقول «ذهب فلا جاءني ولا جاءك» .
وقال تعالى: عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) وقرأ بعضهم (يحي الموتى) فأخفى
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(10/265)
وجعله بين الإدغام وغير الإدغام، ولا يستقيم أن يكون هاهنا مدغما لأنّ الياء الاخرة ليست تثبت على حال واحد، إذ تصير ألفا في قولك «يحيا» وتحذف في الجزم، فهذا لا يلزمه الإدغام، ولا يكون فيه إلّا الإخفاء، وهو بين الإدغام وبين البيان.(10/266)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «القيامة» «1»
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
(18) والقارئ على النبي (ص) إنّما هو جبرائيل (ع) ؟
قلنا: معناه فإذا جمعناه في صدرك، ويؤيّده قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
(17) أي: إن علينا جمعه وضمّه في صدرك فلا تعجل بقراءته قبل أن يتمّ حفظه. وقيل إنما أضيفت القراءة إلى الله تعالى، لأن جبريل (ع) يقرأه بأمره كما تضاف الأفعال إلى الملوك والأمراء بمجرد الأمر، مع أن المباشر لها أعوانهم أو أتباعهم.
فإن قيل: لم قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) والذي يوصف بالنظر الذي هو الإبصار والإدراك، إنما هو العين دون الوجه؟
قلنا: قيل إن المراد بالوجوه هنا السعداء وأهل الوجاهة يوم القيامة لا الوجه الذي هو العضو ولا أرى هذا الجواب مطابقا لقوله تعالى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) لأن العبوس والقطوب إنما يوصف به الوجه الذي هو العضو، ومما يؤيد أن المراد بقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) الأعضاء المعروفة قوله تعالى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) [المطففين] .
فإن قيل: النطفة المنيّ، فما الحكمة في قوله تعالى: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ؟
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/267)
قلنا: النطفة استعملت هنا بمعنى القطرة، لأن النطفة تطلق على الماء القليل والكثير ومنه الحديث «حتى يسير الراكب بين النطفتين لا يخشى جوازا» أراد: بحر المشرق والمغرب.(10/268)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «القيامة» «1»
في قوله تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
(15) ، استعارة. والمراد، والله أعلم، أن الإنسان حجة على نفسه في يوم القيامة، وشاهد عليها بما اقترفت من ذنب، واحتملت من وزر. وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
(15) (وإن ألقى معاذيره) . أي هو، وإن تعلّق بالمعاذير، ولفّق الأقاويل، شاهد على نفسه بما يوجب العقاب، ويجرّ النكال.
وقال الكسائي: المعنى: بل على نفس الإنسان بصيرة. فجاء على التقديم والتأخير. أي عليه من الملائكة رقيب يرقبه، وحافظ يحفظ عمله.
وقال أبو عبيدة: جاءت هذه الهاء في بصيرة، والموصوف بها مذكّر، كما جاءت في علّامة، ونسّابة، ورواية، وطاغية. والمراد بها المبالغة في المعنى الذي وقع الوصف به.
ووجه المبالغة في صفة الملك المحصي لأعمال المكلّف بأنه بصيرة، أنّ ذلك الملك يتجاوز علم الظواهر إلى علم السرائر، بما جعل الله تعالى له على ذلك من الأدلة، وأعطاه من أسباب المعرفة. فهو، للعلة التي ذكرناها، يوفي على كل رقيب حافظ، ومراع ملاحظ.
والتأويل الاخر يخرج به الكلام عن حيّز الاستعارة. وهو أن تكون المعاذير هاهنا من أسماء السّتور، لأن أهل اليمن يسمّون السّتر بالمعذار، فكأن المراد أن الإنسان رقيب على نفسه، وعالم
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(10/269)
بمستسرّ غيبه، في ما يقارفه من معصية، أو يقاربه من ريبة، وإن ألقى ستوره مستخفيا، وأغلق أبوابه متواريا.
وفي قوله سبحانه: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) استعارة على أكثر الأقوال. والمراد بها، والله أعلم، صفة الشّدّتين المجتمعتين على المرء من فراق الدنيا، ولقاء أسباب الاخرة. وقد ذكرنا فيما تقدم مذهب العرب في العبارة عن الأمر الشديد، والخطب الفظيع، بذكر الكشف عن الساق، والقيام عن ساق.
فلا فائدة في تكرير ذلك وإعادته.
وقد يجوز أن يكون السّاق هاهنا جمع ساقة كما قالوا: حاجة وحاج.
وغاية وغاي وآية وآي. والساقة: هم الذين يكونون في أعقاب الناس يحفّزونهم على السير، وهذا في صفة أحوال الاخرة وسوق الملائكة السابقين بالكثرة، حتى يلتفّ بعضهم ببعض من شديد الحفز، وعنيف السير والسّوق.
ومما يقوّي ذلك قوله تعالى: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) .
والوجه الأول أقرب، وهذا الوجه أغرب.(10/270)
سورة الإنسان 76(10/271)
المبحث الأول أهداف سورة «الإنسان» «1»
سورة الإنسان سورة مكيّة، وقيل مدنية، آياتها 31، نزلت بعد سورة الرحمن.
وقد اختلف في مكّيتها ومدنيّتها.
وفي المصحف المتداول أنها مدنية، ولكن آيات السورة وسياقها وموضوعاتها تحمل الطابع المكّي، وهي أقرب إلى أن تكون مكّية.
والمكّي من القرآن هو ما نزل بمكّة قبل الهجرة، والمدنيّ هو ما نزل بالمدينة بعد الهجرة.
وهناك سور متفق على مكّيتها، وسور متفق على مدنيّتها، وسور مختلف فيها: من العلماء من يرى أنها مدنيّة، ومنهم من يرى أنها مكّية. ومن هذه السور سورة الإنسان.
وقد غلب على السور المكّية الحديث عن الألوهيّة، والتحذير من عبادة الأصنام، والتذكير بالبعث والجزاء، ولفت الانظار إلى مشاهد الكون ونواميسه، وآيات الله في الآفاق، ودلائل القدرة الإلهية في الخلق والنفس.
وغلب على السور المدنيّة وصف غزوات الرسول (ص) ، وحالات المجتمع المدنيّ، والحديث عن المنافقين واليهود، والعناية بتشريع الأحكام، ونظام المجتمع ودعائم الحكم السليم.
والقرآن، في مجموعه، كتاب هداية، ودعوة إلى القيم، ومكارم الأخلاق، وحثّ على الإيمان بالله
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(10/273)
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر، ودعوة إلى تهذيب النفس، وحث على الفضيلة والاستقامة، وتقوى الله ومراقبته.
وهذه المعاني نجدها في السور المكّية والمدنيّة، وفي السور المختلف في مكّيتها ومدنيّتها، كسورة الإنسان.
ولا نملك نحن إلّا أن نقول: سورة الإنسان سورة من القرآن الكريم، يختلف الترجيح في مكّيتها ومدنيّتها، ونرى أنّ أسلوبها أقرب إلى أسلوب القرآن المكّي، وبذلك تكون جميع سور جزء تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ سورا مكّية.
تسلسل أفكار السورة
سورة الإنسان نداء رخيّ نديّ للإنسان أن يتذكّر أصله الذي خلق منه، ويتذكّر فضل الله عليه، إذ خلقه بشرا سويا، ويسّر له طريق الخير والشر، ليختار بإرادته وكسبه، وعقله وطاقاته ومداركه.
وبذلك تذكر السورة أصل الخلق، والمدارك والطاقات التي منحها الله للإنسان، وميّزه بهذا على جميع المخلوقات، فمنحه الإرادة والاختيار، والسمع والبصر، ليسمع ويرى ويفكّر ويتدبّر، ثمّ يختار بإرادته وكسبه وهذه ميزة خاصة بالإنسان وحده في هذا الكون.
فالملاك مطيع طاعة مطلقة، والحيوان مزوّد بالإدراك من دون الاختيار، والكون كله مسخر بمشيئة الله، وخاضع لنواميسه خضوع القهر والغلبة.
والإنسان زوّد بالعقل ليختار الطاعة لله أو المعصية، وهذا هو أساس الابتلاء والاختبار، فإن أطاع صار أهلا لرضوان الله وجنّته، وإن عصى صار أهلا لغضبه وناره.
وقد ذكرت السورة عذاب أهل النار في آية واحدة، هي الآية الرابعة.
واستسرسالات في وصف نعيم أهل الجنة وثوابهم، في الآيات [5- 22] ، أي في جزء كبير من السورة.
ثمّ يتجه الخطاب إلى الرسول الأمين، لتثبيته على الدعوة، وتوجيهه إلى الصبر، وانتظار حكم الله في الأمر، والاتّصال بربّه، والاستمداد منه كلما طال الطريق، وذلك في الآيات [23- 26] .(10/274)
وفي الجزء الأخير من السورة، تذكير للكافرين باليوم الثقيل، الذي لا يحسبون حسابه، والذي يخافه الأبرار ويتّقونه، والتلويح لهم بهوان أمرهم على الله الذي خلقهم، ومنحهم ما هم فيه من القوّة، وهو قادر على الذهاب بهم، والإتيان بقوم آخرين، لولا تفضّله عليهم بالبقاء، لتمضي مشيئته في الابتلاء ويلوّح السياق في ختام السورة بعاقبة هذا الابتلاء، وذلك في الآيات [27- 31] .
مع آيات السورة
[الآية الأولى] : قد أتى على هذا النوع، نوع الإنسان، زمن لم يكن موجودا حتى يعرف ويذكر.
والحين طائفة من الزمان غير محدودة. وعن ابن عبّاس وابن مسعود: أنّ الإنسان هاهنا آدم، والحين المحدود، وذلك أنه مكث أربعين سنة طينا، إلى أن نفخ فيه الروح فصار شيئا مذكورا، بعد كونه كالمنسي «1» .
[الآية 2] : إنا خلقنا الإنسان من نطفة اختلط فيها ماء الرجل بماء المرأة، مريدين ابتلاءه واختباره، بالتكليف فيما بعد، إذا شبّ وبلغ الحلم، فجعلناه سميعا بصيرا، ليتمكّن من استماع الآيات، ومشاهدة الدلائل والتعقّل والتفكّر.
ومقصود الآية: نحن نعامل الإنسان معاملة المختبر له: أيميل إلى أصله الأرضي فيكون حيوانا نباتيّا معدنيّا شهوانيّا، أم يكون إلهيّا معتبرا بالسمع والبصر والفكر؟
[الآية 3] : بيّن الله للإنسان الطريق السوي، بإرسال الرسل وإنزال الكتاب، وهو بالخيار: إما أن يكون شاكرا لنعماء الله، فيسير في الطريق الواضح المرسوم، وإمّا أن يكون كافرا فيعرض ويكفر، ويختار الضلال على الهدى.
[الآية 4] : إنّا هيّأنا لمن كفروا بنعمتنا، سلاسل للأقدام، وأغلالا تشدّ بها أيديهم إلى أعناقهم، كما يفعل بالمجرمين في الدنيا، ونارا تتسعّر يلقى فيها بالمسلسلين المغلولين.
ثمّ تصف الآيات بعد ذلك نعيم المتّقين، وصفا طويلا لم نجد مثله في سورة سابقة ويستمر هذا الوصف من
__________
(1) . تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري 29: 109.(10/275)
الآية الخامسة إلى الآية الثانية والعشرين، أي 18 آية من مجموع آيات السورة وهي 31، أي أن أكثر من نصف السورة، يصف نعيم المتقين، وحليّهم وملابسهم وخدمهم، وما هم فيه من نعمة ورضوان وملك كبير.
ولنسر مع هذه الآيات التي تصف نعيم المتقين.
[الآيتان 5- 6] : إنّ شراب الأبرار في الجنّة ممزوج بالكافور، يشربونه في كأس تغترف من عين تفجّر لهم تفجيرا في كثرة ووفرة، وينتفعون بها كما يشاءون، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان، يحبون وصولها إليه.
قال مجاهد: يقودونها حيث شاءوا، وتتبعهم حيث مالوا «1» .
[الآية 7] : كانوا يوفون بالنذر فيفعلون ما اعتزموا من الطاعات، وما التزموا من الواجبات، أي أنهم يؤدون ما أوجبه الله عليهم بأصل الشرع، وما أوجبوه على أنفسهم بالنذر. وهم يستشعرون الخشية من يوم القيامة، ذلك يوم شديد عذابه، عظيم خطره، كالنار يتطاير شررها فيعمّ شرّها.
[الآية 8] : وكانوا يطعمون الطعام، ويقدّمون المعونة النافعة لكلّ مساكين عاجز عن الاكتساب، ولكل يتيم مات كاسبه، ولكل أسير لا يملك لنفسه قوّة ولا حيلة.
[الآية 9] : وحين يقدّمون الطعام والمعونة النافعة لكلّ مساكين عاجز عن الاكتساب، ولكلّ يتيم مات كاسبه، لا يترفّعون على عباد الله، ولا يشعرون بالاستعلاء والعظمة، بل يقدّمون المعونة في إخلاص وتجرّد لوجه الله، ولا ينتظرون شكرا ولا إعلانا.
قال مجاهد وسعيد بن جبير: أمّا والله ما قالوه بألسنتهم، ولكن علم الله به من قلوبهم، فأثنى عليهم به ليرغب في ذلك راغب «2» .
[الآية 10] : لقد أخرجوا الصدقة لوجه الله، ولسان حالهم يقول: إنّا نفعل ذلك ليرحمنا ربنا، ويتلقّانا بلطفه في يوم عبوس تعبس فيه الوجوه، قمطرير شديد العبوس.
قال النسفي: «وصف اليوم بصفة
__________
(1) . تفسير المراغي للأستاذ أحمد مصطفى المراغي 29/. 164 وانظر تفسير النسفي 4: 338.
(2) . تفسير المراغي 29: 166.(10/276)
أهله من الأشقياء، نحو نهارك صائم، والقمطرير شديد العبوس، الذي يجمع ما بين عينيه» «1» .
[الآية 11] : فحفظهم الله من شر ذلك اليوم، وكسا وجوههم نضرة ونضارة، وتنعّما، وفرحا، وسرورا.
[الآية 12] : وجزاهم بصبرهم على الإيثار، والتزامهم بأمر الله جنّة يسكنونها، وحريرا يلبسونه.
ثمّ تصف الآيات مساكن أهل الجنة، وشرابهم وأوانيه وسقاته، وما تفضّل به عليهم ربهم، من فاخر اللباس والحلي، وأصناف النعيم فتقول:
[الآية 13] : هم في جلسة مريحة مطمئنة، الجو حولهم رخاء ناعم، دافئ في غير حر، نديّ في غير برد، فلا شمس تلهب النسائم، ولا زمهرير، أي: لا برد قارس.
[الآية 14] : ظلال الجنة قريبة من الأبرار مظلّلة عليهم، وقطوفها وثمارها قريبة دانية في متناول أيديهم، ينالها القائم والقاعد والمتكئ.
[الآيات 15- 19] : يطاف عليهم بانية من فضة بيضاء، في صفاء الزجاج، فيرى ما في باطنها من ظاهرها، ممّا لم تعهده الأرض في آنية الفضة، وهي بأحجام مقدّرة تقديرا، يحقّق المتاع والجمال. ثم هي تمزج بالزّنجبيل كما مزجت مرّة بالكافور، وهي كذلك تملأ من عين جارية تسمى سلسبيلا، لشدة عذوبتها واستساغتها للشاربين. وزيادة في المتاع، فإن الذين يطوفون بهذه الأواني والأكواب، هم غلمان صباح الوجوه، لا يفعل فيهم الزمن، ولا تدركهم السن، فهم مخلّدون في سن الصّباحة والصّبا والوضاءة، وهم هنا وهناك كاللؤلؤ المنثور.
[الآية 20] : تحمل هذه الآية خطوط هذا النعيم، وتلقي عليه نظرة كاملة فاحصة، تلخّص وقعه في القلب والنظر. فإذا نظرت في الجنة رأيت نعيما عظيما، وملكا كبيرا لا يحيط به الوصف.
[الآية 21] : ثم تخصص هذه الآية مظهرا من مظاهر النعيم، والملك الكبير فتقول: إن لباس أهل الجنة السّندس، وهو الحرير الرقيق،
__________
(1) . تفسير النسفي 4: 338.(10/277)
والإستبرق وهو الحرير السميك المبطن، وقد حلّوا أساور من فضّة وتدرج نعيمهم في الارتقاء إلى مدارج الكمال، حتى وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ [الآية 21] وأضاف السقي إلى ذاته للتشريف والتخصيص، شَراباً طَهُوراً (21) مبالغة في طهارته ونظافته بخلاف خمر الدنيا. فهو عطاء كريم من معط كريم، وهذه تضاف إلى قيمة ذلك النعيم.
[الآية 22] : ثم ختم وعدهم بالود والتكريم، فقال جلّ وعلا: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) .
أي يقال لهؤلاء الأبرار هذا القول، زيادة في سرورهم، إنّ هذا الذي أعطيناكم من الكرامة، كان ثوابا على أعمالكم الصالحة، وكان عملكم في الدنيا مشكورا، حمدكم عليه ربّكم ورضيه لكم، فأثابكم بما أثابكم به من الكرامة.
وهذا النطق من الملأ الأعلى، يعدل هذه المناعم كلّها، ويمنحها قيمة أخرى فوق قيمتها، لأنّها جزاء على عمل، وثواب لإنسان اختار الهدى والطريق المستقيم والعمل الصالح، فاستحقّ النعيم والتكريم.
[الآية 23] : وبعد أن بيّن الله سبحانه ما في الجنّة من نعيم، ذكّر نبيّه بنعمة الرسالة تسلية لفؤاده، وحثّا له على الصبر والثبات، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) : إنّ القرآن من عند الله أنزله منجّما مفصلا، في ثلاث وعشرين سنة، ليكون أسهل لحفظه وتفهمه ودراسته، ولتكون الأحكام آتية وفق الحوادث التي تجد في الكون، فتكون تثبيتا لإيمان المؤمنين وزيادة في تقوى المتقين.
[الآية 24] : اصبر على أمر الله واثبت على الحق، ولا تتبّع أحدا من الآثمين إذا دعاك إلى الإثم، ولا من الكافرين إذا دعاك إلى الكفر إنّ الأمور مرهونة بقدر الله، وهو يمهل الباطل ويملي للشر، كلّ أولئك لحكمة يعلمها، يجري بها قدره، وينفذ بها حكمه. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) . ونهيه (ص) عن طاعة الإثم والكفور، وهو لا يطيع واحدا منهما، إشارة إلى أن الناس محتاجون إلى مواصلة الإرشاد، لما ركّب في طباعهم من الشهوة الداعية إلى اجتراح السيّئات، وأن أحدا لو استغنى عن توفيق الله وإرشاده لكان(10/278)
أحقّ الناس بذلك هو الرسول المعصوم (ص) .
[الآيتان 25- 26] : ودم على ذكره في الصباح والمساء، والخلوة والجلوة، وصلّ بعض الليل كصلاة المغرب والعشاء، واسجد له بالليل وسبّحه طويلا، لأنه مصدر القوة والعناية، وينبوع العون والهداية ومن وجد الله وجد كلّ شيء، فالصلة به سبحانه هي السعادة الكبرى، والعناية العظمى، والزاد الحقيقي الصالح لهذه الرحلة المضنية في طريق الحياة.
[الآية 27] : إنّ هؤلاء المشركين بالله يحبّون الدنيا، وتعجبهم زينتها، وينهمكون في لذّتها الفانية، ويتركون اليوم الثقيل، الذي ينتظرهم هناك بالسلاسل والأغلال والسعير، بعد الحساب العسير.
والآية تثبيت للنبي (ص) والمؤمنين في مواجهة المشركين، إلى جانب أنّها تهديد ملفوف، لأصحاب العاجلة باليوم الثقيل.
[الآية 28] : يتلو ذلك التهديد التهوين من أمرهم عند الله جلّ جلاله، الذي أعطاهم ما هم فيه من قوة وبأس، وهو قادر على الذهاب بهم فهم لا يعجزونه بقوتهم، وهو الذي خلقهم وأعطاهم إيّاها، وهو قادر على أن يخلق أمثالهم في مكانهم، فإذا أمهلهم ولم يبدل أمثالهم فهو فضله ومنّته، وهو قضاؤه وحكمته.
[الآية 29] : إنّ هذه السورة بما فيها من ترتيب بديع، ونسق عجيب، ووعد ووعيد، وترغيب وترهيب، تذكرة وتبصرة لكل ذي عقل وبصيرة. فمن شاء الخير والنجاة لنفسه في الدنيا والاخرة، فليتقرّب إلى ربّه بالطاعة، وليصدّق بالقرآن والرسول الكريم فذلك هو الطريق إلى الله.
[الآية 30] : ويعقب على ذلك بإطلاق المشيئة، وردّ كل شيء إليها، ليكون الاتّجاه الأخير إليها، والاستسلام الأخير لحكمها.
وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) أي وما تشاؤون اتّخاذ السبيل الموصلة إلى النجاة، ولا تقدرون على تحصيلها، إلّا إذا وفّقكم الله لاكتسابها، وأعدكم لنيلها.
ذلك كي تعلم قلوب البشر أن الله هو الفاعل المختار، المتصرّف القهّار:
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً (30) بما يصلح العباد، حَكِيماً (30) وضع كل انسان(10/279)
في موضعه من الهداية والضلال، فهو يعين المتقين على القيام بواجبهم، ويسلب عونه عن المشركين، فيتيهون في بيداء الضلال.
[الآية 31] : يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ فيهديه ويوفّقه للطاعة بحسب استعداده، وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) وقد أملى لهم وأمهلهم، لينتهوا إلى هذا العذاب الأليم.
وهذا الختام يلتئم مع المطلع، ويصور نهاية الابتلاء، الذي خلق الله له الإنسان من نطفة أمشاج، ووهبه السمع والأبصار، وهداه السبيل إما إلى جنة وإما إلى نار.
مجمل ما تضمنته السورة
اشتملت سورة الإنسان على خمسة مقاصد:
1- خلق الإنسان.
2- جزاء الشاكرين والجاحدين.
3- وصف النار وصفا قصيرا في آية واحدة، ووصف الجنّة وصفا مسهبا في ما يقرب من 18 آية.
4- ذكر المنّة على رسول الله (ص) ، وأمره بالصبر وقيام الليل.
5- المنّة على الخلق بإحكام خلقهم، وإضافة كلّيّة المشيئة إلى الله تعالى.
أسماء السورة
لهذه السورة ثلاثة أسماء:
1- سورة هَلْ أَتى لمفتتحها.
2- سورة الإنسان لقوله تعالى:
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) .
3- سورة الدهر لقوله تعالى: حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ.(10/280)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الإنسان» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الإنسان بعد سورة الرحمن، وكان نزول سورة الرحمن فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك، فيكون نزول سورة الإنسان في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها:
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) ، وتبلغ آياتها إحدى وثلاثين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة بيان أثر الشرائع في رفعة الإنسان. وقد اقتضى هذا أن يجري سياقها في شيء من الترغيب والترهيب، فأشبه سياقها بهذا سياق السورة المذكورة قبلها، ولهذا ذكرت بعدها.
أثر الشرائع في رفعة الإنسان الآيات [1- 31]
قال الله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) ، فذكر أن الإنسان لم يكن شيئا مذكورا قبل أن يرفع شأنه بما أنزله من شرائعه، وأنه، سبحانه، خلقه من نطفة مختلطة بالدم وغيره، ولم يزل ينقله من حال إلى حال حتى جعله سميعا بصيرا، وأنه، جلّ وعلا، هداه السبيل، فمنهم من اهتدى به ومنهم من كفر به فمن كفر به أعدّ له سلاسل وأغلالا وسعيرا، ومن آمن به يشرب
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/281)
من كأس كان مزاجها كافورا إلخ. ثم ذكر، تعالى، أنه نزّل القرآن بهذا على النبي (ص) ، وأمره أن يصبر لحكمه، ونهاه أن يطيع منهم آثما أو كفورا ثم أمره أن يذكره بكرة وأصيلا، وأن يسجد له جزءا من أول الليل، ويسبّح بعد هذا ليلا طويلا ثم ذكر له أن من نهاه عن طاعتهم يحبون العاجلة وينسون يوما ثقيلا، وأنه هو الذي خلقهم وشدّ أسرهم وإذا شاء بدّل أمثالهم تبديلا ثم ذكر أن هذه السورة تذكرة، فمن شاء اهتدى بها وأنهم لا يشاءون شيئا إلّا أن يشاءه، سبحانه، إنه كان عليما حكيما: يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) .(10/282)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الإنسان» «1»
أقول: وجه اتصالها بسورة القيامة في غاية الوضوح: فإنه تعالى ذكر في آخر تلك مبدأ خلق الإنسان من نطفة، ثمّ ذكر مثل ذلك في مطلع هذه السورة، مفتتحا بخلق آدم أبي البشر.
ولمّا ذكر هناك خلقه منهما، قال:
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) .
ولما ذكر هناك خلقه منهما، قال هنا:
فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) ، فعلّق به غير ما علق بالأول، ثمّ رتب عليه هداية السبيل، وتقسيمه إلى شاكر وكفور، ثمّ أخذ في جزاء كلّ.
ووجه آخر: أنّه، لما وصف حال يوم القيامة في تلك السورة، ولم يصف فيها حال النّار والجنّة، بل ذكرهما على سبيل الإجمال، فصّلهما في هذه السورة، وأطنب في وصف الجنّة «2» ، وذلك كله شرح لقوله تعالى هناك:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) . وقوله هنا:
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً (4) : شرح لقوله هناك: تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) .
وقد ذكر هناك: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وذكر هنا في هذه السورة:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . وصف أحوال المؤمنين في الجنّة فصل هنا من قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) الى: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) .(10/283)
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا (27) وهذا من وجوه المناسبة «2» .
__________
(2) . ومن وجوه المناسبة بين سورة الإنسان وسورة القيامة: أنه تعالى فصّل في «القيامة» أحوال الكافرين عند الموت، وما يعانون من قهر وندم، في قوله عزّ وجلّ: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) إلى: ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) وفي هذه السورة فصّل أحوال المؤمنين في حياتهم، والتي استوجبوا بها النعيم الموصوف في السورة.
وذلك من قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) ، إلى فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) .(10/284)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الإنسان» «1»
1- هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ [الآية 1] .
قال قتادة: هو آدم (ع) . أخرجه ابن أبي حاتم «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. [.....]
(2) . والطبري في «تفسيره» 29: 125.(10/285)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الإنسان» «1»
1- وقال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الآية 2] .
ونمط التركيب في قوله تعالى:
نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ كنمط التركيب في قولهم: برمة أعشار، وبرد أكياش فقد وصف المفرد بهذه الصفات على «أفعال» ، فقالوا: هي ألفاظ مفردة غير جموع. على أنه سمع «مشج» مفرد أمشاج.
2- عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الآية 6] .
أقول: والمعنى يشرب منها، ولا عبرة لما قيل ب «التضمين» أي: إن الباء تضمنت معنى «من» ، وذلك لأن كلام الله جرى على لغة العرب، والعرب قد تصرفت بلغتها تصرفا واسعا. ولله حكمة بالغة في وضع كلامه على هيئة لم يدركها البشر.
3- وقال تعالى: وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) .
أقول: من أجل حسن الأداء وتناسب الفواصل جاءت قَوارِيرَا (15) بالمد الناجم عن سقوط التنوين المفترض، فإذا ذهب السبب عادت «قوارير» غير ممدودة.
ومن أجل شيء آخر وردت (سلاسلا) على الصورة التي جاءت عليها «قواريرا» في قوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً (4) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(10/287)
وذلك ليتناسب قوله سبحانه سَلاسِلَ (4) مع قوله: وَأَغْلالًا وَسَعِيراً (4) فالتناسب مقصود يقتضيه تجويد الأداء.(10/288)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الإنسان» «1»
قال تعالى: أَمْشاجٍ [الآية 2] واحدها: «المشج» .
وقال: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) كذلك إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ [مريم: 75] بالنصب، كأن السياق لم يذكر «إمّا» . وإن شئت ابتدأت ما بعدها فرفعته.
وقال تعالى: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الآية 6] بالنصب من ثلاثة أوجه، إن شئت فعلى قوله يَشْرَبُونَ [الآية 5] عَيْناً وإن شئت، فعلى يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً [الآية 6] وإن شئت فعلى وجه المدح، كما يذكر لك الرجل فتقول أنت: «العاقل اللبيب» أي: ذكرت العاقل اللبيب. على «أعني عينا» .
وقال تعالى: وَلا شُكُوراً، إن شئت جعلته جماعة «الشكر» وجعلت «الكفور» جماعة «الكفر» مثل «الفلس» و «الفلوس» . وإن شئت جعلته مصدرا واحدا في معنى جميع مثل: «قعد قعودا» و «خرج خروجا» .
وقال تعالى: مُتَّكِئِينَ [الآية 13] على المدح، أو على: «جزاهم جنّة متّكئين فيها» على الحال وقد تقول «جزاهم ذلك قياما وكذلك وَدانِيَةً [الآية 14] على الحال أو على المدح، إنّما انتصابه بفعل مضمر. وقد يجوز في قوله تعالى وَدانِيَةً أن يكون على وجهين على «وجزاهم دانية ظلالها»
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(10/289)
تقول: «أعطيتك جيدا طرفاه» و «رأينا حسنا وجهه» .
وقال: كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا (17) ، بنصب العين على أربعة أوجه على «يسقون عينا» أو على الحال، أو بدلا من الكأس، أو على المدح والفعل مضمر. وقال بعضهم إن «سلسبيل» صفة للعين بالسلسبيل. وقال بعضهم:
إنّما المراد: «عينا تسمّى سلسبيلا» أي:
تسمى من طيبها، أي: توصف للناس كما تقول: الأعوجيّ» و «الأرحبيّ» و «المهريّ من الإبل» . وكما تنسب الخيل إذا وصفت إلى هذه الخيل المعروفة والمنسوبة، كذلك تنسب العين إلى أنها تسمّى سَلْسَبِيلًا (18) لأنّ القرآن يدل على كلام العرب. قال الشاعر وأنشدناه يونس «1» هكذا من الكامل وهو الشاهد الرابع والسبعون بعد المائتين:
صفراء من نبع يسمّى سهمها من طول ما صرع الصّيود الصّيّب فرفع «الصيّب لأنه لم يرد «يسمى سهمها بالصيّب» إنما «الصيّب» من صفة الاسم والسهم. وقوله «يسمى سهمها» : يذكر سهمها. وقال بعضهم:
لا بل هو اسم العين، وهو معرفة ولكن لما كان رأس آية، وكان مفتوحا، زيدت فيه الالف كما كانت قَوارِيرَا (15) .
وفي قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً [الآية 20] رَأَيْتَ لا تتعدى كما يقول: «ظننت في الدار خير» لمكان ظنّه، وأخبر بمكان رؤيته.
__________
(1) . هو يونس بن حبيب البصري، وقد مرت ترجمته.(10/290)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الإنسان» «1»
إن قيل: لم قال الله تعالى: مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الآية 2] فوصف المفرد وهي النطفة بالجمع وهو الأمشاج جمع مشج، والأمشاج الأخلاط، والمراد أنه مخلوق من نطفة مختلطة من ماء الرجل والمرأة؟
قلنا: قال الزمخشري رحمة الله تعالى عليه: أمشاج لفظ مفرد لا جمع كقولهم: برمة أعشار، وبيت أكباش، وبر أهدام. وقال غيره الموصوف به أجزاء النطفة وأبعاضها.
فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الآية 21] مع أن ذلك في الدنيا إنما هو عادة الإماء، ومن في مرتبتهنّ؟
قلنا: القرآن أول من خوطب به العرب، وكان من عادة رجالهم ونسائهم التحلي بالذهب والفضة منفردين ومجتمعين. الثاني: أنّ الاسم، وإن كان مشتركا بين فضة الدنيا والاخرة، ولكن شتان ما بينهما.
قال النبي (ص) «المثقال من فضة الاخرة خير من الدنيا وما فيها» . وكذا الكلام في السندس والإستبرق وغيرهما مما أعده الله تعالى في الجنّة.
فإن قيل: أيّ شرف لتلك الدار يسقي الله تعالى عباده الشراب الطهور فيها، مع أنه تعالى في الدنيا سقاهم ذلك، بدليل قوله تعالى: وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) [المرسلات] وقوله تعالى:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(10/291)
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) [الحجر] .
قلنا: المراد به في الاخرة سقيهم بغير واسطة، وشتان ما بين الشرابين والآنيتين أيضا والمنزلتين.
فإن قيل: في قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) الضمير لمشركي مكة بلا خلاف، فما معنى تقسيمهم إلى الإثم والكفور، وكلّهم آثم وكلّهم كفور؟
قلنا: المراد بالإثم عتبة بن ربيعة، فإنه كان ركّابا للمآثم متعاطيا لأنواع الفسوق والمراد بالكفور الوليد بن المغيرة، فإنه كان مغاليا في الكفر، شديد الشكيمة فيه مع أن كليهما آثم وكافر، والمراد به نهيه عن طاعتهم فيما كانوا يدعونه إليه من ترك الدعوة، وموافقتهم فيما كانوا عليه من الكفر والضلال.
فإن قيل: ما معنى النهي عن طاعة أحدهما، ولماذا لم ينه عن طاعتهما؟
قلنا: قال بعضهم: إن «أو» هنا بمعنى الواو، كما في قوله تعالى: أَوِ الْحَوايا [الأنعام: 146] . الثاني: أنه لو قال تعالى: ولا تطعهما، جاز له أن يطيع أحدهما، وأما إذا قيل له ولا تطع أحدهما كان منهيّا عن طاعتهما بالضرورة.
فإن قيل: لم قال تعالى: نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) . والابتلاء متأخّر عن جعله سميعا بصيرا؟
قلنا: قال الفرّاء: فيه تقديم وتأخير تقديره فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه.
وقال غيره: معناه ناقلين له من حال إلى حال: نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة، فسمى ذلك ابتلاء من باب الاستعارة.
فإن قيل: لم قال الله تعالى: قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ والقوارير اسم لما يتخذ من الزجاج؟
قلنا: معناه أن تلك الأكواب مخلوقة من فضة، وهي مع بياض الفضّة وحسنها في صفاء القوارير وشفيفها.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو ضربت فضّة الدنيا حتى جعلتها جناح الذباب، لم ير الماء من ورائها.
وقوارير الجنّة من فضّة ويرى ما فيها من ورائها.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى:
كانَتْ قَوارِيرَا (15) ؟
قلنا: معناه تكوّنت، فهي من قوله(10/292)
تعالى: كُنْ فَيَكُونُ (82) [يس] وكذا قوله تعالى: كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) .
فإن قيل: لم شبه الله تعالى الولدان باللؤلؤ المنثور دون المنظوم؟
قلنا: إنما شبّههم سبحانه وتعالى باللؤلؤ المنثور لأنه أراد تشبيههم باللؤلؤ الذي لم يثقب بعد، لأنه إذا ثقب نقصت مائيّته وصفاؤه، واللؤلؤ الذي لم يثقب لا يكون إلّا منثورا.
وقيل: إنّما شبههم الله تعالى باللؤلؤ المنثور، لأنّ اللؤلؤ المنثور على البساط أحسن منظرا من المنظوم.
وقيل إنما شبههم باللؤلؤ المنثور، لانتشارهم وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم وتفريقهم في الخدمة، بدليل قوله تعالى وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ [الآية 19] ولو كانوا وقوفا صفّا لشبهوا بالمنظوم.
فإن: قيل لم قال الله تعالى هنا:
وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ [الآية 28] أي خلقهم، وقال تعالى في موضع آخر:
وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النساء: 28] ؟
قلنا: قال ابن عباس رضي الله عنهما والأكثرون: المراد به أنه ضعيف عن الصبر عن النساء، فلذلك أباح الله تعالى له نكاح الأمة كما سبق قبل هذه الآية. وقال الزجّاج: معناه أنه يغلبه هواه وشهوته، فلذلك وصف بالضعف. وأمّا قوله تعالى: وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ [الآية 28] فمعناه ربطنا أوصالهم بعضها إلى بعض، بالعروق والأعصاب. وقيل المراد بالأسر العصعص، فإنّ الإنسان في القبر يصير رفاتا إلا عصعصه فإنه لا يتفتّت. وقال مجاهد: المراد بالأسر مخرج البول والغائط، فإنه يسترخي حتى يخرج منه الأذى، ثم ينقبض ويجتمع ويشتدّ بقدرة الله تعالى.(10/293)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الإنسان» «1»
في قوله سبحانه: وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) استعارة. وحقيقة الاستطارة من صفات ذوات الأجنحة.
يقال: طار الطّائر، واستطرته أنا إذا بعثته على الطّيران. ويقولون أيضا من ذلك على طريق المجاز: استطار لهيب النّار، إذا انتشر وعلا، وظهر وفشا.
فكأنه سبحانه قال: يخافون يوما كان شرّه فاشيا ظاهرا، وعاليا منتشرا.
وفي قوله سبحانه: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) استعارة. لأن «العبوس» من صفة الإنسان القاطب المعبّس. فشبّه سبحانه ذلك اليوم لقوّة دلائله على عظيم عقابه، وأليم عذابه، بالرجل العبوس الذي يستدلّ بعبوسه وقطوبه على إرصاده بالمكروه، وعزمه على إيقاع الأمر المخوف. وأصل العبوس تقبيض الوجه، وهو دليل السخط، وضده الاستبشار والتطلّق وهما دليلا الرضا والخير.
وكما سمّت العرب اليوم المحمود طلقا، فكذلك سمّت اليوم المذموم عبوسا. ويقال: يوم قمطرير وقماطر إذا كان شديدا ضرّه، طويلا شرّه.
وفي قوله سبحانه: وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا (14) استعارة.
والمراد بتذليل القطوف، وهي عناقيد الأعناب وواحدها قطف «2» أنها جعلت قريبة من أيديهم، غير ممتنعة على مجانيهم، لا يحتاجون إلى معاناة في
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . القطف بكسر القاف: العنقود ساعة يقطف، أو اسم للثمار المقطوفة. والجمع قطوف، وقطاف.(10/294)
اجتنائها، ولا مشقّة في اهتصار أفنانها، فهي كالظّهر الذلول الذي يوافق صاحبه، ويواتي راكبه.
والتذليل هاهنا مأخوذ من الذّلّ بكسر الذال، وهو ضد الصعوبة. والذّل، بضم الذال، ضدّ العز والحميّة.
وقوله سبحانه: إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا (27) استعارة. وقد مضى الكلام على نظيرها فيما تقدّم. والمراد باليوم الثقيل هاهنا:
استثقاله من طريق الشدّة والمشقّة، لا من طريق الاعتماد بالأجزاء الثقيلة.
وقد يوصف الكلام بالثقيل على هذا الوجه، وهو عرض من الأعراض، فيقول القائل: قد ثقل عليّ خطاب فلان، وما أثقل كلام فلان.(10/295)
الفهرس
سورة «التغابن»
المبحث الأول أهداف سورة «التغابن» 3 مع السورة 4 روابط الأسرة 5 المعنى الإجمالي للسورة 7 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التغابن» 9 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 9 الغرض منها وترتيبها 9 الإنذار بعذاب الدنيا والاخرة 9 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التغابن» 11 المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «التغابن» 13 المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «التغابن» 15(10/297)
المبحث السادس المعاني المجازية في سورة «التغابن» 17.
سورة «الطلاق»
المبحث الأول أهداف سورة «الطلاق» 21 العناية بالأسرة 21 الطلاق 22 مع السورة 24 المعنى الإجمالي للسورة 26 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الطلاق» 29 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 29 الغرض منها وترتيبها 29 حكم الطلاق والعدة 29 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الطلاق» 31 المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «الطلاق» 33 المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «الطلاق» 35.(10/298)
سورة «التحريم»
المبحث الأول أهداف سورة «التحريم» 41 قصة التحريم 42 تحريم مارية 44 تحريم العسل 44 النبيّ (ص) يهجر نساءه 45 اصطفاء الرسول (ص) 46 مع السورة 47 المعنى الإجمالي للسورة 48 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التحريم» 51 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 51 الغرض منها وترتيبها 51 قصّة التحريم 51 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التحريم» 53 المبحث الرابع مكنونات سورة «التحريم» 55 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «التحريم» 57 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «التحريم» 59(10/299)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «التحريم» 61 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «التحريم» 65.
سورة «الملك»
المبحث الأول أهداف سورة «الملك» 71 مطلع السورة 71 مع آيات السورة 72 المعنى الإجمالي للسورة 76 أسماء السورة 77 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الملك» 79 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 79 الغرض منها وترتيبها 79 الدعوة الى الإيمان بالله تعالى 79 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الملك» 81 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الملك» 83 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الملك» 85(10/300)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الملك» 87 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الملك» 89 «سورة «القلم» المبحث الأول أهداف سورة «القلم» 95 مع آيات السورة 95 قصة يونس 99 المعنى الإجمالي للسورة 100 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القلم» 103 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 103 الغرض منها وترتيبها 103 تثبيت النبي (ص) 103 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «القلم» 105 المبحث الرابع مكنونات سورة «القلم» 107 المبحث الخامس لغة التنزيل في «سورة القلم» 109 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «القلم» 111(10/301)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «القلم» 113 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «القلم» 115.
سورة «الحاقة»
المبحث الأول أهداف سورة «الحاقّة» 119 مع آيات السورة 119 المعنى الإجمالي للسورة 123 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحاقّة» 125 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 125 الغرض منها وترتيبها 125 إثبات يوم القيامة 125 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الحاقّة» 127 المبحث الرابع مكنونات سورة «الحاقّة» 129 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحاقّة» 131 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحاقّة» 133(10/302)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحاقّة» 135 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحاقّة» 137.
سورة «المعارج»
المبحث الأول أهداف سورة «المعارج» 143 تنوع أساليب القرآن 143 مع آيات السورة 144 مجمل ما تضمنته السورة 146 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المعارج» 147 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 147 الغرض منها وترتيبها 147 بيان قرب العذاب 147 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المعارج» 149 المبحث الرابع مكنونات سورة «المعارج» 151 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المعارج» 153 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المعارج» 155(10/303)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المعارج» 157 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المعارج» 159.
سورة «نوح»
المبحث الأول أهداف سورة «نوح» 163 فكرة السورة 163 أهداف الرسالات 163 مع آيات السورة 164 المعنى الإجمالي للسورة 166 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «نوح» 167 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 167 الغرض منها وترتيبها 167 قصة نوح 167 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «نوح» 169 المبحث الرابع مكنونات سورة «نوح» 171 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «نوح» 173(10/304)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «نوح» 175 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «نوح» 177 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «نوح» 179.
سورة «الجن»
المبحث الأول أهداف سورة «الجن» 185 أوهام عن الجن 185 الجن في القرآن 186 استماع الجن للقرآن 187 أسماء السورة 188 مع آيات السورة 188 المقصد الإجمالي للسورة 192 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الجن» 195 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 195 الغرض منها وترتيبها 195 قصة إيمان بعض الجن 195 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الجن» 197(10/305)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الجن» 199 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الجن» 201 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الجن» 203 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الجن» 205 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الجن» 207.
سورة «المزمل»
المبحث الأول أهداف سورة «المزمّل» 211 مع آيات السورة 212 خلاصة أحكام السورة 214 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المزمّل» 217 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 217 الغرض منها وترتيبها 217 تهيئة النبي (ص) للدعوة 217 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المزمّل» 219(10/306)
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «المزمّل» 221 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «المزمّل» 223 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «المزمّل» 225 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «المزمّل» 227.
سورة «المدثر»
المبحث الأول أهداف سورة «المدّثّر» 231 مع آيات السورة 233 مقاصد السورة إجمالا 236 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المدّثّر» 237 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 237 الغرض منها وترتيبها 237 استنهاض النبي (ص) للدعوة 237 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المدّثّر» 239 المبحث الرابع مكنونات سورة «المدّثّر» 241(10/307)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المدّثّر» 243 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المدّثّر» 245 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المدّثّر» 247 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المدّثّر» 249.
سورة «القيامة»
المبحث الأول أهداف سورة «القيامة» 253 مع آيات السورة 254 مقصود السورة 258 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القيامة» 259 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 259 الغرض منها وترتيبها 259 إثبات البعث 259 المبحث الثالث مكنونات سورة «القيامة» 261 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «القيامة» 263(10/308)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «القيامة» 265 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «القيامة» 267 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «القيامة» 269.
سورة «الإنسان»
المبحث الأول أهداف سورة «الإنسان» 273 تسلسل أفكار السورة 274 مع آيات السورة 275 مجمل ما تضمنته السورة 280 أسماء السورة 280 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الإنسان» 281 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 281 الغرض منها وترتيبها 281 أثر الشرائع في رفعة الإنسان 281 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الإنسان» 283 المبحث الرابع مكنونات سورة «الإنسان» 285(10/309)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الإنسان» 287 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الإنسان» 289 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الإنسان» 291 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الإنسان» 294..(10/310)
الجزء الحادي عشر
توضيح
ينبغي لنا الإشارة إلى أنّ بعض المباحث التي كانت مطّردة في المجلدات السابقة ستغيب عن هذا المجلد وما سيليه من مجلدات. ومردّ ذلك إلى أنّ طبيعة السور القرآنية الكريمة التي غابت عنها تلك المباحث، لا تستجيب لدواعي بعض العناوين فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنّ سورة قرآنية كريمة، لا تشتمل على معان لغوية غامضة، أو لا يكتنفها شيء من التغاير في الفهم والتحليل، لا تحتاج إلى مبحث «المعاني اللغوية» . وكذلك، فإن سورة قرآنية كريمة لا يتضمّن نصّها مجازا، لا تستجيب، وفاقا لنمط بيانها، إلى مبحث «المعاني المجازية» ... وقس على ذلك.
وغنيّ عن القول أنّ أصحاب المصادر والمراجع التي ارتكزت عليها هذه الموسوعة هم أهل معرفة ودراية، بل هم أهل الاختصاص في هذا الشأن ولم يتركوا هذه المباحث سهوا أو نشدانا لراحة، أو تخفيفا من عناء. وما كان لهم أن يغفلوها لو أنهم وجدوا ما يقتضيها ناهيك من أنّ بعض المباحث قد استوفت أغراضها في آيات متشابهات من سور تضمنتها المجلدات السابقة.
فصار الكلام عليها، في هذا المجلد وما يليه، من قبيل التكرار.(11/1)
سورة المرسلات 77(11/2)
المبحث الأول أهداف سورة «المرسلات» «1»
سورة المرسلات سورة مكّية، آياتها خمسون آية، نزلت بعد سورة الهمزة.
وسورة المرسلات سورة قصيرة الآيات، عاصفة الملامح، شديدة الإيقاع، كأنها سياط لاذعة تلهب صدور المنكرين، توقف القلب البشري وقفة المحاكمة الرهيبة، فتواجهه بسيل من الاستفهامات والاستذكارات، والتهديدات، تنفذ إليه كالسهام المسنونة.
«وتعرض السورة عددا من المشاهد المتنوّعة عن الكون وخلق الإنسان واليوم الآخر، وعذاب المجرمين ونعيم المتّقين. وعقب كلّ مشهد تلفح المذنب لفحة من التهديد والوعيد، حين تقول وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) ويتكرر هذا التعقيب عشر مرات في السورة، وهو لازمة الإيقاع فيها، وهو أنسب تعقيب لملامحها الحادّة، ومشاهدها العنيفة، وإيقاعها الشديد، وهذه اللازمة تذكرنا باللازمة المكررة في سورة الرحمن، عقب عرض كل نعمة من نعم الله على العباد فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) . كما تذكرنا باللازمة المكررة في سورة القمر، عقب كل حلقة من حلقات العذاب:
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ وتكرارها هنا على هذا النحو يجعل للسورة سمة خاصة، وطعما مميّزا حادّا» «2» .
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.
(2) . في ظلال القرآن 29/ 231، بتصرف.(11/3)
تسلسل أفكار السورة
تبدأ السورة بقسم عاصف ثائر، بمشهد الرياح أو الملائكة، يتبعه عشر جولات متتابعة، تثير في النفس طائفة من التأملات، والمشاعر، والخواطر، والتأثّرات والاستجابات.
1-[فالآيات 8- 15] تصف مشاهد القيامة وتصوّر الانقلابات الكونيّة الهائلة في السماء والأرض.
وفي هذا اليوم تنتهي حسابات الرسل مع البشر، ويتبيّن الصادق من الكاذب.
2-[والآيات 16- 19] تصف مصارع الغابرين، وتشير إلى سنن الله تعالى في المكذّبين، فكما أهلك قوم نوح بالغرق، وأهلك أمم عاد وثمود وفرعون، فهو يفعل ذلك بكل مكذّب برسالات السماء، وهدي الأنبياء.
3-[والآيات 20- 24] تصف النشأة الأولى، وما تشير إليه من تقدير وتدبير.
4-[والآيات 25- 28] تصف الأرض التي تضم أبناءها إليها، أحياء وأمواتا، وقد جهّزت لهم بالاستقرار والجبال والمياه. 5-[والآيات 29- 34] تصف حال المكذّبين يوم القيامة، وما يلقونه من تقريع وتأنيب.
6-[والآيات 35- 37] استطراد مع موقف المكذّبين، وبيان ألوان العذاب والهوان الذي يتعرّضون له.
7-[والآيات 38- 40] تصف ضعف الإنسان، وفقدان حيلته، أمام الجمع والحشر والحساب والجزاء.
8-[والآيات 41- 45] تصف نعيم المتّقين، وطعامهم وشرابهم وتكريمهم.
9-[والآيتان 46- 47] خطفة سريعة مع المكذّبين، في موقف التأنيب.
10-[والآيات 48- 50] وصف لحال المكذّبين، وامتناعهم عن الإيمان. والاستجابة لآيات القرآن.
وبعض هذه المشاهد قد سبق ذكره، وتكرّر وروده في القرآن الكريم، وفي السور المكية بوجه خاص. ولكنها تعرض هنا سريعة أخّاذة، لها رنين وجدّة في مشاهد جهنّم، وفي مواجهة المكذّبين بهذه المشاهد، وفي أسلوب(11/4)
العرض والخطاب كلّه ومن ثمّ تبرز شخصية خاصة للسورة حادّة الملامح، متنوّعة في أساليب الخطاب، متنقّلة من قسم إلى خبر إلى استفهام إلى أمر، فذلك كلام الله، ومن أحسن من الله حديثا؟
مع آيات السورة
[الآيات 1- 7] : يقسم الله تعالى بطوائف الملائكة، يرسلهنّ بالمعروف والإحسان، وأوامره الكريمة، فيعصفن عصف الرياح مسرعات وينشرن شرائعه في الأرض، فيفرقن بها بين الحقّ والباطل، ويلقين إلى أنبيائه ذكرا يريد تبليغهم إيّاه، عذرا للمحقّين، ونذرا للمبطلين يقسم بهذه الملائكة على أن ما توعدون من مجيء القيامة واقع لا محالة.
وقيل إن القسم في هذه الآيات بالرّياح، وآثارها في الكون، ونشرها السحاب في الأفق.
وقيل إن القسم في الآيات الثلاث الأولى بالرياح متتابعة كعرف الفرس، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) الشديدة المهلكة، وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) التي تنشر المطر، فأقسم سبحانه بالرياح النافعة والضارة.
والقسم في الآيات [4- 6] بالملائكة: فإنها تنزل بأمر الله على الرسل، تفرق بين الحق والباطل، وتلقي إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق وإنذار.
ولعل من إعجاز القرآن أنّ الآية تشير إلى معنى وتحتمل معنى، وتستتبع معنى آخر ولعل هذا التجهيل والخلاف في مفهوم الآية مقصود لله سبحانه، ليكون أثرها أقوى في النفس.
وقد ذكر ابن جرير الطبري تفسير هذه الآيات، وعند تفسير وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) بيّن أن بعض المفسّرين قال هي الرياح، وبعضهم قال: هي المطر، وبعضهم قال: هي الملائكة.
ثم عقّب الطبري بقوله: «وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره أقسم بالناشرات نشرا، ولم يخصّص شيئا من ذلك دون شيء، فالرياح تنشر السحاب، والمطر ينشر الأرض، والملائكة تنشر الكتب، ولا دلالة من وجه يجب التسليم له، على أن المراد من ذلك بعض دون بعض، فدل ذلك(11/5)
على أن المراد بالآية كل ما كان ناشرا» «1» .
[الآيات 8- 15] : يوم تطمس النجوم فيذهب نورها، وتفرج السماء أي تشقّ، وتنسف الجبال فهي هباء.
وإلى جانب هذا الهول في مشاهد الكون، تعرض السورة أمرا مؤجّلا، هو موعد الرسل لعرض حصيلة الدعوة والشهادة على الأمم، والقضاء والفصل بين كل رسول وقومه، يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ [المائدة/ 109] . وفي هذا اليوم عذاب وخزي لمن كذّب بالله ورسله وكتبه، وبكلّ ما ورد على ألسنة أنبيائه وأخبروا به.
[الآيات 16- 19] : تجول هذه الآيات في مصارع الأوّلين والآخرين، وفي ضربة واحدة تكشف مصارع الأوّلين، من قوم نوح ومن بعدهم، وتتكشّف مصارع الآخرين، ومن لفّ لفّهم. وعلى مد البصر تتبدّى المصارع والأشلاء، فهي سنّة الله التي لا تتبدّل، من سيادة الصالحين، وهلاك المجرمين. وفي الآخرة هلاك وعذاب شديد للمكذّبين. [الآيات 20- 24] : هذه الآيات جولة في الإنشاء والإحياء، مع التقدير والتدبير، فهي تصف خلق الإنسان من نطفة مراقة، تستقرّ في حرز مكين وهو الرّحم، حتى تصير جنينا مكتملا فَقَدَرْنا وقت ولادته فَنِعْمَ الْقادِرُونَ [الآية 23] ، نحن، على التدبير وإحكام الصنعة. وفي الآخرة عذاب شديد للمكذّبين بآيات الله وقدرته وحكمته.
[الآيات 25- 28] : وهذه الآيات جولة في خصائص الأرض، وتقدير الله فيها لحياة البشر، وإيداعها الخصائص الميسرة لهذه الحياة: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) «2» تحتضن بنيها وتجمعهم أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) ، وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ [الآية 27] ثابتات سامقات، تتجمّع على قممها السحب، وتنحدر عنها مساقط الماء العذب، أفيكون هذا إلّا عن قدرة وتقدير، وحكمة وتدبير؟ .. أفبعد هذا يكذّب المكذّبون؟ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) .
[الآيات 29- 34] : تنتقل الآيات في وصف مشهد من مشاهد القيامة، والكفّار ينطلقون بعد طول احتباس إلى
__________
(1) . تفسير الطبري 29/ 142 مطبعة بولاق، الطبعة الأولى، 1329 هـ.
(2) . الكفات: ما يكفت أي يضمّ ويجمع.(11/6)
العذاب الذي كانوا يكذّبون به في الدنيا.
إنّه انطلاق خير منه الارتهان والاحتباس، انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) ، وهو دخان جهنّم يتشعّب لعظمه ثلاث شعب، وتمتدّ ألسنته إلى أقسام ثلاثة، بعضها أشد من بعض، ولكنه ظلّ خير منه الوهج لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) ، إنه ظلّ خانق حارّ لافح، وتسميته بالظّلّ من باب التهكّم والسخرية، فهو لا يظلّ من حرّ ذلك اليوم، ولا يقي من لهب جهنّم «1» .
إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) أي أن هذه النار يتطاير منها شرر متفرّق في جهات كثيرة، كأنه القصر عظما وارتفاعا، وكأنه الجمال الصفر لونا وكثرة وتتابعا وسرعة حركة وفي اللحظة التي يستغرق فيها الحس بهذا الهول، يجيء التعقيب المعهود: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) .
[الآيات 35- 37] : هذا يوم لا يتكلّمون فيه بحجّة نافعة تنقذهم ممّا هم فيه، ولو كانت لهم حجّة لما عذّبوا هذا العذاب، ولا يؤذن لهم بالاعتذار ولا يقبل منهم، فالهلاك لمن كذّب بعذاب يوم القيامة.
«وقد سئل ابن عبّاس رضي الله عنهما عن هذه الآية، وعن قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) [الزمر] ، فقال:
في ذلك اليوم مواقف، في بعضها يختصمون، وفي بعضها لا ينطقون، أو لا ينطقون بما ينفعهم فجعل نطقهم كلا نطق» «2» والعرب تقول لمن ذكر ما لا يفيد: ما قلت شيئا.
[الآيات 38- 40] : هذا يوم الفصل
__________
(1) . في الشعر العربي:
والمستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
والرمضاء هي الرمل الساخن من شدة الحر، أي من قصد عمرا وهو في كربة فلن يجد ما يخفف عنه، بل سيجد ما يزيده ألما، وينقله إلى ما هو أشدّ، كمن ينتقل من حرارة الرمال إلى حرارة النار. وكذلك الكفّار ينتقلون من حرارة المحشر، إلى ظل خانق لا يحمي من الحر ولا يقي من النار، وهو ظلّ مؤلم لا مريح.
(2) . تفسير النسفي 4/ 242، 243.(11/7)
لا يوم الاعتذار، وقد جمعناكم والأوّلين أجمعين، فإن كان لكم تدبير فدبّروه، وإن كانت لكم حيلة في دفع العذاب عنكم فاحتالوا لتخليص أنفسكم من العذاب. وفي هذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا، وإظهار لعجزهم وقصورهم حينئذ، فهم في صمت كظيم، وتأنيب أليم.
والويل الشديد في ذلك اليوم للمكذّبين بالبعث والجزاء.
[الآيات 41- 45] : إنّ المتّقين في ظلال حقيقية، هي ظلال الأشجار على شواطئ الأنهار، فلا يصيبهم حرّ ولا قرّ، ويتمتّعون بما تشتهيه أنفسهم من الفواكه والمآكل الطيّبة. ومع التكريم الحسي يلقون ألوان التكريم المعنوي، فيقال لهم على مرأى ومسمع من الجموع: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) : جزاء بما عملتم في الدنيا من طاعة ربكم، واجتهدتم في ما يقرّبكم من رضوانه، فهل جزاء الإحسان في الدنيا إلّا الإحسان في الجنة؟.
وبمثل هذا الجزاء نجزي كل الذين يحسنون في أعمالهم وأقوالهم، وشأنهم الإحسان، ويقابل هذا النعيم الويل للمكذّبين.
[الآيتان 46- 47] : كلوا وتمتعوا قليلا في هذه الدار بقيّة أعماركم، وهي قليلة المدى إذا قيست بالآخرة، وهناك ستحرمون، وتعذّبون طويلا: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) .
[الآيات 48- 50] : وإذا قيل لهؤلاء المكذّبين اعبدوا الله وأطيعوه، لا يستجيبون ولا يمتثلون، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) بأوامر الله ونواهيه، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) : أي إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل على تجلّيها ووضوحها، فبأيّ كلام بعد هذا يصدّقون؟ والذي لا يؤمن بهذا الحديث الذي يهزّ الرواسي، وبهذه الهزّات التي تزلزل الجبال، لا يؤمن بحديث بعده أبدا، إنّما هو الشقاء والتعاسة والمصير البائس، والويل المدّخر لهذا الشقيّ المتعوس.
إن هذه السورة ببنائها التعبيري، وإيقاعها المتناسب، ومشاهدها العنيفة، ولذعها الحاد، حملة لا يثبت لها كيان، ولا يتماسك أمامها إنسان فسبحان الذي نزّل القرآن وأودعه ذلك السلطان.(11/8)
مقاصد السورة
من مقاصد سورة المرسلات ما يأتي:
1- القسم بالملائكة على أن البعث حقّ، وأنّ القيامة آتية.
2- الإخبار عن هلاك القرون الماضية، ووعيد المكذّبين بالمصير نفسه.
3- المنّة على الخلائق بنعمة الخلق والتكوين، وسائر النعم في الأنفس والآفاق. 4- وصف عذاب المكذّبين بما تشيب من هوله الولدان.
5- وصف نعيم المتّقين وما يلقونه من الكرامة في جنات النعيم، وبيان عظمة الخالق وكمال قدرته.
والحمد لله الذي بنعمته تكون الصالحات، وصلّ اللهمّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(11/9)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المرسلات» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة المرسلات بعد سورة الهمزة، ونزلت سورة الهمزة بعد سورة القيامة، وكان نزول سورة القيامة فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة المرسلات في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) ، وتبلغ آياتها خمسين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة: إثبات وقوع ما يوعدون به من العذاب، وبهذا جاء سياقها في الإنذار والترهيب والترغيب، كما جاء سياق السورة السابقة ولهذا جاء ذكرها بعدها مناسبا لها.
إثبات وقوع العذاب الآيات [1- 50]
قال الله تعالى: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فأقسم، سبحانه، بهذا على وقوع ما يوعدون به من العذاب، ثمّ ذكر أنّه إذا طمست النجوم وحصل غير هذا مما ذكره، فإنه يكون يوم الفصل في عذابهم وويل يومئذ لهم، ثم ذكر، جلّ وعلا، أنه كما أهلك الأولين
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....](11/11)
والآخرين يهلكهم هم، وويل يومئذ لهم ثم ذكر أنه قد خلقهم من ماء مهين، وجعل الأرض كفاتا، إلى غير هذا مما يدل على قدرته على عذابهم.
ثم انتقل السياق إلى الترغيب بعد الترهيب، فذكر، سبحانه، أنّ المتقين في ظلال وعيون، إلى غير هذا مما ذكره في ترغيبهم، ثم عاد السياق إلى ترهيب المكذّبين، فأمرهم، على سبيل التهديد، أن يأكلوا ويتمتعوا، إنهم مجرمون وذكر أنهم، إذا قيل لهم اركعوا، لا يركعون: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) .(11/12)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المرسلات» «1»
أقول: وجه اتّصالها بالسورة السابقة: أنّه تعالى، لمّا أخبر في خاتمتها، أنّه يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) ، افتتح هذه بالقسم على أن ما يوعدون واقع، فكان ذلك تحقيقا لما وعد به هناك المؤمنين، وأوعد الظالمين. ثم ذكر وقته وأشرطه بقوله سبحانه:
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) إلى آخره.
ويحتمل أن تكون الإشارة بما يوعدون إلى جميع ما تضمنته السورة من وعيد للكافرين، ووعد للأبرار «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.
(2) . وهناك مناسبة بين «القيامة» و «الإنسان» و «المرسلات» من ناحية خلق الإنسان. ففي «القيامة» قال تعالى: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) ، فذكر بداية الخلق. وفي «الإنسان» تدرّج إلى الحديث عن إتمام بناء الإنسان حتّى صار شديد الأسر: نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ [الآية 28] . ولمّا كانت قوة الإنسان مظنّة كبريائه، ذكّره، في «المرسلات» ، بمهانة أصله: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) . ومعاني السور الثلاث تدور حول الأصول. ولذلك قال تعالى في «المرسلات» : فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ
(39) ، إعلاما بقهره للعباد.(11/13)
المبحث الرابع مكنونات سورة «المرسلات» «1»
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة، قال:
1- وَالْمُرْسَلاتِ [الآية 1] :
الملائكة «2» .
وعن أبي صالح، أنه قال في: 2- وَالنَّاشِراتِ [الآية 3] .
3- فَالْفارِقاتِ [الآية 4] .
4- فَالْمُلْقِياتِ [الآية 5] :
الملائكة «3» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . وأخرج الطبري 29/ 140 عن ابن مسعود وابن عبّاس ومجاهد وغيرهم: أنّها الرياح، ثمّ قال: «ولا دلالة تدل على أنّ المعنيّ بذلك أحد الحزبين دون الآخر، وقد عمّ جلّ ثناؤه بإقسامه بكل ما كانت صفته ما وصف، فكل من كان صفته كذلك فداخل في قسمه ذلك، ملكا أو ريحا أو رسولا من بني آدم مرسلا» .
(3) . وأخرجه الطبري 29/ 142، وروى عن آخرين: أنها الرياح، وقال آخرون: هي المطر. قال أبو جعفر الطبري:
«وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بالناشرات نشرا ولم يخصّص شيئا من ذلك دون شيء فالرياح تنشر السحاب، والمطر ينشر الأرض، والملائكة تنشر الكتب. ولا دلالة من وجه، يجب التسليم له، على أن المراد من ذلك بعض دون بعض، فذلك على كلّ من كان ناشرا» .(11/15)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المرسلات» «1»
1- قال تعالى: كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) .
قرئ: (جملت) بكسر الجيم بمعنى جمال (جمع جمل) ، و (جمالة) بالضم، وهي القلس «2» للجسور أو السفينة.
وقرئ (جمالات) و (جمالات) بالضم والكسر، للقلوس.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . القلس: الحبل الضّخم.(11/17)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المرسلات» «1»
قال تعالى: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) كلها قسم على إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) .
وقال: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) فأضمر الخبر والله أعلم.
وقال سبحانه: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) على الحال.
وقال تعالى: ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) بالرفع لأنه قطع من الكلام الأوّل، وإن شئت جزمته إذا عطفته على نُهْلِكَ
. وقال تعالى: وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) أي: جعلنا لكم ماء تشربون منه. وقال: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ [الإنسان/ 21] للشفة، وما كان للشفة فهو بغير ألف وفي لغة قليلة قد يقول للشفة أيضا «أسقيناه» قال لبيد «2» [من الوافر، وهو الشاهد الخامس والسبعون بعد المائتين] :
سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال «3» وقال تعالى: إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) ثم استأنف السياق:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . هو لبيد بن ربيعة العامري أحد شعراء المعلّقات، وأحد مخضرمي الجاهلية والإسلام. ترجمته في طبقات فحول الشعراء 1/ 135، والشعر والشعراء 1/ 274، والأغاني 14/ 93 و 15/ 136.
(3) . الشاهد في ديوانه 93 والصحاح واللسان (سقي) .(11/19)
إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) أي: كالقصور «1» وقرأ بعضهم (كالقصر) أي: كأعناق الإبل.
وقال تعالى: كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) ، بعض العرب يجمع «الجمال» على «الجمالات» «2» كما تقول «الجزرات» وقرأ بعضهم (جمالات) «3» وليس يعرف هذا الوجه.
وقال تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) فرفع «4» ، ونصب بعضهم «5» على قوله: «هذا الخبر يوم لا ينطقون» وكذاك هذا يَوْمُ الْفَصْلِ «6» [الآية 38] ، وترك التنوين للاضافة، كأنّ السياق: «هذا يوم لا نطق» وان شئت نوّنت اليوم إذا أضمرت فيه، كأنّك قلت «هذا يوم لا ينطقون فيه» .
__________
(1) . القراءة بفتح القاف وسكون الصاد هي في الطبري 29/ 239 إلى قرّاء الأمصار وابن عبّاس، وفي البحر 8/ 407 إلى الجمهور.
(2) . هي في معاني القرآن 3/ 225 إلى عمر بن الخطّاب، وفي الطبري 29/ 242 الى عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيّين، وفي السبعة 666 الى ابن كثير ونافع وابن عامر وأبي بكر عن عاصم، وفي الكشف 2/ 358، والتيسير 218، والجامع 19/ 165 الى غير حفص والكسائي، وفي البحر 8/ 407 الى الجمهور ومنهم عمر بن الخطاب.
(3) . في الطبري 29/ 243 الى ابن عبّاس، وزاد في الجامع 19/ 165 مجاهدا وحميدا، وزاد في البحر 408 قتادة وابن جبير والحسن وأبا رجاء، وأهمل حميدا ومجاهدا، وكذلك في المحتسب 2/ 347.
(4) . في معاني القرآن 3/ 225 هي إجماع القراء. وفي البحر 8/ 407 إلى الجمهور. [.....]
(5) . في الشواذ 167 إلى الأعرج والأعمش، وزاد في البحر 8/ 407 زيد بن علي وعيسى وأبا حيوة وعاصما في رواية.
(6) . الصافات 37/ 21 أيضا.(11/20)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المرسلات» «1»
إن قيل: قوله تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) ينفي وجود الاعتذار منهم لأن الاعتذار إنما يكون بالنطق، فما فائدة نفي الاعتذار بعد نفي النطق؟
قلنا: معناه أنهم لا ينطقون، بعذر مقبول وحجة صحيحة، لا ابتداء ولا بعد أن يؤذن لهم في الاعتذار، فإنّ الأسير والجاني الخائف، عادة، قد لا ينطق لسانه بعذره وحجته، ابتداء، لفرط خوفه ودهشته، ولكن إذا أذن له في إظهار عذره وحجته، انبسط وانطلق لسانه، فكانت الفائدة في الجملة. الثاني: نفي هذا المعنى: أي لا ينطقون بعذر، ابتداء ولا بعد الإذن.
فإن قيل: قوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ [غافر/ 52] يدلّ على وجود الاعتذار منهم، فكيف التوفيق بينه وبين ما نحن فيه؟
قلنا: قيل: المراد، بتلك، الظالمون من المسلمين، وبما نحن فيه يراد الكافرون وآخر تلك الآية يضعف هذا الجواب: أي قوله تعالى: وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) [غافر] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/21)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المرسلات» «1»
قوله سبحانه: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) هو استعارة. والمراد بطمس النجوم، والله أعلم، محو آثارها، وإذهاب أنوارها، وإزالتها عن الجهات التي كان يستدلّ بها، ويهتدى بسمتها. فصارت كالكتاب المطموس الذي أشكلت سطوره، واستعجمت حروفه.
والطمس في المكتوبات حقيقة.
وفي غيرها استعارة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(11/23)
سورة النّبأ 78(11/25)
المبحث الأول أهداف سورة «النبأ» «1»
سورة «النبأ» سورة مكّية، آياتها أربعون آية، نزلت بعد سورة «المرسلات» .
تبدأ سورة النبأ بسؤال موح، مثير للاستهوال والاستعظام، وتضخيم الحقيقة التي يختلفون عليها، وهي أمر عظيم لا خفاء فيه ولا شبهة، ثم يأتي تهديدهم بأنهم سيعلمون حقيقة هذا النبأ [الآيات 1- 5] .
ثم يلفت السياق الأنظار الى عدد من المشاهد والحقائق، المتمثّلة في خلق الأرض، وإرساء الجبال، وخلق الذكر والأنثى للتناسل والتكاثر وإشباع الرغبة وحاجة كل طرف الى الآخر، وخلق الليل سكنا، والنوم راحة وأمنا، والنهار سعيا ومعاشا، وخلق السماء والشمس، وإنزال المطر وإنبات النبات والبساتين [الآيات 6- 16] .
ثم يعود السياق الى مشهد القيامة والبعث في [الآيات 17- 20] ويصف جهنم وأهوالها وعذابها، وجحود أهلها وتكذيبهم بآيات الله [الآيات 21- 30] .
ثم يصف نعيم المتّقين في الجنّة وصنوف التكريم والحسّ المعنويّ [الآيات 31- 36] .
وتختم السورة بمشهد جليل، في يوم القيامة، يوم تقوم الملائكة صفّا، ويشتدّ الهول، ويلقى كل إنسان جزاء عمله [الآيات 37- 40] .
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(11/27)
مع آيات السورة
كان المشركون، كلّما اجتمعوا في ناد من أنديتهم، أخذوا يتحدّثون ويسأل بعضهم بعضا، ويسألون غيرهم، فيقولون: أساحر هو أم شاعر، أم كاهن، أم اعتراه بعض آلهتنا بسوء؟
ويتحدّثون في شأن القرآن: أسحر هو، أم شعر، أم كهانة؟ ويقول كلّ واحد ما شاء له هواه، والرسول سائر قدما في تبليغ رسالته، وأمامه مصباحه المنير الذي يضيء للناس سبيل الرشاد، وهو الكتاب الكريم. كما كانوا يتحدّثون في شأن البعث، ويأخذ الجدل بينهم كلّ مأخذ، فمنهم من ينكره البتّة، ويزعم أنه إذا مات انتهى أمره، وما هي إلّا أرحام تدفع، وأرض تبلع وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ.
ومنهم من كان يزعم أنّ البعث للأرواح دون الأجساد، لأنّ الأجساد تأكلها الأرض وتعبث بها يد البلى وربما لقي أحدهم بعض من آمن بالنبي (ص) ، فيسائله عن ذلك استهزاء وسخرية.
وفي هؤلاء وأشباههم نزلت هذه السورة، للرّدّ عليهم، وإقامة للحجّة على أن الله سبحانه قادر على أن يبعثهم بعد موتهم، وإن صاروا ترابا، أو أكلتهم السباع، أو أحرقتهم النيران، لأنّ الله أحصى كل شيء عددا، وأحاط بكلّ شيء علما.
معنى الآيات
[الآيات 1- 3] : عن أي شيء يتساءل مشركو مكة؟ إنهم يتساءلون عن الخبر العظيم الشأن، وهو البعث أو نزول الوحي على النبيّ الأمين، الخبر الذي اختلفوا فيه فمن قائل إنه مستحيل، ومن شاكّ فيه متردّد يقول، كما ورد في التنزيل: وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) [الجاثية] .
[الآيتان 4 و 5] : تردّ الآيتان على تساؤلهم وشكّهم، بالتهديد الملفوف، وهو أوقع من الجواب المباشر وأعمق في التأثير، وتقول: فليزدجروا عمّا هم فيه، فإنّهم سيعلمون عمّا قليل حقيقة الحال، إذا حلّ بهم العذاب والنّكال، وأن ما يتساءلون عنه، ويضحكون منه حقّ لا شكّ فيه، ولا ريب في وقوعه.
[الآيات 6- 16] : تنتقل الآيات من موضوع النبأ العظيم، لتعرض أمام(11/28)
الأبصار والبصائر، مظاهر القدرة الإلهيّة في خلق هذا الكون، فتذكر تسعة مشاهد، يبصرونها بأعينهم، ولا يخفى عليهم شيء منها:
1- انبساط الأرض وتمهيدها لتحصيل المعاش، وإثراء الحياة.
2- سموّ الجبال لتثبيت الأرض وحفظ التوازن.
3- خلق الناس ذكورا وإناثا، ليتحقق الائتناس والتعاون، ويعم النفع.
4- جعل النوم راحة للأجسام، وسكنا للأرواح، وانقطاعا عن الإدراك والنشاط.
5- جعل الليل لباسا ساترا، يكون فيه السّبات والانزواء.
6- جعل النهار معاشا، تحدث فيه الحركة والنشاط.
7- ارتفاع السموات فوقنا، مع إحكام الوضع، ودقّة الصنع، وقوّة البناء وشدّته وتماسكه.
8- وجود الشمس المنيرة المتوهجة، تسكب الأشعة والضوء والحرارة.
9- نزول المطر وما ينشأ عنه من الحبّ والنبات، والجنات الألفاف، الكثيفة، الكثيرة الأشجار، الملتفّة الأغصان.
وتوالي هذه الحقائق والمشاهد على هذا النظام البديع، والتقدير المحكم، يوحي بأن وراء هذا الكون قوّة تدبّره، وحكمة تنظّمه، وتشعر بالخالق الحكيم القدير، الذي أبدع كلّ شيء خلقه، فتبارك الله أحسن الخالقين.
[الآيات 17- 20] : الناس لم يخلقوا عبثا، ولن يتركوا سدى، والذي قدّر حياتهم ذلك التقدير المحكم، الذي يظهره المقطع الماضي من السياق، قد جعل لهم يوما مؤقّتا، للفصل والقضاء بينهم. في ذلك اليوم ينفخ إسرافيل (ع) في البوق، فيأتي الناس جميعا مسرعين، جماعات جماعات، والسماء المبنية المتينة فتحت، وانشقّت وتصدّعت على هيئة لا عهد لنا بها، فكانت طرقا وأبوابا.
والجبال الراسية الثابتة تصبح هباء مثارا في الهواء، ومن ثمّ فلا وجود لها، كالسراب الذي ليس له حقيقة.
[الآيات 21- 30] : تمضي الآيات خطوة وراء النفخ والحشر، فتصوّر مصير الطغاة، وتذكر ما يأتي:(11/29)
إنّ جهنّم خلقت ووجدت مكانا مترصّدا للطاغين، ينتظر حضورهم، ويترقّب وصولهم. إنّ جهنّم مرجع الطغاة ومكان إيابهم وعودتهم. روى ابن جرير عن الحسن أنه قال: لا يدخل أحد الجنة حتّى يجتاز النار، فإن كان معه جواز نجا، وإلّا احتبس.
وسيمكث الطغاة في النار دهورا متلاحقة، يتبع بعضها بعضا، فكلّما انقضى زمن تجدّد لهم زمن آخر. إنّهم لن يذوقوا في جهنّم طعاما إلّا الحميم، وهو الماء المغلي، والغسّاق، وهو الصديد الذي يسيل من جراح أهل النار، جَزاءً وِفاقاً (26) . قال مقاتل: وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار إنّهم كانوا لا يتوقّعون الحساب، وكذّبوا بجميع البراهين الدّالّة على التوحيد والنبوّة والمعاد، وبجميع ما جاء في القرآن بينما كان الله يحصي عليهم كلّ شيء إحصاء دقيقا لا يفلت منه شيء، وسجّل أعمالهم في اللوح المحفوظ، أو كتبها في صحف أعمالهم. ويقال لهم على ألسنة خزنة جهنّم من باب التأنيب الميئس من كل رجاء: ذوقوا أشد العذاب بما كسبت أيديكم، ولن نزيدكم إلّا عذابا من جنسه.
[الآيات 31- 36] : تعرض هذه الآيات المشهد المقابل، مشهد الأتقياء في النعيم، بعد مشهد الطغاة في الجحيم: إنهم يفوزون بالنعيم والثواب، ومن بعض مظاهره: الحدائق الكثيرة، والبساتين والأعناب، وَكَواعِبَ وهن الفتيات الناهدات، اللواتي استدارت أثداؤهن، أَتْراباً (33) متوافقات السن والجمال، وَكَأْساً دِهاقاً (34) مترعة بالشراب، ولا يجري بينهم حين يشربون لغو الكلام، ولا يكذّب بعضهم بعضا.
هذه النعم جزاء من الله على أعمالهم، وهي عطاء وتفضّل من الله على حسب أعمالهم، وفي الحديث الشريف:
«إنّكم تدخلون الجنّة بفضل الله، وتقتسمونها بحسب أعمالكم» .
[الآيات 37- 40] : هذا الجزاء السّابق للطّغاة وللتّقاة، من مالك السماوات والأرض، والمدبّر لشئونهما، والمالك لما بينهما من عوالم، وهو الرحمن، ومن رحمته يكون الجزاء العادل المناسب للأشرار وللأخيار، ومع الرحمة الجلال، فلا(11/30)
يملك أحد مخاطبته في ذلك اليوم المهيب.
يوم يقف جبريل والملائكة جميعا مصطفّين، لا يتكلّمون إجلالا لربّهم، ووقوفا عند أقدارهم، إلّا إذا أذن لهم ربّهم وقالوا صدقا وصوابا.
ذلك اليوم هو الحقّ الموعود به، فلا مجال للتساؤل والاختلاف في شأنه.
والفرصة لا تزال سانحة، فمن شاء عمل صالحا يقرّبه من ربّه، ويدنيه من ثوابه. إنّا نحذركم عذاب يوم القيامة، وهو قريب ليس بالبعيد، فجهنّم تنتظركم، وتترصّد لكم، على النحو الذي سمعتم، والدّنيا كلّها رحلة قصيرة، وكل آت قريب.
وفي ذلك اليوم يجد الإنسان جزاء عمله، ولقاء ما صنعه في الدنيا من الأعمال، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) [الزّلزلة] . في ذلك اليوم يشعر الكافر بالندم والحسرة، فيقول: يا ليتني كنت ترابا أو حجرا، لا يجري عليه تكليف حتّى لا يعاقب هذا العقاب.
موضوعات السورة
اشتملت سورة النبأ على الموضوعات الآتية:
1- سؤال المشركين عن البعث، ورسالة محمد (ص) .
2- تهديد المشركين إنكارهم إيّاه.
3- إقامة الأدلّة على إمكان حصوله.
4- أحداث يوم القيامة.
5- ما يلاقيه المكذّبون من العذاب.
6- فوز المتّقين بجنّات النعيم.
7- أنّ هذا اليوم حقّ لا ريب فيه.
8- ندم الكافر بعد فوات الأوان.(11/31)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النبأ» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة النبأ بعد سورة المعارج، ونزلت سورة المعارج بعد الإسراء وقبيل الهجرة فيكون نزول سورة النبأ في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) وتبلغ آياتها أربعين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إثبات البعث، وقد اقتضى هذا تهديدهم على إنكارهم له، وترغيبهم في الإيمان به، فكان سياقها في هذا مشابها لسياق سورة المرسلات، وهذا هو وجه ذكرها بعدها.
إثبات البعث
الآيات [1- 40] قال الله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) فذكر أنهم يتساءلون عمّا أخبرهم به من البعث، ويختلفون فيه بين منكر ومستبعد وشاكّ، وهدّدهم بأنّهم سيعلمون صدق هذا النبأ.
واستدل على قدرته عليه، بأنه، سبحانه، هو الذي جعل الأرض مهادا، إلى غير هذا مما يدل على كمال قدرته. ثمّ ذكر سبحانه أنّ لهذا النبأ وقتا معلوما، وأنّ له علامات كالنفخ في الصّور ونحوه وأنّ جهنم تكون فيه
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/33)
مرصادا للطاغين، فيلاقون فيها ما فصّله من العذاب وأنّ للمتّقين مفازا من حدائق وأعناب وغيرها. ثم ذكر عزّ وجلّ أنه لا يملك أحد أن يخاطبه في ذلك اليوم، وأنه يقوم فيه الروح والملائكة صفّا لا يتكلمون إلا بإذنه، ولا يشهدون إلّا بالحق على عباده، فمن شاء أن يتّخذ إليه مآبا حسنا كان خيرا له. ثم ختمت السورة بقرب ما أنذرهم به، بقوله تعالى: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
(40) .(11/34)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النبأ» «1»
أقول: وجه اتصالها بالسورة التي قبلها، سورة «المرسلات» : تناسبها معها في الجمل. ففي تلك: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) .
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) . إلى آخره.
وفي هذه: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) إلى آخره. فذلك نظير تناسب جمل:
«الضحى» و «ألم نشرح» ، بقوله تعالى في الضحى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) إلى آخره. وقوله: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) ، مع اشتراك هذه السورة، والأربع التي قبلها، في الاشتمال على وصف يوم القيامة وأهواله، وعلى ذكر بدء الخلق، وإقامة الدليل على البعث.
وأيضا في سورة المرسلات: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) . وفي هذه السورة:
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) إلى آخره.
فكأن هذه السورة شرح ليوم الفصل، المجمل ذكره في السورة التي قبلها «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.
(2) . لم يذكر المؤلف سورة النازعات، ومناسبتها لما قبلها. ونرى، والله أعلم: أنه طال وصف يوم القيامة في «النبأ» ، ثم ذكر في «النازعات» حجة من أنكرها، وردّ عليها، فقال: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) وذكر ندامتهم على تفريطهم بقوله سبحانه: قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) . ثمّ أكّد قدرته على إحياء الموتى، وأقام الدليل عليها في بقيّة السورة.(11/35)
المبحث الرابع مكنونات سورة «النبأ» «1»
1- يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[الآية 40] .
قال أبو قاسم بن حبيب «2» : رأيت في بعض التفاسير أنّ الكافر هنا إبليس. ذكره ابن عسكر.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . أبو قاسم بن حبيب: هو الحسن بن محمد بن حبيب بن أيوب النّيسابوري الواعظ المفسّر، إمام عصره في معاني القرآن وعلومه، مع الأدب والنحو، وكان عارفا بالمغازي والقصص والسير، وانتشر عنه بنيسابور العلم الكثير صنف «التفسير» و «عقلاء المجانين» وغير ذلك في القراءات والآداب، توفي سنة 406.
ترجمته في: «طبقات المفسرين» للسيوطي: 45، و «شذرات الذهب» لابن العماد 3/ 181، و «الأعلام» للزّركلي 2/ 213.(11/37)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «النبأ» «1»
قال تعالى: وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) وواحدها «اللّفّ» .
وقال تعالى: جَزاءً وِفاقاً (26) أي: «وافق إهمالهم وفاقا» كما تقول:
«قاتل قتالا» .
وقال تعالى: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) لأن فعله على أربعة من باب «أفعلت» «إفعالا» . وعلى هذا القياس تقول: «قاتل» «قيتالا» وهو من كلام العرب. وقال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) بنصب (كل) ، وقد شغل الفعل بالهاء لأن ما قبله قد عمل فيه الفعل، فأجري عليه، وأعمل فيه فعل مضمر.
وقال تعالى: وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
[الآية 40] فإن شئت جعلت التقدير «ينظر أيّ شيء قدّمت يداه» وتكون صفته (قدمت) وقال بعضهم:
«إنّما هو» ينظر إلى ما قدّمت يداه، فحذف «إلى» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.(11/39)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «النبأ» «1»
إن قيل: كيف اتصل قوله تعالى:
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) بما قبله؟
قلنا: لمّا كان النبأ العظيم الذي يتساءلون عنه هو البعث والنشور، وكانوا ينكرونه، قيل لهم: ألم يخلق من وعد بالبعث والنشور هذه المخلوقات العظيمة العجيبة الدّالّة على كمال قدرته على البعث؟
فإن قيل: لو كان النبأ العظيم الذي يتساءلون عنه ما ذكرتم لما قال الله تعالى: الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) :
لأنّ كفّار مكّة لم يختلفوا في أمر البعث، بل اتّفقوا على إنكاره؟
قلنا: كان فيهم من يقطع القول بإنكاره، وفيهم من يشكّ فيه ويتردّد فثبت الاختلاف لأنّ جهة الاختلاف لا تنحصر في الجزم بإثباته والجزم بنفيه.
الثاني: أنّ بعضهم صدّق به فآمن، وبعضهم كذّب به فبقي على كفره، فثبت الاختلاف بالنفي والإثبات.
الثالث: أن الضمير في يَتَساءَلُونَ وفي هُمْ عائد إلى الفريقين من المسلمين والمشركين وكلّهم كانوا يتساءلون عنه لعظم شأنه عندهم، فصدّق به المسلمون فأثبتوه، وكذّب به المشركون فنفوه.
فإن قيل: قوله تعالى: ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) هو جزاء الشرط فأين الشرط و «شاء» وحده لا يصلح شرطا لأنه لا يفيد
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/41)
بدون ذكر مفعوله وإن كان المذكور هو الشرط، فأين الجزاء؟
قلنا: معناه فمن شاء النجاة من اليوم الموصوف، اتّخذ إلى ربّه مرجعا بطاعته. الثاني: أنّ معناه: فمن شاء أن يتّخذ إلى ربّه مآبا، كقوله تعالى:
فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف/ 29] أي فمن شاء الإيمان فليؤمن، ومن شاء الكفر فليكفر.(11/42)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «النبأ» «1»
في قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) استعارتان. وقد مضى الكلام على الأولى منهما. أما معنى كون الجبال أوتادا، فلأنّ بها مساك الأرض وقوامها، واعتدالها وثباتها، كما يثبت البيت بأوتاده، والخباء على أعماده.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(11/43)
سورة النّازعات 79(11/45)
المبحث الأوّل أهداف سورة «النازعات» «1»
سورة النازعات سورة مكيّة، آياتها 46 آية، نزلت بعد سورة النبأ.
وهي نموذج من نماذج هذا الجزء، لإشعار القلب البشريّ بحقيقة الآخرة، بهولها وضخامتها. وفي الطريق إلى ذلك تمهيد بمطلع غامض مثير، في إيقاع سريع [الآيات 1- 5] . وعقب هذا المطلع الغامض الراجف الواجف، يجيء المشهد الأول من مشاهد ذلك اليوم في الآيات [6- 14] . ثم يجري السياق في عرض حلقة من قصّة موسى (ع) مع فرعون، فيهدأ الإيقاع، ويسترخي شيئا مّا ليناسب جو الحكاية والعرض، وذلك في الآيات [15- 26] .
ثمّ ينتقل الكلام من ساحة التاريخ إلى كتاب الكون المفتوح، ومشاهد الكون الهائلة، الشاهدة بالقوّة والتدبير، والتقدير للألوهيّة المنشئة للكون، المهيمنة على مصائره في الدنيا والآخرة، في تعبيرات قويّة الأثر، تأخذ بالألباب، وذلك في الآيات [27- 33] .
ثمّ يجيء مشهد الطّامّة الكبرى، وما يصاحبها من جزاء على ما كان في الحياة الدنيا، [الآيات 34- 41] .
ثمّ يرتدّ الكلام إلى المكذّبين بهذه الساعة، الذين يسألون الرسول (ص) ، عن موعدها، يرتدّ إليهم بإيقاع يزيد من روعة الساعة وهولها وضخامتها، [الآيات 42- 46] .
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. [.....](11/47)
مع آيات السورة
[الآيات 1- 5] : أقسم الله تعالى بالملائكة، الذين ينزعون أرواح الكفار إغراقا، أي مبالغة في النزع وبالملائكة الذين يخرجون أرواح المؤمنين برفق، فيسبحون في إخراجها سبح الغواص، الذي يخرج الشيء من أعماق البحر، فيسبقون بأرواح الكفّار إلى النار، وبأرواح المؤمنين إلى الجنة، أو يسبقون للإيمان أو للطاعة لأمر الله، فيدبّرون ما يوكل إليهم من الأمور.
وقيل: أقسم الله تعالى بالنجوم، تنزع في مداراتها وتتحرّك، وتنشط منتقلة من منزل إلى منزل، وتسبح سبحا في فضاء الله وهي معلّقة بهذا الفضاء، وتسبق سبقا في جريانها ودورانها، وتدبّر من النتائج والظواهر ما أوكله الله إليها، ممّا يؤثّر في حياة الأرض ومن عليها.
وقيل: النّازعات والنّاشطات والسّابحات والسّابقات هي النجوم والمدبّرات هي الملائكة. وجملة القول: أن هذه أوصاف لموصوفات، أقسم الله بها، لعظم شأنها وكل ما يصدق عليه الوصف، يصحّ أن يكون تفسيرا للآيات، وهذا من إعجاز القرآن الكريم.
[الآيات 6- 9] : اذكر يا محمّد يوم تضطرب الأرض، ويرتجف كل من عليها وتنشقّ السماء ويصعق كل من في السماوات ومن في الأرض إلّا من شاء الله وهذه هي الرّاجفة أو النفخة الأولى في الصور يتبع ذلك النفخة الثانية، التي يصحون عليها ويحشرون وهذه هي الرادفة «1» .
قلوب الكافرين تكون يوم القيامة شديدة الاضطراب، بادية الذّلّ، يجتمع عليها الخوف والانكسار، والرجفة والانهيار.
[الآيات 10- 14] : يقول الكافرون المنكرون للبعث: أصحيح أننا إذا متنا راجعون إلى الأرض أحياء كما كنّا؟
أنعود للحياة بعد تحلّل أجسادنا في التراب؟ إن صح هذا فهو الخسران
__________
(1) . ورد هذا المعنى في سورة الزمر قوله تعالى، في: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) .(11/48)
الخالص، والرجعة الخاسرة، التي لم نحسب حسابها.
لا تستبعدوا ذلك أيّها الكافرون، فإنّما هي صحيحة واحدة ينفخ فيها إسرافيل (ع) في الصور، فإذا الناس جميعا أحياء على سطح أرض القيامة.
[الآيات 15- 26] : تحكي هذه الآيات قصة موسى عليه السلام، وهي قصة تكررت في القرآن الكريم، لما لقيه موسى من شدّة المعاناة مع قومه، فأصبح نموذجا للصّبر والثبات. وفي الحديث الصحيح يقول النبي (ص) :
«يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا، فصبر» .
تقول الآيات:
وهل جاءك يا محمد خبر موسى وقصته العجيبة؟ حيث تفضّل الله عليه فناداه، وكلّمه من وراء حجاب، بالوادي المبارك من طور سيناء (طوى) «1» ، فقال له ما معناه: اذهب إلى فرعون فإنّه طغى وتجاوز الحد، فتلطّف معه في القول، وقل له: هل ترغب في أن تطهّر نفسك من الآثام التي انغمست فيها، وهل لك في الإيمان بالله، واستشعار الجلالة والجبروت وخشية عقاب الله وحسابه.
بيد أنّ هذا القول لم يفلح في هداية قلب الطاغية الجبار، فأظهر له موسى المعجزة الكبرى، وهي انقلاب العصا حية، وإخراج يده بيضاء بياضا ساطعا، يغلب ضوء الشمس. فأنكر فرعون رسالة موسى (ع) ، وعصى أمر ربّه، ثم أعرض عن موسى، وسعى في إيذائه، وحثّ الناس على مقاومة دعوته، ثم جمع السحرة الذين هم تحت إمرته وسلطانه، فقام فيهم يقول، كما ورد في التنزيل: فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) الذي لا يدانيه أحد في القوّة والعظمة، وما زال في عتوّه وتطاوله، حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر (بحر القلزم) عند خروجهم من مصر، فأغرق فيه هو وجنوده، تنكيلا به على ما صنع، وله في الآخرة عذاب السعير، وسيكون مثلا للأوّلين والآخرين. وفي قصة فرعون عبرة لمن له عقل يتدبّر به في عواقب الأمور، فيثوب إلى رشده ويتّقي ربه.
__________
(1) . طوى علم للوادي، وهو واد بأسفل جبل طور سيناء.(11/49)
[الآيات 27- 33] : يخاطب الله سبحانه منكري البعث، ويرشدهم إلى أنّ بعثهم هيّن على الله، بدليل ما يشاهدون من آثار قدرته في هذا الكون فيقول لهم ما معناه: هل أنتم أشدّ خلقا أم خلق السماء أصعب وأشقّ؟. إنكم لا تنازعون في أنّها أشدّ منكم خلقا، ومع ذلك لم نعجز عن إبداعها، فما الذي تستصعبونه من أمر بعثكم؟ والذي بنى السماء وأبدعها قادر على إعادتكم. قال تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) [غافر] .
لقد رفع الله (سمك) السماء أي بناءها وسمك كلّ شيء قامته وارتفاعه. والسماء مرفوعة في تناسق كامل، وتنسيق بين حركاتها وآثارها وتأثراتها، وقد جعل الله، سبحانه، ليلها مظلما بمغيب كواكبها، وأنار نهارها بظهور الضحى.
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) ، ودحو الأرض تميهدها، وبسط قشرتها بحيث تصبح صالحة للسير عليها، وتكوين تربة تصلح للإنبات: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) ، أي فجّر منها العيون والينابيع والأنهار، وأنبت فيها النبات، وثبّت الجبال في أماكنها وجعلها كالأوتاد، لئلّا تميد بأهلها، وتضطرب بهم: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) ، أي إنّما جعلنا ذلك كله ليتمتّع به الناس والأنعام. وليتنبّه الإنسان على عظمة التدبير والتقدير، فإنّ بناء السماء على هذا النحو، وإظلام الليل، وإضاءة النهار، وتمهيد الأرض، وإخراج النبات والماء، وإرساء الجبال لم يكن كلّ ذلك سدّى، وإنّما كان متاعا لكم ولأنعامكم.
وهذا المدبّر الحكيم سبحانه، وفّر لكم هذا الخير الكثير، لتتمتّعوا به ومن الحكمة والتدبير أن يكون هناك بعث وجزاء، لإثابة الطائع، ومعاقبة الطّغاة والعصاة.
[الآيات 34- 41] : فإذا جاءت الداهية العظمى، التي تعلو على سائر الدواهي، وتشغل الإنسان عن ولده ونفسه، غطّت على كل شيء، وطمت على كل شيء. عندئذ يتذكّر الإنسان سعيه ويستحضره أمامه، حينما يرى(11/50)
أعماله مدوّنة في كتابه. وظهرت النار إلى مكان بارز، حتّى يراها كلّ ذي نظر، عندئذ تختلف المصائر والعواقب، فأمّا من تكبّر وعصى ربّه وجاوز حدّه، وآثر شهوات الحياة الدنيا على ثواب الآخرة، فالنّار مثواه ومستقرّه.
وأمّا من استحضر في قلبه دائما عظمة الله تعالى، ونهى النفس عمّا تهواه، وتميل إليه بحسب طبيعتها، فإنّ الجنّة ستكون له مستقرا ومقاما.
[الآيات 42- 46] : يسألك كفّار قريش والمتعنّتون من المشركين عن القيامة يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) : متى قيامها وظهورها؟
وأين موعدها؟
فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) : إنّها لأعظم من أن تسأل أو تسأل عن موعدها، فأمرها إلى ربّك، وهي من خاصّة شأنه، وليست من شأنك، إلى ربك ينتهي علم الساعة، فلا يعلم وقت قيامها غيره سبحانه، ولم يعط علمها لملك مكرّم، ولا لنبيّ مرسل. إنما أنت رسول مبعوث لتنذر من ينفعه الإنذار، وهو الذي يشعر قلبه بحقيقتها فيخشاها، ويعمل لها ويتوقعها.
وإذا جاءت الساعة، ورأوا أهوالها وحسابها وجزاءها، استهانوا بالدنيا ومتاعها وأعمارها، ورأوا الدنيا بالنسبة للآخرة قصيرة عاجلة، هزيلة ذاهبة، زهيدة تافهة.
وتنطوي الدنيا في نفوس أصحابها، فإذا هي عندهم عشية أو ضحاها فكأنما الدنيا ساعة من نهار، أفمن أجل ساعة من نهار، يضيّع الإنسان الجنّة والخلود في رضوانها؟
قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) [الروم] أي أنّ الدنيا أو الحياة الفانية، ليست إلّا وقتا قصيرا بالنسبة للآخرة. قال تعالى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) [الأعلى] .
موضوعات سورة النازعات
1- إثبات البعث.
2- مقالة المشركين في إنكاره، والردّ عليهم.(11/51)
3- قصة موسى (ع) مع فرعون، وفيها عاقبة الطغاة.
4- آيات الله في الآفاق.
5- أهوال يوم القيامة.
6- الناس في هذا اليوم فريقان:
سعداء وأشقياء. 7- تساؤل المشركين عن الساعة وميقاتها.
8- نهي الرسول (ص) عن البحث عنها.
9- ذهول المشركين من شدّة الهول، والاستهانة بالدنيا حينما يرون الآخرة.(11/52)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النازعات»
«1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة النازعات بعد سورة النبأ، ونزلت سورة النبأ بعد الإسراء وقبيل الهجرة فيكون نزول سورة النازعات في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وتبلغ آياتها ستا وأربعين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إثبات البعث أيضا، فهي توافق سورة النبأ في الغرض المقصود منها، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها.
إثبات البعث الآيات [1- 46]
قال الله تعالى: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) فأقسم سبحانه، بما ذكره على أنهم سيبعثون وذكر جلّ شأنه أنه يوم ترجف الراجفة بعد بعثهم، تجفّ قلوبهم وتخشع أبصارهم ثم ذكر استبعادهم لبعثهم، وقولهم على سبيل الاستهزاء: إنه لو صح لكانت كرّتهم خاسرة، وأجاب بأنّ أمره لا يقتضي إلّا زجرة واحدة، فإذا هم بالساهرة أي (القيامة) ثم ذكر أن فرعون كذّب بهذا قبلهم، وكان أشدّ
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/53)
منهم، فأخذه بنكال الآخرة والأولى ثم ذكر أنهم ليسوا أشدّ خلقا من السماء وغيرها من خلقه حتى يعجز عن إعادتهم وأنه إذا جاء يوم القيامة يتذكّر كلّ إنسان ما عمله، وتكون الجحيم مأوى الطاغين، وتكون الجنة مأوى المتّقين ثم ذكر تعالى أنهم يسألون عن الساعة أيّان مرساها استهزاء بها، وأجاب بأنه لا يعلمها إلّا هو، وإنّما ينذر النبي (ص) بها من يخشاها:
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46) .(11/54)
المبحث الثالث مكنونات سورة «النازعات»
«1» أخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح أنّه، بقوله:
1- وَالنَّازِعاتِ [الآية 1] ، 2- ووَ النَّاشِطاتِ [الآية 2] ، 3- ووَ السَّابِحاتِ [الآية 3] ، 4- وفَالسَّابِقاتِ [الآية 4] ، 5- وفَالْمُدَبِّراتِ [الآية 5] ، عنى الملائكة 6- أما بقوله بِالسَّاهِرَةِ (14) ، فإن عثمان بن أبي العاتكة قال: إنه يعني بالسفح الذي بين جبل أريحا، وجبل حسان «2» . أخرجه ابن أبي حاتم «3» .
وقال وهب بن منبّه: هي بيت المقدس. أخرجه البيهقي في «البعث» «4» .
وقال ابن عسكر:
قيل: هي أرض الشام «5» .
وقيل: جبل بيت المقدس «6» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . كذا في «تفسير الطبري» 30/ 24 ووقع اسم هذا الجبل: «حسان» في موضع آخر من «تفسير الطبري» 9/ 86 عند قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) [الأعراف] .
(3) . والطبري 30/ 24.
(4) . والطبري في «تفسيره» 30/ 24، بلفظ: جبل إلى جنب بيت المقدس.
(5) . أخرجه الطبري في «تفسيره» 30/ 24 عن سفيان قال: أرض بالشام.
(6) . راجع التعليق رقم (3) السابق.(11/55)
7- وقيل: هي جهنّم «1» .
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) .
هي قوله، كما ورد في التنزيل:
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) [القصص] .
قال عكرمة، وعبد الله بن عمرو:
قال، وكان بين الكلمتين «2» أربعون سنة. أخرجه ابن أبي حاتم.
__________
(1) . أخرجه الطبري في «تفسيره» 30/ 25 عن قتادة.
(2) . المراد بالكلمتين قوله جلّ ثناؤه: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص/ 38] ، الأولى، والثانية قوله سبحانه، حكاية عن فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) ، انظر «تفسير الطبري» 30/ 41 ط الحلبي، وذكر فيه تفسيرا آخر.(11/56)
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «النازعات»
«1» 1- وقال تعالى: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) .
والسّاهرة: الأرض البيضاء المستوية، سمّيت بذلك لأن السّراب يجري فيها.
وهذا من قولهم: عين ساهرة، جارية الماء، وفي ضدّها نائمة، قال الأشعث بن قيس: وساهرة يضحي السراب مجلّلا لأقطارها قد جبتها متلثّما 2- وقال تعالى: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) .
وقوله تعالى: الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) أي: الداهية التي تطمّ الدواهي، أي:
تعلو وتغلب.
أقول: والعبارة في الآية ممّا ورثناه في العربية المعاصرة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(11/57)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «النازعات»
«1» قال تعالى: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) فأقسم، والله أعلم، على إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أو على: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) ، وَالنَّازِعاتِ [الآية 1] ، أو على وَالنَّازِعاتِ ل يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) فحذفت اللام وهو كما قال جل ذكره، وشاء أن يكون في هذا، وفي كلّ الأمور.
وقال تعالى: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً كأنه سبحانه أراد: «أنردّ إذا كنّا عظاما» .
وقال تعالى: إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) . فمن لم يصرفه «2» جعله بلدة أو بقعة ومن صرفه «3» جعله اسم واد أو مكان. وقال بعضهم: «لا بل هو مصروف وإنما يراد ب طُوىً (16) :
طوى من الليل، لأنّك تقول: «جئتك بعد طوى من الليل» ويقال «طوى» منوّنة مثل «الثّنى» وقال الشاعر «4» [من
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نسبها الطبري 30/ 39 إلى عامّة قرّاء المدينة والبصرة وفي السبعة 671 إلى ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو وفي الجامع 19/ 201 إلى غير ابن محيصن، وابن عامر، والكوفيين، والحسن، وعكرمة وبكسر الطاء إلى الحسن، وعكرمة وروي عن أبي عمرو. [.....]
(3) . هي قراءة نسبها الطبري 30/ 39 إلى بعض أهل الشام، والكوفة وفي السبعة 671 إلى ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي وفي الجامع 19/ 201 إلى ابن محيصن، وابن عامر، والكوفيين.
(4) . هو أوس بن مفواء القرفعي، الصحاح واللسان «ثنى» والمخصص 15/ 138 وطبقات فحول الشعراء 1/ 79.(11/59)
البسيط وهو الشاهد السابع والسبعون بعد المائتين] :
ترى ثنانا إذا ما جاء بدأهم وبدأهم إن أتانا كان ثنيانا «4» والثّنى: هو الشيء المثنيّ. وقال تعالى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) . لأنّه حينما قال (أخذه) كأنه قال «نكّل له» فأخرج المصدر على ذلك. وتقول «والله لأصرمنّك تركا بيّنا» .
__________
(4) . في المصادر السابقة، والمخصص 2/ 159، والمقاييس 1/ 213 و 391 ب «بدوهم» وفي طبقات فحول الشعراء 1/ 79 كذلك، وصدره فيها:
ثنياننا إن أتاهم كان بدأهم.(11/60)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «النازعات»
«1» إن قيل: لم قال الله تعالى في الآيتين الأولى والثانية: وَالنَّازِعاتِ وَالنَّاشِطاتِ بلفظ التأنيث، وكذا ما بعده، والكلّ أوصاف الملائكة، والملائكة ليسوا إناثا؟
قلنا: هو قسم بطوائف الملائكة وفرقها، والطوائف والفرق مؤنثة.
فإن قيل: لم أضاف الله تعالى الأبصار إلى القلوب في قوله سبحانه:
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) ، أي ذليلة لمعاينة العذاب، والمراد بها الأعين بلا خلاف؟
قلنا: المراد أبصار أصحابها، بدليل قوله تعالى يَقُولُونَ [الآية 10] . فإن قيل: لم قال الله تعالى: فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) ، مع أن موسى عليه الصلاة والسلام أراه الآيات كلّها، بدليل قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ [طه/ 56] وكلّ آية كبرى؟
قلنا: الإخبار في هذه الآية عن أوّل ملاقاته إيّاه، وإنّما أراه في أوّل ملاقاته العصا واليد، فأطلق عليهما الآية الكبرى لاتّحاد معناهما. وقيل أراد بالآية الكبرى العصا، لأنّها كانت المقدّمة، والأصل، والأخرى كالتّبع لها لأنه كان يتبعها بيده، فقيل له أدخل يدك في جيبك.
فإن قيل: لم أضاف الله تعالى الليل
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/61)
إلى السماء، بقوله جلّ وعلا: وَأَغْطَشَ لَيْلَها [الآية 29] مع أن الليل إنّما يكون في الأرض لا في السماء؟
قلنا: أضافه إليها، لأنه أول ما يظهر عند غروب الشمس، إنّما يظهر من أفق السماء من موضع الغروب وأمّا قوله تعالى: وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) فالمراد به ضوء الشمس بدليل قوله تعالى:
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) [الشمس] أي:
وضوئها، فلا إشكال في إضافته إليها.(11/62)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «النازعات»
«1» في قوله سبحانه: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) استعارة: لأنّ المراد بالساهرة هاهنا، على ما قال المفسّرون، والله أعلم، الأرض.
قالوا إنما سمّيت ساهرة على مثال:
عيشة راضية، كأنه جاء على النسب: ذات السّهر وهي الأرض المخوفة. أي يسهر في ليلها، خوفا من طوارق شرّها.
وقيل أيضا: إنما سمّيت الأرض ساهرة لا تنام عن إنماء نباتها وزروعها فعملها في ذلك ليلا، كعملها فيها نهارا.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(11/63)
سورة عبس 80(11/65)
المبحث الأول أهداف سورة «عبس»
«1» سورة «عبس» سورة مكية، آياتها 42 آية نزلت بعد سورة النجم وهي سورة تصحّح القيم الإنسانية، وتضع الأسس الإسلامية لأقدار الناس وأوزانهم، وتؤكّد أن قيمة الإنسان بعمله وسلوكه، ومقدار اتّباعه لهدى السماء قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات/ 13] .
وقد نزلت سورة عبس في عبد الله بن أمّ مكتوم، وأمّ مكتوم أمّ أبيه، وأبوه شريح بن مالك ربيعة الزهري.
«وذلك أنه أتى رسول الله (ص) ، وعنده صناديد قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم. فقال يا رسول الله أقرئني وعلّمني ممّا علّمك الله، وكرّر ذلك وهو لا يعلم شغله بالقوم فكره رسول الله (ص) قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه، فنزلت فكان رسول الله (ص) بعد ذلك، يكرمه، ويقول:
إذا رآه، مرحبا بمن عاتبني فيه ربي، ويقول له: هل لك من حاجة؟
واستخلفه على المدينة مرتين» «2» .
فقرات السورة
تعاتب الآيات الأولى النبي (ص) على إعراضه عن عبد الله بن أمّ مكتوم، وقد جاء يطلب الهدى،
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.
(2) . تفسير النيسابوري 30/ 36.(11/67)
ويلحف في طلب العلم، [الآيات 1- 16] .
ويعالج المقطع الثاني جحود الإنسان، وكفره الفاحش لربّه، وهو يذكّره بمصدر وجوده وأصل نشأته، وتيسير حياته، وتولّي ربّه له في موته ونشره، ثمّ تقصير الإنسان بعد ذلك في أمر ربّه [الآيات 17- 23] .
والمقطع الثالث يعالج توجيه القلب البشري إلى أمسّ الأشياء به، وهو طعامه وطعام حيوانه، وما وراء ذلك الطعام من تدبير الله وتقديره له:
[الآيات 24- 32] .
والمقطع الأخير يعرض الصّاخّة التي يشتد هولها، ويذهل الإنسان بها عمّا عداها، وتنقسم الوجوه إلى ضاحكة مستبشرة، وعابسة مغبرّة: [الآيات 33- 42] .
وتسكب السورة الإحساس بقدرة هذا الكتاب الخارقة على تغيير موازين الجاهلية، وتصحيح القيم، وتغيير المثل الأعلى، فبعد أن كان احترام الإنسان لجاهه أو ماله، أو منصبه ومركزه، أو مظاهر سطوته وجبروته وقوّته، أصبح المثل الأعلى في الإسلام طلب الحق والهدى، والتزام هدى السماء، ومراقبة الله والتزام أوامره، والعمل بأحكامه، وصدق الله العظيم: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات/ 13] . وتبين آية أخرى أن الله جلّ جلاله يأمرنا بمكارم الأخلاق وينهانا عن المنكرات، فيقول سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) [النحل] .
مع آيات السورة
[الآيتان 1 و 2] : قطّب الرسول (ص) وجهه وأعرض، لأنّ الأعمى جاءه وقطع كلامه. وفي العدول عن الخطاب للغيبة التفات بلاغي، سرّه عدم توجيه اللوم والعتاب إلى الرسول (ص) . ثم التفت الى الخطاب بعد هاتين الآيتين، عند ما هدأت ثورة العتاب، وبدأ التلطّف.
[الآيتان 3 و 4] : وما يعلمك لعلّ هذا الرجل الأعمى الفقير يتطهر، ويتحقّق منه خير كبير، ويشرق قلبه بنور الايمان، فتنفعه الموعظة:(11/68)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) [الزمر] .
[الآيات 5- 7] : أمّا من أظهر الاستغناء عنك وعن دينك، وعمّا عندك من الخير والإيمان، فأنت تتصدّى له، وتحفل بأمره، وأنت مبلّغ عن الله، عليك البلاغ، وليس عليك هداهم، ولا يضيرك إعراضهم.
[الآيات 8- 10] : وأمّا عبد الله بن أمّ مكتوم، الذي جاءك طائعا مختارا ساعيا يخشى ويتوفّى، فأنت تتشاغل عنه بهؤلاء الأشراف من قريش ثم تتصاعد نبرة العتاب لتبلغ حدّ الردع والزجر.
[الآيات 11- 16] : (كلا) ، لا يكن ذلك أبدا.
إنّ هداية القرآن غالية عالية، فمن شاء اهتدى بها وتذكّر أحكامها، واتّعظ بها وعمل بموجبها. وهذا الوحي كريم على الله، كريم في كل اعتبار، منزّه عن النقص والضلالة، قد دوّن في صحف مكرّمة ذات شرف ورفعة، مطهّرة من النقائص والضلالات، تنزّل بواسطة الملائكة على الأنبياء، وهم يبلّغونها للناس. والملك سفير لتبليغ وحي السماء، والرسول سفير لتبليغ الدعوة إلى الناس، وهم كرام أبرار أطهار لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
وقد بلّغ النبي الكريم وحي السماء، وغيّر كثيرا من المفاهيم السائدة، وجعل أسامة بن زيد أميرا على جيش به أجلّاء الصحابة، ووضع في نفوس أصحابه تقدير الناس بأعمالهم فقط لا بأحسابهم وأنسابهم يقول عمر بن الخطاب (رض) : «لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته» . ويقول عمر أيضا: «أبو بكر سيّدنا وأعتق سيّدنا» أي أنّ أبا بكر (رض) أعتق بلالا (رض) مؤذّن الرسول الأمين (ص) .
[الآيات 17- 23] : قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) دعاء على الكافر، فإنه ليستحقّ القتل على شدة كفره وجحوده، ونكرانه لنعم الله عليه، لماذا يتكبّر وهو مخلوق من أصل متواضع زهيد، يستمدّ كلّ قيمة من فضل الله ونعمته، ومن تقديره وتدبيره. لقد خلقه الله من نطفة، فمرّت النطفة بأطوار كثيرة، في بطن الأم، ومرّ هو(11/69)
بأطوار عدّة خارج بطنها، رضيعا فطفلا فشابّا فكهلا فشيخا. ثمّ يسّر الله له سبيل الهداية، ومنحه العقل والإرادة، ومكّنه من القدرة على الاختيار، وعرّفه عاقبة كلّ عمل ونتيجته قال تعالى:
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) [الإنسان] ، أي بيّنّا له الطريق ومنحناه القدرة على الاختيار، وبيّنا له سبيل الهدى والضلال، فإمّا أن يشكر ربه ويمتثل لأمره، وإمّا أن يكفر بنعمه ويخالف أمره حتّى إذا انتهت حياة الإنسان سلب الله روحه، ومنّ عليه بالموت وهو نعمة كبرى، ولولا الموت لأكل الناس بعضهم بعضا، ولضاقت الأرض بمن عليها. ومن نعم الله أن شرّع دفن الميت، وحفظه في باطن الأرض، حتّى لا يترك على ظهرها للجوارح والكواسر.
ومن نعم الله، أيضا، أن يبعث الموتى، وينشرهم ويخرجهم من قبورهم، لمكافأة الطائع ومعاقبة العاصي.
عجبا للإنسان الجاحد، فإنه بالرغم من النعم الظاهرة والباطنة، التي أحاطه الله تعالى بها، لم يمتثل ما أمره به.
[الآيات 24- 33] : فليتأمل الإنسان تدبير الله، لإمداده بأسباب الحياة والنموّ، ولينظر إلى ألصق شيء إليه، وألزم شيء له، وهو الطّعام، كيف يسّر الله الحصول عليه فقد أنزل له سبحانه المطر من السماء، فانتفعت به الأرض، وانشقّت عنه ثمانية أنواع من النبات هي:
1- الحبّ كالحنطة والشعير والأرزّ.
2- العنب والفاكهة.
3- القضب، وهو ما يؤكل من النبات رطبا وغضّا طريّا.
4 و 5- الزيتون والنخل، وفيهما من القيمة الغذائية الشيء الكثير، والبلح طعام الفقير وحلوى الغنيّ، وزاد المسافر والمقيم.
6- بساتين ذات أشجار ضخمة مثمرة، وذات حوائط تحيط بها، غُلْباً (30) جمع غلباء أي ضخمة عظيمة، ملتفّة الأشجار.
7- وفاكهة يتمتّع الإنسان بأكلها، كالتّين والتّفّاح والخوخ وغيرها.
8- والأبّ، أي مرعى الحيوان خاصة.
تلك قصّة الطّعام الذي أنبتته يد(11/70)
القدرة، ويسّرت لذلك المطر والرياح والشمس والهواء، وعديدا من العوامل والأسرار الخفيّة، حتّى قضيّة النبات، فيتمتّع بأكله الإنسان والحيوان.
[الآيات 33- 42] : فإذا جاءت القيامة التي تصخّ الآذان بسماع أهوالها، في ذلك اليوم يشتدّ الهول، وينشغل الإنسان بنفسه عن أقرب الناس إليه، ويفرّ من أخيه، وأمّه وأبيه، وزوجته وبنيه لقد اشتدّ الفزع النفسيّ ففرّ الإنسان ممّن يفديهم بنفسه في الدّار الدّنيا، وقد شغله خوف الحساب، ومشاهد القيامة، ومظهر البعث والحشر والجزاء، عن كلّ شيء.
في ذلك اليوم، ترى وجوها مستنيرة مشرقة، ترجو ثواب ربّها، مطمئنّة بما تستشعره من رضاه عنها وترى وجوها أخرى، يغشاها غبرة الحزن والحسرة، ويعلوها سواد الذلّ والانقباض، هؤلاء هم الذين جحدوا آيات ربّهم، ولم يؤمنوا بالله ورسله، وانتهكوا الحرمات، وتعدّوا حدود الله، فاستحقّوا كلمة العذاب.
مقاصد السورة
1- عتاب الرسول (ص) على ما حدث منه مع ابن أمّ مكتوم الأعمى.
2- ذكر شرف القرآن، وبيان أنه موعظة لمن عقل وتدبّر.
3- إقامة الأدلّة على وحدانية الله، بخلق الإنسان، والنظر في طعامه وشرابه.
4- أهوال يوم القيامة.
5- انقسام النّاس في الآخرة إلى سعداء وأشقياء.(11/71)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «عبس» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «عبس» بعد سورة النجم، ونزلت سورة النجم فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة عبس في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) . وتبلغ آياتها اثنتين وأربعين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة، التسوية بين الناس في الدعوة، وكان عبد الله بن أمّ مكتوم أتى النبيّ (ص) وعنده صناديد قريش يدعوهم إلى الإسلام، فطلب منه أن يقرئه ويعلّمه ممّا علّمه الله، فعبس وأعرض عنه لقطعه كلامه، فنزلت هذه السورة عتابا له، وقد انتقل فيها من عتابه إلى سياق الترهيب والترغيب، فوافقت في هذا سياق سورة النازعات، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها.
التسوية بين الناس في الدعوة الآيات [1- 42]
قال الله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) فذكر سبحانه أن الرسول (ص) عبس للأعمى ولعلّه ينتفع بما يعظه به، وأنه تصدّى لمن استغنى فأبطره غناه وأطغاه وليس عليه
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/73)
شيء من أمره، وأعرض عمّن سعى إليه وهو يخشى ربه، ثمّ زجره عن العود إليه لأنه ليس عليه إلّا أن يبلّغ ويذكّر فمن شاء أن يتذكّر ذكره في صحف مكرّمة، ومن لم يشأ ذلك فلا قيمة له، وإن بلغ في الغنى ما بلغ. ثمّ عجب ممّن كفر من أولئك الصناديد واغترّ بغناه وهو لا يدري أنه خلقه من نطفة قذرة، فقدّره ويسّر له الخروج من الرّحم، ثمّ أماته فأقبره وصيّره إلى جيفة مذرة، ثمّ إذا شاء أنشره، وحاسبه على طغيانه وتكبّره فما أحقّه أن يرتدع عن ذلك، وهو لمّا يقض شيئا ممّا أمره ثم أمر الواحد منهم أن ينظر إلى طعامه الذي أبطره، فإنّه لم يحصل إلّا بعد أن صبّ الله المطر وشقّ الأرض، فأنبت فيها حبّا وعنبا وغيرهما، ممّا هو متاع لهم ولأنعامهم فإذا جاءت الصّاخّة (القيامة) ، يوم يفرّ المرء من أهله الذين كان يعتزّ بهم في دنياه، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ
(42) .(11/74)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «عبس» «1»
أقول: وجه وضعها عقب النازعات مع تآخيهما في المقطع، لقوله تعالى هناك: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ [النازعات/ 34] . وقوله سبحانه هنا: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) . وهما من أسماء يوم القيامة «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.
(2) . لم يذكر المؤلف سرّ الترتيب، ونقول: إنّ الطّامّة من الطّمّ، من طمّ البئر، إذا غمرها وسميت به القيامة لأنها تطمّ كل شيء. والصّاخّة من الصّخّ، وهو الصوت الشديد، وسميت به لأنه بشدة صوتها يجثو لها الناس.
وخصّت «النازعات» بالطّمّ لأنه قبل الصّخ، فكانت «عبس» لاحقة للنازعات بطبعها. انظر (أسرار التكرار في القرآن 201) .(11/75)
المبحث الرابع مكنونات سورة «عبس» «1»
1- الْأَعْمى (2) .
هو عبد الله بن أم مكتوم، كما أخرجه التّرمذي والحاكم عن عائشة رضي الله عنها «2» .
2- أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) .
هو أميّة بن خلف. أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة وعن مجاهد.
وأخرج من وجه آخر عن مجاهد:
أنه عتبة بن ربيعة «3» .
وأخرج من طريق العوفي، عن ابن عبّاس: أنّه عتبة، وأبو جهل، والعبّاس بن عبد المطلب «4» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . الترمذي (3328) وقال: حسن غريب، والحاكم 2/ 514 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، فقد أرسله جماعة من هشام بن عروة، قال الذهبي: وهو الصواب.
(3) . رواية مجاهد في «الطبري» 30/ 34 جاءت بزيادة: «وشيبة بن ربيعة» .
(4) . إسناده ضعيف. [.....](11/77)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «عبس» «1»
1- وقال تعالى: وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) .
والأبّ المرعى لأنه يؤبّ، أي: يؤمّ وينتجع.
قال الزمخشري: «2» وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الأبّ فقال: أيّ سماء تظلّني، وأي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به؟
وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية فقال: كل هذا قد عرفناه، فما الأبّ؟
ثم رفض عصا كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكلّف، وما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدري ما الأبّ، ثم قال: اتبعوا ما تبيّن لكم من هذا الكتاب، وما لا، فدعوه.
فإن قلت: فهذا يشبه النهي عن تتبّع معاني القرآن، والبحث عن مشكلاته.
قلت: لم يذهب إلى ذلك، ولكنّ القوم أكبر همتهم عاكفة على العمل، ولكن التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلّفا عندهم، فأراد أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه، واستدعاء شكره، وقد علم من فحوى الآية أنّ الأبّ بعض ما أنبته الله للإنسان متاعا له، أو لأنعامه فعليك بما هو أهم، من النهوض بالشكر لله على ما تبيّن لك، ولم يشكل، ممّا عدّد من نعمه، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأبّ، ومعرفة النبات الخاص الذي هو
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . الكشاف: 4/ 704- 705.(11/79)
اسم له، واكتف بالمعرفة الجمليّة إلى أن يتبيّن لك في غير هذا الوقت.
2- وقال تعالى: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) .
وصفت النفخة ب «الصّاخّة» مجازا لأن الناس يصخّون لها أي: يصيخون.
وهذا من باب أن المضاعف والأجوف من مادة واحدة، ولعل المضاعف أصل.(11/80)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «عبس» «1»
قال تعالى: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) وواحدهم «السّافر» مثل «الكافر» و «الكفرة» .
وقال سبحانه: كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) وواحدهم «البارّ» و «البررة» جماعة «الأبرار» .
وقال تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) معناه على وجهين: قال بعضهم: «على التعجّب» ، وقال بعضهم: «أيّ شيء أكفره» ؟
قال تعالى: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) تقول «الطريق هداه» أي: «هداه الطريق» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.(11/81)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «عبس» «1»
إن قيل: لم قال الله تعالى: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) ثم قال سبحانه وتعالى: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) ، ولم يقل «ذكرها» ؟
قلنا: الضمير المؤنث لآيات القرآن أو لهذه السورة، والضمير في قوله تعالى ذَكَرَهُ (12) راجع إلى القرآن. وقيل راجع إلى معنى التذكرة وهو الوعظ والتذكير لا إلى لفظها.
فإن قيل: في قوله تعالى: وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ هذه الآية وقال: كل هذا قد عرفناه فما الأبّ؟ ثم قال: هذا لعمر الله التكلّف، وما عليك يا عمر أن لا تدري ما الأبّ، ثم قال: اتّبعوا ما تبيّن لكم من هذا الكتاب، وما لا، فدعوه وهذا شبيه النهي عن تتبّع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته؟
قلنا: لم يرد بقوله ما ذكرت، ولكنّ الصحابة رضي الله عنهم كانت أكثر هممهم عاكفة على العمل وكان الاشتغال بعلم لا يعمل به تكلّفا عندهم فأراد أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه، واستدعاء شكره، وقد علم من فحوى الآية أن الأبّ بعض ما أنبته الله تعالى للإنسان متاعا له ولأنعامه، فكأنه قال:
عليك بما هو الأهم، فالأهم، وهو الشكر على ما تبيّن لك ولم يشكل، ممّا عدد من نعمه تعالى، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأبّ معرفة النبات الخاص، واكتف بمعرفته منه جملة إلى
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/83)
أن يتبين لك في وقت آخر. وعن أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه، أنه سئل عن الأبّ فقال: أيّ سماه تظلّني وأيّ أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله بما لا علم لي به. وأكثر المفسّرين قالوا:
الأبّ كل ما ترعاه البهائم.(11/84)
سورة التّكوير 81(11/85)
المبحث الأول أهداف سورة «التكوير» «1»
سورة التكوير سورة مكية. آياتها 29 آية نزلت بعد سورة المسد، وتشتمل على ثروة ضخمة من المشاهد، حينما تنتهي الحياة، ويختلّ نظامها، وينفرط عقد الكون، وتتناثر أجزاؤه، ويذهب عنه التماسك الموزون، والحركة المضبوطة، والصنعة المتينة.
والسورة تشتمل على مقطعين اثنين، تعالج في كل مقطع منهما تقرير حقيقة ضخمة من حقائق العقيدة.
الأولى: حقيقة القيامة، وما يصاحبها من انقلاب كونيّ هائل كامل، يشمل الشمس والنجوم، والجبال والبحار، والأرض والسماء، والأنعام والوحوش، كما يشمل بني الإنسان.
والثانية: حقيقة الوحي، وما يتعلّق به من صفة الملك الذي يحمله، وصفة النبي (ص) الذي يتلقّاه، ثمّ شأن المخاطبين بهذا الوحي معه، ومع المشيئة الكبرى التي فطرتهم، وأنزلت لهم الوحي.
مع آيات السورة
بدأ سبحانه هذه السورة الكريمة بذكر يوم القيامة، وما يكون فيه من أحداث هائلة وحينما تقع هذه الأحداث تعلم كل نفس ما قدّمت من عمل، خيرا كان أو شرا.
[الآية 1] : إذا كورت الشمس وسقطت وتدهورت، وانطفأت شعلتها، وانكمشت ألسنتها الملتهبة، وذهب ضوؤها، واختلّ نظام الكون.
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(11/87)
[الآية 2] : وإذا تناثرت النجوم، وأظلم نورها، وذهب لألاؤها.
[الآية 3] : وإذا انفصلت الجبال عن الأرض، وسارت في الجوّ كما يسير السحاب، وتبع ذلك نسفها وبسّها وتذريتها في الهواء، كما جاء في سور أخرى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) [طه] .
[الآية 4] : وإذا تركت العشار وأهملت، و (العشار) : هي النوق الحبالى في شهرها العاشر، وهي أجود ما يملكه العربي وأثمنه فإذا انشغل الناس عنها بأهوال القيامة عطّلت وأهملت.
[الآية 5] : وإذا اجتمعت الوحوش الكاسرة، ذليلة هادئة قد نسيت غريزتها، مضت هائمة على وجوهها لا تأوي إلى جحورها، ولا تنطلق وراء فرائسها، وقد حشرها هول الموقف ذاهلة متغيّرة الطباع، فكيف بالناس في ذلك اليوم العصيب؟
[الآية 6] : وإذا التهبت البحار وامتلأت نارا، أو فجّرت الزلازل ما بينها حتى اختلطت وعادت بحرا واحدا. [الآية 7] : وإذا اقترنت الأرواح بأبدانها، أو إذا قرن كلّ شبيه بشبيهه، وضمّت كلّ جماعة من الأرواح المتجانسة في مجموعة.
[الآيتان 8 و 9] : وإذا سئلت الموؤدة بين يدي قاتلها عن الذنب الذي قتلت به، ليكون جوابها أشدّ وقعا على الوائد، فإنها ستجيب أنها قتلت بلا ذنب جنته.
وكان الوأد عند العرب الجاهليين يجري بصورة قاسية، إذ كانت تدفن البنت حية، أو تجلس المرأة عند المخاض فوق بئر محفورة فإذا كان المولود بنتا، رمت بها فيها وردمتها وإن كان ذكرا، قامت به معها وبعضهم كان إذا عزم على استبقاء ابنته، فإنه يمسكها إلى أن تقدر على الرعي، ثمّ يلبسها جبة من صوف أو شعر، ويرسلها الى البادية ترعى له إبله فلمّا جاء الإسلام سما بالمرأة وكرّمها، وليدة، وناشئة، وزوجة، وأمّا. حرّم وأد البنات، وشفع ذلك بالتشنيع على من يفعله، قال تعالى:
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) [النحل] [الآية 10] :.(11/88)
وإذا نشرت صحف الأعمال، وكشفت وعرفت، فلم تعد مستورة بل صارت منشورة مشهورة.
[الآية 11] : وإذا السماء كشطت وأزيلت، فلم يبق غطاء ولا سماء.
[الآيتان 12 و 13] : وإذا أوقدت النار، واشتد لهيبها، ووهجها وحرارتها وإذا أدنيت الجنّة من المتقين، تكريما وإيناسا لهم.
[الآية 14] : عند ما تقع هذه الأحداث الهائلة في كيان الكون، وفي أحوال الأحياء والأشياء، تعلم كل نفس ما قدّمت من خير أو شر، وما تزوّدت به لهذا اليوم وما حملت معها للعرض، وما أحضرت للحساب.
وهي لا تستطيع أن تغيّر فيه ولا أن تبدّل، فالدنيا عمل ولا حساب، والآخرة حساب ولا عمل.
وهنا ينتهي المقطع الأول من السورة، وقد امتلأ الحس، وفاض، بمشاهد اليوم الذي يحصل فيه هذا الانقلاب.
المقطع الثاني بعد أن ذكرت السورة من أحوال القيامة وأهوالها ما ذكرت، أتبعت ذلك ببيان أن ما يحدّثهم به الرسول (ص) ، هو القرآن الذي أنزل عليه وهو آيات بيّنات من الهدى وأنّ ما رميتموه به من المعايب كقولكم: إنه ساحر أو مجنون، أو كذّاب، أو شاعر، ما هو إلّا محض افتراء.
[الآيتان 15 و 16] : يقسم الله تعالى قسما مؤكدا بالكواكب، بِالْخُنَّسِ (15) : التي تخنس أي ترجع في دورتها الفلكية، الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) :
التي تجري وتعود الى أماكنها.
[الآية 17] : والليل إذا أدبر وولّى، وزالت ظلمته، أو إذا أقبل ظلامه.
[الآية 18] : والصبح إذا أسفر، وظهر نوره، وفي ذلك بشرى للأنفس، بحياة جديدة في نهار جديد ومن الجمال في هذا التعبير إضفاء الحياة على النهار والوليد فإذا الصبح حيّ ينتفس.
«وأكاد اجزم أن اللغة العربية لا تحتوي نظيرا لهذا التعبير عن الصبح:
رؤية الفجر تكاد تشعر القلب المتفتّح(11/89)
أنه بالفعل يتنفّس، ثم يجيء هذا التعبير، فيصوّر هذه الحقيقة التي يشعر بها» «1» .
[الآيات 19- 22] : وجواب القسم: أنّ هذا القرآن، وهذا الوصف لليوم الآخر إنما هو قول رسول كريم، وهو جبريل (ع) الذي حمل هذا القول وأبلغه، فصار قوله باعتبار تبليغه.
ويذكر صفة هذا الرسول الذي اختير لحمل هذا القول وإبلاغه، فينعته بخمسة أوصاف هي:
1- كَرِيمٍ (19) أي عزيز على ربّه.
2- ذِي قُوَّةٍ [الآية 20] في الحفظ والبعد عن النسيان والخطأ.
3- عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) أي ذي جاه ومنزلة عند ربّه.
4- مُطاعٍ ثَمَّ [الآية 21] أي هناك في الملأ الأعلى، عند الله في ملائكته المقرّبين فهم يصدرون عن أمره ويرجعون اليه.
5- أَمِينٍ (21) على وحي ربّه ورسالاته، قد عصمه تعالى من الخيانة فيما يأمره به، وجنّبه الزلل فيما يقوم به من الأعمال. هذه صفة الرسول المبلّغ وهو جبريل عليه السلام، أمّا الرسول الذي حمله إليكم وخاطبكم بالقرآن، فهو صاحبكم الذي عرفتموه حق المعرفة عمرا طويلا، وعرفتم عنه الصدق والأمانة، وليس مجنونا كما تدّعون.
[الآية 23] : ولقد رأى سيدنا محمد، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه، جبريل عليه السلام، وهو بالأفق الأعلى، عند سدرة المنتهى بالأفق المبين، أي رآه رؤية واضحة عند الأفق الواضح.
[الآية 24] : وليس محمد (ص) بالمتّهم على القرآن، وما فيه من قصص وأنباء وأحكام بل هو ثقة أمين لا يأتي به من عند نفسه، ولا يبدّل منه حرفا بحرف، ولا معنى بمعنى، إذ لم يعرف عنه الكذب في ماضي حياته، فهو غير متّهم في ما يحكيه عن رؤية جبريل (ع) ، وسماع الشرائع منه.
[الآية 25] : وليس القرآن قول شيطان، ألقاه على لسان محمد (ص) حين خالط عقله كما تزعمون، فالشياطين لا توحي بهذا النهج القويم.
__________
(1) . سيد قطب، في ظلال القرآن 30/ 482
.(11/90)
[الآية 26] : ثم يسألهم مستنكرا:
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) ؟ أي: فأيّ سبيل تسلكونها، وقد سدّت عليكم السبل، وأحاط بكم الحق من جميع جوانبكم، وبطلت مفترياتكم فلم يبق لكم سبيل تستطيعون الهرب منها.
[الآية 27] : ثم بيّن حقيقة القرآن، فقال: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) ، أي ليس القرآن إلّا عظة للخلق كافّة، يتذكّرون بها ما غرز في طباعهم من حبّ الخير، وهو ذكر يستحضرهم حقيقة نشأتهم، وحقيقة وجودهم، وحقيقة الكون من حولهم، وهو أعظم عظة للعالمين جميعا.
[الآيتان 28 و 29] : وإنّ على مشيئة المكلّف تتوقّف الهداية، فمن أراد الحق واتّجه بقلبه إلى الطريق القويم، هداه الله إليه ويسّر له أمره، وأمدّه بالعون والتوفيق. وبذلك يستقرّ في قلب كل إنسان، أنّ مشيئته طرف وخيط، راجع في أصله إلى مشيئة الله الكبرى، وإرادته المطلقة، فليلجأ كل إنسان إلى ساحة مولاه، وإلى عناية خالقه، فعنده سبحانه العون والتوفيق، والهدى والسداد: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) .
موضوعات السورة 1- وصف أهوال القيامة.
2- القسم بالنجوم وبالليل وبالصبح، على أنّ القرآن منزل من عند الله، بواسطة ملائكته.
3- إثبات نبوّة محمد (ص) .
4- بيان أن القرآن عظة وذكر، لمن أراد الهداية.
5- مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله، وليس لها استقلال بالعمل.(11/91)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التكوير» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة التّكوير بعد سورة المسد، ونزلت سورة المسد بعد سورة الفاتحة، ونزلت سورة الفاتحة فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة التكوير في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وتبلغ آياتها تسعا وعشرين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة: إثبات الحساب على الأعمال، وما يتبع هذا من ثواب وعقاب وبهذا يكون سياقها أيضا في الترهيب والترغيب، ويكون ذكرها بعد السورة السابقة، لموافقتها لها في هذا السياق.
إثبات الحساب على الأعمال الآيات [1- 29]
ذكر تعالى أنه إذا حصل تكوير الشمس، وما ذكره بعد التكوير مما يكون يوم القيامة، تعلم كل نفس ما أحضرت من خير أو شرّ، فتحاسب عليه وهو حاضر أمامها ثم أقسم سبحانه بالنجوم الخنّس وما ذكر معها، على أن أمر هذا الحساب قول رسول كريم هو «جبريل» (ع) وذكر أن صاحبهم محمدا (ص) ليس بمجنون،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/93)
وأنه رأى «جبريل» بالأفق المبين، وأنه غير متّهم في ما أخبرهم به من ذلك الحساب، وأن ما أخبرهم به منه ليس بقول شيطان رجيم، فأين يذهبون مع هذا كلّه عنه ثم ذكر سبحانه أنّ هذا ليس إلّا تذكرة وهداية لمن شاء منهم أن يستقيم: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) .(11/94)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التكوير»
«1» أقول: لمّا ذكر في عبس: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) ، ذكر يوم القيامة كأنه رأي العين. وفي الحديث: «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين فليقرأ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) [الانفطار] . وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) [الانشقاق] «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.
(2) . أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/ 72، والتّرمذيّ في التفسير 9/ 252، 253 بتحفة الأحوذي.(11/95)
المبحث الرابع مكنونات سورة «التكوير» «1»
1- بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) .
أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب (ع) قال:
هي خمسة أنجم: زحل، وعطارد، والمشتري، وبهرام «2» ، والزهرة ليس في الكواكب شيء يقطع المجرة غيرها.
وأخرج عن ابن مسعود قال: هي بقر الوحش. وعن سعيد بن جبير قال: هي الظّباء «3» .
2- إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) .
قال الضّحّاك، والرّبيع، والسّدّي، وغيرهم: جبريل (ع) أخرجه ابن أبي حاتم «4» .
وقال آخرون: هو محمد (ص) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . «تاج العروس» 8/ 208، وهو اسم للمرّيخ.
(3) . قال ابن جرير الطبري في «تفسيره» 30/ 49: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنّ الله. تعالى ذكره، أقسم بأشياء تخنس أحيانا- أي تغيب- وتجري أحيانا وتكنس أخرى، وكنوسها أن تأوي في مكانسها، والمكانس عند العرب: هي المواضع التي تأوي إليها بقر الوحش والظباء، واحدها مكنس وكناس» . ثم قال أيضا: «وغير منكر أن يستعار ذلك في المواضع التي تكون بها النجوم من السماء فإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن في الآية دلالة على أنّ المراد بذلك النجوم دون البقر، ولا البقر دون الظباء، فالصواب أن يعمّ بذلك كل ما كانت صفته الخنوس أحيانا، والجري أخرى، والكنوس بآنات على ما وصف، جلّ ثناؤه، من صفتها.
(4) . أخرجه الطبري في «تفسيره» 30/ 51 عن قتادة.(11/97)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «التكوير» «1»
1- وقال تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) .
وقرئ بالتخفيف: سجرت، وهو من سجر التنور إذا ملأته حطبا، والمعنى:
وإذا البحار ملئت، وفجّر بعضها إلى بعض، حتى تعود بحرا واحدا.
2- وقال تعالى: وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) .
وقرأ ابن مسعود: قشطت، واعتقاب الكاف والقاف كثير.
والمعنى كشفت وأزيلت.
أقول: والفعل مما نعرف الآن في العامية الدارجة، وليس في الفصيحة المعاصرة.
- وقال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) .
وعسعس الليل، وسعسع، إذا أدبر.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....](11/99)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «التكوير» «1»
قال تعالى: وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) ، واحدتها «العشراء» مثل «النفساء» و «النفاس» للجميع. قال الشاعر «2» :
[من الرجز، وهو الشاهد الثامن والسبعون بعد المائتين] :
ربّ شريب لك ذي حساس ... ريّان يمشي مشية النّفاس
ويقال: «النّفاس» . وقال تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) «وأده» «يئده» «وأدا» مثل «وعده» «يعده» «وعدا» العين نحو الهمزة.
وقال تعالى: سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وقرأ بعضهم (سألت) «3» هي.
وقال تعالى: وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) لأنّ حرّها شدّد عليهم. وقرأ
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . لم تفد المراجع شيئا عن القائل، أمّا الرجز فجاء المصراع الأول في المخصّص 11/ 98 وحده، وجاء مع مصراع آخر شاهد فيه هو:
شرابه كالحز في المواسي.
في الصحاح واللسان «حسن» واللسان والتاج «شرب» .
(3) . في الطبري 30/ 71 نسبت الى ابن الضحى (مسلم بن صبيح) وفي الشواذ 169 إلى الأمام علي بن ابي طالب وابن مسعود وابن عبّاس (رضي الله عنهم) وغيرهما عشرة من أصحاب رسول الله (ص) وفي الجامع 19/ 233 الى الضّحّاك، وابن الضّحّاك، عن جابر بن زيد، وأبي صالح وفي البحر 8/ 433 إلى الإمام علي بن ابي طالب، وابن مسعود، وابن عبّاس، وجابر بن زيد، وأبي الضحى، ومجالد، وأبي الربيع بن خيثم، وابن يعمر.(11/101)
بعضهم «1» سُعِّرَتْ (12) خفيفة (سعرت) «2» .
وقال تعالى: الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) فواحدها «كانس» والجمع «كنّس» كما تقول: «عاطل» و «عطّل» .
وقال تعالى: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) «3» : «أي: ببخيل» وقرأ بعضهم (بظنين) «4» أي: بمتّهم لأن بعض العرب يقول «ظننت زيدا» ف «هو ظنين» أي: اتّهمته ف «هو متّهم» .
وقرأ بعضهم سُجِّرَتْ «5» وخفّفها بعضهم «6» ، واحتج ب وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) [الطور] والوجه التثقيل لأن ذلك إذا كسر جاء على هذا المثال يقال «قطّعوا» و «قتّلوا» ولا يقال للواحد «قطّع» يعني يده ولا «قتّل» .
__________
(1) . نسبت هذه القراءة في معاني القرآن 3/ 241 إلى غير الأعمش وأصحابه، وفي الطبري 30/ 73 إلى عامّة قرّاء المدينة، وفي السبعة 673 إلى نافع، وابن عمر، وحفص، عن عاصم وكذلك في البحر 8/ 434، وفي الكشف 2/ 363، والتيسير 220، إلى نافع وحفص وابن ذكوان، وفي الجوامع 19/ 225 أبدل بحفص رويسا.
(2) . نسبت في معاني القرآن 3/ 241 إلى الأعمش وأصحابه وفي الطبري 30/ 73 إلى عامّة قرّاء الكوفة وفي السبعة 673 الى ابن كثير، وأبي عمرو وحمزة، والكسائي، وأبي بكر، عن عاصم وفي الكشف 2/ 363، والتيسير 220، إلى غير نافع، وحفص، وابن ذكوان وفي البحر 8/ 434 إلى الإمام علي، والسبعة ما عدا نافعا وابن عامر وحفصا.
(3) . نسبت في معاني القرآن 3/ 242 الى عاصم، وأهل الحجاز، وزيد بن ثابت وفي الطبري 30/ 81 إلى عامّة قرّاء المدينة والكوفة وفي السبعة 673 الى ابن مجاهد، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة وفي الكشف 2/ 364 إلى غير ابن كثير، وأبي عمرو، والكسائي وكذلك في التيسير 220 وفي البحر 8/ 435 إلى عثمان، وابن عبّاس، والحسن، وأبي رجاء، والأعرج، وأبي جعفر، وشيبة.
(4) . نسبت في معاني القرآن 3/ 242 إلى زرين بن حبيش، وفي الطبري 30/ 81 إلى بعض المكّيين، وبعض البصريين وفي السبعة 673، والكشف 2/ 364، والتيسير 220، والجامع 19/ 242 الى ابن كثير وأبي عمرو والكسائي وفي البحر 8/ 435 الى عبد الله، وابن عبّاس، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وابن الزبير، وعائشة، وعمر بن عبد العزيز، وابن جبير، وعروة، وهشام بن جندب، ومجاهد وغيرهم من السبعة.
(5) . نسبها الطبري 30/ 69 إلى عامّة قرّاء المدينة والكوفة، ونسبت في السبعة 673 إلى ابن عامر، ونافع، وحفص عن عاصم، وأبي بكر عن عاصم، وحمزة، والكسائي وفي الكشف 2/ 363، والتيسير 220 إلى غير ابن كثير، وأبي عمرو وفي البحر 8/ 432 إلى السبعة، عدا ابن كثير، وأبي عمرو.
(6) . في الطبري 30/ 69 إلى بعض قرّاء البصرة، وفي السبعة، والكشف 2/ 363، والتيسير 220، والبحر 8/ 432 الى ابن كثير، وأبي عمرو.(11/102)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «التكوير» «1»
إن قيل: لم قال الله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) والسؤال إنما يحسن للقاتل لا للمقتول؟
قلنا: إنّما سؤالها لتبكيت قاتلها، وتوبيخه بما تقوله من الجواب، فإنّها تقول: قتلت بغير ذنب ونظيره في التبكيت والتوبيخ قوله تعالى لعيسى عليه السلام: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي
[المائدة/ 116] حتى قال، كما ورد في التنزيل: سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة 116] .
فإن قيل: لم قال الله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) فأثبت العلم لنفس واحدة، مع أن كل نفس تعلم ما أحضرت يوم القيامة، بدليل قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آل عمران 30] ؟
قلنا: هذا ممّا أريد به عكس مدلوله، ومثله كثير في كلام الله تعالى وكلام العرب، كقوله تعالى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) فإنّ ربّ هنا بمعنى كم للتكثير، وقوله تعالى حكاية عن موسى (ع) لقومه:
وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف/ 5] وقول الشاعر:
قد أترك القرن مصفرّا أنامله كأنّ أثوابه مجّت بفرصاد «2»
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.
(2) . الفرصاد: ثمر التوت الأحمر.(11/103)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «التكوير» «1»
قوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) استعارة. والمراد، والله أعلم، أنها سئلت، لا لاستخراج الجواب منها، ولكن لاستخراج الجواب من قاتلها. ويكون ذلك على جهة التوبيخ للقاتل إذ قتل من لا يعرب عن نفسه، ولم يأت ذنبا يؤخذ بجريرته. وقيل معنى سئلت أي طلب بدمها، كما يقول القائل: سألت فلانا حقّي عليه، أي طالبته به.
وإنّما سميت موؤودة للثّقل الذي يلقّى عليها من التراب، وتقول: آدني هذا الأمر أي أثقلني. ومنه قوله تعالى:
وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة/ 155] أي لا يثقله ذلك، كما يثقل أحدنا في الشاهد حفظ المتشعّبات وضبط المنتشرات.
وفي قوله سبحانه: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) استعارتان، فهما جميعا في صفة النجوم. فأمّا الخنّس فالمراد بها التي تخنس نهارا، وتطلع ليلا. والخنّس جمع خانس، وهو الذي يقبع ويستسرّ، ويخفى ويستتر. وأمّا الكنّس فجمع كانس، وهو أيضا المتواري المستخفي، مشبّها بانضمام الوحشية إلى كناسها، وهو الموضع الذي تأوي إليه من ظلال شجر، وألفاف ثمر، وجمعه كنّس.
فشبه سبحانه انقباع النجوم في بروجها، بتواري الوحوش في كنسها.
وقوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18)
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(11/105)
وهذه من الاستعارات العجيبة. والتنفّس هاهنا عبارة عن خروج ضوء الصبح من عموم غسق الليل. فكأنّه متنفّس من كرب، أو متروّح من همّ. ومن ذلك قولهم: قد نفّس عن فلان الخناق. أي انجلى كربه، وانفسح قلبه. وقد يجوز أن يكون معنى إِذا تَنَفَّسَ أي إذا انشقّ وانصدع. من قولهم تنفّس الإناء إذا انشقّ، وتنفّست القوس إذا انصدعت. وهذا التأويل يخرج اللفظ من باب الاستعارة. وقد استقصينا الكلام على هذا المعنى، في كتابنا الكبير عند موضع اقتضى ذكره.(11/106)
سورة الانفطار 82(11/107)
المبحث الأول أهداف سورة «الانفطار» «1»
سورة «الانفطار» سورة مكية، وآياتها 19، نزلت بعد «النازعات» . وقد بدأت سورة «الانفطار» ، مثل سورة «التكوير» ، بالحديث عن أهوال القيامة، لكنّها تحدثت عنها بأسلوب مختصر، وإيقاع هادئ عميق، ويمكن تقسيم السورة الى ثلاث فقرات:
الفقرة الأولى من بداية السورة إلى الآية الخامسة: وتتحدّث عن انفطار السماء، وانتثار الكواكب، وتفجير البحار، وبعثرة القبور كحالات مصاحبة لعلم كل نفس بما قدّمت وأخّرت، في ذلك اليوم الخطير.
والفقرة الثانية من الآية 6 إلى الآية 8: وتبدأ بلمسة العتاب المبطّنة بالوعيد، لهذا الإنسان الذي يتلقّى من ربّه فيوض النعمة في ذاته وخلقته، ولكنّه لا يعرف للنعمة حقّها، لا يعرف لربّه قدره، ولا يشكره على الفضل والنعمة والكرامة.
والفقرة الثالثة من الآية 9 إلى الآية 19: تقرّر علة هذا الجحود والنكران، فهي التكذيب بالدين، أي بالحساب، وعن هذا التكذيب ينشأ كل سوء وكل جحود ومن ثمّ تؤكد هذا الحساب توكيدا، وتؤكّد عاقبته وجزاءه المحتوم، وتصوّر ضخامة يوم الحساب وهوله، وتجرّد النفوس من كل حول فيه، وتفرّد الله سبحانه بأمره الجليل.
مع آيات السورة
تبدأ السورة بتصوير نهاية العالم
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(11/109)
واختلال نظامه، وانفراط عقده، ويتمثّل ذلك في أمرين علويين وأمرين سفليين. أمّا الأمران العلويان، فهما انفطار السماء وانتثار الكواكب وأمّا الأمران السفليان، فهما تفجير البحار وبعثرة القبور.
[الآية 1] : إذا انشقت السماء وتغيّر نظامها، فلم يبق نظام الكواكب على ما نرى، وهذا عند خراب العالم بأسره، قال تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) [الفرقان] .
[الآية 2] : وفي هذا اليوم تتساقط الكواكب وتتفرّق وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) ، أي تساقطت متفرّقة، والكواكب تجري الآن في أفلاكها بسرعات هائلة، وهي ممسكة في داخل مداراتها لا تتعدّاها، فإذا انشقّت السماء تبع ذلك سقوط الكواكب وانتثارها، وذهابها في الفضاء بددا، كما تذهب الذرّة التي تنفلت من عقالها.
[الآية 3] : وفي هذا اليوم تزول الحواجز بين البحار، فيختلط العذاب بالملح، وتغمر البحار اليابسة، وتطغى على الأنهار، كما يحتمل أن يكون تفجيرها تحويل مائها إلى عنصريه:
الأوكسجين والهيدروجين.
[الآية 4] : وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) أي أثيرت وقلب أعلاها أسفلها، وباطنها ظاهرها، ليخرج من فيها من الموتى أحياء للحساب والجزاء.
[الآية 5] : عند حدوث كل هذه الظواهر، تعلم كل نفس ما قدّمت من الطاعات، وما أخّرت من الميراث.
[الآيات 6- 8] : يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) أي شيء خدعك حتّى ضيّعت ما أوجب عليك ربّك، وصرت تقصّر في حقّه، وتتهاون في أمره، ويسوء أدبك في جانبه، وهو ربّك الكريم الذي أغدق عليك من كرمه وفضله وبرّه، فخلقك سويّا، معتدل القامة، متناسب الخلق، من غير تفاوت فيه، «فلم يجعل إحدى اليدين أطول، ولا إحدى العينين أوسع، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود» » .
فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) أي
__________
(1) . تفسير النسفي 4/ 253 [.....]
.(11/110)
ركّبك في صورة هي من أعجب الصور وأتقنها وأحكمها، وقد كان قادرا أن يركّبك في أيّ صورة أخرى يشاؤها، فاختار لك هذه الصورة السويّة المعتدلة الجميلة.
وإنّ الإنسان لمخلوق جميل التكوين، سويّ الخلقة، معتدل التصميم وإنّ عجائب الإبداع في خلقه، لأضخم من إدراكه هو، وأعجب من كل ما يراه حوله وأنّ الجمال والاعتدال ليظهر في تكوينه الجسدي، وفي تكوينه العقلي، وفي تكوينه الروحي سواء، وهي تتناسق في كيانه بجمال واستواء.
وهناك مؤلّفات كاملة في وصف كمال التكوين الإنساني العضوي، ودقّته وإحكامه وتؤكّد جلال القدرة المبدعة، التي أبدعت خلق الإنسان في أحسن تقويم، ويسّرت خلقه من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة، ثمّ سوّته خلقا كاملا فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون/ 14] .
«وهذه الأجهزة العامّة لتكوين الإنسان الجسدي.. الجهاز العظمى، والجهاز العضلي، والجهاز الجلدي، والجهاز الهضمي، والجهاز الدموي، والجهاز التنفّسي، والجهاز التناسلي، والجهاز اللمفاوي، والجهاز العصبي، والجهاز البولي، وأجهزة الذوق والشمّ والسمع والبصر كلّ منها عجيبة، لا تقاس إليها كل العجائب الصناعية، التي يقف الإنسان مدهوشا أمامها، وينسى عجائب ذاته، وهي أضخم وأعمق وأدق بما لا يقاس» «1» .
وتقول مجلة العلوم الإنجليزية: «إنّ يد الإنسان في مقدمة العجائب الطبيعيّة الفذة، وإنه من الصعب جدّا، بل من المستحيل أن تبتكر آلة تضارع اليد البشرية، من حيث البساطة والقدرة وسرعة التكيّف، فحينما تريد قراءة كتاب تتناوله بيدك، ثم تثبته في الوضع الملائم للقراءة، وهذه اليد هي التي تصحح وضعه تلقائيا، وحينما تقلّب إحدى صفحاته تضع أصابعك تحت الورقة، وتضغط عليها بالدرجة التي تقلّبها بها، ثمّ يزول الضغط بقلب الورقة واليد تمسك القلم وتكتب به، وتستعمل كافّة الآلات التي تلزم الإنسان من ملعقة إلى السّكّين، إلى آلة
__________
(1) . في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب 30/ 491.(11/111)
الكتابة، وتفتح النوافذ وتغلقها، وتحمل كلّ ما يريده الإنسان واليدان تشتملان على سبع وعشرين عظمة، وتسع عشرة مجموعة من العضلات لكل منهما» «1» .
«وإنّ جزءا من أذن الإنسان (الأذن الوسطى) هو سلسلة من نحو أربعة آلاف حنيّة (قوس) دقيقة معقّدة، متدرّجة بنظام بالغ، في الحجم والشكل. ويمكن القول بأن هذه الحنيّات تشبه آلة موسيقية، ويبدو أنها معدّة بحيث تلتقط وتنقل إلى المخ بشكل ما، كل وقع صوت أو ضجّة، من قصف الرعد إلى حفيف الشجر، فضلا عن المزيج الرائع من أنغام كلّ اداة موسيقية في الأوركسترا ووحدتها المنسجمة» «2» .
«ومركز حاسّة الإبصار في العين، التي تحتوي على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء، وهي أطراف الأعصاب، ويقوم بحمايتها الجفن ذو الأهداب الذي يقيها ليلا ونهارا، والذي تعتبر حركته لا إراديّة ليمنع عنها الأتربة والذّرات والأجسام الغريبة، كما يكسر من حدّة الشمس بما تلقي الأهداب على العين من ظلال، وحركة الجفن علاوة على هذه الوقاية، تمنع جفاف العين. أمّا السائل المحيط بالعين، والذي يعرف باسم الدموع، فهو أقوى مطهّر..» «3» .
«وجهاز الذوق في الإنسان هو اللسان، ويرجع عمله الى مجموعات من الخلايا الذوقيّة القائمة في حلمات غشائه المخاطي ... » .
«ويتكوّن الجهاز العصبي الذي يسيطر على الجسم سيطرة تامة من شعيرات دقيقة، تمرّ في كافة أنحاء الجسم، وتتّصل بشعيرات أكبر منها، وهذه بالجهاز المركزي العصبي، فإذا ما تأثّر أيّ جزء في الجسم، نقلت الشعيرات العصبية هذا الإحساس إلى المخ، حيث يمكنه أن يتصرّف..
«ونحن إذا نظرنا إلى الهضم على أنه عمليّة في معمل كيماوي، وإلى الطعام الذي نأكله على أنه موادّ غفل، فإنّنا
__________
(1) . تفسير في ظلال القرآن نقلا عن كتاب: «الله والعلم الحديث» للأستاذ عبد الرزاق نوفل.
(2) . تفسير في ظلال القرآن نقلا عن كتاب: «العلم يدعو إلى الإيمان» .
(3) . تفسير في ظلال القرآن نقلا عن كتاب: «الله والعلم الحديث» .(11/112)
ندرك توّا أنّه عملية عجيبة، إذ نهضم تقريبا كل شيء يؤكل ما عدا المعدة نفسها» «1» .
وكلّ جهاز من أجهزة الإنسان الأخرى يقال فيه الشيء الكثير، فالإدراك العقلي، واختزان المعلومات، والإدراك الروحي لجلال الله، كلّها تدلّ على سعة عطاء الله وحكمته، وكرمه وفضله على الإنسان.
[الآيات 9- 12] : كلّا: ارتدعوا عن الاغترار بكرم ربّكم لكم. بل تكذّبون بالحساب والمؤاخذة والجزاء، وهذه هي علّة الغرور وعلّة التقصير، وإنّه لموكل بكم ملائكة يحفظونكم، ويسجّلون أقوالكم وأعمالكم، ويحصونها عليكم، وهؤلاء الملائكة كرام فلا تؤذوهم بما ينفّرهم من المعاصي وإنّ الإنسان ليحتشم ويستحي وهو بمحضر الكرام، من أن يسفّ أو يتبذّل، في لفظ، أو كلمة، أو حركة، أو تصرّف فكيف به حينما يشعر أنه في كلّ لحظاته، في حضرة حفظة من الملائكة كرام لا يليق أن يطلعوا منه إلا على كل كريم من الخصال أو الفعال؟. وهؤلاء الملائكة يكتبون كلّ شيء، ولا تخفى عليهم خافية من أعمالكم، فإنهم يعلمون ما تفعلون سرّا أو علنا والملائكة قوى من قوى الخير منهم الحفظة والكتبة، ومنهم من ينزل بالوحي على الرسل وقد أمدهم الله سبحانه بقوّة خاصة، يستطيعون بها إنجاز ما يوكل إليهم من مهام. وليس علينا أن نبحث عن كنه هؤلاء الحفظة، ولا عن كيفيّة كتابتهم لأعمالنا، ويكفي أن يشعر القلب البشريّ أنّه غير متروك سدى، وأنّ عليه حفظة كِراماً كاتِبِينَ (11) يعلمون ما يفعله، ليرتعش ويستيقظ ويتأدّب.
وهذا هو المقصود.
[الآية 13] : إنّ الأبرار صدقوا في إيمانهم بأداء ما فرض عليهم، واجتناب ما نهوا عنه، سيكونون ممتّعين في نعيم الجنة.
وليس البرّ مقصورا على الصلاة والصيام، ولكن البرّ عقيدة صادقة، وسلوك مستقيم، ويتمثل ذلك في القيام بالواجب، ومعاونة المحتاج، والاهتمام بأمر المسلمين، والحرص على نفع
__________
(1) . في ظلال القرآن: نقلا عن كتاب: «الله والعلم الحديث» مع التلخيص والتصرّف.(11/113)
العباد، وكفّ الأذى، وصلة الرحم، وزيادة المريض، ومواساة البائس، وتعزية المحزون، والتخلّق بآداب الدّين.
قال تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) [آل عمران] .
[الآيات 14- 16] : إنّ الفجرة العصاة لفي نيران متأجّجة، يدخلونها يوم القيامة، بعد أن يحاسبوا على كل صغيرة وكبيرة، وما هم عن جهنّم بغائبين أبدا لخلودهم فيها.
[الآيات 17- 19] : ولمّا كان يوم الدين هو موضوع التكذيب، فإنّ السياق يعود لتعظيمه وتضخيمه يقول تعالى: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) فهو فوق كلّ تصوّر، وفوق كلّ توقّع، وفوق كلّ مألوف وتكرار السؤال يزيد في وصف الهول ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) أي ثمّ عجيب منك أن تتهاون بنبإ هذا اليوم، وهوله الشديد.
هو يوم لا تستطيع نفس أن تنفع نفسا أخرى، فكلّ نفس بهمّها وحملها عن كل من تعرف من النفوس، والأمر كله في ذلك اليوم لله وحده، فهو القاضي والمتصرّف فيه دون غيره.
مقاصد السورة
1- وصف أهوال يوم القيامة.
2- تقصير الإنسان في مقابلة الإحسان بالشّكران.
3- بيان أعمال الإنسان، موكل بها كرام كاتبون.
4- بيان أن الناس في هذا اليوم: إمّا بررة منعّمون، وإمّا فجرة معذّبون.(11/114)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الانفطار»
«1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الانفطار بعد سورة النازعات، ونزلت سورة النازعات بعد الإسراء، وقبيل الهجرة فيكون نزول سورة الانفطار في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أولها: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وتبلغ آياتها تسع عشرة آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إثبات الحساب على الأعمال، وما يتبع هذا من ثواب وعقاب فيكون الغرض المقصود منها هو الغرض المقصود من سورة التكوير، وهذا هو وجه المناسبة بين السورتين.
إثبات الحساب على الأعمال الآيات [1- 19]
ذكر تعالى أنّه، إذا حصل انفطار السماء وما ذكر بعده، تعلم كل نفس ما قدمت وأخرت من أعمالها، فتثاب أو تعاقب عليه ثم نادى الإنسان ما غرّه بكرمه، وجرّأه على معصيته، وهو الذي خلقه، فسوّاه فعدله، فركّبه في أحسن صورة، ثمّ زجره عن غروره وذكر سبحانه أنّ هذا الإنسان يكذّب بالحساب، مع أن عليه حافظين يكتبون ما يعمله وأنه جلّ شأنه سيجازي الأبرار بالنعيم، والفجّار بالجحيم ثم
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/115)
سأل سبحانه الإنسان عن يوم الحساب، سؤال تهويل ما أدراه ما هو؟
وأجاب عنه فقال جلّ وعلا: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) .(11/116)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الانفطار»
«1» أقول: قد عرف مما ذكرت وجه وضعها هنا، مع زيادة تآخيهما في المقطع «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.
(2) . مقطع التكوير: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) . ومقطع الانفطار: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) وهما بمعنى.(11/117)
المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «الانفطار»
«1» قال تعالى فَعَدَلَكَ [الآية 7] أي:
كذا خلقك، ومنهم من يثقّلها، فمن ثقّل «2» فقال: (عدّلك) ، فإنما على معنى «عدّل خلقك» و (عدلك) أي:
عدل بعضك ببعضك فجعلك مستويا معتدلا، وهو في معنى «عدّلك» .
وقال تعالى: خَلَقَكَ [الآية 7] ورَكَّبَكَ [الآية 8] كَلَّا [الآية 9] وإن شئت قرأت: (خلقك) و (ركّبك) (كلّا) فأدغمت لأنهما حرفان مثلان. والمثلان يدغم أحدهما في صاحبه، وإن شئت، إذا تحرّكا جميعا، أن تسكّن الأول وتحرّك الآخر «3» . وإذا سكن الأول لم يكن الإدغام وإن تحرك الأول وسكن الآخر، لم يكن الإدغام.
وقال تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ [الآية 19] بجعل اليوم حينا كأنه سبحانه، والله أعلم، حين قال: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) قال ما معناه:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نسبت في معاني القرآن 3/ 244 إلى أهل الحجاز وفي الطبري 30/ 87 إلى عامّة قراء المدينة، ومكّة، والشام، والبصرة وفي السبعة 674 إلى ابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر وفي الكشف 2/ 364 و 220 إلى غير الكوفيين وفي الجامع 19/ 246 إلى العامة وفي اختيار أبي عبيد، وأبي حاتم، وفي البحر 8/ 437، إلى السبعة عدا من أخذ بالأخرى والقراءة بالتخفيف هي القراءة المثبتة في المصحف الشريف.
(3) . نسبت في السبعة 674 إلى خارجة، عن نافع وفي البحر 8/ 437 إلى خارجة عن نافع كأبي عمرو ونسب إظهار الكافين في السبعة 674، إلى غير خارجة عن نافع.(11/119)
«في حين لا تملك نفس» . وقرأ بعضهم (يوم لا تملك نفس) «1» بجعله تفسيرا لليوم الأول، كأنّ المعنى: «هو يوم لا تملك» .
__________
(1) . نسبت في السبعة 674، والتيسير 220، والجامع 19/ 249، إلى ابن كثير وأبي عمرو وفي البحر 8/ 437، زاد ابن أبي إسحاق، وعيسى بن جندب.(11/120)
المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «الانفطار»
«1» إن قيل: لأي فائدة تخصيص ذكر صفة الكرم، دون سائر صفاته، في قوله تعالى: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الآية 6] ؟
قلنا: قال بعضهم: إنّما قال تعالى ذلك لطفا بعبده، وتلقينا له حجته وعذره، ليقول: غرّني كرم الكريم.
وقال الفضيل رحمه الله: لو سألني الله تعالى هذا السؤال لقلت: غرّني ستورك المرخاة وروي أن عليا كرم الله وجهه صاح بغلام له مرات فلم يلبّه، ثم أقبل فقال: مالك لم تجبني؟ فقال: لثقتي بحلمك وأمني عقوبتك فاستحسن جوابه وأعتقه. ولهذا قالوا: من كرم الرجل، سوء أدب غلمانه. والحق أنّ الواجب على الإنسان أن لا يغترّ بكرم الله تعالى وجوده، في خلقه إيّاه، وإسباغه النعمة الظاهرة والباطنة عليه فيعصيه ويكفر نعمته اغترارا بتفضيله الأوّل، فإن ذلك أمر منكر خارج عن حدّ الحكمة، ولهذا قال رسول الله (ص) ، لمّا قرأها: غرّه جهله.
وقال عمر رضي الله تعالى عنه: غرّه حمقه وجهله. وقال الحسن: غره، والله، شيطانه الخبيث الذي زيّن له المعاصي، فقال له: افعل ما شئت، فإنّ ربّك كريم.
فإن قيل: لم قال الله تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً [الآية 19] والنفوس المقبولة الشفاعة، تملك لمن شفعت فيه شيئا، وهو الشفاعة؟
قلنا: المنفي ثبوت النصرة بالملك
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/121)
والسلطنة، والشفاعة ليست بطريق الملك والسلطنة، فلا تدخل في النفي، ويؤيّده قوله تعالى: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) وقال مقاتل: المراد بالنفس الثانية الكافرة، والأصحّ، والله أعلم، أنه على العموم في النفسين.(11/122)
سورة المطفّفين 83(11/123)
المبحث الأول أهداف سورة «المطفّفين»
«1» سورة المطفّفين سورة مكية آياتها 36 آية، وهي آخر سورة نزلت في مكّة.
وهي سورة تعالج طغيان الغني، واستغلال الفقراء، وتحارب تطفيف الكيل والميزان، وتبيّن أنّ صحف أعمال الفجّار في أسفل سافلين، وأنّ كتاب أعمال الأبرار في أعلى عليّين كما وصفت السورة النعيم المقيم الذي يتمتّع به الأبرار في الجنّة، وبيّنت أن المجرمين كانوا يسخرون من المؤمنين في الدنيا وفي يوم القيامة يتغيّر الحال، فيسخر المؤمن من الكافر، ويتمتّع المؤمن بألوان النعيم.
مقاطع السورة
تتألّف سورة المطفّفين من أربعة مقاطع، يبدأ المقطع الأول منها بإعلان الحرب على المطفّفين، وتهديدهم بالجزاء العادل، عند البعث والحساب [الآيات 1- 6] .
ويتحدّث المقطع الثاني عن الفجّار في شدّة وردع وزجر، وتهديد بالويل والهلاك، ودمغ بالإثم والاعتداء وبيان لسبب هذا العمى، وعلة هذا الانطماس، وتصوير لجزائهم يوم القيامة، وعذابهم بالحجاب عن ربهم، كما حجبت الآثام في الأرض قلوبهم [الآيات 7- 17] .
والمقطع الثالث يعرض الصفحة المقابلة، صفحة الأبرار، ورفعة مقامهم، والنعيم المقرر لهم، ونضرته التي تفيض على وجوههم، والرحيق
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. [.....](11/125)
الذي يشربون وهم على الأرائك ينظرون، وهي صفحة ناعمة وضيئة.
[الآيات 18- 28] .
والمقطع الرابع يصف ما كان الأبرار يلقونه من استهزاء الفجار، وسخريتهم، وسوء أدبهم في دار الغرور ثم يقابل ذلك بما لقيه المؤمنون من التكريم، وما لقيه المجرمون من عذاب الجحيم في يوم الدين. [الآيات 29- 36] .
من أسباب نزول السورة
كان تطفيف الكيل منتشرا في مكّة والمدينة، وهو يعبّر عن جشع التّجار وطمعهم، ورغبتهم في بخس حق المشتري.
روي أنه كان بالمدينة رجل يقال له أبو جهينة، له كيلان أحدهما كبير والثاني صغير، فكان إذا أراد أن يشتري من أصحاب الزروع والحبوب والثمار، اشترى بالكيل الكبير وإذا باع للناس كال للمشتري بالكيل الصغير. هذا الرجل وأمثاله ممّن امتلأت نفوسهم بالطمع، واستولى عليهم الجشع والنهم، هم المقصودون بهذا الوعيد الشديد، وهم الذين توعّدهم النبي (ص) ، وتهدّدهم بقوله: «خمس بخمس، قيل يا رسول الله وما خمس بخمس؟ قال: ما نقض قوم العهد إلّا سلّط الله عليهم عدوّا وما حكموا بغير ما أنزل الله إلّا فشا فيهم الفقر وما ظهرت الفاحشة في قوم يتعامل بها علانية، إلّا فشا الطاعون والأوجاع التي لم تكن فيمن قبلهم ولا طفّف قوم المكيال والميزان إلّا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور الحكام وما منع قوم الزكاة إلّا حبس عنهم المطر» .
مع آيات السورة
[الآية 1] : هلاك وعذاب عظيم لهؤلاء الذين يبخسون الكيل والميزان والتطفيف، لغة، التقليل، فالمطفّف هو المقلّل حق صاحبه بنقصانه، لأنّه لا يكاد يسرق في المكيال، والميزان، إلّا الشيء اليسير الطفيف.
[الآية 2] : إذا كان لهم عند الناس حقّ في شيء يكال أو يوزن، وأرادوا أخذه منهم لا يأخذونه إلّا تامّا كاملا.
[الآية 3] : وإذا كان للناس حقّ عندهم في مكيل أو موزون، أعطوهم ذلك الحق مع النقص والخسارة.
ويلحق بالمطفّفين كل عامل لا يؤدّي(11/126)
عمله، وإنما يحرص على الأجر كاملا، ويلحق بهم من يتسلّم العمل كاملا، ويبخس حقّ العامل أو ينقص أجره، وكذلك كل من يقصر في أداء واجبه. وعن ابن عباس «الكيل أمانة، والوزن أمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، فمن وفى وفى له، ومن طفّف فقد علمتم ما قاله الله في المطفّفين» .
[الآيتان 4- 6] : ألا يخطر ببال هؤلاء أنّ هناك يوما للبعث، تظهر فيه هذه الأعمال التي يخفونها على الناس، وأنهم سيبعثون في هذا اليوم الشديد الأهوال، الذي يقوم فيه الناس من قبورهم ليعرضوا على ربّ العالمين الذي خلقهم، ويعلم سرّهم وعلانيتهم.
[الآيات 7- 9] : إن للشر سجلّا دونت فيه أعمال الفجّار، وهو كتاب مسطور بيّن الكتابة. وهذا السّجلّ يشتمل عليه السجل الكبير المسمّى بسجّين كما تقول إن كتاب حساب قرية كذا في السّجلّ الفلانيّ المشتمل على حسابها، وحساب غيرها من القرى.
والفجّار هم المتجاوزون للحدّ في المعصية والإثم ولكلّ فاجر من هؤلاء الفجّار صحيفة وهذه الصحائف في السّجلّ العظيم المسمّى سجّين، وهو عظيم الشأن وهو كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) أي قد أثبتت فيه العلامات الدالة على الأعمال.
[الآيات 10- 13] : هلاك وعذاب عظيم لهؤلاء المكذّبين، الذين يكذّبون الرسول (ص) ، ولا يؤمنون بيوم الحساب والجزاء، الذي أخبرهم به عن ربّ العلمين.
وما يكذّب بهذا اليوم، إلّا من اعتدى على الحقّ، وعمي عن الإنصاف، واعتاد ارتكاب الآثام، والإعراض عن الحق والهدى، ولذلك إذا تليت عليه آيات القرآن، أو أخبار البعث والجزاء أنكرها، وقال هذه أباطيل السابقين.
[الآية 14] : كَلَّا ليس كما يقولون بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) أي غطّى على قلوبهم ما كانوا يكسبونه من الإثم والمعصية والقلب الذي يتعوّد المعصية ينطمس ويظلم، ويرين عليه غطاء كثيف، يفقده الحساسية شيئا فشيئا، حتى يتبلّد ويموت.(11/127)
روى التّرمذيّ «1» ، والنسائي، وابن ماجة: «أنّ العبد إذا أذنب ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع، واستغفر، وتاب، صقل قلبه وإن عاد زيد فيها، حتّى تعلو، فهو الران، الذي قال الله تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) .
وقال الحسن البصري: هو الذنب على الذنب يعمي القلب فيموت.
ثم يذكر السياق شيئا عن مصيرهم يوم القيامة، بقوله تعالى:
[الآيات 15- 17] : كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) .
فهم في يوم القيامة مطرودون من رحمة الله، محرومون من رؤيته في الآخرة، ثم إنّهم يصلون عذاب جهنّم، مع التأنيب والتقريع على تكذيبهم الحق، وإنكارهم البعث والجزاء فيقال لهم: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) . [الآيات 18- 21] : إن كتاب الأبرار محفوظ في سجلّ ممتاز في أعلى مكان في الجنّة، وما أعلمك ما هذا المكان، فهو أمر فوق العلم والإدراك، كتاب مسطور فيه أعمالهم، وهو موضع مشاهدة المقرّبين من الملائكة، ومتعتهم بما فيه من كرائم الأفعال والصفات.
[الآيات 22- 28] : إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) إنّ الأبرار المتّقين الذين يؤمنون بالله، ويعملون أنواع البر من القربات والطاعات، هؤلاء ينعمون بنعيم الجنة، وهم على الأسرّة في الحجال «2» ينظرون إلى ما أعدّ لهم من النعيم وترى على وجوههم آثار النعمة وبهجتها، يسقون خمرا مختومة بالمسك، وهي لا تسكر كخمر الدنيا وفي ذلك النعيم فليتسابق المتسابقون، وليرغب الراغبون بالمبادرة الى طاعة ربهم، باتّباع أوامره واجتناب نواهيه.
وهذا الشراب المعدّ لهم ممزوج بشراب آخر ينصبّ عليهم من عين
__________
(1) . قال التّرمذي حسن صحيح، وللحديث روايات أخرى بألفاظ قريبة في المعنى
(2) . الحجال: جمع حجلة والحجلة ستر يضرب في جوف البيت.(11/128)
عالية، يشرب منها المقربون إلى رضوان ربهم. وقد سئل ابن عبّاس عن هذا فقال: هذا ممّا قال الله تعالى:
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) [السجدة] .
«وقصارى ما سلف، أنّه، سبحانه، وصف النعيم الذي أعدّه للأبرار في دار كرامته بما تتطلع اليه النفوس، وبما يشوّقها اليه، ليكون حضّا للذين يعملون الصالحات على الاستزادة من العمل، والاستدامة عليه وحثّا لهمم المقصرين، واستنهاضا لعزائمهم أن يحرصوا على التزوّد من العمل الصالح، ليكون لهم مثل ما لأولئك» «1» .
[الآيات 29- 33] : إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) : كانوا يضحكون منهم استهزاء بهم وسخرية منهم، إمّا لفقرهم ورثاثة حالهم، وإمّا لضعفهم عن ردّ الذي، وإمّا لترفّعهم عن سفاهة السفهاء فكلّ هذا ممّا يثير ضحك الذين أجرموا، وهم يتّخذون المؤمنين مادّة لسخريتهم، أو فكاهتهم المرذولة.
وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ
(30) يغمز بعضهم لبعض بعينه، أو يشير بيده، أو يأتي بحركة متعارف عليها بينهم للسخرية من المؤمنين، وإذا انقلب هؤلاء الضالّون إلى أهلهم، ورجعوا إلى بيوتهم، رجعوا إليها فكهين ملتذّين بحكاية ما يعيبون به أهل الايمان، إذ يرمونهم بالسّخافة وقلّة العقل، وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) أي وإذا رأوا المؤمنين نسبوهم الى الضلال لأنهم نبذوا العقائد الفاسدة، وتركوا عبادة الأصنام. ولم يرسل الله، سبحانه، الكفّار رقباء على المؤمنين، ولا كلّفهم بمحاسبتهم على أفعالهم، فما لهم وهذا الوصف، وهذا التقرير.
روي أن عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، جاء في نفر من المسلمين، فرآه بعض هؤلاء الكفّار، فسخروا منه وممّن معه، وضحكوا منهم، وتغامزوا بهم، ثمّ رجعوا إلى جماعتهم من أهل الشرك، فحدّثوهم بما صنعوا به، وبأصحابه.
والآيات ترسم مشهدا لسخرية
__________
(1) . تفسير المراغي للأستاذ أحمد مصطفى المراغي، ط 3، مصطفى البابي الحلبي، 30/ 82.(11/129)
المجرمين من المؤمنين، وقد يكون لنزولها سبب خاص، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ففي الآيات تعبير واقعي عن سخرية القويّ الفاجر من المؤمن الصابر، ممّا يدل على أن طبيعة الفجّار المجرمين واحدة، متشابهة، في موقفها من الأبرار، في جميع البيئات والعصور.
يقول الإمام محمد عبده: «من شأن القويّ المستعز بكثرة أتباعه وقدرته، أن يضحك ممن يخالفه في المنزع، ويدعوه إلى غير ما يعرفه وهو أضعف منه قوّة وأقلّ عددا كذلك كان شأن جماعة من قريش، كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأتباعهم وهكذا يكون شأن أمثالهم في كلّ زمان متى عمّت البدع، وتفرّقت الشيع، وخفي طريق الحق بين طرق الباطل، وجهل معنى الدين، وأزهقت روحه من عباراته وأساليبه، ولم يبق الا ظواهر لا تطابقها البواطن» «1» .
[الآيات 34- 36] : فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) أي في يوم القيامة والكفّار محجوبون عن ربهم، يقاسون ألم هذا الحجاب يضحك المؤمنون، ضحك من وصل به يقينه الى مشاهدة الحق، فسرّ به وينكشف للمؤمنين ما كانوا يرجون من إكرام الله لهم، وخذلان أعدائهم، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) وهمّ على سررهم في الجنة ينظرون إلى صنع الله بأعدائهم، وإذلاله لمن كان يفخر عليهم، وتنكيله بمن كان يهزأ بهم، جزاء وفاقا. هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) ؟ أي أنهم ينظرون ليتحقّقوا: هل جوزي الكفّار، بما كانوا يفعلون بهم في الدنيا وإنما سمّي الجزاء على العمل ثوابا، لأنه يرجع الى صاحبه نظير ما عمل من خير أو شر.
و (ثوّب) مثل أثاب، بمعنى جازى، يقع في الخير وفي الشر، وإن كان قد غلب الثواب في الخير. أي هل جوزي الكفّار بما كانوا يفعلون؟
مقاصد السورة
1- وعيد المطفّفين.
__________
(1) . تفسير جزء عمّ، للأستاذ الإمام محمد عبده، الطبعة السادسة، مطابع الشعب، ص 37.(11/130)
2- بيان أن صحائف أعمال الفجّار في أسفل سافلين.
3- الإرشاد إلى أنّ صحائف أعمال الأبرار في أعلى علّيّين.
4- وصف نعيم الأبرار، في مآكلهم ومشاربهم ومساكنهم. 5- استهزاء المجرمين بالمؤمنين في الدنيا.
6- تضاحك المؤمنين منهم يوم القيامة.
7- نظر المؤمنين إلى المجرمين وهم يلقون جزاءهم وما أعدّ لهم من النّكال.(11/131)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المطفّفين» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة المطفّفين بعد سورة العنكبوت، وهي آخر سورة نزلت بمكّة، فيكون نزولها بعد الإسراء وقبيل الهجرة.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) وتبلغ آياتها ستا وثلاثين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة تحريم التّطفيف في المكيال والميزان، وإنذار من يفعل ذلك، بأنه مبعوث لحساب لا تساهل فيه بتطفيف أو نحوه. وبهذا سار سياقها في الترهيب كما سارت السورة قبلها، وهذا هو وجه ذكرها بعدها.
تحريم التطفيف الآيات [1- 36]
قال الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) فأنذر المطفّفين بالويل وذكر سبحانه أنهم الذين يستوفون إذا اكتالوا على الناس، وإذا كالوهم أو وزنوهم ينقصون والتطفيف البخس في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية ثمّ أنذرهم جلّ وعلا بأنهم مبعوثون ليوم عظيم، وبأن كتاب أعمالهم في سجّين، وهي الأرض السّفلى فإذا أتى هذا اليوم، فويل لهم
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/133)
على تكذيبهم به ... إلخ ثم انتقل السياق من هذا الترهيب إلى الترغيب، بذكر أنّ كتاب الأبرار في علّيّين، وهي السماء السابعة وذكر تعالى ما ذكر ممّا أعده لهم ثمّ ذكر أنّ أولئك المجرمين، كانوا يضحكون من هؤلاء الأبرار في الدنيا، وأنّ هؤلاء الأبرار يضحكون منهم في الآخرة، وهم على الأرائك ينظرون: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) .(11/134)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المطفّفين» «1»
أقول: الفصل بهذه السورة، بين الانفطار والانشقاق، التي هي نظيرتها من خمسة أوجه: الافتتاح ب إِذَا السَّماءُ [الانفطار/ 1] والتخلص ب يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ [الانفطار/ 6] ، وشرح حال يوم القيامة ولهذا ضمّت بالحديث السابق، والتناسب في المقدار، وكونها مكّيّة.
وهذه السورة مدنيّة، ومفتتحها ومخلصها غير مآلها، لنكتة ألهمنيها الله. وذلك أن السور الأربع، لمّا كانت في صفة حال يوم القيامة، ذكرت على ترتيب ما يقع فيه.
فغالب ما وقع في التكوير، وجميع ما وقع في الانفطار، وقع في صدر يوم القيامة، ثم بعد ذلك يكون الموقف الطويل، ومقاساة العرق والأهوال، فذكره في هذه السورة بقوله تعالى:
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) .
ولهذا ورد في الحديث: «يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» «2» .
ثم بعد ذلك تحصل الشفاعة العظمى، فتنشر الكتب، فأخذ باليمين، وأخذ بالشمال، وأخذ من وراء الظهر، ثم بعد ذلك يقع الحساب.
هكذا وردت بهذا الترتيب الأحاديث فناسب تأخير سورة الانشقاق التي فيها إتيان الكتب
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.
(2) . أخرجه البخاري في التفسير 6/ 207 عن ابن عمر، وأحمد في المسند مع اختلاف في اللفظ 2/ 13، 19 وعلى المطابقة 2/ 31.(11/135)
والحساب «1» ، عن السورة التي قبلها، والتي فيها ذكر الموقف عن التي فيها مبادئ يوم القيامة.
ووجه آخر، وهو: أنه جلّ جلاله لما قال في الانفطار: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) . وذلك في الدنيا، ذكر في هذه السورة حال ما يكتبه الحافظان، وهو: كتاب مرقوم جعل في علّيّين، أو في سجّين، وذلك أيضا في الدنيا، لكنّه عقّب بالكتابة، إمّا في يومه، أو بعد الموت في البرزخ كما في الآثار. فهذه حالة ثانية في الكتاب ذكرت في السورة الثانية. وله حالة ثالثة متأخّرة فيها، وهي أخذ صاحبه باليمين أو غيرها، وذلك يوم القيامة، فناسب تأخير السورة التي فيها ذلك، عن السورة التي فيها الحالة الثانية، وهي الانشقاق، فلله الحمد على ما منّ بالفهم لأسرار كتابه.
ثم رأيت الإمام فخر الدين قال في سورة المطفّفين أيضا: اتصال أوّلها بآخر ما قبلها ظاهر، لأنّه تعالى بيّن هناك أن يوم القيامة من صفته: لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار/ 19] وذلك يقتضي تهديدا عظيما للعصاة، فلهذا أتبعه بقوله سبحانه: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) .
__________
(1) . وذلك في قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) [الانشقاق] ، إلى قوله: وَيَصْلى سَعِيراً (12) [الانشقاق] .(11/136)
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «المطفّفين» «1»
1- قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) .
التّطفيف: هو البخس في الكيل والوزن، لأنّ ما يبخس شيء طفيف حقير.
أقول: كأنّ المطفّف: هو الذي ينقص وضع الطفافة، وهي الزيادة بعد الكيل وفاء لما نقص منه في أثناء الكيل، وعلى هذا كان «المطفّف» من يمنع «الطّفافة» سرقة وغشّا، محاباة للبائع الذي يكيل لمصلحته، وكما يكون في الكيل يكون ذلك في الوزن.
ثم قال تعالى: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) .
والمعنى واضح، والأصل: كالوا لهم ووزنوا لهم ثم حذف وأوصل. 2- وقال تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) .
وقوله تعالى: سِجِّينٍ، أي كتاب جامع هو ديوان الشّرّ، دوّن الله فيه أعمال الشياطين، وأعمال الكفرة، والفسقة من الجن والإنس وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة.
3- وقال تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) .
وعلّيّون: علم لديوان الخير، الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثّقلين.
أقول: و «علّيون» مما ألحق بجمع المذكر السالم لا واحد له وهو ممّا يشير إلى أن هذا الجمع قد شمل طائفة
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(11/137)
كبيرة من الكلم، عاقلا كان أم غير عاقل.
وقالوا أيضا: العلّيّون الغرف العالية في الجنة.
4- وقال تعالى: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) .
وقوله تعالى: تَسْنِيمٍ (27) علم بعينها في الجنة. 5- وقال تعالى: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) .
أي: ملتذّين بذكرهم.
أقول: وجميع ما جاء من المعاني في (فكهين) ، في هذه الآية وغيرها، من أصل «الفاكهة» فاللذّة والتعجّب استفيدا من نعمة «الفاكهة» . وكذلك «الفكاهة» الشائعة في عصرنا.(11/138)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «المطفّفين» «1»
قال تعالى: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أي: «إذا كالوا النّاس أو وزنوهم» ، فأهل الحجاز يقولون «كلت زيدا» و «وزنته» أي: «كلت له» و «وزنت له» .
قال تعالى: لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ بجعله في الحين، كما تقول «فلان اليوم صالح» تريد به الآن في هذا الحين، وتقول هذا بالليل «فلان اليوم ساكن» أي: الآن، أي: هذا الحين، ولا نعلم أحدا قرأها جرا والجرّ جائز.
وقال تعالى كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ [الآية 14] تقول: «ران» «يرين» «رينا» .
وقال سبحانه: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا [الآية 28] بجعله على يُسْقَوْنَ [الآية 25] عَيْناً [الآية 28] وإن شئت جعلته على المدح، فتقطع من أول الكلام، كأنك تقول: «أعني عينا» .
وقال تعالى: هَلْ ثُوِّبَ [الآية 36] فإن شئت أدغمت «2» وإن شئت لم تدغم، لأن اللام «3» مخرجها بطرف اللسان قريب من أصول الثنايا، والثاء بطرف اللسان وأطراف الثنايا، إلّا أنّ اللام بالشّقّ الأيمن أدخل في الفم، وهي قريبة المخرج منها ولذلك قرئ
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نسب الإدغام في السبعة 676 إلى أبي عمرو وفي البحر 8/ 443 إلى النحويين، وحمزة، وابن محيصن.
(3) . نسب عدم الإدغام إلى غير أبي عمرو وفي السبعة 676 إلى الجمهور وفي البحر 8/ 443.(11/139)
بَلْ تُؤْثِرُونَ [الأعلى/ 16] فأدغمت اللام في التاء «1» ، لأنّ مخرج التاء والثاء قريب، من مخرج اللام.
__________
(1) . هي قراءة نسبت في إعراب ابن خالويه 62 إلى حمزة وقيل قراءة حمزة، والكسائي، وهشام، والتيسير 43.(11/140)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «المطفّفين» «1»
إن قيل: لم لم يقل الله تعالى إذا اكتالوا أو اتّزنوا على الناس يستوفون كما قال سبحانه في مقابلة وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) .
قلنا: لأنّ المطفّفين كانت عادتهم، أنهم لا يأخذون ما يكال وما يوزن إلّا بالمكيال، لأن استيفاء الزيادة بالمكيال كان أمكن لهم، وأهون عليهم منه بالميزان، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكّنهم من البخس فيهما.
فإن قيل: لم فسّر سبحانه وتعالى «سجّينا» بكتاب مرقوم، فقال تعالى:
وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وكذا فسّر تعالى «علّيّين» به، مع أن سجّينا اسم للأرض السابعة، وهو فعّيل من السجن وعلّيّين اسم للجنة أو لأعلى الأمكنة، أو للسماء السابعة، أو لسدرة المنتهى؟
قلنا: قوله تعالى: كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وصف معنوي لكتاب الفجّار ولكتاب الأبرار لا تفسير لسجّين ولعلّيّين، تقديره: وهو كتاب مرقوم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....](11/141)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «المطفّفين» «1»
قوله سبحانه: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) استعارة، لأنّ الحجاب لا يطلق إلّا على من يصحّ عليه الظهور والبطون، والاستتار والبروز. وذلك من صفة الأجسام المحدثة، والأشخاص المؤلّفة.
والمراد بذكر الحجاب هاهنا، أنهم ممنوعون من ثواب الله سبحانه، مذودون عن دخول جنته، ودار مقامته. وأصل الحجب المنع. ومنه قولنا في الفرائض: الإخوة يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس. أي يمنعونها من الثلث، ويردّونها إلى السدس. ومن ذلك أيضا قولهم:
حجب فلان عن باب الأمير. أي ردّ عنه، ودفع دونه. ويجوز أن يكون كذلك معنى آخر، وهو أن يكون المراد أنهم غير مقرّبين عند الله سبحانه بصالح الأعمال، واستحقاق الثواب. فعبّر سبحانه عن هذا المعنى بالحجاب. لأنّ المبعد المقصى يحجب عن الأبواب، ويبعد من الجناب.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(11/143)
سورة الانشقاق 84(11/145)
المبحث الأول أهداف سورة «الانشقاق» «1»
سورة الانشقاق سورة مكّيّة آياتها 25 آية، نزلت بعد سورة الانفطار. وهي سورة هادئة الإيقاع يغلب عليها هذا الطابع، حتى في وصف مشاهد القيامة، التي عرضتها سورة التكوير في جوّ عاصف.
«وتطوف سورة الانشقاق بالقلب البشري في مجالات كونيّة وإنسانيّة شتّى، متعاقبة تعاقبا مقصودا، فمن مشهد الاستسلام الكوني، إلى لمسة لقلب الإنسان، إلى مشهد الحساب والجزاء، إلى مشهد الكون الحاضر وظواهره الموحية، إلى لمسة أخرى للقلب البشري، إلى التعجّب من حال الذين لا يؤمنون بعد ذلك كلّه، إلى التهديد بالعذاب الأليم، واستثناء المؤمنين من العذاب» «2» .
مقاطع السورة
يمكن أن تقسم سورة الانشقاق إلى أربعة مقاطع: المقطع الأول: وفيه مطلع السورة، ذلك المطلع الخاشع الجليل، الذي يفيد نهاية الكون واستجابة السماء والأرض لأمر الله في خشوع وطواعية (وذلك في الآيات 1- 5) .
والمقطع الثاني: يبيّن أن الإنسان محاسب على عمله، وسيجازى عليه، فالمؤمن يأخذ كتابه باليمين، ويلقى السرور وحسن الجزاء والكافر يأخذ
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.
(2) . في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب 30/ 98.(11/147)
كتابه من وراء ظهره، ويلقى الهلاك والسعير (وذلك في الآيات 6- 15) .
والمقطع الثالث يعرض مشاهد الكون، في صورة تأخذ بالألباب (وذلك في الآيات 16- 19) .
والمقطع الرابع يتعجّب من حال هؤلاء الذين يعرضون عن الإيمان، ويهدّدهم بالجزاء العادل (وذلك في الآيات 20- 25) .
وهذه اللمسات المتعدّدة تطوف بالقلب البشريّ، وتنتقل بالنفس خلال مشاهد الآخرة والدنيا، والحساب والجزاء، في آيات قصيرة وحيّز محدود، ممّا لا يمكن لبشر أن يفعله ولكنّه القرآن الذي يسّره الله للذّكر، وأنزله لهداية العالمين.
مع آيات السورة
[الآيات 1- 5] : يصف الله سبحانه وتعالى ما يحدث من الأهوال يوم القيامة عند خراب الدنيا، فيذكر سبحانه أن السماء تنشقّ وتصبح ذات فروج وفتحات، وتنقاد هذه السموات لأمر ربّها وتخضع لتأثير قدرته، حينما يريد انشقاقها، فهي أشبه بالمطيع الذي يذعن لأمر سيده والأرض تسوّى وتبسط باندكاك جبالها وتخرج ما فيها من الموتى حتى لا يبقى بداخلها شيء وتنقاد كذلك لأمر ربها، وتخضع لتأثير قدرته، لأنها في قبضة القدرة الإلهية، تصرّفها في الفناء، كما صرفتها في الابتداء. وجواب «إذا» التي صدّرت بها السورة محذوف، وتقدير الكلام، والله أعلم: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) ترون جزاء ما عملتم من خير أو شر.
وخلاصة ذلك: وصف أحوال يوم القيامة، وفيه تبدّل الأرض غير الأرض، والسماوات غير السماوات ويبرز الناس للحساب، على ما قدّموا في حياتهم من عمل وعلينا أن نؤمن بذلك كله، ونكل علم حقيقته، ومعرفة كنهه الى الله تعالى.
[الآيات 6- 15] : يا أيّها الإنسان إنك تقطع رحلة حياتك على الأرض كادحا تحمل عبئك، وتجهد جهدك، وتشقّ طريقك لتصل في النهاية إلى ربّك فإليه المرجع وإليه المآب، بعد الكدّ والكدح والجهاد، وفي يوم البعث ينكشف الالتباس، ويعرف كل عامل ما جرّ إليه عمله، والناس حينئذ صنفان:
1- الذي يعرض عليه سجلّ(11/148)
أعماله، ويتناول كتابه بيمينه، فإنه يحاسب أيسر الحساب، إذ تعرض عليه أعماله فيعرف بطاعته وبمعاصيه، ثم يثاب على ما كان منها طاعة، ويتجاوز له عما كان منها معصية.
عن عائشة (رض) قالت: «سمعت رسول الله (ص) يقول في بعض صلاته: «اللهم حاسبني حسابا يسيرا» فلمّا انصرف قلت: يا رسول الله، وما الحساب اليسير؟ قال: أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه، من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك» » .
فهذا هو الحساب اليسير الذي يلقاه من يؤتى كتابه بيمينه، ثم ينجو وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وأهله هم الناجون الذين سبقوه الى الجنة.
2- وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) ، والذي ألفناه في تعبيرات القرآن من قبل هو كتاب اليمين، وكتاب الشمال، فهذه صورة جديدة:
صورة إعطاء الكتاب من وراء الظهر، وليس يمتنع أن يكون الذي يعطى كتابه بشماله، يعطاه كذلك من وراء ظهره، فهي هيئة الكاره المكره، الخزيان من المواجهة. والذي نخلص اليه، أنّ إيتاء الكتاب باليمين، أو باليسار أو من وراء الظهر، تصوير لحال المطّلع على أعماله في ذلك اليوم، فمن الناس من إذا كشف له عمله ابتهج واستبشر، وتناول كتابه بيمينه ومنهم من إذا انكشفت له سوابق أعماله عبس وبسر، وأعرض عنها وأدبر، وتمنّى لو لم تكشف له، وتناولها باليسار أو من وراء الظهر، وحينئذ يدعو ووا ثبوراه، أي يا هلاك أقبل، فإنّي لا أريد أن أبقى حيّا.
ولا يفعل الإنسان ذلك، إلّا إذا كان في شدّة التعاسة والشقاء، كما يقول المتنبي:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا
وتناول الكافر لكتابه بشماله أو من وراء ظهره علامة على سخط الله عليه، وهو يدعو على نفسه بالهلاك والويل، ويدخل نار جهنم التي سعّرت وأوقدت، ليحترق بنارها لأنه كان في الدنيا بين عشيرته من الكافرين، لاهيا في شهواته، منقادا لأهوائه، لا يخطر الموت على باله، ولا البعث،
__________
(1) . رواه الإمام أحمد بإسناده عن عبد الله بن الزبير عن عائشة، وهو صحيح على شرط مسلم، لم يخرجه.(11/149)
إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) إلى ربه، ولن يرجع إلى بارئه ولو ظن الرجعة في نهاية المطاف، لقدّم بعض العمل، وادّخر شيئا للحساب.
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) : أي بلى ليحورنّ وليرجعن إلى ربّه، وليحاسبنّه على عمله، فهو سبحانه كان مطّلعا على أمره، محيطا بحقيقته، عالما بحركاته وخطواته.
وتصوّر الآيات هذا التعيس، وهو مسرور بين أهله في حياة الدنيا القصيرة ولكنّه في الآخرة حزين يتمنّى الموت والهلاك، تقابلها صورة ذلك السعيد المؤمن، وهو ينقلب إلى أهله مسرورا، في حياة الآخرة المديدة، لقاء ما قدّم من سعي حميد، وعمل صالح.
وتعود الآيات إلى لمحات من الكون، تجمع بين الخشوع الساكن، والجلال المرهوب:
[الآيات 16- 19] : فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) والشفق هو الوقت الخاشع المرهوب بعد الغروب، وبعد الغروب تأخذ النفس روعة ساكنة عميقة، ويحسّ القلب معنى الوداع، وما فيه من أسى صامت، وشجّى عميق، كما يحس رهبة الليل القادم، ووحشة الظلام الزاحف، ويلفّه في النهاية خشوع، وخوف خفيّ، وسكون.
وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) : هو الليل وما جمع وما حمل من الظلام والنجوم، أو ما عمل فيه من التهجّد، أو ما جمع من مخلوقات كانت منتشرة بالنهار، فإذا جنّها الليل أوت إلى مأواها.
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) : أي اكتمل واستدار وصار بدرا، وهو مشهد رائع للقمر في ليالي اكتماله، يفيض على الأرض بنوره الحالم الخاشع، الموحي بالصمت الجليل.
يقسم القرآن الكريم بهذه الأشياء التي إذا تدبّر الإنسان أمرها، استدلّ بجلالها وعظمة شأنها على قدرة مبدعها.
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) : أي لتلاقن أيها الناس أمورا بعد أمور، وأحوالا بعد أحوال من الموت والبعث والحشر، إلى أن تصيروا إلى ربّكم وهناك تلقون جزاء أعمالكم.
[الآيات 20- 25] : فلماذا لا(11/150)
يؤمنون بالبعث والنشور، وهم يرون آثار قدرة الله وبدائع صنعه، وما لهم لا يخضعون لآيات القرآن، وفيها من اللّمسات والموحيات ما يصل القلب البشري بالوجود الجميل، وببارئ الوجود الجليل، وإذا قرأ المؤمن هذه الآية، سجد لله سجود التلاوة، عند قوله: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) .
ولكنّ الكافرين قوم معاندون فالتكذيب طابعهم، والله أعلم بما يكنّون في صدورهم، ويضمّون عليه جوانحهم، من بغي وحسد، وإشراك بالله، وحقد للرسول (ص) ولذلك أمر الله نبيه (ص) أن يبشّرهم جميعا، بالعذاب المؤلم الموجع يوم القيامة ... ويا لها من بشرى لا تسرّ.
أما الذين آمنوا بالله تعالى ورسوله (ص) ، وامتثلوا أوامر الله فعملوا الأعمال الصالحة، فلهم الأجر الحسن، والثواب الدائم الذي لا ينقطع ولا يزول.
مقاصد السورة
1- وصف مشاهد القيامة.
2- الإنسان كادح عامل في الدنيا، وسيلقى الجزاء في الآخرة.
3- المؤمن يأخذ كتابه باليمين، فيجد السعادة والسرور.
4- الكافر يأخذ كتابه من وراء ظهره، فيجد الشقاء والسعير.
5- القسم بالشّفق والليل والقمر، تنبيها لجلالها وبديع صنعها.
6- النّاس تنتقل من الحياة الى الموت ثمّ إلى البعث والحساب والجزاء، فهم ينتقلون في أحوالهم طبقة بعد طبقة، ليستقرّوا في نعيم مقيم، أو في عذاب أليم.(11/151)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الانشقاق»
«1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الانشقاق بعد سورة الانفطار، ونزلت سورة الانفطار بعد الإسراء، وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة الانشقاق، في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وتبلغ آياتها خمسا وعشرين آية.
الغرض منها وترتيبها
يقصد من هذه السورة، إثبات المعاد، وما يكون فيه من حساب وثواب وعقاب فهي أيضا في سياق الإنذار، والترهيب، والترغيب، كسورة المطفّفين وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها.
إثبات المعاد الآيات [1- 25]
ذكر سبحانه، أنه، إذا حصل انشقاق السماء، وما ذكر بعده يرى كل إنسان ما عمل وأنه كادح اليوم حتّى يلاقيه ثم فصّل ما يكون فيه من أخذ بعضهم كتابه بيمينه، ومحاسبته حسابا يسيرا، ومن أخذ بعضهم كتابه وراء ظهره ...
إلخ. ثم أقسم، جلّ وعلا، بالشفق وما ذكر معه، على أنهم سيركبون في الشّدّة طبقا بعد طبق، ووبّخهم على عدم إيمانهم مع هذه النّذر وذكر
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/153)
سبحانه أنهم يكذبون مع قيام هذه الدلائل، وهو أعلم مما يوعون في صدورهم ثم أمر جلّت قدرته، بتبشيرهم بعذاب أليم: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) .(11/154)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الانشقاق»
«1» قد استوفي الكلام فيها في سورة المطفّفين.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.(11/155)
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الانشقاق» «1»
1- قال تعالى: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) .
أي: لن يرجع إلى الله تعالى، تكذيبا بالمعاد يقال: لا يحور ولا يحول.
أي لا يرجع ولا يتغيّر. أقول: والفعل «حار يحور» من الأفعال المعروفة في عاميّتنا في العراق، وليس في الفصيحة المعاصرة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(11/157)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الانشقاق» «1»
قال تعالى: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) أي: وحقّ لها.
وقال سبحانه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) تقول: «أوعيت في قلبي كذا وكذا» ، كما تقول: «أوعيت الزّاد في الوعاء» ، وتقول: «وعت أذني» قال تعالى: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
(12) [الحاقّة] .
وأمّا: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) فعلى معنى يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) على التقديم والتأخير.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.(11/159)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الانشقاق» «1»
إن قيل: أين جواب إِذَا في قوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) ؟
قلنا. فيه وجوه: أحدها أنه متروك لتكرّر مثله في القرآن. الثاني: أنه أَذِنَتْ [الآية 2] والواو فيها زائدة.
الثالث: أنه محذوف تقديره بعد قوله تعالى: وَحُقَّتْ (2) بعثتم أو جوزيتم أو لاقيتم ما عملتم، ودلّ على هذا المحذوف قوله تعالى: فَمُلاقِيهِ (6) .
الرابع: أنّ فيه تقديما وتأخيرا تقديره:
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/161)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الانشقاق» «1»
في قوله تعالى: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) استعارة.
والمراد بها بعث الأموات، وإعادة الرفات. فكأنّ الأرض كانت حاملا بهم فوضعتهم، أو حاملة لهم فألقتهم، فكانوا كالجنين المولود، والثّقل المنبوذ.
وفي قوله سبحانه: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) استعارة. ومعنى (وسق) هاهنا أي ضمّ وجمع. فكأنه يضم الحيوانات الإنسانية إلى مساكنهم، والحيوانات الوحشية إلى موالجها، والطيور إلى أوكارها ومواكنها «2» فكأنّه ضمّ ما كان بالنهار منتشرا، وجمع ما كان متبدّدا متفرّقا. والأوساق مأخوذة من ذلك، لأنها الأحمال التي يجمع فيها الطعام، وما يجري مجراه ويقال: طعام موسوق أي مجموع في أوعيته.
وقد قيل: إنّ معنى (وسق) أي طرد. والوسيقة: الطريدة. فكأنّ الليل يطرد الحيوانات كلّها إلى مثاويها، ويسوقها إلى مخافيها.
وقوله سبحانه: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) استعارة على بعض التأويلات. والمراد بها لتنقلبنّ من حال شديدة إلى حال مثلها، من حال الموت وشدّته إلى حال الحشر وروعته.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . الموكن والموكنة: عشّ الطائر.(11/163)
وقيل: لتركبنّ سنّة من كان قبلكم من الأمم.
وقيل: المراد بذلك تنقّل الناس في أحوال الأعمار، وأطوار الخلق والأخلاق. والعرب تسمّي الدواهي «بنات طبق» وربما سمّوا الداهية: أمّ طبق. قال الشاعر «1» :
قد طرّقت ببكرها أمّ طبق فنتجوها خبرا ضخم العنق موت الإمام فلقة من الفلق والفلق أيضا من أسماء الدواهي. واحدها فلقة.
وفي قوله سبحانه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) استعارة. والمراد بها ما يسرّون في قلوبهم، ويكنّون في صدورهم.
يقول القائل أوعيت هذا الأمر في قلبي. أي جعلته فيه كما يجعل الزاد في وعائه، ويضمّ المتاع في عيابه «2» فالقلوب أوعية لما يجعل فيها من خير أو شر، وعلم أو جهل أو باطل أو حق.
__________
(1) . هو خلف الأحمر. وأصله مولى لأبي بردة من فرغانة، ولكنّه حفظ كلام العرب وشعرهم وأخبارهم، حتى صار يقول الشعر، فيجيده وينحله الشعراء المتقدّمين. وكان الأصمعي من رواته، كما سمع هو من حمّاد الراوية.
وأخباره في «طبقات الأدباء» و «الشعر والشعراء» و «العقد الفريد» و «الفهرست» . توفي سنة 180 هـ.
وأمّ طبق: هي الداهية. والخبر: الناقة الغزيرة اللبن، والفلقة: الداهية. وفي ثمار القلوب» للثعالبي: قال الأصمعي: أول من نعى المنصور بالبصرة خلف الأحمر، وكنّا في حلقة يونس، فجاء خلف الأحمر فسلّم، ولم يكن الخبر فشا، ثم قال: «قد طرّقت ببكرها أمّ طبق» . فقال يونس: وما ذاك يا أبا محرز؟ فقال «فنتجوها خبرا ضخم العنق» . فقال: لم أدر بعد! فقال: «موت الإمام فلقة من الفلق» . فارتفعت الضجة بالبكاء والاسترجاع- ص 207 من «الثمار» .
وانظر الخبر في «لسان العرب» مادة طبق. وفي الورقة 60 من كتاب «المعوّل عليه في المضاف والمضاف إليه» للمحبّي، وهو مخطوط مصور بمجمع اللغة العربية.
(2) . العياب: الأوعية واحدها: العيبة.(11/164)
سورة البروج 85(11/165)
المبحث الأول أهداف سورة «البروج» «1»
سورة البروج سورة مكّيّة، آياتها 22 آية، نزلت بعد سورة الشمس.
هذه السورة القصيرة تعرض حقائق العقيدة، وقواعد التصور الإيماني، وتمجّد الثبات على الحقّ، وتبشّر المؤمن بنصر الدنيا ونعيم الآخرة، وتهدّد الجبّارين المعتدين بنقمة الله ولعنته في الدنيا والآخرة.
أصحاب الأخدود
الأخدود: الشق في الأرض يحفر مستطيلا، وجمعه أخاديد، وأصحاب الأخدود قوم كافرون ذوو بأس وقوة، رأوا قوما من المؤمنين فغاظهم إيمانهم، فحملوهم على الكفر فأبوا، فشقّوا لهم شقّا في الأرض وحشوه بالنار، وألقوهم فيه، وكان هؤلاء الغلاظ الأكباد على جوانب الشّقّ يشهدون الإحراق.
فقرات السورة
تبدأ الفقرة الأولى بالقسم، وتربط بين السماء ويوم القيامة، وبين حادث الأخدود، ونقمة الله على أصحابه في الآيات [1- 4] .
2- ثم تعرض الفقرة الثانية المشهد المفجع في لمحات خاطفة تظهر بشاعة الحادث، بدون تفصيل ولا تطويل، مع التلميح إلى عظمة العقيدة التي تعالت على فتنة الناس مع شدّتها، وانتصرت على النار وعلى الحياة ذاتها في الآيات [5- 10] .
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. [.....](11/167)
3- ثم يجيء التعقيب بعد ذلك بفوز المؤمنين، وبشدّة بطش الله بالمجرمين، وبقدرته وهيمنته على الكون، ثمّ اشارة سريعة الى سوابق من أخذ من الطغاة كفرعون وثمود في الآيات [11- 22] .
مع آيات السورة
[الآيات 1- 3] : يقسم الله سبحانه بالسماء ذات الكواكب، والنجوم الكثيرة، التي تنتشر في أرجائها، ويقسم بيوم القيامة، ويقسم بالشاهد والمشهود، والشاهد هو الملائكة تشهد على الناس يوم القيامة، والمشهود عليه هو الخلائق أو الأنبياء تشهد على أممهم يوم القيامة، أو بجميع ما خلق الله في هذا الكون مما يشهده الناس، ويرونه رأي العين.
وخلاصة ذلك أنه سبحانه أقسم بالعوالم كلها، ليلفت الناظرين إلى ما فيها من العظم والفخامة.
[الآية 4] : قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) أي أخذوا بذنوبهم، ونزل بهم نكال الدنيا وعذاب الآخرة.
ومن حديث ذلك أنه قد وقع إلى نجران من أرض اليمن، رجل ممّن كانوا على دين عيسى بن مريم (ع) ، فدعا أهلها الى دينه، وكانوا على اليهودية، وأعلمهم أنّ الله بعث عيسى (ع) بشريعة ناسخة لشريعتهم، فآمن به قوم منهم، وبلغ ذلك ذا نواس ملكهم، وكان يتمسك باليهودية، فسار إليهم بجنود من حمير، فلمّا أخذهم، خيّرهم بين اليهودية والإحراق بالنار، وحفر لهم حفيرة ثم أضرم فيها النار، وصار يؤتى بالرجل منهم فيخيّره: فمن جزع من النار، وخاف العذاب، ورجع عن دينه، ورضي اليهودية، تركه ومن استمسك بدينه، ولم يبال بالعذاب الدنيوي، لثقته بأن الله يجزيه أحسن الجزاء، ألقاه في النار.
ثم بيّن من أصحاب الأخدود فقال:
[الآية 5] : النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) أي أن أصحاب الأخدود هم أصحاب النار، التي لها من الحطب الكثير ما يشتدّ به لهيبها، وجرم يكون حريقها عظيما.
[الآية 6] : إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) أي قتلوا ولعنوا حينما أحرقوا المؤمنين بالنار، وهم قاعدون حولها يشرفون عليهم، وهم يعذّبون ويحرقون فيها.
[الآية 7] :(11/168)
وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وهو تعبير يصوّر قسوة قلوبهم، وتمكّن الكفر منهم.
فإنّ التعذيب كان يجري بأمرهم، وكانوا يقعدون على مقربة من النار، ويشاهدون أطوار التعذيب وفعل النار في الأجسام بلذّة وسعار، كأنما يثبتون في حسهم هذا المشهد البشع الشنيع.
[الآيتان 8 و 9] : وما أنكر أصحاب الأخدود على هؤلاء الذين أحرقوهم بالنار إلا أنهم آمنوا بربهم، الموصوف بالغلبة والقهر، المحمود على نعمه وأفضاله، الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما، وهو رقيب على الجميع شاهد على أعمالهم وأحوالهم.
[الآية 10] : إنّ هناك جزاء عادلا في الآخرة. وهؤلاء الذين عذّبوا المؤمنين وأحرقوهم في الدنيا، ولم يندموا على ما فعلوا، سيلقون عقابهم في جهنم، وفي حريق شديد، لقد أحرقوا المؤمنين بنار الدنيا، وهي جزء يسير من نار الآخرة، إذ نارها شديدة ومعها غضب الله على العصاة.
[الآية 11] : وهؤلاء المؤمنون الصادقون، يلقون جزاءهم في جنّات تجري من تحتها الأنهار، مع رضوان الله، وذلك هو الفوز الكبير. وبهذا يتمّ الأمر، وينال كل طرف جزاءه العادل، فالظالمون الطّغاة يلقون عذاب الحريق، والمؤمنون الصادقون يلقون الجنة ورضوانا من الله وذلك هو الفوز الكبير.
[الآيات 12- 16] : ان انتقام الله من الظالمين لشديد، فهو يمهلهم حتّى إذا أخذهم لم يفلتهم، وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده يوم القيامة.
ثم ذكر سبحانه خمسة أوصاف من صفات الرحمة والجلال فقال:
1- وَهُوَ الْغَفُورُ [الآية 14] لمن يرجع اليه بالتوبة.
2- الْوَدُودُ (14) كثير الود والعطاء والمحبة لمن أخلصوا له.
3- ذُو الْعَرْشِ [الآية 15] ذو السلطان الكبير والقدرة الكاملة.
4- الْمَجِيدُ (15) العظيم الكرم والفضل.
5- فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويختار.
وهو صاحب الإرادة الطليقة والقدرة المطلقة وراء الأحداث، ووراء الحياة، ووراء كل شيء في الوجود.
[الآيتان 17 و 18] :(11/169)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) الجنود تطلق تارة على العسكر، وتطلق تارة أخرى على الأعوان والمراد بهم هنا الجماعات الذين تجنّدوا على أنبياء الله واجتمعوا على أذاهم، هل أتاك حديثهم؟ وكيف فعل ربك بهم ما يريد.
فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) لقد أهلك الله فرعون وجنده، ونجا موسى ومن آمن معه وقصّة ثمود مع صالح معروفة، فقد عقرت ثمود الناقة التي جعلها الله لهم آية، وقد أهلكهم الله عن بكرة أبيهم، ونجّى صالحا ومن معه من المؤمنين.
وخلاصة ذلك: أنّ الكفّار في كلّ عصر متشابهون، وأنّ حالهم مع أنبيائهم لا تتغيّر ولا تتبدّل، فهم في عنادهم سواء، ولكنّ العاقبة دائما للمتّقين، وبطش الله شديد بالطغاة الظالمين.
[الآيات 19- 22] : وفي الختام تقرّر السورة أنّ الكفّار في كل عصر يكذّبون الرسالات، وهم غافلون عما يحيط بهم من قهر الله وقدرته، وهو سبحانه محيط بهم وعالم بجميع أحوالهم، وسوف يؤاخذهم على عملهم، وهذا الذي كذّب به قومك كتاب شريف، متفرّد في النظم والمعنى، محفوظ من التحريف، مصون من التغيير والتبديل.
مقاصد السورة
1- إظهار عظمة الله وجليل صفاته.
2- قصة أصحاب الأخدود.
3- عاقبة المتّقين الجنّة والرضوان، ونهاية المعتدين الهلاك والحريق.
4- يبيد الله الأمم الطاغية في كلّ حين، ولا سيّما الذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات.
5- القرآن مجيد شريف، وكفى شرفا أنه كلام الله.(11/170)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «البروج» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة البروج بعد سورة الشمس، ونزلت سورة الشمس بعد سورة القدر، ونزلت سورة القدر بعد سورة عبس، وكان نزول سورة عبس فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة البروج في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وتبلغ آياتها اثنتين وعشرين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على تعذيب أهل مكّة لهم، وتذكيرهم بما جرى من التعذيب لمن آمن قبلهم وقد اقتضى هذا إنذار من يعذّبهم، فسارت به هذه السورة في سياق الإنذار كالسورة التي قبلها وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها.
تثبيت المؤمنين على إيذاء المشركين الآيات [1- 22]
قال الله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) فأقسم بهذا على قتل أصحاب الأخدود من الأوّلين، وهم الذين حفروا أخاديد ووضعوا فيها
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/171)
نارا وألقوا فيها من آمن منهم ثمّ ذكر سبحانه أن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات من كفّار قريش، كما فتن هؤلاء من آمن منهم لهم عذاب جهنّم، وأن المؤمنين لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثم ذكّر جلّ وعلا أن بطشه شديد، إلى غير هذا مما ذكره من صفات نقمته ورحمته بعد ما ذكّر من عقابه وثوابه، ثم ذكّر النبي (ص) بما فعله بفرعون وثمود، وذكر أن هؤلاء المشركين مع هذا مستمرون في تكذيبهم، وهدّدهم بأنه محيط بهم، وذكّر أن ما أنذرهم به من ذلك إنّما هو قرآن مجيد: فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) .(11/172)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورتي «البروج» و «الطارق» «1»
أقول: هما متآخيتان فقرنتا، وقدمت الأولى لطولها، وذكرتا بعد الانشقاق للمؤاخاة في الافتتاح بذكر السماء، ولهذا ورد في الحديث ذكر السموات مرادا بها السور الأربع «2» كما قيل المسبّحات.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.
(2) . أخرجه الامام أحمد في المسند 2/ 327 عن أبي هريرة ان النبي (ص) أمر أن يقرأ بالسموات في العشاء. يعني:
السور الأربع المفتتحة بذكر السماء.(11/173)
المبحث الرابع مكنونات سورة «البروج» «1»
أخرج ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا:
1- وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) : يوم القيامة.
2- وَشاهِدٍ [الآية 3] : يوم الجمعة.
3- وَمَشْهُودٍ يوم عرفة.
وقال النّخعي: الشاهد يوم النحر.
وقال مجاهد: الشاهد: آدم (ع) .
وقال الحسن والحسين رضي الله عنهما. الشاهد: محمد (ص) .
أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
وأخرج ابن جرير. عن عكرمة قال:
الشاهد محمد، والمشهود يوم الجمعة.
4- أَصْحابُ الْأُخْدُودِ [الآية 4] .
أخرج ابن أبي حاتم من طريق قتادة، قال: كنّا نحدّث أنّ عليا قال: هم أناس كانوا بمدارع اليمن.
وأخرج من طريق الحسن عنه قال:
هم الحبشة «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . انظر قصّة أصحاب الأخدود في «صحيح مسلم» كتاب الزهد، باب قصة أصحاب الأخدود والسامر والراهب.
و «سنن التّرمذي» في التفسير، حديث رقم: (3337) .
وجاء في «الإتقان» 2/ 150 أن أصحاب الأخدود: ذو نواس، وزرعة بن أسد الحميري وأصحابه.(11/175)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «البروج» «1»
موضع قسمها، والله أعلم، على:
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) بإضمار اللام كما قال: وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) [الشمس] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) [الشمس] أي: إن شاء الله «لقد أفلح من زكّاها» بإلقاء اللّام. وإن شئت على التقديم، كأنّ السياق: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) .
وأما قوله تعالى: النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) فعلى البدل.
وقال تعالى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) ف الْمَجِيدُ (15) جر كذلك على (العرش) «2» والرفع على قوله ذُو «3» وكذلك مَحْفُوظٍ (22) جر على (اللّوح) «4» ورفع على
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نسبت في معاني القرآن 3/ 254 إلى يحيى وأصحابه، وفي الطبري 30/ 913 إلى عامّة قرّاء الكوفة، وفي الكشف 2/ 369، والتيسير 221 إلى حمزة والكسائي، وفي السبعة 678 زاد عاصما وفي الجامع 9/ 296 إلى الكوفيّين عدا عاصما، وفي البحر 8/ 452 إلى الحسن وعمرو بن عبيد وابن وثاب والأعمش والمفضّل عن عاصم والأخوين.
(3) . في الطبري 30/ 139 إلى عامّة قرّاء المدينة ومكّة والبصرة وبعض الكوفيّين، وفي الكشف 2/ 369، والتيسير 221 إلى غير حمزة والكسائي، وفي الجامع 19/ 296 إلى عاصم وغيره مما عدا الكوفيّين، وفي السبعة 678 إلى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم.
(4) . نسبت في السبعة 678، وحجة ابن خالويه 340، والكشف 2/ 369، والجامع 19/ 299 إلى غير نافع، وفي البحر 8/ 452 إلى الجمهور، وفي الطبري 30/ 140 الى ابي جعفر القارئ وابن كثير من أهل الحجاز وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي من أهل الكوفة.(11/177)
(القرآن) «1» وأما الْوَقُودِ (5) فالحطب و «الوقود» الفعل وهو الاتّقاد» .
__________
(1) . نسبت في معاني القرآن 3/ 254 إلى شيبة وأبي جعفر، وفي الطبري 30/ 140 إلى ابن محيصن ونافع، وفي السبعة 678، وحجّة ابن خالويه 340، والكشف 2/ 369، والجامع 19/ 299 إلى نافع، وفي البحر 8/ 453 إلى الأعرج وزيد بن علي وابن محيصن ونافع بخلاف عنه.(11/178)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «البروج» «1»
إن قيل: أين جواب القسم؟
قلنا: فيه وجوه: أحدها أنه متروك.
الثاني: أنه قوله تعالى: قُتِلَ [الآية 4] أي لقد قتل: أي لعن. الثالث: أنه قوله تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) . الرابع: أنه محذوف تقديره: لتبعثنّ أو نحوه. الخامس: أنه قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا [الآية 10] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/179)
سورة الطّارق 86(11/181)
المبحث الأول أهداف سورة «الطارق» «1»
سورة الطارق سورة مكية، آياتها 17 آية، نزلت بعد سورة البلد.
وهي سورة تشترك في خصائص سور هذا الجزء، التي تمثل طرقات متوالية على الحس، طرقات عنيفة قويّة عالية، وصيحات بقوم غارقين في النوم، تتوالى على حسّهم تلك الطرقات تناديهم: تيقظوا، تنبّهوا، انظروا، تفكّروا، تدبّروا: إن هناك إلها وحسابا وجزاء، وعذابا شديدا، ونعيما كبيرا.
وبين المشاهد الكونية، والحقائق الموضوعية في السورة تناسق مطلق، دقيق ملحوظ، يتّضح من استعراض السورة في سياقها القرآني الجميل.
مع آيات السورة
[الآيات 1- 4] : وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) : أي السماء ونجومها الثاقبة للظلام، النافذة من هذا الحجاب الذي يستر الأشياء.
وقد كثر في القرآن الحلف بالسماء وبالشمس وبالقمر وبالليل، لأنّ في أحوالها وأشكالها ومسيرها ومطالعها ومغاربها، سمات القدرة وآيات الإبداع والحكمة.
والطَّارِقِ: الذي يطرق ليلا، والنَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) هو النجم المضيء الذي يثقب الظلام، ويهتدى به في ظلمات البر والبحر، وهو الثريّا عند
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(11/183)
جمهرة العلماء، أو جنس الشهب التي يرجم بها الشياطين ويرى الحسن أنّ المراد كلّ كوكب، لأنّ له ضوءا ثاقبا لا محالة.
يقسم بالسماء ونجمها الثاقب، أنّ كلّ نفس عليها من أمر الله رقيب إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) وفي هذا التعبير بهذه الصيغة معنى التوكيد، ما من نفس إلّا عليها حافظ يراقبها ويحصي عليها، ويحفظ عنها، وهو موكل بها بأمر الله. وقد خصّ النفس هنا لأنها مستودع الأسرار والأفكار، وهي التي يناط بها العمل والجزاء.
[الآيات 5- 7] : فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) .
فلينظر الإنسان من أيّ شيء خلق، والى أيّ شيء صار، إنّه خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) خلق من هذا الماء الذي يجتمع من صلب الرجل، وهو عظام ظهره الفقارية، ومن ترائب المرأة وهي عظام صدرها العلويّة. ولقد كان هذا سرّا مكنونا في علم الله لا يعلمه البشر، حتّى كان القرن العشرون، حيث اطلع العلم الحديث على هذه الحقيقة بطريقته، وعرف أنه في عظام الظهر الفقارية يتكوّن ماء الرجل، وفي عظام الصدر العلويّة يتكوّن ماء المرأة، حيث يلتقيان في قرار مكين، فينشأ منهما الإنسان.
«وقد ثبت في علم الأجنّة أنّ البويضة ذات الخليّة الواحدة تصير علقة ذات خلايا عدّة، ثمّ تصير العلقة مضغة ذات خلايا أكثر عددا، ثمّ تصير المضغة جنينا صغيرا وزّعت خلاياه الى طبقات ثلاث، يخرج من كل طبقة منها مجموعة من الأنسجة المتشابهة في أوّل الأمر، فإذا تمّ نموّها كوّنت جسم الإنسان.
«وما وراء هذه اللمحة الخاطفة عن صور الرحلة الطويلة العجيبة بين الماء الدافق والإنسان الناطق، حشود لا تحصى من العجائب والغرائب، في خصائص الأجهزة والأعضاء، تشهد كلها بالتقدير والتدبير، وتشي باليد الحافظة الهادية المعينة، وتؤكّد الحقيقة الأولى التي أقسم عليها سبحانه وتعالى بالسماء والطارق، كما تمهّد للحقيقة التالية، حقيقة النشأة الآخرة التي لا يصدّقها المشركون، المخاطبون أوّل مرة بهذه السورة» .(11/184)
[الآيات 8- 10] : إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) : إنّ الذي قدر على خلق الإنسان وأنشأه ورعاه، لقادر على رجعه إلى الحياة بعد الموت، وإلى التجدّد بعد البلى فالنشأة الأولى تشهد بقدرته وحكمته، هذه النشأة البالغة الدقة والحكمة، تذهب كلّها عبثا إذا لم تكن هناك رجعة لتختبر السرائر، وتجزى جزاءها العادل.
يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) تبلى: أي تختبر وتمتحن، والمراد تظهر.
والسَّرائِرُ (9) ما يسرّ في القلوب من العقائد والنّيّات، وما خفي من الأعمال، واحدها سريرة.
وقال الأحوص:
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا سريرة ودّ يوم تبلى السرائر إنّ الله سبحانه قادر على إعادة الإنسان للحياة يوم تتكشّف السرائر، وتظهر الخفايا، ويتجرّد الإنسان من كل قوة ومن كل عون.
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) فلا يكون للإنسان قوّة ذاتيّة أو منعة من نفسه يمتنع بها، وما له من ناصر خارج ذاته ينصره ويحميه ممّا حتّم أن يقع عليه.
والخلاصة: أنّ القوة التي بها يدافع الإنسان عن نفسه، إمّا من ذاته، وقد نفاها بقوله تعالى: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ [الآية 10] ، وإمّا من غيره وقد نفاها بقوله: وَلا ناصِرٍ (10) . وبذلك يحشر الإنسان منفردا، مكشوف السرائر، متجرّدا من القوة والنصير.
[الآيات 11- 14] : يقسم الله سبحانه وتعالى بالسماء ذات المطر الذي ينزل منها، وقد كان أصله ماء الأرض فتبخّر وصعد إلى السماء، ثم رجع منها مطرا إلى الأرض، ليحييها بعد موتها ويقسم بالأرض التي تتشقّق عن النبات والعيون، يقسم بذلك على أنّ القرآن تنزيل من رب العالمين، وهو القول الفاصل بين الحق والباطل، وليس بالهزل ولا باللهو واللعب.
أخرج التّرمذي والدارمي عن عليّ كرم الله وجهه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: «إنّها ستكون فتن.
قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟
قال كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من(11/185)
جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق على كثرة الرّدّ، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي قال فيه الجن لمّا سمعوه: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الجن] .
من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن اعتصم به هدي الى صراط مستقيم» .
[الآيات 15- 17] : إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) . إنهم هؤلاء الذين خلقوا من ماء دافق، يمكرون مكرا شديدا، ويتآمرون على إطفاء نور القرآن، والله سبحانه يقابل كيدهم وتآمرهم بما يحبطه ويبطله، وشتّان ما بين عمل الإنسان وعمل الواحد الدّيّان فالمعركة ذات طرف واحد، وإن صوّرت ذات طرفين لمجرّد المشاكلة، انهم يكيدون ... وانا الله أكيد كيدا. أنا المنشئ المبدئ الهادي الحافظ الموجّه المعيد المبتلي القادر القاهر، خالق السماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع، أنا الله أكيد كيدا، وفي هذا تهديد ووعيد للكافرين، وبشارة للمؤمنين بأن الله معهم يدبّر أمرهم وإذا كان الله معنا فمن علينا؟
فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) لا تستعجل نزول العذاب بهم، ولا تستبطئ نهايتهم، بل أمهلهم قليلا، وسترى ما يحل بهم من العذاب والنكال.
وفي الآيات إيناس للنبيّ (ص) وللمؤمنين، وبعث للطمأنينة في قلوبهم، وتأكيد لهم بأنّ عناية الله ترعاهم، وأنّ كيد الكافرين ضعيف، وأنّ العاقبة للمتقين: قال تعالى:
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) [لقمان] .
مقاصد السورة
1- إثبات حفظ الله للإنسان ورعايته له.
2- إقامة الأدلّة على أنّ الله قادر على بعث الخلق كرّة أخرى.
3- أن القرآن منزل من عند الله سبحانه، وأن محمدا (ص) رسول الله.
4- تهديد الكافرين بالعذاب والنّكال.(11/186)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الطارق» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الطارق بعد سورة البلد، ونزلت سورة البلد بعد سورة ق، وكان نزول سورة ق فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة الطارق في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وتبلغ آياتها سبع عشرة آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إثبات حفظ الأعمال على كلّ نفس، وما يتبع هذا من حساب وعقاب، وبهذا توافق السورة السابقة في أنّها في سياق الإنذار أيضا، وقد ذكرت بعدها لهذه المناسبة.
إثبات حفظ الأعمال الآيات [1- 17]
قال الله تعالى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) فأقسم بهذا على أن كل نفس عليها حافظ من الملائكة يحفظ أعمالها ثمّ أمر الإنسان أن ينظر في بدء خلقه ليعرف أنّه خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) ، يعني صلب الرجل وترائب المرأة، وهي عظام الصدر والنّحر، وليعرف أيضا أنه قادر على
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/187)
رجعه ليحاسبه على أعماله ثم أقسم جلّ وعلا بالسماء ذات الرّجع أي المطر، والأرض ذات الصّدع أي الانشقاق عن النبات، أن ما أنذر به من هذا لقول فصل لا هزل فيه ثم ذكر سبحانه أنّهم يكيدون لدينه وأنه يكيد لهم كيدا: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) .(11/188)
المبحث الثالث مكنونات سورة «الطارق» «1»
1- النَّجْمُ [الآية 3] .
قيل: زحل. وقيل: الثّريّا.
حكاه ابن عسكر «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. [.....]
(2) . انظر «تفسير الطبري» 30/ 91.(11/189)
المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة «الطارق» «1»
إن قيل: أين جواب القسم؟
قلنا إِنْ كُلُّ نَفْسٍ [الآية 4] . فإن بمعنى ما. ولمّا بالتشديد بمعنى: إلا فيكون المعنى ما كل نفس إلّا عليها حافظ ولما بالتخفيف ما فيه زائدة، وإن هي المخففة من الثقيلة، فيكون المعنى إن كل نفس لعليها حافظ.
فإن قيل: ما وجه ارتباط قوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ [الآية 5] بما قبله؟
قلنا: وجهه أنه لما ذكر سبحانه أنّ على كل نفس حافظا أتبعه بوصية الإنسان بالنظر في أوّل أمره ونشأته الأولى، ليعلم أنّ من أنشأه قادر على إعادته ومجازاته، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، فلا يملى على حافظه إلّا ما يسرّه في عاقبته.
فإن قيل: ما الحكمة في الجمع بين مهّل و «أمهل» ومعناهما واحد؟
قلنا: التأكيد، وإنما خولف بين اللفظين طلبا للخفّة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/191)
المبحث الخامس المعاني المجازية في سورة «الطارق» «1»
في قوله سبحانه: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) استعارة. لأنّ الطارق هاهنا كناية عن النجم. فحقيقة الطارق: الإنسان الذي يطرق ليلا.
فلمّا كان النجم لا يظهر إلّا في حال الليل حسن أن يسمّى طارقا. وأصل الطّرق: الدقّ. ومنه المطرقة. قالوا:
وإنّما سمّي الآتي بالليل طارقا، لأنّه يأتي في وقت يحتاج فيه إلى الدّقّ أو ما يقوم مقامه للتنبيه على طروقه، والإيذان بوروده.
وفي قوله سبحانه: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) استعارة. وحقيقة هذا الماء أنه مدفوق لا دافق. ولكنه خرج على مثل قولهم: سرّ كاتم، وليل نائم. وقد مضت لهذه الآية نظائر كثيرة.
وعندي في ذلك وجه آخر، وهو أنّ هذا الماء لمّا كان في العاقبة يؤول إلى أن يخرج منه الإنسان المتصرّف، والقادر المميز، جاز أن يقوى أمره فيوصف، بصفة الفاعل لا صفة المفعول، تمييزا له عن غيره من المياه المهراقة، والمائعات المدفوقة. وهذا واضح لمن تأمّله.
وقوله سبحانه: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) استعارة.
والمراد بها صفة السماء بأنها ترجع بدرور «2» الأمطار، وتعاقب الأنواء،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . درت الأمطار درورا: هطلت.(11/193)
مرّة بعد مرة وتعطي الخير حالة بعد حالة.
وقد قيل: إنّ الرّجع الماء نفسه.
وأنشدوا للمتنخل «1» الهذلي يصف السيف:
أبيض كالرّجع رسوب إذا ما ثاخ في محتفل يختلي والمراد بالأرض ذات الصّدع: انصداعها عن النبات، وتشقّقها عن الأعشاب وأنشد صاحب «العين» «2» لبعض العرب:
وجاءت سلتم لا رجع فيها ولا صدع فتحتلب الرّعاء فالرجع: المطر والصّدع: العشب، والسّلتم: السنة المجدبة.
__________
(1) . هو مالك بن عويمر الهذلي، من أشهر شعراء بني هذيل. والبيت في «ديوان الهذليين» ج 2 ص 120 والرجع الغدير فيه ماء المطر. وثاخ مثل ساخ: أي غاب. والمحتفل: معظم الشيء ويختلي: يقطع. والرسوب: الذي إذا وقع غمض مكانه لسرعة قطعه.
(2) . هو الخليل بن أحمد الفراهيدي إمام اللغة والأدب وواضع علم العروض، وكان أستاذا لسيبويه النحوي المشهور، ولد في البصرة ومات بها سنة 170 هـ. وعاش حياته فقيرا صابرا. قال فيه النضر بن شميل: ما رأى الراؤون مثل الخليل، ولا رأى الخليل مثل نفسه. واشتهر بكتاب «العين» في اللغة.(11/194)
سورة الأعلى 87(11/195)
المبحث الأول أهداف سورة «الأعلى» «1»
سورة الأعلى سورة مكّيّة، آياتها 19 آية، نزلت بعد سورة التكوير. وهي أنشودة سماوية فيها تسبيح بحمد الله، وبيان دلائل قدرته، وإثبات الوحي الإلهي، وتقرير الجزاء في الآخرة، وبيان الوحدة بين الرسالات السماوية، واشتمال الرسالة المحمدية على اليسر والسماحة، وكل واحدة من هذه تحتها موحيات شتّى، ووراءها مجالات بعيدة المدى.
وفي صحيح مسلم: أنّ رسول الله (ص) كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) ، وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) [الغاشية] ، وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما. وفي رواية للإمام أحمد عن الإمام علي كرم الله وجهه: «أن رسول الله (ص) كان يحبّ هذه السورة، سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) .
مع آيات السورة
[الآيات 1- 5] : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) .
التسبيح هو التمجيد والتنزيه، واستحضار معاني الصّفات الحسنى لله، والحياة بين إشعاعاتها وفيوضها، وإشراقاتها ومذاقاتها الوجدانية بالقلب والشعور.
يقول الامام محمد عبده: «واسم الله
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(11/197)
هو ما يمكن لأذهاننا أن تتوجّه إليه به، والله يأمرنا بتسبيح هذا الاسم، أي تنزيهه عن أن يكون فيه ما لا يليق به من شبه المخلوقات أو ظهوره في واحد منها بعينه، أو اتّخاذه شريكا أو ولدا أو ما ينحو هذا النحو، فلا نوجه عقولنا إليه إلّا بأنه خالق كل شيء، المحيط علمه بدقائق الموجودات» .
والخطاب في السورة موجّه إلى رسول الله (ص) ، وفيه من التلطّف والإيناس ما يجلّ عن التعبير، وقد كان (ص) ينفّذ هذا الأمر فور صدوره.
وحينما نزل قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) [الواقعة] قال النبي (ص) : اجعلوها في ركوعكم، أي قولوا في الركوع: سبحان ربي العظيم، ولما نزل قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) قال النبي (ص) :
اجعلوها في سجودكم، أي قولوا في السجود: سبحان ربي الأعلى.
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) الذي خلق كلّ شيء فسوّاه وأكمل صنعته، وبلغ به غاية الكمال الذي يناسبه بلا تفاوت ولا اضطراب، كما تراه يظهر لك من خلق السماوات والأرض.
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) أي قدّر لكلّ حيّ ما يصلحه مدة بقائه، وهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع بما فيه منفعة له، ووجه الهرب بما يخشى غائلته.
«وكلّ شيء في الوجود سويّ في صنعته، كامل في خلقته، معدّ لأداء وظيفته، مقدّر له غاية وجوده، وهو ميسّر لتحقيق هذه الغاية من أيسر طريق. والأشياء جميعها مجتمعة كاملة التنسيق، ميسّرة لكي تؤدّي في تجمّعها دورها الجماعي، مثلما هي ميسّرة فرادى لكي تؤدّي دورها الفردي» .
جاء في كتاب «العلم يدعو إلى الايمان» ما يأتي: «إنّ الطيور لها غريزة العودة إلى الوطن، فعصفور الهزار الذي عشّش ببابك يهاجر جنوبا في الخريف، ولكنّه يعود إلى عشّه في الربيع التالي، وفي شهر سبتمبر تطير أسراب من معظم الطيور إلى الجنوب، وقد تقطع في الغالب نحو ألف ميل فوق أرض البحار، ولكنّها لا تضل طريقها والنحلة تجد خليّتها مهما طمست الريح في هبوبها على الأعشاب والأشجار كل دليل يرى وأنت إذا تركت حصانك العجوز وحده فإنه يلزم الطريق مهما اشتدت ظلمة الليل، وهو يقدر أن يرى ولو في غير وضوح(11/198)
والبومة تستطيع أن ترى الفأر الدافئ اللطيف، وهو يجري على العشب البارد مهما تكن ظلمة الليل، ونحن نقلب الليل نهارا بإحداث إشعاع في تلك المجموعة التي نسمّيها الضوء» .
«والكلب بما أوتي من أنف فضولي، يستطيع أن يحس الحيوان الذي مرّ» .
«وسمك (السلمون) يمضي سنوات في البحر، ثم يعود إلى نهره الخاص به، والأكثر من ذلك أنّه يصعد إلى جانب النهر الذي يصبّ عنده النّهير الذي ولد فيه. فما الذي يجعل السمك يرجع الى مكان مولده بهذا التحديد؟» .
إنه الله الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) .
وقد سجل البشر كثيرا من إبداع الخلقة، في عوالم النبات والحشرات والطيور والحيوان، في هذا الوجود المشهود الذي لا نعرف عنه إلا أقلّ القليل، ووراءه عالم الغيب بما فيه من كمال وجلال فسبحان الله الخلاق العظيم.
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) والمرعى كلّ نبات، وما من نبات إلّا وهو صالح لخلق من خلق الله. فهو هنا أشمل ممّا نعهده من مرعى أنعامنا، فالله خلق هذه الأرض، وقدّر فيها أقواتها لكلّ حيّ يدب فوق ظهرها أو يختبئ في جوفها، أو يطير في جوّها، والنبات يتحايل على استخدام وكلاء لمواصلة وجوده، دونما رغبة من جانبهم، كالحشرات التي تحمل اللّقاح من زهرة الى أخرى، والرياح، وكل شيء يطير أو يمشي، ليوزّع بدوره.
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) والغثاء هو الهشيم، أو الهالك البالي، والأحوى:
الذي يميل لونه إلى السواد، فهو سبحانه قد أحكم كل شيء خلقه، ما يبقى وما يفنى.
«فنحن مأمورون أن نعرف الله جل شأنه، بأنه القادر العالم الحكيم، الذي شهدت بصفاته هذه آثاره في خلقه، التي ذكرها في وصف نفسه بقوله:
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) إلخ، وأن لا ندخل في هذه الصفات معنى ممّا لا يليق به، كما أدخل الملحدون الذين اتّخذوا من دونه شركاء أو عرفوه بما يشبه به خلقه وإنّما توجّه إلينا الأمر بتسبيح الاسم، دون تسبيح الذات، ليرشدنا الى أن مبلغ جهدنا، ومنتهى ما تصل إليه عقولنا، أن نعرف الصفات(11/199)
بما يدلّ عليها أمّا الذات فهي أعلى وأرفع من أن تتوجّه عقولنا إليها إلّا بما نلحظ من هذه الصفات التي تقوم عليها الدلائل، وترشد إليها الآيات، ولهذا أمرنا بتسبيح اسمه تكليفا لنا بما يسعه طوقنا، والله أعلم» .
[الآيتان 6 و 7] : سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ سننزل عليك كتابا تقرأه، ولا تنسى منه شيئا بعد نزوله عليك.
وهي بشرى للنبي (ص) ، تريحه وتطمئنه على هذا القرآن العظيم الجميل الحبيب إلى قلبه، الذي كان يندفع بعاطفة الحبّ له، وبشعور الحرص عليه، وبإحساس التبعة العظمى فيه، إلى ترديده آية آية وراء جبريل، وتحريك لسانه به خيفة أن ينسى حرفا منه، حتّى جاءته هذه البشائر المطمئنة بأنّ ربّه سيتكفّل بهذا الأمر عنه. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الآية 7] أن تنساه بنسخ تلاوته وحكمه، أما ما لا ينسخ فإنّه محفوظ في قلبك.
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وكأنّ هذا تعليل لما مرّ في هذا المقطع من الإقرار والحفظ والاستثناء، فكلّها ترجع إلى حكمة يعلمها من يعلم الجهر وما يخفى، ويطّلع على الأمر من جوانبه جميعا، فيقرّر فيها ما تقتضيه حكمته، المستندة إلى علمه بأطراف الأمر جميعا.
[الآية 8] : وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) أي نوفّقك للشريعة السمحة التي يسهل على النفوس قبولها، ولا يصعب على العقول فهمها.
يسر الشريعة الإسلامية
يسّر الله سبحانه القرآن للقراءة وللعمل بأحكامه، ويسّر الشريعة، ويسّر الأحكام وجعلها في طاقة الناس، ولا حرج فيها ولا عنت، قال تعالى:
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) [القمر] . وقال سبحانه: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج/ 78] . وقال تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة/ 6] . وقال تعالى:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة/ 286] .
وكان النبيّ (ص) سهلا سمحا مؤلّفا محبّبا، وما خيّر بين أمرين إلّا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فكان أبعد الناس عنه، وكان سلوك النبي (ص)(11/200)
وهديه يعبّران عن اختيار اليسر، وقلة التكلف في اللباس والطعام والفراش وكل أمور الحياة، فكان (ص) يلبس لكل موطن ما يناسبه، فلبس العمامة والقلنسوة في السلم، ولبس المغفر وغطى رأسه ووجهه بحلقات الحديد في الحرب. جاء في «زاد المعاد» لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن قيم الجوزيه عن هديه (ص) في ملابسه: «والصواب أنّ أفضل الطرق طريق رسول الله (ص) ، التي سنها وأمر بها ورغب فيها وداوم عليها، وهي أنّ هديه في اللباس أن يلبس ما تيسّر من اللباس من الصوف تارة، والقطن تارة، والكتّان تارة، ولبس البرود اليمانية والبرد الأخضر، ولبس الجبة والقباء، والقميص والسراويل، والإزار والرداء، والخف والنعل، وأرخى الذؤابة من خلفه تارة وتركها تارة ... إلخ» .
وقال عن هديه (ص) في نومه وانتباهه: «كان ينام على فراشه تارة، وعلى النطع «1» تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة، وعلى السرير تارة بين رماله، وتارة على كساء أسود» .
وقال في هديه في الطعام: «وكذلك كان هديه (ص) وسيرته في الطعام، لا يردّ موجودا، ولا يتكلّف مفقودا، فما قرّب إليه شيء من الطيّبات إلّا أكله، وما عاب طعاما قط: إن اشتهاه أكله، وإلّا تركه.
فقد أكل الحلوى والعسل- وكان يحبّهما- وأكل الرّطب والتمر، وأكل الثريد بالسمن وأكل الجبن، وأكل الخبز بالزيت، وأكل البطيخ بالرطب، وأكل التمر بالزبد- وكان يحبه-، ولم يكن يردّ طيّبا ولا يتكلّفه، بل كان هديه أكل ما تيسّر، فإن أعوزه صبر ...
إلخ» .
والأحاديث النبوية التي تحضّ على اليسر والسماحة، والرفق في تناول الأمور كثيرة جدا يصعب تقصيها، منها قوله (ص) : «إنّ هذا الدين يسر، ولن يشادّ الدين أحد إلّا غلبه» ، أخرجه البخاري. «لا تشدّدوا على أنفسكم فيشدّد عليكم فإن قوما شدّدوا على أنفسهم فشدّد عليهم» أخرجه أبو داود.
__________
(1) . النطع: البساط.
.(11/201)
«إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإنّ المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» أخرجه البخاري. وفي التعامل يقول (ص) : «رحم الله رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى وإذا اقتضى» أخرجه البخاري. «المؤمن يألف ويؤلف» ، أخرجه الدارقطني. «إن أبغض الرجال الى الله الألدّ الخصم» ، أخرجه الشيخان.
وسيرة الرسول (ص) كلّها صفحات من السماحة واليسر، والهوادة واللين، والتوفيق إلى اليسر في تناول الأمور جميعا.
«اختلف معه أعرابيّ، فأخذ النبيّ الأعرابيّ إلى بيته وزاده في العطاء حتّى رضي، وأعلن عن رضاه أمام الصحابة أجمعين» .
ولقد كان النبيّ كريم النفس، ميسّرا لحمل الرسالة في أمانة ويسر، ومودّة ورحمة، وعطف على الناس وحكمة، قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) [الأنبياء] وقال سبحانه:
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) [التوبة] .
وكان عليه الصلاة والسلام رحمة مهداة، فقد حارب لصدّ العدوان، وتبليغ الدعوة، ومنع الاضطهاد والفتنة عن الضعفاء والمستضعفين ومع ذلك كان آية في الإنسانية، فكان ينهى عن قتل النساء والأطفال، وينهى عن الغدر والخيانة، ويحثّ على الوفاء بالعهد في السلم والحرب، ولا عجب فقد جمع المكارم والمحامد، وصدق الله العظيم إذ قال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) [القلم] .
[الآية 9] : فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) لقد يسّره الله لليسرى، لينهض بالأمانة الكبرى، ليذكّر الناس فلهذا أعدّ، ولهذا بشّر، فذكّر حيثما وجدت فرصة للتذكير، ومنفذا للقلوب ووسيلة للبلاغ.
قال النيسابوري في تفسير الآية: إن تذكير العالم واجب في أوّل الأمر، وأمّا التكرير فالضابط فيه هو العرف، فلعلّه إنّما يجب عند رجاء حصول المقصود، فلهذا أردف بالشرط حيث قال تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) .
وقال الإمام محمد عبده: «وليس الشرط قيدا في الأمر فقد أجمع أهل الدين- سلفهم وخلفهم- على أنّ(11/202)
الأمر بالتذكير عامّ، نفعت الذكرى أم لم تنفع، وعمله (ص) شاهد على ذلك» .
[الآية 10] : سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) ، ذلك الذي يستشعر قلبه التقوى فيخشى غضب الله وعذابه، فإذا ذكّر ذكر، وإذا بصّر أبصر، وإذا وعظ اعتبر.
[الآيتان 11 و 12] : وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) أي ويبتعد عن هذه التذكرة، المعاند المصرّ على الجحود عنادا واستكبارا، حتى مات قلبه وشقيت روحه، فسيلقى النار الكبرى، وهي نار جهنم، وهي كبرى إذا قيست بنار الدنيا، أي هي كبرى لشدّتها ومدّتها وضخامتها، حيث يمتد بقاؤه فيها، فلا هو ميت يجد طعم الراحة، ولا هو حي فيحيا حياة السعادة. تقول العرب: لمن ابتلي بمرض أقعده: لا هو حيّ فيرجى، ولا ميت فينعى.
[الآيتان 14 و 15] : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) ، قد أدرك الفلاح من تطهّر من كلّ رجس ودنس، وأيقن بالحقّ وسعد بالإيمان، فهو في فلاح وسعادة بذكره اسم الله، وبصلاته وخشوعه لله، واعتماده عليه فهو في فلاح في الدنيا لأنّه عاش موصولا بالله، مؤدّيا للصلاة، مراقبا مولاه، وهو في فلاح في الآخرة، بنجاته من النار الكبرى، وفوزه بالنعيم والرضا.
[الآيتان 16 و 17] : بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) ، بل أنتم، لقصر أنظاركم، تؤثرون الفانية على الباقية. والحال أنّ الآخرة أفضل من الدنيا في نوعها، وأبقى في أمدها، ولو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لوجب إيثار ما يبقى على ما يفنى فكيف الحال والدنيا من خزف يفنى، والآخرة من ذهب يبقى.
[الآيتان 18 و 19] : إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) ، أصول هذه الشريعة العادلة، وقواعد المؤاخذة والحساب، وما ورد في هذه السورة من أصول العقيدة الكبرى، هو الذي في الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى، فدين الله واحد، وإنّما تتعدّد صوره ومظاهره.
ومجمل ذلك أنّ الرسول (ص) ما(11/203)
جاء إلّا مذكّرا بما نسيته الأجيال من شرائع المرسلين، وداعيا إلى وجهها الصحيح، الذي أفسده كرّ الغداة ومرّ العشيّ، كما طمس معالمه اتّباع الأهواء، واقتفاء سنن الآباء والأجداد.
مقاصد سورة الأعلى
1- تسبيح الله وتنزيهه وبيان قدرته.
2- وعد الرسول بحفظ القرآن وعدم نسيانه. 3- وعده بالتوفيق الى الطريقة السهلة الميسرة في الدعوة.
4- تكليفه أن يذكر الناس.
5- الناس صنفان امام الدعوة:
(أ) مستجيب ناج.
(ب) ومعرض هالك.
6- قواعد العدل وأصول الشريعة متشابهة في القرآن وفي الكتب السماوية السابقة.(11/204)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأعلى» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الأعلى بعد سورة التكوير، وكان نزول سورة التكوير فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة الأعلى في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) وتبلغ آياتها تسع عشرة آية.
الغرض منها وترتيبها
نزلت هذه السورة في أوائل ما نزل من السّور بمكة، والغرض منها بيان منهاج الدعوة، ليرغّب الناس في الإيمان بها ويحذّرهم من مخالفتها، فسلكت بهذا مسلك الإنذار والترغيب والترهيب كما سلكته السورة السابقة، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها.
منهاج الدعوة الآيات [1- 19]
قال الله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) فأجمل منهاج الدعوة في ثلاثة أمور: تنزيهه عمّا لا يليق به من الشرك ونحوه، وإنزال القرآن ليكون أصلا لتلك الدعوة، والهداية للشريعة اليسرى الصالحة للناس جميعا. ثمّ أمر النبي (ص) أن يعظ بهذا من تنفعه العظة، وذكر أنّه سيتّعظ بها من يخشاه، ويتجنّبها الأشقى الذي يصلى
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/205)
النار الكبرى، ثمّ ذكر أن من يعرض عنها يؤثر الحياة الدنيا عليها مع أن الآخرة خير وأبقى، وأن ما ذكره من هذا موجود في الصحف الأولى:
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) .(11/206)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الأعلى» «1»
أقول: في سورة الطارق ذكر خلق النبات والإنسان في قوله تعالى:
وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) ، وقوله:
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) إلى إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) . وذكره في هذه السورة في قوله سبحانه: خَلَقَ فَسَوَّى (2) . وقوله في النبات: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) .
وقصة النبات في هذه السورة أبسط، كما أنّ قصة الإنسان هناك أبسط.
نعم، ما في هذه السورة أعمّ، من جهة شموله للإنسان وسائر المخلوقات.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.(11/207)
المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة «الأعلى» «1»
إن قيل: لم قال الله تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) مع أنه كان (ص) مأمورا بالذكرى، نفعت أو لم تنفع؟
قلنا: معناه إذ نفعت. وقيل: معناه قد نفعت. وقيل: إن نفعت وإن لم تنفع، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. وذكر الماوردي أنّها بمعنى «ما» ، وكأنه أراد معنى ما الظرفية و «إن» بمعنى «ما» الظرفية ليس بمعروف. وإن قيل: لم قال الله تعالى: لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) . مع أن الحيوان لا يخلو عن الاتصاف بأحد هذين الوصفين؟
قلنا: معناه لا يموت موتا يستريح به، ولا يحيا حياة ينتفع بها. وقال ابن جرير رحمة الله تعالى عليه: تصعد نفسه إلى حلقومه ثم لا تفارقه فيموت، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/209)
سورة الغاشية 88(11/211)
المبحث الأول أهداف سورة «الغاشية» «1»
سورة «الغاشية» سورة مكّيّة، وآياتها 26 آية نزلت بعد سورة الذاريات، وهي سورة قصيرة الآيات، متناسقة الفواصل، تطوف بالقلب البشري أمام الآخرة وأحوالها، فأصحاب الجحيم يلقون أشدّ ألوان الألم والعذاب، وأهل الجنة يتمتّعون بألوان النعيم، وصنوف التكريم، ثم تعرض أمام الناظرين مشاهد الكون، وآيات الله المبثوثة في خلائقه، المعروضة للجميع.
ثم تذكّر الناس بحساب الآخرة، وسيطرة الله، وحتمية الرجوع إليه في نهاية المطاف، ذلك كله بأسلوب عميق الإيقاع، هادئ، ولكنه نافذ رصين، ولكنه رهيب.
مع آيات السورة
[الآية 1] : الغاشية هي الداهية التي تغشى الناس بشدائدها، وتغمرهم بأهوالها، والمراد منها هنا يوم القيامة، وقد سبق في هذا الجزء وصف القيامة بالطّامة والصّاخّة، وسيأتي وصفها بالقارعة، بما يناسب طبيعة التذكير والتهديد للمعاندين. والاستفهام هنا لتعظيم الأمر وتقريره، أي هل سمعت قصة يوم القيامة وما يقع فيه؟
وعن عمر بن ميمون، قال: مر النبي (ص) على امرأة تقرأ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) فقام يستمع ويقول: «نعم قد جاءني» .
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(11/213)
والخطاب مع ذلك عام لكل من يسمع القرآن.
[الآيات 2- 7] : إن وجوه الكفّار في هذا اليوم تكون ذليلة، لما يظهر عليها من الحزن والكآبة، وسوف يلقون تعبا وإرهاقا في النار، بسبب أعمالهم السيّئة، وسيدخلون النار المتأجّجة التي تلتهمهم، وإذا عطشوا من شدة حرّها، وطلبوا ما يطفئ ظمأهم، سقوا مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ: أي من ينبوع شديد الحرارة، وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) [الكهف] . وليس لهم طعام في النار إلّا من ضريع، والضريع: شجر ذو شوك لائط بالأرض، فإذا كان رطبا سمّي بالشّبرق، وإذا جني صار اسمه الضريع. ولم تستطع الإبل مذاقه فهو عندئذ سامّ، والأكل منه لون من ألوان العذاب الشديد، يضاف الى ذلك الغسلين والغسّاق، وباقي الألوان التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
[الآيات 8- 11] : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) . هنا وجوه يبدو عليها النعيم، ويفيض منها الرضى، وجوه تنعم بما تجد، وتشعر بالرضى عن عملها، حينما ترى رضى الله عنها، وهذا النعيم في جنة عالية المقام، مرتفعة على غيرها من الأماكن، لأنّ الجنّة منازل ودرجات بعضها أعلى من بعض، كما أن النّار دركات بعضها أسفل من بعض.
لا يسمع أهل الجنة لغوا ولا باطلا، وإنّما يعيشون في جو من السكون والهدوء، والسلام والاطمئنان، والودّ والرضى، والنجاء والسمر بين الأحبّاء، والتنزّه والارتفاع عن كل كلمة لاغية، لا خير فيها ولا عافية، وهذه وحدها نعيم وسعادة وتوحي الجملة بأن المؤمنين في الأرض حينما ينأوون عن اللغو والباطل، إنّما ينعمون بطرف من حياة الجنة، ويتشبّهون بأهلها.
[الآية 12] : فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) ، والعين الجارية: الينبوع المتدفّق، والمياه الجارية متعة للنفس وللنظر، وقد افتخر بمثلها فرعون فقال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) [الزخرف] .
[الآية 13] : فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وفيها سرر عالية المكان والمقدار،(11/214)
ليرى المؤمن وهو عليها ما خوّله الله من النعم.
[الآية 14] : وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) مصفوفة مهيّأة للشرب، لا تحتاج الى طلب ولا إعداد.
[الآية 15] : وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) .
والنمارق الوسائد والحشايا، قد صفّت بعضها الى بعض، للاتّكاء في ارتياح.
[الآية 16] : وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) و (الزرابيّ) البسط (أي السّجاجيد) (مبثوثة) أي مبسوطة أو مفرقة هنا وهناك، كما تراه في بيوت أهل النعمة. ذلك كلّه لتصوير النعمة والرفاهية واللذة، وتقريبها لتصوّر الناس في الدنيا، وإلّا فنعيم تلك الدار نعيم لا يشبهه في هذه الدار نعيم، فمتاع الدنيا قليل، ومتاع الآخرة لا شبيه له ولا مثيل، وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) [الزخرف] .
فيها النعيم والرضى فيها السرور بالنجاة، والأنس برضوان الله فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. [الآية 17] : أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ
(17) .
يلفت القرآن الأنظار الى دلائل قدرة الله سبحانه، وبديع صنعته، فلينظر الإنسان إلى الجمال كيف خلقت؟
وليتدبّر كيف وجدت على هذا النحو المناسب لوظيفتها، المحقّق لغاية خلقها، المتناسق مع بيئتها ووظيفتها جميعا. إنّ الناس لم يخلقوها، وهي لم تخلق نفسها، فلا يبقى إلّا أن تكون من إبداع المتفرّد بصنعته، التي تدل عليه وتقطع بوجوده، كما تشي بتدبيره وتقديره.
[الآية 18] : وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) أفلا ينظرون إليها كيف رفعت؟ من ذا رفعها بلا عمد، ونثر فيها النجوم بلا عدد، وجعل فيها هذه البهجة وهذا الجمال؟
[الآية 19] : وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) والجبل ملجأ وملاذ، وأنيس وصاحب، ومشهد يوحي إلى النفس الإنسانية جلالا واستهوالا، حيث يتضاءل الإنسان إلى جواره ويستكين، ويخشع للجلال السّامق الرّزين، «ونصب الجبال إقامتها علما للسّائر، وملجأ من الجائر، وهي في(11/215)
الأغلب نزهة للناظر» ، وأمان وحفظ لتوازن الأرض، قال تعالى: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [الأنبياء/ 31] وقال سبحانه: وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) [النبأ] أي وسيلة لحفظ نظام الأرض من الزلازل والبراكين وغيرها.
[الآية 20] : وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) والأرض مسطوحة أمام النظر، ممهّدة للحياة والسير والعمل، والناس لم يسطحوها كذلك، فقد سطحت قبل أن يكونوا هم، أفلا ينظرون إليها؟ ويتدبّرون ما وراءها، ويسألون من سطحها ومهّدها هكذا للحياة تمهيدا؟
«وقد أيقظ القرآن الحس، ولفت النظر، إلى مشهد كلّي يضم منظر السماء المرفوعة، والأرض المبسوطة، وفي هذا المدى المتطاول تبرز الجبال منصوبة السّنان، لا رأسية ولا ملقاة، وتبرز الجمال منصوبة السّنام: خطّان أفقيان، وخطان رأسيّان، في المشهد الهائل، في المساحة الشاسعة، وهي لوحة متناسقة الأبعاد والاتّجاهات، على طريقة القرآن في عرض المشاهد، وفي التعبير بالتصوير على وجه الإجمال» . والآن بعد الجولة الأولى في عالم الآخرة، والجولة الثانية في مشاهد الكون المعروضة، يخاطب القرآن النبيّ الكريم، بقول الله تعالى:
[الآيات 21- 24] : فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) .
فعظهم يا محمّد بآيات القرآن، وذكّرهم بالدعوة إلى الإله الواحد القهّار فالإنسان بفطرته ميسّر للإذعان بقدرة الله جلّ جلاله وبديع صنعته وإنّما قد تتحكّم الغفلات، فتحتاج النفوس إلى مذكّر يردّها إلى الحقّ والصواب.
إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) أي إنما بعثت للتذكير فحسب، وليس عليك هداهم إن عليك إلا البلاغ، وتبليغ الدعوة وترك الناس أحرارا في اعتقادهم، فلا إكراه في الدين، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) والمسيطر:
المتسلّط، فأنت لا تجبرهم على الايمان. قال تعالى: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) [ق] .
فمن تولّى عن الحق، وكفر بآيات(11/216)
الله، وأنكر الدعوة، فإنّ حسابه، إلى الله المطّلع على القلوب، وصاحب السلطان على السرائر، وسوف يعذّبه الله العذاب الأكبر في الآخرة، وقد يضمّ إلى عذاب الآخرة عذاب الدنيا.
[الآيتان 25 و 26] : إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) وتختم السورة بهذا الإيقاع المناسب، لتؤكّد دور الرسول في البلاغ. أمّا الجزاء والحساب فسيكون في يوم الدين، يوم يقوم النّاس لربّ العالمين، إن إلينا إيابهم ورجوعهم، ثمّ إنّ علينا وحدنا حسابهم وجزاءهم، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) [آل عمران] . قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) [الأنبياء] .
مقاصد السورة
1- وصف أهل النار وأهل الجنة.
2- وصف مشاهد الكون وبدائع الصنعة الإلهية.
3- تحديد مهمّة الرسول (ص) بالبلاغ والدعوة إلى الهداية.(11/217)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الغاشية» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الغاشية بعد سورة الذاريات، ونزلت سورة الذاريات بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة الغاشية في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) ، وتبلغ آياتها ستا وعشرين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة تفصيل الثواب والعقاب في يوم القيامة، وهذا هو سياق الإنذار والترهيب والترغيب، وبهذا تشبه هذه السورة سورة الأعلى في سياقها، وتكون هناك مناسبة في ذكرها بعدها.
تفصيل الثواب والعقاب الآيات [1- 26]
قال الله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) فسأل سؤال تهويل عما يكون في يوم القيامة، وأجاب عنه بأنه يكون فيها وجوه خاشعة عاملة ناصبة، تصلى نارا حامية إلخ إلخ ووجوه ناعمة، لسعيها راضية، في جنة عالية إلخ ثمّ أمرهم سبحانه أن ينظروا كيف خلق الإبل ورفع السماء، إلى غير هذا مما ذكره ليستدل به على قدرته على بعثهم،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/219)
ليلقوا ما ذكره من عقابهم وثوابهم ثمّ أمر النبي (ص) أن يقتصر على تذكيرهم بهذا، ولا يهمّه أن يؤمنوا أو يكفروا لأنه ليس بمسيطر عليهم، ولكن من كفر منهم فيعذّبهم العذاب الأكبر: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) .(11/220)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الغاشية» «1»
أقول: لما أشار سبحانه في سورة الأعلى بقوله تعالى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) إلى قوله: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) ، إلى المؤمن والكافر، والنار والجنة إجمالا، فصّل ذلك في هذه السّورة، فبسط صفة النار والجنة مستندة إلى أهل كلّ منهما، على نمط ما هنالك، ولذا قال هنا: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) ، في مقابل: َْشْقَى
(11) هناك وقال هنا: تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) إلى: لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) ، في مقابل: يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) هناك. ولما قال هناك في الآخرة:
خَيْرٌ وَأَبْقى (17) وبسط هنا صفة الجنة أكثر مما بسط صفة النار، تحقيقا لمعنى الخيرية.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. [.....](11/221)
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الغاشية» «1»
قال تعالى: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) .
والضّريع: نبات أخضر منتن. أقول: وما زال القرويّون في العراق يصفون طعامهم كالتمر والسمك بأنه «مضرّع» أي: منتن فاسد.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(11/223)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الغاشية» «1»
واحد «نمارق» في الآية 15:
النمرقة.
وقال تعالى: لاغِيَةً/ 11 [الآية 11] أي:
لا تسمع كلمة لغو، وجعلها (لاغية) .
والحجة في هذا أنّك تقول: «فارس» لصاحب الفرس، و «دارع» لصاحب الدّرع، و «شاعر» لصاحب الشّعر. وقال الشاعر «2» [من مجزوء الكامل وهو الشاهد الثامن والسبعون بعد المائتين] :
أغررتني وزعمت أنّك ... لابن بالصّيف تامر «3»
أي: صاحب لبن، وصاحب تمر.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . هو الحطيئة. ديوانه 168، والكتاب وتحصيل عين الذهب 2/ 90، وإعراب القرآن 3/ 1479.
(3) . في إعراب القرآن والخصائص ب «غررتني» وفي الكتاب وتحصيل عين الذهب ب «فغررتني» .(11/225)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الغاشية» «1»
فإن قيل: لم قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) مع أن جميع أبدانهم أيضا تصلى النار؟
قلنا: الوجه يطلق ويراد به جميع البدن، كما في قوله تعالى وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه/ 111] وقيل:
إنّ المراد بالوجوه هنا الأعيان والرؤساء، كما يقال: هؤلاء وجوه القوم، ويا وجه العرب: أي ويا وجيههم، ويؤيّد هذا القول ما روي عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن المراد به الرهبان وأصحاب الصوامع.
فإن قيل: كيف ارتبط قوله تعالى:
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) بما قبله، وأيّ مناسبة بين السماء والإبل والجبال والأرض حتّى جمع بينهما؟
قلنا: لما وصف الله تعالى الجنّة بما وصف، عجب من ذلك الكفار، فذكّرهم بعجائب صنعه. وقال قتادة:
لمّا ذكر ارتفاع سرر الجنة قالوا: كيف نصعدها؟ فنزلت هذه الآية: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ [الآية 17] اعتبار كيف (خلقت) للنهوض بالأثقال وحملها إلى البلاد البعيدة، وجعلت تبرك حتّى تحمل وتركب عن قرب ويسر، ثمّ تنهض بما حملت، فليس في الدّواب ما يحمل عليه وهو بارك ويطيق النهوض إلا هي، وسخّرت لكل من قادها حتّى الصبيّ الصغير، ولمّا
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/227)
جعلت سفائن البر أعطيت الصبر على احتمال العطش عشرة أيام فصاعدا، وجعلت ترعى كلّ نبات في البراري والمفاوز ممّا لا يرعاه سائر البهائم، وإنّما لم يذكر الفيل والزّرافة وغيرهما ممّا هو أعظم من الجمل لأن العرب لم يروا شيئا من ذلك ولا كانوا يعرفونه، ولأنّ الإبل كانت أنفس أموالهم وأكثرها لا تفارقهم ولا يفارقونها وإنما جمع بينها وبين ما بعدها لأن نظر العرب قد انتظم هذه الأشياء في أوديتهم وبواديهم، فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم وكثرة ملابستهم ومخالفتهم ومن فسّر الإبل بالسحاب والماء، قصد بذلك طلب المناسبة بطريق تشبيه الإبل بالسحاب في السير وفي النّشط أيضا في بعض الأوقات، لا أنه أراد أن المراد من الإبل السحاب حقيقة وقد جاء في أشعار العرب تشبيه السحاب بالإبل كثيرا، وقد شبّهه ابن دريد أيضا بالسحاب في قصيدته. وقرأ أبيّ بن كعب وعائشة رضي الله عنهما الإبل بتشديد اللام. قال أبو عمرو وهو اسم للسحاب الذي يحمل الماء، والله أعلم.(11/228)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الغاشية» «1»
في قوله سبحانه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) استعارة.
والمراد بالوجوه هاهنا أرباب الوجوه.
ومثل ذلك قوله تعالى: في السورة التي يذكر فيها القيامة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) [القيامة] . والدليل على ما قلنا إضافته سبحانه النظر إليها، والنّظر إنما يصح من أربابها لا منها:
لأنه تعالى قال عقب ذلك: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) [القيامة] وكذلك قوله تعالى هاهنا:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) ، والرّضا والسّخط إنما يوصف به أصحاب الوجوه. فانكشف الكلام على الغرض المقصود.
وقوله تعالى: فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) استعارة. وقد مضت لها نظائر كثيرة جدّا فيما تقدّم من كلامنا. أي لا تسمع فيها كلمة ذات لغو. فلمّا كان صاحب تلك الكلمة يسمّى لاغيا بقولها، سمّيت هي لاغية، على المبالغة في وصف اللّغو الذي فيها.
وقال بعضهم: معنى ذلك: لا يسمع فيها نفس حالفة على كذب، ولا ناطقة برفث. لأنّ الجنة لا لغو فيها ولا رفث، ولا فحش ولا كذب.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(11/229)
سورة الفجر 89(11/231)
المبحث الأول أهداف سورة «الفجر» «1»
سورة «الفجر» سورة مكّيّة، آياتها 30 آية، نزلت بعد سورة «الليل» . تبدأ السورة بالقسم، فتقسم بالفجر، والليالي العشر، والشفع والوتر، على أن الإسلام حقّ، وأنّ البعث والحساب حق. وقد ضربت أمثلة بمن أهلكه الله تعالى من المعاندين كعاد وثمود، وذكرت تصوّرات الإنسان غير الإيمانيّة، وسوء فهمه لاختبار الله له بهذه النعم. ثم ردّت على هذه التصوّرات، ببيان الحقيقة التي تنبع منها هذه التصورات الخاطئة، وهي الجحود والأثرة وحبّ المال والمتعة.
ثمّ وصفت مشهدا عنيفا مخيفا من مشاهد الآخرة، ويظهر فيها جلال الله سبحانه، وتظهر الملائكة للحساب، وتظهر جهنّم أمام العصاة وفي الختام نداء نديّ رخيّ للنفس المطمئنة، بأن تعود الى رضوان الله وجنته.
ومن هذا الاستعراض السريع، تبدو الألوان المتعدّدة في مشاهد السورة، كما يبدو تعدّد نظام الفواصل، وتغيّر حروف القوافي، بحسب تنوّع المعاني والمشاهد.
[فالآيات 1- 5] تنتهي بالراء مثل وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) والآيات [6- 14] تنتهي بحرف الدال مثل أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) .
[والآيتان 15 و 16] : تنتهيان بحرف النون، والآيات الباقية متنوّعة فيها الميم والتاء والهاء.
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(11/233)
والقسم الأول من السورة فيه نداوة الفجر وجماله. وفضل الليالي العشر، وثواب الشفع والوتر من الصلاة.
والقسم الثاني ينتهي بالدال، وفيه بيان القوة في الانتقام من الظالمين.
وقد ذكر الفيروزآبادي أن معظم مقصود السورة ما يأتي: «تشريف العيد وعرفة، وعشر المحرّم، والإشارة الى هلاك عاد وثمود وأضرابهم، وتفاوت حال الإنسان في النعمة، وحرصه على جمع الدنيا والمال الكثير، وبيان حال الأرض في القيامة، ومجيء الملائكة، وتأسّف الإنسان يومئذ على التقصير والعصيان وأنّ مرجع العبد المؤمن عند الموت إلى الرحمن والرّضوان ونعيم الجنان» .
مع آيات السورة
[الآية 1] : أقسم الله سبحانه وتعالى بالفجر، وهو الوقت الذي يدبر فيه الليل، ويتنفّس الصباح في يسر وفرح وابتسام، وإيناس ودود نديّ، ويستيقظ الوجود رويدا رويدا.
[الآية 2] : وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) قيل هن العشر الأوائل من المحرّم، وقيل العشر الأواخر من رمضان، وفيها ليلة القدر، وقيل هي العشر الأوائل من ذي الحجة وفيها يوم عرفة وعيد الأضحى.
[الآية 3] : وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) أي الزوج والفرد من الأعداد، والشفع والوتر من الصلاة، أو أيّام التشريق وفيها رمي الجمار بمنى، فمن شاء رمى في يومين ومن شاء مكث ثلاثة أيام.
واليومان: شفع، والثلاثة: وتر، قال تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة/ 203] .
[الآية 4] : وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) أي يسرى فيه، كما يقال ليل نائم، أي ينام فيه. وقيل معنى وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) أي ينصرم وينقضي مسافرا بعيدا، ويسري راحلا، وأصله يسري فحذفت الياء لدلالة الكسرة عليها في الوصل، وحذفت الياء، مع الكسرة في الوقف.
[الآية 5] : هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) : أي هل في ما أقسمت به، من جمال الفجر، وجلال الأيّام العشر، وثواب الشفع والوتر، ولطف الليل إذا يسر، مقنع لذي لبّ وعقل.
وسمّي العقل حجرا لأنه يمنع صاحبه عن الشر، ويحجره عمّا لا يليق.(11/234)
[الآيات 6- 8] : ألم تعلم يا محمّد، أو ألم تعلم أيّها المخاطب، كيف فعل ربّك بعاد، وهم الذين أرسل إليهم هود عليه السلام فكذّبوه، ومن قبيلة عاد «إرم» وكانوا طوال الأجسام، أقوياء الشكيمة، يقطنون ما بين عمان وحضرموت واليمن، وكانوا بدوا ذوي خيام تقوم على عماد، وقد وصفوا في القرآن بالقوة والبطش، فقد كانت قبيلة عاد أقوى قبيلة في وقتها وأميزها:
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) في ذلك الأوان.
[الآية 9] : وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وكانت ثمود تسكن بالحجر، في شمال الجزيرة العربية بين المدينة والشام، وقد قطعت الصخر وشيّدته قصورا، كما نحتت في الجبال ملاجئ ومغارات.
[الآية 10] : وَفِرْعَوْنَ [الآية 10] وهو حاكم مصر في عهد موسى عليه السلام، وهو صاحب المباني العظيمة والهياكل الضخمة، التي تمثّل شكل الأوتاد المقلوبة. وقيل الأوتاد تعني القوّة والملك الثابت، لأنّ الوتد هو ما تشدّ إليه الخيام لتثبيتها، واستعمل هنا مجازا إشارة إلى بطشه، وحكمه الوطيد الأركان.
وقد جمع الله، سبحانه، في هذه الآيات القصار، مصارع أقوى الجبارين، الذين عرفهم التاريخ.
[الآيات 11- 14] : الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) أي هؤلاء الذين سلف ذكرهم، من عاد وثمود وفرعون وجنده، جميعا تجاوزوا الحدّ وكفروا بنعمة الله عليهم، وأكثروا في البلاد الفساد، وارتكاب المعاصي، فكفروا وقتلوا وظلموا، فأنزل الله عليهم العذاب بشدّة مع توالي ضرباته.
وقد شبه الله تعالى ما يصبّه عليهم من ضروب العذاب بالسّوط، من قبل أنّ السّوط يضرب به في العقوبات، وما وقع بهم من ألوان العذاب، كان عقوبة لأنواع الظلم والفساد. إنّ الله سبحانه وتعالى يرى ويحسب ويحاسب، ويجازي وفق ميزان دقيق لا يخطئ ولا يظلم، وقد سجّل الله عليهم أعمالهم كما يسجّل الراصد الذي يرقب فلا يفوته شيء.
[الآيتان 15 و 16] : إنّ الإنسان إذا اختبره الله سبحانه وتعالى: فوسّع عليه في الرزق، وبسط له في النعمة، ظنّ(11/235)
غرورا أنّ الله راض عنه، وتخيّل أنه لن يحاسبه على ظلمه وأفعاله.
وإذا امتحنه بالفقر فضيّق عليه رزقه وقتره، فلم يوسع عليه، فيقول إنّ ربي أذلّني بالفقر، ولم يشكر الله على ما وهبه له، من سلامة الجوارح، وما رزقه من الصّحة والعافية.
قال الإمام محمد عبده: «وأنت ترى أنّ أحوال الناس إلى اليوم لا تزال كما ذكر الله في هذه الآية الكريمة، فإنّ أرباب السلطة والقوة يظنون أنهم في أمن من عقاب الله، ولا يعرفون شيئا من شرعه يمنعهم عن عمل ممّا تسوق إليه شهواتهم، وإنّما يذكرون الله بألسنتهم، ولا تتأثّر قلوبهم بهذا الذكر.
وقريب من هذه المعاني قوله تعالى:
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) [المعارج] .
«تعلم أن المخاطبين بهذه الآيات كانوا يزعمون أنهم على شيء من دين إبراهيم (ع) ، أو أنهم كانوا يدّعون أنّ لهم دينا يأمرهم وينهاهم، ويقرّبهم إلى الله زلفى، فإذا سمعوا هذا التهديد وذلك الوعيد، وسوست لهم نفوسهم بأن هذا الكلام إنّما ينطبق على أناس ممّن سواهم أمّا هم، فلم يزالوا من الشاكرين الذاكرين غير الغافلين» ، فالله جلّ جلاله يردّ عليهم زعمهم ويقيم لهم دليلا واضحا على كذب ما تحدّثهم به أنفسهم، ويقول:
[الآية 17] : كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) أي لو كان غنيّكم لم يعمه الطّغيان، وفقيركم لم يطمس بصيرته الهوان، لشاطرتم اليتيم إحساسه، فواسيتموه وعطفتم عليه، حتّى ينشأ كريم النفس.
[الآية 18] : وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وقد كان مجتمع مكّة مجتمع التكالب على جمع المال بكافّة الطرق، فورثت القلوب القسوة والبخل، وانصرفت عن رحمة اليتيم، وعن التعاون على رحمة المسكين.
[الآية 19] : وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا (19) والتراث هو الميراث الذي يتركه من يتوفّى، أي إنّكم تشتدّون في أكل الميراث حتّى تحرموا صاحب الحقّ حقّه.
[الآية 20] : وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) وتميلون إلى جمع المال ميلا شديدا، يصل الى حدّ الشراهة.(11/236)
«وخلاصة ذلك: أنتم تؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، إذ لو كنتم ممّن غلب عليهم حب الآخرة لانصرفتم عمّا يترك الموتى ميراثا لأيتامهم، ولكنّكم تشاركونهم فيه، وتأخذون شيئا لا كسب لكم فيه، ولا مدخل لكم في تحصيله وجمعه ولو كنتم ممّن استحبّوا الآخرة، لما ضربت نفوسكم على المال، تأخذونه من حيث وجدتموه من حلال أو من حرام. فهذه أدلّة ترشد إلى أنّكم لستم على ما ادّعيتم من صلاح وإصلاح، وأنكم على ملّة إبراهيم خليل الرحمن» .
[الآيات 21- 24] : كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) ، ودكّ الأرض تحطيم معالمها وتسويتها، وهو أحد الانقلابات الكونيّة، التي تقع في يوم القيامة.
يرد الله سبحانه وتعالى عن مقالتهم وفعلهم، وينذرهم أهوال القيامة، إذا دكّت الأرض وأصبحت هباء منبثّا، وزلزلت زلزالا شديدا، وتجلّت عظمة الله سبحانه، ونزلت ملائكة كلّ سماء فيصطفّون صفّا بعد صفّ، بحسب منازلهم ومراتبهم، وكشفت جهنّم للناظرين، بعد أن كانت غائبة عنهم، قال تعالى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) [النازعات] .
حينئذ تذهب الغفلة، ويندم الإنسان على ما فرّط في حياته الدنيا، ويتذكّر معاصيه، ويتمنّى أن يكون قد عمل صالحا في دنياه، لينفعه في حياته الآخرة، التي هي الحياة الحقيقية.
«وترى من خلال هذه الآيات، مشهدا ترتجف له القلوب وتخشع له الأبصار، والأرض تدكّ دكّا، والجبّار المتكبّر يتجلّى ويتولّى الحكم والفصل، وتقف الملائكة صفّا صفّا، ثمّ يجاء بجهنّم فتقف متأهّبة هي الأخرى» «1» .
وتتبع الحسرة والذكرى الأليمة من فرّط في حقوق الله، فيتذكّر بعد فوات الأوان، ويتمنّى أن يكون قد عمل الصالحات.
[الآيتان 25 و 26] : فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) الوثاق: الشّدّ بالأغلال.
في هذا اليوم العصيب نرى لونا متفردا من ألوان العذاب، لقد كان
__________
(1) . في ظلال القرآن للأستاذ سيّد قطب، 30/ 157، بتصرّف.(11/237)
الجبّارون يملكون أن يعذّبوا من خالفهم في الدنيا، لكن العذاب اليوم في الآخرة لا يملكه إلا الله، وهو سبحانه القهّار الجبّار. الذي يعذّب يومئذ عذابه الفذّ الذي لا يملك مثله أحد، والذي يوثق وثاقه الفذّ، ويشدّ المجرمين بالأغلال شدا لا يملك مثله أحد.
وعذاب الله ووثاقه يفصّلهما القرآن في مواضع أخرى، وفي مشاهد كثيرة، ولكنّه يجملهما هنا، حيث يصفهما بالتفرّد بلا شبيه من عذاب الخلق جميعا ووثاقهم، وكأنّ الآية تشير إلى ظلم عاد وثمود وفرعون ذي الأوتاد، وتنبّه إلى أنّ عذاب الطغاة ووثاقهم للنّاس مهما اشتدّ في الدنيا، فسوف يعذّب الطغاة ويوثّقون، عذابا ووثاقا وراء التصوّرات والظنون.
وفي وسط هذا الهول المروّع، وهذا العذاب، والوثاق الذي يتجاوز كل تصوّر، تنادى النفس المؤمنة من الملأ الأعلى:
[الآيات 27- 30] : يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) ، ينادي الله، عزّ وجلّ، النفس الثابتة على الحق، أن تعود الى جوار الله، راضية عن سعيها، مرضيّا عنها، فتدخل مع العباد الصالحين، ومع الرفقة المؤمنين، حيث يدخلون جميعا جنة الله، في تكريم ورضوان.
وفي هذا النداء الرّضيّ ما يمسح آلام هذه النفس، وما يشعرها بالغبطة مع عباد الله، وجنة الله ورضوانه، فنعم الجزاء، ونعم الثواب، وحسنت مرتفقا.
خلاصة أهداف السورة
تشتمل سورة الفجر على الأهداف والمقاصد الآتية:
1- القسم على أنّ عذاب الكافرين واقع لا محالة.
2- ضرب المثل بالأمم البائدة كعاد وثمود.
3- كثرة النّعم على إنسان ليست دليلا على إكرام الله له، ولا البلاء دليلا على إهانته وخذلانه.
4- وصف يوم القيامة وما فيه من أهوال.
5- تمنّي الأشقياء العودة إلى الدنيا.
6- كرامة النفوس الراضية المرضيّة، وما تلقاه من النعيم بجوار ربّه.(11/238)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الفجر» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الفجر بعد سورة الليل، ونزلت سورة الليل بعد سورة الأعلى، ونزلت سورة الأعلى فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة الفجر في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وتبلغ آياتها ثلاثين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إثبات عذاب الكافرين، وقد جاء أكثرها في إنذارهم وتهديدهم، إلى أن ختمت بشيء من الترغيب لتجمعهما معا، وبهذا يشبه سياقها سياق سورة الغاشية، ويكون ذكرها بعدها مناسبا لها.
إثبات العذاب الآيات [1- 30]
أقسم تعالى بالفجر وما ذكر بعده على أنهم سيعذبون، وانتقل من إثباته بالقسم إلى إثباته بما حصل لأسلافهم من عاد وثمود وفرعون ثمّ ذكر سبحانه أنه لهم بالمرصاد، فلا يريد منهم إلّا السعي للمصلحة العامّة في الدّنيا والآخرة وأمّا هم، فلا يريد الواحد منهم إلّا مصلحته الخاصّة، فإذا أكرمه ونعّمه رضي، وإذا أقتر عليه سخط، ثمّ يبلغ في الحرص إلى حدّ
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/239)
أنّه لا يكرم اليتيم، ولا يحضّ على طعام المسكين، ويجمع المال من حيث يتهيّأ له من حلال أو حرام وسيعرف عاقبة ذلك إذا جاء يوم القيامة، فيومئذ يندم على ما فعل، ويرى عذابا لا يعذّبه أحد، ووثاقا لا يوثقه أحد أمّا النفس المطمئنة، فيقال لها: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) .(11/240)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الفجر» «1»
أقول: لم يظهر لي من وجه ارتباطها سوى أنّ أوّلها كالإقسام على صحّة ما ختم به السورة التي قبلها، من قوله جل جلاله: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) [الغاشية] . وعلى ما تضمّنه من الوعد والوعيد. كما أنّ أوّل «الذاريات» قسم على تحقيق ما في «ق» ، وأول «المرسلات» قسم على تحقيق ما في «عمّ» . هذا، مع أنّ جملة: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) هنا، مشابهة لجملة أَفَلا يَنْظُرُونَ [الآية 17] في سورة الغاشية «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.
(2) . بل هناك وجوه ارتباط أوضح ممّا ذكر المؤلّف. وذلك: أنه تعالى ذكر في «الغاشية» صفة النار والجنّة مفصلة على ترتيب ما ذكر في سورة الأعلى. ثمّ زاد الأمر تفصيلا في «الفجر» بذكر أسباب عذاب أهل النار، فضرب لذلك مثلا بقوم عاد، وقوم فرعون، في قوله جلّ وعلا: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إلى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) . ثمّ ذكر بعض عناصر طغيانهم في قوله سبحانه: كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وما بعدها.
فكأنّ هذه السورة إقامة الحجّة عليهم.
وكذلك جاء في الغاشية: إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) [الغاشية] .
ثم ذكر في «الفجر» مادة تذكير من كان قبلهم من الكفّار، وأنّه سيعذبهم في الآخرة، وأنّ الندم لن ينفعهم شيئا، فقال تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) .(11/241)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الفجر» «1»
أخرج سعيد بن منصور عن ابن عبّاس قال:
1- وَالْفَجْرِ (1) .
المحرّم، هو فجر السنة «2» .
2- وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) .
هي عشر الأضحى. كما أخرجه أحمد والنّسائي عن جابر مرفوعا. وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس «3» .
وأخرج عنه أيضا أنّها العشر الأواخر «4» من رمضان.
3- فَأَمَّا الْإِنْسانُ [الآية 15] .
قال ابن جريح: نزلت في أمية بن خلف أخرجه ابن أبي حاتم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . ذكر الطبري في «تفسيره» 30/ 107 أقوالا أخرى في معنى «الفجر» هنا، فقيل: هو النهار، وقيل: صلاة الصبح، وقيل: فجر الصباح.
(3) . والطبري 30/ 107. [.....]
(4) . وذكر الطبري في «تفسيره» أقوالا في بعض السلف قالوا: بأن «العشر» أوّل السنة من محرّم. قال أبو جعفر الطبري رحمه الله: «والصواب من القول في ذلك عندنا أنها عشر الأضحى لإجماع الحجّة من أهل التأويل عليه» .(11/243)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الفجر» «1»
1- قال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) .
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) .
حذفت الياء من يَسْرِ (4) اكتفاء بالكسرة، ذلك أمر يقتضيه تناسب الفواصل والفجر، وليال عشر، والشفع والوتر وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) ...
وقوله تعالى: «حجر» أي: عقل.
أقول: ومن المفيد أن نشير إلى أنّ «الحجر» و «الحصاة» من كلمات العقل. ألا يكون هذا لأن العقل وصف عندهم بالرزانة والرسوخ فاستعير له شيء من مادة صلبة قويّة هي الحجر والحصى! لعل شيئا من هذا! وليس كما قالوا لأن العقل «يحجر» عن التهافت فيما لا ينبغي.
وعندي أن الفعل «حجر» ، بمعنى:
منع ونهى «ولد» بعد استعارة كلمة «الحجر» للعقل، والله أعلم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(11/245)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الفجر» «1»
قال تعالى: بِعادٍ (6) إِرَمَ [الآية 7] فجعل بعضهم إِرَمَ «2» اسم عاد وبعضهم قرأ بِعادٍ (6) فأضافه إلى إِرَمَ «3» فإمّا أن يكون اسم أبيهم إضافة إليهم، وإمّا بلدة والله أعلم. وقال تعالى: فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الآية 16] . وقرأ بعضهم (قدّر) «4» مثل (قتّر) وأمّا (قدر) فمعناه: يعطيه بالقدر.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نسبت في إعراب ابن خالويه 76 إلى الضّحّاك، وفي المحتسب 2/ 359 الى ابن الزّبير، وفي الجامع 20/ 44، والبحر 8/ 469 إلى العامّة والجمهور.
(3) . في الشواذ 173 الى ابن الزّبير، وكذلك في المحتسب 2/ 359، وفي الجامع 20/ 44 إلى الحسن وأبي العالية، وفي البحر 8/ 469 إلى الحسن وحده.
(4) . نسبت في معاني القرآن 3/ 261 إلى أبي جعفر ونافع، وفي الطبري 30/ 182 إلى أبي جعفر وأبي عمرو بن العلاء، وفي الجامع 20/ 51 إلى ابن عامر، وفي البحر 8/ 470 إلى أبي جعفر وعيسى وخالد والحسن بخلاف عنه، وابن عامر.(11/247)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الفجر» «1»
إن قيل: لم نكّرت الليالي العشر دون سائر ما أقسم به الله تعالى، ولم لم تعرّف بلام العهد وهي ليال معلومة فإنّها ليالي عشر ذي الحجّة في قول الجمهور؟
قلنا: لأنّها مخصوصة من بين جنس الليالي العشر بفضيلة ليست لغيرها، فلم يجمع بينها وبين غيرها بلام الجنس، وإنما لم تعرّف بلام العهد لأنّ التنكير أدلّ على التفخيم والتعظيم، بدليل قوله تعالى: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الحج/ 34] ونظيره قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) [البلد] بالتعريف، ثم قال تعالى: وَوالِدٍ بالتنكير، والمراد به آدم وإبراهيم أو محمد صلى الله عليهم أجمعين، ولأنّ الأحسن أن تكون اللّامات كلّها متجانسة، ليكون الكلام أبعد من الإلغاز والتعمية، وهي في الباقي للجنس.
فإن قيل: لم ذم الله تعالى الإنسان على قوله: رَبِّي أَكْرَمَنِ [الآية 15] مع أنه صادق فيما قال، لأن الله تعالى أكرمه بدليل قوله تعالى فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ [الآية 15] ثم إنّ هذا تحدّث بالنعمة، وهو مأمور به؟
قلنا: المراد به أن يقول ذلك مفتخرا على غيره، متطاولا به عليه، معتقدا استحقاق ذلك على ربّه، كما في قوله تعالى: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/249)
[القصص/ 78] ، مستدلا به على علوّ منزلته في الدّار الآخرة وكل ذلك منهيّ عنه. وأمّا إذا قاله على وجه الشكر والتحدّث بنعمة الله، فليس بمذموم ولا منهيّ عنه.
فإن قيل: لم قال الله تعالى في الجملة الأولى: فَأَكْرَمَهُ [الآية 15] ولم يقل في الجملة الثانية «فأهانه» ؟
قلنا: لأنّ بسط الرزق إكرامه لأنّه إنعام وإفضال من غير سابقة، وقبضه ليس بإهانة لأنّ ترك الإنعام لا يكون إهانة بل هو واسطة بين الإكرام والإهانة، فإنّ المولى قد يكرم عبده وقد يهينه، وقد لا يكرمه ولا يهينه وتضييق الرزق ليس إلّا عبارة عن ترك إعطاء القدر الزائد، ألا ترى أنه يحسن أن تقول: زيد أكرمني إذا أهدى لك هدية، ولا يحسن أن تقول: أهانني إذا لم يهد لك؟
فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ [الآية 22] والحركة والانتقال على الله محالان لأنهما من خواصّ الكائن في جهة؟
قلنا: قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: وجاء أمر ربك لأنّ في القيامة تظهر جلائل آيات الله تعالى، ونظيره قوله تعالى: لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
[النحل/ 33] وقيل معناه وجاء ظهور ربّك لضرورة معرفته يوم القيامة ومعرفة الشيء بالضرورة تقوم مقام ظهوره ورؤيته فمعناه: زالت الشكوك وارتفعت الشّبه كما ترتفع عند مجيء الشيء الذي كان يشكّ فيه.(11/250)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الفجر» «1»
في قوله سبحانه: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) استعارة. والمراد بسرى الليل دوران فلكه، وسيران نجومه حتى يبلغ غايته، ويسبق في قاصيته، ويستخلف النهار موضعه.
وفي قوله سبحانه: وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) استعارة. والمراد وفرعون ذي الملك المتقرّم «2» والأمر المتوطّد، والأسباب المتمهّدة التي استقرّ بها بنيانه، وتمكّن سلطانه، كما تثبت البيوت بالأوتاد المضروبة، والدعائم المنصوبة. وقد مضى نظير ذلك. وقوله سبحانه: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) هو من مكشوفات الاستعارة. والمراد بها العذاب المؤلم، والنّكال المرمض. لأنّ السّوط في عرف عادة العرب يكون على الأغلب سببا للعقوبات الواقعة، والآلام الموجعة.
وقال بعضهم: يجوز أن يكون معنى سَوْطَ عَذابٍ أي أوقع عذاب يخالط اللحوم والدماء، فيسوطها سوطا، إذا حرّك ما فيها وخلطه. فالسّوط على هذا القول هاهنا مصدر وليس باسم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . المتقرّم: المتأصّل بالسيادة والمجد.(11/251)
سورة البلد 90(11/253)
المبحث الأول أهداف سورة «البلد» «1»
سورة «البلد» آياتها عشرون، نزلت بعد سورة «ق» .
وقد اشتملت على تعظيم البلد الحرام، والرسول الأمين، وتكريم آدم وذريته، وبيان أن الإنسان خلق في معاناة ومشقة، في حمله وولادته ورسالته في الحياة، وحسابه في الآخرة.
وجابهت السورة أحد المشركين، وكشفت سوء أفعاله، ورسمت الطريق الأمثل للوصول إلى رضوان الله.
مع آيات السورة
[الآية 1] : لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) : أقسم الله عزّ وجل بمكّة، وفيها البيت الحرام والكعبة، وعندها قبلة المسلمين، وفيها زمزم والمقام، والأمن والأمان، قال تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ [المائدة/ 97] . معنى قياما: قواما، أي يقوم عندها أمر الدين، حيث يقدم الحجيج فيطوفون ويسعون، ويؤدّون المناسك، ويشاهدون مهبط الوحي، ويصير الرجل آمنا بدخوله الحرم:
وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران/ 97] .
وقد ذكر القرآن تكريم مكّة في آيات كثيرة، فقد ولد بها النبي (ص) ، وبدأ بها نزول الوحي، ومنها انبثق فجر الإسلام، وإليها يحجّ الناس، قال تعالى:
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(11/255)
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) [الشورى] .
[الآية 2] : وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وأنت مقيم بهذا البلد، يكرم الله تعالى نبيه محمدا (ص) ، الذي جعله خاتم المرسلين، وأرسله هداية للعالمين، وجعل مولده بمكّة وهذا الميلاد يزيد مكّة شرفا وتعظيما: لأن أفضل خلق الله يقيم بها، ويحل بين شعابها، ويتنقّل بين أماكنها داعيا الى دين الله، حاملا وحي السماء، وهداية الناس.
[الآية 3] : وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) أقسم الله بآدم وذريته لكرامتهم على الله، قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء/ 70] وقيل: كل والد ومولود، «والأكثرون على أنّ الوالد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، والولد محمد (ص) ، كأنه أقسم ببلده ثمّ بوالده ثمّ به» .
[الآية 4] : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) (الكبد) : المشقّة والتّعب، أي أوجدت الإنسان في تعب ومعاناة في هذه الحياة، فهو في مشقة متتابعة (من وقت احتباسه في الرحم إلى انفصاله، ثمّ إلى زمان رضاعه، ثم إلى بلوغه، ثمّ ورود طوارق السّرّاء وبوارق الضّرّاء، وعلائق التكاليف، وعوائق التمدّن والتعيّش عليه إلى الموت، ثم إلى البعث، من المساءلة وظلمة القبر ووحشته، ثم إلى الاستقرار في الجنة أو النار، من الحساب والعتاب والحيرة والحسرة) ونظير الآية قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) [الانشقاق] وقوله سبحانه:
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك/ 2] .
[الآيات 5- 10] : أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) . (لبدا) : أي كثيرا، (النجدين) : الطريقين، وهما طريقا الخير والشر.
روي أن هذه الآيات نزلت في بعض صناديد قريش، الذين كان رسول الله (ص) ، يكابد منهم ما يكابد، وهو أبو الأشدّ أسيد بن كلدة الجمحي، وكان مغترّا بقوّته البدنيّة، وقيل نزلت في الوليد بن المغيرة. وسواء أكانت هذه الآيات نزلت في أحدهما أم في غيرهما فإنّ معناها عام.(11/256)
والمعنى: أيظنّ ذلك الصنديد في قومه، المفتون بما أنعمنا عليه، أن لن يقدر أحد على الانتقام منه، وأن لن يكون هناك حساب وجزاء، فتراه يجحد القيامة، ويتصرّف تصرّف القويّ القادر، فيطغى ويبغي، ويبطش ويظلم، ويفسق ويفجر، دون أن يتحرّج، وهذه هي صفات الإنسان الذي يتعرّى قلبه من الايمان.
ثمّ إنه إذا دعي للخير والبذل يقول:
أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً (6) وأنفقت شيئا كثيرا، فحسبي ما أنفقت وما بذلت، أيحسب أنّ عين الله لا تراه، وتعلم أن ما أعطاه الله له أكثر ممّا أنفقه، وتعلم أنه إنّما أنفق رياء وسمعة، وطلبا للمحمدة بين الناس.
ثمّ بيّن الله، سبحانه، جلائل نعمه على هذا الإنسان، وعلى كل إنسان فقال: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) يبصر بهما المرئيات، وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) ليعبّر عمّا في نفسه، وليتمكّن من الأكل والشراب، والنفخ والنطق.
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) ليختار أيّهما شاء، ففي طبيعته الاستعداد لسلوك طريق الخير أو طريق الشر، لأن الله منحه العقل والتفكير، والارادة والاختيار، وميّزه على المخلوقات جميعها، فالكون كله خاضع لله خضوع القهر والغلبة، والإنسان هو المتميّز بالاختيار والحرية، ليكون سلوكه متّسما بالمسؤولية.
مفردات الآيات 11- 20:
اقتحم الشيء: دخل فيه بشدة.
العقبة: هي الطريق الوعرة في الجبل يصعب سلوكها.
المسغبة: المجاعة.
مقربة: قرابة.
متربة: يقال ترب الرجل إذا افتقر.
المرحمة: الرحمة.
أصحاب الميمنة: السعداء.
أصحاب المشأمة: الأشقياء.
مؤصدة: مطبقة عليهم، من أوصدت الباب إذا أغلقته.
[الآيات 11- 13] : فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) بعد أن بيّن السياق جليل نعم الله تعالى على الإنسان، وبخاصة الأغنياء، أخذ يحثّ أغنياء مكة على صلة الرحم، والعطف على المساكين، والمشاركة في عتق الرقاب، والتخفيف عن العبيد والإماء.(11/257)
وقد بدأت الآيات بالحثّ والتحريض على اقتحام العقبة، ثمّ استفهم عنها في أسلوب يراد به التفخيم والتهويل، ثم أجاب بأنها فك رقبة، وهي عتق العبد أو الإعانة على عتقه، والمشاركة في نقله من عالم الأرقّاء الى عالم الأحرار.
[الآية 14] : أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) أو إطعام في أيام عوز ومجاعة.
[الآية 15] : يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) :
إطعام يتيم في يوم المجاعة.
[الآية 16] : أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) أو إطعام مسكين عاجز عن الكسب، لصقت بطنه بالتراب من شدة فقره.
[الآية 17] : ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) ، أي جمع الى الصفات المتقدّمة الإيمان الصادق، والصبر الجميل وحثّ الناس عليه والوصية به، والتواصي بالرحمة والعطف.
ونلحظ أن التواصي بالصبر أمر زائد على الصبر، ومعناه إشاعة الثبات واليقين والطمأنينة بين المؤمنين.
وكذلك التواصي بالمرحمة، فهو أمر زائد على المرحمة، ويتمثّل في إشاعة الشعور بواجب التراحم، في صفوف الجماعة، من طريق التواصي به، والتحاض عليه، واتّخاذه واجبا جماعيا فرديا في الوقت ذاته، يتعارف عليه الجميع، ويتعاون عليه الجميع. فمعنى الجماعة قائم في هذا التوجيه، لأنّ الإسلام دين جماعة، ومنهج أمة، مع وضوح التبعة الفردية والحساب الفردي فيه وضوحا كاملا.
[الآية 18] : أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) أولئك الذين يقتحمون العقبة، كما وصفها القرآن وحدّدها، هم أصحاب الميمنة، وأهل الحظ والسعادة، وهم أصحاب اليمين الفائزون.
[الآية 19] : وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا وجحدوا دلائل قدرتنا، وأنكروا آيات الله العظام، من بعث وحساب، ونشور وجزاء، وكذّبوا بآيات القرآن هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) هم أصحاب الشمال، أو هم أصحاب الشؤم والنحس والخسران.
[الآية 20] : عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) يصلون نارا مطبقة عليهم، ومغلقة أبوابها لا يستطيعون الفرار منها،(11/258)
وسيخلدون فيها.
هذه هي الحقائق الأساسية في حياة الكائن الإنساني، وفي التصوّر الإيماني، تعرض في هذه السورة الصغيرة، بهذه القوة وبهذا الوضوح، وهذه هي خاصّيّة التعبير القرآني الفريد.
مقاصد السورة
1- القسم بمكّة وبالنبيّ الكريم بيانا لفضله.
2- ما ابتلي به الإنسان في الدنيا من النّصب والتعب.
3- اغترار الإنسان بقوته.
4- تعداد أنعم الله على الإنسان، كالعين واللسان والعقل والفكر.
5- بيان سبيل النجاة الموصلة إلى السعادة.
6- كفران الآيات سبيل الشقاء.(11/259)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «البلد» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة البلد بعد سورة «ق» ، ونزلت سورة «ق» فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة البلد في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وتبلغ آياتها عشرين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة ذمّ الحرص على الدنيا، وإنذار من يحرص عليها بأنه من أصحاب المشأمة، وتبشير من لا يحرص عليها بأنه من أصحاب الميمنة، وهذا هو وجه ذكرها بعد السورة السابقة، لأنها تأخذ في سياقها، وتسلك في الترغيب والترهيب مسلكها.
ذم الحرص على الدنيا الآيات [1- 20]
قال الله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) .
فأقسم بمكّة وما ذكر بعدها على أنّ الإنسان خلق في تعب وشدّة، وأنكر عليه أن يغترّ بقوّته وهذه حاله في الدنيا، وأن يستكثر ما ينفقه من القليل فيها، كأنّه يحسب أنه لا يرى ما ينفقه، ثم ذكر جلّ وعلا أنه أنعم عليه بنعمة البصر والكلام والعقل ليتبصّر بها،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/261)
ويقتحم عقبة الحرص على الدنيا ببذل المال في فكّ رقبة، أو إطعام في مجاعة، ويجمع إلى هذا أن يكون من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر والمرحمة، وأولئك أصحاب الميمنة، والذين كفروا هم أصحاب المشأمة: عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) .(11/262)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «البلد» «1»
أقول: وجه اتصالها بما قبلها، أنه لمّا ذمّ فيها من أحبّ المال، وأكثر التراث، ولم يحضّ على طعام المسكين، ذكر في هذه السورة الخصال التي تطلب من صاحب المال، من فك الرقبة، والإطعام في يوم ذي مسغبة «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.
(2) . ومن التناسب أيضا بين هذه السور وسابقتها: أنه تعالى لما ذكر في تلك ابتلاء الإنسان بضيق الرزق بسبب عدم إطعام المسكين، وعدم إكرام اليتيم، ونعى عليه حبّ المال، ذكر في هذه ندمه يوم القيامة، وتذكّره حبس المال، وذلك حين يقول: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) [الفجر] .(11/263)
المبحث الرابع مكنونات سورة «البلد» «1»
1- لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) .
قال ابن عبّاس: هو مكّة. أخرجه ابن أبي حاتم. 2- وَوالِدٍ.
قال أبو صالح: آدم. أخرجه ابن أبي حاتم «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. [.....]
(2) . والطبري في «تفسيره» 30/ 125.(11/265)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «البلد» «1»
1- قال تعالى: أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) .
و (المتربة) : الفقر، وترب إذا افتقر، والأصل التصق بالتراب.
وأمّا «أترب» فمعناه استغنى، أي صار ذا مال كالتراب في الكثرة.
وهذا شيء من فوائد استعمال الهمزة في الأفعال. ومن المفيد أن نشير إلى أن العربية جرت على فهم خاص، في اختراع المعاني: ألا ترى أن شيئا من هذا ولد الفعل «أدقع» ، أي: صار مدقعا، أي:
فقيرا. والأصل: التصق بالدّقعاء أي:
الأرض أو التراب.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(11/267)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «البلد» «1»
قال تعالى: وَأَنْتَ حِلٌّ [الآية 2] فمن العرب من يقول «أنت حلّ» و «أنت حلال» و «أنت حرم» و «أنت حرام» و «هو المحلّ» و «المحرم» وتقول:
«أحللنا» و «أحرمنا» وتقول «حللنا» وهي الجيّدة.
وقال تعالى: فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أي:
«العقبة فكّ رقبة» أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) وقرأ بعضهم (فكّ رقبة) «2» ، وليس هذا بذاك وفَكُّ رَقَبَةٍ (13) «3» هو الجيّد.
وقال تعالى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً بنصب «اليتيم» على «الإطعام» .
وقال تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) أي: «فلم يقتحم» كما في قوله تعالى:
فَلا صَدَّقَ [القيامة/ 31] أي: «فلم يصدّق» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نسبها في معاني القرآن 3/ 265 إلى الحسن البصري، وابن كثير، وأبي عمرو، والكسائي، وفي السبعة 686، والكشف 2/ 375، والتيسير 223، والجامع 20/ 70، إلى أبي عمرو والكسائي وابن كثير، وفي البحر 8/ 476 كذلك.
(3) . نسبت في معاني القرآن 3/ 265 إلى العوام، وفي السبعة 686 الى ابن عامر ونافع وعاصم وحمزة وأبي عمرو في رواية، وفي الكشف 2/ 375، والتيسير 223، والجامع 20/ 70 إلى غير ابن كثير وأبي عمرو والكسائي، وفي البحر 8/ 476 إلى بعض التابعين.(11/269)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «البلد» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) ولم يقل سبحانه وتعالى «ومن ولد» ؟
قلنا: لأن في «ما» من الإبهام ما ليس في «من» ، فقصد به التفخيم والتعظيم، كأنه تعالى قال: وأي شيء عجيب غريب ولد، ونظيره قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمران/ 36] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/271)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «البلد» «1»
في قوله سبحانه: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً (6) استعارة. وقد مضى نظير لها. والمراد باللّبد هاهنا المال الكثير الذي قد تراكب بعضه على بعض، كما تلّبدت طرائق الشّعر، وسبائخ «2» القطن.
وقد يجوز أن يكون ذلك مأخوذا من قولهم: رجل لبد. إذا كان لازما لبيته لا يبرحه. وبه سمّي نسر لقمان لبدا، لمماطلته للعمر، وطول بقائه على الدهر. فكأنه قال: أهلكت مالا كان باقيا لي، وثابتا عندي.
وفي قوله سبحانه: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) استعارة. والمراد بالنّجدين هاهنا الطريقان المفضيان إلى الخير والشر.
والنّجد: المكان العالي، وإنما سمّى تعالى هذين الطريقين بالنجدين، لأنه بيّنهما للمكلّفين بيانا واضحا ليتّبعوا سبيل الخير، ويجتنبوا سبيل الشر.
فكأنه تعالى بفرط البيان لهما، قد رفعهما للعيون، ونصبهما للناظرين.
وقوله سبحانه: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) استعارة أخرى. وفسّر تعالى المراد بالعقبة، فقال: فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) .
فشبه سبحانه هذا الفعل- إذا فعله الإنسان- باقتحام العقبة، أي صعودها أو قطعها. لأن الإنسان ينجو بذلك
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . سبائخ القطن: ما تناثر أو انتفش منه. يقال: طارت سبائخ القطن. انظر «المحيط» .(11/273)
كالناجي من الطريق الشاق، إذا اقتحم عقبته، وتجاوز مخافته. وحسن تمثيل هذا الفعل هاهنا بالعقبة لمّا شبّه سبحانه سبيلي الخير والشر بالنّجدين اللذين هما الطريقان الواضحان والعقاب «1» إنما تكون في طريق السالكين، وسبيل المسافرين. وعليها يكون بهر الأنفاس، وشدة الضغاط والمراس.
__________
(1) . العقاب أي العقبات.(11/274)
سورة الشّمس 91(11/275)
المبحث الأول أهداف سورة «الشمس» «1»
سورة «الشمس» سورة مكّيّة، آياتها 15 آية، نزلت بعد سورة «القدر» .
وهي سورة قصيرة ذات قافية واحدة، وإيقاع موسيقي واحد، تتضمّن عدة لمسات وجدانية تنبثق من مشاهد الكون وظواهره التي تبدأ بها السورة، والتي تظهر كأنها إطار للحقيقة الكبيرة التي تتضمنها السورة، حقيقة النفس البشرية واستعدادها الفطري، ودور الإنسان في شأن نفسه، وتبعته في مصيرها. هذه الحقيقة التي يربطها سياق السورة بحقائق الكون، ومشاهده الثابتة.
«كذلك تتضمّن قصة ثمود وتكذيبها بإنذار رسولها، وعقرها للناقة، ومصرعها بعد ذلك وزوالها، وهي نموذج من الخيبة التي تصيب من لا يزكّي نفسه، فيدعها للفجور» .
ولا يلزمها تقواها: كما جاء في الفقرة الأولى من السورة: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) .
مع آيات السورة
[الآيات 1- 6] :
المفردات: ضحاها: ضحى الشمس ضوؤها.
تلاها: جاء بعدها.
جلّاها: أظهرها.
يغشاها: يغطّيها ويحجب نورها.
طحاها: وطأها وجعلها فراشا.
دسّاها: التدسية النقص والإخفاء.
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(11/277)
لله تعالى كتابان: كتاب مقروء، وهو القرآن الكريم، وكتاب مفتوح، وهذا هو الكون العظيم، ومشاهد الكون تأسر القلوب، وتبهج النفس، وتوقظ الحس، وتنبّه المشاعر.
«ومن ثم يكثر القرآن من توجيه القلب الى مشاهد الكون بشتّى الأساليب في شتّى المواضع، تارة بالتوجيهات المباشرة، وتارة باللمسات الجانبية، كهذا القسم بتلك الخلائق والمشاهد، ووضعها إطارا لما يليها من الحقائق» .
[الآية 1] : أقسم الله بالشمس، وبنورها الساطع في وقت الضحى، وهو الوقت الذي يظهر فيه ضوء النهار، ويتجلّى نور الشمس، ويعمّ الدفء في الشتاء، والضياء في الصيف، قبل حر الظهيرة وقيظها.
[الآية 2] : وأقسم الله بالقمر إذا جاء بعد الشمس، بنوره اللطيف الهادئ الذي يغمر الكون بالضياء والأنس والجمال.
[الآية 3] : وأقسم بالنهار إذا أظهر الشمس، وأتمّ وضوحها، وللنهار في حياة الإنسان آثار جليلة، ففيه السعي والحركة والنشاط. [الآية 4] : وأقسم الله بالليل إذا غشي الكون، فغطى ظلامه الكائنات، وحجب نور الشمس وأخفاه.
[الآية 5] : وأقسم الله بالسماء ومن قدّر خلقها، وأحكم صنعها على النحو الذي نشاهده.
[الآية 6] : وأقسم الله بالأرض، والذي بسطها ومهّدها للسّكنى.
لقد جمع القسم بين ضياء الشمس ونور القمر، وضوء النهار وظلام الليل، وارتفاع السماء وبسط الأرض، وتلحظ في هذا القسم المقابلة بين النور والظلام، بين السماء والأرض، مما يلفت النظر إلى بديع صنع الله، وجليل وحيه وإعجاز كتابه.
[الآيات 7- 10] : وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) .
خلق الله الإنسان مزودا باستعدادات متساوية للخير والشر والهدى والضلال، فهو قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر.
لقد خلق الله الإنسان بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وزوّده(11/278)
بالعقل والإرادة، والحرية والاختيار.
وقد بين الله للإنسان طريق الهدى وطريق الضلال، وأودع في النفس البشرية أصول المعرفة، والتمييز بين الحق والباطل، فمن حمل نفسه على الاستقامة، وصانها عن الشر، فقد رزق الفلاح والسداد. ومن أهمل نفسه واتّبع شهواته، وأرخى العنان لنزواته، فقد خاب، لأنه هوى بنفسه من سموّ الطاعة إلى حضيض المعصية.
[الآيات 11- 15] : كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) .
ثمود: قوم من العرب البائدة، بعث الله إليهم نبيّا اسمه صالح عليه السلام.
بطغواها: بطغيانها.
انبعث: قام بعقر الناقة.
أشقاها: أشقى رجل في قوم ثمود، وهو قدار بن سالف.
سقياها: شرابها الذي اختصّها به في يومها.
فعقروها: فذبحوها، والعاقر واحد، ونسب إليهم جميعهم لرضاهم به. دمدم عليهم: أطبق عليهم بالعذاب.
سوّاها: فسوّى القبيلة في العقوبة، فلم يفلت منها أحد.
عقباها: عاقبة الدمدمة وتبعتها.
ذكرت قصة ثمود في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، وقد ذكر هنا طغيانها وعتوّها على أمر الله، وقد أعطى الله نبيهم صالحا الناقة آية مبصرة، فكانت تشرب وحدها من الماء في يوم، وتحلب لهم لبنا يكفيهم جميعا في ذلك اليوم، ثم يشربون من الماء في اليوم التالي. وقد حذرهم رسول الله صالح من الإساءة إلى الناقة، ولكنّهم خالفوا أمره، وذهب شقي منهم فعقر الناقة، ولمّا سكتوا عنه صاروا كأنّهم قد اشتركوا معه، لأنهم أهملوا التناصح، ولم يأخذوا على يد الظالم فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) فأطبق عليهم العذاب، وسوى الله القبيلة بالأرض، أي دمر مساكنها على ساكنيها.
وَلا يَخافُ عُقْباها (15) أي أن الله أهلك القبيلة دون أن يخشى عاقبة ما فعل، لأنه عادل لا يخاف عاقبة ما فعل، قويّ لا يخاف أن يناله مكروه من أحد، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.(11/279)
مقاصد السورة
1- القسم بالشمس والقمر، والنهار والليل، والسماء والأرض والنفس، على أنّ من طهّر نفسه بالأخلاق الفاضلة، فقد أفلح وفاز ومن سلك طريق الهوى والغواية، فقد خاب وشقي.
2- ذكر ثمود مثلا لمن دسّى نفسه فاستحق عقاب الله.(11/280)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الشمس» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الشمس بعد سورة القدر، ونزلت سورة القدر بعد سورة عبس، ونزلت سورة عبس فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة الشمس في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وتبلغ آياتها خمس عشرة آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة الترغيب في الطاعات، والتحذير من المعاصي، فهي في سياق الترغيب والترهيب كسورة البلد، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها.
الترغيب في الطاعات والتحذير من المعاصي الآيات [1- 15]
قال الله تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) الآيات إلى قوله تعالى:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) ، فأقسم بالشمس وما ذكر بعدها على فلاح من زكّى نفسه بالطاعات، وخيبة من دسّاها بالمعاصي، ثم أثبت هذا بعد القسم بما حصل لثمود بمعصيتها حينما أمرهم
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/281)
صالح أن يتركوا ناقة الله وشربها، فكذّبوه في رسالته وذبحوا هذه الناقة.
فدمدم عليهم ربهم أي أطبق عليهم عذابه فسوّاها: وَلا يَخافُ عُقْباها (15) .(11/282)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الشمس» «1»
أقول: هذه الثلاث حسنة التناسق جدا، لما في مطالعها من المناسبة، لما بين الشمس والليل والضحى من الملابسة، ومنها سورة الفجر، لكن فصلت بسورة البلد لنكتة أهم، كما فصل بين الانفطار والانشقاق وبين المسبّحات، لأن مراعاة التناسب بالأسماء والفواتح وترتيب النزول، إنّما يكون حيث لا يعارضها ما هو أقوى وآكد في المناسبة.
ثم إن سورة الشمس ظاهرة الاتصال بسورة البلد، فإنه سبحانه لمّا ختمها بذكر أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، أراد الفريقين في سورة الشمس على سبيل الفذلكة «2» . فقوله، في الشمس: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) ، هم أصحاب الميمنة في سورة البلد وقوله تعالى: وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) في سورة الشمس، هم أصحاب المشأمة في سورة البلد، فكانت هذه السورة فذلكة تفصيل تلك السورة: ولهذا قال الإمام: المقصود من هذه السورة الترغيب في الطاعات، والتحذير من المعاصي.
ونزيد في سورة الليل: أنها تفصيل إجمال سورة الشمس، فقوله تعالى:
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) [الليل] وما بعدها، تفصيل قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) . وقوله تعالى
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.
(2) . الفذلكة: خلاصة ما فصّل من أمر ما.(11/283)
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) [الليل] الآيات، تفصيل قوله: وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) .
ونزيد في سورة الضحى: أنها متصلة بسورة الليل من وجهين. فإنّ فيها وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) [الليل] . وفي الضحى: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) . وفي الليل: وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) وفي الضحى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) . ولمّا كانت سورة الضحى نازلة في شأنه (ص) فقد افتتحت بالضحى، الذي هو نور. ولما كانت سورة الليل سورة أبي بكر، يعني: ما عدا قصة البخيل «1» ، وكانت سورة الضحى سورة محمد (ص) ، عقّب بها، ولم يجعل بينهما واسطة، ليعلم ألّا واسطة بين محمد (ص) وأبي بكر.
__________
(1) . الذي نزل في أبي بكر من هذه السورة قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) [الليل] الى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) [الليل] . أخرج ابن جرير أنه كان يغدق على الإسلام بمكّة عجائز ونساء إذا أسلمن، فلامه أبوه، فنزلت. تفسير ابن جرير الطبري: 30/ 142. [.....](11/284)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الشمس» «1»
1- إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) .
هو قدار «2» .
وقال الفرّاء «3» والكلبي: هما رجلان: قدار بن سالف ومصدع بن دهر ولم يقل: (أشقياها) للفاصلة «4» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . قدار بن سالف. انظر «تفسير الطبري» 30/ 136- 137.
(3) . في «معاني القرآن» 3/ 268.
(4) . في «الإتقان» 2/ 148 في قوله تعالى في هذه السورة: فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ [الآية 13] هو صالح.(11/285)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الشمس» «1»
قال تعالى: وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) .
قالوا: معنى (دسّاها) دسّها في أهل الخير، وليس منهم.
ويقال: قد خاب من دسّى نفسه فأخملها بترك الصدقة والطاعة. وإذا كان أصل (دسّاها) دسّها، فقد بدّلت بعض سيناتها ياء كما قالوا: تظنّيت من الظن.
أقول: إذا كان ذلك، فالمراد هو المراعاة للفواصل التي اقتضت تبديل بناء الفعل.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(11/287)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الشمس» «1»
قال تعالى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) أي: «والذي سوّاها» فأقسم الله تبارك وتعالى بنفسه، وأنّه ربّ النفس التي سوّاها. ووقع القسم على قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) .
وقال تعالى: ناقَةَ اللَّهِ [الآية 13] أي: ناقة الله فاحذروا أذاها.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.(11/289)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الشمس» «1»
إن قيل: لم نكّر الله تعالى النفس دون سائر ما أقسم به حيث قال تعالى:
وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) .
قلنا: لأنه لا سبيل إلى لام الجنس، لأن نفوس الحيوانات غير الإنسان خارجة عن ذلك، بدليل قوله تعالى:
فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) . ولا سبيل إلى لام العهد، لأنّ المراد ليس نفسا واحدة معهودة، وعلى قول من قال:
المراد منه نفس آدم عليه السلام، فالتنكير للتفخيم والتعظيم كما سبق في سورة الفجر. فإن قيل: أين جواب القسم؟
قلنا: قال الزّجّاج وغيره: إنه قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وحذفت اللام لطول الكلام. وقال ابن الأنباري: جوابه محذوف. وقال الزمخشري: تقديره ليدمدمنّ الله على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله (ص) ، كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحا عليه السلام. قال: وأما قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) ، فكلام تابع لما قبله على طريق الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/291)
سورة اللّيل 92(11/293)
المبحث الأول أهداف سورة «الليل» «1»
سورة «الليل» سورة مكّيّة، آياتها إحدى وعشرون آية، نزلت بعد سورة «الأعلى» .
وتصف السورة مشاهد الكون، ومظاهر القدرة، وتقرير حقيقة العمل والجزاء، وتبيّن أنّ الجزاء الحق من جنس العمل.
ونلاحظ في السورة التقابل بين الليل والنهار، والذكر والأنثى، ومن أعطى واتقى، ومن بخل واستغنى، وبين الأشقى الذي كذّب وتولّى، والأتقى الذي يؤتي ماله يتزكّى، وهذا من بدائع التناسق في التعبير القرآني.
مع آيات السورة
[الآيات 1- 4] : وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) .
يغشى: يغطي كل شيء فيواريه بظلامه.
تجلّى: ظهر وانكشف بظهوره كل شيء.
وما خلق: والذي خلق.
شتّى: واحدها شتيت، وهو المتباعد بعضه عن بعض.
يقسم الله سبحانه وتعالى بالليل حينما يغشى البسيطة، ويغمرها ويخفيها، وبالنهار حينما يتجلّى ويظهر، فيظهر في تجلّيه كل شيء ويسفر.
ويقسم بالقادر العظيم الذي خلق
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(11/295)
الذكر والأنثى، وميّز بين الجنسين مع أن المادة التي تكوّنا منها مادة واحدة، والمحلّ الذي تكوّنا فيه محل واحد.
يقسم الله بهذه الظواهر، والحقائق المتقابلة في الكون وفي الناس، على أن سعي الناس مختلف، وعملهم متباعد ومتفرّق، فمنه السّيئ ومنه الحسن، ومنه التقوى ومنه الفجور، ومنه ما يجازى عليه بالنعيم المقيم، ومنه ما يعاقب عليه بالعذاب الأليم.
[الآيات 5- 11] : فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) .
أعطى: بذل ماله.
اتقى: خاف عذاب الرحمن واجتنب المحارم.
الحسنى: الكلمة الحسنى وهي مؤنث الأحسن فسنيسّره: فسنهيّئه.
لليسرى: لليسر والسهولة.
العسرى: العسر والعنت والمشقة.
تردّى: هلك، وهو تفعّل من الردى.
فأما من أعطى الفقراء، وأنفق المال في وجوه الخير، وراقب الله وابتعد عن المحرّمات، وأيقن أنّ الله سيخلف عليه ما أنفق، مصدّقا بالفضيلة، ومميّزا بينها وبين الرذيلة، وابتعد من طريق الغواية، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) فسنجعل اليسر يفيض من نفسه على كل ما حوله، وعلى كلّ من حوله، اليسر في خطوه، واليسر في طريقه، واليسر في تناوله للأمور كلها، والتوفيق الهادئ المطمئن في كليّاتها وجزئيّاتها.
وأمّا من بخل بماله، واستغنى عن ربّه وهداه، وكذّب بالدين الحقّ، ولم يصدّق بأنّ الله سيخلف على المنفقين، وسيجزي المحسنين، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) فيسلب الله منه الهدى واليسر، ويحرمه كلّ تيسير، وبجعل في كلّ خطوة من خطاه مشقّة وحرجا، ينحرف به عن طريق الرشاد، فإذا تردّى وسقط في نهاية العثرات والانحرافات، لم يغن عنه ماله الذي بخل به، والذي استغنى به كذلك عن الهدى والسداد.
[الآيات 12- 21] :
تلظّى: أصله تتلّظى، أي تتوقّد وتلتهب.
لا يصلاها: لا يحترق بها.(11/296)
الأشقى: من هو أشدّ شقاء من غيره.
كذّب: كذّب الرسول فيما جاء به عن ربه.
تولّى: أعرض عن طاعة ربه.
يتزكّى: يتطهّر.
تجزى: تجازى وتكافأ.
[الآية 12] : إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) أي أنّا خلقنا الإنسان وألهمناه التمييز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، ثم أرسلنا له الرسل، وأنزلنا له الكتب لترشده الى الهداية والإيمان.
[الآية 13] : وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) وأنّا المالكون لكل ما في الآخرة ولكلّ ما في الأولى، فأين يذهب من يريد أن يذهب بعيدا من الله؟
[الآيتان 14 و 15] : فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (15) وأنّ من هداية الله للبشر، أن خوّفنا رسوله الكريم محمد (ص) نارا تلظّى:
تتسعّر، وتشتدّ ألسنة لهبها، هذه النار لا يقاسي حرها إلّا أشدّ الناس شقاوة، وهو الكافر.
[الآية 16] : الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) الذي كذّب بالدعوة، وكذّب الرسول (ص) فيما جاء به عن ربّه من الآيات، وأعرض أيضا عن اتّباع شرائعه، وانصرف عن الحق دون دليل يستند إليه، حتّى صار التكذيب والإعراض أبرز أوصافه.
[الآيتان 17 و 18] : وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وسيبعد عن النار من اتقى الله، وابتعد عن الموبقات، الذي ينفق أمواله في وجوه البر، طالبا بذلك طهارة نفسه، وقربها من ربه، ولا يريد بذلك رياء على معروف، وانّما يقدم الخير ابتغاء مرضاة الله، وحبّا في ذاته سبحانه.
ولسوف يرضى من فعل ذلك بأحسن ثواب، في أفضل مكان وفي أحسن جوار.
روي أنّ هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق (رض) ، وقد كان من أمره أنّ بلال بن رباح، وكان مولى لعبد الله بن جدعان، دخل في الإسلام، فكان سيده يعذّبه، ويخرجه إلى الرمضاء في حرّ الظهيرة، ويضع الحجر على بطنه، ويقول له لا تزال كذلك حتى تموت، أو تكفر بمحمّد، فلا يزيد بلال على أن يقول أحد أحد.(11/297)
وكان رسول الله (ص) يمرّ به وهو يعذّب فيقول له ينجيك أحد أحد ثمّ أخبر رسول الله (ص) أبا بكر (رض) بما يلقى بلال في الله، فاشتراه أبو بكر وأعتقه، فقال المشركون ما فعل ذلك أبو بكر إلّا ليد كانت لبلال عنده، فنزل قوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الى آخر السورة.
مقاصد السورة
1- بيان أن الناس في الدنيا فريقان: (أ) فريق يهيّئه الله للخصلة اليسرى، وهم الذين أعطوا الأموال لمن يستحقها وصدقوا بما وعد الله من الأخلاف على من أنفق.
(ب) وفريق يهيئه الله للخصلة المؤدية الى العسر والشدة، وهم الذين بخلوا بالأموال، واستغنوا بالشهوات وأنكروا ما وعد الله به من ثواب الجنة.
2- الجزاء في الآخرة من جنس العمل، فالأشقى له النار، والأتقى له الجنة والرّضوان.(11/298)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الليل» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الليل بعد سورة الأعلى، ونزلت سورة الأعلى فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة الليل في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وتبلغ آياتها إحدى وعشرين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة الترغيب في بذل المال في سبيل الله، والتحذير من البخل، فهي في سياق السورة السابقة أيضا، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها.
الترغيب في البذل والتحذير من البخل الآيات [1- 21]
قال الله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) ، فأقسم، بالليل وما ذكر بعد، على أنّ سعيهم مختلف في الجزاء. فأمّا من بذل من ماله في سبيل الله مع التقوى والتصديق بما جاء به النبي (ص) ، فسيكون جزاؤه الجنّة وأما من بخل ولم يتّق ولم يصدّق بذلك فجزاؤه النار، ولا يغني عنه ماله شيئا ثم ذكر أنه قد قضى بذلك حقّهم
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(11/299)
في الإرشاد، وأنّ له ملك الدّارين فلا يضرّه تركهم الاهتداء، ثمّ أنذرهم النار التي لا يصلاها إلّا غير المهتدي، وسيجنّبها من اهتدى فبذل ماله ليطهّر نفسه، ولا يبتغي بذلك إلّا وجه ربه الأعلى وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) .(11/300)
المبحث الثالث مكنونات سورة «الليل» «1»
1- الْأَشْقَى (15) .
هو أميّة بن خلف. أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود. 2- الْأَتْقَى (17) .
هو أبو بكر الصديق. كما في أحاديث في «المستدرك» وغيره «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . أنظر «المستدرك» للحاكم 2/ 525 و «تفسير الطبري» 30/ 142، و «سيرة ابن هشام» 1/ 219، و «تفسير ابن كثير» 4/ 521.(11/301)
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الليل» «1»
1- قال تعالى: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) .
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) .
أقول: اليسرى والعسرى مصدران كالحسنى والبقيا وغير ذلك. أو قل هي أسماء من اليسر والعسر والحسن والبقي.
والأصل كما أرى أنها مؤنثة الوصف ب «أفعل» وهو الأيسر والأعسر والأحسن والأبقى.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(11/303)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الليل» «1»
قال تعالى: وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) فهذه الواو واو عطف عطف بها على الواو التي في القسم الأول. وقال بعضهم في قوله تعالى: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إنه جعل القسم بالخلق، كأنه جلّ جلاله أقسم بما خلق، ثم فسّره بجعله بدلا من (ما) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.(11/305)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الليل» «1»
إن قيل: لم قال الله تعالى: لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (15) مع أن الشقيّ أيضا يصلاها: أي يقاسي حرها وعذابها؟
قلنا: قال أبو عبيدة: الأشقى هنا بمعنى الشقي، والمراد كلّ كافر، والعرب تستعمل أفعل في موضع فاعل ولا تريد به التفضيل، وقد سبق تقرير ذلك والشواهد عليه في سورة الروم في قوله تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الآية 27] .
وقال الزجاج: هذه نار موصوفة معيّنة، فهو درك مخصوص ببعض الأشقياء، ورد عليه ذلك بقوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) والأتقى يجنّب عذاب أنواع نار جهنّم كلّها، والمراد بالأتقى هنا أبو بكر الصديق (رض) بإجماع المفسّرين، ولهذا قال الزمخشري: إنّ الأشقى ليس بمعنى الشقي بل هو على ظاهره، والمراد به أبو جهل أو أميّة بن خلف. فالآية واردة للموازنة بين حالتي أعظم المؤمنين وأعظم المشركين، فبولغ في صفتيهما المتناقضتين، وجعل هذا مختصّا بالصّلى (أي بالنار) ، كأن النار لم تخلق إلا له لوفور نصيبه منها، وجاء قوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) على موازنة ذلك ومقابلته، مع أنّ كلّ تقي يجنّبها.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....](11/307)
الفهرس
سورة «المرسلات» المبحث الأول أهداف سورة «المرسلات» 3 تسلسل أفكار السورة 4 مع آيات السورة 5 مقاصد السورة 9.
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المرسلات» 11 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 11 الغرض منها وترتيبها 11 إثبات وقوع العذاب 11.
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المرسلات» 13.
المبحث الرابع مكنونات سورة «المرسلات» 15.
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المرسلات» 17(11/309)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المرسلات» 19.
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المرسلات» 21.
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المرسلات» 23.
سورة «النبأ» المبحث الأول أهداف سورة «النبأ» 27 مع آيات السورة 28 معنى الآيات 28 موضوعات السورة 31.
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النبأ» 33 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 33 الغرض منها وترتيبها 33 إثبات البعث 33.
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النبأ» 35.
المبحث الرابع مكنونات سورة «النبأ» 37.
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «النبأ» 39(11/310)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «النبأ» 41.
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «النبأ» 43.
سورة «النازعات» المبحث الأول أهداف سورة «النازعات» 47 مع آيات السورة 48 موضوعات سورة النازعات 51.
المبحث الثاني 53 ترابط الآيات في سورة «النازعات» 53 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 53 الغرض منها وترتيبها 53 إثبات البعث 53.
المبحث الثالث مكنونات سورة «النازعات» 55.
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «النازعات» 57.
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «النازعات» 59.
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «النازعات» 61(11/311)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «النازعات» 63.
سورة «عبس» المبحث الأول أهداف سورة «عبس» 67 فقرات السورة 67 مع آيات السورة 68 مقاصد السورة 71.
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «عبس» 73 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 73 الغرض منها وترتيبها 73 التسوية بين الناس في الدعوة 73.
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «عبس» 75.
المبحث الرابع مكنونات سورة «عبس» 77.
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «عبس» 79.
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «عبس» 81 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «عبس» 83.(11/312)
سورة «التكوير» المبحث الأول أهداف سورة «التكوير» 87 مع آيات السورة 87 المقطع الثاني 89.
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التكوير» 93 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 93 الغرض منها وترتيبها 93 إثبات الحساب على الأعمال 93.
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التكوير» 95.
المبحث الرابع مكنونات سورة «التكوير» 97.
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «التكوير» 99.
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «التكوير» 101.
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «التكوير» 103.
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «التكوير» 105(11/313)
سورة «الانفطار» المبحث الأول أهداف سورة «الانفطار» 109 مع آيات السورة 109 مقاصد السورة 114.
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الانفطار» 115 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 115 الغرض منها وترتيبها 115 إثبات الحساب على الأعمال 115.
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الانفطار» 117.
المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «الانفطار» 119.
المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «الانفطار» 121.
سورة «المطفّفين» المبحث الأول أهداف سورة «المطفّفين» 125 مقاطع السورة 125 من أسباب نزول السورة 126 مع آيات السورة 126 مقاصد السورة 130(11/314)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المطفّفين» 133 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 133 الغرض منها وترتيبها 133 تحريم التطفيف 133.
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المطفّفين» 135.
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «المطفّفين» 137.
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «المطفّفين» 139.
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «المطفّفين» 141.
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «المطفّفين» 143.
سورة «الانشقاق» المبحث الأول أهداف سورة «الانشقاق» 147 مقاطع السورة 147 مع آيات السورة 148 مقاصد السورة 151.
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الانشقاق» 153(11/315)
تاريخ نزولها ووجه تسميتها 153 الغرض منها وترتيبها 153 إثبات المعاد 153.
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الانشقاق» 155.
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الانشقاق» 157.
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الانشقاق» 159.
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الانشقاق» 161.
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الانشقاق» 163.
سورة «البروج» المبحث الأول أهداف سورة «البروج» 167 أصحاب الأخدود 167 فقرات السورة 167 مع آيات السورة 168 مقاصد السورة 170.
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «البروج» 171 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 171(11/316)
الغرض منها وترتيبها 171 تثبيت المؤمنين 171.
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورتي «البروج» و «الطارق» 173.
المبحث الرابع مكنونات سورة «البروج» 175.
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «البروج» 177.
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «البروج» 179.
سورة «الطارق» المبحث الأول أهداف سورة «الطارق» 183 مع آيات السورة 183 مقاصد السورة 186.
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الطارق» 187 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 187 الغرض منها وترتيبها 187 إثبات حفظ الأعمال 187.
المبحث الثالث مكنونات سورة «الطارق» 189(11/317)
المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة «الطارق» 191.
المبحث الخامس المعاني المجازية في سورة «الطارق» 193.
سورة «الأعلى» المبحث الأول أهداف سورة «الأعلى» 197 مع آيات السورة 197 يسر الشريعة الإسلامية 200 مقاصد سورة الأعلى 204.
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأعلى» 205 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 205 الغرض منها وترتيبها 205 منهاج الدعوة 205.
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الأعلى» 207.
المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة «الأعلى» 209.
سورة «الغاشية» المبحث الأول أهداف سورة «الغاشية» 213(11/318)
مع آيات السورة 213 مقاصد السورة 217.
المبحث الثاني 219 ترابط الآيات في سورة «الغاشية» 219 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 219 الغرض منها وترتيبها 219 تفصيل الثواب والعقاب 219.
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الغاشية» 221.
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الغاشية» 223.
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الغاشية» 225.
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الغاشية» 227.
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الغاشية» 229.
سورة «الفجر» المبحث الأول أهداف سورة «الفجر» 233 مع آيات السورة 234 خلاصة أهداف السورة 238(11/319)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الفجر» 239 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 239 الغرض منها وترتيبها 239 إثبات العذاب 239.
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الفجر» 241.
المبحث الرابع مكنونات سورة «الفجر» 243.
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الفجر» 245.
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الفجر» 247.
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الفجر» 249.
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الفجر» 251.
سورة «البلد» المبحث الأول أهداف سورة «البلد» 255 مع آيات السورة 255 مقاصد السورة 259(11/320)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «البلد» 261 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 261 الغرض منها وترتيبها 261 ذم الحرص على الدنيا 261.
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «البلد» 263.
المبحث الرابع مكنونات سورة «البلد» 265.
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «البلد» 267.
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «البلد» 269.
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «البلد» 271.
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «البلد» 273.
سورة «الشمس» المبحث الأول أهداف سورة «الشمس» 277 مع آيات السورة 277 مقاصد السورة 280(11/321)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الشمس» 281 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 281 الغرض منها وترتيبها 281 الترغيب في الطاعات والتحذير من المعاصي 281.
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الشمس» 283.
المبحث الرابع مكنونات سورة «الشمس» 285.
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الشمس» 287.
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الشمس» 289.
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الشمس» 291.
سورة «الليل» المبحث الأول أهداف سورة «الليل» 295 مع آيات السورة 295 مقاصد السورة 298.
المبحث الثاني 299 ترابط الآيات في سورة «الليل» 299 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 299(11/322)
الغرض منها وترتيبها 299 الترغيب في البذل والتحذير من البخل 299.
المبحث الثالث مكنونات سورة «الليل» 301.
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الليل» 303.
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الليل» 305.
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الليل» 307(11/323)
الجزء الثاني عشر
توضيح
ينبغي لنا الإشارة إلى أن بعض المباحث التي كانت مطّردة في المجلدات السابقة ستغيب عن هذا المجلد. ومردّ ذلك إلى أنّ طبيعة السور القرآنية الكريمة التي غابت عنها تلك المباحث، لا تستجيب لدواعي بعض العناوين فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنّ سورة قرآنية كريمة، لا تشتمل على معان لغوية غامضة، أو لا يكتنفها شيء من التغاير في الفهم والتحليل، لا تحتاج إلى مبحث «المعاني اللغوية» . وكذلك، فإن سورة قرآنية كريمة لا يتضمّن نصّها مجازا، لا تستجيب، وفاقا لنمط بيانها، إلى مبحث «المعاني المجازية» ...
وقس على ذلك.
وغنيّ عن القول أنّ أصحاب المصادر والمراجع التي ارتكزت عليها هذه الموسوعة هم أهل معرفة ودراية، بل هم أهل الاختصاص في هذا الشأن ولم يتركوا هذه المباحث سهوا أو نشدانا لراحة، أو تخفيفا من عناء. وما كان لهم أن يغفلوها لو أنهم وجدوا ما يقتضيها ناهيك من أنّ بعض المباحث قد استوفت أغراضها في آيات متشابهات من سور تضمنتها المجلدات السابقة.
فصار الكلام عليها، في هذا المجلد، من قبيل التكرار.(12/1)
سورة الضّحى 93(12/2)
المبحث الأول أهداف سورة «الضّحى» «1»
سورة «الضحى» سورة مكّية، آياتها إحدى عشرة آية، نزلت بعد سورة «الفجر» .
والسورة بموضوعها، وتعبيرها ومشاهدها، لمسة من حنان، ويد حانية تمسح على الآلام والمواجع، وتسكب الرّضا والأمل، إنها كلّها خالصة للنبي (ص) . كلها نجاء له من ربه وتسرية وتسلية وترويح وطمأنة.
ورد في روايات كثيرة، أن الوحي فتر عن رسول الله (ص) ، وأبطأ عليه جبريل (ع) فقال المشركون: إنّ إله محمّد ودّعه وقلاه. عندئذ نزلت هذه السورة، نزل هذا الفيض من الود والحب، والرحمة والإيناس والقربى، والطمأنينة واليقين.
وَالضُّحى (1) أي وحي الضحى، وهو وقت ارتفاع الشمس، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) أي سكن، والمراد سكون الناس والأصوات فيه. أقسم الله سبحانه بالضحى الرائق، الذي ينتشر فيه الضوء والنور، وتخف فيه حدة الشمس وأقسم بالليل الساكن الهادئ، ليربط بين القسم وجوابه وهو: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) ، ما تركك ربّك ولا جفاك كما زعم المشركون، وهو ربّك وراعيك وكافلك. وللدّار الاخرة خير لك من هذه الدنيا، ولسوف يعطيك ربك من الكمالات، وظهور الأمر، وبقاء الذكر ما يجعلك ترضى.
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(12/3)
وضمّ الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشقّ له من اسمه ليجلّه فذو العرش محمود وهذا محمّد ويمضي سياق السورة في تذكير الرسول (ص) بنعم الله عليه فيقول:
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآواك إليه، وعطف عليك القلوب؟
ولقد كنت ضالا غير عالم بمعالم النبوة وأحكام الشريعة، متحيّرا لا تجد طريقا واضحا مطمئنّا، لا في ما عند أهل الجاهلية، ولا في ما عند أتباع الأنبياء الذين حرّفوا وبدّلوا، ثمّ هداك الله بالأمر الذي أوحى به إليك، وعلّمك أحكام الشريعة والرسالة، ولقد كنت فقيرا فأغناك الله بكسبك، وبمال خديجة، وبما أفاء عليك من الربح في التجارة.
وبمناسبة ما ذكره الله سبحانه من النّعم، يوجّه الرسول (ص) ويوجه المسلمين من ورائه الى رعاية كلّ يتيم، وإلى كفاية كل سائل، وإلى التحدّث بنعم الله التي لا تحصى، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) ، أي فلا تغلبه على ماله لضعفه، فتسلبه إياه، وأمّا السائل فلا تزجره. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) : وحدّث الناس بما عندك من علم، بسبب إنعام الله عليك بالنبوّة، وكن هاديا دائما إلى طريق الفوز والفلاح.
والتحدّث بالنّعمة صورة من صور الشكر للمنعم، يكملها البر بالعباد، وهو المظهر العملي للشكر، ولذلك يقول أبو حامد الغزالي: «شكر النعمة هو استغلالها فيما خلقت له» .
فشكر نعمة البصر: التأمل في ملكوت السماوات والأرض، وغضّ البصر عن المحرّمات.
وشكر نعمة السمع: سماع الحق والعلم والقرآن، والامتناع عن سماع الزور والإثم.
وشكر نعمة اليد: أن تكتب بها العلم والحق، وأن تساعد بها، وأن تضرب بها في سبيل الله، وأن تجاهد أعداء الدين، وألّا تؤذي بها أحدا من المستضعفين.
ونلاحظ أن البيئة العربية في الجاهلية كانت تجحد حق الضعيف، وتهمل اليتيم والمساكين، وترى أن السيف هو القوة القادرة، وهو الحكومة المنفذة، حتى جاء الإسلام بأحكامه العادلة، وشريعته السمحة، فدعا إلى الحق(12/4)
والعدل، والتحرّج والتقوى، والوقوف عند حدود الله، الذي يحرس حدوده ويغار عليها، ويغضب للاعتداء على حقوق عباده الضعاف، الذين لا يملكون قوّة ولا سيفا، يذودون به عن هذه الحقوق.
مقاصد سورة الضحى
1- القسم بالضحى والليل، على أن الله ما قلا رسوله وما تركه.
2- وعد الرسول بأنه سيكون في مستقبل أمره خيرا من ماضيه.
3- تذكيره بنعمة الله عليه فيما مضى، وأنه سيواليها عليه.
4- طلب الشكر منه على هذه النعم.(12/5)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الضحى» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الضحى بعد سورة الفجر، ونزلت سورة الفجر فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة الضحى في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) وتبلغ آياتها إحدى عشرة آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة تثبيت النبي (ص) وإيناسه، وكان الوحي قد أبطأ عليه بعد نزوله، فقلق لإبطائه وحزن، وقد ذكر سبحانه في تثبيت الرسول (ص) أنه عليه الصلاة والسلام كان يتيما فآواه، وفقيرا فأغناه، ثمّ أمره بمواساة اليتيم والفقير، وبهذا أشبهت سورة الضحى سورة الليل في بعض سياقها.
تثبيت النبي (ص)
قال الله تعالى: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) فأقسم بالضحى، وما بعده أنه لم يودعه، ولم يقله بإبطاء الوحي عليه، وضمن له حسن العاقبة، وأنه سيعطيه حتّى يرضى ثمّ أمره أن يذكر ماضيه في يتمه وأمّيّته وفقره، ويذكر حاله الآن
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/7)
في زوج صالحة بعد يتم، ورسالة كريمة بعد أمِّيّة، وغنى بعد فقر، ليرضى ويقابل ذلك بالشكر، ثمّ بيّن له شكره بقوله: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) .(12/8)
المبحث الثالث لكل سؤال جواب في سورة «الضحى» «1»
إن قيل: لم وصف (ص) بالضّالّ، والنبي (ص) معاذ الله أن يكون ضالا:
أي كافرا لا قبل النبوة ولا بعدها، والضالّ أكثر ما ورد في القرآن بمعنى الكافر؟
قلنا: المراد به هنا أنه تعالى وجده ضالًّا عن معالم النبوّة وأحكام الشريعة فهداه إليها، هذا قول الجمهور.
الثاني: أنه ضل وهو صغير في شعاب مكة فرده الله تعالى إلى جده عبد المطلب. الثالث: أن معناه ووجدك ناسيا فهداك إلى الذكر، لأنّ الضلال جاء بمعنى النسيان، ومنه قوله تعالى:
أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى (ج) [البقرة: 282] .
فإن قيل: لو كان الضلال بمعنى النسيان، لما جمع بينهما في قوله تعالى: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى [طه:
52] .
قلنا: لا ندّعى أنه حيث ذكر كان بمعنى النسيان، فهو في تلك الآية بمعنى الخطأ، وقيل بمعنى الغفلة.
الرابع: أن معناه: ووجدك جاهلا فعلّمك.
فإن قيل: لم منّ سبحانه عليه بإخراجه من الفقر إلى الغنى، بقوله تعالى: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (8) ؟
قلنا: قال ابن السائب، واختاره الفرّاء: أنه لم يكن غناه بكثرة المال، ولكن الله أرضاه بما آتاه، ولم يكن ذلك الرضا قبل النبوة وذلك حقيقة الغنى، ويؤيّده قوله (ص) : «الغنى غنى
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرخ.(12/9)
القلب» . وقال غيره: المراد به أنه أغناه بمال خديجة عن مال أبي طالب، والمراد به الإغناء بتسهيل ما لا بد منه وتيسيره، لا الإغناء بفضول المال الذي لا يجامع صفة الفقر.(12/10)
المبحث الرابع المعاني المجازية في سورة «الضحى» «1»
قوله تعالى: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) فيه استعارة. ومعنى سجى، أي سكن. والليل لا يسكن، وإنما تسكن حركات الناس فيه، فأجرى سبحانه صفة السكون عليه لمّا كان السكون واقعا فيه. وقد مضى الكلام على نظائر ذلك.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(12/11)
سورة الشّرح 94(12/13)
المبحث الأول أهداف سورة «الشرح» «1»
سورة «الشرح» سورة مكّيّة، آياتها 8 آيات، نزلت بعد سورة الضحى.
مجمل ما تضمّنته السورة
1- هيأ الله سبحانه وتعالى نبيّه لتلقّي الرسالة الكريمة، وأفاض عليه من نعمه الجزيلة، فشرح صدره بما أودع فيه من العلوم والحكم، حتّى حمل أعباء النبوّة، وجعل أمر التبليغ عليه سهلا هيّنا.
2- قرن الله عزّ وجلّ اسم النبي (ص) ، باسم الله العظيم في الشهادة والأذان والإقامة والتشهّد.
3- بين الله سبحانه أن ما يصيب النبي صلوات الله وسلامه عليه من شدة، سيعقبها اليسر والفرج.
4- طلب الله تعالى من نبيه الأمين، إذا ما انتهى من تعليم الناس وإرشادهم، أن يشغل نفسه بعبادة الله.
5- أمره ألا يسأل أحدا غيره، لأنه سبحانه وتعالى هو السيّد القادر وحده على إجابة دعوة العبد السائل.
مع السورة
نزلت سورة الشرح بعد سورة الضحى، وكأنّها تكملة لها، فيها مظاهر الرعاية والعناية الإلهية، وفيها البشرى باليسر والفرج: ألم نفسح صدرك لهذه الدعوة ونيّسر لك أمرها؟
وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) : ووضعنا عنك عبئك الذي أثقل ظهرك حتى كاد يحطمه من ثقله،
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(12/15)
وضعناه عنك بشرح صدرك له فخفّ وهان، وبتيسيرك وتوفيقك للدعوة ومداخل القلوب.
وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) : رفعناه في الملأ الأعلى، ورفعناه في الأرض، ورفعناه في هذا الوجود جميعا، ورفعناه فجعلنا اسمك مقرونا باسم الله، كلّما تحركت به الشفاه: لا إله إلا الله محمّد رسول الله. قال مجاهد في معناه: «أي لا أذكر إلا ذكرت معي» .
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) ومع الشدة فرجا، ومع قلة ذات اليد السهولة والغنى، فخذ في أسباب اليسر والتيسير، فإذا فرغت من مهمّة تبليغ الرسالة، فانصب واتعب في القيام بواجبات العبادة لنا: وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) واجعل رغبتك إليه سبحانه، ولا تسأل إلا فضله متوكلا عليه: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التغابن: 13] .
«وتنتهي سورة الشرح كما انتهت سورة الضحى، وقد تركت في النفس شعورين ممتزجين:
الشعور بعظمة الود الحبيب الجليل، الذي ينسم على روح الرسول (ص) ، من ربّه الودود الرحيم، والشعور بالعطف على شخصه (ص) . ونحن نكاد نلمس ما كان يساور قلبه الكريم، في هذه الآونة، التي اقتضت ذلك الود الجميل.
إنها الدعوة، هذه الأمانة الثقيلة، وهذا العبء الذي ينقض الظهر، وهي مع هذا وهذا مشرق النور الإلهي ومهبطه، ووصلة الفناء بالبقاء والعدم بالوجود» .(12/16)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الشرح» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الشّرح بعد سورة الضّحى، ونزلت سورة الضحى فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة الشرح في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) . وتبلغ آياتها ثماني آيات.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة تثبيت النبي (ص) وإيناسه أيضا، فهي توافق سورة الضحى في الغرض المقصود منها، ولهذا ذكرت بعدها، ويروى عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يريان أن السورتين سورة واحدة.
تثبيت النبي (ص) الآيات [1- 8]
قال الله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) ، فذكر أنه شرح له صدره بالرسالة، وأنه وضع عنه بها ما كان يثقله قبل البعثة من الحيرة في أمر الناس وضلالهم، وأنه رفع بها ذكره على من سبقه من الرسل، ثم ذكر له أن مع العسر الذي يجده من إعراض قومه يسرا، ثم أمره بما يجعله يصبر على أذاهم فقال: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/17)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الشرح» «1»
أقول: هي شديدة الاتّصال بسورة الضحى، لتناسبهما في الجمل. ولهذا ذهب بعض السلف إلى أنهما سورة واحدة بلا بسملة بينهما «2» . قال الإمام: والذي دعاهم إلى ذلك هو:
أن قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ كالعطف على: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) [الضحى] «3» .
قلت: وفي حديث الإسراء أن الله تعالى قال: «يا محمد، ألم أجدك يتيما فاويت، وضالا فهديت، وعائلا فأغنيت، وشرحت لك صدرك، وحططت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر الا ذكرت» الحديث أخرجه ابن أبي حاتم «4» وفي هذا أوفى دليل على اتصال السورتين معنى.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . نقل هذا القول فخر الدين الرازي في تفسيره عن طاوس وعمر بن عبد العزيز (تفسير سورة الضحى) .
(3) . هي كالعطف في المعنى لا في اللفظ. ثم إن هذه السورة شرح لسابقتها، فشرح الصدر هناك: مفصّل هنا ببيان عناصره وأسبابه التي هي: الإيواء بعد اليتم، والهداية بعد الضلال، والغنى بعد العيلة. فتلك كلها من عوامل انشراح الصدر للإيمان، لا سيّما وقد جاءت بعد وعد بالعطاء حتّى يرضى الرسول (ص) .
(4) . الحديث ذكره ابن كثير في تفسيره عن ابن أبي حاتم: 8: 452.(12/19)
المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة «الشرح» «1»
إن قيل: ما الحكمة في زيادة ذكر لك وعنك، والكلام تامّ بدونهما؟
قلنا: فائدته الإبهام ثمّ الإيضاح، وهو نوع من أنواع البلاغة، فلمّا قال تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) فهم أنّ ثمّ مشروحا له، ثم قال:
صَدْرَكَ (1) فأوضح ما علم مبهما بلفظ لك، وكذا الكلام في: وَوَضَعْنا عَنْكَ.
فإن قيل: قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) وكلمة مع للمصاحبة والقران، فما معنى اقتران العسر واليسر؟
قلنا: سبب نزول هذه الآية أنّ المشركين عيّروا رسول الله (ص) وأصحابه (رض) بالفقر والضائقة التي كانوا فيها، فوعدهم الله تعالى يسرا قريبا من زمان عسرهم، وأراد تأكيد الوعد لتسليتهم وتقوية قلوبهم، فجعل اليسر الموعود كالمقارن للعسر في سرعة مجيئه.
فإن قيل: ما معنى قول ابن عمر وابن عباس (رض) وابن مسعود (رض) : لن يغلب عسر يسرين، ويروى ذلك عن النبي (ص) أيضا؟
قلنا: هذا عمل على الظاهر وبناء على قوّة الرجاء، وإنّ وعد الله لا يحمل إلا على أحسن ما يحتمله اللفظ وأكمله وأما حقيقة القول فيه فهو أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تأكيدا
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/21)
للأولى، كما في قوله تعالى: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) [المرسلات] . وما أشبهه، وكما في قولك: جاءني رجل جاءني رجل وأنت تعني واحدا في الجملتين، فعلى هذا يتّحد العسر واليسر، أو يكون تعريف العسر لأنه حاضر معهود، وتنكير اليسر لأنه غائب مفقود، وللتفخيم والتعظيم ويحتمل أن تكون الجملة الثانية وعدا مستأنفا فيتعدد اليسر حينئذ على ما قيل.
وعن معنى: «لن يغلب عسر يسرين» قلنا: كأنّه نزل ما فيه من التفخيم والتعظيم بالتنكير منزلة التثنية، لأن المعنى يسرا وأىّ يسر، وأما من فسره بيسرين فإنه قال: أحد اليسرين ما تيسّر من الفتوح في زمن النبي (ص) .
والثاني ما تيسّر بعده في زمن الخلفاء.
وقيل هما يسر الدنيا ويسر الاخرة، كقوله تعالى: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة: 52] وهما حسن الظفر وحسن الثواب.(12/22)
المبحث الخامس المعاني المجازية في سورة «الشرح» «1»
في قوله سبحانه: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) مجاز واستعارة، لأن النبي (ص) لا يجوز أن ينتهي عظم ذنبه إلى حال إنقاض الظّهر، وهو صوت تقعقع العظام من ثقل الحمل.
لأن هذا القول لا يكون إلّا كناية عن الذنوب العظيمة، والأفعال القبيحة.
وذلك غير جائز على الأنبياء عليهم السلام، في قول من لا يجيز عليهم الصغائر ولا الكبائر، وفي قول من يجيز عليهم الصغائر دون الكبائر. لأن الله سبحانه قد نزّههم عن موبقات الآثام، ومسحقات الأفعال، إذ كانوا أمناء وحيه، وألسنة أمره ونهيه، وسفراؤه إلى خلقه.
فنقول: إن المراد هاهنا بوضع الوزر ليس على ما يظنه المخالفون من كونه كناية عن الذنب، وإنّما المراد به ما كان يعانيه النبي (ص) من الأمور المستصعبة في أداء الرسالة، وتبليغ النذارة «2» ، وما كان يلاقيه عليه السلام من مضارّ قومه، ويتلقّاه من مرامي أيدي معشره. وكلّ ذلك حرج في صدره، وثقل على ظهره. فقرّره الله سبحانه بأنه أزال عنه تلك المخاوف
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . أي الإنذار، كالبشارة، وهي تقديم البشرى.(12/23)
كلّها، وحطّ عن ظهره تلك الأعباء بأسرها، وأداله من أعدائه «1» ، وفضّله على أكفائه، وقدّم ذكره على كل ذكر، ورفع قدره على كل قدر، حتى أمن بعد الخيفة، واطمأنّ بعد القلقلة.
__________
(1) . أي جعل له الكرّة عليهم، ونصره وأظفره بهم. [.....](12/24)
سورة التّين 95(12/25)
المبحث الأول أهداف سورة «التين» «1»
سورة التين سورة مكية، آياتها 8 آيات، نزلت بعد سورة البروج.
والحقيقة الرئيسة التي تعرضها سورة التين، هي حقيقة الفطرة القويمة التي فطر الله الإنسان عليها.
يقسم الله سبحانه على هذه الحقيقة، بالتين والزيتون وطور سينين، وهذا البلد الأمين.
وقد كثرت أقوال المفسّرين في التين والزيتون، فقيل هما جبلان بالشام، وقيل: هما هاتان الثمرتان اللتان نعرفهما بحقيقتهما، وقد أقسم الله تعالى بهما لأنهما عجيبتان من بين الأشجار المثمرة.
وَطُورِ سِينِينَ (2) هو الطور الذي نودي موسى (ع) من جانبه، وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) ، هو مكّة بيت الله الحرام.
لقد خلقنا الإنسان في أحسن صورة، بانتصاب قامته، وأحسن وجهه، واستجماعه لخواصّ الكائنات في تركيبه.
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) : أي ثمّ كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة الله عليه، أن رددناه أسفل سافلين، حيث تصبح البهائم أرفع منه وأقوم، لاستقامتها على فطرتها، وإلهامها تسبيح ربها، وأداء وظيفتها على هدى بينما هو المخلوق في أحسن تقويم يجحد ربه، ويرتكس مع هواه.
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(12/27)
فطرة واستعدادا، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) ، حينما ينحرف بهذه الفطرة، عن الخطّ الذي هداه الله اليه، وبيّنه له.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فلهم أجر دائم غير مقطوع، ولا منقوص، ولا ممنون.
فمن يكذّبك بالدين بعد ظهور هذه الحقيقة؟ وبعد إدراك قيمة الإيمان في حياة البشرية؟
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) :
أليس الله بأعدل العادلين، حينما يحكم في أمر الخلق على هذا النحو؟ أو أليست حكمة الله بالغة؟
والعدل واضح والحكمة بارزة، ومن ثم ورد في الحديث المرفوع: إذا قرأ أحدكم وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) فأتى آخرها: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) ، فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين.
مجمل ما تضمنته السورة
أقسم الله تعالى، بأنه أحسن خلق الإنسان، فجعله منتصب القامة، متّسق الأعضاء والخواصّ، وقد يردّه إلى أرذل العمر، فيصير ضعيفا هرما.
أو أنه فطر الإنسان أحسن فطرة نفسا وبدنا وعقلا، إلّا أنه تمشّيا مع رغباته الأثيمة، ونزواته الشريرة انحطّت منزلة بعض أفراده، فصيّرهم الله الى منازل الخزي والهوان واستثنى الله تعالى من هذا المصير، أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلهم أجر غير منقطع وأشارت السورة أيضا إلى أن الله تعالى هو أعدل الحاكمين، وأعلى المدبّرين حكما.(12/28)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التين» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة التين بعد سورة البروج، ونزلت سورة البروج فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء فيكون نزول سورة التين في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وتبلغ آياتها ثماني آيات.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة، إثبات أن الإسلام دين الفطرة، وتوبيخ من يكذّب به وينحرف عنه وبهذا ناسبت هذه السورة سورة الشرح، لأنها كانت في تثبيت النبي (ص) على تكذيب قومه له، وانحرافهم عن دينه.
الإسلام دين الفطرة الآيات [1- 8]
قال الله تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ، فأقسم بهذا، على أنه خلق الإنسان في أوّل أمره، في أكمل عقل ودين وعلم وذكر سبحانه أن هذا الإنسان انحرف عن هذا، فردّه أسفل سافلين، إلّا من استقام في دينه، فلهم أجر غير ممنون ثمّ وبّخه على انحرافه، وهدّده بقوله تعالى: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/29)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التين» «1»
أقول: لمّا تقدّم، في سورة الشمس: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) [الشمس] فصّل في هذه السورة بقوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إلى آخره.
وأخّرت هذه السورة، لتقدّم ما هو أنسب بالتقديم، من السور الثلاث «2» ، واتّصالها بسورة البلد لقوله تعالى:
وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) وأخّرت لتقدّم ما هو أولى بالمناسبة، مع سورة الفجر «3» .
من اللطائف
نقل الشيخ تاج الدين بن عطاء الله السكندري في «لطائف المنن» عن الشيخ أبي العباس المرسي، قال قرأت مرة وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) ، إلى أن انتهيت إلى قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) ففكّرت في معنى هذه الآية، فألهمني الله أنّ معناها: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم روحا وعقلا، ثم رددناه أسفل سافلين نفسا وهوى «4» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . يعني: (الليل، والضحى، والشرح) . فإنّ مناسباتها متوالية هكذا، أهم من تقديم التين بعد الشمس.
(3) . يعني أنّ اتّصال سورة الشمس بالبلد، واتّصال البلد بالفجر، أولى من اتّصال التين بالبلد لمجرد ذكر (البلد) في كليهما.
(4) . لطائف المنن ص. 118 المطبعة الفخرية. 1972. القاهرة.(12/31)
قلت: تظهر من هذه المناسبة وضعها بعد أَلَمْ نَشْرَحْ. فإنّ تلك أخبر فيها عن شرح صدر النبي (ص) ، وذلك يستدعي كمال عقله وروحه، فكلاهما في القلب الذي محلّه الصدر وعن خلاصه من الوزر الذي ينشأ من النفس والهوى، وهو معصوم منهما، وعن رفع الذّكر، حيث نزّه مقامه عن كل موهم.
فلمّا كانت هذه السورة في هذا العلم الفرد من الإنسان، أعقبها بسورة مشتملة على بقيّة الأناسي، وذكر ما خامرهم في متابعة النفس والهوى.(12/32)
المبحث الرابع مكنونات سورة «التين» «1»
أخرج ابن أبي حاتم عن كعب قال:
1- وَالزَّيْتُونِ (1) .
دمشق «2» 2- وَالزَّيْتُونِ:
بيت المقدس.
وعن قتادة: التين: الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون: جبل عليه بيت المقدس «3» .
وعن الرّبيع: جبل عليه التّين والزّيتون.
وعن محمد بن كعب: التين جبل أصحاب الكهف، والزيتون: مسجد إيليا «4» .
ومن طريق العوفي، عن ابن عبّاس:
التين: مسجد نوح الذي على الجودىّ.
وعن عكرمة: في هذا عشرون قولا.
3- الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) :
مكّة.
وأخرج ابن عساكر عن عمرو بن الدّرفس «5» الغسّاني قال: والتين مسجد دمشق كان بستانا لهود (ع) ، فيه تين والزيتون مسجد بيت المقدس.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . في «تفسير الطبري» 30: 153: «مسجد دمشق» .
(3) . الطبري 30: 153.
(4) . إيلياء: بيت المقدس.
(5) . بفتح الدال المهملة والراء، وسكون الفاء، وآخره سين مهملة، كما في «خلاصة تهذيب الكمال» : 282، ويقال: إن «الدرفس» كان مولى معاوية، يحمل علما يسمى «الدرفس» فلقّب به، كما في «تهذيب التهذيب» 7: 443.(12/33)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «التين» «1»
قال تعالى: وَطُورِ سِينِينَ (2) وواحدها «السّينينة» «2» .
وقال سبحانه: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ [الآية 7] ، بجعل (ما) للإنسان. وفي هذا القول يجوز «ما جاءني زيد» في معنى «الذي جاءني زيد» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نقله في المشكل 2: 499، والجامع 20: 113، والبحر 8: 490. والسّينية: شجرة.(12/35)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «التين» «1»
فإن قيل: ما وجه الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) .
قلنا: قال الأكثرون: المراد بالإنسان هنا الجنس، وبردّه أسفل سافلين بإدخاله النار، فعلى هذا يكون الاستثناء متّصلا ظاهر الاتّصال، ويكون قوله تعالى: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، قائما مقام معنى قوله تعالى فلا نردّهم أسفل سافلين، وأمّا على قول من فسّر أسفل سافلين بالهرم والخرف، وقال:
السافلون هم الضعفاء، والزّمنى «2» ، والأطفال، والشيخ الهرم أسفل هؤلاء كلهم، فعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا بمعنى لكن، ومعنى قوله تعالى: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، أي غير مقطوع بالهرم، والضعف الحاصل من الكبر: أي إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في حال شبابهم وقوّتهم، فإنّهم إذا عجزوا عن العمل كتب لهم ثواب ما كانوا يعملونه من الطاعات والحسنات إلى وقت موتهم وهذا معنى قول ابن عباس (رض) : من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر، وقال بعض العلماء: الذين آمنوا وعملوا الصالحات في شبابهم وقوّتهم، فإنهم لا يردون إلى الخرف وأرذل العمر، وإن عمّروا طويلا وتمسّك بظاهر قول ابن عباس رضي الله عنهما.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....]
(2) . الزّمنى: مفردة «زمن» ، وهو من ضعف بكبر سنّه.(12/37)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «التين» «1»
في قوله سبحانه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) استعارة، والمراد بها انعكاس صحة أحوال الإنسان، ورجوعه بعد الشباب إلى الهرم، وبعد الصحة إلى السقم، وبعد الحفظ إلى النسيان، وبعد الزيادة إلى النقصان، فكأنّه قد حطّ من عال إلى سافل، وردّ إلى أرذل العمر، لكي لا يعلم من بعد علم شيئا.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(12/39)
سورة العلق 96(12/41)
المبحث الأول أهداف سورة «العلق» «1»
سورة العلق سورة مكية، عدد آياتها 19 آية، وهي أول ما نزل من القرآن الكريم.
اقْرَأْ [الآية 1] : أي ما يوحى إليك، ويتلى.
بِاسْمِ رَبِّكَ [الآية 1] : مبتدئا، ومستعينا باسمه تعالى.
عَلَقٍ (2) : واحده علقة، وهي قطعة من الدم جامدة، هي أصل البويضة، في القاموس: علقت المرأة حبلت.
الْأَكْرَمُ (3) : له كمال الكرم.
عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) جعل الكتابة وسيلة العلم.
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) : أوجد فيه قوة إدراك المعلومات، وطاقات تحصيلها، ويسّر له الدرس.
كَلَّا [الآية 6] : للزجر والردع.
لَيَطْغى (6) : يتجاوز حدود ما شرع، فيكفر ويظلم.
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) : أي بسبب غناه، فأبطرته النعم.
الرُّجْعى
(8) : الرجوع والمصير إلى الله.
الَّذِي يَنْهى (9) : إشارة الى أبي جهل.
عَبْداً إِذا صَلَّى (10) : يريد النبي (ص) .
أَرَأَيْتَ [الآيات 9 و 11 و 13] :
استخبارية، بمعنى أخبرني.
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(12/43)
لَنَسْفَعاً [الآية 15] : لنأخذنّه بعنف.
بِالنَّاصِيَةِ (15) : مقدّم شعر الرأس.
نادِيَهُ (17) : مجتمع القوم، والمراد من به.
الزَّبانِيَةَ (18) : ملائكة العذاب.
وَاقْتَرِبْ (19) : تقرّب إلينا بالطاعة.
[الآيات 1- 5] : ورد في كتب الصحيح أن النبي (ص) ، كان يتعبّد في غار حراء، فجاءه الملك فضمّه ضمّا شديدا حتى بلغ منه الجهد ثلاث مرات، ثمّ قال كما ورد في التنزيل:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) .
اقرأ باسم الله وقدرته، الذي أحكم الخلق، وهو بديع السماوات والأرض، خلق الإنسان من دم متجمّد، يعلق بجدار الرحم، فسوّاه من نطفة إلى علقة، إلى مضغة، إلى عظام، فكسى العظام لحما ثمّ أنشأه خلقا آخر، فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) [المؤمنون] .
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) ، الذي له الكمال في زيادة كرمه على كلّ كريم، ينعم على عباده بالنعم، ويحلم عنهم فلا يعاجلهم بالعقوبة.
ومن الله يستمد الإنسان كلّ ما علم، وكلّ ما يعلم. والله سبحانه هو الذي خلق وهو الذي علّم فمنه البدء والنشأة، ومنه التعليم والمعرفة.
وقد كان (ص) ، أكمل الخلق ذكرا لله وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا وعلى جنبه، وفي مشيته وركوبه، وسيره ونزوله، وسفره وإقامته، ولقد كان واجب كل إنسان أن يعرف ربّه ويشكره، ولكن الذي حدث غير هذا.
[الآيات 6- 8] : كلا إنّ الإنسان ليتجاوز الحدّ في التعدي، أن رأى نفسه مستغنيا، إنّ إلى ربّك الرجوع والحساب، فليس هناك مرجع سواه، إليه جلّت قدرته يرجع الغنيّ والفقير، والصالح والشرير، ومنه النشأة، وإليه المصير.
وكان أبو جهل يقول: لو رأيت محمّدا ساجدا لوطئت عنقه، فأنزل الله عز وجل قوله: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أي أرأيت أبا جهل ينهى محمدا (ص) عن الصلاة. أرأيت إن كان هذا الذي يصلّي على الهدى أو(12/44)
أمر بالتقوى، ثمّ ينهاه من ينهاه مع أنّه على الهدى، آمر بالتقوى؟.
أرأيت إن كان ذلك الناهي مكذّبا بالحق، متولّيا عنه: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) ويطّلع على أحواله، ويرى نهيه للعبد المؤمن إذا صلّى، وسيؤاخذه على ذلك، وقد وردت روايات صحيحة تفيد أنّ أبا جهل نهى النبي (ص) عن الصلاة، فأغلظ له الرسول (ص) القول، فقال أبو جهل:
أتهدّدني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا أي مجلسا يجتمع فيه القوم والأعوان.
[الآيات 15- 19] : وأمام مشهد الطغيان، يجيء التهديد الحاسم الرادع الأخير: كَلَّا لئن لم يرجع عمّا هو فيه، لنقبضنّ على ناصيته، ولنجذبنّها جذبا شديدا عنيفا، فهي ناصية كذّبت الحقّ، وأخطأت الطريق، فليدع أهل ناديه لينتصروا له وليمنعوه منّا سندعو الزبانية الشداد الغلاظ، كلا: لا تطع هذا الطاغي، واسجد لربك واقترب منه، بالطاعة والعبادة، فهو الحصن والملجأ، وهو نعم المولى ونعم النصير.
مقاصد سورة العلق
تشتمل سورة العلق على المقاصد الآتية:
1- حكمة الله تعالى: في خلق الإنسان من قطعة لحم علقت بجدار الرحم، ثمّ تكوينه خلقا كاملا، يبسط سلطانه على كثير من الكائنات.
2- من كرم الله وإنعامه: أنه علّم الإنسان البيان، وأفاض عليه الكثير من النّعم، ممّا جعل له القدرة على غيره ممّا في الأرض.
3- لقد غفل الإنسان عن هذه النعم، فإذا رأى نفسه غنيّا صلف وتجبّر واستكبر.(12/45)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «العلق» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
سورة العلق أوّل ما نزل من القرآن عند جمهور المفسّرين وذهب آخرون إلى أنّ الفاتحة هي أوّل ما نزل منه، ثمّ سورة العلق.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) .
وتبلغ آياتها تسع عشرة آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة: إعلام النبي (ص) بالدعوة، ليقوم بتبليغها لمن أرسل إليهم، وهي دعوة الدّين الذي ذكر في السورة السابقة، أنّه الفطرة التي فطر الناس عليها وهذا هو وجه المناسبة في ذكر هذه السورة بعدها.
إعلام النبي بالدعوة الآيات [1- 19]
قال الله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) فأمر تعالى نبيه أوّلا أن يقرأ ما أوحي إليه من دعوة التوحيد ليتعلّمها ثمّ أمره ثانيا أن يقرأها ليبلّغها الناس وذكر من صفاته أوّلا: أنه جلّ وعلا خلق الإنسان من علق، وثانيا:
أنه سبحانه هو الأكرم الذي كان من أهمّ نعمه على الإنسان، تعليمه القراءة والكتابة، ليهذّب نفسه ويعلّمه ما لم يعلم، ثم سجّل، على هذا الإنسان،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/47)
أنه لم يقابل نعمه بالشكر، بل أطغاه الغنى وأبطره وهدّده بأنّ إليه الرّجعى، ليعاقبه على طغيانه ثم ذكر من طغيانه أنه ينهى عن الصلاة إليه، وأنه يكذّب ويعرض عن دعوته ثم هدّده بأنه سيأخذ بناصيته إلى النار وأمره أن يدعو حينئذ أعوانه لنصرته، وأين هم من الزبانية اللذين سيدعوهم سبحانه لعذابه ثم ختمت السورة بنهي النبي (ص) عن طاعة هذا الإنسان، وأمره بالمضي، في دعوته، فقال تعالى: كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) .(12/48)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «العلق» «1»
أقول: لمّا تقدّم في سورة التين بيان خلق الإنسان في أحسن تقويم، بيّن هنا أنه تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) وذلك ظاهر الاتّصال، فالأوّل بيان العلّة الصورية، وهذا بيان العلة المادية «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . أقول: ومن المناسبة بين التين والعلق:
(أ) انه تعالى لما قال في آخر التين: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) بيّن، في أول العلق، أنه تعالى مصدر علم العباد بحكمته. فبيّن أنه سبحانه: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) . وصدّر ذلك بالأمر بالقراءة، واستفتاحها باسمه دائما، لتكون للإنسان عونا على كمال العلم بحكمة أحكم الحاكمين.
(ب) لمّا ذكر في التين خلق الإنسان في أحسن تقويم، وردّه إلى أسفل سافلين. بيّن في العلق تفصيل الحالين وأسبابهما من أوّل قوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) . الى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) .(12/49)
المبحث الرابع مكنونات سورة «العلق» «1»
1- كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) إلى آخر السورة.
نزلت في أبي جهل «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . انظر تفسير الطبري 30: 163.(12/51)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «العلق» «1»
1- وقال تعالى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) .
والمراد أهل النادي، وهذا كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] أي: أهلها ومثله قول جرير:
لهم مجلس صهب السّبال أذلّه على من يعاديهم أشدّاء فاعلم
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(12/53)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «العلق» «1»
قال تعالى: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) ثم قال سبحانه: أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) فهي بدل منها، والخبر أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) .
وقال سبحانه: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) ف (ناديه) هاهنا عشيرته، وإنما هم أهل النادي، والنادي مكانه ومجلسه. وأما (الزّبانية) فقال بعضهم:
واحدهم «الزباني» وقال بعضهم:
«الزابن» «2» سمعت «الزابن» من عيسى ابن عمر. وقال بعضهم «الزبنية» .
والعرب لا تكاد تعرف هذا، وتجعله من الجمع الذي لا واحد له مثل «أبابيل» تقول: «جاءت إبلي أبابيل» أي: فرقا. وهذا يجيء في معنى التكثير مثل «عباديد» و «شعارير» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نقله في الصحاح «زبن» ، والجامع 20: 126.(12/55)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «العلق» «1»
إن قيل: أين مفعول خلق في الآية الأولى؟
قلنا: يحتمل وجهين: أحدهما أن لا يقدر له مفعول، بل يكون المراد الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه كما قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك: 14] في أحد الوجهين، وقولهم: فلان يعطي ويمنع، ويصل ويقطع. الثاني: أن يكون مفعوله مضمرا، تقديره: الذي خلق كلّ شيء، ثم أفرد الإنسان بالذكر تشريفا له وتفضيلا.
فإن قيل: لم قال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) على الجمع ولم يقل: من علقة؟
قلنا: لأن الإنسان في معنى الجمع، بدليل قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [العصر] ، والجمع إنّما خلق من جمع علقة لا من علقة.
فإن قيل: هذا الجواب يردّه قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ [الحج: 5] .
قلنا: المراد فإنّا خلقنا أباكم من تراب، ثمّ خلقنا كل واحد من أولاده من نطفة. وقيل إنّما قال تعالى: مِنْ عَلَقٍ (2) رعاية للفاصلة الأولى وهي خلق.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/57)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «العلق» «1»
كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) .
هذه استعارة، لأنّ صفة الناصية بالكذب والخطأ مجاز، والمراد بذلك صاحب الناصية، وذلك نظير قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) [الغاشية] وقد مضى الكلام على هذا المعنى، وجاء في الآية إبدال النكرة من المعرفة، وهو قليل في القرآن والكلام، لأنّ الناصية الأولى معرفة، والناصية الثانية نكرة وهي بدل من الأولى.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(12/59)
سورة القدر 97(12/61)
المبحث الأول أهداف سورة «القدر» «1»
سورة القدر سورة مكية، آياتها 5 آيات نزلت بعد سورة عبس.
والحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة، التي سجّلها الوجود كله، في فرح وغبطة وابتهال، ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى، ليلة بدء نزول القرآن الكريم على قلب محمد (ص) ، ليلة ذلك الحدث العظيم، الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته وفي دلالته، وفي آثاره في حياة البشرية جميعا، العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري.
هي ليلة نزل فيها قرآن ذو قدر، على نبيّ ذي قدر، لأمّة ذات قدر.
هي ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك. قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [البقرة: 185] .
وقد وردت في تعيين هذه الليلة آثار كثيرة، منها ما ورد في البخاري أن رسول الله (ص) قال:
«إنّي رأيت ليلة القدر، ثم نسيتها، أو أنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان» .
ويتوقّع طلبها في أوتار العشر الأواخر، أي ليلة 21، 23، 25، 27، 29 وفي كثير من الروايات أنّها ليلة 27 رمضان.
وعظمة هذه الليلة مستمدّة من نزول القرآن الكريم فيها، ذلك الكتاب
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. [.....](12/63)
الخالد الذي وصل الأرض بالسماء، وكان هداية رب العباد للعباد، وكان النور والهدى، والسلامة والسلام للخلق أجمعين.
المفردات:
لَيْلَةِ الْقَدْرِ (2) : القدر: الشرف والقيامة والمقام.
وَما أَدْراكَ: المراد بالاستفهام تقرير عظيم شأنها.
خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) : ثواب العبادة فيها، خير من ألف شهر، والعدد لا يفيد التحديد، وإنما يفيد التكثير فهي خير من آلاف الشهور في حياة البشر.
وَالرُّوحُ: جبريل (ع) .
سَلامٌ هِيَ: خير كلّها.
حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) : لا تزال الملائكة متنزّلة بالرحمة والمغفرة، حتى مطلع الفجر.
[الآية 1] : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) نزل القرآن الكريم من اللوح المحفوظ، إلى سماء الدنيا جملة واحدة ثم نزل منجّما على ثلاث وعشرين سنة، وبدأ الإنزال في ليلة مقدّرة، لها شرفها عند الله، وزادها شرفا بدء نزول القرآن فيها.
[الآية 2] : وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) : إن شأنها لعظيم، عظمة لا تقدّر، ففيها فاض النور على الوجود كلّه، وأسبغ الله تعالى فيها السلام والبشرى على البشرية، بما تضمّنه هذا القرآن، من عقيدة وتصوّر، وشريعة وآداب تشيع السلام في الأرض والضمير.
[الآية 3] : لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) أي هي، بما نزل فيها من ذكر وقرآن وهداية، أفضل من ألف شهر، من شهور الجاهلية أو العبادة والعمل الصالح فيها أفضل من العبادة في ألف شهر.
روي عن مجاهد أنّ النبيّ (ص) ، ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فتعجّب المسلمون من ذلك، فأنزل الله عز وجل إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) .
[الآية 4] : تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) . تنزّل الملائكة وجبريل الأمين في هذه(12/64)
الليلة، بالسلام والأمان، والرحمة لعباد الله، وتنزّل بأمر الله وتقديره، من أجل كلّ أمر، قضاه الله لتلك السنة إلى عام قابل.
[الآية 5] : سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) : هي سلام وأمان وثواب موصول، وعبادة مضاعفة الثواب إلى طلوع الفجر.
وفي الصحيحين: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه» .
فهي ليلة التجرّد والإخلاص لله ليلة نزول القرآن، وعبادة الرحمن ليلة تغمر الملائكة الأرض بالسلام والأمان من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.(12/65)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القدر» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة القدر بعد سورة عبس، ونزلت سورة عبس، فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة القدر في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وتبلغ آياتها خمس آيات.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة بيان فضل الليلة التي أنزل فيها القرآن، وهذا للتنويه بشأنه في اختيار تلك الليلة لنزوله ولا تخفى مناسبة هذا لذكر ابتداء نزوله في سورة العلق، ولهذا ذكرت بعدها هذه السورة.
فضل ليلة نزول القرآن الآيات [1- 5]
قال الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) فذكر سبحانه أنه أنزله في هذه الليلة وذكر أنها خير من ألف شهر وأنّ الملائكة، تتنزّل فيها بما قدّر من خير أو شرّ ثم ختمها سبحانه، بقوله تعالى: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/67)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «القدر» «1»
قال الخطابي «2» لمّا اجتمع أصحاب النبي (ص) على القرآن، ووضعوا سورة القدر عقب العلق، استدلوا بذلك على أنّ المراد بهاء الكناية في قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) الإشارة إلى قوله سبحانه اقْرَأْ [العلق: 1] .
قال القاضي أبو بكر بن العربي.
وهذا بديع جدا «3» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . الخطابي هو: أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو سليمان. له شرح سنن أبي داود، وبيان إعجاز القرآن. توفي سنة 388 (وفيات الأعيان: 1: 166) . والنقل من (البرهان لأبي جعفر بن الزبير) كما قال السّيوطي «الإتقان» : 3:
383.
(3) . أقول: وهناك مناسبة أخرى خفيّة، هي أنّه تعالى لمّا ختم العلق بالأمر بالسجود والاقتراب من الله، وكان المقصود من الاقتراب: التعرّض للرحمة الفائضة من الله على المصلّي، والصلاة لا تكون إلّا بقرآن، ذكر في أوّل هذه السورة أن القرآن رحمة في ذاته، ورحمة في الزمان الذي نزل فيه، وهو ليلة القدر، التي تتنزّل الملائكة فيها، بالروح والسلام على الكون.(12/69)
المبحث الرابع مكنونات سورة «القدر» «1»
1- فيها أقوال كثيرة تزيد على الأربعين، وحاصلها أقوال عشرة:
ليالي العشر الأخيرة «2» وليلة أول الشهر، ونصفه، والسابعة عشرة، وثلاثة تليها، ونصف شعبان، وقيل:
بالإبهام، والتنقّل كلّ عام، في كلّ رمضان، وفي كلّ السنة، فهذه عشرة أقوال «3» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . قال الفيومي في «المصباح المنير» مادة (آخرة) : وقولهم في العشر «الاخر» على فاعل أو «الأخير» أو الأوسط» أو «الأوّل» بالتشديد عامّيّ لأن المراد بالعشر الليالي، وهي جمع مؤنث، فلا توصف بمفرد بل بمثلها» انتهى. وقال أيضا في مادة «العشر» : والعامّة تذكّر العشر على معنى أنه جمع الأيام. وهو خطأ فإنه تغيير المسموع» وصحيح العربية أن يقال «العشر الأخر» جمع أخرى و «العشر الأواخر» أيضا جمع آخرة.
(3) . «وأخرج البيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن عبّاس: أنّ رجلا قال: يا نبيّ الله، إنّي شيخ كبير، يشقّ عليّ القيام، فمرني بليلة لعلّ الله أن يوفقني فيها لليلة القدر. قال: «عليك بالسابعة» .
وأخرج أبو داود وغيره، عن معاوية بن أبي سفيان، عن النبي (ص) في ليلة القدر قال:
«ليلة سبع وعشرين» انتهى.
انظر في ليلة القدر: «أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي المالكي 4: 1962، و «تفسير الطبري» 30: 166، و «تفسير ابن كثير» 4: 532، و «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» ، لابن حجر العسقلاني 4: 255 (كتاب فضل ليلة القدر) ، و «الدر المنثور» للسّيوطي 6: 371.(12/71)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «القدر» «1»
قال تعالى: سَلامٌ هِيَ [الآية 5] ، أي: هي سلام، يريد: مسلّمة.
وقال سبحانه: حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) ، أي طلوع الفجر والمصدر هاهنا لا يبنى إلّا على «مفعل» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(12/73)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «القدر» «1»
إن قيل: ما معنى قوله تعالى: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) وتنزّلهم من الأمر لا معنى له.
قلنا: «من» هنا بمعنى الباء، كما في قوله تعالى: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: 11] وقوله تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ [غافر: 15] ، أي لكلّ أمر قضاه الله تعالى، في تلك السنة من ليلة القدر، إلى مثلها: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ به من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا وقيل إلى الأرض.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/75)
سورة البيّنة 98(12/77)
المبحث الأول أهداف سورة «البيّنة» «1»
سورة البيّنة سورة مدنية، آياتها 8 آيات نزلت بعد سورة الطلاق.
تعرض السورة أربع حقائق تاريخية وإيمانية:
الحقيقة الأولى: هي أنّ بعثة الرسول (ص) كانت ضرورية، لتحويل الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين، عمّا كانوا قد انتهوا إليه من الضلال والاختلاف، وما كانوا ليتحوّلوا عنه بغير هذه البعثة.
قال تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) .
الحقيقة الثانية: أنّ أهل الكتاب لم يختلفوا في دينهم عن جهل، ولا عن غموض فيه، وإنّما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم، وجاءتهم البيّنة: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) .
الحقيقة الثالثة: أنّ الدّين في أصله واحد، وقواعده بسيطة واضحة، لا تدعو الى التفريق والاختلاف في ذاتها وطبيعتها البسيطة اليسيرة: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) .
الحقيقة الرابعة: أنّ الذين كفروا من بعد ما جاءتهم البيّنة هم شرّ البريّة، وأنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(12/79)
خير البريّة، ومن ثم يختلف جزاء هؤلاء عن هؤلاء اختلافا بيّنا.
المفردات:
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الآية 1] : اليهود والنصارى.
وَالْمُشْرِكِينَ [الآية 1] : عبدة الأصنام.
مُنْفَكِّينَ [الآية 1] : منتهين عمّا هم عليه.
الْبَيِّنَةُ (1) : الحجّة الواضحة، أو محمد (ص) الموعود به في كتبهم.
رَسُولٌ [الآية 2] : بدل من البيّنة، وعبّر عنه بالبيّنة للإشارة إلى ظهور أمره، ووضوح دينه.
صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) : مبرّأة من الزور والضلال، والمراد بها القرآن.
فِيها [الآية 3] : في صحف القرآن.
كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) : مضمون الكتاب السماوية الأخرى، وهي بلا شك لها قيمتها.
وَما تَفَرَّقَ [الآية 4] : اختلفوا إلى طوائف في الدين.
مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) :
يتحقّق الموعود برسالة محمد (ص) .
وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) .
وَما أُمِرُوا: أي في كتبهم.
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ: جاعلين الدّين، خالصا لله.
حُنَفاءَ: مائلين عن زائف العقائد، إلى الإسلام دين الحق.
الْبَرِيَّةِ [الآيتان 6 و 7] : الخليقة.
جَنَّاتُ عَدْنٍ [الآية 8] : بساتين خلد، ومقام أبدي.
الْأَنْهارُ [الآية 8] : المراد الأنهار الموعود بها، من لبن وعسل، وخمر «1» .
خَشِيَ رَبَّهُ (8) : خافه في الدّنيا فأطاعه، ونجا في الاخرة من عذابه.
مع آيات السورة
[الآية 1] :
__________
(1) . من النافل القول إن خمرة الجنّة ليست كخمر الدّنيا، قال تعالى في وصفها: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) [الواقعة] .(12/80)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) : كانت الأرض في حاجة ماسّة إلى رسالة جديدة، كان الفساد قد عمّ أرجاءها كلّها، بحيث لا يرتجى لها صلاح، إلا برسالة جديدة، ومنهج جديد، وحركة جديدة، وكان الكفر قد تطرّق إلى عقائد أهلها جميعا، سواء في ذلك أهل الكتاب الذين عرفوا الديانات السماويّة من قبل ثم حرّفوها، والمشركون في الجزيرة العربية، وفي خارجها.
وما كانوا لينفكّوا، ويتحوّلوا عن هذا الكفر الذي صاروا إليه، إلّا بهذه الرسالة الجديدة، وإلّا على يد رسول، يكون هو ذاته بيّنة واضحة، فارقة فاصلة.
[الآية 2] : رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) أي محمّد (ص) ، وهو بدل من البيّنة، يقرأ عليهم من صفحات كتابه المطهّرة، وآياته المقدّسة، ما يشتمل على المضمون الصحيح لكتبهم المنزّلة على أنبيائهم، موسى وعيسى وغيرهما، عليهم جميعا الصلاة والسلام.
[الآية 3] : فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) :
يطلق الكتاب على الموضوع، كما تقول كتاب الطهارة، كتاب الصلاة، كتاب الزكاة.. أي يشتمل القرآن على موضوعات وحقائق قيّمة تحتاج إليها البشرية، ولا تصلح إلّا بها.
كان الفساد قد استشرى في الأرض، وطمست معالم الحق، وبهتت حقائق الأديان، وانسحب رجال الدّين من ميدان الحياة، واستبدّ الحكّام والملوك، وعظمت نكايات اليهود بالنصارى، واشتدّ تدبير الكيد من النصارى لليهود.
واختلف المسيحيون حول طبيعة المسيح (ع) ، وعذّب الحكام طوائف المخالفين.
[الآية 4] : وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) فلم يكن ينقصهم العلم والبيان، وإنّما كان يجرفهم الهوى والانحراف.
[الآية 5] : وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) . وهذه هي قاعدة دين الله على الإطلاق، عبادة الله وحده، وإخلاص الدين له، والميل عن الشرك وأهله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) وهذا هو الدين الذي جاء في الكتاب(12/81)
القيّمة، «وقصارى ما سلف أن أهل الكتاب افترقوا في أصول الدين وفروعه، مع أنهم ما أمروا إلّا بأن يعبدوا الله، ويخلصوا له في عقائدهم وأعمالهم، وألّا يقلدوا فيها أبا ولا رئيسا، وأن يردّوا إلى ربّهم وحده كلّ ما يعرض لهم من خلاف» «2» [الآية 6] : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) . لقد كانت الرسل تتوالى كلّما فسدت الأرض، لتردّ الناس إلى الإصلاح. أما وقد شاء الله أن يختم الرسالات إلى الأرض بهذه الرسالة الأخيرة الجامعة، الشاملة الكاملة، فقد تحدّد الموقف أمام الجميع بصفة قاطعة. فمن كفر بهذه الرسالة أو أشرك بالله، فهو في نار جهنم يصلى نارها، وهو من شرار الخلق، جزاء إعراضه عن دعوة الحق، وعن رسالة الله.
[الآية 7] : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) .
أمّا من اهتدى قلبه للإيمان، وكان إيمانه عن يقين وصدق، فأتبع الإيمان بالأعمال الصالحات، من عبادة وخلق، وعمل وتعامل، والتزام بشريعة الله والحفاظ عليها، أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وهم صفوة الله من خلقه، الذين منحهم الهدى، ويسّر لهم العمل بأحكام هذا الدين. قال تعالى:
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] .
[الآية 8] : جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) . لقد أحسن الله جزاءهم في جنّات إقامة دائمة تجري من تحتها الأنهار، في جمال ونعمة ولذّة دائمة وأسمى من ذلك سعادتهم برضا الله عنهم، ومحبّته لهم، ثمّ اطمئنانهم ورضاهم العميق عن ربّهم، وثوابه ونعيمه. وذلك كلّه متوقّف على خشية الله، والخوف منه والالتزام بأمره.
ملخّص السورة
لمّا بعث الله سيدنا محمدا (ص) تغيّر حال اليهود والنصارى والمشركين، فمنهم من آمن به، ومنهم
__________
(2) . تفسير المراغي للأستاذ أحمد مصطفى المراغي، 30: 215، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الثالثة.(12/82)
من تردّد في صحة الدين، ومنهم من عاند وتكبّر، مع أن الله تعالى ما أمرهم إلّا ليعبدوه مخلصين له الدّين، ولكنّ الفساد كان قد استشرى بين أتباع الدّيانات السابقة، وكانت البيّنة الواضحة والنور الهادي هو بعثة محمد (ص) ، وقد أوضح الله تعالى أنّ من كفر به سيصلى نار جهنّم، وأن من آمن به سيتمتّع برضوان الله في جنات النعيم.(12/83)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «البيّنة» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة البيّنة بعد سورة الطلاق ونزلت سورة الطلاق، فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك فيكون نزول سورة البيّنة في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) وتبلغ آياتها ثماني آيات.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة: بيان فضل القرآن. وقد كانت السورة السابقة في بيان فضل الليلة التي أنزل فيها فجاءت هذه السورة بعدها، لبيان فضله في نفسه.
بيان فضل القرآن الآيات [1- 8]
قال الله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) ، فذكر سبحانه أن أهل الكتاب والمشركين لم يكونوا منفكّين عمّا هم عليه، حتى تأتيهم البيّنة على فساده، وأنّ هذه البيّنة قد جاءهم بها رسول يتلوها عليهم، وهي صحف مطهّرة، فيها سور قيّمة، وأنّ أهل الكتاب لم يختلفوا في أمرها، إلّا بعد أن قامت الحجّة بها عليهم، لأنهم لم يؤمروا فيها إلّا بإخلاص العبادة له
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/85)
سبحانه، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وذلك هو الدين القيّم، الذي بعث الأنبياء به ثم أخذت السورة في الترهيب والترغيب فذكرت أنّ أولئك الكافرين في نار جهنم، وأنهم شر البريّة، وأن المؤمنين خير البريّة جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) .(12/86)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «البيّنة» «1»
أقول: هذه السورة واقعة موقع العلّة لما قبلها، كأنه لما قال سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ [القدر 1] ، قيل: لم أنزل؟
فقيل. لأنه لم يكن الذين كفروا منفكّين عن كفرهم، حتى تأتيهم البيّنة، وهو رسول من الله يتلو صحفا مطهّرة.
وذلك هو المنزّل.
وبذلك تشتد المناسبة بين هذه السورة وبين ما قبلها.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. [.....](12/87)
المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة «البيّنة» «1»
إن قيل: المراد بالرسول هنا محمد (ص) بلا خلاف، فلم قال تعالى يَتْلُوا صُحُفاً [الآية 2] وظاهره يدلّ على قراءة المكتوب من الكتاب، وهو منتف في حقّه (ص) ، لأنّه كان أمّيا؟
قلنا: المراد يتلو ما في الصحف عن ظهر قلبه، لأنه هو المنقول عنه بالتواتر.
فإن قيل: ما الفرق بين الصحف والكتاب، حتّى قال تعالى: صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ؟
قلنا: الصحف القراطيس، وقوله تعالى: مُطَهَّرَةً: أي من الشرك الباطل، وقوله تعالى: فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) أي مكتوبة مستقيمة، ناطقة بالعدل والحق، يعني الآيات والأحكام.
فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) . أي النبي (ص) أو القرآن، والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وهم ما زالوا متفرّقين يكفّر كلّ فريق منهم الاخر، قبل مجيء البيّنة وبعدها؟
قلنا: المراد به تفرّقهم عن تصديق النبيّ (ص) والإيمان به قبل أن يبعث، فإنّهم كانوا مجتمعين على ذلك، متّفقين عليه بأخبار التوراة والإنجيل فلمّا بعث إليهم تفرّقوا فمنهم من
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/89)
آمن، ومنهم من كفر. وقال بعض العلماء: المراد بالبيّنة ما في التوراة والإنجيل من الإيمان بنبوّته (ص) ، ويؤيّد هذا القول، أنّ أهل الكتاب أفردوا بالذكر في هذا التفرّق، مع وجود التفرّق من المشركين أيضا، بعد ما جمعوا مع المشركين في أوّل السورة، فلا بد أن يكون مجيء البيّنة أمرا يخصّهم ومجيء النبيّ (ص) والقرآن العزيز لا يخصّهم.(12/90)
سورة الزّلزلة 99(12/91)
المبحث الأول أهداف سورة «الزّلزلة» «1»
سورة الزلزلة سورة مدنية آياتها 8 آيات، نزلت بعد سورة النساء.
إنها سورة تهزّ القلب هزّا عنيفا، يشترك في هذه الهزّة الموضوع والمشهد، والإيقاع اللفظي، وصيحة قويّة مزلزلة للأرض ومن عليها، فما يكادون يفيقون حتى يواجههم الحساب، والوزن، والجزاء، في بضع فقرات قصار وهذا هو طابع الجزء كلّه، يتمثّل في هذه السورة تمثّلا قويا.
المفردات
زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ [الآية 1] اهتزّت واضطربت بعنف وشدة.
زِلْزالَها (1) : المقدّر لها، وذلك عند النفخة الثانية.
أَثْقالَها (2) : ما في باطنها من الموتى.
الْإِنْسانُ [الآية 3] : الكافر، أو كلّ إنسان.
ما لَها (3) : ماذا أصابها من شدّة ما يرى.
تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) : ما كان فيها من أعمال العباد من خير أو شرّ.
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) : تحدّث بالأخبار بوحي من الله بما تقول.
يَصْدُرُ النَّاسُ [الآية 6] : يرجعون إلى ربّهم.
أَشْتاتاً [الآية 6] : جمع شتيت أي متفرقين.
مِثْقالَ [الآيتان 7 و 8] : المثقال ما
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(12/93)
يوزن به، ومثقال الشيء ميزانه من مثله.
ذَرَّةٍ [الآيتان 7 و 8] : مثل في تناهي الصّغر.
يَرَهُ [الآيتان 7 و 8] : المراد يجازى به.
مع آيات السورة
[الآيات 1- 5] : إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) .
تصف الآيات مشهد القيامة حينما تضطرب اضطرابا شديدا وترتجف الأرض الثابتة ارتجافا وتزلزل زلزالا وتنفض ما في جوفها نفضا وتخرج ما يثقلها من الكنوز، والدّفائن، والأموات وهو مشهد يخلع القلوب، ويهزّ كلّ ثابت، ويخيّل للسامعين أنّهم يترنّحون ويترجّحون، والأرض من تحتهم تهتزّ وتمور. ومثال هذا ما نراه في حياتنا من جبال النار الثائرة (البراكين) ، كما حدث في إيطاليا سنة 1909 م من ثوران بركان فيزوف، وابتلاعه مدينة مسينا، ولم يبق من أهلها أحدا.
فإذا شاهد الإنسان القيامة بأهوالها، والأرض تتحرّك في زلزال عنيف، وتخرج ما فيها فإنّه يتساءل من هول ما يرى: وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) ؟
وهو سؤال المتحيّر الذي يرى ما لم يعهد، وكأنّه يتمايل على ظهرها ويترنّح معها ويحاول أن يمسك بأي شيء يشدّه ويثبته، وكلّ ما حوله يمور مورا شديدا.
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) في ذلك اليوم تنطق الأرض بلسان الحال أي أنّ حالها وما يقع فيها من الاضطراب والانقلاب، وما لم يعهد له نظير من الخراب، تعلّم السائل وتفهمه الخبر، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) وأمرها أن تمور مورا، وأن تزلزل زلزالها، وأن تخرج أثقالها ... تحدّث أخبارها فهذا الحال حديث واضح عمّا وراءه، من أمر الله ووحيه إليها.
[الآية 6] : يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) في ذلك اليوم، الذي يحدث الله فيه الزّلزلة والهول، يقوم الناس من القبور أشتاتا متفرّقين، فالمحسنون فريق، والمسيئون فريق، وكل إنسان يرى جزاء عمله.(12/94)
[الآيتان 7- 8] : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) فمن يعمل من الخير أدنى عمل وأصغره فإنّه يجد جزاءه ومن يعمل من الشّرّ، ولو قليلا، فإنّه يجد جزاءه.
مقاصد السورة
اشتملت هذه السورة الكريمة على ثلاثة مقاصد:
1- اضطراب الأرض يوم القيامة، ودهشة الناس حينئذ.
2- ذهاب الناس لموقف العرض والحساب، أشتاتا متفرّقين ليروا أعمالهم.
3- يكافأ الإنسان على عمله من خير، وإن كان مثقال ذرة، ومقدار نملة ويجازى على ما عمل من شرّ مهما كان صغيرا.(12/95)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الزّلزلة» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الزّلزلة بعد سورة النساء، ونزلت سورة النساء، فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك فيكون نزول سورة الزلزلة في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وتبلغ آياتها ثماني آيات.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة الترغيب في الخير، والتحذير من الشر وهذا يناسب ما ختمت به السورة السابقة، من أنّ الكافرين هم شر البريّة، والمؤمنين هم خير البرية، فجاءت هذه السورة بعدها، للترغيب في طريق المؤمنين من الخير، والتحذير من طريق الكافرين من الشر.
الترغيب في الخير والتحذير من الشر الآيات [1- 8]
قال الله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) فذكر سبحانه أنه إذا حصل زلزال الأرض، وإخراجها دفائنها، وسأل الإنسان عن حالها، أجابته بأنه سبحانه أوحى لها بهذا، لتؤذن بقيام
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/97)
الاخرة، فيصدر النّاس أشتاتا ليروا أعمالهم: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) .(12/98)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الزّلزلة» «1»
أقول: لمّا ذكر في آخر سورة «البيّنة» : أنّ جزاء الكافرين جهنّم، وجزاء المؤمنين جنّات، فكأنّه قيل:
متى يكون ذلك؟ فقيل: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) . أي حين تكون زلزلة الأرض إلى آخره.
هكذا ظهر لي، ثمّ لمّا راجعت تفسير الإمام الرازي، ورأيته ذكر نحوه حمدت الله كثيرا. وعبارته: ذكروا في مناسبة هذه السورة لما قبلها، وجوها منها: أنّه تعالى لمّا قال: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ [البيّنة: 8] فكأنّ المكلّف قال: ومتى يكون ذلك يا ربّ؟
فقال جلّ وعلا: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ [الآية 1] .
ومنها: أنّه لمّا ذكر سبحانه فيها وعيد الكافرين، ووعد المؤمنين، أراد أن يزيد في وعيد الكافرين فقال تعالى:
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ [الآية 1] . ونظيره:
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] . ثمّ ذكر جلّ وعلا ما للطائفتين، فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران: 106] إلى آخره.
ثمّ جمع بينهما هنا في آخر السورة، بذكر الذي يعمل الخير والشر.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.(12/99)
المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «الزّلزلة» «1»
قال تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) أي: أوحى إليها.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(12/101)
المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «الزّلزلة» «1»
ما معنى إضافة الزلزال، الذي هو المصدر، إلى الأرض، في قوله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) ؟
قلنا: معناه الزلزال الذي تستوجبه في حكمة الله تعالى ومشيئته في ذلك اليوم، وهو الزلزال الذي ليس بعده زلزال، ونظيره قولك: أكرم التقيّ إكرامه وأهن الفاسق إهانته تريد ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة، ويجوز أن يكون المراد بالإضافة الاستغراق، ومعناه: زلزالها كله الذي هو ممكن لها.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) على العموم فيهما، وحسنات الكافر محبطة بالكفر، وسيّئات المؤمن معفوّ عنها، مغفورة باجتناب الكبائر، فكيف تثبت رؤية كل عامل جزاء عمله؟
قلنا: معناه: فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يكون من فريق السعداء، ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يكون من فريق الأشقياء، لأنه جاء بعد قوله تعالى:
يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً [الآية 6] . وذكر مقاتل، أنّها نزلت في رجلين من أهل المدينة، كان أحدهما يستقلّ أن يعطي السائل الكسرة أو التمرة، ويقول: إنّما نؤجر على ما نعطيه ونحن نحبّه، وكان الاخر يتهاون بالذنب اليسير ويقول:
إنّما أوعد الله النار على الكبائر.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/103)
المبحث السادس المعاني المجازية في سورة «الزّلزلة» «1»
في قوله سبحانه: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) استعارتان إحداهما قوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) . والأثقال، هنا، كناية عن الأموات، لأنّهم كانوا ثقلا على ظهر الأرض في حال الحياة. أجري عليهم هذا الاسم لهم، عند حصولهم في بطونها بعد الوفاة، أو يكونون إنّما سمّوا أثقالا، لأنّهم في بطن الأرض بمنزلة الأجنّة في بطون الأمّهات، وإذا جاز أن يسمّى الجنين حملا، جاز أن يسمى ثقلا، لأنّ المعنى واحد قال تعالى: فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما [الأعراف: 189] أي صار ما في بطنها من الجنين ثقلا لها. قالت الخنساء «2» :
أبعد ابن عمرو من ال الشّريد ... حلّت به الأرض أثقالها
أي زيّنت به موتاها. وقال أبو عبيدة إذا كان الميّت في بطن الأرض، فهو ثقل لها، وإذا كانت فوقه فهو ثقل عليها، فتسمية الأموات بالأثقال تكون على أحد هذين الوجهين: وإمّا أن تكون هي المثقلة به، وأمّا أن يكون هو المثقل بها. وقال غيره: معنى قوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2)
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . (575- 644) الخنساء من أعظم شواعر العرب، شاعرة مخضرمة، أدركت الإسلام فأسلمت، وحسن إسلامها.
قتل أخواها معاوية وصخر في الجاهليّة فرثتهما محرّضة قومها على الأخذ بالثأر. لها ديوان أكثره في الرثاء، شرحه ابن السّكّيت وابن الأعرابي والثعالبي. طبع في بيروت (1888) .(12/105)
أي لفظت، إلى ظهرها، ما فيها من مدافن الأموات والمكنون إلى ظهرها.
والاستعارة الأخرى قوله تعالى:
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) والمراد بذلك ما يظهر فيها من دلائل انقطاع أحوال الدنيا، وإقبال أشراط الاخرة، فيكون ما يظهره الله تعالى فيها من ذلك، قائما مقام الأخبار، ونائبا عن النطق باللسان وهذا، كما جاء في قول من قال: «سل الأرض من شقّ أنهارك، وغرس أشجارك وجنى ثمارك، فإن لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا» . فكأنّ الأرض تحدّث من يسأل عن أمرها، بأنّ الله تعالى أوحى لها بأن تكون على تلك الصفة التي ظهرت منها، ومعنى أَوْحى لَها أي أوحى إلى ملائكته عليهم السلام، بأن يظهروا فيها تلك الأشراط، ويحدّثوا بها تلك الأعلام، فلذلك قال: أَوْحى لَها ولو كان الوحي خاصة لها، لكان الوجه أن يقال «أوحى إليها» ، وقد قال بعضهم أَوْحى لَها «وأوحى إليها» بمعنى واحد، والاعتماد على القول الذي قدّمناه، لأنّ الوحي يتضمّن أوامر ومخاطبات، ولا يجوز أن يؤمر ولا يخاطب، إلّا العاقل المميّز، والمجيب السامع، وليس الوحي إلى الأرض جاريا مجرى الوحي إلى النحل، في قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [النحل: 68] ، لأنّ المراد عندنا بذلك، أنّه سبحانه ألهمها ما أراد منها، وهي ما يصحّ فيه، ذلك لأنّها حيوان متصرّف، والأرض لا يصحّ فيها ذلك، لأنّها جماد خامد.(12/106)
سورة العاديات 100(12/107)
المبحث الأول أهداف سورة «العاديات» «1»
سورة العاديات سورة مكّيّة، آياتها 11 آية نزلت بعد سورة العصر.
تصف سورة العاديات الحرب بين كفّار مكّة والمسلمين، وتبدأ بمشهد الخيل العادية الضابحة، القادحة للشرر بحوافرها، المغيرة مع الصباح، المثيرة للنقع وهو الغبار، الداخلة في وسط العدوّ فجأة تأخذه على غرّة، وتثير في صفوفه الذعر والفرار، يليه مشهد ما في النفس، من الكنود والجحود والأثرة والشّحّ الشديد. ثم يعقبه مشهد لبعثرة القبور، وتحصيل ما في الصدور وفي الختام ينتهي النقع المثار، وينتهي الكنود والشّحّ، وتنتهي البعثرة والجمع، الى نهايتها جميعا.
ويعود الأمر إلى الله سبحانه: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) .
المفردات
العاديات: الخيل التي تعدو مسرعة.
الضّبح: صوت أنفاس الخيل حين الجري.
الموريات قدحا: هي الخيل تضرب بحوافرها الأرض، فتقدح نارا. يقال:
أورى الزّناد، إذا أخرج النار على هيئة شرار.
المغيرات صبحا: خيل الغزاة تغير صباحا.
الإثارة: التهييج وتحريك الغبار.
النقع: الغبار.
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(12/109)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) : توسّطن جمعا من الكفار ففرقنه وهزمنه.
الكنود: جحود النعم.
لَشَهِيدٌ (7) : يشهد على جحود لسان حاله بأقواله وأفعاله.
الْخَيْرِ: المال.
لَشَدِيدٌ (8) : لكثير الحرص عليه.
بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) :
أخرج ما فيها من الموتى.
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) وأبرز المكنون في الصدور، وظهرت الأسرار.
لَخَبِيرٌ (11) : بالغ علمه بكل شيء.
مع آيات السورة
[الآيات 1- 5] : وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) .
يقسم الله سبحانه بخيل المعركة، ويصف حركاتها واحدة واحدة، منذ أن تبدأ عدوها وجريها ضابحة بأصواتها المعروفة حين تجري، قارعة للصّخر بحوافرها، حتّى توري الشرر منها، مغيرة في الصباح الباكر لمفاجأة العدو، مثيرة للنقع والغبار، وهي تتوسّط صفوف الأعداء على غرّة، فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب.
[الآيات 6- 8] : إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) . يقسم سبحانه، على أن الإنسان كنود جحود، كفور بنعمة الله، يعدّ المصائب وينسى النعم.
«وروي عن النبي (ص) : (الكنود الذي يأكل وحده ويضرب عبده، ويمنع رفده) ، كأنّه لا يعطي ممّا أنعم الله به عليه، ولا يرأف بعباد الله كما رأف الله به، فهو كافر بنعمة ربه. غير أنّ الآية عامة، والمراد منها ذكر حالة من حالات الإنسان التي تلازمه في أغلب أفراده» «1» إلّا من عصمهم الله، وهم الذين روّضوا أنفسهم على فعل الفضائل، وترك الرذائل.
وسرّ هذه الجملة، أنّ الإنسان
__________
(1) . تفسير جزء عمّ للأستاذ الإمام محمد عبده، ص 109، مطبعة الشعب الطبعة السادسة.(12/110)
يحصر همّه فيما حضره، وينسى ماضيه، وما عسى أن يستقبله، فإذا أنعم الله عليه بنعمة، غرّته، ومنعه البخل والحرص من عمل الخير.
وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) : وإن أعماله كلّها لتشهد بذلك، وانه ليعترف بذلك بينه وبين نفسه أو أن الله على كنوده لشاهد على سبيل الوعيد.
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) :
وإن الإنسان بسبب حبه للمال، وتعلّقه بجمعه وادّخاره، لبخيل، شديد في بخله، ممسك مبالغ في إمساكه، متشدّد فيه.
ومن ثمّ تجيء اللفتة الأخيرة في السورة، لعلاج الكنود والشحّ والأثرة، مع عرض مشهد من مشاهد الاخرة.
[الآيات 9- 11] : أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) .
وهو مشهد عنيف مثير: بعثرة لما في القبور، بعثرة بهذا اللفظ العنيف المثير، وتحصيل لأسرار الصدور، التي ضنّت بها، وخبّأتها بعيدا من العيون، تحصيل بهذا اللفظ القاسي ومفعول «يعلم» محذوف، لتذهب النفس في تخيله كل مذهب.
أي أفلا يعلم الكنود الحريص، ما يكون حاله في الاخرة يوم تكشف السرائر؟
أفلا يعلم ظهور ما كان يخفى من قسوة وتحيّل؟ أفلا يعلم أنّه سيحاسب عليه؟ أفلا يعلم أنه سيوفّى جزاء ما كفر بنعمة ربه؟
وتختم السورة بعدل الجزاء، وشهادة الخبير، بقوله تعالى: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) .
فالمرجع إلى ربّهم، وإنّه سبحانه لخبير بهم (يومئذ) وبأحوالهم وبأسرارهم، والله خبير بهم في كل وقت وفي كل حال وإنّما خص هذا اليوم بذلك، لأن هذه الخبرة يعقبها الحساب والجزاء.
كما قال تعالى: سَنَكْتُبُ ما قالُوا [آل عمران: 181] مع أنّ كتابة أقوالهم حاصلة فعلا، والمراد سنجازيهم بما قالوا جزاء يستحقونه.
إن السورة قطعة رائعة، لعرض سلوك الإنسان، والوصول به الى مرحلة الجزاء، في أسلوب قوي آسر(12/111)
معنى ولفظا، على طريقة القرآن المبين.
المعنى الاجمالي للسورة
1- القسم بخيل الغزاة والمجاهدين.
2- بيان حال الإنسان، إذا خلا قلبه من الايمان.
3- ذمّ الشّح والبخل وجحود النعمة.
4- عرض صورة من مشاهد البعث والحساب والجزاء.(12/112)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «العاديات» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة العاديات بعد سورة العصر، ونزلت سورة العصر بعد سورة الشّرح ونزلت سورة الشرح، فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة فيكون نزول سورة العاديات في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) وتبلغ آياتها إحدى عشرة آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة: بيان ميل الإنسان إلى الشّرّ، وتحذيره من عقابه يوم الحشر، وهذا فيه مناسبة للغرض المقصود من سورة الزّلزلة، ولهذا ذكرت هذه السورة بعدها.
ميل الإنسان إلى الشر الآيات [1- 11]
قال الله تعالى: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) الآيات إلى قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) فأقسم سبحانه بالعاديات، وما ذكر بعدها، على أن الإنسان من طبعه الامتناع عن الخير، وأنّه يشهد بذلك على نفسه، وأنّه أيضا شديد الحب للمال، فلا ينفق منه في الخير ثمّ هدّده جلّ وعلا بأنه يعلم ذلك، إذا بعثه من قبره، فيعاقبه عليه وختمها تعالى بقوله: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/113)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «العاديات» «1»
أقول: لا يخفى ما بين قوله تعالى في الزلزلة: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) [الزلزلة] وقوله في هذه السورة: إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ [الآية 9] . من المناسبة والعلاقة «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . أقول: وهناك مناسبة أخرى. هي: بيان الأصل الذي يضلّ به الإنسان أو يهتدي. فلمّا ذكر سبحانه في آخر الزلزلة جزاء الإنسان على الخير والشر. بيّن جلّ وعلا هنا أن الإنسان بطبعه يحب الخير وحبّه للخير إمّا للدنيا، وهو الشر، وإمّا للاخرة، وهو حقيقة الخير. فهذا الحب هو الذي يوجّه الأعمال. ثمّ ذكّر الإنسان بيوم يكشف فيه عما في القلوب من نيّات خفيّة: أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) الى آخر السورة. وقد زاد الأمر تفصيلا في السور التالية.(12/115)
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «العاديات» «1»
وقال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) .
والكنود الكفور.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....](12/117)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «العاديات» «1»
قال تعالى: فَوَسَطْنَ بِهِ [الآية 5] وقرأ بعضهم (فوصطن) «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . لم أعثر على من قرأ بالصاد، والرسم في المصحف بالسين.(12/119)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «العاديات» «1»
إن قيل: لم قال الله تعالى: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) مع أنه تعالى خبير بهم في كلّ زمان، فما وجه تخصيص ذلك اليوم؟
قلنا: معناه أنّ ربهم سبحانه، مجازيهم يومئذ على أعمالهم، فالعلم مجاز عن المجازاة، ونظيره قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ [النساء: 63] معناه يجازيهم على ما فيها، لأن علمه شامل لما في قلوب كل العباد، ويقرب منه قوله تعالى: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [غافر: 16] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/121)
سورة القارعة 101(12/123)
المبحث الأول أهداف سورة «القارعة» «1»
سورة القارعة سورة مكية، آياتها إحدى عشرة آية، نزلت بعد سورة قريش.
القارعة اسم من أسماء القيامة، كالحاقّة والصّاخّة والطّامّة والغاشية، وسمّيت قارعة لأنها تقرع القلوب بأهوالها. والسورة كلها عن هذه القارعة، حقيقتها، وما يقع فيها، وما تنتهي إليه، فهي تعرض مشهدا من مشاهد القيامة. والمشهد المفروض هنا مشهد هول، تتناول آثاره الناس والجبال، فيبدو الناس في ظله صغارا ضئالا على كثرتهم، فهم كالفراش المبثوث، مستطارون مستخفّون في حيرة الفراش، الذي يتهافت على الهلاك، وهو لا يملك لنفسه وجهة، ولا يعرف له هدفا. وتبدو الجبال التي كانت ثابتة راسخة، كالصوف المنفوش، تتقاذفه الرياح، وتعبث به حتى الأنسام.
عندئذ يرجح وزن المؤمن وتثقل درجته، فيعيش عيشة راضية، ويخفّ ميزان الكافر، وتهوي منزلته، فيصطلي بنار حامية.
معاني المفردات
الْقارِعَةُ يوم القيامة.
وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ استفهام عن حقيقتها قصد به تهويل أمرها.
كَالْفَراشِ الحشرات الصغيرة التي تندفع على غير هدى نحو الضوء.
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(12/125)
الْمَبْثُوثِ المنتشر المتفرق، وهو مثل في الحيرة والجهل بالعاقبة.
كَالْعِهْنِ الصوف.
الْمَنْفُوشِ الذي نفشته بيدك أو بالة اخرى، ففرقت شعراته بعضها عن بعض.
ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ بكثرة الحسنات.
خَفَّتْ مَوازِينُهُ بقلة الحسنات وكثرة السيئات.
فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ أي مرجعه الذي يأوي إليه هاوية، أي مهواة سحيقة يهوي فيها.
مع آيات السورة
[الآيات 1- 3] : الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) القارعة: أي القيامة بدأ بها قرعا للأذهان بهولها.
مَا الْقارِعَةُ (2) ، استفهام عن حقيقتها، قصد به تهويل أمرها، كأنها، لشدة ما يكون فيها، ممّا تفزع له النفوس وتدهش له العقول، يصعب تصوّرها.
وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) : أي شيء يعرفك بها؟ زيادة في تعظيم تلك الحادثة العظيمة، كأن لا شيء يحيط بها، ويفيدك برسمها، ثم أخذ يعرفها بزمانها وما يكون للناس فيه.
[الآية 4] : يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) أي يكون الناس من حيرتهم وذهولهم كالفراش الهائم على وجهه، المنتشر في الفضاء لا يدري ماذا يصنع، قال تعالى في آية أخرى: كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [القمر: 7] .
[الآية 5] : وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) أي تصبح في صور الصوف المنفوش، فلا تلبث أن تذهب وتتطاير، وفي سورة النبأ قال تعالى: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) .
[الآيتان 6- 7] : فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) ، أي من ثقلت موازينه برجحان كفّة حسناته على سيئاته، فهو في الجنة. ويقال ثقل ميزان فلان إذا كان له قدر ومنزلة رفيعة، كأنه إذا وضع في ميزان كان له رجحان. وإنما يكون المقدار والقيامة لأهل الأعمال الصالحة، والفضائل الراجحة، فهؤلاء يجزون النعيم الدائم والعيشة الراضية.
[الآيتان 8- 9] :(12/126)
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) يقال خفّ ميزان فلان، أي سقطت قيمته، فكأنّه ليس بشيء، حتى لو وضع في كفّة ميزان لم يرجح بها على أختها ومن كان في الدنيا كثير الشر قليل فعل الخير، يجترئ على المعاصي، ويفسد في الأرض، فإنه لا يكون شيئا في الاخرة، ولا ترجح له كفّة ميزان لو وضع فيها.
ويرى بعض المفسرين أن الذي يوزن هو الصحف، التي تكتب فيها الحسنات والسيئات. وأن الحسنات تمثّل وتقابل بالنور والخير، وأنّ السيّئات تمثّل وتقابل بالظلام والشر.
وأن من كثر خيره كان ناجيا، ومن كثر شرّه كان هالكا.
وهذا الميزان نؤمن به ونفوض حقيقة المراد منه إلى الله تعالى، فلا نسأل كيف يزن؟ ولا كيف يقدّر؟ فهو أعلم بغيبه ونحن لا نعلم.
قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) [الأنبياء] .
فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) : مرجعه الذي يأوي اليه كما يأوي الولد الى أمه، أي فمسكنه ومأواه النار.
10- وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) أي ما الذي يخبرك بما هي تلك الهاوية، وأي شيء تكون؟
11- نارٌ حامِيَةٌ (11) هي نار ملتهبة بلغت النهاية في الحرارة، يهوي فيها ليلقى جزاء ما قدم من عمل.
مقاصد السورة
1- وصف أهوال يوم القيامة ومشاهده.
2- وزن الأعمال، ورجحان كفة المؤمن، وخفة كفة الفاجر.
3- السعداء يدخلون الجنّة، والأشقياء يذهبون الى النار.(12/127)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القارعة» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة القارعة بعد سورة قريش، ونزلت سورة قريش بعد سورة التين، ونزلت سورة التين فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة القارعة في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وتبلغ آياتها إحدى عشرة آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إثبات وزن الأعمال يوم القيامة، فهي في سياق الترغيب والترهيب كسورة العاديات، ولهذا ذكرت بعدها.
وزن الأعمال يوم القيامة الآيات [1- 11]
قال الله تعالى: الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) ، الآيات ... ، فذكر أن القارعة هي القارعة: لأنها تفوق كل القوارع في الهول والشدة، وأنها تكون يوم ينتشر الناس بعد البعث من القبور، فيجمعون لوزن أعمالهم، فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية، ومن خفّت موازينه فأمّه هاوية وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/129)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «القارعة» «1»
قال الإمام: لما ختم الله سبحانه السورة السابقة بقوله: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) فكأنه قيل: وما ذاك؟ فقال: هي القارعة. قال:
وتقديره: ستأتيك القارعة على ما أخبرت عنه، بقوله جلّ وعلا: إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) [العاديات] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.(12/131)
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «القارعة» «1»
قال تعالى: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) .
من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة: هوت أمّه لأنه إذا هوى أي سقط وهلك فقد هوت أمه ثكلا وحزنا.
قال كعب:
هوت أمّه ما يبعث الصّبح غاديا وماذا يردّ الليل حين يؤوب
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(12/133)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «القارعة» «1»
قال تعالى: كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ وواحدها: «العهنة» مثل: «الصوف» و «الصّوفة» وأما قوله: ما هِيَهْ (10) بالهاء، فلأن السكت عليها بالهاء، لأنها رأس آية.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(12/135)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «القارعة» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) أي رجحت سيّئاته على حسناته فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) أي فمسكنه النار، وأكثر المؤمنين حسناتهم راجحة على سيّئاتهم؟ قلنا: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) لا يدل على خلوده فيها، فيسكن المؤمن بقدر ما تقتضيه ذنوبه، ثم يخرج منها إلى الجنة: وقيل المراد بخفة الموازين خلوّها من الحسنات بالكلية، وتلك موازين الكفّار.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/137)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «القارعة» «1»
في قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) استعارة. وهاوية هنا من أسماء النار، كأنها تهوي بأهلها الى قعرها وإنّما جعلت أمّه لضمّها له واشتمالها عليه ويشبه ذلك قوله تعالى: فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) [الحديد] . وقد فسّر ذلك سبحانه بقوله:
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) . وقال بعضهم: بل سميت هاوية لهويّ المعذّبين في قعرها، فكان ظاهر الفعل لها وحقيقته لغيرها. كما قال تعالى: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) . والمراد مرضيّة ونظائر ذلك كثيرة وقال بعضهم: إنّما خرج ذلك على مخرج كلام العرب، لأنهم يقولون للواقع في المكروه، والمرتكس في الأمر: هوت أمّ فلان. ويقولون: ويل أم فلان، ويعنون: هوت أي سقطت في مهواة، وهو مثل قولهم ظلّت وهلكت، لأنّ هلاك ولدها كهلاكها. وقال كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار:
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا وماذا يواري الليل حين يؤوب وقال بعضهم معنى ذلك هوت أمّ رأسه، وإذا هوت أمّ رأسه وهي معظم دماغه، فقد هوى سائره وهلك.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(12/139)
سورة التّكاثر 102(12/141)
المبحث الأول أهداف سورة «التكاثر» «1»
سورة «التكاثر» سورة مكّيّة، آياتها ثماني آيات، نزلت بعد سورة «الكوثر» .
من أسباب النزول
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بريدة قال: «نزلت: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) في قبيلتين من الأنصار هما بنو حارثة وبنو الحرث، تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما: أفيكم مثل فلان وفلان، وقالت الأخرى مثل ذلك، تفاخروا بالأحياء ثمّ قالوا: انطلقوا بنا الى القبور، فجعلت إحدى الطائفتين تقول: أفيكم مثل فلان وفلان وتشير إلى القبر، ومثل فلان، وفعل الآخرون مثل ذلك، فأنزل الله هذه السورة» .
المفردات
أَلْهاكُمُ شغلكم.
التَّكاثُرُ التباهي والتفاخر بالكثرة في الأموال والأولاد والأهل والعشيرة.
زُرْتُمُ الْمَقابِرَ صرتم إليها ودفنتم فيها.
كَلَّا كلمة يراد بها الزجر والردع.
سَوْفَ تَعْلَمُونَ خطأ ما أنتم فيه من التكاثر والتباهي وكرّر الجملة للتأكيد.
لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ المراد ما ألهاكم ذلك عن الاخرة والعمل لها.
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ تفسير للوعيد السابق المكرر.
عَيْنَ الْيَقِينِ عين هي اليقين نفسه.
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(12/143)
هذه السورة صيحة بالقلب البشري الغارق في التفاخر والتكاثر بالدنيا ومظاهرها، وتنبيه له الى أن ما تفاخر به الى زوال، وأن الدنيا قصيرة، وأن الغاية الى حفرة ضيّقة، وهناك ترى الحقيقة الباقية، واليقين المؤكّد، وتسأل عن هذه الألوان المتنوعة من الملذات، وعن سائر ألوان النعيم، عن الشباب والمال والجاه والصحة والعافية ماذا عملت بها.
«وروي يسأل عن التنعم الذي شغله الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه، وعن الحسن: يسأل عمّا زاد عن كنّ يؤويه، وثوب يواريه، وكسرة تقوّيه» .
مع آيات السورة
[الآيتان 1- 2] : أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) أيّها السادرون الغافلون. أيّها اللّاهون المتكاثرون بالأموال والأولاد وأعراض الحياة، وأنتم مفارقون، أيّها المخدوعون بما أنتم فيه عمّا يليه. أيّها التاركون ما تتكاثرون به وتتفاخرون، إلى حفرة ضيّقة لا تكاثر فيها ولا تفاخر، استيقظوا وانظروا. فقد شغلكم حبّ الكثرة والفخر حتّى هلكتم، وصرتم من الموتى ورأيتم الحساب والجزاء.
وفي صحيح مسلم عن مطرف عن أبيه قال: «أتيت النبي (ص) وهو يقرأ:
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) قال: يقول ابن آدم مالي ومالك، يا بن آدم ليس لك من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» .
[الآيتان 3- 4] : كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) أي ازدجروا عن مثل هذا التكاثر والتفاخر، والجأوا إلى التناصر على الحق، والتكاتف على أعمال البر، والتضافر على ما فيه حياة الأفراد والجماعات، من تقويم الأخلاق، والتعاون على الخير والمعروف.
وإنكم سوف تعلمون سوء مغبّة ما أنتم عليه. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) وهو تكرير للوعيد لتأكيد الزجر والتوبيخ، كما يقول الإنسان لآخر:
أقول لك لا تفعل، ثم أقول لك لا تفعل.
[الآية 5] : كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) أي ارتدعوا عن تغريركم بأنفسكم، فإنّكم لو تعلمون عاقبة(12/144)
أمركم، لشغلكم ذلك عن التكاثر، وصرفكم إلى صالح الأعمال وأنّ ما تدعونه علما ليس في الحقيقة بعلم، وإنّما هو وهم وظنّ، لا يلبث أن يتغير، لأنّه لا يطابق الواقع، والجدير أن يسمّى علما إنّما هو علم اليقين المطابق للواقع بناء على العيان والحس، أو الدليل الصحيح الذي يؤدّيه العقل، أو النقل الصحيح عن المعصوم (ص) .
[الآية 6] : لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) : ولا شك في رؤيتها، والمراد برؤية الجحيم ذوق عذابها، ثم أكد هذا المضمون بقوله تعالى:
[الآية 7] : ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) أي لترونّها رؤية هي اليقين بنفسه، مهما كانت نسبتكم أو مجدكم، فلن ينجيكم منها سوى أعمالكم.
[الآية 8] : ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) لتسألن عنه من أين نلتموه؟ وفيم أنفقتموه؟ أمن طاعة وفي طاعة؟ أم من معصية وفي معصية؟ أمن حلال وفي حلال؟ أم من حرام وفي حرام؟ هل شكرتم؟ هل أدّيتم حقّ النعيم؟ هل شاركتم الفقير والمساكين؟
هل استأثرتم وبخلتم ومنعتم صاحب الحق حقه؟
لتسألنّ عمّا تتكاثرون به وتتفاخرون ... فهو عبء تستخفّونه في غمرتكم ولهوكم، ولكنّ وراءه ما وراءه من همّ ثقيل.
روي أن رسول الله (ص) قال: «من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنّما حيزت له الدنيا بحذافيرها» .
أهداف سورة التكاثر
1- ذم الانشغال بمظاهر الحياة.
2- التذكير بالموت والقبر والحساب.
3- زجر الغافلين والعابثين وتذكيرهم بيوم الدين.
4- لن ينقذهم من النار جاه ولا سلطان، لن ينفعهم سوى العمل الصالح.
5- الحساب على النعيم حق، فيجب أن يكون النعيم حلالا طيبا.(12/145)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التكاثر» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة التّكاثر بعد سورة الكوثر، ونزلت سورة الكوثر بعد سورة العاديات، ونزلت سورة العاديات فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة التكاثر في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) وتبلغ آياتها ثماني آيات.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة تحريم التفاخر بالأموال والأولاد، وبيان أنّ هذا التفاخر هو الذي ألهى قريشا عن قبول الدعوة، وبهذا تكون هذه السورة في سياق الترهيب، وهو من سياق السورة السابقة، وهذا هو وجه المناسبة في ذكر هذه السورة بعدها.
تحريم التفاخر الآيات [1- 8]
قال الله تعالى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) فوبّخهم على إلهاء التفاخر بالأموال والأولاد لهم عن قبول الدعوة، ثم هدّدهم بأنهم سوف يعلمون ما يعاقبون به، وذكر أنهم لو يعلمون ذلك يقينا لرأوه الجحيم، ثم هدّدهم بأنّهم سيرونها عين اليقين:
ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/147)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التكاثر» «1»
أقول: هذه السورة واقعة موقع العلّة لخاتمة ما قبلها، كأنه لما قال تعالى هناك: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) [القارعة] . قيل: لم ذلك؟ فقال جلّ وعلا: لأنكم أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) .
فاشتغلتم بدنياكم، وملأتم موازينكم بالحطام، فخفّت موازينكم بالآثام ولهذا أعقبها بسورة العصر، المشتملة على أن الإنسان في خسر، إلّا من آمن وعمل صالحا، وتواصى بالحق وتواصى بالصبر وفي ذلك بيان للفارق بين تجارة الدنيا الفانية وتجارة الاخرة الخالدة ولهذا أعقبها بسورة الهمزة، المتوعّد فيها من جمع مالا وعدّده، يحسب أن ماله أخلده. فانظر إلى تلاحم هذه السور الأربع، وحسن اتساقها «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . ومن المناسبة كذلك: التصريح هنا بوزن الأعمال التي أجملها في الزلزلة، وبيّن أصلها في العاديات. [.....](12/149)
المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة «التكاثر» «1»
إن قيل: أين جواب كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) ؟
قلنا: هو محذوف تقديره: لو تعلمون الأمر يقينا لشغلكم عن التكاثر والتفاخر، ثم ابتدأ السياق بوعيد آخر، فقال سبحانه لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) .
فإن قيل: كلّ أحد لا يخلو عن نيل نعيم في الدنيا، ولو مرّة واحدة، فما النعيم الذي يسأل عنه العبد؟
قلنا: فيه سبعة أقوال: أحدها أنه الأمن والصّحة. الثاني: أنّه الماء البارد. الثالث: أنّه خبز البر والماء العذب. الرابع: أنّه مأكول ومشروب لذيذان. الخامس: أنه الصحة والفراغ.
السادس: أنه كل لذة من لذات الدنيا.
السابع: أنه دوام الغداء والعشاء. وقيل إن السؤال خاصّ بالكفّار، والصحيح أنه عامّ في كلّ إنسان وفي كل نعيم، فالكافر يسأل توبيخا والمؤمن يسأل عن شكرها، ويؤيّد هذا ما جاء في الحديث أنه (ص) قال: «يقول الله تعالى: ثلاث لا أسأل عبدي عن شكرهنّ، وأسأله عمّا سوى ذلك: بيت يكنّه، وما يقيم به صلبه من الطعام، وما يواري به عورته من اللّباس» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/151)
المبحث الخامس المعاني المجازية في سورة «التكاثر» «1»
في قوله سبحانه: ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) هذه استعارة على بعض الأقوال، وهو أن يكون المراد: ثمّ لترونّها بعين اليقين، ثم نزعت الباء فنصبت العين، ويكون ذلك من باب قول الشاعر:
كما عسل الطّريق الثعلب أي في الطريق، وقال بعضهم: معنى ذلك على مثال قولهم عين الشيء أي حقيقته. وشاهد ذلك قوله تعالى:
وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) [الحاقة] . وقال بعضهم معنى «عين اليقين» أي حاضر اليقين، ومنه قولهم في المثل: «تطلب أثرا بعد عين» أي غائبا بعد حاضر، وعلى ذلك قول الأعشى «2» ومن لا يصدّع له همّة فيجعلها بعد عين ضمارا والضمار الغائب، والعين الحاضر، ومنه الحديث في زكاة الضّمار أي الغائب والنّسيئة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . الأعشى هو ميمون بن قيس بن جندل والبيت المذكور من قصيدة له، وقد جاء صدر البيت في ديوان الأعشى هكذا: «ومن لا تضاع له ذمّة» .(12/153)
سورة العصر 103(12/155)
المبحث الأول أهداف سورة «العصر» «1»
سورة «العصر» سورة مكية، آياتها ثلاث، نزلت بعد سورة «الشرح» .
«وفي هذه السورة الصغيرة، يتمثّل منهج كامل للحياة البشرية، كما يريدها الله تعالى. وتبرز معالم التصور الإيماني بحقيقته الكبيرة الشاملة في أوضح صورة وأدقها.
إنها تضع الدستور الإسلاميّ كلّه في كلمات قصار، وتصف الأمة المسلمة:
حقيقتها ووظيفتها في آية واحدة، هي الآية الثالثة من السورة. وهذا هو الإعجاز الذي لا يقدر عليه إلّا الله.
والحقيقة الضخمة التي تقررها هذه السورة بمجموعها هي هذه: أنه على امتداد الزمان في جميع العصور، وامتداد الإنسان في جميع الدهور، ليس هنالك إلّا منهج واحد رابح، وطريق واحد ناج، هو ذلك المنهج الذي ترسم السورة حدوده وتوضح معالمه.
إن العمل الصالح هو الثمرة الطبيعية للإيمان، وبذلك يصبح الإيمان قوّة دافعة، وحركة وعملا، وبناء وتعميرا يتّجه إلى الله سبحانه.
أمّا التواصي بالحق والصبر، فيبرز صورة الأمة المسلمة متضامنة متضامّة، خيِّرة واعية، قائمة على حراسة الحق والخير، متواصية بالحق والصبر في مودّة وتعاون وتاخ.
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(12/157)
المفردات
الْعَصْرِ اسم للدهر أي الزمن الذي يحياه الإنسان، وقيل أقسم الله جلّ وعلا بصلاة العصر لفضلها، أو أقسم بالعشي كما أقسم بالضحى.
خُسْرٍ هلاك لسوء تصرفه وكثرة آثامه.
تَواصَوْا تناصحوا وتعاهدوا.
بِالْحَقِّ الواجب من فعل الطاعات وترك المحرّمات.
[الآيتان 1- 2] : وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) أقسم الله بالزمن وهو ماض لا يقف، متغيّر لا يقرّ، على أنّ الإنسان الذي يهمل إيمانه ومرضاة ربّه إنسان خاسر مهما كان رابحا من مظاهر الحياة، لأنه قد خسر الجنة وخسر الكمال المقدّر له فيها، وخسر مرضاة الله وطاعته.
[الآية 3] : الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) .
المؤمن يدرك أنه جسد وروح، وهو ذو قلب وعقل، وذو عواطف وجوارح وسعادته في نموّ هذه القوى نموّا متناسقا. وفي دور الخلافة الرشيدة للمسلمين تعاونت قوة الروح والأخلاق والدين والعلم والأدوات المالية، في تنشئة الإنسان الكامل، وفي ظهور المدينة الصالحة.
وكانت حكومة المسلمين من أكبر حكومات العالم قوة وسياسة وسيادة، تزدهر فيها الأخلاق والفضيلة مع التجارة والصناعة، ويساير الرقيّ الروحيّ التقدم المادي والحضاري.
وخلاصة السورة أن الناس جميعا في خسران إلّا من اتّصفوا بأربعة أشياء:
الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحقّ، والتواصي بالصبر.
«وهذه السورة حاسمة في تحديد الطريق أنّه الخسر إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) .
طريق واحد لا يتعدد، طريق الإيمان والعمل الصالح، وقيام الجماعة المسلمة، التي تتواصى بالحقّ وتتواصى بالصّبر، وتقوم متضامنة على حراسة الحق، مزوّدة بزاد الصبر.
إنه طريق واحد، ومن ثمّ كان الرجلان من أصحاب رسول الله (ص) إذا التقيا، لم يتفرّقا حتّى يقرأ أحدهما(12/158)
على الاخر سورة وَالْعَصْرِ (1) ثمّ يسلّم أحدهما على الاخر» .
لقد كانا يتعاهدان على الإيمان والعمل الصّالح، والتّناصح بالحقّ والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والصّبر والتحمّل في سبيل الدعوة إلى الهدى والرّشاد.
خلاصة أهداف السورة
1- جنس الإنسان في خسر وضياع.
2- النجاة لمن آمن وعمل صالحا، وحثّ على الفضيلة والحقّ، وتحلّى بالثّبات والصّبر.(12/159)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «العصر» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة العصر، بعد سورة الشّرح، ونزلت سورة الشرح فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة العصر في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) وتبلغ آياتها ثلاث آيات.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة الترغيب في العمل الصالح، وقد أتى هذا في مقابلة ما كان منهم من التّفاخر بالأموال والأولاد، ولهذا ذكرت سورة العصر بعد سورة التكاثر.
الترغيب في العمل الصالح [آيات السورة كلّها]
قال الله تعالى: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) والمراد بالعصر الدهر أو الليل والنهار، أو وقت العصر أو صلاته، ثم استثني من ذلك الحكم على الإنسان: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/161)
المبحث الثالث لكل سؤال جواب في سورة «العصر» «1»
إن قيل: الاستثناء الذي في السورة لا يدل على أن المؤمنين الموصوفين في ربح، مع أن الاستثناء إنّما سيق لمدحهم، بمضادّة حالهم لحال من لم يتناوله الاستثناء؟
قلنا: إن الاستثناء، وإن لم يدلّ بصريحه على أنهم في أعظم ربح، ولكن اتّصافهم بتلك الصفات الأربع الشريفة يدل على أنهم في أعظم ربح، مع أنّا لو قدّرنا أنّهم ليسوا في ربح، فالمضادّة حاصلة أيضا لأنهم ليسوا في خسر بمقتضى الاستثناء.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/163)
سورة الهمزة 104(12/165)
المبحث الأول أهداف سورة «الهمزة» «1»
سورة «الهمزة» سورة مكية، آياتها تسع آيات، نزلت بعد سورة «القيامة» .
المفردات
وَيْلٌ خزي وهلاك وعذاب، وهو لفظ لا يستعمل الا في الذم والقدح.
هُمَزَةٍ من ينتقص الناس بالقول.
لُمَزَةٍ (1) : من يؤذي الناس بالفعل، فكلاهما طعّان عيّاب.
الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ (2) :
شغف بجمع المال وعدّه والتكاثر فيه، ولا ينفقه ولا ينتفع به.
يَحْسَبُ: يظنّ.
أَخْلَدَهُ (3) : حقّق له الخلود في الدنيا.
لَيُنْبَذَنَّ: ليطرحنّ.
الْحُطَمَةِ (4) : من أسماء النار لتحطيم المعذّبين فيها.
الْمُوقَدَةُ (6) : المستعرة.
تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) : القلوب التي استقرت فيها العقائد الفاسدة.
مُؤْصَدَةٌ (8) : مغلقة مطبقة.
فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) : قيل هي القيود والأثقال، وقيل العمد التي تتخذ لإيصاد أبواب جهنم على من فيها.
فكرة السورة
تعكس هذه السورة صورة من الصور الواقعية، في حياة الدعوة في عهدها
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(12/167)
الأول، وهي في الوقت ذاته نموذج يتكرر في كل بيئة، صورة اللئيم الصغير النفس الذي يؤتى المال، فتستطير نفسه به، حتى ما يطيق نفسه، ويروح يشعر أن المال هو القيامة العليا في الحياة، القيامة التي تهون أمامها جميع القيم وجميع الأقدار: أقدار الناس، وأقدار المعاني، وأقدار الحقائق. كما يروح يحسب أن هذا المال إله قادر على كل شيء، لا يعجز عن دفع شيء، حتى دفع الموت وتخليد الحياة.
ومن ثمّ ينطلق في هوس بهذا المال، يعدّده ويستلذّ تعداده، وتنطلق في كيانه نفخة فاجرة، تدفعه إلى الاستهانة بأقدار الناس، وهمزهم ولمزهم، وانتقاص قدرهم، وتحقير شأنهم. وهي صورة لئيمة من صور النفوس البشرية، حين تخلو من المروءة. والإسلام يكره هذه الصورة الهابطة، وقد نهى القرآن عن السخرية واللمز في مواضع شتى، إلّا أن ذكرها هنا، بهذا التشنيع، يوحي بأنه كان يواجه حالة واقعية من بعض المشركين تجاه رسول الله (ص) وتجاه المؤمنين، فجاء الردّ عليها في صورة الردع والتهديد والوعيد.
أسباب النزول
قال عطاء والكلبي: نزلت هذه السورة في الأخنس بن شريق، كان يلمز الناس ويغتابهم، وبخاصة رسول الله (ص) .
وقال مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبي (ص) من ورائه، ويطعن فيه في وجهه.
وقال محمد بن إسحاق صاحب السيرة: ما زلنا نسمع أنّ هذه السورة نزلت في أمية بن خلف.
مع آيات السورة
[الآية 1] : وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) : ويل وعذاب شديد لكل سبّاب عيّاب، ينتقص الناس بالإشارة والحركة، والقول والفعل، وبناء الصفة على «فعلة» يفيد كثرة وقوع الفعل، وجريانه مجرى العادة. وعن مجاهد وعطاء: الهمزة الذي يطعن الإنسان في وجهه، واللّمزة: الذي يطعنه في غيابه.
[الآية 2] : الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ (2) إن ما دعا هذا وأمثاله الى الحط(12/168)
من أقدار الناس ظنّه الخاطئ بأنه، إذ يجمع المال، ويبالغ في عدّه والمحافظة عليه، إنّما هو أمر يرفع قدره، ويضمن له منزلة رفيعة، يستطيع بها أن يطلق لسانه في أعراض الناس، وأن يؤذيهم بالقول والفعل.
[الآية 3] : يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) : أنّ حبه للمال أنساه الموت والمال فهو يأنس بماله، ويظن أن هذا المال الذي أجهد نفسه في جمعه، وبخل به حتّى على نفسه، إنّما يحميه من الموت ويورثه الخلود.
[الآية 4] : كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) : لقد قابل القرآن بين كبريائه وتعاليه على الناس، وبين جزائه في الحطمة، التي تحطم كل ما يلقى إليها، فتحطم كيانه وكبرياءه.
[الآية 5] : وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) ؟: سؤال للتهويل والتعظيم، أي: أي شيء أعلمك بها، فإنّ هذه الحطمة ممّا لا يحيط بها عقلك، ولا يقف على كنهها علمك، ولا يعرف حقيقتها إلّا خالقها، سبحانه وتعالى.
[الآية 6] : نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) :
إنّها النار التي تنسب الى الله الذي خلقها، وهي موقدة لا تخمد أبدا، ثمّ وصف هذه النار بعدة صفات فيها تناسق تصويري يتفق مع أفعال «الهمزة اللّمزة» .
[الآية 7] : الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) : إنها تصل الى الفؤاد، الذي ينبعث منه الهمز واللمز، وهي تتغلّب على الأفئدة وتقهرها، فتدخل في الأجواف حتّى تصل الى الصدور فتأكل الأفئدة والقلب أشدّ أجزاء الجسم تألّما، فإذا استولت عليه النار فأحرقته فقد بلغ العذاب بالإنسان غايته.
والنار لا تصل إلى الفؤاد إلّا بعد أن تأكل الجلود واللحوم والعظام، ثمّ تصل إلى القلوب، والأفئدة موطن الإحساس والاعتقاد. ومن كلمات عمر بن الخطاب للكفار: «حرق الله قلوبكم» أي أصابكم بأشدّ ألوان المحن والألم.
[الآية 8] : إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) : إنّها مطبقة عليهم لا يخرجون منها ولا يستطيعون الفرار أو الهرب، قال تعالى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها [الحج:
22] .(12/169)
[الآية 9] : فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) :
العمد جمع عمود وهو معروف، والممدّدة المطوّلة أي أنه أطبقها، وأغلقها في عمد طويلة تمد على أبوابها بعد أن تؤصد، وهو تصوير لشدة الإطباق وإحكامه، وتأكيد لليأس من الخلاص.
قال مقاتل: إن الأبواب أطبقت عليهم، ثمّ شدت بأوتاد من حديد، فلا يفتح عليهم باب، ولا يدخل عليهم روح.
اللهم أجرنا من النار، ومن عذاب النار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار بفضلك يا عزيز يا غفّار.
أهداف السورة
1- من الناس من يرى مثله الأعلى في جمع المال والتعالي على العباد، وهو نموذج.
2- الويل والعذاب ينتظران كلّ عيّاب وسبّاب.
3- المال نعمة من الله، ولكنّ العمل الصالح هو الوسيلة النافعة.
4- البخيل بالمال المتعالي على العباد له نار متّقدة تحرق جسمه وتصل إلى فؤاده.
5- هذه النار مغلقة عليه، يظلّ حبيسا فيها أبد الآبدين.(12/170)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الهمزة» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الهمزة بعد سورة القيامة، ونزلت سورة القيامة فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة الهمزة في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) . وتبلغ آياتها تسع آيات.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة تحريم الاغترار بالمال وما يجرّه من تنقيص الناس، وهي، في هذا، تشبه السورتين المذكورتين قبلها ولهذا ذكرت بعد السورة السابقة لمناسبتها لها في سياقها.
تحريم الاغترار بالمال الآيات [1- 9]
قال الله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) ، فذكر أن الويل لكل عيّاب في النّاس بأفعاله أو أقواله، لأنه جمع من المال ما لم يجمعه غيره فتعالى به عليه، ثمّ هدّده بالنّبذ أي الطرح في الحطمة، وذكر أنها ناره الموقدة، وأنها تطّلع على الأفئدة، أي يبلغ ألمها إليها، وأنّها عليهم مؤصدة، أي مطبقة مغلقة فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/171)
المبحث الثالث مكنونات سورة «الهمزة» «1»
أخرج ابن أبي حاتم عن عثمان بن عمر قال: ما زلنا نسمع أن:
1- وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ.
نزلت في أبيّ بن خلف.
وأخرج عن السّدّي قال: نزلت في الأخنس بن شريق.
وأخرج عن مجاهد: في جميل بن فلان» .
وعن ابن جريج قال: قال ناس إنه الوليد بن المغيرة «3» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . في رواية «الطبري» 30: 189: «عن ابن أبي نجيح، عن رجل من أهل الرقة، قال: نزلت في جميل بن عامر الجمحي» .
(3) . وأخرج ابن المنذر عن ابن إسحاق قال: «كان أمية بن خلف إذا رأى رسول الله (ص) همزة ولمزه، فأنزل الله تعالى وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) السورة كلها» نقله السّيوطي في «لباب النقول في أسباب النزول» ص 812 (بهامش الجلالين) .(12/173)
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الهمزة» «1»
1- قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) .
أقول: أصل الهمز الكسر كالهزم، واللمز: الطعن.
والمراد الكسر من أعراض الناس والغضّ منهم.
وبناء «فعلة» كهمزة ولمزة، يدل على أن ذلك عادة منه، فهو يهمز ويلمز الناس على دأبه وعادته.
ومثله يقال: ضحكة أي: كثير الضحك على الناس.
وقرئ: همزة ولمزة بسكون الميم، أي: يأتي بالأوابد والأضاحيك فيضحك منه.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(12/175)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الهمزة» «1»
قال تعالى: الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ (2) من «العدّة» .
وقال: كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) أي: هو وماله.
وقال مُؤْصَدَةٌ من «أأصد» «يؤصد» وبعضهم يقول: «أوصد» فذلك لا يهمزها مثل «أوجع» فهو «موجع» ومثله «أأكف» و «أوكف» يقالان جميعا.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(12/177)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الهمزة» «1»
إن قيل: ما الفرق بين الهمزة واللّمزة؟
قلنا: قيل إنّهما بمعنى واحد لا فرق بينهما، وإنما الثاني تأكيد للأول. وقيل إنهما مختلفان، فقيل الهمزة المغتاب، واللّمزة العيّاب. وقيل الهمزة العيّاب في الوجه، واللّمزة في القفا، وقيل الهمزة الطعّان في الناس، واللمزة الطعّان في أنساب الناس. وقيل الهمزة يكون بالعين، واللمزة باللسان. وقيل عكسه، فهذه ستة أقوال.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....](12/179)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الهمزة» «1»
في قوله سبحانه: كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) . استعارات عدة منها قوله تعالى: كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) . والحطمة اسم من أسماء النار نعوذ بالله منها. وانما سميت بذلك، والله أعلم، لكثرة أكلها للواقعين فيها يقال رجل حطمة إذا كان كثير الأكل.
وهذه من صفات المبالغة. وقد يجوز أن يكون معنى ذلك أنها تحطم كلّ ما يقع فيها، أي تكسره وتأتي عليه.
ومنها قوله تعالى: الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) . والمراد بذلك: أنّ ألمها ومضضها «2» يصلان إلى الأفئدة والقلوب ويبلغان منها كلّ مبلغ، ويطبقان كلّ موضع، فكأنّها بذلك مطّلعة عليها ومخالطة. ويقول القائل:
اطّلعت على أرض بني فلان: إذا بلغها. وقد يجوز أيضا أن يكون لذلك معنى آخر، وهو أن شعب النار تدخل من أفواههم حتّى تصل إلى أفئدتهم وقلوبهم، ويكون ذلك أبلغ في المضض وأعظم للألم، وقد قال بعضهم في ذلك معنى آخر، وهو أن يكون المراد أنّ الله تعالى يخلق في النار علما تطّلع به على معرفة ضمائر المعاقبين، فتوصل الآلام إليهم على قدر مراتبهم في الذنوب: إن كانوا من
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . من المضض: وجع المصيبة.(12/181)
مفارقي الملّة، أو من يجري مجراهم من أهل القبلة. ويكون الاطّلاع هنا بمعنى العلم. كما قال تعالى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) [مريم] . والمراد: أعلم الغيب؟ ومن ذلك قول القائل اطّلعت من فلان على معنى قبيح، أو معتقد جميل، أي علمت ذلك منه.
ومن استعارات هذه السورة الكريمة قوله تعالى: إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) .
والمراد مطبقة كما يطبق باب البيت على من فيه. يقال أصدت الباب وأوصدته إذا أغلقته.
ومن الاستعارات، أيضا، قوله تعالى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف: 18] أي بالباب الذي يؤصد على أحد الأقوال. ومنها قوله تعالى: فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) . وقرئ عمد بضم العين والميم، والمراد بذلك أنّها مطلّة عليهم، وثابتة لهم، كما يطل الخباء المضروب بانتصابه، ويثبت بتمديد أعماده وأطنابه ويشبه ذلك قوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها [الكهف: 29] وقد تكلّمنا عليه فيما تقدّم.(12/182)
سورة الفيل 105(12/183)
المبحث الأول أهداف سورة «الفيل» «1»
سورة «الفيل» سورة مكية آياتها خمس آيات نزلت بعد سورة «الكافرون» .
وهي سورة تشير الى قدرة الله الغالبة، وحمايته للبيت الحرام، وقد ولد النبي (ص) عام الفيل، وكان حادث الفيل إرهاصا بميلاده، وبيانا لعناية الله بهذا البيت.
قصّة أصحاب الفيل
بلغت معرفة العرب لحادث الفيل، وشهرته عندهم: أنهم كانوا يؤرخون به فيقولون: ولد فلان عام الفيل، وحدث كذا لسنتين خلتا من عام الفيل، ونحو ذلك.
وجملة ما تشير إليه الروايات المتعددة: أن الحاكم الحبشي لليمن، في الفترة التي خضعت فيها اليمن لحكم الحبشة، بعد طرد الحكم الفارسي منها، ويسمّى أبرهة الأشرم، كان قد بنى كنيسة في اليمن باسم ملك الحبشة، وجمع لها كل أسباب الفخامة، ليصرف بها العرب عن حج البيت الحرام، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلا، وقيل أجّجت رفقة من العرب نارا، فحملتها الريح فأحرقت الكنيسة، فغضب أبرهة، وأقسم ليهدمنّ الكعبة، فخرج من الحبشة، ومعه فيل اسمه محمود، وكان قويّا عظيما، واثنا عشر فيلا غيره وسار بجيشه إلى مكّة، وانتصر على كل من قاومه من العرب، حتى وصل إلى
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(12/185)
المغمّس بالقرب من مكّة، ثم أرسل إلى أهل مكة يخبرهم أنه لم يأت لحربهم، وإنّما أتى لهدم البيت، ففزعوا منه، وانطلقوا إلى شعف الجبال «1» ينتظرون ما هو فاعل.
وأرسل أبرهة إلى سيّد مكّة ليقابله.
قال ابن إسحاق: «وكان عبد المطّلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم، وهو يومئذ سيّد مكّة، فقدم الى أبرهة، فلمّا رآه أبرهة أجلّه وأعظمه، وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه. فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه، وأجلسه معه إلى جانبه، ثمّ قال لترجمانه: قل له ما حاجتك؟ قال حاجتي: أن يرد عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي. فلما قال ذلك، قال أبرهة لترجمانه قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلّمتني، أتكلّمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه لا تكلّمني فيه؟ قال له عبد المطلب: إني أنا ربّ الإبل، وإنّ للبيت ربّا سيمنعه، قال: ما كان ليمتنع مني، قال أنت وذاك، فردّ عليه إبله.
ثمّ انصرف عبد المطلب الى باب الكعبة فأمسك بحلقه، وقام معه نفر من قريش، يدعون الله ويستنصرونه.
فأما أبرهة، فوجّه جيشه وفيله لما جاء له، فبرك الفيل دون مكة لا يدخلها. وجهدوا في حمله على اقتحامها فلم يفلحوا.
ثم كان ما أراده الله من إهلاك الجيش وقائده، فأرسل عليهم جماعات من الطير، تحصبهم بحجارة من طين وحجر، فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزّقة، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم، يسقط أنملة أنملة، حتى قدموا به صنعاء، فما مات حتّى انشق صدره عن قلبه، كما تقول الروايات.
«وكان بين عام الفيل وبين المبعث نيّف وأربعون سنة. وكان قد بقي بمكّة من شاهد تلك الواقعة، وقد بلغت حد التواتر حينئذ، فما ذاك إلّا إرهاص للرسول (ص) » .
وسئل أبو سعيد الخدري عن الطير
__________
(1) . أي أعلاها.(12/186)
فقال حمام مكة منها، وقيل جاءت عشية ثم صبّحتهم هلكى، وعن عكرمة: من أصابته أصابه الجدري، وهو أول جدري ظهر في الأرض.
وقد ذهب الأستاذ الإمام محمد عبده الى أن الذي أهلك الجيش «هو انتشار داء الجدري والحصبة بين أفراده، وقد نشأ هذا الداء من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش، بواسطة فرق عظيمة من الطير، ممّا يرسله الله مع الريح.
فهي أشبه بالميكروبات الفتّاكة التي تعصف بالجسم» .
فالأستاذ الإمام يريد أن يجعل هذه المعجزة الخارقة للعادة، أمرا متّفقا مع المعهود في حياة الناس، فيرجع الهزيمة الى انتشار وباء الحصبة أو الجدري، حتّى يتسنّى له إقناع العقول، وفي الوقت نفسه يتخلّص مما ورد في بعض الروايات من المبالغة في وصف هذه الطير، والحجارة التي حملتها في رجليها وفمها.
ونرى أن الأولى عدم إخضاع الآيات لمألوف الناس، وما يحدث في واقع حياتهم، لأنّ الآيات تخبر عن خارقة وقعت بقدرة الله القادر، الذي يقول للشيء كن فيكون.
وإذا سلّمنا أنّ الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة، وأنّ الله أرسل طيرا غير معهودة، فإن ذلك يكون أدعى إلى تحقيق العبرة الظاهرة، المكشوفة لجميع الأنظار، في جميع الأجيال، حتّى ليمنّ الله بها على قريش بعد البعثة، ويضربها مثلا على رعاية الله لحرماته، وغيرته عليها.
«فممّا يتناسق مع جو هذه الملابسات كلّها، أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود، بكلّ مقوّماته وبكلّ أجزائه. ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر، في حادث هو في ذاته وبملابساته مفرد فذّ» .
ثمّ إنّ إصابة الجيش بالوباء، وعدم اصابة أحد من العرب القريبين منه، أمر خارق للعادة. وما دامت المسألة خارقة، فلم العناء لحصرها في صورة معيّنة، مألوفة للناس. مع أن السورة تفيد أنّ أمرا خاصّا، قد أرسله الله على أصحاب الفيل.
إنّنا لا يجوز أن نواجه النصوص القرآنية، بمقرّرات عقلية سابقة، بل ينبغي أن نواجه هذه النصوص، لنتلقّى منها مقرّراتنا الإيمانيّة، ومنها نكوّن قواعد منطقنا وتصوّراتنا.(12/187)
«وليس معنى هذا هو الاستسلام للخرافة، ولكن معناه أن العقل ليس وحده هو الحكم في مقرّرات القرآن ومتى كانت المدلولات التعبيرية مستقيمة واضحة، فهي التي تقرر كيف تتلقاها عقولنا، وكيف نصوغ منها قواعد تصوّرها ومنطقها، تجاه مدلولاتها، وتجاه الحقائق الكونية الأخرى» .
مع آيات السورة
[الآية 1] : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) ؟ ألم تنظر أو ألم تعلم عن الحالة التي وقع عليها عمل الله الذي يتولّى أمرك، بأصحاب الفيل، الذين حاولوا هدم البيت الحرام والخطاب هنا للرسول (ص) ، وهو، وإن لم يشهد تلك الواقعة، لكنه شاهد آثارها، وسمع بالتواتر أخبارها، فالعلم بها مساو، في قوّة الثبوت، للعلم الناشئ عن الرؤية والمشاهدة.
[الآية 2] : أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) ؟ لقد دبّروا كيدا للبيت الحرام ببناء الكنيسة وصرف وجوه الحجّاج إليها، فضلّل الله كيدهم بأن أوقع الحريق فيها، وكادوه ثانيا بإرادة هدم البيت، فضلّل الله كيدهم بإرسال الطير عليهم.
ومعنى تضليل كيدهم، أي إضاعته وإبطاله، يقال: ضلّل كيده إذا جعله ضالا ضائعا، ومنه قولهم لامرئ القيس: الملك الضّلّيل، لأنه ضلّل ملك أبيه أي ضيّعه.
[الآية 3] : وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) أبابيل: جماعات أو طوائف على هيئة أسراب. أي أرسل الله عليهم فرقا من الطير.
[الآية 4] : تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) السجّيل: الطين الذي تحجّر، أو الحجارة المحروقة، أي أرسل الله عليهم جندا من جنوده، وكم لله من جنود لا يعلمها إلا هو، لقد أرسل الله على أبرهة وجنده جيشا من الطير، أسلحتهم حجارة صغيرة في مناقيرها، ترمي الجندي بها، فتنفذ من أعلى جسمه إلى أسفله، فتنهرئ لحومهم، وتتساقط متناثرة عن أجسادهم.
[الآية 5] : فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) العصف: ورق الزرع(12/188)
الذي يبقى في الأرض بعد الحصاد، تفتّه الريح وتأكله المواشي. وقال الفرّاء: هو أطراف الزرع، وقيل: هو الحبّ الذي أكل لبّه وبقي قشره.
ووصف العصف بأنه مأكول، أي فتيت طحين، حين تأكله الحشرات وتمزّقه، أو حين يأكله الحيوان فيمضغه ويطحنه، وهي صورة حسّية للتمزيق بفعل هذه الأحجار التي رمتهم بها جماعات الطير.
وذهب مقاتل وقتادة وعطاء، عن ابن عبّاس، أن معنى «عصف مأكول» : أي نبات أكلته الدواب وصار روثا، الا أنه جاء على أدب القرآن، كقوله تعالى:
كانا يَأْكُلانِ [المائدة: 75] .
أهداف السورة
1- بيان قدرة الله وحمايته لبيته.
2- لفت الأنظار الى ما صنعه بأصحاب الفيل.
3- لقد ضل كيدهم، وخاب سعيهم.
4- أرسل الله عليهم جماعات من الطيور في شكل أسراب.
5- أصابتهم الطير بحجارة مخلوطة بالطّين تحمل الهلاك والدمار.
6- انتهى الجيش الى ضياع وهزيمة منكرة كما ينتهي الزرع المأكول إلى روث مهمل ضائع.(12/189)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الفيل» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الفيل بعد سورة «الكافرون» ، ونزلت سورة «الكافرون» بعد سورة الماعون، ونزلت سورة الماعون بعد سورة التّكاثر، وكان نزول سورة التكاثر فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة الفيل في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لإيرادها في قصة أصحاب الفيل، وتبلغ آياتها خمس آيات.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة بيان قصة أصحاب الفيل من الحبشة مع قريش في مكّة، لتكون عظة لمن يغترّ بماله وقوّته من قريش، وبهذا تظهر المناسبة بين هذه السورة والسورة السابقة.
قصة أصحاب الفيل [1- 5]
قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) ، فذكر ما فعله بأصحاب الفيل حينما أقبلوا لتخريب الكعبة، مغترّين بقوّتهم وضعف أهل الكعبة، وأنه أرسل عليهم طيرا أبابيل أي كثيرة متفرّقة يتبع بعضها بعضا، وأنّها كانت ترميهم بحجارة من سجّيل، أي طين مطبوخ كما يطبخ الآجرّ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/191)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الفيل» «1»
ظهر لي في وجه اتّصالها: أنه تعالى لما ذكر حال الهمزة اللّمزة، الذي جمع مالا وعدّده وتعزّز بماله وتقوّى، عقّب ذلك بذكر قصّة أصحاب الفيل، الذين كانوا أشدّ منهم قوة، وأكثر أموالا وعتوّا، وقد جعل كيدهم في تضليل، وأهلكهم بأصغر الطير وأضعفه، وجعلهم كعصف مأكول، ولم يغن عنهم مالهم ولا عزّهم ولا شوكتهم، ولا فيلهم شيئا.
فمن كان تعزّزه وتقوّيه بالمال وحده، وهمز الناس بلسانه، يكون أقرب إلى الهلاك، وأدنى إلى الذّلّة والمهانة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.(12/193)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الفيل» «1»
1- بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) .
قال سعيد بن جبير: هو أبو الكيسوم. أخرجه أبن أبي حاتم.
وأخرج ابن جرير عن قتادة: أنّ قائد الجيش اسمه أبرهة الأشرم من الحبشة.
2- طَيْراً أَبابِيلَ (3) .
أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد وعكرمة وغيرهما: أنها العنقاء.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(12/195)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الفيل» «1»
1- قال تعالى: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) .
الطير من أسماء الجمع، وهو مفرد في اللفظ. وقد وصف ب «أبابيل» وهو جمع إبّالة، وهي الحزمة الكبيرة.
وشبّهت جماعات الطير بالأبابيل لتضامّها. وقيل: أبابيل مثل عبابيد وشماطيط لا واحد لها.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(12/197)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الفيل» «1»
إن قيل: ما معنى «الأبابيل» ، وهل هو واحد أم جمع؟ قلنا: معناها:
جماعات في تفرقة أي حلقة حلقة، وقيل: التي يتبع بعضها بعضا. وقيل:
الكثيرة. وقيل: المختلفة الألوان.
وقال الفرّاء وأبو عبيدة:
لا واحد لها. وقيل واحدها أبال وأبيل.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/199)
سورة قريش 106(12/201)
المبحث الأول أهداف سورة «قريش» «1»
سورة «قريش» سورة مكّيّة، آياتها أربع آيات، نزلت بعد سورة «التين» .
وهي امتداد لسورة الفيل، فقد حفظ الله هذا البيت من كيد المعتدين «وكان لحادث الفيل أثر مضاعف، في زيادة حرمة البيت عند العرب في أنحاء الجزيرة جميعها، وزيادة مكانة أهله وسدنته من قريش، مما ساعدهم على أن يسيروا في الأرض آمنين: حيثما حلّوا، وجدوا الكرامة والرعاية.
وشجّعهم ذلك على إنشاء خطّين عظيمين من خطوط التجارة، عن طريق القوافل، إلى اليمن في الجنوب، وإلى الشام في الشمال، وإلى تنظيم رحلتين تجاريتين ضخمتين: إحداهما إلى اليمن في الشتاء، والثانية إلى الشام في الصيف» .
وكانت حالة الأمن مضطربة في شعاب الجزيرة، يفتخر الناس فيها بالصعلكة والسلب والإغارة والنهب، ويعتدون على قوافل التجارة إلّا أنّ حرمة البيت في أنحاء الجزيرة قد كفلت لجيرانه الأمن والسلامة، وجعلت لقريش منزلة ظاهرة بين العرب، وفتحت أمامها أبواب الرزق الواسع المكفول في أمان وسلامة وطمأنينة، وألفت نفوسهم هاتين الرحلتين الآمنتين الرابحتين، فصارتا لهم عادة وإلفا. وقد امتنّ الله على قريش بحادثة الفيل وحماية البيت، وامتن عليهم بالأمان والحماية لهم، وسعة الرزق ورغد العيش من ربح التجارة، وبلادهم قفرة، وهم طاعمون هانئون من فضل الله.
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(12/203)
مع آيات السورة
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) .
المفردات
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إلاف الشيء وإلفه لزومه والعكوف عليه، وقريش اسم للقبائل العربية من ولد النّضر بن كنانة، وأصل الكلمة تصغير للقرش، وهو نوع من السمك مشهور، ويمتاز بقوّته على سائر الأسماك، كما امتازت قريش على سائر القبائل لخدمة البيت الحرام.
رِحْلَةَ الشِّتاءِ كانت إلى اليمن.
وَالصَّيْفِ أي ورحلة الصيف وكانت إلى الشام يتاجرون فيها ويمتارون.
المعنى:
ألفت قريش واعتادت، أن ترحل إلى ما جاورها من البلاد، سعيا وراء الرزق، وجلبا لمعايشهم، وترويجا لتجارتهم.
والله سبحانه يمتنّ عليهم بذلك، ويقول لهم: من أجل إيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا ربّ هذا البيت، الذي كفل لهم الأمن فجعل نفوسهم تألف الرحلة، وتنال من ورائها ما تنال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وأنقذهم من المجاعات التي تنزل بهم وبأمثالهم من سكان البراري، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ العدو، أو كوارث الحياة. وكان الأصل بحسب ما هم فيه من ضعف، وبحسب حالة البيئة، من حولهم، أن يكونوا في خوف، فآمنهم من هذا الخوف.
فليشكر قومك يا محمد ربّهم على هذه النعم، وليؤمنوا بربوبيّته، وليقرّوا بعبوديّتهم، وليعبدوه بما هو أهل له من العبادة.
وقريب من هذه السورة قوله تعالى:
أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) [القصص] .
أهداف السورة
1- من نعم الله على قريش أن منحهم الهيبة والأمان، فألفوا رحلة الشتاء والصيف.(12/204)
2- من الواجب أن يعترفوا بفضل الله عليهم في حماية بيته، وحماية تجارتهم.
3- يجب عليهم أن يعبدوا ربّهم وأن يستجيبوا لدعوة النبيّ الكريم، فإنّه رسول رب العالمين.(12/205)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «قريش» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة قريش بعد سورة التين، ونزلت سورة التين فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة قريش في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) وتبلغ آياتها أربع آيات.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة الامتنان على قريش برحلة الشتاء والصيف للتجارة، وقد جعلوا ممّا جمعوا بها من المال سبب بطر، فلم يقوموا لله بحقه عليهم فيها، وبهذا يتصل سياق هذه السورة بسياق ما قبلها من السور، وتظهر المناسبة في ذكرها بعد سورة الفيل، فضلا عن أنها تتعلّق بقريش أيضا.
الامتنان على قريش برحلة الشتاء والصيف الآيات [1- 4]
قال الله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) ، فامتنّ عليهم بإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، وكانت رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام ثمّ أمرهم أن يعبدوا ربّ هذا البيت أي الكعبة: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/207)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «قريش» «1»
هي شديدة الاتصال بما قبلها، لتعلّق الجار والمجرور في أوّلها بالفعل في آخر تلك «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . نقله السيوطي عن السخاوي في كتاب جمال القراء عن جعفر الصادق، وأبي نهيك. وقال: وأخرج الحاكم والطّبراني من حديث أم هانئ أن رسول الله (ص) قال: فضل الله قريشا بسبع.. وأن الله أنزل فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها معهم غيرهم: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) . ومع ذلك فصلة قريش بالفيل قائمة. فكأن ما فعل الله بأصحاب الفيل لإيلاف قريش، ولتأمين طريق تجارتهم في رحلتي الشتاء والصيف. وقد كان من أهداف أبرهة السياسية حرمان قريش من تجارتهم هذه.(12/209)
المبحث الرابع مكنونات سورة «قريش» «1»
1- رِحْلَةَ الشِّتاءِ [الآية 2] .
إلى اليمن.
2- وَالصَّيْفِ (2) .
إلى الشام «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. [.....]
(2) . انظر تفسير الطبري 30: 199 وتفسير ابن كثير 4: 553.(12/211)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «قريش» «1»
1- قال تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) .
والمعنى: لتؤالف قريش الرحلتين فتتصلا ولا تنقطعا.
واللام متصلة بالسورة التي قبلها، أي: أهلك الله أصحاب الفيل، لتؤالف قريش رحلتيها بأمان.
أقول: والإيلاف بهذه الخصوصية من الكلم الخاص ذات الفائدة التاريخية، لصلتها بأحداث خاصّة في حقبة معينة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(12/213)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «قريش» «1»
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) أي: فعل ذلك لإيلاف «2» قريش [أي] لتألّف «3» ، ثم أبدل فقال: إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . كلامه مبني على الرأي القائل بكون السورتين متصلتين انظر معاني القرآن 3: 293، والجامع 20: 200، وقد نقله في المشكل 2: 845، والبحر 8: 513، وإعراب القرآن 3: 540.
(3) . هي في الجامع 20: 200 لتأتلف. وهي أوضح مفادا من «لتألّف» .(12/215)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «قريش» «1»
إن قيل: بأي شيء تتعلق اللام في قوله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) ؟
قلنا: قيل إنها متعلّقة باخر السورة التي قبلها: أي فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش والمعنى أنه أهلك أصحاب الفيل الذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك فيهابوهم ويحترموهم، فينتظم لهم الأمر في رحلتهم ولا يجترئ أحد عليهم. وقيل معناه أهلكهم لتألف قريش رحلة الشتاء والصيف بهلاك من كان يخيفهم ويمنعهم. وقيل إنها متعلقة بما بعدها، وهو قوله تعالى: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
(3) لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، معناه أنّ نعم الله تعالى عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الظاهرة.
وقيل هي لام التعجب معناه أعجبوا لإيلاف قريش وذلك نظير اللّام التي ابتدأ بها أبو العلاء المعري بيتا من اللزوميات وعلّقها بمقدّر. يقول في هذا البيت:
لأمواه الشبيبة كيف غضنه وروضات الصّبا في اليبس إضنه أي: أعجب لأمواه الشبيبة ...
وكانت لقريش في كل سنة رحلتان للتجارة التي بها معاشهم، رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام. ثم قيل الإيلاف هنا مصدر بمعنى الإلف، تقول: آلفته إيلافا بالمد، كما تقول: ألفته إلفا بالقصر
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/217)
كلاهما متعدّ إلى مفعول واحد، فيكون لإيلاف قريش لإلف قريش: أي لحبّهم الرحلتين. وقيل آلف بالمد متعدّ إلى مفعولين، يقال ألف زيد المكان وآلف زيد عمرا المكان، فيكون معنى الآية لإيلاف الله تعالى قريشا الرحلتين فعلى هذا الوجه يكون المصدر مضافا إلى المفعول، وعلى الوجه الأول يكون مضافا إلى الفاعل. وأما تكرار إضافة المصدر في قوله تعالى:
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ فقيل إنّ الثاني بدل من الأول. وقيل إنه للتأكيد كما تقول: أعطيتك المال لصيانة وجهك، صيانته عن ذل السؤال.(12/218)
سورة الماعون 107(12/219)
المبحث الأول أهداف سورة «الماعون» «1»
سورة «الماعون» سورة مكّيّة باياتها الثلاث الأولى، ومدنية بالآيات الأخر، وهي أربع آيات نزلت بعد سورة «التكاثر» .
وهي سورة ذات معنى أصيل في الشريعة، تعالج حقيقة ضخمة مضمونها: أنّ هذا الدين ليس مظاهر وطقوسا، ولكنه عقيدة صادقة، ويقين ثابت، وإخلاص لله. ويتمثّل هذا اليقين بسلوك نافع، وحياة مستقيمة.
كما أن هذا الدين ليس أجزاء وتفاريق موزّعة منفصلة، وإنما هو منهج متكامل، تتعاون عباداته وشعائره في تحقيق الخير للفرد والجماعة.
مفردات السورة
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) :
الخطاب موجّه للنبيّ ابتداء، والمراد بالدّين الحساب والجزاء.
يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) : يظلمه ويمنعه حقّه، أو يزجره وينهره لو قصده لعون أو مساعدة.
يَحُضُّ: الحضّ هو الحثّ على الشيء والترغيب فيه بشدّة.
فَوَيْلٌ: الويل الهلاك والعذاب، وقيل اسم لواد في جهنّم شديد العذاب.
الْماعُونَ (7) : المراد بالماعون الزكاة، ومن معانيه المعروف والماء، وكل ما ينتفع به، أو كل مستعار بين
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(12/221)
الجيران من فأس وقدر ودلو، ونحو ذلك.
مع آيات السورة
[الآية 1] : أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) أي هل عرفت ذلك الذي يكذّب بما وراء إدراكه من الأمور الإلهية، والشؤون الغيبية بعد أن ظهر له الدليل القاطع، والبرهان الساطع.
قال ابن جريج: نزلت في أبي سفيان، كان ينحر جزورين في كل أسبوع، فأتاه يتيم فسأله لحما فقرعه بعصاه، وقال مقاتل: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وكان من صفته الجمع بين التكذيب بيوم القيامة، والإتيان بالأفعال القبيحة. وعن السّدّي: نزلت في الوليد بن المغيرة، وقيل: في أبي جهل. وحكى الماوردي: أنه كان وصيّا ليتيم فجاءه وهو عريان، يسأله شيئا من مال نفسه، فدفعه ولم يعبأ به، فأيس الصبي. فقال له أكابر قريش استهزاء: قل لمحمّد يشفع لك، فجاء الى النبي (ص) والتمس منه الشفاعة، وكان النبي (ص) لا يردّ محتاجا، فذهب معه الى أبي جهل، فقام أبو جهل ورحّب به وبذل المال لليتيم، فعيّرته قريش وقالوا له صبأت. فقال لا والله ما صبأت، ولكن رأيت عن يمينه وعن يساره حربة، خفت، إن لم أجبه، أن يطعنها فيّ.
وقال كثير من المفسّرين: إنّه عامّ لكلّ من كان مكذّبا بيوم الدين.
[الآية 2] : فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) ، أي فذلك المكذّب بالدّين هو الذي يدعّ اليتيم، ويزجره زجرا عنيفا، لقد خلا قلبه من الرحمة، وامتلأ بالكبر والغطرسة، ولذلك أهان اليتيم وآذاه، واليتم مظهر من مظاهر الضعف، فقد فقد الأب الذي يحميه، والعائل الذي يحنو عليه، ومن واجب المجتمع أن يتعاون على إكرامه، والأخذ بيده حتى ينشأ عزيزا كريما. إن كل فرد معرّض لأن يفاجئه الموت وأن يترك أولاده يتامى، فليعامل اليتيم بما يحب أن يعامل به أولاده لو كانوا يتامى. قال تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (9) [النساء] .
وقد تكرّرت وصايا القرآن برعاية اليتيم، والمحافظة على ماله، والتحذير من تضييع حقّه، ورد ذلك في السور(12/222)
المكّيّة والسور المدنيّة. ففي هذه الآيات، وفي سورة الضحى، وهي من أوائل ما نزل من القرآن، وصيّة باليتيم.
وفي صدر سورة النساء المدنيّة تفصيل واف لرعاية اليتيم، بدأ بقوله تعالى:
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) .
وقد وردت عدّة وصايا باليتيم في الآية السادسة، والعاشرة، والسادسة والعشرين من سورة النساء. كما تكررت الوصيّة باليتيم في آيات القرآن، وأحاديث النبي (ص) . فقال عليه الصلاة والسلام: «خير بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه» .
[الآية 3] : وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) أي ولا يحث غيره على إطعام المساكين، قال الإمام محمد عبده: «وهو كناية عن الذي لا يجود بشيء من ماله على الفقير، المحتاج إلى القوت الذي لا يستطيع كسبا» .
وليس المساكين هو الذي يطلب منك أن تعطيه وهو قادر على قوت يومه، بل هذا هو الملحف الذي يجوز الإعراض عنه، وتأديبه بمنعه ما يطلب، وإنما جاء بالكناية ليفيدك أنه إذا عرضت حاجة المساكين، ولم تجد ما تعطيه، فعليك أن تطلب من الناس أن يعطوه، وفيه حثّ للمصدّقين بالدين على إغاثة الفقراء ولو بجمع المال من غيرهم، وهي طريقة الجمعيات الخيرية، فأصلها ثابت في الكتاب بهذه الآية، وبنحو قوله تعالى في سورة الفجر: كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) .
ونعم الطريقة هي لإغاثة الفقراء، وسد شيء من حاجات المساكين.
«إن حقيقة التصديق بالدين ليست كلمة تقال باللسان، وإنّما هي تحوّل في القلب، يدفعه الى الخير والبر بإخوانه في البشرية، المحتاجين إلى الرعاية والحماية، والله لا يريد من الناس كلمات، إنّما يريد منهم معها أعمالا تصدقها، وإلا فهي هباء، لا وزن لها عنده ولا اعتبار. وليس أصرح من هذه الآيات الثلاث، في تقرير هذه الحقيقة، التي تمثّل روح هذه العقيدة، وطبيعة هذا الدين أصدق تمثيل» .
[الآيتان 4- 5] : فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) أي إذا عرفت أن المكذّب(12/223)
بالدين هو الذي أقفر قلبه من الرحمة، وأجدب من العدل والمكرمة، «فويل لأولئك الذين يصلّون، ويؤدّون ما يسمى صلاة في عرفهم من الأقوال والأفعال، وهم مع ذلك ساهون عن صلاتهم، أي غافلة قلوبهم عمّا يقولون وما يفعلون، فهو يركع في ذهول عن ركوعه، ويسجد في لهو عن سجوده» .
وإنّما هي حركات اعتادها، وأدعية حفظها، ولكنّ قلبه لا يعيش معها، ولا يعيش بها، وروحه لا تستحضر حقيقة الصلاة، وحقيقة ما فيها.
[الآية 6] : الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) أي يفعلون ما يرى للناس فقط، ولا يستشعرون من روح العبادة ما أوجب الله على النفوس أن تستشعره.
«إنّهم يصلّون رياء للنّاس لا إخلاصا لله، هم ساهون عن صلاتهم وهم يؤدّونها، ساهون عنها لم يقيموها، والمطلوب هو إقامة الصلاة لا مجرد أدائها، وإقامتها لا تكون إلّا باستحضار حقيقتها، والقيام لله وحده بها» .
[الآية 7] : وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) أي يمنعون المساعدة عن المستحقّ لها، أو يمنعون ما اعتاد الناس قضاءه وتداوله فيما بينهم، تعاونا وتازرا، ولا يمنعه إلا كلّ شحيح يكره الخير.
«إنّهم يمنعون المعونة والبر والخير عن إخوانهم في البشريّة، يمنعون الماعون عن عباد الله، ولو كانوا يقيمون الصلاة حقّا لله، ما منعوا العون عن عباده، فهذا هو محك العبادة الصادقة المقبولة عند الله» .
«وأكثر المفسّرين على أنّ الماعون اسم جامع لما لا يمنع في العادة، ويسأله الفقير والغني في أغلب الأحوال، ولا ينسب سائله إلى لؤم، بل ينسب مانعه إلى اللؤم والبخل، كالفأس والقدر والدلو والغربال والقدّوم، ويدخل فيه الماء والملح والنار، لما روي: ثلاثة لا يحل منعها:
الماء والنار والملح.
وقد تسمّى الزّكاة ماعونا، لأنه بسببها يؤخذ من المال ربع العشر، وهو قليل من كثير. قال العلماء: ومن الفضائل أن يستكثر الرجل في منزله ممّا يحتاج إليه الجيران، فيعيرهم ذلك، ولا يقتصر على قدر الضرورة، وقد يكون منع هذه الأشياء محظورا في الشريعة إذا استعيرت عن اضطرار» .
إن الشرائع السماوية إنّما أنزلت(12/224)
لتهذيب الضمير، ونقاء القلوب، وصفاء النفوس، وتقويم السلوك، وبذلك تسمو الحياة، ويسود الحب والتالف، والإخاء والتكافل الجميل.
أهداف السورة
1- الدين ليس رسوما وطقوسا، ولكنه عقيدة صادقة وسلوك مستقيم.
2- الدين الحق صلاة خاشعة، ورعاية لليتيم، وحماية للمساكين، ومساعدة للمحتاجين.
3- المكذّب بالدين له سمات وصفات هي: إذلاله لليتيم، عدم رحمة المساكين، الانشغال عن الصلاة، الرياء والنفاق، منع العون والمعونة عن المحتاج إليها.(12/225)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الماعون» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الماعون بعد سورة التكاثر، ونزلت سورة التكاثر فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة الماعون في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في آخرها: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) . والماعون هو الزكاة.
وقيل العارية، وقيل ما لا يحلّ منعه مثل الماء والملح والنار وأشباه ذلك، وتبلغ آياتها سبع آيات.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة ذم البخل بالمال، وبيان أنه لا فائدة معه في الصلاة، وبهذا تشبه هذه السورة ما قبلها من السور في سياقها، وهذا هو وجه ذكرها بعد سورة قريش.
ذم البخل بالمال الآيات [1- 7]
قال الله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) ، فسأل بهذا عن الذي يكذّب بالدّين، وأجاب بأنه الذي يدعّ اليتيم أي يدفعه بعنف وجفوة عن حقّه، أو يترك مواساته، ولا يحضّ على طعام المساكين، ثمّ هدد من يصلّي مع هذا الإثم، وذكر أنهم بصلاتهم يراءون وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/227)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الماعون» «1»
أقول لما ذكر تعالى في سورة قريش: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ [الآية 4] . ذكر هنا ذمّ من لم يحضّ على طعام المساكين.
ولما قال هناك: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
(3) [قريش] ، ذكر هنا من سها عن صلاته «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . أقول: إن السورة بكاملها تسير مع الخط الذي يبدأ من سورة الزلزلة كما قلنا. فهي ترشد إلى الطريق لاستعمال المال، وبذله في عون اليتامى، وإطعام المساكين، وذلك من طريق التحذير من إهمال هذا الطريق، وتسمية مانع العون مكذّبا بالدّين.(12/229)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الماعون» «1»
1- أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) .
الجزاء والحساب، أي: هل عرفته.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(12/231)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الماعون» «1»
قال تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي [الآية 1] تقرأ بالهمز وغير الهمز «2» وهما لغتان، تحذف الهمزة لكثرة استعمال هذه الكلمة.
وقال: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) أي: «يدفعه عن حقّه» تقول: «دععته» «أدعّه» «دعّا» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . هي قراءة الكسائي كما في المشكل 2: 847، وإعراب ابن خالويه 201.(12/233)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الماعون» »
إن قيل: لم توعّد الله الساهي عن الصلاة، والحديث ينفي مؤاخذته، وهو قوله (ص) «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان» ؟
قلنا: المراد بالسهو هنا التغافل عنها، والتكاسل في أدائها، وقلّة الالتفات إليها وذلك فعل المنافقين أو الفسقة الشياطين من المسلمين وليس المراد ما يتفق فيها من السهو بوسوسة الشيطان أو حديث النفس ممّا لا صنع للعبد فيه ولا اختيار، وهو المراد في الحديث. وكان النبي (ص) يقع له السهو في صلاته فضلا عن غيره، ولهذا قال تعالى: عَنْ صَلاتِهِمْ [الآية 5] ولم يقل في صلاتهم، وعن أنس رضي الله عنه أنه قال: الحمد لله على أن لم يقل في صلاتهم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....](12/235)
سورة الكوثر 108(12/237)
المبحث الأول أهداف سورة «الكوثر» «1»
سورة «الكوثر» سورة مكّيّة، آياتها ثلاث، نزلت بعد سورة «العاديات» .
وهي سورة خالصة لرسول الله (ص) ، فقد كان أعداؤه يملكون المال والجاه والسلطان، ويعيّرونه بأنّ أتباعه من الفقراء، وكانوا يرون أن أبناءه الذكور يموتون صغارا، فيعيّرونه بأنه أبتر، لا عقب له من الذكور، وكانت هذه الأقاويل تلقى من يستمع إليها ويردّدها، في بيئة تئد البنات، وتحتكم إلى السيف والقوّة، وترى الفقر سبّة ومنقصة، فنزلت هذه السورة تدافع عن النبي الكريم، وتفيد أن الله أعطاه من الخير الكثير، لقد أعطاه الله النبوّة والهدى، وأيّده بالصحابة الأوفياء، وجعل سيرته عطرة منتشرة، وشريعته باقية خالدة، وآلاف الملايين تردد ذكره، وتشهد له بالرسالة:
وضمّ الإله اسم النبيّ إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذّن أشهد
وشقّ له من اسمه ليجلّه ... فذو العرش محمود وهذا محمّد
المفردات
الْكَوْثَرَ (1) : الخير الكثير.
فَصَلِّ لِرَبِّكَ: فاعبد ربك الذي أعزك وشرفك.
وَانْحَرْ (2) : لوجهه وباسمه إذا نحرت، مخالفا لعبدة الأوثان.
شانِئَكَ: مبغضك.
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(12/239)
الْأَبْتَرُ (3) : المنقطع من كل خير.
مع آيات السورة
[الآية 1] : إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) ، والكوثر صيغة مبالغة من الكثرة، ومعناه الشيء البالغ من الكثرة حدّ الإفراط. وهو مطلق غير محدود.
ورد أن سفهاء قريش، ممّن كانوا يتابعون الرسول (ص) ودعوته بالكيد والمكر، وإظهار السخرية والاستهزاء، من أمثال العاص بن وائل، وعقبة بن أبي معيط، وأبي لهب، وأبي جهل وغيرهم، كانوا يقولون عن النبي (ص) أنه أبتر، يشيرون بهذا إلى موت الذكور من أولاده، وقال أحدهم: دعوه فإنه سيموت بلا عقب، وينتهي أمره.
فنزلت هذه السورة لتشير الى عطاء الله للنبيّ الكريم، وهو عطاء كثير لا حدّ له.
وقد وردت روايات من طرق كثيرة، تفيد أن الكوثر نهر في الجنة، أوتيه رسول الله (ص) .
«وأخرج البخاري وابن جرير والحاكم وابن عساكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (رض) أنه قال:
«الكوثر الخير الذي أعطاه الله تعالى إيّاه» . قال أبو بشر، قلت لسعيد: فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة، قال:
النهر الذي في الجنة، من الخير الذي أعطاه الله عز وجل إيّاه، عليه الصلاة والسلام ويروى هذا الجواب عن ابن عباس نفسه أيضا» .
وفي تفسير النيسابوري أنه وردت عدة أقوال في معنى الكوثر، القول الأول: الخير الكثير، إلّا أن أكثر المفسّرين خصّوه فحملوه على أنه نهر في الجنة.
القول الثاني: أنّ الكوثر أولاده من نسل فاطمة، أي أن الله يعطيه منها نسلا يبقون إلى آخر الزمان.
القول الثالث: الكوثر علماء أمته فهم رحمة إلى يوم القيامة.
وروي أن الكوثر هو النبوّة والرسالة، وكونه خاتم المرسلين.
كما روي أنّ الكوثر هو تيسير القرآن وتخفيف الشرائع، وقيل هو الإسلام، وقيل هو التوحيد، وقيل هو العلم والحكمة، وقيل هو الفضائل الكثيرة التي وهبه الله تعالى إيّاها.
«فقد أسرى به ليلا، وانشقّ له(12/240)
القمر، وكثر الزاد ببركة دعائه، وأطعم الخلق الكثير من الطعام القليل، وأعطاه الله القرآن هدى ورحمة للعالمين» .
[الآية 2] : فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) أي فاجعل صلاتك لربك وحده، وانحر ذبيحتك ذاكرا اسم الله، مخلصا لله في صلاتك ونحرك. كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) [الأنعام] .
«والأكثرون على أن المقصود بالصلاة هنا جنس الصلاة، لإطلاق اللفظ، وقال الآخرون إنّها صلاة عيد الأضحى، لاقترانها بقوله تعالى وَانْحَرْ (2) وكانوا يقدّمون الأضحية على الصلاة فأمروا بتأخيرها عنها، والواو تفيد الترتيب استحسانا وأدبا وان لم تفده قطعا» .
[الآية 3] : إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) أي أن مبغضك كائنا من كان، هو المقطوع ذكره من خير الدنيا والاخرة.
إنّهم لم يبغضوه لشخصه فقد كان الصادق الأمين، ولكنهم أبغضوه لما يحمله لهم من الرسالة والهدى، فاثروا أهواءهم، وتخبّطوا في ضلالهم، حتى خذلهم الله وقطع أثرهم «فقد جرّهم الخذلان الى غاية الخسران، ولم يبق لهم إلّا سوء الذكر لبعضهم، والنسيان التام لبقيتهم، بخلاف النبي (ص) ، ومن اهتدى بهديه، فإن ذكرهم لا يزال رفيعا، وأثرهم لا يزال باقيا في نفوس الصالحين» .
مقصود الصورة
1- أعطى الله محمدا (ص) الخير الكثير، فرفع ذكره وأعلى شأنه، ونصر دعوته، وبارك في أمّته.
2- ينبغي إخلاص الصلاة والعبادة والنحر لله سبحانه وتعالى.
3- من أبغض النبي ودعوته انقطع أثره وباء بالخذلان، بينما بقي ذكر النبي (ص) ودعوته على مرّ الأزمان.(12/241)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الكوثر» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الكوثر بعد سورة العاديات، ونزلت سورة العاديات فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة الكوثر في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) وتبلغ آياتها ثلاث آيات.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة تفضيل أمر الدّين على المال والولد، وقد فضّل في هذه السورة ما أعطيه النبي (ص) من ذلك، على المال والولد، الذي كانت تتفاخر قريش به وتحرص عليه، ولهذا أمره بعد الامتنان عليه بذلك بالصلاة شكرا عليه، وببذل المال الذي أعطي أفضل منه، فالمناسبة بين هذه السورة وسورة قريش ما بينهما من هذه المقابلة، وقد ذكرت بينهما سورة الماعون للمناسبة السابقة.
تفضيل الدين على المال والولد الآيات [1- 3]
قال الله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فامتنّ على النبي (ص) بأنه أعطاه الكوثر، وهو الدّين الكثير النفع، ثمّ أمره أن يصلّي له شكرا عليه وينحر للفقراء، حتى لا يكون مثل من
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/243)
يصلي ويمنع الماعون في السورة السابقة، ثم ختم السورة ببيان أن ما أعطيه من ذلك يخلد له من الذّكر ما لا يخلده المال والولد الذي كانت قريش تقول عن النبي إنه أبتر بسببه، فقال تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) .(12/244)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الكوثر» «1»
قال الإمام فخر الدين: هي كالمقابلة قبلها، لأن السابقة وصف الله سبحانه فيها المنافقين بأربعة أمور: البخل، وترك الصلاة، والرياء فيها، ومنع الزكاة. وذكر في هذه السورة في مقابلة البخل: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) أي: الخير الكثير. وفي مقابلة ترك الصلاة: فَصَلِّ أي دم عليها. وفي مقابلة الرياء: لِرَبِّكَ. أي: لرضاه، لا للناس. وفي مقابلة منع الماعون:
وَانْحَرْ وأراد به: التّصدّق بلحوم الأضاحي. قال فاعتبر هذه المناسبة العجيبة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.(12/245)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الكوثر» «1»
فسّر:
1- الْكَوْثَرَ.
في الأحاديث الصحيحة المتواترة بأنّه نهر في الجنة «2» .
2- إِنَّ شانِئَكَ.
قال ابن عبّاس: هو أبو جهل.
وقال عطاء: هو أبو لهب.
وقال عكرمة: العاصي بن وائل.
وفي رواية عن ابن عبّاس: كعب بن الأشرف.
وقال شمر بن عطية: عقبة بن أبي معيط. أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . روى مسلم (400) في الصلاة، وأحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينا رسول الله (ص) ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسّما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: «أنزلت علي آنفا سورة، فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» (3) ثم قال: «أتدرون ما الكوثر» فقلنا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنّه نهر وعدنيه ربّي عز وجل، عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم، فأقول: «رب، إنّه من أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك» .
انظر في شرح أحاديث الكوثر: «فتح الباري» للحافظ ابن حجر 8: 731، و «شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد» للسّفّاريني 1: 533 و 2: 256.(12/247)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الكوثر» «1»
قال تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) تقول: «شنئته» ف «أنا أشنؤه شنآنا» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(12/249)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الكوثر» «1»
إن قيل: ما الكوثر؟
قلنا: فيه قولان: أحدهما، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، أنه الخير الكثير: «فوعل» من الكثرة كقولهم: رجل نوفل: أي كثير النوافل، ومنه قول الشاعر:
وأنت كثير يا ابن مروان طيّب ... وكان أبوك ابن العقائل كوثرا
قيل لأعرابية رجع ابنها من سفر:
كيف آب ابنك؟ قالت آب بكوثر. ولقد أعطي النبي (ص) خيرا كثيرا، فإنه أوتي الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا. ومنهم من فسّر هذا الخير الكثير بالنبوّة، ومنهم من فسّره بالعلم والحكمة، ومنهم من فسّره بالقرآن. والقول الثاني: أن الكوثر اسم نهر في الجنّة، وهو قول أكثر المفسّرين، وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله (ص) أنه قال:
«الكوثر نهر وعدنيه ربّي في الجنّة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة» وعنه (ص) أيضا في الحديث أنه قال: «بينا أنا أسير في الجنّة فإذا بنهر حافّتاه قباب اللؤلؤ المجوّف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربّك، فضرب الملك بيده فإذا طينه المسك الأذفر «2» » ، وروي عن صفته أنه أحلى من العسل، وأشدّ بياضا من اللّبن،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.
(2) . المسك الأذفر: ذو الرائحة الشديدة.(12/251)
وأبرد من الثلج، وألين من الزّبد، حافّتاه الزّبرجد «1» ، وأوانيه من فضة عدد نجوم السماء، لا يظمأ من شرب منه أبدا» .
__________
(1) . الزّبرجد: حجر كريم.(12/252)
سورة الكافرون 109(12/253)
المبحث الأول أهداف سورة «الكافرون» «1»
سورة «الكافرون» سورة مكية، آياتها 6 آيات، نزلت بعد سورة الماعون.
وهي سورة تصدح بالحقيقة، وترفض أنصاف الحلول، وتعلن أنّ الإسلام إسلام، وأنّ الكفر كفر، ولن يلتقيا.
أسباب النزول
روي أن الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن عبد المطلب، وأميّة بن خلف، في جماعة آخرين، من صناديد قريش وساداتهم، أتوا النبي (ص) فقالوا له: هلمّ يا محمّد، فاتّبع ديننا ونتّبع دينك، ونشركك في أمرنا كلّه تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة فإن كان الذي جئت به خيرا، كنّا قد شاركناك فيه، وأخذنا حظا منه وإن كان الذي بأيدينا خيرا، كنت قد شاركتنا في أمرنا، وأخذت حظّك منه. فقال معاذ الله أن نشرك به غيره وأنزل الله تعالى، ردّا على هؤلاء، هذه السورة فغدا رسول الله (ص) إلى المسجد الحرام، وفيه الملأ من قريش، فقام على رؤوسهم ثم قرأ عليهم، حتى فرغ من السورة، فيئسوا منه، وآذوه وصحبه، حتى اضطرّ الى الهجرة الى المدينة «2» .
المفردات
ما تَعْبُدُونَ (2) : من الأصنام وغيرها.
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.
(2) . انظر تفسير الطبري 30: 214(12/255)
دِينُكُمْ: أي الشرك بعبادة الأصنام.
وَلِيَ دِينِ (6) : دين التوحيد.
فكرة السورة
لم يكن العرب يجحدون الله سبحانه، ولكن كانوا لا يعرفونه بحقيقته التي وصف بها نفسه، وهي أحد فرد صمد. فكانوا يشركون به، ولا يعبدونه حقّ عبادته كانوا يشركون به هذه الأصنام، التي يرمزون بها إلى أسلافهم من الصالحين أو العظماء، أو يرمزون بها إلى الملائكة، ويقولون:
ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] .
وكانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم (ع) وأنّهم أهدى من أهل الكتاب، الذين كانوا يعيشون معهم في الجزيرة.
ولحسم هذه الشبهات، نزلت هذه السورة بهذا الجزم، وبهذا التوكيد، توضح أنّهم كافرون مشركون، قد نبذوا التوحيد، وخرجوا عن جادّة الصواب فلن يعبد النبي (ص) ما يعبدون من أصنام وأوثان. قال تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) [الزمر] .
مع آيات السورة
[الآية 1] : قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) : قل لهم يا أيّها الكافرون، نادهم باسمهم وحقيقتهم، وصفهم بوصفهم، أنهم ليسوا على دين وليسوا بمؤمنين، وإنّما هم كافرون.
[الآية 2] : لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) : فعبادتي غير عبادتكم، ومعبودي غير معبودكم، وأنا لا أعبد أصنامكم، ولا أسجد لآلهتكم، وإنما أعبد إلها واحدا منزّها عن النظير المثيل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) [الشورى] .
[الآية 3] : وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وإنّكم لكاذبون في دعواكم أنّكم تعبدون الله، لأنّ الذي تزعمونه ربّا تتّخذون له الشفعاء، وتجعلون له زوجة من الجن تلد له الملائكة «2» ،
__________
(2) . قال تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) [الصافات] .
وقال سبحانه: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) [الزخرف] .(12/256)
وتنسبون إليه ما يتنزّه عنه الله سبحانه.
فهذا الذي تعبدونه لن يكون إلها مستحقا للعبادة.
[الآية 4] : وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) : تكرير وتوكيد للفقرة الأولى، في صيغة الجملة السمية، وهي أدلّ على ثبات الصّفة واستمرارها، وقد كرّر نفي عبادته آلهتهم، قطعا لأطماعهم وتيئيسا لهم.
[الآية 5] : وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) تكرار لتوكيد الفقرة الثانية، كي لا تبقى مظنّة ولا شبهة ولا مجال لمظنة أو شبهة بعد هذا التوكيد المكرر، بكلّ وسائل التكرار والتوكيد.
قال أبو مسلم الأصفهاني معناه: (لا أنا عابد عبادتكم، ولا أنتم عابدون عبادتي) .
وخلاصة ما سلف: الاختلاف التام في المعبود، والاختلاف البيّن في العبادة، فلا معبودنا واحد، ولا عبادتنا واحدة. عبادتي خالصة لله وحده، وعبادتكم مشوبة بالشرك، مصحوبة بالغفلة عن الله تعالى: فلا تسمّى على الحقيقة عبادة.
[الآية 6] : لَكُمْ دِينُكُمْ. مختصّ بكم لا يتعدّاكم إليّ، فلا تظنّوا أني عليه، أو على شيء منه.
وَلِيَ دِينِ (6) أي ديني هو دين خاصّ بي، وهو الذي أدعو إليه، ولا مشاركة بينه وبين ما أنتم عليه.
خلاصة السورة 1- إنّ التوحيد منهج، والشرك منهج آخر، ولا يلتقيان.
2- المؤمن لا يسجد للصنم، ولا يعبد ما يعبده الكافر.
3- الكافر لا يعبد الله، بل ضلّ طريقه إلى عبادته.
4- المؤمن واضح صادق، فلن يعبد عبادة الكافر، كما أنّ الكافر لا يعبد عبادة المؤمن.
5- سيلقى المؤمن ثوابه وسيلقى الكافر جزاءه.(12/257)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الكافرون» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «الكافرون» بعد سورة الماعون، ونزلت سورة الماعون، فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة «الكافرون» في ذلك التاريخ أيضا. وكان رهط من قريش ذهبوا إلى النبي (ص) فقالوا له: يا محمد، هلمّ اتّبع ديننا ونتّبع دينك.
فنزلت هذه السورة في شأنهم.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وتبلغ آياتها ست آيات.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السور متاركة الكفار، بعد أن ذهبت السورة السابقة في دعوتهم كلّ مذهب، فهي كالختام للسور التي ذكرت قبلها، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها.
متاركة الكفار الآيات [1- 6]
قال الله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) فأمر النبي (ص) أن يخبرهم بأنه لا يعبد ما يعبدون، وأنهم لا يعبدون ما يعبد، وكرّر هذا مرة ثانية توكيدا له، ثم ختمه بقوله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(12/259)